Professional Documents
Culture Documents
النظرية السياسية في ميزان فكر الشوكاني والدساتير الوضعية (دراسة تحليلية مقارنة)
النظرية السياسية في ميزان فكر الشوكاني والدساتير الوضعية (دراسة تحليلية مقارنة)
حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
Every approach particularly Islam has its كل منهج – السيما اإلسالم -له أعداء
enemies who try to remove it from life يحاولون إقصاءه عن ساحة الحياة إما جهالً,
intentionallyor unintentionally. Therefore, the واما عمداً ,لذا كان لزاماً على العلماء أن
scholars should defend this approach by explaining ينافحوا عن هذا المنهج بتوضيحهم للجاهل,
it to ignorant or ungrateful people.
وتصديهم للجاحد.
Undoubtedly, the decline of Muslim Civilization
والشك أن تراجع حضارة المسلمين في
today has enticed the followers of other civilizations
العصر الحاضر أغرى أتباع الحضارات األخرى
to accuse the Islamic approach of failure and
بأن يتهموا منهج اإلسالم بالقصور ,وعدم
inability to keep up with their modern civilizations
especially in governance and politics. However,the القدرة على مواكبة حضارتهم الحديثة ,السيما
deteriorating political situation at both regional في مجال الحكم والسياسة ,وهذا الوضع
and international level in many regions in the world السياسي المتردي على الصعيدين اإلقليمي
has motivated the researcher to seize this والدولي في كثير من مناطق العالم ليدفعني
opportunity to refute their allegations and دفعاً إلى اغتنام هذه الفرصة للرد على مزاعم
highlightthe benefits and depths of Islamic political هؤالء ,وابراز محاسن وعمق نظرية السياسة
theory through explaining the political thought of اإلسالمية- ,وهو ماينبغي على الباحثين القيام
some famous Islamic Sharia Scholars like Imam
به -من خالل عرض الفكر السياسي لدى
Shawkani.
علماء الشريعة الكبار أمثال الشوكاني.
مقدمة:
لما كان "االجتماع لإلنسان ضروري كونه مدني بالطبع" ،1كان البد من منهج
ينظم حركة هذا المجتمع اجتماعياً ،واقتصادياً ،وسياسياً ،وأخالقياً ،وليس أنفع لإلنسان
1عبدالرحمن بن خلدون ،المقدمة ,مكتبة لبنان ،ساحة رياض الصلح ،بيروت2992 ،م02 /2 ،
197
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
من المنهج الذي وضعه له خالقه عز وجل ،إذ هو أعلم بمن خلق ،1وكل منهج –
السيما اإلسالم -له أعداء يحاولون إقصاءه عن ساحة الحياة إما جهالً واما عمداً ،لذا
كان لزاماً على العلماء أن ينافحوا عن هذا المنهج بتوضيحهم للجاهل ،وتصديهم
للجاحد.
والشك أن تراجع حضارة المسلمين في العصر الحاضر أغرى أتباع الحضارات
األخرى بأن يتهموا منهج اإلسالم بالقصور ،وعدم القدرة على مواكبة حضارتهم
الحديثة ،السيما في مجال الحكم والسياسة ،حتى نادى هؤالء ومن مشى على خطاهم
بإبعاد "الدين عن السياسة" ،وان الوضع السياسي المتردي على الصعيدين اإلقليمي
والدولي في كثير من مناطق العالم ليدفعني دفعاً إلى اغتنام هذه الفرصة للرد على
مزاعم هؤالء ،وابراز محاسن وعمق نظرية السياسة اإلسالمية ،من خالل عرض الفكر
السياسي لدى علماء الشريعة اإلسالمية الكبار أمثال الشوكاني وغيره للرد على أوالئك
القائلين بعدم وجود نظرية سياسية في الشريعة اإلسالمية.
فهذا البحث وأمثاله يعد ردًا جازماً على هؤالء ،السيما في ظل الفشل السياسي
الذريع الذي يجتاح العالم من كل جانب بسبب السياسات الوضعية الرديئة التي لطالما
تغنوا وتفاخروا بها ،وبثوها في دساتيرهم المصنوعة بالتلميح تارة ،وبالتصريح تارة
أخرى.
وأما اختياري لإلمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني (2273هـ 2222 -هـ)
كمثال لعرض الفكر السياسي لديه كأحد صور المنهج السياسي في النظرية اإلسالمية
فيرجع إلى اعتبارين أحدهما نظري ،واآلخر عملي:
االعتبار النظري :مرجعه ثراؤه الفكري عامة والسياسي خاصة ،فقد زادت حصيلته
السياسية بممارسته السياسية ،وما ترتب عليها من معرفة بواقع مجتمعه ،وكذلك
1عبدهللا بن محمد العجالن ،صالحية التشريع اإلسالمي للبشر كافة ،مجلة البحوث اإلسالمية،
العدد التاسع ،إصدار ربيع األول إلى جمادى الثانية ،لسنة 2707هـ ،ص.202 :
198
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
كثرة مؤلفاته الزاخرة التي أبانت هذا الفكر وجلته ،والتي تزيد على المئة وأربعة
عشر مؤلفاً.
االعتبار العملي :مفاده احتكاكه بميدان السياسة من خالل المناصب التي توالها،
وممارسته العمل السياسي ،واهتمامه بالمسائل والقضايا السياسية ،وكذا قربه من
الحكام على مدى ثالث واليات في عصره ،وقربه من مصادر صنع القرار ،وتأثيره
في سياساتهم في الحكم بسبب ثقله الفقهي والعلمي ،وهما اعتباران قلما يجدهما
الباحث في عالم آخر مثله إال ما ندر.
مشـكلة البحـث:
تدور مشكلة هذا البحث حول عنصرين هما:
العنصر األول :إثبات العمق السياسي في نصوص الشريعة اإلسالمية بمصادرها
المختلفة ،ووفائها بالمطالب اإلنسانية وشمولها الحتياجاته ،ومن خالل فكر علمائها
(الفكر السياسي لدى الشوكاني مثاالً لذلك) ،والرد على مزاعم القائلين بعدم قدرتها
على تنظيم شؤون الدولة الحديثة عامة ونظم الحكم والسياسة فيها خاصة ،وعجزها
عن تحقيق المصالح األولى بالرعاية.
العنصر الثاني :كشف أوجه القصور في نصوص الدساتير الوضعية ،والعجز عن
إدراك بواطن األمور ،وحقائق المصالح في إدارة الدول ،وشؤون الحكم نظ اًر
لمحدودية الرؤية لدى واضعيها كونهم بشر ،بما يستوجب تعديل هذه الدساتير
حيناً ،وتبديلها أحيانًا أخرى بما يؤكد ثبوت عجزها عن سياسة الدول ،وعدم قدرتها
على تحقيق مصالح الشعوب.
أهمـية البحـث:
ترجع أهمية هذا البحث إلى ما يثيره أنصار األنظمة الغربية ،ومن وافقهم من
األنظمة العربية من ضرورة إبعاد الدين عن السياسة ،متذرعين في ذلك بأمرين أحدهما
خطر ،واآلخر خطأ ،وذلك على النحو التالي:
وجه الخطر; يكمن ذلك الخطر في كيد هؤالء للشريعة اإلسالمية الغراء ،مبتدئين
هذا الكيد بالمناداة بفصلها عن السياسة ،معللين في ذلك بالمقولة الزائفة "ال دين في
199
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
السياسة وال سياسة في الدين" ،وما ذلك إال خطوة تتلوها خطوات لالنقضاض على
الشريعة الغراء ،وفصلها عن الدنيا كلها ،وهو ما حذرنا منه رسولنا الكريم صلى هللا
عليه وسلم بقولة" :لتنقضن عرى اإلسالم عروة عروة فأولها نقضاً الحكم ،وآخرها
الصالة".1
وجه الخطأ; أن منشأ المقولة السابقة "الدين في السياسة وال سياسة في الدين"
راجع إلى الماضي المظلم ألوربا في عصورها الوسطى ،وما ذاقته من ظلم واستبداد
على يد رجال دينهم الفاسدين ،حتى انسلخوا من كل ما هو ديني لديهم ،ثم استداروا
على شريعة اإلسالم ،محاولين إلصاق هذه األقوال الباطلة بها وهي من كل ما قالوا
براء.
ومن ثم فهذا البحث خطوة على طريق التصدي لهذا الخطر المتربص بهذه
الشريعة اإلسالمية ،وهو ما ينبغي أن يوجه إليه اهتمام الباحثين في هذا الشأن .وكذلك
كشف خطأ وزيف مثل هذه المقوالت من خالل عرض الفكر السياسي المعتدل لدى
علماء الشريعة اإلسالمية ،والسياسة الشرعية الموثوقون أمثال الشوكاني ،في مواجهة
دساتيرهم الوضعية ،حتى يبين الغث من السمين ،والخبيث من الطيب.
ولهذه الدراسة أهمية من جانب آخر وهو تقديم أحد أعالم الفكر السياسي اإلسالمي،
الذي قدم حلوالً لكثير من المشكالت السياسية والدستورية التي ظهرت أخي اًر في كثير
من المسائل السياسية الحالية .
منهج وهيكلية البحث :
سوف أتناول هذه الدراسة من خالل المنهج التحليلي الوصفي لبعض جوانب
نظرية السياسة اإلسالمية؛ من خالل عرض عدد من مسائل السياسة في فكر أحد
فرسانها ،الذين سبروا أغوارها ،وكشفوا النقاب عن مواضع الحكمة فيها (وهو اإلمام
الشوكاني رحمه هللا) ،غير مكتف بهذا ،بل سأضع هذا الفكر في ميزان المقارنة مع ما
تحويه نصوص الدساتير الوضعية ،لنقف بعد ذلك ليس فقط على عظمة هذه الشريعة
1أخرجه اإلمام أحمد في باقي مسند األنصار رقم ( 722/30 ،)22200عن أبي أمامه الباهلي.
211
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
وعمق الفكر السياسي لدى أحد الراسخين فيها ،وانما لنكشف أيضاً عوار هذه الدساتير،
وقصر نظر واضعيها فيما تتضمنه من نصوص ،وخاصة في مجال السياسة والحكم،
وذلك من خالل مبحث النظرية السياسية في ميزان فكر الشوكاني والدساتير الوضعية:
دراسة تحليلية مقارنة وثالثة مطالب ،نعالج في أولها فصل الدين عن السياسة ،ثم
مراعاة المصلحة السياسية في ثانيها ،وصوالً للصلة بالحكام في ثالثها.
في الحقيقة أن هذا الفصل بين الدين والسياسة في الدساتير الوضعية يأخذ عدة
صور:
1عبد الغني الشرجي ،اإلمام الشوكاني حياته وفكره ،دار الفكر ،بيروت ،بدون سنة نشر ،ص:
322؛ حليمة بوكروشة ،معالم تجديد المنهج الفقهي :أنوذج الشوكاني ,مطبوعات و ازرة األوقاف
والشؤون اإلسالمية بدولة قطر ،ط أولى ،رمضان 2723ه 2002م ،ص. 202 :
2زياد علي ،الفكر السياسي والقانوني عند محمد بن علي الشوكاني ،دار النسيم للطباعة والنشر
والتوزيع ،بيروت ،ط أولى 2999م ،ص ص.73-72 :
211
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
الصورة األولى :بعض الدساتير تكتفي بأن تجعل هذا الفصل ضمني من خالل
تضمين الدستور مبادئ ونصوص تقتضي ضمناً فصل الدين عن السياسة ،كمبدأ
سيادة القانون في الفكر الغربي ،أو كما يسميه شراح القانون المشروعية القانونية ،مع
احتفاظ الدولة بانتمائها الديني كما في الدستورين المصري واألردني 1على سبيل
المثال ،إذ رغم أن كال منهما ينص على أن "اإلسالم دين الدولة" ،إال أنهما يعودان
فيقر ارن بأن القانون هو أساس الحكم في الدولة ،وأن "السيادة للشعب وحده" بما يعني
انتماء شكليًا أنه ال عالقة للدين بالسياسة ،وأن انتماء الدولة للدين ال يعدو أن يكون
ً
فقط ،إذ ما فائدة أن يكون للدولة دين إذا كان هذا الدين ال دور له في رسم سياستها.
الصورة الثانية :يرى البعض اآلخر من الدساتير السيما الدساتير الغربية ،تنتهج
فكرة الفصل الصريح الواضح بين الدين والسياسة ،ليس هذا فحسب بل غالباً ما تؤكد
تلك الدساتير على هذا الفصل فال تكتفي بإبعاد الدين عن السياسة فقط ،وانما تفصله
عن الدولة كاملة بأن تجعل الدولة علمانية بال دين رسمي تنتمي إليه ،ومن هذه
الدساتير الدستور الفرنسي ،2حيث نص على أن "فرنسا جمهوريه علمانية" ،وأن مبدؤها
"حكومة الشعب بالشعب" فضالً عن أنه بين لغة الدولة ،وشعارها ،ونشيدها ،وعلمها
ولم يتعرض من قريب أو بعيد النتمائها الديني ،مما يعني تحللها من أي مرجعية دينية
وتبنيها لمبدأ الفصل الصريح بين الدين والدولة علي إطالقه ،ومن قبل هذا سار
الدستور األمريكي 3على ذلك المبدأ ،وكذالك القانون األساسي أللمانيا االتحادية،4
العلم بمعنى العالم،
وواضح تبني هذه الدساتير لفكرة العلمانية ،التي هي لغة :نسبة إلى َ
وهو خالف الديني أو الكهنوتي.5
1الدستور المصري لعام 2027م ،المواد رقم )2/2( :و( .)7 ،2والدستور األردني لعام ،2922
المواد رقم )2 ( :و( )27فقرة (.)2 ،2
2الدستور الفرنسي لعام 2922م ،المادة األولى ،فقرة ( ،)2والمادة الثانية ،فقرة (.)2
3المادة السادسة الفقرتان ( ،2و )3من الدستور الدستور األمريكي لعام 2729م والتعديل األول.
4المواد ،20و ،27و 22من القانون األساسي أللمانيا اإلتحاديه لعام 2979م .
5مجموعة من علماء اللغة العربية ،المعجم الوسيط ،دارالدعوة ،مصر ،ص.027/2 :
212
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
أما اصطالحاً :فتعني إقامة الحياة على غير الدين ،وخاصة في جانبها السياسي،
وعلى رأسها شؤون الحكم ،1ويؤكد المعنى السابق لمفهوم العلمانية ما ورد بدوائر
المعارف الغربية المختلفة ،حيث تقول دائرة المعارف البريطانية عن العلمانية" :هي
حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن االهتمام باآلخرة إلى االهتمام بالحياة
الدنيا وحدها" ،2وكذا ذكرت دائرة المعارف األمريكية أن" :الدنيوية هي نظام أخالقي
أسس على مبادئ األخالق الطبيعية ومستقل عن الديانات السماوية" ،3والتعبير الشائع
في الكتب المعاصرة لكل ما سبق هو" :فصل الدين عن الدولة" ،4ولم يقف األمر عند
حد األفكار والمذاهب االجتماعية ،بل ترجم إلى واقع ملموس من خالل ،نصوص
الدساتير سالفة الذكر ،ولتبقى بعد ذلك الدولة برمتها وفي الصدارة منها شؤون الحكم
والسياسة متجردة من كل قيمة دينية تضبط قواعدها .
وعلى عكس الدساتير السابقة جميعاً ،نجد الدساتير واألنظمة التي تتخذ الدين
مرجعاً لها ،وعلى رأسها النظام األساسي للحكم في المملكة العربية السعودية 5حريص
على ربط السياسة بالدين ،بل يجعلها محكومة بأوامر الشرع الشريف ونواهيه ،وأنه
يستمد الحكم فيها من كتاب هللا وسنة رسوله ،وهما الحاكمان على كل أنظمة المملكة
1الندوة العالمية للشباب اإلسالمي ،الموسوعة الميسرة في األديان والمذاهب المعاصرة ,الطبعة
الثانية2709 ،ه2929-م ،الرياض ،ص.307 :
2محمد قطب ،مذاهب فكرية معاصرة ،الطبعة الثانية ،دار الشروق ،بيروت2707 ،هـ2927-م،
ص.772 :
3علي جريشه ،االتجاهات الفكرية المعاصرة ،الطبعة األولى ،دار الوفاء للطباعة بالمنصورة ،مصر،
2707هـ ،ص.22 :
4حمود بن أحمد الرحيلي ،العلمانية وموقف اإلسالم منها ،الناشر :الجامعة اإلسالمية بالمدينة
المنورة ،العدد ،222السنة 37عام 2722هـ ،ص7 :
5النظام األساسي للحكم رقم أ 90/لعام 2722هـ ،الباب األول :المبادئ العامة المواد من ( 2إلى
.)2
213
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
العربية السعودية ،إيماناً منه بأن السيادة والحاكمية هلل وحده ،وأن السياسة في منظورها
الحقيقي ما هي إال "إصالح الدنيا بالدين".
مما تقدم يتضح لنا عمق الفكر السياسي لدى الشوكاني ،والمستقى من الشريعة
اإلسالمية الغراء ،وذلك على خالف ما ذهبت إليه غالبية الدساتير الوضعية ،والتي
تتبنى مبدأ فصل الدين عن السياسة.
1محمد بن علي بن محمد الشوكاني ،البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ،دار المعرفة،
بيروت.2/2 ،
214
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
الموقف الثاني :تناول كيفية انعقاد اإلمامة ،ورغم غالبية اآلراء التي ال تجوز عقد
اإلمامة إلمامين في وقت واحد في األقطار المتعددة ال في القطر الواحد ،إال أن
الشوكاني – رحمه هللا – طرح مبرر ومصلحة سياسية في وجود أكثر من إمام نتيجة
اتساع الرقعة الجغرافية اإلسالمية ،فإن تعدد الدول اإلسالمية يترتب عليه تعدد الحكام
لتلك الدول ويصبح جائ اًز ،فلكل بلد واقليم خصوصيته؛ بل اليجب على أهل بلد السمع
والطاعة لسلطان وحاكم البالد األخرى ،وال الدخول تحت واليته ،وال يكون نافذاً أمره في
بلد اآلخر؛ألنه ليس داخالً في واليته ولتباعد األقطار.1
فالشوكاني رحمه هللا تعالى أخذ بما يعرف اآلن بمبدأ سيادة الدول ،وكذا بمبدأ
عدم التدخل في شؤون اآلخرين هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فهو يقر بمبدأ آخر أال
وهو مبدأ تعدد السلطة السياسية لألقطار اإلسالمية ،وكل هذا قبل أن تعرف هذه
المبادئ وتشتهر في الفكر الدستوري الوضعي .
إذا نظرنا إلى هذه المسألة في فكر الشوكاني مقارنة بالدساتير الوضعية وجدنا
هذه األخيرة تتماشى هي األخرى مع ضرورة تحقيق ومراعاة المصلحة السياسية ،غير
أن هناك العديد من الفوارق بين المصلحة التي قصدها الشوكاني ،والمستمدة من
السياسة الشرعية ،وبين تلك التي تراعيها الدساتير والمستمدة من السياسة الوضعية،
أقتصر هنا على ذكر فارقان جوهريان منها فقط الرتباطهما بهذه المسألة أولهما
موضوعي والثاني إجرائي.2
1زياد علي ،المرجع السابق ،ص720 :؛ محمد ضياء الدين الريس ،النظريات السياسية اإلسالمية,
الطبعة السابعة ،دار التراث ،القاهرة2970 ،م ،ص . 239
2سعد بن مطر العتيبي ،أضواء على السياسة الشرعية ،سلسة مقاالت علمية في بيان الفرق بين
السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ،موقع المسلم االلكتروني:
http://www.almoslim.net/elmy/all_art_elmy3?page=3.
215
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
الفارق الموضوعي (طبيعة المصلحة) :ففي حين تكون المصلحة التي تستهدفها
الدساتير الوضعية مصلحة دنيوية محضة ،نجد المصلحة التي قصد الشوكاني
مراعاتها هي مصلحة دينية ودنيوية معاً ،تحقق الخير للناس في معاشهم ومعادهم.
بعض الدساتير تأخذ بالنظام الرئاسي في الحكم ،1بينما يأخذ البعض اآلخر
بالنظام البرلماني ،2والبعض الثالث يأخذ بنظام مختلط ،3وهكذا حسب المصلحة
السياسية التي يرى كل دستور أنها أولى بالرعاية في ضوء ظروف كل مجتمع
وطبيعته.
ومن ذلك أيضاً أخذ بعض األنظمة بالتعددية الحزبية ،4في حين يأخذ البعض
اآلخر بنظام الحزب الواحد ،إلى آخر األمثلة التي اليمكن حصرها ،كاالنتخاب
الفردي ،واالنتخاب بالقائمة ،وهكذا كثير من المصالح السياسية التي تراعيها الدساتير
1المادة الثانية الفقرتين األولي والثانية (صدر الفقرتين) من الدستور األمريكي لسنة . 2729
2المواد ،209 ،202 ،202 ،2 ،7و 222من الدستور التركي لسنة .2922
3المواد ،22 ،20 ،2 ،0 ،2و 23من الدستور الفرنسي لسنة .2922
4المادة رقم 2من الدستور المصري لسنة . 2027
216
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
الوضعية ،لكن ذلك كله في ضوء ماسبق ذكره من أنها مصالح دنيوية محضة ،وأنها
صادرة عن رؤية بشرية قاصرة.
نتطرق في هذا المطلب للصلة بالحكام في فكر الشوكاني في الفرع األول ،ثم
للصلة بالحكام في الدساتير الوضعية في الفرع الثاني ،وتفصيل ذلك على النحو
التالي:
والتعاون معهم للمصلحة العامة ،وشرعية ذلك ،وتتلخص أسباب ذلك في األمور
التالية:1
طلب الرزق الذي حث عليه الشارع الحكيم ،فاإلتصال بهم من أنواع السعي في
طلب الرزق ،وطريقاً شرعياً،
الخوف من تعطل الشريعة لعدم وجود من يقوم بها على الوجه الشرعي الصحيح،
حاجة الدولة لمن يتولى شؤونها ،فالحاكم وحده ال يستطيع مباشرة جميع األمور
فهو محتاج لمن يساعده ،ويخفف عنه أعباء المسؤولية؛ فحاجة كل منهما لآلخر
من األسباب التي تتطلب االتصال بين الحاكم والمحكوم ،فالعالم اتصاله ألجل
كسب الرزق ،واصالح ماهو داخل تحت واليته ،واتصال الحاكم ألجل معاونته
وتخفيف العبء عليه.
فالشوكاني يدرك أهمية وجود السلطة السياسية (الحاكم) ،فبها تتحقق مقاصد
الشريعة من جلب المصالح ودفع المضار ،فهي وسيلة لحفظ الدين ،ولذا رأى ضرورة
الصلة بالحكام ال لذاتهم؛ بل بما يتحقق لإلسالم والمسلمين من مصالح في االتصال،
وعدم ترك األمر للجهال وأصحاب المصالح الضيقة واألفكار المقيتة .
كذلك خالف الشوكاني الذين يجعلون من وجود المنكرات عند الملوك واألمراء
ذريعة العتزال مراكز التغيير في المجتمع والدولة ،ووضع ضابطاً مهماً جداً في
االتصال بالحكام وهو عدم تبرير ظلمهم ،وعدم مشاركته في تنفيذه فقال":المتصل بهم
من أهل المناصب الدينية قد يغضي في بعض األحوال عن شئ من المنكرات ال
لرضى؛ بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه" ،ثم قال بعد ذلك" :لكن هذا
المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم ،بل ليفتي بين الناس بحكم هللا."2
1أشواق أحمد مهدي محمد غليس ،فكر الشوكاني السياسي وأثره المعاصر في اليمن التجمع
اليمني لإلصالح نموذجاً ،الطبعة األولى ،مركز عبادي للدراسات والنشر ،صنعاء2722 ،هـ-
2007م ،ص. 222 :
2عبد الغني الشرجي ،المرجع السابق ،ص.300 :
218
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
فالشوكاني –رحمه هللا– يرى أن العالقة بين الحاكم والمحكوم يضبطها فقه
األولويات ،والموازنات القائم على معرفة الضر األكبر واألخف ،ولوال خوف اإلطالة
لسردت وسقت األدلة الشرعية ،والحجج العقلية والموضوعية التي استند لها الشوكاني
في شرعية اتصال العلماء بالحكام ،وكذا فوائده وأهدافه.
الحقيقة أن صلة علماء الدين بالحكام في الدساتير الوضعية فرع لألصل الذي
هو عالقة الدين بالسياسة ،وتأسيساً على ماسبق بيانه من فصل أغلب الدساتير
الوضعية للدين عن السياسة فبنفس القدر نجد تلك الدساتير تقصي علماء الدين عن
ساحات الحكام ،فال تُؤخذ مشورتهم وال ُيرجع إليهم في شؤون الدولة ،حتى تالشى
دورهم ،وكادت تنتهي كل صلة لهم بالحكام في الدساتير الوضعية ،استناداً لذات
النصوص السابق ذكرها في مسألة فصل الدين عن السياسة ،عمالً بقاعدة" :كل فرع
تابع ألصله في الحكم".
ومن ثم فكما تنبأ الشوكاني لما أغلقت الدساتير الوضعية الباب أمام علماء الدين
في الدخول على الحكام والصلة بهم ،امتألت ساحات الحكم والسياسة بأهل الهوى
ففسدت الدنيا ،وتراجع الدين.
الخاتمة:
إن هذه الدراسة على إيجازها قد انتهت بي إلى مجموعة من النتائج المهمة
والتوصيات التي تتمثل فيما يلي:
إن كثي اًر من اآلراء السلبية لدى أتباع األنظمة الدستورية الوضعية عن المنهج
اإلسالمي عامة والشق السياسي منه خاصة مبني على ُرءا ذاتية ،ومواقف
شخصية نابعة من أصحابها ،وغير مستندة إلى دراسات موضوعية عميقة ،أو
مستمدة من نصوص ثابتة بفهم صحيح لهذا المنهج ،وذلك نتيج ًة للخلط بين
219
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
سلوكيات بعض أتباع اإلسالم الخاطئة كأفراد ،وبين المنهج ذاته كنصوص وأفكار
ونظريات ،وتحميل األخير بأوزار األول ،وهو ما انتهى بهم إلى حكم غير سديد،
و أرى غير موضوعي عن المنهج اإلسالمي خالفاً لحقيقته وجوهره.
لقد بنى اإلمام الشوكاني -رحمه هللا -فكره السياسي في السياسة الشرعية على
أساسين:
.2األساس األول :هو الفهم العميق للنصوص القائم على التدقيق واالجتهاد
واعمال النظر فيها ،من غير تعصب أو تقليد جامد ألراء من سبقوه.
.2األساس الثاني :هو مراعاة الضرورات والمصالح العملية ،المبنية على فهم
وادراك الواقع لقربه من أروقة الحكم والسياسة ،ومن هنا كان فكره السياسي
انعكاساً وتعبي اًر حقيقياً لحكمة النصوص الشرعية ،ومراعاة لجانب المصلحة
بما يقوي من شوكة الدين واصالح الدنيا به.
أن واقع العالم اليوم ليؤكد بوضوح ،أن إقامة الحياة على غير الدين (العلمانية) قد
أودى بها إلى الضياع ،واالنهيار في جميع جوانبها ،وعلى رأسها الجانب السياسي،
وما الحروب والصراعات الدائرة في كل بقعة من بقاع األرض اآلن إال دليل قاطع
على أن مبدأ فصل الدين عن السياسة والذي تقوم عليه غالبية الدساتير الوضعية
قد ثبت فشله بجدارة.
211
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
بناء على النتائج السابقة ،فإنني أوصي الباحثين في هذا المجال ،بضرورة توجيه
ً
اهتمامهم نحو المزيد من الدراسات المقارنة بين المنهج اإلسالمي والمناهج الوضعية
الزائفة ،والرد على االفتراءات التي تثار عن هذا المنهج ،السيما في جانبه السياسي
بتناول وعرض المزيد من المسائل األخرى في الفكر السياسي لدى علماء اإلسالم
المعتبرين ،لكشف أوجه القصور والزيف في الدساتير الوضعية حول هذه المسائل التي
اغتر بظواهرها كثير من المسلمين.
211
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مكتبة لبنان ،بيروت،
2992م.
عبد الغني قاسم الشرجي ,اإلمام الشوكاني حياته وفكره ،دار الفكر ،بيروت ،بدون
سنة نشر.
عبد هللا بن محمد العجالن ،صالحية التشريع اإلسالمي للبشر كافة ،مجلة
البحوث اإلسالمية ،العدد التاسع ،إصدار ربيع األول إلى جمادى الثانية ،سنة
.270
علي جريشه ،االتجاهات الفكرية المعاصرة ،الطبعة األولى ،دار الوفاء للطباعة
بالمنصورة 2707 ،هـ.
مجموعة من علماء اللغة العربية ،المعجم الوسيط ،دار الدعوة للنشر ،مصر.
محمد بن صالح العثيمين ،التعليق على رسالة رفع األساطين في حكم االتصال
بالسالطين ،الطبعة األولى ،مدار الوطن للنشر2730 ،ه.
محمد بن علي بن محمد الشوكاني ،البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع،
دار المعرفة ،بيروت.
محمد ضياء الدين الريس ،النظريات السياسية اإلسالمية ،القاهرة ،الطبعة
السابعة ،دار التراث2970 ،م.
محمد قطب ،مذاهب فكرية معاصرة ،الطبعة الثانية ،دار الشروق ،بيروت،
2707ه2927-م.
الندوة العالمية للشباب اإلسالمي ،الموسوعة الميسرة في األديان والمذاهب
المعاصرة ,الطبعة الثانية ،الرياض2709 ،هـ2929-م.
212
د .حممد بن علي الكبريي النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية
213