You are on page 1of 17

‫د‪ .

‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫النظرية السياسية في ميزان فكرالشوكاني والدساتيرالوضعية‬


‫(دراسة تحليلية مقارنة)‬
‫الدكتور‪ :‬محمد بن علي الكبيري‬
‫جامعة األمير سطام بن عبدالعزيز‪ -‬المملكة العربية السعودية‬
‫‪Abstract:‬‬ ‫ملخص بالعربية‪:‬‬

‫‪Every approach particularly Islam has its‬‬ ‫كل منهج – السيما اإلسالم‪ -‬له أعداء‬
‫‪enemies‬‬ ‫‪who‬‬ ‫‪try‬‬ ‫‪to‬‬ ‫‪remove‬‬ ‫‪it‬‬ ‫‪from‬‬ ‫‪life‬‬ ‫يحاولون إقصاءه عن ساحة الحياة إما جهالً‪,‬‬
‫‪intentionallyor‬‬ ‫‪unintentionally.‬‬ ‫‪Therefore,‬‬ ‫‪the‬‬ ‫واما عمداً‪ ,‬لذا كان لزاماً على العلماء أن‬
‫‪scholars should defend this approach by explaining‬‬ ‫ينافحوا عن هذا المنهج بتوضيحهم للجاهل‪,‬‬
‫‪it to ignorant or ungrateful people.‬‬
‫وتصديهم للجاحد‪.‬‬
‫‪Undoubtedly, the decline of Muslim Civilization‬‬
‫والشك أن تراجع حضارة المسلمين في‬
‫‪today has enticed the followers of other civilizations‬‬
‫العصر الحاضر أغرى أتباع الحضارات األخرى‬
‫‪to accuse the Islamic approach of failure and‬‬
‫بأن يتهموا منهج اإلسالم بالقصور‪ ,‬وعدم‬
‫‪inability to keep up with their modern civilizations‬‬
‫‪especially in governance and politics. However,the‬‬ ‫القدرة على مواكبة حضارتهم الحديثة‪ ,‬السيما‬
‫‪deteriorating political situation at both regional‬‬ ‫في مجال الحكم والسياسة‪ ,‬وهذا الوضع‬
‫‪and international level in many regions in the world‬‬ ‫السياسي المتردي على الصعيدين اإلقليمي‬
‫‪has motivated the researcher to seize this‬‬ ‫والدولي في كثير من مناطق العالم ليدفعني‬
‫‪opportunity‬‬ ‫‪to‬‬ ‫‪refute‬‬ ‫‪their‬‬ ‫‪allegations‬‬ ‫‪and‬‬ ‫دفعاً إلى اغتنام هذه الفرصة للرد على مزاعم‬
‫‪highlightthe benefits and depths of Islamic political‬‬ ‫هؤالء‪ ,‬وابراز محاسن وعمق نظرية السياسة‬
‫‪theory through explaining the political thought of‬‬ ‫اإلسالمية‪- ,‬وهو ماينبغي على الباحثين القيام‬
‫‪some famous Islamic Sharia Scholars like Imam‬‬
‫به‪ -‬من خالل عرض الفكر السياسي لدى‬
‫‪Shawkani.‬‬
‫علماء الشريعة الكبار أمثال الشوكاني‪.‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫لما كان "االجتماع لإلنسان ضروري كونه مدني بالطبع"‪ ،1‬كان البد من منهج‬
‫ينظم حركة هذا المجتمع اجتماعياً‪ ،‬واقتصادياً‪ ،‬وسياسياً‪ ،‬وأخالقياً ‪ ،‬وليس أنفع لإلنسان‬

‫‪ 1‬عبدالرحمن بن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ,‬مكتبة لبنان‪ ،‬ساحة رياض الصلح‪ ،‬بيروت‪2992 ،‬م‪02 /2 ،‬‬
‫‪197‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫من المنهج الذي وضعه له خالقه عز وجل‪ ،‬إذ هو أعلم بمن خلق‪ ،1‬وكل منهج –‬
‫السيما اإلسالم‪ -‬له أعداء يحاولون إقصاءه عن ساحة الحياة إما جهالً واما عمداً‪ ،‬لذا‬
‫كان لزاماً على العلماء أن ينافحوا عن هذا المنهج بتوضيحهم للجاهل‪ ،‬وتصديهم‬
‫للجاحد‪.‬‬
‫والشك أن تراجع حضارة المسلمين في العصر الحاضر أغرى أتباع الحضارات‬
‫األخرى بأن يتهموا منهج اإلسالم بالقصور‪ ،‬وعدم القدرة على مواكبة حضارتهم‬
‫الحديثة‪ ،‬السيما في مجال الحكم والسياسة‪ ،‬حتى نادى هؤالء ومن مشى على خطاهم‬
‫بإبعاد "الدين عن السياسة"‪ ،‬وان الوضع السياسي المتردي على الصعيدين اإلقليمي‬
‫والدولي في كثير من مناطق العالم ليدفعني دفعاً إلى اغتنام هذه الفرصة للرد على‬
‫مزاعم هؤالء‪ ،‬وابراز محاسن وعمق نظرية السياسة اإلسالمية‪ ،‬من خالل عرض الفكر‬
‫السياسي لدى علماء الشريعة اإلسالمية الكبار أمثال الشوكاني وغيره للرد على أوالئك‬
‫القائلين بعدم وجود نظرية سياسية في الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫فهذا البحث وأمثاله يعد ردًا جازماً على هؤالء‪ ،‬السيما في ظل الفشل السياسي‬
‫الذريع الذي يجتاح العالم من كل جانب بسبب السياسات الوضعية الرديئة التي لطالما‬
‫تغنوا وتفاخروا بها‪ ،‬وبثوها في دساتيرهم المصنوعة بالتلميح تارة‪ ،‬وبالتصريح تارة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫وأما اختياري لإلمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني (‪2273‬هـ ‪2222 -‬هـ)‬
‫كمثال لعرض الفكر السياسي لديه كأحد صور المنهج السياسي في النظرية اإلسالمية‬
‫فيرجع إلى اعتبارين أحدهما نظري‪ ،‬واآلخر عملي‪:‬‬
‫االعتبار النظري‪ :‬مرجعه ثراؤه الفكري عامة والسياسي خاصة‪ ،‬فقد زادت حصيلته‬
‫السياسية بممارسته السياسية‪ ،‬وما ترتب عليها من معرفة بواقع مجتمعه‪ ،‬وكذلك‬

‫‪ 1‬عبدهللا بن محمد العجالن‪ ،‬صالحية التشريع اإلسالمي للبشر كافة‪ ،‬مجلة البحوث اإلسالمية‪،‬‬
‫العدد التاسع‪ ،‬إصدار ربيع األول إلى جمادى الثانية‪ ،‬لسنة ‪2707‬هـ‪ ،‬ص‪.202 :‬‬
‫‪198‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫كثرة مؤلفاته الزاخرة التي أبانت هذا الفكر وجلته‪ ،‬والتي تزيد على المئة وأربعة‬
‫عشر مؤلفاً‪.‬‬
‫االعتبار العملي‪ :‬مفاده احتكاكه بميدان السياسة من خالل المناصب التي توالها‪،‬‬
‫وممارسته العمل السياسي‪ ،‬واهتمامه بالمسائل والقضايا السياسية‪ ،‬وكذا قربه من‬
‫الحكام على مدى ثالث واليات في عصره‪ ،‬وقربه من مصادر صنع القرار‪ ،‬وتأثيره‬
‫في سياساتهم في الحكم بسبب ثقله الفقهي والعلمي‪ ،‬وهما اعتباران قلما يجدهما‬
‫الباحث في عالم آخر مثله إال ما ندر‪.‬‬
‫مشـكلة البحـث‪:‬‬
‫تدور مشكلة هذا البحث حول عنصرين هما‪:‬‬
‫العنصر األول‪ :‬إثبات العمق السياسي في نصوص الشريعة اإلسالمية بمصادرها‬
‫المختلفة‪ ،‬ووفائها بالمطالب اإلنسانية وشمولها الحتياجاته‪ ،‬ومن خالل فكر علمائها‬
‫(الفكر السياسي لدى الشوكاني مثاالً لذلك)‪ ،‬والرد على مزاعم القائلين بعدم قدرتها‬
‫على تنظيم شؤون الدولة الحديثة عامة ونظم الحكم والسياسة فيها خاصة‪ ،‬وعجزها‬
‫عن تحقيق المصالح األولى بالرعاية‪.‬‬
‫العنصر الثاني‪ :‬كشف أوجه القصور في نصوص الدساتير الوضعية‪ ،‬والعجز عن‬
‫إدراك بواطن األمور‪ ،‬وحقائق المصالح في إدارة الدول‪ ،‬وشؤون الحكم نظ اًر‬
‫لمحدودية الرؤية لدى واضعيها كونهم بشر‪ ،‬بما يستوجب تعديل هذه الدساتير‬
‫حيناً‪ ،‬وتبديلها أحيانًا أخرى بما يؤكد ثبوت عجزها عن سياسة الدول‪ ،‬وعدم قدرتها‬
‫على تحقيق مصالح الشعوب‪.‬‬
‫أهمـية البحـث‪:‬‬
‫ترجع أهمية هذا البحث إلى ما يثيره أنصار األنظمة الغربية‪ ،‬ومن وافقهم من‬
‫األنظمة العربية من ضرورة إبعاد الدين عن السياسة‪ ،‬متذرعين في ذلك بأمرين أحدهما‬
‫خطر‪ ،‬واآلخر خطأ‪ ،‬وذلك على النحو التالي‪:‬‬
‫وجه الخطر; يكمن ذلك الخطر في كيد هؤالء للشريعة اإلسالمية الغراء‪ ،‬مبتدئين‬
‫هذا الكيد بالمناداة بفصلها عن السياسة‪ ،‬معللين في ذلك بالمقولة الزائفة "ال دين في‬

‫‪199‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫السياسة وال سياسة في الدين"‪ ،‬وما ذلك إال خطوة تتلوها خطوات لالنقضاض على‬
‫الشريعة الغراء‪ ،‬وفصلها عن الدنيا كلها‪ ،‬وهو ما حذرنا منه رسولنا الكريم صلى هللا‬
‫عليه وسلم بقولة‪" :‬لتنقضن عرى اإلسالم عروة عروة فأولها نقضاً الحكم‪ ،‬وآخرها‬
‫الصالة"‪.1‬‬
‫وجه الخطأ; أن منشأ المقولة السابقة "الدين في السياسة وال سياسة في الدين"‬
‫راجع إلى الماضي المظلم ألوربا في عصورها الوسطى‪ ،‬وما ذاقته من ظلم واستبداد‬
‫على يد رجال دينهم الفاسدين‪ ،‬حتى انسلخوا من كل ما هو ديني لديهم‪ ،‬ثم استداروا‬
‫على شريعة اإلسالم‪ ،‬محاولين إلصاق هذه األقوال الباطلة بها وهي من كل ما قالوا‬
‫براء‪.‬‬
‫ومن ثم فهذا البحث خطوة على طريق التصدي لهذا الخطر المتربص بهذه‬
‫الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وهو ما ينبغي أن يوجه إليه اهتمام الباحثين في هذا الشأن‪ .‬وكذلك‬
‫كشف خطأ وزيف مثل هذه المقوالت من خالل عرض الفكر السياسي المعتدل لدى‬
‫علماء الشريعة اإلسالمية‪ ،‬والسياسة الشرعية الموثوقون أمثال الشوكاني‪ ،‬في مواجهة‬
‫دساتيرهم الوضعية‪ ،‬حتى يبين الغث من السمين‪ ،‬والخبيث من الطيب‪.‬‬
‫ولهذه الدراسة أهمية من جانب آخر وهو تقديم أحد أعالم الفكر السياسي اإلسالمي‪،‬‬
‫الذي قدم حلوالً لكثير من المشكالت السياسية والدستورية التي ظهرت أخي اًر في كثير‬
‫من المسائل السياسية الحالية ‪.‬‬
‫منهج وهيكلية البحث ‪:‬‬
‫سوف أتناول هذه الدراسة من خالل المنهج التحليلي الوصفي لبعض جوانب‬
‫نظرية السياسة اإلسالمية؛ من خالل عرض عدد من مسائل السياسة في فكر أحد‬
‫فرسانها‪ ،‬الذين سبروا أغوارها‪ ،‬وكشفوا النقاب عن مواضع الحكمة فيها (وهو اإلمام‬
‫الشوكاني رحمه هللا)‪ ،‬غير مكتف بهذا‪ ،‬بل سأضع هذا الفكر في ميزان المقارنة مع ما‬
‫تحويه نصوص الدساتير الوضعية‪ ،‬لنقف بعد ذلك ليس فقط على عظمة هذه الشريعة‬

‫‪ 1‬أخرجه اإلمام أحمد في باقي مسند األنصار رقم (‪ 722/30 ،)22200‬عن أبي أمامه الباهلي‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫وعمق الفكر السياسي لدى أحد الراسخين فيها‪ ،‬وانما لنكشف أيضاً عوار هذه الدساتير‪،‬‬
‫وقصر نظر واضعيها فيما تتضمنه من نصوص‪ ،‬وخاصة في مجال السياسة والحكم‪،‬‬
‫وذلك من خالل مبحث النظرية السياسية في ميزان فكر الشوكاني والدساتير الوضعية‪:‬‬
‫دراسة تحليلية مقارنة وثالثة مطالب‪ ،‬نعالج في أولها فصل الدين عن السياسة‪ ،‬ثم‬
‫مراعاة المصلحة السياسية في ثانيها‪ ،‬وصوالً للصلة بالحكام في ثالثها‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬فصل الدين عن السياسة‪.‬‬


‫ونتطرق فيه لفكر الشوكاني السياسي وموقفه من فصل الدين عن السياسة في‬
‫الفرع األول‪ ،‬ثم فصل الدين عن السياسة في الدساتير الوضعية في الفرع الثاني‪.‬‬
‫الفرع األول‪ :‬فكر الشوكاني السياسي وموقفه من فصل الدين عن السياسة‪.‬‬
‫تناول الشوكاني رحمه هللا لمصطلح السياسة في الثقافة اإلسالمية‪ ،‬ولمبدأ فصل‬
‫الدين عن السياسة‪ ،‬كيف نشأ‪ ،‬وكيف أنتشر‪ ،‬وعن مبررات ذلك الفصل عند من حكموا‬
‫المسلمين‪ ،‬وذكر مقارنة بين حال من طبق الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وبين من طبق حكم‬
‫القانون وفصل الدين عن السياسة‪ ،‬ونقد مبدأ الفصل بين الدين والدولة‪ ،1‬ثم تصدى‬
‫لذلك القول فيقول‪" :‬والحاصل أن من تأمل األمور حق التأمل‪ ،‬علم علماً ال يخالطه‬
‫شك وال تخالجه شبه إن السياسات الشرعية والتدبيرات النبوية‪ ،‬هي إصالح الدين‬
‫والدنيا‪ ،‬ومنبع كل خير‪ ،‬وأن غيرهما أصل فساد الدين والدينا‪ ،‬ومنبع كل شر‪.2‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬فصل الدين عن السياسة في الدساتير الوضعية‪.‬‬

‫في الحقيقة أن هذا الفصل بين الدين والسياسة في الدساتير الوضعية يأخذ عدة‬
‫صور‪:‬‬

‫‪ 1‬عبد الغني الشرجي‪ ،‬اإلمام الشوكاني حياته وفكره‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬بدون سنة نشر‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪322‬؛ حليمة بوكروشة‪ ،‬معالم تجديد المنهج الفقهي‪ :‬أنوذج الشوكاني‪ ,‬مطبوعات و ازرة األوقاف‬
‫والشؤون اإلسالمية بدولة قطر‪ ،‬ط أولى‪ ،‬رمضان ‪2723‬ه ‪2002‬م‪ ،‬ص‪. 202 :‬‬
‫‪ 2‬زياد علي‪ ،‬الفكر السياسي والقانوني عند محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬دار النسيم للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط أولى ‪2999‬م‪ ،‬ص ص‪.73-72 :‬‬
‫‪211‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫الصورة األولى‪ :‬بعض الدساتير تكتفي بأن تجعل هذا الفصل ضمني من خالل‬
‫تضمين الدستور مبادئ ونصوص تقتضي ضمناً فصل الدين عن السياسة‪ ،‬كمبدأ‬
‫سيادة القانون في الفكر الغربي‪ ،‬أو كما يسميه شراح القانون المشروعية القانونية‪ ،‬مع‬
‫احتفاظ الدولة بانتمائها الديني كما في الدستورين المصري واألردني‪ 1‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬إذ رغم أن كال منهما ينص على أن "اإلسالم دين الدولة"‪ ،‬إال أنهما يعودان‬
‫فيقر ارن بأن القانون هو أساس الحكم في الدولة‪ ،‬وأن "السيادة للشعب وحده" بما يعني‬
‫انتماء شكليًا‬ ‫أنه ال عالقة للدين بالسياسة‪ ،‬وأن انتماء الدولة للدين ال يعدو أن يكون‬
‫ً‬
‫فقط‪ ،‬إذ ما فائدة أن يكون للدولة دين إذا كان هذا الدين ال دور له في رسم سياستها‪.‬‬
‫الصورة الثانية‪ :‬يرى البعض اآلخر من الدساتير السيما الدساتير الغربية‪ ،‬تنتهج‬
‫فكرة الفصل الصريح الواضح بين الدين والسياسة‪ ،‬ليس هذا فحسب بل غالباً ما تؤكد‬
‫تلك الدساتير على هذا الفصل فال تكتفي بإبعاد الدين عن السياسة فقط‪ ،‬وانما تفصله‬
‫عن الدولة كاملة بأن تجعل الدولة علمانية بال دين رسمي تنتمي إليه‪ ،‬ومن هذه‬
‫الدساتير الدستور الفرنسي‪ ،2‬حيث نص على أن "فرنسا جمهوريه علمانية"‪ ،‬وأن مبدؤها‬
‫"حكومة الشعب بالشعب" فضالً عن أنه بين لغة الدولة‪ ،‬وشعارها‪ ،‬ونشيدها‪ ،‬وعلمها‬
‫ولم يتعرض من قريب أو بعيد النتمائها الديني‪ ،‬مما يعني تحللها من أي مرجعية دينية‬
‫وتبنيها لمبدأ الفصل الصريح بين الدين والدولة علي إطالقه‪ ،‬ومن قبل هذا سار‬
‫الدستور األمريكي‪ 3‬على ذلك المبدأ‪ ،‬وكذالك القانون األساسي أللمانيا االتحادية‪،4‬‬
‫العلم بمعنى العالم‪،‬‬
‫وواضح تبني هذه الدساتير لفكرة العلمانية‪ ،‬التي هي لغة‪ :‬نسبة إلى َ‬
‫وهو خالف الديني أو الكهنوتي‪.5‬‬

‫‪ 1‬الدستور المصري لعام ‪2027‬م‪ ،‬المواد رقم‪ )2/2( :‬و(‪ .)7 ،2‬والدستور األردني لعام ‪،2922‬‬
‫المواد رقم‪ )2 ( :‬و( ‪ )27‬فقرة (‪.)2 ،2‬‬
‫‪ 2‬الدستور الفرنسي لعام ‪2922‬م‪ ،‬المادة األولى‪ ،‬فقرة (‪ ،)2‬والمادة الثانية‪ ،‬فقرة (‪.)2‬‬
‫‪ 3‬المادة السادسة الفقرتان (‪ ،2‬و‪ )3‬من الدستور الدستور األمريكي لعام ‪2729‬م والتعديل األول‪.‬‬
‫‪ 4‬المواد ‪ ،20‬و‪ ،27‬و‪ 22‬من القانون األساسي أللمانيا اإلتحاديه لعام ‪2979‬م ‪.‬‬
‫‪ 5‬مجموعة من علماء اللغة العربية‪ ،‬المعجم الوسيط ‪ ،‬دارالدعوة‪ ،‬مصر‪ ،‬ص‪.027/2 :‬‬
‫‪212‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫أما اصطالحاً‪ :‬فتعني إقامة الحياة على غير الدين‪ ،‬وخاصة في جانبها السياسي‪،‬‬
‫وعلى رأسها شؤون الحكم‪ ،1‬ويؤكد المعنى السابق لمفهوم العلمانية ما ورد بدوائر‬
‫المعارف الغربية المختلفة‪ ،‬حيث تقول دائرة المعارف البريطانية عن العلمانية‪" :‬هي‬
‫حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن االهتمام باآلخرة إلى االهتمام بالحياة‬
‫الدنيا وحدها"‪ ،2‬وكذا ذكرت دائرة المعارف األمريكية أن‪" :‬الدنيوية هي نظام أخالقي‬
‫أسس على مبادئ األخالق الطبيعية ومستقل عن الديانات السماوية"‪ ،3‬والتعبير الشائع‬
‫في الكتب المعاصرة لكل ما سبق هو‪" :‬فصل الدين عن الدولة"‪ ،4‬ولم يقف األمر عند‬
‫حد األفكار والمذاهب االجتماعية‪ ،‬بل ترجم إلى واقع ملموس من خالل‪ ،‬نصوص‬
‫الدساتير سالفة الذكر‪ ،‬ولتبقى بعد ذلك الدولة برمتها وفي الصدارة منها شؤون الحكم‬
‫والسياسة متجردة من كل قيمة دينية تضبط قواعدها ‪.‬‬

‫وعلى عكس الدساتير السابقة جميعاً‪ ،‬نجد الدساتير واألنظمة التي تتخذ الدين‬
‫مرجعاً لها‪ ،‬وعلى رأسها النظام األساسي للحكم في المملكة العربية السعودية‪ 5‬حريص‬
‫على ربط السياسة بالدين‪ ،‬بل يجعلها محكومة بأوامر الشرع الشريف ونواهيه‪ ،‬وأنه‬
‫يستمد الحكم فيها من كتاب هللا وسنة رسوله‪ ،‬وهما الحاكمان على كل أنظمة المملكة‬

‫‪ 1‬الندوة العالمية للشباب اإلسالمي‪ ،‬الموسوعة الميسرة في األديان والمذاهب المعاصرة‪ ,‬الطبعة‬
‫الثانية‪2709 ،‬ه‪2929-‬م‪ ،‬الرياض‪ ،‬ص‪.307 :‬‬
‫‪ 2‬محمد قطب‪ ،‬مذاهب فكرية معاصرة ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بيروت‪2707 ،‬هـ‪2927-‬م‪،‬‬
‫ص‪.772 :‬‬
‫‪ 3‬علي جريشه‪ ،‬االتجاهات الفكرية المعاصرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الوفاء للطباعة بالمنصورة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪ 2707‬هـ‪ ،‬ص‪.22 :‬‬
‫‪ 4‬حمود بن أحمد الرحيلي‪ ،‬العلمانية وموقف اإلسالم منها‪ ،‬الناشر‪ :‬الجامعة اإلسالمية بالمدينة‬
‫المنورة‪ ،‬العدد ‪ ،222‬السنة ‪ 37‬عام ‪2722‬هـ‪ ،‬ص‪7 :‬‬

‫‪ 5‬النظام األساسي للحكم رقم أ‪ 90/‬لعام ‪2722‬هـ‪ ،‬الباب األول‪ :‬المبادئ العامة المواد من (‪ 2‬إلى‬
‫‪.)2‬‬
‫‪213‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫العربية السعودية‪ ،‬إيماناً منه بأن السيادة والحاكمية هلل وحده‪ ،‬وأن السياسة في منظورها‬
‫الحقيقي ما هي إال "إصالح الدنيا بالدين"‪.‬‬

‫مما تقدم يتضح لنا عمق الفكر السياسي لدى الشوكاني‪ ،‬والمستقى من الشريعة‬
‫اإلسالمية الغراء‪ ،‬وذلك على خالف ما ذهبت إليه غالبية الدساتير الوضعية‪ ،‬والتي‬
‫تتبنى مبدأ فصل الدين عن السياسة‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬مراعاة المصلحة السياسية‪.‬‬

‫نتطرق في هذا المطلب لمراعاة المصلحة السياسية في فكر الشوكاني في الفرع‬


‫األول‪ ،‬ثم لمراعاة المصلحة السياسية في الدساتير الوضعية في الفرع الثاني‪ ،‬وذلك‬
‫على النحو التالي‪.‬‬

‫الفرع األول‪ :‬مراعاة المصلحة السياسية في فكر الشوكاني‪.‬‬


‫ويتضح ذلك من عدة مواقف أهمها‪:‬‬
‫الموقف األول‪ :‬ذكر الشوكاني عن أحد أبناء جنكيز خان كان قد تولى حكم‬
‫التتر‪ ،‬وأسلم بعد عام من حكمه وساهم في نشر اإلسالم‪ ،‬ويذكر مشكلة واجهته وهو‬
‫أن اإلسالم يحرم نكاح نساء اآلباء‪ ،‬وكان قد ضم نساء أبيه إليه‪ ،‬فهم بالردة‪ ،‬فأخبره‬
‫أحد خواصه بأن أباه كان مسافحاً‪ ،‬فاعقد أنت عليها فإنها تحل لك‪ ،‬ففعل ذلك‪،‬‬
‫واستحسن من أفتاه فهذه مصلحة‪.‬‬
‫فالشوكاني سجل هذه الحادثة‪ ،‬وذكر أن ذلك مراعاة للمصلحة السياسية‪ ،‬وأن ذلك‬
‫عين الصواب‪ ،‬ويترحم الشوكاني على ذلك المفتي ويشيد ببعد نظره‪ ،‬فالمسألة ليست‬
‫مرتبطة بشخص بقاء الحاكم‪ ،‬أو خروجه عن اإلسالم‪ ،‬ولكن ما يترتب على ذلك‪.1‬‬

‫‪ 1‬محمد بن علي بن محمد الشوكاني‪ ،‬البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‪ ،‬دار المعرفة‪،‬‬
‫بيروت‪.2/2 ،‬‬
‫‪214‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫الموقف الثاني‪ :‬تناول كيفية انعقاد اإلمامة‪ ،‬ورغم غالبية اآلراء التي ال تجوز عقد‬
‫اإلمامة إلمامين في وقت واحد في األقطار المتعددة ال في القطر الواحد‪ ،‬إال أن‬
‫الشوكاني – رحمه هللا – طرح مبرر ومصلحة سياسية في وجود أكثر من إمام نتيجة‬
‫اتساع الرقعة الجغرافية اإلسالمية‪ ،‬فإن تعدد الدول اإلسالمية يترتب عليه تعدد الحكام‬
‫لتلك الدول ويصبح جائ اًز‪ ،‬فلكل بلد واقليم خصوصيته؛ بل اليجب على أهل بلد السمع‬
‫والطاعة لسلطان وحاكم البالد األخرى‪ ،‬وال الدخول تحت واليته‪ ،‬وال يكون نافذاً أمره في‬
‫بلد اآلخر؛ألنه ليس داخالً في واليته ولتباعد األقطار‪.1‬‬

‫فالشوكاني رحمه هللا تعالى أخذ بما يعرف اآلن بمبدأ سيادة الدول‪ ،‬وكذا بمبدأ‬
‫عدم التدخل في شؤون اآلخرين هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فهو يقر بمبدأ آخر أال‬
‫وهو مبدأ تعدد السلطة السياسية لألقطار اإلسالمية‪ ،‬وكل هذا قبل أن تعرف هذه‬
‫المبادئ وتشتهر في الفكر الدستوري الوضعي ‪.‬‬

‫الفرع الثاني ‪ :‬مراعاة المصلحة السياسية في الدساتير الوضعية‪.‬‬

‫إذا نظرنا إلى هذه المسألة في فكر الشوكاني مقارنة بالدساتير الوضعية وجدنا‬
‫هذه األخيرة تتماشى هي األخرى مع ضرورة تحقيق ومراعاة المصلحة السياسية‪ ،‬غير‬
‫أن هناك العديد من الفوارق بين المصلحة التي قصدها الشوكاني‪ ،‬والمستمدة من‬
‫السياسة الشرعية‪ ،‬وبين تلك التي تراعيها الدساتير والمستمدة من السياسة الوضعية‪،‬‬
‫أقتصر هنا على ذكر فارقان جوهريان منها فقط الرتباطهما بهذه المسألة أولهما‬
‫موضوعي والثاني إجرائي‪.2‬‬

‫‪ 1‬زياد علي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪720 :‬؛ محمد ضياء الدين الريس‪ ،‬النظريات السياسية اإلسالمية‪,‬‬
‫الطبعة السابعة‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪2970 ،‬م‪ ،‬ص ‪. 239‬‬
‫‪ 2‬سعد بن مطر العتيبي‪ ،‬أضواء على السياسة الشرعية‪ ،‬سلسة مقاالت علمية في بيان الفرق بين‬
‫السياسة الشرعية والسياسات الوضعية‪ ،‬موقع المسلم االلكتروني‪:‬‬
‫‪http://www.almoslim.net/elmy/all_art_elmy3?page=3.‬‬
‫‪215‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫الفارق الموضوعي (طبيعة المصلحة)‪ :‬ففي حين تكون المصلحة التي تستهدفها‬
‫الدساتير الوضعية مصلحة دنيوية محضة ‪ ،‬نجد المصلحة التي قصد الشوكاني‬
‫مراعاتها هي مصلحة دينية ودنيوية معاً‪ ،‬تحقق الخير للناس في معاشهم ومعادهم‪.‬‬

‫الفارق اإلجــــرائي (مصدر المصلحة)‪ :‬أي الجهة المختصة باستنباط المصالح‬


‫المرعية‪ ،‬وهي في المثال الذي ذكره الشوكاني المجتهد الذي استنبطها ‪-‬بآليات‬
‫أصول الفقه‪ -‬من صريح القرآن الذي هو كالم هللا الذي يعلم ما يصلح الناس حاالً‬
‫ومآالً‪ ،‬أما في الدساتير الوضعية فمصدرها رؤية المشرع البشري القاصرة‪ ،‬ومن ثم‬
‫فما تعتبره الدساتير الوضعية مصلحة اآلن قد يثبت ضررها فيما بعد‪ ،‬وليس أدل‬
‫على ذلك من كثرة التعديالت التي تط أر على هذه الدساتير على فترات قصيرة‪ ،‬بما‬
‫يؤكد أن ما سبق مراعاته على أنه مصلحة قد ثبت ضرره‪ ،‬واألمثلة على مراعاة‬
‫المصلحة السياسية في نصوص الدساتير الوضعية كثيرة منها على سبيل المثال ما‬
‫يلي‪:‬‬

‫بعض الدساتير تأخذ بالنظام الرئاسي في الحكم‪ ،1‬بينما يأخذ البعض اآلخر‬
‫بالنظام البرلماني‪ ،2‬والبعض الثالث يأخذ بنظام مختلط‪ ،3‬وهكذا حسب المصلحة‬
‫السياسية التي يرى كل دستور أنها أولى بالرعاية في ضوء ظروف كل مجتمع‬
‫وطبيعته‪.‬‬

‫ومن ذلك أيضاً أخذ بعض األنظمة بالتعددية الحزبية‪ ،4‬في حين يأخذ البعض‬
‫اآلخر بنظام الحزب الواحد‪ ،‬إلى آخر األمثلة التي اليمكن حصرها‪ ،‬كاالنتخاب‬
‫الفردي‪ ،‬واالنتخاب بالقائمة‪ ،‬وهكذا كثير من المصالح السياسية التي تراعيها الدساتير‬

‫‪ 1‬المادة الثانية الفقرتين األولي والثانية (صدر الفقرتين) من الدستور األمريكي لسنة ‪. 2729‬‬
‫‪ 2‬المواد ‪ ،209 ،202 ،202 ،2 ،7‬و‪ 222‬من الدستور التركي لسنة ‪.2922‬‬
‫‪ 3‬المواد ‪ ،22 ،20 ،2 ،0 ،2‬و‪ 23‬من الدستور الفرنسي لسنة ‪.2922‬‬
‫‪ 4‬المادة رقم ‪ 2‬من الدستور المصري لسنة ‪. 2027‬‬
‫‪216‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫الوضعية‪ ،‬لكن ذلك كله في ضوء ماسبق ذكره من أنها مصالح دنيوية محضة‪ ،‬وأنها‬
‫صادرة عن رؤية بشرية قاصرة‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬الصـلة بالحـكام‪.‬‬

‫نتطرق في هذا المطلب للصلة بالحكام في فكر الشوكاني في الفرع األول‪ ،‬ثم‬
‫للصلة بالحكام في الدساتير الوضعية في الفرع الثاني‪ ،‬وتفصيل ذلك على النحو‬
‫التالي‪:‬‬

‫الفرع األول‪ :‬الصلة بالحكام في فكر الشوكاني‪.‬‬


‫ال يرى الشوكاني –رحمه الل ‪ -‬ابتعاد العلماء ورجال الفكر اإلسالمي عن الدولة‬
‫ومناصبها المهمة‪ ،‬مادام الهدف من االشتغال بذلك هو العدل‪ ،‬فإن تورعهم عن ذلك‬
‫يعني ترك المناصب المهمة أليد غير آمنة وال مؤهلة‪ ،‬وبهذا تهدد مصالح المجتمع‬
‫المسلم في الدين‪ ،‬والعرض‪ ،‬والمال‪ ،‬والنفس‪ ،1‬ولهذا قال‪" :‬وال يخفي على ذي عقل أنه‬
‫لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة الملوك‪ ،‬لتعطلت الشريعة المطهرة‪ ،‬لعدم‬
‫وجود من يقوم بها‪ ،‬وتبدلت المملكة اإلسالمية بالمملكة الجاهلية في األحكام الشرعية‪،‬‬
‫وعم الجهل‪ ،‬وخولفت أحكام الكتاب والسنة‪ ،‬وال سيما من الملك وخاصته وأتباعه‪."2‬‬
‫فمما دعاه رحمه هللا تعالى في ضرورة االتصال بالحكام هو خصوصية الوضع‬
‫االجتماعي والسياسي الذي كان هو السائد في وقته‪ ،‬فقد فشا التقليد‪ ،‬وترك االجتهاد؛‬
‫بل إنه رأى فيمن تولى المناصب السياسية والقضائية واإلدارية قلة العلم‪ ،‬والتعصب‬
‫الفكري الذي ال يستند إلى دليل شرعي‪ ،‬ولذا رأى أن االتصال بالحكام هو أحد أسباب‬
‫معالجة اإلصالح االجتماعي والسياسي‪ ،‬وكذلك وسيلة مهمة لتحقيق العدل وارشاد‬
‫للحكام‪ ،‬وتخفيف لظلمهم‪ ،‬وقد بين الشوكاني رحمه هللا تعالى فوائد الصلة بالحكام‪،‬‬

‫‪ 1‬عبد الغاني الشرجي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.720 :‬‬


‫‪ 2‬محمد بن صالح العثيمين‪ ،‬التعليق على رسالة رفع األساطين في حكم االتصال بالسالطين‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬دار الوطن للنشر‪2730 ،‬هـ‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪217‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫والتعاون معهم للمصلحة العامة‪ ،‬وشرعية ذلك‪ ،‬وتتلخص أسباب ذلك في األمور‬
‫التالية‪:1‬‬
‫طلب الرزق الذي حث عليه الشارع الحكيم‪ ،‬فاإلتصال بهم من أنواع السعي في‬
‫طلب الرزق‪ ،‬وطريقاً شرعياً‪،‬‬
‫الخوف من تعطل الشريعة لعدم وجود من يقوم بها على الوجه الشرعي الصحيح‪،‬‬
‫حاجة الدولة لمن يتولى شؤونها‪ ،‬فالحاكم وحده ال يستطيع مباشرة جميع األمور‬
‫فهو محتاج لمن يساعده‪ ،‬ويخفف عنه أعباء المسؤولية؛ فحاجة كل منهما لآلخر‬
‫من األسباب التي تتطلب االتصال بين الحاكم والمحكوم‪ ،‬فالعالم اتصاله ألجل‬
‫كسب الرزق‪ ،‬واصالح ماهو داخل تحت واليته‪ ،‬واتصال الحاكم ألجل معاونته‬
‫وتخفيف العبء عليه‪.‬‬
‫فالشوكاني يدرك أهمية وجود السلطة السياسية (الحاكم)‪ ،‬فبها تتحقق مقاصد‬
‫الشريعة من جلب المصالح ودفع المضار‪ ،‬فهي وسيلة لحفظ الدين‪ ،‬ولذا رأى ضرورة‬
‫الصلة بالحكام ال لذاتهم؛ بل بما يتحقق لإلسالم والمسلمين من مصالح في االتصال‪،‬‬
‫وعدم ترك األمر للجهال وأصحاب المصالح الضيقة واألفكار المقيتة ‪.‬‬
‫كذلك خالف الشوكاني الذين يجعلون من وجود المنكرات عند الملوك واألمراء‬
‫ذريعة العتزال مراكز التغيير في المجتمع والدولة‪ ،‬ووضع ضابطاً مهماً جداً في‬
‫االتصال بالحكام وهو عدم تبرير ظلمهم‪ ،‬وعدم مشاركته في تنفيذه فقال‪":‬المتصل بهم‬
‫من أهل المناصب الدينية قد يغضي في بعض األحوال عن شئ من المنكرات ال‬
‫لرضى؛ بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه"‪ ،‬ثم قال بعد ذلك‪" :‬لكن هذا‬
‫المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم‪ ،‬بل ليفتي بين الناس بحكم هللا‪."2‬‬

‫‪ 1‬أشواق أحمد مهدي محمد غليس‪ ،‬فكر الشوكاني السياسي وأثره المعاصر في اليمن التجمع‬
‫اليمني لإلصالح نموذجاً‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مركز عبادي للدراسات والنشر‪ ،‬صنعاء‪2722 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪2007‬م‪ ،‬ص‪. 222 :‬‬
‫‪ 2‬عبد الغني الشرجي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.300 :‬‬
‫‪218‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫فالشوكاني –رحمه هللا– يرى أن العالقة بين الحاكم والمحكوم يضبطها فقه‬
‫األولويات‪ ،‬والموازنات القائم على معرفة الضر األكبر واألخف‪ ،‬ولوال خوف اإلطالة‬
‫لسردت وسقت األدلة الشرعية‪ ،‬والحجج العقلية والموضوعية التي استند لها الشوكاني‬
‫في شرعية اتصال العلماء بالحكام‪ ،‬وكذا فوائده وأهدافه‪.‬‬

‫الفرع الثاني‪ :‬الصلة بالحكام في الدساتير الوضعية‪.‬‬

‫الحقيقة أن صلة علماء الدين بالحكام في الدساتير الوضعية فرع لألصل الذي‬
‫هو عالقة الدين بالسياسة‪ ،‬وتأسيساً على ماسبق بيانه من فصل أغلب الدساتير‬
‫الوضعية للدين عن السياسة فبنفس القدر نجد تلك الدساتير تقصي علماء الدين عن‬
‫ساحات الحكام‪ ،‬فال تُؤخذ مشورتهم وال ُيرجع إليهم في شؤون الدولة‪ ،‬حتى تالشى‬
‫دورهم‪ ،‬وكادت تنتهي كل صلة لهم بالحكام في الدساتير الوضعية‪ ،‬استناداً لذات‬
‫النصوص السابق ذكرها في مسألة فصل الدين عن السياسة‪ ،‬عمالً بقاعدة‪" :‬كل فرع‬
‫تابع ألصله في الحكم"‪.‬‬

‫ومن ثم فكما تنبأ الشوكاني لما أغلقت الدساتير الوضعية الباب أمام علماء الدين‬
‫في الدخول على الحكام والصلة بهم‪ ،‬امتألت ساحات الحكم والسياسة بأهل الهوى‬
‫ففسدت الدنيا‪ ،‬وتراجع الدين‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫إن هذه الدراسة على إيجازها قد انتهت بي إلى مجموعة من النتائج المهمة‬
‫والتوصيات التي تتمثل فيما يلي‪:‬‬

‫إن كثي اًر من اآلراء السلبية لدى أتباع األنظمة الدستورية الوضعية عن المنهج‬
‫اإلسالمي عامة والشق السياسي منه خاصة مبني على ُرءا ذاتية‪ ،‬ومواقف‬
‫شخصية نابعة من أصحابها‪ ،‬وغير مستندة إلى دراسات موضوعية عميقة‪ ،‬أو‬
‫مستمدة من نصوص ثابتة بفهم صحيح لهذا المنهج‪ ،‬وذلك نتيج ًة للخلط بين‬

‫‪219‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫سلوكيات بعض أتباع اإلسالم الخاطئة كأفراد‪ ،‬وبين المنهج ذاته كنصوص وأفكار‬
‫ونظريات‪ ،‬وتحميل األخير بأوزار األول‪ ،‬وهو ما انتهى بهم إلى حكم غير سديد‪،‬‬
‫و أرى غير موضوعي عن المنهج اإلسالمي خالفاً لحقيقته وجوهره‪.‬‬

‫لقد بنى اإلمام الشوكاني ‪-‬رحمه هللا‪ -‬فكره السياسي في السياسة الشرعية على‬
‫أساسين‪:‬‬

‫‪ .2‬األساس األول‪ :‬هو الفهم العميق للنصوص القائم على التدقيق واالجتهاد‬
‫واعمال النظر فيها‪ ،‬من غير تعصب أو تقليد جامد ألراء من سبقوه‪.‬‬

‫‪ .2‬األساس الثاني‪ :‬هو مراعاة الضرورات والمصالح العملية‪ ،‬المبنية على فهم‬
‫وادراك الواقع لقربه من أروقة الحكم والسياسة‪ ،‬ومن هنا كان فكره السياسي‬
‫انعكاساً وتعبي اًر حقيقياً لحكمة النصوص الشرعية‪ ،‬ومراعاة لجانب المصلحة‬
‫بما يقوي من شوكة الدين واصالح الدنيا به‪.‬‬

‫أن واقع العالم اليوم ليؤكد بوضوح‪ ،‬أن إقامة الحياة على غير الدين (العلمانية) قد‬
‫أودى بها إلى الضياع‪ ،‬واالنهيار في جميع جوانبها‪ ،‬وعلى رأسها الجانب السياسي‪،‬‬
‫وما الحروب والصراعات الدائرة في كل بقعة من بقاع األرض اآلن إال دليل قاطع‬
‫على أن مبدأ فصل الدين عن السياسة والذي تقوم عليه غالبية الدساتير الوضعية‬
‫قد ثبت فشله بجدارة‪.‬‬

‫ربما يجهل أو يتجاهل من يعادون أو من ينادون بإبعاد المنهج اإلسالمي عن‬


‫ساحات الحكم والسياسة بحجة عدم قدرته على تحقيق ومسايرة مصالح الدولة‬
‫الحديثة‪ ،‬أن من أهم قواعده األصولية ما قرره العلماء من أنه‪" :‬أينما تكون‬
‫المصلحة فثم شرع هللا"‪ ،‬ومن هنا فإن شريعة اإلسالم قد سبقت كل الدساتير‬
‫والشرائع الوضعية في مراعاة مصالح العباد‪ ،‬ليس فقط في معاشهم بل وأيضاً في‬
‫معادهم‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫بناء على النتائج السابقة‪ ،‬فإنني أوصي الباحثين في هذا المجال‪ ،‬بضرورة توجيه‬
‫ً‬
‫اهتمامهم نحو المزيد من الدراسات المقارنة بين المنهج اإلسالمي والمناهج الوضعية‬
‫الزائفة‪ ،‬والرد على االفتراءات التي تثار عن هذا المنهج‪ ،‬السيما في جانبه السياسي‬
‫بتناول وعرض المزيد من المسائل األخرى في الفكر السياسي لدى علماء اإلسالم‬
‫المعتبرين‪ ،‬لكشف أوجه القصور والزيف في الدساتير الوضعية حول هذه المسائل التي‬
‫اغتر بظواهرها كثير من المسلمين‪.‬‬

‫قائمة المراج ـع‪:‬‬


‫أوالً‪ :‬الكتب‪.‬‬
‫أحمد بن محمد بن حنبل بن هالل بن أسد الشيباني‪ ،‬مسند اإلمام أحمد‪ ،‬تحقيق‬
‫شعيب األرناؤوط وآخرون‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪2722 ،‬ه ‪ 2002-‬م‪.‬‬
‫أشواق أحمد مهدي محمد غليس‪ ،‬فكر الشوكاني السياسي وأثره المعاصر في‬
‫اليمن التجمع اليمني لإلصالح نموذجاً‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مركز عبادي للدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬صنعاء‪2722 ،‬ه ‪2007‬م‪.‬‬
‫حسن عبد هللا العمري‪ ،‬اإلمام الشوكاني رائد عصره‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪،‬‬
‫‪ 2990‬م‪.‬‬
‫حليمة بنت محمد بوكروشة‪ ،‬معالم تجديد المنهج الفقهي أنوذج الشوكاني‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬مطبوعات و ازرة األوقاف والشؤون اإلسالمية بدولة قطر‪ ،‬رمضان ‪2723‬ه‬
‫‪2002‬م‪.‬‬
‫حمود بن أحمد الرحيلي‪ ،‬العلمانية وموقف اإلسالم منها‪ ،‬الناشر الجامعة‬
‫اإلسالمية بالمدينة المنورة‪ ،‬العدد ‪ ،222‬السنة ‪ 37‬عام ‪2722‬هـ‪.‬‬
‫زياد علي‪ ،‬الفكر السياسي والقانوني عند محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬دار النسيم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت‪2999 ،‬م‪.‬‬
‫سعد بن مطر العتيبي‪ ،‬أضواء على السياسة الشرعية‪ ,‬سلسة مقاالت علمية في‬
‫بيان الفرق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية‪ ،‬موقع المسلم االلكتروني‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫عبد الرحمن بن محمد بن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪2992‬م‪.‬‬
‫عبد الغني قاسم الشرجي‪ ,‬اإلمام الشوكاني حياته وفكره‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬بدون‬
‫سنة نشر‪.‬‬
‫عبد هللا بن محمد العجالن‪ ،‬صالحية التشريع اإلسالمي للبشر كافة‪ ،‬مجلة‬
‫البحوث اإلسالمية‪ ،‬العدد التاسع‪ ،‬إصدار ربيع األول إلى جمادى الثانية‪ ،‬سنة‬
‫‪.270‬‬
‫علي جريشه‪ ،‬االتجاهات الفكرية المعاصرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الوفاء للطباعة‬
‫بالمنصورة‪ 2707 ،‬هـ‪.‬‬
‫مجموعة من علماء اللغة العربية‪ ،‬المعجم الوسيط‪ ،‬دار الدعوة للنشر‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫محمد بن صالح العثيمين‪ ،‬التعليق على رسالة رفع األساطين في حكم االتصال‬
‫بالسالطين‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مدار الوطن للنشر‪2730 ،‬ه‪.‬‬
‫محمد بن علي بن محمد الشوكاني‪ ،‬البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‪،‬‬
‫دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫محمد ضياء الدين الريس‪ ،‬النظريات السياسية اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫السابعة‪ ،‬دار التراث‪2970 ،‬م‪.‬‬
‫محمد قطب‪ ،‬مذاهب فكرية معاصرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪2707‬ه‪2927-‬م‪.‬‬
‫الندوة العالمية للشباب اإلسالمي‪ ،‬الموسوعة الميسرة في األديان والمذاهب‬
‫المعاصرة‪ ,‬الطبعة الثانية‪ ،‬الرياض‪2709 ،‬هـ‪2929-‬م‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الدسـ ـــاتير‪.‬‬


‫الدستور األردني ‪ 2922‬م‪.‬‬
‫الدستور األمريكي ‪2729‬م‪.‬‬
‫الدستور التركي ‪ 2922‬م‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫د‪ .‬حممد بن علي الكبريي‬ ‫النظرية السياسية يف ميزان فكر الشوكاني و الدساتري الوضعية‬

‫الدستور الفرنسي ‪2922‬م‪.‬‬


‫الدستور المصري ‪2027‬م‪.‬‬
‫القانون األساسي أللمانيا االتحادية ‪2979‬م‬
‫النظام األساسي للحكم في المملكة العربية السعودية رقم أ‪ 90/‬لعام ‪2722‬ه‪.‬‬

‫‪213‬‬

You might also like