Professional Documents
Culture Documents
نبذة :يعتبر هذا الكتاب خلصة وأعصارة لكتاب التزكية الوأل إحياء علوم الدين ااإمام الغزالي ,يناقش الكتاب أعمال القلوب وأما يتعلق
جا تربوًيا ميسًرا للسائرين إلى الله عز وأجل .
بها من عادات وأعبادات وأمهلكات وأمنجيات ,كما يعتبر هذا الكتاب منه ً
الفهرس
اعلم :أن أشرفا ما في النسان قلبه ،فإنه العالم بالله ،العامل له ،الساعي إليه ،المقرب
المكاشف ،بما عنده ،وأإنما الجوارح أتباع وأخدام له يستخدمها القلب استخدام الملوك
للعبيد.وأمن عرفا قلبه عرفا ربه ،وأأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفوسهم ،وأالله يحول
بين المرء وأقلبه ،وأحيلولته أن يمنعه من معرفته وأمراقبته ،فمعرفة القلب وأصفاته أصل
الدين ،وأأساس طريق السالكين.
اعلم :أن القلب بأصل فطرته قابل للهدى ،وأبما وأضع فيه من الشهوة وأالهوى ،مائل عن
ذلك ،وأالتطارد فيه بين جندي الملئكة وأالشياطين دائم ،إلى أن ينفتح القلب لحدهما،
فيتمكن ،وأيستوطن ،وأيكون اجتياز الثانى اختلسا ً كما قال تعالى }من شر الوسواس
الخناس{ ]الناس[4: وأهو الذي إذا ذكر الله خنس ،وأإذا وأقعت الغفلة انبسط ،وأل يطرد
جند الشياطين من القلب إل ذكر الله تعالى ،فإنه ل قرار له مع الذكر.
وأاعلم :أن مثل القلب كمثل حصن ،وأالشيطان عدوأ يريد أن يدخل الحصن ،وأيملكه
وأيستولى عليه ،وأل يمكن حفظ الحصن إل بحراسة أبوابه ،وأل يقدر على حراسة أبوابه من
ل يعرفها ،وأل يتوصل إلى دفع الشيطان إل بمعرفة مداخله ،وأمداخل الشيطان وأأبوابه
صفات العبد ،وأهى كثيرة ،إل أنا نشير إلى البواب العظيمة الجارية مجرى الدروأب التي ل
تضيق عن كثرة جنود الشيطان.
فمن أبوابه العظيمة :الحسد ،وأالحرص ،فمتى كان العبد حريصا ً على شئ ،أعماه حرصه
وأأصمه ،وأغطى نور بصيرته التي يعرفا بها مداخل الشيطان .وأكذلك إذا كان حسودا ً فيجد
الشيطان حينئذ الفرصة ،فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته ،وأإن كان منكرا ً
أوأ فاحشًا.
وأمن أبوابه العظيمة :الغضب ،وأالشهوة ،وأالحدة ،فإن الغضب غول العقل ،وأإذا ضعف جند
العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالنسان .وأقد روأى أن إبليس يقول :إذا كان العبد
حديدًا ،قلبّناه كما يقلب الصبيان الكرة.
وأمن أبوابه :حب التزيين في المنزل وأالثياب وأالثاث ،فل يزال يدعو إلى عمارة الدار
وأتزيين سقوفها وأحيطانها ،وأالتزين بالثياب ،وأالثاث ،فيخسر النسان طول عمره في
ذلك.
وأمنها :الطمع في الناس ،فإن من طمع في شخص ،بالغ بالثناء عليه بما ليس فيه،
وأداهنه ،وألم يأمره بالمعروأفا ،وألم ينهه عن المنكر.
وأمن أبوابه :العجلة ،وأترك التثبت ،وأقد قال النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم" :العجلة من
الشيطان ،وأالتأني من الله تعالى"
وأمن أبوابه :حب المال ،وأمتى تمكن من القلب أفسده ،وأحمله على طلب المال من غير
وأجهه ،وأأخرجه إلى البخل ،وأخوفه الفقر ،فمنع الحقوقا اللزمة.
وأمن أبوابه :حمل العوام على التعصب في المذاهب ،دوأن العمل بمقتضاها.
وأمن أبوابه أيضًا :حمل العوام على التفكير في ذات الله تعالى ،وأصفاته ،وأفى أمور ل
تبلغها عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين.
وأمن أبوابه :سوء الظن بالمسلمين ،فإن من حكم على مسلم بسوء ظنه ،احتقره وأأطلق
فيه لسانه ،وأرأى نفسه خيرا ً منه ،وأإنما يترشح سوء الظن بخبث الظان ،لن المؤمن
يطلب المعاذير للمؤمن ،وأالمنافق يبحث عن عيوبه .وأينبغى للنسان أن يحترز عن
مواقف التهم ،لئل يساء به الظن ،فهذا طرفا من ذكر مداخل الشيطان ،وأعلج هذه
الفات سد مداخل بتطهير القلب من الصفات المذمومة ،وأسيأتي الكلم عن هذه
الصفات ،بقى للشيطان بالقلب خطرات وأاجتيازات من غير استقرار ،فيمنعه من ذلك
ذكر الله تعالى ،وأعمارة القلب بالتقوى .وأمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك ،فإن
لم يكن بين يديك لحم وأخبزه ،فإنه ينزجر بأن تقول له :اخسأ ،وأإن كان بين يديك شئ
من ذلك وأهو جائع ،لم يندفع عنك بمجرد الكلم ،فكذلك القلب الخالي عن قوت الشيطان
ينزجر عنه بمجرد الذكر .فأما القلب الذي غلب عليه الهوى ،فإنه يرفع الذكر إلى
حواشيه ،فل يتمكن الذكر من سويدائه ،فيستقر الشيطان في السويداء .وأإذا أردت
مصداقا ذلك ،فتأمل هذا في صلتك ،وأانظر إلى الشيطان كيف يحدث قلبك في مثل هذا
الموطن ،بذكر السوقا ،وأحساب المعاملين ،وأتدبير أمر الدنيا.
وأاعلم :أنه قد عفي عن حديث النفس ،وأيدخل في ذلك ما هممت به ،وأمن ترك ذلك
خوف ا ً من الله تعالى كتبت له حسنة وأإن تركه لعائق ،رجونا له المسامحة ،إل أن يكون
عزم ًا ،فإن العزم على الخطيئة خطيئة ،بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم" :إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل وأالمقتول في النار ،قيل :ما بال المقتول؟
قال :إنه كان حريصا ً على قتل صاحبه”.
وأكيف ل تقع المؤاخذة بالعزم ،وأالعمال بالنية ،وأهل الكبر وأالرياء وأالعجب إل أمور
باطنة؟ وألو أن إنسانا ً رأى على فراشه أجنبية ظنها زوأجته لم يأثم بوطئها ،وألو رأى زوأجته
وأظنها أجنبية أثم بوطئها ،وأكل هذا متعلق بعقد القلب.
وأقد وأرد في الحديث أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم كان يقول" :يا مقلب القلوب
ثبت قلوبنا على دينك ،يا مصرفا القلوب اصرفا قلبنا إلى طاعتك” وأفى حديث آخر:
"مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلة تقلبها الرياح"
وأاعلم :أن القلوب في الثبات على الخير وأالشر وأالتردد بينهما ثلثة:
القلب الثانى :قلب مخذوأل ،مشحون بالهوى ،مندس بالخبائث ،ملوث بالخلقا
الذميمة ،فيقوى فيه سلطان الشيطان لتساع مكانه ،وأيضعف سلطان اليمان ،وأيمتلئ
القلب بدخان الهوى ،فيعدم النور ،وأيصير كالعين الممتلئة بالدخان ،ل يمكنها النظر ،وأل
يؤثر عنده زجر وأل وأعظ.
وأالقلب الثالث :قلب يبتدئ فيه خاطر الهوى ،فيدعوه إلى الشر ،فيلحقه خاطر
اليمان فيدعوه إلى الخير.مثاله ،أن يحمل الشيطان حملة على العقل ،وأيقوى داعي
الهوى وأيقول :أما ترى فلنا ً وأفلنا ً كيف يطلقون أنفسهم في هواها ،حتى يعد جماعة من
العلماء ،فتميل النفس إلى الشيطان ،فيحمل الملك حملة على الشيطان ،وأيقول :هل
هلك إل من نسى العاقبة ،فل تغتر بغفلة الناس عن أنفسهم ،أرأيت لو وأقفوا في الصيف
في الشمس وألك بيت بارد ،أكنت توافقهم أم تطلب المصلحة؟ أفتخالفهم في حر
الشمس ،وأل تخالفهم فيما يؤوأل إلى النار؟ فتميل النفس إلى قول الملك ،وأيقع التردد
بين الجندين ،إلى أن يغلب على القلب ما هو أوألى به ،فمن خلق للخير يسر له ،وأمن
خلق للشر يسر له} :فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للسلم وأمن يرد أن يضله
يجعل صدره ضيقا ً حرجا ً كأنما يصعد في السماء{ ]النعام[125 : اللهم وأفقنا لما تحبه
وأترضاه.
وأذلك في فصول:
أعلم :أن الخلق الحسن صفة من صفات النبياء وأالصديقين ،وأأن الخلقا السيئة سموم
قاتلة ،تنخرط بصاحبها في سلك الشيطان ،وأأمراض تفوت جاه البد ،فينبغي أن تعرفا
العلل ثم التشمير في معالجتها ،وأنحن نشير إلى جمل من المراض ،وأكيفية معالجتها في
الجملة من غير تفصيل ،فإن ذلك يأتى مبينا ً إن شاء الله تعالى.
الفصل الوأل
وأاعلم :أن الناس قد تكلموا في حسن الخلق متعرضين لثمرته ل لحقيقته ،وألم يستوعبوا
جميع ثمراته ،بل ذكر كل منهم ما حضر في ذهنه ،وأكشف الحقيقة في ذلك أن يقال:
خلق .أي حسن كثيرا ً ما يستعمل حسن الخلق مع الخلق فيقال :فلن حسن بال َ
خلق وأال ُ
خلق :الصورة الباطنة، خلق :الصورة الظاهرة ،وأالمراد بال ُ
الظاهر وأالباطن ،فالمراد بال َ
وأذلك أن النسان مركب من جسد وأنفس.فالجسد مدرك بالبصر ،وأالنفس مدركة
بالبصيرة ،وألكل وأاحدة منها هيئة وأصورة إما جميلة وأإما قبيحة ،وأالنفس المدركة بالبصيرة
أعظم قدرا ً من الجسد المدرك بالبصر ،وألذلك عظم الله سبحانه وأتعالى أمره فقال:
}إني خالق بشرا ً من طين* فإذا سويته وأنفخت فيه من روأحي{ ]ص[71-72 : ،فنبه على أن
الجسد منسوب إلى الطين ،وأالروأح منسوب إليه سبحانه وأتعالى ،فالخلق عبارة عن هيئة
للنفس راسخة تصدر عنها الفعال بسهولة وأيسر من غير حاجة إلى فكر وأروأية ،فإن
كانت الفعال جميلة سميت خلقا ً حسنًا ،وأإن كانت قبيحة سميت خلقا ً سيئًا.وأقد زعم
بعض من غلبت عليه البطالة فاستثقل الرياضة ،أن الخلقا ل يتصور تغييرها ،كما ل
يتصور تغيير صورة الظاهر.
وأالجواب :أنه لو كانت الخلقا ل تقبل التغيير لم يكن للمواعظ وأالوصايا معنى ،وأكيف
تنكر تغيير الخلقا وأنحن نرى الصيد الوحشي يستأنس ،وأالكلب يعلم ترك الكل ،وأالفرس
تعلم حسن المشي وأجودة النقياد ،إل أن بعض الطباع سريعة القبول للصلح ،وأبعضها
مستصعبة.وأأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة ل يتغير ،فاعلم أنه ليس المقصود قمع
هذه الصفات بالكلية ،وأإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى العتدال الذي هو
وأسط بين الفراط وأالتفريط ،وأأما قمعها بالكلية فل ،كيف وأالشهوة إنما خلقت لفائدة
ضروأرية في الجبلة ،وألو انقطعت شهوة الطعام لهلك النسان ،أوأ شهوة الوقاع لنقطع
النسل ،وألو انعدم الغضب بالكلية ،لم يدفع النسان عن نفسه ما يهلكه ،وأقد قال الله
تعالى } :أشداء على الكفار{ ]الفتح[29 : وأل تصدر الشدة إل عن الغضب ،وألو بطل
الغضب لمتنع جهاد الكفار ،وأقال تعالى }:وأالكاظمين الغيظ{ ]آل عمران[134 : وألم يقل :
الفاقدين الغيظ .وأكذلك المطلوب في شهوة الطعام العتدال دوأن الشره وأالتقلل :قال
الله تعالى} :وأكلوا وأاشربوا وأل تسرفوا{ ] العرافا[31 : إل أن الشيخ المرشد للمريد إذا
رأى له ميل ً إلى الغضب أوأ الشهوة ،حسن أن يبالغ في ذمها على الطلقا ليرده إلى
التوسط ،وأمما يدل على أن المراد من الرياضة العتدال أن السخاء خلق مطلوب شرعا ً
وأهو وأسط بين طرفي التقتير وأالتبذير وأقد أثنى الله عليه بقوله }:وأالذين إذا أنفقوا لم
يسرفوا وألم يقتروأا وأكان بين ذلك قواما{ ]الفرقان[67 :.
وأاعلم :أن هذا العتدال .تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخلق ،فكم من صبى
يخلق صادقا ً سخيا ً حليمًا ،وأتارة يحصل بالكتساب ،وأذلك بالرياضة ،وأهى حمل النفس
على العمال الجالبة للخلق المطلوب ،فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجود
من البذل ليصير ذلك طبعا ً له.وأكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين ،وأكذلك
جميع الخلقا المحمودة فإن للعادة أثرا ً في ذلك ،كما أن من أراد أن يكون كاتبا ً تعاطى
فعل الكتابة ،أوأ فقيها ً تعاطى فعل الفقهاء من التكرار ،حتى ينعطف على قلبه صفة
الفقه ،إل أنه ل ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أوأ ثلثة ،وأإنما يؤثر مع الدوأام ،كما ل
يطلب في النمو علو القامة في يومين أوأ ثلثة ،وأللدوأام تأثير عظيم .وأكما ل ينبغي أن
يستهان بقليل الطاعات ،فإن دوأامها يؤثر ،وأكذلك ل يستهان بقليل من الذنوب.كما أن
تعاطى أسباب الفضائل يؤثر في النفس وأيغير طبعها ،فكذلك مساكنة الكسل أيضا ً يصير
عادة ،فيحرم بسببه كل خير .وأقد تكتسب الخلقا الحسنة بمصاحبة أهل الخير ،فإن
الطبع لص يسرقا الخير وأالشر.قلت :وأيؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :المرء
على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
في علمات مرض القلب وأعوده إلى الصحة.وأبيان الطريق إلى 3ـ الفصل الثالث :
معرفة النسان عيوب نفسه.
اعلم :أن كل عضو خلق لفعل خاص ،فعلمة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل ،أوأ يصدر
منه مع نوع من الضطراب ،فمرض اليد تعذر البطش ،وأمرض العين تعذر البصار،
وأمرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لجله ،وأهو العلم وأالحكمة
وأالمعرفة ،وأحب الله تعالى وأعبادته ،وأإيثار ذلك على كل شهوة .فلو أن النسان عرفا كل
شئ وألم يعرفا الله سبحانه ،كان كأنه لم يعرفا شيئًا .وأعلمة المعرفة :الحب ،فمن
عرفا الله أحبه ،وأعلمة المحبة أن ل يؤثر عليه شيئا ً من المحبوبات ،فمن آثر عليه شيئا ً
من المحبوبات فقلبه مريض ،كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز -وأقد
سقطت عنها شهوة الخبز -مريضة.
وأمرض القلب خفي قد ل يعرفه صاحبه ،فلذلك يغفل عنه ،وأإن عرفه صعب عليه الصبر
على مرارة دوأائه ،لن دوأاءه مخالف الهوى ،وأإن وأجد الصبر لم يجد طبيبا ً حاذقا ً يعالجه،
فإن الطباء هم العلماء وأالمرض قد استولى عليهم وأالطبيب المريض قلما يلتفت إلى
علجه ،فلهذا صار الداء عضالً ،وأاندرس هذا العلم ،وأأنكر طب القلوب وأمرضها بالكلية
وأأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات وأباطنها عادات فهذه علمة أصل المرض.وأأما
عافيته وأعوده إلى الصحة بعد المعالجة ،فهو أن ينظر إلى العلة ،فإن كان يعالج داء
البخل ،فعلجه بذل المال ،وألكنه ل يسرفا ،وأيصير إلى حد التبذير فيحصل داء آخر فيكون
كمن يعالج البروأدة بالحرارة الغالبة حتى تغلب الحرارة ،فيكون داًء أيضًا ،بل المطلوب
العتدال .وأإذا أرادت أن تعرفا الوسط ،فانظر إلى نفسك ،فإن كان إمساك المال وأجمعه
ألذ عندك ،وأأيسر عليك من بذله لمستحقه ،فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل ،فعالج
نفسك على البذل ،وأإن صار البذل للمستحق ألذ عندك ،وأأخف عليك من المساك فقد
غلب عليك التبذير ،فارجع إلى المواظبة على المساك ،وأل تزال تراقب نفسك ،وأتستدل
على خلقك بتيسير الفعال وأتعسيرها ،حتى تنقطع علقة قلبك عن المال فل تميل إلى
بذله وأل إمساكه ،بل يصير عندك كالماء ،فل تطلب فيه إمساكه لحاجة محتاج ،أوأ بذله
لحاجة محتاج ،فكل قلب صار كذلك ،فقد جاء الله سليما ً في هذا المقام .وأيجب أن يكون
سليما ً على سائر الخلقا حتى ل تكون له علقة بشيء من الدنيا ،حتى ترتحل النفس عن
الدنيا منقطعة العلئق منها ،غير ملتفته إليها ،وأل متشوقة إلى أسبابها ،فحينئذ ترجع إلى
ربها رجوع النفس المطمئنةوألما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض،
بل هو أدقا من الشعر وأأحد من السيف فل جرم من استوى على هذا الصراط في الدنيا،
جاز على مثل هذا الصراط في الخرة ،وألجل عسر الستقامة أمر العبد أن يقول في كل
يوم مرات }اهدنا الصراط المستقيم{ ]الفاتحة [6: ،وأمن لم يقدر على الستقامة ،فليجتهد
على القرب من الستقامة فان النجاة بالعمل الصالح .وأل تصدر العمال الصالحة إل عن
الخلقا الحسنة ،فليتفقد كل عبد صفاته وأأخلقه ،وأليشتغل بعلج وأاحد بعد وأاحد ،وأليصبر
ذوأ العزم على مضض هذا المر ،فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له ،فلو
رد إلى الثدي لكرهه ،وأمن عرفا قصر العمر بالنسبة إلى مدة حياة الخرة حمل مشقة
سَرى.
سفر أيام لتنعم البد ،فعند الصباح يحمد القوم ال ّ
وأاعلم :أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا ً بصره بعيوب نفسه ،فمن كانت له بصيرة ،لم
تخف عليه عيوبه ،وأإذا عرفا العيوب أمكنه العلج ،وألكن اكثر الناس جاهلون بعيوبهم،
يرى أحدهم القذى في عين أخيه وأل يرى الجذع في عينه.فمن أراد الوقوفا على عيب
نفسه فله في ذلك أربع طرقا:الطريقة الوألى :أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب
النفس ،يعرفا عيوب نفسه وأطرقا علجها ،وأهذا قد عز في هذا الزمان وأجوده ،فمن وأقع
به ،فقد وأقع بالطبيب الحاذقا فل ينبغي أن يفارقه .الطريقة الثانية :أن يطلب صديقا ً
صدوأقا ً بصيرا ً متدينًا ،وأينصبه رقيبا ً على نفسه لينبهه على المكروأه من أخلقه وأأفعاله.
وأقدكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول :رحم الله امرءا ً أهدى إلينا
عيوبنا.وأسأل سلمان رضى الله عنه لما قدم عليه من عيوبه ،فقال :سمعت أنك جمعت
بين إدامين على مائدة ،وأان لك حلتين :حلة بالليل ،وأحلة بالنهار ،فقال :هل بلغك غير
هذا؟ قال :ل ،قال :أما هذا فقد كفيتهما.وأكان عمر رضى الله عنه يسأل حذيفة :هل أنا
من المنافقين؟ وأهذا لن كل من علت مرتبته في اليقظة زاد اتهامه لنفسه ،إل أنه عز
في هذا الزمان وأجود صديق على هذه الصفة ،لنه قل في الصدقاء من يترك المداهنة،
فيخبر
بالعيب أوأ يترك الحسد ،فل يزيد على قدر الواجب .وأقد كان السلف يحبون من ينبههم
على عيوبهم ،وأنحن الن في الغالب أبغض الناس إلينا من يعرفنا عيوبنا .وأهذا دليل على
ضعف اليمان ،فإن الخلقا السيئة كالعقارب ،لو أن منبها ً نبهنا على أن تحت ثوب أحدنا
عقربا ً لتقلدنا له منة ،وأاشتغلنا بقتلها ،وأالخلقا الرديئة أعظم ضررا ً من العقرب على ما ل
يخفى.
الطريقة الثالثة :أن يستفيد معرفة نفسه من ألسنة أعدائه ،فإن عين السخط تبدى
المساوأئ ،وأانتفاع النسان بعدوأ مشاجر يذكر عيوبه ،أكثر من انتفاعه بصديق مداهن
يخفى عنه عيوبه.
الطريقة الرابعة :أن يخالط الناس ،فكل ما يراه مذموما ً فيما بينهم ،يجتنبه.
وأقد ذكرنا أن شهوات النفوس لم توضع إل لفائدة ،إذ لول شهوة المطعم ما حصل تناوأل
الغذاء ،وألول شهوة الجماع لنقطع النسل ،وأإنما المذموم فضول الشهوات وأطغيانها،
وأثمة قوم لم يفهموا هذا القدر ،فأخذوأا يتركون كل ما تشتهيه النفس ،وأهذا ظلم لها
بإسقاط حقها ،فإن لها حقا ً بدليل قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :إن لنفسك عليك
حقا ً” حتى إن قائل ً منهم يقول :لى كذا وأكذا سنة اشتهي كذا فل أتناوأله ،وأهذا انحرافا
ل وأخلفا سنة رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ،فإنه كان يتناوأل المشتهى عن الح ّ
من الحلو وأالعسل وأغيرهما ،فل يلتفت إلى زاهد قل علمه ،فحرم نفسه حظها من
المشتهى على الطلقا ،فإنه إلى الظلم أقرب منه إلى العدل ،وأإنما يترك المشتهى إذا
صعبت الطريق إليه ،مثل أن ل يحصل إل بوجه مكروأه ،أوأ يخافا من تناوأله انحلل عزمه،
فتطمع النفس في استدامته ،أوأ يحذر من ذلك زيادة شبع ،فيثقله عن عبادته ،فأما تناوأله
في بعض الوأقات لتقوية النفس ،فذلك كالطب للمريض ،يمدح وأل يذم ،وأل بأس بالرفق
بالنفس لتقوى على السلوك.
ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش وأالمعاصي،ثم ظن أنه قد هذب
خلقه،وأاستغنى عن المجاهدة ،وأليس كذلك ،فإن حسن الخلق هو مجموع صفات
المؤمنين ،وأقد وأصفهم الله تعالى فقال } :إنما المؤمنين الذين ذكر الله وأجلت قلوبهم وأإذا
تليت عليهم آياته زادتهم إيمان ا ً وأعلى ربهم يتوكلون* الذين يقيمون الصلة وأمما رزقناهم ينفقون*
أوألئك هم المؤمنون حقًا{ ] النفال[2-3-4 : وأقال } :التائبون العابدوأن الحامدوأن السائحون
الراكعون الساجدوأن المروأن بالمعروأفا وأالناهون عن المنكر وأالحافظون لحدوأد الله وأبشر
المؤمنين{ ]سورة التوبة[112 : وأقال تعالى } :قد أفلح المؤمنون{ إلى قوله } أوألئك هم
الوارثون{ ] المؤمنون :آية [10-1 ،وأقال } :وأعباد الرحمن الذين يمشون على الرض هونا ً{
] الفرقان[63 : إلى آخر السورة ،فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه اليات،
فوجود جميع هذه الصفات علمة حسن الخلق ،وأفقد جميعها علمة سوء الخلق وأوأجود
بعضها دوأن البعض يدل على البعض دوأن البعض فليشتغل بحفظ ما وأجده وأتحصيل ما
فقده .وأقد وأصف رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال " :وأالذي نفسي بيده ل
يؤمن عبدا ً حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه" .وأفيهما أيضا من حديث أبى هريرة رضى
الله عنه ،عنه صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال " :من كان يؤمن بالله وأاليوم الخر
فليكرم ضيفه ،وأمن كان يؤمن بالله وأاليوم الخر فل يؤذى جاره ،وأمن كان يؤمن بالله
وأاليوم الخر فليقل خيرا ً أوأ ليصمت" وأفى حديث آخر " :أكمل المؤمنين إيمانا ً أحسنهم
أخلقًا" .وأمن حسن الخلق :احتمال الذى ،ففى الصحيحين أن أعرابيا ً جذب رداء النبى
صلى الله عليه وأآله وأسلم حتى أثرت حاشيته في عاتقه صلى الله عليه وأآله وأسلم ،ثم
قال :يا محمد ،مر لى من مال الله الذي عندك ،فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه
وأآله وأسلم ،ثم ضحك ،ثم أمر له بعطاء.وأكان إذا آذاه قومه قال" :اللهم اغفر لقومي
فإنهم ل يعلمون" وأكان أوأيس القرني إذا رماه الصبيان بالحجارة يقول :يا إخوتاه ،إن كان
وألبد ...فارموني بالصغار لئل تدموا ساقي فتمعنوني من الصلة .وأخرج إبراهيم بن أدهم
إلى بعض البرارى ،فاستقبله جندي فقال :أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة ،فضرب
رأسه فشجه ،فلما أخبر أنه إبراهيم ،جعل يقبل يده وأرجله ،فقال :إنه لما ضرب رأسي
سألت الله له الجنة ،لني علمت أنى أوأجر بضربه إياي فلم أحب أن يكون نصيبي منه
الخير ،وأنصيبه منى الشر ،وأأجتاز بعضهم في سكة ،فطرح عليه رماد من السطح ،فجعل
أصحابه يتكلمون .فقال :من استحق النار فصولح على الرماد ،ينبغي له أن ل يغضب.
فهذه نفوس ذللت بالرياضة ،فاعتدلت أخلقهم ،وأنقيت عن الغش بواطنها ،فأثمرت
الرضى بالقضاء ،وأمن لم يجد من نفسه بعض هذه العلمات التي وأجدها هؤلء ،فينبغي أن
يداوأم الرياضة ليصل ،فإنه بعد ما وأصل.
اعلم :أن الصبي أمانة عند وأالديه ،وأقلبه جوهرة ساذجة ،وأهى قابلة لكل نقش ،فإن عود
الخير نشأ عليه وأشاركه أبواه وأمؤدبه في ثوابه،وأإن عود الشر نشأ عليه ،وأكان الوزر في
عنق وأليه ،فينبغي أن يصونه وأيؤدبه وأيهذبه ،وأيعلمه محاسن الخلقا ،وأيحفظه من قرناء
السوء ،وأل يعوده التنعم ،وأل يحبب إليه أسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر.
بل ينبغي أن يراقبه من أوأل عمره ،فل يستعمل في رضاعة وأحضانته إل امرأة صالحة
متدينة تأكل الحلل ،فإن اللبن الحاصل من الحرام ل بركة فيه ،فإذا بدت فيه مخايل
التمييز وأأوألها الحياء ،وأذلك علمة النجابة وأهى مبشرة بكمال العقل عند البلوغ ،فهذا
يستعان على تأديبه بحيائه .وأأوأل ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام ،فينبغي أن يعلم
آداب الكل ،وأيعوده أكل الخبز وأحده في بعض الوأقات لئل يألف الدام فيراه كالحتم،
وأيقبح عنده كثرة الكل ،بأن يشبه الكثير الكل بالبهائم ،وأيحبب إليه الثياب البيض دوأن
الملونة وأالبريسم وأيقرر عنده أن ذلك من شأن النساء وأالمخنثين ،وأيمنعه من مخالطة
الصبيان الذين عودوأا التنعم ،ثم يشغله في المكتب بتعليم القرآن وأالحديث وأأحاديث
الخبار ،ليغرس في قلبه حب الصالحين ،وأل يحفظ من الشعار التي فيها ذكر العشق.
وأمتى ظهر من الصبي خلق جميل وأفعل محمول ،فينبغي أن يكرم عليه ،وأيجازى بما
يفرح به ،وأيمدح بين أظهر الناس ،فإن خالف ذلك في بعض الحوال تغوفل عنه وأل
يكاشف ،فإن عاد عوتب سر ا ً وأخوفا من اطلع الناس عليه ،وأل يكثر عليه العتاب ،لن
ذلك يهون عليه سماع الملمة ،وأليكن حافظا ً هيبة الكلم معه .وأينبغى للم أن تخوفه
بالب ،وأينبغى أن يمنع النوم نهارًا ،فإنه يورث الكسل ،وأل يمنع النوم ليل ً وألكنه يمنع
الفرش الوطيئة لتتصلب أعضاؤه.
وأيتعود الخشونة في المفرش وأالملبس وأالمطعم.وأيعود المشي وأالحركة وأالرياضة لئل
يغلب عليه الكسل.وأيمنع أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه أبواه ،أوأ بمطعمه أوأ
ملبسه .وأيعود التواضع وأالكرام لمن يعاشره.وأيمنع أن يأخذ شيئا من صبى مثله ،وأيعلم
أن الخذ دناءة ،وأأن الرفعة في العطاء.وأيقبح عنده حب الذهب وأالفضة.وأيعود أن ل
يبصق في مجلسه وأل يتمخط ،وأل يتثاءب بحضرة غيره،وأل يضع رجل على رجل ،وأيمنع
من كثرة الكلم .وأيعود أن ل يتكلم إل جوابًا ،وأأن يحسن الستماع إذا تكلم غيره ممن هو
أكبر منه ،وأأن يقوم لمن هو فوقه وأيجلس بين يديه.
وأيمنع من فحش الكلم ،وأمن مخالطة من يفعل ذلك ،فإن أصل حفظ الصبيان حفظهم
من قرناء السوء.وأيحسن أن يفسح له بعد خروأجه من المكتب في لعب جميل ،ليستريح
به من تعب التأديب ،كما قيل :روأح القلوب تع الذكر .وأينبغى أن يعلم طاعة وأالديه
وأمعلمه وأتعظيمهم.وأإذا بلغ سبع سنين أمر بالصلة ،وألم يسامح في ترك الطهارة ليتعود،
وأيخوفا من الكذب وأالخيانة ،وأإذا قارب البلوغ ،ألقيت إليه المور.
وأأعلم :أن الطعمة أدوأية ،وأالمقصود منها تقوية البدن على طاعة الله تعالى ،وأأن الدنيا ل
بقاء لها ،وأأن الموت يقطع نعيمها ،وأهو منتظر في كل ساعة ،وأأن العاقل من تزوأد
لخرته ،فإن كان نشوؤه صالحا ً ثبت هذا في قلبه ،كما يثبت النقش في الحجر .قال سهل
بن عبد الله :كنت ابن ثلث سنين ،وأأنا أقوم بالليل أنظر إلى صلة خالي محمد بن سوار،
فقال لى خالي يومًا :أل تذكر الله الذي خلقك؟ قلت :كيف أذكره؟ قال :قل بقلبك ثلث
مرات من غير أن تحرك لسانك :الله معي ،الله ناظر إلى ،الله شاهدى ،فقلت ذلك
ليالي ،ثم أعلمته ،فقال :قلها في كل ليلة إحدى عشر مرة.
فقلت ذلك ،فوقع في قلبي حلوأته ،فلما كان بعد سنة ،قال لى خالي :احفظ ما علمتك،
وأدم عليه إلى أن تدخل القبر ،فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلوأة في سري ثم
قال لي خالي :يا سهل من كان الله معه ،وأهو ناظر إليه ،وأشاهد عليه ،هل يعصيه؟ إياك
وأالمعصية وأمضيت إلى المكتب ،وأحفظت القرآن ،وأأنا ابن ست سنين أوأ سبع ،ثم كنت
أصوم الدهر ،وأقوتي من خبز الشعير ،ثم بعد لك كنت أقوم الليل كله.
وأاعلم :أن من شاهد الخرة بقلبه مشاهدة يقين ،أصبح بالضروأرة مريدا ً لها ،زاهدا ً في
الدنيا ،فإن من كان معه خرزة ،فرأى جوهرة نفيسة ،لم يبق له رغبة في الخرزة ،فإذا
قيل له :بعها بالجوهرة ،أسرع في ذلك.
وأاعلم :أن من رزقه الله تعالى النتباه لذلك ،فإن عليه لسلوك الرياضة شرطا ً لبد من
تقديمه ،وأمعتصما ً لبد من التمسك به ،وأحصنا ً لبد من التحصن به.فأما الشرط ،فهو رفع
الحجاب بترك الذنوب.وأأما المعتصم ،فشيخ يدله على الطريق لئل تختطفه الشياطين في
السبل .وأأما الحصن ،فالخلوة ،وأعليه من الوظائف مخالفه الهوى ،وأكثرة الذكر وأالقتصاد
في الوأراد.وأمنتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله أبدًا ،وأل يمكن ذلك إل بأن يخلو عن
غيره ،وأل يخلو إل بطول المجاهد ،فهذا منهاج رياضة المريد وأترتيبه في التدريج ،فأما
تفصيل الرياضة في كل صفحه ،فسيأتي إن شاء الله تعالى .
شهوة البطن من أعظم المهلكات ،وأبها ُأخرج آدم عليه السلم من الجنة ،وأمن شهوة
البطن تحدث شهوة الفرج وأالرغبة في المال ،وأيتبع ذلك آفات كثيرة ،كلها من بطر
ي وأاحد،
الشبع.وأفى حديث النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال " :المؤمن يأكل في مع ً
وأالكافر يأكل في سبعة أمعاء".وأفى حديث أخر ":ما مل ابن آدم وأعاًء شرا ً من بطنه،
حسب ابن أدم أكلت يقمن صلبه ،فإن كان ل محالة ،فثلث لطعامه ،وأثلث لشربه ،وأثلث
لنفسه".
وأقال عقبة الراسبي :دخلت على الحسن وأهو يتغذى ،فقال :هلم ،فقلت :أكلت حتى ل
أستطيع ،فقال :سبحان الله أوأ يأكل المسلم حتى ل يستطيع أن يأكل؟ .وأقد بالغ جماعة
من الزهاد في التقلل من الكل وأالصبر على الجوع ،وأقد بينا عيب ما سلكوا في غير هذا
الكتاب ،وأمقام العدل في الكل رفع اليدين مع بقاء شىء من الشهوة ،وأنهاية المقام
الحسن قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم“ :ثلث لطعامه ،وأثلث لشرابه ،وأثلث لنفسه".
فالكل في مقام العدل يصح البدن وأينفى المرضى ،وأذلك أن يتناوأل الطعام حتى يشتهيه،
ثم يرفع يده وأهو يشتهيه ،وأالدوأام على التقلل من الطعام يضعف القوى ،وأقد قلل أقوام
مطاعمهم حتى قصروأا عن الفرائض ،وأظنوا بجهلهم أن ذلك فضيلة ،وأليس كذلك ،وأمن
مدح الجوع ،فإنما أشار إلى الحالة المتوسطة التي ذكرناها.وأطريق الرياضة في كسر
شهوة البطن أن من تعود استدامة الشبع ،فينبغي له أن يقلل من مطعمه يسيرا ً مع
الزمان ،إلى أن يقف على حد التوسط الذي أشرنا إليه ،وأخير المور أوأساطها ،فالوألى
تناوأل مال يمنع من العبادات ،وأيكون سببا ً لبقاء القوة ،فل يحس المتناوأل بجوع وأل شبع،
فحينئذ يصح البدن ،وأتجتمع الهمة ،وأيصفو الفكر ،وأمتى زاد في الكل أوأرثه كثرة النوم،
وأبلدة الذهن ،وأذلك بتكثير البخار في الدماغ حتى يغطى مكان الفكر ،وأموضع الذكر،
وأيجلب أمراضا ً أخر .وأليحذر من ترك شيئا ً من الشهوات أن تتطرقا إليه آفة الرياء ،وأقد
كان بعضهم يشترى الشهوة وأيعلقها في بيته وأهو زاهد فيها ،يستر بها زهده ،وأهذا هو
نهاية الزهد ،الزهد في الزهد بإظهار ضده ،وأهو عمل الصديقين ،لنه يجرع نفسه كأس
شهوة الفرج ،فاعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الصبر مرتين ،وأالثانية أمر .وأأما
الدمي لفائدتين:إحداهما :بقاء النسل ،وأالثانية ليدرج لذة يقيس عليها لذات الخرة ،فإن
ما لم يدرك جنسه بالذوأقا ،ل يعظم إليه الشوقا ،إل أنه إذ لم ترد هذه الشهوة إلى
العتدال ،جلبت آفات كثيرة ،وأمحنًا ،وألول ذلك ما كان النساء حبائل الشيطان.وأفى
الحديث أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال " :ما تركت في الناس بعدى فتنة أضر
على الرجال من النساء".وأقال بعض الصالحين :لو ائتمنني رجل على بيت مال ،لظننت
أن أوأدى إليه المانة ،وألو ائتمنني على زنجية أخلو بها ساعة وأاحدة ،ما ائتمنت نفسي
عليها.وأعن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال " :ل يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما
الشيطان".وأقد ينتهي الفراط في هذه الشهوة ،حتى تصرفا همة الرجل إلى كثرة التمتع
بالنساء فيشغله عن ذكر الخرة ،وأربما آل إلى الفواحش ،وأقد تنتهي بصاحبها إلى العشق،
وأهو أقبح الشهوات ،وأأجدرها أن تستحيي منه ،وأقد يقع عند كثير من الناس عشق المال،
وأالجاه ،وأاللعب بالنرد ،وأالشطرنج ،وأالطنبور ،وأنحو ذلك ،فتستولي هذه الشياء على
القلوب فل يصبروأن عنها .وأيسهل الحتراز عن ذلك في بدايات المور ،فإن آخرها يفتقر
إلى علج شديد ،وأقد ل ينجح ،وأمثاله من يصرفا عنان الدابة عند توجهها إلى باب تريد
دخوله ،فما أهون منعها يصرفا عنانها ،وأمثال من يعالجه بعد استحكامه ،مثال من يتركها
حتى تدخل الباب وأتجاوأزه ،ثم يأخذ بذنبها يجرها إلى وأراء ،وأما أعظم التفاوأت بين
المرين
آفاته كثيرة وأمتنوعة ،وألها في القلب حلوأة ،وألها بواعث من الطبع ،وأل نجاة من خطرها
إل بالصمت ،فلنذكر أوأل ً فضيلة الصمت ،ثم نتبعه الفات مفصلة إن شاء الله تعالى.اعلم:
أن الصمت يجمع الهمة وأيفرغ الفكر.وأفى الحديث ،أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم
قال" :من يضمن لى ما بين لحييه ،وأما بين رجليه أضمن له الجنة".وأفى حديث آخر" :ل
يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ،وأل يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه")) أخرجه ابن
أبى الدنيا في الصمت" من حديث أنس ،وأفى سنده على بن مسعدة ،قال البخاري :فيه
نظر ،وأقال ابن عدى :أحاديثه غير محفوظة(.(
وأفى حديث معاذ في آخره) :كف عليك هذا( فقلت :يا رسول الله ،وأإنا لمؤاخذوأن بما
نتكلم به؟ قال) :ثكلتك أمك يا معاذ ،وأهل يكب الناس في النار على وأجوههم ،أوأ قال:
على مناخرهم ،أل حصائد ألسنتهم؟(.وأفى حديث آخر " :من كف لسانه ستر الله
عورته) وأقال ابن مسعود :ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني.وأقال أبو الدرداء:
أنصف أذنيك من فيك ،فإنما جعلت لك أذنان وأفم وأاحد لتسمع أكثر مما تتكلم به.وأقال
مخلد بن الحسين :ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة أريد أن أعتذر منها.
وأاعلم :أن من عرفا قدر زمانه ،وأأنه رأس ماله ،لم ينفقه إل في فائدة ،وأهذه المعرفة
توجب حبس اللسان عن الكلم فيما ل يعنى ،لنه من ترك الله تعالى وأاشتغل فيما ل
يعنى ،كان كمن قدر على أخذ جوهرة ،فأخذ عوضها مدرة ،وأهذا خسران العمر .وأفى
الحديث الصحيح ،أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال " :من حسن إسلم المرء تركه
مال يعينه".وأقيل للقمان الحكيم :ما بلغ من حكمتك؟ قال :ل أسأل عما كفيته ،وأل أتكلم
بما ل يعنيني .وأقد روأى أنه دخل على دوأاء عليه السلم وأهو يسرد درعًا ،فجعل يتعجب
مما رأى ،فأراد أن يسأله عن ذلك ،فمنعته حكمته فأمسك ،فلما فرغ داوأد عليه السلم،
قام وألبس الدرع ثم قال :نعم الدرع للحرب .فقال لقمان :الصمت حكم وأقليل فاعله.
الفة الثانية :الخوض في الباطل ،وأهو الكلم في المعاصي ،كذكر مجالس الخمر،
وأمقامات الفساقا.وأأنواع الباطل كثيرة .وأعن أبى هريرة ،عن النبى صلى الله عليه وأآله
وأسلم قال" :إن العبد ليتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد مما بين المشرقا وأالمغرب،
.وأقريب من ذلك الجدال وأالمراء وأهو كثرة الملحاة)(1 للشخص لبيان غلطة
وأإفحامه،وأالباعث على ذلك الترفع.
فينبغي للنسان أن ينكر المنكر من القول ،وأيبين الصواب ،فإن قبل منه وأإل ترك
المماراة ،هذا إذا كان المر معلقا ً بالدين ،فأما إذا كان في أمور الدنيا ،فل وأجه للمجادلة
فيه ،وأعلج هذه الفة بكسر الكبر الباعث على إظهار الفضل ،وأأعظم من المراء
الخصومة ،فإنها أمر زائد على المراء.وأعن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال:
"أبغض الرجال إلى الله اللد الخصم" .وأهذه الخصومة نعنى بها الخصومة بالباطل أوأ بغير
علم ،فأما من له حق فالوألى أن يصدفا)(2 عن الخصومة ،مهما أمكن لنها ،توغر الصدر،
وأتهيج الغضب الغضب،وأتورث الحقد ،وأتخرج إلى تناوأل العرض.
الفة الثالثة :التقعر في الكلم ،وأذلك يكون بالتشدقا)(3 وأتكلف السجع .وأعن أبى
ثعلبة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم :إن أبغضكم إلى وأأبعدكم منى يوم
القيامة مساوأيكم أخلقا ً الثرثاروأن)(4 المتشدقون المتفيهقون"(5). وأل يدخل في كراهة
السجع وأالتصنع ألفاظ الخطيب ،وأالتذكير من غير إفراط ،وأل إغراب ،لن المقصود من
ذلك تحريك القلوب ،وأتشويقها ،وأرشاقة اللفظ وأنحو ذلك.
الفة الرابعة :الفحش وأالسب وأالبذاء)(6)) البذاء ،بالمد :الفحش ،وأفلن يذىء
اللسان من قوم أبذياء ،وأالمرأة بذيئة(.( ")) البذاء ،بالمد :الفحش ،وأفلن يذىء اللسان
من قوم أبذياء ،وأالمرأة بذيئة(.( وأنحو ذلك ،فإنه مذموم منهي عنه ،وأمصدره الخبث
وأاللؤم .وأفى الحديث" :إياكم وأالفحش ،فإن الله ل يحب الفحش وأل التفحش"".الجنة
حرام على كل فاحش".
وأفى حديث آخر " :ليس المؤمن بالطعان وأل اللعان وأل الفاحش وأل البذيء".وأاعلم :أن
الفحش وأالبذاء هو التعبير عن المور المستقبحة بالعبارات الصريحة ،وأأكثر ما يكون ذلك
في ألفاظ الجماع وأما يتعلق به ،فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات وأيكنون عنها
.وأمن الفات :الغناء وأقد سبق فيه كلم في غير هذا الموضوع.
الفة الخامسة :المزاح ،أما اليسير منه ،فل ينهى عنه إذا كان صدقًا.
فإن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم كان يمزح وأل يقول إل حقًا ،فإنه قال لرجل" :يا ذا
الذنين" ،وأقال لخر" :إنا حاملوك على وألد الناقة" ،وأقال للعجوز" :إنه ل يدخل الجنة
عجوز" ثم قرأ} :إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكارًا{ ]الواقعة[35-36: ،وأقال لخرى:
"زوأجك الذى في عينيه بياض؟"(7). فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وأآله وأسلم ثلثة
أشياء:
أحدها :كونه حقا ً
وأالثاني :كونه مع النساء وأالصبيان ،وأمن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال.
وأالثالث :كونه نادر ًا ،فل ينبغي أن يحتج به من يريد الدوأام عليه ،فان حكم النادر ليس
كحكم الدائم ،وألو أن إنسانا ً دار مع الحبشة ليل ً وأنهارا ً ينظر إلي لعبهم وأاحتج بأن النبى
صلى الله عليه وأآله وأسلم وأقف لعائشة وأأذان لها أن تنظر إلى الحبشة ،لكان غالطًا،
لندوأر ذلك ،فالفراط بى المزاح وأالمداوأمة عليه منهي عنه ،لنه يسقط الوقار ،وأيوجب
الضغائن وأالحقاد ،وأأما اليسير كما تقدم ،من نحو نوع مزاح رسول الله صلى الله عليه
وأآله وأسلم ،فإن فيه انبساطا ً وأطيب نفس.
الفة السابعة :إفشاء السر ،وأإخلفا الوعد وأالكذب في القول وأاليمين ،وأكل ذلك
منهي عنه ،إل ما رخص فيه من الكذب لزوأجته ،وأفى الحرب فإن ذلك يباح وأضابطه أن
كل مقصود محمود ل يمكن التوصل إليه إل بالكذب ،فهو فيه مباح إن كان هذا المقصود
مباحًا .وأإن كان المقصود وأاجبًا ،فهو وأاجب ،فينبغي أن يحترز عن الكذب مهما أمكن.
وأتباح المعاريض ،لقوله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :إن في المعاريض مندوأحة عن
الكذب" وأإنما تصلح المعاريض عند الحاجة إليها ،فأما مع غير الحاجة،فمكروأهة لنها تشبه
الكذب .فمن المعاريض ما روأينا عن عبد الله بن روأاحة رضى الله عنه أنه أصاب جارية
له ،فعلمت امرأته ،فأخذت شفرة ،ثم أتت فوافقته قد قام عنها ،فقالت :أفعلتها؟ فقال:
ما فعلت شيئًا ،قالت ،لتقرأن القرآن أوأ لبعجنك بها ،فقال رضى الله عنه:
الفة الثامنة :الغيبة ،وأقد وأرد الكتاب العزيز بالنهى عنها ،وأشبه صاحبها بآكل الميتة
.وأفى الحديث" :إن دماءكم وأأموالكم وأأعراضكم عليكم حرام".وأعن أبى برزة السلمى
قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :يا معشر من آمن بلسانه وألم يدخل
اليمان قلبه :ل تغتابوا المسلمين ،وأل تتبعوا عوراتهم ،فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله
عورته وأمن تتبع الله عورته يفضحه وألو في جوفا بيته".وأفى حديث آخر" :إياكم وأالغيبة،
فإن الغيبة أشد من الزنا ،وأإن الرجل قد يزنى وأيشرب ،ثم يتوب وأيتوب الله عليه ،وأإن
صاحب الغيبة ل يغفر الله له حتى يغفر صاحبه" وأقال على بن الحسين رضى الله عنهما:
إياك وأالغيبة ،فإنها إدام كلب الناس وأالحاديث وأالثار في ذلك كثيرة مشهورة.
وأمعنى الغيبة :أن تذكر أخاك الغائب بما يكره إذا بلغه ،سواء كان نقصا ً في بدنه،
كالعمش ،وأالعورة ،وأالحول ،وأالقرع ،وأالطول ،وأالقصر ،وأنحو ذلك.أوأ في نسبه ،كقولك:
أبوه نبطي ،أوأ هندي أوأ فاسق ،أوأ خسيس ،وأنحو ذلك.أوأ في خلقه كقولك ،هو سئ الخلق
بخيل متكبر وأنحو ذلك.أوأ في ثوبه ،كقولك :هو طويل الذيل ،وأاسع الكم ،وأسخ الثياب
.وأالدليل على ذلك ،أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم سئل عن الغيبة قال" :ذكرك
أخاك بما يكره" .قال :أرأيت إن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟ قال" :إن كان في
أخاك ما تقول فقد اغتبته ،وأإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".وأاعلم أن كل ما يفهم منه
مقصود الذم ،فهو داخل في الغيبة ،سواء كان بكلم أوأ بغيره ،كالغمز ،وأالشارة وأالكتابة
بالقلم ،فإن القلم أحد اللسانين.وأأقبح أنواع الغيبة ،غيبة المتزهدين المرائين ،مثل أن
يذكر عندهم إنسان فيقولون :الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان ،وأالتبذل
في طلب الحطام ،أوأ يقولون :نعوذ بالله من قلة الحياء ،أوأ نسأل الله العافية ،فإنهم
يجمعون بين ذم المذكور وأمدح أنفسهم .وأربما قال أحدهم عند ذكر إنسان :ذاك المسكين
قد بلى بآفة عظيمة ،تاب الله علينا وأعليه ،فهو يظهر الدعاء وأيخفى قصده.وأاعلم :أن
المستمع للغيبة شريك فيها ،وأل يتخلص من إثم سماعها إل أن ينكر بلسانه ،فإن خافا
فبقلبه وأإن قدر على القيام ،أوأ قطع الكلم بكلم آخر ،لزمه ذلك.وأقد روأى عن النبى
صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال :من أذل عنده مؤمن وأهو يقدر أن ينصره أذله الله عز
وأجل على رؤوأس الخلئق" وأقال صلى الله عليه وأآله وأسلم" :من حمى مؤمنا ً من منافق
يعيبه ،بعث الله ملكا ً يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم"وأرأى عمر بن عتبة موله مع
رجل وأهو يقع في آخر ،فقال له :وأيلك نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه نفسك عن
القول به ،فالمستمع شريك القائل ،إنما نظر إلى شر ما في وأعائه فأفرغه في وأعائك،
وألو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها .وأقد وأردت أحاديث في
حق المسلم على المسلم ،تقدمت في كتاب الصحبة.
تشفى الغيظ ،بأن يجرى من إنسان أما السباب التي تبعث على الغيبة فكثيرة.منها:
في حق آخر سبب يوجب غيظه ،فكلما هاج غضبه تشفى بغيبة صاحبه.
السبب الثانى :من البواعث على الغيبة موافقة القران وأمجاملة الرفقاء
وأمساعدتهم ،فإنهم إذا كانوا يتفكهون في العراض ،رأى هذا أنه إذا أنكر عليهم أوأ قطع
كلمهم استثقلوه وأنفروأا عنه ،فيساعدهم وأيرى ذلك من حسن المعاشرة.
الثالث :إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره ،فيقول :فلن جاهل ،وأفهمه ركيك ،وأنحو ذلك،
غرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ،وأيريهم أنه أعلم منه.وأكذلك الحسد في ثناء
الناس على شخص وأحبهم له وأإكرامهم ،فيقدح فيه ليقصد زوأال ذلك.
الرابع :اللعب وأالهزل ،فيذكر غيره بما يضحك الناس به على سبيل المحاكاة ،حتى إن
بعض الناس يكون كسبه من هذا.
وأأما علج الغيبة ،فليعلم المغتاب أنه بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى وأمقته ،وأأن
حسناته تنقل إلى المغتاب إليه ،وأإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه ،فمن
استحضر ذلك لم يطلق لسانه بالغيبة.وأينبغى إذا عرضت له الغيبة أن يتفكر في عيوب
نفسه ،وأيشتغل بإصلحها ،وأيستحي أن يعيب وأهو معيب ،كما قال بعضهم:
فإن عبت قوما ً بالذي فيك مثله فكيف يعيب الناس من هو أعور
وأإذا عبت قوما ً بالذي ليس فيهم فــذلك عند الله وأالناس أكبر
وأإن ظن أنه سليم من العيوب ،فليتشاغل بالشكر على نعم الله عليه ،وأل يلوث نفسه
بأقبح العيوب وأهو الغيبة ،وأكما ل يرضى لنفسه بغيبة غيره له ،فينبغي أن ل يرضاها لغيره
من نفسه.فلينظر في السبب الباعث على الغيبة ،فيجتهد على قطع ،فإن علج العلة
يكون بقطع سببها .وأقد ذكرنا بعض أسبابها ،فيعالج الغضب بما سيأتي في كتاب الغضب،
وأيعالج موافقة الجلس بأن يعلم أن الله تعالى يغضب على من طلب رضى المخلوقين
بسخطه ،بل ينبغي أن يغضب على رفقائه ،وأعلى نحو هذا معالجة البواقي.
وأقد تحصل الغيبة بالقلب ،وأذلك سوء الظن بالمسلمين.وأالظن ما تركن إليه النفس
وأيميل القلب ،فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا ،إل إذا انكشف أمر ل يحتمل التأوأيل فإن
أخبرك بذلك عدل ،فمال قلبك إلى تصديقه ،كنت معذوأرًا ،لنك لو كذبته كنت قد أسأت
الظن بالمخبر ،فل ينبغي أن تحسن الظن بواحد وأتسيئه بآخر ،بل ينبغي أن تبحث ،هل
بينهما عداوأة وأحسد؟ فتتطرقا التهمة حينئذ بسبب ذلك ،وأمتى خطر لك خاطر سوء على
مسلم ،فينبغي أن تزيد في مراعاته وأتدعو له بالخير ،فإن ذلك يغيظ الشيطان وأيدفعه
عنك ،فل يلقى إليك خاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء وأالمراعاة .وأإذا تحققت
هفوة مسلم ،فانصحه في السر.وأاعلم :أن من ثمرات سوء الظن التجسس ،فان القلب
ل يقنع بالظن ،بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ،وأذلك منهي عنه ،لنه يوصل إلى
هتك ستر المسلم ،وألو لم ينكشف لك ،كان قلبك أسلم للمسلم.
اعلم :أن المرخص في ذكر مساوأئ الغير ،وأهو غرض صحيح في الشرع ،ليمكن التوصل
إليه إل به ،وأذلك يدفع إثم الغيبة ،وأهو أمور:
أحدها التظلم ،فإن للمظلوم أن يذكر الظالم إذا استدعاه إلى من يستوفى حقه.
الثانى :الستعانة على تغيير المنكر ،وأرد الظالم إلى منهاج الصلح.
الثالث :الستفتاء ،مثل أن يقول للمفتى ظلمني فلن ،أوأ أخذ حقى ،فكيف طريقي في
الخلص ،فالتعيين مباح ،وأالوألى التعريض ،وأهو أن يقول :ما تقول في رجل ظلمه أبوه أوأ
أخوه وأنحو ذلك؟وأالدليل على إباحة التعيين حديث هند حين قالت :إن أبا سفيان رجل
شحيح وألم ينكر عليها النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم.
المر الرابع :تحذير المسلمين ،مثل أن ترى متفقها ً يتردد إلى مبتدع أوأ فاسق ،وأتخافا أن
يتعدى إليه ذلك ،فلك أن تكشف له الحال.وأكذلك إذا عرفت من عبدك السرقة أوأ
الفسق ،فتذكر ذلك للمشترى.وأكذلك المستشار في التزوأيج أوأ إيداع المانة ،له أن يذكر
ما يعرفه على قصد النصح للمستشير ،ل على قصد الوقيعة ،إذا علم أنه ل ينزجر إل
بالتصريح.
الخامس :أن يكون معروأفا ً بلقب ،كالعرج ،وأالعمش ،فل إثم على من يذكره به ،وأإن
وأجد عن ذلك معدل ً كان أوألى.
وأقد روأى عن النبى صلى اله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :من ألقى جلباب الحياء فل غيبة
له"وأقيل للحسن :الفاجر المعلن بفجوره ،ذكرى له بما فيه غيبة :قال :ل ،وأل كرامة.
إحداهما :على حق الله تعالى ،إذ فعل ما نهاه عنه ،فكفارة ذلك التوبة وأالندم.
وأالجناية الثانية :على محارم المخلوقا ،فان كانت الغيبة قد بلغت الرجل ،جاء إليه
وأاستحله وأاظهر له الندم على فعلهوقد روأى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى
الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :من كانت عنده مظلمة لخيه ،من مال أوأ عرض ،فليأته
فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وأليس عنده درهم وأل دينار ،فإن كانت له حسنات أخذ من
حسناته فأعطيها هذا ،وأإل أخذ من سيئات هذا فألقى عليه".وأإن كانت الغيبة لم تبلغ
الرجل ،جعل مكان استحلله الستغفار له ،لئل يخبره بما ل يعلمه ،فيوغر صدره.وأقد وأرد
في الحديث" :كفارة من اغتبت أن تستغفر له")(8وأقال مجاهد :كفارة أكلك لحم أخيك أن
تثنى عليه وأتدعو له بخير ،وأكذلك إن كان قد مات.
الفة التاسعة :من آفات اللسان النميمة ،وأفى الحديث ان النبى صلى الله عليه وأآله
وأسلم قال" :ل يدخل الجنة قتات" وأهو النمام .وأاعلم :أن النميمة تطلق في الغالب على
نقل قول إنسان في إنسان ،مثل أن يقول :قال فيك فلن كذا وأكذا ،وأليست مخصوصة
بهذا ،بل حدها كشف ما يكره كشفه ،سواء كان من القوال أوأ العمال ،حتى لو رآه يدفن
مال ً لنفسه فذكره فهو نميمة وأكل من نقلت إليه النميمة ،مثل أن يقال له :قال فيك
فلن كذا وأكذا أوأ فعل في حقك كذا ،وأنحو ذلك فعليه ستة أشياء:
الخامس :أن ل يحمله ما حكى له على التجسس وأالبحث ،لقوله تعالى} :وألتجسسوا{
]الحجرات[12:.
السادس :أن ل يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه ،فل يحكى نميمته.وأيروأى أن سليمان بن
ى ،وأقلت كذا وأكذا .فقال الرجل :ما فعلت،
عبد الملك قال لرجل :بلغني أنك وأقعت ف ّ
فقال سليمان :صدقت ،اذهب بسلم.وأقال يحيى بن أبى كثير :يفسد النمام في ساعة ما
ل يفسد الساحر في شهر.وأقد حكى أن رجل ساوأم بعبد ،فقال موله :إني أبرأ منك من
النميمة وأالكذب ،فقال :نعم ،أنت برئ منهما ،فاشتراه .فجعل يقول لموله إن امرأتك
تبغي وأتفعل ،وأإنها تريد أن تقتلك ،وأيقول للمرأة :إن زوأجك يريد أن يتزوأج عليك وأيتسرى،
فان أردت أن أعطفه عليك ،فل يتزوأج وأل يتسرى ،فخذ الموسى وأاحلقي شعرة من حلقه
إذا نام ،وأقال للزوأج :إنها تريد أن تقتلك إذا نمت .قال فذهب فتناوأم لها ،فجاءت بموسى
لتحلق شعرة من حلقه ،فأخذ بيدها فقتلها ،فجاء أهلها فاستعدوأا عليه فقتلوه.
الفة العاشرة :كلم ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين ،وأينقل كلم كل وأاحد إلى
الخر ،وأيكلم كل وأاحد بكلم يوافقه ،أوأ يعده أنه ينصره ،اوأ يثنى على الواحد في وأجهه
وأيذمه عند الخر.وأفى الحديث" :إن شر الناس ذوأ الوجهين الذي يأتي هؤلء بوجه وأهؤلء
بوجه".وأاعلم :أن هذا فيمن لم يضطر إلى ذلك ،فأما إذا اضطر إلى مداراة المراء جاز
.قال أبو الدرداء رضى الله عنه :إنا لنكشر)(9 "<في وأجوه أقوام ،وأإن قلوبنا لتلعنهم .
وأمتى قدر أن ل يظهر موافقتهم لم يجز له.
منها :ما يتعلق بالمادح ،وأمنها :ما يتعلق بالممدوأح .فأما آفات المادح ،فقد يقول مال
يتحققه ،وأل سبيل للطلع عليه ،مثل أن يقول :إنه وأرع وأزاهد ،وأقد يفرط في المدح
فينتهي إلى الكذب ،وأقد يمدح من ينبغي لن يذم.وأقد روأى في حديث" :إن الله تعالى
يغضب إذا مدح الفاسق"وأقال الحسن :من دعا لظالم بالبقاء ،فقد أحب أن يعصى الله
.وأأما الممدوأح ،فإنه يحدث فيه كبرا ً أوأ إعجابًا ،وأهما مهلكان وألهذا قال النبى صلى الله
عليه وأآله وأسلم لما سمع رجل ً يمدح رجلً" :وأيلك ،قطعت عنق صاحبك"..الحديث وأهو
مشهور.وأقد ُرّوأينا عن الحسن قال كان عمر رضى الله عنه قاعدا ً وأمعه الدرة وأالناس
حوله ،إذ أقبل الجاروأد ،فقال رجل :هذا سيد ربيعة ،فسمعها عمر رضى الله عنه وأمن
حوله ،وأسمعها الجاروأد ،فلما دنا منه خفقه)(10
بالدرة ،فقال :مالي وألك يا أمير المؤمنين؟ قال :مالي وألك ،أما سمعتها؟ قال :سمعتها،
فمه؟ قال :خشيت أن يخالط قلبك منها شئ فأحببت أن أطأطئ )(11منك.
وألن النسان إذا أثنى عليه بالخير رضى عن نفسه ،وأظن أنه قد بلغ المقصود ،فيفتر عن
العمل ،وألهذا قال . :فأما إذا سلم المدح من هذه الفات لم يكن به بأس ،فقد أثنى النبى
صلى الله عليه وأآله وأسلم على أبى بكر وأعمر رضى الله عنهما وأغيرهما من الصحابة
رضى الله عنهم .وأعلى الممدوأح أن يكون شديد الحتراز من آفة الكبر وأالعجب وأالفتور
عن العمل ،وأل ينجو من هذه الفات إل أن يعرفا نفسه ،وأيتفكر في أن المادح لو عرفا
منه ما يعرفا من نفسه ما مدحه .وأقد روأى أن رجل ً من الصالحين أثنى عليه ،فقال:
اللهم إن هؤلء ل يعرفوني وأأنت تعرفني.
الفة الثانية عشرة :الخطأ في فحوى الكلم فيما يرتبط في أمور الدين،لسيما فيما
يتعلق بالله تعالى ،وأل يقدر على تقويم اللفظ بذلك إل العلماء الفصحاء ،فمن قصر في
علم أوأ فصاحة ،لم يخل كلمه عن الزلل ،لكن يعفو الله عنه لجهله .مثال ذلك ما روأى
عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم انه قال" :ل يقل أحدكم :ما شاء الله شئت ،وألكن
ليقل ،ما شاء الله ثم شئت")(12وأذلك لن في العطف المطلق تشريكا ً وأتسوية ،وأقريب
من ذلك إنكاره على الخطيب قوله" :وأمن يعصهما فقد غوى" وأقال" :وأمن يعص الله
وأرسوله".وأقال صلى الله عليه وأآله وأسلم" :ل يقل أحدكم :عبدى وأأمتى ،كلكم عبيد الله،
وأكل نسائكم إماء الله ،وألكن ليقل ،غلمي وأجاريتي" .وأقال النخعى :إذا قال الرجل
للرجل :يا حمار ،يا خنزير ،قيل له يوم القيامة :أرأيتني خلقته حمارًا ،أوأ أرأيتني خلقته
خنزيرًا.فهذا وأأمثاله مما يدخل في الكلم ،وأل يمكن حصره ،وأمن* تأمل ما أوأردناه في
آفات اللسان ،علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم ،وأعند ذلك يعرفا سر قوله صلى الله
عليه وأآله وأسلم" :من صمت نجا" ،لن هذه الفات مهالك وأهى على طريق المتكلم ،فإن
سكت سلم.
وأمن آفات العوام سؤالهم عن صفات الله سبحانه وأتعالى وأكلمه.اعلم :أن الشيطان
يخيل إلى العامي أنك بخوضك في العلم تكون من العلماء وأأهل الفضل ،فل يزال يحبب
إليه ذلك حتى يتكلم بما هو كفر وأهو ل يدرى .قال النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم:
"يوشك الناس أن يسألوا ،حتى يقولوا :هذا الله خلق الخلق ،فمن خلق الله؟" فسؤال
العوام عن غوامض العلم أعظم الفات ،وأبحثهم عن معاني الصفات مما يفسدهم ل مما
يصلحهم ،إذ الواجب عليهم التسليم ،فالوألى بالعامي اليمان بما وأرد به القرآن ،ثم
التسليم لما جاء به الرسول من غير بحث ،وأاشتغالهم بالعبادات ،فإن اشتغالهم بالبحث
عن أسرار العلم ،كبحث سائمة الدوأاب عن أسرار الملك.
اعلم :أن الغضب شعلة من النار ،وأأن النسان ينزع فيه عند الغضب عرقا إلى الشيطان
اللعين ،حيث قال} :خلقتني من نار وأخلقته من طين{ ]العرافا[12 : فإن شأن الطين
من نتائج السكون وأالوقار ،وأشأن النار التلظي وأالشتعال ،وأالحركة وأالضطراب.وأ
الغضب :الحقد وأالحسد ،وأمما يدل على ذم الغضب قول النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم
للرجل الذي قال له :أوأصني ،قال" :ل تغضب" ،فردد عليه مرارًا ،قال" :ل تغضب".وأفى
حديث آخر أن ابن عمر رضى الله عنه سأل النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم ،ماذا يبعدني
من غضب الله عز وأجل؟ قال" :ل تغضب".وأفى المتفق عليه من حديث أبى هريرة رضى
الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :ليس الشديد بالصرعة ،إنما
الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”.وأعن عكرمة في قوله تعالى} :وأسيدا ً وأحصورا ً{
]آل عمران[39 : قال :السيد الذي يملك نفسه عند الغضب وأل يغلبه غضبه.وأروأينا أن ذا
القرنين لقي ملكا ً من الملئكة فقال :علمني علما ً ازداد به إيمانا ً وأيقينًا ،قال :ل تغضب،
فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب ،فرد الغضب بالكظم ،وأسكنه
بالتؤدة ،وأإياك وأالعجلة ،فإنك إذا عجلت أخطأت حظك ،وأكن سهل ً لينا ً للقريب وأالبعيد ،وأل
تكن جبارا ً عنيدًا.وأروأينا أن إبليس لعنه الله بدا لموسى عليه السلم ،فقال يا موسى :إياك
وأالحدة ،فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة ،وأإياك وأالنساء ،فإني لم
انصب فخا ً في نفسي قط أثبت في نفسي من فخ أنصبه بامرأة ،وأإياك وأالشح ،فإني
أفسد على الشحيح الدنيا وأالخرة.
وأكان يقال :اتقوا الغضب ،فإنه يفسد اليمان كما يفسد الصبر العسل ،وأالغضب عدوأ
العقل.
حقيقة الغضب :غليان دم القلب لطلب النتقام ،فمتى غضب النسان ثارت نار وأ
الغضب ثورانا ً يغلى به دم القلب ،وأينتشر بى العروأقا ،وأيرتفع إلى أعالي البدن ،كما يرتفع
الماء الذي يغلى في القدر ،وألذلك يحمر الوجه وأالعين وأالبشرة وأكل ذلك يحكى لون ما
وأراءه من حمرة الدم ،كما تحكى الزجاجة لون ما فيها ،وأإنما ينبسط الدم إذا غضب على
من دوأنه وأاستشعر القدرة عليه.فإن كان الغضب صدر ممن فوقه ،وأكان معه يأس من
النتقام ،تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوفا القلب ،فصار حزنًا ،وألذلك
يصفر اللون ،وأإن كان الغضب من نظير يشك فيه ،تردد الدم بين انقباض وأانبساط،
قوة الغضب فيحمر وأيصفر وأيضطرب ،فالنتقام هو قوت لقوة الغضب.وأالناس في
على درجات ثلث :إفراط ،وأتفريط ،وأاعتدال.فل يحمد الفراط فيها ،لنه يخرج العقل
وأالدين عن سياستهما ،فل يبقى للنسان مع ذلك نظر وأل فكر وأل اختيار.وأالتفريط في
هذه القوة أيضا ً مذموم ،لنه يبقى ل حمية له وأل غيرة ،وأمن فقد الغضب بالكلية ،عجز
عن رياضة نفسه ،إذ الرياضة إنما تتم بتسلط الغضب على الشهوة ،فيغضب على نفسه
عند الميل إلى الشهوات الخسيسة ،ففقد الغضب مذموم ،فينبغي أن يطلب الوسط بين
الطريقين.وأاعلم :أنه متى قويت نار الغضب وأالتهبت ،أعمت صاحبها ،وأأصمته عن كل
موعظة ،لن الغضب يرتفع إلى الدماغ ،فيغطى على معادن الفكر ،وأربما تعدى إلى
معادن الحس ،فتظلم عينه حتى ل يرى بعينه ،وأتسود الدنيا في وأجهه ،وأيكون دماغه على
مثال كهف أضرمت فيه نار ،فاسود جوه ،وأحمى مستقره ،وأامتل بالدخان ،وأكان فيه
سراج ضعيف فانطفأ ،فل يثبت فيه قدم ،وأل تسمع فيه كلمة ،وأل ترى فيه صورة ،وأل
يقدر على إطفاء النار ،فكذلك يفعل بالقلب وأالدماغ ،وأربما زاد الغضب فقتل صاحبه.وأمن
آثار الغضب في الظاهر ،تغير اللون ،وأشدة الرعدة في الطرافا ،وأخروأج لفعال عن
الترتيب ،وأاستحالة الخلقة ،وأتعاطى فعل المجانين ،وألو رأى الغضبان صورته في حال
غضبه وأقبحها لنف نفسه من تلك الحال ،وأمعلوم أن قبح الباطن أعظم.
قد عرفت أن علج كل علة بحسم مادتها وأإزالة أسبابها.فمن أسبابه :العجب ،وأالمزاح،
وأالمماراة ،وأالمضادة ،وأالغدر وأشدة الحرص على فضول المال وأالجاه ،وأهذه الخلقا
رديئة مذمومة شرعًا ،فينبغي أن يقابل كل وأاحد من هذه بما يضاده ،فيجتهد على حسم
مواد الغضب وأقطع أسبابه.
أحدها :أن يتفكر في الخبار الواردة في فضل كظم الغيظ ،وأالعفو ،وأالحلم،
وأالحتمال ،كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس رضى الله عنهما ،أن رجل ً استأذن
على عمر رضى الله عنه ،فآذن له ،فقال له :يا ابن الخطاب ،وأالله ما تعطينا الجزل )(1 ،
وأل تحكم بيننا بالعدل ،فغضب عمر رضى الله عنه ،حتى هم أن يوقع به )(2 .فقال الحر
بن قيس :يا أمير المؤمنين إن الله عز وأجل قال لنبيه صلى الله عليه وأآله وأسلم } :خذ
العفو وأأمر بالمعروأفا وأأعرض عن الجاهلين{ ]العرافا[199 : وأإن هذا من الجاهلين ،فوالله
ما جاوأزها عمر رضى الله عنه حين تلها عليه ،وأكان وأقافا ً عند كتاب الله عز وأجل.
الثاني :أن يخوفا نفسه من عقاب الله تعالى ،وأهو أن يقول :قدرة الله على أعظم من
قدرتي على هذا النسان ،فلو أمضيت فيه غضبى ،لم آمن أن يمضى الله عز وأجل غضبه
على يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو .وأقد قال الله تعالى في بعض الكتب :يا
ابن آدم! اذكرني عند الغضب ،أذكرك حين أغضب ،وأل أمحقك فيمن أمحق.
الثالث :أن يحذر نفسه عاقبة العداوأة ،وأالنتقام ،وأتشمير العدوأ في هدم أعراضه،
وأالشماتة بمصائبه ،فان النسان ل يخلو عن المصائب ،فيخوفا نفسه ذلك في الدنيا إن
لم يخف من الخرة وأهذا هو تسليط شهوة على غضب وأل ثواب عليه ،لنه تقديم لبعض
الحظوظ على بعض ،إل أن يكون محذوأره أن يتغير عليه أمر يعينه على الخرة ،فيثاب
على ذلك.
الرابع :أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب على ما تقدم ،وأأنه يشبه حينئذ الكلب
الضارى ،وأالسبع العادي ،وأانه يكون مجانبا ً لخلقا النبياء وأالعلماء في عادتهم ،لتميل
نفسه إلى القتداء بهم.
الخامس :أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى النتقام ،مثل أن يكون سبب غضبة
أن يقول له الشيطان :إن هذا يحمل منك على العجز ،وأالذلة وأالمهانة ،وأصغر النفس،
وأتصير حقيرا ً في أعين الناس ،فليقل لنفسه :تأنفين من الحتمال الن ،وأل تأنفين من
خزي يوم القيامة وأالفتضاح إذا أخذ هذا بيدك وأانتقم منك ،وأتحذرين من أن تصغري في
أعين الناس ،وأل تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وأعند الملئكة وأالنبيين.وأينبغى أن
يكظم غيظه ،فذلك يعظمه عند الله تعالى ،فماله وأللناس؟ أفل يجب أن يكون هو القائم
يوم القيامة إذا نودي :ليقم من وأقع أجره على الله ،فل يقوم إل من عفا ،فهذا وأأمثاله
ينبغي أن يقرره على قلبه.
السادس :أن يعلم أن غضبه إنما كان من شىء جرى على وأفق مراد الله تعالى ،ل
على وأفق مراده ،فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى ،هذا ما يتعلق بالقلب.
وأأما العمل ،فينبغي له السكون ،وأالتعوذ ،وأتغيير الحال ،وأإن كان قائما ً جلس ،وأإن كان
جالسا ً اضطجع ،وأقد أمرنا بالوضوء أيضا َ عند الغضب ،فهذه المور وأردت في الحاديث
.أما الحكمة في الوضوء عند الغضب ،فقد بينها في الحديث .كما روأى أبو وأائل قال :كنا
عند عروأة بن محمد ،فكلمه رجل بكلم ،فغضب غضبا ً شديدا ً فقام وأتوضأ ،ثم جاء فقال:
حدثني أبى عن جدي عطية -وأكانت له صحبة -قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم " :إن الغضب من الشيطان ،وأإن الشيطان خلق من النار ،وأإنما تطفأ النار بالماء،
فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".وأأما الجلوس وأالضطجاع ،فيمكن أن يكون إنما أمر بذلك
ليقرب من الرض التي منها خلق ،فيذكر أصله فيذل ،وأيمكن أن يكون ليتواضع بذله ،لن
الغضب ينشأ من الكبر ،بدليل ما روأى أبو سعيد ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه
ذكر الغضب وأقال“ :من وأجد شيئا ً من ذلك ،فليلصق خده بالرض" .
وأقيل :غضب المهدى على رجل ،فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه ،وأإطراقا
الناس ،فلم يتكلموا بشيء ،قال :يا أمير المؤمنين ،ل تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه،
فقال :خلوا سبيله.
قال الله تعالى } :وأالكاظمين الغيظ{ ]آل عمران[134 : فذكر ذلك في معرض المدح.وأعن
رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال"من كظم غيظا ً وأهو قادر على أن ينفذه ،دعاه
الله على رؤوأس الخلئق حتى يخيره من أي الحور شاء".وأروأى عن عمر رضى الله عنه
أنه قال :من اتقى الله لم يشف غيظه ،وأمن خافا الله لم يفعل ما يريد ،وألول يوم
القيامة لكان غير ما تروأن.
روأى أبو هريرة رضى الله عنه ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :إنما العلم
بالتعلم ،وأالحلم بالتحلم" )" .اطلبوا العلم ،وأاطلبوا مع العلم السكينة وأالحلم ،لينوا لمن
تعلمون وألمن تعلمون منه ،وأل تكونوا من جبابرة العلماء ،فيغلب جهلكم عليكم" .وأقال
صلى الله عليه وأآله وأسلم لشج بن قيس )(3" :إن فيك خلقين يحبهما الله وأرسوله:
الحلم وأالناة ")(4.وأشتم رجل ابن عباس رضى الله عنه فلما قضى مقتله ،فقال :يا
عكرمة ،انظر هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه وأاستحى.وأأسمع رجل
معاوأية كلما ً شديدا ً فقيل له :لو عاقبته؟ فقال :إني لستحي أن يضيق حلمي عن ذنب
أحد من رعيتي.وأأقسم معاوأية نطعا ً ،فبعث منها إلى شيخ من أهل دمشق فلم يعجبه
فجعل عليه يمينا ً أن يضرب رأس معاوأية ،فأتى معاوأية فأخبره ،فقال له معاوأية :أوأفا
بنذرك وأارفق بالشيخ.وأجاء غلم لبى ذر وأقد كسر رجل شاة له ،فقال له :من كسر رجل
هذه؟ قال :أنا فعلته عمدا ً لغيظك ،فضربنى ،فتأثم .فقال :لغظين من حرضك على
غيظي ،فأعتقه.وأشتم رجل عدى ابن حاتم وأهو ساكت ،فلما فرغ من مقالته قال :إن كان
بقي عندك شئ فقل قبل أن يأتي شباب الحي ،فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم
يرضوا.وأدخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة ،فمر برجل نائم فعثر به ،فرفع
ن أنت؟ فقال عمر :ل ،فهم به الحرس ،فقال عمر :مه ،إنما سألني رأسه وأقال :أمجنو ٌ
أمجنون؟ فقلت :ل.وألقي رجل على بن الحسين رضى الله عنهما ،فسبه ،فثارت إليه
العبيد ،فقال :مهلً ،ثم أقبل على الرجل فقال :ما ستر عنك من أمرنا أكثر ،ألك حاجة
نعينك عليها ؟ فاستحى الرجل ،فألقى عليه خميصة )(5 كانت عليه ،وأأمر له بألف درهم،
فكان الرجل بعد ذلك يقول :أشهد أنك من أوألد الرسول.وأقال رجل لوهب بن منبه :إن
فلنا ً شتمك ،فقال :ما وأجد الشيطان بريدا ً غيرك.
أعلم :أن معنى العفو أن تستحق حقا ً فتسقطه ،وأتؤدى عنه من قصاص أوأ غرامة ،وأهو
غير الحلم وأالكظم .وأقال الله تعالى} :وأالعافين عن الناس{ ].آل عمران[134: وأقال:
}فمن عفا وأأصلح فأجره على الله{ ]الشورى[40 : ،وأفى الحديث أن النبى صلى الله عليه
وأآله وأسلم ،قال" :ما نقصت صدقة من مال ،وأما زاد الله عبدا ً بعفو إل عزًا ،وأما تواضع
أحد لله إل رفعه الله".وأعن عقبة بن عامر ،قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم" :يا عقبة ،أل أخبرك بأفضل أخلقا أهل الدنيا وأالخرة؟ تصل من قطعك ،وأتعطى
من حرمك ،وأتعفو عمن ظلمك" .وأروأى أن مناديا ً ينادى يوم القيامة :ليقم من وأقع أجره
على الله؟ فل يقوم إل من عفا عمن ظلمه.وأعن أنس رضى الله عنه قال :قال رسول
الله صلى الله عليه وأآله وأسلم :وأإن الله رفيق يحب الرفق ،وأيعطى عليه مال يعطي على
العنف".وأفى "الصحيحين" من حديث عائشة رضى الله عنها ،عن النبى صلى الله عليه
وأآله وأسلم أنه قال" :إن الله عز وأجل يحب الرفق في المر كله".وأفى حديث آخر "من
يحرم الرفق يحرم الخير".
اعلم :أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن ،فاحتقن فيه
فصار حقدًا.وأعلمته دوأام بغض الشخص وأاستثقاله وأالنفور منه ،فالحقد ثمرة الغضب،
وأالحسد من نتائج الحقد.وأعن الزبير بن العوام رضى الله عنه ،قال :قال رسول الله صلى
الله عليه وأآله وأسلم" :دب إليكم داء المم قبلكم الحسد وأالبغضاء" .وأفى "الصحيحين"
عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :ل تباغضوا ،وأل تقاطعوا ،وأل تحاسدوأا ،وأل
تدابروأا ،كونوا عباد الله إخوانًا".وأفى حديث آخر عنه صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال:
"إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" .وأفى حديث آخر أنه قال" :يطلع
عليكم من هذا الفج )(6 رجل من أهل الجنة ،فطلع رجل ،فسئل عن عمله ،فقال :إني ل
أجد لحد من المسلمين في نفسي غشا ً وأل حسدا ً على خير أعطاه الله إياه".وأروأينا أن
الله تبارك وأتعالى يقول":الحاسد عدوأ نعمتى ،متسخط لقضائي ،غير راض بقسمتي بين
عبادي".
وأقال ابن سيرين :ما حسدت أحدا ً على شئ من أمر الدنيا ،لنه إن كان من أهل الجنة،
فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا ،وأهو يصير إلى الجنة ،وأإن كان من أهل النار،
فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا ،وأهو يصير إلى النار.وأقال إبليس لنوح عليه
السلم :إياك وأالحسد ،فإنه صيرني إلى هذه الحال.وأاعلم :أن الله تعالى إذا نعم على
أخيك نعمة ،فلك فيها حالتان:
قلت :وأاعلم أنى ما رأيت أحدا ً حقق الكلم في هذا كما ينبغي ،وألبد لى من كشفه
فأقول:اعلم :أن النفس قد جلبت على حب الرفعة ،فهي ل تحب أن يعلوها جنسها ،فإذا
عل عليها ،شق عليها وأكرهته ،وأأحبت زوأال ذلك ليقع التساوأي ،وأهذا أمر مركوز في
الطباع .وأقد روأى أبو هريرة رضى الله عنه ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال:
طيرة ،وأالحسد ،وأسأحدثكم ما المخرج من ذلك ،إذا "ثلث ل ينجو منهن أحد :الظن ،وأال ّ
علج الحسد ،تارة ظننت فل تحقق ،وأإذا تطيرت فامض ،وأإذا حسدت فل تبغ" .وأ
بالرضى بالقضاء ،وأتارة بالزهد في الدنيا ،وأتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم
الدنيا وأحساب الخرة ،فيتسلى بذلك وأل يعمل بمقتضى ما في النفس أصلً ،وأل ينطق،
فإذا فعل ذلك لم يضره ما وأضع في جبلته.فأما من يحسد نبيا ً على نبوته ،فيجب أن ل
يكون نبيًا ،أوأ عالما ً على علمه ،فيؤثر أن يرزقا ذلك أوأ يزوأل عنه ،فهذا ل عذر له ،وأل
تجبل عليه إل النفوس الكافرة أوأ الشريرة ،فأما إن أحب أن يسبق أقرانه ،وأيطلع على ما
لم يدركوه ،فإنه ل يأثم بذلك ،فإنه لم
يؤثر زوأال ما عندهم عنهم ،بل أحب الرتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه ،كما لو استبق
عبدان إلى خدمة مولهما ،فأحب أحدهما أن يستبق .وأقد قال الله تعالى} :وأفى ذلك
فليتنافس المتنافسون{ ]المطففين[26 : )(7.وأفى “الصحيحين” من حديث ابن عمر رضى
الله عنهما ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :ل حسد إل في اثنتين :رجل
آتاه الله عز وأجل القرآن ،فهو يقوم به آناء الليل وأآناء النهار ،وأرجل آتاه الله مالً ،فهو
ينفقه في الحق آناء الليل وأآناء النهار".
وأالحسد له أسباب:
أحدها :العداوأة ،وأالتكبر ،وأالعجب ،وأحب الرياسة ،وأخبث النفس،وأبخلها ،وأأشدها :العداوأة
وأالبغضاء ،فإن من آذاه إنسان بسبب من السباب ،وأخالفه في غرضه ،أبغضه قلبه،
وأرسخ في نفسه الحقد.
وأالحقد يقتضي التشفي وأالنتقام ،فمهما أصاب عدوأه من البلء فرح بذلك ،وأظنه مكافأة
من الله تعالى له ،وأمهما أصابته نقمة ساءه ذلك ،فالحسد يلزم البغض وأالعداوأة وأل
يفارقهما ،وأإنما غاية التقى أن ل يبغي ،وأأن يكره ذلك من نفسه ،فأما أن يبغض إنسانا ً
فيستوي عنده مسرته وأمساءته ،فهذا غير ممكن.
وأأما الكبر ،فهو أن يصيب بعض نظرائه مال ً أوأ وألية ،فيخافا أن يتكبر عليه وأل يطيق
تكبره ،وأأن يكون من أصاب ذلك دوأنه ،فل يحتمل ترفعه عليه أوأ مساوأاته .وأكان حسد
الكفار لرسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قريبا ً من ذلك .قال الله تعالى} :وأقالوا لول
نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم{ ]الزخرفا[31 : وأقال في حق المؤمنين:
} أهؤلء من الله عليهم من بيننا{ ] النعام[53 : وأقال في آية أخرى } :ما أنتم إل بشر مثلنا{
]يس [15 : وأقال } :وألئن أطعتم بشرا ً مثلكم إنكم إذا ً لخاسروأن{] المؤمنون [34 : فعجبوا
وأأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوأهم.
وأأما حب الرياسة وأالجاه ،فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من
الفنون ،إذا غلب عليه حب الثناء ،وأاستفزه الفرح بما يمدح به ،من أنه أوأحد العصر،
وأفريد الدهر في فنه ،إذا سمع بنظير له في أقصى العالم ،ساءه ذلك وأأحب موته ،أوأ
زوأال النعمة التي بها يشاركه في علم ،أوأ شجاعة ،أوأ عبادة ،أوأ صناعة ،أوأ ثروأة ،أوأ غير
ذلك ،وأليس ذلك إل لمحض الرياسة بدعوى النفراد .وأقد كان علماء اليهود ينكروأن
معرفة النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم ،وأل يؤمنون خوفا ً من بطلن رئاستهم.وأأما خبث
النفس وأشحها على عباد الله ،فإنك تجد من الناس من ل يشتغل برئاسة وأل تكبر ،وأإذا
وأصف عند حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به ،شق عليه ذلك ،وأإذا
وأصف له اضطراب أمور الناس وأإدبارهم ،وأتنغيص عيشهم ،فرح به ،فهو أبدا ً يحب الدبار
لغيره ،وأيبخل بنعمة الله على عباده ،كأنهم يأخذوأن ذلك من ملكه وأخزانته.
وأقد قال بعض العلماء :البخيل من يبخل بمال نفسه ،وأالشحيح الذي يبخل بمال غيره،
فهذا يبخل بنعمى الله على عباده الذين ليس بينهم وأبينه عداوأة وأل رابطة ،وأهذا ليس له
سبب إل خبث النفس وأرداءة الطبع ،وأهذا معالجته شديدة ،لنه ليس له سبب عارض،
فيعمل على إزالته ،بل سببه خبث الجبلة ،فيعسر إزالته ،فهذه أسباب الحسد.
وأاعلم :أنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم السباب التي ذكرناها ،وأيقع ذلك غالبا ً بين
القران ،وأالمثال ،وأالخوة ،وأبنى العم ،لن سبب التحاسد توارد الغراض على مقاصد
يحصل فيها ،فيثور التنافر وأالتباغض.وألذلك ترى العالم يحسد العالم دوأن العابد ،وأالعابد
يحسد العابد دوأن العالم ،وأالتاجر يحسد التاجر ،وأالسكافا يحسد السكافا ،وأل يحسد
البزاز إل أن يكون سبب آخر ،لن مقصد كل وأاحد من هؤلء غير مقصد الخر.فأصل
العداوأة التزاحم على غرض وأاحد ،وأالغرض الواحد ل يجمع متباعدين ،إذ ل رابطة بين
شخصين في بلدين ،وأل يكون بينهما محاسدة إل من اشتد حرصه على الجاه ،فإنه يحسد
كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها.وأمنشأ جميع ذلك حب الدنيا،
فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين ،وأأما الخرة ،فل ضيق فيها ،فإن من احب
معرفة الله تعالى ،وأملئكته ،وأأنبياءه ،وأملكوت أرضه وأسماءه ،لم يحسد غيره إذا عرفا
ذلك ،لن المعرفة ل تضيق على العارفين ،بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم،
وأيفرح بمعرفة غيره ،فلذلك ل يكون بين علماء الدين محاسدة ،لن مقصودهم معرفة
الله سبحانه ،وأهو بحر وأاسع ل ضيق فيه ،وأغرضهم المنزلة عند الله ،وأل ضيق فيما عند
الله ،لن أجل ما عند الله من النعيم لذة لقائه ،وأليس فيه ممانعة وأل مزاحمة.وأل يضيق
بعض الناظرين على بعض ،بل يزيد النس بكثرتهم ،إل أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال
وأالجاه تحاسدوأا.وأالفرقا بين العلم وأالمال ،أن المال ل يحل في يد ما لم يرتحل عن يد
أخرى ،وأالعلم مستقر في قلب العلم ،وأيحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل عن
قلبه ،وأل نهاية له ،فمن عود نفسه الفكر في جلل الله وأعظمته وأملكه ،وأصار ذلك عنده
ألذ من كل نعيم ،لنه لم يكن ممنوعا ً عنه وأل مزاحما ً فيه ،فل يكون في قلبه حسد لحد
من الخلق ،لن غيره لو عرفا مثل معرفته لم ينقص من لذته ،فقد عرفت أنه ل حسد إل
في المتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل.وألهذا ل ترى الناس يتزاحمون على
النظر إلى زينة السماء ،لنها وأاسعة القطار ،وأافيه بجميع البصار ،فعليك إن كنت شفيقا ً
على نفسك أن تطلب نعيما ً ل زحمة فيه ،وألذة ل تتكدر ،وأل يوجد ذلك في الدنيا إل في
معرفة الله تعالى وأعجائب ملكوته ،وأل ينال ذلك في المعرفة أيضًا ،فإن كنت ل تشتاقا
إلى معرفة الله سبحانه ،وألم تجد لذتها ،وأضعفت فيها رغبتك ،فلست برجل ،إنما هذا
شأن الرجال ،لن الشوقا بعد الذوأقا ،وأمن لم يذقا لم يعرفا ،وأمن لم يعرفا لم يشتق،
وأمن لم يشتق لم يطلب ،وأمن لم يطلب لم يدرك ،وأمن لم يدرك بقى من المحروأمين
.وأاعلم :أن الحسد من المراض العظيمة للقلوب ،وأل تداوأى أمراض القلوب إل بالعلم
وأالعمل ،وأالعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرفا حقيقة أن الحسد ضرر عليك في الدين
وأالدنيا ،وأأنه ل يضر المحسود في الدين وأل في الدنيا ،بل ينتفع به ،وأالنعمة ل تزوأل عن
المحسود بحسدك ،وألو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقل ً أن تحذر
من الحسد ،لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع ،فكيف وأأنت تعلم ما فيه من العذاب
في الخرة.وأبيان قولنا :أن المحسود ل ضرر عليه في الدين وأل في الدنيا ،بل ينتفع
بحسدك في الدين وأالدنيا ،لن ما قدره الله من نعمة ل بد أن تدوأم إلى اجله الذي قدره،
وأل ضرر عليه في البخرة ،لنه ل يأثم هو بذلك ،بل ينتفع به ،لنه مظلوم من جهتك.ل
سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول وأالفعل وأأما منفعته في الدنيا ،فهو من أهم أغراض
الخلق غم العداء ،وأل عذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد .فإذا تأملت ما ذكرنا ،علمت
أنك عدوأ لنفسك ،وأهو صديق لعدوأك ،فما مثلك إل كمثل من يرمى حجرا ً عدوأه ليصيب
مقتله فل يصيبه ،وأيرجع الحجر على حدقته اليمنى فيقلعها ،فيزيد غضبه ،فيعود وأيرميه
بحجر أشد من الوأل ،فيرجع الحجر على عينه الخرى فيعميها ،فيزداد غيظه ،فيرميه
الثالثة ،فيعود الحجر على رأسه فيشدخه ،وأعدوأه سالم يضحكك منه ،فهذه الدوأية
العلمية ،فإذا تفكر النسان فيها ،أخمدت نار الحسد في قلبه.وأأما العمل النافع فيه ،فهو
أن يتكلف نقيض ما يأمر به الحسد فإذا بعثه على الحقد وأالقدح في المحسود ،كلف
نفسه المدح له ،وأالثناء عليه ،وأإن حمله الكبر ،ألزم نفسه التواضع له ،وأإن بعثه على كف
النعام عنه ،ألزم نفسه زيادة في النعام.وأقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن شخصا ً
اغتابهم ،أهدوأا إليه هدية.فهذه أدوأية نافعة للحسد جدًا ،إل أنها مرة ،وأربما يسهل شربها
أن يعلم أنه إذا كلن ل يكون كل ما تريد ،فأرد ما يكون ،وأهذا هو الدوأاء الكلى ،وأالله
أعلم.
اليات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا ،وأالتزهيد فيها ،وأضرب المثال لها كثيرة
كقوله تعالى } :زين للناس حب الشهوات من النساء وأالبنين وأالقناطير المقنطرة من الذهب
وأالفضة وأالخيل المسومة وأالنعام وأالحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وأالله عنده حسن المآب* قل
أؤنبئكم بخير من ذلكم{]آل عمران[14-15: ،وأقوله} :وأما الحياة الدنيا إل متاع الغروأر{ ]آل
عمران[185 : ،وأقوله} :إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء{ الية ]يونس[24:،
وأقوله} :اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب وألهو وأزينة{ ]الحديد[20: ،وأقوله} :وأإن كل ذلك لما متاع
الحياة الدنيا وأالخرة عند ربك للمتقين{ ]الزخرفا[35: ،وأقوله} :فأعرض عن من تولى عن ذكرنا
وألم يرد إل الحياة الدنيا* ذلك مبلغهم من العلم{ ]النجم[29-30 :.وأأما الحاديث ،ففى
"الصحيحين" من روأاية المستور بن شداد ،قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم" :ما الدنيا في الخرة إل كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ،فلينظر بم
ترجع؟"وأفى حديث آخر :الدنيا سجن المؤمن وأجنة الكافر" روأاه مسلم.وأفى حديث آخر:
"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا ً شربة ماء" .روأاه الترمذى
وأصححه.وأفى حديث آخر" :الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان لله منها"
وأروأى أبو موسى ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :من أحب دنياه ،أضر
بآخرته ،وأمن أحب آخرته أضر بدنياه ،فآثروأا ما بقى على ما يفنى"))رجاله ثقات لكنه
منقطع أخرجه أحمد وأابن حبان وأالحاكم(.(وأكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم
الدنيا كتابا ً طويل ً فيه :أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام ،وأإنما أنزل إليها آدم
عقوبة ،فاحذرها يا أمير المؤمنين ،فإن الزاد منها تركها ،وأالغنى فيها فقرها ،تذل من
أعزها ،وأتفقر من جمعها ،كالسم يأكله من ل يعرفها وأهو حتفه ،فاحذر هذه الدار الغروأرة
الخيالة الخادعة ،وأكن آثر ما تكون فيها ،أحذر ما تكون لها ،سروأرها مشوب بالحزن،
وأصفوها مشوب بالكدر ،فلو كان الخالق لم يخبر عنه خبرًا ،وألم يضرب له مثل ً لكانت قد
أيقظت النائم ،وأنبهت الغافل ،فكيف وأقد جاء من الله عز وأجل وأعنه زاجر ،وأفيها وأاعظ،
فما لها عند الله سبحانه قدر وأل وأزن ،وأما نظر إليها منذ خلقها.
وألقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وأآله وأسلم مفاتيحها وأخزائنها ،ل ينقصها عند
الله جناح بعوضة ،فأبى أن يقبلها ،وأكره أن يحب ما أبغض خالقه ،أوأ يرفع ما وأضع مليكه،
زوأاها الله عن الصالحين اختيارًا ،وأبسطها لعدائه اغترارًا ،أفيظن المغروأر بها المقتدر
عليها أنه أكرم بها؟ وأنسى ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وأآله وأسلم حين شد على
بطنه الحجر ،وأالله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا ،فلم يخف أن يكون قد مكر به،
إل كان قد نقص عقله ،وأعجز رأيه وأما امسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها ،إل
كان قد نقص عقله وأعجز رأيه.
وأقال مالك بن دينار :اتقوا السحارة ،فإنها تسحر قلوب العلماء ،يعنى الدنيا.وأمن أمثلة
الدنيا :قال يونس بن عبيد :شبهت الدنيا كرجل نائم ،فرأى في منامه ما يكره وأما يحب،
فبينما هو كذلك انتبه.
وأمثل هذا قولهم :الناس نيام ،فإذا ماتوا انتبهوا.وأالمعنى انهم ينتبهون بالموت وأليس في
أيديهم شئ مما ركنوا إليه وأفرحوا به.قيل :إن عيسى عليه السلم رأى الدنيا في صورة
عجوز هتماء))(8عليها من كل زينة .فقال لها :كم تزوأجت؟ قالت :ل أحصيهم .قال :فكلهم
مات عنك أوأ كلهم طلقك؟ قالت :بل كلهم قتلت ،فقال عيسى عليه السلم :بؤسا ً
لزوأاجك الباقين ،كيف ل يعتبروأن بأزوأاجك الماضين ،كيف تهلكينهم وأاحدا ً بعد وأاحد ،وأل
يكونون منك على حذر.وأروأى ابن عباس رضى الله عنه قال :يؤتى بالدنيا يوم القيامة في
صورة عجوز شمطاء)(9زرقاء أنيابها بادية ،مشوه خلقها ،فتشرفا على الخلق ،فيقال :هل
تعرفون هذه؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه .فيقال :هذه الدنيا التي تشاجرتم
عليها وأبها تقاطعتم الرحام ،وأبها تحاسدتم وأتباغضتم وأاغتررتم ،ثم تقذفا في جهنم،
فتنادى :يا رب أين أتباعي وأأشياعي؟ فيقول :ألحقوا بها أتباعها وأأشياعها.وأعن أبى العلء،
قال :رأيت في النوم عجوزا ً كبيرة عليها من كل زينة ،وأالناس عكوفا عليها متعجبون،
ينظروأن إليها ،فقلت :أعوذ بالله من شرك .قالت :إن أحببت أن تعاذ من شرى فأبغض
الدرهم.
وأحال أخرى ،وأهى من ساعة موتك إلى ما ل نهاية له في البقاء السرمدي ،فإن لنفسك
وأجود ا ً بعد خروأجها من بدنك ،إما في الجنة أوأ النار ،وأهو الخلود الدائم.
وأبين هاتين الحالتين حالة متوسطة ،وأهى أيام حياتك في الدنيا ،فانظر إلى مقدار ذلك،
وأأنسبه إلى الحالتين ،تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا.وأمن رأى الدنيا
بهذه العين لم يركن لها ،وألم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وأضيق ،أوأ سعة وأرفاهية،
وألهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم لبنة على لبنة ،وأل قصبة على قصبة
وأقال" :مالي وأللدنيا؟ إنما مثلى وأمثل الدنيا كراكب قال )(10))من القيلولة ،وأهى النوم
في الظهيرة(.( "تحت الشجرة ،ثم راح وأتركها".
وأقال عيس عليه السلم الدنيا قنطرة فاعبروأها وأل تعمروأها .هذا مثل وأاضح ،فإن الحياة
الدنيا معبر إلى الخرة ،وأالمهد هو الركن الوأل على أوأل القنطرة ،وأالحد هو الركن الثاني
على آخر القنطرة.وأمن الناس من قطع نصف القنطرة ،وأمن الناس من قطع ثلثيها،
وأمنهم من لم يبق له إل خطوة وأاحدة وأهو غافل عنها ،وأكيفما كان فلبد من العبور ،فمن
وأقف يبنى على القنطرة وأيزينها وأهو يستحث للعبور عليها ،فهو في غاية الجهل وأالحمق.
وأقيل :مثال طالب الدنيا ،مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شرابا ً ازداد عطشا ً حتى يقتله.
وأكان بعض السلف يقول لصحابه :انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة
فيقول :انظروأا إلى ثمارهم وأدجاجهم وأعسلهم وأسمنهم.
مثال آخر :روأى عن الحسن قال :بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه
قال" :إنما مثلى وأمثلكم وأمثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء ،حتى إذ لم يدوأروأا ما
سلكوا منها اكثر ما بقى ،أنفذوأا الزاد وأاخسروأا الظهر ،وأابقوا بين ظاهراني المفازة ،ل
زاد وأل حمولة ،فأيقنوا بالهلكة ،فبينما هم كذلك ،إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه،
فقالوا :إن هذا قريب عهد بريف ،وأما جاء هذا إل من قريب ،فلما انتهى إليهم قال :يا
هؤلء ،علم أنتم؟ قالوا :على ما ترى .قال :عهودكم وأمواثيقكم بالله .قال :فأعطوه
عهودهم وأمواثيقهم بالله ،ثم قال :يا هؤلء ،الرحيل .قالوا :إلى أين؟ قال :إلى ماء ليس
كمائكم ،وأإلى رياض ليست كرياضكم ،فقال أكثر القوم :وأالله ما وأجدنا هذا حتى ظننا أن
لن نجده ،وأما نصنع بعيش خير من هذا؟ وأقالت طائفة قليلة :ألم تعطوا هذا الرجل
عهودكم وأمواثيقكم بالله ل تعصونه؟ وأقد صدقكم في أوأل حديثه ،فوالله ليصدقنكم في
آخره .قال :فراح فيمن اتبعه ،وأتخلف بقيتهم فنزل عدوأ ،فأصبحوا بين أسير وأقتيل )
(11وأفى "الصحيحين" من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال :قال رسول الله صلى
الله عليه وأآله وأسلم" :إنما مثلى وأمثل ما بعثتي الله به ،كمثل رجل أتى قومه فقال :يا
قوم ،إني رأيت الجيش بعينى ،وأأنا النذير العريان ،فالنجاء ،فأطاعه طائفة من قومه،
فأدلجوا وأانطلقوا على مهلهم ،فنجوا ،وأكذبته طائفة منهم ،فأصبحوا مكانهم .فصبحهم
الجيش في مكانهم ،فأهلكهم وأاجتاحهم ،فذلك مثل من أطاعني وأاتبع ما جئت به ،وأمثل
من عصاني وأكذب بما جئت به من حق".
قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا ،فاعتقدوأا أن الشارة إلى هذه الموجودات التي
خلقت للمنافع ،فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم وأالمشارب.وأقد وأضع الله في الطباع
توقان النفس إلى ما يصلحها ،فكلما تاقت منعوها ،ظنا ً منهم أن هذا هو الزهد المراد،
وأجهل بحقوقا النفس ،وأعلى هذا أكثر المتزهدين ،وأإنما فعلوا ذلك لقلة العلم ،وأنحن
نصدع بالحق من غير محاباة فنقول:اعلم :أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للنسان،
فيها حظ ،وأهى الرض وأما عليها ،فإن الرض مسكن الدنى ،وأما عليها ملبس وأمطعم
وأمشرب وأمنكح ،وأكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وأجل ،فإنه ل يبقى إل
بهذه المصالح ،كما ل تبقى الناقة في طريق الحج إل بما يصلحها ،فمن تناوأل منها ما
يصلحه على الوجه المأمور به مدح ،وأمن أخذ منها فوقا الحاجة يكتنف الشره وأقع في
الذم ،فإنه ليس للشره في تناوأل الدنيا وأجه ،لنه يخرج عن النفع إلى الذى ،وأيشغل عن
طلب الخرة فيفوت المقصود ،وأيصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة ،وأيرد لها الماء ،وأيغير
عليها ألوان الثياب ،وأينسى أن الرفقة قد سارت ،فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو
وأناقته.
وأل وأجه أيضا ً للتقصير في تناوأل الحاجة ،لن الناقة ل تقوى على السير إل بتناوأل ما
يصلحها ،فالطريق السليم هي الوسطى ،وأهى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من
ى ،فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وأقضاء لحقها.وأقد الزاد للسلوك ،وأإن كان مشته ً
كان سفيان الثوري يأكل في أوأقات من طيب الطعام ،وأيحمل معه في السفر الفالوذج
.وأكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الوأقات ،فيقول :إذا وأجدنا أكلنا أكل
الرجال ،وأإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال.وألينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم وأصحابته ،فإنهم ما كان لهم إفراط في تناوأل الدنيا ،وأل تفريط في حقوقا النفس
.وأينبغى أن يتلمح حظ النفس في المشتهى ،فإن كان في حظها حفظها وأما يقيمها
وأيصلحها وأينشطها للخير ،فل يمنعها منه ،وأإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة
بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم ،وأالزهد فيه يكون.
وأذم المال وأمدحه وأمدح القناعة وأالسخاء ،وأنحو ذلك اعلم :أن المال ل يذم لذاته بل يقع
الذم لمعنى من الدمي ،وأذلك المعنى إما شدة حرصه أوأ تناوأله من غير حلة ،أوأ حبسه
عن حقه ،أوأ إخراجه في غير وأجهه ،أوأ المفاخرة به ،وألهذا قال الله تعالى} :إنما أموالكم
وأأوألدكم فتنة{ ]النفال[28 :.وأفى "سنن الترمذى" عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم
أنه قال" :ما ذئبان جائعان أرسل في غنم ،بأفسد لها من حرص المرء على المال
وأالشرفا لدينه".وأقد كان السلف يخافون من فتنة المال .وأكان عمر رضى الله عنه إذا
رأى الفتوح يبكى وأيقول :ما حبس الله هذا عن نبيه صلى الله عليه وأآله وأسلم وأعن أبى
بكر لشر أراده الله بهما ،وأأعطاه عمر إرادة الخير له.وأقال يحيى بن معاذ :الدرهم
عقرب ،فإن لم تحسن رقيته فل تأخذه ،فإنه إن لدغك قتلك سمه .قيل :ما رقيته؟ قال:
أخذه من حله وأوأضعه في حقه .وأقال :مصيبتان للعبد في ماله عند موته ل تسمع الخلئق
بمثلهما ،قيل :ما هما؟ قال :يؤخذ منه كله ،وأيسأل عنه كله.
قد بينا أن المال ل يذم لذاته بل ينبغي أن يمدح ،لنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين
وأالدنيا ،وأقد سماه الله تعالى خيرًا ،وأهو قوام الدمي .قال الله تعالى في أوأل سورة
النساء} :وأل تؤتوا السفهاء )(12)) السفه :ضد الحلم ،وأأصله الخفة وأالحركة ،وأالسفيه:
الجاهل ،وأالمراد هنا :الجهالة بموضع النفقة من الرجال((( " أموالكم التي جعل الله لكم
قيامًا{ ]النساء[5:.وأقال سعيد بن المسيب رحمه الله :ل خير فيمن ل يريد جمع المال
من حله ،يكف به وأجهه عن الناس ،وأيصل به رحمه ،وأيعطى منه حقه.وأقال أبو إسحاقا
السبيعى :كانوا يروأن السعة عونا ً على الدين.وأقال سفيان :المال في زماننا هذا سلح
المؤمنين.وأحاصل المر؛ أن المال مثل حية فيها سم وأترياقا ،فترياقه فوائده ،وأغوائله
سمه ،فمن عرفا فوائده وأغوائله ،أمكنه أن يحترز من شره ،وأيستدر من خيره.
أحدها :أن ينفقه على نفسه ،إما في عبادة ،كالحج وأالجهاد ،وأإما في الستعانة على
العبادة ،كالمطعم وأالملبس وأالمسكن وأغيرها من ضروأرات المعيشة ،فإن هذه الحاجات
إذا لم تتيسر ،لم يتفرغ القلب للدين وأالعبادة ،وأما ل يتوصل إلى العبادة إل به ،فهو عبادة،
فأخذ الكفاية من الدنيا للستعانة على الدين من الفوائد الدينية ،وأل يدخل في هذا التنعم
وأالزيادة على الحاجة ،فإن ذلك من حظوظ الدنيا.
القسم الثاني :المروأءة ،وأنعنى بها صرفا المال إلى الغنياء وأالشرافا في ضيافة وأهدية
وأإعانة وأنحو ذلك ،وأهذا من الفوائد الدينية ،إذ به يكتسب العبد الخوان وأالصدقاء.
القسم الثالث :وأقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء ،وأثلب )(13السفهاء،
وأقطع ألسنتهم ،وأكف شرهم ،فهو من الفوائد الدينية ،فان النبى صلى الله عليه وأآله
وأسلم قال" :وأما وأقى الرجل به عرضه فهو صدقة وأهذا لنه يمنع المغتاب من معصية
الغيبة ،وأيحرز مما يثير كلمه من العداوأة التي تحمل في النتقام على مجاوأزة حدوأد
الشريعة.
لقسم الرابع :ما يعطيه أجرا ً على الستخدام ،فإن العمال التي يحتاج إليها النسان لمهنة
أسبابها كثيرة ،وألو تولها بنفسه ضاعت أوأقاته ،وأتعذر عليه سلوك الخرة بالفكر وأالذكر
اللذين هما أعلى مقامات السالك ،وأمن ل مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه
بنفسه ،فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ،وأيحصل بذلك غرضك ،فإن تشاغلك به غبن،
لن احتياجك إلى التشاغل بما ل يقوم به غيرك من العلم وأالعمل وأالذكر وأالفكر أشد.
النوع الثالث :ما ل يصرفه النسان إلى معين ،لكن يحصل عليه به خيرا ً عامًا ،كبناء
المساجد ،وأالقناطر ،وأالوقوفا المؤبدة ،فهذه جملة فوائد المال في الدين ،سوى ما
يتعلق بالحظوظ العاجلة ،من الخلص من ذل السؤال ،وأحقارة الفقر ،وأالعز بين الخلق،
وأالكرامة في القلوب ،وأالوقار
الوألى :أنه يجر إلى المعاصي غالبًا ،لنه من استشعر القدرة على المعصية ،انبعثت
داعيته إليها.
وأالمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي ،وأمتى يئس النسان من المعصية ،لم
تتحرك داعيته إليها.
وأمن العصمة أن ل تجد ،فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهى هلك ،وأإن صبر لقي شدة
في معاناة الصبر مع القدرة ،وأفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.
الثانية :أنه يحرك إلى التنعم في المباحات ،حتى تصير له عادة وأإلفًا ،فل يصبر عنها ،وأربما
لم يقدر على استدامتها إل بكسب فيه شبهة ،فيقتحم الشبهات ،وأيترقى إلى آفات من
المداهنة وأالنفاقا ،لن من كثر ماله خالط الناس ،وأإذا خالطهم لم يسلم من نفاقا وأعداوأة
وأحسد وأغيبة ،وأكل ذلك من الحاجة إلى إصلح المال.
الثالثة :وأهى التي ل ينفك عنها أحد ،وأهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله تعالى ،وأهذا هو الداء
العضال ،فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى ،وأالتفكير في جلله وأعظمته ،وأذلك يستدعى
قلبا ً فارغًا.وأصاحب الضيعة يمسي وأيصبح متفكرا ً في خصومة الفلحين وأمحاسبتهم
وأخيانتهم ،وأيتفكر في منازعة شركائه في الحدوأد وأالماء ،وأأعوان السلطان في الخراج
وأالجراء على التقصير في العمارة وأنحو ذلك.وأصاحب التجارة يمسي وأيصبح متفكرا ً في
خيانة شريكه ،وأتقصيره في العمل ،وأتضيعه المال.وأكذا سائر أصنافا المال ،حتى صاحب
المال المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه ،وأفى الخوفا عليه.وأمن له قوت يوم بيوم
فهو في سلمة من جميع ذلك ،وأهذا سوى ما يقاسيه أرباب الموال في الدنيا ،من
الخوفا وأالحزن وأالهم وأالغم وأالتعب.فإذا ترياقا المال أخذ القوت منه ،وأصرفا الباقي إلى
الخيرات ،وأما عدا ذلك سموم وأآفات.
الوأل :القتصاد في المعيشة ،وأالرفق في النفاقا ،فمن أراد اقناعة فينبغي أن يسد عن
نفسه أبواب الخروأج ما أمكنه ،وأيرد نفسه إلى ما لبد منه ،فيقنع بأي طعام كان ،وأقليل
من الدام ،وأثوب وأاحد ،وأيوطن نفسه على ذلك ،وأإن كان له عيال ،فيرد كل وأاحد إلى
هذا القدر.قال النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم“ :ما عال من اقتصد )(14وأفى حدث آخر:
"التدبير نصف العيش وأفى حديث آخر "ثلث منجيات :خشية الله تعالى في السر
وأالعلنية ،وأالقصد في الغنى وأالفقير ،وأالعدل في الرضى وأالغضب".
الثاني :إذا تيسر له في الحال ما يكفيه ،فل يكون شديد الضطراب لجل المستقبل
وأيعينه على ذلك قصر المل ،وأاليقين بأن رزقه ل بد أن يأتيه ،وأليعلم أن الشيطان يعده
الفقر.وأعن ابن مسعود رضى الله عنه ،عن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه
قال" :إن روأح القدس نفث في روأعى ،أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها
وأاجلها ،فاتقوا الله وأأجملوا في الطلب ،وأل يحملنكم استبطاء الرزقا أن تطلبوه بمعاصي
الله عز وأجل ،فإنه ل يدرك عند الله إل بطاعته".
وأإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزقا منه ،فل ينبغي أن يضطرب قلبه ،فإن في الحديث:
"أبى الله أن يرزقا عبده المؤمن إل من حيث ل يحتسب))أخرجه الديلمى من حديث أبى
هريرة من روأاية عمر بن راشد ،وأهو ضعيف جدًا ،وأقال البيهقى :ضعيف بالمرة ،وأأوأرده
ابن لجوزي في "الموضوعات"ز وأروأاه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث على بإسناد
وأاه(.(ا
الرابع :أن يكثر تفكره في تنعم اليهود وأالنصارى وأأراذل الناس وأالحمقى منهم ،ثم ينظر
إلى أحوال النبياء وأالوألياء وأالصالحين ،وأيسمع أحاديثهم ،وأيطالع أحوالهم ،وأيخير عقله
بين مشابهة أراذل العالمين ،أوأ صفوة الخلق عند الله تعالى ،حتى يهون عليه الصبر على
القليل وأالقناعة باليسير ،وأأنه إن تنعم بالكل فالبهيمة أكثر أكل ً منه ،وأإن تنعم بالوطء
فالعصفور أكثر سفادا ً )(15 منه.
الخامس :أن يفهم ما في جمع المال من الخطر ،كما ذكرنا في آفات المال ،وأينظر إلى
ثواب الفقر ،وأيتم ذلك بأن ينظر أبدا ً من دوأنه في الدنيا ،وأإلى من فوقه في الدين ،كما
جاء في الحديث من روأاية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال" :انظروأا
إلى من هو أسفل منكم ،وأل تنظروأا إلى من هو فوقكم ،فإنه أجدر أن ل تزدروأا نعمة الله
عليكم".عماد المر :الصبر وأقصر المل ،وأأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلئل
لتمتع دائم ،فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدوأاء لما يرجو من الشفاء.
ينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة كما ذكرنا ،وألمن وأجده أن يستعمل السخاء
وأاليثار وأاصطناع المعروأفا ،فإن السخاء أخلقا النبياء ،وأهو أصل من أصول النجاة.وأعن
جابر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :قال جبريل عليه
السلم :قال الله عز وأجل :السلم دين ارتضيته لنفسي ،وألن يصلحه إل السخاء وأحسن
الخلق ،فأكرموه بهما ما صحبتموه وأفى حديث آخر :عن ابن عباس رضى الله عنه أن
النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال" :تجافوا عن ذنوب السخي ،فإن الله آخذ بيده كلما
عثر وأفى حديث آخر" :الجنة دار السخياء ،وأما جبل وألى الله إل على السخاء وأعن أنس
رضى الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :إن بدلء أمتي لم
يدخلوا الجنة بعبادة وأل بصيام ،وألكن دخلوها بسخاء النفس ،وأسلمة الصدر ،وأالنصح
للمسلمين وأفى حديث آخر" :عليكم باصطناع المعروأفا ،فإنه يمنع مصارع السوء".وأقال
ابن السماك :عجبت ممن يشترى المماليك بماله ،كيف ل يشترى الحرار بمعروأفه؟!
قد صح عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة ،وأأنه
ما سئل شيئا ً قط فقال :ل وأأن رجل ً سأله ،فأعطاه غنما ً بين جبلين ،فأتى الرجل قومه،
فقال :يا قوم :أسلموا ،فإن محمدا ً يعطى عطاء من ل يخشى الفقر.وأقيل :كان لعثمان
على طلحة رضى الله عنهما خمسون ألف درهم ،فخرج إلى المسجد ،فقال له طلحة :قد
تهيأ مالك فاقبضه ،فقال :هو لك يا أبا محمد معونة على مروأءتك.وأجاء أعرابي إلى طلحة،
فسأله ،وأتعرفا إليه برحم ،فقال :إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك ،فأعطاه ثلثمائة
ألف درهم.وأقال عروأة :رأيت عائشة رضى الله عنها تقسم سبعين ألفا ،وأهى ترقع درعها
ى
.وأروأى أنها قسمت في يوم ثمانين ألف بين الناس ،فلما أمست قالت :يا جارية عل ّ
فطوري ،فجاءتها بخبز وأزيت :فقالت لها أم درة :أما استطعت فيما قسمت اليوم أن
تشترى لنا بدرهم لحما ً نفطر عليه!؟ فقالت :لو ذكرتني لفعلت.وأاشترى عبد الله بن
عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوقا بتسعين ألف درهم ،فلما كان الليل ،سمع
بكاء أهل خالد .فقال لهله :ما لهؤلء؟ قالوا :يبكون على دراهم ،قال :يا غلم :ائتهم،
فأعلمهم أن الدار وأالمال لهم جميعًا.
وأبعث رجل إلى عبد الله أنه قد وأصف لى لبن البقر ،فابعث لى بقرة أشرب من لبنها.
فبعث إليه بسبعمائة بقرة وأرعاتها ،وأقال :القرية التي كانت ترعى فيها لك.
وأدخل على بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه ،فجعل يبكى :فقال :ما
شأنك؟ قال :على دين ،قال :كم هو؟ قال :خمسة عشر ألف دينار ،أوأ بضعة عشر ألف
دينار .قال :فهي على.وأجاء رجل إلى معن ،فسأله ،فقال :يا غلم :ناقتي الفلنية وأألف
دينار ،فدفعها إليه وأهو ل يعرفه.وأبلغنا عن معن أن شاعر أقام ببابه مدة فلم يتهيأ له
لقاؤه ،فقال لبعض خدمه :إذا دخل المير البستان فعرفني ،قال :فلما دخل عرفه ،فكتب
الشاعر بيتا ً على خشبة ،وأألقاها في الماء الذي يدخل البستان ،فلما بصر معن بالخشية،
أخذها ،فإذا فيها مكتوب:
أيا جود معن ناج معنا ً بحاجتي فما لى إلى معن سواك شفيع
فقال من صاحب هذه؟ فدعا الرجل ،فقال له :كيف قلت؟ فقاله ،فأمر له بعشر بدر)
(16 ،فأخذها وأوأضع المير الخشبة تحت بساطة فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت
البساط ،وأقرأ ما فيها وأدعا الرجل ،فدفع إليه مائة ألف درهم أخرى ،فلما أخذها الرجل،
خافا أن يعود فيستعيدها منه ،فخرج ،فما كان اليوم الثالث ،قرأ ما فيها ،فدعا الرجل
فطلب فلم يوجد .فقال معن :حق على أن أعطيه حتى ل يبقى في بيت مالي درهم وأل
دينار.
وأمرض قيس بن سعد بن عبادة ،فاستبطأ إخوانه ،فقيل له ،إنهم يستحيون مما لك عليهم
من الدين .فقال :أخزى الله مال ً يمنع الخوان من الزيارة ،ثم أمر مناديًا ،ينادى :من كان
عليه لقيس حق ،فهو منه في حل ،قال :فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده.
وأقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله ،فأمر له بمائة ألف درهم ،فبكى ،فقال :سعيد :ما
يبكيك؟ قال :أبكى على الرض أن تأكل مثلك ،فأمر له بمائة ألف أخرى.
عن أبى سعيد قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم " :خصلتان ل تجتمعان في
مؤمن :البخل وأسوء الخلق".
وأقال صلى الله عليه وأآله وأسلم " :ل يجتمع الشح وأاليمان في قلب عبد أبدًا"
وأفى أفراد مسلم ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه كان يقول " :اللهم إني أعوذ
بك من الجبن وأالبخل".وأروأى جابر رضى الله عنه ،قال :قال النبى صلى الله عليه وأآله
وأسلم لبنى سلمة " :من سيدكم؟ قالوا :جد بن قيس على أننا نبخله ،قال :وأأي داء أدوأأ
من البخل؟ بل سيدكم بشر بن البراء بن معروأر"وأهي أصح ما من ذكر عمروأ بن
الجموح ،وأغلط بعض الروأاة ،فقال :البراء بن معروأر ،البراء مات قبل الهجرة.وأعن
النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :ثلث مهلكات :شح مطاع ،وأهوىً متبع،
وأإعجاب المرء بنفسه".
وأقال سلمان :إذا مات السخي ،قالت الرض وأالحفظة :رب تجاوأز عن عبدك فى الدنيا
بسخائه ،وأإذا مات البخيل قالت :اللهم احجب هذا العبد عن الجنة ،كما حجب عبادك عما
جعلت في يديه من الدنيا.وأقال بعض الحكماء :من كان بخيل ً وأرث ماله عدوأه.وأذم أعرابي
قوما ً فقال :يصومون عن المعروأفا وأيفطروأن على الفواحش.
روأى عن ابن عباس رضى الله عنه قال :كان الحاجب رجل ً من أجل العرب ،وأكان بخيلً،
وأكان ل يوقد نارا ً بليل كراهة أن يراها راء فينتفع بضوئها ،فإذا احتاج إلى إيقادها فأوأقد ثم
بصر بمستضيئ بها أطفأها.وأقيل :كان مروأان بن أبى حفصة من أبخل الناس ،فخرج يريد
المهدى ،فقالت له امرأته :مالي عليك إن رجعت بالجائزة؟قال :إن أعطيت مائة ألف
درهم ،أعطيتك درهمًا ،فأعطى ستين ألف درهم .فأعطاها أربعة دوأانق.وأقيل :كان بعض
البخلء موسرا ً كثير الموال ،وأكان ينظر في دقائق الشياء فاشترى شيئا ً من الحوائج،
وأدعا حمال ً وأقال :بكم تحمل هذه الحوائج؟ قال :بحبة :قال :أبخس .قال ما أقل من حبة؟
ل أدرى ما أقول .قال :نشترى بالحبة جزرًا ،فنجلس جميعا ً فنأكله.
فأرفع درجات السخاء اليثار ،وأهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه.وأأشد درجات البخل ،أن
يبخل النسان على نفسه مع الحاجة ،فكم من بخيل يمسك المال ،وأيمرض فل يتداوأى،
وأيشتهى الشهوة فيمنعه منها البخل.فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة ،وأبين ما
يؤثر على نفسه مع الحاجة ،فالخلقا عطايا يضعها الله عز وأجل حيث يشاء.وأليس بعد
اليثار درجة في السخاء .وأقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وأآله وأسلم باليثار ،فقال} :وأيؤثروأن على أنفسهم وألو كان بهم خصاصة{ ]الحشر[8: وأكان
سبب نزوأل هذه الية قصة أبى طلحة ،لما آثر ذلك الرجل المجهود بقوته وأقوت صبيانه،
وأحكايته مشهورة.
وأاستشهد باليرموك عكرمة بن أبى جهل ،وأسهيل بن عمروأ ،وأالحارث بن هشام ،وأجماعة
من بنى المغيرة ،فأتوا بماٍءء وأهم صرعى ،فتدافعوه حتى ماتوا وألم يذقوه.أتى عكرمة
بالماء فنظر إلى سهيل بن عمروأ ينظر إليه ،فقال :ابدأ بهذا ،وأنظر سهيل إلى الحارث
ينظر إليه ،فقال :ابدأ بهذا ،وأكل منهم يؤثر الخر على نفسه بالشربة ،فماتوا كلهم قبل
أن يشربوا ،فمر بهم خالد بن الوليد فقال :بنفسي أنتم.وأأهدى إلى الرجل من الصحابة
رضى الله عنه رأس شاة ،فقال :إن أخي أحوج إليه منى ،فبعث به إلى الرجل ،فبعث به
ذلك إلى آخر ،حتى تداوألته سبع أبيات ،فرجع إلى الوأل.خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة
له ،فنزل على نخل لقوم فيها غلم أسود يعمل فيها ،إذ أتى الغلم بقوته ،فدخل الحائط
كلب ،فدنا من الغلم فرمى إليه قرصا ُ فأكله ،ثم رمى إليه قرصا ً آخر فأكله ،ثم رمى إليه
ثالث فأكله ،وأعبد الله ينظر فقال :يا غلم! كم قوتك كل يوم؟ قال :ما رأيت ،قال :فلم
آثرت به هذا الكلب؟ قال :ماهى بأرض كلب ،جاء من مسافة بعيدة جائعا ً فكرهت رده،
قال :فما أنت صانع؟ قال :أطوي يومي هذا ،فقال عبد الله بن جعفر :ألم على السخاء
وأهذا أسخى منى ،فاشترى الحائط وأما فيه من اللت،
وأاشترى الغلم وأأعتقه وأوأهبه له.وأاجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وأبين أيديهم
أرغفة معدوأدة ل تكفيهم فكسروأا الرغفان ،وأأطفؤوأا السراج ،وأجلسوا للكل ،فلما رفع
الطعام ،إذا هو بحاله ،لم يأكل أحد منهم شيئا ً إيثارا ً لصحابه.
وأقد تكلم الناس في حد البخل وأالسخاء ،فذهب قوم إلى أن حد البخل منع الواجب ،وأأن
من أدى ما يجب عليه ،فليس ببخيل ،وأهذا غير كافا ،فإن من لم يسلم إلى عياله إل
القدر الذي يفرضه الحاكم ،ثم يضايقهم في زيادة لقمة أوأ ثمرة فإنه معدوأد من البخلء،
فالصحيح أن البراءة من البخل تحصل بفعل الواجب في الشرع وأاللزم بطريق المروأءة
مع طيب القلب بالبذل.فأما الواجب بالشرع ،فهو الزكاة ،وأنفقة العيال.وأأما اللزم بطريق
المروأءة ،فهو ترك المضايقة ،وأالستقصاء عن المحقرات فإن ذلك يستفتح ،وأيختلف ذلك
باختلفا الحوال وأالشخاص ،فقد يستقبح من الغنى ما ل يستقبح من الفقير ،وأيستقبح
من الرجل المضايقة لهله وأأقاربه وأجيرانه مال يستقبح من الجانب ،فالبخيل الذي يمنع
مال ينبغي أن يمنع ،إما بحكم الشرع أوأ لزم المروأءة .وأمن قام بواجب الشرع ،وألزم
المروأءة ،فقد تبرأ من البخل ،لكن ل يتصف بصفة الجود مالم يبذل زيادة على ذلك.قال
بعضهم :الجواد :هو الذي يعطى بل من .وأقيل :هو الذي يفرح بالعطاء.فأما علج البخل،
فاعلم أن سبب البخل حب المال.
أحدهما :حب الشهوات التي ل وأصول إليها إل بالمال مع طول المل ،وأإن كان قصير
المل وأله وألد ،فإنه يقوم مقام طول المل.
الثاني :أن يحب عين المال ،فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره لو اقتصر على ما
جرت عادته به ،وأيفضل معه آلفا ،وأيكون شيخا ً ل وألد له ،ثم ل تسمح نفسه بإخراج
الواجب عليه ،وأل بصدقة تنفعه ،وأيعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه ،أوأ ضاع إن كان مدفونًا،
وأهذا مرض ل يرجى علجه.
وأمثال ذلك رجل أحب شخصًا ،فلما جاء رسوله ،أحب الرسول وأنسى محبوبه وأاشتغل
بالرسول ،فإن الدنيا رسول مبلغ إلى الحاجات ،فيحب الدنانير لذاتها ،وأينسى الحاجات،
وأهذا غاية الضلل.وأاعلم :أن علج كل علة بمضادة سببها.فيعالج حب الشهوات بالقناعة
وأالصبر ،وأطول المل بكثرة ذكر الموت.وأيعالج التفات القلب إلى الولد ،بأن من خلقه
معه رزقه ،وأكم ممن لم يرث شيئا أحسن حال ً ممن وأرث.فليحذر أن يترك لولده الخير،
وأيقدم على الله بشر ،فإن وألده إن كان صالحا فالله يتوله ،وأإن فاسقا ً فل يترك ما
يستعين به على المعاصي ،وأليردد على سمعه ما ذكرناه في ذم البخل وأمدح السخاء
.وأاعلم :أنه إذا كثرت المحبوبات في الدنيا ،كثرت المصائب بفقدها ،فمن عرفا آفة المال
لم يأنس به ،وأمن لم يأخذ منه إل قدر حاجته ،وأأمسك ذلك لحاجته فليس ببخيل ،وأالله
أعلم.
وأروأى عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال “ :إن أخوفا ما أخافا على أمتي
الرياء وأالشهوة الخفية" .وأهذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوفا على غوائلها كبار
العلماء ،فضل ً عن عامة العباد ،وأإنما يبتلى بها العلماء وأالعباد المشمروأن عن ساقا الجد
لسلوك سبيل الخرة ،فإنهم لما قهروأا نفوسهم وأفطموها عن الشهوات ،وأحملوها بالقهر
على أسباب العبادات ،لم تطمع في المعاصي الظاهرة ،الواقعة على الجوارح،
فاستراحت إلى التظاهر بالعلم وأالعمل ،وأوأجدت مخلصا ً من شدة المجاهدة في لذة
القبول عند الخلق ،وأنظرهم إليها بعين الوقار وأالتعظيم ،فأصابت النفس في ذلك لذة
عظيمة ،فاحتقرت فيها ترك المعاصي ،فأحدهم يظن أنه مخلص لله عز وأجل ،وأقد أثبت
في ديوان المنافقين ،وأهذه مكيدة عظيمة ل يسلم منها إل المقربون.
وألذلك قيل :آخر ما يخرج من رؤوأس الصديقين حب الرياسة ،وأإذا كان هو الداء الدفين،
الذي هو أعظم شبكة للشياطين ،وأجب شرح القول في سببه ،وأحقيقته وأأقسامه.اعلم:
أن أصل الجاه هو حب انتشار الصيت وأالشتهار ،وأذلك خطر عظيم ،وأالسلمة في
الخمول .وأأهل الخير لم يقصدوأا الشهرة ،وألم يتعرضوا لها وأل لسبابها ،فإن وأقعت من
قبل الله تعالى ،فروأا عنها ،وأكانوا يؤثروأن الخمول ،كما روأى عن ابن مسعود رضى الله
عنه أنه خرج من منزله ،فتبعه جماعة ،فالتفت إليهم وأقال :علم تتبعونى؟ فوالله لو
علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلن.وأفى لفظ آخر أنه قال :ارجعوا ،فإنه ذلة
للتابع وأفتنة للمتبوع.وأكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام .وأكان
خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته ،قام وأانصرفا كراهة الشهرة.وأقال الزهري
رحمه الله :ما رأينا الزهد في شىء أقل منه في الرياسة ،نرى الرجل يزهد في المطعم
وأالمشرب وأالمال ،فإذا نوزع الرياسة ،حامى عليها وأعادى.قال رجل لبشر الحافي رحمه
الله :أوأصني ،فقال :أخمل ذكرك ،وأطيب مطعمك .وأقال :ل يجد حلوأة الخرة رجل يحب
في الدنيا أن يعرفه الناس.وأقد روأى في “ صحيح مسلم” أن عمر بن سعد انطلق إلى
أبيه سعد وأهو في غنم له خارجا ً عن المدينة ،فلما رآه قال :أعوذ بالله من شر هذا
الراكب ،فلما أتاه قال :يا ابت أنزلت في إبلك وأغنمك وأتركت الناس يتنازعون الملك
بينهم؟ فضرب سعد في صدره وأقال :اسكت ،إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه
وأآله وأسلم يقول" :إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفي.
وأعن أبى أمامة رضى الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :إن
أغبط أوأليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ،ذوأ حظ من الصلة ،أحسن عبادة ربه ،وأأطاعه
في السر ،وأكان غامضا ً في الناس ،ل يشار إليه بالصابع ،وأكان رزقه كفافًا ،فصبر على
ذلك" ثم نقر بيده ،فقال " :عجلت منيته ،قلت بواكيه ،قل تراثه" حديث حسن.
وأكان ابن مسعود رضى الله عنه يوصى أصحابه ،فيقول :كونوا ينابيع العلم ،مصابيح
الهدى ،أحلس البيوت ،سرج الليل ،جدد القلوب ،خلقان الثياب ،تعرفون في السماء،
وأتخفون على أهل الرض.فإن قيل :هذا فيه فضيلة الخمول ،وأذم الشهرة وأأي شهرة أكثر
من شهرة النبياء ،وأأئمة العلماء.قلنا :المذموم طلب النسان الشهرة ،وأأما وأجودها من
جهة الله تعالى من غير طلب النسان فليس بمذموم ،غير أن في وأجودها فتنة على
الضعفاء ،فإن مثل الضعيف كالغريق القليل الصنعة في السباحة ،إذا تعلق به أحد غرقا
وأغرقه ،فأما السابح النحرير ،فإن تعلق الغرقى به سبب لنجاتهم وأخلصهم.
وأاعلم :أن الجاه وأالمال هما ركنا الدنيا ،وأمعنى المال ملك العيان المنتفع بها ،وأمعنى
الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها ،وأطاعتها ،وأالتصرفا فيها.فالجاه هو قيام المنزلة
في قلوب الناس ،وأهو اعتقاد القلوب نعتا ً من نعوت الكمال في هذا الشخص ،إما من
علم أوأ عبادة ،أوأ نسب أوأ قوة ،أوأ حسن صورة ،أوأ غير ذلك مما يعتقده الناس كمال ً
فبقدر ما يتعقدوأن له من ذلك ،تذعن قلوبهم لطاعته ،وأمدحه وأخدمته ،وأتوفيره .فبهذا
يبين أن الجاه محبوب بالطبع وأأنه أبلغ من حب المال ،لن المال ل يتعلق الغرض بعينه،
بل لكونه وأسيلة إلى المحبوبات ،فاشتراك الجاه وأالمال في السبب اقتضى الشتراك في
المحبة ،وأالجاه في ذلك أرجح من المال.وأاعلم :أن من الجاه ما يحمد وأما يذم ،لن من
المعلوم أنه لبد للنسان من مال لضروأرة المطعم وأالملبس وأنحوهما ،فكذلك لبد له من
جاه لضروأرة المعيشة مع الخلق ،لن النسان ل يخلو من الحاجة إلى سلطان يحرسه،
وأرفيق يعينه ،وأخادم يخدمه ،فحبه ذلك ليس بمذموم ،لن الجاه وأسيلة إلى الغراض،
كالمال.وأالتحقيق في هذا أن ل يكون المال وأالجاه محبوبين لعيانهما ،وأمتى طلب
النسان قيام جاهه لجل صفة هو متصف بها لغرض صحيح ،كقول يوسف عليه السلم} :
اجعلني على خزائن الرض إنى حفيظ عليم{ ]يوسف[55: أوأ قصد إخفاء عيب من عيوبه
لئل نزوأل منزلته ،كان ذلك مباحًا ،فإن طلب المنزلة باعتقادهم فيه صفة ليست فيه،
كالعلم ،وأالورع ،وأالنسب ،فذلك محظور.وأكذلك لو حسن الصلة بين أيديهم ليعتقدوأا فيه
الخشوع .فإنه يكون مرائيا ً بذلك ،فل يجوز تملك القلوب بتزوأير ،وأل تملك المال بتلبيس.
وأالقلوب أشد تغيرا ً من القدرة في غليانها ،فالشتغال بمراعاة ذلك غموم عاجلة ،مكدرة
لحفظ الجاه ،فل يفي مرجو الدنيا بمخوفها ،فضل ً عما يفوت في الخرة ،فهذا من حيث
العلم.
وأأما العلج من حيث العمل ،فهو إسقاط الجاه من قلوب الخلق بأفعال توجب ذلك ،كما
روأى أن بعض الملوك قصد زيارة رجل زاهد ،فلما قرب منه ،استدعى طعامه وأبقل ً وألبنا ً
وأجعل يأكل بشره ،وأيعظم اللقمة فلما نظر إليه الملك سقط من عينه.وألما أريد إبراهيم
النخعى على القضاء لبس قميصا ُ أحمر وأقعد في السوقا.وأاعلم :أن انقطاع الزاهد عن
الناس يوجب جاها ً له عندهم ،فإذا خافا من تلك الفتنة ،فليخالطهم على وأجه السلمة،
وأليمش في السواقا ،وأليشتر حاجته وأيحملها ،وأكان بشر الحافي يجلس إلى عطار ،وأكانوا
يراعون نواميس المتزهدين اليوم.
وأاعلم :أن أكثر الناس إنما هلكوا لخوفا مذمة الناس ،وأحب مدحهم ،فصارت حركاتهم
كلها على ما يوافق رضى الناس ،رجاء المدح ،وأخوفا ً من الذم ،وأذلك من المهلكات،
فوجبت معالجته.وأطريق ذلك أن ننظر إلى الصفة التي مدحت بها ،إن كانت موجودة فيك
فل يخلو :إما أن يكون مما يفرح به كالعلم وأالورع ،أوأ مما ل يصلح أن يفرح به ،كالجاه
وأالمال.أما الوأل :فينبغي أن يحذر من الخاتمة ،فإن الخوفا منها شغل عن الفرح بالمدح،
ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة ،فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك
بالعلم وأالتقوى ل بمدح الناس.وأأما القسم الثاني ،وأهو المدح بسبب الجاه وأالمال،
فالفرح بذلك ،كالفرح بنبات الرض الذي يصير عن قريب هشيمًا ،وأل يفرح بذلك إل من
قل عقله ،وأإن كنت خاليا ً عن الصفة التي مدحت بها ،ففرحك بالمدح غاية الجنون.
وأقد ذكرنا آفات المدح فيما تقدم في كتاب آفات اللسان ،فل ينبغي أن تفرح به ،بل
تكرهه ،كما كان السلف يكرهونه ،وأيغضبون على فاعله.
وأعلج كراهية الذم يفهم من علج حب المدح ،فإنه ضده ،وأالقول الوجيز فيه أن من
ذمك ،إما أن يكون صادقا ً فيما قال ،قاصدا ً للنصح لك ،فينبغي أن تتقلد منته ،وأل تغضب،
فإنه قد أهدى إليك عيوبك ،وأإن لم يقصد بذلك النصح ،فإنه يكون قد جنى هو على دينه،
وأانتفعت بقوله ،لنه عرفك ما لم تكن تعرفا ،وأذكرك من خطاياك ما نسيت ،وأإن افترى
عليك بما أنت منه بريء ،فينبغي أن تتفكر في ثلثة أشياء:
أحدهما :أنك إن خلوت من ذلك العيب لم تخل من أمثاله ،فما ستر الله عز وأجل عليك
من عيوبك أكثر ،فاشكره إذ لم يطلعه على عيوبك وأدفعه عنك فذكر ما أنت عنه بريء.
وأقد وأرد ذم الرياء في الكتاب وأالسنة ،من ذلك قوله تعالى } :فويل للمصلين الذين هم عن
صلتهم ساهون الذين هم يراءوأن{ ]الماعون[4-6 : وأقوله} :فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل
عمل ً صالحا ً وأل يشرك بعبادة ربه أحدا ً] .الكهف[110 : وأأما الحاديث ،فقد روأى عن رسول
الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ،فيما يروأيه عن ربه عز وأجل أنه قال " :من عمل عمل ً
أشرك فيه غيرى ،فهو للذي أشرك ،وأأنا منه بريء".وأفى حديث آخر :أن رسول الله صلى
الله عليه وأآله وأسلم قال" :إن أخوفا ما أخافا عليكم الشرك الصغر .قالوا :يا رسول
الله :وأما الشرك الصغر؟ قال :الرياء ،يقول الله عز وأجل لهم يوم القيامة إذ جزى الناس
بأعمالهم :اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤوأن في الدنيا ،هل تجدوأن عندهم خيرا ً"وأقال بشر
الحافي :لن أطلب الدنيا بمزمار أحب إلى من أن أطلبها بالدين.
وأاعلم :أن الرياء مشتق من الرؤية ،وأالسمعة مشتقة من السماع ،فالمرائي يرى الناس
ما يطلب به الحظوة عندهم وأذلك أقسام:
أحدهما :أن يكون من جهة البدن ،بإظهار النحول وأالصفار ،ليريهم بذلك شدة
الجتهاد ،وأغلبة خوفا الخرة ،وأكذلك يرائي بتشعث الشعر ،ليظهر أنه مستغرقا في هم
الدين ،ل يتفرغ لتسريح شعره.وأيقرب من هذا خفض الصوت ،وأإغارة العينين ،وأذبول
الشفتين ،ليدل بذلك على أنه مواظب على الصوم ،وألهذا قال عيسى بن مريم عليه
السلم :إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ،وأيرجل شعره .وأذلك لما يخافا على الصائم من
آفات الرياء ،فهذا الرياء من جهة البدن لهل الدين.وأأما أهل الدنيا ،فيراؤوأن بإظهار
السمن ،وأصفاء اللون ،وأاعتدال القامة ،وأحسن الوجه ،وأنظافة البدن.
النوع الثاني :الرياء من جهة الزي ،كالطراقا حالة المشي ،وأإبقاء أثر السجود على
الوجه ،وأغلظ الثياب ،وألبس الصوفا ،وأتشمير الثياب كثيرًا ،وأتقصير الكمام ،وأترك الثوب
مخرقا ُ غير نظيف.وأمن ذلك لبس المرقعة ،وأالثياب الزرقا ،تشبها ً بالصوفية مع الفلس
من صفاتهم في الباطن.وأمنه التقنع فوقا العمامة ،لتنصرفا إليه العين بالتمييز بتلك
العادة.وأهؤلء طبقات ،منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلح ،بإظهار التزهد بلبس
الثياب المخرقة الوسخة الغليظة ،ليرائي بذلك ،وألو كلف هذا أن يلبس ثوبا ً وأسطا ً نظيفا ً
مما كان السلف يلبسونه ،لكان عنده بمنزلة الذبح ،لخوفه أن يقول الناس :قد بدا له من
الزهد ،وأقد رجع عن تلك الطريقة.
وأطبقة أخرى :يطلبون القبول عند أهل الصلح ،وأعند أهل الدنيا من الملوك وأالمراء
وأالتجار ،فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلح ،وألو لبسوا المخرقة
الدنية لزدرتهم الملوك وأالغنياء ،فهم يريدوأن الجمع بين قبول أهل الدين وأالدنيا،
فيطلبون الثواب الرقيقة ،وأالكسية الرفيعة وأالفوط الرفيعة فيلبسونها ،وأأقل قيمة ثوب
أحدهم قيمة ثوب الغنى ،وألونه وأهيئته لون ثياب الصلحاء ،فيلتمسون القبول عند
الفريقين.وأهؤلء لو كلفوا لبس خشن أوأ وأسخ ،لكان عندهم كالذبح ،خوفا ً من السقوط
في أعين الملوك وأالغنياء ،وألو كلفوا لبس الرقيق وأرفيع الكتان البيض وأنحو ذلك ،لعظم
ذلك عليهم ،خوفا ً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلح ،وأكل مراء بزي مخصوص ثقل
عليه النتقال إلى ما دوأنه أوأ فوقه خوفا ً من المذمة.وأأما أهل الدنيا ،فمراءاتهم بالثياب
النفيسة ،وأالمراكب الحسنة ،وأأنواع التجميل في الملبس وأالمسكن وأأثاث البيت ،وأهم
في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة ،وأيشتد عليهم أن يروأا بتلك المنزلة.
النوع الثالث :الرياء بالقول ،وأرياء أهل الدين بالوعظ وأالتذكير وأحفظ الخبار وأالثار،
لجل المحاوأرة ،وأإظهار غزارة العلم وأالدللة على شدة العناية بأحوال السلف ،وأتحريك
الشفتين بالذكر في محضر الناس ،وأإظهار الغضب للمنكرات بين الناس ،وأخفض الصوت
وأترقيقه بقراءة القرآن ،ليدل بذلك على الخوفا وأالحزن وأنحو ذلك.
النوع الرابع :الرياء بالعمل ،كمرآة المصلى بطول القيام ،وأتطويل الركوع وأالسجود،
وأإظهار الخشوع ،وأنحو ذلك.وأكذلك بالصوم وأالغزوأ وأالحج وأالصدقة وأنحو ذلك.وأأما أهل
الدنيا فمراءاتهم ،بالتبختر ،وأالختيال ،وأتحريك اليدين ،وأتقريب الخطى ،وأالخذ بأطرافا
الذيل ،وأإمالة العطفين ،ليدلوا بذلك على الحشمة.
النوع الخامس :المراءاة بالصحاب وأالزائرين ،كالذي يتكلف أن يستزير عالما ً أوأ
عابدًا ،ليقال :إن فلنا ً قد زار فلنًا ،وأإن أهل الدين يترددوأن إليه ،وأيتبركون به ،وأكذلك من
يرائي بكثرة الشيوخ ،ليقال :لقي شيوخا ً كثيرة ،وأاستفاد منهم ،فيباهى بذلك ،فهذه مجامع
ما يرائي به المراؤوأن ،يطلبون بذلك الجاه وأالمنزلة في قلوب العباد.وأمنهم من يطلب
مجرد الجاه ،وأكم من عابد اعتزل في جبل ،وأراهب انزوأى إلى دير ،مع قطع طمعهم من
مال الناس ،لكنه يحب مجرد الجاه.وأمنهم من يكون قصده المال ،وأمنهم من قصده الثناء
وأانتشار الصيت .فإن قيل :هل الرياء حرام ،أم مكروأه ،أوأ مباح؟ فالجواب :أن فيه
تفصيل ً ،وأهو إما أن يكون بالعبادات ،أوأ بغيرها ،فان كان الرياء بالعبادات ،فهو حرام ،فإن
المرائي بصلته وأصدقته وأحجته ،وأنحو ذلك ،عاص آثم ،لنه يقصد بذلك غير الله تعالى
المستحق للعبادة وأحده ،فالمرائي بذلك في سخط الله .وأأما إن كان بغير العبادات ،فهو
كطلب المال على ما تقدم ،ل يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ،وألكن كما
يمكن كسب المال بتلبيسات وأأسباب محظورة ،فكذلك الجاه ،وأكما أن كسب قليل من
المال وأهو الذي طلبه يوسف عليه السلم في قوله} :إنى حفيظ عليهم{ ]يوسف[55 : وأل
نقول بتحريم الجاه وأإن كثر ،إل إذا حمل صاحبه على ما ل يجوز على نحو ما ذكرنا في
المال.وأأما سعة الجاه من غير حرص على طلبه ،وأمن غير اغتمام بزوأاله وأإن زال ،فل
ضرر فيه ،إذ ل جاه أوأسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم وأعلماء الدين
بعده ،وألكن انصرافا الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ،وأل يوصف بالتحريم.
وأتحسين الثوب الذي يلبسه النسان عند الخروأج إلى الناس ،إنما هو ليراه الناس ،وأكذلك
كل تجمل لجلهم ل يقال :إنه منهي عنه.وأقد تختلف المقاصد بذلك ،فإن أكثر الناس
يحبون أن ل يروأا بعين نقص في حال.وأفى أفراد مسلم ،من حديث ابن مسعود رضى الله
عنه عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال" :ل يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال ذرة من كبر" ،فقال رجل :إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة ،وأنعله حسنة،
فقال" :إن الله جميل يحب الجمال ،الكبر بطر الحق وأغمط الناس".وأمن الناس من يؤثر
إظهار نعمة الله عليه ،وأقد أمر رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم بذلك.
وأاعلم :أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض ،لنه درجات.أشدها وأأغلظها أن ل يكون
مراده بالعبادة الثواب أصلً ،كالذي يصلى بين الناس ،وألو انفرد لم يصل.
الدرجة الثانية :أن يقصد الثواب مع الرياء قصدا ً ضعيفا ً بحيث لو كان خاليا ً لم يفعله ،فهو
قريب من القسم الوأل في كونهما ممقوتين عند الله تعالى.
الدرجة الثالثة :أن يكون قصد الرياء ،وأقصد الثواب متساوأيين ،بحيث لو انفرد كل وأاحد
منهما عن الخر لم يبعثه على العمل ،فهذا قد أفسد مثل ما اصلح ،وأل يسلم من الثم
الرابعة :أن يكون إطلع الناس عليه مقويا ً لنشاطه ،وألو لم يطلع عليه أحد لم يترك
العبادة ،فهذا يثاب على قصده الصحيح ،وأيعاقب على قصده الفاسد ،وأقريب من ذلك
الرياء بأوأصافا العبادة ل بأصلها ،كالذي يصلى وأغرضه تخفيف الركوع وأالسجود وأل يطيل
القراءة ،فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضا ً من الرياء المحظور ،لنه يتضمن تعظيم
الخلق ،وألكنه دوأن الرياء بأصول العبادات.
فالجلى :هو الذي يبعث على العمل وأيحمل عليه.وأأخفى منه قليل ً رياء ل يبعث على
العمل بمجرده ،لكن يخفف العمل الذي أريد به وأجه الله تعالى ،كالذي يعتاد التهجد كل
ليلة وأيثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وأسهل عليه .وأأخفى من ذلك ما ل يؤثر
في العمل وأل في التسهيل ،لكنه مع ذلك مستبطن في القلب ،وأمتى لم يؤثر الدعاء في
العمل لم يكن أن يعرفا إل بالعلمات ،وأأجلى علماته أنه يسر باطلع الناس على طاعته،
فرب عبد مخلص يخلص العمل ،وأل يقصد الرياء بل يكرهه ،وأيتم العمل على ذلك ،لكن
إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وأارتاح له ،وأروأح ذلك عن قلبه شدة العبادة ،فهذا السروأر
يدل على رياء خفي منه يرشح السروأر ،ثم إذا استشعر تلك اللذة بالطلع لم يقابل ذلك
بكراهة ،بل قد يتحرك حركة خفيفة ،وأيتكلف أن يطلع عليه بالتعريض ل بالتصريح.وأقد
يخفى ،فل يدعو إلى الظهار بالنطق تعريضا ً وأل تصريحًا ،وألكن بالشمائل كإظهار النحول،
وأالصفار ،وأخفض الصوت ،وأيبس الشفتين وأآثار الدموع وأغلبة النعاس الدالة على طول
التهجد.
وأأخفى من ذلك أن يختفي بحيث ل يريد الطلع عليه ،وألكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب
أن يبدؤوأه بالسلم ،وأأن يقابلوه بالبشاشة وأالتوقير وأينشطوا في قضاء حوائجه،
وأيسامحوه في المعاملة ،وأيوسعوا له المكان ،فان قصر في ذلك مقصر ،ثقل ذلك على
قلبه ،كأن نفسه تتقاضى الحترام على الطاعة التي أخفاها.وأمتى لم يكون وأجود العبادة
كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق ،لم يكن خاليا ً عن شوب خفي من الرياء ،وأكل ذلك
يوشك أن يقص الجر ،وأل يسلم منه إل الصديقون.وأقد روأينا عن وأهب بن منبه ،أن رجل ً
من العباد قال لصحابه :إنا قد فارقنا الموال وأالوألد مخافة الطغيان ،وأأنا نخافا أن
يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الهل الموال في
أموالهم ،إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه ،وأإن كان له حاجة أحب أن تقضى
لمكان دينه :وأإن اشترى شئيا ً أحب أن يرخص له لمكان دينه ،فبلغ ذلك ملكهم ،فركب
في موكبه ،فإذا السهل وأالجبل قد امتل من الناس ،فقال العابد :ما هذا؟ قيل :هذا الملك،
فقال لصاحبه :ائتني بطعام ،فأتاه ببقل وأزبيب وأقلوب الشجر ،فجعل يحشو شدقيه
وأيأكل أكل ً عنيفًا ،فقال الملك :أين صاحبكم؟ فقالوا :هذا ،كيف أنت؟ قال :كالناس،
فقال الملك ما عند هذا خير ،وأانصرفا عنه ،فقال :الحمد لله الذي صرفه عنى وأهو لى
لئم.وألم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفى ،يجتهدوأن في مخادعة الناس عن
أعمالهم الصالحة ،وأيحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم،
كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلصهم.
وأشوائب الرياء الخفى كثيرة ل تنحصر ،وأمتى أدرك النسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع
على عبادته أوأ ل يطلع ،ففيه شعبة من الرياء ،وألكن ليس كل شوب محبطا ً للجر
وأمفسدا ً للعمل ،بل فيه تفصيل.
فإن قيل :فما ترى أحدا ً ينفك عن السروأر إذا عرفت طاعته ،فهل جميع ذلك مذموم؟
فالمحمود :أن يكون قصده إخفاء الطاعة وأالخلص لله ،وألكن لما اطلع عليه الخلق علم
أن الله تعالى أطلعهم وأأظهر الجميل من أحواله ،فيسر بحسن صنع الله وأنظره له
وألطفه به ،حيث كان يستر الطاعة وأالمعصية ،فأظهر الله سبحانه عليه الطاعة ،وأستر
عليه المعصية ،وأل لطف أعظم من ستر القبيح ،وأإظهار الجميل ،فيكون فرحه بذلك ،ل
بحمد الناس وأقيام المنزلة في قلوبهم ،أوأ يستدل بإظهار الله الجميل ،وأستر القبيح عليه
في الدنيا ،أنه كذلك يفعل به في الخرة ،فإنه قد جاء معنى ذلك في الحديث.
فأما إن كان فرحه باطلع الناس عليه لقيام منزلته عندهم ،حتى يمدحوه وأيعظموه
وأيقضوا حوائجه ،فهذا مكروأه مذموم.
فإن قيل :فما وأجه حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال :قال رجل :يا رسول الله ،
الرجل يعمل العمل فيسره ،فإذا اطلع عليه ،أعجبه ،فقال " :له أجران :أجر السر ،وأأجر
العلنية".فالجواب :أن هذا الحديث ضعيف ،وأقد روأاه الترمذى ،وأفسره بعض أهل العلم
بأن معناه :أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير ،لقوله عليه السلم " :أنتم شهداء الله في
الرض".وأقد روأى في أفراد مسلم من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال :قيل :يارسول
الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير وأيحمده الناس عليه؟ فقال " :تلك عاجل بشرى
المؤمن".فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير وأيكرموه عليه ،فهذا رياء.
إذا وأرد على العبد وأراد الرياء ،فل يخلو:إما أن يكون وأرد بعد فراغه من العبادة أوأ قبله،
فان وأرد عليه بعد الفراغ سروأر بالظهور من غير إظهار منه ،فهذا ل يحبط العمل ،لنه
قد تم على نعت الخلص فل ينعطف ما طرأ عليه بعده ،ل سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره
وأالتحديث به ،فأما إن تحدث به بعد تمامه وأأظهره ،فهذا مخوفا ،وأالغالب عليه أنه كان
في قلبه وأقت مباشرة العمل نوع رياء ،فإن سلم من الرياء نقص أجره ،فإن بين عمل
السر وأالعلنية سبعين درجة.
وأأما إذا وأرد الرياء قبل الفراغ من العبادة ،كالصلة التي عقدها على إخلص فإن كان
مجرد سروأر ،لم يؤثر في العمل ،وأإن كان رياء باعثا ً على العمل ،مثل أن يطيل الصلة
ليرى مكانه ،فهذا يحبط الجر.وأأما ما يقارن العبادة ،مثل أن يبتدئ الصلة على قصد
الرياء ،فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها ،وأإن ندم فيها على فعله ،فالذي ينبغي له أن
يبتدئها ،وأالله أعلم.وأأما ما يقارن العبادة ،مثل أن يبتدئ الصلة على قصد الرياء ،فإن
أتمها على ذلك لم يعتد بها ،وأإن ندم فيها على فعله ،فالذي ينبغي له أن يبتدئها ،وأالله
أعلم.
قد عرفت أن الرياء محبط للعمال ،وأسبب لمقت الله تعالى ،وأأنه من المهلكات ،وأمن
هذا حاله ،فجدير بالتشمير عن ساقا الجد في إزالته.
إل أن أتعاهد ذلك منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم " :لست ممن
يصنعه خيلء "وأاعلم أن الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته فيظهر على
الجوارح وأذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه ،يعني يرى نفسه فوقا الغير في
صفات الكمال ،فعند ذلك يكون متكبرًا.وأبهذا ينفصل عن العجب ،فإن العجب ل
يستدعي غير المعجب ،حتى لو قد أن يخلق النسان وأحده تصور أن يكون معجبا ،وأل
يتصور أن يكون متكبرا ،إل أن يكون مع غيره وأهو يرى نفسه فوقه ،فإن النسان متى
رأى نفسه بعين الستعظام ،حقر من دوأنه وأازدراه ،وأصفة هذا المتكبر ،أن يكون إلى
العامة كأنه ينظر إلى الحمير استهجال ً وأاستحقارا ً !وأآفة الكبر عظيمة ،وأفيه يهلك
الخواص ،وأقلما ينفك عنه العباد وأالزهاد وأالعلماء .وأكيف ل تعظم آفته ،وأقد أخبر النبى
صلى الله عليه وأسلم أنه " ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ":وأإنما
صار حجابا دوأن الجنة ،لنه يحول بين العبد وأبين أخلقا المؤمنين ،لن صاحبه ل يقدر أن
يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ،فل يقدر على التواضع ،وأل على ترك الحقد وأالحسد
وأالغضب ،وأل على كظم الغيظ وأقبول النصح ،وأل يسلم من الزدراء وأاغتيابهم ،فما من
خلق ذميم إل وأهو مضطر إليه.
وأمن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم ،وأقبول الحق ،وأالنقياد له وأقد تحصل
المعرفة للمتكبر ،وألكن ل تطاوأعه نفسه على النقياد للحق ،كما قال تعالى ) :وأجحدوأا
بها وأاستيقنتها أنفسهم ظلما ً وأعلوا ً ( ) النمل ( 14 : ) فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا ( ) المؤمنون :
( 47 ) إن أنتم إل بشر مثلنا ( ) إبراهيم ( 10 : وأآيات كثيرة نحو هذا ،وأهكذا تكبر على الله
وأعلى رسوله .يعارضه بخطرات الرياء ،فإذا خطر له معرفة الخلق بعبادته وأاطلعهم
عليها ،دفع ذلك بأن يقول :مالك وأللخلق علموا أوأ لم يعلموا ،وأالله عالم بحالك ،فأي
فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى آفة الحمد ،ذكرها آفات الرياء وأالتعرض
للمقت ،فيقابل تلك الرغبة بكراهة المقت ،فإن معرفة اطلع الناس تثير شهوة ،
وأمعرفة آفة الرياء تثير كراهة .
5ـ فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات وأبيان الرخصة في كتمان
الذنوب
أما الوأل ،فاعلم أن في إسرار العمال فائدة لخلص وأالنجاة من الرياء ،وأفي الظهار
فائدة القتداء ،وأترغيب الناس في الخير .وأمن العمال ما ل يمكن السرار به كالحج
وأالجهاد .وأالمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه ،حتى ل يكون فيه حب الرياء الخفي ،بل
ينوي القتداء به ،وأل ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك ،فإن مثال الضعيف مثل
الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة ،فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم ،وأأقبل
عليهم حتى تشبثوا به ،فهلكوا وأهلك معهم .فأما من قوي وأتم إخلصه ،وأصغر الناس في
عينه ،وأاستوى عنده مدحهم وأذمهم ،فل بأس بالظهار له ،لن الترغيب في الخير خير
.وأقد روأي ذلك عن جماعة من السلف أنهم كانوا يظهروأن شيئا ً من أحوالهم الشريفة
ليقتدي بهم ،كما قال بعضهم لهله حين احتضر :ل تبكوا علي ،فإني ما لفظت بخطيئة
منذ أسلمت .وأقال أبو بكر بن عياش رحمه الله لبنه :إياك أن تعصي الله تعالى في هذه
الغرفة ،فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة .وأنحو ذلك كثير من كلمهم ،وأالله أعلم .
وأأما الرخصة في كتمان الذنوب ،فربما ظن ظان أن كتمان الخطايا رياء ،وأليس كذلك
فإن الصادقا الذي ل يرائي إذا وأقعت منه معصية ،كان له سترها ،لن الله يكره ظهور
المعاصي وأيحب سترها .وأقد روأي عن النبي صلى الله عليه وأسلم أنه قال " :من ارتكب
شيئا ً من هذه القاذوأرات ،فليستتر بستر الله عز وأجل " فهذا وأإن عصى بالذنب ،لم
يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله عز وأجل ،وأهذا ينشأ عن قوة اليمان .وأينبغي أن يكره
ظهور الذنب من غيره أيضا ً ،فهذا أثر الصدقا فيه .وأمن ذلك أن يكره ذم الناس له ،من
حيث إن ذلك يشغل قلبه وأعقله عن طاعة الله تعالى ،فإن الطبع يتأذى بالذم ،وأبهذه
العلة أيضا ً ينبغي أن يكره المدح إذا كان يشغله عن الله تعالى ،وأيستغرقا قلبه ،وأيصرفه
عن الذكر ،فإن هذا أيضا ً من قوة اليمان .
فأما ترك الطاعات خوفا ً من الرياء ،فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين ،فهذا
ينبغي أن يترك ،لنه معصية ل طاعة فيه .وأإن كان الباعث على ذلك الدين ،وأكان ذلك
لجل الله تعالى خالصا ً ،فل ينبغي أن يترك العمل ،لن الباعث الدين .وأكذلك إذا ترك
العمل خوفا ً من أن يقال :إنه مراٍءء ،فل ينبغي ذلك ،لنه من مكائد الشيطان قال
إبراهيم النخعي :إذا أتاك الشيطان وأأنت في الصلة فقال :إنك مراٍءء ،فزدها طول ً .وأأما
ما روأي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفا ً من الرياء ،كما روأي عن إبراهيم النخعي
أن إنسانا ً دخل عليه وأهو يقرأ في المصحف ،فأطبق المصحف وأترك القراءة ،وأقال :ل
يراني هذا أني أقرأ كل ساعة ،فيحمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين
فقطعوا !
7ـ فصل في بيان ما يصح من نشاط العبد بسبب رؤية الخلق وأما ل يصح
قد يبيت الرجل مع المتهجدين ،فيصلون أكثر الليل ،وأعادته قيام ساعة ،فيوافقهم ،أوأ
يصومون فيصوم ،وألولهم ما انبعث هذا النشاط .فربما ظن ظان أن هذا رياء ،وأليس
كذلك على الطلقا ،بل فيه تفصيل ،وأهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى ،
وألكن تعوقه العوائق ،فإن النسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وأطيء
وأتمتع بزوأجته ،فإذا بات في مكان غريب ،اندفعت هذه الشواغل ،وأحصلت له أسباب
تبعث على الخير ،منها مشاهدة العابدين .وأقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة
المطاعم ،بخلفا غيره ،ففي مثل هذه الحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة ،
وأيقول :إذا عملت غير عادتك كنت مرائيا ً فل ينبغي أن يلتفت إليه ،وأإنما ينبغي أن ينظر
إلى قصده الباطن ،وأل يلتفت إلى وأسواس الشيطان وأيختبر أمره بأن يمثل القوم في
مكان يراهم وأل يروأنه ،فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله ،وأإن لم تسخ كان سخاؤها
عندهم رياء ،وأقس على هذا .فهذه جملة آفات الرياء ،فكن بحاثا ً عنها ،وأتفقد نيتك ،
فإن الرياء أخفى من دبيب النمل .وأينبغي للمريد أن يلزم قلبه القناعة بعلم الله في جميع
طاعته .وأإنما يقنع بذلك من خافا الله وأرجاه ،وأل ينبغي أن يؤيس نفسه من الخلص
بأن يقول :إنما يقدر على الخلص القوياء ،وأأنا من المخلطين ،فيترك المجاهدة في
تحصيل الخلص ،لن المخلط إلى ذلك أحوج .قال إبراهيم بن أدهم :تعلمت المعرفة
من راهب يقال له سمعان :دخلت على صومعته فقلت له :منذ كم أنت في صومعتك
هذه ؟ قال منذ سبعين سنة ،قلت :ما طعامك ؟ قال :كل ليلة حمصة ،قلت :فما الذي
يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة ؟ قال :ترى ) الدير ( الذي بحذائك ؟ قلت :نعم
،قال :إنهم يأتوني في كل سنة يوما ً وأاحدا ً فيزينون صومعتي وأيطوفون حولها يعظموني
بذلك ،فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ،ذكرتها عز تلك الساعة ،فأنا أحتمل جهد سنة
لعز ساعة ،فاحتمل ياحنيفي جهد ساعة لعز البد ،فوقر في قلبي المعرفة ،فقال :
أزيدك ؟ قلت :نعم ،قال :أنزل عن الصومعة ،فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرين
حمصة ،ثم قال لي :ادخل الدير ،فقد رأوأا ما أدليت إليك ،فلما دخلت الدير ،اجتمعت
النصارى فقالوا :يا حنيفي ،ما الذي أدلى إليك الشيخ ؟ قلت :شيئا ً من قوته .قالوا :
وأما تصنع به ؟ نحن أحق به ،ساوأم به ،قلت :عشروأن دينارا ً ،فأعطوني عشرين
دينارا ً ،فرجعت إلى الراهب ،فقال :أخطأت ،لو ساوأمتهم عشرين ألفا ً لعطوك ،هذا
عز من ل يعبده ،فانظر كيف يكون عز من يعبده ،يا حنيفي أقبل على عبادة ربك .فقد
بان بهذا أن استشعار النفوس عز العظمة في القلوب يكون باعثا ً إلى الخلوة ،فهذه آفة
عظيمة ،وأعلمة سلمته منها أن يكون الخلق عنده وأالبهائم بمثابة وأاحدة ،وأيكون عمله
عمل من ليس على الرض غيره ،فإذا خطرت خطرات ضعيفة ردها الله ،وأالله تعالى
أعلم .
وأهما فصلن:
قال الله تعالى} :سأصرفا عن آياتي الذين يتكبروأن في الرض بغير الحق{ ]العرافا[146:
وأقال} :إنه ل يحب المستكبرين{]النحل[23:.
وأفى الحديث الصحيح من أفراد مسلم ،أن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال" :
ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".وأفى "الصحيحين" عنه صلى الله
عليه وأآله وأسلم قال" :قالت النار :أوأثرت بالمتكبرين".وأعنه صلى الله عليه وأآله وأسلم
أنه قال " :يحشر الجباروأن وأالمتكبروأن يوم القيامة في صورة الذر ،يطؤهم الناس
لهوانهم على الله عز وأجل".وأقال سفيان بن عيينة رحمة الله :من كانت معصيته في
شهوة ،فارج له التوبة ،فإن آدم عليه السلم عصى مشتهيا فغفر له ،فإذا كانت معصيته
من كبر ،فاحش عليه اللعنة ،فإن إبليس عصى مستكبرا ً فلعن.وأفى "الصحيحين" :أن
رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال " :من جر ثوبه خيلء لم ينظر الله إليه يوم
القيامة ،فقال أبو بكر :يارسول الله إن أحد شقي إزاري ليسترخي ،إل أن أتعاهد ذلك
منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم " :لست ممن يصنعه خيلء".وأاعلم :أن
الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته ،فيظهر على الجوارح ،وأذلك الخلق هو رؤية
النفس على المتكبر عليه ،يعنى يرى نفسه فوقا الغير في صفات الكمال ،فعند ذلك يكون
متكبرًا.وأبهذا ينفصل عن العجب ،فان العجب ل يستدعى غير المعجب ،حتى لو قدر أن
يخلق النسان وأحده تصور أن يكون معجبًا ،وأل يتصور أن يكون متكبرًا ،إل أن يكون مع
غيره وأهو يرى نفسه فوقه ،فإن النسان متى رأى نفسه بعين الستعظام ،حقر من دوأنه
وأازدراه ،وأصفة هذا المتكبر ،أن ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهال ً
وأاستحقارًا.وأآفة الكبر عظيمة ،وأفيه يهلك الخواص ،وأقلما ينفك عنه العباد وأالزهاد
وأالعلماء.وأكيف ل تعظم آفته ،وأقد أخبر النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم :أنه ل يدخل
الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.وأإنما صار حجابا ً دوأن الجنة ،لنه يحول بين
العبد وأبين أخلقا المؤمنين ،لن صاحبه ل يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ،فل
يقدر على التواضع ،وأل على ترك الحقد وأالحسد وأالغضب ،وأل على كظم الغيظ وأقبول
النصح ،وأل يسلم من الزدراء بالناس وأاغتيابهم .فما من خلق ذميم إل وأهو مضطر إليه
.وأمن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم ،وأقبول الحق ،وأالنقياد له.وأقد تحصل
المعرفة للمتكبر ،وألكن ل تطاوأعه نفسه على النقياد للحق ،كما قال تعالى} :وأجحدوأا بها
وأاستيقنتها أنفسهم ظلما ً وأعلوًا{ ]النمل[14 : }فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا{ ]المؤمنون [47:
}إن أنتم إل بشر مثلنا{ ]إبراهيم [10: وأآيات كثيرة نحو هذا ،وأهذا تكبر على الله وأعلى
رسوله.وأقد تقدم أن التكبر على العباد هو احتقارهم وأاستعظام نفسه عليهم ،وأذلك أيضا ً
يدعو إلى التكبر على أمر الله تعالى ،كما حمل إبليس كبره على آدم عليه السلم أن
امتنع من امتثال أمر ربه في السجود.وأقد شرح رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم
الكبر فقال " :الكبر :بطر الحق وأغمط الناس" .وأمعنى غمط الناس" الزدراء بهم،
وأاستحقارهم .وأيروأى :غمص الناس بمعنى غمط الناس.
الوألى :أن يكون الكبر مستقرا ً في قلب النسان منهم ،فهو يرى نفسه خيرا ً من غيره ،إل
أنه يجتهد وأيتواضع ،فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروأسة ،إل أنه قد قطع أغصانها.
الثانية :أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس ،وأالتقدم على القران ،وأالنكار
على من يقصر في حقه ،فترى العالم يصعر خده للناس ،كأنه معرض عنهم ،وأالعابد
يعيش وأوأجهه كأنه مستقذر لهم ،وأهذان قد جهل ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وأآله
وأسلم ،حين قال }:وأاخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين{ ]الشعراء[215:
الدرجة الثالثة :أن يظهر الكبر بلسانه ،كالدعاوأى وأالمفاخر ،وأتزكية النفس ،وأحكايات
الحوال في معرض المفاخرة لغيره ،وأكذلك التكبر بالنسب ،فالذي له نسب شريف
يستحقر من ليس له ذلك النسب وأإن كان أرفع منه عمل.قال ابن عباس :يقول الرجل
للرجل :أنا أكرم منك ،وأليس أحد أكرم من أحد إل بالتقوى .قال الله تعالى} :إن أكرمكم
عند الله أتقاكم{ ]الحجرات .{13 :وأكذلك التكبر بالمال ،وأالجمال ،وأالقوة ،وأكثرة التباع،
وأنحو ذلك ،فالكبر بالمال أكثر ما يجرى بين الملوك وأالتجار وأنحوهم.وأالتكبر بالجمال أكثر
ما يجرى بين النساء ،وأيدعوهن إلى التنقص وأالغيبة وأذكر العيوب.وأأما التكبر بالتباع
وأالنصار ،فيجرى بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود ،وأبين العلماء بالمكاثرة
بالمستفيدين.وأفى الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالً ،فإن لم يكن في نفسه كمالً،
أمكن أن يتكبر به ،حتى إن الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمرة وأالفجور ،لظنه أن ذلك
كمال.وأاعلم :أن التكبر يظهر في شمائل النسان ،كصعر وأجهه ،وأنظره شزرًا ،وأإطراقا
رأسه ،وأجلوسه متربعا ً وأمتكئًا ،وأفى أقواله ،حتى في صوته وأنغمته ،وأصيغة إيراده الكلم،
وأيظهر ذلك أيضا ً في مشيه وأتبختره ،وأقيامه وأقعوده وأحركاته وأسكناته وأسائر تقلباته.
وأالقيام على ضربين:قيام على رأسه وأهو قاعد ،فهذا منهي عنه ،قال رسول الله صلى
الله عليه وأآله وأسلم " :من أحب أن يتمثل له الرجال قياما ً فليتبوا ً مقعده من النار".
وأهذه عادة العاجم وأالمتكبرين.
الثاني :قيام عند مجيء النسان ،فقد كان السلف ل يكادوأن يفعلون ذلك.
قال أنس :لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ،وأكانوا
إذا رأوأه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك.وأقد قال العلماء :يستحب القيام للوالدين
وأالمام العادل ،وأفضلء الناس ،وأقد صار هذا كالشعار بين الفاضل ،فإذا تركه النسان
في حق من يصلح أن يفعل في حقه ،لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته ،وأالتقصير في حقه،
فيوجب ذلك حقدًا.وأاستحباب هذا في حق القائم ل يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك ،وأيرى
أنه ليس بأهل لذلك.وأمن خصال المتكبر :أن ل يمشى إل وأمعه أحد يمشى خلفه.وأمنها
أن ل يزوأر أحدا ً تكبرا ً على الناس.وأمنها أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه أوأ مشيه
معه.وأقد روأى أنس رضى الله عنه قال :كانت المة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول
الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ،فتنطلق به في حاجتها.وأقال ابن وأهب :جلست إلى عبد
العزيز بن أبى روأاد ،وأإن فخذى لتمس فخذه فنحيت نفسي عنه ،فأخذ ثيابي فجرني إليه
وأقال :لم تفعلون بى ما تفعلون بالجبابرة ،وأإني ل أعرفا منكم رجل شرا ً منى؟?وأمنها أن
ل يتعاطى بيده شغل ً في بيته ،وأهذا بخلفا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم .
وأمنها أن ل يحمل متاعه من سوقه إلى بيته ،وأقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم شيئا ً وأحمله .وأكان أبو بكر رضى الله عنه يحمل الثياب إلي السوقا يتجر فيها.
وأاشترى عمر رضى الله عنه لحما ً فعلقه بيده وأحمله إلى بيته .وأاشترى على رضى الله
عنه تمرا ً فحمله في ملحفة ،فقال له قائل :أحمل عنك؟ قال :ل ،أبو العيال أحق أن
يحمل.
وأأقبل أبو هريرة رضى الله عنه يوما ً من السوقا وأقد حمل حزمة حطب ،وأهو يومئذ
خليفة مروأان ،فقال لرجل :أوأسع الطريق للمير.
وأمن أراد إن ينفى الكبر ،وأيستعمل التواضع ،فعليه بسيرة رسول الله صلى الله عليه وأآله
وأسلم ،وأقد سبقت الشارة إليها في كتاب "آداب المعيشة".
وأاعلم :أن الكبر من المهلكات ،وأمداوأاته فرض عين ،وألك في معالجته مقامان:
الوأل :في استئصال أصله وأقطع شجرته ،وأذلك بأن يعرفا النسان نفسه وأيعرفا ربه،
فإنه إذا عرفا نفسه حق المعرفة ،علم أنه أذل من كل ذليل ،وأيكفيه أن ينظر في أصل
وأجوده بعد العدم من تراب ،ثم من نطفة خرجت من مخرج البول ،ثم من علقة ،ثم من
مضغة ،فقد صار شيئا ً مذكورًا ،بعد أن كان جمادا ً ل يسمع وأل يبصر ،وأل يحس وأل يتحرك،
فقد ابتدأ بموته قبل حياته ،وأبضعفه قبل قوته ،وأبفقره قبل غناه.
وأقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله }:من أي شئ خلقه * من نطفة خلقه فقدره{ ]عبس :
18وأ [19 ثم امتن عليه بقوله } :ثم السبيل يسره{ ]عبس [20: ،وأبقوله} :فجعلناه سميعا ً
بصيرا ً{ ]الدهر[2: فأحياه بعد الموت ،وأأحسن تصويره ،وأأخرجه إلى الدنيا ،فأشبعه
وأأروأاه ،وأكساه وأهداه وأقواه.فمن هذا بدايته ،فأي وأجه لكبره وأفخره؟على أنه لو دام له
الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق ،بل قد سلط عليه الخلط المتضادة ،وأالمراض
الهائلة ،بينما بنيانه قد تم ،إذ هو قد وأهى وأتهدم ،ل يملك الشيء لنفسه ضرا ً وأل نفعًا،
بينها هو يذكر الشيء فينساه ،وأيستلذ بشيء فيرديه ،وأيروأم الشيء فل يناله ،ثم ل يأمن
أن يسلب حياته بغتة.هذا أوأسط حاله ،وأذاك أوأل أمره ،وأأما آخر أمره ،فالموت الذي
يعده جمادا ً كما كان ،ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنه ،وأتبلى أعضاؤه ،وأتنخر
عظامه ،وأيأكل الدوأد أجزاؤه ،وأيعود ترابا ً يعمل منه الكيزان ،وأيعمر منه البنيان ،ثم بعد
طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة ،وأيحضر عرصة القيامة ،فيرى أرضا ً مبدلة ،وأجبال ً
مسيرة ،وأسماًء منشقة ،وأنجوما ً منكدرة ،وأشمسا ً مكورة ،وأأحوال ً مظلمة ،وأجحيما ً تزفر،
وأصحائف تنشر ،وأيقال له} :اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا{ ]السراء[14:.
فيقول :وأما كتابي؟ فيقال :كان قد وأكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وأتتكبر بنعيمها
ملكان يحصيان ما تنطق به وأتعمل من قليل وأكثير ،وأقيام وأقعود ،وأأكل وأشرب ،وأقد
نسيت ذلك ،وأأحصاه الله تعالى ،فهلم إلى الحساب عليه ،وأأعد جوابا ً به ،وأإل فأنت تساقا
إلى النار ،فما لمن هذه حاله التكبر؟ فإن صار إلى النار ،فالبهائم أحسن حال ً منه ،لنه
تعود إلى التراب ،وأمن هذا حاله وأهو على شك من العفو عن أخطائه ،كيف يتكبر؟ ?
وأمن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة ،وأما مثله إل كمثل رجل جنى على ملك
جناية استحق أن يضرب لجلها ألف سوط ،فحبس في السجن ليخرج فيعاقب ،وأهو
منتظر أن يدعى به لذلك .أفتراه يتكبر على أهل السجن؟ وأهل الدنيا إل سجن ،وأهل
المعاصي إل موجبة للعقاب؟.وأأما معرفة ربه ،فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وأعجائب
صنعته ،فتلوح له العظمة ،وأتظهر له المعرفة ،فهذا هو العلج القالع لصل الكبر.وأمن
العلج العملي التواضع بالفعل لله تعالى وألعباده ،وأذلك بالمواظبة على استعمال خلق
المتواضعين ،وأقد تقدمت الشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ،وأما
كان عليه من التواضع وأالخلقا الجميلة.
المقام الثاني :فيما يعرض من التكبر بالنساب ،فمن اعتراه الكبر من جهة النسب،
فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره ،ثم يعلم أباه وأجده ،فإن أباه القريب نطفة قذرة ،وأأباه
البعيد تراب ،وأمن اعتراه الكبر بالجمال ،فلينظر إلى باطنه نظر العقلء ،وأل ينظر إلى
ظاهره نظر البهائم ،وأمن اعتراه من جهة القوة ،فليعلم أنه لو آلمه عرقا ،عاد أعجز من
كل عاجز ،إن حمى يوم تحلل من قوته ما ل يود في مدة ،وأإن شوكة لو دخلت في
رجله لعجزته ،وأبقة لو دخلت في أذنه لقلقته.
وأمن تكبر بسبب الغنى ،فإذا تأمل خلقا ً من اليهود ،وأجدهم أغنى منه ،فأفا لشرفا تسبق
به اليهود وأيستلبه السارقا في لحظة ،فيعود صاحبه ذليلً.وأمن تكبر بسبب العلم ،فليعلم
أن حجة الله على العالم آلد من الجاهل ،وأليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده،
فإن خطره أعظم من خطر غيره ،كما أن قدره أعظم من قدر غيره.وأليعلم أيضا ً أن
الكبر ل يليق ] إل[ بالله سبحانه ،وأأنه إذا تكبر صار ممقوتا ً عند الله تعالى بغيضا ً عنده.
وأقد أحب الله منه أن يتواضع ،وأكذلك كل سبب يعالجه بنقيضه وأيستعمل التواضع.وأاعلم:
أن هذا الخلق كسائر الخلقا له طرفان وأوأسط:فطرفه الذي يميل إلى الزيادة تكبرا ً
.وأطرفه الذي يميل إلى النقصان يمسي تخاسسا ً وأمذلة.وأالوسط يمسي تواضعًا ،وأهو
المحمود وأهو أن يتواضع من غير مذلة ،فخير المور أوأساطها ،فمن تقدم على أقرانه فهو
متكبر ،وأمن تأخر عنهم ،فهو متواضع ،لنه قد وأضع شيئا ً من قدره ،فأما إذا أدخل على
العالم إسكافا أوأ نحوه ،فتنحى له عن مجلسه أوأ أجلسه فيه ،ثم قدم له نعله وأمشى معه
إلى الباب ،فقد تخاسس وأتذلل ،فذلك غير محمود ،بل المحمود العدل ،وأهو أن يعطى كل
ذي حق حقه ،لكن تواضعه للسوقة بالرفق في السؤال وأاللين في الكلم،
وأإجابة الدعوة ،وأالسعى في الحاجة ،وأل يحقره ،وأل يستصغره ،وأالله أعلم.
روأى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال " :بينما رجل يتبختر في
بردين وأقد أعجبته نفسه ،خسف الله به الرض ،فهو يتجلجل )(1))أي :يغوص في الرض
حين يخسف به ،وأالجلجلة :الحركة مع الصوت(( " فيها إلى يوم القيامة".وأقال صلى الله
عليه وأآله وأسلم " :ثلث مهلكات :شح مطاع ،وأهوى متبع ،وأإعجاب المرء بنفسه".وأروأى
عن ابن مسعود أنه قال :الهلك في شيئين :العجب وأالقنوط .وأإنما جمع بينهما لن
السعادة ل تنال إل بالطلب وأالتشمير ،وأالقانط ل يطلب ،وأالمعجب يظن أنه قد ظفر
ب إلى من أن بمراده فل يسعى.قال مطرفا رحمه الله :لن أبيت نائما ً وأأصبح نادمًا ،أح ُ
أبيت قائما وأأصبح معجبًا.وأاعلم :أن العجب يدعو إلى الكبر ،لنه أحد أسبابه ،فيتولد من
العجب الكبر ،وأمن الكبر الفات الكثيرة ،وأهذا مع الخلق.فأما مع الخالق ،فإن العجب
بالطاعات نتيجة استعظامها ،فكأنه يمن على الله تعالى بفعلها ،وأينسى نعمته عليه
بتوفيقه لها ،وأيعمى عن آفاتها المفسدة لها.وأإنما يتفقد آفات العمال من خافا ردها دوأن
من رضيها وأأعجب بها.وأالعجب إنما يكون بوصف كمال من علم أوأ عمل ،فإن انضافا إلى
ذلك أن يرى حقا ً له عند الله إدللً ،فالعجب ،يحصل باستعظام ما عجب به ،
وأالدلل يوجب توقع الجزاء ،مثل أن يتوقع إجابة دعائه وأينكر رده.
اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك وأإيجاد أعمالك ،فل معنى لعجب عامل
بعمله ،وأل عالم بعلمه ،وأل جميل بجماله ،وأل غنى بغناه ،إذ كل ذلك من فضل الله تعالى،
وأإنما الدمي محل لفيض النعم عليه ،وأكونه محل ً له نعمة أخرى.فان قلت :إن العمل
حصل بقدرتك وأل يتصور العمل إل بوجودك وأوأجود عملك وأإرادتك وأقدرتك فمن أين
قدرتك ،وأكل ذلك من الله تعالى ل منك ،فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه ،وأهذا
المفتاح بيد الله تعالى ،وأما لم تعط المفتاح ل يمكنك العمل كما لو قعدت عند خزانة
مغلقة لم تقدر على ما فيها إل أن تعطى مفتاحها.وأفى "الصحيحين" من حديث أبى
هريرة ،عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال " :لن يدخل أحدا ً منكم عمله الجنة"،
قالوا :وأل أنت يا رسول الله ؟ قال" :وأل أنا ،إل أن يتغمدنى الله برحمة منه
وأفضل".وأاعلم :أن العجب يكون بالسباب التي يقع بها الكبر ،وأقد سبق ذكرها وأعلجها
.وأمن ذلك العجب بالنسب ،كما يتخيل الشريف أنه ينجو بشرفا آبائه ،وأعلجه أن يعلم أنه
متى خالف آباءه ،وأظن أنه ملحق بهم ،فقد جهل ،وأإن اقتدى بهم ،فإنه لم يكن العجب
من أخلقهم ،بل الخوفا وأالزراء على النفس .وأإنما شرفوا بالطاعة المحمودة ،ل بنفس
النسب .قال الله تعالى} :إن أكرمكم عند الله أتقاكم{ ]الحجرات [13: ،وأقال النبى صلى
الله عليه وأآله وأسلم " :يا فاطمة ،ل أغنى عنك من الله شيئًا".
فالجواب :أن كل المسلمين يرجون الشفاعة ،وأقد يشفع في الشخص بعد إحراقه بالنار،
وأقد يقوى الذنب فل تنجى الشفاعة.وأفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة أن النبى
صلى الله عليه وأآله وأسلم قال" :ل ألفين )(2 "أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير
له رغاء ،فيقول :يا رسول الله ،أغثني .فأقول :ل أملك لك شيئًا ،قد أبلغتك".وأمثل
المنهمك في الذنوب اعتمادا ً على رجاء الشفاعة ،كمثل المريض المنهمك في الشهوات،
اعتمادا ً على طبيبه الحاذقا المشفق ،وأذلك جهل ،فإن اجتهاد الطبيب ،ينفع بعض المراض
ل كلها.وأيوضح هذا أن سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يخافون من
الخرة ،فكيف يتكل من ليس في مثل مراتبهم ؟!وأمن ذلك العجب بالرأي الخطأ ،كما
قال الله تعالى}:أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا{ ]فاطر[8: .وأعلج هذا أشد من علج
غيره ،فإن هذا متى كان معجبا ً برأيه لم يصغ إلى نصح ناصح ،وأكيف يترك ما يعتقده
نجاة؟! وأإنما علجه في الجملة أن يكون متهما ً لرأيه أبدًا ،ل يغتر به ،إل أن يشهد له قاطع
من كتاب ،أوأ سنة أوأ دليل عقلي جامع لشروأط الدلة ،وألن يعرفا ذلك إل بمجالسة أهل
العلم وأممارسة الكتاب وأالسنة.
وأالوألى لمن يتفرغ لستغراقا العمر في العلم أن ل يخوض في المذاهب ،وألكن يقف عند
اعتقاد الجمل ،وأأن الله سبحانه وأاحد ل شريك له} ،ليس كمثله شئ وأهو السميع
البصير{ ،وأأن رسول الله صادقا فيما جاء به وأيؤمن بما جاء به القرآن من غير بحث وأل
تنقير ،وأيصرفا زمنه في التقوى ،وأأداء الطاعات ،فمتى خاض في المذاهب وأرام ما ل
يصل إلى معرفته ،هلك
وأمن الناس من غرته الدنيا ،فقال :النقد خير من النسيئة ،وأالدنيا نقد ،وأالخرة نسيئة،
وأهذا محل التلبيس ،فإن النقد ل يكون خيرا ً من النسيئة ،إل إذا كان مثل النسيئة ،وأمعلوم
أن عمر النسان بالضافة إلى مدة الخرة ليس بجزء من ألف جزء إلى أن ينقطع النفس،
وأإنما أراد من قال :النقد خير من النسيئة ،إذا كانت النسيئة مثل النقد ،وأهذا غروأر الكفار
.فأما ملبسو المعاصي مع سلمة عقائدهم ،فإنهم قد شاركوا الكفار في هذا الغروأر،
لنهم آثروأا الدنيا على الخرة ،إل أن أمرهم أسهل من أمر الكفار ،من جهة أن أصل
اليمان يمنعهم من عقاب البد.وأمن العصاة من يغتر ،فيقول :إن الله كريم ،وأإنما نتكل
على عفوه ،وأربما اغتروأا بصلح آبائهم.وأقد قال العلماء :من رجا شيئا ً طلبه ،وأمن خافا
شيئا ً هرب منه ،وأمن رجا الغفران مع الصرار ،فهو مغروأر.وأليعلم أن الله تعالى مع سعة
رحمته شديد العقاب ،وأقد قضى بتخليد الكفار في النار ،مع أنه ل يضره كفرهم ،وأقد
سلط المراض وأالمحن على خلق من عباده في الدنيا ،وأهو سبحانه قادر على إزالتها ،ثم
خوفنا من عقابه ،فكيف ل نخافا؟! فالخوفا وأالرجاء سائقان يبعثان على العمل ،وأما ل
يبعث على العمل فهو غروأر .يوضح هذا أن رجاء أكثر الخلق يحملهم على البطالة ،وأإيثار
المعاصي.وأالعجب أن القرن الوأل عملوا وأخافوا ،ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير
وأاطمأنوا ،أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرفا النبياء وأالصالحون.وألو كان هذا
المر يدرك بالمنى ،فلم تعب أوألئك وأكثر بكاؤهم؟! وأهل ذم أهل الكتاب بقوله} :يأخذوأن
عرض هذا الدنى وأيقولون سيغفر لنا{ ]العرافا[169: ،إل لمثل هذا الحال؟!وأأما من اغتر
بصلح آبائه ،فهل يذكر قصة نوح عليه السلم مع ابنه ،وأإبراهيم عليه السلم مع أبيه،
وأمحمد مع عمه صلى الله عليه وأآله وأسلم وأعلى سائر النبيين.وأيقرب من هذا الغروأر،
غروأر أقوام لهم طاعات وأمعاصي ،إل أن معاصيهم أكثر ،وأهم يظنون أن حسناتهم ترجح،
فترى الواحد منهم يتصدقا بدرهم وأيكون قد تناوأل من الغصب أضعافا ذلك ،وألعل الذي
تصدقا به من المغصوب ،وأيتكل على تلك الصدقة ،وأما هو إل كمن وأضع درهما في كفه
وأألف ا ً في أخرى ،ثم رجا أن يرجح الدرهم بآلفا.وأمنهم من يظن أن طاعاته أكثر من
معاصيه ،وأسبب ذلك أنه يحفظ عدد حسناته ،وأل يحاسب نفسه على سيئاته ،وأل يتفقد
ذنوبه ،كالذي يستغفر الله وأيسبحه مائة مرة في اليوم ثم يظل طول النهار يغتاب
المسلمين ،وأيتكلم بما ل ُيرضى ،فهو ينظر في فضائل التسبيح وأالستغفار ،وأل ينظر في
عقوبة الغيبة وأالكلم المنهي عنه.
الصنف الوأل :العلماء فأما أهل العلم ،فالمغتروأن منهم فرقا أحكموا العلوم الشرعية
وأالعقلية ،وأأهملوا تفقد الجوارح وأحفظها عن المعاصي ،وأإلزامهم الطاعات ،وأاغتروأا
بعلمهم ،وأظنوا أنهم من الله بمكان ،وألو نظر هؤلء بعين البصيرة ،علموا أن علم
المعاملة ل يراد به إل العمل ،وألول العمل لم يكن له قدر .قال الله تعالى} :قد أفلح من
زكاها{ ]الشمس[9: وألم يقل :قد أفلح من تعلم كيف يزكيها ،فإن تل عليه الشيطان
فضائل أهل العلم ،فليذكر ما وأرد في العالم الفاجر ،كقوله تعالى} :فمثله كمثل الكلب إن
تحمل عليه يلهث أوأ تتركه يلهث{ ]العرافا[176 : ،وأ}كمثل الحمار يحمل أسفارا ً{ ]الجمعة:
[5.وأمنهم فرقة أخرى أحكموا العلم وأالعمل الظاهر ،وألم يتفقدوأا قلوبهم ليمحوا الصفات
المذمومة منها ،كالكبر وأالحسد وأالرياء ،وأطلب العلو ،وأطلب الشهوة ،فهؤلء زينوا
ظاهرهم ،وأأهملوا بواطنهم ،وأنسوا قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم" :إن الله ل ينظر إلى
صوركم وأأموالكم ،وأإنما ينظر إلى قلوبكم وأأعمالكم".فتعاهدوأا العمال ،وألم يتعاهدوأا
القلوب ،وأالقلب هو الصل ،إذ ل ينجو إل من أتى الله بقلب سليم.وأمثال هؤلء كمثل رجل
زرع زرعًا ،فنبت معه حشيش يفسده ،فامر بقلعه ،أخذ يجز رؤوأسه وأأطرافه وأيترك
أصوله ،فلم تزل أصوله تقوى.وأفرقة علموا أن هذه الخلقا الباطنة مذمومة ،إل أنهم
بعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها ،وأأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك،
وأإنما يبتلى بذلك العوام دوأن من بلغ مبلغهم من العلم ،فإذا ظهر عليهم مخايل الكبر
وأالرياسة .قال أحدهم :ما هذا بكبر ،وأإنما هو طلب عز الدين ،وأإظهار شرفا العلم،
وأإرغام المبتدعين ،فإني لو لبست الدوأن من الثياب ،وأجلست في الدوأن من المجالس،
شمتت بى أعداء الدين ،وأفرحوا بذلى ،وأفى ذلي ذل السلم ،وأينسى الغروأر ،وأأن إبليس
هو الذي سول له هذا بدليل أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم وأأصحابه كانوا يتواضعون
وأيؤثروأن الفقر وأالمسكنة.وأقد روأينا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما قدم
الشام عرضت له مخاضة ،فنزل عن بعيره ،وأنزع خفيه وأأمسكهما ،وأخاض الماء ،وأمعه
بعيره ،فقال له أبو عبيدة :لقد صنعت اليوم صنعا ً عظيما ً عند أهل الرض ،فصك فى
صدره وأقال :أوأه لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة.إنكم كنتم أذل وأأحقر الناس ،فأعزكم
الله برسوله ،فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله .وأفى روأاية عنه :لما قدم الشام،
استقبله الناس وأهو على بعيره .قيل له :لو ركبت برذوأنا ً تلقى به عظماء الناس
وأوأجوههم؟ فقال عمر رضى الله عنه :ل أراكم هاهنا ،إنما المر من هاهنا -وأأشار بيده إلى
السماء -خلوا سبيل جملي.ثم العجب من مغروأر يطلب عز الدنيا بالثياب الرفيعة،
وأالخيول الفارهة وأنحو ذلك ،وأإذا خطر له خاطر الرياء قال :إنما غرضي بهذا إظهار العلم
وأالعمل ،لقتداء الناس بى ليهتدوأا إلى الدين ،وألو كان هذا قصده لفرح باقتداء الناس
بغيره كما يفرح باقتدائهم به ،لن من كان قصده صلح الخلق يفرح بصلحهم على يد من
كان ،وأكذلك من يدخل منهم على سلطان ،وأيتودد إليه ،وأيثنى عليه ،وأيتواضع له وأيقول:
إنما غرضي بهذا أن أشفع فى مسلم عنه الضرر ،وأالله يعلم أنه لو أظهره لبعض أقرانه
قبول عند السلطان لثقل عليه ذلك.وأقد ينتهي غروأر بعضهم أنه يأخذ من مالهم الحرام
وأيقول :هذا مال ل ملك له ،وأهو لمصالح المسلمين ،وأأنت إمام من أئمتهم ،فيغير بهذا
التلبيس من جهة نظره إلى نفسه .وأربما كان دجال ً من الدجالين من جهة قوله :هذا مال
ل ملك له .وأغاية المر وأقوع الختلط فى الموال ،وأذلك ل يمنع كونهما حرامًا ،وأقد يكون
عالما ً بمن أخذ منه المال وأفرقة أخرى أحكموا العلم ،وأطهروأا جوارحهم وأزينوها
بالطاعات ،وأتفقدوأا قلوبهم بتصفيتها من الرياء وأالحسد وأالكبر وأنحو ذلك ،وألكن بقيت فى
زوأايا القلب خفايا من مكائد الشيطان وأخدع النفس لم يفطنوا لها وأأهملوها ،فترى
أحدهم يسهر ليله وأينصب )(1 نهاره فى جمع العلوم وأترتيبها وأتحسين ألفاظها ،وأيرى أن
باعثه على ذلك الحرص على إظهار دين الله تعالى ،وأربما كان الباعث لذلك طلب الذكر
وأانتشار الصيت ،وألعله ل يخلو فى تصنيفه من الثناء على نفسه ،إما صريحا ً بالدعاوأى
الطويلة العريضة ،وأإما ضمنا ً بالطعن فى غيره ليبين فى طعنه فى غيره أنه أفضل من
ذلك الغير ،وأأعظم منه علمًا .فهذا وأأمثاله من خفايا العيوب التي ل يفطن لها إل الكياس
القوياء ،وأل مطمع فيه لمثالنا من الضعفاء ،إل أن أقل الدرجات أن يعرفا النسان عيوب
نفسه ،وأيحرص على صلحها.
وأمن سرته حسنته وأساءته سيئته ،فهو مرجو أمره ،بخلفا من يزكى نفسه وأيظن أنه من
خيار الخلق .فهذا غروأر الذين حصلوا العلوم المهمة ،فكيف بالذين قنعوا من العلوم بما ل
يهمهم وأتركوا المهم.فمنهم من اقتصر على علم الفتاوأى فى الحكومات وأالخصومات
وأتفاصيل المعاملت الدنيوية الجارية بين الخلق لصلح المعايش ،وأربما ضيعوا العمال
الظاهرة وأارتكبوا بعض المعاصي من الغيبة وأالنظر إلى ما ل يحل ،وأالمشى إلى ما ل
يجوز ،وألم يحرسوا قلوبهم عن الكبر وأالحسد وأالرياء وأجميع المهلكات ،فهؤلء مغروأروأن
من وأجهين :أحدهما من حيث العمل ،وأالخر من حيث العلم.وأمثالهم مثال المريض إذا
تعلم نسخة الدوأاء وأاشتغل بتكراره وأتعليمه ،ل بل مثلهم مثل من به علة البرسام وأهو
مشرفا على الهلك ،فاشتغل بتعلم دوأاء الستحاضة ،وأجعل يكرر ذلك ،وأذلك غاية الغروأر
.وأسبب غروأره ما سمع فى النقل من تعظيم الفقه ،وألم يدر أن الفقه هو الفقه عن الله
تعالى ،وأمعرفة صفاته المخوفة وأالمرجوة ،ليستشعر القلب الخوفا وأيلزم التقوى.وأقد
قال الله تعالى} :فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين{ الية ]التوبة[122:.
وأالذي يحصل له النذار غير هذا العلم ،فان مقصود هذا العلم حفظ الموال بشروأط
المعاملت ،وأحفظ البدان بالموال ،وأدفع القتل وأالجراحات وأالمال فى طريق الله تعالى
آلة ،وأالبدن مركب.وأإنما العلم المهم معرفة سلوك الطريق ،وأقطع عقابات القلب التي
هي من الصفات المذمومة ،فهي الحجاب بين العبد وأبين الله تعالى.وأمثال من اقتصر
على ذلك ،كمثل من اقتصر فى سلوك الحج على علم خرز الراوأية وأالخف ،وأل شك أنه
لبد من ذلك :وألكن ليس من الحج فى شئ.وأمن هؤلء من اقتصر على علم الخلفا ،وألم
يهمه إل طريق المجادلة ،وأاللزام ،وأالفحام ،وأدفع الحق لجل الغلبة ،فهو أسوأ حال ً ممن
ذكر قبلهم ،وأجميع دقائق الجدل فى الفقه بدعة لم يعرفها السلف.وأأما أدلة الحكام،
فيشتمل عليها علم المذهب ،وأهى كتاب الله وأسنة رسوله صلى الله عليه وأآله وأسلم
.وأأما حيل الجدل ،من الكسر ،وأالقلب ،وأفساد الوضع وأالتركيب ،وأالتعدية فإنما أبدعت
لظهار الغلبة وأالفحام.وأفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلم وأالمجادلة فى الهواء ،وأالرد
على المخالفين.ثم هؤلء طائفتان :ضالة ،وأمحقة ،فالضالة التي تدعو إلى غير السنة،
وأالمحقة التي تدعو إلى السنة ،وأالغروأر شامل لجميعهم.أما الضالة ،فاغترارها ظاهر ،وأأما
المحقة فاغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدال أهم المور ،وأأفضل القربات فى دين
الله تعالى ،وأزعمت أنه ل يتم ل حد دينه ما لم يبحث ،وأأن من صدقا الله وأرسوله من غير
تحرير دليل ،فليس بكامل اليمان ،فلهذا الظن الفاسد قطعوا أعمارهم فى تعلم الجدل
وأالبحث عن المقالت ،وأعميت بصائرهم ،فلم يلتفتوا إلى القرن الوأل ،وأأن النبى صلى
الله عليه وأآله وأسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق ،وأأنهم قد أدركوا كثيرا ً من البدع وأالهوى،
فلم يجعلوا أعمارهم وأدينهم عرضا ً للخصومات وأالمجادلت ،وألم يشتغلوا بذلك عن تفقد
قلوبهم وأجوارحهم ،بل لم يتكلموا فيه إل لضروأرة رد الضلل ،فان رأوأه مصرا ً على بدعته
هجروأه من غير مماراة وأل جدل.وأقد روأى فى الحديث" :ما ضل قوم بعد هدى إل أوأتوا
الجدل"وأفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ ،وأأعلهم رتبة من يتكلم فى أخلقا النفس وأصفات
القلب ،من الخوفا وأالرجاء وأالصبر وأالشكر وأالتوكل وأالزهد وأاليقين وأالخلص ،وأهم
يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات وأهم منفكون عنها أنهم من أهلها ،فهؤلء يدعون إلى
الله وأهم هاربون منه ،فهم أعظم الناس غرة.وأمن هؤلء من يعدل عن المنهاج الواجب
فى الوعظ إلى الشطح وأتلفيق كلم خارج عن قانون الشرع وأالعقل طلبا ً للغراب وأمنهم
من يستشهد بأشعار الوصال وأالفراقا ،وأغرضهم أن يكثر الصياح مجالسهم وأالتواجد ،وألو
على أغراض فاسدة ،فهؤلء شياطين النس.وأمنهم فرقة استغرقوا أوأقاتهم فى سماع
الحديث ،وأجمع روأاياته ،وأأسانيده الغريبة وأالعالية ،فهم أحدهم أن يدوأر البلد ،وأيرى
الشيوخ ليقول :أنا أروأى عن فلن ،وألقيت فلنًا ،وألى من السناد ما ليس لغيري.وأمنهم
فرقة اشتغلوا بعلم النحو وأاللغة وأالشعر ،وأزعموا أنهم علماء المة ،وأأذهبوا أعمارهم فى
دقائق النحو وأاللغة ،وألو عقلوا لعلموا أن مضيع عمره فى معرفة لغة العرب كالمضيع
عمره فى معرفة لغة الترك ،وأإنما فارقتها لغة العرب لجل وأروأد الشريعة بها ،فيكفى من
اللغة على الغريبين :غريب القرآن ،وأالحديث ،وأمن النحو ما يقوم به اللسان.فأما التعمق
إلى درجات ل تتناهى ،فذلك يشغل عما هو أجود منه وأألزم.وأمثال التعمق فى ذلك ،مثال
من ضيع عمره فى تصحيح مخارج الحروأفا فى القرآن ،مقتصرا ً على ذلك ،وأذلك غروأر،
لن المقصود من الحروأفا المعاني ،وأإنما الحروأفا ظروأفا وأأدوأات ،وأمن احتاج إلى شرب
السكنجبين لزالة الصفراء ،فضيع عمره فى تحسين القدح الذي يشرب فيه ،فهو مغروأر،
وأالسعيد من أخذ من كل شئ من هذا حاجته المهمة ل غير ،وأتجاوأز إلى العمل ،وأاجتهد
فيه وأفى تصفيته من الشوائب ،فهذا هو المقصود.وأفرقة أخرى عظم غروأرهم ،فوضعوا
الحيل فى دفع الحقوقا ،وأظنوا أن ذلك ينفعهم ،بل ذلك غروأر ،فان النسان إذا ألجأ زوأجته
إلى أن تبرئه من حقها لم يبرأ فيما بينه وأبين الله تعالى.وأكذلك هبة الرجل مال الزكاة
فى آخر الحول لزوأجته ،وأاتهابه مالها لسقاط الزكاة ،وأنحو ذلك من أنواع الحيل.
الصنف الثاني :أرباب التعبد وأالعمل ،وأهم فرقا:فرقة أهملوا الفرائض وأاشتغلوا
بالنوافل الفضائل ،وأربما تعمقوا فى استعمال الماء حتى خرجوا إلى الوسوسة فى
الوضوء ،فترى أحدهم ل يرضى بالماء المحكوم له بالطهارة شرعًا ،بل يقدر الحتمالت
البعيدة فى التنجس ،وأل يقدر ذلك فى مطعمه ،فلو انقلب هذا الحتياط من الماء إلى
المطعم ،لكان أشبه بسير السلف ،فإن عمر رضى الله عنه توضأ من جرة نصرانية مع
ظهور احتمال النجاسة ،وأكان مع هذا يدع أنواعا ً من الحلل خوفا ً من الوقوع في
الحرام .وأقد صح أن النبي صلى الله عليه وأآله وأسلم توضأ من مزادة مشركة )(2 .ثم
منهم من يخرج إلى السرافا في الماء ،وأيطول به المر ،حتى تضيع الصلة وأيخرج وأقتها
.وأمنهم من غلبت عليه الوسوسة فى تكبيرة الحرام فى الصلة ،حتى ربما فاتته ركعة مع
المام.
وأمنهم من يتوسوس فى إخراج حروأفا الفاتحة وأسائر الذكار من مخارجها ،فل يزال
يحتاط فى التشديدات ،وأالفرقا بين الضاد وأالظاء فوقا الحاجة ،وأنحو ذلك ،بحيث يهتم
بذلك حتى ل يتفكر فيما سواه ،وأيذهل عن معنى القرآن وأالتعاظ به ،وأهذا من ٌأقبح أنواع
الغروأر فان الخلق لم يتكلفوا من تحقيق مخارج الحروأفا فى تلوأة القرآن إل بما جرت به
العادة فى الكلم.وأمثال هؤلء مثال من حمل رسالة إلى سلطان ،فأخذ يؤدى الرسالة
بالتأنق فى مخارج الحروأفا وأتكراره ،وأهو غافل عن مقصود الرسالة وأمراعاة حرمة
المجلس ،فما أحراه بالطرد وأالتأديب.وأفرقة أخرى اغتروأا بقراءة القرآن ،فهم يهذوأنه
هذ ًا ،وأربما ختموا فى اليوم مرتين ،فلسان أحدهم يجرى به وأقلبه يتردد فى أوأدية المانى،
وأل يتفكر فى معاني القرآن وأل يتعظ بمواعظه ،وأل يقف عند أوأامره وأنواهيه ،فهذا مغروأر
يظن أن المقصود من القرآن التلوأة فقط.وأمثال ذلك ،مثال عبد كتب إليه موله كتابا ً
يأمره فيه وأينهاه ،فلم يصرفا عنايته إلى فهمه وأالعمل به ،بل اقتصر على حفظه
وأتكراره ،ظانا ً أن ذلك هو المراد منه ،مع مخالفته أمر موله وأنهيه.وأمنهم من يلتذ بصوته
بالقرآن ،معرضا ً عن معانيه ،فينبغي أن يتفقد قلبه فيعرفا هل التذاذه بالنظم ،أوأ
بالصوت ،وأ بالمعاني.
وأفرقة أخرى اغتروأا بالصوم وأأكثروأا منه ،وأهم ل يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وأالفضول،
وأل بطونهم من الحرام عند الفطار ،وأل خواطرهم عن الرياء.وأمنهم من اغتر بالحج،
فيخرج إليه من غير خروأج عن المظالم ،وأقضاء الديون ،وأاسترضاء الوالدين ،وأطلب الزاد
الحلل ،وأقد يفعلون ذلك بعد سقوط فرض الحج ،وأيضيعون فى الطريق العبادة
وأالفرائض وأيعجزوأن عن طهارة الثوب وأالبدن ،وأل يحترزوأن من الرفث وأالخصام ،وأهم مع
ذلك يظنون انهم على خير وأهم مغروأروأن .وأفرقة أخرى أخذوأا فى المر بالمعروأفا
وأالنهى عن المنكر ،وأنسوا أنفسهم.وأمنهم من يؤم فى مسجد ،وألو تقدم عليه أوأرع منه
وأأعلم ،ثقل عليه.وأمنهم من يؤذن وأيظن أن ذلك لله ،وألو أذن غيره فى غيبته ،أشتد عليه
ذلك وأقال :قد زاحمني فى مرتبتي.وأمنهم من يجاوأر بمكة أوأ المدينة وأقلبه متعلق ببلده،
وأقول الناس :فلن مجاوأر بمكة أوأ المدينة ،ثم إنه يجاوأر وأيطمع فى أوأساخ الناس ،وأقد
يجمع ذلك وأيشح به وأيجتمع له جملة من المهلكات .وأما من عمل إل وأفيه آفات ،فمن لم
يعرفها وأقع فيها ،وأمن أراد أن يعرفها ،فلينظر فى كتابنا هذا ،فينظر فى آفات الرياء
الحاصل فى العبادات من الصوم وأالصلة وأفى جميع القربات فى البواب المرتبة فى هذا
الكتاب ،وأإنما الغرض الن الشارة إلى مجامع ما سبق.
وأفرقة أخرى زهدت فى المال ،وأقنعت بالدوأن من اللباس وأالطعام ،وأقنعت من المسكن
بالمساجد ،فظنت أنها أدركت رتبة الزهاد ،وأهم مع هذا شديدوأ الرغبة فى الرياسة وأالجاه،
فقد تركوا أهون المرين وأباؤوأا بأعظم المهلكين.وأفرقا أخرى حرصت على النوافل ،وألم
تعتن بالفرائض ،فترى أحدهم يفرح بصلة الضحى وأصلة الليل ،وأل يجد للفريضة لذة .وأل
يحرص على المبادرة إليها فى أوأل الوقت ،وأينسى قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم فيما
يروأيه عن ربه عز وأجل" :ما تقرب المتقربون إل بمثل أداء ما افترضت عليهم"
فرقة منهم اغتروأا بالزي وأالنطق وأالهيئة ،فتشبهوا بالصادقين من الصوفية بالظاهر ،وألم
يتعبوا أنفسهم فى المجاهدة وأالرياضة ،ثم هم يتكالبون على الحرام وأالشبهات وأأموال
السلطين وأيمزقا بعضهم أعراض بعض إذا اختلفوا فى غرض ،وأهؤلء غروأرهم ظاهر
.وأمثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان وأالبطال من المقاتلين تثبت أسماؤهم فى
الديوان ،وأيقطع كل وأاحد منهم قطرا ً من أقطار الرض ،فاشتاقت نفسها إلى ذلك،
فلبست درعا ً وأوأضعت على رأسها مغفرًا ،وأتعلمت من رجز البطال أبياتًا ،وأتعلمت زيهم
وأجمع شمائلهم ،ثم توجهت إلى العسكر ،فكتب اسمها فى ديوان الشجعان ،فلما حضرت
فى ديوان العرض ،أمرت بتجريد المغفر وأالدرع لينظر ما تحته وأتمتحن بالمبارزة ،فلما
جردت إذا هي عجوز ضعيفة زمنة ،فقيل لها :جئت تستهزئين بالملك وأأهل حضرته ،خذوأها
وأألقوها بين أيدي الفيل ،فألقيت إليه.فهكذا يكون حال المدعين التصوفا فى القيامة إذا
كشف عنهم الغطاء ،وأعرضوا على الحاكم الكبر الذي ينظر إلى القلب ل إلى المرقعات
وأالزي.وأفرقة أخرى ادعت علم المعرفة ،وأمشاهدة الحق ،وأمجاوأرة المقامات وأالحوال،
وأالوصول إلى القرب ،وأل يعرفون من تلك المور إل السماء ،فترى أحدهم يرددها وأيظن
أن ذلك أعلى من علم الوألين وأالخرين ،فهو ينظر إلى الفقهاء وأالمحدثين وأأصنافا
العلماء بعين الزدراء ،فضل ً عن العوام ،حتى إن بعض العامة يلزمهم اليام الكثيرة،
وأيتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة ،وأيرددها كأنه يتكلم عن الوحى ،وأيحتقر فى ذلك
جميع العلماء وأالعباد ،وأيقول :إنهم محجوبون عن الله ،وأإنه هو الواصل إلى الحق ،وأإنه
من المقربين ،وأهو عند الله من الفجار المنافقين ،وأعند أرباب القلوب من الحمقى
الجاهلين ،لم يحكم علما ً وألم يهذب خلقًا ،وألم يراقب قلبا ً سوى اتباع الهوى وأحفظ
الهذيان.وأفرقة منهم طووأا بساط الشرع ،وأرفضوا الحكام ،وأسووأا بين الحلل وأالحرام،
وأبعضهم يقول :إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي؟وأبعضهم يقول :ل قدر
للعمال بالجوارح ،وأإنما النظر إلى القلوب ،وأقلوبنا وأالهة بحب الله تعالى ،وأوأاصلة إلى
معرفته ،وأإنما نخوض فى الدنيا بأبداننا ،وأقلوبنا عاكفة فى الحضرة الربانية ،فنحن مع
الشهوات بالظواهر ل بالقلوب ،وأيزعمون انهم قد تراقوا عن رتبة العوام ،وأاستغنوا عن
تهذيب النفس بالعمال البدنية ،وأأن الشهوات ل تصدهم عن طريق الله تعالى لقوتهم
فيها ،وأيرفعون أنفسهم عن درجة النبياء ،لن النبياء عليهم السلم كانوا يبكون على
خطيئة وأاحدة سنين.
وأأصنافا غروأر أهل الباحة ل تحصى ،وأكل ذلك أغاليط وأوأساوأس ،خدعهم الشيطان بها،
لشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ،من غير اقتداء بشيخ صاحب علم وأدين صالح
للقتداء به.وأمنهم فرقة أخرى جاوأزوأا هذه الطريق ،وأاشتغلوا بالمجاهدة ،وأابتدؤوأا بسلوك
الطريق وأانفتح لهم باب المعرفة ،فلما استنشقوا مبادئ ريح المعرفة ،تعجبوا منها
وأفرحوا بها وأأعجبهم غريبها ،فتقيدت قلوبهم باللتفات إليها وأالتفكر فيها ،وأكيفية انفتاح
بابها عليهم وأانسداده عن غيرهم ،وأكل ذلك غروأر ،لن عجائب طريق الله سبحانه وأتعالى
ليس لها نهاية .وألو وأقف مع كل أعجوبة وأتقيد بها ،قصرت خطاه وأجره الوصل إلى
القصد ،وأكان مثاله مثال من قصد ملكًا ،فرأى على بابه روأضة فيها أزهار لم يكن رأى
مثلها ،فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك.
وأهم فرقا:
ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد وأالمدارس وأالرباطات وأالقناطر وأما يظهر
للناس وأيكتبون أسماءهم عليها ليتخلد ذكرهم ،وأيبقى بعد الموت أثرهم ،وألو كلف أحدهم
أن ينفق دينار ا ً وأل يكتب اسمه فى الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه ،وألول أنه يريد
وأجه الناس ل وأجه الله ،لما شق عليه ذلك ،فإن الله يطلع عليه ،سواء كتب اسمه أوأ لم
يكتبه.بعضهم يصرفا المال فى زخرفة المساجد ،وأتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها
وأشاغلة للمصلين ،فإن المقصود من الصلة الخشوع وأحضور القلب ،وأذلك يفسد قلوب
المصلين.فأما إن كان المال الذي صرفه فى ذلك حرامًا ،كان أشد فى الغروأر.قال مالك
بن دينار رحمه الله :أتى رجل مسجدًا ،فوقف على الباب وأقال ،مثلى ل يدخل بيت الله،
فكتب فى مكانه صديقًا.فبهذا ينبغي أن تعظم المساجد ،وأهو أن يرى تلويث المسجد
بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد ،ل أن يرى تلويث المسجد بالحرام ،أوأ بزخرفا
الدنيا منه على الله تعالى ،فغروأر هذا من حيث أنه يرى المنكر معروأفًا.وأفرقة أخرى
يحفظون الموال وأيمسكونها بخلً ،ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي ل تحتاج إلى نفقة
المال ،كالصيام وأالصلة وأختم القرآن ،وأهم مغروأروأن لن البخل مهلك ،وأقد استولى على
قلوبهم،
فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال ،فقد اشتغلوا عنه بفضائل ل تجب عليهم.وأمثالهم
مثال من دخلت فى ثوبه حية ،فاشتغل عنها بطبخ السكنجبين لتسكن به الصفراء وأمنهم
من ل تسمح نفسه إل بأداء الزكاة فقط ،فيخرج الرديء من المال ،أوأ يعطى من الفقراء
من يخدمه ،وأيتردد فى حاجاته ،أوأ من يحتاج إليه فى المستقبل أوأ من له فيه غرض
.وأمنهم من يسلم من ذلك إلى بعض الكابر ليفرقه ،لينال بذلك عنده منزلة وأيقوم
ً
بحوائجه ،وأكل ذلك مفسد للنية وأصاحبه مغروأر ،لنه يطلب بعبادة الله تعالى عوضا عن
غيره.وأفرقة أخرى من أرباب الموال وأغيرهم ،اغتروأا بحضور مجالس الذكر ،وأظنوا أن
نفس الحضور يغنيهم عن العمل وأالتعاظ ،وأليس كذلك ،لن مجلس الذكر إنما فضل
لكونه مرغب ا ً فى الخير ،وأكل ما يراد لغيره إذا لم يوصل إلى ذلك الغير فل وأقع له ،وأربما
سمع أحدهم التخويف ،فل يزيد على قوله :يا سلم سلم ،أوأ أعوذ بالله ،وأيظن أنه قد أتى
المقصود.وأمثال هذا كمثل مريض يحضر عند الطباء فيسمع ما يجرى ،أوأ الجائع يحضر
عند من يصف له الطعمة اللذيذة ،ثم ينصرفا فل يغنى ذلك عنه .فكذلك سماع وأصف
الطاعات دوأن العمل بها ،فكل وأعظ لم يغير منك صفة تتغير بها أفعالك ،فهو حجة عليك.
فإن قيل :فما ذكرته من مداخل الغروأر أمر ل يكاد يخلص منه.فالجواب :أن مدار أمر
الخرة على معنى وأاحد ،وأهو تقويم القلب ،وأل يعجزعن ذلك إل من لم تصدقا نيته ،فإن
النسان لو اهتم بأمر الخرة كما يهتم بأمر الدنيا لنالها .وأقد فعل ذلك السلف الصالح
.وأيستعان على التخلص من الغروأر بثلثة أشياء. وأمن تبعهم بإحسان
وأإذا فعل جميع ذلك ينبغي أن يكون خائفا ً أن يخدعه الشيطان ،وأيدعوه إلى الرياسة
وأيخافا عليه أيضا ً من المن من مكر الله تعالى.وألذلك قيل :وأالمخلصون على خطر
عظيم )(3.وأقال المام احمد رحمه الله للشيطان حين قال له عند الموت :فُّتني .فقل :ل
.بعد .فل ينبغي أن يفارقا الخوفا قلوب الوألياء أبدًا .نسأل الله تعالى السلمة من الغروأر،
وأحسن الخاتمة ،إنه قريب مجيب .آخر الغروأر.وأبه تم ربع المهلكات ،وأنشرع الن فى ربع
المنجيات