You are on page 1of 54

‫مختصر منهاج القاصدين‬

‫ابن قدامة المقدسي‬


‫ربع المهلكات‬

‫نبذة‪ :‬يعتبر هذا الكتاب خلصة وأعصارة لكتاب التزكية الوأل إحياء علوم الدين ااإمام الغزالي ‪ ,‬يناقش الكتاب أعمال القلوب وأما يتعلق‬
‫جا تربوًيا ميسًرا للسائرين إلى الله عز وأجل ‪.‬‬
‫بها من عادات وأعبادات وأمهلكات وأمنجيات ‪ ,‬كما يعتبر هذا الكتاب منه ً‬

‫الفهرس‬

‫الربع الثالث ‪ :‬ربع المهلكات‬ ‫‪‬‬


‫كتاب شرح عجائب القلوب‬ ‫‪o‬‬
‫‪1‬ـ فصل ]‏في مداخل إبليس في قلب النسان[‏‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬ـ فصل ]‏في ثبات القلوب على الخير[‏‬ ‫‪‬‬
‫القلب الوأل‬ ‫‪‬‬
‫القلب الثانى‬ ‫‪‬‬
‫القلب الثالث‬ ‫‪‬‬
‫كتاب رياضة النفس وأمعالجة أمراض القلوب‬ ‫‪o‬‬
‫‪1‬ـ فصل في فضيلة حسن الخلق وأذم سوء الخلق‬ ‫‪‬‬
‫‪ -2‬فصل في بيان الطريق إلى تهذيب الخلقا‬ ‫‪‬‬
‫‪ -3‬فصل في علمات مرض القلب وأعوده إلى الصحة‬ ‫‪‬‬
‫‪4‬ـ فصل في شهوات النفوس‬ ‫‪‬‬
‫‪5‬ـ فصل بيان علمات حسن الخلق‬ ‫‪‬‬
‫‪6‬ـ فصل في رياضة الصبيان في أوأل النشوء‬ ‫‪‬‬
‫‪7‬ـ فصل ]‏في شروأط الرياضة[‏‬ ‫‪‬‬
‫كتاب كسر الشهوتين ]‏ شهوة البطن وأشهوة الفرج [‏‬ ‫‪o‬‬
‫شهوة البطن‬ ‫‪‬‬
‫شهوة الفرج‬ ‫‪‬‬
‫كتاب آفات اللسان‬ ‫‪o‬‬
‫ذكر آفات الكلم‬ ‫‪‬‬
‫الفة الوألى‪ :‬الكلم فيما ل يعنى‬ ‫‪‬‬
‫الفة الثانية‪ :‬الخوض في الباطل‬ ‫‪‬‬
‫الفة الثالثة‪ :‬التقعر في الكلم‬ ‫‪‬‬
‫الفة الرابعة‪ :‬الفحش وأالسب وأالبذاء‬ ‫‪‬‬
‫الفة الخامسة‪ :‬المزاح‬ ‫‪‬‬
‫الفة السادسة‪ :‬السخرية وأالستهزاء‬ ‫‪‬‬
‫الفة السابعة‪ :‬إفشاء السر‪ ،‬وأإخلفا الوعد وأالكذب في القول‬ ‫‪‬‬
‫وأاليمين‬
‫الفة الثامنة‪ :‬الغيبة‬ ‫‪‬‬
‫فصل في بيان السباب الباعثة على الغيبة وأذكر علجها‬ ‫‪‬‬
‫السبب الوأل ‪ :‬تشفى الغيظ‬ ‫‪‬‬
‫السبب الثانى‪ :‬من البواعث على الغيبة موافقة‬ ‫‪‬‬
‫القران‬
‫السبب الثالث‪ :‬إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره‬ ‫‪‬‬
‫الرابع‪ :‬اللعب وأالهزل‬ ‫‪‬‬
‫فصل ]‏في حصول الغيبة بسوء الظن[‏‬ ‫‪‬‬
‫بيان العذار المرخصة في الغيبة وأكفارة الغيبة‬ ‫‪‬‬
‫الفة التاسعة‪ :‬من آفات اللسان النميمة‬ ‫‪‬‬
‫الفة العاشرة‪ :‬كلم ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين‬ ‫‪‬‬
‫الفة الحادية عشرة‪ :‬المدح‬ ‫‪‬‬
‫الفة الثانية عشرة‪ :‬الخطأ في فحوى الكلم فيما يرتبط في أمور‬ ‫‪‬‬
‫الدين‬
‫فصل ]‏ل تسأل عن صفات الله عز وأجل[‏‬ ‫‪‬‬
‫كتاب ذم الغضب وأالحقد وأالحسد‬ ‫‪o‬‬
‫من نتائج الغضب‬ ‫‪‬‬
‫حقيقة الغضب‬ ‫‪‬‬
‫درجات قوة الغضب‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬ـ فصل في بيان السباب المهيجة للغضب‬ ‫‪‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يتفكر في الخبار الواردة في فضل كظم الغيظ‬ ‫‪‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يخوفا نفسه من عقاب الله تعالى‬ ‫‪‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يحذر نفسه عاقبة العداوأة‪ ،‬وأالنتقام‬ ‫‪‬‬
‫الرابع‪ :‬أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب‬ ‫‪‬‬
‫الخامس‪ :‬أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى النتقام‬ ‫‪‬‬
‫السادس‪ :‬أن يعلم أن غضبه إنما كان من شىء جرى على وأفق مراد‬ ‫‪‬‬
‫الله تعالى‬
‫‪2‬ـ فصل في كظم الغيظ‬ ‫‪‬‬
‫‪3‬ـ فصل في الحلم‬ ‫‪‬‬
‫‪4‬ـ فصل في العفو وأالرفق‬ ‫‪‬‬
‫‪5‬ـ باب في الحقد وأالحسد‬ ‫‪‬‬
‫علج الحسد‬ ‫‪‬‬
‫أسباب الحسد‬ ‫‪‬‬
‫‪6‬ـ فصل ]‏في سبب كثرة الحسد[‏‬ ‫‪‬‬
‫‪ 7‬ـ باب في ذم الدنيا‬ ‫‪‬‬
‫‪8‬ـ فصل في بيان حقيقة الدنيا وأالمذموم منها وأالمحمود‬ ‫‪‬‬
‫‪9‬ـ باب في ذم البخل وأالحرص وأالطمع‬ ‫‪‬‬
‫‪10‬ـ بيان في مدح المال‬ ‫‪‬‬
‫‪11‬ـ بيان ذم الحرص وأالطمع وأمدح القناعة وأاليأس‬ ‫‪‬‬
‫‪12‬ـ بيان علج الحرص وأالطمع وأالدوأاء الذي تكتسب به صفة القناعة‬ ‫‪‬‬
‫‪13‬ـ فصل ]‏في لزوأم القناعة لمن فقد المال[‏‬ ‫‪‬‬
‫من حكايات السخياء‬ ‫‪‬‬
‫‪14‬ـ فصل في البخل وأذمه‬ ‫‪‬‬
‫من حكايات البخلء‬ ‫‪‬‬
‫‪15‬ـ فصل في فضل اليثار وأبيانه‬ ‫‪‬‬
‫‪16‬ـ فصل ]‏في حد البخل وأالسخاء[‏‬ ‫‪‬‬
‫كتاب ذم الجاه وأالرياء وأعلجهما‬ ‫‪o‬‬
‫‪1‬ـ فصل ]‏في أن الجاه وأالمال هما ركنا الدنيا[‏‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬ـ بيان علج حب الجاه‬ ‫‪‬‬
‫‪3‬ـ فصل ]‏في عدم الكتراث بذم الناس[‏‬ ‫‪‬‬
‫باب في بيان الرياء وأحقيقته وأأقسامه وأذمه‬ ‫‪o‬‬
‫الرياء في الدين‬ ‫‪‬‬
‫النوع الوأل‪ :‬أن يكون من جهة البدن‬ ‫‪‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الرياء من جهة الزي‬ ‫‪‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬الرياء بالقول‬ ‫‪‬‬
‫النوع الرابع‪ :‬الرياء بالعمل‬ ‫‪‬‬
‫النوع الخامس‪ :‬المراءاة بالصحاب وأالزائرين‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬ـ فصل ]‏في أبواب الرياء بعضها أشد من بعض[‏‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬ـ بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل‬ ‫‪‬‬
‫‪3‬ـ فصل في بيان ما يحبط العمل من الرياء وأما ل يحبط‬ ‫‪‬‬
‫‪4‬ـ فصل في دوأاء الرياء وأطريقة معالجة القلب فيه‬ ‫‪‬‬
‫‪ 5‬ـ فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات‬ ‫‪‬‬
‫‪ 6‬ـ فصل في ترك الطاعات خوفا ً من الرياء‬ ‫‪‬‬
‫‪ 7‬ـ فصل في بيان ما يصح من نشاط العبد بسبب رؤية الخلق وأما ل يصح‬ ‫‪‬‬
‫كتاب ذم الكبر وأالعجب‬ ‫‪o‬‬
‫‪1‬ـ الفصل الوأل في الكبر‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬ـ فصل ]‏في تقسيم آفات الكبر[‏‬ ‫‪‬‬
‫من خصائل المتكبر‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬ـ بيان معالجة الكبر وأاكتساب التواضع‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬ـ الفصل الثاني في العجب‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬ـ فصل في علج العجب‬ ‫‪‬‬
‫خامس وأعشروأن كتاب الغروأر وأأقسامه وأدرجاته‬ ‫‪o‬‬
‫‪1‬ـ فصل ]‏الغترار وأاقع بالعلماء وأالعباد[‏‬ ‫‪‬‬
‫الصنف الوأل‪ :‬العلماء فأما أهل العلم‬ ‫‪‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬أرباب التعبد وأالعمل‬ ‫‪‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬المتصوفة‬ ‫‪‬‬
‫الصنف الرابع‪ :‬أرباب الموال‬ ‫‪‬‬
‫ما يستعان به للتخلص من الغروأر‬ ‫‪‬‬
‫الربع الثالث ‪ :‬ربع المهلكات‬

‫كتاب شرح عجائب القلوب‬

‫اعلم‪ :‬أن أشرفا ما في النسان قلبه‪ ،‬فإنه العالم بالله‪ ،‬العامل له‪ ،‬الساعي إليه‪ ،‬المقرب‬
‫المكاشف‪ ،‬بما عنده‪ ،‬وأإنما الجوارح أتباع وأخدام له يستخدمها القلب استخدام الملوك‬
‫للعبيد‪.‬وأمن عرفا قلبه عرفا ربه‪ ،‬وأأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفوسهم‪ ،‬وأالله يحول‬
‫بين المرء وأقلبه‪ ،‬وأحيلولته أن يمنعه من معرفته وأمراقبته‪ ،‬فمعرفة القلب وأصفاته أصل‬
‫الدين‪ ،‬وأأساس طريق السالكين‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل ]‏في مداخل إبليس في قلب النسان[‏‬

‫اعلم‪ :‬أن القلب بأصل فطرته قابل للهدى‪ ،‬وأبما وأضع فيه من الشهوة وأالهوى‪ ،‬مائل عن‬
‫ذلك‪ ،‬وأالتطارد فيه بين جندي الملئكة وأالشياطين دائم‪ ،‬إلى أن ينفتح القلب لحدهما‪،‬‬
‫فيتمكن‪ ،‬وأيستوطن‪ ،‬وأيكون اجتياز الثانى اختلسا ً كما قال تعالى }من شر الوسواس‬
‫الخناس{ ]‏الناس‪[4:‬‏ وأهو الذي إذا ذكر الله خنس‪ ،‬وأإذا وأقعت الغفلة انبسط‪ ،‬وأل يطرد‬
‫جند الشياطين من القلب إل ذكر الله تعالى‪ ،‬فإنه ل قرار له مع الذكر‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أن مثل القلب كمثل حصن‪ ،‬وأالشيطان عدوأ يريد أن يدخل الحصن‪ ،‬وأيملكه‬
‫وأيستولى عليه‪ ،‬وأل يمكن حفظ الحصن إل بحراسة أبوابه‪ ،‬وأل يقدر على حراسة أبوابه من‬
‫ل يعرفها‪ ،‬وأل يتوصل إلى دفع الشيطان إل بمعرفة مداخله‪ ،‬وأمداخل الشيطان وأأبوابه‬
‫صفات العبد‪ ،‬وأهى كثيرة‪ ،‬إل أنا نشير إلى البواب العظيمة الجارية مجرى الدروأب التي ل‬
‫تضيق عن كثرة جنود الشيطان‪.‬‬

‫فمن أبوابه العظيمة‪ :‬الحسد‪ ،‬وأالحرص‪ ،‬فمتى كان العبد حريصا ً على شئ‪ ،‬أعماه حرصه‬
‫وأأصمه‪ ،‬وأغطى نور بصيرته التي يعرفا بها مداخل الشيطان‪ .‬وأكذلك إذا كان حسودا ً فيجد‬
‫الشيطان حينئذ الفرصة‪ ،‬فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته‪ ،‬وأإن كان منكرا ً‬
‫أوأ فاحشًا‪.‬‬

‫وأمن أبوابه العظيمة‪ :‬الغضب‪ ،‬وأالشهوة‪ ،‬وأالحدة‪ ،‬فإن الغضب غول العقل‪ ،‬وأإذا ضعف جند‬
‫العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالنسان‪ .‬وأقد روأى أن إبليس يقول‪ :‬إذا كان العبد‬
‫حديدًا‪ ،‬قلبّناه كما يقلب الصبيان الكرة‪.‬‬

‫وأمن أبوابه‪ :‬حب التزيين في المنزل وأالثياب وأالثاث‪ ،‬فل يزال يدعو إلى عمارة الدار‬
‫وأتزيين سقوفها وأحيطانها‪ ،‬وأالتزين بالثياب‪ ،‬وأالثاث‪ ،‬فيخسر النسان طول عمره في‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وأمن أبوابه‪ :‬الشبع‪ ،‬فإنه يقوى الشهوة‪ ،‬وأيشغل الطاعة‪.‬‬

‫وأمنها‪ :‬الطمع في الناس‪ ،‬فإن من طمع في شخص‪ ،‬بالغ بالثناء عليه بما ليس فيه‪،‬‬
‫وأداهنه‪ ،‬وألم يأمره بالمعروأفا‪ ،‬وألم ينهه عن المنكر‪.‬‬

‫وأمن أبوابه‪ :‬العجلة‪ ،‬وأترك التثبت‪ ،‬وأقد قال النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬العجلة من‬
‫الشيطان‪ ،‬وأالتأني من الله تعالى"‬
‫وأمن أبوابه‪ :‬حب المال‪ ،‬وأمتى تمكن من القلب أفسده‪ ،‬وأحمله على طلب المال من غير‬
‫وأجهه‪ ،‬وأأخرجه إلى البخل‪ ،‬وأخوفه الفقر‪ ،‬فمنع الحقوقا اللزمة‪.‬‬

‫وأمن أبوابه‪ :‬حمل العوام على التعصب في المذاهب‪ ،‬دوأن العمل بمقتضاها‪.‬‬

‫وأمن أبوابه أيضًا‪ :‬حمل العوام على التفكير في ذات الله تعالى‪ ،‬وأصفاته‪ ،‬وأفى أمور ل‬
‫تبلغها عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين‪.‬‬

‫وأمن أبوابه‪ :‬سوء الظن بالمسلمين‪ ،‬فإن من حكم على مسلم بسوء ظنه‪ ،‬احتقره وأأطلق‬
‫فيه لسانه‪ ،‬وأرأى نفسه خيرا ً منه‪ ،‬وأإنما يترشح سوء الظن بخبث الظان‪ ،‬لن المؤمن‬
‫يطلب المعاذير للمؤمن‪ ،‬وأالمنافق يبحث عن عيوبه‪ .‬وأينبغى للنسان أن يحترز عن‬
‫مواقف التهم‪ ،‬لئل يساء به الظن‪ ،‬فهذا طرفا من ذكر مداخل الشيطان‪ ،‬وأعلج هذه‬
‫الفات سد مداخل بتطهير القلب من الصفات المذمومة‪ ،‬وأسيأتي الكلم عن هذه‬
‫الصفات‪ ،‬بقى للشيطان بالقلب خطرات وأاجتيازات من غير استقرار‪ ،‬فيمنعه من ذلك‬
‫ذكر الله تعالى‪ ،‬وأعمارة القلب بالتقوى‪ .‬وأمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك‪ ،‬فإن‬
‫لم يكن بين يديك لحم وأخبزه‪ ،‬فإنه ينزجر بأن تقول له‪ :‬اخسأ‪ ،‬وأإن كان بين يديك شئ‬
‫من ذلك وأهو جائع‪ ،‬لم يندفع عنك بمجرد الكلم‪ ،‬فكذلك القلب الخالي عن قوت الشيطان‬
‫ينزجر عنه بمجرد الذكر‪ .‬فأما القلب الذي غلب عليه الهوى‪ ،‬فإنه يرفع الذكر إلى‬
‫حواشيه‪ ،‬فل يتمكن الذكر من سويدائه‪ ،‬فيستقر الشيطان في السويداء‪ .‬وأإذا أردت‬
‫مصداقا ذلك‪ ،‬فتأمل هذا في صلتك‪ ،‬وأانظر إلى الشيطان كيف يحدث قلبك في مثل هذا‬
‫الموطن‪ ،‬بذكر السوقا‪ ،‬وأحساب المعاملين‪ ،‬وأتدبير أمر الدنيا‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أنه قد عفي عن حديث النفس‪ ،‬وأيدخل في ذلك ما هممت به‪ ،‬وأمن ترك ذلك‬
‫خوف ا ً من الله تعالى كتبت له حسنة وأإن تركه لعائق‪ ،‬رجونا له المسامحة‪ ،‬إل أن يكون‬
‫عزم ًا‪ ،‬فإن العزم على الخطيئة خطيئة‪ ،‬بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم‪" :‬إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل وأالمقتول في النار‪ ،‬قيل‪ :‬ما بال المقتول؟‏‬
‫قال‪ :‬إنه كان حريصا ً على قتل صاحبه”‪.‬‬

‫وأكيف ل تقع المؤاخذة بالعزم‪ ،‬وأالعمال بالنية‪ ،‬وأهل الكبر وأالرياء وأالعجب إل أمور‬
‫باطنة؟‏ وألو أن إنسانا ً رأى على فراشه أجنبية ظنها زوأجته لم يأثم بوطئها‪ ،‬وألو رأى زوأجته‬
‫وأظنها أجنبية أثم بوطئها‪ ،‬وأكل هذا متعلق بعقد القلب‪.‬‬

‫‪2‬ـ فصل ]‏في ثبات القلوب على الخير[‏‬

‫وأقد وأرد في الحديث أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم كان يقول‪" :‬يا مقلب القلوب‬
‫ثبت قلوبنا على دينك‪ ،‬يا مصرفا القلوب اصرفا قلبنا إلى طاعتك” وأفى حديث آخر‪:‬‬
‫"مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلة تقلبها الرياح"‬

‫وأاعلم‪ :‬أن القلوب في الثبات على الخير وأالشر وأالتردد بينهما ثلثة‪:‬‬

‫مّر بالتقوى‪ ،‬وأزكى بالرياضة‪ ،‬وأطهر عن خبائث الخلقا‪ ،‬فتتفرج‬


‫القلب الوأل‪ :‬قلب ع َ ُ‬
‫فيه خواطر الخير من خزائن الغيب‪ ،‬فيمده الملك بالهدى‪.‬‬

‫القلب الثانى‪ :‬قلب مخذوأل‪ ،‬مشحون بالهوى‪ ،‬مندس بالخبائث‪ ،‬ملوث بالخلقا‬
‫الذميمة‪ ،‬فيقوى فيه سلطان الشيطان لتساع مكانه‪ ،‬وأيضعف سلطان اليمان‪ ،‬وأيمتلئ‬
‫القلب بدخان الهوى‪ ،‬فيعدم النور‪ ،‬وأيصير كالعين الممتلئة بالدخان‪ ،‬ل يمكنها النظر‪ ،‬وأل‬
‫يؤثر عنده زجر وأل وأعظ‪.‬‬
‫وأالقلب الثالث‪ :‬قلب يبتدئ فيه خاطر الهوى‪ ،‬فيدعوه إلى الشر‪ ،‬فيلحقه خاطر‬
‫اليمان فيدعوه إلى الخير‪.‬مثاله‪ ،‬أن يحمل الشيطان حملة على العقل‪ ،‬وأيقوى داعي‬
‫الهوى وأيقول‪ :‬أما ترى فلنا ً وأفلنا ً كيف يطلقون أنفسهم في هواها‪ ،‬حتى يعد جماعة من‬
‫العلماء‪ ،‬فتميل النفس إلى الشيطان‪ ،‬فيحمل الملك حملة على الشيطان‪ ،‬وأيقول‪ :‬هل‬
‫هلك إل من نسى العاقبة‪ ،‬فل تغتر بغفلة الناس عن أنفسهم‪ ،‬أرأيت لو وأقفوا في الصيف‬
‫في الشمس وألك بيت بارد‪ ،‬أكنت توافقهم أم تطلب المصلحة؟‏ أفتخالفهم في حر‬
‫الشمس‪ ،‬وأل تخالفهم فيما يؤوأل إلى النار؟‏ فتميل النفس إلى قول الملك‪ ،‬وأيقع التردد‬
‫بين الجندين‪ ،‬إلى أن يغلب على القلب ما هو أوألى به‪ ،‬فمن خلق للخير يسر له‪ ،‬وأمن‬
‫خلق للشر يسر له‪} :‬فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للسلم وأمن يرد أن يضله‬
‫يجعل صدره ضيقا ً حرجا ً كأنما يصعد في السماء{ ]‏النعام‪[125 :‬‏ اللهم وأفقنا لما تحبه‬
‫وأترضاه‪.‬‬

‫كتاب رياضة النفس وأتهذيب الخلق وأمعالجة أمراض القلوب‬

‫وأذلك في فصول‪:‬‬

‫أعلم‪ :‬أن الخلق الحسن صفة من صفات النبياء وأالصديقين‪ ،‬وأأن الخلقا السيئة سموم‬
‫قاتلة‪ ،‬تنخرط بصاحبها في سلك الشيطان‪ ،‬وأأمراض تفوت جاه البد‪ ،‬فينبغي أن تعرفا‬
‫العلل ثم التشمير في معالجتها‪ ،‬وأنحن نشير إلى جمل من المراض‪ ،‬وأكيفية معالجتها في‬
‫الجملة من غير تفصيل‪ ،‬فإن ذلك يأتى مبينا ً إن شاء الله تعالى‪.‬‬

‫الفصل الوأل‬

‫‪1‬ـ في فضيلة حسن الخلق وأذم سوء الخلق‬

‫وأقد ذكر شئ من ذلك في آداب الصحبة‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أن الناس قد تكلموا في حسن الخلق متعرضين لثمرته ل لحقيقته‪ ،‬وألم يستوعبوا‬
‫جميع ثمراته‪ ،‬بل ذكر كل منهم ما حضر في ذهنه‪ ،‬وأكشف الحقيقة في ذلك أن يقال‪:‬‬
‫خلق‪ .‬أي حسن‬ ‫كثيرا ً ما يستعمل حسن الخلق مع الخلق فيقال‪ :‬فلن حسن بال َ‬
‫خلق وأال ُ‬
‫خلق‪ :‬الصورة الباطنة‪،‬‬ ‫خلق‪ :‬الصورة الظاهرة‪ ،‬وأالمراد بال ُ‬
‫الظاهر وأالباطن‪ ،‬فالمراد بال َ‬
‫وأذلك أن النسان مركب من جسد وأنفس‪.‬فالجسد مدرك بالبصر‪ ،‬وأالنفس مدركة‬
‫بالبصيرة‪ ،‬وألكل وأاحدة منها هيئة وأصورة إما جميلة وأإما قبيحة‪ ،‬وأالنفس المدركة بالبصيرة‬
‫أعظم قدرا ً من الجسد المدرك بالبصر‪ ،‬وألذلك عظم الله سبحانه وأتعالى أمره فقال‪:‬‬
‫}إني خالق بشرا ً من طين* فإذا سويته وأنفخت فيه من روأحي{ ]‏ص‪[71-72 :‬‏‪ ،‬فنبه على أن‬
‫الجسد منسوب إلى الطين‪ ،‬وأالروأح منسوب إليه سبحانه وأتعالى‪ ،‬فالخلق عبارة عن هيئة‬
‫للنفس راسخة تصدر عنها الفعال بسهولة وأيسر من غير حاجة إلى فكر وأروأية‪ ،‬فإن‬
‫كانت الفعال جميلة سميت خلقا ً حسنًا‪ ،‬وأإن كانت قبيحة سميت خلقا ً سيئًا‪.‬وأقد زعم‬
‫بعض من غلبت عليه البطالة فاستثقل الرياضة‪ ،‬أن الخلقا ل يتصور تغييرها‪ ،‬كما ل‬
‫يتصور تغيير صورة الظاهر‪.‬‬

‫وأالجواب‪ :‬أنه لو كانت الخلقا ل تقبل التغيير لم يكن للمواعظ وأالوصايا معنى‪ ،‬وأكيف‬
‫تنكر تغيير الخلقا وأنحن نرى الصيد الوحشي يستأنس‪ ،‬وأالكلب يعلم ترك الكل‪ ،‬وأالفرس‬
‫تعلم حسن المشي وأجودة النقياد‪ ،‬إل أن بعض الطباع سريعة القبول للصلح‪ ،‬وأبعضها‬
‫مستصعبة‪.‬وأأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة ل يتغير‪ ،‬فاعلم أنه ليس المقصود قمع‬
‫هذه الصفات بالكلية‪ ،‬وأإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى العتدال الذي هو‬
‫وأسط بين الفراط وأالتفريط‪ ،‬وأأما قمعها بالكلية فل‪ ،‬كيف وأالشهوة إنما خلقت لفائدة‬
‫ضروأرية في الجبلة‪ ،‬وألو انقطعت شهوة الطعام لهلك النسان‪ ،‬أوأ شهوة الوقاع لنقطع‬
‫النسل‪ ،‬وألو انعدم الغضب بالكلية‪ ،‬لم يدفع النسان عن نفسه ما يهلكه‪ ،‬وأقد قال الله‬
‫تعالى ‪} :‬أشداء على الكفار{ ]‏الفتح‪[29 :‬‏ وأل تصدر الشدة إل عن الغضب‪ ،‬وألو بطل‬
‫الغضب لمتنع جهاد الكفار‪ ،‬وأقال تعالى ‪}:‬وأالكاظمين الغيظ{ ]‏آل عمران‪[134 :‬‏ وألم يقل ‪:‬‬
‫الفاقدين الغيظ‪ .‬وأكذلك المطلوب في شهوة الطعام العتدال دوأن الشره وأالتقلل‪ :‬قال‬
‫الله تعالى‪} :‬وأكلوا وأاشربوا وأل تسرفوا{ ]‏ العرافا‪[31 :‬‏ إل أن الشيخ المرشد للمريد إذا‬
‫رأى له ميل ً إلى الغضب أوأ الشهوة‪ ،‬حسن أن يبالغ في ذمها على الطلقا ليرده إلى‬
‫التوسط‪ ،‬وأمما يدل على أن المراد من الرياضة العتدال أن السخاء خلق مطلوب شرعا ً‬
‫وأهو وأسط بين طرفي التقتير وأالتبذير وأقد أثنى الله عليه بقوله ‪}:‬وأالذين إذا أنفقوا لم‬
‫يسرفوا وألم يقتروأا وأكان بين ذلك قواما{ ]‏الفرقان‪[67 :‬‏‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أن هذا العتدال‪ .‬تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخلق‪ ،‬فكم من صبى‬
‫يخلق صادقا ً سخيا ً حليمًا‪ ،‬وأتارة يحصل بالكتساب‪ ،‬وأذلك بالرياضة‪ ،‬وأهى حمل النفس‬
‫على العمال الجالبة للخلق المطلوب ‪ ،‬فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجود‬
‫من البذل ليصير ذلك طبعا ً له‪.‬وأكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين‪ ،‬وأكذلك‬
‫جميع الخلقا المحمودة فإن للعادة أثرا ً في ذلك‪ ،‬كما أن من أراد أن يكون كاتبا ً تعاطى‬
‫فعل الكتابة‪ ،‬أوأ فقيها ً تعاطى فعل الفقهاء من التكرار‪ ،‬حتى ينعطف على قلبه صفة‬
‫الفقه‪ ،‬إل أنه ل ينبغي أن يطلب تأثير ذلك في يومين أوأ ثلثة‪ ،‬وأإنما يؤثر مع الدوأام‪ ،‬كما ل‬
‫يطلب في النمو علو القامة في يومين أوأ ثلثة‪ ،‬وأللدوأام تأثير عظيم‪ .‬وأكما ل ينبغي أن‬
‫يستهان بقليل الطاعات‪ ،‬فإن دوأامها يؤثر‪ ،‬وأكذلك ل يستهان بقليل من الذنوب‪.‬كما أن‬
‫تعاطى أسباب الفضائل يؤثر في النفس وأيغير طبعها‪ ،‬فكذلك مساكنة الكسل أيضا ً يصير‬
‫عادة‪ ،‬فيحرم بسببه كل خير‪ .‬وأقد تكتسب الخلقا الحسنة بمصاحبة أهل الخير‪ ،‬فإن‬
‫الطبع لص يسرقا الخير وأالشر‪.‬قلت‪ :‬وأيؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬المرء‬
‫على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"‪.‬‬

‫‪2‬ـ الفصل الثاني‬

‫في بيان الطريق إلى تهذيب الخلقا‬

‫قد عرفت أن العتدال في الخلقا هو الصحة في النفس‪ ،‬وأالميل عن العتدال سقم‬


‫وأمرض‪ ،‬فاعلم أن مثال النفس في علجها كالبدن في علجه‪ ،‬فكما أن البدن ل يخلق‬
‫كامل ً‪ ،‬وأإنما يكمل بالتربية وأالغذاء‪ ،‬كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال‪ ،‬وأإنما تكمل‬
‫بالتزكية وأتهذيب الخلقا‪ ،‬وأالتغذية بالعلم‪.‬وأكما أن البدن إذا كان صحيحًا‪ ،‬فشأن الطبيب‬
‫العمل على حفظ الصحة‪ ،‬وأإن كان مريضًا‪ ،‬فشأنه جلب الصحة إليه‪ ،‬كذلك النفس إذا‬
‫كانت زكية طاهرة مهذبة الخلقا‪ ،‬فينبغي أن يسعى بحفظها وأجلب مزيد القوة إليها‪ ،‬وأإن‬
‫كانت عديمة الكمال‪ ،‬فينبغي أن يسعى بجلب ذلك إليه‪.‬وأكما أن العلة الموجبة لمرض‬
‫البدن ل تعالج إل بضدها‪ ،‬إن كانت من حرارة فبالبروأدة وأإن كانت من البروأدة فبالحرارة‪،‬‬
‫فكذلك الخلقا الرذيلة التي هي من مرض القلب‪ ،‬علجها بضدها‪ ،‬فيعالج مرض الجهل‬
‫بالعلم‪ ،‬وأمرض البخل بالسخاء‪ ،‬وأمرض الكبر بالتواضع‪ ،‬وأمرض الشره بالكف عن‬
‫المشتهى‪.‬وأكما أنه لبد من احتمال مرارة الدوأاء‪ ،‬وأشدة الصبر عن المشتهيات لصلح‬
‫البدان المريضة‪ ،‬فكذلك لبد من احتمال المجاهدة‪ ،‬وأالصبر على مداوأمة مرض القلب بل‬
‫أوألى‪ ،‬فإن مرض البدن يخلص منه بالموت‪ ،‬وأمرض القلب عذاب يدوأم بعد الموت أبدا ً‬
‫ب نفوس المريدين أن ل يهجم عليهم بالرياضة في فن مخصوص‪ ،‬حتى‬ ‫وأينبغى للذي يط ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يعرفا أخلقهم وأأمراضهم‪ ،‬إذ ليس علج كل مريض وأاحدا‪ ،‬فإذا رأى جاهل بالشرع علمه‪،‬‬
‫وأإذا رأى متكبر ا ً حمله على ما يوجب التواضع‪ ،‬أوأ شديد الغضب ألزمه الحلم‪.‬وأأشد حاجة‬
‫الرائض لنفسه‪ ،‬قوة العزم‪ ،‬فمتى كان مترددا ً بعد فلحه‪ ،‬وأمتى أحس من نفسه ضعف‬
‫العزم تصبر‪ ،‬فإذا انقضت عزيمتها عاقبها لئل تعاوأد‪ ،‬كما قال رجل لنفسه‪ :‬تتكلمين فيما ل‬
‫يعنيك ؟‏ لعاقبنك بصوم سنة‪.‬‬

‫في علمات مرض القلب وأعوده إلى الصحة‪.‬وأبيان الطريق إلى‬ ‫‪3‬ـ الفصل الثالث ‪:‬‬
‫معرفة النسان عيوب نفسه‪.‬‬

‫اعلم‪ :‬أن كل عضو خلق لفعل خاص‪ ،‬فعلمة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل‪ ،‬أوأ يصدر‬
‫منه مع نوع من الضطراب‪ ،‬فمرض اليد تعذر البطش‪ ،‬وأمرض العين تعذر البصار‪،‬‬
‫وأمرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لجله‪ ،‬وأهو العلم وأالحكمة‬
‫وأالمعرفة‪ ،‬وأحب الله تعالى وأعبادته‪ ،‬وأإيثار ذلك على كل شهوة‪ .‬فلو أن النسان عرفا كل‬
‫شئ وألم يعرفا الله سبحانه‪ ،‬كان كأنه لم يعرفا شيئًا‪ .‬وأعلمة المعرفة‪ :‬الحب‪ ،‬فمن‬
‫عرفا الله أحبه‪ ،‬وأعلمة المحبة أن ل يؤثر عليه شيئا ً من المحبوبات‪ ،‬فمن آثر عليه شيئا ً‬
‫من المحبوبات فقلبه مريض‪ ،‬كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز ‪ -‬وأقد‬
‫سقطت عنها شهوة الخبز ‪ -‬مريضة‪.‬‬

‫وأمرض القلب خفي قد ل يعرفه صاحبه‪ ،‬فلذلك يغفل عنه‪ ،‬وأإن عرفه صعب عليه الصبر‬
‫على مرارة دوأائه ‪ ،‬لن دوأاءه مخالف الهوى‪ ،‬وأإن وأجد الصبر لم يجد طبيبا ً حاذقا ً يعالجه‪،‬‬
‫فإن الطباء هم العلماء وأالمرض قد استولى عليهم وأالطبيب المريض قلما يلتفت إلى‬
‫علجه‪ ،‬فلهذا صار الداء عضالً‪ ،‬وأاندرس هذا العلم‪ ،‬وأأنكر طب القلوب وأمرضها بالكلية‬
‫وأأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات وأباطنها عادات فهذه علمة أصل المرض‪.‬وأأما‬
‫عافيته وأعوده إلى الصحة بعد المعالجة‪ ،‬فهو أن ينظر إلى العلة‪ ،‬فإن كان يعالج داء‬
‫البخل‪ ،‬فعلجه بذل المال‪ ،‬وألكنه ل يسرفا‪ ،‬وأيصير إلى حد التبذير فيحصل داء آخر فيكون‬
‫كمن يعالج البروأدة بالحرارة الغالبة حتى تغلب الحرارة‪ ،‬فيكون داًء أيضًا‪ ،‬بل المطلوب‬
‫العتدال‪ .‬وأإذا أرادت أن تعرفا الوسط‪ ،‬فانظر إلى نفسك‪ ،‬فإن كان إمساك المال وأجمعه‬
‫ألذ عندك‪ ،‬وأأيسر عليك من بذله لمستحقه‪ ،‬فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل‪ ،‬فعالج‬
‫نفسك على البذل‪ ،‬وأإن صار البذل للمستحق ألذ عندك‪ ،‬وأأخف عليك من المساك فقد‬
‫غلب عليك التبذير‪ ،‬فارجع إلى المواظبة على المساك‪ ،‬وأل تزال تراقب نفسك ‪ ،‬وأتستدل‬
‫على خلقك بتيسير الفعال وأتعسيرها‪ ،‬حتى تنقطع علقة قلبك عن المال فل تميل إلى‬
‫بذله وأل إمساكه‪ ،‬بل يصير عندك كالماء‪ ،‬فل تطلب فيه إمساكه لحاجة محتاج‪ ،‬أوأ بذله‬
‫لحاجة محتاج‪ ،‬فكل قلب صار كذلك‪ ،‬فقد جاء الله سليما ً في هذا المقام‪ .‬وأيجب أن يكون‬
‫سليما ً على سائر الخلقا حتى ل تكون له علقة بشيء من الدنيا‪ ،‬حتى ترتحل النفس عن‬
‫الدنيا منقطعة العلئق منها‪ ،‬غير ملتفته إليها‪ ،‬وأل متشوقة إلى أسبابها‪ ،‬فحينئذ ترجع إلى‬
‫ربها رجوع النفس المطمئنةوألما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض‪،‬‬
‫بل هو أدقا من الشعر وأأحد من السيف فل جرم من استوى على هذا الصراط في الدنيا‪،‬‬
‫جاز على مثل هذا الصراط في الخرة‪ ،‬وألجل عسر الستقامة أمر العبد أن يقول في كل‬
‫يوم مرات }اهدنا الصراط المستقيم{ ]‏الفاتحة ‪[6:‬‏‪ ،‬وأمن لم يقدر على الستقامة‪ ،‬فليجتهد‬
‫على القرب من الستقامة فان النجاة بالعمل الصالح‪ .‬وأل تصدر العمال الصالحة إل عن‬
‫الخلقا الحسنة‪ ،‬فليتفقد كل عبد صفاته وأأخلقه‪ ،‬وأليشتغل بعلج وأاحد بعد وأاحد‪ ،‬وأليصبر‬
‫ذوأ العزم على مضض هذا المر‪ ،‬فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له‪ ،‬فلو‬
‫رد إلى الثدي لكرهه‪ ،‬وأمن عرفا قصر العمر بالنسبة إلى مدة حياة الخرة حمل مشقة‬
‫سَرى‪.‬‬
‫سفر أيام لتنعم البد‪ ،‬فعند الصباح يحمد القوم ال ّ‬

‫وأاعلم‪ :‬أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا ً بصره بعيوب نفسه‪ ،‬فمن كانت له بصيرة‪ ،‬لم‬
‫تخف عليه عيوبه‪ ،‬وأإذا عرفا العيوب أمكنه العلج‪ ،‬وألكن اكثر الناس جاهلون بعيوبهم‪،‬‬
‫يرى أحدهم القذى في عين أخيه وأل يرى الجذع في عينه‪.‬فمن أراد الوقوفا على عيب‬
‫نفسه فله في ذلك أربع طرقا‪:‬الطريقة الوألى‪ :‬أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب‬
‫النفس‪ ،‬يعرفا عيوب نفسه وأطرقا علجها‪ ،‬وأهذا قد عز في هذا الزمان وأجوده‪ ،‬فمن وأقع‬
‫به‪ ،‬فقد وأقع بالطبيب الحاذقا فل ينبغي أن يفارقه ‪.‬الطريقة الثانية‪ :‬أن يطلب صديقا ً‬
‫صدوأقا ً بصيرا ً متدينًا‪ ،‬وأينصبه رقيبا ً على نفسه لينبهه على المكروأه من أخلقه وأأفعاله‪.‬‬
‫وأقدكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول‪ :‬رحم الله امرءا ً أهدى إلينا‬
‫عيوبنا‪.‬وأسأل سلمان رضى الله عنه لما قدم عليه من عيوبه‪ ،‬فقال‪ :‬سمعت أنك جمعت‬
‫بين إدامين على مائدة‪ ،‬وأان لك حلتين‪ :‬حلة بالليل‪ ،‬وأحلة بالنهار‪ ،‬فقال‪ :‬هل بلغك غير‬
‫هذا؟‏ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أما هذا فقد كفيتهما‪.‬وأكان عمر رضى الله عنه يسأل حذيفة‪ :‬هل أنا‬
‫من المنافقين؟‏ وأهذا لن كل من علت مرتبته في اليقظة زاد اتهامه لنفسه‪ ،‬إل أنه عز‬
‫في هذا الزمان وأجود صديق على هذه الصفة‪ ،‬لنه قل في الصدقاء من يترك المداهنة‪،‬‬
‫فيخبر‬

‫بالعيب أوأ يترك الحسد‪ ،‬فل يزيد على قدر الواجب‪ .‬وأقد كان السلف يحبون من ينبههم‬
‫على عيوبهم‪ ،‬وأنحن الن في الغالب أبغض الناس إلينا من يعرفنا عيوبنا‪ .‬وأهذا دليل على‬
‫ضعف اليمان‪ ،‬فإن الخلقا السيئة كالعقارب‪ ،‬لو أن منبها ً نبهنا على أن تحت ثوب أحدنا‬
‫عقربا ً لتقلدنا له منة‪ ،‬وأاشتغلنا بقتلها‪ ،‬وأالخلقا الرديئة أعظم ضررا ً من العقرب على ما ل‬
‫يخفى‪.‬‬

‫الطريقة الثالثة‪ :‬أن يستفيد معرفة نفسه من ألسنة أعدائه‪ ،‬فإن عين السخط تبدى‬
‫المساوأئ‪ ،‬وأانتفاع النسان بعدوأ مشاجر يذكر عيوبه‪ ،‬أكثر من انتفاعه بصديق مداهن‬
‫يخفى عنه عيوبه‪.‬‬

‫الطريقة الرابعة‪ :‬أن يخالط الناس‪ ،‬فكل ما يراه مذموما ً فيما بينهم‪ ،‬يجتنبه‪.‬‬

‫‪4‬ـ فصل ]‏في شهوات النفوس[‏‬

‫وأقد ذكرنا أن شهوات النفوس لم توضع إل لفائدة ‪ ،‬إذ لول شهوة المطعم ما حصل تناوأل‬
‫الغذاء‪ ،‬وألول شهوة الجماع لنقطع النسل‪ ،‬وأإنما المذموم فضول الشهوات وأطغيانها‪،‬‬
‫وأثمة قوم لم يفهموا هذا القدر‪ ،‬فأخذوأا يتركون كل ما تشتهيه النفس‪ ،‬وأهذا ظلم لها‬
‫بإسقاط حقها‪ ،‬فإن لها حقا ً بدليل قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬إن لنفسك عليك‬
‫حقا ً” حتى إن قائل ً منهم يقول‪ :‬لى كذا وأكذا سنة اشتهي كذا فل أتناوأله‪ ،‬وأهذا انحرافا‬
‫ل وأخلفا سنة رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ ،‬فإنه كان يتناوأل المشتهى‬ ‫عن الح ّ‬
‫من الحلو وأالعسل وأغيرهما‪ ،‬فل يلتفت إلى زاهد قل علمه‪ ،‬فحرم نفسه حظها من‬
‫المشتهى على الطلقا‪ ،‬فإنه إلى الظلم أقرب منه إلى العدل‪ ،‬وأإنما يترك المشتهى إذا‬
‫صعبت الطريق إليه‪ ،‬مثل أن ل يحصل إل بوجه مكروأه‪ ،‬أوأ يخافا من تناوأله انحلل عزمه‪،‬‬
‫فتطمع النفس في استدامته‪ ،‬أوأ يحذر من ذلك زيادة شبع‪ ،‬فيثقله عن عبادته‪ ،‬فأما تناوأله‬
‫في بعض الوأقات لتقوية النفس‪ ،‬فذلك كالطب للمريض‪ ،‬يمدح وأل يذم‪ ،‬وأل بأس بالرفق‬
‫بالنفس لتقوى على السلوك‪.‬‬

‫‪5‬ـ بيان علمات حسن الخلق‬

‫ربما جاهد المريد نفسه حتى ترك الفواحش وأالمعاصي‪،‬ثم ظن أنه قد هذب‬
‫خلقه‪،‬وأاستغنى عن المجاهدة‪ ،‬وأليس كذلك‪ ،‬فإن حسن الخلق هو مجموع صفات‬
‫المؤمنين‪ ،‬وأقد وأصفهم الله تعالى فقال ‪} :‬إنما المؤمنين الذين ذكر الله وأجلت قلوبهم وأإذا‬
‫تليت عليهم آياته زادتهم إيمان ا ً وأعلى ربهم يتوكلون* الذين يقيمون الصلة وأمما رزقناهم ينفقون*‬
‫أوألئك هم المؤمنون حقًا{ ]‏ النفال‪[2-3-4 :‬‏ وأقال‪ } :‬التائبون العابدوأن الحامدوأن السائحون‬
‫الراكعون الساجدوأن المروأن بالمعروأفا وأالناهون عن المنكر وأالحافظون لحدوأد الله وأبشر‬
‫المؤمنين{ ]‏سورة التوبة‪[112 :‬‏ وأقال تعالى‪ } :‬قد أفلح المؤمنون{ إلى قوله } أوألئك هم‬
‫الوارثون{ ]‏ المؤمنون‪ :‬آية ‪[10-1‬‏‪ ،‬وأقال‪ } :‬وأعباد الرحمن الذين يمشون على الرض هونا ً{‬
‫]‏ الفرقان‪[63 :‬‏ إلى آخر السورة‪ ،‬فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه اليات‪،‬‬
‫فوجود جميع هذه الصفات علمة حسن الخلق‪ ،‬وأفقد جميعها علمة سوء الخلق وأوأجود‬
‫بعضها دوأن البعض يدل على البعض دوأن البعض فليشتغل بحفظ ما وأجده وأتحصيل ما‬
‫فقده‪ .‬وأقد وأصف رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪ " :‬وأالذي نفسي بيده ل‬
‫يؤمن عبدا ً حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه"‪ .‬وأفيهما أيضا من حديث أبى هريرة رضى‬
‫الله عنه‪ ،‬عنه صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪ " :‬من كان يؤمن بالله وأاليوم الخر‬
‫فليكرم ضيفه‪ ،‬وأمن كان يؤمن بالله وأاليوم الخر فل يؤذى جاره‪ ،‬وأمن كان يؤمن بالله‬
‫وأاليوم الخر فليقل خيرا ً أوأ ليصمت" وأفى حديث آخر‪ " :‬أكمل المؤمنين إيمانا ً أحسنهم‬
‫أخلقًا"‪ .‬وأمن حسن الخلق‪ :‬احتمال الذى‪ ،‬ففى الصحيحين أن أعرابيا ً جذب رداء النبى‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم حتى أثرت حاشيته في عاتقه صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬يا محمد‪ ،‬مر لى من مال الله الذي عندك‪ ،‬فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه‬
‫وأآله وأسلم ‪ ،‬ثم ضحك‪ ،‬ثم أمر له بعطاء‪.‬وأكان إذا آذاه قومه قال‪" :‬اللهم اغفر لقومي‬
‫فإنهم ل يعلمون" وأكان أوأيس القرني إذا رماه الصبيان بالحجارة يقول‪ :‬يا إخوتاه‪ ،‬إن كان‬
‫وألبد‪ ...‬فارموني بالصغار لئل تدموا ساقي فتمعنوني من الصلة‪ .‬وأخرج إبراهيم بن أدهم‬
‫إلى بعض البرارى‪ ،‬فاستقبله جندي فقال‪ :‬أين العمران؟‏ فأشار إلى المقبرة‪ ،‬فضرب‬
‫رأسه فشجه‪ ،‬فلما أخبر أنه إبراهيم‪ ،‬جعل يقبل يده وأرجله‪ ،‬فقال‪ :‬إنه لما ضرب رأسي‬
‫سألت الله له الجنة‪ ،‬لني علمت أنى أوأجر بضربه إياي فلم أحب أن يكون نصيبي منه‬
‫الخير‪ ،‬وأنصيبه منى الشر‪ ،‬وأأجتاز بعضهم في سكة‪ ،‬فطرح عليه رماد من السطح‪ ،‬فجعل‬
‫أصحابه يتكلمون‪ .‬فقال‪ :‬من استحق النار فصولح على الرماد‪ ،‬ينبغي له أن ل يغضب‪.‬‬
‫فهذه نفوس ذللت بالرياضة‪ ،‬فاعتدلت أخلقهم‪ ،‬وأنقيت عن الغش بواطنها‪ ،‬فأثمرت‬
‫الرضى بالقضاء‪ ،‬وأمن لم يجد من نفسه بعض هذه العلمات التي وأجدها هؤلء‪ ،‬فينبغي أن‬
‫يداوأم الرياضة ليصل‪ ،‬فإنه بعد ما وأصل‪.‬‬

‫‪6‬ـ فصل في رياضة الصبيان في أوأل النشوء‬

‫اعلم‪ :‬أن الصبي أمانة عند وأالديه‪ ،‬وأقلبه جوهرة ساذجة‪ ،‬وأهى قابلة لكل نقش‪ ،‬فإن عود‬
‫الخير نشأ عليه وأشاركه أبواه وأمؤدبه في ثوابه‪،‬وأإن عود الشر نشأ عليه‪ ،‬وأكان الوزر في‬
‫عنق وأليه‪ ،‬فينبغي أن يصونه وأيؤدبه وأيهذبه‪ ،‬وأيعلمه محاسن الخلقا‪ ،‬وأيحفظه من قرناء‬
‫السوء‪ ،‬وأل يعوده التنعم‪ ،‬وأل يحبب إليه أسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر‪.‬‬
‫بل ينبغي أن يراقبه من أوأل عمره‪ ،‬فل يستعمل في رضاعة وأحضانته إل امرأة صالحة‬
‫متدينة تأكل الحلل‪ ،‬فإن اللبن الحاصل من الحرام ل بركة فيه‪ ،‬فإذا بدت فيه مخايل‬
‫التمييز وأأوألها الحياء‪ ،‬وأذلك علمة النجابة وأهى مبشرة بكمال العقل عند البلوغ‪ ،‬فهذا‬
‫يستعان على تأديبه بحيائه‪ .‬وأأوأل ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام‪ ،‬فينبغي أن يعلم‬
‫آداب الكل‪ ،‬وأيعوده أكل الخبز وأحده في بعض الوأقات لئل يألف الدام فيراه كالحتم‪،‬‬
‫وأيقبح عنده كثرة الكل‪ ،‬بأن يشبه الكثير الكل بالبهائم‪ ،‬وأيحبب إليه الثياب البيض دوأن‬
‫الملونة وأالبريسم وأيقرر عنده أن ذلك من شأن النساء وأالمخنثين‪ ،‬وأيمنعه من مخالطة‬
‫الصبيان الذين عودوأا التنعم‪ ،‬ثم يشغله في المكتب بتعليم القرآن وأالحديث وأأحاديث‬
‫الخبار‪ ،‬ليغرس في قلبه حب الصالحين‪ ،‬وأل يحفظ من الشعار التي فيها ذكر العشق‪.‬‬

‫وأمتى ظهر من الصبي خلق جميل وأفعل محمول‪ ،‬فينبغي أن يكرم عليه‪ ،‬وأيجازى بما‬
‫يفرح به‪ ،‬وأيمدح بين أظهر الناس‪ ،‬فإن خالف ذلك في بعض الحوال تغوفل عنه وأل‬
‫يكاشف‪ ،‬فإن عاد عوتب سر ا ً وأخوفا من اطلع الناس عليه‪ ،‬وأل يكثر عليه العتاب‪ ،‬لن‬
‫ذلك يهون عليه سماع الملمة‪ ،‬وأليكن حافظا ً هيبة الكلم معه‪ .‬وأينبغى للم أن تخوفه‬
‫بالب‪ ،‬وأينبغى أن يمنع النوم نهارًا‪ ،‬فإنه يورث الكسل‪ ،‬وأل يمنع النوم ليل ً وألكنه يمنع‬
‫الفرش الوطيئة لتتصلب أعضاؤه‪.‬‬
‫وأيتعود الخشونة في المفرش وأالملبس وأالمطعم‪.‬وأيعود المشي وأالحركة وأالرياضة لئل‬
‫يغلب عليه الكسل‪.‬وأيمنع أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه أبواه‪ ،‬أوأ بمطعمه أوأ‬
‫ملبسه‪ .‬وأيعود التواضع وأالكرام لمن يعاشره‪.‬وأيمنع أن يأخذ شيئا من صبى مثله‪ ،‬وأيعلم‬
‫أن الخذ دناءة‪ ،‬وأأن الرفعة في العطاء‪.‬وأيقبح عنده حب الذهب وأالفضة‪.‬وأيعود أن ل‬
‫يبصق في مجلسه وأل يتمخط ‪ ،‬وأل يتثاءب بحضرة غيره‪،‬وأل يضع رجل على رجل‪ ،‬وأيمنع‬
‫من كثرة الكلم‪ .‬وأيعود أن ل يتكلم إل جوابًا‪ ،‬وأأن يحسن الستماع إذا تكلم غيره ممن هو‬
‫أكبر منه‪ ،‬وأأن يقوم لمن هو فوقه وأيجلس بين يديه‪.‬‬

‫وأيمنع من فحش الكلم‪ ،‬وأمن مخالطة من يفعل ذلك‪ ،‬فإن أصل حفظ الصبيان حفظهم‬
‫من قرناء السوء‪.‬وأيحسن أن يفسح له بعد خروأجه من المكتب في لعب جميل‪ ،‬ليستريح‬
‫به من تعب التأديب‪ ،‬كما قيل‪ :‬روأح القلوب تع الذكر‪ .‬وأينبغى أن يعلم طاعة وأالديه‬
‫وأمعلمه وأتعظيمهم‪.‬وأإذا بلغ سبع سنين أمر بالصلة‪ ،‬وألم يسامح في ترك الطهارة ليتعود‪،‬‬
‫وأيخوفا من الكذب وأالخيانة‪ ،‬وأإذا قارب البلوغ‪ ،‬ألقيت إليه المور‪.‬‬

‫وأأعلم‪ :‬أن الطعمة أدوأية‪ ،‬وأالمقصود منها تقوية البدن على طاعة الله تعالى‪ ،‬وأأن الدنيا ل‬
‫بقاء لها‪ ،‬وأأن الموت يقطع نعيمها‪ ،‬وأهو منتظر في كل ساعة‪ ،‬وأأن العاقل من تزوأد‬
‫لخرته‪ ،‬فإن كان نشوؤه صالحا ً ثبت هذا في قلبه‪ ،‬كما يثبت النقش في الحجر‪ .‬قال سهل‬
‫بن عبد الله‪ :‬كنت ابن ثلث سنين‪ ،‬وأأنا أقوم بالليل أنظر إلى صلة خالي محمد بن سوار‪،‬‬
‫فقال لى خالي يومًا‪ :‬أل تذكر الله الذي خلقك؟‏ قلت‪ :‬كيف أذكره؟‏ قال‪ :‬قل بقلبك ثلث‬
‫مرات من غير أن تحرك لسانك‪ :‬الله معي‪ ،‬الله ناظر إلى‪ ،‬الله شاهدى‪ ،‬فقلت ذلك‬
‫ليالي‪ ،‬ثم أعلمته‪ ،‬فقال‪ :‬قلها في كل ليلة إحدى عشر مرة‪.‬‬

‫فقلت ذلك‪ ،‬فوقع في قلبي حلوأته‪ ،‬فلما كان بعد سنة‪ ،‬قال لى خالي‪ :‬احفظ ما علمتك‪،‬‬
‫وأدم عليه إلى أن تدخل القبر ‪ ،‬فلم أزل على ذلك سنين فوجدت له حلوأة في سري ثم‬
‫قال لي خالي‪ :‬يا سهل من كان الله معه‪ ،‬وأهو ناظر إليه‪ ،‬وأشاهد عليه‪ ،‬هل يعصيه؟‏ إياك‬
‫وأالمعصية وأمضيت إلى المكتب‪ ،‬وأحفظت القرآن‪ ،‬وأأنا ابن ست سنين أوأ سبع‪ ،‬ثم كنت‬
‫أصوم الدهر‪ ،‬وأقوتي من خبز الشعير‪ ،‬ثم بعد لك كنت أقوم الليل كله‪.‬‬

‫‪7‬ـ فصل ]‏في شروأط الرياضة[‏‬

‫وأاعلم‪ :‬أن من شاهد الخرة بقلبه مشاهدة يقين‪ ،‬أصبح بالضروأرة مريدا ً لها‪ ،‬زاهدا ً في‬
‫الدنيا‪ ،‬فإن من كان معه خرزة‪ ،‬فرأى جوهرة نفيسة‪ ،‬لم يبق له رغبة في الخرزة‪ ،‬فإذا‬
‫قيل له‪ :‬بعها بالجوهرة‪ ،‬أسرع في ذلك‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أن من رزقه الله تعالى النتباه لذلك‪ ،‬فإن عليه لسلوك الرياضة شرطا ً لبد من‬
‫تقديمه‪ ،‬وأمعتصما ً لبد من التمسك به‪ ،‬وأحصنا ً لبد من التحصن به‪.‬فأما الشرط‪ ،‬فهو رفع‬
‫الحجاب بترك الذنوب‪.‬وأأما المعتصم‪ ،‬فشيخ يدله على الطريق لئل تختطفه الشياطين في‬
‫السبل ‪.‬وأأما الحصن‪ ،‬فالخلوة ‪ ،‬وأعليه من الوظائف مخالفه الهوى‪ ،‬وأكثرة الذكر وأالقتصاد‬
‫في الوأراد‪.‬وأمنتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله أبدًا‪ ،‬وأل يمكن ذلك إل بأن يخلو عن‬
‫غيره‪ ،‬وأل يخلو إل بطول المجاهد‪ ،‬فهذا منهاج رياضة المريد وأترتيبه في التدريج‪ ،‬فأما‬
‫تفصيل الرياضة في كل صفحه‪ ،‬فسيأتي إن شاء الله تعالى ‪.‬‬

‫كتاب كسر الشهوتين ]‏ شهوة البطن وأشهوة الفرج [‏‬

‫شهوة البطن من أعظم المهلكات‪ ،‬وأبها ُأخرج آدم عليه السلم من الجنة‪ ،‬وأمن شهوة‬
‫البطن تحدث شهوة الفرج وأالرغبة في المال‪ ،‬وأيتبع ذلك آفات كثيرة‪ ،‬كلها من بطر‬
‫ي وأاحد‪،‬‬
‫الشبع‪.‬وأفى حديث النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال ‪" :‬المؤمن يأكل في مع ً‬
‫وأالكافر يأكل في سبعة أمعاء"‪.‬وأفى حديث أخر ‪ ":‬ما مل ابن آدم وأعاًء شرا ً من بطنه‪،‬‬
‫حسب ابن أدم أكلت يقمن صلبه‪ ،‬فإن كان ل محالة‪ ،‬فثلث لطعامه‪ ،‬وأثلث لشربه‪ ،‬وأثلث‬
‫لنفسه"‪.‬‬

‫وأقال عقبة الراسبي‪ :‬دخلت على الحسن وأهو يتغذى‪ ،‬فقال‪ :‬هلم‪ ،‬فقلت‪ :‬أكلت حتى ل‬
‫أستطيع‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان الله أوأ يأكل المسلم حتى ل يستطيع أن يأكل؟‏‪ .‬وأقد بالغ جماعة‬
‫من الزهاد في التقلل من الكل وأالصبر على الجوع‪ ،‬وأقد بينا عيب ما سلكوا في غير هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وأمقام العدل في الكل رفع اليدين مع بقاء شىء من الشهوة‪ ،‬وأنهاية المقام‬
‫الحسن قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪“ :‬ثلث لطعامه‪ ،‬وأثلث لشرابه‪ ،‬وأثلث لنفسه"‪.‬‬
‫فالكل في مقام العدل يصح البدن وأينفى المرضى‪ ،‬وأذلك أن يتناوأل الطعام حتى يشتهيه‪،‬‬
‫ثم يرفع يده وأهو يشتهيه‪ ،‬وأالدوأام على التقلل من الطعام يضعف القوى‪ ،‬وأقد قلل أقوام‬
‫مطاعمهم حتى قصروأا عن الفرائض‪ ،‬وأظنوا بجهلهم أن ذلك فضيلة‪ ،‬وأليس كذلك‪ ،‬وأمن‬
‫مدح الجوع‪ ،‬فإنما أشار إلى الحالة المتوسطة التي ذكرناها‪.‬وأطريق الرياضة في كسر‬
‫شهوة البطن أن من تعود استدامة الشبع‪ ،‬فينبغي له أن يقلل من مطعمه يسيرا ً مع‬
‫الزمان‪ ،‬إلى أن يقف على حد التوسط الذي أشرنا إليه‪ ،‬وأخير المور أوأساطها‪ ،‬فالوألى‬
‫تناوأل مال يمنع من العبادات‪ ،‬وأيكون سببا ً لبقاء القوة‪ ،‬فل يحس المتناوأل بجوع وأل شبع‪،‬‬
‫فحينئذ يصح البدن‪ ،‬وأتجتمع الهمة‪ ،‬وأيصفو الفكر‪ ،‬وأمتى زاد في الكل أوأرثه كثرة النوم‪،‬‬
‫وأبلدة الذهن‪ ،‬وأذلك بتكثير البخار في الدماغ حتى يغطى مكان الفكر‪ ،‬وأموضع الذكر‪،‬‬
‫وأيجلب أمراضا ً أخر‪ .‬وأليحذر من ترك شيئا ً من الشهوات أن تتطرقا إليه آفة الرياء‪ ،‬وأقد‬
‫كان بعضهم يشترى الشهوة وأيعلقها في بيته وأهو زاهد فيها‪ ،‬يستر بها زهده‪ ،‬وأهذا هو‬
‫نهاية الزهد‪ ،‬الزهد في الزهد بإظهار ضده‪ ،‬وأهو عمل الصديقين‪ ،‬لنه يجرع نفسه كأس‬
‫شهوة الفرج‪ ،‬فاعلم أن شهوة الوقاع سلطت على‬ ‫الصبر مرتين‪ ،‬وأالثانية أمر‪ .‬وأأما‬
‫الدمي لفائدتين‪:‬إحداهما‪ :‬بقاء النسل‪ ،‬وأالثانية ليدرج لذة يقيس عليها لذات الخرة‪ ،‬فإن‬
‫ما لم يدرك جنسه بالذوأقا‪ ،‬ل يعظم إليه الشوقا‪ ،‬إل أنه إذ لم ترد هذه الشهوة إلى‬
‫العتدال‪ ،‬جلبت آفات كثيرة‪ ،‬وأمحنًا‪ ،‬وألول ذلك ما كان النساء حبائل الشيطان‪.‬وأفى‬
‫الحديث أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪ " :‬ما تركت في الناس بعدى فتنة أضر‬
‫على الرجال من النساء"‪.‬وأقال بعض الصالحين‪ :‬لو ائتمنني رجل على بيت مال‪ ،‬لظننت‬
‫أن أوأدى إليه المانة‪ ،‬وألو ائتمنني على زنجية أخلو بها ساعة وأاحدة‪ ،‬ما ائتمنت نفسي‬
‫عليها‪.‬وأعن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪ " :‬ل يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما‬
‫الشيطان"‪.‬وأقد ينتهي الفراط في هذه الشهوة‪ ،‬حتى تصرفا همة الرجل إلى كثرة التمتع‬
‫بالنساء فيشغله عن ذكر الخرة‪ ،‬وأربما آل إلى الفواحش‪ ،‬وأقد تنتهي بصاحبها إلى العشق‪،‬‬
‫وأهو أقبح الشهوات‪ ،‬وأأجدرها أن تستحيي منه‪ ،‬وأقد يقع عند كثير من الناس عشق المال‪،‬‬
‫وأالجاه‪ ،‬وأاللعب بالنرد‪ ،‬وأالشطرنج‪ ،‬وأالطنبور‪ ،‬وأنحو ذلك‪ ،‬فتستولي هذه الشياء على‬
‫القلوب فل يصبروأن عنها‪ .‬وأيسهل الحتراز عن ذلك في بدايات المور‪ ،‬فإن آخرها يفتقر‬
‫إلى علج شديد‪ ،‬وأقد ل ينجح‪ ،‬وأمثاله من يصرفا عنان الدابة عند توجهها إلى باب تريد‬
‫دخوله‪ ،‬فما أهون منعها يصرفا عنانها‪ ،‬وأمثال من يعالجه بعد استحكامه‪ ،‬مثال من يتركها‬
‫حتى تدخل الباب وأتجاوأزه‪ ،‬ثم يأخذ بذنبها يجرها إلى وأراء‪ ،‬وأما أعظم التفاوأت بين‬
‫المرين‬

‫كتاب آفات اللسان‬

‫آفاته كثيرة وأمتنوعة‪ ،‬وألها في القلب حلوأة‪ ،‬وألها بواعث من الطبع‪ ،‬وأل نجاة من خطرها‬
‫إل بالصمت‪ ،‬فلنذكر أوأل ً فضيلة الصمت‪ ،‬ثم نتبعه الفات مفصلة إن شاء الله تعالى‪.‬اعلم‪:‬‬
‫أن الصمت يجمع الهمة وأيفرغ الفكر‪.‬وأفى الحديث‪ ،‬أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‬
‫قال‪" :‬من يضمن لى ما بين لحييه‪ ،‬وأما بين رجليه أضمن له الجنة"‪.‬وأفى حديث آخر‪" :‬ل‬
‫يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه‪ ،‬وأل يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه")) أخرجه ابن‬
‫أبى الدنيا في الصمت" من حديث أنس‪ ،‬وأفى سنده على بن مسعدة‪ ،‬قال البخاري‪ :‬فيه‬
‫نظر‪ ،‬وأقال ابن عدى‪ :‬أحاديثه غير محفوظة‪(.‬‏‏(‏‏‬

‫وأفى حديث معاذ في آخره‪) :‬كف عليك هذا(‏‏ فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬وأإنا لمؤاخذوأن بما‬
‫نتكلم به؟‏ قال‪) :‬ثكلتك أمك يا معاذ‪ ،‬وأهل يكب الناس في النار على وأجوههم‪ ،‬أوأ قال‪:‬‬
‫على مناخرهم‪ ،‬أل حصائد ألسنتهم؟‏(‏‏‪.‬وأفى حديث آخر‪ " :‬من كف لسانه ستر الله‬
‫عورته) وأقال ابن مسعود‪ :‬ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني‪.‬وأقال أبو الدرداء‪:‬‬
‫أنصف أذنيك من فيك‪ ،‬فإنما جعلت لك أذنان وأفم وأاحد لتسمع أكثر مما تتكلم به‪.‬وأقال‬
‫مخلد بن الحسين‪ :‬ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة أريد أن أعتذر منها‪.‬‬

‫‪1‬ـ ذكر آفات الكلم‪:‬‬

‫الفة الوألى‪ :‬الكلم فيما ل يعنى‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أن من عرفا قدر زمانه‪ ،‬وأأنه رأس ماله‪ ،‬لم ينفقه إل في فائدة‪ ،‬وأهذه المعرفة‬
‫توجب حبس اللسان عن الكلم فيما ل يعنى‪ ،‬لنه من ترك الله تعالى وأاشتغل فيما ل‬
‫يعنى‪ ،‬كان كمن قدر على أخذ جوهرة‪ ،‬فأخذ عوضها مدرة‪ ،‬وأهذا خسران العمر‪ .‬وأفى‬
‫الحديث الصحيح‪ ،‬أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪ " :‬من حسن إسلم المرء تركه‬
‫مال يعينه"‪.‬وأقيل للقمان الحكيم‪ :‬ما بلغ من حكمتك؟‏ قال‪ :‬ل أسأل عما كفيته‪ ،‬وأل أتكلم‬
‫بما ل يعنيني‪ .‬وأقد روأى أنه دخل على دوأاء عليه السلم وأهو يسرد درعًا‪ ،‬فجعل يتعجب‬
‫مما رأى‪ ،‬فأراد أن يسأله عن ذلك‪ ،‬فمنعته حكمته فأمسك‪ ،‬فلما فرغ داوأد عليه السلم‪،‬‬
‫قام وألبس الدرع ثم قال‪ :‬نعم الدرع للحرب‪ .‬فقال لقمان‪ :‬الصمت حكم وأقليل فاعله‪.‬‬

‫الفة الثانية‪ :‬الخوض في الباطل‪ ،‬وأهو الكلم في المعاصي‪ ،‬كذكر مجالس الخمر‪،‬‬
‫وأمقامات الفساقا‪.‬وأأنواع الباطل كثيرة‪ .‬وأعن أبى هريرة‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم قال‪" :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد مما بين المشرقا وأالمغرب‪،‬‬
‫‪.‬وأقريب من ذلك الجدال وأالمراء وأهو كثرة الملحاة)‪(1‬‏‏ للشخص لبيان غلطة‬
‫وأإفحامه‪،‬وأالباعث على ذلك الترفع‪.‬‬

‫فينبغي للنسان أن ينكر المنكر من القول‪ ،‬وأيبين الصواب‪ ،‬فإن قبل منه وأإل ترك‬
‫المماراة‪ ،‬هذا إذا كان المر معلقا ً بالدين‪ ،‬فأما إذا كان في أمور الدنيا‪ ،‬فل وأجه للمجادلة‬
‫فيه‪ ،‬وأعلج هذه الفة بكسر الكبر الباعث على إظهار الفضل‪ ،‬وأأعظم من المراء‬
‫الخصومة‪ ،‬فإنها أمر زائد على المراء‪.‬وأعن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪:‬‬
‫"أبغض الرجال إلى الله اللد الخصم"‪ .‬وأهذه الخصومة نعنى بها الخصومة بالباطل أوأ بغير‬
‫علم‪ ،‬فأما من له حق فالوألى أن يصدفا)‪(2‬‏‏ عن الخصومة‪ ،‬مهما أمكن لنها‪ ،‬توغر الصدر‪،‬‬
‫وأتهيج الغضب الغضب‪،‬وأتورث الحقد‪ ،‬وأتخرج إلى تناوأل العرض‪.‬‬

‫الفة الثالثة‪ :‬التقعر في الكلم‪ ،‬وأذلك يكون بالتشدقا)‪(3‬‏‏ وأتكلف السجع‪ .‬وأعن أبى‬
‫ثعلبة قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ :‬إن أبغضكم إلى وأأبعدكم منى يوم‬
‫القيامة مساوأيكم أخلقا ً الثرثاروأن)‪(4‬‏‏ المتشدقون المتفيهقون"‪(5).‬‏‏ وأل يدخل في كراهة‬
‫السجع وأالتصنع ألفاظ الخطيب‪ ،‬وأالتذكير من غير إفراط‪ ،‬وأل إغراب‪ ،‬لن المقصود من‬
‫ذلك تحريك القلوب‪ ،‬وأتشويقها‪ ،‬وأرشاقة اللفظ وأنحو ذلك‪.‬‬

‫الفة الرابعة‪ :‬الفحش وأالسب وأالبذاء)‪(6‬‏‏)) البذاء‪ ،‬بالمد‪ :‬الفحش‪ ،‬وأفلن يذىء‬
‫اللسان من قوم أبذياء‪ ،‬وأالمرأة بذيئة‪(.‬‏‏(‏‏ ")) البذاء‪ ،‬بالمد‪ :‬الفحش‪ ،‬وأفلن يذىء اللسان‬
‫من قوم أبذياء‪ ،‬وأالمرأة بذيئة‪(.‬‏‏(‏‏ وأنحو ذلك‪ ،‬فإنه مذموم منهي عنه‪ ،‬وأمصدره الخبث‬
‫وأاللؤم‪ .‬وأفى الحديث‪" :‬إياكم وأالفحش‪ ،‬فإن الله ل يحب الفحش وأل التفحش"‪".‬الجنة‬
‫حرام على كل فاحش"‪.‬‬

‫وأفى حديث آخر‪ " :‬ليس المؤمن بالطعان وأل اللعان وأل الفاحش وأل البذيء"‪.‬وأاعلم‪ :‬أن‬
‫الفحش وأالبذاء هو التعبير عن المور المستقبحة بالعبارات الصريحة‪ ،‬وأأكثر ما يكون ذلك‬
‫في ألفاظ الجماع وأما يتعلق به‪ ،‬فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات وأيكنون عنها‬
‫‪.‬وأمن الفات‪ :‬الغناء وأقد سبق فيه كلم في غير هذا الموضوع‪.‬‬

‫الفة الخامسة‪ :‬المزاح‪ ،‬أما اليسير منه‪ ،‬فل ينهى عنه إذا كان صدقًا‪.‬‬

‫فإن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم كان يمزح وأل يقول إل حقًا‪ ،‬فإنه قال لرجل‪" :‬يا ذا‬
‫الذنين"‪ ،‬وأقال لخر‪" :‬إنا حاملوك على وألد الناقة"‪ ،‬وأقال للعجوز‪" :‬إنه ل يدخل الجنة‬
‫عجوز" ثم قرأ‪} :‬إنا أنشأناهن إنشاء* فجعلناهن أبكارًا{ ]‏الواقعة‪[35-36:‬‏ ‪ ،‬وأقال لخرى‪:‬‬
‫"زوأجك الذى في عينيه بياض؟‏"‪(7).‬‏‏ فقد اتفق في مزاحه صلى الله عليه وأآله وأسلم ثلثة‬
‫أشياء‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬كونه حقا ً‬

‫وأالثاني‪ :‬كونه مع النساء وأالصبيان‪ ،‬وأمن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال‪.‬‬

‫وأالثالث‪ :‬كونه نادر ًا‪ ،‬فل ينبغي أن يحتج به من يريد الدوأام عليه‪ ،‬فان حكم النادر ليس‬
‫كحكم الدائم‪ ،‬وألو أن إنسانا ً دار مع الحبشة ليل ً وأنهارا ً ينظر إلي لعبهم وأاحتج بأن النبى‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم وأقف لعائشة وأأذان لها أن تنظر إلى الحبشة‪ ،‬لكان غالطًا‪،‬‬
‫لندوأر ذلك‪ ،‬فالفراط بى المزاح وأالمداوأمة عليه منهي عنه‪ ،‬لنه يسقط الوقار‪ ،‬وأيوجب‬
‫الضغائن وأالحقاد‪ ،‬وأأما اليسير كما تقدم‪ ،‬من نحو نوع مزاح رسول الله صلى الله عليه‬
‫وأآله وأسلم‪ ،‬فإن فيه انبساطا ً وأطيب نفس‪.‬‬

‫الفة السادسة‪ :‬السخرية وأالستهزاء ‪ ،‬وأمعنى السخرية‪ :‬الحتقار وأالستهانة‪ ،‬وأالتنبيه‬


‫على العيوب وأالنقائص على وأجه يضحك منه‪ ،‬وأقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل‬
‫وأالقول‪ ،‬وأقد يكون بالشارة وأاليماء‪ ،‬وأكله ممنوع منه في الشرع‪ ،‬وأرد النهى عنه في‬
‫الكتاب وأالسنة‪.‬‬

‫الفة السابعة‪ :‬إفشاء السر‪ ،‬وأإخلفا الوعد وأالكذب في القول وأاليمين‪ ،‬وأكل ذلك‬
‫منهي عنه‪ ،‬إل ما رخص فيه من الكذب لزوأجته‪ ،‬وأفى الحرب فإن ذلك يباح وأضابطه أن‬
‫كل مقصود محمود ل يمكن التوصل إليه إل بالكذب‪ ،‬فهو فيه مباح إن كان هذا المقصود‬
‫مباحًا‪ .‬وأإن كان المقصود وأاجبًا‪ ،‬فهو وأاجب‪ ،‬فينبغي أن يحترز عن الكذب مهما أمكن‪.‬‬
‫وأتباح المعاريض‪ ،‬لقوله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬إن في المعاريض مندوأحة عن‬
‫الكذب" وأإنما تصلح المعاريض عند الحاجة إليها‪ ،‬فأما مع غير الحاجة‪،‬فمكروأهة لنها تشبه‬
‫الكذب‪ .‬فمن المعاريض ما روأينا عن عبد الله بن روأاحة رضى الله عنه أنه أصاب جارية‬
‫له‪ ،‬فعلمت امرأته‪ ،‬فأخذت شفرة‪ ،‬ثم أتت فوافقته قد قام عنها‪ ،‬فقالت‪ :‬أفعلتها؟‏ فقال‪:‬‬
‫ما فعلت شيئًا‪ ،‬قالت‪ ،‬لتقرأن القرآن أوأ لبعجنك بها‪ ،‬فقال رضى الله عنه‪:‬‬

‫وأفينا رسول الله يتلو كتابه ذا انشق معروأفا من الفجر ساطع‬

‫يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع‬

‫أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال وأاقع‬


‫قالت‪ :‬آمنت بالله وأكذبت بصري‪ .‬وأكان النخعى إذا طلب قال للجارية‪ :‬قولي لهم‪ :‬اطلبوه‬
‫في المسجد‪.‬‬

‫الفة الثامنة‪ :‬الغيبة‪ ،‬وأقد وأرد الكتاب العزيز بالنهى عنها‪ ،‬وأشبه صاحبها بآكل الميتة‬
‫‪.‬وأفى الحديث‪" :‬إن دماءكم وأأموالكم وأأعراضكم عليكم حرام"‪.‬وأعن أبى برزة السلمى‬
‫قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬يا معشر من آمن بلسانه وألم يدخل‬
‫اليمان قلبه‪ :‬ل تغتابوا المسلمين‪ ،‬وأل تتبعوا عوراتهم‪ ،‬فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله‬
‫عورته وأمن تتبع الله عورته يفضحه وألو في جوفا بيته"‪.‬وأفى حديث آخر‪" :‬إياكم وأالغيبة‪،‬‬
‫فإن الغيبة أشد من الزنا‪ ،‬وأإن الرجل قد يزنى وأيشرب‪ ،‬ثم يتوب وأيتوب الله عليه‪ ،‬وأإن‬
‫صاحب الغيبة ل يغفر الله له حتى يغفر صاحبه" وأقال على بن الحسين رضى الله عنهما‪:‬‬
‫إياك وأالغيبة‪ ،‬فإنها إدام كلب الناس وأالحاديث وأالثار في ذلك كثيرة مشهورة‪.‬‬

‫وأمعنى الغيبة‪ :‬أن تذكر أخاك الغائب بما يكره إذا بلغه‪ ،‬سواء كان نقصا ً في بدنه‪،‬‬
‫كالعمش‪ ،‬وأالعورة‪ ،‬وأالحول‪ ،‬وأالقرع‪ ،‬وأالطول‪ ،‬وأالقصر‪ ،‬وأنحو ذلك‪.‬أوأ في نسبه‪ ،‬كقولك‪:‬‬
‫أبوه نبطي‪ ،‬أوأ هندي أوأ فاسق‪ ،‬أوأ خسيس‪ ،‬وأنحو ذلك‪.‬أوأ في خلقه كقولك‪ ،‬هو سئ الخلق‬
‫بخيل متكبر وأنحو ذلك‪.‬أوأ في ثوبه‪ ،‬كقولك‪ :‬هو طويل الذيل‪ ،‬وأاسع الكم‪ ،‬وأسخ الثياب‬
‫‪.‬وأالدليل على ذلك‪ ،‬أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم سئل عن الغيبة قال‪" :‬ذكرك‬
‫أخاك بما يكره"‪ .‬قال‪ :‬أرأيت إن كان في أخي ما أقول يا رسول الله؟‏ قال‪" :‬إن كان في‬
‫أخاك ما تقول فقد اغتبته‪ ،‬وأإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"‪.‬وأاعلم أن كل ما يفهم منه‬
‫مقصود الذم‪ ،‬فهو داخل في الغيبة‪ ،‬سواء كان بكلم أوأ بغيره‪ ،‬كالغمز‪ ،‬وأالشارة وأالكتابة‬
‫بالقلم‪ ،‬فإن القلم أحد اللسانين‪.‬وأأقبح أنواع الغيبة‪ ،‬غيبة المتزهدين المرائين‪ ،‬مثل أن‬
‫يذكر عندهم إنسان فيقولون‪ :‬الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان‪ ،‬وأالتبذل‬
‫في طلب الحطام‪ ،‬أوأ يقولون‪ :‬نعوذ بالله من قلة الحياء‪ ،‬أوأ نسأل الله العافية‪ ،‬فإنهم‬
‫يجمعون بين ذم المذكور وأمدح أنفسهم‪ .‬وأربما قال أحدهم عند ذكر إنسان‪ :‬ذاك المسكين‬
‫قد بلى بآفة عظيمة‪ ،‬تاب الله علينا وأعليه‪ ،‬فهو يظهر الدعاء وأيخفى قصده‪.‬وأاعلم‪ :‬أن‬
‫المستمع للغيبة شريك فيها‪ ،‬وأل يتخلص من إثم سماعها إل أن ينكر بلسانه‪ ،‬فإن خافا‬
‫فبقلبه وأإن قدر على القيام‪ ،‬أوأ قطع الكلم بكلم آخر‪ ،‬لزمه ذلك‪.‬وأقد روأى عن النبى‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪ :‬من أذل عنده مؤمن وأهو يقدر أن ينصره أذله الله عز‬
‫وأجل على رؤوأس الخلئق" وأقال صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬من حمى مؤمنا ً من منافق‬
‫يعيبه‪ ،‬بعث الله ملكا ً يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم"وأرأى عمر بن عتبة موله مع‬
‫رجل وأهو يقع في آخر‪ ،‬فقال له‪ :‬وأيلك نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه نفسك عن‬
‫القول به‪ ،‬فالمستمع شريك القائل‪ ،‬إنما نظر إلى شر ما في وأعائه فأفرغه في وأعائك‪،‬‬
‫وألو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها‪ .‬وأقد وأردت أحاديث في‬
‫حق المسلم على المسلم‪ ،‬تقدمت في كتاب الصحبة‪.‬‬

‫‪2‬ـ فصل في بيان السباب الباعثة على الغيبة وأذكر علجها‬

‫تشفى الغيظ‪ ،‬بأن يجرى من إنسان‬ ‫أما السباب التي تبعث على الغيبة فكثيرة‪.‬منها‪:‬‬
‫في حق آخر سبب يوجب غيظه‪ ،‬فكلما هاج غضبه تشفى بغيبة صاحبه‪.‬‬

‫السبب الثانى‪ :‬من البواعث على الغيبة موافقة القران وأمجاملة الرفقاء‬
‫وأمساعدتهم‪ ،‬فإنهم إذا كانوا يتفكهون في العراض‪ ،‬رأى هذا أنه إذا أنكر عليهم أوأ قطع‬
‫كلمهم استثقلوه وأنفروأا عنه‪ ،‬فيساعدهم وأيرى ذلك من حسن المعاشرة‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره‪ ،‬فيقول‪ :‬فلن جاهل‪ ،‬وأفهمه ركيك‪ ،‬وأنحو ذلك‪،‬‬
‫غرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه‪ ،‬وأيريهم أنه أعلم منه‪.‬وأكذلك الحسد في ثناء‬
‫الناس على شخص وأحبهم له وأإكرامهم‪ ،‬فيقدح فيه ليقصد زوأال ذلك‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬اللعب وأالهزل‪ ،‬فيذكر غيره بما يضحك الناس به على سبيل المحاكاة‪ ،‬حتى إن‬
‫بعض الناس يكون كسبه من هذا‪.‬‬

‫وأأما علج الغيبة‪ ،‬فليعلم المغتاب أنه بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى وأمقته‪ ،‬وأأن‬
‫حسناته تنقل إلى المغتاب إليه‪ ،‬وأإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه‪ ،‬فمن‬
‫استحضر ذلك لم يطلق لسانه بالغيبة‪.‬وأينبغى إذا عرضت له الغيبة أن يتفكر في عيوب‬
‫نفسه‪ ،‬وأيشتغل بإصلحها‪ ،‬وأيستحي أن يعيب وأهو معيب‪ ،‬كما قال بعضهم‪:‬‬

‫فإن عبت قوما ً بالذي فيك مثله فكيف يعيب الناس من هو أعور‬

‫وأإذا عبت قوما ً بالذي ليس فيهم فــذلك عند الله وأالناس أكبر‬

‫وأإن ظن أنه سليم من العيوب‪ ،‬فليتشاغل بالشكر على نعم الله عليه‪ ،‬وأل يلوث نفسه‬
‫بأقبح العيوب وأهو الغيبة‪ ،‬وأكما ل يرضى لنفسه بغيبة غيره له‪ ،‬فينبغي أن ل يرضاها لغيره‬
‫من نفسه‪.‬فلينظر في السبب الباعث على الغيبة‪ ،‬فيجتهد على قطع‪ ،‬فإن علج العلة‬
‫يكون بقطع سببها‪ .‬وأقد ذكرنا بعض أسبابها‪ ،‬فيعالج الغضب بما سيأتي في كتاب الغضب‪،‬‬
‫وأيعالج موافقة الجلس بأن يعلم أن الله تعالى يغضب على من طلب رضى المخلوقين‬
‫بسخطه‪ ،‬بل ينبغي أن يغضب على رفقائه‪ ،‬وأعلى نحو هذا معالجة البواقي‪.‬‬

‫‪3‬ـ فصل ]‏في حصول الغيبة بسوء الظن[‏‬

‫وأقد تحصل الغيبة بالقلب‪ ،‬وأذلك سوء الظن بالمسلمين‪.‬وأالظن ما تركن إليه النفس‬
‫وأيميل القلب‪ ،‬فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا‪ ،‬إل إذا انكشف أمر ل يحتمل التأوأيل فإن‬
‫أخبرك بذلك عدل‪ ،‬فمال قلبك إلى تصديقه‪ ،‬كنت معذوأرًا‪ ،‬لنك لو كذبته كنت قد أسأت‬
‫الظن بالمخبر‪ ،‬فل ينبغي أن تحسن الظن بواحد وأتسيئه بآخر‪ ،‬بل ينبغي أن تبحث‪ ،‬هل‬
‫بينهما عداوأة وأحسد؟‏ فتتطرقا التهمة حينئذ بسبب ذلك‪ ،‬وأمتى خطر لك خاطر سوء على‬
‫مسلم‪ ،‬فينبغي أن تزيد في مراعاته وأتدعو له بالخير‪ ،‬فإن ذلك يغيظ الشيطان وأيدفعه‬
‫عنك‪ ،‬فل يلقى إليك خاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء وأالمراعاة‪ .‬وأإذا تحققت‬
‫هفوة مسلم‪ ،‬فانصحه في السر‪.‬وأاعلم‪ :‬أن من ثمرات سوء الظن التجسس‪ ،‬فان القلب‬
‫ل يقنع بالظن‪ ،‬بل يطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس‪ ،‬وأذلك منهي عنه‪ ،‬لنه يوصل إلى‬
‫هتك ستر المسلم‪ ،‬وألو لم ينكشف لك‪ ،‬كان قلبك أسلم للمسلم‪.‬‬

‫‪4‬ـ بيان العذار المرخصة في الغيبة وأكفارة الغيبة‬

‫اعلم‪ :‬أن المرخص في ذكر مساوأئ الغير‪ ،‬وأهو غرض صحيح في الشرع‪ ،‬ليمكن التوصل‬
‫إليه إل به‪ ،‬وأذلك يدفع إثم الغيبة‪ ،‬وأهو أمور‪:‬‬

‫أحدها التظلم‪ ،‬فإن للمظلوم أن يذكر الظالم إذا استدعاه إلى من يستوفى حقه‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬الستعانة على تغيير المنكر‪ ،‬وأرد الظالم إلى منهاج الصلح‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الستفتاء‪ ،‬مثل أن يقول للمفتى ظلمني فلن‪ ،‬أوأ أخذ حقى‪ ،‬فكيف طريقي في‬
‫الخلص‪ ،‬فالتعيين مباح‪ ،‬وأالوألى التعريض‪ ،‬وأهو أن يقول‪ :‬ما تقول في رجل ظلمه أبوه أوأ‬
‫أخوه وأنحو ذلك؟‏وأالدليل على إباحة التعيين حديث هند حين قالت‪ :‬إن أبا سفيان رجل‬
‫شحيح وألم ينكر عليها النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‪.‬‬
‫المر الرابع‪ :‬تحذير المسلمين‪ ،‬مثل أن ترى متفقها ً يتردد إلى مبتدع أوأ فاسق‪ ،‬وأتخافا أن‬
‫يتعدى إليه ذلك‪ ،‬فلك أن تكشف له الحال‪.‬وأكذلك إذا عرفت من عبدك السرقة أوأ‬
‫الفسق‪ ،‬فتذكر ذلك للمشترى‪.‬وأكذلك المستشار في التزوأيج أوأ إيداع المانة‪ ،‬له أن يذكر‬
‫ما يعرفه على قصد النصح للمستشير‪ ،‬ل على قصد الوقيعة‪ ،‬إذا علم أنه ل ينزجر إل‬
‫بالتصريح‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن يكون معروأفا ً بلقب‪ ،‬كالعرج‪ ،‬وأالعمش‪ ،‬فل إثم على من يذكره به‪ ،‬وأإن‬
‫وأجد عن ذلك معدل ً كان أوألى‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن يكون مجاهرا ً بالفسق‪ ،‬وأل يستنكف أن يذكر به‪.‬‬

‫وأقد روأى عن النبى صلى اله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬من ألقى جلباب الحياء فل غيبة‬
‫له"وأقيل للحسن‪ :‬الفاجر المعلن بفجوره‪ ،‬ذكرى له بما فيه غيبة‪ :‬قال‪ :‬ل‪ ،‬وأل كرامة‪.‬‬

‫وأأما كفارة الغيبة‪ ،‬فاعلم أن المغتاب قد جنى جنايتين‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬على حق الله تعالى‪ ،‬إذ فعل ما نهاه عنه‪ ،‬فكفارة ذلك التوبة وأالندم‪.‬‬

‫وأالجناية الثانية‪ :‬على محارم المخلوقا‪ ،‬فان كانت الغيبة قد بلغت الرجل‪ ،‬جاء إليه‬
‫وأاستحله وأاظهر له الندم على فعلهوقد روأى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬من كانت عنده مظلمة لخيه‪ ،‬من مال أوأ عرض‪ ،‬فليأته‬
‫فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وأليس عنده درهم وأل دينار‪ ،‬فإن كانت له حسنات أخذ من‬
‫حسناته فأعطيها هذا‪ ،‬وأإل أخذ من سيئات هذا فألقى عليه"‪.‬وأإن كانت الغيبة لم تبلغ‬
‫الرجل‪ ،‬جعل مكان استحلله الستغفار له‪ ،‬لئل يخبره بما ل يعلمه‪ ،‬فيوغر صدره‪.‬وأقد وأرد‬
‫في الحديث‪" :‬كفارة من اغتبت أن تستغفر له")‪(8‬‏‏وأقال مجاهد‪ :‬كفارة أكلك لحم أخيك أن‬
‫تثنى عليه وأتدعو له بخير‪ ،‬وأكذلك إن كان قد مات‪.‬‬

‫الفة التاسعة‪ :‬من آفات اللسان النميمة ‪ ،‬وأفى الحديث ان النبى صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم قال‪" :‬ل يدخل الجنة قتات" وأهو النمام ‪.‬وأاعلم‪ :‬أن النميمة تطلق في الغالب على‬
‫نقل قول إنسان في إنسان‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬قال فيك فلن كذا وأكذا‪ ،‬وأليست مخصوصة‬
‫بهذا‪ ،‬بل حدها كشف ما يكره كشفه‪ ،‬سواء كان من القوال أوأ العمال‪ ،‬حتى لو رآه يدفن‬
‫مال ً لنفسه فذكره فهو نميمة وأكل من نقلت إليه النميمة‪ ،‬مثل أن يقال له‪ :‬قال فيك‬
‫فلن كذا وأكذا أوأ فعل في حقك كذا‪ ،‬وأنحو ذلك فعليه ستة أشياء‪:‬‬

‫الوأل‪ :‬أن ل يصدقا الناقل‪ ،‬لن النمام فاسق مردوأد الشهادة‪.‬‬

‫الثانى‪ :‬أن ينهاه عن ذلك وأينصحه‪.‬‬

‫الثالث أن يبغضه في الله‪ ،‬فإنه بغيض عند الله‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن ل يظن بأخيه الغائب السوء‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن ل يحمله ما حكى له على التجسس وأالبحث‪ ،‬لقوله تعالى‪} :‬وألتجسسوا{‬
‫]‏الحجرات‪[12:‬‏‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن ل يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه‪ ،‬فل يحكى نميمته‪.‬وأيروأى أن سليمان بن‬
‫ى‪ ،‬وأقلت كذا وأكذا‪ .‬فقال الرجل‪ :‬ما فعلت‪،‬‬
‫عبد الملك قال لرجل‪ :‬بلغني أنك وأقعت ف ّ‬
‫فقال سليمان‪ :‬صدقت‪ ،‬اذهب بسلم‪.‬وأقال يحيى بن أبى كثير‪ :‬يفسد النمام في ساعة ما‬
‫ل يفسد الساحر في شهر‪.‬وأقد حكى أن رجل ساوأم بعبد‪ ،‬فقال موله‪ :‬إني أبرأ منك من‬
‫النميمة وأالكذب‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬أنت برئ منهما‪ ،‬فاشتراه‪ .‬فجعل يقول لموله إن امرأتك‬
‫تبغي وأتفعل‪ ،‬وأإنها تريد أن تقتلك‪ ،‬وأيقول للمرأة‪ :‬إن زوأجك يريد أن يتزوأج عليك وأيتسرى‪،‬‬
‫فان أردت أن أعطفه عليك‪ ،‬فل يتزوأج وأل يتسرى‪ ،‬فخذ الموسى وأاحلقي شعرة من حلقه‬
‫إذا نام ‪ ،‬وأقال للزوأج‪ :‬إنها تريد أن تقتلك إذا نمت‪ .‬قال فذهب فتناوأم لها‪ ،‬فجاءت بموسى‬
‫لتحلق شعرة من حلقه‪ ،‬فأخذ بيدها فقتلها‪ ،‬فجاء أهلها فاستعدوأا عليه فقتلوه‪.‬‬

‫الفة العاشرة‪ :‬كلم ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين‪ ،‬وأينقل كلم كل وأاحد إلى‬
‫الخر‪ ،‬وأيكلم كل وأاحد بكلم يوافقه‪ ،‬أوأ يعده أنه ينصره‪ ،‬اوأ يثنى على الواحد في وأجهه‬
‫وأيذمه عند الخر‪.‬وأفى الحديث‪" :‬إن شر الناس ذوأ الوجهين الذي يأتي هؤلء بوجه وأهؤلء‬
‫بوجه"‪.‬وأاعلم‪ :‬أن هذا فيمن لم يضطر إلى ذلك‪ ،‬فأما إذا اضطر إلى مداراة المراء جاز‬
‫‪.‬قال أبو الدرداء رضى الله عنه‪ :‬إنا لنكشر)‪(9‬‏‏ "<في وأجوه أقوام‪ ،‬وأإن قلوبنا لتلعنهم ‪.‬‬
‫وأمتى قدر أن ل يظهر موافقتهم لم يجز له‪.‬‬

‫الفة الحادية عشرة‪ :‬المدح‪ ،‬وأله آفات‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما يتعلق بالمادح‪ ،‬وأمنها‪ :‬ما يتعلق بالممدوأح‪ .‬فأما آفات المادح‪ ،‬فقد يقول مال‬
‫يتحققه‪ ،‬وأل سبيل للطلع عليه‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬إنه وأرع وأزاهد‪ ،‬وأقد يفرط في المدح‬
‫فينتهي إلى الكذب‪ ،‬وأقد يمدح من ينبغي لن يذم‪.‬وأقد روأى في حديث‪" :‬إن الله تعالى‬
‫يغضب إذا مدح الفاسق"وأقال الحسن‪ :‬من دعا لظالم بالبقاء‪ ،‬فقد أحب أن يعصى الله‬
‫‪.‬وأأما الممدوأح‪ ،‬فإنه يحدث فيه كبرا ً أوأ إعجابًا‪ ،‬وأهما مهلكان وألهذا قال النبى صلى الله‬
‫عليه وأآله وأسلم لما سمع رجل ً يمدح رجلً‪" :‬وأيلك‪ ،‬قطعت عنق صاحبك"‪..‬الحديث وأهو‬
‫مشهور‪.‬وأقد ُرّوأينا عن الحسن قال كان عمر رضى الله عنه قاعدا ً وأمعه الدرة وأالناس‬
‫حوله‪ ،‬إذ أقبل الجاروأد ‪ ،‬فقال رجل‪ :‬هذا سيد ربيعة‪ ،‬فسمعها عمر رضى الله عنه وأمن‬
‫حوله‪ ،‬وأسمعها الجاروأد‪ ،‬فلما دنا منه خفقه)‪(10‬‏‏‬

‫بالدرة‪ ،‬فقال‪ :‬مالي وألك يا أمير المؤمنين؟‏ قال‪ :‬مالي وألك‪ ،‬أما سمعتها؟‏ قال‪ :‬سمعتها‪،‬‬
‫فمه؟‏ قال‪ :‬خشيت أن يخالط قلبك منها شئ فأحببت أن أطأطئ )‪(11‬‏‏منك‪.‬‬

‫وألن النسان إذا أثنى عليه بالخير رضى عن نفسه‪ ،‬وأظن أنه قد بلغ المقصود‪ ،‬فيفتر عن‬
‫العمل‪ ،‬وألهذا قال‪ . :‬فأما إذا سلم المدح من هذه الفات لم يكن به بأس‪ ،‬فقد أثنى النبى‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم على أبى بكر وأعمر رضى الله عنهما وأغيرهما من الصحابة‬
‫رضى الله عنهم‪ .‬وأعلى الممدوأح أن يكون شديد الحتراز من آفة الكبر وأالعجب وأالفتور‬
‫عن العمل‪ ،‬وأل ينجو من هذه الفات إل أن يعرفا نفسه‪ ،‬وأيتفكر في أن المادح لو عرفا‬
‫منه ما يعرفا من نفسه ما مدحه‪ .‬وأقد روأى أن رجل ً من الصالحين أثنى عليه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اللهم إن هؤلء ل يعرفوني وأأنت تعرفني‪.‬‬

‫الفة الثانية عشرة‪ :‬الخطأ في فحوى الكلم فيما يرتبط في أمور الدين‪،‬لسيما فيما‬
‫يتعلق بالله تعالى‪ ،‬وأل يقدر على تقويم اللفظ بذلك إل العلماء الفصحاء‪ ،‬فمن قصر في‬
‫علم أوأ فصاحة‪ ،‬لم يخل كلمه عن الزلل‪ ،‬لكن يعفو الله عنه لجهله‪ .‬مثال ذلك ما روأى‬
‫عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم انه قال‪" :‬ل يقل أحدكم‪ :‬ما شاء الله شئت‪ ،‬وألكن‬
‫ليقل‪ ،‬ما شاء الله ثم شئت")‪(12‬‏‏وأذلك لن في العطف المطلق تشريكا ً وأتسوية‪ ،‬وأقريب‬
‫من ذلك إنكاره على الخطيب قوله‪" :‬وأمن يعصهما فقد غوى" وأقال‪" :‬وأمن يعص الله‬
‫وأرسوله"‪.‬وأقال صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬ل يقل أحدكم‪ :‬عبدى وأأمتى‪ ،‬كلكم عبيد الله‪،‬‬
‫وأكل نسائكم إماء الله‪ ،‬وألكن ليقل‪ ،‬غلمي وأجاريتي"‪ .‬وأقال النخعى‪ :‬إذا قال الرجل‬
‫للرجل‪ :‬يا حمار‪ ،‬يا خنزير‪ ،‬قيل له يوم القيامة‪ :‬أرأيتني خلقته حمارًا‪ ،‬أوأ أرأيتني خلقته‬
‫خنزيرًا‪.‬فهذا وأأمثاله مما يدخل في الكلم‪ ،‬وأل يمكن حصره‪ ،‬وأمن* تأمل ما أوأردناه في‬
‫آفات اللسان‪ ،‬علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم‪ ،‬وأعند ذلك يعرفا سر قوله صلى الله‬
‫عليه وأآله وأسلم‪" :‬من صمت نجا"‪ ،‬لن هذه الفات مهالك وأهى على طريق المتكلم‪ ،‬فإن‬
‫سكت سلم‪.‬‬

‫‪5‬ـ فصل ]‏ل تسأل عن صفات الله عز وأجل[‏‬

‫وأمن آفات العوام سؤالهم عن صفات الله سبحانه وأتعالى وأكلمه‪.‬اعلم‪ :‬أن الشيطان‬
‫يخيل إلى العامي أنك بخوضك في العلم تكون من العلماء وأأهل الفضل‪ ،‬فل يزال يحبب‬
‫إليه ذلك حتى يتكلم بما هو كفر وأهو ل يدرى‪ .‬قال النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‪:‬‬
‫"يوشك الناس أن يسألوا‪ ،‬حتى يقولوا‪ :‬هذا الله خلق الخلق‪ ،‬فمن خلق الله؟‏" فسؤال‬
‫العوام عن غوامض العلم أعظم الفات‪ ،‬وأبحثهم عن معاني الصفات مما يفسدهم ل مما‬
‫يصلحهم‪ ،‬إذ الواجب عليهم التسليم‪ ،‬فالوألى بالعامي اليمان بما وأرد به القرآن‪ ،‬ثم‬
‫التسليم لما جاء به الرسول من غير بحث ‪ ،‬وأاشتغالهم بالعبادات‪ ،‬فإن اشتغالهم بالبحث‬
‫عن أسرار العلم‪ ،‬كبحث سائمة الدوأاب عن أسرار الملك‪.‬‬

‫كتاب ذم الغضب وأالحقد وأالحسد‬

‫اعلم‪ :‬أن الغضب شعلة من النار‪ ،‬وأأن النسان ينزع فيه عند الغضب عرقا إلى الشيطان‬
‫اللعين‪ ،‬حيث قال‪} :‬خلقتني من نار وأخلقته من طين{ ]‏العرافا‪[12 :‬‏ فإن شأن الطين‬
‫من نتائج‬ ‫السكون وأالوقار‪ ،‬وأشأن النار التلظي وأالشتعال‪ ،‬وأالحركة وأالضطراب‪.‬وأ‬
‫الغضب‪ :‬الحقد وأالحسد‪ ،‬وأمما يدل على ذم الغضب قول النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‬
‫للرجل الذي قال له‪ :‬أوأصني‪ ،‬قال‪" :‬ل تغضب"‪ ،‬فردد عليه مرارًا‪ ،‬قال‪" :‬ل تغضب"‪.‬وأفى‬
‫حديث آخر أن ابن عمر رضى الله عنه سأل النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ ،‬ماذا يبعدني‬
‫من غضب الله عز وأجل؟‏ قال‪" :‬ل تغضب"‪.‬وأفى المتفق عليه من حديث أبى هريرة رضى‬
‫الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬ليس الشديد بالصرعة‪ ،‬إنما‬
‫الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”‪.‬وأعن عكرمة في قوله تعالى‪} :‬وأسيدا ً وأحصورا ً{‬
‫]‏آل عمران‪[39 :‬‏ قال‪ :‬السيد الذي يملك نفسه عند الغضب وأل يغلبه غضبه‪.‬وأروأينا أن ذا‬
‫القرنين لقي ملكا ً من الملئكة فقال‪ :‬علمني علما ً ازداد به إيمانا ً وأيقينًا‪ ،‬قال‪ :‬ل تغضب‪،‬‬
‫فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب‪ ،‬فرد الغضب بالكظم‪ ،‬وأسكنه‬
‫بالتؤدة‪ ،‬وأإياك وأالعجلة‪ ،‬فإنك إذا عجلت أخطأت حظك‪ ،‬وأكن سهل ً لينا ً للقريب وأالبعيد‪ ،‬وأل‬
‫تكن جبارا ً عنيدًا‪.‬وأروأينا أن إبليس لعنه الله بدا لموسى عليه السلم‪ ،‬فقال يا موسى‪ :‬إياك‬
‫وأالحدة‪ ،‬فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة‪ ،‬وأإياك وأالنساء‪ ،‬فإني لم‬
‫انصب فخا ً في نفسي قط أثبت في نفسي من فخ أنصبه بامرأة‪ ،‬وأإياك وأالشح‪ ،‬فإني‬
‫أفسد على الشحيح الدنيا وأالخرة‪.‬‬

‫وأكان يقال‪ :‬اتقوا الغضب‪ ،‬فإنه يفسد اليمان كما يفسد الصبر العسل‪ ،‬وأالغضب عدوأ‬
‫العقل‪.‬‬

‫حقيقة الغضب‪ :‬غليان دم القلب لطلب النتقام‪ ،‬فمتى غضب النسان ثارت نار‬ ‫وأ‬
‫الغضب ثورانا ً يغلى به دم القلب‪ ،‬وأينتشر بى العروأقا‪ ،‬وأيرتفع إلى أعالي البدن‪ ،‬كما يرتفع‬
‫الماء الذي يغلى في القدر‪ ،‬وألذلك يحمر الوجه وأالعين وأالبشرة وأكل ذلك يحكى لون ما‬
‫وأراءه من حمرة الدم‪ ،‬كما تحكى الزجاجة لون ما فيها‪ ،‬وأإنما ينبسط الدم إذا غضب على‬
‫من دوأنه وأاستشعر القدرة عليه‪.‬فإن كان الغضب صدر ممن فوقه‪ ،‬وأكان معه يأس من‬
‫النتقام‪ ،‬تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوفا القلب‪ ،‬فصار حزنًا‪ ،‬وألذلك‬
‫يصفر اللون‪ ،‬وأإن كان الغضب من نظير يشك فيه‪ ،‬تردد الدم بين انقباض وأانبساط‪،‬‬
‫قوة الغضب‬ ‫فيحمر وأيصفر وأيضطرب‪ ،‬فالنتقام هو قوت لقوة الغضب‪.‬وأالناس في‬
‫على درجات ثلث‪ :‬إفراط‪ ،‬وأتفريط‪ ،‬وأاعتدال‪.‬فل يحمد الفراط فيها‪ ،‬لنه يخرج العقل‬
‫وأالدين عن سياستهما‪ ،‬فل يبقى للنسان مع ذلك نظر وأل فكر وأل اختيار‪.‬وأالتفريط في‬
‫هذه القوة أيضا ً مذموم‪ ،‬لنه يبقى ل حمية له وأل غيرة‪ ،‬وأمن فقد الغضب بالكلية‪ ،‬عجز‬
‫عن رياضة نفسه‪ ،‬إذ الرياضة إنما تتم بتسلط الغضب على الشهوة‪ ،‬فيغضب على نفسه‬
‫عند الميل إلى الشهوات الخسيسة‪ ،‬ففقد الغضب مذموم‪ ،‬فينبغي أن يطلب الوسط بين‬
‫الطريقين‪.‬وأاعلم‪ :‬أنه متى قويت نار الغضب وأالتهبت‪ ،‬أعمت صاحبها‪ ،‬وأأصمته عن كل‬
‫موعظة‪ ،‬لن الغضب يرتفع إلى الدماغ‪ ،‬فيغطى على معادن الفكر‪ ،‬وأربما تعدى إلى‬
‫معادن الحس‪ ،‬فتظلم عينه حتى ل يرى بعينه‪ ،‬وأتسود الدنيا في وأجهه‪ ،‬وأيكون دماغه على‬
‫مثال كهف أضرمت فيه نار‪ ،‬فاسود جوه‪ ،‬وأحمى مستقره‪ ،‬وأامتل بالدخان‪ ،‬وأكان فيه‬
‫سراج ضعيف فانطفأ‪ ،‬فل يثبت فيه قدم‪ ،‬وأل تسمع فيه كلمة‪ ،‬وأل ترى فيه صورة‪ ،‬وأل‬
‫يقدر على إطفاء النار‪ ،‬فكذلك يفعل بالقلب وأالدماغ‪ ،‬وأربما زاد الغضب فقتل صاحبه‪.‬وأمن‬
‫آثار الغضب في الظاهر‪ ،‬تغير اللون‪ ،‬وأشدة الرعدة في الطرافا‪ ،‬وأخروأج لفعال عن‬
‫الترتيب‪ ،‬وأاستحالة الخلقة‪ ،‬وأتعاطى فعل المجانين‪ ،‬وألو رأى الغضبان صورته في حال‬
‫غضبه وأقبحها لنف نفسه من تلك الحال‪ ،‬وأمعلوم أن قبح الباطن أعظم‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل في بيان السباب المهيجة للغضب‬

‫قد عرفت أن علج كل علة بحسم مادتها وأإزالة أسبابها‪.‬فمن أسبابه‪ :‬العجب‪ ،‬وأالمزاح‪،‬‬
‫وأالمماراة‪ ،‬وأالمضادة‪ ،‬وأالغدر وأشدة الحرص على فضول المال وأالجاه‪ ،‬وأهذه الخلقا‬
‫رديئة مذمومة شرعًا‪ ،‬فينبغي أن يقابل كل وأاحد من هذه بما يضاده‪ ،‬فيجتهد على حسم‬
‫مواد الغضب وأقطع أسبابه‪.‬‬

‫وأأما إذا هاج الغضب فيعالج بأمور‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن يتفكر في الخبار الواردة في فضل كظم الغيظ‪ ،‬وأالعفو‪ ،‬وأالحلم‪،‬‬
‫وأالحتمال‪ ،‬كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس رضى الله عنهما‪ ،‬أن رجل ً استأذن‬
‫على عمر رضى الله عنه‪ ،‬فآذن له‪ ،‬فقال له‪ :‬يا ابن الخطاب‪ ،‬وأالله ما تعطينا الجزل )‪(1‬‏‏ ‪،‬‬
‫وأل تحكم بيننا بالعدل‪ ،‬فغضب عمر رضى الله عنه‪ ،‬حتى هم أن يوقع به )‪(2‬‏‏‪ .‬فقال الحر‬
‫بن قيس‪ :‬يا أمير المؤمنين إن الله عز وأجل قال لنبيه صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪} :‬خذ‬
‫العفو وأأمر بالمعروأفا وأأعرض عن الجاهلين{ ]‏العرافا‪[199 :‬‏ وأإن هذا من الجاهلين‪ ،‬فوالله‬
‫ما جاوأزها عمر رضى الله عنه حين تلها عليه‪ ،‬وأكان وأقافا ً عند كتاب الله عز وأجل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يخوفا نفسه من عقاب الله تعالى‪ ،‬وأهو أن يقول‪ :‬قدرة الله على أعظم من‬
‫قدرتي على هذا النسان‪ ،‬فلو أمضيت فيه غضبى‪ ،‬لم آمن أن يمضى الله عز وأجل غضبه‬
‫على يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو‪ .‬وأقد قال الله تعالى في بعض الكتب‪ :‬يا‬
‫ابن آدم!‏ اذكرني عند الغضب‪ ،‬أذكرك حين أغضب‪ ،‬وأل أمحقك فيمن أمحق‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن يحذر نفسه عاقبة العداوأة‪ ،‬وأالنتقام‪ ،‬وأتشمير العدوأ في هدم أعراضه‪،‬‬
‫وأالشماتة بمصائبه‪ ،‬فان النسان ل يخلو عن المصائب‪ ،‬فيخوفا نفسه ذلك في الدنيا إن‬
‫لم يخف من الخرة وأهذا هو تسليط شهوة على غضب وأل ثواب عليه‪ ،‬لنه تقديم لبعض‬
‫الحظوظ على بعض‪ ،‬إل أن يكون محذوأره أن يتغير عليه أمر يعينه على الخرة‪ ،‬فيثاب‬
‫على ذلك‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب على ما تقدم‪ ،‬وأأنه يشبه حينئذ الكلب‬
‫الضارى‪ ،‬وأالسبع العادي‪ ،‬وأانه يكون مجانبا ً لخلقا النبياء وأالعلماء في عادتهم‪ ،‬لتميل‬
‫نفسه إلى القتداء بهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى النتقام‪ ،‬مثل أن يكون سبب غضبة‬
‫أن يقول له الشيطان‪ :‬إن هذا يحمل منك على العجز‪ ،‬وأالذلة وأالمهانة‪ ،‬وأصغر النفس‪،‬‬
‫وأتصير حقيرا ً في أعين الناس‪ ،‬فليقل لنفسه‪ :‬تأنفين من الحتمال الن‪ ،‬وأل تأنفين من‬
‫خزي يوم القيامة وأالفتضاح إذا أخذ هذا بيدك وأانتقم منك‪ ،‬وأتحذرين من أن تصغري في‬
‫أعين الناس‪ ،‬وأل تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وأعند الملئكة وأالنبيين‪.‬وأينبغى أن‬
‫يكظم غيظه‪ ،‬فذلك يعظمه عند الله تعالى‪ ،‬فماله وأللناس؟‏ أفل يجب أن يكون هو القائم‬
‫يوم القيامة إذا نودي‪ :‬ليقم من وأقع أجره على الله‪ ،‬فل يقوم إل من عفا‪ ،‬فهذا وأأمثاله‬
‫ينبغي أن يقرره على قلبه‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن يعلم أن غضبه إنما كان من شىء جرى على وأفق مراد الله تعالى‪ ،‬ل‬
‫على وأفق مراده‪ ،‬فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى‪ ،‬هذا ما يتعلق بالقلب‪.‬‬

‫وأأما العمل‪ ،‬فينبغي له السكون‪ ،‬وأالتعوذ‪ ،‬وأتغيير الحال‪ ،‬وأإن كان قائما ً جلس‪ ،‬وأإن كان‬
‫جالسا ً اضطجع‪ ،‬وأقد أمرنا بالوضوء أيضا َ عند الغضب‪ ،‬فهذه المور وأردت في الحاديث‬
‫‪.‬أما الحكمة في الوضوء عند الغضب‪ ،‬فقد بينها في الحديث‪ .‬كما روأى أبو وأائل قال‪ :‬كنا‬
‫عند عروأة بن محمد‪ ،‬فكلمه رجل بكلم‪ ،‬فغضب غضبا ً شديدا ً فقام وأتوضأ‪ ،‬ثم جاء فقال‪:‬‬
‫حدثني أبى عن جدي عطية‪ -‬وأكانت له صحبة‪ -‬قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم‪ " :‬إن الغضب من الشيطان‪ ،‬وأإن الشيطان خلق من النار‪ ،‬وأإنما تطفأ النار بالماء‪،‬‬
‫فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"‪.‬وأأما الجلوس وأالضطجاع‪ ،‬فيمكن أن يكون إنما أمر بذلك‬
‫ليقرب من الرض التي منها خلق‪ ،‬فيذكر أصله فيذل‪ ،‬وأيمكن أن يكون ليتواضع بذله‪ ،‬لن‬
‫الغضب ينشأ من الكبر‪ ،‬بدليل ما روأى أبو سعيد‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه‬
‫ذكر الغضب وأقال‪“ :‬من وأجد شيئا ً من ذلك‪ ،‬فليلصق خده بالرض" ‪.‬‬

‫وأقيل‪ :‬غضب المهدى على رجل‪ ،‬فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه‪ ،‬وأإطراقا‬
‫الناس‪ ،‬فلم يتكلموا بشيء‪ ،‬قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ل تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬خلوا سبيله‪.‬‬

‫‪2‬ـ فصل في كظم الغيظ‬

‫قال الله تعالى‪ } :‬وأالكاظمين الغيظ{ ]‏آل عمران‪[134 :‬‏ فذكر ذلك في معرض المدح‪.‬وأعن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال"من كظم غيظا ً وأهو قادر على أن ينفذه‪ ،‬دعاه‬
‫الله على رؤوأس الخلئق حتى يخيره من أي الحور شاء"‪.‬وأروأى عن عمر رضى الله عنه‬
‫أنه قال‪ :‬من اتقى الله لم يشف غيظه‪ ،‬وأمن خافا الله لم يفعل ما يريد‪ ،‬وألول يوم‬
‫القيامة لكان غير ما تروأن‪.‬‬

‫‪3‬ـ فصل في الحلم‬

‫روأى أبو هريرة رضى الله عنه‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬إنما العلم‬
‫بالتعلم‪ ،‬وأالحلم بالتحلم" )‪" .‬اطلبوا العلم‪ ،‬وأاطلبوا مع العلم السكينة وأالحلم‪ ،‬لينوا لمن‬
‫تعلمون وألمن تعلمون منه‪ ،‬وأل تكونوا من جبابرة العلماء‪ ،‬فيغلب جهلكم عليكم" ‪.‬وأقال‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم لشج بن قيس )‪(3‬‏‏‪" :‬إن فيك خلقين يحبهما الله وأرسوله‪:‬‬
‫الحلم وأالناة ")‪(4‬‏‏‪.‬وأشتم رجل ابن عباس رضى الله عنه فلما قضى مقتله‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫عكرمة‪ ،‬انظر هل للرجل حاجة فنقضيها؟‏ فنكس الرجل رأسه وأاستحى‪.‬وأأسمع رجل‬
‫معاوأية كلما ً شديدا ً فقيل له‪ :‬لو عاقبته؟‏ فقال‪ :‬إني لستحي أن يضيق حلمي عن ذنب‬
‫أحد من رعيتي‪.‬وأأقسم معاوأية نطعا ً ‪ ،‬فبعث منها إلى شيخ من أهل دمشق فلم يعجبه‬
‫فجعل عليه يمينا ً أن يضرب رأس معاوأية‪ ،‬فأتى معاوأية فأخبره‪ ،‬فقال له معاوأية‪ :‬أوأفا‬
‫بنذرك وأارفق بالشيخ‪.‬وأجاء غلم لبى ذر وأقد كسر رجل شاة له‪ ،‬فقال له‪ :‬من كسر رجل‬
‫هذه؟‏ قال‪ :‬أنا فعلته عمدا ً لغيظك‪ ،‬فضربنى‪ ،‬فتأثم‪ .‬فقال‪ :‬لغظين من حرضك على‬
‫غيظي‪ ،‬فأعتقه‪.‬وأشتم رجل عدى ابن حاتم وأهو ساكت‪ ،‬فلما فرغ من مقالته قال‪ :‬إن كان‬
‫بقي عندك شئ فقل قبل أن يأتي شباب الحي‪ ،‬فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم‬
‫يرضوا‪.‬وأدخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة‪ ،‬فمر برجل نائم فعثر به‪ ،‬فرفع‬
‫ن أنت؟‏ فقال عمر‪ :‬ل‪ ،‬فهم به الحرس‪ ،‬فقال عمر‪ :‬مه‪ ،‬إنما سألني‬ ‫رأسه وأقال‪ :‬أمجنو ٌ‬
‫أمجنون؟‏ فقلت‪ :‬ل‪.‬وألقي رجل على بن الحسين رضى الله عنهما‪ ،‬فسبه‪ ،‬فثارت إليه‬
‫العبيد‪ ،‬فقال‪ :‬مهلً‪ ،‬ثم أقبل على الرجل فقال‪ :‬ما ستر عنك من أمرنا أكثر‪ ،‬ألك حاجة‬
‫نعينك عليها ؟‏ فاستحى الرجل‪ ،‬فألقى عليه خميصة )‪(5‬‏‏ كانت عليه‪ ،‬وأأمر له بألف درهم‪،‬‬
‫فكان الرجل بعد ذلك يقول‪ :‬أشهد أنك من أوألد الرسول‪.‬وأقال رجل لوهب بن منبه‪ :‬إن‬
‫فلنا ً شتمك‪ ،‬فقال‪ :‬ما وأجد الشيطان بريدا ً غيرك‪.‬‬

‫‪4‬ـ فصل في العفو وأالرفق‬

‫أعلم‪ :‬أن معنى العفو أن تستحق حقا ً فتسقطه‪ ،‬وأتؤدى عنه من قصاص أوأ غرامة‪ ،‬وأهو‬
‫غير الحلم وأالكظم‪ .‬وأقال الله تعالى‪} :‬وأالعافين عن الناس{ ‪].‬‏آل عمران‪[134:‬‏ وأقال‪:‬‬
‫}فمن عفا وأأصلح فأجره على الله{ ]‏الشورى‪[40 :‬‏‪ ،‬وأفى الحديث أن النبى صلى الله عليه‬
‫وأآله وأسلم‪ ،‬قال‪" :‬ما نقصت صدقة من مال‪ ،‬وأما زاد الله عبدا ً بعفو إل عزًا‪ ،‬وأما تواضع‬
‫أحد لله إل رفعه الله"‪.‬وأعن عقبة بن عامر‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم‪" :‬يا عقبة‪ ،‬أل أخبرك بأفضل أخلقا أهل الدنيا وأالخرة؟‏ تصل من قطعك‪ ،‬وأتعطى‬
‫من حرمك‪ ،‬وأتعفو عمن ظلمك" ‪.‬وأروأى أن مناديا ً ينادى يوم القيامة‪ :‬ليقم من وأقع أجره‬
‫على الله؟‏ فل يقوم إل من عفا عمن ظلمه‪.‬وأعن أنس رضى الله عنه قال‪ :‬قال رسول‬
‫الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ :‬وأإن الله رفيق يحب الرفق‪ ،‬وأيعطى عليه مال يعطي على‬
‫العنف"‪.‬وأفى "الصحيحين" من حديث عائشة رضى الله عنها‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه‬
‫وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬إن الله عز وأجل يحب الرفق في المر كله"‪.‬وأفى حديث آخر "من‬
‫يحرم الرفق يحرم الخير"‪.‬‬

‫‪5‬ـ باب في الحقد وأالحسد‬

‫اعلم‪ :‬أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن‪ ،‬فاحتقن فيه‬
‫فصار حقدًا‪.‬وأعلمته دوأام بغض الشخص وأاستثقاله وأالنفور منه‪ ،‬فالحقد ثمرة الغضب‪،‬‬
‫وأالحسد من نتائج الحقد‪.‬وأعن الزبير بن العوام رضى الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬دب إليكم داء المم قبلكم الحسد وأالبغضاء" ‪.‬وأفى "الصحيحين"‬
‫عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬ل تباغضوا‪ ،‬وأل تقاطعوا‪ ،‬وأل تحاسدوأا‪ ،‬وأل‬
‫تدابروأا‪ ،‬كونوا عباد الله إخوانًا"‪.‬وأفى حديث آخر عنه صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪:‬‬
‫"إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" ‪.‬وأفى حديث آخر أنه قال‪" :‬يطلع‬
‫عليكم من هذا الفج )‪(6‬‏‏ رجل من أهل الجنة‪ ،‬فطلع رجل‪ ،‬فسئل عن عمله‪ ،‬فقال‪ :‬إني ل‬
‫أجد لحد من المسلمين في نفسي غشا ً وأل حسدا ً على خير أعطاه الله إياه"‪.‬وأروأينا أن‬
‫الله تبارك وأتعالى يقول‪":‬الحاسد عدوأ نعمتى‪ ،‬متسخط لقضائي‪ ،‬غير راض بقسمتي بين‬
‫عبادي"‪.‬‬

‫وأقال ابن سيرين‪ :‬ما حسدت أحدا ً على شئ من أمر الدنيا‪ ،‬لنه إن كان من أهل الجنة‪،‬‬
‫فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا‪ ،‬وأهو يصير إلى الجنة‪ ،‬وأإن كان من أهل النار‪،‬‬
‫فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا‪ ،‬وأهو يصير إلى النار‪.‬وأقال إبليس لنوح عليه‬
‫السلم‪ :‬إياك وأالحسد‪ ،‬فإنه صيرني إلى هذه الحال‪.‬وأاعلم‪ :‬أن الله تعالى إذا نعم على‬
‫أخيك نعمة‪ ،‬فلك فيها حالتان‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬أن تكره تلك النعمة وأتحب زوأالها‪ ،‬فهذا هو الحسد‪.‬‬


‫وأالحالة الثانية‪ :‬أن ل تكره وأجودها وأل تحب زوأالها‪ ،‬وألكنك تشتهى لنفسك مثلها‪ ،‬فهذا‬
‫يسمى غبطة‪.‬قال المصنف رحمه الله‪:‬‬

‫قلت‪ :‬وأاعلم أنى ما رأيت أحدا ً حقق الكلم في هذا كما ينبغي‪ ،‬وألبد لى من كشفه‬
‫فأقول‪:‬اعلم‪ :‬أن النفس قد جلبت على حب الرفعة‪ ،‬فهي ل تحب أن يعلوها جنسها‪ ،‬فإذا‬
‫عل عليها‪ ،‬شق عليها وأكرهته‪ ،‬وأأحبت زوأال ذلك ليقع التساوأي‪ ،‬وأهذا أمر مركوز في‬
‫الطباع‪ .‬وأقد روأى أبو هريرة رضى الله عنه‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪:‬‬
‫طيرة‪ ،‬وأالحسد‪ ،‬وأسأحدثكم ما المخرج من ذلك‪ ،‬إذا‬ ‫"ثلث ل ينجو منهن أحد‪ :‬الظن‪ ،‬وأال ّ‬
‫علج الحسد‪ ،‬تارة‬ ‫ظننت فل تحقق‪ ،‬وأإذا تطيرت فامض‪ ،‬وأإذا حسدت فل تبغ" ‪.‬وأ‬
‫بالرضى بالقضاء‪ ،‬وأتارة بالزهد في الدنيا‪ ،‬وأتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم‬
‫الدنيا وأحساب الخرة‪ ،‬فيتسلى بذلك وأل يعمل بمقتضى ما في النفس أصلً‪ ،‬وأل ينطق‪،‬‬
‫فإذا فعل ذلك لم يضره ما وأضع في جبلته‪.‬فأما من يحسد نبيا ً على نبوته‪ ،‬فيجب أن ل‬
‫يكون نبيًا‪ ،‬أوأ عالما ً على علمه‪ ،‬فيؤثر أن يرزقا ذلك أوأ يزوأل عنه‪ ،‬فهذا ل عذر له‪ ،‬وأل‬
‫تجبل عليه إل النفوس الكافرة أوأ الشريرة‪ ،‬فأما إن أحب أن يسبق أقرانه‪ ،‬وأيطلع على ما‬
‫لم يدركوه‪ ،‬فإنه ل يأثم بذلك‪ ،‬فإنه لم‬

‫يؤثر زوأال ما عندهم عنهم‪ ،‬بل أحب الرتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه‪ ،‬كما لو استبق‬
‫عبدان إلى خدمة مولهما‪ ،‬فأحب أحدهما أن يستبق‪ .‬وأقد قال الله تعالى‪} :‬وأفى ذلك‬
‫فليتنافس المتنافسون{ ]‏المطففين‪[26 :‬‏ )‪(7‬‏‏‪.‬وأفى “الصحيحين” من حديث ابن عمر رضى‬
‫الله عنهما‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬ل حسد إل في اثنتين‪ :‬رجل‬
‫آتاه الله عز وأجل القرآن‪ ،‬فهو يقوم به آناء الليل وأآناء النهار‪ ،‬وأرجل آتاه الله مالً‪ ،‬فهو‬
‫ينفقه في الحق آناء الليل وأآناء النهار"‪.‬‬

‫وأالحسد له أسباب‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬العداوأة‪ ،‬وأالتكبر‪ ،‬وأالعجب‪ ،‬وأحب الرياسة‪ ،‬وأخبث النفس‪،‬وأبخلها‪ ،‬وأأشدها‪ :‬العداوأة‬
‫وأالبغضاء‪ ،‬فإن من آذاه إنسان بسبب من السباب‪ ،‬وأخالفه في غرضه‪ ،‬أبغضه قلبه‪،‬‬
‫وأرسخ في نفسه الحقد‪.‬‬

‫وأالحقد يقتضي التشفي وأالنتقام‪ ،‬فمهما أصاب عدوأه من البلء فرح بذلك‪ ،‬وأظنه مكافأة‬
‫من الله تعالى له‪ ،‬وأمهما أصابته نقمة ساءه ذلك‪ ،‬فالحسد يلزم البغض وأالعداوأة وأل‬
‫يفارقهما‪ ،‬وأإنما غاية التقى أن ل يبغي‪ ،‬وأأن يكره ذلك من نفسه‪ ،‬فأما أن يبغض إنسانا ً‬
‫فيستوي عنده مسرته وأمساءته‪ ،‬فهذا غير ممكن‪.‬‬

‫وأأما الكبر‪ ،‬فهو أن يصيب بعض نظرائه مال ً أوأ وألية‪ ،‬فيخافا أن يتكبر عليه وأل يطيق‬
‫تكبره‪ ،‬وأأن يكون من أصاب ذلك دوأنه‪ ،‬فل يحتمل ترفعه عليه أوأ مساوأاته‪ .‬وأكان حسد‬
‫الكفار لرسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قريبا ً من ذلك ‪ .‬قال الله تعالى‪} :‬وأقالوا لول‬
‫نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم{ ]‏الزخرفا‪[31 :‬‏ وأقال في حق المؤمنين‪:‬‬
‫} أهؤلء من الله عليهم من بيننا{ ]‏ النعام‪[53 :‬‏ وأقال في آية أخرى ‪} :‬ما أنتم إل بشر مثلنا{‬
‫]‏يس ‪[15 :‬‏ وأقال‪ } :‬وألئن أطعتم بشرا ً مثلكم إنكم إذا ً لخاسروأن{]‏ المؤمنون ‪[34 :‬‏ فعجبوا‬
‫وأأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوأهم‪.‬‬

‫وأأما حب الرياسة وأالجاه‪ ،‬فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من‬
‫الفنون ‪ ،‬إذا غلب عليه حب الثناء‪ ،‬وأاستفزه الفرح بما يمدح به‪ ،‬من أنه أوأحد العصر‪،‬‬
‫وأفريد الدهر في فنه‪ ،‬إذا سمع بنظير له في أقصى العالم‪ ،‬ساءه ذلك وأأحب موته‪ ،‬أوأ‬
‫زوأال النعمة التي بها يشاركه في علم ‪ ،‬أوأ شجاعة‪ ،‬أوأ عبادة‪ ،‬أوأ صناعة‪ ،‬أوأ ثروأة‪ ،‬أوأ غير‬
‫ذلك‪ ،‬وأليس ذلك إل لمحض الرياسة بدعوى النفراد ‪.‬وأقد كان علماء اليهود ينكروأن‬
‫معرفة النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪ ،‬وأل يؤمنون خوفا ً من بطلن رئاستهم‪.‬وأأما خبث‬
‫النفس وأشحها على عباد الله‪ ،‬فإنك تجد من الناس من ل يشتغل برئاسة وأل تكبر‪ ،‬وأإذا‬
‫وأصف عند حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به‪ ،‬شق عليه ذلك‪ ،‬وأإذا‬
‫وأصف له اضطراب أمور الناس وأإدبارهم‪ ،‬وأتنغيص عيشهم‪ ،‬فرح به‪ ،‬فهو أبدا ً يحب الدبار‬
‫لغيره‪ ،‬وأيبخل بنعمة الله على عباده‪ ،‬كأنهم يأخذوأن ذلك من ملكه وأخزانته‪.‬‬

‫وأقد قال بعض العلماء‪ :‬البخيل من يبخل بمال نفسه‪ ،‬وأالشحيح الذي يبخل بمال غيره‪،‬‬
‫فهذا يبخل بنعمى الله على عباده الذين ليس بينهم وأبينه عداوأة وأل رابطة‪ ،‬وأهذا ليس له‬
‫سبب إل خبث النفس وأرداءة الطبع‪ ،‬وأهذا معالجته شديدة‪ ،‬لنه ليس له سبب عارض‪،‬‬
‫فيعمل على إزالته‪ ،‬بل سببه خبث الجبلة‪ ،‬فيعسر إزالته‪ ،‬فهذه أسباب الحسد‪.‬‬

‫‪6‬ـ فصل ]‏في سبب كثرة الحسد[‏‬

‫وأاعلم‪ :‬أنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم السباب التي ذكرناها‪ ،‬وأيقع ذلك غالبا ً بين‬
‫القران‪ ،‬وأالمثال‪ ،‬وأالخوة‪ ،‬وأبنى العم‪ ،‬لن سبب التحاسد توارد الغراض على مقاصد‬
‫يحصل فيها‪ ،‬فيثور التنافر وأالتباغض‪.‬وألذلك ترى العالم يحسد العالم دوأن العابد‪ ،‬وأالعابد‬
‫يحسد العابد دوأن العالم‪ ،‬وأالتاجر يحسد التاجر‪ ،‬وأالسكافا يحسد السكافا‪ ،‬وأل يحسد‬
‫البزاز إل أن يكون سبب آخر‪ ،‬لن مقصد كل وأاحد من هؤلء غير مقصد الخر‪.‬فأصل‬
‫العداوأة التزاحم على غرض وأاحد‪ ،‬وأالغرض الواحد ل يجمع متباعدين‪ ،‬إذ ل رابطة بين‬
‫شخصين في بلدين‪ ،‬وأل يكون بينهما محاسدة إل من اشتد حرصه على الجاه‪ ،‬فإنه يحسد‬
‫كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها‪.‬وأمنشأ جميع ذلك حب الدنيا‪،‬‬
‫فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين‪ ،‬وأأما الخرة‪ ،‬فل ضيق فيها‪ ،‬فإن من احب‬
‫معرفة الله تعالى‪ ،‬وأملئكته‪ ،‬وأأنبياءه‪ ،‬وأملكوت أرضه وأسماءه‪ ،‬لم يحسد غيره إذا عرفا‬
‫ذلك‪ ،‬لن المعرفة ل تضيق على العارفين‪ ،‬بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم‪،‬‬
‫وأيفرح بمعرفة غيره‪ ،‬فلذلك ل يكون بين علماء الدين محاسدة‪ ،‬لن مقصودهم معرفة‬
‫الله سبحانه‪ ،‬وأهو بحر وأاسع ل ضيق فيه‪ ،‬وأغرضهم المنزلة عند الله‪ ،‬وأل ضيق فيما عند‬

‫الله‪ ،‬لن أجل ما عند الله من النعيم لذة لقائه‪ ،‬وأليس فيه ممانعة وأل مزاحمة‪.‬وأل يضيق‬
‫بعض الناظرين على بعض‪ ،‬بل يزيد النس بكثرتهم‪ ،‬إل أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال‬
‫وأالجاه تحاسدوأا‪.‬وأالفرقا بين العلم وأالمال‪ ،‬أن المال ل يحل في يد ما لم يرتحل عن يد‬
‫أخرى‪ ،‬وأالعلم مستقر في قلب العلم‪ ،‬وأيحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل عن‬
‫قلبه‪ ،‬وأل نهاية له‪ ،‬فمن عود نفسه الفكر في جلل الله وأعظمته وأملكه‪ ،‬وأصار ذلك عنده‬
‫ألذ من كل نعيم‪ ،‬لنه لم يكن ممنوعا ً عنه وأل مزاحما ً فيه‪ ،‬فل يكون في قلبه حسد لحد‬
‫من الخلق‪ ،‬لن غيره لو عرفا مثل معرفته لم ينقص من لذته‪ ،‬فقد عرفت أنه ل حسد إل‬
‫في المتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل‪.‬وألهذا ل ترى الناس يتزاحمون على‬
‫النظر إلى زينة السماء‪ ،‬لنها وأاسعة القطار‪ ،‬وأافيه بجميع البصار‪ ،‬فعليك إن كنت شفيقا ً‬
‫على نفسك أن تطلب نعيما ً ل زحمة فيه‪ ،‬وألذة ل تتكدر‪ ،‬وأل يوجد ذلك في الدنيا إل في‬
‫معرفة الله تعالى وأعجائب ملكوته‪ ،‬وأل ينال ذلك في المعرفة أيضًا‪ ،‬فإن كنت ل تشتاقا‬
‫إلى معرفة الله سبحانه‪ ،‬وألم تجد لذتها‪ ،‬وأضعفت فيها رغبتك‪ ،‬فلست برجل‪ ،‬إنما هذا‬
‫شأن الرجال‪ ،‬لن الشوقا بعد الذوأقا‪ ،‬وأمن لم يذقا لم يعرفا‪ ،‬وأمن لم يعرفا لم يشتق‪،‬‬
‫وأمن لم يشتق لم يطلب‪ ،‬وأمن لم يطلب لم يدرك‪ ،‬وأمن لم يدرك بقى من المحروأمين‬
‫‪.‬وأاعلم‪ :‬أن الحسد من المراض العظيمة للقلوب‪ ،‬وأل تداوأى أمراض القلوب إل بالعلم‬
‫وأالعمل‪ ،‬وأالعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرفا حقيقة أن الحسد ضرر عليك في الدين‬
‫وأالدنيا‪ ،‬وأأنه ل يضر المحسود في الدين وأل في الدنيا‪ ،‬بل ينتفع به‪ ،‬وأالنعمة ل تزوأل عن‬
‫المحسود بحسدك‪ ،‬وألو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقل ً أن تحذر‬
‫من الحسد‪ ،‬لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع‪ ،‬فكيف وأأنت تعلم ما فيه من العذاب‬
‫في الخرة‪.‬وأبيان قولنا‪ :‬أن المحسود ل ضرر عليه في الدين وأل في الدنيا‪ ،‬بل ينتفع‬
‫بحسدك في الدين وأالدنيا‪ ،‬لن ما قدره الله من نعمة ل بد أن تدوأم إلى اجله الذي قدره‪،‬‬
‫وأل ضرر عليه في البخرة‪ ،‬لنه ل يأثم هو بذلك‪ ،‬بل ينتفع به‪ ،‬لنه مظلوم من جهتك‪.‬ل‬
‫سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول وأالفعل وأأما منفعته في الدنيا‪ ،‬فهو من أهم أغراض‬
‫الخلق غم العداء‪ ،‬وأل عذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد‪ .‬فإذا تأملت ما ذكرنا‪ ،‬علمت‬
‫أنك عدوأ لنفسك‪ ،‬وأهو صديق لعدوأك‪ ،‬فما مثلك إل كمثل من يرمى حجرا ً عدوأه ليصيب‬
‫مقتله فل يصيبه‪ ،‬وأيرجع الحجر على حدقته اليمنى فيقلعها‪ ،‬فيزيد غضبه‪ ،‬فيعود وأيرميه‬
‫بحجر أشد من الوأل‪ ،‬فيرجع الحجر على عينه الخرى فيعميها‪ ،‬فيزداد غيظه‪ ،‬فيرميه‬
‫الثالثة‪ ،‬فيعود الحجر على رأسه فيشدخه‪ ،‬وأعدوأه سالم يضحكك منه‪ ،‬فهذه الدوأية‬
‫العلمية‪ ،‬فإذا تفكر النسان فيها‪ ،‬أخمدت نار الحسد في قلبه‪.‬وأأما العمل النافع فيه‪ ،‬فهو‬
‫أن يتكلف نقيض ما يأمر به الحسد فإذا بعثه على الحقد وأالقدح في المحسود‪ ،‬كلف‬
‫نفسه المدح له‪ ،‬وأالثناء عليه‪ ،‬وأإن حمله الكبر‪ ،‬ألزم نفسه التواضع له‪ ،‬وأإن بعثه على كف‬
‫النعام عنه‪ ،‬ألزم نفسه زيادة في النعام‪.‬وأقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن شخصا ً‬
‫اغتابهم‪ ،‬أهدوأا إليه هدية‪.‬فهذه أدوأية نافعة للحسد جدًا‪ ،‬إل أنها مرة‪ ،‬وأربما يسهل شربها‬
‫أن يعلم أنه إذا كلن ل يكون كل ما تريد‪ ،‬فأرد ما يكون‪ ،‬وأهذا هو الدوأاء الكلى‪ ،‬وأالله‬
‫أعلم‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ باب في ذم الدنيا‬

‫اليات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا‪ ،‬وأالتزهيد فيها‪ ،‬وأضرب المثال لها كثيرة‬
‫كقوله تعالى‪ } :‬زين للناس حب الشهوات من النساء وأالبنين وأالقناطير المقنطرة من الذهب‬
‫وأالفضة وأالخيل المسومة وأالنعام وأالحرث ذلك متاع الحياة الدنيا وأالله عنده حسن المآب* قل‬
‫أؤنبئكم بخير من ذلكم{]‏آل عمران‪[14-15:‬‏‪ ،‬وأقوله‪} :‬وأما الحياة الدنيا إل متاع الغروأر{ ]‏آل‬
‫عمران‪[185 :‬‏‪ ،‬وأقوله‪} :‬إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء{ الية ]‏يونس‪[24:‬‏‪،‬‬
‫وأقوله‪} :‬اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب وألهو وأزينة{ ]‏الحديد‪[20:‬‏‪ ،‬وأقوله‪} :‬وأإن كل ذلك لما متاع‬
‫الحياة الدنيا وأالخرة عند ربك للمتقين{ ]‏الزخرفا‪[35:‬‏‪ ،‬وأقوله‪} :‬فأعرض عن من تولى عن ذكرنا‬
‫وألم يرد إل الحياة الدنيا* ذلك مبلغهم من العلم{ ]‏النجم‪[29-30 :‬‏‪.‬وأأما الحاديث‪ ،‬ففى‬
‫"الصحيحين" من روأاية المستور بن شداد‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم‪" :‬ما الدنيا في الخرة إل كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم‪ ،‬فلينظر بم‬
‫ترجع؟‏"وأفى حديث آخر‪ :‬الدنيا سجن المؤمن وأجنة الكافر" روأاه مسلم‪.‬وأفى حديث آخر‪:‬‬
‫"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا ً شربة ماء"‪ .‬روأاه الترمذى‬
‫وأصححه‪.‬وأفى حديث آخر‪" :‬الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان لله منها"‬

‫وأروأى أبو موسى‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬من أحب دنياه‪ ،‬أضر‬
‫بآخرته‪ ،‬وأمن أحب آخرته أضر بدنياه‪ ،‬فآثروأا ما بقى على ما يفنى"))رجاله ثقات لكنه‬
‫منقطع أخرجه أحمد وأابن حبان وأالحاكم‪(.‬‏‏(‏‏وأكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم‬
‫الدنيا كتابا ً طويل ً فيه‪ :‬أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام‪ ،‬وأإنما أنزل إليها آدم‬
‫عقوبة‪ ،‬فاحذرها يا أمير المؤمنين‪ ،‬فإن الزاد منها تركها‪ ،‬وأالغنى فيها فقرها‪ ،‬تذل من‬
‫أعزها‪ ،‬وأتفقر من جمعها‪ ،‬كالسم يأكله من ل يعرفها وأهو حتفه‪ ،‬فاحذر هذه الدار الغروأرة‬
‫الخيالة الخادعة‪ ،‬وأكن آثر ما تكون فيها‪ ،‬أحذر ما تكون لها‪ ،‬سروأرها مشوب بالحزن‪،‬‬
‫وأصفوها مشوب بالكدر‪ ،‬فلو كان الخالق لم يخبر عنه خبرًا‪ ،‬وألم يضرب له مثل ً لكانت قد‬
‫أيقظت النائم‪ ،‬وأنبهت الغافل‪ ،‬فكيف وأقد جاء من الله عز وأجل وأعنه زاجر‪ ،‬وأفيها وأاعظ‪،‬‬
‫فما لها عند الله سبحانه قدر وأل وأزن‪ ،‬وأما نظر إليها منذ خلقها‪.‬‬

‫وألقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وأآله وأسلم مفاتيحها وأخزائنها‪ ،‬ل ينقصها عند‬
‫الله جناح بعوضة‪ ،‬فأبى أن يقبلها‪ ،‬وأكره أن يحب ما أبغض خالقه‪ ،‬أوأ يرفع ما وأضع مليكه‪،‬‬
‫زوأاها الله عن الصالحين اختيارًا‪ ،‬وأبسطها لعدائه اغترارًا‪ ،‬أفيظن المغروأر بها المقتدر‬
‫عليها أنه أكرم بها؟‏ وأنسى ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وأآله وأسلم حين شد على‬
‫بطنه الحجر‪ ،‬وأالله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا‪ ،‬فلم يخف أن يكون قد مكر به‪،‬‬
‫إل كان قد نقص عقله‪ ،‬وأعجز رأيه وأما امسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها‪ ،‬إل‬
‫كان قد نقص عقله وأعجز رأيه‪.‬‬

‫وأقال مالك بن دينار‪ :‬اتقوا السحارة‪ ،‬فإنها تسحر قلوب العلماء‪ ،‬يعنى الدنيا‪.‬وأمن أمثلة‬
‫الدنيا‪ :‬قال يونس بن عبيد‪ :‬شبهت الدنيا كرجل نائم‪ ،‬فرأى في منامه ما يكره وأما يحب‪،‬‬
‫فبينما هو كذلك انتبه‪.‬‬

‫وأمثل هذا قولهم‪ :‬الناس نيام‪ ،‬فإذا ماتوا انتبهوا‪.‬وأالمعنى انهم ينتبهون بالموت وأليس في‬
‫أيديهم شئ مما ركنوا إليه وأفرحوا به‪.‬قيل‪ :‬إن عيسى عليه السلم رأى الدنيا في صورة‬
‫عجوز هتماء))‪(8‬‏‏عليها من كل زينة‪ .‬فقال لها‪ :‬كم تزوأجت؟‏ قالت‪ :‬ل أحصيهم‪ .‬قال‪ :‬فكلهم‬
‫مات عنك أوأ كلهم طلقك؟‏ قالت‪ :‬بل كلهم قتلت‪ ،‬فقال عيسى عليه السلم‪ :‬بؤسا ً‬
‫لزوأاجك الباقين‪ ،‬كيف ل يعتبروأن بأزوأاجك الماضين‪ ،‬كيف تهلكينهم وأاحدا ً بعد وأاحد‪ ،‬وأل‬
‫يكونون منك على حذر‪.‬وأروأى ابن عباس رضى الله عنه قال‪ :‬يؤتى بالدنيا يوم القيامة في‬
‫صورة عجوز شمطاء)‪(9‬‏‏زرقاء أنيابها بادية‪ ،‬مشوه خلقها‪ ،‬فتشرفا على الخلق‪ ،‬فيقال‪ :‬هل‬
‫تعرفون هذه؟‏ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه ‪ .‬فيقال ‪ :‬هذه الدنيا التي تشاجرتم‬
‫عليها وأبها تقاطعتم الرحام‪ ،‬وأبها تحاسدتم وأتباغضتم وأاغتررتم‪ ،‬ثم تقذفا في جهنم‪،‬‬
‫فتنادى‪ :‬يا رب أين أتباعي وأأشياعي؟‏ فيقول‪ :‬ألحقوا بها أتباعها وأأشياعها‪.‬وأعن أبى العلء‪،‬‬
‫قال ‪ :‬رأيت في النوم عجوزا ً كبيرة عليها من كل زينة‪ ،‬وأالناس عكوفا عليها متعجبون‪،‬‬
‫ينظروأن إليها‪ ،‬فقلت‪ :‬أعوذ بالله من شرك‪ .‬قالت‪ :‬إن أحببت أن تعاذ من شرى فأبغض‬
‫الدرهم‪.‬‬

‫وأقال بعضهم‪ :‬رأيت الدنيا في النوم عجوزا ً مشوهة الخلقة حدباء‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬وأاعلم أن أحوالك ثلث‪:‬‬

‫حال لم تكن فيها شيئًا‪ ،‬وأهى قبل أن توجد‪.‬‬

‫وأحال أخرى‪ ،‬وأهى من ساعة موتك إلى ما ل نهاية له في البقاء السرمدي‪ ،‬فإن لنفسك‬
‫وأجود ا ً بعد خروأجها من بدنك‪ ،‬إما في الجنة أوأ النار‪ ،‬وأهو الخلود الدائم‪.‬‬

‫وأبين هاتين الحالتين حالة متوسطة‪ ،‬وأهى أيام حياتك في الدنيا‪ ،‬فانظر إلى مقدار ذلك‪،‬‬
‫وأأنسبه إلى الحالتين‪ ،‬تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا‪.‬وأمن رأى الدنيا‬
‫بهذه العين لم يركن لها‪ ،‬وألم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وأضيق‪ ،‬أوأ سعة وأرفاهية‪،‬‬
‫وألهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم لبنة على لبنة ‪ ،‬وأل قصبة على قصبة‬
‫وأقال‪" :‬مالي وأللدنيا؟‏ إنما مثلى وأمثل الدنيا كراكب قال )‪(10‬‏‏))من القيلولة‪ ،‬وأهى النوم‬
‫في الظهيرة‪(.‬‏‏(‏‏ "تحت الشجرة‪ ،‬ثم راح وأتركها"‪.‬‬

‫وأقال عيس عليه السلم الدنيا قنطرة فاعبروأها وأل تعمروأها‪ .‬هذا مثل وأاضح‪ ،‬فإن الحياة‬
‫الدنيا معبر إلى الخرة‪ ،‬وأالمهد هو الركن الوأل على أوأل القنطرة‪ ،‬وأالحد هو الركن الثاني‬
‫على آخر القنطرة‪.‬وأمن الناس من قطع نصف القنطرة‪ ،‬وأمن الناس من قطع ثلثيها‪،‬‬
‫وأمنهم من لم يبق له إل خطوة وأاحدة وأهو غافل عنها‪ ،‬وأكيفما كان فلبد من العبور‪ ،‬فمن‬
‫وأقف يبنى على القنطرة وأيزينها وأهو يستحث للعبور عليها‪ ،‬فهو في غاية الجهل وأالحمق‪.‬‬

‫وأقيل‪ :‬مثال طالب الدنيا‪ ،‬مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شرابا ً ازداد عطشا ً حتى يقتله‪.‬‬
‫وأكان بعض السلف يقول لصحابه‪ :‬انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة‬
‫فيقول‪ :‬انظروأا إلى ثمارهم وأدجاجهم وأعسلهم وأسمنهم‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬روأى عن الحسن قال‪ :‬بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه‬
‫قال‪" :‬إنما مثلى وأمثلكم وأمثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء‪ ،‬حتى إذ لم يدوأروأا ما‬
‫سلكوا منها اكثر ما بقى‪ ،‬أنفذوأا الزاد وأاخسروأا الظهر‪ ،‬وأابقوا بين ظاهراني المفازة‪ ،‬ل‬
‫زاد وأل حمولة‪ ،‬فأيقنوا بالهلكة‪ ،‬فبينما هم كذلك‪ ،‬إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬إن هذا قريب عهد بريف‪ ،‬وأما جاء هذا إل من قريب‪ ،‬فلما انتهى إليهم قال‪ :‬يا‬
‫هؤلء‪ ،‬علم أنتم؟‏ قالوا‪ :‬على ما ترى‪ .‬قال‪ :‬عهودكم وأمواثيقكم بالله‪ .‬قال‪ :‬فأعطوه‬
‫عهودهم وأمواثيقهم بالله‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا هؤلء‪ ،‬الرحيل‪ .‬قالوا‪ :‬إلى أين؟‏ قال‪ :‬إلى ماء ليس‬
‫كمائكم‪ ،‬وأإلى رياض ليست كرياضكم‪ ،‬فقال أكثر القوم‪ :‬وأالله ما وأجدنا هذا حتى ظننا أن‬
‫لن نجده‪ ،‬وأما نصنع بعيش خير من هذا؟‏ وأقالت طائفة قليلة‪ :‬ألم تعطوا هذا الرجل‬
‫عهودكم وأمواثيقكم بالله ل تعصونه؟‏ وأقد صدقكم في أوأل حديثه‪ ،‬فوالله ليصدقنكم في‬
‫آخره‪ .‬قال‪ :‬فراح فيمن اتبعه‪ ،‬وأتخلف بقيتهم فنزل عدوأ‪ ،‬فأصبحوا بين أسير وأقتيل )‬
‫‪(11‬‏‏وأفى "الصحيحين" من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬إنما مثلى وأمثل ما بعثتي الله به‪ ،‬كمثل رجل أتى قومه فقال‪ :‬يا‬
‫قوم‪ ،‬إني رأيت الجيش بعينى‪ ،‬وأأنا النذير العريان‪ ،‬فالنجاء‪ ،‬فأطاعه طائفة من قومه‪،‬‬
‫فأدلجوا وأانطلقوا على مهلهم‪ ،‬فنجوا‪ ،‬وأكذبته طائفة منهم‪ ،‬فأصبحوا مكانهم‪ .‬فصبحهم‬
‫الجيش في مكانهم‪ ،‬فأهلكهم وأاجتاحهم‪ ،‬فذلك مثل من أطاعني وأاتبع ما جئت به‪ ،‬وأمثل‬
‫من عصاني وأكذب بما جئت به من حق"‪.‬‬

‫‪8‬ـ فصل في بيان حقيقة الدنيا وأالمذموم منها وأالمحمود‬

‫قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا‪ ،‬فاعتقدوأا أن الشارة إلى هذه الموجودات التي‬
‫خلقت للمنافع‪ ،‬فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم وأالمشارب‪.‬وأقد وأضع الله في الطباع‬
‫توقان النفس إلى ما يصلحها‪ ،‬فكلما تاقت منعوها‪ ،‬ظنا ً منهم أن هذا هو الزهد المراد‪،‬‬
‫وأجهل بحقوقا النفس‪ ،‬وأعلى هذا أكثر المتزهدين‪ ،‬وأإنما فعلوا ذلك لقلة العلم‪ ،‬وأنحن‬
‫نصدع بالحق من غير محاباة فنقول‪:‬اعلم‪ :‬أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للنسان‪،‬‬
‫فيها حظ‪ ،‬وأهى الرض وأما عليها‪ ،‬فإن الرض مسكن الدنى‪ ،‬وأما عليها ملبس وأمطعم‬
‫وأمشرب وأمنكح‪ ،‬وأكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وأجل‪ ،‬فإنه ل يبقى إل‬
‫بهذه المصالح‪ ،‬كما ل تبقى الناقة في طريق الحج إل بما يصلحها‪ ،‬فمن تناوأل منها ما‬
‫يصلحه على الوجه المأمور به مدح‪ ،‬وأمن أخذ منها فوقا الحاجة يكتنف الشره وأقع في‬
‫الذم‪ ،‬فإنه ليس للشره في تناوأل الدنيا وأجه‪ ،‬لنه يخرج عن النفع إلى الذى‪ ،‬وأيشغل عن‬
‫طلب الخرة فيفوت المقصود‪ ،‬وأيصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة‪ ،‬وأيرد لها الماء‪ ،‬وأيغير‬
‫عليها ألوان الثياب‪ ،‬وأينسى أن الرفقة قد سارت‪ ،‬فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو‬
‫وأناقته‪.‬‬

‫وأل وأجه أيضا ً للتقصير في تناوأل الحاجة‪ ،‬لن الناقة ل تقوى على السير إل بتناوأل ما‬
‫يصلحها‪ ،‬فالطريق السليم هي الوسطى‪ ،‬وأهى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من‬
‫ى‪ ،‬فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وأقضاء لحقها‪.‬وأقد‬ ‫الزاد للسلوك‪ ،‬وأإن كان مشته ً‬
‫كان سفيان الثوري يأكل في أوأقات من طيب الطعام‪ ،‬وأيحمل معه في السفر الفالوذج‬
‫‪.‬وأكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الوأقات‪ ،‬فيقول‪ :‬إذا وأجدنا أكلنا أكل‬
‫الرجال‪ ،‬وأإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال‪.‬وألينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم وأصحابته‪ ،‬فإنهم ما كان لهم إفراط في تناوأل الدنيا‪ ،‬وأل تفريط في حقوقا النفس‬
‫‪.‬وأينبغى أن يتلمح حظ النفس في المشتهى‪ ،‬فإن كان في حظها حفظها وأما يقيمها‬
‫وأيصلحها وأينشطها للخير‪ ،‬فل يمنعها منه‪ ،‬وأإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة‬
‫بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم‪ ،‬وأالزهد فيه يكون‪.‬‬

‫‪9‬ـ باب في ذم البخل وأالحرص وأالطمع‬

‫وأذم المال وأمدحه وأمدح القناعة وأالسخاء‪ ،‬وأنحو ذلك اعلم‪ :‬أن المال ل يذم لذاته بل يقع‬
‫الذم لمعنى من الدمي‪ ،‬وأذلك المعنى إما شدة حرصه أوأ تناوأله من غير حلة‪ ،‬أوأ حبسه‬
‫عن حقه‪ ،‬أوأ إخراجه في غير وأجهه‪ ،‬أوأ المفاخرة به‪ ،‬وألهذا قال الله تعالى‪} :‬إنما أموالكم‬
‫وأأوألدكم فتنة{ ]‏النفال‪[28 :‬‏‪.‬وأفى "سنن الترمذى" عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‬
‫أنه قال‪" :‬ما ذئبان جائعان أرسل في غنم‪ ،‬بأفسد لها من حرص المرء على المال‬
‫وأالشرفا لدينه"‪.‬وأقد كان السلف يخافون من فتنة المال‪ .‬وأكان عمر رضى الله عنه إذا‬
‫رأى الفتوح يبكى وأيقول‪ :‬ما حبس الله هذا عن نبيه صلى الله عليه وأآله وأسلم وأعن أبى‬
‫بكر لشر أراده الله بهما‪ ،‬وأأعطاه عمر إرادة الخير له‪.‬وأقال يحيى بن معاذ‪ :‬الدرهم‬
‫عقرب‪ ،‬فإن لم تحسن رقيته فل تأخذه‪ ،‬فإنه إن لدغك قتلك سمه‪ .‬قيل‪ :‬ما رقيته؟‏ قال‪:‬‬
‫أخذه من حله وأوأضعه في حقه‪ .‬وأقال‪ :‬مصيبتان للعبد في ماله عند موته ل تسمع الخلئق‬
‫بمثلهما‪ ،‬قيل‪ :‬ما هما؟‏ قال‪ :‬يؤخذ منه كله‪ ،‬وأيسأل عنه كله‪.‬‬

‫‪10‬ـ بيان في مدح المال‬

‫قد بينا أن المال ل يذم لذاته بل ينبغي أن يمدح‪ ،‬لنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين‬
‫وأالدنيا‪ ،‬وأقد سماه الله تعالى خيرًا‪ ،‬وأهو قوام الدمي‪ .‬قال الله تعالى في أوأل سورة‬
‫النساء‪} :‬وأل تؤتوا السفهاء )‪(12‬‏‏)) السفه‪ :‬ضد الحلم‪ ،‬وأأصله الخفة وأالحركة‪ ،‬وأالسفيه‪:‬‬
‫الجاهل‪ ،‬وأالمراد هنا‪ :‬الجهالة بموضع النفقة من الرجال(‏‏(‏‏(‏‏ " أموالكم التي جعل الله لكم‬
‫قيامًا{ ]‏النساء‪[5:‬‏‪.‬وأقال سعيد بن المسيب رحمه الله‪ :‬ل خير فيمن ل يريد جمع المال‬
‫من حله‪ ،‬يكف به وأجهه عن الناس‪ ،‬وأيصل به رحمه‪ ،‬وأيعطى منه حقه‪.‬وأقال أبو إسحاقا‬
‫السبيعى‪ :‬كانوا يروأن السعة عونا ً على الدين‪.‬وأقال سفيان‪ :‬المال في زماننا هذا سلح‬
‫المؤمنين‪.‬وأحاصل المر؛ أن المال مثل حية فيها سم وأترياقا‪ ،‬فترياقه فوائده‪ ،‬وأغوائله‬
‫سمه‪ ،‬فمن عرفا فوائده وأغوائله‪ ،‬أمكنه أن يحترز من شره‪ ،‬وأيستدر من خيره‪.‬‬

‫أما فوائده‪ ،‬فتنقسم إلى دنيوية وأدينية‪:‬‬

‫أما الدنيوية‪ ،‬فالخلق يعرفونها‪ ،‬وألذلك تهالكوا في طلبها‪.‬‬

‫وأأما الدينية‪ ،‬فتنحصر في ثلثة أنواع‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن ينفقه على نفسه‪ ،‬إما في عبادة‪ ،‬كالحج وأالجهاد‪ ،‬وأإما في الستعانة على‬
‫العبادة‪ ،‬كالمطعم وأالملبس وأالمسكن وأغيرها من ضروأرات المعيشة‪ ،‬فإن هذه الحاجات‬
‫إذا لم تتيسر‪ ،‬لم يتفرغ القلب للدين وأالعبادة‪ ،‬وأما ل يتوصل إلى العبادة إل به‪ ،‬فهو عبادة‪،‬‬
‫فأخذ الكفاية من الدنيا للستعانة على الدين من الفوائد الدينية‪ ،‬وأل يدخل في هذا التنعم‬
‫وأالزيادة على الحاجة‪ ،‬فإن ذلك من حظوظ الدنيا‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬ما يصرفه إلى الناس‪ ،‬وأهو أربعة أقسام‬

‫أحدها‪ :‬الصدقة‪ ،‬وأفضائلها كثيرة وأمشهورة‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬المروأءة‪ ،‬وأنعنى بها صرفا المال إلى الغنياء وأالشرافا في ضيافة وأهدية‬
‫وأإعانة وأنحو ذلك‪ ،‬وأهذا من الفوائد الدينية‪ ،‬إذ به يكتسب العبد الخوان وأالصدقاء‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬وأقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء‪ ،‬وأثلب )‪(13‬‏‏السفهاء‪،‬‬
‫وأقطع ألسنتهم‪ ،‬وأكف شرهم‪ ،‬فهو من الفوائد الدينية‪ ،‬فان النبى صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم قال‪" :‬وأما وأقى الرجل به عرضه فهو صدقة وأهذا لنه يمنع المغتاب من معصية‬
‫الغيبة‪ ،‬وأيحرز مما يثير كلمه من العداوأة التي تحمل في النتقام على مجاوأزة حدوأد‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫لقسم الرابع‪ :‬ما يعطيه أجرا ً على الستخدام‪ ،‬فإن العمال التي يحتاج إليها النسان لمهنة‬
‫أسبابها كثيرة‪ ،‬وألو تولها بنفسه ضاعت أوأقاته‪ ،‬وأتعذر عليه سلوك الخرة بالفكر وأالذكر‬
‫اللذين هما أعلى مقامات السالك‪ ،‬وأمن ل مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه‬
‫بنفسه‪ ،‬فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك‪ ،‬وأيحصل بذلك غرضك‪ ،‬فإن تشاغلك به غبن‪،‬‬
‫لن احتياجك إلى التشاغل بما ل يقوم به غيرك من العلم وأالعمل وأالذكر وأالفكر أشد‪.‬‬

‫النوع الثالث‪ :‬ما ل يصرفه النسان إلى معين‪ ،‬لكن يحصل عليه به خيرا ً عامًا‪ ،‬كبناء‬
‫المساجد‪ ،‬وأالقناطر‪ ،‬وأالوقوفا المؤبدة‪ ،‬فهذه جملة فوائد المال في الدين‪ ،‬سوى ما‬
‫يتعلق بالحظوظ العاجلة‪ ،‬من الخلص من ذل السؤال‪ ،‬وأحقارة الفقر‪ ،‬وأالعز بين الخلق‪،‬‬
‫وأالكرامة في القلوب‪ ،‬وأالوقار‬

‫وأأما غوائل المال وأآفاته‪ ،‬فتنقسم أيضا ً إلى دينية وأدنيوية‪:‬‬

‫أما الدينية فثلث فئات‬

‫الوألى‪ :‬أنه يجر إلى المعاصي غالبًا‪ ،‬لنه من استشعر القدرة على المعصية‪ ،‬انبعثت‬
‫داعيته إليها‪.‬‬

‫وأالمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي‪ ،‬وأمتى يئس النسان من المعصية‪ ،‬لم‬
‫تتحرك داعيته إليها‪.‬‬

‫وأمن العصمة أن ل تجد‪ ،‬فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهى هلك‪ ،‬وأإن صبر لقي شدة‬
‫في معاناة الصبر مع القدرة‪ ،‬وأفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬أنه يحرك إلى التنعم في المباحات‪ ،‬حتى تصير له عادة وأإلفًا‪ ،‬فل يصبر عنها‪ ،‬وأربما‬
‫لم يقدر على استدامتها إل بكسب فيه شبهة‪ ،‬فيقتحم الشبهات‪ ،‬وأيترقى إلى آفات من‬
‫المداهنة وأالنفاقا‪ ،‬لن من كثر ماله خالط الناس‪ ،‬وأإذا خالطهم لم يسلم من نفاقا وأعداوأة‬
‫وأحسد وأغيبة‪ ،‬وأكل ذلك من الحاجة إلى إصلح المال‪.‬‬

‫الثالثة‪ :‬وأهى التي ل ينفك عنها أحد‪ ،‬وأهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله تعالى‪ ،‬وأهذا هو الداء‬
‫العضال‪ ،‬فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى‪ ،‬وأالتفكير في جلله وأعظمته‪ ،‬وأذلك يستدعى‬
‫قلبا ً فارغًا‪.‬وأصاحب الضيعة يمسي وأيصبح متفكرا ً في خصومة الفلحين وأمحاسبتهم‬
‫وأخيانتهم‪ ،‬وأيتفكر في منازعة شركائه في الحدوأد وأالماء‪ ،‬وأأعوان السلطان في الخراج‬
‫وأالجراء على التقصير في العمارة وأنحو ذلك‪.‬وأصاحب التجارة يمسي وأيصبح متفكرا ً في‬
‫خيانة شريكه‪ ،‬وأتقصيره في العمل‪ ،‬وأتضيعه المال‪.‬وأكذا سائر أصنافا المال‪ ،‬حتى صاحب‬
‫المال المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه‪ ،‬وأفى الخوفا عليه‪.‬وأمن له قوت يوم بيوم‬
‫فهو في سلمة من جميع ذلك‪ ،‬وأهذا سوى ما يقاسيه أرباب الموال في الدنيا‪ ،‬من‬
‫الخوفا وأالحزن وأالهم وأالغم وأالتعب‪.‬فإذا ترياقا المال أخذ القوت منه‪ ،‬وأصرفا الباقي إلى‬
‫الخيرات‪ ،‬وأما عدا ذلك سموم وأآفات‪.‬‬

‫‪11‬ـ بيان ذم الحرص وأالطمع وأمدح القناعة وأاليأس‬


‫وأاعلم‪ :‬أن الفقر محمود‪ ،‬وألكن ينبغي للفقير أن يكون قانعًا‪ ،‬منقطع الطمع عن الخلق‪،‬‬
‫غير ملتفت إلى ما في أيديهم‪ ،‬وأل حريص على اكتساب المال كيف كان‪ ،‬وأل يمكنه ذلك‬
‫إل بأن يقنع بقدر الضروأرة من المطعم وأالملبس‪.‬وأقد روأى في "صحيح مسلم" عن عمروأ‬
‫بن العاص رضى الله عنه‪ ،‬أن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬قد أفلح من‬
‫أسلم ‪ ،‬وأرزقا كفافًا‪ ،‬وأقنعه الله بما آتاه"‪.‬وأقال سليمان بن داوأد عليهما السلم‪ :‬قد جربنا‬
‫العيش كله‪ ،‬لينه من شديده‪ ،‬فوجدناه يكفى منه أدناه‪.‬وأفى حديث جابر رضى الله عنه‪،‬‬
‫عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪“ :‬القناعة مال ل ينفذ"‪.‬وأقال أبو حازم‪ :‬ثلث من‬
‫كن فيه كمل عقله‪ :‬من عرفا نفسه‪ ،‬وأحفظ لسانه‪ ،‬وأقنع بما رزقه الله عز وأجل‪.‬وأقرأ‬
‫بعض الحكماء‪ :‬أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة‪.‬أما الحرص‪ ،‬فقد نهى عنه رسول الله‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم فقال‪" :‬أيها الناس‪ ،‬أجملوا في الطلب‪ ،‬فإنه ليس للعبد إل ما‬
‫كتب له"وأنهى عن الطمع فقال‪" :‬اجمع اليأس مما في أيدي الناس)وأقال بعضهم‪ :‬لو قيل‬
‫للطمع‪ :‬من أبوك ؟‏ قال‪ :‬الشك في المقدوأر‪ ،‬وألو قيل له‪ :‬ما حرفتك؟‏ قال‪ :‬اكتساب‬
‫الذل‪ ،‬وألو قيل له‪ :‬ما غايتك؟‏ قال‪ :‬الحرمان‪.‬وأقيل‪ :‬الطمع يذل المير‪ ،‬وأاليأس يعز الفقير‪.‬‬

‫‪12‬ـ بيان علج الحرص وأالطمعوالدوأاء الذي تكتسب به صفة القناعة‬

‫اعلم‪ :‬أن هذا الدوأاء مركب من ثلثة أركان‪:‬‬

‫الصبر‪ ،‬وأالعلم‪ ،‬وأالعمل‪ ،‬وأمجموع ذلك خمسة أمور‪:‬‬

‫الوأل‪ :‬القتصاد في المعيشة‪ ،‬وأالرفق في النفاقا‪ ،‬فمن أراد اقناعة فينبغي أن يسد عن‬
‫نفسه أبواب الخروأج ما أمكنه‪ ،‬وأيرد نفسه إلى ما لبد منه‪ ،‬فيقنع بأي طعام كان‪ ،‬وأقليل‬
‫من الدام‪ ،‬وأثوب وأاحد‪ ،‬وأيوطن نفسه على ذلك‪ ،‬وأإن كان له عيال‪ ،‬فيرد كل وأاحد إلى‬
‫هذا القدر‪.‬قال النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم‪“ :‬ما عال من اقتصد )‪(14‬‏‏وأفى حدث آخر‪:‬‬
‫"التدبير نصف العيش وأفى حديث آخر "ثلث منجيات‪ :‬خشية الله تعالى في السر‬
‫وأالعلنية‪ ،‬وأالقصد في الغنى وأالفقير‪ ،‬وأالعدل في الرضى وأالغضب"‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬إذا تيسر له في الحال ما يكفيه‪ ،‬فل يكون شديد الضطراب لجل المستقبل‬
‫وأيعينه على ذلك قصر المل‪ ،‬وأاليقين بأن رزقه ل بد أن يأتيه‪ ،‬وأليعلم أن الشيطان يعده‬
‫الفقر‪.‬وأعن ابن مسعود رضى الله عنه‪ ،‬عن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه‬
‫قال‪" :‬إن روأح القدس نفث في روأعى‪ ،‬أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها‬
‫وأاجلها‪ ،‬فاتقوا الله وأأجملوا في الطلب‪ ،‬وأل يحملنكم استبطاء الرزقا أن تطلبوه بمعاصي‬
‫الله عز وأجل‪ ،‬فإنه ل يدرك عند الله إل بطاعته"‪.‬‬

‫وأإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزقا منه‪ ،‬فل ينبغي أن يضطرب قلبه‪ ،‬فإن في الحديث‪:‬‬
‫"أبى الله أن يرزقا عبده المؤمن إل من حيث ل يحتسب))أخرجه الديلمى من حديث أبى‬
‫هريرة من روأاية عمر بن راشد‪ ،‬وأهو ضعيف جدًا‪ ،‬وأقال البيهقى‪ :‬ضعيف بالمرة‪ ،‬وأأوأرده‬
‫ابن لجوزي في "الموضوعات"ز وأروأاه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث على بإسناد‬
‫وأاه‪(.‬‏‏(‏‏ا‬

‫الثالث‪ :‬أن يعرفا ما في القناعة من عز الستغناء‪ ،‬وأما في الطمع وأالحرص من الذل‬


‫‪.‬وأليس في القناعة إل الصبر عن المشتبهات وأالفضول‪ ،‬مع ما يحصل له من ثواب الخرة‪،‬‬
‫وأمن لم يؤثر عّز نفسه عن شهوته‪ ،‬فهو ركيك العقل‪ ،‬ناقص اليمان‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن يكثر تفكره في تنعم اليهود وأالنصارى وأأراذل الناس وأالحمقى منهم‪ ،‬ثم ينظر‬
‫إلى أحوال النبياء وأالوألياء وأالصالحين‪ ،‬وأيسمع أحاديثهم‪ ،‬وأيطالع أحوالهم‪ ،‬وأيخير عقله‬
‫بين مشابهة أراذل العالمين‪ ،‬أوأ صفوة الخلق عند الله تعالى‪ ،‬حتى يهون عليه الصبر على‬
‫القليل وأالقناعة باليسير‪ ،‬وأأنه إن تنعم بالكل فالبهيمة أكثر أكل ً منه‪ ،‬وأإن تنعم بالوطء‬
‫فالعصفور أكثر سفادا ً )‪(15‬‏‏ منه‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن يفهم ما في جمع المال من الخطر‪ ،‬كما ذكرنا في آفات المال‪ ،‬وأينظر إلى‬
‫ثواب الفقر‪ ،‬وأيتم ذلك بأن ينظر أبدا ً من دوأنه في الدنيا‪ ،‬وأإلى من فوقه في الدين‪ ،‬كما‬
‫جاء في الحديث من روأاية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬انظروأا‬
‫إلى من هو أسفل منكم‪ ،‬وأل تنظروأا إلى من هو فوقكم‪ ،‬فإنه أجدر أن ل تزدروأا نعمة الله‬
‫عليكم"‪.‬عماد المر‪ :‬الصبر وأقصر المل‪ ،‬وأأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلئل‬
‫لتمتع دائم‪ ،‬فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدوأاء لما يرجو من الشفاء‪.‬‬

‫‪13‬ـ فصل ]‏في لزوأم القناعة لمن فقد المال[‏‬

‫ينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة كما ذكرنا‪ ،‬وألمن وأجده أن يستعمل السخاء‬
‫وأاليثار وأاصطناع المعروأفا‪ ،‬فإن السخاء أخلقا النبياء‪ ،‬وأهو أصل من أصول النجاة‪.‬وأعن‬
‫جابر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬قال جبريل عليه‬
‫السلم‪ :‬قال الله عز وأجل‪ :‬السلم دين ارتضيته لنفسي‪ ،‬وألن يصلحه إل السخاء وأحسن‬
‫الخلق‪ ،‬فأكرموه بهما ما صحبتموه وأفى حديث آخر‪ :‬عن ابن عباس رضى الله عنه أن‬
‫النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬تجافوا عن ذنوب السخي‪ ،‬فإن الله آخذ بيده كلما‬
‫عثر وأفى حديث آخر‪" :‬الجنة دار السخياء‪ ،‬وأما جبل وألى الله إل على السخاء وأعن أنس‬
‫رضى الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬إن بدلء أمتي لم‬
‫يدخلوا الجنة بعبادة وأل بصيام‪ ،‬وألكن دخلوها بسخاء النفس‪ ،‬وأسلمة الصدر‪ ،‬وأالنصح‬
‫للمسلمين وأفى حديث آخر‪" :‬عليكم باصطناع المعروأفا‪ ،‬فإنه يمنع مصارع السوء"‪.‬وأقال‬
‫ابن السماك‪ :‬عجبت ممن يشترى المماليك بماله‪ ،‬كيف ل يشترى الحرار بمعروأفه؟‏!‏‬

‫وأمن حكايات السخياء‬

‫قد صح عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة‪ ،‬وأأنه‬
‫ما سئل شيئا ً قط فقال‪ :‬ل وأأن رجل ً سأله‪ ،‬فأعطاه غنما ً بين جبلين‪ ،‬فأتى الرجل قومه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا قوم‪ :‬أسلموا‪ ،‬فإن محمدا ً يعطى عطاء من ل يخشى الفقر‪.‬وأقيل‪ :‬كان لعثمان‬
‫على طلحة رضى الله عنهما خمسون ألف درهم‪ ،‬فخرج إلى المسجد‪ ،‬فقال له طلحة‪ :‬قد‬
‫تهيأ مالك فاقبضه‪ ،‬فقال‪ :‬هو لك يا أبا محمد معونة على مروأءتك‪.‬وأجاء أعرابي إلى طلحة‪،‬‬
‫فسأله‪ ،‬وأتعرفا إليه برحم‪ ،‬فقال‪ :‬إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك‪ ،‬فأعطاه ثلثمائة‬
‫ألف درهم‪.‬وأقال عروأة‪ :‬رأيت عائشة رضى الله عنها تقسم سبعين ألفا‪ ،‬وأهى ترقع درعها‬
‫ى‬
‫‪.‬وأروأى أنها قسمت في يوم ثمانين ألف بين الناس‪ ،‬فلما أمست قالت‪ :‬يا جارية عل ّ‬
‫فطوري‪ ،‬فجاءتها بخبز وأزيت‪ :‬فقالت لها أم درة‪ :‬أما استطعت فيما قسمت اليوم أن‬
‫تشترى لنا بدرهم لحما ً نفطر عليه!‏؟‏ فقالت‪ :‬لو ذكرتني لفعلت‪.‬وأاشترى عبد الله بن‬
‫عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوقا بتسعين ألف درهم‪ ،‬فلما كان الليل‪ ،‬سمع‬
‫بكاء أهل خالد‪ .‬فقال لهله‪ :‬ما لهؤلء؟‏ قالوا‪ :‬يبكون على دراهم‪ ،‬قال ‪ :‬يا غلم‪ :‬ائتهم‪،‬‬
‫فأعلمهم أن الدار وأالمال لهم جميعًا‪.‬‬

‫وأبعث رجل إلى عبد الله أنه قد وأصف لى لبن البقر‪ ،‬فابعث لى بقرة أشرب من لبنها‪.‬‬
‫فبعث إليه بسبعمائة بقرة وأرعاتها‪ ،‬وأقال‪ :‬القرية التي كانت ترعى فيها لك‪.‬‬

‫وأدخل على بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه‪ ،‬فجعل يبكى‪ :‬فقال‪ :‬ما‬
‫شأنك؟‏ قال‪ :‬على دين‪ ،‬قال‪ :‬كم هو؟‏ قال‪ :‬خمسة عشر ألف دينار‪ ،‬أوأ بضعة عشر ألف‬
‫دينار‪ .‬قال‪ :‬فهي على‪.‬وأجاء رجل إلى معن‪ ،‬فسأله‪ ،‬فقال‪ :‬يا غلم‪ :‬ناقتي الفلنية وأألف‬
‫دينار‪ ،‬فدفعها إليه وأهو ل يعرفه‪.‬وأبلغنا عن معن أن شاعر أقام ببابه مدة فلم يتهيأ له‬
‫لقاؤه‪ ،‬فقال لبعض خدمه‪ :‬إذا دخل المير البستان فعرفني‪ ،‬قال‪ :‬فلما دخل عرفه‪ ،‬فكتب‬
‫الشاعر بيتا ً على خشبة‪ ،‬وأألقاها في الماء الذي يدخل البستان‪ ،‬فلما بصر معن بالخشية‪،‬‬
‫أخذها‪ ،‬فإذا فيها مكتوب‪:‬‬

‫أيا جود معن ناج معنا ً بحاجتي فما لى إلى معن سواك شفيع‬

‫فقال من صاحب هذه؟‏ فدعا الرجل‪ ،‬فقال له‪ :‬كيف قلت؟‏ فقاله‪ ،‬فأمر له بعشر بدر)‬
‫‪(16‬‏‏ ‪ ،‬فأخذها وأوأضع المير الخشبة تحت بساطة فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت‬
‫البساط‪ ،‬وأقرأ ما فيها وأدعا الرجل‪ ،‬فدفع إليه مائة ألف درهم أخرى‪ ،‬فلما أخذها الرجل‪،‬‬
‫خافا أن يعود فيستعيدها منه‪ ،‬فخرج‪ ،‬فما كان اليوم الثالث‪ ،‬قرأ ما فيها‪ ،‬فدعا الرجل‬
‫فطلب فلم يوجد‪ .‬فقال معن‪ :‬حق على أن أعطيه حتى ل يبقى في بيت مالي درهم وأل‬
‫دينار‪.‬‬

‫وأمرض قيس بن سعد بن عبادة‪ ،‬فاستبطأ إخوانه‪ ،‬فقيل له‪ ،‬إنهم يستحيون مما لك عليهم‬
‫من الدين‪ .‬فقال‪ :‬أخزى الله مال ً يمنع الخوان من الزيارة‪ ،‬ثم أمر مناديًا‪ ،‬ينادى‪ :‬من كان‬
‫عليه لقيس حق‪ ،‬فهو منه في حل‪ ،‬قال‪ :‬فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده‪.‬‬

‫وأقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله‪ ،‬فأمر له بمائة ألف درهم‪ ،‬فبكى‪ ،‬فقال‪ :‬سعيد‪ :‬ما‬
‫يبكيك؟‏ قال‪ :‬أبكى على الرض أن تأكل مثلك‪ ،‬فأمر له بمائة ألف أخرى‪.‬‬

‫‪14‬ـ فصل في البخل وأذمه‬

‫عن أبى سعيد قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ " :‬خصلتان ل تجتمعان في‬
‫مؤمن‪ :‬البخل وأسوء الخلق"‪.‬‬

‫وأقال صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ " :‬ل يجتمع الشح وأاليمان في قلب عبد أبدًا"‬

‫وأفى أفراد مسلم‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه كان يقول‪ " :‬اللهم إني أعوذ‬
‫بك من الجبن وأالبخل"‪.‬وأروأى جابر رضى الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال النبى صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم لبنى سلمة‪ " :‬من سيدكم؟‏ قالوا‪ :‬جد بن قيس على أننا نبخله‪ ،‬قال‪ :‬وأأي داء أدوأأ‬
‫من البخل؟‏ بل سيدكم بشر بن البراء بن معروأر"وأهي أصح ما من ذكر عمروأ بن‬
‫الجموح ‪ ،‬وأغلط بعض الروأاة ‪ ،‬فقال ‪ :‬البراء بن معروأر‪ ،‬البراء مات قبل الهجرة‪.‬وأعن‬
‫النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬ثلث مهلكات‪ :‬شح مطاع‪ ،‬وأهوىً متبع‪،‬‬
‫وأإعجاب المرء بنفسه"‪.‬‬

‫قال الخطابي‪ :‬الشح في المنع أبلغ من البخل‪.‬‬

‫وأقال سلمان‪ :‬إذا مات السخي‪ ،‬قالت الرض وأالحفظة‪ :‬رب تجاوأز عن عبدك فى الدنيا‬
‫بسخائه‪ ،‬وأإذا مات البخيل قالت‪ :‬اللهم احجب هذا العبد عن الجنة‪ ،‬كما حجب عبادك عما‬
‫جعلت في يديه من الدنيا‪.‬وأقال بعض الحكماء‪ :‬من كان بخيل ً وأرث ماله عدوأه‪.‬وأذم أعرابي‬
‫قوما ً فقال‪ :‬يصومون عن المعروأفا وأيفطروأن على الفواحش‪.‬‬

‫من حكايات البخلء‪:‬‬

‫روأى عن ابن عباس رضى الله عنه قال‪ :‬كان الحاجب رجل ً من أجل العرب‪ ،‬وأكان بخيلً‪،‬‬
‫وأكان ل يوقد نارا ً بليل كراهة أن يراها راء فينتفع بضوئها‪ ،‬فإذا احتاج إلى إيقادها فأوأقد ثم‬
‫بصر بمستضيئ بها أطفأها‪.‬وأقيل‪ :‬كان مروأان بن أبى حفصة من أبخل الناس‪ ،‬فخرج يريد‬
‫المهدى‪ ،‬فقالت له امرأته‪ :‬مالي عليك إن رجعت بالجائزة؟‏قال‪ :‬إن أعطيت مائة ألف‬
‫درهم‪ ،‬أعطيتك درهمًا‪ ،‬فأعطى ستين ألف درهم‪ .‬فأعطاها أربعة دوأانق‪.‬وأقيل‪ :‬كان بعض‬
‫البخلء موسرا ً كثير الموال‪ ،‬وأكان ينظر في دقائق الشياء فاشترى شيئا ً من الحوائج‪،‬‬
‫وأدعا حمال ً وأقال‪ :‬بكم تحمل هذه الحوائج؟‏ قال‪ :‬بحبة‪ :‬قال‪ :‬أبخس‪ .‬قال ما أقل من حبة؟‏‬
‫ل أدرى ما أقول‪ .‬قال‪ :‬نشترى بالحبة جزرًا‪ ،‬فنجلس جميعا ً فنأكله‪.‬‬

‫‪15‬ـ فصل في فضل اليثار وأبيانه‬

‫اعلم أن السخاء وأالبخل درجات‪:‬‬

‫فأرفع درجات السخاء اليثار‪ ،‬وأهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه‪.‬وأأشد درجات البخل‪ ،‬أن‬
‫يبخل النسان على نفسه مع الحاجة‪ ،‬فكم من بخيل يمسك المال‪ ،‬وأيمرض فل يتداوأى‪،‬‬
‫وأيشتهى الشهوة فيمنعه منها البخل‪.‬فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة‪ ،‬وأبين ما‬
‫يؤثر على نفسه مع الحاجة‪ ،‬فالخلقا عطايا يضعها الله عز وأجل حيث يشاء‪.‬وأليس بعد‬
‫اليثار درجة في السخاء‪ .‬وأقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه‬
‫وأآله وأسلم باليثار‪ ،‬فقال‪} :‬وأيؤثروأن على أنفسهم وألو كان بهم خصاصة{ ]‏الحشر‪[8:‬‏ وأكان‬
‫سبب نزوأل هذه الية قصة أبى طلحة‪ ،‬لما آثر ذلك الرجل المجهود بقوته وأقوت صبيانه‪،‬‬
‫وأحكايته مشهورة‪.‬‬

‫وأاستشهد باليرموك عكرمة بن أبى جهل‪ ،‬وأسهيل بن عمروأ‪ ،‬وأالحارث بن هشام‪ ،‬وأجماعة‬
‫من بنى المغيرة‪ ،‬فأتوا بماٍءء وأهم صرعى‪ ،‬فتدافعوه حتى ماتوا وألم يذقوه‪.‬أتى عكرمة‬
‫بالماء فنظر إلى سهيل بن عمروأ ينظر إليه‪ ،‬فقال‪ :‬ابدأ بهذا‪ ،‬وأنظر سهيل إلى الحارث‬
‫ينظر إليه‪ ،‬فقال‪ :‬ابدأ بهذا‪ ،‬وأكل منهم يؤثر الخر على نفسه بالشربة‪ ،‬فماتوا كلهم قبل‬
‫أن يشربوا‪ ،‬فمر بهم خالد بن الوليد فقال‪ :‬بنفسي أنتم‪.‬وأأهدى إلى الرجل من الصحابة‬
‫رضى الله عنه رأس شاة‪ ،‬فقال‪ :‬إن أخي أحوج إليه منى‪ ،‬فبعث به إلى الرجل‪ ،‬فبعث به‬
‫ذلك إلى آخر‪ ،‬حتى تداوألته سبع أبيات‪ ،‬فرجع إلى الوأل‪.‬خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة‬
‫له‪ ،‬فنزل على نخل لقوم فيها غلم أسود يعمل فيها‪ ،‬إذ أتى الغلم بقوته‪ ،‬فدخل الحائط‬
‫كلب‪ ،‬فدنا من الغلم فرمى إليه قرصا ُ فأكله‪ ،‬ثم رمى إليه قرصا ً آخر فأكله‪ ،‬ثم رمى إليه‬
‫ثالث فأكله‪ ،‬وأعبد الله ينظر فقال‪ :‬يا غلم!‏ كم قوتك كل يوم؟‏ قال‪ :‬ما رأيت‪ ،‬قال‪ :‬فلم‬
‫آثرت به هذا الكلب؟‏ قال‪ :‬ماهى بأرض كلب‪ ،‬جاء من مسافة بعيدة جائعا ً فكرهت رده‪،‬‬
‫قال‪ :‬فما أنت صانع؟‏ قال‪ :‬أطوي يومي هذا‪ ،‬فقال عبد الله بن جعفر‪ :‬ألم على السخاء‬
‫وأهذا أسخى منى‪ ،‬فاشترى الحائط وأما فيه من اللت‪،‬‬

‫وأاشترى الغلم وأأعتقه وأوأهبه له‪.‬وأاجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وأبين أيديهم‬
‫أرغفة معدوأدة ل تكفيهم فكسروأا الرغفان‪ ،‬وأأطفؤوأا السراج‪ ،‬وأجلسوا للكل‪ ،‬فلما رفع‬
‫الطعام‪ ،‬إذا هو بحاله‪ ،‬لم يأكل أحد منهم شيئا ً إيثارا ً لصحابه‪.‬‬

‫‪16‬ـ فصل ]‏في حد البخل وأالسخاء[‏‬

‫وأقد تكلم الناس في حد البخل وأالسخاء‪ ،‬فذهب قوم إلى أن حد البخل منع الواجب‪ ،‬وأأن‬
‫من أدى ما يجب عليه‪ ،‬فليس ببخيل‪ ،‬وأهذا غير كافا‪ ،‬فإن من لم يسلم إلى عياله إل‬
‫القدر الذي يفرضه الحاكم‪ ،‬ثم يضايقهم في زيادة لقمة أوأ ثمرة فإنه معدوأد من البخلء‪،‬‬
‫فالصحيح أن البراءة من البخل تحصل بفعل الواجب في الشرع وأاللزم بطريق المروأءة‬
‫مع طيب القلب بالبذل‪.‬فأما الواجب بالشرع‪ ،‬فهو الزكاة‪ ،‬وأنفقة العيال‪.‬وأأما اللزم بطريق‬
‫المروأءة‪ ،‬فهو ترك المضايقة‪ ،‬وأالستقصاء عن المحقرات فإن ذلك يستفتح‪ ،‬وأيختلف ذلك‬
‫باختلفا الحوال وأالشخاص‪ ،‬فقد يستقبح من الغنى ما ل يستقبح من الفقير‪ ،‬وأيستقبح‬
‫من الرجل المضايقة لهله وأأقاربه وأجيرانه مال يستقبح من الجانب‪ ،‬فالبخيل الذي يمنع‬
‫مال ينبغي أن يمنع‪ ،‬إما بحكم الشرع أوأ لزم المروأءة‪ .‬وأمن قام بواجب الشرع‪ ،‬وألزم‬
‫المروأءة‪ ،‬فقد تبرأ من البخل‪ ،‬لكن ل يتصف بصفة الجود مالم يبذل زيادة على ذلك‪.‬قال‬
‫بعضهم‪ :‬الجواد‪ :‬هو الذي يعطى بل من‪ .‬وأقيل‪ :‬هو الذي يفرح بالعطاء‪.‬فأما علج البخل‪،‬‬
‫فاعلم أن سبب البخل حب المال‪.‬‬

‫وألحب المال سببان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬حب الشهوات التي ل وأصول إليها إل بالمال مع طول المل‪ ،‬وأإن كان قصير‬
‫المل وأله وألد‪ ،‬فإنه يقوم مقام طول المل‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن يحب عين المال‪ ،‬فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره لو اقتصر على ما‬
‫جرت عادته به‪ ،‬وأيفضل معه آلفا‪ ،‬وأيكون شيخا ً ل وألد له‪ ،‬ثم ل تسمح نفسه بإخراج‬
‫الواجب عليه‪ ،‬وأل بصدقة تنفعه‪ ،‬وأيعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه‪ ،‬أوأ ضاع إن كان مدفونًا‪،‬‬
‫وأهذا مرض ل يرجى علجه‪.‬‬

‫وأمثال ذلك رجل أحب شخصًا‪ ،‬فلما جاء رسوله‪ ،‬أحب الرسول وأنسى محبوبه وأاشتغل‬
‫بالرسول‪ ،‬فإن الدنيا رسول مبلغ إلى الحاجات‪ ،‬فيحب الدنانير لذاتها‪ ،‬وأينسى الحاجات‪،‬‬
‫وأهذا غاية الضلل‪.‬وأاعلم‪ :‬أن علج كل علة بمضادة سببها‪.‬فيعالج حب الشهوات بالقناعة‬
‫وأالصبر‪ ،‬وأطول المل بكثرة ذكر الموت‪.‬وأيعالج التفات القلب إلى الولد‪ ،‬بأن من خلقه‬
‫معه رزقه‪ ،‬وأكم ممن لم يرث شيئا أحسن حال ً ممن وأرث‪.‬فليحذر أن يترك لولده الخير‪،‬‬
‫وأيقدم على الله بشر‪ ،‬فإن وألده إن كان صالحا فالله يتوله‪ ،‬وأإن فاسقا ً فل يترك ما‬
‫يستعين به على المعاصي‪ ،‬وأليردد على سمعه ما ذكرناه في ذم البخل وأمدح السخاء‬
‫‪.‬وأاعلم‪ :‬أنه إذا كثرت المحبوبات في الدنيا‪ ،‬كثرت المصائب بفقدها‪ ،‬فمن عرفا آفة المال‬
‫لم يأنس به‪ ،‬وأمن لم يأخذ منه إل قدر حاجته‪ ،‬وأأمسك ذلك لحاجته فليس ببخيل‪ ،‬وأالله‬
‫أعلم‪.‬‬

‫كتاب ذم الجاه وأالرياء وأعلجهما‬

‫وأروأى عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪ “ :‬إن أخوفا ما أخافا على أمتي‬
‫الرياء وأالشهوة الخفية"‪ .‬وأهذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوفا على غوائلها كبار‬
‫العلماء‪ ،‬فضل ً عن عامة العباد‪ ،‬وأإنما يبتلى بها العلماء وأالعباد المشمروأن عن ساقا الجد‬
‫لسلوك سبيل الخرة‪ ،‬فإنهم لما قهروأا نفوسهم وأفطموها عن الشهوات‪ ،‬وأحملوها بالقهر‬
‫على أسباب العبادات‪ ،‬لم تطمع في المعاصي الظاهرة‪ ،‬الواقعة على الجوارح‪،‬‬
‫فاستراحت إلى التظاهر بالعلم وأالعمل‪ ،‬وأوأجدت مخلصا ً من شدة المجاهدة في لذة‬
‫القبول عند الخلق‪ ،‬وأنظرهم إليها بعين الوقار وأالتعظيم‪ ،‬فأصابت النفس في ذلك لذة‬
‫عظيمة‪ ،‬فاحتقرت فيها ترك المعاصي‪ ،‬فأحدهم يظن أنه مخلص لله عز وأجل‪ ،‬وأقد أثبت‬
‫في ديوان المنافقين‪ ،‬وأهذه مكيدة عظيمة ل يسلم منها إل المقربون‪.‬‬

‫وألذلك قيل‪ :‬آخر ما يخرج من رؤوأس الصديقين حب الرياسة‪ ،‬وأإذا كان هو الداء الدفين‪،‬‬
‫الذي هو أعظم شبكة للشياطين‪ ،‬وأجب شرح القول في سببه‪ ،‬وأحقيقته وأأقسامه‪.‬اعلم‪:‬‬
‫أن أصل الجاه هو حب انتشار الصيت وأالشتهار‪ ،‬وأذلك خطر عظيم‪ ،‬وأالسلمة في‬
‫الخمول‪ .‬وأأهل الخير لم يقصدوأا الشهرة‪ ،‬وألم يتعرضوا لها وأل لسبابها‪ ،‬فإن وأقعت من‬
‫قبل الله تعالى‪ ،‬فروأا عنها‪ ،‬وأكانوا يؤثروأن الخمول‪ ،‬كما روأى عن ابن مسعود رضى الله‬
‫عنه أنه خرج من منزله‪ ،‬فتبعه جماعة‪ ،‬فالتفت إليهم وأقال‪ :‬علم تتبعونى؟‏ فوالله لو‬
‫علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلن‪.‬وأفى لفظ آخر أنه قال‪ :‬ارجعوا‪ ،‬فإنه ذلة‬
‫للتابع وأفتنة للمتبوع‪.‬وأكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام‪ .‬وأكان‬
‫خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته‪ ،‬قام وأانصرفا كراهة الشهرة‪.‬وأقال الزهري‬
‫رحمه الله‪ :‬ما رأينا الزهد في شىء أقل منه في الرياسة‪ ،‬نرى الرجل يزهد في المطعم‬
‫وأالمشرب وأالمال‪ ،‬فإذا نوزع الرياسة‪ ،‬حامى عليها وأعادى‪.‬قال رجل لبشر الحافي رحمه‬
‫الله‪ :‬أوأصني‪ ،‬فقال‪ :‬أخمل ذكرك‪ ،‬وأطيب مطعمك‪ .‬وأقال‪ :‬ل يجد حلوأة الخرة رجل يحب‬
‫في الدنيا أن يعرفه الناس‪.‬وأقد روأى في “ صحيح مسلم” أن عمر بن سعد انطلق إلى‬
‫أبيه سعد وأهو في غنم له خارجا ً عن المدينة‪ ،‬فلما رآه قال‪ :‬أعوذ بالله من شر هذا‬
‫الراكب‪ ،‬فلما أتاه قال‪ :‬يا ابت أنزلت في إبلك وأغنمك وأتركت الناس يتنازعون الملك‬
‫بينهم؟‏ فضرب سعد في صدره وأقال‪ :‬اسكت‪ ،‬إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه‬
‫وأآله وأسلم يقول‪" :‬إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفي‪.‬‬

‫وأعن أبى أمامة رضى الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬إن‬
‫أغبط أوأليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ‪ ،‬ذوأ حظ من الصلة‪ ،‬أحسن عبادة ربه‪ ،‬وأأطاعه‬
‫في السر‪ ،‬وأكان غامضا ً في الناس‪ ،‬ل يشار إليه بالصابع‪ ،‬وأكان رزقه كفافًا‪ ،‬فصبر على‬
‫ذلك" ثم نقر بيده‪ ،‬فقال‪ " :‬عجلت منيته‪ ،‬قلت بواكيه‪ ،‬قل تراثه" حديث حسن‪.‬‬

‫وأكان ابن مسعود رضى الله عنه يوصى أصحابه‪ ،‬فيقول‪ :‬كونوا ينابيع العلم‪ ،‬مصابيح‬
‫الهدى‪ ،‬أحلس البيوت‪ ،‬سرج الليل‪ ،‬جدد القلوب‪ ،‬خلقان الثياب‪ ،‬تعرفون في السماء‪،‬‬
‫وأتخفون على أهل الرض‪.‬فإن قيل‪ :‬هذا فيه فضيلة الخمول‪ ،‬وأذم الشهرة وأأي شهرة أكثر‬
‫من شهرة النبياء‪ ،‬وأأئمة العلماء‪.‬قلنا‪ :‬المذموم طلب النسان الشهرة‪ ،‬وأأما وأجودها من‬
‫جهة الله تعالى من غير طلب النسان فليس بمذموم‪ ،‬غير أن في وأجودها فتنة على‬
‫الضعفاء‪ ،‬فإن مثل الضعيف كالغريق القليل الصنعة في السباحة‪ ،‬إذا تعلق به أحد غرقا‬
‫وأغرقه‪ ،‬فأما السابح النحرير‪ ،‬فإن تعلق الغرقى به سبب لنجاتهم وأخلصهم‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل ]‏في أن الجاه وأالمال هما ركنا الدنيا[‏‬

‫وأاعلم‪ :‬أن الجاه وأالمال هما ركنا الدنيا‪ ،‬وأمعنى المال ملك العيان المنتفع بها‪ ،‬وأمعنى‬
‫الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها‪ ،‬وأطاعتها‪ ،‬وأالتصرفا فيها‪.‬فالجاه هو قيام المنزلة‬
‫في قلوب الناس‪ ،‬وأهو اعتقاد القلوب نعتا ً من نعوت الكمال في هذا الشخص‪ ،‬إما من‬
‫علم أوأ عبادة‪ ،‬أوأ نسب أوأ قوة‪ ،‬أوأ حسن صورة‪ ،‬أوأ غير ذلك مما يعتقده الناس كمال ً‬
‫فبقدر ما يتعقدوأن له من ذلك‪ ،‬تذعن قلوبهم لطاعته‪ ،‬وأمدحه وأخدمته‪ ،‬وأتوفيره‪ .‬فبهذا‬
‫يبين أن الجاه محبوب بالطبع وأأنه أبلغ من حب المال‪ ،‬لن المال ل يتعلق الغرض بعينه‪،‬‬
‫بل لكونه وأسيلة إلى المحبوبات‪ ،‬فاشتراك الجاه وأالمال في السبب اقتضى الشتراك في‬
‫المحبة‪ ،‬وأالجاه في ذلك أرجح من المال‪.‬وأاعلم‪ :‬أن من الجاه ما يحمد وأما يذم‪ ،‬لن من‬
‫المعلوم أنه لبد للنسان من مال لضروأرة المطعم وأالملبس وأنحوهما‪ ،‬فكذلك لبد له من‬
‫جاه لضروأرة المعيشة مع الخلق‪ ،‬لن النسان ل يخلو من الحاجة إلى سلطان يحرسه‪،‬‬
‫وأرفيق يعينه‪ ،‬وأخادم يخدمه‪ ،‬فحبه ذلك ليس بمذموم‪ ،‬لن الجاه وأسيلة إلى الغراض‪،‬‬
‫كالمال‪.‬وأالتحقيق في هذا أن ل يكون المال وأالجاه محبوبين لعيانهما‪ ،‬وأمتى طلب‬
‫النسان قيام جاهه لجل صفة هو متصف بها لغرض صحيح‪ ،‬كقول يوسف عليه السلم‪} :‬‬
‫اجعلني على خزائن الرض إنى حفيظ عليم{ ]‏يوسف‪[55:‬‏ أوأ قصد إخفاء عيب من عيوبه‬
‫لئل نزوأل منزلته‪ ،‬كان ذلك مباحًا‪ ،‬فإن طلب المنزلة باعتقادهم فيه صفة ليست فيه‪،‬‬
‫كالعلم‪ ،‬وأالورع‪ ،‬وأالنسب‪ ،‬فذلك محظور‪.‬وأكذلك لو حسن الصلة بين أيديهم ليعتقدوأا فيه‬
‫الخشوع‪ .‬فإنه يكون مرائيا ً بذلك‪ ،‬فل يجوز تملك القلوب بتزوأير ‪ ،‬وأل تملك المال بتلبيس‪.‬‬

‫‪2‬ـ بيان علج حب الجاه‬


‫اعلم‪ :‬أن من غلب على قلبه حب الجاه‪ ،‬صار مقصور الهم على مراعاة الخلق‪ ،‬مشغوفا ً‬
‫بالتردد إليهم‪ ،‬وأالمرآة لهم‪ ،‬وأل يزال في أقواله وأأفعاله ملتفتا ً إلى ما يعظم منزلته‬
‫عندهم‪ ،‬وأذلك بذر النفاقا‪ ،‬وأأصل الفساد‪ ،‬لن كل من طلب المنزلة في قلوب الناس‬
‫اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه‪ ،‬وأيجر ذلك إلى المراءاة بالعبادات وأاقتحام‬
‫المحظورات‪ ،‬وأالتوصل إلى اقتناص القلوب‪.‬وألذلك شبه الرسول صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم حب المال وأالشرفا وأإفسادهما للدين بذئبين ضاريين أرسل في غنم‪.‬فحب الجاه‬
‫إذ ا ً من المهلكات‪ ،‬يجب علجه وأعلجه مركب من علم وأعمل‪ ،‬أما الوأل‪ ،‬فهو أن يعلم أن‬
‫السبب الذي لجله أحب الجاه‪ ،‬هو كمال القدوأة على أشخاص الناس وأقلوبهم‪ ،‬وأذلك إذا‬
‫صفا وأسلم يكون في آخره الموت فينبغي أن يتفكر في نفسه في الخطار وأالفات‬
‫اللحقة لصحاب الجاه في الدنيا‪ ،‬من تطرقا الحسد إليهم‪ ،‬وأقصدهم باليذاء‪ ،‬فتراهم‬
‫خائفين على الدوأام من زوأال جاههم‪ ،‬محترزين من تغيير منزلتهم في القلوب‪.‬‬

‫وأالقلوب أشد تغيرا ً من القدرة في غليانها‪ ،‬فالشتغال بمراعاة ذلك غموم عاجلة‪ ،‬مكدرة‬
‫لحفظ الجاه‪ ،‬فل يفي مرجو الدنيا بمخوفها‪ ،‬فضل ً عما يفوت في الخرة‪ ،‬فهذا من حيث‬
‫العلم‪.‬‬

‫وأأما العلج من حيث العمل‪ ،‬فهو إسقاط الجاه من قلوب الخلق بأفعال توجب ذلك‪ ،‬كما‬
‫روأى أن بعض الملوك قصد زيارة رجل زاهد‪ ،‬فلما قرب منه‪ ،‬استدعى طعامه وأبقل ً وألبنا ً‬
‫وأجعل يأكل بشره‪ ،‬وأيعظم اللقمة فلما نظر إليه الملك سقط من عينه‪.‬وألما أريد إبراهيم‬
‫النخعى على القضاء لبس قميصا ُ أحمر وأقعد في السوقا‪.‬وأاعلم‪ :‬أن انقطاع الزاهد عن‬
‫الناس يوجب جاها ً له عندهم‪ ،‬فإذا خافا من تلك الفتنة‪ ،‬فليخالطهم على وأجه السلمة‪،‬‬
‫وأليمش في السواقا‪ ،‬وأليشتر حاجته وأيحملها‪ ،‬وأكان بشر الحافي يجلس إلى عطار‪ ،‬وأكانوا‬
‫يراعون نواميس المتزهدين اليوم‪.‬‬

‫‪3‬ـ فصل ]‏في عدم الكتراث بذم الناس[‏‬

‫وأاعلم‪ :‬أن أكثر الناس إنما هلكوا لخوفا مذمة الناس‪ ،‬وأحب مدحهم‪ ،‬فصارت حركاتهم‬
‫كلها على ما يوافق رضى الناس‪ ،‬رجاء المدح‪ ،‬وأخوفا ً من الذم‪ ،‬وأذلك من المهلكات‪،‬‬
‫فوجبت معالجته‪.‬وأطريق ذلك أن ننظر إلى الصفة التي مدحت بها‪ ،‬إن كانت موجودة فيك‬
‫فل يخلو‪ :‬إما أن يكون مما يفرح به كالعلم وأالورع‪ ،‬أوأ مما ل يصلح أن يفرح به‪ ،‬كالجاه‬
‫وأالمال‪.‬أما الوأل‪ :‬فينبغي أن يحذر من الخاتمة‪ ،‬فإن الخوفا منها شغل عن الفرح بالمدح‪،‬‬
‫ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة‪ ،‬فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك‬
‫بالعلم وأالتقوى ل بمدح الناس‪.‬وأأما القسم الثاني‪ ،‬وأهو المدح بسبب الجاه وأالمال‪،‬‬
‫فالفرح بذلك‪ ،‬كالفرح بنبات الرض الذي يصير عن قريب هشيمًا‪ ،‬وأل يفرح بذلك إل من‬
‫قل عقله‪ ،‬وأإن كنت خاليا ً عن الصفة التي مدحت بها‪ ،‬ففرحك بالمدح غاية الجنون‪.‬‬

‫وأقد ذكرنا آفات المدح فيما تقدم في كتاب آفات اللسان‪ ،‬فل ينبغي أن تفرح به‪ ،‬بل‬
‫تكرهه‪ ،‬كما كان السلف يكرهونه‪ ،‬وأيغضبون على فاعله‪.‬‬

‫وأعلج كراهية الذم يفهم من علج حب المدح‪ ،‬فإنه ضده‪ ،‬وأالقول الوجيز فيه أن من‬
‫ذمك‪ ،‬إما أن يكون صادقا ً فيما قال‪ ،‬قاصدا ً للنصح لك‪ ،‬فينبغي أن تتقلد منته‪ ،‬وأل تغضب‪،‬‬
‫فإنه قد أهدى إليك عيوبك‪ ،‬وأإن لم يقصد بذلك النصح‪ ،‬فإنه يكون قد جنى هو على دينه‪،‬‬
‫وأانتفعت بقوله‪ ،‬لنه عرفك ما لم تكن تعرفا‪ ،‬وأذكرك من خطاياك ما نسيت‪ ،‬وأإن افترى‬
‫عليك بما أنت منه بريء‪ ،‬فينبغي أن تتفكر في ثلثة أشياء‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنك إن خلوت من ذلك العيب لم تخل من أمثاله‪ ،‬فما ستر الله عز وأجل عليك‬
‫من عيوبك أكثر‪ ،‬فاشكره إذ لم يطلعه على عيوبك وأدفعه عنك فذكر ما أنت عنه بريء‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ذلك كفارات لذنوبك‪.‬‬


‫الثالث‪ :‬أنه جنى على دينه‪ ،‬وأتعرض لغضب الله عليه‪ ،‬فينبغي أن يسأل الله العفو عنه‪،‬‬
‫كما روأى أن رجل ً شج إبراهيم بن أدهم‪ ،‬فدعا له بالمغفرة وأقال‪ :‬صوت مأجور بسببه‪ ،‬فل‬
‫أجعله معاقبا ً بسببي‪ ،‬وأقد تقدمت هذه الحكاية في فضل الحلم‪.‬‬

‫باب في بيان الرياء وأحقيقته وأأقسامه وأذمه‬

‫وأقد وأرد ذم الرياء في الكتاب وأالسنة‪ ،‬من ذلك قوله تعالى‪ } :‬فويل للمصلين الذين هم عن‬
‫صلتهم ساهون الذين هم يراءوأن{ ]‏الماعون‪[4-6 :‬‏ وأقوله‪} :‬فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل‬
‫عمل ً صالحا ً وأل يشرك بعبادة ربه أحدا ً‪] .‬‏الكهف‪[110 :‬‏ وأأما الحاديث‪ ،‬فقد روأى عن رسول‬
‫الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ ،‬فيما يروأيه عن ربه عز وأجل أنه قال‪ " :‬من عمل عمل ً‬
‫أشرك فيه غيرى‪ ،‬فهو للذي أشرك‪ ،‬وأأنا منه بريء"‪.‬وأفى حديث آخر‪ :‬أن رسول الله صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬إن أخوفا ما أخافا عليكم الشرك الصغر‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول‬
‫الله‪ :‬وأما الشرك الصغر؟‏ قال‪ :‬الرياء‪ ،‬يقول الله عز وأجل لهم يوم القيامة إذ جزى الناس‬
‫بأعمالهم‪ :‬اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤوأن في الدنيا‪ ،‬هل تجدوأن عندهم خيرا ً"وأقال بشر‬
‫الحافي‪ :‬لن أطلب الدنيا بمزمار أحب إلى من أن أطلبها بالدين‪.‬‬

‫وأاعلم‪ :‬أن الرياء مشتق من الرؤية‪ ،‬وأالسمعة مشتقة من السماع‪ ،‬فالمرائي يرى الناس‬
‫ما يطلب به الحظوة عندهم وأذلك أقسام‪:‬‬

‫الوأل‪ :‬الرياء في الدين‪ ،‬وأهو أنواع‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن يكون من جهة البدن‪ ،‬بإظهار النحول وأالصفار‪ ،‬ليريهم بذلك شدة‬
‫الجتهاد‪ ،‬وأغلبة خوفا الخرة‪ ،‬وأكذلك يرائي بتشعث الشعر‪ ،‬ليظهر أنه مستغرقا في هم‬
‫الدين‪ ،‬ل يتفرغ لتسريح شعره‪.‬وأيقرب من هذا خفض الصوت‪ ،‬وأإغارة العينين‪ ،‬وأذبول‬
‫الشفتين‪ ،‬ليدل بذلك على أنه مواظب على الصوم‪ ،‬وألهذا قال عيسى بن مريم عليه‬
‫السلم‪ :‬إذا صام أحدكم فليدهن رأسه‪ ،‬وأيرجل شعره‪ .‬وأذلك لما يخافا على الصائم من‬
‫آفات الرياء‪ ،‬فهذا الرياء من جهة البدن لهل الدين‪.‬وأأما أهل الدنيا‪ ،‬فيراؤوأن بإظهار‬
‫السمن‪ ،‬وأصفاء اللون‪ ،‬وأاعتدال القامة‪ ،‬وأحسن الوجه‪ ،‬وأنظافة البدن‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬الرياء من جهة الزي‪ ،‬كالطراقا حالة المشي‪ ،‬وأإبقاء أثر السجود على‬
‫الوجه‪ ،‬وأغلظ الثياب‪ ،‬وألبس الصوفا‪ ،‬وأتشمير الثياب كثيرًا‪ ،‬وأتقصير الكمام‪ ،‬وأترك الثوب‬
‫مخرقا ُ غير نظيف‪.‬وأمن ذلك لبس المرقعة‪ ،‬وأالثياب الزرقا‪ ،‬تشبها ً بالصوفية مع الفلس‬
‫من صفاتهم في الباطن‪.‬وأمنه التقنع فوقا العمامة‪ ،‬لتنصرفا إليه العين بالتمييز بتلك‬
‫العادة‪.‬وأهؤلء طبقات‪ ،‬منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلح‪ ،‬بإظهار التزهد بلبس‬
‫الثياب المخرقة الوسخة الغليظة‪ ،‬ليرائي بذلك‪ ،‬وألو كلف هذا أن يلبس ثوبا ً وأسطا ً نظيفا ً‬
‫مما كان السلف يلبسونه‪ ،‬لكان عنده بمنزلة الذبح‪ ،‬لخوفه أن يقول الناس‪ :‬قد بدا له من‬
‫الزهد‪ ،‬وأقد رجع عن تلك الطريقة‪.‬‬

‫وأطبقة أخرى‪ :‬يطلبون القبول عند أهل الصلح‪ ،‬وأعند أهل الدنيا من الملوك وأالمراء‬
‫وأالتجار‪ ،‬فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلح‪ ،‬وألو لبسوا المخرقة‬
‫الدنية لزدرتهم الملوك وأالغنياء‪ ،‬فهم يريدوأن الجمع بين قبول أهل الدين وأالدنيا‪،‬‬
‫فيطلبون الثواب الرقيقة‪ ،‬وأالكسية الرفيعة وأالفوط الرفيعة فيلبسونها‪ ،‬وأأقل قيمة ثوب‬
‫أحدهم قيمة ثوب الغنى‪ ،‬وألونه وأهيئته لون ثياب الصلحاء‪ ،‬فيلتمسون القبول عند‬
‫الفريقين‪.‬وأهؤلء لو كلفوا لبس خشن أوأ وأسخ‪ ،‬لكان عندهم كالذبح‪ ،‬خوفا ً من السقوط‬
‫في أعين الملوك وأالغنياء‪ ،‬وألو كلفوا لبس الرقيق وأرفيع الكتان البيض وأنحو ذلك‪ ،‬لعظم‬
‫ذلك عليهم‪ ،‬خوفا ً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلح‪ ،‬وأكل مراء بزي مخصوص ثقل‬
‫عليه النتقال إلى ما دوأنه أوأ فوقه خوفا ً من المذمة‪.‬وأأما أهل الدنيا‪ ،‬فمراءاتهم بالثياب‬
‫النفيسة‪ ،‬وأالمراكب الحسنة‪ ،‬وأأنواع التجميل في الملبس وأالمسكن وأأثاث البيت‪ ،‬وأهم‬
‫في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة‪ ،‬وأيشتد عليهم أن يروأا بتلك المنزلة‪.‬‬

‫النوع الثالث‪ :‬الرياء بالقول‪ ،‬وأرياء أهل الدين بالوعظ وأالتذكير وأحفظ الخبار وأالثار‪،‬‬
‫لجل المحاوأرة‪ ،‬وأإظهار غزارة العلم وأالدللة على شدة العناية بأحوال السلف‪ ،‬وأتحريك‬
‫الشفتين بالذكر في محضر الناس‪ ،‬وأإظهار الغضب للمنكرات بين الناس‪ ،‬وأخفض الصوت‬
‫وأترقيقه بقراءة القرآن‪ ،‬ليدل بذلك على الخوفا وأالحزن وأنحو ذلك‪.‬‬

‫النوع الرابع‪ :‬الرياء بالعمل‪ ،‬كمرآة المصلى بطول القيام‪ ،‬وأتطويل الركوع وأالسجود‪،‬‬
‫وأإظهار الخشوع‪ ،‬وأنحو ذلك‪.‬وأكذلك بالصوم وأالغزوأ وأالحج وأالصدقة وأنحو ذلك‪.‬وأأما أهل‬
‫الدنيا فمراءاتهم‪ ،‬بالتبختر‪ ،‬وأالختيال‪ ،‬وأتحريك اليدين‪ ،‬وأتقريب الخطى‪ ،‬وأالخذ بأطرافا‬
‫الذيل‪ ،‬وأإمالة العطفين‪ ،‬ليدلوا بذلك على الحشمة‪.‬‬

‫النوع الخامس‪ :‬المراءاة بالصحاب وأالزائرين‪ ،‬كالذي يتكلف أن يستزير عالما ً أوأ‬
‫عابدًا‪ ،‬ليقال‪ :‬إن فلنا ً قد زار فلنًا‪ ،‬وأإن أهل الدين يترددوأن إليه‪ ،‬وأيتبركون به‪ ،‬وأكذلك من‬
‫يرائي بكثرة الشيوخ‪ ،‬ليقال‪ :‬لقي شيوخا ً كثيرة‪ ،‬وأاستفاد منهم‪ ،‬فيباهى بذلك‪ ،‬فهذه مجامع‬
‫ما يرائي به المراؤوأن‪ ،‬يطلبون بذلك الجاه وأالمنزلة في قلوب العباد‪.‬وأمنهم من يطلب‬
‫مجرد الجاه‪ ،‬وأكم من عابد اعتزل في جبل‪ ،‬وأراهب انزوأى إلى دير‪ ،‬مع قطع طمعهم من‬
‫مال الناس‪ ،‬لكنه يحب مجرد الجاه‪.‬وأمنهم من يكون قصده المال‪ ،‬وأمنهم من قصده الثناء‬
‫وأانتشار الصيت‪ .‬فإن قيل‪ :‬هل الرياء حرام‪ ،‬أم مكروأه‪ ،‬أوأ مباح؟‏ فالجواب‪ :‬أن فيه‬
‫تفصيل ً‪ ،‬وأهو إما أن يكون بالعبادات‪ ،‬أوأ بغيرها‪ ،‬فان كان الرياء بالعبادات ‪،‬فهو حرام‪ ،‬فإن‬
‫المرائي بصلته وأصدقته وأحجته‪ ،‬وأنحو ذلك‪ ،‬عاص آثم‪ ،‬لنه يقصد بذلك غير الله تعالى‬
‫المستحق للعبادة وأحده‪ ،‬فالمرائي بذلك في سخط الله‪ .‬وأأما إن كان بغير العبادات‪ ،‬فهو‬
‫كطلب المال على ما تقدم‪ ،‬ل يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد‪ ،‬وألكن كما‬
‫يمكن كسب المال بتلبيسات وأأسباب محظورة‪ ،‬فكذلك الجاه‪ ،‬وأكما أن كسب قليل من‬
‫المال وأهو الذي طلبه يوسف عليه السلم في قوله‪} :‬إنى حفيظ عليهم{ ]‏يوسف‪[55 :‬‏ وأل‬
‫نقول بتحريم الجاه وأإن كثر‪ ،‬إل إذا حمل صاحبه على ما ل يجوز على نحو ما ذكرنا في‬
‫المال‪.‬وأأما سعة الجاه من غير حرص على طلبه‪ ،‬وأمن غير اغتمام بزوأاله وأإن زال‪ ،‬فل‬
‫ضرر فيه‪ ،‬إذ ل جاه أوأسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم وأعلماء الدين‬
‫بعده‪ ،‬وألكن انصرافا الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين‪ ،‬وأل يوصف بالتحريم‪.‬‬
‫وأتحسين الثوب الذي يلبسه النسان عند الخروأج إلى الناس‪ ،‬إنما هو ليراه الناس‪ ،‬وأكذلك‬
‫كل تجمل لجلهم ل يقال‪ :‬إنه منهي عنه‪.‬وأقد تختلف المقاصد بذلك‪ ،‬فإن أكثر الناس‬
‫يحبون أن ل يروأا بعين نقص في حال‪.‬وأفى أفراد مسلم‪ ،‬من حديث ابن مسعود رضى الله‬
‫عنه عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪" :‬ل يدخل الجنة من كان في قلبه‬
‫مثقال ذرة من كبر"‪ ،‬فقال رجل‪ :‬إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة‪ ،‬وأنعله حسنة‪،‬‬
‫فقال‪" :‬إن الله جميل يحب الجمال‪ ،‬الكبر بطر الحق وأغمط الناس"‪.‬وأمن الناس من يؤثر‬
‫إظهار نعمة الله عليه‪ ،‬وأقد أمر رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم بذلك‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل ]‏في أبواب الرياء بعضها أشد من بعض[‏‬

‫وأاعلم‪ :‬أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض‪ ،‬لنه درجات‪.‬أشدها وأأغلظها أن ل يكون‬
‫مراده بالعبادة الثواب أصلً‪ ،‬كالذي يصلى بين الناس‪ ،‬وألو انفرد لم يصل‪.‬‬

‫الدرجة الثانية‪ :‬أن يقصد الثواب مع الرياء قصدا ً ضعيفا ً بحيث لو كان خاليا ً لم يفعله‪ ،‬فهو‬
‫قريب من القسم الوأل في كونهما ممقوتين عند الله تعالى‪.‬‬
‫الدرجة الثالثة‪ :‬أن يكون قصد الرياء‪ ،‬وأقصد الثواب متساوأيين‪ ،‬بحيث لو انفرد كل وأاحد‬
‫منهما عن الخر لم يبعثه على العمل‪ ،‬فهذا قد أفسد مثل ما اصلح‪ ،‬وأل يسلم من الثم‬

‫الرابعة‪ :‬أن يكون إطلع الناس عليه مقويا ً لنشاطه‪ ،‬وألو لم يطلع عليه أحد لم يترك‬
‫العبادة‪ ،‬فهذا يثاب على قصده الصحيح ‪ ،‬وأيعاقب على قصده الفاسد‪ ،‬وأقريب من ذلك‬
‫الرياء بأوأصافا العبادة ل بأصلها‪ ،‬كالذي يصلى وأغرضه تخفيف الركوع وأالسجود وأل يطيل‬
‫القراءة‪ ،‬فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضا ً من الرياء المحظور‪ ،‬لنه يتضمن تعظيم‬
‫الخلق‪ ،‬وألكنه دوأن الرياء بأصول العبادات‪.‬‬

‫‪2‬ـ بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل‬

‫اعلم أن الرياء جلى وأخفى‪.‬‬

‫فالجلى‪ :‬هو الذي يبعث على العمل وأيحمل عليه‪.‬وأأخفى منه قليل ً رياء ل يبعث على‬
‫العمل بمجرده‪ ،‬لكن يخفف العمل الذي أريد به وأجه الله تعالى‪ ،‬كالذي يعتاد التهجد كل‬
‫ليلة وأيثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وأسهل عليه‪ .‬وأأخفى من ذلك ما ل يؤثر‬
‫في العمل وأل في التسهيل‪ ،‬لكنه مع ذلك مستبطن في القلب‪ ،‬وأمتى لم يؤثر الدعاء في‬
‫العمل لم يكن أن يعرفا إل بالعلمات‪ ،‬وأأجلى علماته أنه يسر باطلع الناس على طاعته‪،‬‬
‫فرب عبد مخلص يخلص العمل‪ ،‬وأل يقصد الرياء بل يكرهه‪ ،‬وأيتم العمل على ذلك‪ ،‬لكن‬
‫إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وأارتاح له‪ ،‬وأروأح ذلك عن قلبه شدة العبادة‪ ،‬فهذا السروأر‬
‫يدل على رياء خفي منه يرشح السروأر‪ ،‬ثم إذا استشعر تلك اللذة بالطلع لم يقابل ذلك‬
‫بكراهة‪ ،‬بل قد يتحرك حركة خفيفة‪ ،‬وأيتكلف أن يطلع عليه بالتعريض ل بالتصريح‪.‬وأقد‬
‫يخفى‪ ،‬فل يدعو إلى الظهار بالنطق تعريضا ً وأل تصريحًا‪ ،‬وألكن بالشمائل كإظهار النحول‪،‬‬
‫وأالصفار‪ ،‬وأخفض الصوت‪ ،‬وأيبس الشفتين وأآثار الدموع وأغلبة النعاس الدالة على طول‬
‫التهجد‪.‬‬

‫وأأخفى من ذلك أن يختفي بحيث ل يريد الطلع عليه‪ ،‬وألكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب‬
‫أن يبدؤوأه بالسلم‪ ،‬وأأن يقابلوه بالبشاشة وأالتوقير وأينشطوا في قضاء حوائجه‪،‬‬
‫وأيسامحوه في المعاملة‪ ،‬وأيوسعوا له المكان‪ ،‬فان قصر في ذلك مقصر‪ ،‬ثقل ذلك على‬
‫قلبه‪ ،‬كأن نفسه تتقاضى الحترام على الطاعة التي أخفاها‪.‬وأمتى لم يكون وأجود العبادة‬
‫كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق‪ ،‬لم يكن خاليا ً عن شوب خفي من الرياء‪ ،‬وأكل ذلك‬
‫يوشك أن يقص الجر‪ ،‬وأل يسلم منه إل الصديقون‪.‬وأقد روأينا عن وأهب بن منبه‪ ،‬أن رجل ً‬
‫من العباد قال لصحابه‪ :‬إنا قد فارقنا الموال وأالوألد مخافة الطغيان ‪ ،‬وأأنا نخافا أن‬
‫يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الهل الموال في‬
‫أموالهم‪ ،‬إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه‪ ،‬وأإن كان له حاجة أحب أن تقضى‬
‫لمكان دينه‪ :‬وأإن اشترى شئيا ً أحب أن يرخص له لمكان دينه‪ ،‬فبلغ ذلك ملكهم‪ ،‬فركب‬
‫في موكبه‪ ،‬فإذا السهل وأالجبل قد امتل من الناس‪ ،‬فقال العابد‪ :‬ما هذا؟‏ قيل‪ :‬هذا الملك‪،‬‬
‫فقال لصاحبه ‪ :‬ائتني بطعام‪ ،‬فأتاه ببقل وأزبيب وأقلوب الشجر‪ ،‬فجعل يحشو شدقيه‬
‫وأيأكل أكل ً عنيفًا‪ ،‬فقال الملك‪ :‬أين صاحبكم؟‏ فقالوا ‪ :‬هذا ‪ ،‬كيف أنت؟‏ قال ‪ :‬كالناس‪،‬‬
‫فقال الملك ما عند هذا خير‪ ،‬وأانصرفا عنه‪ ،‬فقال‪ :‬الحمد لله الذي صرفه عنى وأهو لى‬
‫لئم‪.‬وألم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفى‪ ،‬يجتهدوأن في مخادعة الناس عن‬
‫أعمالهم الصالحة‪ ،‬وأيحرصون على إخفائها أعظم ما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم‪،‬‬
‫كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلصهم‪.‬‬

‫وأشوائب الرياء الخفى كثيرة ل تنحصر‪ ،‬وأمتى أدرك النسان من نفسه تفرقة بين أن يطلع‬
‫على عبادته أوأ ل يطلع‪ ،‬ففيه شعبة من الرياء‪ ،‬وألكن ليس كل شوب محبطا ً للجر‬
‫وأمفسدا ً للعمل‪ ،‬بل فيه تفصيل‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما ترى أحدا ً ينفك عن السروأر إذا عرفت طاعته‪ ،‬فهل جميع ذلك مذموم؟‏‬

‫فالجواب‪ :‬أن السروأر ينقسم إلى محمود وأمذموم‪.‬‬

‫فالمحمود‪ :‬أن يكون قصده إخفاء الطاعة وأالخلص لله‪ ،‬وألكن لما اطلع عليه الخلق علم‬
‫أن الله تعالى أطلعهم وأأظهر الجميل من أحواله‪ ،‬فيسر بحسن صنع الله وأنظره له‬
‫وألطفه به‪ ،‬حيث كان يستر الطاعة وأالمعصية‪ ،‬فأظهر الله سبحانه عليه الطاعة‪ ،‬وأستر‬
‫عليه المعصية‪ ،‬وأل لطف أعظم من ستر القبيح‪ ،‬وأإظهار الجميل‪ ،‬فيكون فرحه بذلك‪ ،‬ل‬
‫بحمد الناس وأقيام المنزلة في قلوبهم‪ ،‬أوأ يستدل بإظهار الله الجميل‪ ،‬وأستر القبيح عليه‬
‫في الدنيا‪ ،‬أنه كذلك يفعل به في الخرة‪ ،‬فإنه قد جاء معنى ذلك في الحديث‪.‬‬

‫فأما إن كان فرحه باطلع الناس عليه لقيام منزلته عندهم‪ ،‬حتى يمدحوه وأيعظموه‬
‫وأيقضوا حوائجه‪ ،‬فهذا مكروأه مذموم‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فما وأجه حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال‪ :‬قال رجل‪ :‬يا رسول الله ‪،‬‬
‫الرجل يعمل العمل فيسره‪ ،‬فإذا اطلع عليه‪ ،‬أعجبه‪ ،‬فقال‪ " :‬له أجران ‪ :‬أجر السر‪ ،‬وأأجر‬
‫العلنية"‪.‬فالجواب ‪ :‬أن هذا الحديث ضعيف‪ ،‬وأقد روأاه الترمذى‪ ،‬وأفسره بعض أهل العلم‬
‫بأن معناه‪ :‬أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير‪ ،‬لقوله عليه السلم ‪" :‬أنتم شهداء الله في‬
‫الرض"‪.‬وأقد روأى في أفراد مسلم من حديث أبى ذر رضى الله عنه قال ‪ :‬قيل ‪ :‬يارسول‬
‫الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير وأيحمده الناس عليه؟‏ فقال‪ " :‬تلك عاجل بشرى‬
‫المؤمن"‪.‬فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير وأيكرموه عليه‪ ،‬فهذا رياء‪.‬‬

‫‪3‬ـ فصل في بيان ما يحبط العمل من الرياء وأما ل يحبط‬

‫إذا وأرد على العبد وأراد الرياء ‪ ،‬فل يخلو‪:‬إما أن يكون وأرد بعد فراغه من العبادة أوأ قبله‪،‬‬
‫فان وأرد عليه بعد الفراغ سروأر بالظهور من غير إظهار منه ‪ ،‬فهذا ل يحبط العمل‪ ،‬لنه‬
‫قد تم على نعت الخلص فل ينعطف ما طرأ عليه بعده‪ ،‬ل سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره‬
‫وأالتحديث به‪ ،‬فأما إن تحدث به بعد تمامه وأأظهره‪ ،‬فهذا مخوفا‪ ،‬وأالغالب عليه أنه كان‬
‫في قلبه وأقت مباشرة العمل نوع رياء‪ ،‬فإن سلم من الرياء نقص أجره‪ ،‬فإن بين عمل‬
‫السر وأالعلنية سبعين درجة‪.‬‬

‫وأأما إذا وأرد الرياء قبل الفراغ من العبادة‪ ،‬كالصلة التي عقدها على إخلص فإن كان‬
‫مجرد سروأر‪ ،‬لم يؤثر في العمل‪ ،‬وأإن كان رياء باعثا ً على العمل‪ ،‬مثل أن يطيل الصلة‬
‫ليرى مكانه‪ ،‬فهذا يحبط الجر‪.‬وأأما ما يقارن العبادة‪ ،‬مثل أن يبتدئ الصلة على قصد‬
‫الرياء‪ ،‬فإن أتمها على ذلك لم يعتد بها‪ ،‬وأإن ندم فيها على فعله‪ ،‬فالذي ينبغي له أن‬
‫يبتدئها‪ ،‬وأالله أعلم‪.‬وأأما ما يقارن العبادة‪ ،‬مثل أن يبتدئ الصلة على قصد الرياء‪ ،‬فإن‬
‫أتمها على ذلك لم يعتد بها‪ ،‬وأإن ندم فيها على فعله‪ ،‬فالذي ينبغي له أن يبتدئها‪ ،‬وأالله‬
‫أعلم‪.‬‬

‫‪4‬ـ فصل في دوأاء الرياء وأطريقة معالجة القلب فيه‬

‫قد عرفت أن الرياء محبط للعمال‪ ،‬وأسبب لمقت الله تعالى‪ ،‬وأأنه من المهلكات‪ ،‬وأمن‬
‫هذا حاله‪ ،‬فجدير بالتشمير عن ساقا الجد في إزالته‪.‬‬

‫وأفى معالجته مقامان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬في قلع عروأقه وأأصوله التي منها انشعابه‪.‬‬


‫وأالثاني‪ :‬في دفع ما يخطر منه في الحال‪.‬المقام الوأل‪ :‬اعلم أن أصل الرياء حب الجاه‬
‫وأالمنزلة‪ ،‬وأإذا فصل‪ ،‬رجع إلى ثلثة أصول‪.‬وأهى حب لذة الحمد‪ ،‬وأالفرار من ألم الذم‪،‬‬
‫وأالطمع فيما في أيدي الناس‪.‬وأيشهد لذلك ما في " الصحيحين" من حديث أبى موسى‬
‫رضى الله عنه قال‪ :‬جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪ :‬فقال يارسول الله‪،‬‬
‫أرأيت الرجل يقاتل شجاعة‪ ،‬وأيقاتل حمية‪ ،‬وأيقاتل رياء‪ ،‬فأي ذلك في سبيل الله؟‏ فقال‪" :‬‬
‫من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا‪ ،‬فهو في سبيل الله "‪.‬فمعنى قوله‪ :‬يقاتل شجاعة"‬
‫أي‪ :‬ليذكر وأيحمد‪ ،‬وأمعنى قوله "يقاتل حمية" أي ‪ :‬يأنف أن يقهر أوأ يذم‪ ،‬وأمعنى‪" :‬يقاتل‬
‫رياء" أي‪ :‬ليرى مكانه‪ ،‬وأهذه هو لذة الجاه وأالمنزلة في القلوب‪.‬وأقد ل يشتهى النسان‬
‫الحمد‪ ،‬وألكنه يحذر من الذم‪ ،‬كالجبان بين الشجعان‪ ،‬فإنه يثبت وأل يفر لئل يذم‪ .‬وأقد يفتى‬
‫النسان بغير علم حذرا ً من الذم فإن آدم عليه السلم عصى مشتهيا ً فغفر له ‪ ،‬فإذا كانت‬
‫معصية من كبر فاخش عليه اللعنة ‪ ،‬فإن إبليس عصى مستكبرا ً فلعن وأفي الصحيحين ‪:‬‬
‫أن رسول الله صلي الله عليه وأسلم قال من جر ثوبه خيلء لم ينظر الله إليه يوم القيامة‬
‫‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬يا رسول الله إن أحد شقي إزاري ليسترخي ‪،‬‬

‫إل أن أتعاهد ذلك منه ؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪ " :‬لست ممن‬
‫يصنعه خيلء "وأاعلم أن الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته فيظهر على‬
‫الجوارح وأذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه ‪ ،‬يعني يرى نفسه فوقا الغير في‬
‫صفات الكمال ‪ ،‬فعند ذلك يكون متكبرًا‪.‬وأبهذا ينفصل عن العجب ‪ ،‬فإن العجب ل‬
‫يستدعي غير المعجب ‪ ،‬حتى لو قد أن يخلق النسان وأحده تصور أن يكون معجبا ‪ ،‬وأل‬
‫يتصور أن يكون متكبرا ‪ ،‬إل أن يكون مع غيره وأهو يرى نفسه فوقه ‪ ،‬فإن النسان متى‬
‫رأى نفسه بعين الستعظام ‪ ،‬حقر من دوأنه وأازدراه ‪ ،‬وأصفة هذا المتكبر ‪ ،‬أن يكون إلى‬
‫العامة كأنه ينظر إلى الحمير استهجال ً وأاستحقارا ً !‏وأآفة الكبر عظيمة ‪ ،‬وأفيه يهلك‬
‫الخواص ‪ ،‬وأقلما ينفك عنه العباد وأالزهاد وأالعلماء ‪.‬وأكيف ل تعظم آفته ‪ ،‬وأقد أخبر النبى‬
‫صلى الله عليه وأسلم أنه " ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "‪:‬وأإنما‬
‫صار حجابا دوأن الجنة ‪ ،‬لنه يحول بين العبد وأبين أخلقا المؤمنين ‪،‬لن صاحبه ل يقدر أن‬
‫يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ‪ ،‬فل يقدر على التواضع ‪ ،‬وأل على ترك الحقد وأالحسد‬
‫وأالغضب ‪ ،‬وأل على كظم الغيظ وأقبول النصح‪ ،‬وأل يسلم من الزدراء وأاغتيابهم ‪ ،‬فما من‬
‫خلق ذميم إل وأهو مضطر إليه‪.‬‬

‫وأمن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم ‪ ،‬وأقبول الحق ‪ ،‬وأالنقياد له وأقد تحصل‬
‫المعرفة للمتكبر ‪ ،‬وألكن ل تطاوأعه نفسه على النقياد للحق ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ) :‬وأجحدوأا‬
‫بها وأاستيقنتها أنفسهم ظلما ً وأعلوا ً (‏‏ ) النمل ‪( 14 :‬‏‏ ) فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا (‏‏ ) المؤمنون ‪:‬‬
‫‪( 47‬‏‏ ) إن أنتم إل بشر مثلنا (‏‏ ) إبراهيم ‪( 10 :‬‏‏ وأآيات كثيرة نحو هذا ‪ ،‬وأهكذا تكبر على الله‬
‫وأعلى رسوله ‪.‬يعارضه بخطرات الرياء ‪ ،‬فإذا خطر له معرفة الخلق بعبادته وأاطلعهم‬
‫عليها ‪ ،‬دفع ذلك بأن يقول ‪ :‬مالك وأللخلق علموا أوأ لم يعلموا ‪ ،‬وأالله عالم بحالك ‪ ،‬فأي‬
‫فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى آفة الحمد ‪ ،‬ذكرها آفات الرياء وأالتعرض‬
‫للمقت ‪ ،‬فيقابل تلك الرغبة بكراهة المقت ‪ ،‬فإن معرفة اطلع الناس تثير شهوة ‪،‬‬
‫وأمعرفة آفة الرياء تثير كراهة ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات وأبيان الرخصة في كتمان‬
‫الذنوب‬

‫وأكراهة اطلع الناس على الذنب وأذمهم له‬

‫أما الوأل ‪ ،‬فاعلم أن في إسرار العمال فائدة لخلص وأالنجاة من الرياء ‪ ،‬وأفي الظهار‬
‫فائدة القتداء ‪ ،‬وأترغيب الناس في الخير ‪.‬وأمن العمال ما ل يمكن السرار به كالحج‬
‫وأالجهاد ‪.‬وأالمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه ‪ ،‬حتى ل يكون فيه حب الرياء الخفي ‪ ،‬بل‬
‫ينوي القتداء به ‪ ،‬وأل ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك ‪ ،‬فإن مثال الضعيف مثل‬
‫الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة ‪ ،‬فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم ‪ ،‬وأأقبل‬
‫عليهم حتى تشبثوا به ‪ ،‬فهلكوا وأهلك معهم ‪.‬فأما من قوي وأتم إخلصه ‪ ،‬وأصغر الناس في‬
‫عينه ‪ ،‬وأاستوى عنده مدحهم وأذمهم ‪ ،‬فل بأس بالظهار له ‪ ،‬لن الترغيب في الخير خير‬
‫‪.‬وأقد روأي ذلك عن جماعة من السلف أنهم كانوا يظهروأن شيئا ً من أحوالهم الشريفة‬
‫ليقتدي بهم ‪ ،‬كما قال بعضهم لهله حين احتضر ‪ :‬ل تبكوا علي ‪ ،‬فإني ما لفظت بخطيئة‬
‫منذ أسلمت ‪.‬وأقال أبو بكر بن عياش رحمه الله لبنه ‪ :‬إياك أن تعصي الله تعالى في هذه‬
‫الغرفة ‪ ،‬فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة ‪.‬وأنحو ذلك كثير من كلمهم ‪ ،‬وأالله أعلم ‪.‬‬

‫وأأما الرخصة في كتمان الذنوب ‪ ،‬فربما ظن ظان أن كتمان الخطايا رياء ‪ ،‬وأليس كذلك‬
‫فإن الصادقا الذي ل يرائي إذا وأقعت منه معصية ‪ ،‬كان له سترها ‪ ،‬لن الله يكره ظهور‬
‫المعاصي وأيحب سترها ‪.‬وأقد روأي عن النبي صلى الله عليه وأسلم أنه قال ‪ " :‬من ارتكب‬
‫شيئا ً من هذه القاذوأرات ‪ ،‬فليستتر بستر الله عز وأجل " فهذا وأإن عصى بالذنب ‪ ،‬لم‬
‫يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله عز وأجل ‪ ،‬وأهذا ينشأ عن قوة اليمان ‪.‬وأينبغي أن يكره‬
‫ظهور الذنب من غيره أيضا ً ‪ ،‬فهذا أثر الصدقا فيه ‪.‬وأمن ذلك أن يكره ذم الناس له ‪ ،‬من‬
‫حيث إن ذلك يشغل قلبه وأعقله عن طاعة الله تعالى ‪ ،‬فإن الطبع يتأذى بالذم ‪ ،‬وأبهذه‬
‫العلة أيضا ً ينبغي أن يكره المدح إذا كان يشغله عن الله تعالى ‪ ،‬وأيستغرقا قلبه ‪ ،‬وأيصرفه‬
‫عن الذكر ‪ ،‬فإن هذا أيضا ً من قوة اليمان ‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ فصل في ترك الطاعات خوفا ً من الرياء‬

‫فأما ترك الطاعات خوفا ً من الرياء ‪ ،‬فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين ‪ ،‬فهذا‬
‫ينبغي أن يترك ‪ ،‬لنه معصية ل طاعة فيه ‪.‬وأإن كان الباعث على ذلك الدين ‪ ،‬وأكان ذلك‬
‫لجل الله تعالى خالصا ً ‪ ،‬فل ينبغي أن يترك العمل ‪ ،‬لن الباعث الدين ‪.‬وأكذلك إذا ترك‬
‫العمل خوفا ً من أن يقال ‪ :‬إنه مراٍءء ‪ ،‬فل ينبغي ذلك ‪ ،‬لنه من مكائد الشيطان قال‬
‫إبراهيم النخعي ‪ :‬إذا أتاك الشيطان وأأنت في الصلة فقال ‪ :‬إنك مراٍءء ‪ ،‬فزدها طول ً ‪.‬وأأما‬
‫ما روأي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفا ً من الرياء ‪ ،‬كما روأي عن إبراهيم النخعي‬
‫أن إنسانا ً دخل عليه وأهو يقرأ في المصحف ‪ ،‬فأطبق المصحف وأترك القراءة ‪ ،‬وأقال ‪ :‬ل‬
‫يراني هذا أني أقرأ كل ساعة ‪ ،‬فيحمل هذا علي أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين‬
‫فقطعوا !‏‬

‫‪ 7‬ـ فصل في بيان ما يصح من نشاط العبد بسبب رؤية الخلق وأما ل يصح‬

‫قد يبيت الرجل مع المتهجدين ‪ ،‬فيصلون أكثر الليل ‪ ،‬وأعادته قيام ساعة ‪ ،‬فيوافقهم ‪ ،‬أوأ‬
‫يصومون فيصوم ‪ ،‬وألولهم ما انبعث هذا النشاط ‪.‬فربما ظن ظان أن هذا رياء ‪ ،‬وأليس‬
‫كذلك على الطلقا ‪ ،‬بل فيه تفصيل ‪ ،‬وأهو أن كل مؤمن يرغب في عبادة الله تعالى ‪،‬‬
‫وألكن تعوقه العوائق ‪ ،‬فإن النسان إذا كان في منزله تمكن من النوم على فراش وأطيء‬
‫وأتمتع بزوأجته ‪ ،‬فإذا بات في مكان غريب ‪ ،‬اندفعت هذه الشواغل ‪ ،‬وأحصلت له أسباب‬
‫تبعث على الخير ‪ ،‬منها مشاهدة العابدين ‪.‬وأقد يعسر عليه الصوم في منزله لكثرة‬
‫المطاعم ‪ ،‬بخلفا غيره ‪ ،‬ففي مثل هذه الحوال ينتدب الشيطان للصد عن الطاعة ‪،‬‬
‫وأيقول ‪ :‬إذا عملت غير عادتك كنت مرائيا ً فل ينبغي أن يلتفت إليه ‪ ،‬وأإنما ينبغي أن ينظر‬
‫إلى قصده الباطن ‪ ،‬وأل يلتفت إلى وأسواس الشيطان وأيختبر أمره بأن يمثل القوم في‬
‫مكان يراهم وأل يروأنه ‪ ،‬فإن رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله ‪ ،‬وأإن لم تسخ كان سخاؤها‬
‫عندهم رياء ‪ ،‬وأقس على هذا ‪.‬فهذه جملة آفات الرياء ‪ ،‬فكن بحاثا ً عنها ‪ ،‬وأتفقد نيتك ‪،‬‬
‫فإن الرياء أخفى من دبيب النمل ‪.‬وأينبغي للمريد أن يلزم قلبه القناعة بعلم الله في جميع‬
‫طاعته ‪.‬وأإنما يقنع بذلك من خافا الله وأرجاه ‪ ،‬وأل ينبغي أن يؤيس نفسه من الخلص‬

‫بأن يقول ‪ :‬إنما يقدر على الخلص القوياء ‪ ،‬وأأنا من المخلطين ‪ ،‬فيترك المجاهدة في‬
‫تحصيل الخلص ‪ ،‬لن المخلط إلى ذلك أحوج ‪.‬قال إبراهيم بن أدهم ‪ :‬تعلمت المعرفة‬
‫من راهب يقال له سمعان ‪ :‬دخلت على صومعته فقلت له ‪ :‬منذ كم أنت في صومعتك‬
‫هذه ؟‏ قال منذ سبعين سنة ‪ ،‬قلت ‪ :‬ما طعامك ؟‏ قال ‪ :‬كل ليلة حمصة ‪ ،‬قلت ‪ :‬فما الذي‬
‫يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة ؟‏ قال ‪ :‬ترى ) الدير (‏‏ الذي بحذائك ؟‏ قلت ‪ :‬نعم‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬إنهم يأتوني في كل سنة يوما ً وأاحدا ً فيزينون صومعتي وأيطوفون حولها يعظموني‬
‫بذلك ‪ ،‬فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ‪ ،‬ذكرتها عز تلك الساعة ‪ ،‬فأنا أحتمل جهد سنة‬
‫لعز ساعة ‪ ،‬فاحتمل ياحنيفي جهد ساعة لعز البد ‪ ،‬فوقر في قلبي المعرفة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أزيدك ؟‏ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬أنزل عن الصومعة ‪ ،‬فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرين‬
‫حمصة ‪ ،‬ثم قال لي ‪ :‬ادخل الدير ‪ ،‬فقد رأوأا ما أدليت إليك ‪ ،‬فلما دخلت الدير ‪ ،‬اجتمعت‬
‫النصارى فقالوا ‪ :‬يا حنيفي ‪ ،‬ما الذي أدلى إليك الشيخ ؟‏ قلت ‪ :‬شيئا ً من قوته ‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫وأما تصنع به ؟‏ نحن أحق به ‪ ،‬ساوأم به ‪ ،‬قلت ‪ :‬عشروأن دينارا ً ‪ ،‬فأعطوني عشرين‬
‫دينارا ً ‪ ،‬فرجعت إلى الراهب ‪ ،‬فقال ‪ :‬أخطأت ‪ ،‬لو ساوأمتهم عشرين ألفا ً لعطوك ‪ ،‬هذا‬
‫عز من ل يعبده ‪ ،‬فانظر كيف يكون عز من يعبده ‪ ،‬يا حنيفي أقبل على عبادة ربك ‪.‬فقد‬
‫بان بهذا أن استشعار النفوس عز العظمة في القلوب يكون باعثا ً إلى الخلوة ‪ ،‬فهذه آفة‬
‫عظيمة ‪ ،‬وأعلمة سلمته منها أن يكون الخلق عنده وأالبهائم بمثابة وأاحدة ‪ ،‬وأيكون عمله‬
‫عمل من ليس على الرض غيره ‪ ،‬فإذا خطرت خطرات ضعيفة ردها الله ‪ ،‬وأالله تعالى‬
‫أعلم ‪.‬‬

‫كتاب ذم الكبر وأالعجب‬

‫وأهما فصلن‪:‬‬

‫‪1‬ـ الفصل الوأل في الكبر‪:‬‬

‫قال الله تعالى‪} :‬سأصرفا عن آياتي الذين يتكبروأن في الرض بغير الحق{ ]‏العرافا‪[146:‬‏‬
‫وأقال‪} :‬إنه ل يحب المستكبرين{]‏النحل‪[23:‬‏‪.‬‬

‫وأفى الحديث الصحيح من أفراد مسلم‪ ،‬أن رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬‬
‫ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"‪.‬وأفى "الصحيحين" عنه صلى الله‬
‫عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬قالت النار‪ :‬أوأثرت بالمتكبرين"‪.‬وأعنه صلى الله عليه وأآله وأسلم‬
‫أنه قال‪ " :‬يحشر الجباروأن وأالمتكبروأن يوم القيامة في صورة الذر‪ ،‬يطؤهم الناس‬
‫لهوانهم على الله عز وأجل"‪.‬وأقال سفيان بن عيينة رحمة الله ‪ :‬من كانت معصيته في‬
‫شهوة‪ ،‬فارج له التوبة‪ ،‬فإن آدم عليه السلم عصى مشتهيا فغفر له‪ ،‬فإذا كانت معصيته‬
‫من كبر‪ ،‬فاحش عليه اللعنة‪ ،‬فإن إبليس عصى مستكبرا ً فلعن‪.‬وأفى "الصحيحين" ‪ :‬أن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪ " :‬من جر ثوبه خيلء لم ينظر الله إليه يوم‬
‫القيامة‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يارسول الله إن أحد شقي إزاري ليسترخي‪ ،‬إل أن أتعاهد ذلك‬
‫منه؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪ " :‬لست ممن يصنعه خيلء"‪.‬وأاعلم‪ :‬أن‬
‫الكبر خلق باطن تصدر عنه أعمال هي ثمرته‪ ،‬فيظهر على الجوارح‪ ،‬وأذلك الخلق هو رؤية‬
‫النفس على المتكبر عليه‪ ،‬يعنى يرى نفسه فوقا الغير في صفات الكمال‪ ،‬فعند ذلك يكون‬
‫متكبرًا‪.‬وأبهذا ينفصل عن العجب‪ ،‬فان العجب ل يستدعى غير المعجب‪ ،‬حتى لو قدر أن‬
‫يخلق النسان وأحده تصور أن يكون معجبًا‪ ،‬وأل يتصور أن يكون متكبرًا‪ ،‬إل أن يكون مع‬
‫غيره وأهو يرى نفسه فوقه‪ ،‬فإن النسان متى رأى نفسه بعين الستعظام ‪ ،‬حقر من دوأنه‬
‫وأازدراه‪ ،‬وأصفة هذا المتكبر‪ ،‬أن ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهال ً‬
‫وأاستحقارًا‪.‬وأآفة الكبر عظيمة‪ ،‬وأفيه يهلك الخواص‪ ،‬وأقلما ينفك عنه العباد وأالزهاد‬
‫وأالعلماء‪.‬وأكيف ل تعظم آفته‪ ،‬وأقد أخبر النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪ :‬أنه ل يدخل‬
‫الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‪.‬وأإنما صار حجابا ً دوأن الجنة‪ ،‬لنه يحول بين‬
‫العبد وأبين أخلقا المؤمنين‪ ،‬لن صاحبه ل يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه‪ ،‬فل‬
‫يقدر على التواضع‪ ،‬وأل على ترك الحقد وأالحسد وأالغضب‪ ،‬وأل على كظم الغيظ وأقبول‬
‫النصح‪ ،‬وأل يسلم من الزدراء بالناس وأاغتيابهم‪ .‬فما من خلق ذميم إل وأهو مضطر إليه‬
‫‪.‬وأمن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم ‪ ،‬وأقبول الحق‪ ،‬وأالنقياد له‪.‬وأقد تحصل‬
‫المعرفة للمتكبر ‪ ،‬وألكن ل تطاوأعه نفسه على النقياد للحق‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬وأجحدوأا بها‬
‫وأاستيقنتها أنفسهم ظلما ً وأعلوًا{ ]‏النمل‪[14 :‬‏ }فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا{ ]‏المؤمنون ‪[47:‬‏‬
‫}إن أنتم إل بشر مثلنا{ ]‏إبراهيم ‪[10:‬‏ وأآيات كثيرة نحو هذا ‪ ،‬وأهذا تكبر على الله وأعلى‬
‫رسوله‪.‬وأقد تقدم أن التكبر على العباد هو احتقارهم وأاستعظام نفسه عليهم‪ ،‬وأذلك أيضا ً‬
‫يدعو إلى التكبر على أمر الله تعالى‪ ،‬كما حمل إبليس كبره على آدم عليه السلم أن‬
‫امتنع من امتثال أمر ربه في السجود‪.‬وأقد شرح رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‬
‫الكبر فقال‪ " :‬الكبر‪ :‬بطر الحق وأغمط الناس"‪ .‬وأمعنى غمط الناس" الزدراء بهم‪،‬‬
‫وأاستحقارهم‪ .‬وأيروأى‪ :‬غمص الناس بمعنى غمط الناس‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل ]‏في تقسيم آفات الكبر[‏‬

‫وأاعلم‪ :‬أن العلماء وأالعباد في آفة الكبر على ثلثة درجات‪:‬‬

‫الوألى‪ :‬أن يكون الكبر مستقرا ً في قلب النسان منهم‪ ،‬فهو يرى نفسه خيرا ً من غيره‪ ،‬إل‬
‫أنه يجتهد وأيتواضع‪ ،‬فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروأسة‪ ،‬إل أنه قد قطع أغصانها‪.‬‬

‫الثانية ‪ :‬أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس‪ ،‬وأالتقدم على القران‪ ،‬وأالنكار‬
‫على من يقصر في حقه‪ ،‬فترى العالم يصعر خده للناس‪ ،‬كأنه معرض عنهم‪ ،‬وأالعابد‬
‫يعيش وأوأجهه كأنه مستقذر لهم‪ ،‬وأهذان قد جهل ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم ‪ ،‬حين قال ‪}:‬وأاخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين{ ]‏الشعراء‪[215:‬‏‬

‫الدرجة الثالثة‪ :‬أن يظهر الكبر بلسانه‪ ،‬كالدعاوأى وأالمفاخر‪ ،‬وأتزكية النفس‪ ،‬وأحكايات‬
‫الحوال في معرض المفاخرة لغيره‪ ،‬وأكذلك التكبر بالنسب‪ ،‬فالذي له نسب شريف‬
‫يستحقر من ليس له ذلك النسب وأإن كان أرفع منه عمل‪.‬قال ابن عباس‪ :‬يقول الرجل‬
‫للرجل‪ :‬أنا أكرم منك‪ ،‬وأليس أحد أكرم من أحد إل بالتقوى‪ .‬قال الله تعالى‪} :‬إن أكرمكم‬
‫عند الله أتقاكم{ ]‏الحجرات ‪.{13 :‬وأكذلك التكبر بالمال‪ ،‬وأالجمال‪ ،‬وأالقوة‪ ،‬وأكثرة التباع‪،‬‬
‫وأنحو ذلك‪ ،‬فالكبر بالمال أكثر ما يجرى بين الملوك وأالتجار وأنحوهم‪.‬وأالتكبر بالجمال أكثر‬
‫ما يجرى بين النساء‪ ،‬وأيدعوهن إلى التنقص وأالغيبة وأذكر العيوب‪.‬وأأما التكبر بالتباع‬
‫وأالنصار ‪ ،‬فيجرى بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود‪ ،‬وأبين العلماء بالمكاثرة‬
‫بالمستفيدين‪.‬وأفى الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالً‪ ،‬فإن لم يكن في نفسه كمالً‪،‬‬
‫أمكن أن يتكبر به‪ ،‬حتى إن الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمرة وأالفجور‪ ،‬لظنه أن ذلك‬
‫كمال‪.‬وأاعلم‪ :‬أن التكبر يظهر في شمائل النسان‪ ،‬كصعر وأجهه‪ ،‬وأنظره شزرًا‪ ،‬وأإطراقا‬
‫رأسه‪ ،‬وأجلوسه متربعا ً وأمتكئًا‪ ،‬وأفى أقواله‪ ،‬حتى في صوته وأنغمته‪ ،‬وأصيغة إيراده الكلم‪،‬‬
‫وأيظهر ذلك أيضا ً في مشيه وأتبختره‪ ،‬وأقيامه وأقعوده وأحركاته وأسكناته وأسائر تقلباته‪.‬‬

‫من خصائل المتكبر‪ ،‬أن يحب قيام الناس له‪.‬‬ ‫وأ‬

‫وأالقيام على ضربين‪:‬قيام على رأسه وأهو قاعد‪ ،‬فهذا منهي عنه‪ ،‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم ‪ " :‬من أحب أن يتمثل له الرجال قياما ً فليتبوا ً مقعده من النار"‪.‬‬
‫وأهذه عادة العاجم وأالمتكبرين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قيام عند مجيء النسان‪ ،‬فقد كان السلف ل يكادوأن يفعلون ذلك‪.‬‬

‫قال أنس ‪ :‬لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ ،‬وأكانوا‬
‫إذا رأوأه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك‪.‬وأقد قال العلماء‪ :‬يستحب القيام للوالدين‬
‫وأالمام العادل‪ ،‬وأفضلء الناس‪ ،‬وأقد صار هذا كالشعار بين الفاضل‪ ،‬فإذا تركه النسان‬
‫في حق من يصلح أن يفعل في حقه ‪ ،‬لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته‪ ،‬وأالتقصير في حقه‪،‬‬
‫فيوجب ذلك حقدًا‪.‬وأاستحباب هذا في حق القائم ل يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك‪ ،‬وأيرى‬
‫أنه ليس بأهل لذلك‪.‬وأمن خصال المتكبر ‪ :‬أن ل يمشى إل وأمعه أحد يمشى خلفه‪.‬وأمنها‬
‫أن ل يزوأر أحدا ً تكبرا ً على الناس‪.‬وأمنها أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه أوأ مشيه‬
‫معه‪.‬وأقد روأى أنس رضى الله عنه قال ‪ :‬كانت المة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول‬
‫الله صلى الله عليه وأآله وأسلم ‪ ،‬فتنطلق به في حاجتها‪.‬وأقال ابن وأهب ‪ :‬جلست إلى عبد‬
‫العزيز بن أبى روأاد‪ ،‬وأإن فخذى لتمس فخذه فنحيت نفسي عنه‪ ،‬فأخذ ثيابي فجرني إليه‬
‫وأقال‪ :‬لم تفعلون بى ما تفعلون بالجبابرة‪ ،‬وأإني ل أعرفا منكم رجل شرا ً منى؟‏?وأمنها أن‬
‫ل يتعاطى بيده شغل ً في بيته‪ ،‬وأهذا بخلفا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم ‪.‬‬

‫وأمنها أن ل يحمل متاعه من سوقه إلى بيته‪ ،‬وأقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم شيئا ً وأحمله‪ .‬وأكان أبو بكر رضى الله عنه يحمل الثياب إلي السوقا يتجر فيها‪.‬‬
‫وأاشترى عمر رضى الله عنه لحما ً فعلقه بيده وأحمله إلى بيته ‪ .‬وأاشترى على رضى الله‬
‫عنه تمرا ً فحمله في ملحفة‪ ،‬فقال له قائل‪ :‬أحمل عنك؟‏ قال‪ :‬ل‪ ،‬أبو العيال أحق أن‬
‫يحمل‪.‬‬

‫وأأقبل أبو هريرة رضى الله عنه يوما ً من السوقا وأقد حمل حزمة حطب‪ ،‬وأهو يومئذ‬
‫خليفة مروأان‪ ،‬فقال لرجل‪ :‬أوأسع الطريق للمير‪.‬‬

‫وأمن أراد إن ينفى الكبر‪ ،‬وأيستعمل التواضع‪ ،‬فعليه بسيرة رسول الله صلى الله عليه وأآله‬
‫وأسلم ‪ ،‬وأقد سبقت الشارة إليها في كتاب "آداب المعيشة"‪.‬‬

‫‪2‬ـ بيان معالجة الكبر وأاكتساب التواضع‬

‫وأاعلم‪ :‬أن الكبر من المهلكات ‪ ،‬وأمداوأاته فرض عين‪ ،‬وألك في معالجته مقامان‪:‬‬

‫الوأل‪ :‬في استئصال أصله وأقطع شجرته‪ ،‬وأذلك بأن يعرفا النسان نفسه وأيعرفا ربه‪،‬‬
‫فإنه إذا عرفا نفسه حق المعرفة‪ ،‬علم أنه أذل من كل ذليل‪ ،‬وأيكفيه أن ينظر في أصل‬
‫وأجوده بعد العدم من تراب‪ ،‬ثم من نطفة خرجت من مخرج البول‪ ،‬ثم من علقة‪ ،‬ثم من‬
‫مضغة‪ ،‬فقد صار شيئا ً مذكورًا‪ ،‬بعد أن كان جمادا ً ل يسمع وأل يبصر‪ ،‬وأل يحس وأل يتحرك‪،‬‬
‫فقد ابتدأ بموته قبل حياته‪ ،‬وأبضعفه قبل قوته‪ ،‬وأبفقره قبل غناه‪.‬‬

‫وأقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله ‪ }:‬من أي شئ خلقه * من نطفة خلقه فقدره{ ]‏عبس ‪:‬‬
‫‪18‬وأ ‪[19‬‏ ثم امتن عليه بقوله‪ } :‬ثم السبيل يسره{ ]‏عبس ‪[20:‬‏‪ ،‬وأبقوله‪} :‬فجعلناه سميعا ً‬
‫بصيرا ً{ ]‏الدهر‪[2:‬‏ فأحياه بعد الموت ‪ ،‬وأأحسن تصويره‪ ،‬وأأخرجه إلى الدنيا‪ ،‬فأشبعه‬
‫وأأروأاه‪ ،‬وأكساه وأهداه وأقواه‪.‬فمن هذا بدايته‪ ،‬فأي وأجه لكبره وأفخره؟‏على أنه لو دام له‬
‫الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق‪ ،‬بل قد سلط عليه الخلط المتضادة‪ ،‬وأالمراض‬
‫الهائلة‪ ،‬بينما بنيانه قد تم‪ ،‬إذ هو قد وأهى وأتهدم‪ ،‬ل يملك الشيء لنفسه ضرا ً وأل نفعًا‪،‬‬
‫بينها هو يذكر الشيء فينساه‪ ،‬وأيستلذ بشيء فيرديه‪ ،‬وأيروأم الشيء فل يناله‪ ،‬ثم ل يأمن‬
‫أن يسلب حياته بغتة‪.‬هذا أوأسط حاله‪ ،‬وأذاك أوأل أمره‪ ،‬وأأما آخر أمره ‪ ،‬فالموت الذي‬
‫يعده جمادا ً كما كان ‪ ،‬ثم يلقى في التراب فيصير جيفة منتنه‪ ،‬وأتبلى أعضاؤه‪ ،‬وأتنخر‬
‫عظامه‪ ،‬وأيأكل الدوأد أجزاؤه‪ ،‬وأيعود ترابا ً يعمل منه الكيزان ‪ ،‬وأيعمر منه البنيان ‪ ،‬ثم بعد‬
‫طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرقة‪ ،‬وأيحضر عرصة القيامة‪ ،‬فيرى أرضا ً مبدلة‪ ،‬وأجبال ً‬
‫مسيرة‪ ،‬وأسماًء منشقة‪ ،‬وأنجوما ً منكدرة‪ ،‬وأشمسا ً مكورة‪ ،‬وأأحوال ً مظلمة‪ ،‬وأجحيما ً تزفر‪،‬‬
‫وأصحائف تنشر ‪ ،‬وأيقال له‪} :‬اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا{ ]‏السراء‪[14:‬‏‪.‬‬
‫فيقول ‪ :‬وأما كتابي؟‏ فيقال ‪ :‬كان قد وأكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وأتتكبر بنعيمها‬
‫ملكان يحصيان ما تنطق به وأتعمل من قليل وأكثير‪ ،‬وأقيام وأقعود‪ ،‬وأأكل وأشرب‪ ،‬وأقد‬
‫نسيت ذلك‪ ،‬وأأحصاه الله تعالى‪ ،‬فهلم إلى الحساب عليه ‪ ،‬وأأعد جوابا ً به‪ ،‬وأإل فأنت تساقا‬
‫إلى النار‪ ،‬فما لمن هذه حاله التكبر؟‏ فإن صار إلى النار ‪ ،‬فالبهائم أحسن حال ً منه‪ ،‬لنه‬
‫تعود إلى التراب‪ ،‬وأمن هذا حاله وأهو على شك من العفو عن أخطائه‪ ،‬كيف يتكبر؟‏ ?‬

‫وأمن الذي يسلم من ذنب يستحق به العقوبة‪ ،‬وأما مثله إل كمثل رجل جنى على ملك‬
‫جناية استحق أن يضرب لجلها ألف سوط‪ ،‬فحبس في السجن ليخرج فيعاقب‪ ،‬وأهو‬
‫منتظر أن يدعى به لذلك‪ .‬أفتراه يتكبر على أهل السجن؟‏ وأهل الدنيا إل سجن‪ ،‬وأهل‬
‫المعاصي إل موجبة للعقاب؟‏‪.‬وأأما معرفة ربه‪ ،‬فيكفيه أن ينظر في آثار قدرته وأعجائب‬
‫صنعته‪ ،‬فتلوح له العظمة‪ ،‬وأتظهر له المعرفة‪ ،‬فهذا هو العلج القالع لصل الكبر‪.‬وأمن‬
‫العلج العملي التواضع بالفعل لله تعالى وألعباده‪ ،‬وأذلك بالمواظبة على استعمال خلق‬
‫المتواضعين‪ ،‬وأقد تقدمت الشارة إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪ ،‬وأما‬
‫كان عليه من التواضع وأالخلقا الجميلة‪.‬‬

‫المقام الثاني‪ :‬فيما يعرض من التكبر بالنساب‪ ،‬فمن اعتراه الكبر من جهة النسب‪،‬‬
‫فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره‪ ،‬ثم يعلم أباه وأجده‪ ،‬فإن أباه القريب نطفة قذرة‪ ،‬وأأباه‬
‫البعيد تراب‪ ،‬وأمن اعتراه الكبر بالجمال‪ ،‬فلينظر إلى باطنه نظر العقلء‪ ،‬وأل ينظر إلى‬
‫ظاهره نظر البهائم‪ ،‬وأمن اعتراه من جهة القوة‪ ،‬فليعلم أنه لو آلمه عرقا‪ ،‬عاد أعجز من‬
‫كل عاجز ‪ ،‬إن حمى يوم تحلل من قوته ما ل يود في مدة ‪ ،‬وأإن شوكة لو دخلت في‬
‫رجله لعجزته‪ ،‬وأبقة لو دخلت في أذنه لقلقته‪.‬‬

‫وأمن تكبر بسبب الغنى ‪ ،‬فإذا تأمل خلقا ً من اليهود‪ ،‬وأجدهم أغنى منه‪ ،‬فأفا لشرفا تسبق‬
‫به اليهود وأيستلبه السارقا في لحظة‪ ،‬فيعود صاحبه ذليلً‪.‬وأمن تكبر بسبب العلم‪ ،‬فليعلم‬
‫أن حجة الله على العالم آلد من الجاهل‪ ،‬وأليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده‪،‬‬
‫فإن خطره أعظم من خطر غيره‪ ،‬كما أن قدره أعظم من قدر غيره‪.‬وأليعلم أيضا ً أن‬
‫الكبر ل يليق ]‏ إل[‏ بالله سبحانه ‪ ،‬وأأنه إذا تكبر صار ممقوتا ً عند الله تعالى بغيضا ً عنده‪.‬‬
‫وأقد أحب الله منه أن يتواضع‪ ،‬وأكذلك كل سبب يعالجه بنقيضه وأيستعمل التواضع‪.‬وأاعلم‪:‬‬
‫أن هذا الخلق كسائر الخلقا له طرفان وأوأسط‪:‬فطرفه الذي يميل إلى الزيادة تكبرا ً‬
‫‪.‬وأطرفه الذي يميل إلى النقصان يمسي تخاسسا ً وأمذلة‪.‬وأالوسط يمسي تواضعًا‪ ،‬وأهو‬
‫المحمود وأهو أن يتواضع من غير مذلة‪ ،‬فخير المور أوأساطها‪ ،‬فمن تقدم على أقرانه فهو‬
‫متكبر‪ ،‬وأمن تأخر عنهم‪ ،‬فهو متواضع‪ ،‬لنه قد وأضع شيئا ً من قدره‪ ،‬فأما إذا أدخل على‬
‫العالم إسكافا أوأ نحوه‪ ،‬فتنحى له عن مجلسه أوأ أجلسه فيه‪ ،‬ثم قدم له نعله وأمشى معه‬
‫إلى الباب‪ ،‬فقد تخاسس وأتذلل‪ ،‬فذلك غير محمود‪ ،‬بل المحمود العدل‪ ،‬وأهو أن يعطى كل‬
‫ذي حق حقه‪ ،‬لكن تواضعه للسوقة بالرفق في السؤال وأاللين في الكلم‪،‬‬

‫وأإجابة الدعوة‪ ،‬وأالسعى في الحاجة‪ ،‬وأل يحقره‪ ،‬وأل يستصغره‪ ،‬وأالله أعلم‪.‬‬

‫‪2‬ـ الفصل الثاني في العجب‪:‬‬

‫روأى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪ " :‬بينما رجل يتبختر في‬
‫بردين وأقد أعجبته نفسه‪ ،‬خسف الله به الرض‪ ،‬فهو يتجلجل )‪(1‬‏‏))أي‪ :‬يغوص في الرض‬
‫حين يخسف به‪ ،‬وأالجلجلة‪ :‬الحركة مع الصوت(‏‏(‏‏ " فيها إلى يوم القيامة"‪.‬وأقال صلى الله‬
‫عليه وأآله وأسلم ‪" :‬ثلث مهلكات ‪ :‬شح مطاع‪ ،‬وأهوى متبع‪ ،‬وأإعجاب المرء بنفسه"‪.‬وأروأى‬
‫عن ابن مسعود أنه قال‪ :‬الهلك في شيئين‪ :‬العجب وأالقنوط‪ .‬وأإنما جمع بينهما لن‬
‫السعادة ل تنال إل بالطلب وأالتشمير‪ ،‬وأالقانط ل يطلب‪ ،‬وأالمعجب يظن أنه قد ظفر‬
‫ب إلى من أن‬ ‫بمراده فل يسعى‪.‬قال مطرفا رحمه الله‪ :‬لن أبيت نائما ً وأأصبح نادمًا‪ ،‬أح ُ‬
‫أبيت قائما وأأصبح معجبًا‪.‬وأاعلم‪ :‬أن العجب يدعو إلى الكبر‪ ،‬لنه أحد أسبابه‪ ،‬فيتولد من‬
‫العجب الكبر‪ ،‬وأمن الكبر الفات الكثيرة‪ ،‬وأهذا مع الخلق‪.‬فأما مع الخالق‪ ،‬فإن العجب‬
‫بالطاعات نتيجة استعظامها‪ ،‬فكأنه يمن على الله تعالى بفعلها‪ ،‬وأينسى نعمته عليه‬
‫بتوفيقه لها‪ ،‬وأيعمى عن آفاتها المفسدة لها‪.‬وأإنما يتفقد آفات العمال من خافا ردها دوأن‬
‫من رضيها وأأعجب بها‪.‬وأالعجب إنما يكون بوصف كمال من علم أوأ عمل‪ ،‬فإن انضافا إلى‬
‫ذلك أن يرى حقا ً له عند الله إدللً‪ ،‬فالعجب ‪ ،‬يحصل باستعظام ما عجب به ‪،‬‬

‫وأالدلل يوجب توقع الجزاء‪ ،‬مثل أن يتوقع إجابة دعائه وأينكر رده‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل في علج العجب‬

‫اعلم أن الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك وأإيجاد أعمالك‪ ،‬فل معنى لعجب عامل‬
‫بعمله‪ ،‬وأل عالم بعلمه‪ ،‬وأل جميل بجماله‪ ،‬وأل غنى بغناه‪ ،‬إذ كل ذلك من فضل الله تعالى‪،‬‬
‫وأإنما الدمي محل لفيض النعم عليه ‪ ،‬وأكونه محل ً له نعمة أخرى‪.‬فان قلت‪ :‬إن العمل‬
‫حصل بقدرتك وأل يتصور العمل إل بوجودك وأوأجود عملك وأإرادتك وأقدرتك فمن أين‬
‫قدرتك‪ ،‬وأكل ذلك من الله تعالى ل منك‪ ،‬فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه‪ ،‬وأهذا‬
‫المفتاح بيد الله تعالى‪ ،‬وأما لم تعط المفتاح ل يمكنك العمل كما لو قعدت عند خزانة‬
‫مغلقة لم تقدر على ما فيها إل أن تعطى مفتاحها‪.‬وأفى "الصحيحين" من حديث أبى‬
‫هريرة‪ ،‬عن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم أنه قال‪ " :‬لن يدخل أحدا ً منكم عمله الجنة"‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬وأل أنت يا رسول الله ؟‏ قال‪" :‬وأل أنا‪ ،‬إل أن يتغمدنى الله برحمة منه‬
‫وأفضل"‪.‬وأاعلم‪ :‬أن العجب يكون بالسباب التي يقع بها الكبر‪ ،‬وأقد سبق ذكرها وأعلجها‬
‫‪.‬وأمن ذلك العجب بالنسب‪ ،‬كما يتخيل الشريف أنه ينجو بشرفا آبائه‪ ،‬وأعلجه أن يعلم أنه‬
‫متى خالف آباءه‪ ،‬وأظن أنه ملحق بهم‪ ،‬فقد جهل‪ ،‬وأإن اقتدى بهم‪ ،‬فإنه لم يكن العجب‬
‫من أخلقهم ‪ ،‬بل الخوفا وأالزراء على النفس‪ .‬وأإنما شرفوا بالطاعة المحمودة‪ ،‬ل بنفس‬
‫النسب‪ .‬قال الله تعالى‪} :‬إن أكرمكم عند الله أتقاكم{ ]‏الحجرات ‪[13:‬‏‪ ،‬وأقال النبى صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم ‪ " :‬يا فاطمة‪ ،‬ل أغنى عنك من الله شيئًا"‪.‬‬

‫فإن قلت ‪ :‬إنما يرجو الشريف أن يشفع فيه ذوأوأ قرابته‪.‬‬

‫فالجواب‪ :‬أن كل المسلمين يرجون الشفاعة‪ ،‬وأقد يشفع في الشخص بعد إحراقه بالنار‪،‬‬
‫وأقد يقوى الذنب فل تنجى الشفاعة‪.‬وأفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة أن النبى‬
‫صلى الله عليه وأآله وأسلم قال‪" :‬ل ألفين )‪(2‬‏‏ "أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير‬
‫له رغاء‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أغثني‪ .‬فأقول‪ :‬ل أملك لك شيئًا‪ ،‬قد أبلغتك"‪.‬وأمثل‬
‫المنهمك في الذنوب اعتمادا ً على رجاء الشفاعة‪ ،‬كمثل المريض المنهمك في الشهوات‪،‬‬
‫اعتمادا ً على طبيبه الحاذقا المشفق‪ ،‬وأذلك جهل‪ ،‬فإن اجتهاد الطبيب‪ ،‬ينفع بعض المراض‬
‫ل كلها‪.‬وأيوضح هذا أن سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يخافون من‬
‫الخرة‪ ،‬فكيف يتكل من ليس في مثل مراتبهم ؟‏!‏وأمن ذلك العجب بالرأي الخطأ‪ ،‬كما‬
‫قال الله تعالى‪}:‬أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا{ ]‏فاطر‪[8:‬‏‪ .‬وأعلج هذا أشد من علج‬
‫غيره‪ ،‬فإن هذا متى كان معجبا ً برأيه لم يصغ إلى نصح ناصح‪ ،‬وأكيف يترك ما يعتقده‬
‫نجاة؟‏!‏ وأإنما علجه في الجملة أن يكون متهما ً لرأيه أبدًا‪ ،‬ل يغتر به‪ ،‬إل أن يشهد له قاطع‬
‫من كتاب‪ ،‬أوأ سنة أوأ دليل عقلي جامع لشروأط الدلة‪ ،‬وألن يعرفا ذلك إل بمجالسة أهل‬
‫العلم وأممارسة الكتاب وأالسنة‪.‬‬
‫وأالوألى لمن يتفرغ لستغراقا العمر في العلم أن ل يخوض في المذاهب‪ ،‬وألكن يقف عند‬
‫اعتقاد الجمل‪ ،‬وأأن الله سبحانه وأاحد ل شريك له‪} ،‬ليس كمثله شئ وأهو السميع‬
‫البصير{‪ ،‬وأأن رسول الله صادقا فيما جاء به وأيؤمن بما جاء به القرآن من غير بحث وأل‬
‫تنقير‪ ،‬وأيصرفا زمنه في التقوى‪ ،‬وأأداء الطاعات‪ ،‬فمتى خاض في المذاهب وأرام ما ل‬
‫يصل إلى معرفته‪ ،‬هلك‬

‫خامس وأعشروأن كتاب الغروأر وأأقسامه وأدرجاته‬

‫وأمن الناس من غرته الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬النقد خير من النسيئة‪ ،‬وأالدنيا نقد‪ ،‬وأالخرة نسيئة‪،‬‬
‫وأهذا محل التلبيس‪ ،‬فإن النقد ل يكون خيرا ً من النسيئة‪ ،‬إل إذا كان مثل النسيئة‪ ،‬وأمعلوم‬
‫أن عمر النسان بالضافة إلى مدة الخرة ليس بجزء من ألف جزء إلى أن ينقطع النفس‪،‬‬
‫وأإنما أراد من قال‪ :‬النقد خير من النسيئة‪ ،‬إذا كانت النسيئة مثل النقد‪ ،‬وأهذا غروأر الكفار‬
‫‪.‬فأما ملبسو المعاصي مع سلمة عقائدهم‪ ،‬فإنهم قد شاركوا الكفار في هذا الغروأر‪،‬‬
‫لنهم آثروأا الدنيا على الخرة‪ ،‬إل أن أمرهم أسهل من أمر الكفار‪ ،‬من جهة أن أصل‬
‫اليمان يمنعهم من عقاب البد‪.‬وأمن العصاة من يغتر‪ ،‬فيقول‪ :‬إن الله كريم‪ ،‬وأإنما نتكل‬
‫على عفوه‪ ،‬وأربما اغتروأا بصلح آبائهم‪.‬وأقد قال العلماء‪ :‬من رجا شيئا ً طلبه‪ ،‬وأمن خافا‬
‫شيئا ً هرب منه‪ ،‬وأمن رجا الغفران مع الصرار‪ ،‬فهو مغروأر‪.‬وأليعلم أن الله تعالى مع سعة‬
‫رحمته شديد العقاب‪ ،‬وأقد قضى بتخليد الكفار في النار‪ ،‬مع أنه ل يضره كفرهم‪ ،‬وأقد‬
‫سلط المراض وأالمحن على خلق من عباده في الدنيا‪ ،‬وأهو سبحانه قادر على إزالتها‪ ،‬ثم‬
‫خوفنا من عقابه‪ ،‬فكيف ل نخافا؟‏!‏ فالخوفا وأالرجاء سائقان يبعثان على العمل‪ ،‬وأما ل‬
‫يبعث على العمل فهو غروأر‪ .‬يوضح هذا أن رجاء أكثر الخلق يحملهم على البطالة‪ ،‬وأإيثار‬
‫المعاصي‪.‬وأالعجب أن القرن الوأل عملوا وأخافوا‪ ،‬ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير‬
‫وأاطمأنوا‪ ،‬أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرفا النبياء وأالصالحون‪.‬وألو كان هذا‬
‫المر يدرك بالمنى‪ ،‬فلم تعب أوألئك وأكثر بكاؤهم؟‏!‏ وأهل ذم أهل الكتاب بقوله‪} :‬يأخذوأن‬
‫عرض هذا الدنى وأيقولون سيغفر لنا{ ]‏العرافا‪[169:‬‏‪ ،‬إل لمثل هذا الحال؟‏!‏وأأما من اغتر‬
‫بصلح آبائه‪ ،‬فهل يذكر قصة نوح عليه السلم مع ابنه‪ ،‬وأإبراهيم عليه السلم مع أبيه‪،‬‬
‫وأمحمد مع عمه صلى الله عليه وأآله وأسلم وأعلى سائر النبيين‪.‬وأيقرب من هذا الغروأر‪،‬‬
‫غروأر أقوام لهم طاعات وأمعاصي‪ ،‬إل أن معاصيهم أكثر‪ ،‬وأهم يظنون أن حسناتهم ترجح‪،‬‬
‫فترى الواحد منهم يتصدقا بدرهم وأيكون قد تناوأل من الغصب أضعافا ذلك‪ ،‬وألعل الذي‬
‫تصدقا به من المغصوب‪ ،‬وأيتكل على تلك الصدقة‪ ،‬وأما هو إل كمن وأضع درهما في كفه‬
‫وأألف ا ً في أخرى‪ ،‬ثم رجا أن يرجح الدرهم بآلفا‪.‬وأمنهم من يظن أن طاعاته أكثر من‬
‫معاصيه‪ ،‬وأسبب ذلك أنه يحفظ عدد حسناته‪ ،‬وأل يحاسب نفسه على سيئاته‪ ،‬وأل يتفقد‬
‫ذنوبه‪ ،‬كالذي يستغفر الله وأيسبحه مائة مرة في اليوم ثم يظل طول النهار يغتاب‬
‫المسلمين‪ ،‬وأيتكلم بما ل ُيرضى‪ ،‬فهو ينظر في فضائل التسبيح وأالستغفار‪ ،‬وأل ينظر في‬
‫عقوبة الغيبة وأالكلم المنهي عنه‪.‬‬

‫‪1‬ـ فصل ]‏الغترار وأاقع بالعلماء وأالعباد[‏‬

‫وأيقع الغترار في الغلب في حق أربعة أصنافا‪:‬العلماء‪ ،‬وأالعباد‪ ،‬وأالمتصوفة‪ ،‬وأالغنياء‪.‬‬

‫الصنف الوأل‪ :‬العلماء فأما أهل العلم ‪ ،‬فالمغتروأن منهم فرقا أحكموا العلوم الشرعية‬
‫وأالعقلية‪ ،‬وأأهملوا تفقد الجوارح وأحفظها عن المعاصي‪ ،‬وأإلزامهم الطاعات‪ ،‬وأاغتروأا‬
‫بعلمهم‪ ،‬وأظنوا أنهم من الله بمكان‪ ،‬وألو نظر هؤلء بعين البصيرة‪ ،‬علموا أن علم‬
‫المعاملة ل يراد به إل العمل‪ ،‬وألول العمل لم يكن له قدر‪ .‬قال الله تعالى‪} :‬قد أفلح من‬
‫زكاها{ ]‏الشمس‪[9:‬‏ وألم يقل‪ :‬قد أفلح من تعلم كيف يزكيها‪ ،‬فإن تل عليه الشيطان‬
‫فضائل أهل العلم‪ ،‬فليذكر ما وأرد في العالم الفاجر‪ ،‬كقوله تعالى‪} :‬فمثله كمثل الكلب إن‬
‫تحمل عليه يلهث أوأ تتركه يلهث{ ]‏العرافا‪[176 :‬‏‪ ،‬وأ}كمثل الحمار يحمل أسفارا ً{ ]‏الجمعة‪:‬‬
‫‪[5‬‏‪.‬وأمنهم فرقة أخرى أحكموا العلم وأالعمل الظاهر‪ ،‬وألم يتفقدوأا قلوبهم ليمحوا الصفات‬
‫المذمومة منها‪ ،‬كالكبر وأالحسد وأالرياء‪ ،‬وأطلب العلو‪ ،‬وأطلب الشهوة‪ ،‬فهؤلء زينوا‬
‫ظاهرهم‪ ،‬وأأهملوا بواطنهم‪ ،‬وأنسوا قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم‪" :‬إن الله ل ينظر إلى‬
‫صوركم وأأموالكم‪ ،‬وأإنما ينظر إلى قلوبكم وأأعمالكم"‪.‬فتعاهدوأا العمال‪ ،‬وألم يتعاهدوأا‬
‫القلوب‪ ،‬وأالقلب هو الصل‪ ،‬إذ ل ينجو إل من أتى الله بقلب سليم‪.‬وأمثال هؤلء كمثل رجل‬
‫زرع زرعًا‪ ،‬فنبت معه حشيش يفسده‪ ،‬فامر بقلعه‪ ،‬أخذ يجز رؤوأسه وأأطرافه وأيترك‬
‫أصوله‪ ،‬فلم تزل أصوله تقوى‪.‬وأفرقة علموا أن هذه الخلقا الباطنة مذمومة‪ ،‬إل أنهم‬
‫بعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها‪ ،‬وأأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك‪،‬‬
‫وأإنما يبتلى بذلك العوام دوأن من بلغ مبلغهم من العلم‪ ،‬فإذا ظهر عليهم مخايل الكبر‬
‫وأالرياسة‪ .‬قال أحدهم‪ :‬ما هذا بكبر‪ ،‬وأإنما هو طلب عز الدين‪ ،‬وأإظهار شرفا العلم‪،‬‬
‫وأإرغام المبتدعين‪ ،‬فإني لو لبست الدوأن من الثياب‪ ،‬وأجلست في الدوأن من المجالس‪،‬‬
‫شمتت بى أعداء الدين‪ ،‬وأفرحوا بذلى‪ ،‬وأفى ذلي ذل السلم‪ ،‬وأينسى الغروأر‪ ،‬وأأن إبليس‬
‫هو الذي سول له هذا بدليل أن النبى صلى الله عليه وأآله وأسلم وأأصحابه كانوا يتواضعون‬
‫وأيؤثروأن الفقر وأالمسكنة‪.‬وأقد روأينا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما قدم‬
‫الشام عرضت له مخاضة‪ ،‬فنزل عن بعيره‪ ،‬وأنزع خفيه وأأمسكهما‪ ،‬وأخاض الماء‪ ،‬وأمعه‬
‫بعيره‪ ،‬فقال له أبو عبيدة‪ :‬لقد صنعت اليوم صنعا ً عظيما ً عند أهل الرض‪ ،‬فصك فى‬
‫صدره وأقال‪ :‬أوأه لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة‪.‬إنكم كنتم أذل وأأحقر الناس‪ ،‬فأعزكم‬
‫الله برسوله‪ ،‬فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله ‪ .‬وأفى روأاية عنه‪ :‬لما قدم الشام‪،‬‬
‫استقبله الناس وأهو على بعيره‪ .‬قيل له‪ :‬لو ركبت برذوأنا ً تلقى به عظماء الناس‬
‫وأوأجوههم؟‏ فقال عمر رضى الله عنه‪ :‬ل أراكم هاهنا‪ ،‬إنما المر من هاهنا ‪-‬وأأشار بيده إلى‬
‫السماء‪ -‬خلوا سبيل جملي‪.‬ثم العجب من مغروأر يطلب عز الدنيا بالثياب الرفيعة‪،‬‬
‫وأالخيول الفارهة وأنحو ذلك‪ ،‬وأإذا خطر له خاطر الرياء قال‪ :‬إنما غرضي بهذا إظهار العلم‬
‫وأالعمل‪ ،‬لقتداء الناس بى ليهتدوأا إلى الدين‪ ،‬وألو كان هذا قصده لفرح باقتداء الناس‬
‫بغيره كما يفرح باقتدائهم به‪ ،‬لن من كان قصده صلح الخلق يفرح بصلحهم على يد من‬
‫كان‪ ،‬وأكذلك من يدخل منهم على سلطان‪ ،‬وأيتودد إليه‪ ،‬وأيثنى عليه‪ ،‬وأيتواضع له وأيقول‪:‬‬
‫إنما غرضي بهذا أن أشفع فى مسلم عنه الضرر‪ ،‬وأالله يعلم أنه لو أظهره لبعض أقرانه‬
‫قبول عند السلطان لثقل عليه ذلك‪.‬وأقد ينتهي غروأر بعضهم أنه يأخذ من مالهم الحرام‬
‫وأيقول‪ :‬هذا مال ل ملك له‪ ،‬وأهو لمصالح المسلمين‪ ،‬وأأنت إمام من أئمتهم‪ ،‬فيغير بهذا‬
‫التلبيس من جهة نظره إلى نفسه‪ .‬وأربما كان دجال ً من الدجالين من جهة قوله‪ :‬هذا مال‬
‫ل ملك له‪ .‬وأغاية المر وأقوع الختلط فى الموال‪ ،‬وأذلك ل يمنع كونهما حرامًا‪ ،‬وأقد يكون‬
‫عالما ً بمن أخذ منه المال وأفرقة أخرى أحكموا العلم‪ ،‬وأطهروأا جوارحهم وأزينوها‬
‫بالطاعات‪ ،‬وأتفقدوأا قلوبهم بتصفيتها من الرياء وأالحسد وأالكبر وأنحو ذلك‪ ،‬وألكن بقيت فى‬
‫زوأايا القلب خفايا من مكائد الشيطان وأخدع النفس لم يفطنوا لها وأأهملوها‪ ،‬فترى‬
‫أحدهم يسهر ليله وأينصب )‪(1‬‏‏ نهاره فى جمع العلوم وأترتيبها وأتحسين ألفاظها‪ ،‬وأيرى أن‬
‫باعثه على ذلك الحرص على إظهار دين الله تعالى‪ ،‬وأربما كان الباعث لذلك طلب الذكر‬
‫وأانتشار الصيت‪ ،‬وألعله ل يخلو فى تصنيفه من الثناء على نفسه‪ ،‬إما صريحا ً بالدعاوأى‬
‫الطويلة العريضة‪ ،‬وأإما ضمنا ً بالطعن فى غيره ليبين فى طعنه فى غيره أنه أفضل من‬
‫ذلك الغير‪ ،‬وأأعظم منه علمًا‪ .‬فهذا وأأمثاله من خفايا العيوب التي ل يفطن لها إل الكياس‬
‫القوياء‪ ،‬وأل مطمع فيه لمثالنا من الضعفاء‪ ،‬إل أن أقل الدرجات أن يعرفا النسان عيوب‬
‫نفسه‪ ،‬وأيحرص على صلحها‪.‬‬

‫وأمن سرته حسنته وأساءته سيئته‪ ،‬فهو مرجو أمره‪ ،‬بخلفا من يزكى نفسه وأيظن أنه من‬
‫خيار الخلق‪ .‬فهذا غروأر الذين حصلوا العلوم المهمة‪ ،‬فكيف بالذين قنعوا من العلوم بما ل‬
‫يهمهم وأتركوا المهم‪.‬فمنهم من اقتصر على علم الفتاوأى فى الحكومات وأالخصومات‬
‫وأتفاصيل المعاملت الدنيوية الجارية بين الخلق لصلح المعايش‪ ،‬وأربما ضيعوا العمال‬
‫الظاهرة وأارتكبوا بعض المعاصي من الغيبة وأالنظر إلى ما ل يحل‪ ،‬وأالمشى إلى ما ل‬
‫يجوز‪ ،‬وألم يحرسوا قلوبهم عن الكبر وأالحسد وأالرياء وأجميع المهلكات‪ ،‬فهؤلء مغروأروأن‬
‫من وأجهين‪ :‬أحدهما من حيث العمل‪ ،‬وأالخر من حيث العلم‪.‬وأمثالهم مثال المريض إذا‬
‫تعلم نسخة الدوأاء وأاشتغل بتكراره وأتعليمه‪ ،‬ل بل مثلهم مثل من به علة البرسام وأهو‬
‫مشرفا على الهلك‪ ،‬فاشتغل بتعلم دوأاء الستحاضة‪ ،‬وأجعل يكرر ذلك‪ ،‬وأذلك غاية الغروأر‬
‫‪.‬وأسبب غروأره ما سمع فى النقل من تعظيم الفقه‪ ،‬وألم يدر أن الفقه هو الفقه عن الله‬
‫تعالى‪ ،‬وأمعرفة صفاته المخوفة وأالمرجوة‪ ،‬ليستشعر القلب الخوفا وأيلزم التقوى‪.‬وأقد‬
‫قال الله تعالى‪} :‬فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين{ الية ]‏التوبة‪[122:‬‏‪.‬‬
‫وأالذي يحصل له النذار غير هذا العلم‪ ،‬فان مقصود هذا العلم حفظ الموال بشروأط‬

‫المعاملت‪ ،‬وأحفظ البدان بالموال‪ ،‬وأدفع القتل وأالجراحات وأالمال فى طريق الله تعالى‬
‫آلة‪ ،‬وأالبدن مركب‪.‬وأإنما العلم المهم معرفة سلوك الطريق‪ ،‬وأقطع عقابات القلب التي‬
‫هي من الصفات المذمومة‪ ،‬فهي الحجاب بين العبد وأبين الله تعالى‪.‬وأمثال من اقتصر‬
‫على ذلك‪ ،‬كمثل من اقتصر فى سلوك الحج على علم خرز الراوأية وأالخف‪ ،‬وأل شك أنه‬
‫لبد من ذلك‪ :‬وألكن ليس من الحج فى شئ‪.‬وأمن هؤلء من اقتصر على علم الخلفا‪ ،‬وألم‬
‫يهمه إل طريق المجادلة‪ ،‬وأاللزام‪ ،‬وأالفحام‪ ،‬وأدفع الحق لجل الغلبة‪ ،‬فهو أسوأ حال ً ممن‬
‫ذكر قبلهم‪ ،‬وأجميع دقائق الجدل فى الفقه بدعة لم يعرفها السلف‪.‬وأأما أدلة الحكام‪،‬‬
‫فيشتمل عليها علم المذهب‪ ،‬وأهى كتاب الله وأسنة رسوله صلى الله عليه وأآله وأسلم‬
‫‪.‬وأأما حيل الجدل‪ ،‬من الكسر‪ ،‬وأالقلب‪ ،‬وأفساد الوضع وأالتركيب‪ ،‬وأالتعدية فإنما أبدعت‬
‫لظهار الغلبة وأالفحام‪.‬وأفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلم وأالمجادلة فى الهواء‪ ،‬وأالرد‬
‫على المخالفين‪.‬ثم هؤلء طائفتان‪ :‬ضالة‪ ،‬وأمحقة‪ ،‬فالضالة التي تدعو إلى غير السنة‪،‬‬
‫وأالمحقة التي تدعو إلى السنة‪ ،‬وأالغروأر شامل لجميعهم‪.‬أما الضالة‪ ،‬فاغترارها ظاهر‪ ،‬وأأما‬
‫المحقة فاغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدال أهم المور‪ ،‬وأأفضل القربات فى دين‬
‫الله تعالى‪ ،‬وأزعمت أنه ل يتم ل حد دينه ما لم يبحث‪ ،‬وأأن من صدقا الله وأرسوله من غير‬
‫تحرير دليل‪ ،‬فليس بكامل اليمان‪ ،‬فلهذا الظن الفاسد قطعوا أعمارهم فى تعلم الجدل‬
‫وأالبحث عن المقالت‪ ،‬وأعميت بصائرهم‪ ،‬فلم يلتفتوا إلى القرن الوأل‪ ،‬وأأن النبى صلى‬
‫الله عليه وأآله وأسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق‪ ،‬وأأنهم قد أدركوا كثيرا ً من البدع وأالهوى‪،‬‬
‫فلم يجعلوا أعمارهم وأدينهم عرضا ً للخصومات وأالمجادلت‪ ،‬وألم يشتغلوا بذلك عن تفقد‬
‫قلوبهم وأجوارحهم‪ ،‬بل لم يتكلموا فيه إل لضروأرة رد الضلل‪ ،‬فان رأوأه مصرا ً على بدعته‬
‫هجروأه من غير مماراة وأل جدل‪.‬وأقد روأى فى الحديث‪" :‬ما ضل قوم بعد هدى إل أوأتوا‬
‫الجدل"وأفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ‪ ،‬وأأعلهم رتبة من يتكلم فى أخلقا النفس وأصفات‬
‫القلب‪ ،‬من الخوفا وأالرجاء وأالصبر وأالشكر وأالتوكل وأالزهد وأاليقين وأالخلص‪ ،‬وأهم‬
‫يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات وأهم منفكون عنها أنهم من أهلها‪ ،‬فهؤلء يدعون إلى‬
‫الله وأهم هاربون منه‪ ،‬فهم أعظم الناس غرة‪.‬وأمن هؤلء من يعدل عن المنهاج الواجب‬
‫فى الوعظ إلى الشطح وأتلفيق كلم خارج عن قانون الشرع وأالعقل طلبا ً للغراب وأمنهم‬
‫من يستشهد بأشعار الوصال وأالفراقا‪ ،‬وأغرضهم أن يكثر الصياح مجالسهم وأالتواجد‪ ،‬وألو‬
‫على أغراض فاسدة‪ ،‬فهؤلء شياطين النس‪.‬وأمنهم فرقة استغرقوا أوأقاتهم فى سماع‬
‫الحديث‪ ،‬وأجمع روأاياته‪ ،‬وأأسانيده الغريبة وأالعالية‪ ،‬فهم أحدهم أن يدوأر البلد‪ ،‬وأيرى‬
‫الشيوخ ليقول‪ :‬أنا أروأى عن فلن‪ ،‬وألقيت فلنًا‪ ،‬وألى من السناد ما ليس لغيري‪.‬وأمنهم‬
‫فرقة اشتغلوا بعلم النحو وأاللغة وأالشعر‪ ،‬وأزعموا أنهم علماء المة‪ ،‬وأأذهبوا أعمارهم فى‬
‫دقائق النحو وأاللغة‪ ،‬وألو عقلوا لعلموا أن مضيع عمره فى معرفة لغة العرب كالمضيع‬
‫عمره فى معرفة لغة الترك‪ ،‬وأإنما فارقتها لغة العرب لجل وأروأد الشريعة بها‪ ،‬فيكفى من‬
‫اللغة على الغريبين‪ :‬غريب القرآن‪ ،‬وأالحديث‪ ،‬وأمن النحو ما يقوم به اللسان‪.‬فأما التعمق‬
‫إلى درجات ل تتناهى‪ ،‬فذلك يشغل عما هو أجود منه وأألزم‪.‬وأمثال التعمق فى ذلك‪ ،‬مثال‬
‫من ضيع عمره فى تصحيح مخارج الحروأفا فى القرآن‪ ،‬مقتصرا ً على ذلك‪ ،‬وأذلك غروأر‪،‬‬
‫لن المقصود من الحروأفا المعاني‪ ،‬وأإنما الحروأفا ظروأفا وأأدوأات‪ ،‬وأمن احتاج إلى شرب‬
‫السكنجبين لزالة الصفراء‪ ،‬فضيع عمره فى تحسين القدح الذي يشرب فيه‪ ،‬فهو مغروأر‪،‬‬
‫وأالسعيد من أخذ من كل شئ من هذا حاجته المهمة ل غير‪ ،‬وأتجاوأز إلى العمل‪ ،‬وأاجتهد‬
‫فيه وأفى تصفيته من الشوائب‪ ،‬فهذا هو المقصود‪.‬وأفرقة أخرى عظم غروأرهم‪ ،‬فوضعوا‬
‫الحيل فى دفع الحقوقا‪ ،‬وأظنوا أن ذلك ينفعهم‪ ،‬بل ذلك غروأر‪ ،‬فان النسان إذا ألجأ زوأجته‬
‫إلى أن تبرئه من حقها لم يبرأ فيما بينه وأبين الله تعالى‪.‬وأكذلك هبة الرجل مال الزكاة‬
‫فى آخر الحول لزوأجته‪ ،‬وأاتهابه مالها لسقاط الزكاة‪ ،‬وأنحو ذلك من أنواع الحيل‪.‬‬

‫الصنف الثاني‪ :‬أرباب التعبد وأالعمل‪ ،‬وأهم فرقا‪:‬فرقة أهملوا الفرائض وأاشتغلوا‬
‫بالنوافل الفضائل‪ ،‬وأربما تعمقوا فى استعمال الماء حتى خرجوا إلى الوسوسة فى‬
‫الوضوء‪ ،‬فترى أحدهم ل يرضى بالماء المحكوم له بالطهارة شرعًا‪ ،‬بل يقدر الحتمالت‬
‫البعيدة فى التنجس‪ ،‬وأل يقدر ذلك فى مطعمه‪ ،‬فلو انقلب هذا الحتياط من الماء إلى‬
‫المطعم‪ ،‬لكان أشبه بسير السلف‪ ،‬فإن عمر رضى الله عنه توضأ من جرة نصرانية مع‬
‫ظهور احتمال النجاسة‪ ،‬وأكان مع هذا يدع أنواعا ً من الحلل خوفا ً من الوقوع في‬
‫الحرام‪ .‬وأقد صح أن النبي صلى الله عليه وأآله وأسلم توضأ من مزادة مشركة )‪(2‬‏‏ ‪.‬ثم‬
‫منهم من يخرج إلى السرافا في الماء‪ ،‬وأيطول به المر‪ ،‬حتى تضيع الصلة وأيخرج وأقتها‬
‫‪.‬وأمنهم من غلبت عليه الوسوسة فى تكبيرة الحرام فى الصلة‪ ،‬حتى ربما فاتته ركعة مع‬
‫المام‪.‬‬

‫وأمنهم من يتوسوس فى إخراج حروأفا الفاتحة وأسائر الذكار من مخارجها‪ ،‬فل يزال‬
‫يحتاط فى التشديدات‪ ،‬وأالفرقا بين الضاد وأالظاء فوقا الحاجة‪ ،‬وأنحو ذلك‪ ،‬بحيث يهتم‬
‫بذلك حتى ل يتفكر فيما سواه‪ ،‬وأيذهل عن معنى القرآن وأالتعاظ به‪ ،‬وأهذا من ٌأقبح أنواع‬
‫الغروأر فان الخلق لم يتكلفوا من تحقيق مخارج الحروأفا فى تلوأة القرآن إل بما جرت به‬
‫العادة فى الكلم‪.‬وأمثال هؤلء مثال من حمل رسالة إلى سلطان‪ ،‬فأخذ يؤدى الرسالة‬
‫بالتأنق فى مخارج الحروأفا وأتكراره‪ ،‬وأهو غافل عن مقصود الرسالة وأمراعاة حرمة‬
‫المجلس‪ ،‬فما أحراه بالطرد وأالتأديب‪.‬وأفرقة أخرى اغتروأا بقراءة القرآن‪ ،‬فهم يهذوأنه‬
‫هذ ًا‪ ،‬وأربما ختموا فى اليوم مرتين‪ ،‬فلسان أحدهم يجرى به وأقلبه يتردد فى أوأدية المانى‪،‬‬
‫وأل يتفكر فى معاني القرآن وأل يتعظ بمواعظه‪ ،‬وأل يقف عند أوأامره وأنواهيه‪ ،‬فهذا مغروأر‬
‫يظن أن المقصود من القرآن التلوأة فقط‪.‬وأمثال ذلك‪ ،‬مثال عبد كتب إليه موله كتابا ً‬
‫يأمره فيه وأينهاه‪ ،‬فلم يصرفا عنايته إلى فهمه وأالعمل به‪ ،‬بل اقتصر على حفظه‬
‫وأتكراره‪ ،‬ظانا ً أن ذلك هو المراد منه‪ ،‬مع مخالفته أمر موله وأنهيه‪.‬وأمنهم من يلتذ بصوته‬
‫بالقرآن‪ ،‬معرضا ً عن معانيه‪ ،‬فينبغي أن يتفقد قلبه فيعرفا هل التذاذه بالنظم‪ ،‬أوأ‬
‫بالصوت‪ ،‬وأ بالمعاني‪.‬‬

‫وأفرقة أخرى اغتروأا بالصوم وأأكثروأا منه‪ ،‬وأهم ل يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وأالفضول‪،‬‬
‫وأل بطونهم من الحرام عند الفطار‪ ،‬وأل خواطرهم عن الرياء‪.‬وأمنهم من اغتر بالحج‪،‬‬
‫فيخرج إليه من غير خروأج عن المظالم‪ ،‬وأقضاء الديون‪ ،‬وأاسترضاء الوالدين‪ ،‬وأطلب الزاد‬
‫الحلل‪ ،‬وأقد يفعلون ذلك بعد سقوط فرض الحج‪ ،‬وأيضيعون فى الطريق العبادة‬
‫وأالفرائض وأيعجزوأن عن طهارة الثوب وأالبدن‪ ،‬وأل يحترزوأن من الرفث وأالخصام‪ ،‬وأهم مع‬
‫ذلك يظنون انهم على خير وأهم مغروأروأن‪ .‬وأفرقة أخرى أخذوأا فى المر بالمعروأفا‬
‫وأالنهى عن المنكر‪ ،‬وأنسوا أنفسهم‪.‬وأمنهم من يؤم فى مسجد‪ ،‬وألو تقدم عليه أوأرع منه‬
‫وأأعلم‪ ،‬ثقل عليه‪.‬وأمنهم من يؤذن وأيظن أن ذلك لله‪ ،‬وألو أذن غيره فى غيبته‪ ،‬أشتد عليه‬
‫ذلك وأقال‪ :‬قد زاحمني فى مرتبتي‪.‬وأمنهم من يجاوأر بمكة أوأ المدينة وأقلبه متعلق ببلده‪،‬‬
‫وأقول الناس‪ :‬فلن مجاوأر بمكة أوأ المدينة‪ ،‬ثم إنه يجاوأر وأيطمع فى أوأساخ الناس‪ ،‬وأقد‬
‫يجمع ذلك وأيشح به وأيجتمع له جملة من المهلكات‪ .‬وأما من عمل إل وأفيه آفات‪ ،‬فمن لم‬
‫يعرفها وأقع فيها‪ ،‬وأمن أراد أن يعرفها‪ ،‬فلينظر فى كتابنا هذا‪ ،‬فينظر فى آفات الرياء‬
‫الحاصل فى العبادات من الصوم وأالصلة وأفى جميع القربات فى البواب المرتبة فى هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وأإنما الغرض الن الشارة إلى مجامع ما سبق‪.‬‬

‫وأفرقة أخرى زهدت فى المال‪ ،‬وأقنعت بالدوأن من اللباس وأالطعام‪ ،‬وأقنعت من المسكن‬
‫بالمساجد‪ ،‬فظنت أنها أدركت رتبة الزهاد‪ ،‬وأهم مع هذا شديدوأ الرغبة فى الرياسة وأالجاه‪،‬‬
‫فقد تركوا أهون المرين وأباؤوأا بأعظم المهلكين‪.‬وأفرقا أخرى حرصت على النوافل‪ ،‬وألم‬
‫تعتن بالفرائض‪ ،‬فترى أحدهم يفرح بصلة الضحى وأصلة الليل‪ ،‬وأل يجد للفريضة لذة‪ .‬وأل‬
‫يحرص على المبادرة إليها فى أوأل الوقت‪ ،‬وأينسى قوله صلى الله عليه وأآله وأسلم فيما‬
‫يروأيه عن ربه عز وأجل‪" :‬ما تقرب المتقربون إل بمثل أداء ما افترضت عليهم"‬

‫الصنف الثالث‪ :‬المتصوفة‬

‫وأالمغروأروأن منهم فرقا‪:‬‬

‫فرقة منهم اغتروأا بالزي وأالنطق وأالهيئة‪ ،‬فتشبهوا بالصادقين من الصوفية بالظاهر‪ ،‬وألم‬
‫يتعبوا أنفسهم فى المجاهدة وأالرياضة‪ ،‬ثم هم يتكالبون على الحرام وأالشبهات وأأموال‬
‫السلطين وأيمزقا بعضهم أعراض بعض إذا اختلفوا فى غرض‪ ،‬وأهؤلء غروأرهم ظاهر‬
‫‪.‬وأمثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان وأالبطال من المقاتلين تثبت أسماؤهم فى‬
‫الديوان‪ ،‬وأيقطع كل وأاحد منهم قطرا ً من أقطار الرض‪ ،‬فاشتاقت نفسها إلى ذلك‪،‬‬
‫فلبست درعا ً وأوأضعت على رأسها مغفرًا‪ ،‬وأتعلمت من رجز البطال أبياتًا‪ ،‬وأتعلمت زيهم‬
‫وأجمع شمائلهم‪ ،‬ثم توجهت إلى العسكر‪ ،‬فكتب اسمها فى ديوان الشجعان‪ ،‬فلما حضرت‬
‫فى ديوان العرض‪ ،‬أمرت بتجريد المغفر وأالدرع لينظر ما تحته وأتمتحن بالمبارزة‪ ،‬فلما‬
‫جردت إذا هي عجوز ضعيفة زمنة‪ ،‬فقيل لها‪ :‬جئت تستهزئين بالملك وأأهل حضرته‪ ،‬خذوأها‬
‫وأألقوها بين أيدي الفيل‪ ،‬فألقيت إليه‪.‬فهكذا يكون حال المدعين التصوفا فى القيامة إذا‬
‫كشف عنهم الغطاء‪ ،‬وأعرضوا على الحاكم الكبر الذي ينظر إلى القلب ل إلى المرقعات‬
‫وأالزي‪.‬وأفرقة أخرى ادعت علم المعرفة‪ ،‬وأمشاهدة الحق‪ ،‬وأمجاوأرة المقامات وأالحوال‪،‬‬
‫وأالوصول إلى القرب‪ ،‬وأل يعرفون من تلك المور إل السماء‪ ،‬فترى أحدهم يرددها وأيظن‬
‫أن ذلك أعلى من علم الوألين وأالخرين‪ ،‬فهو ينظر إلى الفقهاء وأالمحدثين وأأصنافا‬
‫العلماء بعين الزدراء‪ ،‬فضل ً عن العوام‪ ،‬حتى إن بعض العامة يلزمهم اليام الكثيرة‪،‬‬
‫وأيتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة‪ ،‬وأيرددها كأنه يتكلم عن الوحى‪ ،‬وأيحتقر فى ذلك‬
‫جميع العلماء وأالعباد‪ ،‬وأيقول‪ :‬إنهم محجوبون عن الله‪ ،‬وأإنه هو الواصل إلى الحق‪ ،‬وأإنه‬
‫من المقربين‪ ،‬وأهو عند الله من الفجار المنافقين‪ ،‬وأعند أرباب القلوب من الحمقى‬
‫الجاهلين‪ ،‬لم يحكم علما ً وألم يهذب خلقًا‪ ،‬وألم يراقب قلبا ً سوى اتباع الهوى وأحفظ‬
‫الهذيان‪.‬وأفرقة منهم طووأا بساط الشرع‪ ،‬وأرفضوا الحكام‪ ،‬وأسووأا بين الحلل وأالحرام‪،‬‬
‫وأبعضهم يقول‪ :‬إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي؟‏وأبعضهم يقول‪ :‬ل قدر‬
‫للعمال بالجوارح‪ ،‬وأإنما النظر إلى القلوب‪ ،‬وأقلوبنا وأالهة بحب الله تعالى‪ ،‬وأوأاصلة إلى‬
‫معرفته‪ ،‬وأإنما نخوض فى الدنيا بأبداننا‪ ،‬وأقلوبنا عاكفة فى الحضرة الربانية‪ ،‬فنحن مع‬
‫الشهوات بالظواهر ل بالقلوب‪ ،‬وأيزعمون انهم قد تراقوا عن رتبة العوام‪ ،‬وأاستغنوا عن‬
‫تهذيب النفس بالعمال البدنية‪ ،‬وأأن الشهوات ل تصدهم عن طريق الله تعالى لقوتهم‬
‫فيها‪ ،‬وأيرفعون أنفسهم عن درجة النبياء‪ ،‬لن النبياء عليهم السلم كانوا يبكون على‬
‫خطيئة وأاحدة سنين‪.‬‬

‫وأأصنافا غروأر أهل الباحة ل تحصى‪ ،‬وأكل ذلك أغاليط وأوأساوأس‪ ،‬خدعهم الشيطان بها‪،‬‬
‫لشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم‪ ،‬من غير اقتداء بشيخ صاحب علم وأدين صالح‬
‫للقتداء به‪.‬وأمنهم فرقة أخرى جاوأزوأا هذه الطريق‪ ،‬وأاشتغلوا بالمجاهدة‪ ،‬وأابتدؤوأا بسلوك‬
‫الطريق وأانفتح لهم باب المعرفة‪ ،‬فلما استنشقوا مبادئ ريح المعرفة‪ ،‬تعجبوا منها‬
‫وأفرحوا بها وأأعجبهم غريبها‪ ،‬فتقيدت قلوبهم باللتفات إليها وأالتفكر فيها‪ ،‬وأكيفية انفتاح‬
‫بابها عليهم وأانسداده عن غيرهم‪ ،‬وأكل ذلك غروأر‪ ،‬لن عجائب طريق الله سبحانه وأتعالى‬
‫ليس لها نهاية‪ .‬وألو وأقف مع كل أعجوبة وأتقيد بها‪ ،‬قصرت خطاه وأجره الوصل إلى‬
‫القصد‪ ،‬وأكان مثاله مثال من قصد ملكًا‪ ،‬فرأى على بابه روأضة فيها أزهار لم يكن رأى‬
‫مثلها‪ ،‬فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك‪.‬‬

‫الصنف الرابع‪ :‬أرباب الموال‪:‬‬

‫وأهم فرقا‪:‬‬

‫ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد وأالمدارس وأالرباطات وأالقناطر وأما يظهر‬
‫للناس وأيكتبون أسماءهم عليها ليتخلد ذكرهم‪ ،‬وأيبقى بعد الموت أثرهم‪ ،‬وألو كلف أحدهم‬
‫أن ينفق دينار ا ً وأل يكتب اسمه فى الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه‪ ،‬وألول أنه يريد‬
‫وأجه الناس ل وأجه الله ‪ ،‬لما شق عليه ذلك‪ ،‬فإن الله يطلع عليه‪ ،‬سواء كتب اسمه أوأ لم‬
‫يكتبه‪.‬بعضهم يصرفا المال فى زخرفة المساجد‪ ،‬وأتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها‬
‫وأشاغلة للمصلين‪ ،‬فإن المقصود من الصلة الخشوع وأحضور القلب‪ ،‬وأذلك يفسد قلوب‬
‫المصلين‪.‬فأما إن كان المال الذي صرفه فى ذلك حرامًا‪ ،‬كان أشد فى الغروأر‪.‬قال مالك‬
‫بن دينار رحمه الله‪ :‬أتى رجل مسجدًا‪ ،‬فوقف على الباب وأقال‪ ،‬مثلى ل يدخل بيت الله‪،‬‬
‫فكتب فى مكانه صديقًا‪.‬فبهذا ينبغي أن تعظم المساجد‪ ،‬وأهو أن يرى تلويث المسجد‬
‫بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد‪ ،‬ل أن يرى تلويث المسجد بالحرام‪ ،‬أوأ بزخرفا‬
‫الدنيا منه على الله تعالى‪ ،‬فغروأر هذا من حيث أنه يرى المنكر معروأفًا‪.‬وأفرقة أخرى‬
‫يحفظون الموال وأيمسكونها بخلً‪ ،‬ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي ل تحتاج إلى نفقة‬
‫المال‪ ،‬كالصيام وأالصلة وأختم القرآن‪ ،‬وأهم مغروأروأن لن البخل مهلك‪ ،‬وأقد استولى على‬
‫قلوبهم‪،‬‬

‫فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال‪ ،‬فقد اشتغلوا عنه بفضائل ل تجب عليهم‪.‬وأمثالهم‬
‫مثال من دخلت فى ثوبه حية‪ ،‬فاشتغل عنها بطبخ السكنجبين لتسكن به الصفراء وأمنهم‬
‫من ل تسمح نفسه إل بأداء الزكاة فقط‪ ،‬فيخرج الرديء من المال‪ ،‬أوأ يعطى من الفقراء‬
‫من يخدمه‪ ،‬وأيتردد فى حاجاته‪ ،‬أوأ من يحتاج إليه فى المستقبل أوأ من له فيه غرض‬
‫‪.‬وأمنهم من يسلم من ذلك إلى بعض الكابر ليفرقه‪ ،‬لينال بذلك عنده منزلة وأيقوم‬
‫ً‬
‫بحوائجه‪ ،‬وأكل ذلك مفسد للنية وأصاحبه مغروأر‪ ،‬لنه يطلب بعبادة الله تعالى عوضا عن‬
‫غيره‪.‬وأفرقة أخرى من أرباب الموال وأغيرهم‪ ،‬اغتروأا بحضور مجالس الذكر‪ ،‬وأظنوا أن‬
‫نفس الحضور يغنيهم عن العمل وأالتعاظ‪ ،‬وأليس كذلك‪ ،‬لن مجلس الذكر إنما فضل‬
‫لكونه مرغب ا ً فى الخير‪ ،‬وأكل ما يراد لغيره إذا لم يوصل إلى ذلك الغير فل وأقع له‪ ،‬وأربما‬
‫سمع أحدهم التخويف‪ ،‬فل يزيد على قوله‪ :‬يا سلم سلم‪ ،‬أوأ أعوذ بالله‪ ،‬وأيظن أنه قد أتى‬
‫المقصود‪.‬وأمثال هذا كمثل مريض يحضر عند الطباء فيسمع ما يجرى‪ ،‬أوأ الجائع يحضر‬
‫عند من يصف له الطعمة اللذيذة‪ ،‬ثم ينصرفا فل يغنى ذلك عنه‪ .‬فكذلك سماع وأصف‬
‫الطاعات دوأن العمل بها‪ ،‬فكل وأعظ لم يغير منك صفة تتغير بها أفعالك‪ ،‬فهو حجة عليك‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فما ذكرته من مداخل الغروأر أمر ل يكاد يخلص منه‪.‬فالجواب‪ :‬أن مدار أمر‬
‫الخرة على معنى وأاحد‪ ،‬وأهو تقويم القلب‪ ،‬وأل يعجزعن ذلك إل من لم تصدقا نيته‪ ،‬فإن‬
‫النسان لو اهتم بأمر الخرة كما يهتم بأمر الدنيا لنالها‪ .‬وأقد فعل ذلك السلف الصالح‬
‫‪.‬وأيستعان على التخلص من الغروأر بثلثة أشياء‪.‬‬ ‫وأمن تبعهم بإحسان‬

‫العقل‪ :‬وأهو النور الصلي الذي يدرك به النسان حقائق الشياء‪.‬‬


‫وأالمعرفة‪ :‬التي يعرفا بها النسان نفسه وأربه وأدنياه وأأخرته‪.‬وأفى كتاب المحبة‪ ،‬وأشرح‬
‫عجائب القلب‪ ،‬وأالتفكر‪ ،‬وأكتاب الشكر إشارات إلى وأصف النفس‪ ،‬وأوأصف جلل الله‬
‫سبحانه‪.‬وأيستعين على معرفة الدنيا وأالخرة بما ذكر فى كتاب "ذم الدنيا" وأكتاب "ذكر‬
‫الموت"‪ ،‬فإذا حصلت هذه المعارفا‪ ،‬ثار من القلب بمعرفة الله تعالى حب الله‪ ،‬وأبمعرفة‬
‫الخرة حب شدة الرغبة فيها‪ ،‬وأبمعرفة الدنيا شدة الرغبة عنها‪ ،‬فيصير أهم أموره إليه ما‬
‫يوصله إلى الله تعالى‪ ،‬وأينفعه فى الخرة‪ ،‬وأإذا غلبت هذه الرادة على قلب‪ ،‬صحت نيته‬
‫فى المور كلها‪ ،‬وأاندفع عنه كل غروأر‪.‬فإذا غلب حب الله تعالى على قلبه لمعرفته به‬
‫وأبنفسه‪ ،‬وأاحتاج إلى المر الثالث وأهو العلم‪ ،‬وأنعنى به العلم بكيفية سلوك الطريق إلى‬
‫الله تعالى وأآفاتها‪ ،‬وأالعلم بما يقربه منه وأيهديه‪ ،‬وأجميع ذلك فى كتابنا هذا‪.‬فيعرفا من ربع‬
‫العبادات وأالعادات ما هو محتاج إليه‪ ،‬وأما هو مستغن عنه‪ ،‬وأيتأدب بأدب الشرع‪.‬وأيعرفا‬
‫من ربع المهلكات جميع العقبات المانعة من طريق الله تعالى‪ ،‬وأهى الصفات المذمومة‬
‫فى الخلق‪.‬وأيعرفا من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لبد أن توضح خلفا ً من‬
‫المذمومة بعد محوها‪ ،‬فإذا أحاط بجميع ذلك‪ ،‬أمكنه الحذر من النواع التي أشرنا إليها من‬
‫الغروأر‪ ،‬وأالله أعلم‪.‬‬

‫وأإذا فعل جميع ذلك ينبغي أن يكون خائفا ً أن يخدعه الشيطان‪ ،‬وأيدعوه إلى الرياسة‬
‫وأيخافا عليه أيضا ً من المن من مكر الله تعالى‪.‬وألذلك قيل‪ :‬وأالمخلصون على خطر‬
‫عظيم )‪(3‬‏‏‪.‬وأقال المام احمد رحمه الله للشيطان حين قال له عند الموت‪ :‬فُّتني‪ .‬فقل‪ :‬ل‬
‫‪.‬بعد‪ .‬فل ينبغي أن يفارقا الخوفا قلوب الوألياء أبدًا‪ .‬نسأل الله تعالى السلمة من الغروأر‪،‬‬
‫وأحسن الخاتمة‪ ،‬إنه قريب مجيب‪ .‬آخر الغروأر‪.‬وأبه تم ربع المهلكات‪ ،‬وأنشرع الن فى ربع‬
‫المنجيات‬

You might also like