Professional Documents
Culture Documents
? -إبراهيم الكوين " ،نصوص اخللق " ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ ط ،1بريوت :لبنان ،1999 ،ص 1
.83
( -)انظر رواية " الترب " إلبراهيم الكوين.
( -)انظر رواية " نزيف احلجر " إلبراهيم الكوين.
283
اخلالص ،بتطهر األرض بالطوفان (.)
وهذه " الصحراء الشاسعة " برماهلا الذهبية ،واليت مسحت عنوة بدخول أحدث األسلحة
واآلالت الفتاك ة ،من بندقية وخ راطيش والن دروفر وهيليكوب رت .تك ون فج أة ،مركز ال دنيا
وجنتها األرضية وتكون مبثابة الفردوس املفقود (.)
وتلك " التجمع ات األهلية " ح ول الش اي الص يين األخضر للس مر ،تك ون حلقة لق راءة
أسرار الغيب ،وتفسري اإلشارات آخر الزمان ،وتفسري /للنبوءات (.)
وه ذا " آس وف " ال ذي يهديه " قابيل " علبة التون ة ،ونق ودا ،يك ون حاميا لطوطمه
ومضحيا بروحه ألجله ( .)كذلك هو "أوخيّد" الذي يقبض حفنة الترب يكون يف النهاية
أضحية ألجل طوطمه (.)
هذه الشخصيات واإلشارات والتفاصيل ،ال تنتمي إىل عصر بعينه .حيث عبقرية الكوين
وسر
جعلتها خيطا واصال بني املاضي واحلاضر ،بني الواقع واألسطورة ،بني أسطورة التكوين ّ
الوج ود ،وفلس فة الك وين وأيديولوجيته كمب دع .إذن رواياته تنتمي إىل كل زم ان ومك ان،
فقد كانت األزمنة يف رواياته متداخلة تداخال عجيبا ،غري منطقي لكنه غري خاطئ .! كذلك
املكان هو مكان بعينه لكنه يف اآلن نفسه هو مكان التيه والبدايات األوىل.
وبالت ايل يك ون الك وين قد نقل أح داث املظ اهر األس طورية القدمية إىل عص رنا ال راهن؛
حيث غ ذاها مبض امني جدي دة وذلك هو اخللق األس طوري عن ده .وه ذا ما أكدته الدارسة
( س امية أس عد ) من خالل تق دميها ملعىن اخللق األس طوري " :أثبتت األس طورة أهنا م ادة
متجددة ،يغذيها خيال البشر الذي خلقها مبضامني جديدة ،وتتلون بلون زمان العصر الذي
) -انظر رواية " نزيف احلجر " إلبراهيم الكوين.
- )انظر
284
تبعث في ه ،ومكان ه .واألس طورة إط ار ترسم داخله ه ذه اللوحة أو تل ك ،لكن انطالقا من
اخلط وط العريضة اليت س بق أن رمسها األس الف ،وع ادة ما ترتبط األس طورة باملاض ي .لكن
عصر خيلق أساطريه اليت تضاف إىل الرتاث املوروث " (.)1
هكذا ،أعاد الكوين بعث األساطري القدمية مبظاهرها الثالثة ( أسطورة اخلصب ،وأسطورة
املظهر الطوطمي ،وأسطورة اخللود )؛ وخلق منها أعماال جديدة مبتكرة ،وهنا تكمن مجالية
التضافر السردي واألسطوري عنده حيث ال ميكننا أبدا عزل السردي عن األسطوري ألهنما
يف التح ام وبعث وجتديد منذ البداي ة .وه ذا التض افر مت عن طريق جتلي ات األس طورة داخل
نس يج النص أوال مث مطاوع ات ه ذا التجلي األس طوري داخل ه ذا النس يج .وبالت ايل س وف
نع رض إىل مجالي ات التجلي األس طوري يف رواي ات الك وين وال ذي ّأدى طوعا إىل مجالي ات
التضافر السردي واألسطوري فيها.
أ -جماليات التجلي األسطوري في روايات الكوني:
أتقن الكوين فنون التجلّي كافّة ،فتنوعت تقنياته ،وهذا دليل ال حمالة على براعة الروائي
نص ه ،ليس إقحاما وإمنا توظيفا واعي ا ،سلسا يف اس رتجاع األس طورة القدمية وتوظيفها يف ّ
حنس بذلك .وكأنّه يروي هو ،يف جيعلها تنساب داخل نسيج النص يف تضافر حمكم ،دون أن ّ
مرة.
ح ّد ذاته ،هذه األسطورة ألول ّ
فقد اعتمد الكوين على سبيل املثال ال احلصر ،تقنية " البناء الفين " ،هذه التقنية اليت جتعلنا
والقص ة اجلدي دة احلاض رة بني
ّ نق رأ النص ببع دين يف اآلن نفس ه ،القصة األس طورية القدمية،
أي دينا .ومث ال ذلك كثري يف روايات ه ،منه على س بيل املث ال تلك " اجلنة األرض ية " أو "
جمس دة يف
قص ة بناءها يف ال رتاث األس طوريّ ، الف ردوس املفق ود " ال ذي استحضر لنا الك وين ّ
روايته ( البئر ) جبنته األرضية اليت مساها " أطالنتيدا "؛ ابتداء من اعتماد " تانس " مشيّدهتا؛
وقراء الغيب وذوي العلم من كل أحناء العامل ،يف على عدد هائل من التجار من خرباء الفلك ّ
الصحراء بتفجري منابع املاء فيها ،باإلضافة إىل رعاياها الذين البحث عن املكان األنسب لقهر ّ
-سامية أسعد ،األسطورة يف األدب الفرنسي املعاصر ،جملة عامل الفكر ،اجمللد ،16العدد ( ،03أكتوبر،
1
285
أم رهتم ب احلفر املس تمر طيلة ع ام كامل من احلفر املس تمر ،وجعلت من ه ذه املدينة جنة "
أطالنتي دا " .حيث ج اء يف نص الرواي ة " :ولكن ت انس اجلب ارة مل تكتف بتفجري النبع ال ذي
خيرتق اآلن الص حراء باألهنار واملس تنقعات ويغمرها ب البحريات واألدغ ال .فبعد أن أطلقت
على املنبع اسم " أطالنتي دا " ق ررت أن تش يّد املدن ،وتبين اجلس ور والس دود ...،وقد
اس تطاعت أن جتعلها مرك زا ملض اربات التج ار ،وتب ادل البض ائع ،وجتار الرقيق وال ذهب
واألحج ار الكرمية والتوابل والص ناعات واجلل ود ،وقد ازده رت املدين ة ،وش يدت القص ور
وال بيوت ذات املعم ار الب ديع ،وأص بح يرتادها العلم اء واخلرباء واملنجم ون من كل أحناء
األرض ...وقد طبقت ش هرة " أطالنتي دا " اآلف اق ،وج اء الن اس من وراء البح ار واألهنار
واحمليط ات بعد أن أص بحت من ارة للعلم واحلض ارة ،وقبلة لكل من ينشد العلم أو يت وق
للمعرف ة ،وأصبح يقال بأ ّن "أطالنتي دا" هي جنّة اهلل على األرض ،ومن مل يزرها فإنّه مل يعش
يف ه ذه ال ّدنيا ،فتق اطر الن اس عليها من كل ح دب وص وب ...وعن دما م اتت ت انس حدثت
حركة غريبة يف نظام النجوم ،قادت الكواكب األخرى محلة ض ّد القمر ،فحدث ما يسمى
فهبت األعاصري العاتية ،والعواصف احململة بالغبار ،كنتيجة لصراع الكواكب بعد أربعني يوما
بالض بط من وف اة س ليلة القمر " ت انس " العظيم ة ،واس تمرت العواصف والري اح أربعني يوما
باالنقط اع ،حىت غم رت اإلمرباطورية كثب ان الرم ال ،وأغ رقت الغاب ات واألهنار واملدن
مبوج ات هائلة من األتربة املتص اعدة ليل هنار ،وأب ادت املواشي وقطع ان اإلبل واحليوان ات
الربية ،ودمرت املعمار فهرب السكان طلبا للنجاة من طوفان الرمال ،جلأوا إىل املدن البعيدة
الص حراء ...أما ق ارة "الص حراء تزحف على ّ اجملهولة وراء البح ار واحمليط ات .وع ادت ّ
() 1
أطالنتيدا " العتيدة فقد اختفت بعيدا يف جوف األرض ،بعد طوفان الرمال الرهيب ".
باملقاب ل ،وحني نع رض لبن اء اجلنّة األرض ية ،اليت ش يّدها ش داد بن ع اد يف ال رتاث
األس طوري الع ريب وهي " ارم ذات العم اد " ،جند نفس لبن ات البن اء القصص ي ،قد اتّبعها
قص ة بن اء جنة " ارم ذات العم اد " ما
الك وين ،حيث ج اء يف ال رتاث األس طوري الع ريب عن ّ
يلي " :نقل األخب اريون وال ّرواة عن بن اء مدينة ارم أس اطري عجيب ة ...وي روي ي اقوت يف ه ذا
-إبراهيم الكوين ،رواية " البئر " ،ص 56 :و.57 1
286
نصه " :روى آخرون أن ارم وصنعاء ،من بناء شداد بن عاد ،ورووا :أ ّن شداد بن الصدد ما ّ
والفض ة
ّ ع اد ك ان جبّ ارا .وملا مسع باجلنّة وما أع ّد اهلل فيها ألوليائه من قص ور ال ذهب
ّ
واملساكن اليت جتري من حتتها األهنار ،والغرف اليت من فوقها غرف ،قال لكربائه :إين متّخذ
يف األرض مدينة على ص فة اجلنّ ة ،فو ّكل ب ذلك مئة رجل من وكالئه وقهارمت ه ،حتت كل
رجل منهم ألف من األعوان ،وأمرهم أن يطلبوا فضاء فالة من أرض اليمن ،وخيتاروا أطيبها
عماله الثالث ة ...ي أمرهم أن
ترب ة ،ومكنهم من األم وال ،ومثّل هلم كيف يعمل ون ،وكتب إىل ّ
والدر
والفض ة ّّ يكتبوا إىل عماهلم ،يف آفاق بلداهنم أن جيمعوا مجيع ما يف أرضهم من ال ّذهب
وجه إىل مجيع املع ادن ،فاس تخرج ما فيها من والي اقوت واملسك والعنرب والزعف ران ...مثّ ّ
الغواصني إىل البحار ،فاستخرجوا اجلواهر فجمعوا عماله الثالثة إىل ّ
وجه ّوالفض ة ،مثّ ّ
ّ الذهب
وجه وا احلف ارين إىل مع ادن الي اقوت منها أمث ال اجلب ال ،ومحل مجيع ذلك إىل ش داد ،مثّ ّ
والزبرجد وس ائر اجلواهر ،فاس تخرجوا منها أم را املدين ة ...مث أج رى حتت املدينة واديا س اقه
إليها من حتت األرض أربعني فرس خا كهيئة القن اة العظيم ة .مثّ أمر ف أجرى يف ذلك ال وادي
س واق يف تلك الس كك والش وارع واألزقة جتري باملاء الص ايف ...وجعل ط ول املدينة إثين
عشر فرس خا ،وعرض ها مثل ذل ك .وصري ص ورها عاليا مش رفا ،وبىن فيها ثالث مئة ألف
قص ر ،مص ّففا بواطنها وظواهرها بأص ناف اجلواهر ،عاليا مش رفا على تلك القص ور كله ا...
أمر باختاذ بن ادق من مسك وزعف ران ،ف ألقيت يف تلك الش وارع والطّرق ات .وجعل ارتف اع
الس ور مرتفعا ثالث مئة ذراع تلك ال بيوت يف مجيع املدينة ثالث مئة ذراع يف اهلواء ،وجعل ّ
مفصصا خارجه وداخل ه ،ب أنواع الي واقيت وظرائف اجلوار ...ومكث يف بنائها مخس مئة ّ
عام ...مثّ أ ّن هودا ( عليه السالم ) أتاه فدعاه إىل اهلل تعاىل وأمره باإلميان واإلقرار بربوبية اهلل
( س بحانه وتع اىل ) يف الكفر والطغي ان ،وذلك حني متّ مللكه س بع مئة س نة .فأن ذره ه ود
عما ك ان علي ه ...وواف اه املوكل ون ببن اء
وخوفه زوال ملك ه ،فلم يرت دع ّ بالع ذاب ،وح ّذره ّ
املدين ة ،وأخ ربوه ب الفراغ منه ا ،فع زم عن اخلروج إليها يف جن وده ،فخ رج يف ثالث مئة ألف
من حرسه وشاكريته وملوكه ،وسار حنوها ...فلما قرب شداد من املدينة ،وانتهى إىل مرحلة
منها جاءت صيحة من السماء ،فمات هو وأصحابه أمجعون ،حىت مل يبقى منهم خمرب ،ومات
287
والص ناع وال وكالء والقهارم ة ،وبقيت خالء ال أنيس هلا. مجيع من ك ان باملدينة من الفعلة ّ
() 1
وساخت املدينة يف األرض "
قصة تشييد ش ّداد بن عاد جلنته ( إرم ذات العماد ) ،وإبادهتا من قبل بعد عرضنا لتفاصيل ّ
مبادة
القصة األسطورية من حمتواها وأعاد مألها ّ اهلل تعاىل ،فإننا نالحظ كيف أ ّن الكوين أفرغ ّ
قصته حول بناء اجلنّة األرضية " أطالنتيدا " من قبل املرأة العظيمة " تانس " .ومل يرتك لنا أيّة
ّ
هوية "إلرم ذات العم اد " لتتسم هبا " أطالنتي دا " س وى بعض اإلحياءات ،أو بعض املراحل
املتبعة يف البن اء الف ين ،وال ذي تبعه لزاما البن اء التش ييدي للم دينتني "إرم ذات العم اد"
و"أطالنتي دا" ،حيث متّ التش ييد والبن اء للم دينتني طمعا يف املثالية والتف ّرد على س ائر م دن
قص ة بناء "
األرض بالتّشبه املبالغ جبنّة اهلل املوعودة .إضافة إىل الاّل زمة اليت تكررت كثريا يف ّ
قص ة بن اء " أطالنتي دا " ،وهي الع دد " ثالمثائة " علىإرم ذات العم اد " ووج دناها أيضا يف ّ
القصتني .لكن العدد واحد.الرغم من أن املعدود اختلف قد اختلف بني ّ
قص ة أس طورية جدي دة ت روي ويف كل ه ذا وذاك ،وضع الك وين ملس ته العبقرية يف جعلها ّ
وتفرده ا ،العلم
أح داث بن اء جنّة أرض ية؛ حيث جعل الك وين " أطالنتي دا " تنشد يف بناءها ّ
واملعرفة؛ إذ باتت قبلة لطالبهما ،وأن تكون بذلك قبلة للتطور احلضاري القائم على العلمي
املادي .موفرة الوسائل املادية املساعدة يف ذلك .يف حني كانت جنّة ش ّداد بن والروحي بدل ّ ّ
املادي املوغل يف تن وع الكن وز ،ورغد العيش ،ونعيم املال واجلاه
ع اد األرض ية تنشد التط ّور ّ
املادي احملض .باستعمال الوسائل املادية الفريدة.
التطور ّ والسلطان والبذخ ،وغريها من مسات ّ
واملتحول ،وتكون فضائل العلم ّ وبني البعدين املاضي واحلاضر ،يكون البعد القائم بني الثابت
واملعرفة أمسى من فض ائل املادة .ه ذا هو الش عار ال ذي ن ادى به الك وين من قبل بطلته
األسطورية " تانس " إهلة اجلمال واخلصب والذكاء .مبقابل البطل الزائل ش ّداد بن عاد ،رجل
واملادة ،والكفر .ويبقى شعار الكوين القائم على العلم والروح خالدا ألنه أساس كل الش ّدةّ ،
حض ارة خال دة .وهنا يكمن أحد أهم أس باب جلوء املب دع إىل األس طورة " ،ويتمثل الس بب
الرئيسي يف االلتج اء إىل األس طورة يف طابعها اخلالد ويف بقائها على م ّر الزم ان ...ألهنا تع اجل
-هيثم هالل ،أساطري العامل ،ص 50 :و 51و.52 1
288
بعض املواقف اخلال دة ،مع أ ّن موض وعاهتا ترتبط ارتباطا وثيقا بظ روف بعينه ا ،على أ ّن
االلتج اء إىل األس طورة يف رتض البن اء على م ادة موج ودة س لفا ...هلا قيمة أس طورية وأ ّن
() 1
مضموهنا قابل للتفسري من جديد ،واكتساب منحى جديد" .
هذا ،ولقد اختلفت تقنيات التجلي األسطوري يف أعمال الكوين – كما رأينا يف الفصل
الث اين -ومن أهم تلك التقني ات اليت اعتم دها الك وين يف توظيف لألس طورة يف رواياته –
وجعل األس طوري يتض افر مع الس ردي يف التح ام مجايل رائ ع ،حيث ينحو الس رد من خالله
إىل أسطرة الواقع أو ما يسمى بصنع األسطورة جند تقنية هامة هي تقنية " اخللفية األسطورية
" .ه ذه التقنية اليت ال يعمد فيها الك وين إىل توظيف عنصر ص ريح ،وإمنا يرتكز على عملي ة،
حيدث فيها تقاربا بني صوره وأحداثه املعربة عن قضايا معاصرة تبدو واقعية ،أو بني أحداث
النص ببعدين ،واحد فيّن مباشر وآخر غري مباشر ،ميثل " وصور تتعلق بأسطورة معينة ،فيظهر ّ
اخللفية األس طورية " .وقد اس تخدم الك وين يف جتلي ات املظ اهر األس طورية الثالثة كث ريا ه ذه
التقني ة ،كونه ليس بص دد رصد أس اطري بعينها وإمّن ا استحض ار ظالل أس اطري لص نع أس طورة
جدي دة .واألمثلة كثرية على ذلك أوردناها يف الفصل الث اين من ال ّدراسة – ن ذكر منه ا ،على
صور لنا
سبيل املثال ،اعتماده على تقنية " اخللفية األسطورية " يف مظهر " اخلصب " .عندما ّ
الص حراء
الكوين مشهد صلب " آسوف " على احلجر؛ حيث نزف الدم وارتوت به رمال ّ
العطش ى ،ليك ون ب ذلك " آس وف " مث اال عن "األض حية البش رية" ألجل اخلص ب .وقد ن زل
جراء هذه التضحية وارتوت األرض العطشى. املطر ّ
نص الرواي ة " :تق اطرت خي وط ال ّدم على اللّ وح احلج ري .ف وق اللّ وح حيث ج اء يف ّ
املدفون إىل نصفه يف الرتاب كتب ب " التيفيناغ " الغامضة اليت تشبه رموزها تعاويذ السحرة
يف "ك انو" عب ارة " :أنا الك اهن األكرب متخ دنوش أن بئ األجي ال أن اخلالص س يجيء عن دما
تتطهر األرض
الودان املق ّدس ويسيل ال ّدم من احلجر .تولد املعجزة اليت ستغسل اللعنةّ ،
ينزف ّ
الص حراء الطوف ان " .اس تمر نزيف احلجر على اللّ وح احملف وظ يف حضن الرم ل .مل ويغمر ّ
الص حراء .قفز مس عود يف ودت الس ماء وحجبت الس حب مشس ّ يلحظ القاتل كيف اس ّ
-سامية أسعد " ،األسطورة يف األدب الفرنسي املعاصر ،ص.115 : 1
289
الس يارة .أراد املفت اح يف اللّحظة اليت ب دأت فيها قط رات كب رية من املطر تص فع زج اج ّ
() 1
الصخري "
الالندروفر وتغسل ال ّدم املصلوب على اجلدار ّ
القص ة تس تمد أح داثها من عمق احلدث األس طوري يف أس اطري اخلصب القدمية، ه ذه ّ
لقصة الكوين اجلديدة .حيث يقدم عادة قربانا نباتيا أو حيوانيا والذي يشكل خلفية أسطورية ّ
أو بشريا ألجل التكفري عن الذنوب املرتكبة ،وألجل اسرتضاء الطبيعة واحلصول على اخلصب
ال ذي فيه اخلالص للطبيعة والنب ات واحلي وان والبش ر .وأغلب األض حيات البش رية ك انت يف
إطار الطقوس والديانات احلقلية األرضية .حيث جاء " :واألضحيات البشرية سارية عامليا ،يف
إط ار الطق وس وال ديانات احلقلية األرض ية ...يف طق وس أمريكي ة ...يقطع جسد الض حيّة،
وي دفن يف ع ّدة أمكنة من احلق ول ،هبدف احلص ول على اإلخص اب .وجند الس لوك ذاته يف
إفريقيا ،عند اخلند Khondحتصل األضحية بطحن الطعام ،والبرت التدرجيي ،والطهو على نار
خفيف ة ،وك انت ش عوب البحر املتوسط تلجأ إىل اخلنق واإلغ راق ،أو كما عند اجلرم انيني
() 2
القدامى ،إىل الطمر أو دفن الضحية ،وهي ال تزال على قيد احلياة "
قص ة األضحية البشرية ،على خلفية أساطري األضحية كطقوس هذا ،وحني سرد الكوين ّ
ألجل اخلصب ،قد أعطاها بعدها الداليل الذي ذهب إليه الكثري من ال ّدارسني ،وبالتايل شحن
املشعة هي " رمزية األضحية يف اجملتمعات احلقلية ". قص ته بطاقة أسطورية ،نواهتا األسطورية ّ
ّ
حيث ي رى بعض ال ّدارسني أ ّن األض حية يف اجملتمع ات القدمية تع ّد عنفا منق ذا ،وخاليا من
الفع ال اإلجيايب للعنصر
خطر الث أر ...والعنف يف العي د ،أو الش عرية يظهر لنا بوض وح ال دور ّ
ال ديين ،ال ذي ي نزع عن العنف ص فة اإلنس انية ،ج اعال منه خط را فوقيا وغيبيا دائم احلض ور
واهليمن ة ،ويتطلب إلرض ائه ش عائر مالئم ة ،وس لوكا دينيا متواض عا ،وح ذرا ،وما ذلك إال
ليحمي البشر منه ،ومن هنا كانت ظاهرة "كبش احملرقة" أو " الغذاء " البالغة األمهية يف حياة
اجملتمع ات واألنظمة واملؤسس ات .و " كبش احملرقة " هو ذلك احلي وان ال ذي ك ان اليه ود
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص 146 :و.1471
-أمحد ديب شعبو " ،يف نقد الفكر األسطوري والرمزي – أساطري ورموز وفلكلور يف الفكر اإلنساين "،
2
290
حيررهم من ذن وهبم ،وجيلب هلم يطاردون ه ،بعد أن محّل وه كل خطاي اهم .وإ ّن ذحبه يف املعبد ّ
األمن والسالم .إ ّن الشعائر مجيعها تعلّم اجملتمعات االستعمال املنظّم للعنف ،الذي بدونه تعود
() 1
إىل حالة الفوضى واألضحية ختذع العنف ،إذ جتد له متنفسا"...
نص ه؛
ه ذا وقد ب رع الك وين يف اس تخدامه لتقنية اخللفية األس طورية إلظه ار بإحياءاته يف ّ
حيث محّله ش حنة رمزية أس طورية تق ارب ما ذكرن اه عن أ ّن األض حية ختفي العنف وجتد له
متنفسا .حيث جعل الكوين مشهد صلب أضحيته (آسوف) على النصب احلجري من طرف
األخوة ،والنهم للحمه ،ستارا خيفي حقيقة هذا العنف املسلط من قبل ( (قابيل) املتعطّش لدم ّ
آدمي ) على ابن جلدت ه؛ حيث جعل من األض حية الدموية املتعس فة ،أض حية حالية للخصب
والنم اء وارت واء األرض العطش ى .وهنا تكمن عبقرية الك وين يف إع ادة بعث األس اطري حبلّة
جديدة مع احلفاظ على خصوصيتها ونواهتا األسطورية.
من بالكثري من هذا القبيل وصوال إىل هذه اخلامتة املنغمسة يف التورية .فحني قطع والكوين ّ
رأس ( آسوف ) على اللوح احلجري من قبل ( قابيل ) ناحت اجلنيات عليه وتعالت صيحاهتا
يف الكهوف ،حيث جاء يف نص الرواية " :استجابت اجلنيات بالنّواح يف الكهوف ،وتص ّدع
اسود وجه الشمس وغابت ضفتا الوادي يف املتاهات األبدية " ( .)2ففي هذا السياق اجلبلّ .
ال روائي يبتكر الك وين أس طورة موازية ومرتبطة ب الرتاث األس طوري نفس ه ،وهي ( ن واح
اجلنيات ) على (آسوف) ،واليت تعيد تكوين الرتاث األسطوري وابتكاره يف السياق الروائي
قص ة "
مبا يتضافر وهنجه يف الكتابة ،مستم ّدا خلفية أسطورية معروفة عند العرب قدميا ،وهي ّ
ن واح اجلني ات على قرب ح امت الط ائي " .حيث ج اء يف ال رتاث األس طوري الع ريب ،مف اده أن
اجلني ات أربع قد حتج رن ق رب قرب ح امت الط ائي ،املع روف بش دة كرم ه ،يالزمنه وينحن عليه
من حني آلخ ر .حيث ج اء " :ي روي أبو عبي دة معمر بن املثىن احلارثي رواية اللغ ويني
نص الرواية " :رأيت قرب حامت الطائي بب ّقة – وهو أعلى جبل ،له واد يقال املشهورين ،وهذا ّ
له :اخلابل أو احلامل – وإذا قدر عظيمة من بقايا قدور حجر مكفأة يف ناحية من القرب – من
-أمحد ديب شعبو " يف نقد الفكر األسطوري والرمزي " ،ص.146 : 1
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.146 : 2
291
الق دور اليت ك ان يطعم فيها الن اس – وعن ميني ق ربه كالنائح ات علي ه ،مل ير مثل بي اض
اجلن على ق ربه ،ومل يكن قبل ذل ك ،واجلواري بالنّه ار مثلهن ّ
وههنّ ، ادهن ومجال وج ّ أجس ّ
اجلن بالنيّاحة عليه ،وحنن يف منازلنا نسمعكما وصفنا ،فإذا هدأت العيون ارتفعت أصوات ّ
كن وه دأن ،ورمبا م ّر املار ف رياهن فيفنت هبن ذلك إىل أن يطلع الفج ر ،ف إذا طلع الفجر س ّ
() 1
وجدهن حجارة"
ّ منهن
إهلن عجائبهن ،فإذا دنا ّ فيميل ّ
وهنا تربز ذاكرة الكوين املشبعة باإلرث العريب األسطوري ،وغري العريب ،وكذا تربز خميلته
النص األسطوري يف تضافر أسطوري وسردي رائع. بنصه إىل مستوى ّ يف الرقي ّ
ه ذا بالنس بة لتقنية " اخللفية األس طورية " ،كتقنية جتلي .كما وظّف الك وين األس طورة
واستحض رها يف نصه لتالزم نس يجه اإلب داعي ،من خالل تقنية ثالث ة ،وهي تقنية " اجلملة
االستهاللية " .حيث أن عبقرية الكوين ،ومت ّكنه الثقايف والفكري واملوسوعي مل يقف عند ح ّد
استحض اره لألس طورة أو تفريقها وإع ادة ملئها من جدي د ،وال أن يس رد على منواهلا يف
ص ناعة أس طورية جدي دة .بل زادت عبقريته طغيانا حني جعل لنصوصه الس ردية " عب ارات
استهاللية " ،خمتلفة املصادر ،والداللة ،واللغة ،والثقافة ،والزمان ،واملكان ...وغريها ...فمنها
ما هو مس تمد من (الق رآن الك رمي) ،ومنها ما هو مس تمد من ( العهد الق دمي ) ،ومنها ما هو
مستمد من ( الرتاث األسطوري العريب القدمي ) ومنها ما هو مستمد من ( الرتاث اإلغريقي )
ومنها ما هو مس تمد من آراء ( الفالس فة ،والكت اب ،والدارسني ) ...ومنها ما هو مس تمد
من خمتلف الفرق الدينية .وحني تعددت مصادرها هذه العبارات األسطورية يف جوهرها ،فقد
للنص املت ّوج هبا بع دا ثقافيا أو حض اريا أو دينيا أو معرفي ا .زاده ث راء ،وهباء ورونقا
أعطت ّ
متفردة.
ومجاال قيمة حضارية وكانت مبثابة حلقات ربطت بني األسطوري والسردي جبمالية ّ
ملا حتمله من إحياءات ببعديعا الواقعي واألسطوري.
والكوين مبوس وعيته ه ذه يسعى إىل أن جيعل من الق ارئ الع ريب وغري الع ريب قارئا نش طا،
قارئا موس وعيا ،ومثقف ا ،وباحث ا ،وعارفا بشىت مص ادر األدب واللغة اليت ميكن أن تغيب عن
292
ذهنه أحيان ا .بل أك ثر من ذل ك ،ف الكوين ...حيب أن جيعل الق ارئ نش طا حمبّا للمعرفة
نصه " مروحة للكساىل ! ".
واالكتشاف ،بعيدا عن التلقي السليب .الذي قد جيعل من ّ
واألمثلة على " العبارة االستهاللية " كثرية يف رواياته ،منها ما تصدرت به الرواية ككل،
ومنها ما تصدر به فصل من فصول الرواية ،ومنها ما جاءت فردية ،ومنها ما جاءت ثنائية يف
ص فحة واح دة ،وبني ه ذه وتلك تن وعت املص ادر وأث ريت الرواي ات وانتشى الق ارئ بل ّذة
النص .ومث ال على ه ذه التقنية اهلام ة ،وما تص درت به رواية " نزيف احلجر " .من عب ارتني ّ
اس تهالليتني ،مها على الت وايل " :وما من راية يف األرض وال ط ائر يطري يف الس ماء إاّل أمم
أمثالكم " ( القرآن الكرمي ) ،سورة األنعام /آية ) 37كذلك ،ويف نفس الصفحة " :وحدث
إذ كانا يف احلقل أ ّن قابيل ق ام على هابيل أخيه وقتل ه .فق ال ال ّرب لقابي ل :أين هابيل أخوك؟
إيل من
فق ال :ال أعلم :هل أنا ح ارس ألخي؟ فق ال :م اذا فعلت؟ ص وت دم أخيك ص ارخّ .
األرض .فاآلن ملعون أنت من األرض اليت فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك .مىت عملت
األرض ال تعود تعطيك قوهتا .تائها وهاربا تكون يف األرض " ( العهد القدمي /سفر التكوين/
() 1
اإلصحاح الرابع )" .
وكعب ارة اس تهاللية لفصل من فص ول الرواية نفس ها ج اء " :يف جن وب ليبي ا ،أع ايل
النس امونيني يعيش اجلرامنت يف بالد غنية ب الوحوش .وهم يهرب ون من الن اس .خيش ون من
() 2
أي سالح ،وال يعرفون الدفاع عن النفس " ( هريودوت ) " طبتهم ،ال يستعملون ّ
هذه " العبارة االستهاللية " اليت أحالت بوضوح ملا جاء بعدها يف الرواية ،بأن ( آسوف
) منعزل يف الصحراء كالودان متام ،وهذا ما أكدته ذلك الفصل املعنون ب " البنية " .حيث
أسقط الكوين مقولة ( هريودوت ) على واقع معيش يف صحراءه ،حيث يعيش بطل الرواية (
ب علي ه ،إىل درجة أنّه ال يع رف آس وف ) منع زال عن بقية البشر كما علمه وال ده ،وش ّ
التح اور مع األج انب وال املض ايقة ألجل التج ارة ،وال حىت النظر إليهم عن ق رب ،ما جعل
والدته تنعته بالبنية ،خلجله الزائد عن احل ّد ،بل هلروبه من مقابلة رجال القافلة التجارية ،الذين
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.05 : 1
293
نص الرواية ..." :انفصل عنهم أحد الرجال ،ومشى باجتاهه، توفقوا ملضايقته .حيث جاء يف ّ
الودان ،بني األحج ار، الص خور ،يتق افز ،ك ّفهزته الرجف ة ،ووجد نفسه يقفز ويت وارى خلف ّ ّ
قاص دا ال وادي .وقف يف الس فح ،الهت ا ،ملوثا ب العرق ،واخلج لّ -أمه معها ح ّق -هو بنيّة
الرجل ال يهرب من لقاء الرجال ،احلياء للبناتّ .أمه قالت ذلك.)1( " ...
ه ذا ،وقد ج اءت " عب ارة اس تهاللية " يف مفتتح رواية " الترب " .مقتبسة من (العهد
النص الت ايل " :ما حيدث لبين البشر حيدث للبهيم ة .وحادثة الق دمي)؛ حيث أورد الك وين ّ
واح دة هلم .م وت ه ذا كم وت ذاك .ونس مة واح دة للكل فليس لإلنس ان مزية على البهيمة
() 2
أل ّن كليهما باطل " (العهد القدمي /سفر اجلامعة /اإلصحاح الثالث) "
ه ذه " العب ارة االس تهاللية " اليت أحالتنا مباش رة إىل املذهب الط وطمي القائ ل ،بوح دة
الكائن ات ،فال ف رق بني احلي وان واإلنس ان كالمها ك ائن حي جيري بعروقه دم واحد وحييا
بنفس ش بيهة بنفس اآلخ ر .وه ذا املذهب الط وطمي يتجلّى يف الرواية ابت داء هبذه " العب ارة
جتل أخرى .ليوضح لنا أ ّن البطل " أوخيّد " تعامل مع أبلقه االستهاللية " وصوال إىل تقنيات ّ
مقرا بذلك حني جاء يف الرواية" : معاملة األخ الذي مجعته به أخوة ال ّدم بل أكثر من ذلكّ .
جلس خلف الس نام ،وأح اط خاص رته باللّج ام اجلل دي .مل يعجبه الوض ع .فتم ّدد ف وق ظهر
أحس بلزوجة اجللدة احلمراء .الدم مل يتيبّس بعد .جسده املهري ،والتصق باجلسد املسلوخّ .
أيضا ع ار .م ّزقت أش جار الطريق ثياب ه .ش عر أ ّن دمهما املتخثّر اللّ زج يتم ازج اآلن وخيتل ط.
ه ذا ما تس ميه العج ائز بالت آخي .عهد األخ ّوة األب دي .التحم اجلسد باجلس د ،واختلط ال دم
بال دم .يف املاضي كانا ص ديقني فق ط .أما الي وم فإهنما ارتبطا بوث اق أق وى .بال ّدم .أخ ّو ال ّدم
األم ش قيقني دون أن يكونا أخ وين .ش قيقان يف ال ّرحم. أق وى من أخ ّوة النس ب .فقد تلد ّ
() 3
األخوة ليست سهلة "ولكن طاملا مل متتزج دماؤمها فلن يكون أخوين أبداّ .
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص 38 :و.39 1
294
املرة البن فضل اهلل العمري ويف نفس الصفحة جاءت (( عبارة استهاللية )) ثانية ،هذه ّ
((مملكة م ايل وما معها )) .حيث ج اءت (( العب ارة االس تهاللية )) التالي ة ..." (( :يف طاعة
سلطان هذه اململكة بالد مغازة الترب ،حيملون إليه الترب كل سنة .وهم كفار ،مهج ،ولو شاء
جربوا أهنم ما فتح أحد منهم مدينة من م دن ال ذهب، أخ ذهم .ولكن ملوك ه ذه اململكة قد ّ
ونشأ هبا اإلس الم ،ونطق هبا اآلذان ،إال ق ّل وج ود ال ذهب ،مثّ يتالشى حىت يع دم ...وي زداد
() 1
فيما يليه من بالد الك ّفار " ( ابن فضل العمري (( مملكة مايل وما معها )) "
هذه (( العبارة االستهاللية )) أحالتنا مباشرة إىل استحالة اجتماع املادة والروح /الذهب
وال ّدن .يف موضع واحد .فحيثما يكون /الذهب /الترب تكون املعصية ويكون الكفر .ويكون
دو بطلنا "معها الش يطان والعكس متام ا .وه ذا ما تض منته الرواية من دالل ة؛ حيث ح اول ع ّ
أوخيّد " أن يشرتيه حبفنة من ذهب لكنه رفض ذلك وتفطّن للعبته القذرة ،وقفى عليه ،وأعاد
حريته وص فاء روحه ب أن أزاح عنه ما أحلقه الترب به من ع ار. إليه ذهبه ال رخيص ،واش رتى ّ
نص الرواي ة ..." :لعنة اهلل على املال .هل مسعت ب ذلك الرجل ال ذي زوجته حيث ج اء يف ّ
وول ده يف واحة آدرار مقابل حفنة من الت رب؟ .مجد ال ّدم يف ع روق اوخيّ د ،ص رخ :م اذا؟
القصة على كل لسان .تنازل ألحد األعزباء عن زوجته وولده مقابل حفنة من الترب .الذهب. ّ
ال ذهب يعمي البص ر .اآلن فقط ص ّدقت أ ّن النح اس ملع ون ح ّق ا .س كت أوخيّ د .س يل من
الع رق الب ارد ت دفّق على ظه ره ...لقد أخذ الترب وفك ذهن اجلمل وس لّم امرأته وولد لرجل
الفخ ...سيذهب إىل الوغد. غريب ي ّدعي قرابة رمبا كانت مزعومة .لقد وقع ضحيّة سهلة يف ّ
الص فراء .ل ّوث
ذرات ّ س ينزع من ش فته احلقيقة للنّ اس ...وس يعيد له الترب امللع ون ،ش ّوهه بال ّ
يدي ه .لطّخ روح ه .امت دت ي ده إىل ع رين اللّعن ة .اللّعنة الكامنة يف الكن وز .فتلطخت ي ده،
سيطهرها اآلن من النحاس امللعون؟ كيف سيمسح اإلهانة؟ يف رؤوس ّ تعفنت إىل األبد .ماذا
الن اس؟ ...كيف سيغسل قلبه من احلرام؟ وإذا اس تطاع املوت أن ميسح اللّعنة فهل يس تطيع
أن يغسل اإلهانة يف رؤوس الن اس؟ ...ش يّع ي ده وارتفعت حنو رأس ه .مل يص ّوب ط ويال.
بالتوس ل ...الطلقة الثانية
ّ ض غط على الزن اد دون أن حييد عن بص ره ...انتفض وفاضت عين اه
- 1
295
اخ رتقت حنره ...غ اب حتت املاء مفت وح العي نني والش فتني ...فتح ص ّرة الترب وألقى هبا يف
العني .فوق املكان الذي غابت فيه اجلثّة ...تألألت املياه ،حتت أشعة الشمس الغاربة بذرات
() 1
الترب الالمعة؛ والدم األمحر! من أقصى الغرب ،خلف الغابة ،انطلقت زغرودة بعيدة "
أما بالنس بة لرواية " الب ئر " فقد تص درها (( عب ارة اس تهاللية )) واح دة تفج رت نواهتا
األس طورية إش عاعا س اطعا على كافة فض اء الرواي ة .وهي عب ارة ،عن (( ه نري ت ورو )) عن
كتابه ((احلي اة يف الغاب ة)) .حيث ج اءت على النحو الت ايل " :عن دما أراد ف ايتون أن يق دم
ال دليل على أص له الس ماوي م دح له ملدة ي وم واحد عجلة الش مس ف انطلق هبا وح رق ع ّدة
أحياء من املدينة السماوية السفلية ،وأضرم النار على وجه األرض.
الص حراء الك ربى ،هنا ق ام يوترب وص رعه وعلى األرض وج ّفف كل من ابع املاء وك ّون ّ
() 2
بضربة رعد ،فحزنت الشمس ورفضت أن تضيء بعد ذلك ملدة عام كامل "
هكذا ربط الكوين العبارتني االستهالليتني لرواية (( الترب )) هبامش قرائي واسع ،فتضافر
الس ردي واألس طوري والتحما ليخلقا أس طورة جدي دة تنشد ال روح واحلريّة وص فاء النفس
وتنبذ املادة واجلشع والطمع .فعلى الرغم من أن كل عبارة كانت توحي معىن بعيد متاما عن
املعىن ال ذي ت رمي إليه العب ارة الثانية إال أهّن ما كانتا مبثابة تلخيص جممل ملا احتوته الرواية من
دالل ة .ويك ون ب ذلك الك وين ،قد ص نع من االختالف يف ص دارة الرواية تض افرا س رديا
وأس طوريا ّأدى إىل داللة إنس انية عميق ة .ب أ ّن ال روح ال تش رتى باملادة وأن قيمة اإلنس ان أو
الس واء أمثن من قيمة املادة .وأ ّن الروابط اإلنس انية هي ما أص بحنا ننش ده يف احلي وان على ّ
زماننا هذا .أنّه ولألسف قد طغى عليها اجلانب املادي وجشع اإلنسان هو السبب الرئيس يف
ذلك.
ه ذا ،عن رواية " الترب " أما رواية " الب ئر " وابت داؤها بعب ارة اس تهاللية واح دة ،فه ذا هو
الرغم من أهّن ا واحدة التنوع العبقري يف توزيع (( العبارات االستهاللية )) عند الكوين ،وعلى ّ ّ
-إبراهيم الكوين ،رواية " الترب " ،ص 130 :و 136و 137و 141و.142 1
296
إال أهنا ذات طاقة أسطورية رهيبة ،أشعت دالالهتا على كافة فضاء الرواية لتجسد لنا ارتباط
" البئر " كعنصر أسطوري ،باخلسوف كظاهرة أسطورية كذلك.
وبالتايل يكون الكوين بصدد صناعة أسطرة جديدة التحمت بنسيج السرد التحاما تاما يف
تضافر رائع.
هذا ،عن تقنية (( العبارة االستهاللية )) ،كتقنية جتلي أسطوري يف روايات الكوين واليت
ؤدي إىلتع ّد حلقة س ردية مرتبط تص دير الرواية أو فصل من الرواية مع ب اقي نس يج النّص فت ّ
تضافر سردي وأسطوري رائع وحمكم.
كذلك ،تضاف إىل تقنيات التجلي السابقة ،عند الكوين تقنية ال تقل أمهية عن سابقيها،
أال وهي تقنية " العن وان " وال ذي قد يشري ص راحة لألس طورة املوظفة يف النص ال روائي ،ويف
النص الس ردي ،وهويت ه ،فحني حيمل من أحي ان أخرى يكون مض لّال .والعنوان مبثابة واجهة ّ
النص الس ردي يك ون قد س اهم يتفجر على كافة فض اء ّ الطاقة األس طورية ما يكفي ألن ّ
النص .ففي رواية " الترب " ،ج اء العن وان بش كل كبري يف تض افر الس ردي واألس طوري يف ّ
لكن
دل " "الت رب" على مع دن مثني لطاملا مسعت وراءه النف وس المتالك هّ ، مض لّال ،حيث ي ّ
توحد
الكوين ك ان يبحث من وراء ه ذا العن وان ،إىل شيء نقيض ،إىل قيمة روحية متثلت يف ّ
الكائن ات كائن ات بش رية أو حيوانية وقد حقق العن وان ه ذه القيمة من خالل جتس يد
(( املذهب الطوطمي )) ،الذي يوحي بغلبة الروح ونقاء النفس ،ووحدة الكائنات ،عكس "
الترب " الذي رماه بوجه صاحبه اجلشع ،وقضى عليه وعلى جشعه.
وبالت ايل ك ان العن وان حمظة أوىل أس طورية محلنا بتض ليله إىل بغية الغ وص أك ثر وكشف
الداللة األسطورية املشعة فيها ،وبالتايل أحالنا العنوان من السردي إىل األسطوري يف تضافر
رائع قلب املوازين وخ رق أفق انتظ ار الق ارئ ليقف على مش ارف قصة أس طورية مغ ايرة.
لتحمل مقص دية الك وين يف حبثه عن ه ذه القيمة الروحية العالية يف جمتمع طغت عليه املادة.
والنص الت ايل من الرواية جيسد ذل ك ..." :أخ رج من ص ندوق احلديد جرابا جل ديا ق دميا، ّ
الس حرة ،غ رف منه بفنج ان الش اي م رتني ،فتألأل الترب وأعمى العي ون... موس وما بإش ارات ّ
الص رة ...ال أعتقد أين س أحتاج إلي ه .يق ال يف قبيلتنا إنه جيلب اللّعن ة ...ال حيت اج إليه
ق ّدم له ّ
297
واجلن بس ببه .ص راع الش يطان واإلنس ان بس ببه،
اجلن أيض ا .ص راع اإلنس ّ اإلنس فقط وإمّن ا ّ
وص راع اإلنس ان واإلنس ان بس ببه ،فكيف ال حتت اج إلي ه؟ ...ولكن يق ال إنّه ملغ ون وجيلب
الش ؤم ...فتح ص ّرة الترب وألقى هبا يف العني .ف وق املك ان ال ذي غ ابت فيه اجلثّ ة ...تألألت
ذرات الترب الاّل مع ة ،وال دم األمحر! ...األبلق اآلن هو
املي اه حتت أش ّعة الش مس الغارب ة ،ب ّ
ص ديقة الوحي د ،أراد أن يبقى جبوار األبلق فكتب اهلل ج واره األب دي ،واألبلق اآلن ل ه .لن
يفرقهما إال الغناء .بل حىت الغناء لن يفرقهما .سوف يذهبان معا .يعودان إىل أصلهما معا،
() 1
كما كانا من قبل أن يولدا "
غل وحقد ،وسطوة املادة من قلوب البشرية ونشر مبدأ الكوين ،ومقصديته يف انتزاع كل ّ
الت آخي بني أبسط الكائن ات حىت اجلم اد ،وص وال إىل اإلنس ان .ليس ب اخلفي ،ف الكوين ن ادى
بوح دة الكائن ات ص راحة ،وس عى إىل ذلك س عيا حثيث ا ،أليس هو القائ ل " :مل ي رو يل أحد
الص حراء هي اجل ّدة اليت ربت ين ،وهي من روت يل ،وهي اليت دفنت يف الص حراءّ ، ش يئا غري ّ
الص حراء مس كونة يب ،أش عر ب أنين
الص حراء ،أش عر ب أ ّن ّقليب س ّرها وهلذا عن دما أحت ّدث عن ّ
الص حراء هي اليت تس كنين،
الص حراء ولكن ّ بالص حراء ،يعين لست أنا من يس كن ّ مس كون ّ
الص حراء تعلمت أن ال أفقص الص حراء أيضا تعلّمت حترمي أن تنتزع عودا أخضر ،يف ّ أل ّن يف ّ
بيضة طري"(.)2
الص حراء "
وبالت ايل تك ون رس الة الك وين واض حة ،يف حماولته اجلادة يف خلق " أس طورة ّ
هذا الفضاء البكر ،فضاء البدايات ،فضاء الروح.
ه ذا ،أما تقنية العن وان يف رواية " الب ئر " فقد أحالتنا مباش رة إىل أس طورة " املاء " ه ذه
املادة املق ّدسة منذ ق دمي العص ور ،حىت أننا جندها كب دايات أوىل لع رش اآلهلة يف ال ديانات
التطهر وبالعط اء واخلصب
القدمية ،وص وال إىل اآلب ار واألهنار والبح ار وارتباطهما باآلهلة وب ّ
وغربه ا .حيث ج اء" ،املاء وس ائر العناص ر ،وهي الرتبة والن ار واهلواء أصل مجيع املخلوق ات
ومبدأها يف أساطري بدء اخللق ،سواء كان عذبا منريا أو ملحا أجاجا ،ما يتنزل من السماء أو
-إبراهيم الكوين ،رواية " الترب " ،ص 124 :و 142و.144 1
298
ما جيري هنرا أو حبرا ،أو يف أعم اق ب ئر تفجر يف " واد غري زرع " ف إذا زاخر باحلي اة ،بل هو
األول ،أصال جلميع الكائنات احليّ ة ،وهو اآلخرأكثر من ذلك :لدى مجيع شعوب العامل فهو ّ
م اء هائجا مائجا وطوفانا تع اقب به البش رية في أيت على كل ش يء ولكنه يف آن ين بئ بتج دد
على وجه األرض وخبلق جدي د" ( )1فكان العنوان ذو طاقة أسطورة هائلة أشعت على فض اء
الص حراء ،وس ببا يف
النص الس ردي بإحياءات أس طورية واس عة .فك ان الب ئر يف الرواية مركز ّ
شح مباءه عن أهلها ،كان مصريهم خصوبتها ،وسببا يف بعث احلياة فيها واستمراريتها ،وحني ّ
التي ه ،واملوت والفن اء .فربط العن وان كتقنية جتل بني الس ردي واألس طوري يف الرواية وك ان
األول واألخري بصفته رمزا
مشع ذو طاقة أسطورة هائلة .ألن " املاء هو ّ مبثابة رمز أسطوري ّ
() 2
حسا ومعىن "
للبدايات ولنهاية الكون ،ورمز الطهارة ّ
أما رواية " نزيف احلجر " فقد ك انت تقنية (( العن وان )) فيها مض لّلة ،حيث مل حتلنا
الس ر ال ذي جعل
مباش رة إىل أس طورة اخلصب املعروفة منذ الق دمي .وإمّن ا جعلتنا نتس اءل عن ّ
تتكش ف لنا
ونلح يف اإلجابة عن هّ ،
الكوين يع ّد من احلجر كائنا ي نزف .وحني نطرح السؤال ّ
احلقيقة اليت يدفعنا إليها الكوين دفعا يف عملية خلقه لألسطورة .لنستحضر معه مشهد الصلب
على النصب احلج ري ،وس يالن ال دم علي ه ،ليك ون ال نزيف ،هو نزيف األض حية اجلالبة
للخصب والنم اء ،نزيف األض حية اليت س يتبعه الطوف ان ،ال ذي سيغسل األرض مجيعا من
الرواي ة " :تق اطرت خي وط ال دم على اللّ وح احلج ري.نص ّال دنس واخلطاي ا .حيث ج اء يف ّ
ف وق اللّ وح املدفون إىل نص فه يف ال رتاب .كتب ب" :التيفين اغ" الغامضة اليت تش به رم وز
تعاويذ السحرة يف " كانو " عبارة " :أنا الكاهن متخندوش أنبئ األجيال أن اخلالص سيجيء
تتطهر
الودان املق ّدس ويسيل الدم من احلجر .تولد املعجزة اليت ستغسل اللّعنةّ ، عندما ينزف ّ
الصحراء الطوفان " (. )3
األرض ويغمر ّ
-حمفوظ حممد أبو محيدة " ،قراءات يف األسطورة " ،ص .132 1
-أبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.147 : 3
299
إذن ه ذا ال نزيف هو مثن األخ ّوة ،ومثن التض حية ألجل الط وطم .ومثن إخص اب األرض
وتطهريه ا ،وبالت ايل ق ّدم لنا الك وين من العن وان " نزيف احلجر " برتكيبته االعتباطية مظه رين
من مظ اهر األس طورة (( :املظهر الط وطمي )) و (( مظهر أس طورة اخلصب )) .يف تض افر
سردي وأسطوري رائع انطالقا من العنوان.
باإلض افة إىل تقني ات التجلي الس ابقة ،هنالك تقنية أخ رى اس تخدمها الك وين يف توظيفه
الس رد ،أال وهي تقنية (( التن اص )) .ه ذا أهم لبن ات ّ
لألس طورة يف رواياته وهي تع ّد من ّ
يقل أمهيّة عن باقي التقنيات األخرى .والذي يع ّد " أحد أبرز وسائل النص الذي ال ّ التلقيح ّ
وللتحرر من وطأة املباشرة ،وإلجناز كتابة روائية
ّ بأقل ما ميكن.
الروائيني لقول أكثر ما ميكن ّ
()1
تتجنّب التعبري عن املعرّب عنه "
النص ي ع ادة ما يك ون ألجل إنت اج جدي د .فقد استحضر الك وين نصوصا وه ذا التالقح ّ
طعم هبا نصوصه اإلبداعية بغية ما أمجع عليه الدارس ون ب " عدي دة من أزمة وأمكنة خمتلف ةّ ،
النص املس تورد بطريقة فاعلة داخل النس يج الس ردي ،فيولد النص ي " حيث يش تغل ّ التفاعل ّ
هامشا قرائيا يؤكد مقص دية املب دع ويوض حها .وأمثلة ذلك كث رية يف نص وص الك وين،
النص الذي استدعاه الكوين ،يف رواية " نزيف احلجر " عن نستحضر منها على سبيل املثالّ .
نص
مؤلف فرنسي مل يذكر من هو ،من كتابه (( الصوفية يف مشال إفريقيا )) .حيث جاء يف ّ
النص املثري الذي كان سببا يف إدمانه حلم الغزالن،
الرواية ..." :يف الكتاب نفسه ،وجد ذلك ّ ّ
رحالة ص ويف مغم ور .ق ال (( :احلقيقة يف األنع ام ،يف الغ زالن
النص عن ّمؤلف الكت اب نقل ّ
ومزق حجاب السر وبذر املعىن .فمن ذاق حلم هذا املخلوق حطّم يف نفسه العجز ّ ط اهلل ّ حّ
الس وى ووقف على رؤيته يف املن ام )) ( .)2فك ان ه ذا النص ،هو تقنية جتلي للمظهر ّ
وتذوق
السر ّالطوطمي؛ حيث دفع هبذا املستعمر ( جون باركر ) ،إىل السعي وراء اكتشاف ّ
ويف املغم ور ذ ّك ره ب:
النص الص ّنص الرواي ةّ " :حلم احلي وان األس طوري .حيث ج اء يف ّ
-نضال الصاحل " ،النزوع األسطوري يف الروايات العربية " 205 ،و.206 1
-إبراهيم الكوين ،رواية " :نزيف احلجر " ،ص.116 : 2
300
ذوق حلم احلي وان(( اهلذيان )) ...ف انتهز عزلته يف اجلبل الغ ريب ،وق ّرر أن يكشف الس ّر ويت ّ
عل اهلل يفتح له الباب .فينعم برؤية اهلل يف املقام.
األسطوري ّ
نص ه
نص ه اإلب داعي ،بل أع اد بن اءه داخل ّ النص إلقحامه يف ّوالك وين هنا مل يستحضر ّ
النص اجلدي د ،وهو خلق األس طورة على أنق اض أس طورة قدمية هي ليحيلنا إىل مقص دية ّ
( املذهب الط وطمي ) حيث أحالنا إىل كشف س ّر س عي ه ذا املس تعمر إىل ص يد احلي وان
الس ر اإلهلي فيه ،بأن استعان بأحدث وتدليل كل الصعوبات يف سبيل اإلمساك به ،وكشف ّ
اآلالت واألجهزة يف سبيل ذلك من بنادق وخراطيش والندروفر حىت اهليليكوبرت.
نص ا آخر عن تعاليم (( الز ّن )) اليت شغف هبا كما استحضر الكوين ،ويف نفس السياقّ ،
نص الرواية " :ففي اجلامعة ردد أمام كارولني مجلة غامضة هذا املستعمر كثريا ،حيث جاء يف ّ
اس تعارها من تع اليم (( ال ز ّن )) اليت ش غف هبا يف تلك األي ام ،وتق ول إ ّن س عي اإلنس ان
للوص ول إىل مرتبة اإلله لن يتح ّقق إال إذا م ّر اإلنس ان حبالة احلي وان ،يع تزل حىّت يس توحش،
خيرس حىت يفقد الق درة على النطق ،يقت ات على الش عب حىت ينسى طعم الطّع ام .واخلالق
أك ثر ميال للحل ول يف املخل وق املتو ّغل يف الربي ة ،املقط وع يف اخلالء ،ويبتعد حىت عن
احليوانات اليت تستأنس الناس وال ختتار منفى البحرية " (.)1
والنص هنا حييلنا مباش رة إىل املذهب الط وطمي ،وتيمة احلل ول ،حيث ي رمي الك وين من ّ
حيل ب احليوان املس توحش مث ل: النص إىل أ ّن اهلل – يف ه ذا املعتقد – ّخالل توظيفه هلذا ّ
جيس دان احلي وان الط وطمي يف الرواية حيث ج اء يف نفس الس ياق ،من (( الغ زال )) الل ذان ّ
الرواي ة " :وأدهشه إمجاع املتص ّوفة على االعتق اد أ ّن األنع ام أج در بالوالية وتقمص ال روح
الس ماوية من بقية املخلوق ات ،فوجد س ندا قويا لتع اليم (( ال ّز ّن )) البوذية يف ه ذا ال رأي.
فيولون احليوان اهتماما يفوق االهتمام باإلنسان .كما فضلوا حيوانا آخر ،فاستثنوا الوحوش
وخصوا احليوانات املساملة بالوالية .وقد تذهب ذلك الصويف املغمور واستبعدوها من الرمحةّ .
301
ومبجرد أن
ّ يف رؤياه فوضع قائمة طويلة لألمراض اخلفية اليت مل يعرف هلا عالجا إال بالغزال.
أعلن لألهايل عن رغبته يف الفوز بالغزالن ،دلّوه على قابيل آدم " (.)2
النص السردي مبا هو أسطوري وتالقح ومن هنا كان التناص ،تقنية جتلّي أسطوري ،ربط ّ
النص ال روائي ث راء وموض وعية ،وفتحت أم ام الق ارئ مامعه ف أنتج إحياءات أس طورية زادت ّ
ك ان مس تغلقا .أو ما استعصي عليه فهم ه ،فق رب الق ارئ إىل احلقيق ة ،وكشف له احلجب،
ووقف على حقيقة الطوطم إىل ح ّد ذاته.
هذا ،وقد جاءت تقنية التناص ،كأداة جتلي أسطوري يف العديد من روايات الكوين ،بل
وتع ّددت مصادرها يف الرواية الواحدة فسامهت يف تضافر السردي واألسطوري كفسيفساء
من العهد القدمي .غ ّذاها الكوين من عبقريته وروحه.
وبالتايل ،هكذا يكون الكوين قد مازج بني السردي واألسطوري من خالل هذا التجلي
الذي يعلن نفسه حينا ويتسرت حينا آخر ،وراء تقنيات متعددة أجاد الكوين لعبتها.
مرة يظهر ببع دين :واقعي /أس طوري .يك اد الواحد منها يطغى على النص يف ك ّل ّ
وك ان ّ
اآلخ ر .مث ما يلبث ،اآلخر يس تب ّد جم ّددا .ويف كل ه ذا جيد الق ارئ نفسه مس تمتعا ،وهو
مش دود هلذا التض افر اجلميل ال ذي أعادنا به الك وين إىل ال زمن اجلمي ل ،زمن الب دايات ،زمن
الصفاء والطّهارة.
ب -جماليات المطاوعات في روايات الكوني:
يع ّد الك وين ص انعا لألس طورة ،ال موظّفا هلا ،فنصوصه مالحم يف ح ّد ذاهتا .حيث ال
ميكن للناقد أب دا أن مييّز بني ما هو أس طوري ،وما هو واقعي .فقد م زج الك وين بني ال واقعي
النص
واألس طوري إىل درجة أننا حني نتح ّدث عن مطاوعة العنصر األس طوري داخل ّ
نص ه بكل مظهر من املظاهر للنص الواقعي .حيث إنّه باقي يف ّ
اإلبداعي مطاوعات وال وجود ّ
ختص ه ،فمظهر اخلصب -مثال – جعل له ( قربانا ) وجعل له األسطورية ،وتبعاته من تيمات ّ
( ن ذرا ) وجعل لنقض الن ذر ( لعنة ) وجعل من يب أش كال ( العق اب ) ( ،الطوف ان ) و
( اخلسوف ) ،و ( اجلنون ) و (التيه) ،وجعل ( للوفاء بالنذر ) ( مكافأة ).
-إبراهيم الكوين ،رواية " :نزيف احلجر " ،ص.117 : 2
302
النص الق دمي واجلدي د ،وهل املطابقة تك ون هلذا احل ّد؟ إنّه يص نع بالفعل
ف أين الف رق بني ّ
مالحم وليس بص دد استحض ارها .وداللتها جتد أنك دخلت حبرا زاخ را ال ميكنك أب دا أنك
حتصر مكنوناته يف ح وض مسك ،وإن خلت أنك فاعل ذل ك ،فإنك ره ان على املس تحيل.!
النص الغ ائب ( األس طورةوهنا تكمن مجالية املطاوع ة ،ه ذه املس افة الداللية القائمة ما بني ّ
القدمية ) ،واملتح ّول ( األس طورة اجلدي دة ) انطالقا من طبيعة الكلم ة ،ه ذه الكلمة اليت قد
نصا أو صورة ذهنية ...اخل...تكون رمزا أو امسا أو ّ
وحني كان الكوين صانعا لألسطورة ال مستحضرا هلا وفقط فقد أتت املطاوعات مناسبة
نص ه احلاض ر ،ح امال النص الغ ائب يف ّ
هلذا اخللق اجلديد وهلذه األس طرة .حيث يستحضر ّ
جليناته الوراثية ،مضيفا خصوصيات جديدة متيزه عن السابق وتبقيه ذو سلطة هو أيضا.
نص ه اجلدي د ،داخل نس يج س ردي حمكم، حيث استحضر الك وين املظهر األس طوري يف ّ
نص ا جديدا قدميا يف آن نفسه. النص األسطوري الغائب ،فيكون ّ ويطعمه تيمات هي صميم ّ ّ
يف تض افر أس طوري وس ردي رائ ع ..وتتالشى الف وارق أحيانا إىل ح ّد املطابقة ولكنه يبه رك
رعي ي ؤدي ذلك بك إىل أحيانا أخ رى ب أن خيرق أفق انتظ ارك ،حيث حيولّك إىل طريق ف ّ
الوقوف .فتكون وكأنك انتقلت من األسطوري إىل الواقعي وليس العكس .أل ّن الكوين ليس
بص دد توظيف أس طورة داخل رواي ة ،وإمنا هو بص دد خلق أس طوري جديد داخل نس يج
سردي.
ّفح رواية " نزيف احلجر " وختال نفسك تبحث عن توظيف ( املظهر فحني تتص
النص الروائي ،بل جتد ملحمة أسطورية حمورها الطوطم ،بكل الطوطمي ) فيها ،فإنّك ال جتد ّ
جزئياهتا وتفاص يلها وتيماهتا ،من ( حترمي ) و ( تق ديس ) و ( لعنة العق اب ) و ( محاية
للط وطم ) .وبني ثنايا ه ذا املنت األس طوري تفتّش جي دا لعلّك جتد ال واقعي فيه ا .أو ما ميكن
تس مية مقطعا من رواية ( نزيف احلجر ) .فتجد بالك اد ،فق رات متن اثرة تتخلّل ه ذه امللحمة
األسطورية ،حيث تتحدث هذه الفقرات القالئل عن بعض الفرق الدينية وتناحرها كالتيجانية
والقادرية .أو تتحدث عن املقاومة ضد املستعمر ،أو بعض تقاليد الطوارق ال غري .وحتتل هذه
القصة األسطورية فيه.
النص باملقارنة مع ّ
الفقرات مساحة ضئيلة من فضاء ّ
303
هنا تقف على حقيقة أن الك وين ليس بص دد استحض ار األس طورة ،وال بص دد توظيفها
وإمّن ا هو بصدد صناعة األسطورة .وهذا ال ينسحب فقط على ( املظهر الطوطمي ) يف رواية
" نزيف احلجر " .وإمّن ا ينسحب أيضا على باقي املظاهر األسطورية يف نفس الرواية وغريها.
وهنا تكمن مق درة الكوين يف صناعة األسطورة ،حيث يصنع لك أكثر من أسطورة بتيماهتا
يف الرواية الواح دة .فحني تبحث ويف نفس الرواية " نزيف احلجر " عن " مظهر اخلصب "
قصة أسطورية هلذا املظهر بكل تيماته .من ( املاء ) كعنصر أسطوري ،عرفته جتد نفسك تقرأ ّ
الش عوب منذ األزل ،وأيضا ثنائية ( احلي اة واملوت ) اليت جيس دها ه ذا املظهر ك ذلك تيمة
( الن واح على إله اخلصب ) وك ذلك ( إله القحط واجلذب ) املتمثل يف ري اح ( القبلي )،
أيضا جتد ( القرب ان ألجل اخلالص ) ومنه ( القرب ان البش ري ) ...إخل ( ...وقد مت دراسة
مطاوعاهتا يف الفصل الثاين من الدراسة ).
ه ذا ،ومجالي ات املطاوعة ال تقف عند ه ذا احل ّد من العبقري ة ،بل األدهى من ذل ك .أن
العنصر األس طوري الواحد يف الرواية الواح دة ،خيدم ع ّدة مظ اهر أس طورية ،كاخلصب
والطوطم واخللود.
واألمثلة على ذلك كثرية ج ّدا ،حيث جند على سبيل املثال ال احلصر ،اإلهلة " تانس " يف
جير على األه ايل املوت واجلف اف رواية "الب ئر" هي إهلة اخلصب واجلم ال ،والتج ّدد ،وغياهبا ّ
واخلس وف .وحيكم عليهم بالتيه والفن اء بينما جندها ويف نفس الرواي ة ،هي " ت انس " املش يّدة
للجنة األرضية ،ألجل اخللود ،والبقاء والنعيم ،وجند عاصمة جنتها األرضية " أطالنتيدا " هي
قبلة للعلم واملعرفة .وعاصمة للتجارة .وبالتايل خدم العنصر األسطوري " تانس " مظهري "
اخلصب " و " اخللود ".
كذلك ،جند ،على سبيل املثال العنصر األسطوري " الغزالة " كعنصر أسطوري يف رواية
"نزيف احلج ر" هي رمز للخل ود وهي ك ذلك رمز للمظهر الط وطمي من جهة أخ رى .من
خالل تيمة واحد وهي ( ميثاق الدم ).
ك ذلك ،جند ،على س بيل املث ال ،العنصر األس طوري " اإلهلة ت انيث " يف رواية " الترب " ،
هي إهلة اخلصب واحلب والتناس ل ،وتك ون ب ذلك رم زا ملظهر اخلص ب ،ولكنها من جهة
304
أخ رى هي أيضا رم ز .للمظهر الط وطمي حيث تس لط ( اللّعنة والعق اب ) على أوخيّ د،
وأبلقه ،وبالتايل هي رمز للمظهرين ( اخلصب والطوطم ).
وعبقرية الك وين يف ه ذه النق اط مجيع ا ،ال تكمن يف كونه اس تطاع أن جيعل العنصر
األس طوري الواحد خيدم أك ثر من مظهر أس طوري .وإمّن ا عبقريته احل ّقة تكمن يف أنّه اس تطاع
جيس د فعال خاصية من خصائص أسطورة التكوين اليت تشمل على هذه املظاهر الرئيسية أن ّ
الثالث ة ،واليت تتش ابه يف تفاص يلها وتش رتك يف جزئي ات كث رية .كوهنا انبثقت من أصل واحد
هو " أسطورة التكوين ".
يقر بأنه بصدد خلق أسطورة بواسطة األسطورة حيث جاء عنه نفسه " :الرواية والكوين ّ
ال تصري رواي ة ،إذا مل تتكلم لغة األس طورة .غاية األمر يف أساسه هو ق ول األس طورة .غاية
الرواية أساسا خلق األسطورة ،أو فلنقل إ ّن نيّة الراوي األوىل هدم البدايات من أساسها وبناء
البديل خارج املكان مبساعدة األسطورة ،أي خلق األسطورة عن األسطورة ،تكوين أسطورة
() 1
عن التكوين" .
305
القص ة الس ردية اليت
من األقرب اء املق ّربني لألس طورة ،وهي اخلراف ة .ه ذا الش كل التعب ريي ،أو ّ
املتخص ص .يف
ّ اق رتبت بأس لوهبا وحبكتها كث ريا من األس طورة إىل ح ّد اخللط من قبل غري
صح التعبري – بني اخلرافة واألسطورة يتمثّلأحيان كثرية ،ولكن هناك ح ّد فاصل منيع – إن ّ
اخلاص ية" .
قص ة مق ّدسة بينما اخلرافة ال متلك ه ذه ّ يف " القدس ية " .حيث أ ّن األس طورة ّ
النص األس طوري ،جيب أن تك ون الفيصل اص ،ف إ ّن ص فة القداسة اليت يتمتع هبا ّ بش كل خ ّ
التعرف على النصوص األسطورية لثقافة ما وتفريقها عن بقية النّصوص " األساسي يف عملية ّ
(. ) 1
حيث ،جند ،ب أ ّن األس طورة حتمل يف طابعها ص فة القداس ة ،كوهنا ك انت يف تعاملها
األول عب ارة عن إجاب ات ألك ثر األس ئلة إحلاح ا ،عن خلق الك ون ،واآلهلة ،وخلق اإلنس ان ّ
والطبيعة وغريه ا .حيث " تتمتع األس طورة بقدس يته وبس لطة عظيمة على عق ول الن اس
ونفوسهم .إ ّن السطوة اليت متتعت هبا األسطورة يف املاضي ،ال يداينها سوى سطوة العلم يف
فالعلم يف العصر احلديث " ...إ ّن األس طورة هي حكاية مق ّدس ة ،ذات مض مون عميق يش ّ
() 2
عن معاين ذات صلة بالكون والوجود وحياة اإلنسان "
خاص ية " القداسة " حيث أهّن ا جتنح
أما بالنس بة للخراف ة ،فهي بعي دة كل البعد عن ّ
اخليال البشري اجلامح ،البعيد عن جمريات الواقع ،وتطرق حىت العامل امليثافيزيقي ،رغم قرهبا
لعل اخلرافة هي أكثر أنواع احلكايات التقليدية شبها باألسطورة. الشديد من األسطورة .إن " ّ
تقوم اخلرافة على عنصر اإلدهاش ومتتلئ باملبالغات والتهويالت وجتري بني املستوى الطبيعاين
اجلن
املنظور ،واملستوى فوق الطبيعاين ،وتتشابك عالئقها مع كائنات ما ورائية متنوعة مثل ّ
() 3
والعفاريت واألرواح اهلائمة "
وطبعا إىل ج انب خاص ية التس لية اليت حتققها اخلرافة لإلنس ان ،إال أ ّن ه دفها أبعد
وأمسى من ذلك ،يف الكثري من األحيان ،حيث أ ّن هلا مغزى أخالقيا وتعليميا ،إذ " :قد تنسج
306
لغايات أخالقية وتوجيهية كاحلث على التزام اخللق الطيّب والنفور من املساوئ ،وقد تتضمن
جملرد التس لية والرتفيه إال أهّن ا
رس ائل من مثل متجيد الق وي وص احب الس لطان ،وقد ت روى ّ
تعتمد على مب دأ نسب اخلوارق والبطوالت لعناصر اخلرافة وشخص ياهتا الرئيسية .شخصيات
اجلن أو العفاريت " (.)1
اخلرافة هم من البشر واحليوانات أو ّ
ه ذا ،ويف عالقة اخلرافة بالرواي ة ،فالعالق ة ،عالقة مص در؛ حيث تنسج النص وص
الروائية عاملها من اخلراف ة ،وتتق اطع معها يف ت داخل ،يعجز الق ارئ ،يف كثري من األحي ان،
والقص ة اخلرافية املوظفة ،وهذا يف تضافر سردي رائع ،تستمد فيه ّ التفرقة بني نسيج الرواية،
القص ة اخلرافية طابعها احلك ائي ،ك أن تس تمد منها عنصر اإلده اش ،أو عاملها الرواية من ّ
امليث افيزيقي ،أو مغزاها اإلرش ادي ،وطبعا ه ذه خاص ية يف الرواي ة ،حيث أن " الرواية
اس تلهمت عناصر أس طورية مثلما اس تلهمت عناصر فلكلورية أخ رى " ( .)2وطبعا ال يت أتّى
مثل ه ذا االس تلهام البن اء للخرافة يف الرواي ة ،إال من ط رف مب دع عبق ري يعي ما يوظ ف!
وكيف يوظف .! إذ " :ال ميكن استغالهلا إال بفضل كاتب كبري يفهم مغزاها " (.)3
نص ه ال روائي، النص الفولكل وري يف ّاس تطاع الك وين بقدرته اخلارقة على اس تنطاق ّ
القص األسطورية – كما سبق القص ة اخلرافية إىل جانب ّوتفجري طاقته احلكائية .بأن يستلهم ّ
النص ال روائي من طاقتها ورأينا – بغ رض تش ويق الق ارئ ،ومراودت ه ،وأيضا ألجل انتع اش ّ
النص
النص وأبع اده ال ّداللية بنفس مس توى ّ احلكائي ة ،وك ذلك ألجل تأص يل مقص دية ّ
اجلن اليت
القصة اخلرافية كثرية ،منها ،ما جاء عن قصص ّ والفولكلوري .واألمثلة على استلهام ّ
الرواية..." : نص ّاجلن وحفيدها؛ وقد ح ّدثه والده عن ذلك مرارا .إذ جاء يف ّ أدهشنا سليل ّ
مث اكتشف رسوما أخرى وهو يتسلق اجلبال خلف املعيز .ورأى يف اجلدران الصخرية وجوها
الص حراء .وأدهشه كيف أ ّن ّأمه مل حت ّدثه بشعة كوجوه الغيالن وحيوانات قبيحة ال توجد يف ّ
-مجعية التجديد الثقافية واالجتماعية ،األسطورة توثيق حضاري ،ص.42 : 1
-عبد البديع عبد اهلل؛ اخلرافة واألسطورة يف الرواية العربية ،مكتبة اآلداب ،القاهرة ،ط ،1994 ،1ص.16 : 2
307
عنها من قبل حىت يف اخلراف ات .كما مل يس مع عنها من أبيه قبل أن يهلك يف تلك املط اردة
الودان املسكون ّأمه قالت :أهّن م سكان الكهوف القدماء ...األجداد األولون. الفظيعة خلف ّ
باجلن ؟
-ولكنك قلت أن الكهوف مسكونة ّ
ختض قربة احلليب بني ي ديها
رمقته باس تغراب ،ابتس مت مثّ متايلت ميينا ويس ارا وهي ّ
اجلن؟ -كتمت ض حكة ،ولكنّه ض بطها يف – ق ال بإحلاح - :هل أج دادنا الق دماء ّ
عينيها .عاود سؤاله ،فنهرته بضيق - :اسأل أباك .سأل أباه ،فضحك ،وقال:
اجلن مثل الناس ،ينقسمون إىل قبيلتني:
اجلن اخلرّي ّ ،
اجلن ،ولكن من ّ -رمبا كانوا من ّ
اجلن اليت اخت ارت
قبيلة اخلري وقبيلة الش ّر ،حنن ننتمي إىل القبيلة األخ رى ...قبيلة ّ
اخلري.
-هل هلذا السبب ال جناور أحدا؟
يفض ل اخلري
-نعم ،هلذا الس بب .إذا ج اورت األش رار حلقك الش ّر ،اإلنس ان ال ذي ّ
الب ّد أن يه رب من الن اس حىت ال يلحقه األذى .وك ذلك يفعل ه ذا الفريق من
اجلن .س كنوا الكه وف هربا من الش ّر منذ ق دمي الزم ان .أال تس معهم وهم ّ
يتحاورون يف الليايل املقمرة؟.
اجلن الليلة؟ األجدر أن جتلب الناقة وتأتيين
تدخلت ّأمه :ملاذا - :ملاذا ختيفه مبحاورات ّ
باحلليب قبل العشاء .فالتفت آسوف إىل ّأمه ،وقال:
اجلن يف الكهوف كل يوم .يقولون أشياء مدهشة وخيطر بباهلم -أنا أمسع حمادثات ّ
اجلن ض حك وألقى ب أعواد احلطب يف يف بعض األحي ان أن يغنّ وا .أنا ال أخ اف ّ
اجلن يف كهوف اجلبال " ()النار .وواصل التسلّي بوجوه ّ
اجلن ،يف بداية روايت ه ،لتك ون
قص ة خرافية أبطاهلا ّ نالحظ هن ا ،أ ّن الك وين ،وظّف ّ
القص ة اليت تعين كث ريا ،بطل الرواية
حج را أساسا يبين عليه هيكل الرواية كك ل .ه ذه ّ
اجلن .وه ذا التعزير م ذهب أس طوري ( آس وف ) ،حيث ت زرع يف ذهنه وخميلته أنه حفيد ّ
الرواية هو (املذهب الط وطمي) .فيك ون ب ذلك الك وين ،قد انتقل من اخلرافة إىل موظف يف ّ
اجلن " كائن غييب
األسطورة يف تضافر سردي وأسطوري وخرايف رائع .وجند يف األثر أن " ّ
308
وخ رايف تأس طر مع ال زمن ،وأ ّن هن اك العديد من القبائل قد آمنت بقدس يته وبأهنا من نس له.
وذهبوا إىل أبعد من ذلك ،بأن تزوجوا منها وتناسلوا معها .حيث جاء ..." :قد "تنزل " إىل
البشر وتقيم معهم أص نافا من العالق ات ختتلف حبسب ما ميكن أن ينشأ بني اإلنسي واجليّن –
ويسمى قرينا أو تابعا أو رئيا – من صالت ترتاوح بني قطبني ،أحدمها إجيايب ،هو االستهواء
() 1
والزواج واالستفحال وقول الشعر على لسان الشعراء ،والثاين هو االختطاف واخلنق" ...
.
اجلن عند
اجلن عكس اإلنس فإن موطن ّ اجلن " ،ملا كان ّوجاء – أيضا – عن مواطن ّ
العرب هي كل مكان غري آهل وال مسكون .وال عجب إذن ،أن كانت املفاوز وكل مكان
ال أنيس به .وقد اشتهرت بينهم مواضع ذكروها ونسبوا إليها ،ورتبوها راتب ،أشهرها وبّار
() 2
"
للقص ة اخلرافية
وبالت ايل ،اس تطاع الك وين ،أن ميزج تلك الطاقة احلكائية واإلحيائية ّ
النص؛ حيثنص الرواية ،فأشعت على كافة فضاء ّ اجلن ) ،داخل نسيج ّ والرمز األسطوري ( ّ ّ
اجلن ،ك ذلك إىل ج انب تعليمي أدتهأحالنا ه ذا التض افر إىل فض اء حك ائي م دهش لع امل ّ
اجلن لولده ( آسوف ) بعربة ونصح يفيدان أنّه القصة اخلرافية؛ حيث ختم األب سردته لقصة ّ
عليك أن تع تزل البشر إذا أردت اتّق اء ش ّرهم " :إذا ج اورت األش رار حلقك الش ّر .اإلنس ان
الذي يفضل اخلري الب ّد أن يهرب من الناس حىّت ال يلحقه األذى " (.)3
ه ذا من جه ة ،ومن جهة أخ رى ،وصل الك وين هبذا احملكي املس توحى من الفلكل ور
اجلن هو ط وطم لإلنس ان؛ حيث ك ان الش عيب األديب إىل كنه األس طورة القدمية القائل ة ،ب أ ّن ّ
وتطورت أحداث الرواية وتص ّدعت لتصل إىل اجلن وحفيدهمّ ، بطل الرواية (آسوف) سليل ّ
جمس د يف معلم حجري اكتشفه بطل الرواية ( آسوف ) صدفة ،ليكون أحد أ ّن هذا الطوطم ّ
ودان املق ّدس ) .حيث ج اء يفاجلن املقنّع وال ّ
أهم رم زي املظهر الط وطمي يف الرواي ة :ومها ( ّ ّ
-حممد عجينة ،موسوعة أساطري العرب – عن اجلاهلية ودالالهتا ،ص.381 : 1
309
مصب
ّ الرواية :يومها طارد أشقى معزاة يف القطيع ...فركض وراءها حىت أدركها عند نص ّ
ّ
الض خمة.
الص خور ّتتوجها ّ ال وادي يف "أينس يس" اجملاور هن اك تق وم جمموعة من الكه وفّ ،
الص خرة العالية اليت تقف كبناء يصعد صوب السماء كنصب وثين الص خور تلك ّ وحي ّد هذه ّ
القمة حىت
ودانه املق ّدس ،القطعة احلجرية اهلائلة من ّ
اجلن املقنّ ع ،مع ّ
ش يّده اآلهلة .يغطّي ّ
األسفل " (.)1
القص ة
الس رد ويسرتس ل ،وجييد الك وين يف كل ه ذا ،التنقل بسالسة من ّ ويت واىل ّ
القصة الواقعية ،وهي يف أغلبها ،واقع حياة الطارقي املتمثل
القصة األسطورية ،إىل ّ اخلرافية إىل ّ
الص فاء والت آخي مع
حرية وطالق ة ،يف عزلة يس ودها ّيف (آس وف ) يف ص حراء شاس عة بك ّل ّ
حريته
كل ما حييط به من كائنات ومجاد .وال ينغّص عليه هذه احلياة اهلنيئة ،وال يك ّدر صفو ّ
هذه سوى جشع اإلنسان النّهم ،الظامل ،املستب ّد ،األناين ،الذي سعى بشىت الطّ رق أن خيرق
احلرية
الص حراء ونقائها وعذريتها ،بآالته الشيطانية .وجشعه الاّل متناهي ليخنق أنفاس ّ صفاء ّ
فيها ،ويبيد حيواناهتا ،خامتا –الكوين – سرده بصورة صلب ( آسوف ) على النصب الوثين،
ودان املق ّدس .ليك ون قربانا للخالص .ويك ون اإلنس ان اجلشع وهو ملتصق ب اجليّن املقنّع وال ّ
احلق.
املتمثّل يف شخصية ( قابيل ) هو الشيطان البشري ّ
إضافة إىل ما سبق ،فإ ّن استلهام الكوين للقصص اخلرافية يف روايته ال يزال متواصال،
القص ة املدهشة للغزال ة ،اليت ق ّدمت نفس ها قربانا لبين آدم .بغية كسب
حيث جاءنا بتلك ّ
مر الزمن.
(ميثاق ال ّدم) ،ليحفظ العهد بينها ،وبينه .كي ال يتعرض هلا ،ولنسلها باألديّة على ّ
القص ة اخلرافيّ ة " :تق دمت ميّن أمي ،وقبلت ين ،ومتس حت برقب يت ،ومهست يف
ملخص ّ فك ان ّ
أذين " :إ ّن أفعل ذلك من أجلك .لن ميسك اإلنس بعد اليوم ".
مث ذهبت وس لمت نفس ها لآلدمي احملطّم ال ذي يغمر وجهه يف ال رتاب حتت ش جرة
ودس ت الطفل العطش ان يف ال رمت ...تكأك أت عليها العائلة يف تلك اللّحظ ة .وأقبلت املرأة ّ
310
جوف ّأمي املسكينة كانت ذبيحة ...دمها آخى بني ملتنا وملّة آدم .حنن اآلن وابن آدم أخوة
() 1
بالدم .هذا احلصن اشرتيناه بثمن قاس "
القص ة اخلرافي ة ،حتمل عظة عن وطبع ا ،وأل ّن اخلرافة يف مقص ديتها وعظي ة ،ف إن ه ذه ّ
سر آخر يف التضحية .القربان سيفتح نص الرواية " :هناك ّ
قدسية (رباط الدم) ،حيث جاء يف ّ
سيحرم عليه دم ابنتك وأبناء أبناء ابنتك إىل أبد اآلبدين .هذا
عهدا بني نسلك وبني ابن آدمّ ،
تس ول له نفسه أن هو العه د ،حصن القرب ان أن خيون رب اط ال دم .واللّعنة س وف تالحق من ّ
خيون رن رباط الدم .فال يوجد يف الدنيا كلها أقوى من رباط الدم وليس هناك جرمية أبشع
من خيانة هذا الرباط"(.)2
ه ذه العظ ة ،عن قدس ية ( رب اط ال دم ) ،وردت يف الفلكل ور الع ريب منذ الق دمي ،منذ
املدونة يف الكت اب املق ّدس عن األخ وين األع داء حيث جترا (قابي ل) و قتل أخ اهاألس طورة ّ
(هابي ل) بفعل الغ رية منه ،خاصة أن قربانه قبلته اآلهلة و مل تتقبل قرب ان اآلخر و حني ك ان
الك وين ال ي رتك س بيال ملرور أي نص ت راثي يف رواياته م رور الك رام ،فانه انتقل من القصة
اخلرافية اجملس دة يف قصة (ميث اق ال دم) على لس ان الغزالة .اىل البعد األس طوري ال ذي يعمل
نفس الرمزي ة ،حيث جسد لنا من خالل ه ذه القصة ،البعد األس طوري الق ائم على ع دم
جمس دا يف قتل ( قابيل ) املتعطّش لل ّدماء
خاص ة املتمثل يف دم األخ ّوةّ .
اح رتام قداسة ال دمّ ،
القص ة اخلرافي ة ،وثاني ا ،قتله لبين
ّأوال ،للغ زالن ال ذين ت ربطهم به رابطة ال ّدم – كما ورد يف ّ
جلدته ،الرجل املسامل ،الصايف النّفس ( ،آسوف ) وصلبه على احلجر الوثين يف هناية الرواية.
بالقص ة اخلرافية على لس ان الغزال ة،
( قابيل ) ه ذا ،ال ذي م ّر يف ص غره حبادثة مش اهبة ّ
حيث أنقذه ( دم الغزالة ) من املوت احمل ّقق ،وهو ،رضيع ،والقصة اليت أوردها الكوين جاءت
بالس كني عندماقص ته مع اللّحم بدأت منذ الرضاعة .مات األب مطعونا ّ على النحو التايلّ " :
حبلت به ّأم ه .وم اتت األم مت أثرة بلدغة أفعى بعد والدته بأس بوع .ورثت تربيته خالت ه،
فسقته دم الغزال يف إحدى الرحالت باحلمادة عمال بنصيحة أحد الفقهاء .قال إهّن ا التعويذة
311
الوحي دة اليت تس تطيع أن تغس له من النّحس وحتمي بقية أهله وأقاربه من اللّعنة اليت تالحقه
الرحل ة ،والتقطت منذ أن ك ان نطفة يف بطن ّأم ه .ولكن اخلالة وزوجها ماتا عطشا يف تلك ّ
قافلة عابرة الطّفل الرضيع وهو حيشو رأسه يف جوف الغزالة ويلعق ال دماء وال روث يف البطن
املبقور .ويقال إ ّن ال ّدم هو الذي أنقذه من املصري الشقي الذي آلت إليه خالته وزوجها " (.)1
حب اللّحمب على ّ إذن ،ك ان دم الغ زال هو منق ذه من اهلالك ،لكنه ما لبث أن ش ّ
وشراهة أكله ،فنقض العهد ،ونسي ميثاق ال ّدم ،وأكل أخته بال ّدم ( الغزالة ) مث إخوانه بال ّدم
( الغزالن ) وبرع يف صيدها بل وإبادهتا .حيث جاء ..." :يف السابق كان يصطاد يف الغزوة
ظ .أما اآلن فانعكس الوضع ،أصبح يصرع كل الواحدة غزالة واحدة ،اثنتني إذا ابتسم له احل ّ
القطيع يف غ زوة واح دة .وال تنجو س وى غزالة أو غزال تني إذا حصل احلي وان املس كني على
الصحراء اجلزائرية " (.)2
ظ ...جبل احلساونة أصبح معقال للغزالن الالجئة إىل ّ ابتسامة ح ّ
لقد أوصله جشعه إىل نقض ميثاق ال ّدم وخيانة العهد وأكل الغزالن بل إبادهتا .وأكثر
من ذلك أوصله جشعه ودمويته إىل قتل أخيه احلقيقي بال ّدم ( آسوف ).
وهبذا ،انتقل بنا الك وين من اخلرايف إىل األس طوري عرب نس يج س ردي حمكم ،ك انت
أح داث القصص اخلرافية واألس طورية والواقعية تت واىل وتسرتس ل ،لتعطينا يف النهاية رواية
الص حراء العذراء ،ألوانا أو منجر صفاء ّ ليست كأي رواية .هدفها ،نقد الواقع املرير ،الذي ّ
االنتهاك ات يتط اول ابن آدم عليه ا ،جلش عه وبآالته الفتاك ة .فهو ن داء من الك وين،كن داء
السابقني ،بأن يتآخى اإلنسان مع أخيه اإلنسان ،وأيضا مع الكائنات والطبيعة وتعود األرض
كس ابق األزمن ة .ك أرض الف ردوس املفق ود ولكن الق در ال ي رتك الطاغية أب دا ،حيث أص يب
قابيل باجلنون والتيه.
خاص ة منها القصص على لس ان احلي وان – كث رية يف ه ذا ،والقصص اخلرافية – ّ
الس رد ،ومنها ما جاء قصريا .لكنها روايات الكوين ،منها ما أخذ مساحة كبرية من مساحة ّ
مجيعا حتمل يف جوهره ا ،نص حا وإرش ادا وتوجيها لإلنس ان ،من خالل إعط اء األمثلة
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.91 : 1
312
ب احليوان ،لتجريد الفك رة وترس يخها لدي ه .وإلمت اع الق ارئ مبا حتمله من غ ريب وعجيب
للقص ة اخلرافية
ط عن استخدام هذا كلّه لوعيه بالوظيفة اجلمالية ّ ومدهش .وال يتواىن الكوين ق ّ
قص ة خرافية قص رية، يف الس رد وأيضا لوعيه أك ثر بوظيفتها التعليمية واإلرش ادية؛ حيث جند ّ
نص الرواية " :رأت على لسان ( الغزالة ) ،هتدف إىل تلقني أمثولة عن الوطن ،حيث جاء يف ّ
الغزالة احلكيمة الوحشة يف عيين صغريهتا ،فحدثتها عن السبب الذي جعلها جترؤ على البق اء
وتتخلّف عن طوابري امله اجرين .وقبل أن ت دخل يف تفاص يل احلصن احلص ني ،رأت أن تلقنها
وتقص عليه ا ،حكاية عن ال وطن .ق الت يف إح دى األمس يات إ ّن اخلالق ملا خلقّ األمثول ة،
ال ّروح ،عنّي له حدودا ،وحبسه يف ثالثة س جون :الزمان واملكان واجلس د .وقد ح ّقت اللّعنة
وهلك كل من ح اول .أن خيرج من ه ذه احلدود أل ّن اخلالق ق ّدس ها وجعلها ق درا يف رقبة
مترد على إرادت ه .وح دث أن اغ ّرت الغ زال بقرنيه الكب ريين ،وخ رج عناملخل وق ،وخمالفتها ّ
القمة املهيبة الزرقاء املعممة بالغمام
قم ةّ ...
القطيع يف السهل .تطاول يف اجلبال ،واعتلى أعلى ّ
الودان أن يقرتب منها .فماذا كان جزاء خروجه؟ عاقبه اخلالق بطائر متوحش اليت خيشى حىت ّ
قم ة ،فبقر بطنه بض ربة من خملب ه ،وص رعه ،وت دحرج عرب الس فح وأع اده إىل ال تعلو عليه ّ
السهل جثّة مبقورة .فمن أراد أن خيرج من املكان أراد أن خيرج من بدنه ،ومن أراد أن خيرج ّ
من الب دن أراد أن خيرج من الزم ان ،ومن أراد أن خيرج من الزم ان ادعى اخلل ود ،ومن ّادعى
رده إىلاخلل ود كفر بق دره وتط اول على ؟؟ ونافسه يف األلوهلي ة ،ومن نافسه يف األلوهية ّ
الفن اء .فلم اذا هنرب ون ذهب إىل التاس يلي؟ كيف ن رتك س هول احلم ادة .مبفاجآهتا وزهورها
وأعش اهبا وترفاس ها وهوائها وهناجر إىل ما وراء الرمل ة ،حيث تزحف الزواحف وتتس كع
الوحوش؟ " (.)1
والصرب .وعدم ترك األوطان للغرباء بفعل القصة يزرع فينا الكوين ،قيم الوطنية ّ
وهبذه ّ
النص الروائي ،وكانت فحب الوطن أمسى من كل القيم .هذه قيم مشلت كافة فضاء ّ اهلجرةّ .
قص ة ( العظاية )،
قص ة خرافية أخ رى ،هي ّ أيقونة أساس ية يف نس يجه .إىل ج انب ه ذا جند ّ
وعلى ال ّرغم من قص رها امللح وظ إال أ ّن الك وين جعل ( العظاية ) عنوانا لفصل كامل من
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص 109 :و.110 1
313
النص كلّ ه.
القص ة اخلرافية ه ذه يف نس يج ّ فص ول روايته وه ذا لقيمتها املعنوي ة ،وأيضا لقيمة ّ
القص ة على النحو التايل " :استجمع القوة الباقية ،األخرية ،من القلب ،وزحف حيث جاءت ّ
حثيثا عرب امت داد ال وادي ...ك ان زحفا يائس ا ...املع زة تس حب اهلواء وتتنفس ط ويال بعد
ودان املذبوح فينهض واقفا ب دون رأس ،وجيري ذحبه ا ،رأس ها مفص ول عن جس دها ،أما ال ّ
مس افة طويلة يف الع راء ،قبل أن يستس لم هنائيا ويس لم أم ره للّ ه .والعظاي ة ،احلال مع العظاية
الص باح وعن دما تلقيها يف الن ار لتش ويها يف اللّي ل ،الب ّد أتقفز من اجلحيم
أس وأ .ت ذحبها يف ّ
وجتري يف الع راء .مثّة حي اة أخ رى بني املوت واحلي اة .مثّة حالة ثالثة ليست ع دما وليست
وج ودا .هو اآلن يف احلالة الثالث ة .يزحف عرب ال وادي ك األفعى ،حمج وب العي نني ،ال ي رى
شيئا ...وال يعي شيئا .باحثا عن قطرة املاء اليت تركها باألمس يف قاع الوادي بدء املعركة "
(. ) 1
القصة ،وعلى قصرها ،حتمل مغزى كبريا يف جوهرها .إمّن ا فكرة التشبّث باحلياة، هذه ّ
بني اهلالك والنّجاة .وإهنا فكرة اإلرادة اليت جيب أن يتحلّى هبا املرء .وإهنا – كذلك – فكرة
عدم االستسالم وحماولة النهوض من جديد .إهّن ا فكرة عدم االستسالم لعبثية احلياة.
مطعمة من حني إىل آخر بقصص حتكي عن التمائم باإلضافة إىل ما سبق ،فإ ّن الرواية ّ
والودان املق ّدس ) .حيملون
والتعاويذ ،وكيف أ ّن معظم صيادي احليوان األسطوري ( الغزال ّ
الص حراء يف
نص الرواية " :وبرغم أ ّن ّ هذه احلجب والتعاويذ اتقاء لعنته وأذاه .حيث جاء يف ّ
تعج ب الغزالن إال أ ّن الوالد س ّن لنفسه تقلي دا أال يصطاد أكثر من ش اة
تلك السنوات ك انت ّ
واحدة يف الرحلة .وكان يؤكد أ ّن روح الغزال تقوى أو تشت ّد إذا زادت عن واحدة ،تتغلب
العرافني وال تعاويذ الفقهاء .وقد ح ّذره
الس حرة .ولن تفيد متائم ّ على حصن القرآن وأحجبة ّ
العرافني املشهورين يف " كانو " من جتاوز احل ّد يف صيد الغزالن ،ووصف زمر السحرة أحد ّ
تستغل العباد م ّدعية أهّن ا تستطيع أن تبتدع متائم ميكن أن تبيح اإلسراف يف قتل احليوانات
ّ اليت
الربي ة ،ووص فهم باحملت الني ال ذين ال جيدر ب العقالء أن ينخ دعوا بأب اطيلهم " ( .)2والقصد من
ّ
-املصدر نفسه ،ص.72 : 1
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص 46 :و.47 2
314
الربية حىت ال ي ؤدي
القص ة القص رية أنه على املرء ع دم اإلس راف يف ص يد احليوان ات ّه ذه ّ
انقراضها.
وج اء يف موضع آخ ر " ،ليس مس عود وح ده ال ذي أتى حييط عنقه باحلج اب وإمّن ا
الس حرة الزن وج،
ج ون أيض ا .تربع جبوار املوق د ،وأخ رج احلصن اجلل دي املرس وم بإش ارات ّ
ولوح به أمام وجهه متباهيا ،تناوله قابيل ،وقلّبه بني يديه مث قال :هذا وشم شياطني " كانو " ّ
ه ذه خط وطهم .ه ذه رم وزهم .من أين لنص راين أم ريكي يعيش معلقا يف جبل نفوسة حبصن
اجلن ه ذا؟ تض احكا ج ون ومس عود ...فك أزرار قميص الك اكي ،ف ربزت قطعة اجلل د.
الس حرية .ص اح قابي ل - :اس تغفلتموين ،مل يقل يل أحد أ ّن األحجبة موش ومة أيضا ب الرموز ّ
ودان علي أن أك ون الوحيد بينكما ال ذي ي ذوق حلم ال ّ
ودان ...هل كتب ّ ض رورية لوليمة ال ّ
بدون حصن؟
والودان
دم الغزال .أنت روح اخلالءّ ، -ال خوف عليك ،أنت الوحيد املفطوم على ّ
حمصنة من الروح بقدرة ريب " (.)1
روح اجلبال ،والروح ّ
الس رد إىل أن بلغ ذروت ه ،حيث لقي الوالد حتفه من قبل وفعال ،تواصل تص عيد ّ
ودان) ليس ألنه مل حيمل التعوي ذات واحلجب ،بل ألنّه أخلف بالوع د ،وهنا تكمن عبقرية (ال ّ
مرة ،حيث وكاملعتاد " :ال يتحرك الكوين يف قلب املوازين ،وخرق أفق انتظار املتلقي يف كل ّ
الس حرة باجتاه القمم املهيبة إال بعد أن يق رأ كل آي ات اليت حيفظها من الق رآن وي ردد متائم ّ
احملص نة يف جل ود الثع ابني اليت جلبها له جتار
والزن وج بلغة اهلوسا ويعلّق على رقبته التعاويذ ّ
القوافل من الع رافني يف " ك انو " .جيلس يوما قبل الس فر يتمتم بتعاوي ذه ويص وم عن الكالم
رد على مس اءالهتما ،وني ام خ ارج اخليمة حىت ال يض طر إىل تب ادل الكالم مع أح دمها وال ي ّ
لينطلق يف الفجر على مجله"(.)2
ودانا بعد أن أنق ذه ه ذا
ولكنه أخلف بالن ذر ال ذي قطعه على نفسه ب أن ال يص يد ّ
األخري يف حادثة اهلاوية .ولكنه اض طر إىل س ّد رمق جوع العائل ة ،فخرج إىل صيده ،ونقض
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.31 : 2
315
الودان
العهد ،فكانت عاقبة ذلك املوت احملقق بكسر رقبته " :أبوك ال يريدك أن تسفك دماء ّ
ألنّه ن ذر ن ذرا من زم ان قبل أن تول د .ك ان يص طاد يف س فوح اجلب ال " آينس يس " ف زلقت
رجله ووجد نفسه معلقا بني السماء واألرض ،مبسك صخرة ورجاله تتذليان يف اهلاوية .فقد
األمل يف النج اة ،فانتش له نفس احلي وان ال ذي ك ان يقاتله وين وي قتله وأنق ذه من اهلالك ،هل
ودان ،ووعد أال ي درب نس له على ص يده " ( )1لكنه تفهم اآلن؟ لقد ن ذر أال يق رتب من ال ّ
أخلف بالنذر ،فكان موته " :لقد كسر احليوان املسكون رقبته كما كسر هو يوما رقبة ذلك
الودان الذي انتحر"(.)2
ّ
القص ة األس طورية اليت
القص ة اخلرافي ة ،إىل ّهك ذا ينقلنا الك وين ،بكل سالسة من ّ
تتض من تيم ات (العه د) و (الن ذر) و (نقض العه د) و (خلف الن ذر) و (اللعنة والعق اب)
وغريها مما يتعلق ب الرمز األس طوري ( الط وطم ) .وكل ه ذا وذاك يف نس يج س ردي رائ ع.
اخلرايف وال أسطوري والواقعي ،تضافرا مجاليا رائعا.
ّ تضافر فيه
وخاص ة
ّ وباملث ل ،مل ينس الك وين ،عاقبة ( قابيل ) آكل حلم ذوي الق رىب من الغ زالن،
الدم .واستعاض عن كل هذا، أنّه استغىن عن احلجب والتعاويذ ،ونقض العهد ،وخاف ميثاق ّ
بزعمه أنّه فطم على دم الغ زال ،لكنه لقى عقابه احملت وم ب اجلنون والتيه حيث ج اء " ازداد
تقص د الزبد من فمه .تصاعد جنونه " ( .)3هكذا ،استنفذ الكوين الطاقة جحوظ عيين قابيلّ .
احلكائية لكل من القصص اخلرافي ة ،والقصص األس طورية القائمة على الن واة األس طورية اليت
اعتم دها الك وين من حني آلخ ر ،كالعهد جتاه الط وطم ،و ( نقض العهد ) ،و ( اللعنة
والعقاب ) وغريها .يف البناء السردي للرواية ،وخلق منطا سرديا يقوم على جتاوز هذه األمناط
الس ردية القدمية وإمّن ا ص هرها يف عامله ال روائي لتش كيل فض اء ق رائي ،وه امش ت أويلي ميكن
الوصول إليه بعد استنطاق هذه اخلطابات السردية املتنوعة بشخصياهتا ورموزها ومقصديتها.
وما استحضار هذه النصوص الرتاثية إال لغاية يف نفس الكوين " ليس بوصفها بدائل للواقع،
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.106 : 3
316
بل بوص فها وس ائل الس تعادة مناخ ات الب داءة اإلنس انية ،وإلث راء التعبري ال ذي حي ّدد فعالي ات
القراءة والتأويل يف رفع داللية ضيقة " (.)1
نص ه هبة للقارئ ليستمتع به دون عناء منه ومباالة ،لكنه يبسط له والكوين ،ال يقدم ّ
النص بيد وخيفي تل ّقيه بيده األخرى ،وهذا بفضل الغموض ال ّداليل ،الناتج عن هذا التوظيف ّ
النص املقفل علىنص ه جياوز أحبولة ّ لألش كال التعبريية الرتاثي ة .إذ يلجأ إليه الك وين " إلنت اج ّ
دمر ل دى املتلقي واحدية املعىن النص لإلفص اح عن ه ،وت ّ مغ زى واحد تتع اون كل عناصر ّ
وس هولته وانص ياعه لش فرات س هلة مبذول ة ،وجتربه على ب دل جهد مل يتع ّود بذله من اجل
إنتاج قراءة ممكنة بني قراءات ع ّدة " (.)2
القص ة اخلرافية حاض رة ك ذلك يف رواية " الترب "؛ حيث تتح ّدث عن ه ذا ،وجند ّ
( اجلن ) وقدرهتا على شفاء ( األبلق ) مهري البطل ( أوخيّد ) ،من خالل زهرة اجلن ،حيث
تكش فت زهرة صفراء ،وفاحت بشذى غامض .زهرة نص الرواية " :يف قمة الساق ّ جاء يف ّ
دس ه يف رأسه م رياث اجلن ...! ج ّر اجلمل إىل احلقل مغالبا القش عريرة واخلوف ...خ وف ّ
اجلن .خ اطب األجي ال من األس اطري واإلره اب ...وقف متف ّك را ،حماوال أن يت ذ ّكر جيل ّ
للجن .االختالف يف النبل، اجلن ليس كاإلنس .ال خبث وال جيل ّ نفسه " :العجائز تؤ ّكد أ ّن ّ
اجلن ال
اجلن أنبل من اإلنس يف املبارزة .إذا أسأت له أساء لك .وإذا أحسنت له أحسن لكّ . ّ
() 3
املهم أن تعرف ما أنت مقدم عليه " . اجلن يلتزم بقوانني اللّعبةّ .
يعرف اخليانةّ .
القص ة اخلرافية ليعيد اس تنفاذ طاقتها احلكائية يف البن اءوظف الك وين ه ذا ،ه ذه ّ
الس ردي للرواي ة ،حيث اس تم ّد ه ذا املعتمد من رحم الذهنية الش عبية ،ب أ ّن تلك النبتة املعاجلة
اجلن هم أفضل من البشر حفظا للعهد والوفاء. اجلن (آسيار) وأ ّن ّ
هي نبته ّ
-املرجع نفسه ،ص .150 :عن بدوي ،د .حممد " ،الرواية اجلديدة يف مصر دراسة التشكيل واإليديولوجيا" 2
،ص82 :
-إبراهيم الكوين ،رواية " الترب " ،ص 33 :و.34
3
317
النص ،وأعطته بع دا مجاليا وإحيائيا ل ه،
القص ة تعليمية يف جوهره ا .التحمت بنس يج ّ ّ
النص الس ردي ،حيث أثبت الك وين أ ّن اإلنس ان ظ امل ،خ ائن ،جش ع، س ار معنا حىت هناية ّ
الطماع ة ،مقابل حفنة من ذهب فيخطئ ( أوخيّد ) ويتن ازل عن زوجته تغلب عليه نفسه ّ
حولت حياته جحيما جراء اإلشاعات وابنه مقابل أبلقه وحفنة من ذهب قبلها على مضضّ ،
مس ت كرامت ه .وال ذهب هو أيضا من قضى على ( أوخيّد ) وأبلقه يف هناية الرواية – اليت ّ
القص ة اخلرافية بالرواية يف
بأبشع ط رق التنكيل – طمعا يف اإلرث .ويف كل ه ذا التحمت ّ
نسيج حمكم متازج فيه احملكي اخلرايف مع احملكي السردي يف تضافر سردي رائع.
ملونة
الرواي ة ،لتك ون مبثابة حج ارة ّ نص ّ
ه ذا ،وتتن اثر إش ارات خرافية هنا وهن اك يف ّ
النص السردي؛ حيث حتدث عن ( العرافة ) ،وبأهنا من تأيت بالنبوءات يف املنام .حيث ترصع ّ
ّ
أ ّن ( العرافة التابوية ) أتت ( أوخيّد ) يف منام ه ،وطالبته بنحر ( أبلقه ) وذ ّكرته بالعهد ال ذي
نص الرواي ة " :قفز يف ِ
قطعه على نفسه أم ام نصب اآلهلة ( ت انيث ) إن ُش ف َي أبلق ه .ج اء يف ّ
اللّيل م ذعورا ،رأى العرافة ف وق رأسه تطالبه ب أن ينحر األبل ق ...يف الص باح ق الت له فالحة
إ ّن العرافة التباوية ه اجرت .جاءها ابنها أوخيّد وأخ ذها معه يف القافلة ع ابرة إىل غ دامس.
رآها بعد ثالث ليال عقب رحلتها ،وقالت له :لست أنا اليت تطلب رأس أبلقك .إهنا تانيت
" مث اختفت إىل األبد " (.)1
والعرافة والكهانة معتقد س اد منذ الق دمي ،وال ختلو منها معتق دات أي ش عب من
ختتص العرافة فقط مس ألة كشف املس تقبل ،وال يس أل الكهنة فقط عن أم ور الش عوب" ،وال ّ
ملح ة ،أو تبحث يف الغد ،بل ميكن أن تتطرق التنبؤات إىل قضايا حاضرة ومعاصرة ،أو حىت ّ
معضلة ماضية " (.)2
318
حيس اإلنس ان املؤمن بالعراف ة ،بالراحة النفس ية حني يتغلب على خماوفه اليت وقد ّ
تس اوره وجيد تفس ريا وحاّل هلا حني يتلقى ذلك من الع ّراف أو الك اهن ف " :لع ّل الكهانة
والعرافة ساعدتا البشرية على إجياد سبيلها يف هذا العامل أمام املستقبل اجملهول واملرعب " (.)3
وك ان ه ذا ،ب التقريب دور العرافة يف أعم ال الك وين ،جتاه املؤمن هبا ،حيث س اعدت
البطل على إجياد تفسري لكوابيسه ومص ائبه ،مس اعدة يف ذلك البطل بت ذكريه بالن ذر ال ذي
قطعه على نفسه ،وحثّه على اإلسراع يف الوفاء به .لكن (( أوخيّد )) تواىن عن تنفيذه وشغله
ط عليه وعلى أبلقه .وصوال حل بأسرته وعشريته ،فتوالت املصائب حت ّ عن ذلك اجلوع الذي ّ
الرواية "
إىل النهاية املأساوية هلما االثنني يف خامتة ّ
وهك ذا ،وعلى ال رغم من الومض ات القليلة للعرافة ودورها يف التنبؤ والتغيري وكتابة
ال رقى واألحجبة " نص حوه بالس حرة الزن وج ،ولكن العرافة التباوية اليت ه اجرت قبل اجملاعة
بوقت قصري آخر من تعاطى الرقية يف الواحة " ( .)2إال أ ّن هذه الشخصية اخلرافية والثانوية يف
الس رد بفضل طاقتها احلكائية حىت النهاية اليت أدت بالبطل وأبلق ه، الرواي ة ،دخلت يف نس يج ّ
جراء ذلك رغم حتذيرات العرافة. باملوت البشع ،ألنه مل يويف بالعهد وحلقت به اللّعنة ّ
القص اخلرافية -ك ذلك -خباص ية اإلده اش فيه ا .وبشخص ياهتا الطبيعية ه ذا وت أيت ّ
نص ه
وامليثافيزيقي ة ،ومبراميها الرتبوية واإلرش ادية .ملتحمة لنفس األس باب الس الفة ال ّذكر يف ّ
السردي ،يف كثري من املواضع.
حيث يعمد األه ايل إىل طريقة غريبة ملعرفة ما يف الغ رب ،بطريقة االستحض ار ،وهي
صمم الشيخ ( غوما ) بطل رواية " البئر " على رؤية ( أمستان) اجلانب الطقوسي منها ،حني ّ
يكن هلا الضغينة .أل ّن الشيخ (غوما)
اخلائن وحتالفه مع اجلنود الفرنسيني لقتل أفراد القبيلة اليت ّ
يتأهب للبحث عنه ومعاقبته. يبحث عن دليل ملموس حىت ّ
نص الرواية – " :خري إن شاء اهلل يا سيدنا الشيخ.فقد جاء يف ّ
شك أنك علمت مبا فعله أماستان ...و... -إن شاء اهلل خري .ال ّ
-املرجع نفسه ،ص.145 : 3
319
:
-احلق أنين أريد أن أتأكد بنفسي .أريد أن أراه بعيين ...أقصد...
:
-أقصد أنين مل أؤمن باخلرافات ولكن عامل الروح عامل عجيب...
:
س ارعت العج وز تق ول ...نعم ،نعم – لقد فهمت ،تقصد االستحض ار ! استحض ار
الغائب!
:
ابتسمت العجوز وقالت بثقة:
الص بية الصادقة " من ضمنها
-ل " االستحضار " طرق وأساليب عديدة .طريقة " ّ
طبع ا ،وهناك جتمع النس اء عند قبور األولني لىي ،وهن اك طريقة " الطفل الصادق
" ،فلماذا نذهب بعيدا و " آيس " بيتا.
:
-أحت اج إىل قم اش أبيض جدي د .وك ذلك أك ثر من ام رأة لق رع الطب ول .وم رآة
جديدة مل يسبق استعماهلا.
:
احت ّد قرع الطبول وارتفعت أصوات الزجنيات بالرتاتيل وقراءة الطقوس بلغة " اهلوسا
" ،مث هنضت الزجنية العجوز وأتت بلحاف ثقيل وقالت ختاطب الطفل:
-آيس .اآلن عليك أن تتغطّى هبذا.
:
-قال الطفل يف صوت يصف حلما:
-أرى جباال ،جبال هائلة قاحلة.
قال الشيخ كأنه خياطب نفسه:
320
آه ،ه ذه جب ال " اهلوج ار " ولكن أنظر حتت اجلب ال ،يف األودي ة ...م اذا ت رى يف
األودية؟
:
-أرى ...زح ام ،زح ام من الن اس و ...يرت دون مالبس غريبة و ...هن اك
بنادق...و...
قال الشيخ بنفس اللّهجة:
-آه ،إهنم اجلن ود الفرنس يس .هل ت رى أماس تان؟ احبث جي دا ...هل ت رى أماس تان
بينهم؟.
-أماستان ...أماستان ،نعم ...إنه هو ،إنه أماستان...
:
-ال ...إنه يتحدث مع أحدهم.
:
-إهنم يتهيئون للرحيل ...قوافل ،و ...بنادق كبرية ...وصغرية...
-آه ،إهنا املدافه والسيارات ...حاول أن تصف أكثر ،ماذا ترى أيضا؟.
:
أومأت الزجنية العجوز للشيخ أن يكف...
-لقد أرهقته يا سيدي الشيخ...
-أنه حمموم.
:
أما الش يخ فقد هنض ووضع الطفل يف فراش ه ،حتسس جبينه م ّرة أخ رى مث أمرها
بإحضار املراهم ومستحضرات األعشاب.)1( " .
الص حراء ،ملعرفة الط الع،
كث رية هي ه ذه الط رق اخلرافية اليت يلجأ إليها األه ايل يف ّ
القص ة اخلرافية املستلهمة من رحم
الرؤى ،وأيضا الستحضار دالئل ملموسة .كهذه ّ ولتفسري ّ
-إبراهيم الكوين ،رواية " البئر " ،ص 26 :و 27و 28و 29و 30و.31 1
321
نص ه الس ردي هبا .حيث س امهت يف اسرتس ال طعم الك وين ّ
احلي اة اليومية للط وارق ،واليت ّ
السرد وجمريات األحداث .إذ ،حثّوا يف البحث عن ( أمستان ) ،وأحضروه إىل الشيخ ( غوما ّ
نص الرواي ة " :لقد قض ينا
) ،ال ذي أن زل به أش ّد العق اب .أم ام كل األه ايل .حيث ج اء يف ّ
الرجل وم ّزق الس روال إىل نص فني عليه وأس رنا معه مائة وعش رين فرنس يا .اطمئن ...أقبل ّ
الس رج –
الرجل الذي أتى جبمل يعلوه ّ فانكشفت عورة أماستان ...مث أضاف وهو خياطب ّ
هيّا اربطه إىل الذيل ...ش ّد يديه إىل الذيل حببل متني ...هيّ ا ...! انتصب اجلمل واقفا وجلس
جبر
املؤدي إىل بيوت األهايل – ّ املرة .انطلق عرب املنحدر ّ الس رج هذه ّ الشيخ غوما ثابتا فوق ّ
أماستان العاري خلفه " (.)1
النص ال روائي ،من احلكاية اخلرافي ة ،طاقتها احلكاي ة ،وذلك يف تض افر
هك ذا ،اس تم ّد ّ
رائع ،حيث محل ( أماستان ) الفضيحة إىل غاية هنايته البشعة باالنتحار.
إىل ج انب ه ذا ،وظف الك وين العديد من احلكاي ات الش عبية االجتماعي ة ،حيث ،ال
تنفك تنتهي من األوىل ،حىت ندخل يف نسيج احلكاية اليت تليها ويف كثري من األحيان تتداخل ّ
احلكاي ات ت داخال عنكبوتيا رائع ا ،يف نس يج حمكم ومتن اغم ،حيث ال تنتهي أح داث احلكاية
األوىل ،حىت يع ّرج بنا الك وين إىل أح داث حكاية ثانية ويتواصل احلكي وتتص اعد األح داث
ومتتزج بعض ها ببعض يف نس يج الرواية ككل يف تض افر مجيل وممت ع ،جيد فيه الق ارئ نفسه
مشدودا ملعرفة خامتة كل حكاية.
وتبهرنا عبقرية الك وين أك ثر ،حني جند بداية حكاية جدي دة هي األصل س ابقة على
لتوها .وأمثلة ذلك كثرية يف الرواية ،أورد على سبيل التوضيح. احلكاية اليت انتهت ّ
قص ة أماس تان ،وحبّه لفت اة من قبيلة ( كبل أب اد ) ،وت أده من قبيلتها مبعية الفرنس يني
ّ
ألهنم مل يزوجوها إي اه ،مث إمس اك الش يخ ( غوما ) عليه وتس ليط أبشع عقوبة علي ه ،مل ت أت
األول من الرواية ككل يف س طر وحي د ،أفجعنا الك وين مبوت هبذا ال رتتيب .ففي الس طر ّ
قص ته؟ فقد
أماس تان .لتُط رح العديد من األس ئلة أمامنا من هو أماس تان؟ وكيف م ات؟ وما ّ
322
أخربنا ق ائال " :البارحة م ات أماس تان " ( .)1مثّ مل ينبس الك وين بكلمة عنه حىت وصل بنا
ملخص مر ّكز ح ول ت أنيب أماس تان من قبل أخيه بطل الرواية فج أة ،ودون س ابق إن ذار إىل ّ
( الش يخ غوما ) ،حيث ج اء " :أماس تان ،األخ األص غر للش يخ غوما من أبي ه .اع تزل ال دنيا
وانط وى على نفسه منذ س نوات .منذ " فض يحة غ ات " عن دما ألقى عليه غوما القبض ة،
وقيّده ،وجرجره ،خلف مجل وطاف به شوارع وأحياء الواحة عاريا متاما يتفرج عليه اخللق،
الص حراء ،أثن اء هج ومهم على غ ات يف تلك عقابا له على حتالفه مع الفرنس يني ضد أهل ّ
السنوات " (.)2
القص ة مل تبدأ من هنا ،بل من قبل ،عندها يسردمثّ ،وكأنّه يتدارك ،وخيرب القارئ أ ّن ّ
النص الس ابق
نص الرواية بعد ّ قص ة حبه للفت اة اجلميلة من قبيلة ( كيل أب اد ) .حيث ج اء يف ّّ
القصة من هنا .قبل ذلك بسنوات شغف أماستان بفتاة مجيلة من قبيلة " كيل مباشرة" :ولكن ّ
الص حارى اجملاورة ...يف تلك الليل ة ،بعد انته اء املهرج ان ،ع رف أب اد "اليت اس توطنت ّ
تمر حىت فجر الي وم "ت ارات" وأعجب هبا أثن اء احلفل املوس يقي ال ذي أقيم يف اللّيل واس ّ
التايل.)3( "...
ويتواصل احلكي ،إىل أن ي رفض األهل تزوجيها ل ه ،وتنتحر أخ ريا بعد ط ول انتظ ار،
خيص ص مساحة لإلخبار عن النهاية املأساوية وهذا بعد سرد الكوين حلكايات أخرى عديدةّ ،
حب ( أماس تان ) و ( ت ارات ) ،حيث ج اء " :بعد هجومه الفاشل على املنتج بأي ام لقص ة ّّ
الس حيق .ظلت الس در يف ال وادي ّبالس كني حتت ش جرة ّ ج اءه خرب قطعها لش ريان ي دها ّ
مس جاة على األرض ،حتت الش جرة ،ليلة كاملة وال دم ي نزف من ي دها .لقد تركوها وهي
الدم"(.)4
ترقد يف بركة من ّ
323
النص ككل ،بفضل النسيج املتداخل مثل هذه اللّعبة السردية ،اليت أضفت مجالية على ّ
ككل .كذلك عملية بتناسق بني أحداث احلكايات .وبني أحداث احلكايات وأحداث الرواية ّ
التوقّف عن سرد جمريات حكاية بعينها ،مث االسرتسال حم ّددا يف احلكي يف موضع آخر ،جندها
الرواية.
نص ّخصت معظم احلكايات الواردة يف ّ قد ّ
قص ة جنون ( أخن وخن ) اليت بدأت هبا الرواي ة ،مل تكتمل يف ومث ال ث ان على ذلكّ .
حينه ا ،إال بعد اس تنفاد الك وين لطلقتها احلكائية كاملة بارتباطها باخلس وف والقمر والب ئر –
ه ذه الثالثية اليت تع ّد رم وزا أس طورية متّ تتبعها بالدراسة يف الفصل الث اين – ومل خيتم الك وين
جن .حيث ج اء يف بداية ه ذه احلكاية حىت هناية الرواي ة ،حيث أخربنا ب أن ( أخن وخن ) قد ّ
تمر حىت الفجر كالص الة ،يفضح فجيعة مكبوت ه .اس ّ الرواي ة " :اس تمر الغن اء حزين ا ،ص وفياّ ،
عن دما وقع أخن وخن يف الوجد مت أثّرا بالغن اء ،س قط كاملص روع ...ال ح رج على اجملذوب
عقله يف الس ماء وجس ده فقط على األرض – ...يب دو أ ّن جذبه حقيقي يا مجاعة ب رغم أ ّن
عقله مل يسمح له باالعتداء على الشيخ ...أوثقوه جيّدا .أوثقوه باحلبال وأودعوه بيته.)1( "...
سر
لكننا مل نعرف سبب جنونه حىّت هناية الرواية تقريبا ،حني كشف لنا الكوين عن ّ
بأمها .حىت أهّن ا انتحرت يف البئر.
هذا اجلنون بأنّه من قهر قلب حبيبته ( زارا ) إذ تزوج ّ
مرتددا بني
ظل أخنوخن هائما على وجهه ّ حينها كشف لنا الكوين اللّثام عن احلقيقةّ ،
نص الرواية " :عثروا على جثّة طافية
ساحة القبيلة وقرب ( زارا ) إىل أن حلق هبا حيث جاء يف ّ
ف وق املاء ...أقبلت باتا حنو اجلسد املنف وش املس ّجى على األرض ...مث ش رعت تلثم زارا
الب اردة ...مل مير وقت طوي ل ،حىت ح دث مع أخن وخن ما ح دث ...فش لت كل احملاوالت
واجلهود إلشفائه وإعادته إىل عقله.)2( " ...
هك ذا ،أج اد الك وين لعبة التق دمي والت أخري ،والتجزئة يف توظيف احلكاية الش عبية،
النص الس ردي ومتنحه دالالت أعمق من ص ميم احلي اة االجتماعية وس رد أح داثها ،لتخ دم ّ
-إبراهيم الكوين ،رواية " البئر " ،ص 205 :و 206و.208 2
324
للمجتمع الط وارقي .حيث أ ّن احلكاية الش عبية تق وم على اهلاجس االجتم اعي .إذ أ ّن " :
موض وعاهتا تك اد أن تقتصر على العالق ات االجتماعية واألس رية ،مثل زوجة األب ،احلق ود،
أو غرية اإلخوة من أخيهم الصغري املفضل لدى األب.)1( " ...
ورواية " البئر " غنية مبثل هذه احلكايات املتشبعة ذات الطابع االجتماعي واألسرى –
كما سبق الذكر – فباإلضافة إىل النماذج املذكورة آنفا ،هناك حكايات شعبية اجتماعية يف
قص ة املرأة اجلميلة واللّع وب ( ت اال ) اليت ش غفت الرج ال حبّ ا ،وقه رهتم
جوهره ا ،أبرزه اّ ،
ولعا ،حىت وصل هبا املطاف أن تستويل على حبيب ابنتها ،فكانت سببا يف انتحارها .حيث
ج اء خنتصر ه ذه احلكاية ما يلي " :باتا ام رأة آس رة ،س احرة ،خارقة اجلم ال ،أمجل ام رأة يف
الصحراء الكربى كلّها .ماتت أمها وهي تعاين آالم الوضع أثناء ميالدها ،أما أبوها فقد قتلته ّ
باتا وهي طفلة مل تتج اوز الثالثة بطلقة من البندقي ة ...ويق ال إ ّن الزجنية ض بطت فوقها أحد
أبناء اجلريان وهي يف التاسعة من عمرها عندما كانت ترعى اجلديان ...ويقال يف القبيلة أن
من ضمن الذين عشقوها كان الشيخ غوما بنفسه ...وقد تزوجت باتا بعد هجرة غوما إىل
الواح ات بش هور فق ط ،تزوجها ش اب نبيل من قبائل آي ر ...ولكن املفاج أة ك انت ليلة
الزف اف ،أثن اء الدخل ة ،إذ مل يتص ور أحد أن تق دم الع روس حلظة تس ليمها للع ريس ...إىل
االع رتاء يف أحض ان الع ريس دون خج ل .يف حني تقتضي التقاليد العريقة أن تبكي وهترب
وختتفي يف اخلالء ...أجنبت باتا ابنتها زارا يف آير وهي فتاة مجيلة وهادئة ...وملا مات زوجها
يف معركة ...عادت باتا إىل القبيلة مع زارا.)2( " ...
قص ة ( باتا ) ،حىت تصل إىل ذروهتا حيث تستويل على حبيب ابنتها، تت واىل أحداث ّ
فتطلق زوجها الث اين ( أماس تان ) ال ذي ينتح ر ،وت تزوج ب ( أخن وخن ) ،وتت واىل األح داث
وجين ( أخنوخن ) جراء ذلك.وتتصعد حىت تنتحر بسببها ابنتها الوحيدة ( زارا )ّ ،ّ
حيث جاء " باتا عشقت أخنوخن بني ليلة وضحاها ...باتا سوف تطلق أماستان قبل
أن ميضي ش هر على زواجهم ا ...س ّدد الفوهة حنو رقبت ه ...ض غط ...أحس بالس ائل اللّ زج
-إبراهيم الكوين ،رواية " ،البئر " ،ص 76 :و 67و .68 2
325
ينبث ق ...مل ميض شهر واحد على زواج أخنوخن من باتا حىت أعدت الرتتيبات لعرس أمغار
وزارا ...ع ثروا على اجلثة طافية ف وق املاء ...أقبلت باتا حنو اجلسد املنف وش املس ّجي على
األرض.)1( " ...
ه ذه احلكاية الش عبية املس تلهمة من ص ميم يومي ات اجملتمع الط ارقي احتلت مس احة
الس ردي ككل ،حيث أن شخصياهتا هي شخصيات الرواية الرئيسية. النص ّ
واسعة من نسيج ّ
حيث أن "باتا" بطلة هذه احلكاية الشعبية .هي شخصية اليت ارتبطت جبفاف البئر ،وارتبطت
بطريقة ما باآلهة ( ت انس ) ،وك ذلك ارتبطت باخلس وف ،فك انت احلكاية لبنة أساس ية من
نص الرواي ة ،التحمت معه وأعطته من طاقتها احلكائية إحياءات اجتماعية لبن ات الس رد يف ّ
طارقية.
ه ذا ،وقد اس تلهم الك وين احلكائية الش عبية البطولية ك ذلك يف رواي ة ،أمهها حكاية "
الشيخ غوما " ،شيخ القبيلة ،الذي تص ّدى بكل بساطة للعدوان الفرنسي ،وقاد معارك ضاريه
معه كانت تفشل أحيانا ،ويقع أسريا لديهم ،وتكلل بالنصر أحيانا أخرى ،فيستويل على عدد
من أس راهم ،وبني ه ذا وذاك ،ك ان هلذا البطل مواقفه الش جاعة يف توجيه اجليش ،ويف تس يري
يتزود به غريه من أفراد القبيلة .فكان
شؤون القبيلة ،وحىت ،أ ّن له من احلكمة واملعرفة ما مل ّ
نص الرواي ة " :يف ذلك الزم ان البعيد مل يكن غوما
بطال حتدثت عنه احلكاي ات .إذ ج اء يف ّ
ش يخا بع د .أعي اه ال ّركض خلف الفتي ات واملطلق ات من نس اء القبائل اجملاورة .فج أة ش عر
الص حراء أك ثر من ع ام ص ائما عن بالوح دة والف راغ ف اعتزل الن اس وانط وى على نفسه يف ّ
الطّع ام ،واملاء والكالم ،ص ام عن الكالم عاما ك امال ،ينتقل من واد إىل واد ،ومن جبل إىل
عمه ،وقرر أن ينطلق إىل واحات " جبل ...،مث عاد إىل جتمع القبيلة وأودع ابنه الوحيد عند ّ
فزان " طالبا للعلم ...يا غوما يكفي أن نسجل ابنك ضمن قائمة احملاربني .أما أنت فمهمتك
أن تق رأ عن الص حراء واجب اجلمي ع .وعن دما يعلو ص وت البندقية خترس الكتب وتط وى
الص حف .وختفى بعي دا يف مك ان أمني ...ظل يرتاشف معهم حاميا ظهر احملاربني املنس جني ّ
جيس نبضه .لقد مات... حنو اجلبل ،وعندما رأى ابنه منكفئا أقبل حنوه وأمسك بيده وشرع ّ
-املصدر نفسه ،ص 166 :و 167و 199و.205 1
326
باملدرعات واملدافع فش عر غوما ب أن املرتفع
دو تتق دم حمتمية ّ يف نفس ال وقت ظلت ق وات الع ّ
الرملي لن حيميه إذا اقرتبت القوات أكثر من ذلك فسارع يدفع جبثة ابنه فوق املرتفع صانعا
منها مرتاسا صغريا بدأ يطلق منه النار عليهم حىت أحاطوا به من كل جانبا .كانت البندقية قد
هم حبشوها يف يديه القيود وألقوا عليه القبض ...بقي يف األسر فرغت من الرصاص وعندما ّ
شهرا كامال ...وقبل إطالق سراحه بأسبوع قابله اجلنرال بالبو احلاكم العسكري لطرابلس،
وق ال ل ه " :أنت تع رف أ ّن مصري أولئك العص اة ال ذين يقاتلوننا أمثالك هو اإلع دام الف وري
رميا بالرص اص .ولكن ش جاعتك وتض حيتك بابنك أذهلتنا س وف نطلق س راحك ولكن
مرة أخرى " ...
بشرط أال تقاتلنا ّ
ج اء آيس إىل غوما راكض ا .ق ال من بني أنفاسه املتالحق ة :املتقطع ة - :يقول ون أ ّن
مستوى املاء قد اخنفض يف البئر .الرجال هناك يطلبون مشورتك! انتفض الشيخ ومههم وهو
يقفز واقف ا :مس تحيل ! جيب توقع ارتف اع املاء اق رتاب فصل الش تاء .إذن هو الرحي ل .ال
الص حراء ...عاد غوماأستطيع أن أتصور واهلل كيف ميكننا أن نعيش يف الواحة بعد احلياة يف ّ
يقول وهو يغرق يف تفكري عميق - :أتعلم يا شيخ خليل؟ إ ّن السمك يف البحر ميوت عندما
الص حراء ...ج اءخيرجه الص يادون من املاء .وحنن اآلن مثل الس مك ...منوت إذا نزحنا من ّ
وتوجه إىل الب ئر ...احنىن ف وق
ي وم الرحي ل ...اس تيقظ الش يخ غوما مبك را ...توضأ وص لّى ّ
فوهة البئر فلم يبصر سوى الظالم احلالك ...غمره حنني حمموم غامض أن يتسلق احلبل...
حتركت القافلة الكب رية ...ولكنه اس تمر جالسا جيول ببص ره يف متاهة الع راء ...غ ابت القافلة
جير صخرة كبرية سار متثاقال مثل حمكوم حترك كأنّه ّعن األنظار فوقف لكي يلحق بالركبّ .
باإلعدام ،يدفع ،جمبورا ،لكي خيطو حنو املشنقة"(.)1
النص .وك ان البطل غوما هو هك ذا ،انص هرت أح داث احلكاية البطولية داخل نسيج ّ
بطل الرواية كك ل ،ه ذا الرجل ال ذي حيكم يف الكثري من املواضع بسري األح داث ،والتحم
نسيج احلكاية البطولية بنسيج السرد يف تضافر رائع.
-إبراهيم الكوين ،رواية " البئر " ،ص 37 :و 38و 40و 197و 220و 221و.223 1
327
العجائبي )The Fantasy( )Le Fantastique( :في روايات الكوني:
(Le ب ادئ دي ب دء ،جيب أن أشري إىل أن مثّة ترمجات عربية كث رية ملص طلح
.) The Fantasy ( )Fantastiqueبعد أن صال وجال العديد من الدارسني واملرتمجني يف
س بيل إجياد الرتمجة األنسب للمص طلح .ولكل وجهة نظر هلا مرتكزاهتا .ومن ه ذه الرتمجات
(العج ائيب) وال ذي أفضل تبنّيه كرتمجة للمص طلح ،لنفس الس بب ال ذي جعل (حسني عالم)
يتبنّ اه يف كتابه "العج ائيب يف األدب"؛ حيث ذكر أنّه مييل " إىل األصل الفرنسي للمفه وم
مستعمال ترمجة (الصديق بوعالم) لكتاب "تودوروف" لسبب منهجي واحد وهو أهنا الرتمجة
الوحيدة يف ما نعلم للكتاب كامال؛ فهو هبذا يؤسس للمفهوم مندجما يف سياقه اخلاص " (.)1
إىل ج انب ه ذه الرتمجة ،وردت ترمجات أخ رى عدي دة للمص طلح ،منها " (األدب
الومهي) ،ومنها الرتمجة احلرفية ( فانتاسيا ) الذي يعين ( ) Fantasiosاليت تعين اخليال ،ومنها
(الغراب ة) ومنها ( الفانط ازي ) ومنها ( فانطاس تيكي ) ومنها ( فانطاسي ) وهن اك لفظة
اب) اليت استعارها (الطّاهر املناعي) من تونس للداللة على (.)2( " )Fantastique (العُ َج ْ
يلخص يفومهما اختلفت ترمجة املصطلح ،فاملعىن الذي اعتمده تودوروف للعجائيب ّ
حيس ه ك ائن ال يع رف غري الق وانني الطبيعية فيما يواجه ح دثا ف وق
رتدد ال ذي ّأنّ ه ،ذلك " ال ّ
طبيعي" (.)3
وبالتايل جعل تودوروف حالة (( الرتدد )) هي الفيصل بني ما هو عجائيب وغريه من
مثل (العجيب) و ( الغريب )...
ويعترب تودوروف العجائيب جتربة داخل النصوص وخارجها ويعتمد يف ذلك على آراء
النقاد الذين سبقوه من مثال ذلك ،مقولة إلحدى األملانيات تدعى " :أولغارميان " تقول فيها:
-حسني عالم ،العجائيب يف األدب – من منظور شعرية السرد – الدار العربية للعلوم ،ناشرون ،ط ،1بريوت
1
-تودوروف ،تزفيتني " ،مدخل إىل األدب العجائيب ترمجة الصديق بوعالم ،الرباط ،املغرب ،ط،1994 ،1 3
ص.144 :
328
" إن البطل يف احلكاية العجائبية يش عر بش كل متواصل وجبالء ،بالتن اقض بني ع املني ،الع امل
الواقعي ،وعامل عجائيب وهو نفسه مندهش أمام األشياء اخلارقة اليت حتيط به " (.)1
وه ذا نفسه ما يؤك ده (أب رت) حيث يق ول يف نفس الس ياق ،وخبص وص احلكاية
القص احلديث مثّة شك خبصوص العامل الذي تنتمي إليه –
العجائبية " :يف أعماق الفنتازيا يف ّ
أهو هذا العامل -أم علم مغاير متاما ؟ " (.)2
النص " ،يتعلق األول بالق ارئ،
وقد وضع ت ودوروف ثالثة ش روط لتوفر العج ائيب يف ّ
النص ،ويتصل الثالث مبستويات التأويل " (.)3
ويرتبط الثاين بشخصية أو شخصيات من ّ
إذن ،بىن ت ودوروف " معظم اس تنتاجاته على خاص ية لفظية واح دة ،داخل "ملف وظ
رتدد " بني التفس ريين العقالين للظ واهر اليت تنسج من رحم الواق ع.
خاص ية " ال ّ
النص" وهي ّ
ّ
هذا
الرتدد جيب أن تشعر به شخصيات احلكاية ومن مثّة القارئ املتماهي مع الشخصية " (.)4
النص الق ارئ على اعتب ار ع امل الشخص يات ع املوللتوض يع أك ثر فـ" الب ّد أن حيمل ّ
األشخاص األحياء ،وحيمله أيضا على الرتدد يف التفسري الطبيعي لألحداث املروية ،مث يكون
يتوحد القارئ مع الشخصية يف هذا الرتدد ممثال حبيث واحدا من موضوعات األثر .والب ّد أن ّ
حالة الق راءة الس اذجة .أي دون اح رتاز للق ارئ جتاه ما يش اهد .وليس هلذه املقتض يات قيمة
متساوية .فاألوىل والثالثة تشكال األثر حقا أما الثانية فيمكن أن تكون غري ملبّاة " (.)5
-نقال عن :تودوروف :مدخل إىل األدب العجائيب ،ص.49 : 1
-ت – ي – أﭘتر ،أدب الفنتازيا – مدخل إىل الواقع ،تر :صبّار سعدون السعدون ،دار املأمون للرتمجة
2
329
رتدد املم زوج ب اخلوف وجممل الق ول أ ّن ت ودوروف على أ ّن العج ائيب يرتكز على ال ّ
والرهبة.
ّ
النص من
وحني كان العجائيب جياور العجيب ويفرتق عنه خبيط رفيع ج ّدا ،فقد ينتقل ّ
العجيب إىل العج ائيب ،حني ينت اب شخص يات مع الق ارئ احلكاية ال رتدد واحلرية ،حيث أ ّن
الس افر ال ذي حتدثه كائن ات غريبة حم ّددة املع امل وغري مدركة العج ائيب هو " ذلك التع ّدي ّ
ك ،وذلك اخللل ينتهي ب املرء إىل ال رتدد ما بش كل ك اف ،ممّا جيعل الع امل املعق ول يته ّدده الش ّ
بني التفسري العقالين والالعقالين هلذه الظهورات " (.)1
ه ذا ،ويلجأ األديب إىل العج ائيب ،بغية إض فاء مجالية خاصة على إبداعة – ش أنه يف
ذل ك ،ش أن التوظيف األس طوري يف الرواية العربية – وذلك من خالل اس تلهامه نصوصا من
الرتاث العاملي والعريب واحمللي ،بغية تأصيل الرواية من جهة ،والوصول هبا إىل العاملية من جهة
ثانية .كذلك بغية التورية أمام السلطة لنقد الواقع السياسي والتارخيي.
حتول الكي ان الغ ريب من النض ال السياسي إىل األس ئلة املرعبة ح ول املصري حيثّ " :
والكنه ،وأصبحت الرواية توظف هذا النوع من االشتغال الذي ميكن أن نع ّده توظيف جديدا
حيت اج إىل التبل ور ،وال ميكن ع ّده جنسا أدبيا بشخص ياته وفض اءاته املتم يزة .ومل يس تثمر
فع ال ووظيفي يف الرواية العربية إال مع الرواية اجلدي دة اليت ح اولت التج ريب العج ائيب كل ّ
لتكسري النمط السردي القدمي وتأصيل الرواية العربية ربطها برتاثها العريب القدمي واملشاركة يف
مو باخلي ال وتغريبه بش كل عج ائب واس تلهام ارتي اد آف اق العاملية عن طريق متويه الواقع والس ّ
أهم عامل ك ان وراء ظه ور ه ذا النص وص العجائبية املوروثة عن طريق التن اص .ه ذا وإ ّن ّ
األدب العجائيب يف احلقل العريب يتمثل يف طبيعة الواقع املوضوعي :التارخيي والسياسي.)2( " .
إ ّن البحث عن العج ائيب يف أعم ال الك وين ،يع ّد باجملازفة الك ربى؛ حيث أنّه يوظّف
األس طوري؛ ويص نعه أيض ا ،مما جيعل عملية البحث عن العج ائيب خط رة ،! ذلك أل ّن احلدود
الفاص لة بينه وبني األس طوري تب دو واهن ة ،كاخليط الرفي ع .حيث أن العج ائيب لص يق
330
اس مع ه، باألس طوري ،إذ يس تم ّد عوامله من الالمعق ول وف وق الط بيعي .وبالت ايل " :يتم ّ
فعالية إجناز ع وامل ما ف وق واقعي ة ،ويق رتض منه مسة تع ّدد
ويت داخل أحيان ا ،إذ يش اركه ّ
املستويات ،وميثل أحد جذوره"(.)1
الرتدد " اليت متيّز العجائيب عن غريه .كذلك ،هناك
ويبقى الفيصل الواضح هو حالة " ّ
ختتص هبا ع وامل العج ائيب
م يزة أخ رى أش ار إليها ( نض ال الص احل ) ،وهي م يزة التجزئة اليت ّ
مبقابل م يزة الكلية يف ع وامل األس طوري .ه ذا العج ائيب " املعرّب – كما يب دو – عن ذهنية
حمكومة بعمليات التجزيء ،والتشطري ،والتنضيد فيما بينها من جهة ،ومتضادة فيما بينها من
جهة ثانية .على حني ال تبدو الذهنية األسطورية كذلك ،فهي تنظر إىل العامل بوصفه ُكاّل ال
يتج زأ ،تش كل مظ اهره نس قا واح دا ،مل يكن بالنس بة إىل اجملتمع ات ( )اليت أنتجت األس اطري
األوىل " ،موضع شك " أو جمال تساؤل " ()
-نضال الصاحل ،النزوع األسطوري يف الرواية العربية ،ص .21 :عن خليفي شعيب ،شعرية الرواية
1
331
الص حراء ح ول الب ئر عن دما اس تيقظ قليال وس نرى م اذا فعل اهلل ب (( ت انس)) وأخيها ّ
(( أطالنتس)) يف حكاية البئر.)( " ...
القص ة اليت تنجح ع وامل أس طورية،
ويسرتسل اجل ّد (( غوما )) يف احلكي ليس رد تلك ّ
ابتلعه ّن اخلالء وضعن
وغيبية " ،كانت تانس مع أخيها أطالنتس ضمن الفتيات الثالث الاليت ُ
بصرهن فاقرتحت أماريس مهسا ...ليس أمامنا إالّ أرجلهن وأعمى
ّ الصحراء ...قيّد اجلوع
يف ّ
أن ن ذبح إخوتنا! وافقتها ت اال! ،ورفضت ت انس .ق الت :أم وت جوعا وال أذبح أطالنتس...
هلن ...رأى األمري وجهها الس احر ...ه ذه احلس ناء س تكون تن اولت الس كني وق دمتها ّ
زوج يت ...وخاطبته ت انس :لن ت تزوج ت انس حىت يك ون ألخيها أطالنتس مجال أبيض
ضامرا ...وسيفا من ذهب ...نصبت تانس نفسها أمرية على الواحة اليت بدأت تنمو وتكرب
وتصبح مركزا لتجار القوافل ...ويف إحدى الرحالت غاب أطالنتس ...وجدته حتت سدرة
الص حراء ...ألنه لن يه دأ يل ب ال حىت تغمر
ض خمة ميت ا ...أقسم أنين س وف أنتقم لك من ّ
الص حراء إىل جنّة خض راء ...وق ال أحد املي اه رفاتك يف الق رب ...الب ّد أن تتح ّول ق ارة ّ
املنجمني ...وتنبأ هلا بأن املياه سوف تتدفق وتغمر الدنيا طاملا بقي وجهها يدب ويسطع فوق
األرض ...ولكن املي اه س وف ختتفي باختفائها من الوج ود ...ق ررت أن تش يد املدن وتبين
اجلس ور والس دود ...وأطلقت عليها اسم ((أطالنتي دا)) ...وأص بح يق ال ب أن أطالنتي دا هي
جنّة اهلل على األرض ...وعن دما م اتت ح دثت حركة غريبة يف نظ ام النج وم ...وق ادت
الك واكب األخ رى الك واكب األخ رى محلة ضد القم ر ،فح دث ما يس مى ب
((اخلس وف)) ...بعد أربعني يوما من وف اة س ليلة القمر ت انس العظيم ة ...حىت اإلمرباطورية
الص حراء ،وان دثرت (( أطالنتي دا )) من ارة
الص حراء تزحف على ّ كثب ان الرم ال ...ع ادت ّ
العلم واحلض ارة .وبقي (( الب ئر أطالنتس )) رم زا بائسا ملجأ الرع اة ع ابروا الس بيل ،ت نرح
مياهه فيه اجرون إىل الواح ات ...تطفو مياهه فيع ودون إلي ه ،ويقيم ون حوله دون أن جيدوا
تفس ريا لظ اهرة اختف اء املي اه اليت حتدث ،حسب ما تناقلته األجي ال ،كل ثالمثائة ع ام .ويؤكد
البعض يف قصص هم أن الختف اء املي اه يف الب ئر عالقة مباش رة بع دد املرات اليت حيدث فيها
332
خس وف القمر يف العم الواح د .أما ق ارة ((أطالنتي دا)) العتي دة فقد اختفت بعي دا يف ج وف
األرض ،بعد طوفان الرمال الرهيب )) (.)1
إىل هنا حنن نسلم مع الكوين ،وباعرتاف منه ومن راوي احلكاية الشيخ ((غوما)) أهّن ا
قصة أسطورية ،وبالتايل هي تنجح عوامل فوق طبيعية ،وأحداثها عجيبة وميثافيقية .وأ ّن الشيخ ّ
قصة خرافية.
جملرد التسلية ،وأخذ العربة منها ككل ّ حيكيها حلفيدهّ ،
العدو الفرنسي يف ع ّدة جبهاتالس رد يف الرواية ،وجيابه الشيخ ( غوما ) ّ مثّ يسرتسل ّ
خمتلف ة ،وحتدث أح داث يومية وحكاي ات ش عبية داخل قبيلة الش يخ ( غوما ) فيها من
املس امرات ح ول الش اي األخض ر ،وفيها من االختالف ات بالنصر أحيان ا ،ب الزواج أحيانا
الص حراء املعيش .فكل هذا طبيعي وواقعي مقبول .وبالتايل أخرى ،وغريها من أحداث واقع ّ
تب دو حكاية الش يخ ((غوم ا)) من العجيب إذ تقتحم الواقع كائن ات تتج اوز الفهم العقالين
تفس ر على أهنا انش غاالت مت واترة للمخيّلة البش رية
للوج ود ،ميكن القب ول بوجودها عن دما ّ
() 2
مفس رة أيضا بعض األطروحات الدينية "
بنيت عليها مجيع قصص عودة األجداد واآلباءّ ،
حيث حتكي لنا احلكاية اجلنّة األرض ية املعروفة يف ال رتاث اليون اين ( الف ردوس املفق ود )
وك ذلك يف ال رتاث الع ريب الق دمي (ارم ذات العم اد) وغريها من الق ارات اليت أبي دت ب أن
ابتلعتها األرض بثرواهتا اليت ومل يعثر عليها أحد.
ولكن ،فجأة ،يعثر القارئ حني يسرتسل يف القراءة ،على آثار ((أطالنتيدا)) تلك
اجلنة األرض ية اليت ان دثرت يف القصة األس طورية وابتلعتها الص حراء .ففي خضم ح ديث
الش يخ ((غوم ا)) مع رفيقه عن نوايا املس تعمر يف االس تيالء على الص حراء الس تخراج خرياهتا
من النفط .يواصل الشيخ احلديث عن خوفه من أن يعثر املس تعمر على اخلريات املوج ودة يف
باطن األرض من جرار الذهب واألحجار الكرمية اليت عثر عليها أكثر من عابر سبيل ،واليت
تعود إىل كنوز قارة ((أطالنتيدا)) اليت ابتلعتها الصحراء .حيث جاء - " :كدنا نضيع ،لو
اس تولوا على غ ات ل ركعت هلم الص حراء وبق وا فيها إىل األبد .لن خيرج وا منها بس هولة إذا
333
اس تخرجوا منها س ائلهم اجلهنمي اليت تتح دث عنه .مث من ق ال إهنم لن يكتش فوا كن وز
أطالنتيدا الراقدة يف جوف األرض ؟
:
-ال شك أن يف ب اطن الص حراء كن وزا ال حصر هلا اختفت مع اختف اء الق ارة .
وأنت تع رف أمر ج رار ال ذهب واألحج ار الكرمية اليت ع ثر عليها أك ثر من ع ابر
س بيل ،ولكن الص حراء لن تك ون ص حراء حقا إذا فق دت كنوزها اليت ختفيها
بعيدا يف أعماقها .إهنا تفقد سرها وسحرها .أليس كذلك ؟
-طبعا .
-لو اس تخرجوا كنوزها وثرواهتا الس تباحوها .يا ريب ،ك ادجوا يتمكن وا من
بكارهتا ! ولكن احلمد هلل " (. )1
مرتددا بني
هنا يساور الشك القارئ ،وجيد نفسه مندهشا مشدودا إىل معرفة احلقيقةّ .
ما هو واقعي وغري واقعي من خالل توح ده مع الشخص ية يف الرواية يف حالة الق راءة
النص الق ارئ على اعتب ار ع امل الشخص يات ع امل األش خاص الس اذجة .إذ "الب ّد أن حيمل ّ
يتوحد
رتدد ممثّال يصري واح دا من موض وعات األث ر .والب ّد أن ّ األحي اء وحيمله أيضا على ال ّ
الق ارئ مع الشخص ية يف حالة الق راءة الس اذجة .أي دون اح رتاز للق ارئ جتاه ما يش اهد...
الرتدد املشرتك يف الشخصية والقارئ " (.)2
فالعجائيب ال يدوم إال حلظة ّ
رتدد يع رتي الق ارئ وح ده ،دون الشخص ية يف الرواية وتك ون م ّرة ثانية ه ذا ال ّ
قصة أسطورية حيكيها اجل ّد حلفيدهمرة ثانية .وليست جمرد ّإمرباطورية أطالنتيدا وكأهنا حقيقة ّ
بغية اسرتجاع شخصيات وعوامل من املاضي .يتقبلها العقل على أهنا أحداث وشخصيات ما
ف وق طبيعي ة .يتس اءل الق ارئ هل إمرباطورية ((أطالنتي دا)) وهم أم حقيق ة؟ وهل كنوزها
تردد
الص حراء؟ ويزداد القارئ ّ وثرواهتا من تفاصيلها الومهية أم هي موجودة فعال حنت رمال ّ
ورهبة إزاء ت ردده بني أن تك ون ((أطالنتي دا)) وهم أم خي ال ،خاصة حينما تظهر عالمة
334
املرة ليس وح ده ال ذي يص به ه ذا ال رتدد بل الشخص ية يف الرواية
رددا ،وه ذه ّأخ رى تزي ده ت ّ
وحيس (( غوما )) ب اخلوف إزاء
أيض ا .واملتمثلة يف شخص ية الش يخ (( غوما )) ش يخ القبيل ةّ .
جف اف الب ئر ،وأن ذلك ح دثا مرتبطا برحيل املرأة واملغرية ( باتا ) ،مه ددة إي اه ب ذلك عن
وحيس القارئ معه بكل هذا.
طريق التوريةّ .
إض افة إىل ما ي ذ ّكر به احلفيد ج ّده عن حكاي ات ( الب ئر ) و ( أطالنتي دا ) فيبقى
مندهشا مرتددا .ويصاحب ذلك كلّه .نفس احلالة الشعورية للقارئ ،فيحدث هنا العجائيب يف
الرواية.
نص الرواية " :جاء آيس إىل غوما راكضا ...يقولون أ ّن مستوى املاء حيث جاء يف ّ
قد اخنفض يف البئر .الرجال هناك يطلبون مشورتك ! انتفض الشيخ ...مستحيل!
جيب توقع ارتفاع املاء مع اقرتاب فصل الشتاء ...! ولكن يف طريق العودة إىل البيت
ق ال له آيس - :ولكن أمل تقل يا أيب أ ّن الب ئر بنصب كل ثالمثائة ع ام؟ -حدجه غوما بنظ رة
قل ق .ق ال بعد حلظة تفك ري :نعم ،ولكن ه ذا يف األس طورة .هك ذا تق ول األس طورة .ص مت
الطفل مث عاد يقول وهو يتشبّت بيد ج ّده - :قلت أيضا أ ّن ذلك يقاس بعدد مرات خسوف
القمر.
متتم غوما بعد تردد:
-نعم ،أعتقد ذلك.
قال آيس بإحلاح:
-أتذكر اخلسوف األخري؟ رمبا أكمل العدد الالزم فبدأت املياه ترتاجع يف بئرنا .لقد
مر أربعون يوما على اخلسوف األخري. ّ
توقف غوما فج أة .نظر إىل آيس كأنه ينظر يف الف راغ .ع اد ميشي دون أن يعلق
بكلمة"(.)1
هنا يش رتك الق ارئ مع الشخص ية يف الرواي ة ،من خالل الق راءة الس اذجة ،يف حالة
ردد الش يخ غوم ا .وان دهش من أمر جف اف الب ئر وارتباطه باألح داث رتدد .حيث ت ّ ال ّ
-إبراهيم الكوين ،رواية " :البئر " ،ص 197 :و.199 1
335
األس طورية وتط ابق ذلك باألح داث الواقعية من ذلك ارتب اط جف اف الب ئر باحلس وف ال ذي
جف
مر عليه أربعون يوما حىت ّ حدث فعال ،والذي ابتدأ به الكوين روايته .هذا الذي ما إن ّ
والرتدد هو الذي جعل الشيخ ( غوما ) يتوقف القصة األسطوريةّ . فعال على منوال ما جاء يف ّ
فج أة وينظر إىل الصيب ال ذي ي ذ ّكر بكل ه ذه التفاص يل رابطا إياها من األس طوري إىل
الواقعي ( .فينظر إليه الشيخ وكأنّه ينظر إىل فراغ مث يعاود املشي دون أن يعلق بكلمة ).
تقرر القبيلة اهلجرةهذا يكون العجائيب يف رواية " البئر " للكوين ،مث يزداد هذا حني ّ
الص حراء .ولكن الدهشة الك ربى وال رتدد األكرب الص حراء س تزحف على ّ إىل الواح ات أل ّن ّ
سيضطرهم
ّ يأتيان يف هناية الرواية حيث جيف البئر فعال ويُِقّر الشيخ ( غوما ) أ ّن جفاف البئر
الص حراء اجلاف ة .وأق ّر
على الرحيل إىل الواحة والعيش هن اك ،ألنّه ال حي اة بعد اليوم يف ه ذه ّ
القص ة األس طورية ك ذلك أ ّن املاء لن يع ود إىل الب ئر إال بعد ثالمثائة ع ام ! على من وال ّ
إلمرباطورية ( أطالنتيدا ).
درب نفسه على احلي اة يف ج اء يف نص الرواية " الش يخ غوما أس عدنا حظّ ا .لقد ّ
املرة
الص حراء ،ولكن األمر هذه ّ الواحات من زمان ...ذهبت وانا أعلم مسبقا أنين عائد إىل ّ
طر يا ش يخ خليل أن هتجرها إىل األب د .ش ئت أم أبيت اللّهم إال إذا كنت تطمع خيتلف ستض ّ
يف عمر ن وح فتنتظر حىت يع ود املاء لالرتف اع بعد ثالمثائة ع ام! ...حتركت القافلة الكب رية...
ولكنه استمر جالسا جيول ببصره يف متاهة العراء اليت تنبسط ومتت ّد إىل األبد.)1( "...
رتدد مطروح ا ،هل إمرباطورية أطالنتي دا واقع أم خي ال ،وهل جف اف ويبقى س ؤال ال ّ
الب ئر مرتبط اخلس وف فعال ،وهل ع ودة املي اه إىل للب ئر س تكون – فعال – بعد ثالمثائة ع ام!
هنا يفعل العجائيب فعلته بالقارئ الذي يبقى بطرح األسئلة املتوالية برغم انتهاء الرواية .وهنا
تكمن عبقرية الكوين.
العجائبي في رواية " نزيف الحجر ": -2
يتجلى العج ائيب كخاص ية خطابية يف رواية " نزيف احلجر " من خالل قصة ( الغزالة
القص ة اليت س ردها الك وين على لس ان الغزالة واليت حتكي أن الغزالة
) و (ميث اق ال دم) .ه ذه ّ
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.220 : 1
336
األم ق ّدمت نفسها قربانا لبين آدم ،ألجل كسب ( ميثاق الدم ) الذي يضمن لنسلها األمان
سر آخراألم الكبرية وهي تلتفت إىل ّأمي :هناك ّ
من بطش بين آدم .حيث باختصار " :قالت ّ
سيحرم عليه دم ابنتك وأبناء أبناء
يف التضحية .القربان سينفتح عهدا بني نسلك وبني ابن آدم ّ
ابنتك إىل أبد اآلبدين .هذا هو العهد ،حصن القربان وميثاق الدم ،واللّعنة سوف تالحق من
تس ّول له نفسه أن خيون رب اط ال دم ،فال يوجد يف ال ّدنيا كلّها أق وى من رب اط ال دم وليس
هناك جرمية أبشع من خيانة هذا الرباط .تقدمت مين أمي وقبلتين ،ومتسحت برقبيت ،ومهست
ميسك اإلنس بعد اليوم " .مث ذهبت وسلمت نفسها يف أذين " :إيّن أفعل ذلك من أجلك .لن ّ
لآلدمي احملطّم.)1( "...
القص ة اليت أمامنا هي العجيب ،حيث شخص ياهتا خرافي ة ،وهي عب ارة عن إىل هنا ّ
حيوان ات تتح ّدث وتعقد ميثتقا مثينا من بين آدم ،ه ذا العجيب ال ذي يف وق العقل واملعق ول،
ولكن الق ارئ يس توعبه على أنّه من اخلراف ات املت واترة منذ س الف األزم ان ألجل النصح
واإلرشاد وتقدمي العربة للبشرية.
ويسرتسل الس رد يف الرواية إىل حلظة خ روج ( قابيل ) – الش ره ألكل حلم الغ زال –
يف رحلة ص يد للغ زال .مبعيّة ( ج ون ب اركر ) ،باس تعمال املروحي ة ،وكل ش يء ك ان طبيعيا
أطل قابيل من نافذة " اجلندب " وأشار إىل جرح يكاد يلتئم يف األرض كأي رحلة صيدّ " .
الرمادية املعتمة ،وقال:
-هل رأيتم؟ هذا طريق الغزالن املهاجرة .فوق الرمال الذهبية ،عثر قابيل على آثار
أخرى :الغزالن!
هل هو قطيع؟ أم الغزالن نفسها اليت حت ّدث عنها الرعاة؟
الصخور وهبط اجلبل كاملأخوذ .صاح: تقافز بني ّ
-الغزالن .الغزالن .إىل الطائرة.
337
-ظل واقفا جبوار الطائرة ،ميسح العرق عن وجهه ،ويلهث من االنفعال واإلعياء "
(. ) 2
إىل هنا ،كل شيء معقول ،رحلة صيد الغزالن ال تزال متواصلة .ولكن فجأة حيدث
ما خيرق أفق وانتظار الشخصية ( قابيل ) والقارئ أيضا حيث جاء " :يف تلك اللّحظة رآها.
تظل بص خرة كب رية ،من اجلهة اليمىن من الس فح ...عيناها كبريت ان ،س وداوان ...حت ّدثهتس ّ
حيس ه ،ولكنه ال يدركه ،أقسى شيء ،أشقى ما سر ّ بسر ما ،نعم – نعمّ .
بشيء ما ،تبوح له ّ
حتس بالس ّر وتعجز عن إدراك ه .م اذا تريد أن تق ول املخلوقة اجلميل ة؟ تب ادل
يف الوج ود أن ّ
معها نظرة طويلة ،مل تتحرك .جبوارها تقف غزالتها أيضا .توافق ّأمها على ما قالته ،تؤيدها،
بالرهبة فقط ولكن ب اخلوف .مل يش عر كيف انتزعه ما أقسى أن جتهل لغة األنع ام ! مل يش عر ّ
مسعود وسحبه من كمه .كان الطيار الزجني يتضاحك كاشفا عن أسنانه النضرية ،ويردد:
?-O، My God، What He’s Waiting for
جلس على املقعد غائبا .العرق ينز بغزارة أكرب .أنفاسه تتالحق .جون يتكلم وكذلك
مسعود .ثالثتهم يتكلمون .ويعلّقون ،يبدو أهنم مل يشاهدوا ما حدث .مل يلحظوا اللقاء.
ط ارت الط ائرة -ولكن قابيل مل يف ق .ح ارب الغ زال واص طاد منذ أن وعى ال دنيا،
ولكنه مل حيدث أن رأى إنسانا يف غزال " (.)2
هنا انتاب (قابيل) الرتدد والشك واخلوف والرهبة .وانتاب مبعيته القارئ أيضا ،كأن
تتجس د حرفيا وض منيا يف واقع ( قابيل )
الاّل معق ول ب ات معق وال ،وك أ ّن احلكاية اخلرافية ّ
املعيش .وهنا تكمن خاصية العجائيب.
والشك والرهبة متواصلني من خالل األحداث ،حيث ،ورغم كل هذا، ّ ويبقى الرتدد
يتجرأ (قابيل) على أخته (الغزالة) ويصيدها ويأكل حلمها ،بل ويصيد قطعان الغزالن فيبيدها،
ألنه بات يأكل أكثر من شاة يف الليلة الواحدة.
-إبراهيم الكوين ،رواية " نزيف احلجر " ،ص.126 /125 : 2
-إبراهيم الكوين ،رواية " :نزيف احلجر " ،ص 126 :و.127 2
338
بالدم،
وهاهو (قابيل) يواصل رحلة صيد (الغزال) لكنه كان مرتددا ،بني محايته ألخته ّ
وبني ص يدها وإش باع السوسة الشرسة اليت تنهش أس نانه " .ال أع رف كيف س يتحايل قابيل
على السوسة يف أسنانه ،بني أسنانه ترقد أشرس دودة عرفها اإلنسان .انتهز قابيل الفرصة- :
نعم ال أثر للغزال .حيسن بنا أن نعود .يف تلك اللحظة صرخ الزجني. O Look ! Look- :
الص خور .ط ار ال زجني حنوها وحلّق ف وق التجوي ف ...ك انت ترتع د. ملع زغب األم بني ّ
صرح .الزجني ! Fire- :مث تبعه مسعود جون يف صوت واحدة – .أطلق النار!
هو أيضا يرتع د .ص ّوب الفوهة البندقية حنو التجوي ف ،ف التقت نظراهتم ا .أش اح
دوي ،ومسح الع رق املت دفق على وجهه بوجه ه ،وأغمض عيني ه ،وض غط الزن اد .انبثق ال ّ
مبعص مه .ف رأى الص غرية تنتفض .مثّ ه وت على األرض ،ورق دت على جنبها األمين ،وم دت
رأس ها حنو القبل ة .بقي التعبري املخيف يف عينيه ا ،فلم يس تطع قابيل أن يق رتب ...يف تلك
الليلة ،مل يقتل ابن آدم أخته فقط ،ولكنه أكل حلمها أيضا " (.)1
النص ال روائي ،موص ولة بلحظة ال رتدد هك ذا تتضح خاص ية العج ائيب جبالء داخل ّ
حيس به الق ارئ ،حيث يط رح العديد من واخلوف والرهب ة ،املص احبة لنفس االنفع ال ال ذي ّ
األس ئلة وتتواصل األح داث ،ليبقى أهم س ؤال مط روح ،هل فعال س ؤال مط روح ،هل فعال
هن اك ميث اق دم بني اإلنس ان واحلي وان أم إنه ال وهم؟ .وبني احلقيقة وال وهم ،يط رح الك وين
قض يته الك ربى ،يف س عيه ال دائم إىل نشر الع دل واألخ ّوة والوئ ام بني البشر وبني البشر
والكائنات األخرى.
() 2
لقد وظف الك وين العج ائيب " بوص فه عنص را مهما إلجالء الواقع واس تنباطه "
النص ،من خالل خلق ع وامل غريبة متص لة فباإلض افة إىل اجلمالية اليت ّأداها داخل نس يج ّ
يؤص ل للرواية العربية احلديث ة ،ومن جهة ثانية ينقد الواقع
ب الواقع يف نقطة م ا .فهو من جهة ّ
رتدد بني واقع مرير
املعيش بكل تناقض اته .وذلك يعكس ص ورة الف رد – ك الكوين – وهو م ّ
وأحالم وتطلع ات ص عبة البل وغ .وبني ه ذا وذاك ،ين أى الك اتب بعمله اإلب داعي من خالل
-ت.ي .أﭘتر ،أدب الفنتازيا – مدخل إىل الواقع ،تر :صبّار سعدون السعدون ( تذبيل الكتاب ) 2
339
الت أرجح بني املعق ول والالمعق ول ،والواقع واخلي ال عن الرقابة الس لطوية سياس ية ك انت أم
دينية أم غريمها.
الرواية
فع ال ووظيفي يف الرواية العربية إال مع ّ حيث " :مل يس تثمر العج ائيب ك ّل ّ
اجلدي دة اليت حاولت التج ريب لتكسري النمط الس ردي الق دمي وتأصيل الرواية العربية وربطها
مو باخلي ال
برتاثها الع ريب الق دمي واملش اركة يف ارتي اد آف اق العاملية عن طريق متويه الواقع والس ّ
وتغريبه بش كل عج ائيب .واس تلهام النص وص العجائبية املوروثة عن طريق التن اص .ه ذا ،وإ ّن
أهم عام ل ،ك ان وراء ظه ور ه ذا األدب العج ائيب يف احلقل الع ريب يتمثل يف طبيعة الواقع ّ
املوضوعي التارخيي والسياسي" (.)1
وبالتايل استطاع الكوين ،من خالل توظيف العجائيب أن " يطرح التساؤالت الكبرية
– املتعلقة بالوجود اإلنساين وما يتنازعه من هواجس وخماوف وخفايا.)2( "!
هك ذا يك ون الك وين قد ط رح أهم القض ايا املتعلقة مبصري اإلنس ان واحلي وان والطبيعة
من خالل التوظيف األسطوري والعجائيب.
وجعل من ه ذا الثالثي ( اإلنس ان واحلي وان والطبيعة ) ،كائنا واح دا حييا ويتنفس
ويطمح .فناش د ،اخلل ود لإلنس ان ،بالرضا باملصري احملت وم مع الك ّد واملث ابرة والتش ييد .وناشد
اخلصب والنم اء والتج ّدد للطبيع ة ،باحلف اظ عليها وعلى ال ثروات الباطني ة .وع دم إدخ ال
األي ادي الدخيلة املدنسة لنهب ث روات ص حرائنا البك ر .وناشد وح دة الكائن ات وض رورة
اح رتام احلي وان واحلف اظ على ال ثروات احليوانية وع دم الس ماح لل دخالء بإدخ ال آالهتم
الشيطانية لصيده .وهذا كلّه ،يندرج حتت ملحمة اخللق الكربى.
ملحمة التكوين ،حني خلق إله الكون واإلنسان واحليوان إلعمار األرض.
340