Professional Documents
Culture Documents
وعـــي الحــداثــة( دراسات جمالية في الحداثة الشعرية ) -د .ســعد الـدين كـليب -دراسة -من منشورات اتحاد
الكتاب العرب 1997 -
كـلمة أولـى
تم النظر إلى الحداثة الش ــعرية ،في النقد المعاص ــر ،ومن منظ ــورات ع ـ ّـدة متباينة ،س ــواء أك ــان ذلك فيما يتعلق
لقد ّ
بتحديــدماهو جــوهري فيهــا .بحيث يخيل للمــرء أن النقد المعاصر لم يكد يــترك جانب ـاً من جــوانب الحداثــة ،من دون
فعــاالً في تحديد الحداثة الشــعرية وبلــورة
معالجة تحليلية أو تناول نقدي .وواقع الحال أن ذلك النقد قد أسهم إســهاماً ّ
أطروحاتها الفنية والجمالية .واليرتبط األمر بما هو نظــري وحســب ،بل بما هوتطــبيقي تحليلي أيض ـاً .والنبــالغ إذا
ماذهبنا إلى أن الحداثة قد أنجزها النقاد تنظيراً ،مثلما أنجزها الشــعراء إبــداعاً .ومن حق النقد المعاصر أن يفخر بما
أنجزه ،ومن واجبه أيضاً أن يواصل التفكير والمعالجة والمراجعة لما أنجزه نقدياً ،ولما ينجزه الشعراء إبداعياً.
غــير أن ذلك الي ــؤدي إلى ال ــزعم أن النقد قد ق ــال كلمته الفصل في ش ــأن الحداثة الش ــعرية .فليس ثمة كلمة فصل في
الش ــعر ــ ـ والفن عامة ــ ـ كما أنه ليس ثمة كلمة فصل في العل ــوم اإلنس ــانية ،والنقد واحد منها .ومن ذلك ف ــإن هن ــاك
شــرعية مســتمرة للمقاربــات النقدية الجديــدة جزئي ـاً أوكلي ـاً .ولعل هــذا يكــون ســبباً وراء مقاربتنا النقدية هــذه ،الــتي
الجدة .بل نزعم لها االختالف وبصرف النظر عن تقــويم هــذا االختالف إيجابـاً أو ســلباً ،فإنه يعــود أساسـاً
النزعم لها ّ
إلى انطالق هذه المقاربة من علم الجمال .وهو مالم تتم اإلفادة منه في النقد المعاصر ،إال بشكل جزئي حيناً ،وبشكل
عرضي حيناً آخر .وذلك بخالف هذه المقاربة التي تتأسس على علم الجمال ،من دون أن تغفل مــاأنجزه النقد األدبي
بشأن الحداثة الشعرية.
تقــوم هــذه المقاربة النقدية ـ ـ الجمالية على مقولة محوريــة ،مفادها أن الفن عامة هو نتــاج الــوعي الجمــالي الســائد
تبدل في الوعي الجمالي.
يتبدل ،مالم يكن ثمة ّ
والمشروط بالبنية المجتمعية العامة .وهو مايعني أن الفن اليمكنه أن ّ
وهذا اليحــدث بمعــزل عن التبـدالت الحاسـمة في تلك البنية المجتمعيـة .أي أن الفن ليس انعكاسـاً مباشــراً للواقــع ،بل
هو انعكاس للوعي الجمالي المش ّخص تاريخياً من جهة ،والمش ّخص فردياً من جهة ثانية.
إن الفن هو األكثر قدرة على تبيـان ذلك الـوعي وتجسـيده وتمثلّـه .واليتبـدى ذلك في طبيعة المعالجة الجمالية للواقع
فحســب .بل يتبــدى أيض ـاً في التقنيــات الفنية الــتي ليست ،في الحقيقــة ،ســوى تمظهر حسي لما هو معنــوي جمــالي
التتم ،على
مجـ ّـرد .فثمة ،إذاً ،عالقة جدلية بين الــوعي الجمــالي والشــكل الفــني .ومن هنا فــإن مقاربة ذلك الــوعي ّ
النحو األمثل ،إال من خالل مقاربة الش ــكل ال ــذي هو ال ــوعي متمظه ــراً .أو لنقل إن الش ــكل الف ــني هو ش ــكل ال ــوعي
التتم ميكانيكيـاً ،أو
الجمـالي .ولــذلك فــإن أي تبـ ّـدل في الـوعي سـوف ينعكس تبــدالً في الشـكل .غـير أن هــذه المســألة ّ
بطريقة حتمية .فقد يتمكن الشكل من استيعاب تبدالت الوعي غير الجذرية أو الجوهرية.
ملتقى البحرين 2
وتأسيسـ ـ ـاًعلى ذل ـ ــك ،فقد نظرنا إلى الحداثة الش ـ ــعرية على أنها حداثة في ال ـ ــوعي الجم ـ ــالي أوالً .واليمكن لنا فهم
والتميز بين النص الحــداثي من جهــة ،والنص الكالســيكي والتقليــدي المعاصر من جهة أخــرى ،مــالم نأخذ
ّ االختالف
باالعتبار االختالف والتميز بين الوعي الجمالي لكل منهمــا .ولكن إذا ما كــان الــوعي الجمــالي هو المنطلق في تبيــان
الحداثــة ،فــإن هــذا اليــؤدي بنا إلى إغفــال الشــكل الفــني ،ألم نقل إن هــذا انعكــاس لــذاك .مما يعــني أن حداثة الــوعي
تنعكس حداثة في النص.
لن نطيل في عرض منطلقات هــذه المقاربة النقديةــ الجماليــة ،ففصــول الكتــاب كفيلة بــذلك .ولكن ماالبـ ّـد من قوله هو
أننا حاولنا أن نعي الحداثة بشكل نقدي .فإذا اسـتطعنا ذلك نكـون قد أســهمنا ،قـدر الطاقـة ،في بلــورة الحداثة جماليـاً،
وإ ذا عجزنا أو أخفقنا ،فليس أمامنا إال أن نعيد القول في ما قلناه.
الفصل األول
تمهيد:
على الرغم من أن الموضــوع في الرواية العربية قد احتل مكانة خاصــة ،في النقد األدبي العــربي المعاصر ؛ غــير أنه
يمكن التوكيد أن موضوع الحداثة الشعرية هو الموضـوع األكـثر إشـكالية وحـرارة ،في ذلك النقـد .ولعل هـذا ينهض
من أهمية الشـ ــعر التاريخية ،في الـ ــذوق الجمـ ــالي العـ ــربي ،كما ينهض من أن الحداثة نفسـ ــها ،قد طـ ــرحت عـ ــدة
إشــكاليات فنية وجمالية ،بالنســبة إلى الــذوق الســائد ،من جهة ،وبالنســبة إلى مفهــوم الشــعرية POETICSمن
جهة أخــــرى .وقد النبــــالغ إذا ماذهبنا إلى أن ما صــــاحب هــــذه الحداثة من مقاربــــات نقدية ،ومن خالف بين مؤيد
ومعارض ،كان له األثر الكبير ،في تطور النقد المعاصر ،وبلورة الكثــير من مفاهيمه النقدية .ولكن ،في المقابــل،
لم يكن لهذه الحداثة أن تتعمق وتتبلور ،لوال ذلك النقد الذي كانت قضية التحديث الشعري إحدى قضاياه األساسية .
ُّ
ونود أن نسجل في هذا المجــال ،أن قضـية التحــديث الشــعري قد شــغلت النقد األدبي الحــديث ،منذ أوائل هــذا القــرن .
أي منذ أن ظهــرت مدرسة الــديوان الــتي كــانت لها المبــادرة األولى ،في الهجــوم على كل ما هو تقليــدي ،في الشــعر
الع ــربي .وإ ذا ماوض ــعنا في االعتب ــار أن األطروح ــات النقدي ــة ،له ــذه المدرس ــة ،أك ــثر أهمية من نتاجها الش ــعري ،
والسيما في بداياتها األولى ؛ فإن ذلك يعني أن قضية التحديث الشعري قد ظهرت بوصــفها قضــية نقدية ،أوالً .وقد
يبدو من الطريف أن نشير إلى أن النقد الحــديث ــ والمعاصر طبعاًــ بعكس النقد العــربي القــديم ،على هــذا المســتوى .
فبينما كان هذا النقد مدافعاً عن عمـود الشـعر ،واألصـول الجمالية المتوارثة ،وحـذراً من أي تجديد ،يمكن أن يـأتي
به شاعر ،حتى فيما يخص الصورة الفنية والمعــاني الشــعرية ؛ فــإن النقد العــربي الحـديث راح يضـيق ذرعـاً بما هو
تقليــدي ونمطي ،في الشــعر ،مثلما راح يــدعو إلى ضــرورة التفــرد والتمــيز ،العلى صــعيد موقع التحــديث من الــتراث
ملتقى البحرين 3
الش ــعري فحس ــب .بل على ص ــعيد الش ــعراء المعاص ــرين فيما بينهم أيضــاً .ولعل تق ــويم ه ــذا النص أو ذاك بالتقليدية
والنمطية يكون من أكثر التقويمات التي يستخدمها النقد الحديث والمعاصر سلبية.
إن قضــية التحــديث ،إذاً ،هي قضــية النقــد ،بقــدر مــاهي قضـية الشــعر الحــداثي .ولهــذا الغرابة في أن يتــأثر كل منهما
باآلخر ،من حيث التعمق والبلورة؛ والغرابة أيضاً في أن تتعدد المقاربات النقدية حول الحداثة ومسوغاتها وأسباب
نشـوئها ومسـتوياتها وتياراتهـا .بحيث إن التعـرض لكل ذلك يقتضي بحثـاً مطـوالً قائمـاً بذاتـه .وهو مااليسـتطيع هـذا
المبحث أن يقوم به ،بشكل مسهب .ولهذا ،لم يكن ُّ
بد من اإليجاز الذي اليخ ّل بموضوعه.
لقد ذهب النقد المعاصر ،في تفسيره لنشأة الحداثة الشــعرية ،عـدة مـذاهب مختلفة فيما بينها .وهي التفسـير التـأثري
التثاقفي ،والتفسير االجتماعي ،والتفسير النفسي ـ الذوقي .وإ ن يكن التفســيران األوالن هما األكــثر شــيوعاً ،في هــذا
النقد.
أما من حيث التفسير التأثري التثاقفي .فقد تم النظر إلى المثاقفة acculturationمع الغرب األوربي هي األســاس
في نشــأة الحداثــة .وهي مثاقفة من طــرف واحــد .ولهــذا فــإن مســتوى التــأثر أوضح من مســتوى التفاعل أو التبــادل
الثقــافي ،في هــذه المثاقفــة .وغالب ـاً مــايكون إليــوت هو محــور هــذا التفســير .بمعــنى أن إلليــوت من التــأثير في نشــأة
الحداثـة ،ما يمكن أن يصل إلى درجة الــدافع الجــوهري .يقــول أســعد رزوق في ذلــك" إن المثــال اإلليــوتي كــان منهجـاً
احت ــذى ح ــذوه الكث ــيرون من ش ــعرائنا وت ــأثروا به وس ــاروا في خطوات ــه"( .)1وثمة من ي ــذهب إلى " ان كل م ــذهب
سياسي وفلسـ ــفي وأدبي يظهر في أوربا ينعكس بطريقة مباشـ ــرة أو غـ ــير مباشـ ــرة على الواقع (المقصـ ــود :الواقع
العــربي المعاصــر) .حــتى نــرى تــأثيره في الكتابة شــعراً ونــثراً ،وفي طــرق التفكــير والســلوك"" ( .)2ومن ذلك فقد
نشــطت الدراســات النقدية الــتي تربط بين الحداثة العربية وأسســها األدبية الغربيــة .وتســتجلي مظــاهر التــأثر ،ونقــاط
االتفاق واالختالف ،وما إلى ذلك .مما يتعلق بمقولة المثاقفة بوصفها أساس الحداثة.
والحقيقة أن النــاظر ،في مثل هــذه الدراســات ،يكــاد يخــرج بــأن مشــروعية الحداثة التتــأتى من بنية المجتمع العــربي
المعاصر ،بقدر ماتتأتى من التأثر الثقافي النخبوي بالغرب األوربي .سواء أكـان ذلـك ،على صـعيد التجديد اإليقــاعي،
أم التصــوير الفــني ،أم التعامل األســطوري ،أم الموضــوعات الشــعرية .وقد يبــدو من المفيد أن نشــير إلى أن الــدكتور
عز ال ــدين إس ــماعيل ال ــذي يح ــترز من األخذ به ــذا التفس ــير ،يجد نفسه م ــدفوعاً إلى ربط ظ ــاهرة المدينة ،وظ ــاهرة
الحــزن ،في الشــعر العــربي المعاصــر ،بــإليوت وقصــيدته " األرض اليبــاب" .وذلك على الــرغم من توكيــده أن الواقع
العربي هو الذي أفرز هاتين الظاهرتين(.)3
ويــذهب التفســير االجتمــاعي إلى ربط ظــاهرة الحداثة الشــعرية باألطروحــات اإليديولوجية لطبقة البرجوازية العربية
الصغيرة .بحيث تبــدو الحداثة انعكاسـاً reflectionلمجمل التغــيرات االقتصــادية الــتي أصــابت بنية المجتمع العــربي
المعاص ـ ــر ،مع ب ـ ــروز تلك الطبق ـ ــة .فال يمكن فهم الحداثة بحسب ذلك ،من دون فهم تلك التغ ـ ــيرات ،ومن دون فهم
ملتقى البحرين 4
الطبيعة الطبقية أيــديولوجياً ونفســياً ،للبرجوازية الصــغيرة عامــة ،والعربية منها خاصــة .وعلى الــرغم من أن هــذا
التفسير يؤكد أن الصراع االجتماعي" في التحليل األخير اليكفي وحده لتفسير الفن ،إال أن هذا الصراع اليمكن إال أن
يتجلى في الفن ،وبواسطته .بل إنه في بعض المراحل يغدو جوهرياً وحاسماً"(.)4
نقـ ــول :على الـ ــرغم من ذلـ ــك ،فـ ــإن هـ ــذا التفسـ ــير قد تعامل مع الحداثة على أنها إحـ ــدى األطروحـ ــات األيديولوجية
ـرجح أيــديولوجي
للبرجوازية العربية الصــغيرة .وبما أنها كــذلك ،فإنها تتصف بما تتصف به هــذه البرجوازية من تـ ّ
ونفســـي ،ومن ثورية أو عدميـــة ،وذلك بحسب موقعها من المشـــهد االجتمـــاعي .أي بما أن هـــذه البرجوازية ليست
متبلورة أيديولوجياً ،بشكل نهائي أو شبه نهائي ،فإن اشتمال الحداثة على مـاهو ثـوري وعـدمي ،يغـدو أمـراً بـديهياً.
وبذلك فقد أعيدت مظاهر الحزن والقلق والضياع والعدمية واالغتراب والثورية والتوتر االنفعــالي الــتي نواجهها في
شــعر الحداثــة ،إلى طبيعة الشــاعر الحــداثي ،من حيث هو برجــوازي صــغير .يقــول وفيق خنسة في شــعراء الحداثة "
إنهم يتمحورون حول مشــجب البرجوازية الصــغيرة ،ثم يتوزعــون على درجاتها ومســتوياتها وألوانهــا ،كما توزعــوا
عملياً على أحزابها وفئاتها وتنظيماتها" ( .)5ويقول ،خنسة في محمد الماغوط ،بعد أن تنــاول شــعره بالنقــد"هــذا هو
كشــاعر ،فمع من نصــنفه؟ بمعــنى هل ندرسه كشــاعر؟ أعتقد أن ذلك ليس مهم ـاً تمام ـاً ،ولكن األكيد أنه ليس واقعي ـاً
اش ــتراكياً ،والرمانتيكياوالبوهيميــاً ،والرجعيــاً .إنه حص ــيلة ه ــذه كله ــا .إنه نم ــوذج ص ــادق وص ــريح لمثقفي الريف
الفقراء الذين هبطوا إلى المدينة ،ولم يثروا ،كما أنهم لم ينضموا إلى صف الثورة التي تمثلهم"( .)6أي أن الماغوط
برجوازي صغير ،بكل مايعنيه المصطلح.
وعلى الرغم من أن جمال باروت يحترز من الربط الميكــانيكي بين الشــعر وأيديولوجية البرجوازية الصــغيرة ،إال أنه
ي ــذهب ،في حديثه عن شخص ــية الملع ــون ،في ش ــعر أنسي الح ــاج ،إال أنه "المث ــال الجم ــالي النم ــوذجي لل ــبرجوازي
اليحس المجتمع إالخنقـ ـاً لفرديت ــه ،ومحقـ ـاً ولعناًل ــه ،في حين ي ــرى مروقه ثورته
ّ الص ــغير ،اآلب ــق ،الم ــارق ،ال ــذي
الوحيدة"(.)7
ولكن م ــاتجب اإلش ــارة إلي ــه .في ه ــذا المج ــال ،هو أن ثمة ع ــدة مس ــتويات من التفس ــير االجتم ــاعي ،لنش ــأة الحداثة
وتترجح هـذه المسـتويات بين جعل الحداثة انعكاسـاً مباشـراً ألديولوجية البرجوازية الصـغيرة ،وبين النظر
ّ الشعرية.
إلى الحداثة على أنها نتــاج اجتمــاعي ــ أيــديولوجي ،من دون اعتبارها انعكاسـاً ســلبياً لتلك البرجوازيــة .أي من دون
ربطها المباشر بما هو اقتص ــادي ،في الواقع الع ــربي .وقد يبـــدو أن هـــذا التفســـير ،بترك ــيزه على مـــاهو اقتصـــادي
وأيديولوجي ،ينفي عملية المثاقفة مع الغرب األوربي ،غير أن األمر ليس كذلك .إذ إنه يؤكد هذا المثاقفة ،ولكن من
خالل الض ــرورات االجتماعية العربي ــة .يق ــول ال ــدكتور ف ــؤاد الم ــرعي في ذل ــك :إن "الت ــأثر ب ــالغرب لم يكن س ــبباً في
التغيرات التي طرأت على أدبنا الحديث ،بقدر ماكان نتيجة لتلك التطــورات االجتماعيــة"( .)8فال يمكن ،وهــذه الحــال،
أن تك ـ ــون ثمة مثاقفة مع الخ ـ ــارج ،من دون أن تك ـ ــون مفروضة من الض ـ ــرورات االجتماعية الداخلية ذات الطبيعة
األيديولوجية(.)9
ملتقى البحرين 5
أما بالنس ــبة للتفس ــير النفسي ـ ـ ال ــذوقي ،فإنه يربط بين الحداثة الش ــعرية والتغ ــيرات ال ــتي أص ــابت كالً من الطبيعة
النفسية والذوقية العربية ،تحت تـأثير المسـتجدات الـتي جـاء بها القـرن العشـرون .ولعل الـدكتور محمد النـويهي من
أهم القــائلين بهــذا التفســير .حيث يــرى أن التنــاظر أو الســيمترية SYMMETRYالــتي يتصف بها الشــعر العــربي
التقليدي ،لم تعد تتالئم والطبيعة النفسية والذوقية المعاصرة .إن "نوع اإليقاع الذي تعرفه القصيدة العربية التقليدية
لم يعد صــالحاً لحاجاتنا الفنية والنفسـية والذوقيـة ...وإ ن درجة االنتظــام الــتي يتطلبها شـكل القصــيدة التقليدية زائــدة
اإلسراف في السيمترية والرتوب"( .)10ومن ذلك ،فإن النـويهي يـذهب إلى أن " البحر العـربي المـأثور ذو موسـيقى
حــادة بــارزة ،شــديدةالجهر ،عنيفة الوقع على طبلة األذن ،عظيمة الدرجة من التكــرار والرتــوب .وهــذه طبيعة ينفر
منها ذوقنا الح ــديث ولم تعد آذاننا تحتمله ــا ،وأص ــبحنا نراها ش ــيئاً ب ــدائياً اليعجب به إال ذوو األذواق الفجة ال ــتي لم
تنضج"( .)11ولكي يؤكد مايذهب إليه ،فإنه يقارن بين اإلنسان البدائي والطفل ،من جهــة ،وبين اإلنســان المتحضر
و الناضج ،من جهة أخرى ،فـيرى أن اإلنســان البــدائي والطفل اليعجبهما ســوى الحــاد والفــاقع والعــنيف من الــروائح
واأللـ ــوان واألنغـ ــام ؛ على حين أنه كلما " نضج اإلنسـ ــان وارتقت ثقافته ونما ذوقه وته ـ ـذّب حسـ ــه ،صـ ــار أميل إلى
التشم إالهوناً ،واألنغام الدقيقة المختفية التي تحتــاج إلى ذكــاء وإ رهــاف ســمع
ّ األلوان الخافتة والروائح الخفيفة التي
حتى تُلتقط وتتابع"()11
وبشــكل عــام ،فــإن ثمة تغــيراً ماقد طــرأ على الطبيعة النفســية والذوقية العربيــة .وهو ماجعلها تنفر من كل مايتنــافى
معهــا ،على صــعيد الشــكل الشــعري المــوروث ،وعلى أصــعدة أخــرى مختلفة أيض ـاً .ومن ذلــك ،فــإن الميل إلى انجــاز
التحديث الشعري هو ،في أساسه ،تعبير عن االختالف في تلك الطبيعة .أي أن شعر الحداثة هو الشعر األوحد الــذي
يمثل النفسية والذوق المعاصرين ،في حين أن الشكل القــديم لم يعــد" يصــلح للنهــوض بحاجاتنا الشــعرية المعاصــرة"(
.)12
تلك هي أهم التفسيرات التي اقترحها النقد األدبي المعاصــر ،لنشــأة الحداثة الشــعرية .ولكن مــاينبغي قوله ،هنــا ،هو
أن ذلك االختالف في التفس ــيرات الي ــؤدي إلى ن ــوع من القطيعة فيما بينه ــا .إذ إن النقد المعاصر عامة ي ــرى أن ثمة
ضــرورة حقيقية لوجــود الحداثة الشــعرية ،في المجتمع العــربي .فســواء كــانت المثاقفة هي األســاس أم كــانت البنية
االجتماعية االقتصــادية ،أم الطبيعة النفســية والذوقيــة؛ فــإن ضــرورة الحداثة تبقى هي المنطلق ،لتلك التفســيرات .
وعلى الرغم من أن القول بالمثاقفة يربط الحداثة بماهو خارجي ،فإنه يرى المثاقفة مع الغرب األوربي هي ضــرورة
ثقافية وحضــارية ،للخــروج من شــرنقة الركــود والجمــود الــتي انحصــرت فيها الثقافة العربية طــويالً .بمعــنى أن ثمة
حاجة في الثقافة العربية إلى الدخول في مثاقفة مع الغرب األوربي.
األنساق النقدية:
وإ ذا ك ــان النقد المعاصر قد اش ــتمل على ع ــدة تفس ــيرات مختلف ــة ،لنش ــأة الحداث ــة؛ فإنه قد اش ــتمل أيضـ ـاً على ع ــدة
مقاربات نقديـة ،لما هو جـوهري فيها .أي أن نقـاد الحداثة يختلفـون فيما بينهم حـول المسـتوى الجـوهري أو األكـثر
أهمية ،في الحداثة الشعرية ،والذي جعل منها نمطاً من اإلبداع الشعري ،مختلف ـاً عن الشــعر الكالســيكي .ويمكن أن
ملتقى البحرين 6
نحصر ه ــذه المقارب ــات بع ــدة أنس ــاق .وهي :النسق الموس ــيقي ،والنسق األس ــطوري ،والنسق الص ــوري ،والنسق
الرؤيــوي .وهي ،كما نلحــظ ،تكــاد تشــمل معظم الجــوانب ،في الحداثة الشــعرية .وإ ذا كــانت هــذه المقاربة النقدية أو
تلك ترى أن الجوهري أو األهم في الحداثة ،يكمن في أحد هذه األنساق ،فإن ذلك اليعني عدم األخذ بغــيره .بل يعــني
أن غيره أقل أهمية منه في تحديد ماهو جوهري في الحداثة ،مع اإلشارة إلى أن بعض النقاد يميلــون إلى األخذ بعــدة
أنساق معاً ،معتبرين إياها محددات أساسية للحداثة .وسوف نتوقف ،بشكل موجز ،عند كل واحد من تلك األنساق.
أما النسق الموسـ ــيقي ،فيؤكد القـ ــائلون بجوهريته أن أهمية الحداثة الشـ ــعرية تكمن في خروجها على نظـ ــام الـ ــبيت
الشعري الكالسيكي القائم على تفعيالت محددة سلفاً .هذا البيت الذي يشكل أساس القصيدة العربية موسيقياً ،والــذي
يحيل على نمطية عروضــية ،لم تعد تتالءم والــذوق المعاصر من جهــة ،ولم تعد تتالءم وطبيعة االنفعــال الشــعري من
جهة ثانية .بحيث يصح التوكيد ،بحسب هذا النسق ،أن الخروج على ذلك النظام هو في ذاته دخــول في الحرية الــتي
تميز التجربة الشـعرية ،ومن دونه لن يتمكن الشـاعر العـربي من التعبـير عن تجربته بالشـكل األمثـل .ومن ذلـك ،فقد
تم النظر إلى محــاوالت الرمانتيكية العربيــة ،في تجــاوز النمطيــة ،من خالل بعض التنويعــات والتلوينــات الموســيقية،
ّ
على أنها نوع من تجميل القيد .يقول النويهي في ذلك":ومن العبث أن نظن أن إلغاء القافية والروي أو تنويعهما في
القصيدة الواحدة مع االحتفاظ بهذا الشكل الهندسي الســيمتري الشــديد االنتظــام والرتــوب يكفي لتخفيف حــدة الجــرس
أو ضــيق القيــود الشــكلية .وهــذا شــبيه بمايفعله المحكــوم عليه باإلعــدام شــنقاً حين يطلب إلى "عشــماوي" أن يوسع
حول عنقه قليالً حـتى اليؤلمـه"(.)13وبهـذا المعـنى ،فـإن بقـاء نظـام الـبيت هو السـائد اليـؤدي إال إلى بقـاء القيد على
رقاب الشــعراء ،ولن تنفع كل المحــاوالت الموســيقية الجزئيــة ،لتجــاوز النمطيــة ،في وصــول الشــاعر إلى التعبـير عن
تجربته ،بشكل حر وأصيل .إذ إن المشكلة الجوهرية تكمن أوالً في سميترية ذلك النظام .هذه السيمترية الــتي لم تعد
تتالءم ،كما الحظنا سابقاً ،والطبيعة النفسية والذوقية المعاصرة.
إن مايذهب إليه النــويهي ،كـانت نــازك المالئكة قد ذهبت إليه من قبـل ،حين رأت أن ثمة أسـباباً خمسة أوجبت وجـود
الشـعر الحـر ،بحسب مصـطلحها .وهي الـنزوع إلى الواقـع ،والحـنين إلى االسـتقالل ،والنفـور من النمـوذج ،والهـرب
من التنـ ــاظر ،وإ يثـ ــار المضـ ــمون( .)14وقد يبـ ــدو أن بعض هـ ــذه األسـ ــباب العالقة له بالنسق الموسـ ــيقي ،من مثل
السببين األول واألخير .غير أن كل هذه األسباب تحيل ،في نهاية المطاف ،إلى ذلك النســق .إذ إن لها جميعـاً منطلقـاً
واحــداً وهو اإلحســاس بضــيق نظــام الــبيت الشــعري .فــالنزوع إلى الواقع لن يتيسر للشــاعر ،في إطــار هــذا النظــام.
تضيق آفاق األوزان القديمة ،فهي تلــوح للفـرد المعاصر ترفـاً وتبديــداً للطاقة
تقول ،تحت هذا السبب "أما القيود التي ّ
الفكرية في شكليات النفع لها ،في وقت يـنزع فيه هـذا الفـرد إلى البنـاء واإلنشـاء وإ لى إعمـال الـذهن في موضـوعات
العصــر"( .)15وتــرى نــازك المالئكــة ،تحت الســبب نفســه ،أن الشــعر الحر يصــلح للتعبــير عن الحيــاة الواقعيــة ،ألنه
"يخلو من رصــانة األوزان القديمــة"( .)16وتــرى ،تحت الســبب األخــير"إيثــار المضــمون" ،أن الشــكل التقليــدي يتحكم
بالمضمون الشعري ،لما فيه من دقة وتنظيم وتناظر ،وهو مايجعل الشاعر يضحي بمعانيه من أجل الحفاظ على ذلك
الشكل .أما الشعر الحــر ،فهو "في جــوهره ،ثــورة على تحكيم الشــكل في الشــعر"( ،)17في محاولة لجعل المضــمون،
الالشكل ،هو األساس.
ملتقى البحرين 7
وبشــكل عــام ،فــإن المــيزة الجوهرية لشــعر الحداثة تكمن ،بحسب هــذا النســق ،في المســتوى الموســيقي من النص
الشعري .فالتحديث الموســيقي قد أتــاح للشــاعر أن يتخلّص من القيــود الــتي تمنعه من التعبــير عن تجربته الشــعرية،
وعن واقعه المعاصر تعبيراً حياً ،ينبض بالحرية والجمال الفني.
وبما أن النسق الموس ــيقي هوالج ــوهري،ـ في الحداث ــة ،فالغرابة في أن تت ــوالى الدراس ــات ال ــتي تتن ــاول ه ــذا النسق
بــالبحث والمعالجــة ،وأن تختلف فيما بينها حــول الشــكل النهــائي الــذي يمكن أن يأخــذه شــعر الحداثــة ،على الصــعيد
الموسيقي ،ولن نتعرض ،هنا ،إلى الحديث عن ذلك ،إال أنه البأس من اإلشارة إلى أن نـازك المالئكة كــانت من أكـثر
المتحمسين إلى "قنونـة" هـذا الشـكل .وهو مايتنـافى أساسـاً والمنطق الـذي انطلقت منه في اعتبـار الحرية شـرطاً من
شروط الشعر الجديد؛ وهو الذي جعلها تستخدم مصطلح "الشعر الحر" في وصف هذا النمط الشعري الجديد.
وإ ذا كــانت المالئكة قد رأت أن التفعيلة هي األســاس الموســيقي ،في هــذا الشــعر ،فــإن النــويهي يــرى أن التفعيلة هي
المرحلة األولى ،من مراحل التجديد الموســيقي .إذ ينبغي على هــذا الشــعر أن يســتكمل تجديــده بــالخروج من النظــام
الكمي إلى النظــام النــبري .أي بــالخروج من نظــام التفعيلة إلى نظــام النــبر( .)18ولهــذا الينبغي أن نــرى في " وحــدة
التفعيلة العروضــية إال كمرحلة انتقــال ،كقنطــرة يعــبر عليها شــعرنا إلى ميــادين أعظم اتســاعاً ،وتطــوير أبعد مــدى
وأعمق جذرية"( .)19وعلى الرغم من إقرار النويهي بأن ثمة اختالفـاً في القــراءات على صــعيد قواعد إيقــاع النــبر،
وأن ثمة نوعاً من التطور فيها( ،)20غير أنه اليرى حرجاً من توكيد اإلمكانية في إنتاج الموسيقا الشعرية العربية،
من خالل نظام النبر.
والحق أن ماافترضه الن ــويهي قد وجد ص ــدى كب ــيراً عند الكث ــير من النق ــاد ،ممن يتبن ــون المنهج الب ــنيوي ،فراح ــوا
ظرون إلمكانية إنشاء موســيقا شــعرية خالية من التفعيلــة ،وقائمة على نظــام النـبر .وفــاتهم في ذلك اختالف مواقع
ين ّ
النــبر ،بين اللهجــات المحلية العربيــة( .)21وغــني عن البيــان أن البــنيويين العــرب قد أعطــوا النسق الموســيقي ،من
شــعر الحداثــة ،أهمية خاصة تكــاد تفــوق أي نسق آخــر .وذلك لطبيعة البنيوية الــتي تهتم بما هو لغــوي وصــوتي ،في
المقــام األول .ومن المعلــوم أن البنيوية قد تــابعت الشــكالنيين الــروس في معــاملتهم للشــعر "على أنه اســتخدام أدبي
جوهري للغة :فهو كالم منظم في بنيته الصوتية الكلية .واإليقاع RHYTHMهو عامله األساسي األكــثر أهميــة"(
.)22أي أن البنيوية العربية قد تع ــاملت مع ه ــذا النس ــق ،بش ــكل نق ــدي ممنهج ،يف ــترض أن اإليق ــاع أو الموس ــيقى
مسألة جوهرية في الشعر .وبما أن معظم البـنيويين العـرب قد تحمسـوا لنظـام النـبر ،فلم يكن ٌّ
بـد من أن يفترضـوا أن
الموسيقا الشـعرية يمكن أن تكـون داخلية الخارجيـة ،ومعنوية الحسـية .وهو ماجعل من مصـطلح الموسـيقا الداخلية
يبدو وكأنه بدهي ،في الدراسات النقدية المعاصرة.
أشد المصطلحات التباسـاً وغموضـاً في الـوقت نفسـه .إذ إن الموسـيقا الشــعرية اليمكنها
ونرى أن هذا المصطلح من ّ
إال أن تك ــون حس ــية .وألنها حس ــية ،فهي خارجية بالض ــرورة .وذلك بص ــرف النظر عما إذا ك ــانت حس ــية الموس ــيقا
الش ــعرية س ــمعية أو بص ــرية أو كليهما معـ ـاً .أما الس ــبب في ه ــذا ،فينهض من أن كل ما في الفن عام ــة ،هو حسي
يتبدى فنياً بشكل حســي .ولهــذا فمن الطريف أن يــذهب مــروان فــارس
بالضرورة .وحتى ماهو معنوي اليمكن إال أن ّ
ملتقى البحرين 8
إلى أن "اإليقاع اليمكن أن يكون إال داخلياً ألن عالقته بالصور واألفكار عالقة سببية اليمكن عزلهــا"( .)23والنــدري
ماالذي يجعل من اإليقاع داخلياً ،إذا كانت له عالقة سببية بكل من الصور واألفكــار؟ .وهل الصـور الفنية هي معنوية
أو حسية ،ثم هل تأتي األفكار في شعر الحداثة إال مصورة ،بشكل حسي؟.
إن مااليمكن تظهيره حسياً ،في الفن ،اليمكن أن يكون مادة لــه .والغرابة في أن يضـطر الشــعر الصــوفي ،في تمثيله
لما هو روحــاني ،إلى اإلتكــاء على الرمــوز ذات الطبيعة الحســية ،من مثل المــرأة والخمــرة والكــأس..إذ إن الشــعر،
والفن عامــة .إما أن يكــون حســياً ،أو اليكــون .والشك في أن ثمة فرق ـاً بين التمثيل الحســي ،في الفن ،وبين الــوعي
الحسي الذي هو مرحلة من مراحل الوعي البشري.
وي ــذهب النسق األس ــطوري إلى " أن الش ــعر المعاصر قد تأسس منذ أن ولجت األس ــطورة كبعد ب ــنيوي ش ــعوري إلى
جسد القصــيدة ،أي منذ ظهــور"أنشــودة المطــر" للســياب ،في أوســاط الخمســينات ،وليس مع كسر العمــود الشــعري
التقليــدي ،أو الخليلي ،في أواخر األربعينــات ،وإ ن كــان هــذا الكسر هو الشــرط القبلي الضــروري التخــاذ األســطورة
نهجـاً شـبه صـوفي للرؤيا الشـعرية"( .)24وبهـذا المعــنى ،فـإن النسق الموســيقي ليس له تلك األهمية الـتي مــرت بنا
سابقاً .بل األهمية الكبرى يتصف بها التعامل الشعري الحداثي مع الواقع ،من منظور األسطورة.
وي ــرى يوسف اليوسف أن األس ــطورة لم ت ــدخل إلى الش ــعر ،لكي تك ــون "بمثابة عتلة رافعة للقص ــيدة .وإ نما ج ــاءت
بوصــفها الرؤيا الشــعرية نفســها ،وبوصــفها جــوهر الــتركيب البــنيوي للقصــيدة عينهــا"( .)25ولكي يؤكد ذلك ،فإنه
يذهب إلى تعـداد المنـافع الفنية الــتي قـدمتها األسـطورة إلى الشـعر ،فـيرى أنها خمســة .وهي :تعميق الكيف الـدرامي
للقصــيدة ،وإ عطــاء المفــاهيم والتصــورات بعــداً شخصــياً ،وإ عطــاء المضــمون بعــداً كوني ـاً ،والتخلص من الــزمن أو
تعطيله ،والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهر والتجدد.)26(.
أي أن األسطورة لم تدخل في بنية النص الحداثي فحسب .بل دخلت أيضاً في بنية الوعي الشــعري الحــداثي .وبهــذا،
لم يعد باإلمكــان عــزل النص عن األســطورة ،أو عــزل ذلك الــوعي عن الــوعي األســطوري .وهــذا مــايقول به الــدكتور
اسماعيل ،حين يؤكد أن الطريقة األسطورية ،أو مانسميه المنهج األسطوري ،هي التي تجعل للشعر طابعاً مميزاً في
باب المعارف اإلنسانية ،يميزه عن الفلسفة وعن العلوم التجريبية ،ويجعله شــعراً"(.)27ومن ذلــك ،فــإن اتبــاع" هــذا
المنهج في العصر الحاضر ليس مجرد طريقة لحل موقف إنســاني ،وإ نما هو كــذلك أســلوب شــعري وفــني من الطــراز
األول"( .)28ولهــذا الغرابة في أن يتم النظر إلى الصــورة الفنيـة ،في الشــعر ،على أنها من آثــار الــوعي األســطوري
القــديم أو بقايــاه .وهــذا ،كما هو معلــوم ،من أطروحــات النقد األســطوري myth criticismالــذي كــان نــورثروب
فراي من أهم ممثليه.
وعلى الرغم من أن إسماعيل اليميل عادة إلى األخذ بنسق واحد .بل يأخذ بعدة أنساق معـاً .غــير أنه في تناوله لهــذا
النسق أو ذاك ،غالب ـاً ماينســاق وراء التعميم الــذي يــؤدي إلى إعطــاء مــاهو جــزئي أو جــانبي بعــداً عام ـاً أو جوهري ـاً
ملتقى البحرين 9
اليحتملــه ،بحيث يبــدو أن إســماعيل اليقــول إال بهــذا النســق .غــير أن األمر ليس على هــذا النحــو ،وإ نما هي الحماسة
لما هو مدروس وحسب .وقد ظهر ذلك ،في مجمل فصول كتابه"الشعر العربي المعاصر".
وعلى أية حــال ،فــإن القــول بجوهرية األســطورة ،في شــعر الحداثــة ،غالب ـاً مــاينهض من اعتبارها شــكالً من أشــكال
الوعي ،وشكالً من أشكال التصوير الفني .وإ ذا ماوضعنا في االعتبار أن ثمة نوعـاً من التوحيد بين الــوعي الشــعري
الحــداثي والــوعي األســطوري ،وبين الصــورة الفنية واألســطورة ،فــإن ذلك يعــني أن شــعر الحداثة اليمكن عزله عن
األسطورة ،حتى في تناوله للواقع .إذ إن الواقع ينبغي ،بحسب ذلك ،أن يبدو مؤسطراً في الشعر .والحقيقة أن شــعر
الحداثة كثــيراً مــارأى في األســطورة حــامالً موضــوعياً لتجاربه وتصــوراته الشــعرية ،غــير أن القــول بــذلك شــيء،
والقول بجوهرية األسطورة شيء آخر تماماً.
لقد شاع هذا النسق شيوعاً كبيراً ،في النقد المعاصر ،منذ أن أطلق جبرا إبراهيم جبرا مصــطلح"الشــعراء التمــوزيين"
ســنة.1958وكــان يقصد به أدونيس والســياب والخــال وحــاوي ،باإلضــافة إليــه( .)29وقد تابعه أســعد رزوق .في
دراسة هؤالء الشعراء الخمسة ،من منظور األسطورة التموزية التي تقــوم أساسا على االنبعــاث من المــوت والجــدب
واليباب(.)30ـ وواقع الحال أن مجمل المقاربـات النقدية لهـذا النسـق ،تنهض أساسـاً من أسـطورة المـوت واإلنبعـاث
الــتي بــدت وكأنها المحــور الــذي يتمحــور حوله شــعر الحداثــة ،في عالقته بــالواقع االجتمــاعي والحضــاري العــربي
المعاص ــر .بمع ــنى آخ ــر :إن الح ــديث عن جوهرية األس ــطورة ليس في حقيقته س ــوى ح ــديث عن جوهرية أس ــطورة
الموت واالنبعاث أو األسطورة التموزية حصراً .وهو ما خصصت له ريتا عوض كتاباً مستقالً( ،)31يدرس تجليات
هذه األسطورة ،في شعر الحداثة.
وبش ــكل ع ــام ،يمكن التوكيد أن الق ــائلين به ــذا النس ــق ،ي ــذهبون إلى أن م ــأثرة الحداثة تكمن في تناولها األس ــطوري
للواقــع ،بحيث اســتطاعت أن تـرتقي به إلى مسـتوى األســطورة .وهي بــذلك تكــون قد تخلصت من النثرية والتقريرية
اللـــتين تنش ــآن من التن ــاول ال ــواقعي المباشر .وتك ــون أيضـــاً قد ارتقت إلى الكلية من خالل الجزئيـــة ،أو كما يق ــول
اليوسـف" بـرهنت األســطورة على أنها تشـابك المتباينـات وانــدماجها في وحـدة عضــوية ....وبــذلك اسـتطاع الشــاعر
المعاصر أن يعانق الكلية والجزئية ،وأن ينجو من المباشرة في التعبير ،أن ينجو من النثرية"(.)32
أما النسق الصــوري ،فــيرى أن دراسة الصــورة الفنيــة ،في شــعر الحداثــة ،يمكنها أن تــبين مــدى االختالف بينه وبين
الشـعر العـربي الكالسـيكي والتقليـدي المعاصـر .وذلك من منظـور أن الصـورة الفنية جوهرية في الشـعر عامـة .فيما
أن الصورة ،على هذا النحو من األهمية ،فإن تبيانها وتبيان عالئقها ،عبر المدارس الشعرية ،يــؤدي بالضــرورة إلى
تبيــان االختالف الجــوهري بين هــذه المــدارس ،مع اإلشــارة إلى أن الصــورة التعــني مــاهو جــزئي وحسب .بل تعــني
ماهو كلي أيضاً .بمعنى أن ثمة صوراً جزئية ،كما أن ثمة صوراً كلية.
وبما أن الـدكتور نعيم اليــافي من أهم الدارســين لهـذا النسـق ،فـإن الوقـوف عند أطروحاته أو بعضـها ،حـول الصــورة
الحديثة ،هو وقوف عند هذا النسق ،بشكل أو بآخر.
ملتقى البحرين 10
ينطلق الدكتور اليافي من أن األشكال البالغية القديمة إنما هي "أبنية مهدمة استنفدت طاقاتها ،وخلقت جدتها ،وطال
عليها الزمن"( .)33وهي ،لذلك ،لم تعد مالئمة لهذا العصر بخلفيته الثقافية ،مما يقتضي تعامالً صورياً جديداً .وهو
ماأنجزه الشعر الحديث.
أما الصفات التي تتصف بها الصورة الحداثية،أو المعاصرة ،بحسب تعبير اليافي ،فيمكن إجمالها باألمور التالية:
آـ تعد الصـورة الفنية أحد مكـونين اثـنين ،في القصـيدة المعاصـرة ،وقد عـبرت عن تجـارب الشـعراء رؤية وبنـاء ،أما
المكون الثاني فهو اإليقاع.
ب ـ ـ إن أســاس الصــورة الفنية يكمن في الخلــق ،الفي المحاكــاة ،كما كــان ســائداً في الشــعر العــربي ،ومن ذلك ،فقد
تخلت الصورة المعاصرة عن وظائف الصورة التقليدية في الشرح والتزيين.
ج ـ ـ ـ أضـ ــحت الصـ ــورة ،في الشـ ــعر المعاصـ ــر ،وسـ ــيلة الخلق والكشف والرؤيا وأداة التعبـ ــير الوحيـ ــدة عن العالقة
المتشابكة المعقدة مابين األنا ـ اآلخر ،الداخل ـ الخارج.
هـ ـ من الصعوبة الحديث عن بنية عامة ثابتة للصورة ،في القصيدة المعاصرة(.)34
وذلك باإلضافة إلى أن هذه الصورة قد "ألغت ثنائية التعبـير المعروفة فكــرة +صـورة ،وجعلت التعبـير عن الفكـرة يتم
من خالل الصورة أو بالصورة"(.)35
وإ ذا ماقابلنا هذه الصـفات بصـفات الصــوررة التقليديـة ،فـإن التطــور في الصـورة المعاصــرة يغـدو أكــثر وضـوحاً .أما
هــذه الصــفات فهي :التعــارض بين الفكــرة والصــورة ،والتزينيــة ،وطغيــان الصــور المفردةجــاهزة ومكــررة وثابتــة،
والتفكيك والــتراكم والتنــاقض( .)36وذلك عالوة على الثنائية الــتي تقــوم عليها الصــورة التقليدية الــتي هي محاكــاة
أوالً .وبهــذا المعــنى ،فـإن القفـزة النوعية الـتي قــام بها الشـعر المعاصـر ،تجد صـداها األساســي ،في الصـورة الفنيـة،
والغرابة في ذلك ،إذ إن الصورة في الشعر هي "أداته الرئيسة في الخلق والتصوير"(.)37
غير أن ماتنبغي اإلشارة إليه ،في هـذا المجـال ،هو أن اليـافي اليـرى في الصـورة وفي تطويرها مسـألة فنية فحسـب.
بل إنه يــرى فيهما أيض ـاً إحالة على اإلطــار المعــرفي للعصــر .أو كما يقــول "يعد اإلطــار المعــرفي الفلســفي والثقــافي
واالجتم ــاعي والف ــني المه ــاد ال ــتي تأسست عليها تقني ــات القص ــيدة عامة وتقني ــات الص ــورة خاص ــة"( .)37فتط ــور
الص ــورة إذاً ،الينهض مما هو فــني وحس ــب .بل ينهض أيضــاً من كل ما ينط ــوي عليه العصر الح ــديث وب ــذلك ،ف ــإن
الص ــورة الفنية تمثل المب ــدع ،بق ــدر ماتمثل عص ــره ،على كل األص ــعدة .والشك في أن ه ــذه النظ ــرة تتسم بالحيوية
والجدلية .وذلك من خالل ربطها بالصورة الفنية بمجمل العالئق الداخلية والخارجية ،وعدم النظر إلى الصــورة على
ملتقى البحرين 11
أنها ذات مستوى فني وحسب ،ولكن اهتمامها الشديد بالصورة ،يجعل منها ذات بعد جــزئي ،على الــرغم من محاولة
هذه النظرة توسيع مفهوم الصورة ،ليشمل النص الشعري الحداثي عامة ،في أحد مستوياته.
وهكذا نلحظ أن النسق الصوري يرى أن تطور القصيدة المعاصـرة ينهض أساسـاً من تطــور تقنيــات الصــورة الفنيـة.
واليمكن ألي تجديــد ،مهما يكن مســتواه ،إال أن ينعكس في الصــورة ،أو األصــح :اليمكن إال أن يطــال الصــورة أوالً،
وما ذلك إال ألن الصورة هي األداة الرئيسية أو الجوهرية في الشعر.
ويذهب النسق الرؤيوي أخيراً ،إلى أن ماهو جــوهري ،في شــعر الحداثــة ،يكمن أوالً في الرؤيا .فالرؤيا الحداثية هي
الــتي تســوغ وجــود الحداثــة ،وليس المســتويات الفنية أو الشــكلية .ويتم التوكيد في هــذا النســق ،أن الشــعر العــربي
الكالسيكي هو ،في المقام األول ،شعر رؤية؛ على حين أن شعر الحداثة هو شعر رؤيا ،ويؤكد الدكتور غــالي شــكري
"أن كلمة الرؤيا ـــ إذا شــئنا الدقة في التعبــير والتــأريخ ـ ـ التنطبق أبعادها إال على هــذا الشــعر الحــديث"( .)38ويربط
شكري بين الرؤيا المأساوية القاتمة وبين الغموض الذي يتسم به هــذا الشــعر ،مؤكــداً أن "ليس التالعب بــاألوزان أو
اللغة أو الصور هو السر الكامن وراء هذا الغموض ،وإ نما هي الرؤيا المأساوية القاتمة في جوهرها العميــق"(.)39
ومن ذلك فإن أهمية هذا الشعر وتميزه يقومان أوالً على تحوله من الرؤية إلى الرؤيا .ولعل هذا مــادفع أدونيس إلى
تعريف الشعر الحداثي بقوله":إنه رؤيا .والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة .هي ،إذن ،تغيير في نظــام
األشــياء وفي نظــام النظر إليهــا"( .)40ـ وبما أن األمر على هــذا النحــو ،فالينبغي "أن نبحث في القصــيدة الجديــدة عن
الصورة أو الفكرة بحد ذاتها .بل عن الكون الشعري فيها وعن صلتها باإلنسان ووضعه"(.)41
ويختلف الق ــائلون به ــذا النسق ح ــول طبيعة الرؤي ــا ،في الحداثة الش ــعرية ،وهل هي رؤيا مأس ــاوية ،أو ثوري ــة ،أو
ميتافيزيقية .ومن دون أن ندخل في تفصيالت هذه الرؤى ،يمكن القــول إن شــعراء مجلة "شــعر" ونقادها يميلــون إلى
اعتبــار أن الميتافيزيقا هي األســاس األول في كل شــعر عظيم( .)42وغالبـاً مــاتتم المزاوجة بين الرؤيا الميتافيزيقية
والرؤيا المأساوية؛ على حين أن نقاد الواقعية كانوا يميلون إلى الرؤيا الثورية .مع اإلشارة إلى أن هــؤالء يفضــلون
استخدام مصطلح "المضــمون" على اســتخدام مصــطلح "الرؤيــا" .ويؤكــدون ،في الــوقت نفســه ،أن الفن العظيم اليمكن
إال أن يكــون ذا مضــمون عظيم .وفي كلتا الحــالتين ،فــإن هــذا النسق يبحث عن الجــوهري في شــعر الحداثــة ،خــارج
المس ــتويات الفني ــة ،وإ ن يكن ه ــذا الج ــوهري اليمكن إال أن يظهر من خالل ه ــذه المس ــتويات بمع ــنى أن الحداثة هي
موقف رؤيوي أوالً .ومن دون هذا الموقف تغدو الحداثة مجرد نقلة شكلية الطائل منها.
ونود أن نتوقف ،في هذا المجال ،عند تحديد أدونيس لشعر الحداثة .إذ إنه يمثل وجهة النظر الرؤيوية ،بشكل عام.
ّ
يرى أدونيس أن هذا الشعر يتخلى عن عدة أمور ،تمنعه من أن يكون حداثياً .وهي:
ب ـ التخلي عن الواقعية التي تحيل على التعامل النثري العادي،ـ واستخدام الكلمات وفقاً لدالالتها المألوفة.
ملتقى البحرين 12
د ـ التخلي عن الرؤية األفقية ،والميل إلى الغوص فيما وراء الظواهر واألشياء.
إن التخلي عن كل ذلك يع ــني االنطالق من الرؤي ــا .مثلما يع ــني ال ــدخول في ع ــالم الش ــعر الحقيقي والخالد ال ــذي هو
اليبحث عنــه،
كشف وارتياد للمجاهيل ،أو كما يقول أدونيس " إن تحديد شــعر جديد خــاص بنا نحن ،في هــذا العصــرُ ،
جوهريـ ـاً ،في فوضى الش ــكل والفي التخلي المتزايد عن ش ــروط ال ــبيت ،بل في وظيفة الممارسة الش ــعرية ال ــتي هي
طاقة ارتياد وكشف"(.)44
وقد يبدو أن تركيز أدونيس ،ومن ورائه النسق الرؤيوي ،على الرؤيا بوصــفها جوهريــة ،قد أدى إلى إهمــال الشــكل
الفني لشعر الحداثة .غير أن واقع الحال عكس ذلك تماماً.
فقد تم إيالء الشــكل أهمية خاصــة ،في هــذا النســق ،أو األصح أن نقــول إنه قد تم النظر إلى الشــكل والرؤيا بوصــفها
مضــموناً على أنهما يشــكالن وحــدة الانفصــام فيهــا .يقــول أدونيس ،في ذلك "فالشــكل والمضــمون وحــدة في كل أثر
شعري حقيقي .وهي وحدة انصهار أصيل .ويـأتي ضـعف القصـيدة من التفسـخات والتشـققات الـتي تُستَشف في هـذه
الوحـ ــدة"( .)45فأهمية الرؤيا التلغي أهمية الشـ ــكل ،وإ نما تكمن المسـ ــألة في المنطلق األول .أي هل الحداثة موقف
أوالً ،أو أنها شكل أوالً .ولقد أجاب هـذا النسق عن ذلــك ،بــأن الموقف أو الرؤيا هي األســاس الجــوهري في الحداثـة.
وبما أنه ك ــذلك ،فاليمكن إال أن يف ــرض ش ــكله الخ ــاص ب ــه .ومن المعل ــوم أن التجريبية الش ــكالنية هي أس ــاس نت ــاج
شعراء الرؤيا .وقد يبدو من الطريف ،هنــا ،أن من يــذهب إلى أن الرؤيا هي الجــوهري في الحداثــة ،يقع في االهتمــام
بما هو شكالني؛ إال أن الطرافة تتالشى ،حين نؤكد أن قيـام الرؤيا مما هو حدسي ميتــافيزيقي غرائـبي ،بالنسـبة إلى
أولئك الشعراء ،يتكامل والبحث عن أشكال غرائبية.
ونرى لزاماً علينا أن نشـير إلى أنه إذا كـان أدونيس ــ وشـعراء الرؤيا أيضـاً ــ قد ذهب إلى ضـرورة أن تكـون الرؤيـا،
بوصفها مضموناً ،حدسية وميتافيزيقية ،فإن الكثيرين من النقاد والشعراء ــ والســيما القــائلين بالواقعية ــ قد رفضــوا
هــذا الطــرح لمفهــوم الرؤيــا ،معتــبرين أن الرؤيا االجتماعية الثورية الــتي تتنــاغم وحركة الواقع هي الرؤيا الحقيقية
التي على شعر الحداثة أن يصدر منها ،وأن يعمقها في الواقع والنص معاً .يقول أحمد يوسف داود ،في معرض رده
النبوة وإ نما بالرؤية/المعرفة .وهكذا التنفصل اللغة عن أصــولها
بالرؤيا/اإللهام/حس ّ
ّ على أدونيس "فاإلبداع اليكون
إال بمقــدار أنفصــال الممكن عن الــراهن"( .)46أو بمعــنى آخــر :ليس ثمة رؤيا يمكن أن تنفصل عن الرؤيــة .ولهــذا
فــدعوى التجــاوز والتخطي الــتي يــدعيها شــعراء الرؤيا ليست في حقيقتهــا ،ســوى مقولة وهميــة ،الأســاس لها من
الصحة.
ملتقى البحرين 13
تلك هي األنســاق الــتي ســادت النقد المعاصــر ،في مقاربته لما هو جــوهري في الحداثة الشــعرية .حيث اهتم كل نسق
بأحد جوانب الحداثة ،وجعل منه جوهرياً ،بالنسبة إلى الجوانب األخرى.
وإ ذا ما كنا قد أوجزنا الق ــول في ه ــذه األنس ــاق ،فإننا قد حاولنا أن نعطي ،ق ــدر اإلمك ــان ،ص ــورة كلية عامة عنه ــا.
ونرجو أن نكون قد استطعنا ذلك .ويبقى السؤال مااإلشكالية التي تعانيها هذه األنساق منفردة ومجتمعة؟.
إن أولى تبـديات هـذه اإلشـكالية تكمن في النظـرة الجزئية إلى الحداثـة ،حيث يتم التركـيز على جـانب واحـد ،في أغلب
األحيان ،ويتم النظر إليه على أنه الجوهري ،وأن ماسـواه ثـانوي .وكـأن الحداثة ليست كالً موحـداً ،يصـعب تجزيئـه،
أو توزيعه على وح ــدات مس ــتقلة .والشك في أن ثمة جوهريـ ـاً وثانويـ ـاً في كل ظ ــاهرة فنية أو ثقافية أو اجتماعي ــة.
ولكن أن نجعل من الجـزئي كليـاً ،ومن الخـاص عامـاً ،ومن الثـانوي جوهريـاً ،فـإن في ذلك مغالطـة ،لن تـؤدي إالَّ إلى
التوهم .ولقد بدا ذلك واضحاً في النسق الموســيقي والنسق األســطوري .حيث ذهب األول إلى جعل اإليقـاع الــذي هو
جــزئي ،في الصــدارة من الكليــة .وذهب الثــاني إلى جعل الثــانوي المــرحلي جوهري ـاً اســتراتيجياً ،من خالل النظر إلى
األسطورة على أنها أهم مكونـات الحداثـة .وقد أثبتت الحداثـة ،فيما بعد السـبعينات من هـذا القـرن ،عكس ذلك .حيث
تخلت عن األسطورة ،وبقيت هي ،من دون أن تتأثر بنيتها الجمالية.
وتتبدى تلك اإلشكالية أيضاً في اضمحالل المعالجة الجمالية لظاهرة الحداثــة .فعلى الــرغم من توكيد تلك األنســاق أن
الشــعر شــكل جمــالي ،إال أن مجريــات التنــاول النقــدي تثبت أن مــاهو جمــالي أقل حضــوراً مما هو فــني أو رؤيــوي.
والحق أن النسق الصــوري هو األقــرب إلى المعالجة الجماليــة .وذلك من خالل ربطه تقنيــات الصــورة الفنية بــاألطر
النظرية واالجتماعية العامـ ــة؛ ومن خالل فهمه لتلك التقنيـ ــات على أنها أسـ ــلوب في وعي العـ ــالم.ـ غـ ــير أن اهتمامه
فوت عليه فرصة النظر إلى ظاهرة الحداثة من عدة جــوانب هامة أخــرى .لعل أهمها جــانب
األكبر بالصورة الفنية قد ّ
الوعي الجمالي الحداثي ،وطبيعته المختلفة عن الوعي الجمالي التقليدي أو الكالسيكي.
وعلى الــرغم من أن المنطلق الــذي انطلق منه النسق الرؤيــوي كــان باإلمكــان أن يتعمق باتجــاه المعالجة الجماليــة،
غير أن توهان هذا النسق فيما هو حدسي وغرائبي وميتافيزيقي ،قد جعل منه قاصراً عن وعي الحداثة .نقول ذلــك،
ونحن نعي جي ــداً أن جملة "التخلي ــات" ال ــتي اقتراحها أدونيس ،اليمكن ص ــرف النظرعنه ــا ،أو عن بعض ــها ،في فهم
الحداثة الشعرية.
وتظهر تلك اإلشــكالية ،من جهة ثالثــة ،في أنها غالبـاً مــاتقطع الصــلة بين الحداثة وماســبقها من محــاوالت تجديديــة،
في الشــعر العــربي الرومــانتيكي .بحيث تبــدو الحداثة نقلة نوعية التــراكم كمي ـاً لهــا ،في حين أن الشــعر الرومــانتيكي
ك ــان له الفضل األول أو المب ــادرة األولى ،في تجديد الش ــعر الع ــربي الح ــديث ،منذ أوائل الق ــرن العش ــرين .ولم يظهر
ذلــك ،على مســتوى الموســيقا الشــعرية فحســب .بل ظهر أيضــاً على مســتويات عــدة مختلفــة .حــتى إن التعامل مع
األســطورة يعــود إلى هــذا الشــعر .وقد يكــون من المشــروع ،في هــذا المجــال ،أن نتســاءل :لمــاذا يتم التوكيد دائمـاً أن
الحداثة قد أفادت من إليوت ،على صعيد التعامل األسطوري ،والتبــدر حــتى إشــارة إلى الرومانتيكية العربية في ذلــك،
ملتقى البحرين 14
على الــرغم من أن الحداثة قد خــرجت جمالي ـاً وتاريخي ـاً من معطف الرومانتيكية العربيــة .الشك في أن ثمة تجــاوزاً
كبيراً في الحداثة ألطروحات الرومانتيكية؛ غير أن ذلك اليلغي أهميتها في المبادرة إلى التحديث.
لقد أغفلت معظم تلك األنسـ ــاق ،في محاولتها بلـ ــورة الحداثـ ــة ،أن تشـ ــير إلى أهمية ماقـ ــامت به الرومانتيكيـ ــة ،وهو
ماأوحى بأن ثمة قطيعة حقيقية وشاملة ،قامت بها الحداثة مع كل ماهو ناجز شعرياً ،على الصعيد العربي .وذلك في
الوقت الذي لم تكن فيه الحداثة إال نقلة نوعية لتراكم كمي ،امتد إلى خمسين ســنة من قبــل ،حين راحت الرومانتيكية
تطرح وعياً جمالياً جديداً مختلفاً ،بقدر ما ،عن الوعي السائد.
ويبقى أن نؤكد أن النقد المعاصر بأنس ـ ـ ـ ـ ــاقه المختلفة قد أنتج معرفة نقدية بالحداثة الش ـ ـ ـ ـ ــعرية ،اليمكن التقليل من
أهميتها بحــال من األحــوال ،كما اليمكن تجاوزها في أي مقاربة نقدية ممكنــة .فعلى الــرغم من أن ثمة إشــكاليات في
فهم هذا النقد للحداثة ،إال أن ذلك اليؤدي إلى القول إن هــذا النقد قاصر عن وعي ظــاهرة الحداثة الشــعرية ،أو أنه لم
يستطع الكشف عما هو إيجابي أو سلبي فيها.
الهوامش :
1ـ رزوق ،أسعد :األسطورة في الشعر المعاصر .منشورات مجلة اآلفاق ،بيروت.1959 ،ص.107:
2ـ جيدة ،د.عبد الحميد :االتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر .مؤسسة نوفل ،بيروت.1980 ،ص112 :
3ـ إسماعيل ،عز الدين :الشعر العربي المعاصر .دار العودة ،بيروت ،ط .1981 ،1:راجع الفصلين األول والثاني
من الباب الثالث.
4ـ الشريف ،جالل فاروق :الشعر العربي الحديث ـ األصول الطبقية والتاريخية .اتحاد الكتاب العرب ،دمشق،
.1976ص5:ـ6
5ـ خنسة ،وفيق :دراسات في الشعر العربي السوري .ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر.1981 ،ص.15:
7ـ باروت ،محمد جمال :الحداثة األولى .اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات ،الشارقة ،ط.1991 ،1:ص.92 :
8ـ الم ــرعي ،د.ف ــؤاد :الم ــؤثرات األجنبية في حركة الحداثة الش ــعرية .مجلة الموقف األدبي ــ ـ ع ــدد.193/194 :
دمشق.1987 ،ص.53:
9ـ البأس من اإلشارة إلى أننا كنا قد أخذنا بهذا التفسير ،في أطروحتنا للدكتوراه "القيم الجمالية في الشعر العربي
الحديث" عام .1989
ملتقى البحرين 15
10ـ النويهي ،د .محمد :قضية الشعر الجديد .دار الفكر ،ط.1971 ،2:ص.98:
14ـ المالئكة ،نازك :قضايا الشعر المعاصر .دار العلم للماليين ،بيروت ،ط ،5:ص56:ـ65
16ـ نفسه،ص.57:
21ـ راجع :المعداوي ،أحمد :البنية اإليقاعية الجديدة للشعر العربي .مجلة "الوحدة" .العدد .82/83 :الرباط،
.1991حيث يعرض الدارس لتلك المحاوالت مبيناً مافيها من قصور أو مغالطة.
- 22
24ـ اليوسف ،يوسف سامي :الشعر العربي المعاصر .اتحاد الكتاب العرب ،دمشق .1980 ،ص.44:
29ـ جبرا ،جبرا إبراهيم :المفازة والبئر واهلل .مجلة "شعر" .العدد .7/8 :صيف .1958ص.57:
30ـ رزوق :المرجع السابق .حيث يدرس أولئك الشعراء من هذا المنظور.
31ـ وهو :أسطورة الموت واالنبعاث في الشعر العربي الحديث .المؤسسة العربية ،بيروت.1978 ،
33ـ اليافي ،د.نعيم :مقدمة لدراسة الصورة الفنية .وزارة الثقافة ،دمشق .1982 ،ص8 :
34ـ اليافي ،د.نعيم :الصورة في القصيدة العربية المعاصرة .مجلة "الموقف األدبي" ،العدد .255/256 :دمشق،
.1992ص.46:
36ـ اليافي ،د.نعيم :تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث .اتحاد الكتاب العرب ،دمشق.1983 ،ص:
.364
38ـ شكري ،د .غالي :شعرنا الحديث إلى أين؟ .دار اآلفاق الجديدة ،بيروت ،ط .1978 ،2:ص.13 :
40ـ أدونيس :زمن الشعر .دار العودة ،بيروت ،ط .1983 ،3:ص.9:
46ـ داود ،أحمد يوسف :لغة الشعر .وزارة الثقافة ،دمشق.1980 ،ص.254 :
* تمهيد:
يشـ ـ ّكل األس ــاس ال ــذي انطلقت منه الحداثة على ال ــرغم من أن ال ــوعي الجم ــالي AESTHETIC CONSCIOUSNESS
الشعرية العربية ،إال أنه بقي ثانوياًـ أو هامشياًبالنسبة إلى النقد األدبي المعاصـر ،في إجابته عما هو أساسي في هــذه الحداثــة .وعلى الـرغم
من أن هذا النقد لم يكد يترك ظاهرة من ظــواهر الحداثة الشــعرية ،من دون معالجة أو دراسة نقديــة ،فــإن اهتمامه بما هو جمــالي عامة بقي
أقل قيمة من اهتماماته األخرى.
تنظــيراً وتطبيقـاً .وهو مــاانعكس ســلباً على ولعل السبب األبـرز في ذلك يكمن في قلة عناية هـذا النقد بعلم الجمـال AESTHETICS
بعض أطروحــات هــذا النقــد ،من مثل عــدم الربــط ،أو ضــآلته ،بين الظــاهرةـ الشــكلية وأساســها الجمــالي ،ومن مثل تحويل الجــزئي إلى كلي،
وتعميم الخاص بهذا الشــاعر أو ذاك على الحداثة الشــعرية عامـة؛ ومن مثل التعامل مع هــذا المســتوى الفــني أو ذاك بمعــزل عن المســتويات
األخرى من جهة ،وعن المضمون الجمــالي من جهة ثانيــة .والشك في أننا النتهم النقد المعاصر بالقصــور عن وعي ظــاهرة الحداثــة .إذ إن
واقع الحال يؤكد أن هذا النقد ،في معظمه ،كان على درجة عالية من الفهم والتبصر بهذه الظاهرة ،كما كــان على درجة من المتابعة النقدية
لهــا ،بشــكل لم يســبق له مثيل في تــاريخ النقد العــربي .بحيث يمكن القــول إن حركة الحداثة الشــعرية لم يكن لها أن تأخذ ماأخذته من أهمية
ك ــبرى في الثقافة العربية المعاص ــرة ،به ــذه الس ــرعة القص ــوى؛ لو لم تص ــاحبهاـ حركة نقدية نش ــطة ،تتناولها بال ــدرسـ والبحث والعناي ــة،
وتتحمس لما تطرحه من جديد يختلف عما هو معهود في الشعر العربي ،ويتالءم ومنطق التحديث الذي يتبناه النقد األدبي الحديث عامة.
ّ
ولكن الالفت للنظر في هــذا النقد هو غيــاب التحليلـ النقــدي،ـ أو ضــآلته ،لعالقة ظــاهرة الحداثة بالظــاهرةـ الجمالية عامــة ،والــوعي الجمــالي
خاصة .ومعظم مايقال في هذه المقاربة النقدية أو تلك عن هذه العالقة هو أن ثمة ذوقاً جماليـاً جديـداً راح يتبلـور عربيـاً؛ أو أن تغـيراً ما قد
طــرأ على طبيعة االســتيعاب الجمــالي في اإلبــداع والتلقي؛ أو أن الشــعر الحــديث ذو بنية جمالية مغــايرة ومختلفة عن الشــعر العــربي القــديم.
ولكن ماهي طبيعة هذا الذوق الجديد أو التغير أو البنية ،فإن هذا مايسكت عنه النقد المعاصر مكتفياً باإلشارة أو التقرير .وكأن األمر بــدهي
الخالف حوله ،أو كأنه اليسـتأهل المعالجة النقديـة .والشك في أن مـايقرره هـذا النقد صـحيح في جـوهره .غـير أن هـذا الصـحيح يحتـاج إلى
تبين طبيعته وانعكاساته ،كما تبين مستوياته التعبيرية.
تسويغ علمي ومعالجة نقدية ّ
إن الفن بوصفه "أعلى أشكال تملك الواقع بحسب مقاييس الجمال"( ،)1إنما هو نتاج الوعي الجمالي ،في نمط من أنماطه التاريخيـة .ولهـذا
فإنه يكثف التجربة االجتماعية تكثيفــاًـ فنيــاً راقيــاً ،من منظ ــور ذاتي تخيلي تق ــويمي .مما يع ــني أن إحالة الفن على الواقع اليمكن أن تك ــون
إحالة مباش ــرة ،مثلما أنه اليمكن ربطه بما هو ف ــرديـ ص ــرف .ولعلّه من المفيد أن نس ــتأنس بما يؤك ــده غول ــدمان ،في ه ــذا المج ــال ،وذلك
ــــل في مجموعــــات
ــــنى ذهنية مــــاوراء فردية تنتمي إلى مجموعة خاصــــة ،وهي تتشــــكل ،على نحو دائم ،وتنح ّ
بمقولته بصــــدور الفن عن ب ً
ـــدل صـــورتها عن العـــالم كإســـتجابة لت ّغيُّر الواقع أمامهـــا .وتبقى هـــذه الصـــور الذهنية معروفة على نحو رديء ،ونصف
اجتماعية حين تع ّ
مدركة في شعور الممثلين االجتماعيين؛ غير أن الكتاب العظام هم القادرون على بلورة تلك الصور في شكل واضح متماسك()2
ملتقى البحرين 18
المتعددة
ّ إن الوعي الجمالي الحداثي هو أحد تلك الصور الذهنية التي راحت تتشكل في المجتمع العربي المعاصر ،بفعل المستجدات
والمختلفة التي بدأت بالبروز ،منذ أوائل القرن العشرين .ومن هنا ،فإن تبيان هذا الوعي هو في أساسه تبيان للخلفية الناظمة للحداثة
األدبية العربية عامة ،والشعرية منها خاصة.
ونرى أن التصنيف المدرسي لهذه الظاهرة الفنية أو تلك ينبغي أن ينطلق أو ًال من تحديد طبيعة الوعي الذي يقف خلفها.ـ أما أن ننطلق،ـ في
التصنيف ،من المستويات الفنية وحسب ،فإن في ذلك قصوراً عن استيعاب الظاهرةـ نقدياً.
والشك في أنه اليجوز الفصل بين الوعي الجمالي والمستويات الفنية .ولكن في المقابل .فإن كثيراً من تلك المستويات يمكن أن يكون عاماً
وشـائعاً بين مختلف الحركـات الشــعرية أو المــدارس الفنيـة ،في مرحلة تاريخية معينـة .غـير أن هــذا اليعــني عــدم أهمية تلك المســتويات في
ـخص ماديـاً ،والســيما حين تكــون
التصــنيف .إذ إن الــوعي الجمــالي اليمكن اســتقراؤه من دونهــا ،فهي الحامل المــادي له أو هي شــكله المشـ ّ
تعبيراً مباشراً عنــه ،كما حصل مع الحداثة الشــعرية العربيـة .فما هي طبيعة الــوعي الجمـالي الحـداثي .وماعالقته بتلك المســتويات ،وبمــاذا
يتميز من نظيره الكالسيكي؟.
يمكن تعريف الــوعي الجمــالي عامة بأنه الــوعي الــذي يتنــاول الظــواهر واألشــياء ،من خالل ســماتها الحســية وأثرها في الطبيعة النفســية
الــتي تشــكل مضــمونه القيمي .ويتالءم والروحية للمتلقي ،منطلق ـاً من المقــاييس الجمالية AESTHETIC STANDARDS
الوعي الجمالي طرداً مع تلك المقاييس ،بحيث إن أي تغير يطرأ على واحد منهما ،يطرأ على اآلخر بالضــرورة .غــير أن تغــير الــوعي يكمن
في آليته الذهنية ــ اإلنفعاليـة ،على حين أن تغـير المقـاييس يكمن في المثل العليا الناظمة لهـا ،فليس ثمة وعي جمـالي دون مقـاييس ،وليس
ثمة مقــاييس من دون مثل عليــا .وتــدخل هــذه األقــانيم ،بشــكل يصــعب فيه التميــيز بينهــا .إال أنه يمكن القــول إن الــوعي هو اآللية الذهنية ـ ـ
المثُل فهي المعيار األعلى الـذي تسـعى الظـاهرة إلى تشخيصه وتمثيله بوسـاطة
االنفعالية المنتجة للظاهرة ،والمقاييس هي الناظمة لها ،أما ُ
تلك المقاييس.
وعلى الــرغم من أن الــوعي الجمــالي أكــثر ثبات ـاً ،على الصــعيد التــاريخي ،من أشــكال الــوعي األخــرى ،إال أن هــذا اليــؤدي إلى القــول بثباته
المطل ــق .فبما أنه نت ــاج اجتم ــاعي ت ــاريخي ،ف ــإن قابليته للتغ ــيرـ والتب ــدل أمر الشك في ــه .وتب ــدو ه ــذه القابلية أك ــثر وض ــوحاً في المراحل
االجتماعية ال ــتي تتسم بنه ــوض ـــ أو نك ــوص ـــ ثق ــافي قيمي ش ــامل .وبما أن الفن أعلى أش ــكال تملّك الواقع بحسب مق ــاييس الجم ــال ،فإنه
المؤشر األكــثر مصــداقية في الداللة على ذلك التبــدل أو التغــير في الــوعي الجمــالي ،إذ إن مايصــيب هــذا ينعكس في ذاك بالضــرورة.ـ ولعلناـ
النجـانب الصـواب إذا ماذهبنا إلى أن التغـير الجـزئي الـذي أصـاب الشـعر العـربي ،في العصر العباسي وفي األنـدلس يتالءم والتغـير الجـزئي
الذي أصاب الوعي الجمالي العربي في الفترتينـ العباسية واألندلســية ،كما أن التغــير الكلي الــذي جــاءت به الحداثة الشــعرية العربية يتالءم
والتغير الكلي الذي أصاب الوعي الجمالي المعاصر .هذا الوعي الذي ظهرت مالمحه األولى ،على استحياء ،في أوائل القــرن العشــرين ،مع
والأدل على هذا من اتساع رقعة الفنون األدبية خاصة .حيث لم يعد الشعر هو اإلبداع األدبي األوحد أو األكــثر أهميــة.
ّ الرومانتيكية العربية،
بل أصبح أحد فنون األدب إلى جانب المسرحية والرواية والقصة القصيرة.ـ والشك في أن دخــول هــذه الفنــون إلى األدب العــربي يعــني ،فيما
ـني عن التوكيد أن المثاقفة
يعني ــه ،اتس ــاع الحاج ــاتـ الجمالية العربية وتنوعها من جه ــة ،واختالف ال ــوعي الجم ــالي من جهة أخ ــرى .وغ ـ ٌّ
ACCULTURATIONمع الغرب األوربي كان لها دور فاعل في ذلك ،غير أنها لم تكن ،بحال من األحوال ،هي األساس فيه .إذ
إن الخارج اليمكنه أن يؤثر تأثيراً فاعالً في الداخل ،إال بحسب الضرورات والحاجاتـ الداخلية.
لقد جاءت الحداثة الشعرية العربية تلبية لحاجة جمالية ناشئة ،في المجتمع العربي المعاصر ،وتعبيراً عن وعي جمالي راح يتبلور عبر
نصف قرن تقريباً .وإ ذا كان هذا الوعي قد ارتبط تاريخياً بظهور قوى اجتماعية معينة كالطبقة الوسطى ،والفئة المثقفة منها خاصة،
فاليؤدي ذلك إلى أن هذا الوعي خاص بتلك الطبقة ،أو يمكن أن يزول بزوال صدارتها االجتماعية ،أو أن يكون انعكاساً
REFLECTIONعن طبيعتها الطبقية وأطروحاتهاـ األيدولوجية.
ملتقى البحرين 19
يتميز الوعي الجمالي ،في الحداثة الشعرية العربية ،من الوعي الكالسيكي العربي بعدة سمات تجعله وعياً جديداً بكل ماتعنيه الكلمة ،كما
تجعل نتاجه الشعري مختلفاًـ عن الشعر العربي الكالسيكي والتقليديـ المعاصر .وفيمايلي نتحدث عنها ،وعن تجلياتهاـ فنياً ،وعما يقابلهاـ في
الوعي الجمالي الكالسيكي.
1ـ التجادلية:
لعل التجادلية(*) تكون هي السمة الجوهرية من بين سمات الوعي الجمالي الحداثي ،فهي السمة األكثر تبدياً ،في الشعر فنياًـ وجمالياً.ـ
فاليكاد مستوى من مستويات النص الشعري الحداثي يخلو منها ،أو من بعض آثارها .سواء أكان ذلك على صعيد البنية الفنية العامة أم
على صعيد البنية اإليقاعية أم التصويرية أم على صعيد القيم الجمالية المطروحة.
وكما هو معلوم ،فإن هذه السـمة تحيل على فهم العـالم والوجــود اإلنســاني من منظـور التنــاقض وتبــادل التـأثيرـ فيما بين الظـواهر واألشــياء
والعناصر والجوانب ...إلخ .فليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يســتمر أو يمــوت ،بمعــزل عن عناصر المحيط الــذي هو فيــه ،أو بمعــزل عن
محيطه عامة .وهو ماينفي إمكانية استقالل الظواهر واألشياء ....بعضها عن بعضها اآلخر ،ويؤكد وجودها القائم على التناقض والصراع
وتبادل التأثير .وبما أن األمر كـذلك ،فليس هنالك مـاهو نــاجز بشـكل نهــائي .إذ إن التطـور والتبــدل والتغـير من الصـفات المالزمة لكل مـاهو
يتم من خالل الثبــات أو االســتقالل أو الكمــال .إن كل شــيء ينبغي أن يؤخذ في تجادله مع األشــياء
موجــود .ولهــذا لم يعد النظر إلى األشــياء ُّ
األخرى ،من دون أن يعني ذلك إغفال التميز الذاتي الخاص به.
تلك هي الخلفية الفلسفية للوعي الجمالي الحداثي .حيث راح هذا الوعي يتسم بآلية ذهنية تجادلية ،ترى العالم في وحدته القائمة على
التناقض والصراع العلى التكامل والتناظرـ SYMMETRYكما هي الحال في الوعي الجمالي الكالسيكي العربي الذي تش ّكل التكاملية
الميتافيزيقية سمته الجوهرية .وعلى الرغم من أن المجال اليسمح بالحديث عن هذا الوعي ،إال أنه تمكن اإلشارة إلى أن مفهوم الكمال
مفهوم جوهري في الفكر العربي ـ اإلسالمي ،سواء أكان ذلك على صعيد الوجود أم المعرفة أم القيم عامة ،والجمالية منها خاصة(.)3
وبحسب ذلك ،فإن لكل موجود كماله الالئق به .وهو كامل لما فيه من عناصر الكمال التي وهبتها إياه المشيئة اإللهية .أي أن هذه العناصر
التتأتى له ذاتياً أو من المحيط الذي هو فيه .بل تحصل له بحسب ماهو مقرر إلهياً .وبهذا فإن العالم الذي هو كامل بالضرورة ،ينطوي
على موجودات كاملة ذاتياً ومتكاملة فيمابينها،ـ والشك في أن هذا اليلغي تبادل التأثير .بل يلغي التناقضـ الذي هو جوهر التطور بحسب
الفهم التجادليـ.
فأساس االختالف ،إذاً ،بين الوعي الحداثي والكالسيكي ،على المستوى الفلسفي الجمالي ،يكمن في أن األول يعي العالم في تناقضه
المضي بذكر هذه االختالفات،
ّ وتجادله ،على حين أن الثاني يعيه في تكامله وتناظره ،وهو ماأدى إلى اختالفات عديدة بينهما .ولكن قبل
البد من القول إن الوعي الجمالي عامة ليس وعياً فلسفياًـ نظرياًـ للعالم أو الوجود .إنه قد يتقاطعـ أو يتداخل مع هذه النظرة الفلسفية أو
ّ
تلك ،من دون أن يتطابقـ وإ ياها كلياً .إذ لو حدث ذلك النتفى كونه وعياً جمالياً .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،قد تختلف النظرة الفلسفية
اختالفاً شديداً ،من غير أن يقود ذلك إلى اختالف في الوعي الجمالي .ولعل أكبر شاهد على ذلك ،هو استمرار الوعي الجمالي الجاهلي
حتى بدايات العصر العباسي الذي أضاف بعض التغييرات الجزئية إليه .ومن جهة ثالثة ،إن تبني هذا الوعي الجمالي أو ذاك اليعني
بالضرورةـ تبنياً لمجمل الخلفية الفلسفية التي يستند إليها .فقد يكون الشاعر حداثياً من دون أن ينتمي فكرياً إلى الفلسفة الجدلية بقوانينها
المختلفة ،واألمثلة على ذلك كثيرة جداً .كما يمكن أن ينتمي الشاعر إلى تلك الفلسفة ،غير أن وعيه الجمالي وعي كالسيكي صرف.
المعقدة التي تحتاج من الباحثين دراسة علمية متأنية.
ّ والحق أن هذه من المسائل
لقد أدى ذلك االختالف إلى افتراق الوعي الحداثي عن الكالسيكي ،على صعيد النظرة إلى الجمال .فبينما كان الوعي الكالسيكي يميل إلى
تعريف الجمال بأنه الكمال الموصوف باالعتدال( ،)4فإن الوعي الحداثي يرى أن الجمال هو التميز القائم على الحرية والحيوية .أي أن
التميز والحرية والحيوية.
هذا الوعي يشترط للجمال ثالثة عناصر ،وهي ّ
ملتقى البحرين 20
التميز
ال ،غير أن ّ
التميز ،يصعب أن يكون جمي ً
فما يوحي بالعادية ،أو يندرج تحت الشيوع والعمومية ،أو اليلفت االنتباه بما فيه من صفات ّ
البد من أن يكون مبنياً على الحرية والحيوية .أما األولى فتنفي أن يوجد الجمال فيما هو مستلب أو مقيد أو
وحده اليكفي للجمال .إذ ّ
منصاع لنظامـ يفرض عليه ماليس من خصائصه أو طبيعته .وأما الحيوية فتنفي أن يوجد الجمال في الثبات أو السكون STATICأو
مايوحي بهما كالجمود والركود واالنحطاط والتقهقرـ ....إلخ .وبهذا فإن العادي أو المقيد أو الساكن اليمكنه أن يتصف بالجمال ،بحسب
الوعي الحداثي .حيث إنه يفتقر إلى أحد عناصر الجمال التي هي عناصر متجادلة ومتكاملة فيما بينها.
المتميز الحر والحيوي في آن معاً .ومن ذلك فإن اللذة الجمالية الناجمة منه ليست لذة اإلحساس
ّ فالجميل ،في الوعي الحداثي ،إذاً ،هو
بالكمال واالعتدال ،كما في الوعي الكالسيكي العربي ،بل هي لذة االحساس باالنطالق ،وكأن الجميل يدهشنا باآلفاق التي يفتحهاـ أمامنا،
تحد من الحرية والحيوية فينا .ومن هنا كانت
محدداً بأطر ثابتة مطلقة ّ
ويحيلناـ على وجودناـ الذي ينبغي أن اليكون معاداً ومكروراً أو ّ
الرغبة في تجديد الشعر شاملة تقريباً .إذ إن التجديد يعني التعبير عن تلك النظرة الجديدة إلى الجمال ،والمختلفة عن النظرة العربية
الكالسيكية إليه .وبذلك نفهم قول أدونيس:
المحدث!
َ المحدث،
َ البدعةَ ،البدعةَ!
إن هذه النظرة إلى الجمال هي نظرة عامة مشتركة بين شعراء الحداثة العربية كافة ،فعلى الرغم من أن هذه الحداثة ليست تياراً شعرياً
واحداً( .)6إال أنها تنطلقـ في تقويم الجمال من نظرة مشتركة .واليتباين األمر إال على صعيد الحوامل الجمالية .كأن يميل هذا التيار إلى
اعتبار التميز والحرية والحيوية من صفات القوى االجتماعية التقدمية ومثلها األعلى البطل الثوري خاصة؛ ويميل ذاك التيار إلى اعتبار
هذه العناصر خاصة بالفئة الليبرالية المثقفة ومثلها األعلى البطل الفادي.ـ وذلك على المستوى االجتماعي ـ الجمالي .أما ما سوى ذلك،
فليس ثمة من تباين يكاد يذكر جمالياً .وغني عن البيان أن التباين في النظر إلى الحوامل ينهض من التباين في الموقع األيديولوجي لهذا
أو ذاك من التيارات والشعراء .وهو ،في نهاية المطاف ،تباين أيديولوجي ال جمالي ،وال أدل على ذلك من االشتراك في السمات الفنية
العامة التي تنظم النص الشعري الحداثي.
لقد أشرنا سابقاًـ إلى أن المالمح األولى لهذا الوعي قد ظهرت مع الرومانتيكية العربيةُّ ،
ونود أن نشير ،في هذا المجال ،إلى أن تعريف
الجمال بأنه التميز القائم على الحرية والحيوية ،يدين بالكثير منه لتلك الرومانتيكية التي ذهبت إلى أن الحرية والفردية شرطا الجمال
اللذان يعنيان التميز .وهو ماسعى إليه الشعر الرومانتيكي العربي ،ونظّر له ٌّ
كل من العقاد والمازني( ،)7ولكن إذا كان هذا الشعر قد خطا
بعض الخطوات ،في طريق التجديد ،تعبيراً عن نظرته الجديدةـ إلى الجمال ،فإن النقلة النوعية قد تمت مع شعر الحداثة الذي خرج تاريخياً
ونتوضح أثر ذلك في كل من الشكل اإليقاعي
ّ وجمالياً ،من معطف الرومانتيكية ولقد انعكس ذلك كله في السمات الفنية العامة لهذا الشعر،
والبنية الصورية.
ملتقى البحرين 21
إن تجديد الشكل اإليقاعي للقصيدةـ العربية هو التجديد األكثر سطوعاً ،في شعر الحداثة ،في بداياته األولى ،ولعله يكون أكثر المستويات
استئثاراً للحوار والنقاش والجدل بين المؤيدين والمعارضين ،في خمسينيات هذا القرن .حتى بدا ،أحياناً ،وكأنه التجديد األوحد الذي
جاءت به الحداثة ويمكن تسويغ ذلك الجدل بأن شعر الحداثة ،بشكله اإليقاعي المختلف ،قد تجاوزـ المستوى األكثر سطوعاً ،في القصيدة
العربية ،وفي وحدة البيت الشعري القائم على شطرين متعادلين موسيقياً .واليمكن فهم التجديد اإليقاعي ،بمعزل عن الوعي الحداثي
ومفهومه عن الجمال .إذ إن اعتبار الحرية شرطاً من شروط الجمال قد دفع إلى اعتبار الشكل اإليقاعي الكالسيكي شكالً عاجزاً عن
ال اليتالءم والحرية التعبيرية من جهة ،واليتالءم من جهة أخرى ،والنظرة الجمالية
استيعاب االنفعال الشعري في انطالقته وحيويته ،شك ً
الجديدة ،وهو مااقتضى إيجاد شكل إيقاعي يحقق ماقد عجز عنه ذلك الشكل .فكان أن ظهر الشكل اإليقاعي المفتوح غير المحكوم بضوابط
نمطية ناجزةـ سلفاً ،والمرتبط بطبيعة االنفعال الشعري .بحيث أصبح هذا الشكل هو المعادل اإليقاعي للتجربة الشعرية الخاصة بهذا النص
نصين متطابقين بالشكل اإليقاعي ،في شعر الحداثة .وما ذلك إال لالستحالة في أن نجد تجربتينـ
أو ذاك .وقد يكون من المستحيل أن نجد ّ
متطابقتين تماماً ،حتى لدى الشاعر الواحد.
إن انتفاء النمطية الناجزة عن الشكل اإليقاعي الحداثي اليتجاوبـ أيضاً والحيوية التي هي أحد شروط الجمال .إذ إن هذا الشكل هو التمثيل
مايفسر التدفقـ
ّ الحسي لحركة التجربة الشعرية ،في صعودها وهبوطها وتأرجحها ،وفي كثافتهاـ واستطاالتها،ـ وفي تسارعهاـ أيضاً .وهو
ٍ
متوال؛ كما اإليقاعي أحياناً حتى نهاية المقطع ،أو نهاية النص الشعري بكامله؛ ومايفسر أيضاً الوقفاتـ اإليقاعية المتكررة أحياناً ،بشكل
يفسر إلغاء القافية أو تنويعها أو تغيير مواقعها من النص ،بحيث لم تعد تأتي بالضرورة في نهاية األشطر الشعرية .أي لم تعد القافية تعني
الوقف اإليقاعي بالضرورة ،على النحو الذي كانت عليه في الشعر العربي الكالسيكي.
إن كل ذلك جعل من الشكل اإليقاعي الحداثي مفتوحاً على احتمالت التكاد تحصى من االختالفاتـ اإليقاعية بين النصوص الشعرية .وذلك
على الرغم من أن التفعيلة بقيت هي الوحدة الصوتية ـ النغمية ،في تيار التفعيلة من شعر الحداثة .والبأس من اإلشارة ،في هذا المجال،
محدد في قصيدة النثر ،ومايزال رجماً بالغيب .وإ ن يكن ثمة محاوالت مخلصة لتسويغه ،من خالل النظام
إلى أن الحديث عن إيقاع سمعي ّ
ال إيقاعياًـ مفتوحاً ،قد فتحت الباب واسعاً أمام االختالفاتـ
النبري ،المن خالل النظام الكمي( .)8وعلى أية حال ،فإن الحداثة في طرحهاـ شك ً
النصية ،بشكل لم يعد فيه باإلمكان الكالم على نمط أو اثنين أو غير ذلك ،للشكل اإليقاعي الحداثي .ولنطرح أمثلة على هذا ،من
ّ اإليقاعية
بعض النصوص المبنية على تفعيلة (متفاعلن)،ـ كما تتوضح تلك االختالفات ،وذلك على الرغم من أن األمر أصبح شائعاً ومعروفاًـ:
يقول مصطفى خضر ،بتدفق إيقاعي يصل إلى سبع عشرة تفعيلة:
شمةُ؟
لمن التماثي ُل المه ّ
الغبار،
ُ تهب ،يطمسها
الوجوهُ ُّ
ِ
الحجر، وأهداب من
ٌ تذوب أقنع ٌة
حشود الملح،
َ النهار ُّ
يزف مزهواً ُ
رؤوس من حجر()9
ٌ
موزعة على الشكل التالي ]9/10/5/2[:مع التزام بقافية واحدة وذلك في قوله:
ويستخدم محمد على شمس الدين ستاً وعشرين تفعيلة ّ
ملتقى البحرين 22
قتلوك
َ وأقول ياقمريـ الذي
الزوال()10
ْ ونشرب قبل بارقة
وغالباً مايميل بلند الحيدريـ إلى التشطير المتالحق والمنتهي بقواف متنوعة ،من مثل قوله:
الطريق
ْ نفس
عميق
ْ يشدها جهد
نفس البيوتّ ،
السكوت
ْ نفس
وتستفيق
ْ كنا نقو ُل :غدا يموت
من كل دار
صغار
ْ أصوات أطفال
الطريق()11
ْ يتدحرجون مع النهار على
يشتمل هذا المقبوس على سبعة أشطر ،ينتهي كل منها بقافية ،أما من حيث عدد التفعيالت في األشطر ،فقد جاءت على النحو التالي[:
] 3/2/1/3/1/3/1
فليس ثمة ،إذاً ،شكل إيقاعي نمطي واحد .سواء فيما يتعلق بعدد التفعيالت في الشطر أو المقطع ،أم فيما يتعلق بنمط التقفية .فيمكن أن
تتنوع تنوعاً منتظماً أو غير منتظم ،كما يمكن أن تتواتر القوافي المتماثلة ،من دون
تحذف القافية نهائياًـ من المقطع أو النص ،ويمكن أن ّ
أن يفصل بينها عدد من التفعيالت .ومن الخطأ أن نتصور إمكانية الوصول إلى قانون ينظم الشكل اإليقاعي الحداثي ،ماخال القول إن
التفعيلة هي الوحدة الصوتية ـ النغمية ،في تيار التفعيلة .وماذلك إال لالرتباطـ الدقيق بين ذلك الشكل واالنفعال الشعري .إذ إن اإليقاع
الحداثي تظهير أو تحسيس سمعي لهذا االنفعال.
ملتقى البحرين 23
ويستشهد على ذلك بما نسب إلى أبي العالء المعري من رسالة وصل منها قول موزون على تفعيلة الرجز (مستفعلن وجوازاتها) .وقد
ذكره ابن خلكان في وفياته .ونثبته نحن ،هنا ،بالشكل الذي أثبته ابن خلكان ،مع تعليقه عليه " [ :أصلحك اهلل وأبقاك لقد كان من الواجب
أن تأتينا اليوم إلى منزلناـ الخالي لكي نحدث عهداً بك يازين األخالء فما مثلك من غير عهد أو غفل".....فوجدته يخرج من بحر الرجز وهو
المجزوء منه .وتشتمل هذه الكلمات على أربعة أبيات على روي الالم وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين .ومن اليكون
له بهذا الفن معرفة فإنه ينكرها ألجل قطع الموصول منها ....وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن ـ أي أهل العروض ـ للمعاياةـ ال ألنه من
األشعار المستعملة]()13
أما المعداوي فإنه يثبته على النحو التالي ،مع مالحظة اختالفين .أولهما أن ما أثبته المعداوي فيه تضعيف الياء في كلمة (الخالي) ،وحذف
الالم من (كي) .واليختلف الوزن ،وإ ن تكن الصورة التي أثبتناها هي األصلح لغوياً .وثانيهما هو االختالف بين (زين) التي أثبتناها و
(خير) التي أثبتها هو .وطبعاً اليختلف الوزن في الحالين .ويعود هذان االختالفانـ إلى االختالف بين الطبعتين:
الخالي
ّ إلى منزلناـ
لقد فات المعداوي ،بتوزيعه القول على هذه الصورة ،ماقاله ابن خلكان من أن هذه الكلمات تشتمل على أربعة أبيات على روي الالم ،من
مجزوء الرجز ،أي على النحو التالي:
ّْ
األخل خالي لكي نحدث عهداً بك يازين
كما فاته أيضاً قول ابن خلكان ،من أن هذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة ،الألنه من األشعار المستعملة .وهذا القول فيه من البيان
مااليستدعي التعليق عليه .ولنا فيما يقوله الجاحظ حول دخول الوزن إلى النثر خير دليل:
ملتقى البحرين 24
اعلم لو أنك اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم ،لوجدت فيها مثل مستفعلن فاعلنـ كثيراً ومستفعلن متفاعلن ،وليس أحد في "
األرض يجعل ذلك المقدار شعراً .ولو أن رجالً من الباعة صاح :من يشتري باذنجانـ .لقدـ كان تكلّم بكالم في وزن مستفعلن مفعوالن،
وكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصد إلى الشعر؟"(.)15
وفي المحصلة ،فإن األمر اليرتبط بإقامة الوزن ،بل بالقصدـ إلى الشعر .ولم يكن المعري ،إذا صحت نسبة المقطوعة إليه ،يقصد إلى
قول الشعر بحال من األحوال .ولهذا جاءت المقطوعة عبارة عن كالم نثري موزون على مجزوء الرجز فحسب .والحق أن النظرة
القديمة لم تكن تعتبر الرجز من الشعر .ولهذا حين قال النبي الكريم في غزوة أحد قوالً موزوناً بحسب مجزوء الرجز ،لم يذهب أحد
إلى االدعاء بأنه قال شعراً .أما القول فهو:
المطلب
ْ أنا ابن عبد الكذب
ْ أنا النبي
وذلك على الرغم من أن هذا القول أكثر موسيقية بما اليقاس من قول المعري ،ومن هنا ،فإن دعوى المعداوي بأن الشكل اإليقاعي الحداثي
ليس بجديد ،وبأنه تقنية معروفة منذ القرن الهجري الخامس ،هي دعوى باطلة أساساً .ولو افترضناـ جدالً أن ثمة محاوالت شعرية (نقول:
اليقدم واليؤخر شيئاً .ألن األمر اليتعلق بالحالة الفردية المنقطعة .بل يتعلق أوالً وأخيراً بالظاهرة
شعرية) قديمة ،في هذا الشكل ،فإن ذلك ّ
الفنية العامة .ويبقى أن نذكر أن الذوق الجمالي العربي الكالسيكي اليقرر أن توالي التفعيالت هو ما يصنع البيت الشعري .بل يقرر أن
التوالي المنتظم المحدد هو الذي يصنعه .وهذا ماقد تجاوزه شعر الحداثة.
ولكن إذا كان المعداوي قد أخطأ في دعواه هذه ،فإن مايذهب إليه من أن لجماعة أبولو أسبقية في الشكل اإليقاعي الجديد على الحداثة(
، )16حيث ظهرت الكتابة الشعرية بأشطر متفاوتة الطول ،عند خليل شيبوب وعلي أحمد باكثير ومحمد فريد أبو حديد وغيرهم ،فإنه
صحيح ومعروف أيضاً .وهذا يؤكد مانذهب إليه من أن الحداثة الشعرية قد خرجت من معطف الرومانتيكية العربية تاريخياً وجمالياًـ.
والحق أن هذه الرومانتيكية قد كانت لها المحاولة التجديدية األولى ،على الصعيد اإليقاعي ،في الشعر العربي الحديث .حيث ظهر التنويع
في القوافي ،والميل إلى اللوازم اإليقاعية في نهاية بعض المقاطع ،والميل إلى المقطعات الشعرية القصيرة ،عالوة على استخدام األشطر
المتفاوتة الطول ،ولكن من دون أن يخرج الشاعر ،في مجمل نتاجه الشعري ،عن وحدة البيت .والشك في أن هذا ينسجم والتغيرات التي
أصابت الوعي الجمالي العربي ،في بدايات هذا القرن.
ولقد تابعت الحداثة الشعرية ماكانت الرومانتيكية قد بدأته ،فأنجزت شكلها اإليقاعي المفتوح غير المحدد سلفاً ،أو غير النمطي .فظهرت
األشطر الشعرية المتداخلة إيقاعياً ،والمترابطة فيما بينها ،وتم التجاوزـ النهائي ،في نتاج شعراء الحداثة ،لمفهوم وحدة البيت ،هذا
المفهوم الذي لم يعد يتالءم والوعي الجمالي الحداثي في رؤيته للعالم من منظور التداخل وتبادل التأثير؛ كما لم يعد يتالءم ومفهومه عن
الجمال الذي ُيشترط فيه الحرية والحيوية ،وكي يتوضح عدم التالؤم هذا ،نتوقف قليالً عند الشكل اإليقاعي للقصيدة العربية الكالسيكية،
في تعبيره عن وعيها الجمالي.
تقوم هذه القصيدة .كما هو معلوم ،على توالي األبيات المستقلة إيقاعياًـ ومعنوياً (والمرتبطة فيمابينهاـ شعورياً طبعاً) .حيث يش ّكل كل بيت
وحدة إيقاعية قائمة بذاتها ،التتأثرـ بما هو خارج عنها ،أي أن الكمال اإليقاعي والمعنوي من سمات البيت الشعري .ولقد أشرنا سابقاًـ إلى
أن الجمال ،في الوعي الكالسيكي هو الكمال الموصوف باالعتدال .أما أين ظهر االعتدال في البيت الشعري ،فنقول :إنه يظهر في اشتمال
البيت على شطرين متماثلينـ ومتناظرينـ إيقاعياً .أي أن الشطراألول يعادل الشطر الثاني .واليصح بحال من األحوال خالف ذلك .سواء
ال ،اليحتاج إيقاعياً إلى أن يكتمل بالشطرـ
أكان هذا في األبحر التامة ،أم المجزوءة .بمعنى آخر :إن الشطر الشعري ينبغي أن يكون كام ً
الثاني .والينفي ذلك تدوير الوزن أحياناً في بعض األبيات .والسيما من البحر الخفيف الذي يقول فيه صاحب "موسيقا الشعر العربي " ومن
ملتقى البحرين 25
المدورة في عروض هذا البحر .وهو دليل على القوة ،إال أنه في غير الخفيف مستثقل حتى عند
ّ الجدير بالذكر أن أكثر ماتقع األبيات
المطبوعين من الشعراء"()17
إن كمال البيت الشعري يقوم ،إذاً ،على التناظرـ والتماثل والتعادل والتكامل بين شطرين كاملين إيقاعياً،ـ ويمكن القول أيضاً إن الشطر نفسه
اليخلو من تلك السمات ،والسيما في األبحر الممتزجة ،حيث تتوالى التفعيالت المختلفة بشكل محدد منتظم من مثل تكرار " .مستفعلن
فاعلن"ـ في البحر البسيط ،أو تكرار"فعولن مفاعيلن"ـ في البحر الطويل ...إلخ .أو لنقل بصورة أخرى :إن القصيدةـ تشتمل على أبيات كاملة
ذاتياً على الصعيد اإليقاعي ومتكاملة فيمابينها .والبيت يشتمل على شطرين كاملين ذاتياً ومتكاملين تناظرياًـ فيما بينهما .ويشتمل الشطر،
في األبحر الممتزجة ،على وحدتين إيقاعيتينـ كاملتين ومكتملتين فيما بينهما أيضاً .مع اإلشارة إلى أن هاتين الوحدتين غالباًـ ماتكونان
متداخلتينـ في الشطر الواحد.
يعبر خير تعبير عن الوعي الكالسيكي الذي يرى العالم من خالل التناظرـ والتكامل ،ويرى في الجمال على أنه
إن هذا الشكل اإليقاعي ّ
الكمال الموصوف باالعتدال .غير أن هذا الشكل ليس بإمكانه أن يكون حامالً للوعي الحداثي الذي يرى العالم من خالل التداخل والتناقض
وتبادل التأثير .إذ إن ثمة اختالفاً حاداً بين هذا الوعي وذلك الشكل .ولهذا السبب الغرابة في أن تسعى الحداثة إلى إنجاز شكلها اإليقاعي
الذي الينهض من التناظر والتماثل ...بل من التداخل وتبادل التأثير والتنوع في إطار الوحدة العامة للنصـ.
ب ـ البنية الصورية:
، ARTISTICفي الشعر من المعروف أن بعض النقاد(ـ )18يؤكد أن ثمة انقالباً جذرياًـ قد أصاب الصورة الفنية IMAGE
الحديث .فلم تعد الصورة مجرد شرح للفكرة أو توضيح لها أو مجرد زخرفة ،يمكن االستغناء عنها ،من دون أن يختل المعنى ،كما في
الشعر الكالسيكي والتقليديـ المعاصر .بل أصبحت الصورة الحداثية داخلة ،في صميم النص الشعري ،بطريقة بنائية حيوية؛ كما أصبحت
الصورة هي الفكرة ،والانفصال بينهما .ومن جهة أخرى ،فقد تغيرت العالقة بين عناصر الصورة ،بشكل أصبحت فيه هذه العالقة تقوم
تم اإلنتقال " من الثنوية البالغية إلى الشعرية الصاهرة"(ـ )19كما يقول الدكتور اليافي.
على صهر العناصر ،العلى تجاوزها وتقابلها ،أي َّ
وعلى الرغم من أن الصورة الحداثية قد ُدرست دراسة مستفيضة ،في النقد األدبي الحديث ،بحيث المجال لإلضافة ،في هذا اإلطار ،إال أننا
نتوقف عند تبيان صلة هذه الصورة بالوعي الجمالي الحداثي .وهو ما لم يعط حقّه من الدرس .وسوف نتناول هذه الصلة من جانبين
اثنين .هما :بنية الصورة ،وخلفيتها التعبيرية .وذلك بإيجاز شديد ،قدر اإلمكان.
تنهض بنية الصورة الحداثية من العالقة التجادلية بين عناصرها ،بشكل يستحيل فيه الفصل بينها ،أو النظر إلى أحد العناصر بمعزل عن
تداخله باآلخرـ .والعناصر ،هنا ،التعني الظواهر واألشياء التي تتكون منها الصورة فحسب ،بل تعني أيضاً األفكار واالنفعاالت واألساليب
البالغية المستخدمة.
فالصورةـ الحداثية ،بهذا المعنى ،هي نتاج كلي للعالقة التجادلية بين تلك العناصر .ولنضرب بعض األمثلة على ذلك.
فابتكرناـ الياسمين()20
قطرتانـ من الصحو،
وعلى الرغم من أن هذه الصور تختلف فيما بينها ،في العناصر واألجواء واإليحاءات ،فإنها تنهض من الوعي الحداثي في سمته
اليتم ابتكاره من التناظر بين الخيول
التجادلية ،فهي مبنية على التجادل العلى التناظرـ بين العناصر .فالياسمين ،في الصورة األولىّ ،
يتم من خالل التناقض والصراع الحاد بينهما .أي أن انسحاق العصافير بأرجلـ الخيول(مع األخذ بعين االعتبار مايرمز إليه
والعصافير .بل ُّ
كل منهما) هو الذي يدعونا إلى ابتكار الياسمين .فعناصر هذه الصورة ،إذاً ،أربعة ،وهي الخيول والعصافير و "نا"ـ الدالة على الفاعلين،
في فعل "ابتكرنا" .وجميع هذه العناصر متجادلة فيما بينها .فالخيولـ تتناقض مع العصافير فتسحقها ،ونحن أو"نا" الدالة على الفاعلين،ـ
تتناقض مع الخيول ومع موت العصافير ،فتبتكرـ الياسمين الذي هو من نوعية العصافير .أي أن الياسمين هو اآلخر على تناقض مع
الخيول والموت معاً .ومن جهة أخرى ،فثمة تناقض بين فعل االبتكار وفعل الموت الذي تمارسه الخيول .وفي النتيجة ،فإن اإليحاء
المنسجم الذي تقدمه هذه الصورة يقوم على التناقضـ بين عناصرهاـ المختلفة .وما يقال في هذه الصورة يقال في الصورتين التاليتين.ـ
معبراً ،من أن
فالبد للفن،ـ لكي يكون ّ
فالتجادل بين القطرات ،في الصورة الثانية ،هو الذي يش ّكل اللون أو اللوحة التشكيلية ،والفن عامةّ .
يتكون مما هو متناقضـ في العالم كالصحوـ والظل والندى(بما ترمز إليه) .وكذا هي الحال ،في الصورة الثالثة .حيث المعاناةـ الفردية
ّ
تنهض من التناقض بين "األنا" ٍّ
وكل من الدرب والذباب والذئاب.
هذا من حيث العالقة بين العناصر .أما من حيث الجمع بينها ،من مجاالت حياتية متباعدة ومختلفة ومتناقضة أحياناً ،فإن هذا األمر بات
شائعاً في كتب نقد الشعر الحداثي .إذ من المعروف أن هذا الشعر قد أفاد من تقنيات الصورة الفنية السوريالية التي تقوم أساساً على
الدابة والعصافيرـ
الجمع بين المتناقضاتـ والمتباعدات .وإ ذا ماعدنا إلى الصور السابقة ،فإنناـ نجد ،في الصورة األولى ،جمعاً بين الخيول ّ
المحلّقة والياسمين النابت والذات اإلنسانية؛ كما نجد ،في الصورة الثانية ،جمعاً بين القطرةـ ٍّ
وكل من الصحو والظل؛ ونجد ،في الصورة
ملتقى البحرين 27
الثالثة ،جمعاً بين الليل والزوايا ،واألعمى والكالب ،والحاناتـ والذئاب ،والصيد والذباب .غير أن ماتنبغي اإلشارة إليه ،في هذا المجال،
هو أن تلك العالقة التجادلية أو هذا الجمع بين المتباعدات والمتناقضات ،ينبغي أن ينتج عنه إيحاء جميل منسجم .ولن يكون هذا ممكناً ،إال
إذا كانت الصورة بل التخييل الفني عامة يحيل على الكينونة الواقعية ،ومن دون ذلك لن يكون التخييل ،كما يؤكد تيودور أدورنو
،THEODORسوى تخييل مجاني رخيص ومحدود القيمة(.)23 ADORNO
وعلى هذا النحو ،فإن الوعي الحداثي في سمته التجادلية قد انعكس في الصورة الفنية .وهو ما أدى بها إلى أن تشتمل على عناصر
متداخلة متجادلة مستقاة من مجاالت متباعدة أو متناقضة .فانعدمت الثنائياتـ المتقابلة أو المتناظرة التي كانت الصورة الكالسيكية تقوم
عليها ،وانعدمت أيضاً تلك المقاربة والمناسبة اللتان كانتا أساس هذه الصورة.
وثمة أمر آخر ،ينبغي الحديث عنه ،في بنية الصورة ،وهو التداخل بين الفكرة والمجاز أو الشكل البالغي عامة .إذ أن الفكرة ،في الصورة
مصورة أو صورة مف ّكرة .يقول الدكتور اليافي:
الحداثية ،تأتي عبر المجاز ،فهي فكرة َّ
" لعل خير بداية ننطلق منها للحديثـ عن تقنيات الصورة المفردة أن نتذكر أمرين َّ
يخصان القصيدة المعاصرة .أولهما أنها ألغت ثنائية
يتم من خالل الصورة أو بالصورة ،وثانيهما أنها رأت في الصورة أداة الخلق
التعبير المعروفة :فكرة+ـ صورة ،وجعلت التعبير عن الفكرة ُّ
أو التعبير الوحيدة عن التجربة الشعورية بأبعادها كلها ومضامينها وخصائصها.ـ أي جعلت من الصورة ِّ
المكون الرئيس لها"()24
بمعنى أن ماجاء به شعر الحداثة ،على صعيد الصورة ينسجم والمقولة المعروفة التي أطلقها بيلنسكي ،في تعريفه للفن ،وهي " الفن تفكير
في صور " (.)25
لقد ردم الشاعر الحداثي تلك الفجوة بين الفكرة والصورة ،التي الحظها في الشعر العربي الكالسيكي والتقليدي المعاصر .فراح يرى
ماحوله ويفكر فيه ،من خالل الصورة الفنية التي أصبح لها ،عنده ،وظيفة جمالية معرفية مزدوجة .وهذا مايتالءم وسمة التجادلية التي
ينهض منها وعيه الحداثي .ولعل عودة إلى الصور الفنية المذكورة سابقاً تؤكد هذه الناحية .والبأس من التمثل ببعض الصور األخرى:
يقول السياب:
تعربد الرياح
سينطوي الجناح،
مكسوة بالشعر
َّ كسنبلة
المشوه
َّ أيها
التهب العشية
ُّ الرياح التي
التهب الصباح
ُّ والرياح التي
ال حاداً بين الفكر والمجاز ،بحيث يستحيل التعامل مع هذا من دون ذاك .فهما يشكالن وحدة مطلقة في التعبير،
إن في هذه الصور تداخ ً
وفي الوظيفة الجمالية المعرفية المزدوجة لدى الشاعر الحداثي .فسعدي يوسف ،مثالً ،سعى إلى القول إن الحياةـ تخرج من أحشاء الموت،
أو إن المستقبل يخرج من الواقع الراكد أو الذي يبدو راكداً ،غير أن هذه الفكرة لم تأت بالشكل الذي سردناه ـ وهو شكل قاصر عن اإلحاطة
تشع في اتجاهات
بتلك الصورة ـ بل أتت صورية ـ معرفية ممتلئة باإليحاءات ،ومحمولة على التعامل المجازيـ مع األشياء ،مما جعلهاـ ّ
اليصح حصرها أو حجزها بما سردناه من معنى الصورة أو فكرتهاـ.
ّ تعبيرية متعددة،
وفي الحديث عن الخلفية التعبيرية للصورة الحداثية ،يمكن القول إن هذه الصورة تصدر عن رؤية ورؤيا تجادليتين للظواهر واألشياء،
التعبر عن الثبات والسكون ،بل عن الحركة والتفاعلـ والتحول .سواء أكان ذلك في مايخص
والواقع اإلنساني عامة .أي أن هذه الصورة ّ
ماهو ناجز ،أم ماهو في قيد اإلنجاز .ومن هنا ،فإن سمة التحول( )29من السمات األساسية للخلفية التعبيرية لهذه الصورة .وإ ن وقفة
وتوضحه.
ّ عند بعض ماسلف من صور ،تثبت ذلك
فصورة محمود درويش تصدر عن تحول الموت إلى حياة ،من خالل الصراع المميت بين الخيول والعصافير؛ـ وصورة خليل حاوي تصدر
عن تحول الفرد المعذب من المناوأة إلى االنسحاق؛ وصورة السياب تصدر عن تحول إمكانية الحياة إلى موت وتالش ،من خالل عربدة
الرياح حول الغيمة؛ وصورة سعدي يوسف تصدر عن وعي التحول الخفي في الواقع من السكون إلى الحركة ....إن هذه الصور مجرد
أمثلة عفوية على صدور الصورة الحداثية عن وعي التحول في الواقع والعالم .أما الصور التي تعلن هذا التحول صراحة ،فالتكاد تحصى،
نذكر واحدة منها ،في هذا المجال ،يقول محمد عمران:
ملتقى البحرين 29
الركام
ْ وتسقط األنقاض في قاعي ،ويختلطـ
السالم
ْ الحرب
ُ وتدخل
تتداخل األضداد ـ
ٍ
محارب ثياب
َج َم ٌل َ
مل ٌك فدائياً.
ُّ
فيلتف الظالم على الظالم وتكون عاصفةٌ،
القيامه()30
ْ وتكون فاتح ُة
وهكذا نلحظ أن الصورة الحداثية قد جاءت تعبيراً عن وعيها الجمالي في سمته التجادلية .سواء أكان ذلك في العالقة بين العناصر ،أم
الجمع بينها من مجاالت متناقضة أو متباعدة،ـ أم كان في التداخل بين الفكر والمجاز ،أم كان في خلفيتها التعبيرية التي تتصف بالتحول،ـ أم
كان في الوظيفة الجمالية المعرفية المزدوجة لها.
إن كل ذلك قد جعل من هذه الصورة مختلفة اختالفاًـ جذرياًـ عن مثيلتها في الشعر العربي الكالسيكي والتقليديـ المعاصر .ولكي يتوضح
هذا االختالف ،نشير إشارة سريعة إلى أن الصورة الكالسيكية تقوم على المقاربة والمناسبة بين العناصر واألشياء المكونة لها؛ وتقوم
أيضاً على الثنائية البالغية التي تحتفظ باستقاللية عنصري الصورة ،فاليتداخالن إال ماندر؛ وتقوم من جهة ثالثة على توضيح المعنى
أو شرحه أو زخرفته وتزيينه .مما يعني استقالل الصورة عن الفكرة .فكثيراً مايشتمل البيت الشعري الكالسيكي على التناظر بين
لكل من امرىء القيس والخنساء والمتنبي ،على التوالي:الفكرة والصورة .وذلك من مثل األبيات المشهورة التاليةِّ ،
**
**
ملتقى البحرين 30
تجري الرياح بما ال تشتهي السفن ماكل مايتمنى المرء يدركه
ّ
**
حيث يشتمل الشطر األول على الفكرة ،ويشتمل الشطر الثاني على الصورة ،مع اإلشارة إلى أن هذا التناظر ليس قانوناًـ ينظم الصور
الكالسيكية كافة ،في البيت الشعري الواحد .بل إنه ينظم عالقة الصورة بالفكرة في ذلك الشعر عامة .وعلى أية حال فإن األمر قد أصبح
معروفاًـ وشائعاً ،بما يكفيناـ مؤونة اإلفاضة فيه .ولكن مانريده في هذا المجال هو أن التناظر الذي نلمسه بين عنصري الصورة الكالسيكية،
أو بين الفكرة والمجاز فيها ،يتالءم تماماً ووعيها الجمالي الذي يرى العالم من خالل التكامل والتناظر،ـ كما أسلفناـ غير مرة.
2ـ الدرامية:
من المعلوم أن موقف الشعر العربي الكالسيكي ،والتقليديـ المعاصر أيضاً ،هو في األساس موقف غنائي من العالم .إذيتم التعبير عن
الظواهر واألشياء ،من خالل أثرها االنفعالي في الذات الفردية التي هي المحور الذي يتمحور حوله النتاج الشعري .سواء أكان ذلك في
متلقي هذا الشعر اليتلقى العالم .بل يتلقى الذات التي ترى العالم
ّ طبيعة االنفعال ،أم في رؤية العالم ،أم في أسلوب التعبير .ولهذا فإن
وتتأثر به أو تعانيه.
والشك في أن الفن عامة هو موقف ذاتي ،والنستطيع البتة أن نتلقى العالم ،كما هو في الفن ،إذ اليمكن أن نرى فيه العالم بشكل
موضوعي .بل نراه من منظور الذات المبدعة .ولكن ثمة فرق بين أن نراه من منظور الذات ،وبين أن نرى الذات الفردية في تأثرهاـ
االنفعالي به .وهذا الفرق هو الذي يقف وراء اختالف الشعر الغنائي عن الشعر الدرامي أو عن الدراما عامة .ففي حين يذهب األول إلى
التعبير عن المسائل الذاتية المتعلقة بالمبدع مباشرة ،وبشكل شخصي؛ يذهب الثاني إلى التعبير عن مسائل مختلفة ذات طابع عام ،الترتبط
بالضرورةـ بشخص المبدع الذي يستتر دائماً وراء شخصياته الدرامية.
ولسنا ،هنا ،في معرض التمييز بين الغنائية LYRICISMوالدرامية DRAMATICفي األدب .ولكن ماأردناه هو اإلشارة
إلى أن موقع الذات الفردية من النتاج الغنائي يحيل على موقعها من العالم ،وطريقة تعاملها معه ،فهي ترى في نفسها محوراً أساسياً يقابل
العالم بظواهره وجوانبه ،مما يدفعها إلى التعامل معه ذاتياً بشكل ينسجم وموقعها المحوري.
فثمة ،إذاً ،قطبان اثنان في الوعي الغنائي بعامة ،وهما الذات الفردية والعالم الموضوعي .وهما إذ يتبادالن التأثير ،على الصعيد االنفعالي،
اليأخذان األهمية نفسها على صعيد التعبير .فالذات بهمومها وهواجسها وشواغلها هي القطب األهم .ولهذا فإن متلقي الشعر الغنائي يهتم
يتوضح أثره في تلك الذات التي غالباً ماتتجاوب وذاته
ّ مااهتم به ،فلكي
ّ بالذات التي ترى وتتأثر وتعاني ،أكثر من اهتمامه بالعالمـ )*(.وإ ذا
الفردية .وكأننا نقول بذلك إن الشعر الغنائي يفرض تلقياً جمالياًـ مناسباً له في الموقف .والشك في أن هذا يعود إلى أن ذلك الشعر ينهض
يستمر ،لقرون عديدة ،بشكله الغنائي ،لوال
َّ من حاجة جمالية ذات طابع ذاتي ـ غنائي .ولم يكن للشعر العربي الكالسيكي أن ينشأ ،وأن
سيطرة الحاجة الجمالية الغنائية ووعيها الذاتي ،في المجتمع العربي.
غير أن ماحمله القرن العشرون من تغيرات وتبدالت متنوعة ومتعددة أصابت المجتمع العربي الحديث ،قد أثرت تأثيراً كبيراً في الحاجات
تصدرت هذه الفنون ،مع تنامي حاجاتها الجمالية ساحة
الجمالية وفي الوعي الجمالي أيضاً .فظهرت الفنون الموضوعية والدرامية ،ثم ّ
األدب العربي الحديث ،ولم يعد للحاجة الغنائية الصرف تلك األهمية التي كانت لها من قبل .وهو مااقتضى تحوالً مالئماً على صعيد الوعي
الغنائي ،فكان أن اتصف بالدرامية.
أي أن التحول الذي أصاب المجتمع العربي قد دفع بالحاجاتـ الجمالية ،إلى االتساع والتنوع واالختالف .مما أفقد الوعي الغنائي الصرف
مشروعيته الجمالية ،وجعله يتحول بما يتالءم والمستجدات .فظهر مايمكن تسميته بالوعي الغنائي ـ الدرامي.
ملتقى البحرين 31
إنه وعي غنائي ،ألنه ينطلقـ من الذات الفردية في وعي العالم .وهو درامي ،ألنه يجسد العالم من خالل الصراع الذي هو جوهر الدراما،
بشكل يبدو فيه الصراع شبه موضوعي .أو لنقل :ألن ثمة ذاتاً فردية متموضعة .بمعنى أن "موضعة" الذاتي في الحداثة الشعرية العربية
هي الشكل األنسب لطبيعة الحاجاتـ الجمالية التي أفرزت الفنون األدبية الموضوعية والدرامية كالرواية والقصة القصيرةـ والمسرحية ،ولم
يغض النظر عن ذلك التحول في الحاجات ،كما يفعل الشاعر التقليدي
المعني بالتعبير عن إيقاع العصر ،أن ّ
ّ يكن بإمكان الشاعر الحداثي
المعاصر الذي مايزال ينظر إلى العالم من المنظور الذاتي الغنائي الصرف.
إن موضعة الذاتي تعني التخفيف من بروز الذات الفردية أو إحاالتها ،في التعبير الشعري ،بحيث اليبدو النص الشعري إحالة مباشرة على
ذات المبدع .بل يبدو معادالً موضوعياً لذاته في عالقته بالعالم .وعلى هذا النحو ،فإن النص الحداثي يتقاطع وذات المبدع ،غير أنه
اليتطابقـ وإ ياها .إذ إنه يعادلهاـ فنياً ،واليماثلهاـ شخصياً .وقد انعكست هذه الموضعة الذاتية على الصعيد التعبيري من خالل النمذجة الفنية
والبناء الشعري الدرامي ،ولكن قبل الحديث عن هذين الجانبين ،البأس من اإلشارة إلى أن موضعة الذاتي ،في الحداثة الشعرية ،التتناقض
مايتم التعبير عنها بشكل غنائي ـ درامي.
ّ وما نلحظه عند هذا الشاعر أو ذاك من بروز حاد للمسائل الفردية .إذ إن هذا المسائل غالباً
تحوالً في وعي تلك المسائل ،وفي طريقة التعبير عنها .فالدرامية التلغي وجود الذاتية .بل تلغي نمطاً معيناً في التعامل
بمعنى أن ثمة ّ
معها .وينبغي أن الننسى أن الحداثة الشعرية هي في نهاية المطاف حركة غنائية تتسم بالدرامية .وليست بحال من األحوال حركة درامية.
آ ـ النمذجة الفنية:
إن النمذجة الفنية أسلوب تقني جديد ،طرحته الحداثة الشعرية العربية ،في محاولتها التعبير عن وعيها الغنائي الموصوف بالدرامية .وهو
أسلوب نقلته الحداثة من الفنون األدبية الموضوعية والدرامية ،إلى الشعر الغنائي .ولم يكن لهذا األسلوب من أهمية تذكر ،فيما قبل
الحداثة من شعر عربي .ولكن قبل اإلشارة إلى هذا األسلوب ـ إذ أن المجال اليسمح باإلفاضة(*) -البد من التمييز بين النمذجة الفنية
والنمذجة الجمالية .حيث إن األولى تعني خلق شخصيات ذات طبيعة نفسية أو اجتماعية معينة ،تتنامى في سياقهاـ الفني ،مستقلة بهذا
القدر أو ذاك عن ذات المبدع .أما الثانية فتعني تجسيد إحدى القيم الجمالية كالجمال أوالقبح أو الجالل أو البطولية ...إلخ ،من خالل هذه
الصورة أو تلك الحالة ،أو ذلك الموقف .واليخلو إبداع فني ،مهما يكن نوعه أو نمطه ،من هذه النمذجة .إن النمذجة الفنية تنطوي على
النمذجة الجمالية ،غير أن هذه التنطوي على تلك بالضرورة .إذ إن النمذجة الجمالية هي سمة الفن عامة ،أما النمذجة الفنية فهي سمة
الفنون الموضوعية والدرامية خاصة .وبهذا المعنى فإن الشعر العربي الكالسيكي قد طرح الكثير الكثير من النماذج الجمالية ،ولكنه قلّما
مال إلى طرح النماذج الفنية .هذه النماذج التي شكلت قوام الكثير من النصوص الشعرية الحداثية وذلك من مثل :المومس العمياء للسياب،
واألخضر بن يوسف ،لسعدي يوسف ،ومهيار الدمشقي ألدونيس ،وإ براهيم ليوسف الخال ،ولعازرـ لخليل حاوي....إلخ.
إن االتكاء على النمذجة الفنية اليخفّف من حدة الغنائية ،في الشعر ،فحسب .بل إنه أيضاً يلغي التقريرية أو يخفف منها ،كما يفسح المجال
لدخول عدة أصوات ،في النص الشعري ،وهو مايحيل على بروز صفة الصراع التي تميز عادة األعمال الدرامية .ومن جهة أخرى ،فإن
هذه النمذجة قد أفسحت المجال ،أمام الشاعر ،كي يخرج من التعبير عن ذاتيته ،إلى التعبير عن الذوات األخرى التي يتعاطف أو يتقاطع أو
وسعت المساحة التي يتصدى لها الشاعر بفنه .فلم يعد األمر متعلقاً بالتعبير عن أثر
يتصارع أو يتناقضـ وإ ياها ،أي أن هذه النمذجة قد ّ
الظواهر واألشياء في الذات الفردية .بل أصبح متعلقاً أيضاً بالتعبيرـ عن ذلك األثر في الذوات األخرى التي أصبح لها الحق بالوجود ،من
خالل النمذجة ،بمعزل عن فردية الشاعر.
ب ـ البناء الدرامي:
"تزداد بنيتها تعقيداً حتى صارت القصيدة موقفاً فكرياًـ غاية في التعميم والشمول ،وغاية في الدقة والرهافة في الوقت نفسه ....وتطورت
والمتميزة ،وازدادت تركيباً وتعقيداً وإ فراطاً في الطول حتى قاربتـ منهج
ّ في اتجاه الشكل الدرامي فصارت مجموعة من األصوات المختلفة
التأليف الموضوعي.)32("...
وعلى الرغم من أن الدكتور إسماعيل يصف هذه القصيدة بالطويلة ،غير أنه اليشترط فيها الطول الكمي بالضرورة ،فقد تكون القصيدة
قصيرة نسبياً ،وتكون في الوقت نفسه متصفة بصفات القصيدةـ الطويلة من حيث التعقيد والشمول والدقة والرهافة .فالشكل أو البناء
الدرامي هو األساس.
يتم ،لوال سمة الدرامية التي تميز الوعي الجمالي الحداثي الذي راح يتخفف من الغنائية ،حيناً من
والشك في أن هذا البناء لم يكن له أن ّ
خالل النمذجة ،وحيناً من خالل البناء الشعري ،وحيناً من خاللهما معاً.
وعلى الرغم من أن الدكتور إسماعيل قد درس هذا البناء ،إال أنه البأس من اإلشارة السريعة إليه ،توضيحاًـ لسمة الدرامية في الوعي
الحداثي.
بتعدد األصوات وتناقضها ،وبتطور الصورة الفنية من بعضها وتواشجها فيما بينها ،وبالتماسك
يتميز البناء الدرامي ،في شعر الحداثةّ ،
ويتميز أيضاً بطرح المشاعر المصطرعة ،وبالتنامي
ّ ال واحداً ،يصعب اجتزاؤه إلى وحدات مستقلة؛
البنيوي الذي يجعل من النص ك ً
وبتنوع الجوانب التي يرصدها النص الشعري .وغني عن البيان أن هذه السمات يمكن أن توجد
ّ االنفعالي للحالة الشعرية المطروحة،
تنوع في الجوانب ،وقد يتنامى
جميعاً في نص واحد ،كما يمكن أن يوجد معظمها في نص آخر .فقد تتعدد األصوات في النص من دون ّ
االنفعال من دون أن تصطرع المشاعر..ولكن البناء الدرامي يتنافىـ عادة وأحادية الصوت ،مثلما يتنافىـ والتف ّكك أو المراوحة في انفعال
ذي طبيعة واحدة ثابتة .والشك في أن النص النموذجي للبناء الدرامي هو ذلك النص الذي ينطوي على تلك السمات مجتمعة .وما أكثر
الكم الهائل من القصائد الطويلة التي طالت لتشمل ديواناً شعرياً بكامله .وبدهي أن
النصوص النموذجية في ذلك .ويكفي أن نتذكر ذلك ّ
البناء الدرامي ليس خاصاً بالقصائدـ الطويلة ـ وإ ن يكن أكثر وضوحاً فيها ـ بل إنه يشمل أيضاً بعض القصائدـ القصيرة ،وحتى بعض
المقطعات الشعرية التي تبدو ،للوهلة األولى ،غنائية صرفاً ،ولتبيانـ ذلك ،نتوقف عند واحد من النصوص القصيرةـ جداً .أما النص فهو
قصيدة ألحمد عبد المعطي حجازي ،بعنوان "إيقاعات شرقية"()33
أغويتني
تقدم لي الثمن
ولم ّ
الطرحة العرس،
*
سّرتي كأساً،
وكانت ُ
وكانت فخذيـ
وذبحوني!
تقدم لي الكفن
لم ّ
*
وكان شعري
وكان نهداي
وكانت جثّتي
ينهشها اإليقاع
ينـ !....
قد يبدو هذا النص خالياًـ من الدرامية في بنائه ،لما يتصف به من طرح لما هو فردي،ـ ولما يظهر عليه من استعالء لنبرةـ اإليقاع البادية
بالتقفية المتوالية ،والتشطير الموسيقي .غير أن ذلك لم يلغ البناء الدرامي أو يخفف منه .بل لعله يعمق فيه هذا البناء .بحيث يتكامل
الشكل اإليقاعي ومايطرحه النص من حالة يتداخل فيها اإلحساس بالجمالـ واإلحساس التراجيدي.
إن هذا التداخل هو الملمح األول من مالمح البناء الدرامي ،في هذا النص الذي يبدأ بالغواية التي هي اإلحساس بالجمال ،وينتهي بنهش
اإليقاع (أو الزمن) للجثة ،وهو مايعني اإلحساس التراجيدي.ـ وما بين هذين اإلحساسين فعل صفته البشاعة والقبح وهو فعل الذبح .بمعنى
أن ثمة اصطراعاً في المشاعر ،كما أن ثمة تنامياً في االنفعال راح يعلن عن نفسه ،منذ أن اكتفى الوجه الحسن بالغواية ،متخلّفاً عن دفع
ماتتطلّبه من تتويج بطرحة العرس أو أو فرحة أعضاء البدن .حيث بدا أن هنالك نوعاً من الخيبة بالوجه الحسن .ثم تحولت الخيبة إلى
فجيعة ،وتعمقت الفجيعة لتغدو مأساة ،حين تخلّف الوجه الحسن حتى عن تقديم الكفن ،لتبقى الجثة مرمية في العراء ،ينهشها الزمن بفعل
اليكاد ينتهي (ينهشها اإليقاع ينـ)!....
ونلحظ أن هذه التحوالت لم تأت بمعزل عن الصراع أو التناقض بل إنه األساس فيها .فالغواية تتناقضـ واإلحجام ،وتتناقض أيضاً وقوانين
األهل .كما أن ذلك الجمال يتناقضـ وفعل الذبح ،والكفن يتناقضـ والوجه الحسن ،والجثة هي األخرى تتناقضـ وفعل اإليقاع أو الزمن.
ويمكن القول أيضاً إن النص بمجمله يقوم على التناقض بين قطبين اثنين .األول هو الجمال ومصاحباته (الغواية والحسن والعرس
ملتقى البحرين 34
والفرحة والخمر )...والثاني هو القبح ومصاحباته (اإلحجام والذبح أو النهش) ومن خالل التناقضـ والصراع بينهما تتولد النهاية
مدوياً .ومايزال دويه مستمراً .
التراجيدية....ـ ...ينـ /حيث يسقط الجمال سقوطاً ّ
ال واحداً ،اليمكن اجتزاؤه؛ ويجعل من صوره الفنية متواشجة ،يتنامى بعضها من بعض ،والنعتقد أن ثمة
إن كل ذلك يجعل من النص ك ً
حاجة لإلفاضة في ذلك وهكذا نلحظ أن هذا النص يقوم على البناء الدرامي ،على الرغم من قصره النسبي الذي يوحي بالغنائية.
وماالحظناهـ في هذا النص ،نالحظه أيضاً في مقطع شعري من قصيدةـ بعنوان "ثالث حاالت إلمرأة واحدة"( )34لسعدي يوسف ،والمقطع
الذي سوف نثبته يمثل الحالة الثانية .حيث يظهر فيه التنامي االنفعالي والتطور الصوري والتماسك البنيوي:
ترحلين إذن؟
ليلة...
ثم تمضين...
شاحبة...
لقد انعكس ميل الحداثة الشعرية إلى الدرامية،إذاً ،في النمذجة الفنية والبناء الدرامي ،وهو مايؤكد محاولتها الجادةـ التعبير الفني عما
استجد من حاجات جمالية ،لم يعد باإلمكان انعكاسها بالشكل الغنائي الصرف ،على نحو يعادلها فنياً .ومما يجب ذكره ،أخيراً ،أن الميل إلى
ّ
ملتقى البحرين 35
الدرامية ،في الشعر العربي ،كان قد بدأ ،بشكل أولي ،مع الرومانتيكية العربية" ،وليس عجيباً أن تظهر لدى شعرائنا الرومانتيكيين بدايات
درامية .ألن معنى التجربة الشعرية وأفقها قد اتسع على أيديهم واصطبغ بغير قليل من الجدية في معاناةـ الحياة"(.)36
3ـ الكلية:
تفترض الكلية ،إذاً ،النظر إلى الظاهرة في جوانبها المختلفة والمتعددة ،وفي ارتباطهاـ بالظواهر األخرى .فالتؤخذـ معزولة ،أو يؤخذ جانب
منها فحسب ،ومن هنا فإن الكلية تفترضـ تقويماً جمالياًـ كلياً .إذ إن الرؤية الكلية للظاهرةـ تنعكس في تقويم جمالي كلي بالضرورة ،وقد
يقال ،في هذا المجال ،إن الكلية ،على النحو المذكور ،هي سمة البحث العلمي ،السمة الوعي الجمالي.
الشك في أن هنالك اختالفاً كبيراً بين الكلية في البحث العلمي ،والكلية في الوعي الجمالي .ففي حين أن األول يتجه إلى وعي العالقات
والسمات الكلية التي تنظم الظاهرة ،في ذاتها من جهة ،وفي محيطها من جهة أخرى ،وذلك بأدوات معرفية مجردة ،وبذهنية علمية
منطقية ،تسعى إلى تحويل الظاهرة الحية إلى قانونـ نظري مجرد .فإن الثاني ـ الوعي الجمالي الحداثي ـ يتجه إلى وعي الظاهرةـ بسماتها
وعالقاتهاـ وذلك بأدوات حسية فنية ،وذهنية انفعالية تصويرية ،وهو مايعني رصد األثر االنفعالي الناجم عن الظاهرة ،الرصد الظاهرة ،كما
هي ،مثلما يفترضـ في البحث العلمي .ومن هنا فإن الوعي الجمالي اليقوم على فهم الظواهر ،كما هي عليه ،بل يقوم على فهمهما ،في
تأثيرها اإلنفعالي ـ الجمالي في الذات اإلنسانية ،بمعنى أن الوعي الجمالي ليس وعياً موضوعياً ،وإ نما هو وعي ذاتي ـ أنفعالي .ولذلكـ من
الخطأ أن نبحث عن الواقع الموضوعي ،كما هو ،في الفن ،والصحيح هو البحث عن ذلك الواقع في تش ّكله الذاتي .فليس ثمة حقائق
موضوعية في الفن .بل ثمة حقائقـ فنية ،وربما األصح أن نقول إن ثمة ظواهر فنية .فالفنـ ينتج ظواهر ،كما أنه يحيا على الظواهر،
حسبما يقول هيغل(.)37
وباتصاف الوعي الحداثي بالكلية يكون قد افترق مرة ثالثة عن الوعي الكالسيكي العربي في صفته الجزئية التي ظهرت واضحة فيما
يسمى باألغراض الشعرية؛ وظهرت أيضاً في شكل القصيدةـ القائم على أبيات ،كل منها يشكل جزئية متكاملة غير منقوصة؛ كما ظهرت في
ّ
التقويمات الجمالية الجزئية لبعض األعضاء األنثوية ،وبعض الحيوانات والنباتات وبعض األفعال والحاالت االجتماعية والنفسية ،حيث
الكلية في الرؤية والرؤيا والتقويم
يمكن التوكيد أن الوعي الكالسيكي قد اصطبغ بالجزئية ،في مجمل نشاطه الجمالي ،وقلّما يميل إلى ّ
والتأثير االنفعالي ،أي في نشاطه الجمالي ،وانعكاسه الفني.
لقد انعكست الكلية ،في غير مستوى من مستويات النص الشعري الحداثي .فبدا هذا النص وكأنه يسعى إلى اإلحاطة والشمول ،في كل
مايتناوله أو يتعرض له .وألن المجال اليسمح برصد كل مستويات النص ،فإنناـ نكتفي بالحديث عن اثنين منها فقط ،جرياً على عادتنا في
هذا المبحث .أما هذان المستويان ،فهما :الموضوع الفني والتقويم الجمالي.
آ ـ الموضوع الفني:
لقد تغيرت العالقة الجمالية بين الذات المبدعة وموضوعها الفني تغيراً كبيراً ،في شعر الحداثة ،عما كانت عليه من قبل في الشعر
الكالسيكي ،فقد كانت المحاكاة هي األساس في تلك العالقة .على حين أصبحت ،في شعر الحداثة ،قائمة على الخلق .فلم يعد الموضوع
ملتقى البحرين 36
محرض جمالي ،تنطلقـ منه الذات المبدعة إلى الخلق بما يتالءم وطبيعة التحريض ،وبما يتالءم أيضاً وطبيعة االهتمامات الذاتية.
سوى ّ
ومن هنا ،فإن الموضوع ،من حيث هو موضوع ناجز ،قد غاب عن شعر الحداثة ،ليحضرـ بدالً منه تحريضه الجمالي .بل يمكن القول إن
ماحضر هو التحريضاتـ الجمالية لعدة موضوعات متشابكة ومتناغمة ،في الوقت نفسه .ولهذا فقد تراجع شعر الموضوع إلى الخلف،
إذ إن شعر الموضوع يفترض شعوراً محدداً واضحاً مرتبطاً وتصدر شعر التجربة .POETRY OF EXPERIENCE
ّ
بموضوعه ،أما شعر التجربة فينطويـ على مشاعر وحاالت وموضوعات متعددة ومتنوعة .وهو ماينسجم ومفهوم التجربة عامة حيث
ال موحداً(
ال شديداً ،بسبب طبيعة التجربة التي تنصهر فيها الموضوعات والمشاعر ،لتغدو ك ً
تتداخل المشاعر والموضوعات فيما بينها تداخ ً
.)38
األعم
ّ إن النص الشعري الحداثي اليعالج عادة ،موضوعاً محدداً ،وإ نما يعالج تجربة روحية أو نفسية أو اجتماعية أو كلها معاً ـ وهو
األغلب ـ وبذلك فإن الميل إلى الكلية قد دفع بالنصـ الشعري إلى أن يكون نص تجربة ،النص موضوع .مما أدى به إلى تجاوز ثنائية الذات
المحدد ،وإ لغاء األغراض الشعرية المعهودة .وقد يبدو أن شعر الحداثة لم يعد ينتج ،جراء ذلك التحول،
ّ والموضوع ،وتجاوز الشعور
معرفة جمالية بالموضوع .ألنه اكتفى من الموضوع بتحريضه الجمالي فحسب .غير أن واقع الحال يؤكد عكس هذا .فالميل إلى التعبير
عن التجربة قد جعل من المعرفة الجمالية ،في شعر الحداثة ،تتسع لتشمل عدة موضوعات ومشاعر في آن معاً .وبهذا فإن المعرفة
كل مايتعلق بالمحرض الجمالي .سواء أكان ذلك موضوعاً أم شعوراً أم
الجمالية المتحصلة من قصيدة التجربة هي معرفة كلية تشتمل على ّ
الكل المتناغم المتكامل الذي اليمكن تجزيئه إلى
وعياً ،من دون أن يعني هذا انفصاالً فيمابينها،ـ أو بروزاً لجانبـ دون آخر .فالتجربة هي ّ
وحدات مستقلة .وإ ذا ما أردنا أن نحافظ على استخدام مصطلح الموضوع ،في شعر الحداثة ،فإنه المناص من فهمه فهماً مختلفاً ،بحيث
اليحيل على الواقع الموضوعي ،وإ نما يحيل على التجربة التي أصبحت هي الموضوع الفني في شعر الحداثة .وغني عن البيان أن هذا
التحول الينسجم وسمة الكلية فحسب .بل ينسجم أيضاً وسمة التجادلية بما تعنيه من تبادل التأثيرـ وانتفاء االستقاللية ،عن العناصر
والجوانب.
ال للمحاكاة؛
ولكن ينبغي اإلشارة إلى أن الرومانتيكية العربية كانت قد خطت الخطوة األولىفي تجاوزـ الموضوع الواقعي من حيث كونه قاب ً
ومالت باتجاه الموضوع النفسي الذي يقترب من التجربة .غير أن الفرق بين التجربة والموضوع النفسي يبقى قائماً ،وفحواه أن هذا
أعم وأشمل ،وهي قابلةلمجمل الموضوعات ،على اختالف
الموضوع ينحصر في إطار الطبيعة النفسية الخاصة بالفرد،ـ في حين أن التجربة ّ
مصادرهاـ وطبائعها ،ولمجمل األنماط النفسية والروحية واالجتماعية .ونعتقد أن األمثلة الشعرية المثبتة في هذا البحث تؤكد ماذهبنا إليه
وتغني عن التمثيل على ذلك.
ب ـ التقويم الجمالي:
من البدهي ،في علم الجمال ،أن الفن بعامة تقويم جمالي للظواهر واألشياء ،من منظور المثل األعلى للفنان .فهو ،بهذا المعنى ،تقويم
ذاتي .غير أن هذا التقويم الذاتي الينشأ بمعزل عما هو موضوعي في تلك الظواهر .بل إنه ينشأ من خالل العالقة بها ،وعبر طبيعة التأثيرـ
التقوم ،والتتأثر هي األخرى بمعزل عن مثلها األعلى وذوقها الجمالي .وألن المثل األعلى والذوق والوعي
الذي تخلّفه في الذات التي ّ
والحاجة ومكانة الظواهر بالنسبة إلى اإلنسان ،كالً منها يتغير ،فإن تغيُّر التقويمات الجمالية يغدو أمراً محتوماً .إذ إنها نتاج تلك الجوانب
مجتمعة .ومن هنا الغرابة في أن نشهد اختالفاً في التقويمات الجمالية ،من بيئة إلى أخرى .بل من فرد إلى آخر أيضاً ،فيما يخص
التقويمات الجزئية.
فمن المعلوم أن طبيعة التقويم ،في الشعر الكالسيكي ،غالباًـ ماتكون طبيعة حسية ،فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية .وقد ظهر ذلك في
الصورة الفنية في ذلك الشعر ،كما ظهر في دفاع النقد العربي القديم عن حسية الصورة(.)39
لقد طرحت الحداثة الشعرية تصوراً جديداً للتقويم الجمالي ،فأصبح ذا طبيعة معنوية محمولة على عناصر حسية .وهو ماانعكس في
الصورة الفنية ذات العناصر الحسية واإليحاء المعنوي؛ وانعكس أيضاً في التعامل الرمزي مع األشياء ،فبدت ذات طبيعة معنوية ،على
الرغم من كونها حسية في واقعها الموضوعي ،أو بدت حسية على الرغم من معنويتها في ذلك الواقع .والشك في أن هذا ينسجم ومنطق
يتم التعبير عنه ،ال الصفات العامة لهذا
التحريض الجمالي الذي تتبناه الحداثة الشعرية .بمعنى أن أثر الموضوع الواقعي هو الذي ّ
تم النظر إلى الموضوع من خالل أثره .وهو ماأدى إلى
الموضوع .وألن ذلك األثر يمكن أن يكون حسياً ،مثلما يمكن أن يكون معنوياً ،فقد ّ
تحسيس المعنوي ،كما أدى إلى تحويل المعنوي إلى حسي ،على أن األمر مرتبط ،في نهاية المطاف ،بطبيعة األثر الطبيعة المؤثّر.
وألن الحداثة الشعرية تسعى إلى طرح التجربة الطرح الموضوع ،وألن التجربة تتداخل فيها الموضوعات واالنفعاالت والمشاعر والرؤى،
فقد ظهرت التقويمات الجمالية في النص متداخلة ومتعددة ومتصارعة .وقلّما نلحظـ نصاً حداثياً يطرح قيمة جمالية واحدة .بل إن التداخل
والتعدد والتصارع في التقويمات من صفات النص الشعري الحداثي عامة .وقد النبالغـ في القول بأن الصورة الفنية الواحدة قد تنطوي
مر بنا سابقاً الحديث عن صورة محمود درويش (مشت الخيول على العصافيرـ الصغيرة فابتكرناـ الياسمين).
أحياناً علىعدة تقويمات .وقد َّ
ورأينا كيف تعددت التقويمات وتصارعت .والبأس من اإلشارة ،في هذا المجال ،إلى أن ذلك يتالءم والوظيفة الجمالية ـ المعرفية المزدوجة
للصورة الفنية ،في شعر الحداثة ،حيث أصبحت الصورة انعكاساً للتجربة ،والبد للعاكس من أن يمثّل المعكوس ،بدرجة ما من الدقة
والموضوعية.
وكي يتوضح المنطق التقويمي الحداثي ،نتوقف عند ثالثة من المقاطع الشعرية ذات الحاالت واألنماط المختلفة.
يقول صالح عبد الصبور ،في قصيدةـ بعنوان "البحث عن وردة الصقيع":
نائمة مبعثره
ملتقى البحرين 38
ويسقط اإلعياء
منهمراً كالمطره
كأنه اإلغماء)41(.
لم أسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي...وتنام)42(...
مسته ٌّ
كف الريح والراعي ُّ
نعس
وغامقها به َ
موحد .
على الرغم من أن هذه المقاطع متباينة في األسلوب والحالة المرصودة واإليحاء ،فإنها تصدر جميعاً من منطق تقويمي جمالي ّ
فثمة الطبيعة المعنوية للتقويم،ـ وتداخل التقويمات ،والتعامل مع األشياء من خالل تحريضهاـ الجمالي ـ االنفعالي.
ففي المقطع األول الذي يمكن أن يحيل على المعاناةـ الوجودية أو على المعاناةـ الفكرية ـ الفلسفية أو كلتيهما معاً ،نلحظـ أن الذات تعاني بحثاً
مريراً عن الفكرة المنشودة أو المثل األعلى ،في األشياء الغامضة(ونشير إلى أن بقية مقاطع القصيدةـ تتابع البحث عن الفكرة في مجاالت
التجسد(الوصل) ،وفي االنتشار الجميل (الخمر والغناء).
ّ الحياة كافة) .فترىـ الفكرة عارية ،نائمة ،مبعثرة ،ولكن تراها أيضاً راغبة في
تحمل مارأت أو حمله واعتناقه ،فتذوب الفكرة ،وتعود الذات إلى ما كانت
غير أن الذات سرعان مايصيبها اإلعياء ،وكأنها مااستطاعت ّ
عليه من ذبول وانكسار ،في غياب المثل األعلى أو الفكرة المنشودة.
نلحظ أن محور المقطع محور معنوي ،في األساس ،ولكنه تجسد بعناصر حسية ،مثل المالءة والمساء والنجوم والخمر والغناء والشباك
والهشيم .إال أن دالالت هذه العناصر ذات طبيعة معنوية بحت .فاليمكن طبعاً أن يبحث الشاعر عن المثل األعلى في مالءة المساء ،بالمعنى
يتشوق المثل األعلى إلى الوصل والمسامرة أو الخمر والغناء .وعلى
الحرفي للتركيب بل ليس ثمة مالءة للمساء أصالً .كما اليمكن أن ّ
الرغم من أن هذه اإلشارة تبدو ساذجة ،في تلقي الشعر ،إذ من البدهي أن ينهض الشعر من المجاز ،إال أننا أردنا منها أن تشير إلى العملية
التي تنظم هذا المقطع ،وهي تحسيس المعنوي ،وإ عطاء الحسي منحى معنوياً ،في الوقت نفسه.
وبهذا النحو ،يكون المقطع قد حافظ على طبيعته المعنوية ،كما يكون أيضاً قد حافظ على عناصر الصورة الحسية .إذ إن الحسي هو
يسمى بالفنـ التجريدي فإن الحسية هي الحامل ألشكاله التجريدية.
الحامل الجمالي للمعنوي في الفن عامة .حتى فيما ّ
المقطع بطرح قيمة المعذب ،من خالل اإلعياء المنهمر والنفس الذابلة المنكسرة .وبهذا ،فإن المقطع قد طرح ثالثة تقويمات جمالية:
الجميل بأشكاله المتعددة ،والمأساوي ،والمعذب .والتتكامل التجربة ،في هذا المقطع ،إال عبر العالقة بين هذه التقويمات.
أما المقطع الثاني ،مقطع درويش ،فإنه أكثر تعقيداً ،وأكثر غنى على صعيد المنطق التقويمي الحداثي ،من دون أن يعني هذا حكماً فنياًعلى
أحد المقطعين .حيث تتوالى الصور الفنية ،حول بيروت ،بشكل يبدو فيه المقطع جملة من الصور المتالحقة والمتزاحمة والمتناقضة التي
تتمحور جميعاً حول تعميق اإلحساس بأن بيروت هي مدينة المتناقضات.ـ إنها ُّ
الكل الرائع الجميل القائم على التناقض.ـ فهي ،بحسب
قراءتنا التي لن تخلو مما هو ذاتي وعياً وذوقاً،ـ تلك الفتاةـ الرائعة الحسن والمنذورة للموت فداء لآلخرين ـ ينبغي أن نتذكر ،هنا ،األساطيرـ
والحكايا حول تقديم أجمل الفتيات كأضحية للبحر أو النهر الهائج ـ وهي الجمال المتحجر الصلد (نرجسة الرخام ) ،وربما تكون الجمال
الحيوي الطالع من الصالدة؛ وهي الحيوية والعفوية والحرية واالحتراق (الفراشة = الحيوية واالحتراق .والغجرية = العفوية والحرية)؛
المتخيل جراء الشهوة (وصف المرأة األولى) ،وهي األلفة
ّ وهي العدم أو الذي التمكن معرفته (شكل الروح في المرآة)؛ وهي الجمال
الخبو والبريق (تعب وذهب) ،وهي التراجيدية والبطولية (أندلس وشام) ،وهي الشيء الثمين
ُّ المصحوبة بالدهشة (رائحة الغمام) ،وهي
المستقر في الحيوية والحرية (وصايا األرض في ريش الحمام) ،وهي موت الجمال
ُّ والشيء الذي القيمة له (فضة وزبد) وهي الرسوخ
(تشرد نجمة) .تلك هي بيروت التي يتعشقها الشاعر ،وتنعم بالراحة على دمه (تنام على
المخصب (وفاة سنبلة) ،وهي الضياع والتوهان ُّ
دمي)
نلحظ من ذلك أن كل صورة ،في المقطع ،هي تقويم جمالي .وقد تشتمل الصورة على تقويمين معاً ،بشكل يمكن القول فيه إن المقطع
ينطوي على خمسة عشر تقويماً ،وهي عدد الصور الجزئية فيه .وهذه الصور أوالتقويمات التحاكي بيروت بل ترصد التحريضـ الجمالي
لبيروت في الذات الشعرية .وهو مايعني إنتاج معرفة ببيروت وبالذات في عالقتهما معاً.
ومن الالفت للنظر في هذا المقطع ،أنه الوجود ألي عنصر معنوي يدخل في تركيب الصور الفنية .فكل عناصرهاـ حسية ،كالتفاحة والبحر
والنرجسة والرخام والفراشة والرائحة والريش....إلخ ،حتى الروح ،وهي معنوية ،تم النظر إليها حسياً (شكل الروح) .أي ليس ثمة
محاولة لتحسيس المعنوي ،فبيروت حسية ،،وعناصر الصورة حسية كذلك .غير أن دالالت الصور معنوية بحت ،والوجود فيها للحسية
إطالقاً .وفي هذا تكمن المفارقة الفنية .إذ نتحصل على المعنوي مما هو حسي .ومن البدهي أن هذا لم يكن له أن يحدث ،لو لم يكن
التحريض الجمالي هو األساس في التعبير ...فأثر الحسي ليس بالضرورةـ حسياً فقطـ بل إن فيه بعداً معنوياً ،وقد يكون األثر المعنوي
أوضح وأعمق من األثر الحسي ...فالضرب قد يؤثر في الكرامة تأثيراً أكبر وأدوم وأعمق ،مما يؤثر في الجسم.
وعلى الرغم من أن المقطع ينطوي على صور وتقويمات جزئية مختلفة ومتناقضة إالأن التقويم العام الذي يطرحه هو تقويم إيجابي.
ويتلخص بعالقة التناغم والتداخل واالنسجام بين ِّ
كل من الذات وبيروت المتناقضة (عاشقة تنام على دمي) .ولعل هذا من الشروط
األساسية في الفن عامة .إذ ينبغي أن يقدم العمل ،في نهاية المطاف ،طرحاً منسجماً متسقاً يخلو من التناقض في الرؤيا والتقويم ،وإ ال
فإنه يفتقدـ إلى الشرعية الفنية .حيث يغدو أمشاجاً متنافرة ،الكالً موحداً.
إن االختالف في التعامل مع األشياء ،في شعر الحداثة ،اليحيل على االختالف في طبيعة التحريضات الجمالية لألشياء ،في الذات المبدعة
الموحدة في الطرح الفني .فعلى الرغم من أن للحداثة وعياً جمالياً موحداً ،إال أنها
ّ فحسب .بل يحيل أيضاً على انتفاء النمطية الواحدة أو
التنطويـ على نمطية فنية واحدة ،ومااشتمال الحداثة على عدة تيارات شعرية إال دليل على ذلك .صحيح أن هنالك نواظم مشتركة ،ولكن
التميز والحرية والحيوية،
كل ذلك ينسجم ومفهوم الجمال الذي ُيشترط فيه ّ
هنالك أيضاً فوارق ملحوظة بين تلك التيارات وال شك في أن ّ
بحسب الوعي الحداثي.
أما األمر الهام اآلخر ،فهو أن اتصاف النص الشعري بسمات الوعي الحداثي اليؤدي حتماً إلى اتصافه بالفنية ،إذ إن هذه مرهونة بطبيعة
النص الشعري البطبيعة الوعي الذي يصدر عنه .بمعنى آخر :إذا لم يكن النص راقياً على الصعيد الفني ،فإن تلك السمات لن تنقذهـ من
الرداءة أو الهبوط.
إن شعراء هذه المرحلة أو تلك قد اليتفاوتون ،على صعيد الوعي الجمالي ،غير أنهم يتفاوتون،ـ بالضرورةـ على صعيد تمثيله فنياً .والشك
في أن الشاعر األرقى فنياً هو في الوقت نفسه األكثر تمثيالً للوعي الجمالي.
لقد أدى اتصاف الوعي الحداثي بتلك السمات ،إلى بروز ظاهرة الغموض في شعر الحداثة عامة ـ بدرجاتـ متفاوتة بين النصوص طبعاً ـ
حتى بدا أن الغموض الزمة من لوازم الحداثة الشعرية .وقد طرح النقد األدبي المعاصر ،في تسويغ هذه الظاهرة ،عدة تفسيرات .منها "أن
طبيعة الرؤيا الحديثة هي المصدر الحقيقي لما يشكوه البعض من غموض الشعر الحديث ،فليس التالعب باألوزان أو اللغة أو الصور هو
ملتقى البحرين 42
"السر" الكامن وراء هذا الغموض ،وإ نما هي الرؤيا المأساوية القاتمة في جوهرها العميق"( .)44ومنها مايعيد الغموض إلى ثالثة أسباب،
ّ
وهي اعتماد الشاعر على ثقافته ،وموقف الرؤية ،وشخصية الفكر والتعبير الشعريين( .)45ومنها مايربطه بالتفكير الشعري عامة،
البالتعبير الشعري ،من جهة ومن جهة أخرى يربطه بطبيعة اللغة المجازية في الشعر .وهو مايعني أن الغموض من طبيعة الشعر عامة.
واليتميز الشعر الحديث من غيره في ذلك إال في كونه قد أعطى الغموض أهمية لم تكن له من قبل( )46ومن التفسيرات أيضاً مايذهب إلى
ربط الغموض بمفهوم النص الغائب إذ "يجب على أي دارس يعالج الغموض في النص الشعري أن ينظر إلى قضية النص الغائب
(اإلحالة) ...حتى يمكنه ضبط عملية القراءة الصحيحة لغوامض الداللة"( .)47مما يؤدي إلى أن الغموض يرتبط بالنص،ـ بقدر مايرتبط
بالمتلقي .ولعل ارتباطه بالثاني هو الذي يجعل منه إشكالياً،ـ فـ "نظراً لغياب االهتمام النقديـ بالنص الغائب ،ومعالجة مشكالته وضحالة
الخلفية المعرفية للجمهور العربي ،يصبح الغموض الداللي إشكاالً حقيقاً"()48
وعلى الرغم من أهمية الرؤيا والتفكير الشعري والعمق الثقافي في بروز ظاهرة الغموض ،في شعر الحداثة ،إال أن ثمة جانباً أساسياً
مفقوداً ،في تلك التفسيرات ،وهو طبيعة الوعي الجمالي الحداثي ،والسيما في سمته التجادلية وسمته الكلية.
ولقد توضح من مسار هذا المبحث أن الوعي الحداثي أكثر تعقيداً وتركيباً واتساعاً وعمقاً من الوعي الكالسيكي .فال شك في أن الوعي
الذي يتعامل مع الظواهر من منظور الجزئية واالستقاللية والثبات ،سوف يكون أقل تعقيداً وعمقاً...من ذلك الوعي الذي يتعامل معها من
منظور الكلية والتجادلية والحيوية .أي أن الطبيعة المعقدة المركبة للوعي الحداثي هي المصدر األول لظاهرةـ الغموض في النص الشعري
الحداثي الذي لم يكن إال تعبيراً فنياًـ عن تلك الطبيعة .غير أن ذلك اليعني بالضرورة أن كل غموض نلحظه في هذا النص أو ذاك ،مصدره
طبيعة ذلك الوعي .فقدـ اليصدر النص عن وعي جمالي أصالً بل عن وعي فكري ـ فلسفي بحت ،وهو مايؤدي إلى االنحراف عن الوعي
الجمالي عامة ،ومن ثَ َّم عن الفن .وقد يصدر أيضاً عن لعب مجاني باللغة ،مما يعني انعدام اإلحالة على ذلك الوعي ،فيغدو مصدر الغموض
هو اللعب اللغوي المجاني .وكأننا نقول بذلك إن ثمة غموضاً ال جمالياً ،في بعض نصوص الحداثة الشعرية .ونمثّل لذلك بمقطعين لكل من
أدونيس ،وفايز خضور ،يمثل المقطع األول انحرافاً إلى الوعي الفكري ـ الفلسفي ،ويمثل الثاني اللعب اللغوي المجاني:
يقول أدونيس:
السمار ،ومازالت
هدب أنفاق ّ
العفن األزرق ّ
تحرش أستار
وحواكير الصفصاف األسيان ّ
التابوت العائم()50
ملتقى البحرين 43
فقد يبدو غموض المقطع األول ناتجاًـ من الطبيعة المعقدة المركبة للوعي الحداثي .غير أن األمر ليس كذلك البتة .إذ إنه ناتج من التعامل
الذهني ال الجمالي مع األشياء من جهة ومع اللغة من جهة أخرى .فالنملة بدأبها المتواصل تعلّم اإلسكندر المقدوني كيفية الخروج من
اإلحباط الذي تخلّفه فيه صعوبة الطريق ـ طريق الفتوحات.ـ أو إنها تفرز حليبها وتغسله من اليأس الذي يوحي إليه بأن الطريق اليكاد
ينتهي .فهو كالدائرةـ (كالبيضة) التي البداية والنهاية لها .وما يعمق هذا اليأس أن العالم واسع بجهاته األربع (الفرس جهات أربع) في
يوزع هذا الرغيف على تلك الجهات؟ .أو كيف
حين أن اإلسكندر المقدوني اليملك سوى عمر واحد (رغيف واحد) .فكيف له ،إذاً ،أن ّ
يتمكن من ترويض فرسه ـ العالم ـ برغيف واحد فحسب؟ .ولكن على الرغم من ذلك فإن الحكمة التي يفيدها اإلسكندر من النملة تؤكد قدرة
ال.
اإلنسان على صنع مايبدو له مستحي ً
ولقد أراد أدونيس ،من كل ذلك ،أن يؤكد إمكانية اإلنسان في اكتشاف هذا الوجود معرفياً ،على الرغم مما يكتنفه من أسرار التكاد تنتهي.
وغني عن البيان أن هذا الطرح هو طرح فكري ـ فلسفي بحت ،العالقة له بالوعي الجمالي سواء أكان حداثياً أم كان غير ذلك .أما مايبدو
من تصوير غرائبي في هذا المقطع ،فليس له قيمة جمالية البتة .إذ لم ينتج أساساً من تعامل جمالي .بل من تعامل ذهني مع األشياء
وعالقاتها.ـ هذا من جهة .ومن جهة ثانية ،فإننا النرى في هذا التصوير غرائبية بكل ماتعنيه الكلمة من معنى .فالصورة الفنية األولى التي
تناص INTERTEXTUALITYمع أحد األمثال الشعبية التي
ٍ تقرر أن (ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل اإلسكندر) تدخل في
ّ
تصف عالقة البخيل بما حوله ،أما المثل فهو":حالب النملة" .وقد أفاد منه أدونيس ـ ربما بشكل غير واع ـ لتبيانـ أن على المعرفة أن
تستنفد األشياء في أدق جوانبها ،كما الينبغي أن ننسى عالقة اإلسكندر بالنملة ،في إحدى الحكاياتـ الشعبية الخاصة به.
أما الصورة الثانية ،في هذا المقطع ،وهي (الفرس جهات أربع ورغيف واحد) ،فهي الأكثر من تحويل بسيط في الشيء الواقعي ،نتج من
التداخل بين الفرس والعالم .فبدالً من القول :إن الفرس بقوائم أربع ورأس واحد ،فقد قيل :الفرس جهات أربع ورغيف واحد .والشك في
أنه لو قيلت الجملة األولى ،لما كانت إال سطحية المعنى لها في الشعر ،ولكنناـ أردنا من ذلك أن هذا المقطع اليقوم على الغرائبي بالمعنى
الدقيق للكلمة .بل يقوم على تعامل ذهني ـ فلسفي الجمالي .ولهذا لم نلحظـ فيه تلك الطبيعة الجمالية المعقدة والمركبة ،وإ ن بدا أنه غامض
معقد ،من حيث التعبير اللغوي.
أما مقطع فايزـ خضور فيقوم على تخييل سائب الينظمه إال الناظم الموسيقي اللغوي .حيث تدخل المفردات في عالقة اعتباطية ،التصدر عن
هم شعري كما التطرح أية فكرة أو شعور أو رؤيا متسقة .إذ إن المجانية في التعامل اللغوي والصوري هي األساس في هذا
تجربة أو ٍّ
المقطع ،وهو ماجعل منه مجرد لعب فانتازيـ الينبض بأي دفق جمالي.
إن الغموض الذي يتصف بشرعية جمالية هو ذلك الصادر من الطبيعة المعقدة والمركبة في الوعي الحداثي ،وليس من الطرح الذهني أو
اليقل عن نصيب الغموض الجمالي فيه.
التخييل السائب .وقد النبالغـ إذا ماذهبنا إلى أن نصيب الغموض الالجمالي في شعر الحداثة ّ
والغرابة في ذلك ،إذ إن الحداثة ،شأنها شأن أية حركة شعرية أخرى ،تنطوي على تفاوت ـ قد يكون حاداً ـ على صعيد المستوى الفني،
للشعراء من جهة ،وللنصوص من جهة أخرى.
إن للحداثة نسقاً جمالياً محدداً يقتضي بالضرورة نسقاً محدداً في التلقي الفني .وأي تعامل مع شعر الحداثة ،من منظور التلقي التقليدي،ـ
لعل أقلّها نفي مفهوم الشعرية POETICS
لن يؤدي ،بأية حال ،إال إلى استغالق النص واتهام الحداثة ،من ثم ،بشتى اإلتهاماتّ .
عنها.
إن حداثة النص تتطلب حداثة في التلقي ،تماماً مثلما أن حداثة الوعي تتطلب حداثة النص .ومن هنا ،فإن لدور المتلقي أهمية كبرى في
نص ماغامضاً .بل مبهماً ،بالنسبة إلى متلق ذي وعي تقليدي ،وقد يبدو
تحديد درجة الغموض في هذا النص الحداثي أو ذاك .فقدـ يبدو ٌّ
غموضه شفافاًـ بالنسبة إلى متلق ذي وعي حداثي .غير أن هذا التفاوت في درجات الغموض بالنسبة إلى أنواع التلقي ،اليعني عدم أهمية
النص في تحديد الغموض .فإذا لم يكن الغموض موجوداً في النص وجوداً موضوعياً ،فالمعنى لالختالف حول درجة حضوره .إن انعكاس
ملتقى البحرين 44
الغموض في ذوات المتلقين هو الذي تختلف درجاته بحسب وعي المتلقي وطبيعته .وبهذا المعنى ،فإنناـ نرى أن الغموض صفة موضوعية
من صفات الحداثة الشعرية ،بسبب تعبيرها عن وعي جمالي معقد مركب ،ولكن درجات الغموض ترتبط بذاتية المتلقي .فالغموض في
النص الحداثي ،إذاً ،موضوعي ،أما درجاته فذاتية.
وتنبغي اإلشارة ،في هذا المجال ،إلى أن ربط الغموض بمفهوم النص الغائب خاصة ،فيه الكثير من مجانية الصواب .إذ إن عدم معرفة
النص الغائب اليؤدي إلى غموض النص بالنسبة إلى المتلقي .بل يؤدي إلى عدم استيعابه استيعاباً نقدياًـ متكامالً .وكما نعلم فإن التلقي
تناصية مع نص
ّ الفني يختلف عن التعامل النقدي ،فقد نتلقى نصاً شعرياً بشكل فني راق ،من دون أن نعرف أن هذا النص يدخل في عالقة
غائب آخر .ومن البدهي أن على الناقدـ أن يكتشف العالقة ،فيما إذا وجدت ،بين نصه المنقود والنصوص الغائبة ،ولكن الناقدـ اليكون بذلك
متلقياًـ فحسب ،بل يكون دارساً وباحثاً .وبهذا المعنى فإن ربط االستيعاب النقدي المتكامل بمعرفة النص الغائب أمر مشروع جداً .ولكن
ربط الغموض به ،فيه الكثير من الخطأ العلمي .وماذلك إال ألن النص الشعري عامة ،ينبغي أن ِّ
يشكل كياناً قائماً بذاته ،على الرغم من
إحاالته النصية.
إن الفن في نهاية المطاف ،تعبير عن وعي جمالي ذي طبيعة محددة .وإ ذا لم نفهم هذه البدهية ،فإن تحويل الفن إلى شكل سياسي أو
فلسفي أو أخالقي أو ديني ،يغدو أمراً محتوماً؛ كما يغدو من المحتوم أن نبحث عن أسباب غير جمالية في دراسة نشأة هذه الظاهرة الفنية
أو تلك ،وهو ماحصل مع بعض النقاد في دراسة الحداثة الشعرية العربية.
ماتوصل إليه هذا المبحث من سمات الوعي الحداثي ،ليس بالضرورةـ نهائياً .فقد تتمخض األبحاث النقدية عن سمات أخرى مختلفــة ،أو
ّ إن
توصل إليه ..فهو يبقى في النتيجــة ،محاولة نقديــة ،نرجو أن تكــون دقيقة مع اإلشــارة إلى أن دراســتنا لهــذه الســمة أو
ال ما ،لما ّ
تقترح تعدي ً
تلــك ،من خالل بعض الجــوانب الفنيــة ،اليعــني أن هــذه التشــمل الجــوانب األخــرى .بل إن لتلك الســمات جميعاًمنعكســات في مجمل الجــوانب
الفنيــة ،وماقمنا به هو نــوع من التمثيل ال الحصــر .ومن جهة أخــرى ،لم يكن لهــذا المبحث إال أن يســتفيد من الحركة النقدية النشــطة الــتي
صاحبت الحداثة الشعرية .ولكن من منظور علم الجمال الذي الينقطع البتة عما ينجزه النقد األدبي.
الهوامش:
1ـ المرعي ،د .فؤاد :الجمال والجالل ،دار طالس ،دمشق ،ط ،1991 ،1ص.89:
3ـ راجع :كليب ،د .سعد الدين :مفهوم الكمال في الفكر العربي اإلسالمي .مجلة "المعرفة" السورية .العدد ،371 :دمشق ،1994 ،ص:
.10
4ـ هذه إحدى النتائج التي توصلنا إليها ،في كتابناـ المخطوط :البنية الجمالية في الفكر العربي اإلسالمي .فصل :القيم الجمالية ،فقرة:ـ
الجمال.
ملتقى البحرين 45
6ـ راجع :شكري ،د .غالي :شعرنا الحديث إلى أين؟ .دار اآلفاق الجديدة ،بيروت ،ط ,1978 ،2ص 23 :ـ .30
7ـ راجع :إبراهيم ،د.زكرياـ :الفنان واإلنسان ،مكتبة غريب ،القاهرة،ـ د/تا ،ص152 :ـ .156
8ـ راجع :المعداوي ،أحمد :البنية اإليقاعية الجديدةـ للشعر العربي .مجلة "الوحدة"ـ العدد .82/83 :الرباط ،1991 ،حيث يعرض الدارس
لتلك المحاوالت مبيناً مافيها من قصور أو مغالطة.
10ـ شمس الدين ،محمد علي :التنم هذه الليلة .مجلة الكرمل ،العدد ،6 :نيقوسيا ،قبرص،1982 ،ص.167 :
11ـ الحيدري ،بلند :ديوانه ،دار العودة ،بيروت ،ط ،1980 ،2ص.265 :
13ـ ابن خلكان :وفيات األعيان .جـ .2 :د/تا ،ص .98 :في ترجمة مظفر بن إبراهيم العيالني.
15ـ الجاحظ :البيان والتبيين ،جـ.1:تح :عبد السالم هارون :لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة،ـ ،1948ص288 :ـ289
17ـ فاخوري:ـ محمود :موسيقا الشعر العربي .منشورات جامعة حلب ،1978 ،ص.46:
18ـ راجع :اليافي ،د .نعيم :تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث ،اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ،1983 ،ص364 :ـ .365
19ـ اليافي ،د .نعيم :الصورة في القصيدةـ العربية المعاصرة ،مجلة "الموقف األدبي" العدد ،255/256:دمشق ،1992 ،ص.30 :
20ـ درويش :محمود :ديوانه ،م ،2:دار العودة ،بيروت،ط ،1980 ،3ص.487:
21ـ حجازي ،أحمد عبد المعطي :كائنات مملكة الليل ،دار اآلداب ،بيروت،ط ،1978 ،1 :ص.52 :
25ـ بيلنسكي ،ف .غ :نصوص مختارة ،تر :يوسف حالق ،وزارة الثقافة ،دمشق ،1980 ،ص.83:
ملتقى البحرين 46
26ـ السياب ،بدر شاكر :ديوانه ،م ،:دار العودة ،بيروت ،1971ص.274 :
28ـ يوسف :سعدي :األعمال الشعرية 1952ـ .1977دار الفارابي ،بيروت .1979 ،ص121:
29ـ راجع :اليافي :الصورة في القصيدة العربية المعاصرة ،ص23 :ـ .24
30ـ عمران ،محمد :اسم الماء والهواء ،وزارة الثقافة ،دمشق ،1986 ،ص18 :ـ .19
31ـ إسماعيل،د .عز الدين :الشعر العربي المعاصر ،دا ر العودة ،بيروت ،ط ،1981 ،3:ص.248:
37ـ هيغل :المدخل إلى علم الجمال ،تر :جورج طرابيشي ،دار الطليعة ،بيروت ،ط ،1980 ، 2:ص.27:
38ـ راجع في ذلك :النغيوم ،روبرت :شعر التجربةـ المونولوج الدرامي في التراث األدبي المعاصر .تر :علي كنعان وعبد الكريم
ناصيف .وزارة الثقافة ،دمشق ،1983 ،ص43 :ـ88
39ـ راجع قصبجي ،د .عصام :نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم ،دار القلم العربي ،حلب ،ط ،1980 ،1ص.102 :
40ـ راجع :اآلمدي :الموازنة ،تح :محمد محي الدين عبد الحميد ،المكتبة العلمية ،بيروت.د/تا ،ص123 :ـ ( 226فصل :أخطاء أبي تمام
في اللفظـ والمعنى).
41ـ عبد الصبور ،صالح :شجر الليل ،دار العودة ،بيروت ،ط ،1977 2ص13 :ـ .14
42ـ درويش ،محمود :حصار لمدائح البحر ،دار العودة ،بيروت ،ط ،1985 ،2ص.89 :
43ـ البرغوثي ،مريد :رنة اإلبرة ،مجلة الكرمل،العدد ،35 :نيقوسيا ،قبرص ،1991 ،ص.142:
45ـ راجع :اليافي ،د .نعيم :الشعر العربي الحديث ،وزارة الثقافة ،دمشق ،1981 ،ص155 :ـ .156
ملتقى البحرين 47
47ـ رماني ،إبراهيم :النص الغائب في الشعر العربي الحديث ،مجلة "الوحدة" العدد ،49 :الرباط ،1988 ،ص.53 :
50ـ خضور ،فايز :ديوانه ،م .1 :دار األدهم ،د/تا ،ص.150 :
ضلنا استخدام مفردة التجادل على الجدل .DIALECTICوهما بمعنى واحد اصطالحياً .إال أن مفردة التجادل تنطوي
* -لقد ف ّ
لغوياً على مانقصده هنا .وهو معنى المشاركة ،وتبادل التأثير ،والتداخل .وذلك لوزنها الصرفي "التفاعل" الذي يحيل على ذلك.
* ـ لن نتحدث في هذه الفقرة ،إال عن اإليقاع الناجم من الوزن ،وذلك إلمكانية الكالم عليه بعامة .أما تلك اإليقاعات الناجمة من
التناغم اللغوي والصوري واالنفعالي ،فهي إيقاعات نصية حصراً ،واليمكن التعميم فيها.
* -قد يقال ،هنا ،إن موضوعية الشعر الغنائي العربي ،والسيما الوصفي منه ،أوضح من أن يشار إليها .والشك في أن هذا صحيح.
غير أن هذه الموضوعية تتأتى عبر الذات الفردية ،والتتأتى بوصفها معادالً موضوعياً للموقف الذاتي.
موسعاً عن هذا األسلوب في الفصل الرابع المعنون بـ"جمالية النموذج الفني في شعر الحداثة".
* -سيأتي الحديثـ ّ
تأسيس نظري:
إذا كانت المدرسة الرمزية SYMBOLISMقد جعلت من التعبير الرمزي هو الشكل األوحد للتجربة الجماليةفي
الفن؛ فإن ذلك اليعني أن الرمز بوصفه شكالً من أشكال التعبير الجمالي ،لم يكن له وجود أو أهمية في الفن من
قبل .كما اليعني أن شعر الحداثة العربية يمكن أن ينضوي تحت المدرسة الرمزية ،التكائه الكبير على التعبير
الرمزي ،أو إلفادته التقنية من هذه المدرسة ،بحسب مايذهب إليه بعض النقاد ( .)1إذ يؤكدون أن هذا الشعر ينتمي
مدرسياً إلى الرمزية .وهم ،في هذا التأكيد ،ينسون أن التصنيف المدرسي ينبغي أن ينطلق من تحديد هذا المستوى
الفني أو ذاك ،كما أسلفنا سابقاً.
ولتعميق هذه المقولة ،نشير إلى أن التعامل الرمزي ،في تلك المدرسة ،لم يكن أسلوباً فنياً فحسب .بل كان أيضاً
تبدى هذا في األطروحات االجتماعية واألخالقية والفنية ،لتلك المدرسة التي
موقفاً جمالياً وفلسفياً من العالم،ـ وقد ّ
ملتقى البحرين 48
ترى "أن الواقع اليصلح أن يكون منطلقاً للفن ،فالمثال هو المطمح .والجمال وحده هو الموضوع"( .)2ومن ذلك،
لم يكن ماالرميه ـ أحد أهم الشعراء الرمزيين ـ يهدف من الجمال إال إلى الجمال ( .)3وليس هذا فحسب .بل إن
سعيه الدؤوب إلى الجمال المثالي قد جعله يحلم ،لمدة عشرين عاماً ،بأن ينتج شعراً صافياً من دون أن ينتج إال
تطرف ماالرميه ،بوصفه ممثالً للرمزية ،في االهتمام بما هو تقني ،إلى الحد الذي يمكن
القليل من الشعر( .)4وقد ّ
فيه أن تتم المصالحة بين جماليات الشعر الصافي ـ كما ظهرت عنده ـ وبين الجماليات الكالسيكية المتكلفة( .)5ولم
يكن األساس في ذلك إال الرغبة الجامحة في الوصول إلى الجمال المثالي المطلق الذي يحيل على الواقع واليتد ّنس
يصح على غيره من شعراء المدرسة الرمزية ،من مثل بودلير ورامبو اللذين لم
ّ ومايصح على ماالرميه
ّ بسلبياته.
يكونا أقل نزوعاً إلى الجمال المثالي من ماالرميه ،ولم يكونا أيضاً أكثر غزارة منه على صعيد اإلنتاج الشعري.
حيث الينبغي أن يحيل الفن على سواه ،إذ الهدف من الجمال هو الجمال ،فحسب وغني عن البيان أن مفهوم
الجمال ،هنا ،يعني ما هو تقني ،مثلما يعني ماهو مثالي مجرد.
يكرم نفسه
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإن لقب "المنحط" DECADENTالذي كان الشاعر الرمزي ّ
وأصدقاءه به ،كان في أساسه موقفاً سلبياً حاداً من عالم مادي مبتذل .أي "كانت بدعة االنحطاط وسيلة يحمي بها
المرء (أي الشاعر الرمزي) نفسه من تفاهة البرجوازية وبالدة عالم يستسلم أكثر فأكثر لالتجاه الصناعي(.")6
وكأن االنحطاط DECADENCEهو الوجه اآلخر للجمال المثالي ....بمعنى أن الشاعر الذي يسعى إلى هذا
صف باالنحطاط ،في واقع مبتذل خال من الجمال .فعدم االنحطاط يبدو النوع من الجمال ،سوف يكون ممتناً ،إذا ماو ِ
ُ
للشاعر الرمزي انغماساً في القبح السائد .ولهذا فإن افتخاره باالنحطاط هو في أساسه رفض للواقع بقيمه
يتلوث بالنفعية البرجوازية التي الينجو منها شيء أو قيمة.
وعالقاته ،مثلما هو دفاع عن الجمال المثالي الذي لم ّ
ومن هنا ،فإن طرح الرمزية لمقولة الفن للفن الينسجم والجمال المثالي الذي تسعى إليه فحسب ،بل ينسجم أيضاً
ورفض الجوهر القيمي للبرجوازية أال وهو النفعية .وكما يقول سارتر ،فإن البرجوازية "التفهم العمل األدبي على
مجرد .بل على أنه خدمة مأجورة"(.)7
أنه خلق مجاني ّ
أما أوسكار وايلد ،فإنه يصفح " عن صاحب الفن المفيد إذا أدرك أن فنه ليس جميالً"(.)9
الفني اليؤدي بالضرورة إلى التشاكل في الموقف الجمالي .مع العلم أن هذا الموقف هو األساس في التباين
المدرسي في الفن.
إن إطالق مصطلح التيار الرمزي على شعر الحداثة يغفل أن ثمة تعارضاً .بل تناقضاً ،على صعيد الموقف
اإلجتماعي ـ الجمالي ،بين كل من الرمزية وشعر الحداثة.
لقد طبعت صفة الثورية شعر الحداثة بطابع صدامي مع كل مايتنافى والقيم الجمالية التي يدافع عنها أو يسعى إلى
تتصدر قيمة البطولي HEROICالئحة القيم المطروحة .إذ إن البطولي هو
ّ طرحها .ولهذا الغرابة في أن
يتصف الجمال ،في شعر الحداثة ،بطابع صدامي .بل حتى مفهوم
المعادل الجمالي للثوري .والغرابة أيضاً في أن ّ
المغترب المعذب الذي كثيراً مانواجهه في هذا الشعر ،اليقوم على ماهو وجودي ،كما في الرمزية ،وإ نما يقوم على
ماهو اجتماعي وسياسي وقيمي ذو طابع صدامي أيضاً .والحقيقة أن دراسة القيم الجمالية التي طرحها شعر
الحداثة تؤ ّكد بمااليدع مجاالً للشك أن هذا الشعر على تناقض مع الرمزية بوصفها موقفاً اجتماعياً ـ جمالياً .غير أن
هذا التأكيد الينفي إفادة هذا الشعر من الرمزية بوصفها أسلوباً فنياً.
إن تعدد الدالالت ينهض من الكثافة الشعورية والمعنوية التي يعبر عنها الرمز ،ويقوم عليها .أي أن اإليحائية إذ
تكون سمة للرمز ،تكون أيضاً سمة للتجربة الجمالية من حيث الكثافة والعمق والتنوع .ولهذا فإن المجانية أو
االعتباطية في طرح الرموز ،لن تؤدي ،بحال من األحوال ،إلى إيحائية ذات وظيفة جمالية ـ تعبيرية .فاإليحاء
الجمالي هو إيحاء مكثف ممتلئ بموضوعه ،يؤدي وظيفة يعجز عنها التناول المباشر للتجربة أو للظواهر
واألشياء.
أما سمة االنفعالية ،فتعني أن هذا الرمز هو حامل انفعال الحامل مقولة .وهو بذلك يختلف عن الرموز الدينية
والمنطقية والعلمية والعملية التي هي مقوالت ومفاهيم ،الانفعاالت وأحاسيس.
ومن البدهي أن هذه السمة تأتي من طبيعة التجربة الجمالية التي هي طبيعة انفعالية بالضرورة .ولهذا فإن الرمز
يعبر عن رأي ،أو يطرح موقفاً فكرياً؛ وإ نما يكثف انفعاالً ،ويعبر عن تجربة.
الفني اليل ّخص فكرة أو ّ
وتعني سمة التخييل أن الرمز نتاج المجاز النتاج الحقيقة .ولهذا فإن ثمة تناوالً مجازياً للظواهر واألشياء ،بحيث
تتحول عن صفاتها المعهودة ،لتدخل في عالقة جديدة مختلفة عن سياقها الواقعي .غير أن هذا التحول محكوم
بطبيعة األثر الجمالي الذي تخلفه الظواهر واألشياء في الذات المبدعة .بمعنى أن التخييل الينبغي أن يكون سائباً،
في الرمز ،من الكينونة الواقعية .وهذا ليس خاصاً بالرمز وحده .بل هو أساس التخييل في الفن عامة .وذلك كما
يؤكد ادورنو ADORNOحيث يرى أن االنفالت المطلق من الكينونة الواقعية .لن يؤدي إال إلى تخييل مجاني
رخيص ومحدود القيمة(.)12
أما سمة السياقية التي يتّسم بها الرمز الفني ،من دون الرموز األخرى ،فتعني أن هذا الرمز ال أهمية له خارج
السياق الفني .إن السياق هو الذي يعطيه أهميته وكينونته المتميزة ،ومضمونه الجمالي .ومن ذلك ،فإن الظاهرة
الطبيعية الواحدة يمكن أن يتولّد منها عدد غير محدود من الرموز الفنية ،بحسب عدد اآلثار أو التحريضات
الجمالية ،فالغرابة ،إذاً ،في أن يتناقض رمزان ،على الصعيد الجمالي واإليحائي ،وهما من كينونة واقعية واحدة،
وفي الوقت نفسه يكون ٍّ
لكل منهما األهمية ذاتها.
ومتجدد دائماً ،من حيث المضمون .فكل سياق يفرض مضموناً خاصاً
ّ متغير
إن هذا الرمز ،بارتباطه بالسياق الفنيّ ،
به .واليجوز التعامل مع الرمز الفني بمعزل عن سياقه ،وكأن له كياناً عاماً مشتركاً بين النصوص الشعرية كافة،
محددة.
أو كأن الكينونة الواقعية ينبغي أن تفرض كينونة رمزية ّ
ملتقى البحرين 51
إن سمة السياقية هي إحدى السمات الخاصة بالرمز الفني ،حيث نلحظ أن الرموز األخرى هي رموز غير سياقية.
أي أن لها معنى محدداً ،بمعزل عن السياق الذي ترد فيه ،وذلك بسبب كونها مقوالت معرفية ،الانفعاالت جمالية.
ولنأخذ الرمز الصوفي مثالً على ذلك .فهذا الرمز رمز عقدي ـ معرفي ينتمي إلى نظرية المعرفة ،بخالف الرمز
الفني الذي ينتمي إلى التجربة الجمالية .ومن هنا ،فإن ثمة رموزاً صوفية يتعامل بها الصوفي شاعراً كان أم
والسكر والحمامة
متفلسفاً أم سالكاً أم واصالً أم عارفاً .وذلك من مثل رموز المحبوب واالرتحال والخمر ُّ
والحية...إلخ.ـ فرمز السكر مثالً ،لدى الحالج وابن عربي وابن الفارض وابن الدباغ ،هو نفسه من حيث المضمون.
سواء أكان هذا في الشعر أم في النثر أم في المجاهدة الصوفية .وليس األمر على هذا النحو في الرمز الفني الذي
البد من القول إن
المضمون محدداً له .وهو ماسوف نلحظه فيما يأتي من معالجة لرمزي الريح والحجر .ولكن ّ
السياقية التنفي أن يشترك عدة شعراء أو نصوص في مضمون واحد لهذا الرمز أو ذاك ،أو أن يهيمن مضمون
محدد على مرحلة معينة .إذ إن هذا يعود إلى هيمنة هاجس اجتماعي ـ جمالي معين ،على هذه المرحلة أو تلك،
بسبب الضرورات االجتماعية واأليديولوجية .والحق أن هذا االشتراك يفيد في تبيان نبض الواقع وحركته في
النصوص الشعرية.
لقد طرح شعر الحداثة العربية أنماطاً عدة ،من الرموز الفنية التي تمكنت من تكثيف تجربته الجمالية ،في عالقته
بالواقع اإلجتماعي ـ التاريخي الذي راح يتنامى فيه ،بحيث جاءت هذه الرموز بوصفها معادالً فنياً موضوعياً،
للهواجس االجتماعية والفردية التي برزت مع بروز هذا الشعر .ومن دون أخذ ذلك بعين االعتبار ،يصعب أن نفهم
شيوع رموز الخصب واالنبعاث ،في مرحلة النهوض الوطني ،في خمسينيات القرن العشرين .مثلما يصعب أن نفهم
شيوع رموز اليباب والتشيؤ واالغتراب ،مع تنامي اإلحساس بإخفاق حركة التحرر العربية في إنجاز مشروعها
اإلجتماعي ـ الحضاري.
ومن البدهي أننا النربط بشكل ميكانيكي بين الرمز الفني والهاجس اإلجتماعي ،وإ نما نسعى إلى تأكيد أن كثيراً من
الرموز يصعب فهمها ،بمعزل عن الهاجس اإلجتماعي ،والسيما الرموز العامة أو الخاصة منها ،فإن للطبيعة
النفسية والروحية للمبدع أثراً حاسماً ،في إنتاجها .غير أن هذه الرموز قد التبقى رموزاً خاصة ،فيما إذا تقاطع
فيها غير مبدع .وذلك من مثل رمز "الجدار" الذي طرحه أحمد عبد المعطي حجازي ،من خالل معاناته النفسية
والروحية ،وقد ظهر بعده عند العديد من شعراء جيله.
أما أنماط الرموز التي طرحها شعر الحداثة ،فهي الرمز األسطوري ،والرمز التاريخي والرمز االصطناعي(*
والرمز الطبيعي ،عالوة على البنية الرمزية العامة .ونلحظ أن ثمة مستويات عدة في التعامل مع تلك الرموز،
والسيما الرمز األسطوري والتاريخي منها.
ملتقى البحرين 52
وهذه المستويات هي :المستوى التراكمي ،واالستعاري ،واإلشاري المفهومي ،والمحوري .والبأس من التمثل لكل
مستوى من هذه المستويات التي قد تتجاور في النص الشعري الواحد.
فمن حيث المستوى التراكمي ،فقد بدا أن الشاعر الحداثي وكأنه اكتشف في األسطورة نصاً فنياً معادالً لما يسعى
إلى التعبير عنه ،فراح يترك لألسطورة حرية القول عنه ،مماجعل من بعض النصوص الشعرية مزدحماً بالرموز
األسطورية التي كادت أن تكون هي القول الشعري نفسه .بكلمة أخرى :إن األسطورة بدت ،في هذا المستوى ،
وكأنها الحامل للهاجس الشعري ،حتى تراكمت الرموز بحيث لم تعد رموزاً بقدر كونها إشارات إلى األسطورة من
جهة .وإ لى الهاجس الشعري من جهة أخرى ،ولعل السياب من أوائل الشعراء الذين أغرقوا في التعامل مع
الرموز ،في هذا المستوى .ولنقرأ السياب في مقبوس يعالج فيه تراجيدية المومس العمياء ،من خالل تراجيدية
الملك أوديب ،في أسطورته المعروفة:
وعلى الرغم من أن السياب قد تم ّكن ،في هذا المقبوس ،من التعبير عن تراجيدية المومس العمياء ،من خالل
األسطورة ،فإن المقبوس بقي في إطار ترجمة األسطورة إلى واقع ،الأسطرة الواقع.هذا من جانب ،ومن جانب
آخر ،فإن هذه األسماء لم تستطع أن تتحول إلى رموز ،بالمعنى المصطلحي ،إذ إنها بقيت تحمل معناها األصلي ،ولم
أي بعد جديد .كما أنها لم تأخذ شرعيتها من النص ،عالوة على أن المقبوس لم يترك لها
يضف المقبوس إليها ّ
فسحة ،كي تتنفس ،أو أن تعلن عن نفسها ،وإ نما جاءت متراكمة بشكل أفقدها الكثير من الدفق الجمالي ،مثلما
يتوضح
ّ أفقدها اإليحائية التي من دونها ،المعنى الستخدام الرمز والتعبير الرمزي عامة .ولعل المستوى التراكمي
أكثر ،حين نقرأ المقبوس التالي ،لمحمد عمران:
حشد من عباد
ملتقى البحرين 53
"أبي يدعوك"
قد يبدو ،للوهلة األولى ،أن عمران قد سعى ،من خالل مراكمة تلك الرموز ،إلى التعبير عن فوضوية الواقع
اإلجتماعي ـ السياسي ،هذه الفوضوية التي سوف تؤدي به إلى الدمار والخراب ،تماماً كما حدث لبابل وسدوم .غير
أن التعبير عن الفوضوية اليتأتى من خالل فوضوية النص الشعري ،أو فوضوية التعامل الفني مع الرموز .فالقبح
اليتم التعبير عنه ،في الفن ،بشكل قبيح ،وإ نما بشكل يوحي بالجمال .وهذه هي ميزة الفن خاصة.
ّ
إن عمران لم يكن يتعامل ،في هذا المقبوس ،مع رموز ،لها الحق في التعبير واإليحاء والحركة داخل النص ،بقدر
محدد .ومن المالحظ أن عمران ،في سعيه إلى مراكمة الرموزـ اإلشارات ،لم
ماكان يتعامل مع إشارات ذات معنى ّ
يكن مدفوعاً من هاجس اجتماعي ـ جمالي محدد ،مما جعل النص مشتّت اإليحاء ،ومتناقض اإلحاالت أيضاً .وهذا
ماتوضح في محموالت الرموز ـ اإلشارات .فمحمول ابن عاد وأوديب ،في النص ،محمول بطولي .وفي قيدر ـ أو
ّ
قدار عاقر ناقة صالح ـ محمول قبيح .وثمة محمول جميل في يوسف وزليخا ،وسليمان وبلقيس ،وموسى وابنة
الشيخ ـ زوجه فيما بعد ـ كما أن ثمة محموالً بطولياً في "موسى يرفع الدلو" لينتهي النص بمحمول تراجيدي (بابل،
سدوم) .غير أن هذه التراجيدية مفتعلة ومبتسرة أيضاً .إذ إن كل المحموالت الجمالية المطروحة ،ماخال محمول
ملتقى البحرين 54
قيدر ،التوحي بأن ثمة خطيئة تُوقعها في التراجيدية .أما خطيئة قيدر التي أدت إلى دمار ثمود .حيث ( أخذتهم
الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين(( )1فإنها ليست خطيئة تراجيدية .ألن القبيح اليمكنه أن يكون تراجيدياً ،بحال
من األحوال.
وبهذا فإن المستوى التراكمي يسيء إلى النص ،قبل أن يسيء إلى الرمز .إذ إن شعرية هذا تتأتى من شعرية ذاك.
واليمكن أن تنفصل إحداهما عن األخرى.
كهرقل ()15
ياتجار قريش
هذي األشعار()17
ولعل المستوى اإلستعاري من أسوأ المستويات تعامالً مع الرموز .حيث يختزل الشخصية األسطورية أو التاريخية
أو الواقعية بإشارة ،ويختزل اإلشارة بمقولة ناجزة ،وليس هذا فحسب .بل إن اإلشارة تأتي معدومة الدفق الجمالي،
ويمكن حذفها من السياق أو استبدالها ،من دون أن يؤثر ذلك فيه ،أو في التجربة المطروحة ،فهرقل ،مثالً ،يمكن
استبداله بآخيل أو أنكيدو أو عنترة ..الخ ،من دون أن يتأثر المعنى أو الحالة الشعورية .وذلك بما أن الغرض منه
إبراز المقدرة البدنية الفائقة فحسب .أما بالنسبة إلى ( أثينا ) فإن حذفها من السياق يبدو أفضل من إثباتها فيه
.كأن نقول (لوال الثورة والثوار ،لم تولد هذي األشعار ) وإ ن يكن هذا القول مبتذالً
وغير شعري .حيث إن الشاعر في استعارته ألثينا ،قد أشار أيضاً إلى ما يقصده من هذه االستعارة ،وهو الوالدة
من رأس اإلله .وكأن هذه اإلشارة جاءت بوصفها وجه الشبه ،في عملية التشبيه التي عقدها الشاعر بين الشعر
وأثينا.
وعلى الرغم من أن رمز "تجار قريش" رمز قد وفّق به الشاعر ،من حيث اإليحاء الجمالي بما يجري في الواقع
المعاصر من متاجرة بقضية الفقراء ،ومصادرة لها .غير أن متابعة هذا الرمز بجملتي النداء التاليتين ،بما يوحي
تحددان
ضيقت المجال اإليحائي الذي يمكن أن يحوزه هذا الرمز .بمعنى أن جملتي النداء ّ
وكأن ثمة شرحاً له ،قد ّ
التلقي بالمنحى الذي سارتا فيه .وفي هذا تضييق لما هو واسع ،وإ غالق لما يمكن أن يكون مفتوحاً.
يتبدى باعتبار الرمز مقولة فلسفية ،أو سياسية ،أو أخالقية .مما
وبالنسبة إلى المستوى اإلشاري المفهومي ،فإنه ّ
يؤدي بالرمز إلى االنحراف عن الحقل الجمالي إلى حقول أخرى ذات ماهية مختلفة .وهو ما يؤدي ،بدوره ،إلى
االنحراف عن الشعري إلى الفلسفي أو السياسي أو األخالقي .غير أن الرمز ليس هو السبب في ذلك .بل الوعي
الشعري الذي إذا ما انحرف عن نسقه الجمالي ،انحرف النص بكامله عن الشعرية . POETICSفبدالً من أن
يتعامل الشاعر جمالياً مع الظواهر واألشياء والحاالت والرموز ،فإنه يعاملها على أنها مقوالت يمكن نقلها من
حقولها المعرفية إلى الحقل الجمالي .وفي ذلك مافيه من إشكاليات فنية.
ونلحظ ،فيما يخص هذا المستوى ،أن الرمز اليأتي ،في النص ،إال بوصفه حامالً لألفكار التي يتبناها الشاعر.
فالمبدع القومي العربي يميل إلى رموز ذات سمة عربية؛ والمبدع القومي السوري يميل إلى رموز ذات أصل
التوزع،
سوري قديم؛ والمبدع األممي يميل إلى رموز ذات بعد أممي ...إلخ .ومن البدهي أننا النعترض على هذا ّ
ينصب على
ُّ من حيث هو تعبير جمالي ـ وإ ن يكن لهذا التوزع أساس أيديولوجي ال جمالي ـ غير أن االعتراض
ملتقى البحرين 56
التعامل مع تلك الرموز ،من منظور كونها أفكاراً ومقوالت ومفاهيم ،المن منظور التجربة الجمالية التي يمكن أن
تشحنها بطاقة انفعالية وإ يحائية.
إن هذا المستوى قد أدخل الرموز ،في دائرة مغلقة ،لم يعد باإلمكان أن تفلت منها .وهو مايسوغ إهمالها ،في شعر
الثمانينات ،بعد أن استنفدت الغرض منها ،وأصبحت مبتذلة ،من حيث اإليحاء .أما هذه الرموز فهي نفسها تقريباً
الرموز العامة الدالة على الخصب واالنبعاث؛ أو رموز البطولة العربية في سمتها االشتراكية ،من مثل الصعاليك
وأبي ذر الغفاري والقرامطة؛ أو رموز القبح الدالة على القمع واالستالب من مثل الحجاج وتيمور لنك وهوالكو.
والبأس من اإلشارة ،في هذا المجال ،إلى أن هذه الرموز قد ابتذلت ،ال ألنها أصبحت رموزاً عامة متداولة بين
تم إنتاجه تحت ضغط الحقول غير الجمالية ونمثّل على ذلك
النصوص الشعرية الحداثية .بل ألن كثيراً منها قد َّ
بمقبوسين لكل من أدونيس وخليل حاوي.
نمحي
يحس كيف ّ
ُّ
نمحي
يحس كيف ّ
ُّ
فدى لنا
فينيق مت ً
لتبدأ الشقائق
لتبدأ الحياة
ياشمس الحصيد
ملتقى البحرين 57
والجالميد العبيد()19
واضح من هذين المقبوسين أن فينيق وتموز ينهضان من مقولة واحدة ،وهي مقولة االنبعاث ،من خالل مفهوم
يتضرر سياقا المقبوسين ،إذا مااستبدل فينيق بتموز أو
ّ البطولية الفردية ،وبما أن األمر على هذا النحو ،فلن
العكس .فكل من الرمزين يمتلك االستقاللية عن سياقه ،بوصفه مقولة ناجزة .وعلى الرغم من أن المقبوس الثاني
أكثر صدوراً عن التجربة الجمالية ،من المقبوس األول؛ إال أنه وقع فيما وقع فيه األول ،من تعامل مع رمز ناجز،
اليحتاج من الشاعر إال إلى إدخاله في السياق الفني .ولهذا فإن استبداله برمز آخر ،له البعد الرمزي نفسه ،لن
يؤثر سلباً في ذلك السياق .وفي المحصلة ،فإن القول الفكري هو الذي يقف وراء هذين المقبوسين.
تلك هي المستويات الثالثة الدنيا التي شاعت في شعر الحداثة ،في عالقته بالرمز الفني ،والسيما األسطوري
والتاريخي .والشك في أنها مستويات متداخلة ،ومتشاكلة أيضاً .غير أن الفرق األساسي بينها يكمن في غرضية
غرضية المستوى التراكمي في أن الرموز معادلة للهاجس الشعري؛ تكمن
ّ الرمز داخل النص .فعلى حين تكمن
غرضية
ّ غرضية المستوى االستعاري في أن الرمز توضيح أو توكيد أو تدليل على الفكرة المطروحة؛ وتكمن
المستوى اإلشاري المفهومي في التعبير عن الموقف الفكري .وتبقى هذه المستويات الثالثة في إطار اإلشارة أو
العالمة ،وقلّما تتجاوزها إلى حدود الرمز الفني بوصفه شكالً يستوعب التجربة الجمالية.
وقد يقال ،في هذا المجال ،كيف يمكن أن نصنف هذه المستويات تحت مصطلح الرمز الفني ،إذا لم تفارق كونها
إشارة أو عالمة..؟
تعبر عن
ونقول :إن تصنيفها على هذا النحو ينطلق من أن الشاعر حين كان يستخدمها ،إنما كان يرى فيها رموزاً ّ
تجربته ،وليس لنا أن نصادر حقّه في ذلك .أما أن يكون قد نجح أو أخفق في استخدامها ،فهذا شأن آخر تماماً.
نقوم استخدامه سلباً أو إيجاباً.
الحق في أن نحاوره في ذلك ،أو أن ِّ
ّ ولنا ُّ
كل
وأما بالنسبة إلى المستوى المحوري من التعامل مع الرموز ،فيمكن التوكيد أن هذا المستوى هو الذي ينطبق عليه
مصطلح الرمز الفني بكل مايعنيه المصطلح ،حيث نلحظ اإليحائية واالنفعالية والسياقية والتخييل والحسية ،في هذا
ملتقى البحرين 58
المستوى الذي يش ّكل محور القول الشعري .ولقد توزع هذا المستوى ،في شعر الحداثة ،إلى شكلين اثنين .وهما:
محورية الرمز في النص الشعري عامة ،ومحوريته في الصورة الفنية خاصة .أما بالنسبة إلى الشكل الثاني ،فإن
بنية الصورة فيه تنهض من أبعاد الرمز اإليحائية ،وتتأسس عليها .بحيث إن إيحائية الصورة تقوم على إيحائية
الرمز ،كمثل قول السياب:
يسلّط الكالب
إن يهوذا ليس محور هذه الصورة فحسب .بل هو بؤرة اإليحاء الجمالي فيها أيضاً .فالقباب لم تنجرح إال بيهوذا،
ولم تنوجد الكالب إال به ،ولم يرتعب الصغار والبيوت لواله.
وإ ذا كان يهوذا أحمر الثياب لشهوانيته الدموية ،فإن القباب حمر بدمها المراق ،وأيضاً فإن الكالب متدافعة نحو
الدماء .ومايقال في القباب يقال أيضاً في الصغار والبيوت حيث دمها المراق بفعل الكالب .أي أن شهوانية يهوذا
الحمراء قد انعكست إيجابياً على الكالب التي هي من مرادفاته ،وانعكست سلبياً على القباب والصغار والبيوت التي
هي من نقائضه .وقد انعكس ك ّل ذلك في توجيه الصورة نحو التراجيدية.
ومن المفيد ،هنا ،أن نشير إلى أن يهوذا في األناجيل ،ليست له هذه األفعال التي حمله إياها السياب ،في هذه
الصورة ،غير أن للشاعر الحق ،في أن يعامل الرمز من المنظور الذي يخدم هاجسه الشعري وتجربته الجمالية ،إذا
ماكان الرمز يحمل الطاقة اإليحائية في ذلك .لقد رأى السياب ،في يهوذا ،رمزاً للديكتاتور .من منظور أن يهوذا قد
أراق دم المسيح ،أو كان السبب في إراقته ،من خالل تسليمه المسيح لجنود الطاغية هيرودس .فالعالقة بين يهوذا
وهيرودس هي التي أوحت للسياب بتحويل يهوذا إلى رمز للطاغية أو الديكتاتور ،مع احتفاظ يهوذا بفعل الخيانة
والغدر .وكأن يهوذا ،في صورة السياب ،ليس رمز الديكتاتور فحسب بل هو رمز الديكتاتور الذي كان قد وعد
المدينة باألمان ،وانقلب عليها بالخيانة والغدر واالستالب .فالمدينة ،بهذا المعنى ،التعاني من الطغيان فقط ،وإ نما
تصرف السياب برمز يهوذا
تعاني أيضاً من الخيانة وانكسار األحالم .وهو ما يضاعف التراجيدية فيها .وبهذا فقد ّ
بما يتالءم وهاجسه الشعري من جهة ،وبما يتالءم وطاقة الرمز اإليحائية من جهة ثانية.
جدرانه راحتاي
وأشجاره لهفتي
إن المنزل ،في هذه الصورة ـ المقطع ،هو منزل حقيقي بقدر ماهو رمزي .إنه الوجود والكينونة والمصير والذات،
مثلما هو جدران وأعتاب وأشجار .ولهذا الغرابة في أن يكون المنزل هو بؤرة اإليحاء الجمالي ،في هذه الصورة.
وعلى الرغم من أن الشاعر قد توقف عنده طويالً ،إال أنه لم يحاول شرحه أو توكيده .بل كان ينطلق منه لتوسيع
دائرته التعبيرية .وهو ماجعل إيحاءه متعدداً ومتنوعاً ،بحيث من الصعب أن يتحدد في بعد واحد .والبأس من
اإلشارة إلى أن سمات الرمز الفني قد تجسدت كلها في هذا الرمز المحوري ـ المنزل .فهو رمز سياقي أوالً ،لم يتكئ
الشاعر فيه على ماهو ناجز من أفكار حول المنزل؛ كما اليمكن استبداله أو حذفه بأية حال من األحوال .ومن جهة
ثانية ،فإن هذا الرمز ممتلئ باالنفعال الجمالي .إنه يصدر عن اإلثارة والتحريض والتفاعل .العن المعالجة الذهنية.
ولهذا فإن إيحاءه انفعالي الذهني أو فكري.
ملتقى البحرين 60
يجرد المنزل ،وإ نما نقله من مستوى حسي إلى آخر مختلف ،مع احتفاظه
أما من حيث الحسية ،فواضح أن الرمز لم ِّ
بإيحاء المستوى األول .وفي هذا يكمن التخييل الذي ينهض من التعامل المجازي مع المنزل .إنه تخييل يستنبط
القيمة الجمالية للمنزل ،ليعمقها بقيمة أخرى.
والحق أن هذا الرمز ـ والصورة عامة ـ اليمكن استيعابه نقدياً من دون األخذ بعين االعتبار جمالية المكان ،والطبيعة
الشعورية والالشعورية لعالقة اإلنسان بالمكان الذي ليس له وجود موضوعي فحسب .بل إن له وجوداً ذاتياً ،اليقل
قيمة وأهمية وحساسية عن وجوده الموضوعي.
يخص محورية الرمز في النص الشعري عامة ،فإن ثمة الكثير من النصوص الشعرية التي أنبنت على رمز
ّ وأما ما
محدد ،وتمحورت على إيحائه ،ويمكن أن نشير ،في هذا المجال ،إلى "المسيح بعد الصلب" و "سربروس في بابل"
للسياب ،و "األخضر بن يوسف" لسعدي يوسف ،و "في جوف حوت" و "العازر عام "1962لخليل حاوي ،و
"الصقر" و "تحوالت الصقر" و "مهيار الدمشقي" ألدونيس ،و "شاهين" و" المالجة" لمحمد عمران ،و "هيلين" لنزيه
أبو عفش ،و "زرقاء اليمامة" ألمل دنقل...إلخ.
غير أن ماتنبغي اإلشارة إليه هو أن الرمز المحوري في النص غالباً مايتداخل في النموذج الفني .بمعنى أن الرمز
يبدو نموذجاً ،مثلما يبدو النموذج رمزاً .ولهذا فإن تحليل النصوص المذكورة آنفاً اليمكن أن يغفل هذا التداخل الذي
كثيراً مايصل إلى مستوى االتحاد أو الوحدة.
وإ ذا كان المجال اليسمح بتحليل نص شعري ،من نمط النصوص اآلنفة الذكر ،بسبب طولها النسبي ،فإن ذلك اليمنع
من تحليل نص قصير ،هو أقرب إلى المقطع منه إلى القصيدة .أما النص فهو المعنون بـ "أورفيوس"()23
ألدونيس:
تهز الحياة
كلماتي رياح ّ
وغنائي شرار
إن ثمة تعامالً رمزياً مع اللغة ،يجعلها تشعّ في اتجاهات متعددة ،غير أنها منسجمة ومتكاملة .وهي في إشعاعها
تنطلق من هاجس شعري محدد .وهو الرغبة الجامحة في الخروج من عالم القبح أو االغتراب والتشيؤ ،إلى عالم
الحرية الذي هو الجمال األمثل .وذلك هو األساس في مقولة االنبعاث .إال أن هذه المقولة جاءت انفعالية تخييلية.
ولم يظهر عليها البعد الذهني أو الفكري .فبدا أورفيوس تجسيداً لالنبعاث ،على الرغم من أن األسطورة اليونانية
الترى فيه واحداً من آلهة االنبعاث ،وإ ن يكن قد نزل إلى العالم السفلي وخرج منه حياً.
لقد تكامل هذا النص ،من أجل إنتاج المناخ االنبعاثي .حيث إن بنيته تنهض من الحركة التحويلية ،وذلك في
(أتدحرج ،أضيء ،تهز ،يجيء)؛ وثمة االندغام الروحي باألشياء(عاشق،ـ الكاهنات ،غنائي)؛ وثمة أيضاً مايدل على
أداة التحويل (رياح ،إله ،ساحر) .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،ثمة التناقض والصراع بين العاشق والحجر،
وبين اإلله القديم واإلله الذي يجيء ،وبين العتمة والضوء ،وبين الجحيم والحياة .إن هذا التناقض ،على مستوى
النص ،يجد أساسه في التناقض بين الرغبة والواقع ،على صعيد التجربة الجمالية الكامنة وراء هذا النص.
لقد تحول العاشق في صراعه مع الواقع أو الجحيم إلى ساحر ،وتحولت الجحيم إلى غبار .وذلك في الوقت الذي
أرادته فيه الجحيم أن يكون حجراً أو كائناً يعاني التشيؤ واالغتراب .أي لقد استطاع العاشق أن يتخلص من آثار
الجحيم ،وهو ما جعل تلك الجحيم غباراً اليمتلك إمكانية التأثير.
وهكذا نلحظ أن الهاجس الذي يعبر عنه هذا النص هاجس انبعاثي تحويلي .ولكن هل حقاً ،يمكن التوكيد أن
أورفيوس ،هنا ،هو رمز انبعاثي فحسب؟.
إن أورفيوس ،في هذا النص ،رمز بقدر ما هو نموذج فني .ولهذا فهو اليستوعب ذاتية الشاعر فحسب .بل
يستوعب أيضاً الكثير من الحاالت والتجارب المتشابهة أو التي يتقاطع معها .أي أن غناه التعبيري ينهض من
َّ
يستجد من حاالت وتجارب .ونرى من المفيد أن نشير إلى أن انبناء هذا انفتاحه على ماهو موجود ،وما يمكن أن
النص على الرمز ـ النموذج قد جعل منه نصاً درامياً ،على الرغم من قصره .فهو ليس تعبيراً غنائياً عن ذاتية
الشاعر ،وإ نما هو معادل فني درامي لهذه الذاتية .فأورفيوس مستقل عن الشاعر ،وهو في الوقت نفسه ،متقاطع
معه ،مما يسمح لنا بأن نتعامل مع أورفيوس بوصفه كائناً موجوداً وجوداً موضوعياً ،وإ ن يكن هذا اليؤدي إلى
عزله المطلق عن الشاعر.
ملتقى البحرين 62
ونود أن نسجل ،في هذا اإلطار ،أن الشاعر الحداثي في تناوله للرموز التاريخية واألسطورية ،غالباً ماكان يعود
التأزم الدرامي في سياقها التاريخي أو األسطوري.
إلى تلك الشخصيات ذات ّ
رمز الريح:
درسنا ،فيما سبق ،مستويات الرمز الفني ،والسيما األسطوري والتاريخي ،ولم نتعرض للرمز الطبيعي ،فقد أرجأنا
الكالم فيه لما له من تميز في التعامل الجمالي .وسوف نخصص له ماتبقى من هذا الفصل ،من خالل رمزي الريح
والحجر .ولكن إذا كان هذا الرمز مختلفاً عن غيره ،فإن ذلك اليعني أن تلك المستويات التسري عليه ،والسيما
المستوى اإلشاري المفهومي والمستوى المحوري .مع اإلشارة إلى أن مايمكن أن يقال في الرمز الطبيعي،
اليختلف كثيراً عما يمكن أن يقال في الرمز االصطناعي ،إذ الفرق بينهما أن هذا من عمل اإلنسان ،وذاك من عمل
الطبيعة ،ويبقى أن لك ّل منهما عالقته التاريخية والعملية واالنفعالية والمعرفية باإلنسان.
يتسم الرمز الطبيعي بكون قيمته الجمالية متبدلة متغيرة ،بشكل دائم ،مما يجعل تاريخه مستمراً وغير محدد نهائياً.
ولعل هذا ممايميزه من الرمزين األسطوري والتاريخي اللذين يمتلكان وجوداً محدداً في الذاكرة االجتماعية ،هذه
الذاكرة التي تفرض نسقاً معيناً في تلقي هذين الرمزين .أي أنهما اليتصفان بالحيوية التي يتصف بها كل من الرمز
الطبيعي واالصطناعي .
إن هذه الحيوية تعطي المبدع حرية عظمى في التعامل الرمزي ،بحيث اليبدو مقيداً بتلك الذاكرة .ونحن إذ نؤكد
ذلك ،النغفل أن لألشياء تواريخ ،في الوعي اإلجتماعي ،اليمكن للمبدع أن يهملها أو يتغاضى عنها؛ غير أن هذه
التواريخ متواصلة النمو والتبدل والتغير واإلضافة والحذف والتعديل ،بحسب التجارب اإلجتماعية المتبدلة أيضاً.
فالنهر ،مثالً ،بالنسبة إلى المجتمع القبلي ،غيره بالنسبة إلى المجتمع المدني؛ كما أنه بالنسبة إلى سكان المناطق
الصحراوية غيره بالنسبة إلى سكان المناطق الحراجية أو الجبلية .هذا من جانب ،ومن جانب آخر ،فإن للنهر
أطواراً تختلف باختالف فصول السنة؛ مثلما أن للمجتمع أغراضاً تختلف باختالف الحاجات ...إلخ .إن هذه
االختالفات في النهر وفي الحاجة إليه ،تنعكس اختالفات في التقويمات العملية والتقويمات الجمالية.
ملتقى البحرين 63
وليس من العبث أن ترى األسطورة اليونانية أن لألنهار آلهة وحوريات .أي ليس من العبث أن ترى في النهر إلهاً
جليالً جباراً ،حين يكون النهر هائجاً؛ وأن ترى فيه حورية جميلة وادعة ،حين يكون هادئاً منساباً.
وفي المحصلة ،إن هذه التعددية في أطوار األشياء ،وفي الحاجات إليها ،وفي أساليب استخدامها ،وفي المواقف
االجتماعية منها ،تنعكس تعددية هائلة غير محدودة ،في الذات المبدعة التي هي األخرى لها أطوارها النفسية
والروحية المختلفة والمتعددة .ولهذا الغرو في أن يكون الرمز الطبيعي ـ واالصطناعي أيضاً ـ ذا قيم جمالية متباينة
ومتناقضة أيضاً .غير أن هذه التعددية غير المحدودة التعني اإلعتباطية والفوضى ،في التعامل الجمالي مع
األشياء ،بحيث يفتقد الرمز إلى اإلحالة الجمالية .أي أن هذه التعددية ليست نتاج التعامل المجاني االعتباطي ،وإ نما
هي سمة الظواهر واألشياء في عالقتها بالحياة االجتماعية بمختلف أشكالها .ولهذا فإن أي إيحاء يمكن أن يستولده
المبدع من الرمز ،يجد أساسه في إحدى سمات الشيء منظوراً إليها من الذات المبدعة ،في طور من أطوارها.
وليست عملية الترميز ،بحال من األحوال ،عملية اعتباطية مجانية ،كما يخيل لبعض الشعراء ،ممن تستهويهم
اللعبة اللغوية الفانتازية.
لقد شاع رمز الريح ،في شعر الحداثة ،بشكل الفت للنظر ،حتى يمكن التوكيد أنه قلما نجد شاعراً حداثياً لم يكن له
موقف جمالي من الريح بوصفها رمزاً ،وبوصفها حقيقة أيضاً .وهو ما أدى إلى أن تتكثّر إيحاءات هذا الرمز
وتتنوع وتتناقض ،بما يصعب فيه التصنيف الدقيق والشامل .ولذلك فإن ماسوف نسجله ،هنا ،لن يكون سوى
ّ
إشارة إلى هذا التكثر.
من المعلوم أن الريح من النماذج البدئية ARCHETYPESالتي يتشكل منها الالشعور الجمعي
، COLLECTIVE UNCONSCIOUSوذلك بوصفها رمزاً للدمار والخراب .إذ إن اآللهة حين كانت
تغضب على قوم ما ،تسلّط عليهم أداتها التدميرية الفتاكة ،وهي الريح ،فتجعلهم نسياً منسياً .وكما يقول بيير داكو،
فإن الشعوب القديمة قد منحت آلهتها أسلحة فتاكة واحدة ،وهي الصاعقة والرعد والريح( .)24والشك في أن ذلك
ينهض من طبيعة التجربة االجتماعية ـ التاريخية التي تناولت الريح والصاعقة والرعد.
وفي القرآن الكريم ،مايشير إلى ذلك بشكل واضح .فغالباً ماتكون الريح ،فيه ،دالة على الدمار والخراب والعقم
والجدب .ومن الالفت للنظر ،في هذا المجال ،أن الريح حين تستخدم في اآليات ،بصيغة المفرد ،تكون دالة على
الدمار والخراب .أما حين تستخدم بصيغة الجمع ،فإنها تدل على الخير والخصب ،حيث تسوق المطر.
ويدبر (
ويقبل ُ
يتعوذ عند رؤيته الريح ويضطرب ،فيخرج من بيته ،ويدخلُ ،
ولقد ُعرف عن النبي الكريم أنه كان ّ
.)25وثمة حديث نبوي في الريح يقول:
ولكن إذا كانت الريح سالحاً بيد اإلله ،يستخدمه من اجل التدمير ،فإن هذا اليعني أنها رمز سلبي وحسب .فهي
تحمل أيضاً معنى إيجابياً ،وذلك من منظور أن الريح التسلّط إال على األقوام الخاطئة بالمعنى الديني ،فتتطهر
األرض من الخطيئة الدينية واألخالقية ،فيكون التدمير ،عندئذ ،شكالً من أشكال التطهير.
والشر في
ّ لقد أردنا من هذه اإلشارة التاريخية السريعة ،القول بأن الريح في الالشعور الجمعي تحمل معاني الخير
األعم األغلب .كما أردنا أيضاً التوكيد أن طبيعة التجربة االجتماعية -
ّ الوقت نفسه ،وإ ن يكن الخير ُمضمراً في
تحدد محموالت األشياء وذلك باالستناد إلى سمات هذه االشياء في تأثيرها اجتماعياً. التاريخية هي التي ّ
وإ ذا أتينا إلى رمز الريح ،في النصوص الشعرية الحداثية ،فإننا نلحظ تبايناً شديداً في التعامل الجمالي معه.
فالسياب مثالً ،غالباً مايرى في الريح رمزاً سلبياً يحيل على الخراب والدمار اللذين يشيعهما فحش الواقع السياسي.
ويؤبد به
ولهذا فإن الريح ،في الكثير من استعماالت السياب ،سالح بيد الديكتاتور ،يش ّل به حركة الواقع واإلنسانّ ،
األجواء التراجيدية التي تخدم استمراره القمعي االستالبي .فالريح ،بهذا المعنى ،من أهم معالم الواقع التراجيدي،
عند السياب .يقول:
والجو رصاص
ويقول:
أما خليل حاوي ،فإن للريح ،عنده محموالً مختلفاً ،وهو التشيؤ واالغتراب .ولهذا فإن الصقيع والجليد والعراء من
مصاحبات الريح عنده .وإ ذا كان السياب يرى في الريح سالحاً بيد الديكتاتور ،فإن حاوي يراها سالحاً بيد الواقع
تغرب اإلنسان عن ذاته
المادي المبتذل .مما يعني أن الثورة على الريح هي ثورة على القيم المادية المبتذلة التي ّ
وعن محيطه ،كما يعني أن المعاناة من الريح هي معاناة من تلك القيم .والبأس من اإلشارة ،هنا ،إلى أن الريح عند
حاوي غالباً ماتكون نقيض الفرد ،على حين أنها غالباً ماتكون ،عند السياب ،نقيض المجتمع ،يقول حاوي:
ويقول أيضاً:
ويقول:
ويرى فيها علي الجندي رمزاً للتيه بأشكاله النفسية والروحية واالجتماعية بعامة .ولهذا فإن القلق بمرادفاته من
مصاحبات الريح عند الجندي .أي أن ثمة تشاكالً بين حاوي والجندي ،في تناول رمز الريح .ولكن في حين اتجه
حاوي به إلى موضوعة االغتراب ،اتجه به الجندي إلى سمة مالزمة لالغتراب ،وهي التيه النفسي والروحي.
يقول:
ويقول:
أما أدونيس ،فيرى في الريح رمزاً إيجابياً ،يمكن أن يحمل مفهومي الجميل والجليل معاً .إن للريح عنده طاقة
تحويلية ،تبعث في الموات دماً جديداً ،كما تحول الوجود اإلنساني تحويالً ثورياً.
ومن هنا ،فقد استوعب رمز الريح فلسفة أدونيس الشعرية ،في ضرورة التجاوز والتخطي لما هو ناجز في الواقع
يصح القول إن رمز الريح كثيراً مايرادف البطل األدونيسي مهيار الدمشقى .فإذا كان مهيار
ّ بعالقاته وقيمه .حتى
دائم الثورة على واقعه ،وعلى ذاته أيضاً ،فإن الريح هي سالحه في تلك الثورة ،او هي سالحه وثورته في آن معاً.
يقول:
ويقول أيضاً:
وجهها واليدين()36
ملتقى البحرين 67
ولعل المحمول نفسه نجده عند فايز خضور .حيث الثورة التي تحيل على الخصب المتجدد ،وتنفي العقم واليبس
والجدب في الواقع والذات معاً .ولهذا غالباً مايكون المطر والغيم واألغاني ،من مصاحبات رمز الريح عنده .يقول
خضور:
ويقول أيضاً:
وإ ذا كان بعض الشعراء قد اتخذ موقفاً جمالياً شبه نهائي من الريح ،نلمسه في معظم نتاجه الشعري .فإن بعضاً
منهم قد اتخذ منها مواقف جمالية مختلفة ومتناقضة أحياناً ،وذلك بحسب تجربته الجمالية ،في هذا النص أو ذاك.
والنرى أن ثمة أفضلية لهذا الشكل أو ذاك من التعامل الجمالي مع الرموز .إذ المحك النهائي هو الكيفية التي يظهر
فيها الرمز في سياقه الفني.
إن أحمد عبد المعطي حجازي من الشعراء الذين لم يتخذوا ذلك الموقف شبه النهائي من الريح .مما جعلها تختلف
إيحائياً من نص إلى آخر .غير أن أبعادها اإليحائية في جملة نصوصه الشعرية ،تأتلف تماماً واألبعاد التي مرت بنا
سابقاً .والغرابة في ذلك .إذ إن الحاضن االجتماعي والجمالي واحد ،بالنسبة إلى شعراء الحداثة ،على اختالف
طبائعهم وتجاربهم الذاتية.
ومن حيث إحالة الريح على التيه ،فإن خاصية الحركة الدائبة التي تتميز بها الريحُّ ،
تدل على عدم االستقرار .وهذا
من صفات التائه نفسياً وروحياً .وكذا هي الحال في المغترب الذي هو تائه بالضرورة .مع اإلشارة إلى أن دوي
دوي>> الحياة المادية المبتذلة.
الريح اليختلف مجازياً بالنسبة إلى المغترب عن << ّ
رمز الحجر:
وعلى الرغم من أهمية رمز الريح في تبيان العالقة بين اإليحاء الجمالي وك ّل من سمات الشيء أو الظاهرة
الطبيعية ،والتجربة االجتماعية ،إال أن رمز الحجر بمحموالته الجمالية أكثر إيضاحاً وتبياناً لتلك العالقة ،لما يتّسم
به الحجر من ارتباط مباشر بالحياة السياسية العربية المعاصرة ،والسيما في فلسطين المحتلة.
أما فيما يخص الموقف األول ،فإن المعاناة الروحية للفرد المغترب ،قد وجدت في الحجر معادالً موضوعياً في
التعبير عن إشكاالتها .فمن خالل رمز الحجر ،تم التعبير عن الفراغ الروحي ،وعن العالقة المتأزمة بين الفرد
والتوحد .ونرى أن كثيراً من النصوص أو
ّ المغترب والمجتمع ،وعن القلق النفسي ،وعن اإلحساس الحاد بالعزلة
الصور الشعرية يصعب استيعابها من دون فهم تلك الجوانب التي رؤيت في رمز الحجر .وسوف نترك لبعض
المقبوسات أن تعبر عن نفسها ،فيما يخص رمز الحجر ،وذلك لضيق المجال من جهة ،وخوفاً من التكرار من جهة
أخرى.
يقول أدونيس:
من ياترى
ويقول حاوي:
ضجر في دمه
وجهه من حجر
ويقول السياب:
أقض يامطر
ّ
مضاجع الحجر()44
لقد أردنا من هذا المقطع أن يكون صلة الوصل بين ذينك الموقفين من هذا الرمز ،في شعر الحداثة .إذ إنه قد تعامل
تناص مع حجر
ّ مع الحجر بوصفه العالج السحري للروح المتأزمة (يوم عالجتها بالحجر-ثمة في هذا االستخدام
تناص مع صخرة سيزيف)؛ وعامله
ّ الفالسفة) ،وعامله بوصفه رمزاً للعبث والالجدوى (كي نطوف دهراً به ـ وثمة
ملتقى البحرين 71
بوصفه رمزاً للصيرورة (أيها الحجر النيزك ..المتلون)؛ كما عامله بوصفه سالحاً (ساعداً ،الهراوة)؛ وعامله
أخيراً بوصفه رمزاً لألبدية (جئت من أول الكون)...
ومن الالفت للنظر أن هذا الرمز ،على الرغم من تعدد إيحاءاته في المقطع ،لم يقع في االعتباطية أو المجانية،
مر بها
وماذلك إال بسبب المنطق التحويلي الذي يقف وراء تلك اإليحاءات حيث إنها تصدر عن أطوار مختلفة َّ
الحجر في عالقته بالذات الشعرية.
يمكن التوكيد أن رمز الحجر ،قلما يستخدم في الشعر الفلسطيني المعاصر ،بوصفه رمزاً سلبياً ،أو رمزاً داالً على
التشيؤ واالغتراب .وتكاد تتمحور إحاالته الجمالية حول المقاومة ،وحول الخصب واالنبعاث أيضاً!.
والبأس من اإلشارة ،في هذا المجال ،إلى أن رمز الحجر قد ح ّل مح ّل رموز الزيتون والبرتقال والليمون التي كانت
قد استوعبت مرحلة الذهول وااللتياع والحنين التي خلفت النكبة في عام .1948غير أنها استنفدت طاقاتها
تحولها إلى مجرد إشارة فحسب؛ كما أنها استنفدت مهامها الجمالية التعبيرية ،بعد أن أخذت
اإليحائية ،فيما بعد ،في ّ
المقاومة الفلسطينية في البروز .وهو مااقتضى رموزاً جديدة تقوم بالمهام الجديدة التي أنتجها واقع الصراع
العربي ـ الصهيوني .فكان رمز الحجر أحد الرموز التي ظهرت جراء االنتفاضات الشعبية المتناثرة ،على مدار
العقدين السابع والثامن .أي أن خصوصية التجربة النضالية الفلسطينية هي التي فرضت تلك الخصوصية في
التعامل مع رمز الحجر الذي كثيراً مابدا حامالً لمفهوم البطولي.
تقاتل واألنظمه
بنادقها ملجمه
أكف الصبايا
تفاجئني األرض ،إن ّ
مرايا
ُّ
وكف الشهيد بحجم السماء ()46
إن ثمة تكامالً وتجادالً بين الحجارة والصبايا والشهيد واألرض .فاألرض تلد الحجارة ،وهذه تتمرأى بأكف الصبايا،
لتصبح هي القضية األولى في كف الشهيد .فالحجارة في تحول دائم ،فمن األرض إلى الصبايا ،ومنهن إلى الشهيد،،
ومنه إلى األرض ـ السماء ومن األرض إلى البطولية.
ملتقى البحرين 72
إن هذا التكامل والتجادل هما مانلمسه في الحجر ـ األسطورة ،عند محمود درويش في قوله:
أنا الحجر...
وهذا ساعدي
تتحرك األحجار
إن مايلفت النظر في أمثال هذا التعامل الرمزي مع الحجر ،هو أن مصاحبات هذا الرمز كثيراً مايكون لها ارتباط
بالخصب واالخضرار والطفولة .فأحمد دحبور يقرن " حجارة الصباح " بـ "خضرة الدنيا" ( .)48أما بسيسو فإنه
يتلو بالغ الشجر وبالغ الحجر( ،)49كما أنه يرى َّ
تل الزعتر مرصعاً بالقمح واألحجار( .)50ويقرن درويش الحجر
بالزعتر ،في قصيدته الشهيرة "أحمد الزعتر" حيث (ليدين من حجر وزعتر .هذا النشيد)()51؛ ويرى نشيده ،في
نص آخر ،متبدياً باخضرار المدى واحمرار الحجارة ( .)52أما سميح القاسم فيرى الحجر مرتبطاً بالوردة
والتفاحة .وهذا ماسوف نتحدث عنه تالياً .ويقول عصام ترشحاني:
ُّ
ونشد أزر جحيمها
ومن منظور أن البطولية هي المخلّص من االحتالل واالستالب ،فقد رؤيت البطولية شكالً من أشكال الخصب
واالنبعاث .أي أن الحجر قد أصبح بطالً انبعاثياً .والحقيقة أن هذا من أغرب االستخدامات لرمز الحجر .غير أن
الغرابة تنتفي حين نتذكر واقع االنتفاضة الفلسطينية وأهمية الحجارة في نضالها؛ وحين نتذكر أيضاً أن إيحائية
الرمز تتأتى أوالً من طبيعة التجربة االجتماعية التي تتناوله.
لقد صعد درويش برمز الحجر إلى مستوى البطل األسطوري ،وصعد به سميح القاسم إلى مستوى البطل اإلنبعاثي
مرتكزاً على استراتيجية االنتفاضات من جهة ،وعلى أسطورة االنبعاث من جهة أخرى .يقول القاسم في مملكة
اآلر .بي .جي:
وكانت مليكتهم
إن زواج الحجر بالسنونوة الربيعية ،قد جعل منه بطالً انبعاثياً ،يموت الليفنى ،بل كي يتحول إلى طور أرقى،
ليتحول إلى وردة ،فتفاحة ،فعنقاء جديدة تعلن عن الربيع أو االنبعاث.
لقد دخل الحجر ،في الشعر الفلسطيني المعاصر ،مرحلة األلوهة المؤنسنة ،أو بحسب مصطلحات علم الجمال ،دخل
مرحلة الجالل ،وهذا مايؤكده القاسم حين يقول:
المقدس
ّ الثالوث
ملتقى البحرين 74
لعل اقتران الحجر بالوردة والتفاحة ،في المقبوسين السابقين ،يحيل على تالزم القيم الكالسيكية الثالث .وهي الحق
والخير والجمال .فإذا كانت الوردة هي الجمال ،والتفاحة هي الخير مرتبطاً بالجمال ،فإن الحجر هو الحق مرتبطاً
بكل من الخير والجمال .إن القاسم في توحيده لهذه القيم بإله واحد ـ وهذا اإلله هو رمز للمقاومة ـ يكون قد أوحى
بشكل فني ذكي ،بأن الحق والخير والجمال من سمات القضية الفلسطينية .وهو مايعني أن العداء أو الحياد تجاه
هذه القضية يعني موقفاً سلبياً من قيم الحق والخير والجمال.
وهكذا فإن التوحد بين الحجر والشجر والشعر أو بين الحق والخير والجمال ،واضح في الكثير من شعر المقاومة.
نلحظ ،مما سلف ،كيف تم التعامل مع رمز الحجر في شعر الحداثة عامة ،وفي شعر المقاومة منه خاصة .ولكن
ماتنبغي اإلشارة إليه ،في هذا المجال ،هو أن رمز الحجر في داللته على المقاومة ،قد تم ابتذاله في شعر
التسعينيات الذي جعل من االنتفاضة الفلسطينية موضوعاً له ( .)57فلم يعد رمزاً بقدر ماأصبح مجرد إشارة إلى
االنتفاضة .أي كأن رمز الحجر في داللته على المقاومة ،قد دخل فيما دخل فيه رمز الزيتون من طريق مسدود،
على الصعيد اإليحائي والجمالي .مما قد يستدعي رمزاً آخر يواصل ماكان رمز الحجر قد بدأه.
وبهذا ،فقد طرح شعر الحداثة أنماطاً عدة من الرموز الفنية التي استوعبت موقفه الجمالي واالجتمالي من الواقع
الذي راح يتنامى فيه .ولم يكن ثمة وعي جمالي جديد ،يرى أن تحريض األشياء ،في هذا الشعر ،لو لم يكن
باإلمكان أن يبرز التعامل الرمزي مع الظواهر واألشياء ،ال األشياء ،هو أساس القيمة الجمالية في الشعر ،والفن
عامة .وقد يبدو أن هذا المنطلق الجمالي ينسجم وما يذهب إليه شكلوفسكي من أن " الفن هو أحد طرق المعايشة
الفنية للموضوع ،أما الموضوع فليس بذي أهمية "( .)58غير أن األمر ليس على هذا النحو تماماً .فالشك في أن
ملتقى البحرين 75
الفن معايشة فنية أو جمالية للموضوع .ولكن للموضوع أهمية في هذه المعايشة .فهو أحد قطبي العالقة الجمالية،
المحرض والمؤثّر .والبد من أن تنعكس بعض صفاته ،في عملية
ّ ومن دونه اليكون ثمة معايشة أو عالقة .فهو
اإلدراك .وما يؤكد ذلك أن شعر الحداثة في تعامله الرمزي مع الموضوعات لم يكن يغفل هذه الصفة أو تلك منها.
تيسر له أن ينتج رموزاً ذات إيحاء مكثف ،رموزاً تتكئ على بعض صفات األشياء أو الموضوعات،
ولوال ذلك لما ّ
مثلما تتكئ على الطبيعة النفسية والروحية للمبدع .وفي هذا تكمن الحرية التي نالها الشاعر الحداثي .في تعامله
الحق بتشكيلها تشكيالً جديداً ،يخرج بها من
ّ الجمالي مع الظواهر واألشياء .فلم يعد مو ّكالً بمحاكاتها .بل أصبح له
عالقاتها الموضوعية ،من دون أن يلغي تأثيراتها فيه .
الهوامش:
1ـ راجع في ذلك :األيوبي ،د .ياسين :مذاهب األدب ـ الرمزية.جـ .1 :المؤسسة الجامعية ،بيروت .ط .1982 ،1
ص 206 :ـ .253
2ـ اليافي ،د .نعيم :تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث .اتحاد الكتاب ،دمشق .1983 ،ص.287:
.IBID . P . 13 - 4
6ـ ويمزات وبروكس :النقد األدبي ،جـ .4 :تر :د .حسام الخطيب ومحي الدين صبحي .المجلس األعلى لرعاية
الفنون واآلداب والعلوم االجتماعية ،دمشق .1977 ،ص.65 :
7ـ سارتر ،جان بول :األدب الملتزم .تر :جورج طرابيشي .دار اآلداب ،بيروت ،ط .1967 ،2:ص144 :
8ـ أحمد ،محمد فتوح :الرمز والرمزية في الشعر المعاصر .دار المعارف ،القاهرة ،ط ،1978 ،2:ص21:
9ـ وايلد ،أوسكار :صورة دوريان جراي .تر:لويس عوض .دار المعارف ،القاهرة .1969 ،ص(5 :في المقدمة).
10ـ وارين وويليك :نظرية األدب .محي الين صبحي ،مرا :د .حسام الخطيب .المجلس األعلى لرعاية الفنون
واآلداب والعلوم اإلجتماعية ،دمشق .1972 ،ص.243:
ملتقى البحرين 76
11ـ ربما من المفيد أن نشير إلى أن الدكتور اليافي يرى أن للرمز الفني سبع خصائص .وهي :األصالة واإلبتكار
والحرية الكاملة غير المقيدة ،والطبيعة الحسية ،والكيفية التجريدية ،والرؤية الحدسية ،والنسقية ،وثنائية الداللة.
راجع المرجع السابق ،ص 280 :ـ .283ويلحظ القارئ أن ثمة تقاطعاً بين مانطرحه وما يطرحه اليافي.
13ـ السياب ،بدر شاكر :ديوانه ،م .1:دار العودة ،بيروت ـ .1971ص 510:ـ .511
14ـ عمران ،محمد :الدخول في شعب بوان .اتحاد الكتاب العرب .دمشق .1972 ،ص14 :ـ.15
15ـ عبد الصبور ،صالح :ديوانه ،م .2+1 :دار العودة ،بيروت .1972 ،ص.26 :
16ـ كنعان ،علي :أعراس الهنود الحمر .دار المسيرة ،بيروت .1979 ،ص.27:
17ـ األحمد ،أحمد سليمان :الرحيل إلى مدينة التذكار .دار األجيال ،دمشق.1970 ،ص98 :ـ 99
18ـ أدونيس :اآلثار الكاملة ،م .1:دار العودة ،بيروت .1971 ،ص264:ـ .265
19ـ حاوي ،خليل :ديوانه ،دار العودة ،بيروت .1982 ،ص89 :ـ .90
21ـ يوسف ،سعدي :قصائد أقل صمتاً .دار الفارابي ،بيروت ،ط .1979 ،1 :ص.85:
23ـ داكو ،بيير :انتصارات التحليل النفسي .تر :وجيه أسعد .وزارة الثقافة ،دمشق .1983 ،را :ص334 :
24ـ صحيح مسلم ،ج .3دار الطباعة العامرة ،القاهرة 1330 .ه .را :ص 26:ـ 27
31ـ الجندي،علي :قصائد موقوتة .دار النديم ،بيروت ،د/تا .ص76 :ـ .77
34ـ أدونيس :اآلثار الكاملة ،م .2 :دار العودة ،بيروت .1971 ،ص519 :ـ .520
35ـ خضور ،فايز :نذير األرجوان .دار فكر ،بيروت .1989 ،ص68:ـ .69
37ـ حجازي ،أحمد عبد المعطي :كائنات مملكة الليل ،دار اآلداب .بيروت.1978 .ص10:ـ .11
41ـ العظمة ،نذير :الخضر ومدينة الحجر .اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ،1979 ،ص44:
44ـ بسيسو ،معين :األعمال الشعرية الكاملة .دار العودة ،بيروت .1979 ،ص.665 :
45ـ درويش ،محمود :ديوانه ،م .2:دار العودة ،بيروت .1980 ،ص.245:
51ـ ترشحاني ،عصام :منارات ألحزان العشب .دار القدس ،بيروت .1979 ،ص.37 :
52ـ القاسم ،سميح :جهات الروح .دار الحوار ،الالذقية .1984 ،ص114 :ـ .115
55ـ كليب ،د .سعد الدين :قصيدة االنتفاضة "الشعر السوري أنموذجاً" مجلة "المعرفة" العدد .365:دمشق،
.1994را :ص84:ـ .102
* ـ نعني بالرمز االصطناعي هو كل مااصطنعه اإلنسان من أشياء وأدوات ،عبر تاريخه ،من مثل المنزل والقطار
والسفينة والراية...إلخ والشك في أن هذه التكون رموزاً إال إذا عاملها الشاعر كذلك.
الفصل الرابع
تأسيس نظري:
يعد النموذج الفني ARTISTIC TYPEمن أهم األساليب التقنية التي استخدمها شعر الحداثة العربية ،في
ّ
تعبيره عن وعيه الجمالي الذي يتصف بالدرامية DRAMATICمن جهة؛ وفي تعبيره عن الواقع اإلنساني من
جهة أخرى ،إذ إن إنتاج النموذج الفني اليعني التخفّف من الغنائية LYRICISMفحسب .بل يعني أيضاً
المعالجة الفنية ألوسع مساحة ممكنة ،من الواقع بعالقاته وقيمه المختلفة .ولهذا ،فإن دراسة هذه التقنية هي،في
ملتقى البحرين 79
أحد مستوياتها ،دراسة لتجلي التجربة الشعرية بشكل درامي ،في شعر الحداثة؛ مثلما هي دراسة لطريقة التناول
الفني للواقع.
ومن الطبيعي أننا الننفي أن يكون لنفسية الشاعر أو ذاتيته حضور ما ،في بعض نماذجه الفنية .إذ إن شعر الحداثة
هو ،في نهاية المطاف ،شعر غنائي يتصف بالدرامية ،ولكن ننفي أن تكون هذه النماذج تعبيراً مباشراً وصرفاً عن
ذاتيته .ولو كان األمر على هذا النحو ،لما كان ثمة حاجة للحديث عن النمذجة الفنية بوصفها معادالً موضوعياً
لموقف الشاعر من هذه الظاهرة أو تلك؛ وبوصفها تقنية تستوعب مجمل الظواهر النفسية والروحية واالجتماعية
التي يعالجها الشاعر أو يعانيها.
إن الميل إلى إنتاج النموذج ينهض ،أساساً ،من محاولة الشاعر الحداثي ،في استيعاب الواقع اإلنساني استيعاباً
درامياً ،يتمكن به من تملك العالقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي ،بين األنا واآلخر ،وهو مالم يعد ممكناً بالشكل
الغنائي الصرف الذي يمكن القول إنه أصبح عاجزاً عن استيعاب الواقع ،وعن التعبير عن الوعي الجمالي الحداثي.
إن عجز هذا الشكل هو الذي دفع الشاعر الحداثي إلى البحث عن تقنية جديدة ،تنهض بما عجز عنه ذلك الشكل،
ّ
فوجده في األسلوب التقني الذي تتكئ عليه المسرحية والرواية ،وهو النموذج أو الشخصية الفنية .إذ من المعروف
أن المساحة االجتماعية التي تعالجها الرواية أو المسرحية ،بسبب أسلوب النمذجة ،أكثر اتساعاً وعمقاً من
المساحة التي يعالجها الشعر الغنائي؛ غير أن الشعر الحداثي ،بميله إلى النمذجة ،راح يستوعب ،إلى حد ما ،تلك
المساحة .حيث بات يتناول كثيراً من الظواهر التي كان الشعر الغنائي عامة يبتعد عن تناولها.
ومما الشك فيه أن ثمة اختالفاً واضحاً ،في أسلوب النمذجة ،بين الشعر الحداثي ٍّ
وكل من المسرحية والرواية .فعلى
حين أن هذين النوعين يطرحان حيوات األشخاص في ظروف اجتماعية محددة ،ويصوران تناميها وتبدالتها في
عالقتها باألحداث ،وعالقتها فيما بينها؛ نجد أن الشعر يميل إلى إنتاج النموذج ـ الموقف في عالقته بهذا المستوى
أو ذاك من مستويات الواقع .بمعنى أن النموذج الشعري يتنامى ذاتياً ،في إطار سماته النوعية المحددة .إنه
اليحتمل التنامي من نوعية إلى نوعية أخرى مغايرة ،والسبب هو أن الشعر اليستوعب حياة المنمذج كاملة .بل
ملتقى البحرين 80
يوضح سماته .فهو حين ينتج نموذجاً ما ،يتكئ على كينونته القيمية ،ال على حياته المادية
يطرح موقفه الذي ّ
والروحية واالجتماعية ،كما نلحظ في الرواية والمسرحية.
إن سمة النموذج الفني الجديرة باالهتمام تكمن في أنه يستطيع احتواء ظواهر اجتماعية جديدة دائماً( .)2وذلك
بسبب التعميم المجازي الذي يتصف به ،وبسبب اهتمامه بما هو جوهري في الظاهرة المنمذجة .ويمكن القول إن
النموذج الذي الينهض بذلك ،لن يتملّك الظاهرة التي ينمذجها ،كما لن يتمكن من اإليحاء الجمالي .مما يعني أن
النمذجة الفنية التتم بمجرد إيجاد شخصية مختلفة عن شخصية الشاعر .فالبد من أن تكون هذه الشخصية ذات
إمكانية تعبيرية عن موقف أو تجربة أو ظاهرة ما ،وذات إمكانية إيحائية ،يمكن بها أن تستوعب ظواهر أخرى
ُّ
يستجد على صعيد الواقع .ولكن ذلك غير ممكن ،إذا ماكان النموذج عبارة عن مقولة مختلفة ،وأن تتواصل وما
عقلية .إذ إن للمقولة نسقاً مغايراً لنسق التجربة التي يسعى شعر الحداثة إلى التعبير عنها .هذا من جهة ،ومن
جهة أخرى ،فإذا كان النموذج صادراً من تعميم مجازي ،فإن ذلك اليؤدي إلى أنه تعميم عقلي للظاهرة .بل إن
العالقة االنفعالية بين الذاتي والموضوعي توجب أن يكون النموذج ذا نسق انفعالي مجازي اليمكن اختزاله بمقولة
عقلية .إن هدف الشعر الحديث ـ كما يقول صاحب كتاب شعر التجربة ـ "يتجلى في فتح قناة من الموضوع الشخصي
إلى نموذجه األصلي عبر تج ّنب المقولة العقلية للنموذج"( .)3ولهذا فإن النموذج بما هو تعميم مجازي ،يحيل على
الطبيعة االنفعالية للتجربة الشعرية عامة.
إن النموذج الفني بوصفه حامالً للتجربة الشعرية ،ينبغي أن يمتلك اإلمكانية في أن يكون ذا كينونة ذاتية مختلفة،
يستحق االنتباه إليه بذاته ،شأنه في ذلك شأن الرمز الفني،
ّ بهذا القدر أو ذاك ،عن كينونة الشاعر الذاتية ،بحيث
ملتقى البحرين 81
بمعزل عن مبدعه .بل كثيراً مانجد الشاعر يدخل في حوار أو تناقض أو صراع مع نموذجه الذي قد يبدو ،على
الصعيد الجمالي ،جميالً أو قبيحاً ،وبطولياً أو تافهاً ،وتراجيدياً أو معذباً أو كوميدياً .ومن هنا ،فإن النموذج ليس
استيعاباً درامياً للتجربة فحسب بل إنه أيضاً يفرض بناء شعرياً درامياً بالضرورة .أي أن النص الشعري الذي
البد من أن يكون بناؤه الفني درامياً .حيث تتعدد األصوات وتتناقض ،ويتنامى االنفعال،
ينهض على النمذجةّ ،
وتتطور الصور من بعضها ،وتتواشج فيما بينها ،وتصطرع المشاعر واألحاسيس ..إلخ.وإ ذا ما أضفنا إلى كل ذلك
حاد ،فإن درامية البناء الفني للنص تغدو ،عندئذ ،أوضح من أن يشار
أن النموذج غالباً مايتصف بتأزم درامي ّ
إليها ،ويغدو التداخل بين الذاتي والموضوعي عاماً في النص كله" .فالشاعر يتحدث عن نفسه عبر الحديث عن
آخر (موضوع) ،وهو يتحدث عن آخر عبر الحديث عن نفسه ،وهو اليخاطب نفسه أو اآلخر ،كالً على حدة ،وإ نما
يخاطبهما معاً ،فنراه يخاطب اآلخر لينبئ نفسه بشيء ما ،ومع ذلك فإن الشيء الذي ينبئ به نفسه يتأتى من اآلخر"
( .)4وبهذا المعنى ،فإن الشاعر في انتاجه للنموذج يختلق شخصية موضوعية ،تكثف موقفه الجمالي ـ الذاتي،
ليدخل معها في حوار يبلورها ويبلور موقفه أيضاً.وقد يسند إليها مايسعى إلى أن يقوله .فتقول قوله ،على أنه
قولها؛ كما قد يسند إليها مايتنافر أو يتناقض وقوله .فتقول ،عندئذ ،نقيض قوله ،على أنه قولها أيضاً .وتبقى هذه
الشخصية ـ أو هذا النموذج ـ هي المعادل الموضوعي للموقف الذاتي النهائي للمبدع ،من هذه الظاهرة أو تلك.
سواء أكان الموقف سلبياً أم كان إيجابياً .مع اإلشارة إلى أن السلبية أو اإليجابية ،هنا ،تبقى نسبية .بمعنى أن
النموذج ليس فكرة أو مقولة يمكن أن نصفها بالصواب أو الخطأ .بل هو كائن فني متعدد األبعاد ومختلف المواقف
والمشاعر .ولهذا كثيراً ما يصعب وصفه باإليجابية أو السلبية المطلقة .وإ ن يكن للمبدع موقفه النهائي منه .فبما
أن للنموذج استقالالً ما عن ذات المبدع ،فمن حقه أن يمتلك اإلمكانية اإليحائية في أن يحيل على موقف تقويمي ال
يتقاطع بالضرورة وتقويم المبدع له .والحق أن هذا شائع في الكثير من النماذج التي طرحها شعر الحداثة .وهو ما
سوف نلحظه في بعض النماذج التي سوف نتعرض لها في هذا المبحث.
نخلص إلى أن سمات النموذج الفني ،في الشعر ،تتحدد بالتعبير عن جوهر الظاهرة المنمذجة تعبيراً مكثفاً مركزاً،
من دون االلتفات إلى ما هو ثانوي أو عرضي أو يومي ،مما قد يش ّكل أساساً من أسس النمذجة في الرواية
والمسرحية؛ ويتحدد بالتعميم المجازي القائم على الطبيعة االنفعالية للعالقة بين الذاتي والموضوعي ،وبدرامية
المحددة ،وبالوحدة العضوية ،وباإليحاء الجمالي المتكثّر؛ كما يتحدد أيضاً
ّ الموقف ،والتنامي في إطار النوعية
بالحسية الصورية التي من دونها ال يكون للنموذج كيان قائم بذاته ،وال يستطيع أن يتكثّر إيحائياً .فمن دون الحسية
مجرد رأي مطروح ،يتطلب المحاورة الذهنية ال المعايشة الجمالية .أومن الالفت للنظر أن
الصورية يغدو النموذج ّ
النقد األدبي الخاص بالشعر الحداثي ،لم يلتفت إلى التنظير للنموذج الفني ،على الرغم من األهمية العظمى التي له،
في هذا الشعر الذي قام في معظم نصوصه على النمذجة .مع العلم أن ذلك النقد قد تناول هذه التقنية ،غير أنه كان
يرى فيها نوعاً من القناع الفني ( ،)5ال نموذجاً فنياً .ونرى أن مصطلح القناع MASKقاصر عن اإلحاطة بهذه
التقنية التي هي نمذجة بكل ما يعنيه المصطلح .إذ إن الفرق بين القناع والنموذج ينهض من أن األول يحيل على
ذات الشاعر المتقنعة ،أما الثاني فيحيل على الظاهرة المنمذجة في عالقتها بذات الشاعر .عالوة على أن القناع
ُيعنى ـ كما هو مطروح نقدياً ـ بالشخصيات التاريخية واألسطورية ،أما النموذج فهو أعم وأشمل .حيث يتناول كل
ملتقى البحرين 82
شخصية ،على اإلطالق ،سواء أكانت تاريخية أم أسطورية أم واقعية أم متخيلة .مع اإلشارة إلى أن التخيل أساسي
في النمذجة الفنية عامة ،حتى لو كان النموذج واقعياً بحتاً.
إن أسلوب النمذجة الفنية هو األسلوب األقدر على استيعاب القيم الجمالية بشكل تجسيدي تخييلي .حيث تبدو القيمة
الجمالية فيه محمولة على شخصية فنية متكاملة؛ كما تدخل هذه القيمة ،من خالل النمذجة ،في تجادل مع القيم
األخرى .مما يعني أن النص القائم على النمذجة يشتمل على عدة قيم في آن معاً .وهذه القيم التتجاور بل تتناقض،
والتتوالى ،بل تتداخل .وهي في ك ّل ذلك التظهر بوصفها آراء جمالية ،وإ نما بوصفها كائنات حية تتفاعل وتتصارع
وتتنامى .ولهذا فإن القيمة الجمالية التي يجسدها النموذج تتطور وتتعمق بحسب حركة النموذج في النص،
تتجسد بالنموذج ،اليمكن فهمها أو
ّ وبحسب تجادله مع األصوات األخرى .ومن ذلك فإن القيمة الجمالية إذ
َّ
ولعل النماذج الروائية أو المسرحية تكون مثاالً حياً على ذلك. استيعابها من دون استيعابه.
إن استيعاب النمذجة للقيم الجمالية اليعني نفسه بقدر مايعني استيعاباً للظواهر واألشياء التي تتناولها التجربة
الشعرية .وإ ذا ماكان الشعر ـ والفن عامة ـ في جانب منه ،تقويماً جمالياً للظواهر واألشياء في عالقتها بالمبدع،
َّ
ولعل النمذجة هي األقدر من بين األساليب فإن ذلك الينفي أن ثمة أسلوباً أقدر من غيره في استيعاب هذا التقويم.
وتعدد في تناول الظاهرة
األخرى ،كالصورة والرمز ،على ذلك االستيعاب ،لما تتسم به من تعميم وشمول وكلية ّ
المقومة .فالصورة الجزئية مثالً تتناول بالتقويم هذا الجانب أو ذاك من الظاهرة ،والتتناول الظاهرة في كليتها؛ على
ّ
وتعدده .مع اإلشارة إلى أن النموذج هو ،بشكل أو بآخر ،صورة فنيةكلية التقويم ّخالف النمذجة التي من سماتها ّ
غير أنها كلية .بمعنى أنه الصورة المتحصلة من النص بمجمله .ولهذا ،فإن النموذج بوصفه صورة كلية ينطوي
على صور جزئية عديدة ،تش ّكل قوامه الجمالي والفني معاً.
لقد طرح شعر الحداثة العربية الكثير من النماذج الفنية التي استوعبت تجربته الجمالية ،في عالقته بالواقع .بحيث
يمكن القول إنه الوجود لظاهرة أو قيمة أو حالة في الواقع العربي المعاصر ،لم يكن ثمة نموذج فني يستوعبها أو
مايسوغ التعدد الهائل
ّ يجسدها .سواء أكان األمر مرتبطاً بما هو اجتماعي أم سياسي أو وجودي أو نفسي ...وهو
في النماذج من جهة ،وفي القيم الجمالية من جهة أخرى .وإ ذا ماكان باإلمكان أن نص ّنف النماذج بحسب القيم التي
تجسدها ،وهي غالباً ما تتمحور حول الجمال والقبح والجالل والبطولية والتفاهة والعذاب والتراجيدية والكوميدية؛
فإن طبيعة الموقف من هذه القيم تتباين وتختلف بحسب التجربة الشعرية الخاصة بهذا الشاعر أو ذاك بل بهذا
النص أو ذاك أيضاً .وإ ذا ماكان باإلمكان أيضاً أن نحدد األنماط العامة التي تنظم هذه النماذج ،فإن ثمة صعوبة في
الزعم أن النماذج يمكن أن تنصاع كلياً لتلك األنماط .فلك ّل نص طريقته في تناول النموذج ،وفي صياغته الشعرية،
وفي إحاالته الجمالية ،وإ ن يكن هذا ال يلغي إمكانية التصنيف العام ،من خالل عدة أنماط شاعت بين النصوص.
ملتقى البحرين 83
ونتوقف عند قصيدة "الصقر" ( )6ألدونيس ،بوصفها مثاالً على هذا النمط .حيث إن النموذج هو المتحدث
األساسي ،على حين أن الراوي ال يتدخل ،في سياق الموقف الدرامي ،إال قليالً ،بما يكفل توضيح هذا الموقف،
وتوضيح معاناة النموذج أيضاً.
بحق .غير
تعالج القصيدة شخصية عبد الرحمن الداخل المعروف بصقر قريش ،والذي تش ّكل حياته سيرة درامية ّ
أن القصيدة إذ تنطلق من هذه الشخصية التاريخية ،تتجاوز السيرة الذاتية لها ،لتطرح شخصية البطل الفرد .بما
يتالءم والمثل األعلى الجمالي للبطولية الفردية التي ينطلق منها شعر أدونيس عامة .ومن ذلك ،فإن نموذج الصقر
البطولي ليس صياغة فنية لشخصية عبد الرحمن الداخل التاريخية .بل هو صياغة للمثل األعلى الجمالي للبطولية
الفردية .وإ ن تكن هذه الصياغة تنهض مما هو تاريخي في سيرة صقر قريش .وتقتضي اإلشارة ،في هذا المجال
إلى أن ك ّل الشخصيات التاريخية واإلسطورية والواقعية التي عالجها شعر الحداثة ،وجعلها نماذج فنية ،قد عولجت
من منظور المثل األعلى للشاعر .بمعنى أن هذا الشاعر لم يكن يتعامل مع تلك الشخصيات بشكل حيادي أو من
تعبر عنها ،في واقعها التاريخي أو األسطوري .ولهذا فإن
منظور مثلها هي ،أو بحسب األيديولوجية التي كانت ّ
البحث عن المشاكلة التامة أو شبه التامة بين الشخصية التاريخية والنموذج الذي يعالجها ،هو بحث الطائل منه(
.)7
تتأسس درامية قصيدة "الصقر" على ثالثة محاور .األول هو الصقر أو النموذج البطولي .والثاني هو السياق
االجتماعي التراجيدي .والثالث هو الجمال الطبيعي ـ المكاني .ومن خالل العالقة الجدلية بين الصقر وك ّل من
السياق والطبيعة ،تتكامل شخصية الصقر ،وتتبلور بطوليته ،وتتكشف له الحقيقة .وهي أن بطوليته الفردية هي
المنقذ األوحد من السياق التراجيدي ،وهي التي سوف تجعله يبني "أندلس األعماق" ( ،)8أو يقيم واقعاً إنسانياً
المبني على الحرية .ومن هنا ،فهو ينتقل من "موت" إلى آخر ،من دون أن يسقط
ّ يتالءم وجوهر الذات اإلنسانية
تراجيدياً ،ومن دون أن يتخلى أو يتراجع عن بطوليته لحظة واحدة:
حوذيه والرياح
ّ جسدي يتدحرج والموت
ملتقى البحرين 84
ومرثيه ()9
ّ جثث تتدلى
وعلى الرغم من هذا السياق التراجيدي ،فإن الصقر يعلو عليه ،رافضاً أن يتحول إلى جثة أو إلى مرثية .إنه ينتمي
مايعمق إحساسه
ّ إلى الحياة ،ويمتلئ بالرغبة فيها .فإنه في برهة الموت ،يتواصل وجالل الفرات ،مستمداً منه
بالحياة وبالبطولية أيضاً:
قريش..
بمعنى أن الجالل في صوت الفرات صادر من جالل قريش .حيث نار المجد التي يتمثلها الصقر ،من أجل إبداع
أندلس األعماق .وكما راح يتمثل تلك النار ،راح يتمثل أيضاً الماء الدافق ،في الفرات:
مدي لي الفرات
ّ
وحين يتشرد الصقر ،ال ينكسر أو يقع في الضياع والتيه ،وإ نما يسعى إلى التعرف إلى كل شيء ،متمثالً إياه في
تبدياته الجميلة .فهو يصغي إلى العقارب ،وهي تصيء ،ويهدي القطا في المجاهل ،ويتوحد باألرض ،ويوشوش
ّ
حتى الحجار ( .)12بكلمة أخرى :لقد عانى الصقر وعاين ك ّل شيء :ذاته ،وتاريخه ،وواقعه ،والوجود من حوله.
وفهم السر الكامن وراء كل ذلك ،مما جعل بطوليته شاملة .سواء أكان ذلك في عالقته بالموت ،أم بالحياة ،أم بحلمه
فتحول الموت وجوداً جديداً،
تبدل في طبيعة األشياءّ ،
الجميل ـ أندلس األعماق .إن بطوليته هي الكيمياء التي ّ
والخوف باعثاً على الحرية:
ملتقى البحرين 85
والفضاء
موقد،
تقص حكاياتها
والرياح عجوز ّ
والصقور
واضح أن هذا النموذج درامي ،من الطراز الرفيع .إذ إنه يتنامى من خالل تجادله مع السياق التراجيدي للواقع،
عمق
ومع الجمال الطبيعي ـ المكاني .فارتباطه الجدلي مع ذلك السياق أوضح فيه سمة البطولية ،وارتباطه بالفرات ّ
وجه هذه البطولية إلى بناء أندلس األعماق .فكل شيء كان ينهض ببلورة
فيه هذه السمة ،وارتباطه باألرض ّ
البطولية في الصقر ،حتى تحول الصقر إلى صقور .مع العلم أن بطولية الصقر كانت واضحة منذ أن كان جسده
يتدحرج والموت حوذيه .بمعنى أن الصقر لم يتحول من نوعية إلى نوعية مغايرة ،على الصعيد الجمالي .بل إنه
تنامى في إطار نوعيته المحددة.
إن نموذج الصقر هو المتحدث األساسي ،في هذا النص .إنه هو الذي يروي ماحدث ويحدث له ،وهو الذي يتقلب
من حال إلى حال ،من دون ُّ
تدخل من الذات الشعرية أو الراوي إال في أواخر النص .حيث توقّف الصقر عن الكالم،
ليتكلم الراوي بدالً منه .ونشير ،هنا ،إلى أن نموذج الصقر كان يروي ما عاناه وما عاينه ،حتى وصل إلى إنجاز
اليصح أن يتحدث الصقر عن انتصاراته وفتوحاته .هذه التي أخذ الراوي على
ّ حلمه ،ليتوقف عن الكالم .وكأنه
عاتقه أن يسردها بتعاطف شديد:
أندلس األعماق
ملتقى البحرين 86
فثمة تناغم ،إذاً ،على الصعيدين الفني والجمالي ،بين النموذج البطولي والراوي .وهو ماجعل الراوي يبادر إلى
الكالم عن فتوحات بطله ،حين رفض هذا الحديث عنها .وهو ماجعله أيضاً يرى أن الوجود كله يترنم ببطله:
إن التناغم الذي نلحظه بين الصقر والراوي ،نلحظه أيضاً بين الصقر والفرات الذي يمكن القول إنه الراوي
التاريخي الذي ُّ
يمد الصقر بأنباء الماضي من بطوالت وانتصارات ومآس .بمعنى أن ثمة ،في النص ،ثالثة رواة.
األول هو النموذج ،وهو المتحدث األساسي في النص .والثاني هو الفرات الذي ينبئ الصقر بما قد حدث ماضياً،
وأما الثالث فهو الذات الشعرية أو الراوي المعلّق .ولقد تكامل هؤالء الرواة من أجل تقديم صورة متكاملة عن
مرت بها .ونشير إلى أن هذا التكامل قد ظهر على النحو التالي:
شخصية الصقر والمواقف الدرامية المتأزمة التي َّ
النموذج يروي مايحدث له اآلن .والفرات يروي للنموذج ما حدث ألجداده القدامى .والراوي المعلّق يروي لنا ما
أنجزه الصقر من فتوحات .ومما يلفت النظر في لغة هؤالء الرواة أنها تتمحور حول الزمن الحاضر ،على الرغم
من اختالف موقع هذا الراوي عن ذاك ،واختالف األزمنة أيضاً .أي أن زمن النص هو الزمن الراهن .والحق أن
يتأزم اآلن ،وجعلت من الصقر يعاني ويعاين وينكسر
راهنية الزمن قد جعلت من الموقف الدرامي يبدو وكأنه ّ
وينتصر اآلن أيضاً .فليس ثمة ماض ،على الرغم من أن هنالك رواية لما هو ماض .إال أن هذه الرواية جاءت بلغة
الحاضر .وكأن النص يقول من خالل ذلك إن كل ما يمكن استحضاره من الماضي هو حاضر بالضرورة .فالماضي
ال يكون ماضياً إذا ما دخل في بنية الراهن .ومن ذلك ،فإن حضور قريش في النص هو حضور الراهن ال حضور
الماضي .وهو ال ُّ
يقل أهمية عن حضور السياق التراجيدي الذي يعانيه الصقر:
" قريش..
تشع من دمشق
لؤلؤة ّ
أرق ما َّ
رق له لبنان ُّ
ملتقى البحرين 87
والشك في أن قصيدة "الصقر" ال يمكن أن تستوعبها هذه اإلشارات التي هدفها دراسة النموذج الفني ال دراسة
القصيدة .ولكن ال بأس من اإلشارة إلى أن الدرامية قد وسمت هذا النص بمجمل مناحيه ،في النموذج ،والبناء،
والصورة ،واللغة القائمة على التناقض ،وفي الرموز الفنية.
أما النمط الثاني ،في تقنية النموذج الفني ،فهو أن يكون الراوي هو المتحدث األوحد ،في النص .أي أن النموذج
ينكشف من خالل رواية الراوي الذي يرصد تحركات نموذجه ،والتأزم الذي يقع فيه ،مثلما يعلن عن موقفه منه.
ويقوم ،بخالف النمط األول الذي ُّ
يحد من فاعليته بالنسبة إلى وهذا النمط يعطي مجاالً أوسع للراوي ،في أن يصف ِّ
النموذج .ونطرح مثاالً على ذلك قصيدة "حالة" ( )17لسعدي يوسف .أما القصيدة فهي:
شيخ في العشرين
َّ
كل مساء ،يغلق شيخ في العشرين
تناول موساه
لقد وصل هذا النموذج إلى االنتحار ،حين اكتشف حقيقة وجوده الذاتي .وهي أنه مجرد مخلوق صغير معذب،
اليملك حتى ممارسة حلمه .لقد افتقد هذا النموذج الحيوية ،في اللحظة التي ينبغي أن يتمتع بها (شيخ في
العشرين) .وبما أنه قد افتقدها نهائياً ،فإن كل محاوالته الشكلية ،من أجل اإلدعاء بها ،هي محاوالت زائفة أساساً.
وذلك كأن يرتدي قميصاً وردياً ـ داللة على الحيوية ـ أو كأن ُّ
يبل شعره بالماء ـ داللة على الحيوية أيضاً.
لقد شاخت روحه ،ولم يعد باإلمكان أن يتجاوز ذلك .مما يجعل االنتحار خاتمة مناسبة ،لشيخوخة دائمة ،في عز
الصبا الذي من المفترض أن يكون هو الذروة في الحيوية.
يحيل هذا النموذج جمالياً على مفهوم المعذب .حيث نلحظ أنه يمتلئ بالتناقضات الروحية واألمراض النفسية (ثالثة
أطفال بدناء) .ونرى أن هؤالء األطفال البدناء ليسوا في الحقيقة سوى طفل واحد بسمات ثالث .أي ليسوا سوى
هذا النموذج المعذب الذي سمته المعلنة هي الحلم بالفقراء ،وثورتهم .غير أنه (اليقرأ حتى نفسه) في عالقته بهذا
(ضيع في مزبلة رأسه) .بمعنى أنه اليمتلك وعياً أصيالً بذاته ،وبحلمه ،وبفقرائه
الحلم .ومن هنا فإنه قد ّ
المتخيلين .إن عدم وعيه هو الذي يؤسس لعذاباته الروحية والنفسية الحادة ،حيث يعيش انتظاراً صعباً ووهمياً
ّ
خبر قيام الثورة من المذياع ـ وربما خبر قيام االنقالب العسكري ـ إنه ينتظر فحسب ،مصغياً إلى أصوات الباكين،
لعلّها تتحول من تلقاء نفسها إلى أصوات لآلتين .أضف إلى كل ذلك أنه ال يقرأ أو يتثقّف إال من أجل أن يبدو مثقفاً،
وليس من أجل أن يعي ما حوله .فهو كلما قرأ شيئاً ،جعل منه كرسياً له ،يتعالى به .أو لنقل :إن إحساسه بفرديته
وانتهاء بنومه وحيداً ،في شقّته.
ً إحساس متعاظم ،ال يكاد يفارقه لحظة واحدة ،بدءاً بتسريح شعره المبلول،
فالفردية ،إذاً ،هي المزبلة التي ضيع فيها هذا النموذج رأسه .وهذه الفردية هي الحاجز الذي ينهض بينه وبين
حلمه ،وبينه وبين الحيوية ،وبينه وبين وعيه األصيل لذاته ولموقعه.
إن درامية الموقف الذي يعانيه هذا النموذج ،تتأتى من التعارض الحاد بين فرديته وحلمه ،وبين الحيوية المفقودة
شف حقيقتها له ،وهذه هي البرهة الدرامية العليا ،في هذا النص .حيث
والرغبة فيها ،وبين تصوره لذاته وتك ّ
ينهض الصراع بين مواصلة الحياه كما هي ،وبين االنتحار المنقذ من العذابات الروحية والنفسية .ومن خالل ذلك،
ملتقى البحرين 89
تنامى النموذج ،وتبلورت مالمحه وسماته .فهو بإحساسه الدائم بالموت (شيخوخته) اندفع إلى خوض تجربة
الموت التي هي آخر تجاربه المؤلمة .وبفعل تناميه ،الحظنا كيف استيقظ في بداية النص على قناعه الشكلي (أناقته
الشكلية) ،في حين أنه استيقظ في نهايته ،على ذاته الحقيقية غير المزيفة أو المقنعة .مع العلم أن ذاته واحدة ،في
الحالتين ،فقد كان في البداية عاجزاً عن مواجهة قناعه؛ وفي النهاية كان عاجزاً أيضاً عن مواجهة ذاته الحقيقية.
وبهذا فهو لم يتطور نوعياً ،بل تنامى وعيه لذاته.
إن هذا الشيخ الذي في العشرين لم ير الحقيقة سوى برهة واحدة ،وهي برهة استيقاظه منتحراً .وماتبقّى من
خيل إليه أن أصوات اآلتين راحت تنسرب
حياته ،فممتلئ بالوهم والزيف .حتى في برهة انسراب الدم من عروقهٍّ ،
من المذياع ،فراح ينصت إليها متخيالً أن حلمه يتحقق؛ تماماً كما كان ينصت إلى أصوات الباكين متخيالً أنها سوف
تتحول بما يتالءم وإ نجاز حلمه.
نلحظ أن هذا النموذج مبني بشكل درامي داخلي .فصراعاته في داخله أكثر منها في الخارج ،وإ شكاليته ذاتية في
الدرجة األولى .ولع ّل هذا ماجعل العالم الخارجي باهتاً في النص .صحيح أن االستالب وانتفاء العدالة اإلجتماعية،
وشيوع القبح في العالم الخارجي ،هي التي انعكست سلبياً في ذات النموذج .غير أنه ،بما يعانيه من إشكاالت
روحية ونفسية ،عجز عن أن يكون فاعالً ال منفعالً .لقد عجز عن المواجهة فانكفأ إلى ذاته التي مااستطاع أن
يواجه حقيقتها أيضاً.
وعلى الرغم من أن الدرامية في هذا النموذج هي درامية داخلية ،إال أنها تنطوي على تأزم حاد جداً ،تأزم ظهر في
العزلة التي يعانيها النموذج (ينام وحيداً) ،كما ظهر في استيقاظه منتحراً .وعلى الرغم من السردية التي اتصف بها
النص ،غير أنها لم تَ ِ
ض ْع في األمور الثانوية الجانبية .فحتى اإلشارة إلى حذاء هذا الشيخ المعذب على أنه ذو "كعب
عال" هي إشارة إلى ما هو جوهري في ذات النموذج .إذ إنها تحيل على سمة التعالي فيه على كل ماهو حقيقي.
فحذاؤه ذو كعب عال ،مثلما أنه يصنع من قراءاته كرسياً له .أي أن ثقافته ذات كعب عال أيضاً .وهو مايؤكد أن
ثمة وحدة عضوية في هذا النموذج .فكل السمات والمالمح المطروحة تتكامل منتجة نموذجاً ذا نسق جمالي ،يتسم
بالوحدة العضوية .فليس ثمة تنافر أو نشاز في بنيته الفنية ،وفي مضمونه القيمي ،وفي إحاالته الجمالية.
كما نلحظ أن الراوي هو المتحدث األوحد ،في هذا النص .فقد تعرفنا إلى النموذج من خالل الراوي ،المن خالله
هو ،ولكن إذا ماتساءلنا عن هوية الراوي ،وعن موقعه من النموذج ،فإننا لن نجد جواباً دقيقاً في النص .وكل
تبدى هذا الموقف ببعض التعبيرات الشعرية من مثل (شيخ في
ماهنالك أن للراوي موقفاً مسبقاً من النموذج .وقد ّ
العشرين) ،و(ثالثة أطفال بدناء) و(ضيع في مزبلة رأسه) .حيث إن في هذا التعبيرات موقفاً تقويمياً واضحاً ،يمكن
أن نفهم منه أن الراوي على تناقض مع النموذج ،ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن الراوي يعرف كل شيء عن
نموذجه .وك ّل من هذه المعرفة وذلك التناقض ،يتيح له أن يتخذ هذا الموقف الذي يبدو سلبياً بشكل عام .غير أن
هذه السلبية التمنع أن يكون ثمة تعاطف ما ،بين الراوي والنموذج .فالراوي ،وإ ن اتخذ ذلك الموقف ،يتعاطف مع
الحالة اإلنسانية التي يعانيها النموذج ،والسيما حين وصل هذا إلى لحظة االنتحار ،فبدت لغة الراوي محزونة
ملتقى البحرين 90
منكسرة .ويكفي توكيداً لتعاطف الراوي مع النموذج أن هذا النموذج يحيل جمالياً على المعذب ،واليحيل مثالً على
نقوم المعذب بمعزل عن مشاعر األسى والحزن،
القبيح أو الكوميدي أو التافه .إذ من المعلوم أننا النستطيع أن ّ
النقومه بمعزل اللوم والنقد .وهو مابدا بوضوح ،في موقف الراوي من النموذج ،في هذا النص.
ولكن أيضاً ّ
إن مالمسناه في قصيدة "الصقر" نلمسه في هذه القصيدة ،من حيث هيمنة الزمن الحاضر ،مع اختالف هام ،وهو أن
هذه القصيدة إذ تطرح النموذج وهو يتنامى في الزمن الراهن تنقلب في نهايتها لتطرحه من خالل الزمن الماضي.
بمعنى أن النص ابتدأ بالراهن وانتهى بالماضي .وهو ماجعل من حركة النص حركة مرتدة إلى الوراء فقد كان
حز ،أدار،
النموذج (يستيقظ ،يمشط ،يدير ،ينصت ،يختار ،يقرأ ،ينهض ،يصنع) ،وأصبح فيما بعد (استيقظ ،تناولّ ،
أنصت) .وهو ما يتالءم وحركة النموذج الدرامية من معاناة الحياة إلى الدخول في الموت ،من الوجود إلى العدم.
وإ ذا كان هذا الراوي فرداً ،ال نعرف موقعه تماماً من النموذج ،وإ ن يكن يحيل على ذات الشاعر؛ فإن ثمة نصوصاً
تطرح رواة واضحين من حيث الهوية والموقع ،كما أن ثمة نصوصاً ال تطرح الراوي الفرد ،وإ نما الراوي ـ
المجموعة أو الكورس الذي يحيل غالباً على الذات االجتماعية .ونشير إلى أن الراوي الكورس يبدو أكثر
تفسر المجموعة
موضوعية من الراوي الفرد ،ألن السرد يكون عندئذ صادراً من مجموعة ،ال من فرد .وغالباً ما ّ
هويتها وطبيعتها وموقعها من النموذج ،في أثناء السرد الشعري .وإ ذا ما استخدمنا ،هنا ،مصطلح السرد
، NARRATIVEوهو مصطلح خاص بالنصوص السردية ال الشعرية ،فإننا ال نقصد به أن ثمة أسلوباً سردياً
في النص الشعري الدرامي ،إذ إن لألسلوب السردي طبيعته وخصائصه وشروطه؛ وإ نما نقصد به أن الراوي
يعرض بشكل شعري مكثف حالة نموذجه والموقف الدرامي الذي يدخل فيه .أي أن السرد الشعري ال ينبغي أن يبدو
قصصياً .وإ ن حدث هذا ،فإنه يعني االنحراف عن الشعرية .POETICSوالحق أن بعض النصوص الحداثية
وقعت في مثل ذلك .حيث انقلب السرد الشعري إلى سرد قصصي ،وتحولت اللغة الشعرية االنفعالية المكثفة ،إلى
لغة نثرية عادية أو حيادية.
ومثاالً على الراوي الكورس الذي يحيل على الذات االجتماعية ،نتوقف عند قصيدة "شهريار الزمن األخير" ()18
لمحمد عمران ،التي تعالج شخصية شهريار الخيالية.
تنقسم هذه القصيدة إلى نصين اثنين :األول بعنوان "شهريار والمرايا" والثاني بعنوان "مذكرات شهريار الملك".
نصان مستقالن عن بعضهما بنيوياً .وقد ُكتبا في فترتين مختلفين ،وال يجمع بينهما إال الحديث عن شخصية
وهما ّ
شهريار .وعلى الرغم من أن الحديث عنه متسق في النصين ،إال أننا سوف نتوقف عند النص األول الذي يقوم
على الراوي الكورس .أما النص الثاني فيقوم على النمط األول من تقنية النموذج الفني ،حيث النموذج هو
المتحدث األساسي ،على حين أن للراوي فيه دوراً ثانوياً.
ملتقى البحرين 91
وشهريار
وشهريار
وشهريار
وشهريار
وألنه على هذا النحو من الصفات الالإنسانية ،فمن البدهي أن يكون الدم لذّته األولى .إنه يلت ّذ بالدماء ،مثلما يلتذ
بالموائد العامرة واألجساد العارية .بل يمكن القول إنه اليلت ّذ بالجنس والطعام ،إذا لم يكن قصره مشبعاً بالدماء:
"ياشهريار
واضح أن شهريار ،في هذا النص ،هو نموذج للقبح والفظاعة ،البالمعنى السياسي فحسب .بل بالمعنى اإلنساني
عامة .وألن هذا النموذج مرهون بعالقته باآلخرين الذين هم مادة استالبه ،فلم يكن ٌّ
بد من أن يكون اآلخرون هم
الراوي .أي أن هذا النموذج يتوضح وتتكامل صفاته ،من خالل سرد الراوي ـ الكورس الذي اليخفي موقفه منه؛
ألن هذا الراوي اليسرد ،في الحقيقة ،سوى المعاناة التراجيدية التي يعانيها تحت هيمنة شهريار .بمعنى أن سرد
الراوي ذو منحيين :المنحى األول هو تبيان المعاناة االجتماعية التراجيدية التي يعانيها ،والمنحى الثاني هو تبيان
حول الجماعة إلى صدى له ،وإ لى
األساس الذي يقف وراء هذه المعاناة ،ويكمن في وجود شهريار الديكتاتور الذي ّ
مرايا ألفعاله:
جرفنا مع الموج.
يرن،
هذا مدانا السحيق ُّ
إن كون الجماعة هي الصدى والمرايا ،يعني أن هذه الجماعة ال تسرد إال ما حدث فعالً لكنها تسرده من خالل
المدعي المظلوم في الوقت نفسه .ومن ذلك فإن موقع الراوي ،من
انعكاسه فيها (مرايا) ،فهي الشاهد العدل ،وهي ّ
النموذج واضح تمام الوضوح ،وكذا هي الحال في طبيعته وهويته .إنه "الرعية" المسبية التي أراد لها شهريار أن
تكون خرساء ،أو مجرد" ،صدى" فحسب.
لقد قام هذا النص ،إذاً ،على الراوي ـ الكورس بوصفه المتحدث األوحد .مما يعني أن كل التقويمات التي طرحها
الراوي ،ينبغي أن نفهمها على أنها موقف الراوي من النموذج ،ال على أنها رأي النموذج بنفسه .فال شك في أن
للنموذج رأياً مختلفاً إال أن الراوي ال ُيعنى بذلك الرأي ،مهما تكن مسوغاته .والسبب يكمن في أن القتيل لن ُيعنى،
بحال من األحوال ،بمسوغات قاتله.
ملتقى البحرين 93
إن كون الراوي ـ الكورس هو المتحدث ،قد جعل النص ينحاز إلى صف الجماعة المقموعة المستلبة ،كما جعله
يهاجم االستالب والقمع من خالل هذا النموذج .وفي هذا يبرز الموقف االجتماعي ـ الجمالي للذات الشعرية التي
غابت فنياً عن النص ،وحضرت جمالياً .بمعنى أن الذات الشعرية قد طرحت كل ما تعانيه وتريده ،من خالل الراوي
ـ الكورس .فثمة موضعة للذاتي من خالل الراوي ،بحيث يبدو أن ال عالقة للذات الشعرية بالراوي ،والنص عامة.
غير أن واقع الحال أن الراوي ال يحيل على الذات االجتماعية ،إال من خالل الذات الشعرية التي تعاني ما تعانيه تلك
يسر موضعة الذات بالراوي ،في هذا النص.
الذات .وهو ما ّ
أما النمط الثالث ،في تقنية النموذج الفني ،فيقوم على أن الراوي هو المتحدث األساسي ،والنموذج هو المتحدث
الثانوي .أي أن هذا النمط عكس النمط األول الذي يكون فيه حديث النموذج أساسياً ،وحديث الراوي ثانوياً.
ويتفق هذان النمطان في سمة التناغم الفني ـ الالجمالي بالضرورة ـ بين الراوي والنموذج من أجل تقديم صورة
متكاملة عن الموقف الدرامي الذي يعانيه النموذج .ويختلفان في أن النمط األول يعطي للنموذج الحق األكبر في
قول مايريد .مما يعني أن النص هو في معظمه صوت النموذج جمالياً وأيديولوجياً .أما النمط اآلخر فإنه يعطي
الحق للراوي الذي يهيمن صوته جمالياً وأيديولوجياً على النص .والحقيقة أن هذا االختالف أساسي ،الثانوي.
فعلى حين أنه مطلوب منا أن نتفاعل ،في النمط األول ،مع النموذج؛ فإنه مطلوب منا ،في النمط اآلخر ،أن نتفاعل
مع الراوي ونصغي إليه ،ونندمج فيه أحياناً.
إن اختالف دور الراوي والنموذج ،في هذه التقنية ،اليعني نفسه بقدر مايعني اختالف المنظور الجمالي
واأليديولوجي اللذين ينطلق منهما النص ،ويسعى إلى طرحهما .فحين يكون النموذج هو المتحدث األساسي ،فإن
النص يكون تعبيراً أساسياً عن منظور النموذج .وحين يكون الراوي هو المتحدث األوحد ،فإن منظوره هو األوحد
في النص .أما حين يكون الراوي هو المتحدث األساسي ،فإن منظوره يكون هو األساسي أيضاً ،في النص .وذلك
بصرف النظر عن إمكانية أن يكون ثمة تناغم جمالي ـ وأيديولوجي أيضاً ـ بين الراوي والنموذج في هذا النص أو
ذاك .مع اإلشارة إلى أن هذا التناغم يفرض رؤيا موحَّدة بالضرورة .حيث اليكون هنالك اختالف جمالي أو
أيديولوجي بينهما .أما في حالة عدم التناغم ،أو في حالة التناقض واالختالف ،فإن النص غالباً مايطرح نسقين
مختلفين من الرؤيا :نسق الراوي ،ونسق النموذج .وإ ن يكن النص اليمكن إال أن ينحاز إلى رؤيا بعينها ،في نهاية
المطاف.
ومثاالً على النمط الثالث ،نتوقف عند قصيدة "قصة األميرة والفتى الذي يكلم المساء" ( )22ألحمد عبد المعطي
حجازي .حيث نلحظ أن الراوي قد أخذ معظم السرد الشعري ،وحتى صوت النموذج غالباً مايأتي محموالً على
صوت الراوي .وثمة صوت آخر يأتي أيضاً محموالً على صوت الراوي .وهو صوت األميرة التي هي أحد أسس
الموقف الدرامي ،في هذا النص.
ملتقى البحرين 94
ونشير في البداية إلى أن الراوي يرى في نموذجه " الفتى" تعبيراً عن مفهوم المعذب؛ ولهذا فإن مشاعر األسى
والحزن واللوم واضحة في سرده ،لما يجري مع نموذجه .غير أننا نرى أن هذا النموذج أميل إلى أن يكون
كوميدياً ،من نمط دون كيشوت ،منه إلى أن يكون معذباً .ويكمن السبب في ذلك ،أن هذا النموذج يقع في تناقض
حياتي حاد حيث الوسيلة التي تقصر عن إنجاز الغاية ،وحيث التوهم الذي يبعد الغاية عن اإلنجاز؛ تماماً مثلما حدث
مع دون كيشوت الذي كانت غاياته نبيلة ورائعة ،في حين كانت وسيلته التتالءم ومايسعى إلى إنجازه ،عالوة على
التوهم الذي سببه غاياته ،وقصور وعيه الواقعي .وفي ذلك إشكاليته الكوميدية.
اليملك الرغيف()24
لقد كان لهذا اإلعالن وقعه اإليجابي المباشر ،على الفتى الذي كان يتكلم مع المساء عن أحزانه وأحالمه بعالم
جميل ،قوامه الحب والسعادة .وألن وقع ذلك اإلعالن كان إيجابياً عليه ،فقد اندفع إلى عشق األميرة التي بدت منقذة
له مما هو فيه من معاناة ،وراح يكيل لها المدائح والعواطف .ولكن:
إلى أمير"
َّ
وانسد في السكون باب ()25
"الصبح في الطريق
خديه الدموع
وعندما يمشون تمشي فوق ّ
وألنه لم يكن واثقاً من حتمية الضياء ،فقد توهم أن األميرة يمكن أن تنهض بما عجز هو عن الوثوق بحتميته .إذ
األميرة" جوهرة نادرة في تاج عصرنا"(.)27
لقد كان هذا الفتى ـ النموذج يرى أن ذروة السعادة اإلنسانية تكمن في أن يملك المرء الماس والحرير والآللئ.ـ وهو
يحس بضآلته وتفاهته بسبب فقره ،أمام
لم يكن يحلم برغيف واحد ،إال أنه اليملك الرغيف .وعالوة على ذلك فهو ّ
تلك األميرة الشرقية التي تهوى الغناء ،تهواه التحترفه( .)28أما حين يجد نفسه أمام الفقراء فاليحس باالنتماء
إليهم ،على الرغم من كونه واحداً منهم ،بل يحس بالشفقة على وضعهم .مما يجعله يدعي أن الضياء سوف يأتي
يموه الحقيقة .فالضياء لن يأتي بعد عام .وألنه يعرف هذا فقد سارع إلى إنقاذ نفسه ،ولكن من
بعد عام .أي أنه ّ
يتوضح أن حلمه برغيف واحد ،وطفلة ضحوك ،لمّ مدع صغير .وبهذادون جدوى .فاألميرة بحاجة إلى أمير ال إلى ّ
يكن في أساسه إال حلماً بالماس والحرير ،وباألميرة الشرقية .فثمة إذاً ،تناقض حاد بين مايبطنه وما يعلنه ،بين
حلمه الفردي وادعائه بالحلم الجماعي ،بين رغبته وواقعه ،بين غاياته ووسائله .وهذا التناقض اليحيل على
التراجيدي أو على المعذب كما أوحى إلينا الراوي .وإ نما يحيل على الكوميدي على الرغم من عذاباته .بل إن هذه
العذابات ذات طبيعة كوميدية ،في المقام األول .إذ إن بعضها صادر من عشقه الواهم ألميرته الشرقية التي تهوى
الغناء ،تهواه ال تحترفه .والحقيقة أن هذا الفتى لم يكن أيضاً يحترف الغناء ـ أو الحلم الجماعي ـ بل كان يهواه
مسوغاً مثل موقف األميرة .إنه شخصية موهومة منفعلة .ولم
فحسب .غير أنه لم يكن أميراً ،حتى يبدو موقفه ّ
ملتقى البحرين 96
يكن فاعالً في أي سلوك أو موقف قام به .سواء أكان ذلك مرتبطاً بالرغيف ـ الحرير ،أم بالطفلة ـ األميرة ،أم بدموع
الفارين من وجه الظالم ،أم بمخاوفه وهواجسه ،أم بتصريح األميرة ،أم بطرده من قصره ـ الحلم ،حتى وصل إلى
نهايته المحتومة:
وهكذا ،فإن الفتى ـ النموذج راح يتنامى ،من خالل تناقضاته التي كانت أساس الموقف الدرامي ،في هذا النص.
وتكمن ذروة ذلك الموقف في طرد الفتى من القصر الذي هو ،في الحقيقة ،حلمه وغايته .بمعنى أن هذا النموذج
راح يتكامل ذاتياً ،في سماته النوعية المحددة ،حتى لحظة سقوط الكوميدي.
وضح تلك السمات ،وذلك السقوط .أما الراوي ،فهو الذات الشعرية
ولقد كان الراوي هو المتحدث األساسي الذي ّ
التي على صلة ما بالنموذج ،تتيح لها أن تعرض وتسرد .حيث إنها كانت تشهد تناقضاته وتناميه ،مثلما شهدت
سقوطه.
ونلحظ أن الراوي هو محور السرد الشعري ،في هذا النص ،على حين كان النموذج هو محور الموقف الدرامي،
يقوم النموذج تقويماً جمالياً مباشراً،
عالوة على دوره الثانوي في القول .وعلى الرغم من أن الراوي حاول أالّ ّ
غير أن أسلوبه في العرض والسرد ،وفي طبيعة الصور الفنية المستخدمة ،انطوى على ذلك التقويم الذي ينهض
من مشاعر األسى والحزن أوالً :
أعرفها ،وأعرفه
أما بالنسبة إلى األميرة التي تش ّكل أحد محاور هذا النص ،فلوال وجودها ،لما كان باإلمكان الحديث عن تأزم درامي،
في هذا النموذج .وكأن األميرة هي العامل الدرامي الذي جعل من النموذج يتأزم ويتنامى ويسقط .مع اإلشارة إلى
أن األميرة هي الصوت الذي يحاوره صوت النموذج بشكل حوار خارجي (ديالوج)،ـ مثلما كان يحاور صوت المساء
ملتقى البحرين 97
بشكل حوار داخلي (مونولوج) .إال أن حواره مع المساء أكثر شعرية من حواره مع األميرة .حيث بدا نثرياً في
الكثير منه.
تلك هي األنماط الثالثة التي يمكن أن تستوعب تقنية النموذج الفني ،في شعر الحداثة ،من دون أن يعني ذلك أن
الوجود ألنماط أخرى ،وإ ن تكن أقل أهمية وشيوعاً في ذلك الشعر.
ولكن البد من القول ،في هذا المجال ،إن هذه التقنية التفرض حجماً محدداً للنص الشعري .فقد يكون النص مجرد
مقطع قصير جداً ،وقد يكون قصيدة عادية الحجم ،كما قد يشغل ديواناً بكامله .ومن البدهي أن ذلك يعود إلى طبيعة
الموقف الدرامي الذي يطرحه النص .فكلما اتسع النص اتسع بالضرورة الموقف الدرامي ،واتسعت أيضاً حركة
النموذج ،وتعددت جوانبه ،وتعمقت سماته .غير أن ذلك لن يضيف شيئاً إلى هذه التقنية ،وإ نما إضافته تتمحور
وخلفيته ،وإ شكاالته وأطروحاته الجمالية واأليديولوجية .والبأس من التمثيل على النص ـ
ّ حول طبيعة النموذج
المقطع الذي يقوم على هذه التقنية بنمطها الثالث ،حيث الراوي هو المتحدث األساسي.
ودع أهله
عندما ّ
ولفيف الرفقاء
...
وشده
أوصد الباب بيسراه ّ
ملتقى البحرين 98
...
والرصاصات عالمه
إن درامية هذا النص تنهض أساساً من المفارقة بين ماكان عليه النموذج ،في البداية ،وبين ماصار إليه ،في
النهاية .فمن النبض بالحيوية واإلشراق ،إلى النبض بالدم والموت .غير أن هذه المفارقة لم تأت بشكل مفاجئ .بل
جاءت بشكل متنام .إذ إن النموذج كان يخاف الغدر ،ويتوقع أن يحدث في كل لحظة .ولكن قسوة المفارقة تكمن في
ودع أهله ورفقاءه ،وهو يحمل بيمناه وردة ،ولكنه حين عاد ،عاد محموالً على تابوت أو عاد تابوتاً.
أن النموذج قد ّ
لن نطيل الوقوف ،عند هذا النص ،إذ إن ماسلف من حديث عن النصوص السابقة قد يضيء الموقف الدرامي فيه،
مثلما يضيء عالقة الراوي بالنموذج ،ونتوقف أخيراً عند أحد النصوص التي لم تنجح في صوغ نموذج منسجم فنياً
فالبد من وجود االنسجام في شخصية
ّ وجمالياً؛ لتبيان أن هذه التقنية ليست مجرد جمع اعتباطي لبعض السمات.
النموذج ،وفي تمثيله لما ينمذجه .والحق أن االنسجام الفني هو أحد شروط القيمة الجمالية للفن عامة ،ال للنموذج
فحسب .على أن ال نفهم االنسجام فهماً شكلياً .بل على أنه المنطلق الداخلي المتوازن والمتكامل ،للعمل الفني (
.)32
أما النص الذي سوف نتوقف عنده ،فهو قصيدة "كلمات سبارتكوس األخيرة" ( )33ألمل دنقل .مع اإلشارة إلى أن
دنقل قد أنتج الكثير من النماذج المنسجمة المتكاملة فنياً وجمالياً .والوقوف عند هذا النص ،اليعني أن دنقل اليجيد
تقنية النمذجة ،بل شأنه شأن شعراء الحداثة الذين أخفقوا حيناً ،ونجحوا حيناً ،في هذه التقنية.
يظهر سبارتكوس في المقطع األول من النص ،مثالً أعلى في البطولية الجماعية .حيث يعلن الرفض المطلق ،لك ّل
أشكال االستالب والقمع واليأس والعبثية .فيقول:
فقبلوا زوجاتكم
ّ
فعلّموه االنحناء،
تحوالً ،في سبارتكوس ،من البطولية إلى التراجيدية .غير أن األمر ليس على هذا النحو .فالبطولي
قد يبدو أن ثمة ّ
اليتحول بسقوطه التراجيدي ،إلى شخصية ضئيلة تافهة وإ نما يتحول إلى بطل تراجيدي ،نتعاطف معه ،ونشفق
سببت له السقوط؛ وألننا أيضاً نفتقد بسقوطه ماهو
عليه من السقوط؛ ألنه يدعونا إلى تجاوز ماوقع فيه من خطيئة ّ
قيم اجتماعياً .أما سبارتكوس ـ النموذج فهو بطولي في البداية ،قبيح تافه ،في النهاية .وهو الذي لم يحن جبهته
ّ
حياً ،يطالب بشيوع االنحناء ،ويفلسفه إيجابياً ،حين وصل إلى المشنقة.
إن دنقل لم يتخذ موقفاً محدداً من نموذجه ،ولهذا ،فقد وقع نموذجه في التناقض الجمالي والبنائي واإليحائي ،في
ومايوضح ذلك هو البنية الفنية للنص ،التي تتألف من أربعة مقاطع مستقلة شعورياً ،فيما بينها ،تمام
ّ الوقت نفسه.
االستقالل .ففي المقطع األول نجد النموذج بطولياً ،يعلن رفضه للقبح والتفاهة .وفي المقطع الثاني ،نجده يطرح
رؤياه التي تؤكد استفحال القبح في الواقع ،وأن الناس جميعاً معلّقون "على مشانق القيصر"( .)36وبما أن
مر" فإن النموذج يدعو الناس إلى أن يرفعوا رؤوسهم عالياً .وبعد ذلك مباشرة ـ أي المقطع الثاني نفسه ـ
"االنحناء ٌّ
نتفاجأ بالنموذج البطولي وهو يقول:
مر
فاالنحناء ٌّ
فعلّموه االنحناء
إن هذا االنتقال المفاجئ ،من الرفض المطلق لالنحناء ،إلى الدعوة إلى االنصياع له ،هرباً من الموت ،اليجد ،في
مايسوغه شعورياً وفنياً .فكيف إذا كان الذي يدعو إلى االنحناء هو البطولي سبارتكوس الذي لم يحن
ّ النص،
حي؟
جبهته ،وهو ّ
ثم يرجوه أن يرحم الشجر والجذوع من القطع والبتر ،بما أنه يسعى إلى شنق الجميع .أي لقد تاب البطولي عن
بطوليته ،وبات واحداً من الداعين إلى شيوع الثقافة القمعية التي يفرزها القيصر .وهي االنحناء ،وإ ن يكن بشكل
مر بنا سابقاً.
ساخر وتلك هي الحال ،في المقطع الرابع الذي َّ
إن هذه التناقضات التي اتصف بها النموذج قد أفقدته االيحاء الجمالي المنسجم ،مثلما أفقدته الوحدة العضوية.
ومن ذلك ،فإنه الينمذج شيئاً ،ألنه ليس سوى أمشاج سمات ومواقف متناقضة ومتباينة.
ونعتقد أن دنقل قد سعى إلى أن يصور شخصية تراجيدية ،من حيث األساس؛ ولكنه لم ينجح في ذلك ،حين جعل
نموذجه ينقلب رأساً على عقب ،جمالياً وأيديولوجياً ،من دون تسويغ هذا االنقالب فنياً.
ويبقى أن نقول إن النموذج الفني ،في شعر الحداثة ،قد أسهم إسهاماً فعاالً في توكيد سمة الدرامية في الوعي
الجمالي الحداثي ،مثلما أسهم في توسيع دائرة المساحة االجتماعية التي يعالجها الشاعر ،وفي الميل إلى
الموضوعية في فهم العالم شعرياً .وهو مالم يكن موجوداً ،على هذا النحو ،في الشعر العربي الكالسيكي والتقليدي
المعاصر.
الــهوامــــش:
1ـ اليوسف ،يوسف سامي :الشعر العربي المعاصر .اتحاد الكتاب العرب ،دمشق .1980 ،ص 101 :ـ 122
ملتقى البحرين 101
2ـ خرابتشينكو :اإلبداع الفني والواقع اإلنساني .تر :شوكت يوسف .وزارة الثقافة ،دمشق .1983 ،را :ص:
.305
3ـ النغيوم ،روبرت :شعر التجربة .تر :علي كنعان وعبد الكريم ناصيف .وزارة الثقافة ،دمشق .1983 ،ص:
.79
5ـ راجع في ذلك :عباس .د .إحسان :اتجاهات الشعر العربي المعاصر .سلسلة عالم المعرفة ،العدد ،2:الكويت
.1978ص 154 :ـ .155
6ـ أدونيس :اآلثارالكاملة ،م .2:دار العودة ،بيروت .1971 ،ص 27 :ـ .42
7ـ هذا ماينهض به الفصل الثاني من كتاب محي الدين صبحي :الرؤيا في شعر البياتي .اتحاد الكتاب العرب ،دمشق
.1986
17ـ يوسف ،سعدي :األعمال الشعرية ( 1952ـ .)1977دار الفارابي ،بيروت .1979 ،ص.100 :
18ـ عمران ،محمد :أغان على جدار جليدي .وزارة الثقافة ،دمشق .1968 ،ص 69:ـ .81
ملتقى البحرين 102
22ـ حجازي ،أحمد عبد المعطي :ديوانه .دار العودة ،بيروت .1973 ،ص 134 :ـ .142
31ـ خضور ،فايز :ديوانه ،م .1 :دار األدهم ،ط .1 :د/تا .ص.394 :
32ـ جماعة من األساتذة السوفييت :أسس علم الجمال الماركسي ـ اللينيني ،جـ .2تر :د .فؤاد المرعي .دار
الجماهير ودار الفارابي ،دمشق ،بيروت ،ط .1978 ،2:را :ص.64 :
33ـ دنقل ،أمل :األعمال الشعرية الكاملة .دار العودة ،بيروت ،ط .1985 .2 :ص 110 :ـ .116
* ـ لعله من الضروري أن نشير إلى أن استخدامنا لمصطلح النموذج الفني اليعني أننا نقول بما كانت الواقعية
االشتراكية تقوله بضرورة أن تكون النماذج تمثيالً للطبقات أو الشرائح االجتماعية .بل إننا نرى أن النموذج
اليمكنه ذلك إطالقاً .وإ نما نرى أن النموذج هو تمثيل موضوعي لموقف المبدع من بعض الظواهر النفسية أو
الروحية أو االجتماعية .فهو بهذا المعنى بلورة جمالية موضوعية للموقف الذاتي.
تأسيس نظري:
على الرغم من أن لأليديولوجيا(*) .نسقاً مختلفاً عن الشعر ،والفن عامة ،إال أن بينهما من االرتباط ما ال يمكن
إغفاله أو تجاوزه .والينهض ذلك من أن الشعر موقف جمالي من الواقع فحسب .بل ينهض أيضاً من أنه خطاب
DISCOURSEيتوسط بين المرسل والمتلقي اللذين لكل منهما موقعه ومنظوره .بمعنى أن الشعر بوصفه
موقفاً وخطاباً جماليين ،ينطوي بالضرورة على خطاب أيديولوجي ما .ومن ذلك ،فإن الشعر يتحدد أيديولوجياً،
مثلما يتحدد لغوياً وذاتياً ( .)1غير أن تحديده األيديولوجي اليؤدي به إلى أن يتحول إلى أيديولوجية .وإ ذا
ماحصل ذلك ،فإن انتفاء الشعري POETICعن النص الذي من المفترض أن يكون شعرياً ،يغدو أمراً محتوماً
أو شبه محتوم.
ولعلنا النبالغ إذا ماذهبنا إلى أن النثرية في الشعر هي حصان طروادة الذي غالباً ماتستخدمه األيديولوجيا في
محاولتها الهيمنة على الشعر ،من أجل توظيفه في صراعها االجتماعي ،غير أنها إذ تفعل ذلك ،تجعل من طروادة
أثراً بعد عين.
إننا نريد أن نؤكد ،من وراء هذا ،أن تحويل الشعر إلى أيديولوجية لن يقود إال إلى نفي الشعر وإ ثبات
األيديولوجية .ومع ذلك ،فإن للخطاب الشعري بعداً أيديولوجياً يتبدى على عدة مستويات من النص ،وعلى عدة
مستويات من التلقي .وإ ذا كان من الصعوبة بمكان أن ندرس مستويات التلقي ،الرتباطها بعملية القراءة ذات
تيسراً،
الطبيعة الفردية .وإ ن يكن باإلمكان تصنيفها بأنماط اجتماعية عامة ،فإن دراسة مستويات النص أمر أكثر ّ
الرتباطها بالنص البالمتلقي .ولكن قبل الشروع بهذه الدراسة ،البد من الوقوف عند طبيعة التجربة الجمالية،
والشكل الذي تتخذه في الشعر ،لما لذلك من أهمية في تبيان نمط العالقة بين الخطاب الشعري واأليديولوجية.
تتصف التجربة الجمالية عامة بثالث صفات أساسية وهي الحسية واالنفعالية والالنفعية حيث إنها تشكل قوام
ملتقى البحرين 104
أما الحسية فتحيل على أن كل ماهو محسوس يمكن أن يكون مادة للتجربة ،كما تحيل على أن المعنوي أو المجرد
غير قابل ألن يكون مادة لها ،من حيث المبدأ .أو كما يقول تشيرنيشفسكي "غير المحسوس غير موجود بالنسبة
إلى اإلحساس بالجمال"( .)2إذ إن هذه التجربة تتناول الظواهر واألشياء ،والتتناول األفكار والمعاني والمفاهيم.
يغيب بالضرورة هذه التجربة .فقد تقوم على التصور أو االستحضار
ولكن هذا اليؤدي إلى أن غياب المحسوسات ّ
الذهني ،والسيما في عملية اإلبداع .حيث نلحظ غياب المحسوسات وحضور آثارها وتحريضاتها وتقويماتها ،مما
كونه المبدع من تجاربه الجمالية ـ الحياتية السابقة .وكأن عملية اإلبداع تأتي تتويجاً لمجمل التجارب التي
ّ
اختزنتها الذات المبدعة .أما مايبدو على هذه العملية من أنه تجربة ذاتية روحية داخلية ،فليس في حقيقته سوى
تم اختزانه من تحريضات حسية وتقويمات جمالية من قبل .وبهذا المعنى ،فإن المحسوس،
معايشة انفعالية لما ّ
حاضراً كان أو غائباً ،هو مادة العملية اإلبداعية التي هي أرقى أشكال التجربة الجمالية ،وذلك أنها تجربة منتجة،
المستهلكة فقط.
أما صفة االنفعالية ،فتحيل على أن هذه التجربة تنهض أساساً مما هو تأثري عاطفي ،المما هو ذهني منطقي .أي
أن الذات ،في هذه التجربة ،تتأثر وتنفعل وتتفاعل ،والتتلقى موضوعها من منظور المحاكمة المنطقية أو العلمية
أو األخالقيةأو السياسية .غير أن انفعالها أو تفاعلها اليتناقض مع تلك المحاكمات بالضرورة .بل إنه قد يتقاطع
مع بعضها ،وذلك بحسب الطبيعة العامة للذات ذهنياً ونفسياً وروحياً .إن صفة االنفعالية إذ تحيل على التأثر
نحدد درجة االنفعال الذي
بالموضوع ،تحيل أيضاً على بروز ماهو نفسي في الذات .فالنستطيع وهذه الحال أن ّ
تواجه به الذات موضوعها .غير أننا نستطيع أن نؤكد أن االنفعال الجمالي ممتلئ بموضوعه ،ومتمحور حوله.
ولهذا ،فهو ليس انفعاالً سائباً ،أو ذا آلية مستقلة عن صفات الموضوع بعضها أو كلها ،كما أنه العالقة له
بالهيجان النفسي أو بالمشاعر الحادة من مثل الخوف واأللم والقلق.
فالتجربة الجمالية محكومة ،إذاً ،بالحسية واالنفعالية .فإذا كانت الحسية هي الحامل المادي للتجربة ،فإن
االنفعالية هي مظهرها النفسي ،مثلما أن التقويم الجمالي الناتج منها هو تعبيرها الروحي .أي أن التقويم الينتج
معرفة بالموضوع أو بالذات .بل إنه ينتج معرفة بطبيعة العالقة بين الذات والموضوع .ومن هذه العالقة يمكننا
أن نحدد الذات والموضوع معاً .مع اإلشارة إلى أن هذه المعرفة ليست معرفة علمية أو منطقية .بل هي معرفة
قيمية .بمعنى أنها معرفة بالقيم ال باألشياء ،وإ ن تكن تش ّكل األساس الذي تنبني عليه تلك القيم.
غير أن هذه التجربة اليمكن أن تكون جمالية ،بكل مايعنيه مصطلح الجمالي ،AESTHETICإذا لم تكن
متحررة من الشواغل المادية أو األيديولوجية الملحة .أي أن صفة الالنفعية ،في هذه التجربة ،تقتضي أن تتوجه
الذات إلى موضوعها ،من دون رغبة منها في استهالكه المادي أو تخديمه العملي أو األيديولوجي .ومن ذلك،
فإن التجربة الجمالية متحررة من النوازع أو األطماع الشخصية ،واأليديولوجية ،إنها قفزة خارج الضرائر
ملتقى البحرين 105
بأشكالها المختلفة .ولهذا ،فهي تبدو نافذة مفتوحة على عالم الحرية ،بالمعنى الوجودي واالجتماعي معاً .ولعلنا
النبالغ إذا ماقلنا إن التجربة الجمالية هي التجربة الوحيدة التي يدخلها اإلنسان من دون أن يكون محكوماً فيها
بدوافعه المادية أو العملية أو األيديولوجية .ومن ذلك تأتي أهمية هذه التجربة .حيث إنها تحررنا من الضرائر،
غنى روحياً كبيراً،
وتغنينا روحياً في الوقت نفسه ،بمعنى أن عدم رغبتنا باستهالك الموضوع الجمالي ينعكس ً
في وجودنا الذاتي واالجتماعي ،ولعل هذا ماقصده كانط بالغائية من دون غاية ،في حديثه عن العالقة بالجمالي(
.)3
إن الشعر بوصفه نتاج التجربة الجمالية ،يتصف ،في شكله ،بالحسية واالنفعالية مثلما يتصف في تناوله
للموضوعات بالالنفعية .فاليمكن أن يكون الشعر تجريداً مفهومياً أو ذهنياً ،واليمكنه أن يكون منطقياً .وكذا هي
الحال اليجوز أن نتعامل معه على أنه ذو وظيفة أيديولوجية مباشرة ،ألنه ليس انعكاساً REFLECTION
لأليديولوجية .بل هو انعكاس لكل من التجربة الذاتية والوعي الجمالي العام .وألنه كذلك فهو يتقاطع مع
األيديولوجية ،ولكنه اليمثلها أو يتأسس على أطروحاتها السياسية أو األخالقية...إلخ.
وإ ضافة إلى الحسية واالنفعالية ،فإن الشعر يتصف بالمجازية والصورية اللتين بهما يعيد الشعر إنتاج
الموضوعات الحسية واالنفعاالت الجمالية ،بحيث تبدو بشكل تخييلي مجازي مختلف ،بهذه الدرجة أو تلك ،عن
كينونتها الواقعية .أي أن الشعر إذ ينشئ عالمه التخييلي المجازي يكمل بذلك مابدأته التجربة الجمالية من تحرر
من الدوافع النفعية .ويكمن ذلك في تحرره من العالقات الواقعية بين الظواهر واألشياء ،ومن سماتها الحقيقية
أيضاً .بمعنى آخر :إذا كانت التجربة تتحرر من الدوافع النفعية للذات ،فإن الشعر يتحرر من الطبيعة الواقعية
للموضوع ،وهو مايعمق فكرة القفز خارج الضرورة في الشعر ،وفي الفن عامة .أو بتعبير أدورنو " إن الفن هو
مجال الحرية في وسط الضرورة"( )4ولكن القفز خارج الضرورة اليعني إطالقاً أن الشعر العالقة له بالواقع
واأليديولوجية .بل هو موقف من الواقع ومن األيديولوجية معاً .إنه بقفزه خارج الضرورة يبدو أكثر وعياً بها،
وأحر طرحاً لها أيضاً .ومن ذلك يبدو بعض النصوص الشعرية إضاءة لما هو غامض أو
وأعمق تصوراً لهاَّ ،
مجهول في طبيعتنا اإلنسانية ،ويبدو بعضها اآلخر إضاءة لبهاء ماابتذلناه في حياتنا اليومية ،وإ ظهاراً لجمال
ماأغفلناه ،بسبب الحمى النفعية التي تقودنا في عالم الضرورة واالنسحاق بشروطها التي غالباً ماتكون غير
إنسانية .ولعله في ذلك يكمن أحد مستويات الخطاب األيديولوجي في الفن عامة ،وفي الشعر الذي هو مجالنا في
هذا المبحث .حيث إن الشعر يسعى إلى تبيان ماهو زائف واستالبي والإنساني ،في الوجود االجتماعي ،مثلما
يسعى إلى بلورة ماهو أصيل وجميل .وألن الشعر يطرح ذلك من منظور الذات ،فاليمكن إال أن يكون هذا الطرح
ذا بعد أيديولوجي خاص بتلك الذات ،غير أن هذا اليلغي أن ينطوي الشعر على الحقيقي والموضوعي ،بالرغم من
حضور الذاتي واأليديولوجي فيه ،وكما يقول أدورنو ،فإن "بعض أعمال الفن تكون أيديولوجية قلباً وقالباً .ومع
ذلك فإن مضمون الحقيقة يبقى قادراً على الحضور في هذه األعمال"( .)5مع توكيده "أن الحقيقة واأليديولوجية
التمثالن الجيد والرديء،ـ على التوالي ،إذ إن الفن يحتوي كليهما معاً"( .)6وبما أن ثمة تجادالً بين الحقيقي
واأليديولوجي ،في الفن ،فمن االستحالة بمكان أن نشير إلى واحد منهما ،من دون اآلخر .فهما ال يمثالن ثنائية،
ملتقى البحرين 106
بقدر مايدخالن في وحدة تخييلية ،يصعب تجزيئها في الفن .ومن هنا ،فإن الجمالي الذي يطرحه الفن هو نتاج
الحقيقي واأليديولوجي ،مثلما هو نتاج الذاتي والتخييلي .ولهذا فإن قيمة الفن تكمن ،في أحد مستوياتها ،في
إحالته على األيديولوجي من دون أن يتحول إلى أيديولوجية صرف .وعلى الرغم من أهمية الخطاب األيديولوجي
في الشعر ،والفن عامة ،إال أن ذلك اليؤدي إلى أن قيمة النص الشعري تنهض من ذلك الخطاب وهل هو ذو
القيم هو الذي يحمل دائماً القيم والقابليات
فاليصح القول ،كما يؤكد إيغلتون ،بأن النص ِّ
ُّ طبيعة تقدمية أو رجعية.
التقدمية .أو أنه الذي يعكس الذات الطبقية التقدمية ،وذلك على الرغم من تقريره بأن قيمة النص تتحدد بنمطها
المضاعف من التشكيل األيديولوجي وقوانين الخطاب األدبي ()7؛ وعلى الرغم من قوله أيضاً بأن النص هو نتاج
األيديولوجية (.)8
لقد أشرنا سابقاً إلى أن الخطاب األيديولوجي في الشعر ،اليكمن في النص وحسب ،بل يكمن أيضاً في عملية
ُّ
مااليقل عن أهمية النص .إذ إن النص يتم إنتاجه جمالياً التلقي ،ولعل لهذه العملية من األهمية ،في ذلك،
وأيديولوجياً ،في فعل اإلبداع من منظور الذات المرسلة ،ويتم إنتاجه أيضاً ،في فعل التلقي ،من منظور الذات
تغير مستمر ،على صعيد الخطاب ،بحيث النستطيع أن نقرر للنص نسقاً واحداً
المتلقية .ومن ذلك ،فإن النص في ّ
من الخطاب األيديولوجي .والحق أن هذا من إشكاليات الخطاب األدبي .فهو من جهة نتاج التاريخ ،وهو من جهة
أخرى نتاج القارئ .في الوقت الحاضر ( .)9والشك في أن هذا ينهض من أن النص األدبي هو نص مجازي
تخييلي .إذ إن ذلك يجعله قادراً على اإليحاء الجمالي في اتجاهات متعددة ومختلفة ،كما يجعله محتمالً لعدة
تأويالت في آن معاً .ولكن هذا اليؤدي إلى االعتباطية في فعل التأويل .فالبد من أن يكون محكوماً بالنص ،أي
البد أن يتيح النص هذا التأويل أو ذاك .بمعنى آخر :ينبغي أن يكون لكل القراءات المختلفة أساس من النص.
ومن دون ذلك اليكون النص هو المقروء بقدر مايكون صدى زائفاً لما يريد القارئ أن يقرأه فيه.
نخلص إلى أن الخطاب الشعري هو خطاب جمالي ،ينطوي على درجة ما من الخطاب األيديولوجي .وذلك ألنه،
أوالً ،موقف من الواقع ،وألنه ،ثانياً ،صادر من مرسل إلى متلق .وبما أن النص الشعري نص مجازي تخييلي،
فهو قابل ألن يتغير خطابه األيديولوجي من مرحلة إلى أخرى ،ومن قارئ إلى آخر ،من دون أن يتحول النص إلى
أيديولوجية .أي من دون أن يستعلي الخطاب األيديولوجي على الجمالي في النص .وإ ذا ماحدث ذلك ،فلن يكون
النص شعرياً بأية حال .ألنه اليكون ،في األساس ،نتاج التجربة الجمالية ،كما اليكون تعبيراً عن الوعي الجمالي
الذي يختلف ،بشكل جلي ،عن أشكال الوعي األخرى ،على الرغم من تقاطعه معها.
لقد تجلى الخطاب األيديولوجي ،في النص الشعري الحداثي ،بعدة مستويات .وهي مستوى الرؤيا الكلية،
ومستوى النموذج الفني ،والصورة ،والرمز ،عالوة على التقويم الجزئي المباشر .أي لقد تجلى هذا الخطاب في
مجمل النص ،وهو ماسوف نتوضحه في الصفحات التالية ،من دون اإلفاضة فيه ،إذ إننا سوف نتوضح أيضاً
تأثير األيديولوجية السلبي في شعر الحداثة .ولهذا فإننا سوف نتحدث عن عالقة الشعر باأليديولوجيا من خالل
محورين اثنين :األول تحت عنوان :النص بوصفه خطاباً أيديولوجياً ،وفيه نلحظ كيف يشتمل الشعري على
ملتقى البحرين 107
األيديولوجي .من دون أن ينحرف عن نسقه الجمالي .والثاني تحت عنوان :األيديولوجية بوصفها نصاً .حيث
نلحظ كيف ينحرف النص من كونه خطاباً جمالياً إلى كونه أيديولوجية وحسب.
لم تكد الحداثة الشعرية العربية تترك ظاهرة من ظواهر الواقع المعاصر ،من دون معالجة فنية ومن دون تقويم
جمالي ،بحيث يمكن التوكيد أن هذه الحداثة قد استوعبت مجمل ماطرحه الواقع من إشكاليات ذاتية وروحية
للواقع ،كما تكون قد حاكمته
ِ واجتماعية .وهي باستيعابها ذلك تكون قد أنجزت مشروعها الجمالي المعادل فنياً
على المستوى األيديولوجي .بمعنى أن الحداثة قد اتخذت موقفاً أيديولوجياً من الواقع ،في أثناء استيعابها الفني
بعدة مستويات من النص الشعري الحداثي ،نتناولها فيما
وتقويمها الجمالي له .وقد ظهر ذلك ،كما أسلفنا سابقاًّ ،
يلي:
أما على مستوى الرؤيا الكلية فيمكن أن نحصر الرؤى الجمالية التي هيمنت على شعر الحداثة ،في عالقته
بالواقع ،بثالثة أنماط ،وهي النمط البطولي ،والنمط التراجيدي ،والنمط العذابي** .حيث نلحظ على صعيد النمط
األول أن الشاعر الحداثي قد بلور موقفه الثوري العام من الواقع االجتماعي العربي بقيمة البطولي .أي أنه ارتفع
باأليديولوجية الثورية إلى مستوى القيمة الجمالية اإليجابية .وفي ذلك مافيه من تقويم إيجابي لما هو ثوري في
الحياة االجتماعية ،كما أن فيه من الرفض لما هو تقليدي وساكن ومتخلف ،بحيث اليخفى على القارئ .وقد توزع
هذا النمط على نسقين اثنين .األول هو نسق الثورية االجتماعية التقدمية .والثاني هو نسق الثورية الفردية ذات
المنحى القيمي .فعلى حين أن النسق االول سعى إلى تثوير المجتمع من خالل الطليعة الثورية ونموذجها البطل
المنتمي ،فإن الثاني قد سعى إلى تثوير القيم من خالل النخبة ونموذجها البطل الالمنتمي .مع اإلشارة إلى أن كالً
منهما يرى في الواقع االجتماعي استالبياً وغير إنساني ،مما يعني ضرورة تجاوزه وتخطيه بما ينسجم والمثل
األعلى للثورية .ولكن في حين ذهب األول إلى ضرورة االنتماء إلى القوى االجتماعية الراغبة في التغيير ،فإن
ومثله ،هو خيانة للثورية .ويمكن القول بان شعراء مجلة
الثاني ذهب إلى أن االنتماء إلى الواقع بقيمه ُ
<<شعر>> ومن في حكمهم ،يمثلون هذا النسق ( )10بعامة .ويمثل النسق األول شعراء اليسار السياسي بعامة
أيضاً ،ومن دون أن يعني ذلك أن ثمة حواجز تمنع التداخل بين هذين النسقين.
وعلى الرغم من أن هذا شائع ،في الكثير من النصوص الحداثية ،غير أنه البأس من التمثيل على هذا النمط
بنسقيه االثنين.
الغجري المغني
ّ اشتعل مثلها أيها
...الطواحين فارغة
والرجال
معلّقة من ضفائرها
وأنا ِ
فيك سنبلة .فاذكريني!
*
الشذى في فمي
والرؤى في عيوني
أبصرونا معاً()11
أعبر في كتابي
لقد طرح كل من هذين المقطعين موقفاً أيديولوجياً ثورياً من الواقع ،ولكن بينما انطلق المقطع األول من الثورية
االجتماعية ،فإننا نجد أن الثاني قد انطلق من الثورية الفردية .ولقد صاغ كل منهما موقفه األيديولوجي بشكل
جمالي ،بحيث إن هذا الموقف اليشكل إال أحد مستوياته .أي أن هذا الموقف اليستغرق الخطاب الشعري فيهما.
أما النمط الثاني من الرؤيا الكلية ،فهو النمط التراجيدي .حيث تطرح بعض النصوص الحداثية صورة تراجيدية
للواقع االجتماعي .فيبدو هذا الواقع محكوماً بكل ماهو استالبي وقمعي ومؤلم ،ويبدو اإلنسان فيه مطحوناً بكل
أشكال اإلذالل االجتماعي والسياسي والروحي .وغالباً ماتنطوي هذه النصوص على تصوير االنكسارات التي
القيم اجتماعياً ،أي على أنه الجميل والبطولي معاً .وإ ذا ماأفدنا
يعانيها البطل الثوري الذي تم النظر إليه على أنه ِّ
من تعريف ييتس Yeatsللتراجيدي على أنه ذلك الذي ينمو وينكسر امام الحواجز التي تفصل اإلنسان عن
اإلنسان ،وأنه فوق تلك الحواجز الكوميدية التي يحتفظ بها المنزل ( .)13فإن الموقف الجمالي ذا البعد
األيديولوجي من الواقع ،يغدو واضحاً تماماً .إذ إن هذا الواقع ،بحسب التقويم التراجيدي ،اليتيح للطاقات
اإلنسانية أن تتفتح .وهو مايعني أن األجواء التراجيدية سوف تبقى هي المهيمنة ،مالم يتغير ذلك الواقع.
ولقد أجمع شعراء الحداثة على أن الخطيئة التراجيدية هي الواقع نفسه ،والسيما جانبه السياسي القمعي الذي
يشكل نقيضاً لكل ماهو ثوري ،وفي ذلك يقول الماغوط:
المزقة
نامي تحت األعالم ّ
ملتقى البحرين 110
والشتاء األخير
ويقول البياتي:
والعندليب مات
...
...عاد من حفرته
ميتاً كئيب
ْ
َّ
مسود اللهيب()17 ينزف الكبريت
ياحفار
ُ عمق الحفرة
ّ
تلك هي األنماط الثالثة ـ بإيجاز شديدـ التي استوعبت الرؤيا الشعرية الحداثية وهي كما نلحظ ،أنماط جمالية
وأيديولوجية في الوقت نفسه .أما أنها جمالية ،فألنها تصدر من موقف حسي انفعالي مصوغ بشكل مجازي
تخييلي ،ومن وعي جمالي يتعامل مع الواقع من خالل المثل األعلى للجمال في الفرد والمجتمع معاً .وهي
أيديولوجية ،ألنها تتقاطع مع الوعي السياسي ،في محاكمتها للواقع ،وفي نظرتها إليه ،من دون أن تستخدم
أدواته المعرفية .وهو ماأبعدها عن أن تكون رؤى سياسية خالصة ،على الرغم من خطابها األيديولوجي ـ
السياسي.
أما على مستوى النموذج الفني ،فنلحظ أن ثمة تقويماً جمالياً ذا بعد أيديولوجي أقل تعميماً من الرؤيا الكلية التي
تتناول الواقع في مجمله بالحكم والتقويم .وعلى الرغم من أن النموذج غالباً مايتم تقديمه في عالقته بالسياق
المعني أوالً بالتناول والتقويم الجمالي واأليديولوجي .ولن نتوقف طويالً عند هذا
ُّ االجتماعي ،غير أنه هو
ملتقى البحرين 112
وإ ذا ماذكرنا ان كثيراً من النصوص الحداثية تطرح رؤياها الكلية من خالل النموذج الفني ،فإن ذلك يعني ان مثل
هذه النصوص ينطوي على نوعين من التقويم :نوع كلي خاص بالواقع ،ونوع جزئي خاص بالنموذج .أما
مايخص هذا ،كأن يتناول النص شخصية الديكتاتور على أنها نموذج القبيح أو الكوميدي مثالً ،فالبد من أن يحيل
على أن ثمة موقفاً أيديولوجياً سلبياً من هذه الشخصية وما يماثلها ،ال بوصفها شخصية فقط .بل بوصفها أيضاً
شكالً من أشكال السلطة ،وذلك كقول أمل دنقل:
الجندي
ّ عن خطر
همته القعيده
عن قلبه األعمى ،وعن ّ
الشهري
ّ يحرس من يمنحه راتبه
الرسمي
ّ وزيه
والقعقعة الشديدة
فر من الميدان
َّ
وحاصر السلطان
الكرسي
ّ واغتصب
وغالباً مايتداخل الخطاب السياسي في الخطاب األخالقي ،على صعيد النموذج الفني ،كما نالحظ في هذا النص،
ملتقى البحرين 113
حيث بدا أن الديكتاتور مدان أخالقياً وسياسياً .عالوة على أنه مدان جمالياً .ولعل السبب في ذلك يكمن في أن
النمذجة الفنية تنهض من طرح شخصية اجتماعية متعددة الجوانب .ولهذا فإن خطابها الجمالي يغدو متعدد
الجوانب أيضاً .مع اإلشارة إلى أن هذا الخطاب غالباً مايكون مفتوحاً ،على تقويمات مختلفة ،بحسب طبيعة
المتلقي الجمالية و األيديولوجية ،والسيما في النصوص التي تطرح نموذج المعذب ،والتي التفرض تقويماً محدداً
على النموذج.
أما بالنسبة إلى مستوى الصورة الفنية ،فإن األمر فيه مختلف عن المستويين السابقين ،للطبيعة الجزئية في
الصورة ،من جهة ،وإلحاطتها بكل الجوانب الحياتية تقريباً ،النفسية منها والروحية واالجتماعية والطبيعية
والعملية ،من جهة أخرى .فمن المعلوم أن كل الظواهر واألشياء ،في هذا الوجود ،يمكن أن تكون مادة للصورة
الفنية ،مثلما يمكن أن تتش ّكل منها عناصرها الحسية .وألن طبيعة الصورة تقوم على الحسي واالنفعالي
والتقويمي ،فإن ذلك يعني أن العناصر التي تتشكل منها الصورة هي عناصر قد تم اإلحساس بها ،مثلما تم
تقويمها .ويمكن التوكيد أن بناء الصورة على هذا العنصر او ذاك ،هو في اساسه ،موقف جمالي من العنصر
ومن داللته في الصورة معاً ،كما ان اإليحاء الجمالي المتحصل منها ينطوي على تقويم ما ،بالضرورة .ومن
خالل التقويم واإليحاء ،يبرز هذا النسق أو ذاك من الخطاب .وبما أن الحديث ،في هذا المجال ،حول الخطاب
األيديولوجي فإننا نتوقف عند الكيفية التي تحيل بها الصورة على هذا الخطاب.
النبي
ّ الصبي الذي ليس يؤكل ميتاً ،ووجه
ّ وجه
علَماً او سنبله
التلومي القافله
واستشيري السابله(.)23
على الرغم من أننا لم نقصد اإلتيان بصور فنية تتمحور حول الفجيعة واألجواء التراجيدية إال أنها ،على أيه حال،
توجه حديثنا في اتجاه معين ،وهو موقف الصورة من الواقع ،من خالل تقويمها لبعض العناصر فيه.
تنحو صورة حاوي نحو إدانة الثبات والسكونية ،في الواقع ،وذلك من خالل تجسيد جمالي للزمن الذي يبدو عديم
الحركة ،بالنسبة إلى الشاعر .وقد انطوت الصورة على إحساس واحد ،فحواه الموت .فالغياب والمرض والموت
وعدم الدوران أو الحركة والسكونية المطلقة هي التي تتكون منها هذه الصورة التي اتخذت موقفاً جمالياً سلبياً
ملتقى البحرين 115
منها ،وهذا الموقف السلبي هو الذي يشكل إيحاءها العام وخطابها األيديولوجي أيضاً .ولعل الغياب -غياب
المنقذ -الذي تم تقويمه تراجيدياً -قد انعكس سلبياً على العناصر األخرى ،فبدت ذات طبيعة مملة مضجرة،
فالثواني مريضة ميتة ،والنهار راكد ساكن .مما يعمق اإلحساس بتفاهة الواقع وبضرورة تجاوزه ،ولن يكون
ذلك إال بعودة الغائب المنقذ.
ويتابع الشاعر بلورة الموقف التراجيدي الذي تعانيه الحمامات .حيث يرى أن لها وجهين اثنين في معاناتها.
وجه البراءة اإلنسانية المقتولة (الصبي) .ووجه الحلم اإلنساني المشرد والمضيَّع (النبي).
وهو مايتكامل ومابدأته الصورة .أي أن الوجه األول يتكامل وسقوط الحمامات .ويتكامل الوجه الثاني وبيع
األذرع.
إن كل ذلك يحدث في مكان بعينه ،هو ساحة الطيران ،أي ساحة الواقع االجتماعي الذي تهيمن فيه رموز القبح
والفظاعة ،ويندحر فيه كل ماهو إنساني وجميل .وبهذا فإن الخطاب األيديولوجي ،لهذه الصورة ،أوضح من أن
يشار عليه .ولكن ماينبغي توكيده هو أن هذا الخطاب جاء محموالً على خطاب جمالي أعم وأشمل.
وتلك هي الحال في صورتي درويش وخضور اللتين تصدران من اإلحساس التراجيدي نفسه .حيث يتم تقويم
القتلة بالقبح والفظاعة ،ويتم تقويم الغابة المحترقة والبالد ،في الصورتين ،بالتراجيدية .ومايلفت النظر في
صورة درويش هو أن المشنقة التي هي القبح بذاته ،لها وجه آخر ،وهو البطولية والجمال (علم ،سنبلة) .أما
أنها قبيحة ،فألنها رمز للطغيان ،وأما أنها ذات وجه بطولي وجميل ،فذلك الينهض منها .بل ينهض من الذين
يعلّقون عليها .أي أن قبحها يرتبط بعالقتها بالطغيان ،على حين أن البطولية فيها ترتبط بعالقتها بالشخصيات
المناضلة البطولية .وبهذا فإن الخطاب األيديولوجي في هذه المشنقة التي هي محور الصورة ،هو خطاب
مزدوج :إدانة الطغيان من جهة ،والثورة عليه من جهة أخرى.
ومايلفت النظر أيضاً في صورة خضور ،هو أن القتلة إذا يغزون البالد بالقتل والهتك ،اليستطيعون االرتفاع
بالموت إلى مستوى الفناء المطلق ،ولهذا فإن الشاعر يدعو إلى خلع لون الحداد ،ألن الذين ماتوا أو قُتلوا ليسوا
ملتقى البحرين 116
إال جرحى .وفي هذا أيضاً خطاب مزدوج :توكيد تفاهة القتلة وعرضيتهم بالنسبة إلى الحياة ،وتوكيد عظمة
البالد التي التموت.
اما على مستوى الرمز الفني ،فإن تقنية الرمز تقتضي التقويم الجمالي المزدوج حيث يحمل الرمز تقويماً
المرمز ،وتقويماً لإلحالة الرمزية ،في الوقت نفسه ،ولعل الرموز األسطورية والتاريخية تكون أوضح
ّ للموضوع
الرموز في ذلك .ونكتفي بمقبوس واحد ،للداللة على الخطاب األيديولوجي في الرمز .يقول السياب:
يولد،
الموت في البيوت ُ
الغد
ظلم ُفي ِ
ُ
ينطوي المقبوس على ثالثة رموز ،وهي قابيل والمسيح والعازر ،يحيل كل منها على داللة وتقويم وإ يحاء،
ويش ّكل قابيل بوصفه قبيحاً وفظيعاً ،محور المقبوس .حيث َّ
تخيم أجواؤه على فضاء المقبوس -والنص بمجمله-
مايهلك رمز الخالص (المسيح) ومن ثم إمكانية الحياة (العازر) .بمعنى أن رمز قابيل ذو بعد ايديولوجي
وهو ُ
نقيض لليحاة اإلنسانية التي يمثلها رمزا المسيح والعازر .أما التقويم المزدوج فيظهر ،في الموقف السلبي من
شخصية قابيل األسطورية وماتمثله من قيم الإنسانية .ويظهر في الموقف السلبي أيضاً من قابيل الرمز الذي
يحيل على الديكتاتور .إن هذا الموقف السلبي هو الذي جعل من قابيل قبيحاً وفظيعاً .وألن محتوى رمز قابيل هو
محتوى اجتماعي -سياسي .فإن خطاب الرمز بدا خطاباً أيديولوجياً ،بشكل صريح ،وكذا هي الحال في المسيح
المجهض.
َ الرمز الذي يحيل على الخالص
واليختلف األمر ،في مستوى التقويم الجزئي المباشر ،عن المستويات األخرى ،من حيث الخطاب األيديولوجي،
يقوم الظواهر واألشياء من خالل جزئية من جزئياتها ،بشكل مباشر .وهذا المستوى شائع في مجمل
إال في كونه ّ
النصوص الحداثية ،حيث تتالحق التقويمات الجزئية لتعطي انطباعاً جمالياً عاماً ،عن اإلشكالية الشعرية
ملتقى البحرين 117
إننا نبكي...
حزينون،
وحيدون،
خراب،
قمر يذوي،
دخان...
مهجورة قلوبنا
رماد وقتنا...
ٌ
السر
أفشينا على مرأى من الخرابة َّ
وإ ذا ماأشرنا ،أخيراً ،إلى أن كل تلك المستويات غالباً ماتجتمع في نص شعري واحد ،فإن ذلك يؤكد أن للخطاب
األيديولوجي حضوراً واضحاً ،في شعر الحداثة .والغرابة في هذا ،إذ إنه شعر يتبنى قضية عامة ،وهي قضية
تثوير الواقع العربي المعاصر .سواء أكان ذلك على الصعيد السياسي أم األخالقي أم الفكري .ومن هنا ،فإذا مابدا
أن الخطاب األيديولوجي لهذا الشعر هو خطاب معارض ،بكل المعاني ،البالمعنى السياسي فقط ،فإن السبب
الجوهري في ذلك يكمن في تناقض الواقع مع المثل األعلى للجمال في الفرد والمجتمع معاً ،هذا المثل الذي تش ّكل
أهم شروطه .بمعنى آخر :إن الشاعر الحداثي الذي رأى في الشكل الشعري التقليدي قيداً لحريته
الحرية أحد ّ
ملتقى البحرين 118
يقومه تقويماً
اإلبداعية ،قد رأى أيضاً في الواقع الناجز قيداً للحرية اإلنسانية والحيوية االجتماعية ،مما جعله ّ
أيديولوجياً سلبياً ،في إطار موقفه الجمالي العام منه.
وتوكيداً لتقاطع الخطاب األيديولوجي مع الخطاب الجمالي ،في شعر الحداثة ،نتوقف بالتحليل عند نص اليبدو أن
له عالقة بالخطاب األيديولوجي .وهو قصيدة <<ثلج>> ألحمد عبد المعطي حجازي ،التي يجسد فيها لحظة
هطول الثلج ،واالندهاش الجمالي ،في تلقّيه ،ومايوحي به ذلك <<النديف الذي كان يهطل متئداً>> .يقول:
البياض مفاجأة،
عريت نافذتي
حين َّ
شدَّني من منامي
النديف
ُ
مانحاً َّ
كل شيء نصاعته
الشفيف
ْ ومداه
شدني
ّ
رفيف
ْ دوامة من
كان َّ
ثمة لحظة من أشد اللحظات الجمالية كثافة .حيث تذهل الذات عن مشاغلها ،حين يفاجئها مشهد الثلج الذي راح
يلون العالم باألبيض ،كاشفاً عن نصاعة األشياء ،أو جوهرها الحيوي .وحين يتكشف ذلك الجوهر ،أمام الذات،
تجد نفسها مأخوذة بلطافة كل شيء .وهو مايدفعها إلى التناغم مع حركة الثلج المتراقصة ،والمعبرة عن الفرح
اإلنساني .لقد انجذبت الذات إلى الثلج ،تاركة وراءها أعباءها اليومية (من غير ظل) ،ومتمثلة الثلج في حركته
ملتقى البحرين 119
يراودنا العشب،
والشجرات العرايا،
السقوف
ْ والكائنات المطلّة حول
الوريف()27
ْ أجسادهن
َّ على ريش
فحين اندغمت الذات بحركة الثلج ،شعرت بأن كل شيء يتقلب بياضاً في ذاته .حيث العشب والشجر العاري،
والبيوت والصغار ،وتماثيل الثلج ،والصبايا الجميالت .بكلمة أخرى :إن جمال الثلج كشف عن رغبة الذات في
شيوع الجمال ،مثلما كشف عن نصاعة كل شيء ،ولكن:
فسقطنا معاً
وانحللنا معاً
اللحظات التي تتبدى بها الطبيعة .بمعنى أن النص ينهض من القيمة الجمالية للظاهرة الطبيعية ،غير أنه يعيد
إنتاجها بما يتالءم والذات الشعرية .وهو ماجعلها تنطوي على إمكانية إيحائية كبيرة ،اليستوعبها مشهد الثلج
الطبيعي .ومن ذلك ،يمكن للنص أن يحيل على الحلم الجميل ،أو العشق المفاجئ ،أو لحظة الصفاء النفسي
والروحي ،أو لحظة االنسجام مع الوجود ،أو لحظة التفاؤل المطلق ..إلى آخر ماهنالك من احتماالت إيحائية
ممكنة .غير أنها جميعاً تنطلق من هاجس روحي أساسي ،وهو الرغبة الملحة في شيوع الحرية والحيوية،
وتعارض هذه الرغبة مع الشكل السائد الرتيب (السواد األليف) نفسياً أو روحياً أو اجتماعياً أو كلها معاً.
لقد بدت الشمس ،في النص قبيحة كريهة .إنها شمس سوداء ،التشرق إال من أجل تعميق السواد األليف ،أو
المعاناة اليومية ،في واقع القبح .على حين أن الثلج بدا جميالً رائعاً ،وذلك أنه قد أخرج الذات من رتابة السواد
الذي تفرزه الشمس بشكل مستمر وطاغ .ويمكن القول إن رمز الشمس يلقي ضوءاً كاشفاً على أسباب ذلك
الفرح المفاجئ بالثلج ،فلو لم يكن ثمة معاناة ذاتية -اجتماعية ،من هيمنة القبح ،لما كان ذلك الفرح المذهل
بالجمال ،ولو لم تحس الذات بشروق القبح الدائم ،لما فرحت بشروق الجمال المفاجئ ،الذي يعني غروب القبح
بالنسبة إليها .وبهذا ،فإن النص يسعى إلى تعميق اإلحساس بالجمال ،بقدر مايسعى إلى تعميق اإلحساس
بضرورة نفي القبح وإ زالته ،وهو مايحيل على أن ذلك الثلج هو <<ثلج>> الذات الجملية التي تعاني ،في واقع
القبح ،معاناة تراجيدية ،وأن تلك الشمس هي <<شمس>> السلطة أو القمع ،أو الكبت االجتماعي (وربما تكون
هي رمز األب ،من وجهة نظر نفسية) .ومن هنا ،فإن الشمس قد أشرقت (من قوقنا) أما الثلج ،فقد انبثق من
داخل الذات (شدني من منامي النديف) .فالتناقض المجازي بين الشمس والثلج ،ينهض ،إذاً ،من التناقض
الحقيقي بين الجمال والقبح أو بين الحرية والحيوية من جهة ،والقمع والسكونية من جهة ثانية.
وبما أن النص ينهض جمالياً من ذلك التناقض ،فقد جاءت بنيته الفنية متمحورة حول التناقض والتعارض .حيث
نلحظ ،في البدء أن ثمة سقوطاً مفاجئاً للسواد (وهو سقوط غائب عن النص) ،يقابله صعود مفاجئ للبياض .مما
يستتبع تعرية النافذة من الستائر التي تحجب العالم الخارجي عن الغرفة ،وخروج الذات من منامها او سوادها
األليف .ليصل النص إلى إشاعة جو صرف من الفرح األبيض الذي اليع ّكره أي عنصر أسود .أي يغيب السواد
غياباً تاماً ،ويحضر البياض حضوراً تاماً أيضاً .وفي ذروة هذا الحضور ،حيث الصبايا -البجعات ،يبدأ غياب
البياض ،وحضور السواد ،أو ُّ
ينحل البياض في رتابة السواد األليف الذي يغدو هو األوحد في المشهد الجمالي
األخير من النص .وبهذا ،فلحظة الشروق هي نفسها لحظة الغروب في الحالتين ،مما يعني أن وجود هذا يلغي
بالضرورة وجود ذاك.
باإلضافة إلى أن ثمة تناقضاً بين البياض والسواد ،والثلج والشمس ،والحيوية والرتابة فإن ثمة انسجاماً وتنامياً
وتعرت هي من منامها ،ومن ظلها -أو معاناتها -وثمة
عرت النافذةّ ،
بين الثلج ،وبقية األشياء .فالذات قد ّ
العشب الذي (يراودنا) أو الذي يتعرى ،ويدعونا إلى التعري أيضاً ،وثمة الشجرات العرايا ،والصبايا اللواتي
يكشفن عن شهبة أعناقهن ،والكائنات المطلة (أي غير المتحجبة) وقبل كل ذلك ،كان الثلج قد انكشف بشكل
ملتقى البحرين 121
مفاجئ.
إن هذه الجوقة الطبيعية واإلنسانية التي تتعرى مما يخفي جوهرها ،تعزف أنشودة الجمال التي يبدعها الثلج،
بمعنى أن الثلج هو الذي يقود حركة العري أو الصفاء الروحي .فثمة ،إذن ،تناغم وانسجام بين حركة الثلج
وحركة األشياء تجاه العري .وهذا التناغم في الحركة هو الذي جعل النص يقول <<ثم أشرقت الشمس>>.
تبديه على حقيقته .فحركة الثلج لم
فاإلشراق هو اإلنكشاف أو التعري .ولكن هذا التعري هو تعري القبح ،أو ّ
تكشف عن جوهر الجمال في األشياء فحسب .بل كشفت أيضاً عن جوهر القبح في الشمس بوصفها رمزاً لكل
ماهو جائر.
واضح أن التجربة الجمالية التي تقف وراء هذا النص ،هي تجربة حسية انفعالية ،تمظهرت بشكل حسي انفعالي
صوري .وهو ماجعلها تحتمل عدة أنساق من الخطاب :نفسي ،وروحي ،وسياسي ،وجمالي -شكلي ،كما جعلها
تحتمل عدة إيحاءات بالرغم من صدورها من هاجس موحد .ونحن في هذا المجال ،نود اإلشارة إلى أن الخطاب
األيديولوجي -السياسي ليس عرضياً في هذا النص .بل إن له شرعيته التي اليمكن تجاوزها .وقد تبدى ذلك في
موقف النص من القبح الذي بات أليفاً ،في الحياة اليومية ،وفي موقفه من الجمال الذي يتعرض للسقوط
واالنحالل ،في رتابة القبح أو السواد األليف .وهذا الجانب كما يلحظ القارئ هو األساس في رؤيا النص الكلية،
وإ ن بدا النص أن العالقة له بما هو أيديولوجي ،بشكل مباشر.
لقد درسنا ،في الفقرة السابقة ،اشتمال الخطاب الجمالي ،في شعر الحداثة على الخطاب األيديولوجي ،من دون أن
يتحول النص الشعري إلى أيديولوجية .وذلك باإلنطالق من أن النص تعبير عن التجربة الجمالية ،وعن الوعي
الجمالي العام للمبدع .ولهذا فإن تقاطع الجمالي مع األيديولوجية يكاد يكون بدهياً .والسيما في حركة شعرية
تتبنى قضية اجتماعية وحضارية عامة ،كحركة الحداثة .غير أن هذه القضية التي تم التعبير عنها بشكل شعري
راق ،في الكثير من النصوص الحداثية ،كان لها انعكاس سلبي على الكثير من النصوص أيضاً .وغالباً ماكان ذلك
يعود إلى طبيعة فهم الوظيفة االجتماعية في الشعر ،والفن عامة .فهل على الشعر أن ينهض بهذه الوظيفة بشكل
مباشر ،أو عليه أن ينهض بوظيفة جمالية -روحية ،تحيل بهذا النحو أو ذاك ،على ماهو اجتماعي وأيديولوجي.
بمعنى أن فهم وظيفة الشعر على أنها وظيفة أيديولوجية أوالً وأخيراً ،قد أدى إلى نفي الشعري ،في الكثير من
النصوص ،وإ ثبات األيديولوجي فيها .وهو ما عنيناه سابقاً ،من أن النثرية في الشعر ،هي حصان طروادة الذي
غالباً ما تستخدمه األيديولوجية للهيمنة على الشعر ،من أجل توظيفه ،في صراعها االجتماعي .واليكون لها
ظر أو الواعظ .مع
ذلك ،إال إذا تخلى الشاعر عن موقعه بوصفه شاعراً ،ليجلس على كرسي السياسي أو المن ّ
اإلشارة إلى أن النثرية ،في الشعر ،التأتيه من الهيمنة األيديولوجية وحسب .بل تأتيه أيضاً ،وفي األساس ،من
االنحراف عن طبيعة التجربة الجمالية ،وعن الوعي الذي ينظمها أيضاً ،بمعنى أن النثرية في النص الذي من
ملتقى البحرين 122
المفترض أن يكون شعرياً ،تنهض من االنحراف في التجربة والوعي الجماليين .وينعكس هذا االنحراف في اللغة
الشعرية ،مثلما ينعكس في الصورة والتقويم والمنطق العام للنص .ونرى أن درجة االنحراف عن الشعرية في
النص تتناسب طرداً ودرجة االنحراف عن الجمالي في التجربة والوعي .ولعل هذا مايسوغ وجود جوانب شعرية
ونثرية في النص الواحد أحياناً.
وبما أن مجال هذه الفقرة هو األيديولوجية بوصفها نصاً ،فإننا سوف نتبين ذلك االنحراف من خالل استعالء
الوعي األيديولوجي على عملية اإلبداع الشعري .هذا االستعالء الذي يدفع الشاعر إلى تحويل أيديولوجيته إلى
نص .غير أنه إذ يفعل ذلك ،يخسر الجمالي الذي يمكن أن يحيل على األيديولوجي ،بشكل أرقى وأعمق وأدوم،
مما يمكن أن يتسم به تحويل األيديولوجية إلى نص ،تستعلي عليه النثرية.
لقد ظهرت األيديولوجية بوصفها نصاً ،في شعر الحداثة ،على نمطين اثنين األول هو النمط السياسي الذي برزت
فيه المقوالت والشعارات السياسية الخاصة بحزب الشاعر أو أيديولوجيته ،بحيث أصبحت مهمة النص مهمة
إعالمية وإ عالنية في الوقت نفسه ،وذلك في إطار كونها مهمة سياسية.
أما النمط الثاني ،فهو النمط الذهني -الفكري الذي برزت فيه المقوالت والمحاكمات الفكرية والفلسفية .بحيث
إن مهمة النص تبدو مهمة فكرية إقناعية ،في المقام األول .مع اإلشارة إلى أن هذين النمطين** قد يتدخالن،
في النص الواحد ،كما قد يستقل النص بنمط واحد بعينه ،وذلك بحسب النزوع الفكري أو السياسي العام للشاعر.
وفي كل األحوال ،فإن النثرية هي التي تهيمن على النص ،ويتبدى ذلك من خالل ميل النص إلى صياغة المقولة
الفكرية أو السياسية ،ال إلى تجسيد اإلحساس الجمالي مع العلم أن ثمة فرقاً بين صياغة المقولة << فنياً>>
وبين تعميم الخاص تعميماً مجازياً ،أو تجسيد المثل األعلى الجمالي بالخاص.
أما فيما يخص النمط السياسي ،وهو النمط األكثر شيوعاً ،لبروز ماهو سياسي ،في الواقع العربي من جهة،
ولسوء فهم وظيفة الفن من جهة أخرى ،فيمكن التوكيد أن إشكاليته تنهض من اعتباره أن الموضوع الهام هو
الذي يعطي للنص أهميته االجتماعية والجمالية والفنية .وغفل عن أن الموضوع العظيم اليعني شيئاً ،إذا لم يكن
النص في ذاته عظيماً ،على الصعيد الفني والجمالي ،أي أن إشكاليته تكمن في فهم عالقة الفن بالواقع
واأليديولوجية معاً .ولتبيان ذلك نتوقف عند بعض النصوص.
جسوراً وقناديل
زهوراً ومناديل
واضح أن البياتي لم يعبر ،في هذا النص ،عن تجربة جمالية ،ولم ينطلق من وعيه الجمالي ،إلى تناول موضوع
التغيير الثوري .إنما السائق األوحد فيه هو الوعي األيديولوجي -السياسي .ولهذا فإن النص راح يستعرض
األعمال التي سوف تقوم بها الثورة ،من محو عار االنهزاميين الذين شوهوا الواقع االجتماعي بأباطيلهم ،ومن
إسقاط الطبقات الحاكمة ،ومن إعالن دولة الكادحين ..إلى آخر ماهنالك من مقوالت أيديولوجية انطوى عليها
النص.
وبما أن البياتي قد انحرف عن الجمالي في التجربة والوعي ،فمن البدهي أن ينحرف عما هو شعري ،ويقع فيما
هو نثري بحت .وهو ماظهر في لغة النص التي هي لغة نثرية سياسية ،تخلو من أي إحساس جمالي ،كما تخلو
من التعامل المجازي التخييلي ،مع األشياء .وإ ذا مااستخدمنا مصطلح كمال أبو ديب <<الفجوة /مسافة
ملتقى البحرين 124
التوتر>>( ،)30فإن القول بان اللغة المستخدمة العالقة لها بما هو شعري ،ينطلق من ان هذه اللغة ذات دالالت
مباشرة ومتداولة ومحددة ،والتنطوي على أي نوع من المفارقة .فكل مافيها متوقع ،ومبتذل في الحياة اليومية.
وذلك على الرغم من أن لغة النص قد انطوت على عدة مجازات .غير أنها من النوع الشائع المبتذل ،ال في الشعر
العربي ،عبر تاريخه فحسب .بل في الحياة المعاصرة اليومية أيضاً .من مثل (ستمحو عاركم ،سيغسل برقها،
وتجرفها رياح الكادحين .)...وإ ضافة إلى ذلك ،فقد كثرت أدوات الربط بين أشطر النص ،مما يعني ان الشاعر
أراد أن يقول شيئاً مترابطاً متسلسالً فيما بينه منطقياً .ومن المعروف أن حاجة النص الشعري إلى أدوات الربط
أقل ،بما اليقاس ،من حاجة النص النثري إليها .وذلك أن األول ينهض من الترابط الشعوري الجمالي ،ال من
الترابط المنطقي أو الترابط السردي.
وهذا يحيلنا على المنطق الذي هيمن على النص ،وهو منطق عقلي بحت .فالثورة سوف تلغي الممارسات
الشائنة للطبقة الحاكمة ،وترفع الظلم والحيف عن الكادحين .ولهذا فإن القناع (القشرة) الذي تتقنع به تلك
الطبقة سوف يزول .وهو الينعكس إيجابياً على الكادحين فحسب .بل ينعكس أيضاً على تلك الطبقة التي يمكن أن
تفكر وتعمل بشكل أفضل .وذلك بعد أن يزول استعالؤها (النظرة) على طبقات الشعب .ومن هنا ،فإن البالد سوف
تزدهر ،ويصل الشعب إلى الرفاهية (المواويل) ،واليبقى هنالك سادة وعبيد .فالكادحون بثورتهم سوف يجعلون
من التمايز الطبقي شيئاً من الماضي (هوة النسيان).
ذلك هو منطق النص .وهو ،كما نلحظ ،منطق عقلي بحت .الأثر فيه للمنطق الجمالي الذي يقوم أساساً على
العالقة الشعورية بين األشياء .ال على العالقة السببية ،كما في هذا النص.
والحقيقة أنه لم يكن بإمكان البياتي إال أن يصدر في نصه ،من منطق عقلي .ألنه كان ،في األساس ،قد صدر عن
الوعي السياسي ،أي أن الوقوع تحت وطأة وعي غير الوعي الجمالي ،البد من أن يؤدي إلى استخدام أدوات ذلك
تسوغ وتعد
الوعي واستخدام منطقه أيضاً ،كما حصل مع البياتي .وإ ذا ماوضعنا في االعتبار أن االيديولوجية ّ
وتفّند وتهاجم وتتهم وتدافع ،فإنه يصبح واضحاً ،لماذا مال هذا النص إلى التسويغ والوعد واالتهام ..إلخ إذ إنه
ينهض من هذه الجوانب األيديولوجية مجتمعة ،كما يصبح واضحاً ،لماذا جاءت اللغة فيه ،على هذا النحو من
التقريرية والخطابية .إذ إن هاتين السمتين من أبرز السمات التي يتميز بها النمط السياسي.
وبما أن شعر الحداثة قد رافق حركة التحرر الوطني العربية ،في تنوعها األيديولوجي ،فقد كان من المتوقع ان
فج .فثمة نصوص ذات خطاب أممي، ينعكس ذلك فيه .حيث حملت بعض نصوص هذا الشعر ،ذلك التنوع ،بشكل ّ
وأخرى ذات خطاب قومي عربي أو سوري .بل ثمة خطاب إفريقي أيضاً .وهو مايعني أن الوعي األيديولوجي
السياسي هو السائق للنص ،ال الوعي الجمالي الذي العالقة له بذلك التنوع ،وإ ن يكن لنتاجه بعد أيديولوجي
ما.يقول سميح القاسم في خطاب أممي:
ملتقى البحرين 125
الشقي ..تعال!
ّ وقال :تعال ياولدي
...
شبت في النجمه
ياناراً ّ
َّ
وأطل أخيراً يحدونا
بالحريه
أنا أسود...
أرضي إفريقيه
تحول األيديولوجية إلى نص ،تقع فيما وقع فيه نص البياتي السابق ،حيث النثرية
نلحظ أن هذه المقبوسات إذ ّ
التامة ،والمنطق العقلي ،والتقريرية والخطابية ،وغياب التعامل المجازي أو تداوله وابتذاله ،وانعدام اإليحاء
الجمالي.
فعلى الرغم من االختالف األيديولوجي بين هذه النصوص ،إال أنها متفقة فيما بينها ،أسلوبياً ،وهو ما يؤكد أن
الوعي السياسي يفرض أسلوباً موحداً ،على النص ،وإ ن اختلفت منطلقات ذلك الوعي .إذ إن لإليديولوجية منطقاً
محدداً ،في نهاية المطاف.
ونود اإلشارة ،في هذا المجال ،إلى أن حجازي قد صاغ ،في األشطر الثالثة األخيرة من المقبوس ،الشعار
ّ
السياسي الذي تبنته األحزاب القومية العربية ،والذي يتكون من مفاهيم الحرية والوحدة واالشتراكية .وبما أن
حجازي كان ينتمي إلى حزب االتحاد االشتراكي العربي ،فقد رتب هذه المفاهيم بالشكل الذي ذكرناه ،ولو كان
ينتمي إلى حزب ،يرتبها ترتيباً مختلفاً ،لفعل حجازي ذلك ،من دون أن يخت ّل المعنى أو السياق ،كأن يقول مثالً:
بالحرية.
ملتقى البحرين 127
وتكون بذلك مرتبة بحسب شعار الوحدة والحرية واالشتراكية .غير أن اإلخالص للحزب هو الذي دفعه إلى ذلك
الترتيب ،ال الضرورة الفنية أو الجمالية.
أما النمط الذهني -الفكري ،فيميل إلى طرح الموقف أو الفكر النظري للشاعر .بحيث يبدو النص عرضاً آلرائه
وأفكاره ،التعبيراً عن تجاربه الجمالية .ولهذا فإن النص يتطلب من المتلقي التفكير والمحاكمة ،ال التفاعل
الجمالي .وال يختلف هذا النمط عن النمط األول من حيث النثرية ،غير أنه يختلف عنه ،في ابتعاده عن الخطابية،
وهو ما ينسجم والحوار الذهني -الفكري.
ولع ّل أدونيس ،في صياغته لفلسفته في الفرد المنقذ ،يكون مثالً واضحاً على هذا النمط .إذ إن الكثير من مقاطع
<<مهيار الدمشقي>> ليس سوى تحويل لما هو إيديولوجي إلى نص .ولكننا نتوقف ،هنا عند قصيدة <<
أوراق في الريح>> التي تتألف من خمسة وسبعين مقطعاً أو محاولة لصياغة المفهوم الفكري .وذلك مثل:
تهيأ
غير خطاكّ ،
ّ
في جديد
* كل العالم َّ
تتبختر كالطغاة
ْ
فهبها قبَّعة
أو ْ
تتفجَّر زوبعة
إن هذه المقاطع مجرد أقوال فكرية ،أرادها أدونيس أن تكون شعرية .إال أنها لم تفارق مستواها الفكري .حيث
قامت على السبب والنتيجة ،أو على أسلوب المحاكمة المنطقية ،فاالحتراق مرهون بقول الحقيقة ،و جدة العالم
مرهونة بإرادة الذات ،وكبر األشياء مرهون بعمق التجربة الحياتية .أما المقطع الذي يرى أن (رحم الفأرة
مزحوم بذئب وبشاة) ،فهو يصوغ قوالً مثالياً مكروراً ،وهو أن النفس اإلنسانية تتكون من الخير والشر .هذا
بغض النظر عن التناقض اإليحائي في هذا المقطع.
إن النثري ،في هذه المقاطع ،ينهض من أن أدونيس أراد أن يعبر عن موقفه اإليديولوجي -الفكري من بعض
الجوانب الحياتية ،بشكل فكري بحت ،فكان أسلوب المحاكمة المنطقية هو السائد على مقاطع النص.
َّ
لعل الشمس لم تشرق لتُحيينا:
ُّ
الشك هنا ينعدم
الحق
ّ يموت القول في األلسنة
يمح خطايانا
صليب اهلل لم ُ
ملتقى البحرين 129
الريح جناحانا،
َ فهل تُمحى إذا ما سابق
لقد أراد الخال أن يقول إن اإلنسان هو سبب الخطيئة األولى ،بالمعنى المسيحي للخطيئة .وألنه سببها ،فقد أصبح
عبداً لها ،ولن يتخلص من عبوديته لخطيئته ،إال بالموت الفادي .فالمقولة الناجزة التي صاغها المقطع مقولة
أيديولوجية-دينية .وعلى الرغم من أن الشعور الديني قد أنتج ،عبر تاريخه ،نصوصاً شعرية راقية ،كالشعر
الصوفي مثالً ،إالأن ثمة فرقاً نوعياً بين تجسيد الشعور الديني وبين صياغة المقولة الدينية .وهذا الفرق يتوضح
حين نقارن بين شعر المتصوفة وشعر الفقهاء .إنه الفرق بين من يجسد روحه وإ حساسه ومشاعره ،وبين من
يصوغ مقولة دينية ذات أسس أيديولوجية محددة .وهو الفرق أيضاً بين من يعايش جمالياً ،ومن يحاكم
إيديولوجياً.
لقد توضح من خالل المقبوسات السابقة أن اإلنحراف عن الجمالي في التجربة والوعي ،لن ينتج سوى نصوص
أيديولوجية هزيلة .والحقيقة أن ما يسهم في ذلك ،هو طبيعة المادة التي يستخدمها الشاعر ،وهي اللغة .إذ إن
ارتباط اللغة بالمعرفة واأليديولوجية يضاعف من صعوبة عمل الشاعر ،هذا العمل الذي ينبغي أن يكون جمالياً
بمادة مشاعة ،لكل أشكال الوعي االجتماعي .وهو ماال نجده في عمل الفنان التشكيلي والموسيقي مثالً .حيث
إنهما يتعامالن بمادة خاصة بهما تقريباً ،أو على األقل ،اليتعامالن بمادة تحمل معاني ودالالت ،قبل أن يش ّكالها
جمالياً .ومن هنا ،فإن األيقونات الدينية والموسيقا الكنسية هي أعمال فنية بكل ما يعنيه المصطلح ،بصرف النظر
عن الذوق الجمالي الذي تمثله .أما شعر الفقهاء ،والشعر التعليمي ،فليسا شعراً البتة .إذ إن االنحراف عن
الجمالي ،في التجربة والوعي ،ينعكس مباشرة في لغة النص الشعري .ويكون انحراف اللغة عما هو شعري
مرتبطاً باتجاه االنحراف عن الجمالي ،وهل هو سياسي أو فكري أو أخالقي ،فلكل انحراف لغته الخاصة به.
ولعلنا في ذلك نفهم لماذا <<عامل الشكالنيون الروس الشعر على أنه استخدام أدبي جوهري للغة :فهو كالم
ميزوا بينه
منظم في بنيته الصوتية الكلية .واإليقاع Rhythmهو عامله األساسي األكثر أهمية>> ( )39حيث ّ
وبين اللغة العملية من خالل نوعيته المتشكلة ،كما نفهم أيضاً لماذا ذهب هيغل إلى أن الشعر هو أصعب أنواع
الفنون()40
وبصرف النظر عن تعريف االشكالنيين الروس للشعر ،فإنه مما الشك فيه ،أن اللغة الشعرية مختلفة تماماً عن
اللغة العملية أو المعرفية أو األيديولوجية .وذلك بسبب طبيعتها االنفعالية والحسية من جهة ،وتكوينها الفني من
جهة أخرى ،عالوة على كونها لغة مجازية تخييلية .من ذلك فإن الدفق الجمالي الذي تتميز به هذه اللغة ينهض
أساساً من طبيعة التجربة الجمالية التي تصدر عنها .مما يعني أن افتقاد ذلك الدفق في النصوص األيديولوجية
أمر بدهي .إذ إن لأليديولوجية نسقاً مختلفاً عن النسق الجمالي.
إن االنحراف عن الجمالي .إذاً ،ينعكس انحرافاً عن اللغة الشعرية بالضرورة .ولن ينقذ النص من النثرية كل
ملتقى البحرين 130
األلعاب الفانتازية التي يمكن أن يقوم بها الشاعر تمويهاً لذلك االنحراف ،كأن يوهم بالغموض أو اإلبهام .وذلك
كقول أدونيس الفكري الذي يصوغ مقولة ،واليجسد إحساساً او موقفاً جمالياً:
ونود اإلشارة أخيراً إلى أن تحويل األيديولوجية إلى نص ،الذي قلما نجا منه شاعر ،غالباً مايمكن تقويمه
بالتقدمية أو الرجعية ،هذا التقويم الذي نرفض أن نصدره على النص الشعري الصادر عن الجمالي في التجربة
والوعي .والسبب في ذلك أن النصوص األيديولوجية هي نفسها التي تدعونا إلى هذا ،بسب أنها تصدر عنه.
بمعنى أنه إذا كان من الخطأ تقويم النص الشعري سياسياً ،فمن الصواب تقويم النص األيديولوجي على هذا
النحو .ألنه يصدر أساساً من الموقف األيديولوجي ،على حين أن النص الشعري يصدر عما هو جمالي .ولهذا
فإن وصفه بالتقدمية أو الرجعية يعني أننا نفرض موقفنا عليه .وهو ما الينبغي أن يكون في التلقي الجمالي
والتناول النقدي ،على الرغم من أن للنص الشعري خطاباً أيديولوجياً ما.
الـهـوامـــش:
2ـ تشيرنيشفسكي :عالقات الفن الجمالية بالواقع .تر :يوسف حالق .وزارة الثقافة ،دمشق .1983 ،ص.83 :
3ـ راجع في ذلك :عدد من الفالسفة السوفييت :الجمال في تفسيره الماركسي .تر :يوسف حالق ،مرا :أسماء
صالح .وزارة الثقافة ،دمشق .1986 .ص5 :ـ .39
>186
10ـ راجع في ذلك :باروت ،محمد جمال :الحداثة األولى .اتحاد كتاب وأدباء اإلمارات ،الشارقة،ط.1991. 1:
ص 83:ـ 107
11ـ الفيتوري ،محمد :ديوانه ،م .2:دار العودة ،بيروت .1979 ،ص 130 :ـ 131
12ـ أدونيس :اآلثار الكاملة ،م .1 :دار العودة ،بيروت .1971 ،ص.368 :
14ـ الماغوط ،محمد :اآلثار الكاملة .دار العودة ،بيروت1973 ،ص.188 :
15ـ البياتي ،عبد الوهاب :ديوانه ،م .2:دار العودة ،بيروت .1972 ،ص 250 :ـ .251
16ـ عمران ،محمد :أنا الذي رأيت .وزارة الثقافة ،دمشق .1978 ،ص 107:ـ .108
17ـ حاوي ،خليل :ديوانه ،دار العودة ،بيروت .1982 ،ص.323 :
19ـ دنقل :أمل :األعمال الشعرية الكاملة .دار العودة ،بيروت،ط .1985 .2:ص 210 :ـ .211
21ـ يوسف ،سعدي :األعمال الشعرية (1952ـ .)1977دار الفارابي ،بيروت .1979،ص.149:
24ـ السياب ،بدر شاكر :ديوانه ،م .1:دار العودة ،بيروت .1971،ص470:
25ـ أبو عفش ،نزيه :بين هالكين .العربية للدراسات ،دمشق .ط ،1982 ،1:ص 61:ـ .62
26ـ حجازي ،أحمد عبد المعطي :كائنات مملكة الليل .دار اآلداب .بيروت .1978 .ص27:ـ .28
29ـ البياتي ،عبد الوهاب :ديوانه ،م .2:دار العودة .بيروت .1972 ،ص141:ـ .142
30ـ لقد أقام أبو ديب نظرته إلى الشعرية من خالل "الفجوة /مسافة التوتر" .وذلك في كتابه :الشعرية .مؤسسة
األبحاث العربية ،بيروت ،ط.1987 .1 :
32ـ حجازي ،احمد عبد المعطي :ديوانه ،دار العودة ،بيروت .1973 ،ص420:ـ421
33ـ الفيتوري ،محمد :ديوانه ،م .1 :دار العودة ،بيروت ،ط .1979 .3:ص80:ـ.81
34ـ أدونيس :اآلثار الكاملة ،م .1:دار العودة ،بيروت .1971 ،ص.200:
38ـ الخال ،يوسف :األعمال الشعرية الكاملة .دار العودة .بيروت ،ط .1979 .2:ص224 :ـ .225
40ـ هيجل :فن الشعر ،جـ .1 :تر :جورج طرابيشي .دار الطليعة ،بيروت ،ط .1981 ،1:ص56 :ـ .57
ملتقى البحرين 133
41ـ أدونيس :اآلثار الكاملة ،م .2 :دار العودة ،بيروت .1971 ،ص.177 :
* -قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن بروز هذين النمطين في شعر الحداثة يحيل على بروزهما في الواقع
يعبر بالضرورة عن بروزه في الواقع
العربي المعاصر .إذ أن بروز هذا الشكل األيديولوجي أو ذاك في الشعر ّ
االجتماعي.