Professional Documents
Culture Documents
(((
سوسن إسماعيل
واملؤلف خليل قويعة مولود في تونس ،1966أستاذ الجماليات ونظريات الفن باملعهد العالي للفنون
((( خليل قويعة ،العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية :محاولة في إنشائية النظر ،ط( ،1الدوحة/بيروت :املركز العربي
لألبحاث ودراسة السياسات.)2018 ،
541
مراجعات الكتب العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020
في جامعة صفاقس في تونس ،وباحث في مخبر „ “LARAفي جامعة تولوز في فرنسا ،نال شهادات في
الفلسفة والدراسات املعمقة في تاريخ الفن والدكتوراه في نظريات الفن من جامعة تونس ،وهو باحث
جامعي في تونس وفرنسا ،وفنان وناقد يمارس العمل الفني .ومن مؤلفاته األخرى« :تشكيل الرؤية
( )2007ـ بنية الذائقة وسلطة النموذج ( ،)2013إضافة إلى املنجز الصادر الجديد الذي نحن بصدد
ً
االشتباك قراءة .
أما بخصوص كتاب العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر)؛ فقد
صدر عن «املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات» .يقع هذا املنجز في ثالثمائة وتسع وتسعين
صفحة ،وبفهرس يحتوي على ثالثة فصول بعناوين رئيسة:
واملقوالت األساس التي يطرحها الكتاب تبحث في ماهية العمل الفني بوصفه رؤية فكرية ،فالكتاب
ال يكتفي بالشكل البصري للعمل الفني من حيث األلوان واألشكال املأخوذة من العالم الخارجي،
وجملة التحوالت التي تصيب العمل الفني ،إنما يركز على الرؤية الذهنية وليس الرؤية البصرية،
ليؤكد مقولة أن العمل الفني ليس تلك اللوحة /الرسمة /التصميم ،إنما هو البحث فيه عن جملة
ً
من عناصر اللغة التشكيلية ،وأال تكون عملية النظر فقط مشاهدة ،إنما تتم عملية النظر بوصفها
ً
وفعال في عملية اإلبداع والتلقي ،واإلحاطة بمفهوم (النظر) ً ً
جزءا ً
بعيدا عن املعنى اللغوي مهما
والتعمق في معانيه الفلسفية والتأويلية والجمالية ،وعدم الوقوف عند مفهوم (الجميل) لألشياء
بقدر ما يتوجب البحث عن القيمة الفكرية للجمال ،ذلك كله مع عرض واسع لجملة من اآلراء املهمة
ألولئك الذين تطرقوا ملفهوم (الفن) وتحوالته.
ً
يقول املؤلف في أحد حواراته متحدثا عن السبب وراء تركيزه على أهمية املتلقي أو مفهوم التلقي
في الفنون البصرية« :األمر ال يقتصر على اإلبصار الح�سي والنظر إلى األشياء الجميلة ،بل أكثر من
542
العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020 مراجعات الكتب
ذلك ،يشمل النظر في األشياء ،أي إعمال الفكر ،إذ اإلدراك نفسه مجموع ما هو ح�سي وما هو ذهني،
فاملجال يتسع في الفن إلى تنشيط عمليات النظر اإلبصاري والذهني ومختلف األنشطة املعرفية التي
تستحثها القراءة والتأويل والنقد والتنظير» ،وبعد هذه املقاربة التعريفية سيجري التركيز على محتوى
الكتاب عبر التعريج على فصوله ومحاولة عرض األفكار التي توخاها املؤلف:
يحاول املؤلف في الفصل األول ـ وعبر مجموعة من العناوين الفرعية ـ التطرق إلى مفهوم النظر
في ثقافة اللسان ،فيحيط باملعاني والشروحات التي وردت في القواميس العربية ،ومقارنتها بالقاموس
الفرن�سي الذي يتشابه إلى حد كبير مع مفهوم (النظر) أو (الناظر) للمفهوم العربي ،فيتطرق إلى املفهوم
ً
وهدفا والنظر ً من حيث املعنى الح�سي ،التأويلي ،التفكير والتبصر ،والنظر بوصفه ً
ذهنيا من قصدا
حيث إن النظر فراسة وبحث عن املوضوع ،كما أنه حكم وتقويم وتثمين للموضوع ،وإعطاء األهمية
ملفهوم (النظر) على أنه نظر من دون إبصار ،أي مقاربة املوضوع من زاوية املوقع واملسافة وزاوية
الرؤية مع االختالف الحاصل في املفهوم بين املعجم الفرن�سي ومعجم لسان العرب .عالوة على أن
ً ً ً
موجها إليه أو في محاولة اإلحاطة به»(((، النظر حراسة ومراقبة «فالنظر فعل في املوضوع وفعل
وهكذا يتعرض املؤلف لقراءات عدة في التحوالت في املفهوم لدى ثلة من الفالسفة مثل أفالطون،
حينا آخر .ويؤكد املؤلف أن الفلسفة حينا ،واالعتراض عليها ً أ سطو والفا ابي ،مع االتفاق مع آ ائهم ً
ر ر ر
تسبق الفن «وال نظرية للفن دون الفلسفة» ،فهو يزيح املفهوم التقليدي والشائع حول الفن أو
العمل الفني ضمن اإلطار النظري السطحي الفيزيائي إلى اإلطار املعرفي «الفن ـ العمل الفني ـ إعادة
بعيدا عن االنطباعية»((( ،ويؤكد أهمية دور املتلقي في انوجاد العمل الفني ،وحضوره لترتيب األشياء ً
اإلبداعي ،وعدم األخذ بدور املتلقي فقط في االكتشاف والبحث ،وإنما في النظر ملا بعد مفهوم الرؤية
واملشاهدة ،أي تفعيل دور الذهن.
يوافق املؤلف أرسطو في مفهوماته ونظريته ،وبخاصة في ما ذهب إليه أرسطو في فهم ما للطبيعة
من ميتافيزيقيا الشكل واملضمون ،وأن الطبيعة تبقى هي موضوع الفن األوحد «الطبيعة أصبحت
مرجعية النظر الفني ،إنها أمام عين الفنان منظومة فيزيائية حسية ،وهي األنموذج ،فما ندركه
543
مراجعات الكتب العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020
في الطبيعة هو مقياس الجمال الفني ،وبفضل املهارة الفنية التي تقاوم املسافة بين العمل الفني
وموضوعه ،تتلقى العين من الجمال الفني املتعة عينها التي تتلقاها من الجمال الطبيعي»((( ،فعبر
عملية النظر يخلق العين من املوضوع الفني أنطولوجيته.
ً
انفتاحا في تجسيد واملؤلف يحاول أن يخرج العمل الفني من فضائه املنغلق إلى فضاء أعم وأكثر
فكرا وثقافة ،وذلك ضمن التحوالت التي تطرأ عليه (العمل الفني) ،واالنتقال به العمل الفني بوصفه ً
إلى فضاء املعرفة ،ويطرح معها أسئلته املفتوحة التي يمكن تأويلها حول أهمية تفعيل النظر ،وتحويله
إلى عملية معرفية وفكرية في العمل الفني ،واالنتقال بالعمل الفني من حيزه الفيزيائي /األنطولوجي
الخاص بالفنان وورشته إلى أنطولوجيا التلقي ،حيث يتمثل أمام حشود ومشاهدين يفعلون من
وبناء على ذلك؛ فالعمل الفني ما عاد املقصد العملية النظرية والثقافية واملعرفية للعمل الفنيً .
والهدف والغاية منه هو إثارة متعة أو لذة فقط ،إنما «املهم في املسار الفني هو ْأن يولد في دواخلنا
َ ً ً
يحرك فينا متعة الجمال»((( ،ألن ما يضمن للعمل الفني تقويميا ما ،وليس معنى ذلك أن فعل
البقاء والوجود ،هو قدرته على إثارة عالقة مع املحيط /الناظر ـ الناقد ـ املؤول ،والتأسيس لها ،وهذا
عاد للجمال سطوة وسلطان .وسلط املؤلف الضوء على املتغيرات التي طالت مفهوم الجمال معناه ما َ
ً
بحسب تاريخ النظرية الجمالية ،فما كان جميل يقوض ملصلحة جمالية القبح ،فكما طال التطور
حياً ،
تبعا للسياق الثقافي ،فإن التطور طال اللغة البصرية باملثل. منظومة اللغة بوصفها ً
كائنا ً
في السياق ذاته يتفق املؤلف إلى حد ما مع أرسطو في طروحاته ومفهوماته للفن ،من حيث إن الفن
هو إنتاج للمتعة الجمالية ،وفي مفهوم املحاكاة« ،املحاكاة تعني تجسيد التجسيد»((( .ويتطرق إلى
جدلية التأويل واملقصدية« ،فالفن في املقاربة األرسطية ليس نتاج وحي إلهامي أو إحساسية عمياء،
بل هو ثمرة يقظة ذهنية وخبرة تأملية فكرية»(((.
((( خليل قويعة ،العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية ،ص.30
544
العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020 مراجعات الكتب
وينهي املؤلف الفصل األول من كتابه بسؤال مهم :كيف يمكن االنتقال بالعمل الفني من كونه
ً
وجودا أمام العين الباصرة؟ أي كيف يمكن أن نحرر الناظر فقط فكرة مجردة إلى حالة تؤسس له
من الفكرة املجردة تجاه األشياء ،لتتحول إلى ذات ترى وتستمتع وتالمس العالم ،كل ذلك من خالل
اإلدراك؟
َ
وقد عنون املؤلف الفصل الثاني من كتابه بعنوان رئيس« :إنشائية املرئي بين الذات والعالم»،
وضمن هذا العنوان؛ تندرج عناوين فرعية ،تتناول العمل الفني ككائن جسدي في علمي التشريح
والنفس ،وهي في مجملها عنوانات تدور حول مفهوم الصورة والتحوالت التي تطرأ عليها عبر مجموعة
من اآلراء واألمثلة لبعض الفالسفة واملنظرين .والفصل يحاول البحث في العين العاكسة وفي تاريخية
الفن (أو تحرير النظر) ،ويتطرق إلى مآالت الصورة بين تجربة املوت واالنبعاث ،والصورة في لعبة
الخفاء والتجلي (ما نراه ـ ما نعرفه) ،والصورة بين الذات واملوضوع.
يستعرض املؤلف في بداية البحث الثاني إلنشائية العمل الفني ،مسعى السورياليين (السريالية)
في أن «ينزل األثر اللغوي املنطوق ذي الشحنات النفسانية الداخلية املنزلة والكفيلة والتي ِ
توصل
مجال الالوعي بمجال اإلدراك الواعي ،إن لم يكن عن طريق املؤسسة اللغوية الراسخة في الذاكرة
بالنسبة للشعراء ،فعن طريق الذاكرة البصرية بالنسبة للرسامين» على اعتبار أن العمل الفني هو
الساحة الفعلية التي تنجلي وتتوضح فيها األلغاز والتوترات ،والتي تكمن في الذات املظلمة أو (املجال
املن�سي في الذات) .
يتناول بذلك املؤلف تجربة املوت واالنبعاث لعناصر العمل الفني ،فيتطرق إلى نقطة مهمة،
ً وهي قتل املوضوع /إماتة الصورة ـ األثر ،إذا ما ُ
الت ِقطتُ ،ورميت خارج الزمن ،فاملؤلف يطرح سؤال
جوهريا عن دعم الذات وحضورها بموت املوضوع وإحيائه من زاوية أخرى؛ هي زاوية الذات .وطاملا ً
كانت الصورة وجه من وجوه الوجود اإلنساني ،ودعوة من خاللها إلى التفكر ملا وراء الصورة (ميتا ـ
صورة) ،أي الخوض في الجانب املظلم لدى الكائن /الشخص ،يقدم املؤلف رؤية الفكر الغربي ملفهوم
الصورة واإلشارة إلى الفلسفة التي تناولت مفهوم الصورة على أنها تبعية للحقيقة ،أو نسخة عن
العالم ،فيتناول عالقة الصورة بالوجود ،ليطرح نظرية اإلحالل ،حيث يمكن للصورة أن تخترق الزمن
حضورا آخر ،من خالل الصورة وبفضلها ،ويسأل عن إمكانية إحالل الزمن البائد في الزمن ً «وتستعيد
545
مراجعات الكتب العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020
الحاضر من خالل الصورة»((( .وهكذا فالصورة تمر عبر حالة من الثبات والتحول /حاضر ـ وغائب،
وفعل النظر هنا يحدث ملرتين ،مرة من العين املخصصة للعدسة /عين العدسة ثم نعيد املوضوع
والنظر فيه من خارج عين العدسة ،بعد أن تحول لصورة “فاملوضوع يمر بتحوالت انطولوجية
مختلفة ووالدات شتى”(.((1
بعد أن قدم املؤلف نبذة عن بعض اآلراء والتحوالت التي طالت مفهوم النظر والعين الناظرة؛ وما
تتعرض له الصورة من خفاء وتجلي /موت وانبعاث ،يبحث في الصورة ً
أيضا بين الذات واملوضوع،
ً
فلسفيا .يحاول املؤلف أن ولطاملا كانت املعرفة هي عملية فكرية ،ونتاج العالقة بين الذات واملوضوع
يوظف هذين املصطلحين في القراءة ،فاملؤلف يفصل بين املوضوع الخارجي عن الذات الناظرة ،فما
عادت األشياء في الخارج تد َرك بالحواس فقط أو تد َرك بالعقل اإلنساني ،باإلدراك الذهنيً ،
بعيدا
عن اإلدراك النف�سي ،وطاملا كانت عالقة الصورة تكمن مع الذات املفكرة واملدركة ً
بعيدا عن الواقع
ً
الخارجي؛ تاركا الصورة لالعتبارات الذاتية /العين الناظرة /العين املفكرة.
أما العنوان الرئيس الثاني في الفصل الثاني الذي تناوله املؤلف بالبحث والقراءة فهو موسوم بـ
«فعل النظر في فلسفات اإلدراك واستتباعاته الجمالية» ،حيث يتنقل املؤلف بين عناوين فرعية
عدة لعلها توضح ـ ومن خالل جملة آراء وأمثلة ـ مفهوم إنشائية النظر ،من الخاصيات املحسوسة
إلى املوضوع املد َرك ،مظاهر التنزيل الذهني والرمزي لإلدراك ،حدود املقاربات العقالنية والذهنية
ومباشرا) ،إنشائية النظر بين الجسد والعالم ،ثم ً
ً ً
أخيرا بعنوان فرعي (اإلدراك بوصفه معطى شامل
يبحث في اإلدراك بين التجربة الجمالية وإيقاع الحياة (نموذج جون ديوي).
وهنا؛ ما يز َ
ال املؤلف يدور في فلك اإلدراك والعالقة مع الذات أو املوضوع وذلك عبر حدود
ً ً
ومباشرا« ،فاإلدراك ال يتحقق من دون املقاربات العقالنية والذهنية واإلدراك بوصفه معطى شامل
مدركة ،فالعالم َ
املوضوع ،وهذا املوضوع املدرك ال يكفي لتحقيق اإلدراك ،بل البد من وجود ذات ِ
546
العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020 مراجعات الكتب
ً
واعتمادا على ذلك فاملؤلف يطرح إلنشائية النظر ليس إال سوى ما ندركه وبالطريقة التي ندرك»(،((1
ودورها األنطولوجي في رؤية األعمال الفنية وتأويلها وتأسيسها ً
ثقافيا داخل عالم الفن»( ،((1فال عمل
فني من دون ذوات تدركها ،أي من دون النظر ،حيث ال تكتمل العملية اإلدراكية ،فيتناول بالبحث
إدراكية اللون ،واللون بوصفه تجربة معيشة ،واملوضوع املرئي بين الظاهر والوعي ،وارتداد النظر،
ً
تأسيسا للذات. والجسد الخاص ،ثم اآلخر بوصفه
يتضح مما سبق «أن عملية اإلدراك ليست عملية عابرة ،وال تكتفي بفعل اإلحساس أو فعل
ً
ومنتجا ،وهي شرط اندماج حيا ً
وجودا ً التعقل ،بل هي فعل مؤسس لوجود الذات /الجسد في العالم
هذه الذات في الحياة اإلنسانية ،الشخصية والتاريخية»( .((1وقد أشار الفيلسوف ميرلو بونتي هو
اآلخر في كتابه (العين والعقل)( ((1إلى إنشائية النظر ضمن العالقة التي تجمع بين الرائي واملرئي /أي
بين الذات الناظرة واملوضوع على نحو مستفيض.
يتمحور العنوان األخير في الفصل الثاني للكتاب ،حول مسارات العين املصورة بين املعرفي
والجمالي ،فيتناول بالدراسة العين في جهاز اآللة املفكرة (ما الذي يجعل العين يرى) ،ويطرح سؤاله:
ً
صانعا للصور واألفكار في آن واحد؟»( ،((1ويتناول تفعيلية العين وتشكيلية «ما الذي يجعل العقل
الفضاء في الفن البصري /الحركي ،ثم دينامية املشاركة (العين جسد).
وفي الواقع املؤلف يتناول عملية /مفهوم النظر /الرؤية من منطلق فيزيولوجي ،فالعين جزء من
الجهاز البصري والعصبي الذي تتم من خالله عملية اإلبصار ،أي الدور الفيزيولوجي الذي تقوم به
ً
(مترجما) ،ط( ،1اإلسكندرية :منشأة املعارف،)1964 ، ( ((1موريس ميرلو ـ بونتي ،العين والعقل ،محاضرات ،1960حبيب الشاروني
ص30-28
( ((1خليل قويعة ،العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية ،ص.170
547
مراجعات الكتب العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020
يحاول املؤلف في الفصل الثالث واألخير من كتابه وبعناوين فرعية عدة تتمفصل حول مفهوم
ً
الفن بين التسمية والنظرية؛ بحثا عن املعرفة النظرية في الفكر الجمالي ،ليم�ضي ببحثه في إنشائية
ً
النظر ،متناول عناوين تتعمق في ثنائية الفكر واإلحساس ،الفن بين التسمية والنظرية ،والتأسيس
النظري واملفاهيمي للتسمية (أو معنى الفن في عالم الفن).
املؤلف كعادته ،وضمن مجموعة من األسئلة املطروحة ،يحاول الغوص في و/أو دراسة مفهوم
ً
النظر وأهمية ذلك ودوره في إبداعية العمل الفني ،متسائل عن كيفية فهم الجميل وضبطه ورصده
ً َ
سعيدا ،وكيف لحكم ذوقي حقيقي أن ً
انسجاما بفضل انسجام َملكة للقواعد وملكة للصور املتخيلة
يكون ً
ممكنا من دون تدخل هاتين امللكتين؟ أين يكمن بالفعل نشاطهما الجمالي الحر؟(.((1
وعبر هذه التساؤالت والتطرق إلى الرؤية الجمالية الكانطية ،والتعاطي معها ،واملفارقات التي
قامت عليها ،والتي أشار إليها املؤلف ،وهي «مفارقات الحكم الجمالي ،حيث يتضايف اإلحساس مع
الذهن /الصورة مع التصور /اإلحساس مع النظري»( ،((1وحيث شكلت هذه املفارقات ميزة الجمالية
فلسفيا ،كما أشار املؤلف .ويشير ً
أيضا إلى رؤية شوبنهاور بأن «ال ً الكانطية ،وأعطت لها القيمة
548
العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020 مراجعات الكتب
تعارض بين التأمل الجمالي ومتطلبات املعرفة النظرية»( ،((1فاملؤلف يعرض التحوالت في املفهوم ملا
يخص املسألة الجمالية بين املعرفة النظرية واملعرفة اإلحساسية ،ومرد ذلك هو السؤال عن الفن
وماهيته.
يخوص املؤلف في ماهية الفن عبر اقترابات لسؤال (ما الفن؟) ،مفادها ،من الصعوبة بمكان
ً
تحديد معناه ،وذلك لكثرة تحديداته ،انطالقا من أنه ليس هناك فن يكتفي بذاته ،وال يمكن أن يتم
يخيا ،بقدر ما نحكم على أساليبه« :فنحن ال نؤرخ للفن إال من الحكم على الفعل الفني (الفن) تار ً
ً
خالل أساليبه»( ،((2فيختصر املؤلف مفهوم (الفن) بوصفه اسم علم ،بقوله «ال جدوى للنظر ،إذا
من دون مساءلة خلفياته الخالفية ـ الذهنية ـ املفاهيمية ـ النقدية ،داخل النظرية التي تبرره من وراء
التسمية البسيطة واملكثفة»(.((2
أما الوجود العالئقي والتاريخي للعمل الفني ،فاملؤلف يشير إلى وجود العمل الفني وتالزمه
األنطولوجي مع الطبيعة اإلنسانية ،ويترتب على املجموعة اإلنسانية أن تحتضن العمل الفني
ً
وتغذيه ،إضافة إلى أن العمل الفني ال يعيش بمعزل عن تاريخه ،أي في ضوء التطور التاريخي الذي
يرافق مفهوم العمل الفني ،فكينونة العمل الفني قائمة على وجود ثقافة إنسانية أي ثقافة مخصصة
ً ً
أنطولوجيا للنظر ،ويتعمق املؤلف في الوجود الفعلي للعمل الفني ويتناول النظر بوصفه باعثا
ً
(وجوديا) ،فوجود العمل الفني وحضوره ال يقتصر على ما ينجزه الفنان في ورشته ،إنما العمل الفني
ً
يكتسب كينونته ،عندما يكسر العمل الفني /اللوحة مثل حاجز الورشة أو جدرانها ،ويصبح لها
ً
موضوعا للنظر« ،فالعمل الفني وهو في حالة فكرة ال قائما أمام الناظر ويصبح العمل الفني ً
وجودا ً
يعني وجوده بالقوة ،إذ إن العمل الفني في الحالة الذهنية ال يرتقي إلى أي ضرب من الوجود ،وذلك
لغياب الخاصيات الفيزيائية املدركة»(.((2
549
مراجعات الكتب العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020
خاتمة القراءة
ال يسعني في خاتمة هذا العرض للكتاب ـ ملؤلفه الكاتب والرسام التون�سي خليل قويعه ،واملوسوم
َ
بـ «العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر)» ـ إال أن أضيف ،بأن املنجز
عربيا ،وذلك ملا تناول بين طياته ،موضوع الفن من زاوية مختلفة ً
جدا ربما يشكل األول من نوعهً /
ً
وألوانا ،ولم َ ً
يتبن عن الدارج عادة في الدراسات املعاصرة ،فاملؤلف لم يتطرق إلى دراسة اللوحة خامة
جزءا من عمل خاص بالفنان /الفرد وحده ،بقدر ما أن العمل الفني ال كينونة العمل الفني بوصفه ً
عرض مكثف ملفاهيم نخبة ـ ليست بقليلة وفي أزمنة متباينة ـ من ٍ له من دون الناظر ،وذلك عبر
فالسفة وفنانين ومنظرين ،اهتموا بدراسة الفن ونظرياته ،فكان ذلك بعيون غربية ،أي إن التجربة
الفنية واملتمثلة بالعمل الفني ـ كما أشار إليها املؤلف ـ ال يمكن أن تتواصل وتشتغل بوصفها عملية
إبداعية من دون النظر.
واملطلع لكتاب «العين والعقل» للفيلسوف الفرن�سي موريس ميرلوبونتي ،ربما يجد ثمة تناص/
تخاطر بينه وبين كتاب خليل قويعه ،فهما يشيران إلى أهمية الرؤية في موضوعة إدراك العالم «إن
اإلدراك الح�سي للعالم يبدأ بالرؤية ،وإن هذه الرؤية تتجه أول األمر إلى سطح العالم ،لكنها ال تلبث
أن تتوغل داخله بحيث يدرك اإلنسان العالم املحسوس ،ويبلغ خفاياه ،وإنما من غير أن يتخلى عن
الرؤية»(.((2
صيدا ً
نظريا لعملية تلقي اللوحة التشكيلية ،من وبذلك أضاف املؤلف /الفنان خليل قويعه ر ً
خالل محاولة الخروج بالفن من الحيز التقليدي بعناصره الفنية ،ونقله إلى عوالم معرفية معاصرة،
فما عاد هناك فن ألجل الفن ،وال ثمة تعريف مطلق ملاهية الفن ،وقد تبنى املؤلف طروحات وآراء
عدة ـ لم يقف فيه عند زمكان معين ـ ملفهوم النظرً ،
مؤكدا على دور الناظر /املشارك وتثمين النظر
في العملية اإلبداعية «فالنظر هو إعادة تأسيس العالم وإبداع متجدد له ،أي إعادة َم ْو ٍ
قعة للناظر
ً
(مترجما) ،ط( ،1االسكندرية :منشأة املعارف،)1964 ( ((2موريس ميرلو ـ بونتي ،العين والعقل ،محاضرات ،1960حبيب الشاروني
ص.3
550
العدد الثاني عشر -حزيران /يونيو 2020 مراجعات الكتب
في داخله»(.((2
وبهذا املنجز يترك الكاتب خليل قويعه بصمته العميقة في مجال الدراسات النقدية الفنية/
التشكيلية ،في الوقت الذي تفتقد فيه الساحة التشكيلية ـ ً
عربيا ـ لهكذا حضور نظري ،ورد االعتبار
للناظر ،وملفهوم إنشائية النظر الذي تفتقد إليه القراءة النقدية للعمل الفني.
املصادرواملراجع
1 .1قويعة ،خليل ،العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية
النظر) ،ط( ،1الدوحة/بيروت :املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات،
.)2018
2 .2ميرلو ـ بونتي ،موريس ،العين والعقل ،محاضرات ،1960حبيب الشاروني
ً
(مترجما) ،ط( ،1اإلسكندرية :منشأة املعارف.)1964 ،
( ((2خليل قويعة ،العمل الفني وتحوالته بين النظر والنظرية ،ص.347
551