Professional Documents
Culture Documents
148 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
مقدمة
مظاهر الجمال في حياتنا كثيرة ومتنوعة ،تحيطنا من كل جانب ،فهي موجودة في
تلك الرؤى الطبيعية كما هي موجودة في عالم الفكر وعالم األدب ،في تلك القوافي
املبدعة والقصص املثيرة التي تفيض حركة وحياة ،وفي تناسق األجزاء وتناغم الخطوط
واأللوان ،وغيرها من املظاهر التي تطرب لها النفس وتسكن لها األرواح.
وبذلك تظهر لنا أهمية القيم الجمالية في حياتنا ،فبدون اإلحساس بالجمال تصبح
الحياة ال طعم لها .فكما أن اإلنسان في حاجة إلى إشباع حاجاته الضرورية املادية ،فإنه
كذلك في مسيس الحاجة إلى وجدان قادر على استلهام الجمال وتأمله والبحث عنه،
ليكمل الجانب النفس ي منه فيلين وجدانه ،وتنمو مشاعره ،ويثرى خياله ،وتتقوى لديه
ملكة الحس الجمالي ،وهكذا يتحول الجمال إلى قيمة روحية كبيرة في حياتنا ،تق ي على
تلك الرتابة واآللية وعلى تلك النظرة النفعية البغيضة .ولعل أكثر الظواهر ارتباطا
بالجمال هي الظاهرة اإلبداعية "بسبب ما فيها من ابتكار ينم عن أصالة ،وأصالة تنم عن
عبقرية ،وعبقرية تكشف عن عظمة الفنان وجدته ).حجازي ،و أنور ،2000 ،ص)21
أوال :في معنى الجمالية:
عندما تستعمل الجمالية أو "الفن من أجل الفن" ال تشير إلى الجميل فحسب ،وال
إلى محض الدراسة الفلسفية ملا هو جميل ،وإنما هي رؤية خاصة للحياة والفن ،تشير في
األعم األغلب إلى "اتجاه في الحياة األدبية والفنية ،يكشف عن اهتمام كثير من الناس في
القرن التاسع عشر وبصورة جدية بقيمة الفن وطبيعته ،وبعالقة الفن بالحياة " .
(جونسون،1983،ص)296
ظهرت الجمالية أول ما ظهرت في القرن التاسع عشر ،مشيرة إلى ش يء جديد ،يمثل
أفكارا اتخذت بعد ذلك نمطا ممييا ،وقدمت تحديا جديدا أو جديا بوجه أفكار أكثر
محافظة وتقليدا .إنها ظاهرة أوروبية وأمريكية غريبة ،رادها مجموعة من املفكرين
149 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
150 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
كما ُيع ّد "لو كونت دو ليل" ،من أبرز رواد هذه املدرسة ،فقد ثار على العاطفة
الذاتية وأبى أن يعرض قلبه على الدهماء ،كما أبى أن يسف الشعر إلى حد الوسيلة التي
تستخدم لغرض ما ،وذلك ليرد الشعر إلى طبيعته كفن جميل هدفه الصور واألخيلة
الجميلة في ذاتها ،ويقول "لوكونت دوليل" مدافعا عن أهداف هذه املدرسة ومبادئها:
"عالم الجمال وهو مجال الفن الوحيد ،غاية في ذاته ،ال نهائي وال يمكن أن يكون لديه
صلة بأي إدراك آخر دونه مهما يكن ،وليس الجمال خادما للحق ،ألن الجمال يحتوي
على الحقيقة اإللهية واإلنسانية ،فهو القيمة املشتركة التي تلتقي عندها طرق الفكر وما
عداها يدور في دوامة من املظاهر .والشاعر الذي يحقق األفكار ،أي األشكال املرئية وغير
املرئية في صورة حية مدركة ،عليه أن يحقق الجمال بقدر ما تتيح له قواه ورؤاه النفسية
في تراكيب فنية الصنع ،تنم عن عمق خبرة ،محكمة النسج ،منوعة األلوان موسيقية
األصوات ،تمتاح من موارد شتى ،من عاطفة وتفكير وعلم وأصالة ،إذ أن كل عمل فكري
ال تتوافر فيه هذه الشروط لخلق جمال حس ي ال يمكن أن يكون عمال فنيا".
(غنيمي،د.ت،ص)387
فالتجربة الجمالية عند كونت دو ليل تجربة جديرة بأن تدرس بذاتها ولذاتها،
بعيدة عن كل التأثيرات الخارجية عنها ،ألن الجمال عنده أسمى من أن يكون تابعا لغيره،
ألنه يحمل في ذاته بذور الخير والحق وكل القيم اإلنسانية ،كما يحرص من جهة أخرى
على استكمال النوامي الفنية للعمل الشعري ،وذلك باالهتمام بالجانب الشكلي للنص،
من تراكيب جيدة الصنع ،وألفا عذبة املوسيقي ،والتي تكشف كلها عن عمق تجربة
الشاعر وأصالته .أما برادلي في مقال له بعنوان الشعر للشعر يقول" :ما الذي تقوله لنا
نظرية الشعر ألجل الشعر" عن التجربة الشعرية ؟ إنها على حد فهمي لها -تقول هذه
األشياء:
151 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
أوال :إن هذه التجربة غاية في ذاتها وإنها جديرة بالعيش لذاتها وأن قيمتها ذاتية
صرفة .
ثانيا :إن قيمتها الشعرية ليست إال هذه القيمة الذاتية عينها ،قد يكون للشعر قيمة
بعيدة باعتباره وسيلة للثقافة والدين ،ألنه قد يعلمنا شيئا أو يرقق من عواطفنا أو قد
يدعو إلى قضية خيرة ،أو ألنه يجلب على الشاعر الشهرة أو املال أو راحة الضمير وليس
هذا مما يس يء للشعر في ش يء ،وإنما هو العكس ،فلندع الناس يقدرون الشعر لهذه
األسباب أيضا ،ولكن هذه القيمة البعيدة للشعر ليست هي قيمته الشعرية باعتباره
تجربة خيالية مرضية وال يمكنها أن تحدد القيمة الشعرية ،فالقيمة الشعرية ال يمكن
ّ
الحكم عليها إال من داخلها ...بل إن اعتبار الغايات البعيدة سواء كان ذلك عند الشاعر
أثناء عملية اإلبداع أو عند القارئ أثناء مروره بالتجربة إنما هو ينيع إلى التقليل من
القيمة الشعرية ،وذلك ألن مثل هذا االعتبار يغير من طبيعة الشعر عن طريق إخراجه
من ميدانه الخاص به ،فليست طبيعته في كونه جزءا أو صورة من العالم الحقيقي
(باملدلول الشائع لهذه العبارة) بل هي في كونه عاملا قائما بذاته كامال مستقال"( .
رتشاردز،1963،ص)126
تتضمن هذه النظرة أهم املبادئ التي يرتكز عليها هذا االتجاه الجمالي في تقويم
التجربة الشعرية.
أوال :إن التجربة الشعرية غاية في ذاتها ،وإنها تستأهل الحصول عليها لذاتها وأن
قيمتها متركزة فيها.
ثانيا :إن قيمتها الشعرية تتركز فيها وحدها ،باعتبارها تجربة جمالية كاملة وفريدة،
يمكن دراستها منفصلة عن غيرها من التجارب والقيم ،فإذا تحققت للتجربة الجمالية
هذه الغاية فال ضير بعد ذلك ،إذا حققت قيما ثانوية أو ما أسماها برادلي بالقيم
البعيدة ،كأن يكون -أي الشعر -أداة للثقافة والدين ،أو يقدم املعرفة ويرقق املشاعر،
152 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
أو يعمق من دافع الخير ،أو يجلب الشهرة واملال ....ومع ذلك فإن هذه القيم تبقى بعيدة
عن كونها تقويما للتجربة الشعرية.
ثالثا :إن االهتمام بالغايات البعيدة سواء بالنسبة للشاعر أثناء عملية اإلبداع أو
بالنسبة للقارئ أثناء مروره بالتجربة ،يقلل من القيمة الشعرية ،ألنه ينقل التجربة لجو
ليس بجوها ،فطبيعته (أي الشعر) ليست ً
جزءا وال نسخة من الحياة الواقعية ولكنها
على حد تعبير برادلي" :عالم بذاته ،مستقل كامل مي كي تتملكه يجب أن تدخله ،وتذعن
لقوانينه ،وتتناس ى في هذا الوقت املعتقدات واألهداف واألمور الخاصة التي تهمك في
عالم الحقيقة اآلخر"(.اسماعيل،2000،ص)328
وبناء عليه ،نجد أن مذهب "الفن للفن" وهو املذهب الجمالي الخالص الذي يؤكد
على أن الفن متميي وفريد ،وهو أقدر األشياء على تبرير وجوده الخاص ،دون أن يسىى
إلى تبرير مستمد من مجال آخر ،لذلك نبذت الجمالية أو مذهب "الفن للفن" مبدأ
التعليم والفائدة .
فالجمالي ال يستهدف من عمله الفني أن يكون ذا غاية نفعية كأن يستخدم للتعليم
أو الوعظ الديني أو ليحقق ثروة أو مجدا أو شهرة ،وإنما يستهدف الكشف عن الحقيقة
الجمالية في الصور الحسية التي يبدعها والتي تنطوي على قيمة فنية خالصة ،وهو ما
تؤكده روز غريب بقولها ":النقد الجمالي هو نقد للفن مبني على أصول االستطيقا أو علم
الجمال يعني بدرس العمل الفني من حيث مزاياه الذاتية ومواطن الحسن فيه بقطع
النظر عن البيئة والعصر والتاريخ وعالقة هذا األثر بصاحبه ،وهو يفترض للجمال
أصوال أو قواعد تجمعت عبر العصور وأصبح باإلمكان استخالصها من خالل األقوال
املتباينة واملباحث املتضاربة في املوضوع ثم استعمالها مقياسا للجمال في األثر الفني
الذي نريد نقده" (.غريب،1993،ص)5
153 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
154 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
العلم بصنعة الشعر ،فتشترك الجماعة في الي يء املتداول وينفرد أحدهم بلفظة
تستعذب أو ترتيب يستحسن أو تأكيد يوضع موضعه أو زيادة اهتدى لها دون غيره،
فيريك املشترك املبتذل في صورة املبتدع املخترع"( .الجرجاني،1992،ص )154كما أكد
نقادنا أيضا على ضرورة اإلحساس بماء الطبع يجري في النص ألنه كلما كان األديب أكثر
مجاراة لطبعه غرست في النص مؤثرات جمالية تؤهله إلثارة طرب املتلقي وأنسه ،ألن
النفس عادة تأنس بالكالم السمح املنقاد الذي يقال عفو الخاطر ،وتنفر من العص ي
املستكره لتكلفه وتصنعه ،و هذا ما يؤكده معظم النقاد " ومع التكلف املقت وللنفس
عن التصنع نفرة ،وفي مفارقة الطبع قلة الحالوة ،وذهاب الرونق وإخالق الديباجة وربما
كان ذلك سببا لطمس املحاسن كالذي نجده كثيرا في شعر أبي تمام فإنه حاول من بين
املحدثين اإلقتداء باألوائل في كثير من ألفاظه فحصل منه على توعير اللفظ وتبجح في
غير موضع من شعره" (الجرجاني،1992،ص )30وتأكيد نقادنا على هذا األساس يدل
داللة قاطعة على إيمانهم بفعالية اللغة الشعرية وتمايزها عن غيرها من وسائل الخطاب
األخرى ففصلوا بين األدب والعلم والحكمة ،وأدركوا بالبديهة أن الشعر لم يوجد للوعظ
واإلرشاد بصورة مباشرة ،وإنما هو عمل اإللهام واألحاسيس ،وفي هذا الصدد يقول
اآلمدي ":فقد كان التجويد في الشعر ليس علته العلم ولو كانت علته العلم لكان من
يتعاطاه من العلماء أشعر ممن ليس بعالم ،فقد سقط فضل أبي تمام من هذا الوجه
على البحتري وصار هذا أفضل وأولى بالسبق إذ كان معلوما شائعا أن شعر العلماء دون
شعر الشعراء" (اآلمدي،2006،ص، )11وهذا ما يؤكده رواد الجمالية الغربية عندما
يذهبون إلى أن الفن الذي يعجز عن التأثير فهو فن رديء ،يقول ستولنيتي ":ونحن عادة
نمتدح عمال فنيا بقولنا إنه مؤثر أو معبر ومن جهة أخرى نرفض عمال آخر بالقول إنه
عمل بال إحساس أو أنه يتركنا دون أن ننفعل" (ستولنيتي،1981،ص، )223وهكذا يجمع
155 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
النقاد على أن األدب الرفيع هو الذي يثير فينا بفضل خصائص صياغته ،انفعاالت
عاطفيه وأحاسيس جمالية.
ترسيخ مبدأ خفاء العلة في الوقوف على جماليات النص: .2
أدرك النقاد القدامى أن الذوق في مجال الحكم على اآلثار الفنية أمر ال بد منه،
لذلك سعوا إلى ترسيخ مبدأ خفاء العلة في الوقوف على جماليات النص األدبي ألنها مزايا
خفية ال يقف عليها إال أصحاب األذواق الصافية التي صقلتها الدربة وطول املمارسة،
مؤكدين أن الصنعة الشعرية ذات خصائص فنية ال يحسن تذوقها أو الحكم عليها إال
الناقد املتخصص الذي هو أعرف بأسرارها وأقدر على تمييي الجيد من الرديء .لذلك
كان الناقد عندهم هو ما جمع إلى جانب الطبع واملوهبة ،الدربة والثقافة إذ بهما
يستطيع الفصل في العيب الخفي أو الجمال الخفي ،خاصة إذا عرفنا أنه كثير ما تتشابه
األمور على السطح ،ويختلط الجيد والرديء في الشعر فيتشابهان في نظر غير الناقد
العاجز على النفاذ إلى أعماق التجربة الشعرية للكشف عن تفردها ،يقول اآلمدي ":أال
ترى أنه قد يكون فرسان سليمان من كل عيب ،موجود فيهما سائر عالمات العتق
والجودة والنجابة ،ويكون أحدهما أفضل من اآلخر بفرق ال يعلمه إال أهل الخبرة والدربة
الطويلة .وكذلك الجاريتان البارعتان في الجمال ،املتقاربتان في الوصف ،السليمتان من
كل عيب :قد يفرق بينهما العالم بأمر الرقيق حتى يجعل بينهما في الثمن فضال كبيرا ،فإذا
قيل له وللنخاس من أين فضلت أنت هذه الجارية على أختها ؟ ومن أين أنت فضلت هذا
الفرس على صاحبه؟ لم يقدر على عبارة توضح الفرق بينهما ،وإنما يعرفه كل واحد منهما
بطبعه ،وكثرة دربته وطول ممارسته وكذلك الشعر :قد يتقارب البيتان الجيدان
النادران ،فيعلم أهل العلم بصناعة الشعر أيهما أجود إن كان معناهما واحدا ،أو أيهما
أجود في معناه إن كان معناهما مختلفا...حكى إيحاق املويصلي قال :قال لي املعتصم:
أخبرني عن معرفة النغم ،و بينها لي :فقلت :إن من األشياء أشياء تحيط بها املعرفة وال
156 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
تؤديها الصفة" (اآلمدي 2006،ص ص ،)413،414ففي هذا النص إشارات نقدية رائعة
من اآلمدي حيث يوقفنا عند التمييي بين جميلين أين يبدو األمر شخصيا بحتا ،إذ ليس
هناك قاعدة تفرق بين جميل وجميل ،وإنما يعتمد هذا التفريق على الطبع والفطنة
والدربة ،كما هو الشأن في سائر الصناعات ،ال يمهر فيها ويكون خبيرا بأمورها إال من
البسها وطالت فيها تجربته ،وتربى عليها إحساسه .وليس هذا ببعيد عما قاله القاث ي
الجرجاني عندما يبرز دور الذوق في اإلحساس بالجمال فيقول ":وأنت قد ترى الصورة
تستكمل شرائط الحسن ،وتستوفي أوصاف الكمال ،وتذهب في النفس كل مذهب،
وتقف من التمام بكل طريق ،ثم تجد أخرى دونها في انتظام املحاسن ،والتئام الخلقة
وتناصف األجزاء ،وتقابل األقسام وهي أحظى بالحالوة ،وأدنى إلى القبول ،وأعلق بالنفس
وأسرع ممازجة للقلب ،ثم ال تعلم إن قايست واعتبرت ،ونظرت وفكرت ،لهذه املزية
سببا....ولو قيل لك كيف صارت هذه الصورة وهي مقصورة عن األولى في اإلحكام
والصنعة والترتيب والصيغة...أحلى وأرشق ،وأح ى وأوقع ،ألقمت السائل مقام املتعنت
املتجانف....ولكن أقص ى ما في وسعك ،وغاية ما عندك أن تقول موقعه في القلب ألطف،
وهو بالطبع أليق...كذلك الكالم منثوره ومنظومه...تجد منه املحكم الوثيق والجزل
القوي ،املصنوع املحكك ،واملنمق املوشح ،قد هذب كل تهذيب ،وثقف غاية تثقيف،
وجهد فيه الفكر ،وأتعب ألجله الخاطر ،حتى احتمى ببراءته من املعايب...تم تجد لفؤادك
عنه نبوة وترى بينه وين ضميرك فجوة " (الجرجاني،1992،ص ،)315فالحكم الجمالي
في هذه الحالة حكم ذوفي ،أساسه النفس البشرية وما ينتابها من رضا وقبول أو إدبار
ونفور ،وكأن الجميل عنده كامن في البواطن ال ظاهر فوق السطح ،ألنه قد يكون الكالم
محكما مستوفيا لكل مقومات التعبير ساملا من العيوب الظاهرة ،ومع ذلك ال يجد طريقا
يعبره إلى قلب القارئ ،لذلك قيل ":إن الصحة النحوية ال تكفي لتحقيق البالغة ،كما أن
األفكار قد تكون صحيحة في ذاتها ،وهي أبعد ما تكون عن البالغة وحسن البيان ،ألنها ال
157 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
ترث ي الذوق ،ولم يتحقق فيها اإلقناع الرومي والنفس ي" (الشايب،1966،ص ص،26
)27وهذا ما تؤكده الجمالية الغربية على لسان إدموند بيرك حيث يقول " :إن اللذة
الناشئة عن تذوق األشياء املحسوسة هي لذة الذوق الفطري الذي ال يدخل فيه الفكر،
كذلك التأثر باألهواء تأثر فطري ،أما حيث تتعقد األشياء ،حيث يجب تقدير األعمال
الفنية ومسائل التنسيق والتناسب ،ونحو ذلك ،هناك ال بد من عمل الفهم وال بد من
صقل الذوق بالدرس واملمارسة وإطالة النظر"( .غريب،1993،ص)70
أما على مستوى املوضوع حيث يتجه االهتمام إلى العمل الفني مباشرة ،وقوفا على
جمالياته واستنطاقا لخصائصه ،تلك الخصائص املجردة التي تصنع تمييه وتفرده،
خاصة أن املضمون عند غالبية نقادنا مهما كانت أهميته ال يمكن أن يكون ذا قيمة في
ذاته ،بل تظل هذه املضامين موضوعات خارجة حتى تنتشر الرؤية الشعرية في جميع
أطراف العمل الفني وتتسرب إليها جميعا ،لذلك ألحوا على جودة األداء لتقديم املحتوى
تقديما جماليا مؤثرا مهما كانت طبيعة هذا املحتوى ،ومن العبارات املحملة باليقين
الجمالي والتي كانت بعيدة األثر في تفكيرنا النقدي الجمالي ما قاله الجاحظ " واملعاني
مطروحة في الطريق ،يعرفها العجمي والعربي والقروي واملدني ،إنما الشأن في إقامة
الوزن وتخير اللفظ ،وسهولة املخرج ،وكثرة املاء ،وصحة الطبع ،وجودة السبك ،فإنما
الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير"( .الجاحظ،1984،ص،)131وما
دامت اإلجادة الفنية في الشعر هي الغاية القصوى ،فإن خوض املبدع في معان فاحشة
متعارضة مع أخالقيات املجتمع ومعتقداته ال ينقص من قيمة العمل األدبي ،وهكذا
تصبح " املعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلم منها ،فيما أحب وآثر ،من غير أن
يحظر عليه معنى يروم الكالم فيه ،إذ كانت املعاني للشعر بمنيلة املادة املوضوعة،
والشعر فيها كالصورة ،كما يوجد في كل صناعة من أنه ال بد فيها من ش يء موضوع يقبل
تأثير الصور ،مثل الخشب للنجارة ،والفضة للصياغة ،وعلى الشاعر إذا شرع في كل
158 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
معنى كان ،من الرفعة والضعة ،والرفث والنياهة ،والبذخ والقناعة ،واملدح والعضيهة،
وغير ذلك من املعاني الحميدة والذميمة :أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية
املرجوة " ( قدامة،1938 ،ص ،)19وعلى هذا األساس فمن عاب بيتي امرئ القيس:
فألهيتها عن ذي تمائم محول فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
بشق وتحتي شقها لم يح ــول إذا ما بكى خلفها انصرفت ل ــه
ملا فيهما من فحش في املعنى ،إنما يصدر حكما غير نقدي ال عالقة له بتمييي جيد
الشعر من رديئه " فليس فحاشة املعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه ،كما ال
يعيب جودة النجارة في الخشب مثال رداءته في ذاته" (قدامة ،1938 ،ص ،)20كما كان
القاث ي الجرجاني أشد مؤازره لهذا االتجاه ،حيث يرى أن الحكم الديني على الشعر
ش يء والحكم الجمالي ش يء آخر ،ألنه في رأيه قد يخالف الشاعر مبادئ الدين ،بل وقد
يكون كافرا وتظل لشعره رغم ذلك قيمة ،ودليله على ذلك شعر الجاهليين الذين تشهد
عليهم األمة بالكفر يقول ":فلو كانت الديانة عارا على الشعر ،وكان سوء االعتقاد سببا
لتأخر الشاعر ،لوجب أن يم ى اسم أبي نواس من الدواوين ،ويحذف ذكره إذا عدت
الطبقات ولكان أوالهم بذلك أهل الجاهلية ،ومن تشهد عليهم األمة بالكفر ،ولوجب أن
يكون كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ،ممن تناول رسول هللا"صلى هللا عليه
وسلم" وعاب أصحابه بكما خرصا وبكاء مفحمين ،ولكن األمرين متباينان والين بمعزل
عن الشعر"( .الجرجاني ،1992،ص )66و في ظل رواج هذه النيعة الجمالية لألدب يرى
قدامة أن الشاعر ال يحاسب على معتقده ،وإنما يحاسب على الصورة التي أخرج فيها
هذا املعتقد وبالكيفية التي عبر بها عنه ،فيقول ":ووصف الشاعر لذلك هو الذي
يستجاد ال اعتقاده ،إذ كان الشعر إنما هو قول ،فإذا أجاد فيه القائل لم يطالب
باإلعتقاد( ".قدامة،1938،ص.)128
159 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
كما كان لدعوة هؤالء بحرية العمل الفني أي عزل الدين واألخالق عن الشعر وعدم
اتخاذهما أساسا يرفعون بهما شاعرا أو يخفضون بهما آخر ،واستبعادهم الخيرية من
ميدان الحكم النقدي ،وربما رأوا أن منيع الشر أقرب إلى طبيعة الشعر ،أو على األقل
مما يحسن به فن الشعر ،كل ذلك أدى إلى رواج شعر املجون واالحتفاء به كشعر أبي
نواس وغيره ممن تناولوا املواضيع املخلة بأخالقيات املجتمع واملفسدة للنفوس وهذا ما
يؤكده أدونيس عندما يقول " :ففي النص النواس ي لهب يلتهم كل عائق ،سواء كان دينيا
أو اجتماعيا وفي هذا ما يفسر كونه ال ينقل الفرح بممارسة الحرام املحرم ،فهو يرى أن
خرق املحرم يولد فوث ى الغبطة ،التي هي نوع من هدم النظام الثقافي األخالفي القائم
ونوع من الوعد الواثق بمجيء ثقافة ال قمع فيها وال قيد ،ثقافة تخرج على قيم األمر
والنهي ،وتتيح الحياة بشكل يتم فيه التآلف بين إيقاع الجسد وإيقاع الواقع في موسيقى
الحرية" (أدونيس،1989،ص ،)62وهكذا نالحظ كيف مال نقادنا في غالبيتهم إلى إعفاء
األدب من االلتيامات الخلقية والدينية وكان تشديدهم منصبا على الناحية الشكلية،
فكانت هذه نواة مماثلة تماما ملا نادت الجمالية الغربية وفي هذا يقول بندته كروتشيه" :
إن تقييم العمل الفني ال يكون على مستوى األخالق أو عدمها ،واللوحة الفنية التي
تجذب القارئ ليس من شروطها أن تكون ذات مسحة أخالقية ،أو دينية ،أو متيمتة ،أو
أن يكون مضمونها دعوة للخير أو الحب ،فالفعل الفني هو الخلق الخاص بذاته الذي ال
ينقص من قدره أو يزيد أن يكون على مستوى معين من األخالق فالكثير من األعمال
الفنية كاللوحات ،والقصص األدبية واألفالم السينمائية أحيانا ما ترمي غلى مضامين ال
تخلو من شر أو فزع إال أنه ال يمكن أن يقال عنها أنها خالية من الفن أو هابطة في
املوضوع أو األسلوب" (كروتشيه،1947،ص.)30
وما دام املضمون في غالبية خطابنا النقدي القديم لم يعد أساسا للتمييي بين
املبدعين وإنما الشأن في تلك الصيغ الفنية التي يبدعها الشاعر ،فكانت أولى العنا صر
160 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
اإلبداعية التي توقف عندها النقاد القدامى هي لغة النص الشعري باعتبارها خلقا فنيا
خاصا ،وابتكارا متفردا للجمال ،فحرصوا على تحقيق الجمال في الكلمة املفردة على
أساس أنها اللبنة األساسية في بناء النص العام ،فرأوا بضرورة تمييها بالعذوبة
والسهولة ،كما استنكروا أن تكون غريبة وحشية ينفر منها السمع ويستثقلها اللسان
ويأباها الذوق السليم ،وهذا ما يؤكده القاث ي الجرجاني إذ يقول ":فلما ضرب اإلسالم
بجرانه واتسعت ممالك العرب ،وكثرت الحواضر ،وفشا التأدب والتظرف ،اختار الناس
من الكالم ألينه وأسهله وعمدوا إلى كل ش يء ذي أسماء كثيرة فاختاروا أحسنها سمعا
وألطفها من القلوب موقعا ،وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأشرفها "
الجرجاني،1992،ص ص)29،30
وألجل ذلك نجد استنكارا شامال لطريقة أبي تمام الذي رام اإلغراب فجاء باملحال،
وبالتالي صدم السمع وأذى الذوق العربي ،مقابل استحسانهم لطريقة البحتري لتجنبه
التعقيد ومستكره األلفا ووحي ي الكالم ،يقول اآلمدي ":ووجدت أكثر أصحاب أبي
تمام ال يدفعون البحتري عن حلو اللفظ وجودة الرصف وحسن الديباجة وكثرة املاء
وأنه أقرب مأخذا وأسلم طريقا من أبي تمام" (اآلمدي،ج ،2006 ،1ص .)423
كما اهتم نقادنا أيضا بحسن السبك وجودة الرصف وجمال الديباجة،
فالتأليف بين العناصر املشكلة للعمل األدبي يجب أن يكون تأليفا جماليا مؤثرا ،ألن
الجميل يتركز في عالقة األجزاء ببعضها البعض وعالقة كل جزء بالكل ،وهذا ما يؤكده
أبو هالل العسكري قائال ":فإن اللفظة إذا لم تقع موقعها ولم تصل إلى مركزها ولم
تتصل بسلكها ،وكانت قلقة في موضعها ،نافرة عن مكانها ،فال تغص ها اغتصاب األماكن
والنيول في غير أوطانها" (العسكري ،1989 ،ص ص.)153 ،152
161 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
فأساس كل جميل هو ذلك التناسب والتالؤم الذي يحدث بين العناصر املشكلة له
"ألن العناصر التي يختارها الفنان من وسيطه املادي ترتب في العمل على نحو من شأنه
مضاعفة يحرها وحيويتها" (ستولنيتي ،1981 ،ص .)339
.يقول اآلمدي ":وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد املعنى املكشوف بهاء وحسنا
ورونقا حتى كأنه أحدث فيه غرابة لم تكن ،وديباجة لم تعهد.....وإذا جاء لطيف املعاني
في غير بالغة سبك جيد وال لفظ حسن ،كان ذلك مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق،
أو نقش العبير على خد الجارية القبيحة الوجه" (اآلمدي ،ج ،2006 ،1ص )425ولم
يكن هذا مبدأ اآلمدي وحده ،بل شاركه في ذلك جمع كبير من النقاد الذين ألحوا على
ضرورة إحكام نسيج العمل الفني تنظيرا وتطبيقا ،لذلك حرسوا على ضرورة تجنب سوء
الرصف ورداءة التأليف ملا لها من انعكاسات سلبية في عملية التلقي لذلك استنكروا ما
يعيق تناسق الكالم كاستنكارهم للمعاظلة وما ينتج عنها من تداخل الكالم وتشبثه
ببعضه البعض كقول أبي تمام:
عنه فلم يتخون جسمه الكمد خان الصفاء أخ خان الزمان أخا
فانظر إلى أكثر ألفا هذا البيت...ما أشد تشبث بعضها ببعض ،وما أقبح ما
اعتمده من إدخال ألفا في البيت من أجل ما يش هها ،وهي قوله "خان" و"يتخون" وقوله
"أخ" و"أخا" ،فإذا تأملت املعنى مع ما أفسده من اللفظ لم تجد له حالوة وال فيه كبير
فائدة" ( اآلمدي ،ج ،2006 ،1ص .)294
فاالستنكار هنا راجع إلى إصرار الشاعر على تكرار فعل واحد بصيغة زمنية مع تغير
اإلسناد فقط ،مما أدى إلى اهتياز الصياغة اللغوية وانحالل العالقات التي تربط بين
األشكال الذهنية لأللفا وهذا ما يؤكده أبو كريشة قائال ":وهذا التصادم املعنوي
يحسه القارئ حين يفقد االستراحة الذهنية بين معنى وآخر ،وهي ش يء مطلوب في فهم
162 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
الكالم ليحس أنه يفهم ما يسمع ،فإذا توالت الكلمات دون هذا الفاصل الرقيق الذي ال
يكاد يحس ،أحس الذهن بإجهاد فكري يفقده القدرة على الفهم ويجبره على التوقف،
ليعيد الكالم مرات ومرات ويقلبه ظهرا لبطن ،ويقدم فيه ويؤخر حتى يعثر على هذه
الفواصل الرقيقة التي تعطي املعاني على دفعات ،يقبلها الذهن ،ويستريح إليها الفكر"
(أبو كريشة ،1996،ص.)300
كما حرص نقادنا القدامى على إخراج البناء الشعري وهو مكسو بكثير من أسرار
الجمال التي تشيع في النص قدرا كبيرا من األنس واإلطراب ،فرأوا بضرورة اتصال أجزاء
القصيدة وأال ينفصل جزء منها عن جزء ،فيجيد الشاعر تجاور مواضيعها في جو من
التآلف النفس ي حتى تخرج وقد أحكم نسجها وتالحمت أجزاؤها فتلف القصيدة بجمال
يحري يأخذ بلب القارئ ،ألن تفكك األجزاء تنفر منه النفس وتستوحشه ،وقد برع ابن
طباطبا في تفصيل ذلك قائال" :وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره وتنسيق أبياته
ويقف على حسن تجاورها أو قبحه :فيالئم بينها لتنتظم له معانيها ويتصل كالمه فيها،
وال يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فضال من حشو وليس من جنس ما هو فيه،
فينس ى السامع املعنى الذي يسوق القول إليه كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت ،فال
يباعد كلمة عن أختها ،وال يحجر بينها بين تمامها بحشو يشينها ،ويتفقد كل مصراع هل
يشاكل ما قبله فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل منهما في موضع اآلخر فال ينتبه
على ذلك إال من دق نظره ولطف فهمه" (ابن طباطبا ،د.ت ،ص .)165وهكذا نالحظ
كيف حرص ابن طباطبا على إحكام نسيج القصيدة والتوفيق بين معانيها وألفاظها
وقوافيها ،حتى تخرج القصيدة كالكلمة الواحدة ،وهذا ما يؤكده عبد القادر هني إذ يرى
أن وقوف الشاعر على "طبيعة العالقات بين الوحدات الدالة في العمل األدبي هي التي
تجعل من النص نصا أدبيا أو تقف به عند حدود الكالم العادي ،فكلما كان املبدع أعمق
نظرا في إدراك العالقات ...كان نصه أكثر أدبية من سواه" (هني ،1999 ،ص ،)208وهذا
163 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
ما يذهب إليه رائد النقد الجمالي جيروم ستولنيتي عندما يؤكد على أن قيمة العمل الفني
وجماله لن تكون إال بالوقوف على طبيعة العالقات القائمة بين عناصره املشكلة له
فيقول " :فلن تكون مناقشا ألي عنصر من عناصر الفن مناقشة مستنيرة إال إذا تذكرنا
على الدوام طريقة ارتباطه بالعناصر األخرى .بل إن املناقشة ذاتها ستذكرنا على الدوام
بهذه العالقات املتبادلة في مواضع متعددة إذ نجد أننا ال نستطيع حتى أن نتكلم في أي
عنصر واحد كالما ذا معنى إال إذا تذكرنا مكانه داخل الكيان الكامل للعمل"
(ستولنيتي ،1981،ص.)324ومعنى ذلك أن ال قبح في الفن إال لنقص وحدته وانفصال
أجزائه بعضها عن بعض ،بحيث ال تجري الحياة في أجزاء العمل الفني ،وبذلك يكون
التناسب أساس كل فن رفيع ملا يولده في النفس من خفة وإيناس وبهجة ،والجمال
مرهون بمدى إدراكنا لهذا التناسب.
وبنفس الولع واالهتمام وقف نقادنا القدامى طويال عند املوسيقى وعناصر
اإليقاع ملا لهما من أهمية في خلق أدبية النص سواء بالنسبة للنثر أو للشعر ،غير أنها في
الشعر كانت أكثر كثافة ،فاملوسيقى بالنسبة للشعر كما يقول محمد مندور ":من
مقوماته األساسية التي إذا فقدها فقد خاصية من الخصائص الكبرى التي تمييه عن
النثر الذي ال بد هو اآلخر أن تكون له موسيقاه وأن يكون له إيقاعه النفس ي ،لكنها
موسيقى وإيقاع يختلفان في نسقهما أكثر اختالفا عن موسيقى الشعر الواضحة املعبرة
وعن إيقاعه املنظم املحدد" (مندور ،د.ت ،ص .)40وبما أن املوسيقى هي جوهر الشعر،
وأقوى عناصر اإليقاع فيه ،فقد ركز نقادنا على االنتظام اإليقاعي لعناصره اللغوية فهو"
كالم منظوم بائن عن املنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ،بما خص به من
النظم الذي إن عدل عن جهته مجته األسماع وفسد عن الذوق ،ونظمه معلوم محدود"
(ابن طباطبا ،د.ت ،ص.)41
164 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
ومعنى ذلك أن الشعر يتميي عن النثر-غالبا -بالوزن والقافية بحس هما عنصرين
يضفيان على املنظوم سمات إيقاعية غير متوفرة في الكالم املنثور وهذا ما يؤكده ابن
سنان حيث يقول ":فالذي يصلح أن يقوله من يفضل النظم أن الوزن يحسن الشعر
ويحصل للكالم به من الرونق ما ال يكون للكالم املنثور( ".الخفاجي ،1982 ،ص،)287
فهذا االهتمام باملوسيقى في العمل األدبي ليس من باب الترف والتسلية بقدر ما هي
وسيلة لكسب مودة املتلقي ،وقد كان ابن طباطبا واعيا لهذه الحقيقة ،حيث ارتبط
نجاح الشعر عنده في أداء وظيفته باالمتياج الرومي الذي يحصل بينه وبين متلقيه،
وتلعب العناصر اإليقاعية في القصيدة دورا كبيرا في تحقيق هذا االمتياج يقول ":فإذا ورد
عليك الشعر اللطيف املعنى الحلو اللفظ التام البيان املعتدل الوزن ،مازج الروح والءم
الفهم ،وكان أنفذ من نفث السحر وأخفى دبيبا من الرفى وأشد إطرابا من الغناء ،فسل
السخائم وحلل العقد وسخى الشحيح وشجع الجبان ،وكان كالخمر في لطف دبيبه
وإلهائه وهزه وإيثاره" (ابن طباطبا ،د.ت ،ص.)16
وبنفس الولع واالهتمام كانت القافية الركن الثاني واألصيل في بناء موسيقى الشعر
العربي ،ايمانا منهم بأنها الحد الفاصل بين الكالم املوزون الذي ال قوافي فيه ،وبين الكالم
املوزون املقفى على حد تعبير قدامة بن جعفر" وقولنا مقفى :فصل بين ما له من الكالم
املوزون قواف ،وبين ما ال قوافي له وال مقاطع" (قدامة،1978،ص ،)17فهي إذا تشترك
مع الوزن في اختصاصها بالشعر وبدونها يفقد أهم عناصره الجوهرية ومكوناته
األساسية وهذا ما أكده حازم القرطاجني عندما أشار إلى تميي الشعر العربي عن غيره من
أشعار األمم األخرى بالقافية فيعرف الشعر قائال" :إنه كالم مخيل موزون مختص في
لسان العرب بزيادة التقفية" (القرطاجني ،1966،ص .)89وملا كانت القافية بهذه املنيلة
ملا لها من دور جمالي كبير كدور السجع في النثر "وإن كانت القافية غير مستغنى عنها،
والسجع مستغنى عنه" (ابن وهب ،د.ت ،ص )165فقد لقيت من اهتمام النقاد
165 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
والشعراء اهتماما متيايدا ،فكانت آية جمالها أن تحتل مكانها الالئق بها ،فال تفرض على
البيت الشعري وال تكون نابية عنه ،ويعمق أبو هالل العسكري هذه الفكرة مؤكدا أن
أحسن القوافي وأجودها ما كانت " مستقرة في قرارها ومتمكنة في موضعها...حتى ال يسد
مسدها غيره" (العسكري،1989،ص ،)508لذلك استجادوا اإليغال والتوشيح ،وباملقابل
استقبحوا كل ما يخل بهذا االنسجام اإليقاعي والتماثل الصوتي كاإلقواء والسناد،
واعتبروا أن التصريع في أوائل القصائد صفة الفحول من الشعراء .وبهذا يتبين لنا كيف
كانت األذواق النقدية العربية تستسيغ هذا النغم املتوازي في نظام القصيدة وتطرب له.
ولم تقف عناية نقادنا باملوسيقى عند حدود الوزن والقافية ،بل اهتموا أيضا
بالبنية اإليقاعية املمتدة عبر نسيج النص ،وذلك من خالل البنى املوسيقية املتصلة
باإليقاع اللفظي كالتصريع ،املوازنة ،الجناس والسجع ،أو اإليقاع املعنوي كالتقسيم،
الطباق ،املقابلة وااللتفات وغيرها من عناصر تحسين اإليقاع ،مما يؤكد حرص هؤالء
النقاد على توفير العنصر اإليقاعي الجمالي في النص النثري حتى بلغت أحيانا درجة تقربه
من املنظوم ،إدراكا منهم للوظيفة الجمالية التي تقوم بها املحسنات البديعية ،فهي تكمل
جمال الصورة في القصيدة الشعرية أو النص النثري ملا لها من تأثير ،على أن تكون سهلة
متيسرة بال كلفة أو مشقة ،وأن توضع في املوضع الذي يليق بها وتحسن فيه ،ألنها ليست
في كل موضع تحسن وال في كل موضع تليق ،وإنما هي جماليات تستدعى عن طريق تشوف
املعنى لها ،فهي إذن عنصر مكمل للعملية الفنية" ،وليست وسيلة تأنق وزينة زائدة
يمكن االستغناء عنها" (رحماني ،1987،ص .)178ومن هذه املحسنات التي ولعوا على
تحقيقها في النص األدبي شعرا كان أم نثرا االزدواج أو املوازنة وذلك ملا يضفيه من نغم
موسيقي عذب تطرب له األذن ،ويقع في النفس موضع االستحسان ،والذي ال يأتيه من
تساوي الفواصل في أحرف خواتمها ،وإنما يأتيه من تساوي ألفاظها في وزنها فيكسبه هذا
االعتدال الحاصل بين ألفا الفواصل طالوة ورونقا ،فهذا أبو هالل العسكري يعده
166 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
عنصرا إيقاعيا مالزما للنثر ويرى في خلوه منه فقدانا لخاصية مهمة من خصائص الكالم
الجميل ،يقول ":ال يحسن منثور الكالم وال يعلو حتى يكون مزدوجا وال نكاد نجد لبليغ
كالما يخلو من االزدواج ،ولو استغنى كالم عن االزدواج لكان القرآن ألنه في نظمه خارج
من كالم الخلق وقد كثر فيه حتى حصل في أوساط اآليات فضال عما تزاوج في الفواصل
منه كوله تعالى :فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب" (العسكري ،1989 ،ص ،)285كما
كشف ابن األثير عن وظيفتها الجمالية فيقول ":وهي أن تكون ألفا الفواصل في الكالم
املنثور متساوية في الوزن ،وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه متساوي األلفا وزنا،
وللكالم بذلك طالوة ورونق سببه االعتدال ألنه مطلوب في جميع األشياء ،وإذا كانت
مقاطع الكالم معتدلة وقعت من النفس موقع االستحسان" (ابن األثير،1959،ص ص
.)378 ،377ومكمن هذا االستحسان عند هؤالء النقاد راجع إلى تلك الرنة الصوتية
الواقعة في الكلمات حين توازن كل لفظ صوتيا مع اللفظ الذي يقابله كما يلحظ في اآلية
السابقة "فانصب" توازنت مع "فارغب" مما أدى إلى هذا التعادل واالتزان الذي أكسب
الكالم رونقا وجماال .وهكذا يصبح الجمال األدبي عناصر محققة يمكن البحث عنها
وكشفها والوقوف عليها وهذا ما يقربهم من النقاد الجماليين الغربيين الذين يعزون علة
الجمال إلى ما ينطوي عليه الشعر من تجانس بين العناصر واألجزاء وهذا ما يؤكده راي
" "Reyأحد رواد النقد الجمالي فيقول" :إن الصورة وحدها تكسب العمل جماال،
والقصيدة تؤثر ال بالفكر الذي يومي بها ،وال باملوضوع الذي تعالجه ،ولكن بكمال
تنسيقها وانسجام إيقاعها وبقوة التعبير وغناه" (إسماعيل ،2000 ،ص.)327
خاتمة
وبناء على ما تقدم ،نستطيع أن نؤكد بأن نقدنا العربي القديم قد انبنى في جملته
على أسس جمالية خالصة ،وهي األسس التي تهتم بالصورة والشكل ،ويحاول الوقوف
على املقومات الفنية التي تخلق أدبية النص ،ومن ثم آمن بأن الشعر صناعة فنية
167 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
تتمثل قيمتها في الشكل اللغوي الذي يبدعه الشاعر ،ال في الفكرة املجردة ،فكم من
أفكار سامية ال قيمة لها ما لم تعرض في شكل فني جميل ،مع تركييهم القوي على الذوق
الفني الرفيع الذي يتحسس الجمال ويستكشف بواطنه وخفاياه .وبذلك كان نقدنا
نقدا جماليا في مجمله ،وكان نقادنا نقادا جمالين باملعنى الصحيح.
قائمة املصادرو املراجع
.3رتشاردز ،إ.أ ،2005،مبادئ النقد األدبي .ترجمة أحمد مصطفى بدوي ،ط .5املؤسسة املصرية
العامة للتأليف والطباعة
.4ابن األثير ،ضياء الدين ،1959 ،املثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ،تحقيق أحمد الحوفي وبدوي
طبانة ،نهضة مصر
.5الخفاجي ،ابن سنان ،1982 ،سر الفصاحة ،بيروت ،دار الكتب العلمية
.6ابن طباطبا ،محمدبن أحمد ،د.ت ،عيار الشعر ،تحقيق محمد زغلول سالم ،ط ،3اإلسكندرية،
منشأة املعارف
.7ابن وهب ،إيحاق ،د.ت ،البرهان في وجوه البيان ،تحقيق حفني محمد شرف ،القاهرة ،مطبعة
الشباب
.8العسكري ،أبو هالل ،1989 ،الصناعتين ،تحقيق مفيد قمحة ،ط ،3بيروت ،لبنان ،دار الكتب
العلمية
.9الشايب ،أحمد ،1966 ،األسلوب ،ط ،6القاهرة ،مكتبة النهضة املصرية
.10رحماني ،أحمد ،1987 ،النقد التطبيقي الجمالي واللغوي في القرن الرابع الهجري ،رسالة ماجستير،
جامعة الحاج لخضر ،باتنة ،الجزائر
.11أدونيس ،على أحمد سعيد ،1989 ،الشعرية العربية ،ط ،2بيروت ،دار اآلداب
.12اآلمدي ،أبو القاسم الحسن بن بشر ،2006 ،املوازنة بين أبي تمام والبحتري ،تحقيق السيد أحمد
صقر ،ط ،5القاهرة ،دار املعارف
- . .13القرطاجني ،حازم ،1966 ،منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تحقيق محمد الحبيب بن خوجة،
تونس ،دار الكتب الشرقية
168 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018
د .جابي حياة االتجاه الجمالي في النقد العربي القديم
.14الجاحظ ،أبو عثمان عمرو بن بحر ،1984 ،الحيوان ،ج ،3تحقيق عبد السالم هارون ،القاهرة،
طبعة الحلبي
.15الجرجاني ،القاث ي ،1992 ،الوساطة بين املتنبي وخصومه ،تقديم وتحقيق أحمد عارف الزين،
سوسة ،تونس ،دار املعارف للطباعة والنشر
.16كروتشيه ،بندته ،1947 ،املجمل في فلسفة الفن ،ترجمة سامي الدروبي ،بيروت-لبنان ،الدار
البيضاء-املغرب ،املركز الثقافي العربي
.17ستولنيتي ،جيروم ،2007 ،النقد الفني ،دراسة جمالية وفلسفية ،ترجمة فؤاد زكريا ،ط،1
اإلسكندرية ،دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر
.18جونسون ،ر.ف ،1983 ،الجمالية ضمن موسوعة املصطلح النقدي ،ترجمة عبد الواحد لؤلؤة،
ط ،2بيروت ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر
.19غريب ،روز ،1993 ،النقد الجمالي وأثره في النقد العربي ،بيروت ،دار الفكر العربي
.20أبو كريشة ،طه مصطفى طه ،1996 ،أصول النقد األدبي ،ط ،1القاهرة ،الشركة املصرية العاملية
للنشر ،لونجمان
.21هني ،عبد القادر ،1999 ،نظرية اإلبداع في النقد العربي القديم ،الجزائر ،ديوان املطبوعات
الجامعية
.22اسماعيل ،عز الدين ،2000 ،األسس الجمالية في النقد العربي ،عرض وتفسير ومقارنة ،القاهرة،
دار الفكر العربي
.23علي ،عبد املعطي محمد ،وأنور ،فائزة ،2002 ،فلسفة الجمال والفن ،اإلسكندرية ،دار املعرفة
الجامعية
- .24قدامة ،بن جعفر ،1978 ،نقد الشعر ،تحقيق كمال مصطفى ،القاهرة ،مكتبة الخانجي للطبع
والنشر والتوزيع
.25محمد ،عزام ،1999 ،املنهج املوضوعي ،دمشق ،اتحاد كتاب العرب
.26محمد ،غنيمي هالل ،1982 ،النقد األدبي الحديث ،ط ،1بيروت ،دار العودة
.27محمد ،غنيمي هالل ،د.ت ،األدب املقارن ،ط ،5بيروت ،دار الثقافة
.28محمد ،مندور ،د.ت ،النقد والنقاد املعاصرون ،القاهرة ،مكتبة نهضة مصر
169 مجلة وحدة البحث في تنمية املوارد البشرية املجلد 9العدد 4ديسمبر 2018