Professional Documents
Culture Documents
-2-
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب
-3-
د.حسين جمعة
-4-
منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق 2005 -
-5-
-6-
بسم اهلل الرحمن الرحيم
قال تعالى:
وا فَ َسيَ َرى هّللا ُ َع َملَ ُك ْم َو َرسُولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُ َ
ون َو َستُ َر ُّد َ
ون َ وقُ ِل ا ْع َملُ ْ
ون إِلَى َعالِ ِم ْال َغ ْي ِ
ب َوال َّشهَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُكم ِب َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ َ
***
-7-
-8-
مقدمة
حين يغدو سكون النفس جماالً ،وحركة العقل وهجاً يعانق إشراق الكلمات؛
وشوقاً راقياً إلى فنون العرب البديعة 0....يتماهى الوعد في الفعل ..فيتجلى عن
دراسة جمالية بالغية نقدية جديدة تتناول أساليب بالغية في إطار يجمع بين
األصالة والمعاصرة.
..وكانت دراستنا السابقة (في جمالية الكلمة) المنشورة من قبل ،قد استقرت
عند مرافئ عديدة من شواطئ الجمال والصفاء؛ فارتاحت النفس لدى أطياف
فصاحة الكلمة وبالغتها؛ واستودعت فيها أنماط البيان والبهاء في الجملة الفعلية
واالسمية من جهة اإلسناد وأركانه ومواضعه ودالالته وأحواله في الحذف
ضلة...والذكر ،والتعريف والتنكير في المسند والمسند إليه والفَ ْ
الح ْسن في
وللجمال أفنان وألوان أبدعتها ذاكرة األجداد ومخيلتهم ...فلم يقف ُ
الكالم والحياة والفن عند ٍّ
حد معين 0...وإ نما كانوا يبنون حياتهم وأدبهم ولغتهم
ونقدهم بناء جمالياً يمتد إلى آفاق إنسانية رحبة؛ ومثيرة .فما خلَّفه األجداد لنا من
بالح ْسن في كل
أساليب فنية وبالغية إنما يدل على مدى عشقهم للجمال وولعهم ُ
شيء 0...ولما كان الجمال روح األثر الفني لديهم فإنه غدا وجهاً من وجوه الوجود
الحي والفاعل ...فالحسن الذي ترتاح إليه العين قبل النفس أصبح سمة مشخصة
في كل أسلوب من أساليب كالمهم؛ وكان لعلم المعاني منزلة كبرى في هذا المجال
الجمالي.
ومن هنا يظل التعلق بالجمال هاجسنا ،ويظل إبداع البالغيين العرب في
همنا؛ وكذلك يبقى
قراءتهم لطرائق العرب رائدنا ،ويظل التفاعل مع النقد الجديد ّ
االتصال بالدراسات األسلوبية المعاصرة أسلوباً يحث اآلخرين على النظر فيه.
ولما كان ذلك كذلك دفعتنا الرغبة من جديد إلى تلمس مواطن الجمال في
ّ
-9-
أساليب البالغة العربية وإ دراك عناصرها اللغوية البنيوية والفنية المتألقة،
والحاملة لقيم نبيلة رفيعة صافية صفاء نفوس أهلها 0....دفعتنا الرغبة األدبية إلى
استجالء مالمح ذلك وبيان قيمتها في واحد من أهم أساليب علم المعاني؛ إنه
أسلوب (الخبر واإلنشاء).
َخاذ؛ ويمتح من يجسم ظالل الجمال األ َّ
فأسلوب الخبر واإلنشاء ال يكتفي بأنه ّ
ِ
وخر ْيدته فقط وإ نماود َّرته َ فضاء النور رونقه ،ويأخذ من وسط ِ
الع ْقد جوهرته ُ
يحقق للفكر عطشه إلى المعرفة ،وإ دراك أسرارها ....ودراستنا ألسلوب الخبر
واإلنشاء لم يكن على اعتبار النسخ والتقليد أو التبعية واالستحضار لكل ما قاله
القدماء والمحدثون 0...بل كان على وجه التحليل والدرس والفهم والموازنة
واالستقراء واالستنباط في إهاب ثوب جمالي شفاف نسج خيوطه الذهبية مع معين
المذاهب الجمالية والنقدية واللغوية الحديثة ...في الوقت الذي بني على ماهية
األصالة الفاعلة.
إنها دراسة تستند إلى مفهوم الفعل الممتد المؤثر في جوهر األساليب الجمالية
لعلم المعاني ومعرفة أبعادها الحقيقية والمجازية والوقوف عند أسرارها العظيمة
ٍ
ونفوس التي ال تنتهي 0....فكلما تأملها الدارسون بعيون مفتوحة ،وقلوب ٍ
يقظة،
مر ٍ
شغوف بكل جديد أبانت لهم عن مخزون داللي ال ينفد وال ينقطع على ّ
األجيال ...وبهذا الوعي يتقدم أسلوب الخبر واإلنشاء ليحتل المكانة األولى في
جمالية علم المعاني ...ولهذا كان االنحياز إليه...
يوضح لنا أن البالغيين العرب
إن أسلوب الخبر واإلنشاء بكل إيحاءاته ّ
امتلكوا حساً جمالياً راقياً لمفهوم التشكيل والصيغ قارب ما عرفه الشكالنيون
المحدثون.
إنهم أدركوا أهمية الخطاب البالغي اللغوي في عناصره ومكوناته ،وال سيما
حين اتجه نظرهم إلى المفهوم الجمالي المثير للدهشة واالنفعال واإلدراك0...
لعهم بالشكل الجمالي الذي يكثف فالتقوا مع الشكالنيين الجدد ،وزادوا عليهم َو َ
الغ ْور ،بمثل ما التقوا
رسائل عديدة من أهمها الرسالة الداللية المجازية البعيدة َ
بالنقاد أنصار الشكل .ولعل البالغيين العرب قد سبقوا الغرب حين أكدوا أن
االتصال بالصور البالغية وأساليبها ،ومعرفة دالئلها ال يتم في ضوء المفاهيم
البالغية فحسب؛ بل يرتقي إلى مستويات أخرى في التركيب ،يقوم بعضها على
النحو كما هو عند عبد القاهر الجرجاني؛ وبعضها اآلخر توخي معاني ْ مستوى ِّ
على الدال والمدلول والمرجع كما هو عند أبي سليمان الخطابي في رسالته عن
- 10 -
إعجاز القرآن 0...وهذا كله أسبق من مفاهيم األساليب الحديثة الغربية ومن
مفاهيمها اللسانية والجمالية.
وفي ضوء ذلك كان ال بد أن نستكمل الحديث ـ من جديد ـ عن جمالية الكلمة
البالغية ببحث آخر يتناول (جمالية الخبر واإلنشاء) مؤسسين لـه بمدخل يبين
مفهوم الجمال والجميل و الجليل ،ويحدد ماهية الجمالية باعتبارها منهجاً تحليلياً
للدراسة .ومن ثم قسمناه إلى بابين اثنين :األول بعنوان (من تأصيل مفاهيم علم
المعاني إلى جمالية الخبر)؛ والثاني بعنوان (جمالية أسلوب اإلنشاء).
أما الباب األول فقد قسمناه إلى فصلين؛ حمل الفصل األول عنوان (حدود
ومفاهيم) وأبرز نشأة الحديث عن أسلوب الخبر واإلنشاء وتأصيل مفاهيم (علم
المعاني)؛ 0ومن ثم توقف عند تطور مفهوم الخبر واإلنشاء ،وإ نزال أحدهما مكان
اآلخر.
أما الفصل الثاني فعنوانه (جمالية أسلوب الخبر) .وتعلقنا فيه بمفهوم الخبر،
(و ْفق مقتضى الظاهر)؛ وهو ما عرف بفائدة الخبر؛ والزم وكشفنا عن أغراضه َ
الفائدة؛ و(بخالف مقتضى الظاهر)؛ وعرف بأربعة مقاصد:
ك؛ والشاك الم ِ
نكر. المتَ ِّ
ردد الشا ّ
ُ :إنزال خالي الذهن منزلة السائل ُ األول
:إنزال غير الم ِ
نكر منزلة المنكر. والثاني
ُ
:إنزال المنكر منزلة غير المنكر. والثالث
:استعمال لفظ مكان لفظ .ولم يعرض البالغيون لهذا األسلوب من والرابع
قبل إال نادراً ،علماً أننا استنبطناه واستخلصناه من الدراسات القرآنية،
وال سيما تلك التي دارت حول إعجاز القرآن ،وأفدنا فيه الكثير من د.
فصلنا القول في األساليب البالغية المجازية ،وزدنا
منير سلطان .ثم ّ
عليها العديد من األساليب مما لم يذكره البالغيون سابقاً 0...وكنا نبرز
في كل أسلوب ماهيته ووظيفته وخصائصه الجمالية.
َضرب الخبر الثالثة( :الضرب االبتدائي؛ وختمنا هذا الفصل بالحديث عن أ ُ
لألضرب.
ُ والطلبي ،واإلنكاري) وأخيراً جاءت مؤكدات الخبر تبعاً
واستحق الباب الثاني ـ وهو أكبر البابين ـ عنوان (جمالية أسلوب اإلنشاء
الطلبي) 0.وولجنا إليه بحدود وأبعاد بينت مفهوم اإلنشاء ،ثم تلمسنا أقسامه التي
تتعلق باإلنشاء الطلبي بالتفصيل ،وأَجَّلنا الحديث عن اإلنشاء غير الطلبي إلى
دراسة أخرى (لألساليب البالغية الجمالية) 0...فعظمة أقسام اإلنشاء الطلبي تحليالً
- 11 -
وموازنة وشرحاً مع بيان خصائصها اللغوية والجمالية استحوذت على هذه
الدراسة وملكت قلبها 0...وجوارحها .ولهذا قسمناها إلى خمسة فصول تبعاً ألقسام
الطلب؛ فكنا نتوقف عند األسلوب اإلنشائي الحقيقي لنطوف بعد ذلك في الحديقة
الغناء للمعاني المجازية .فقد دلت هذه المعاني على أغراض عجيبة الشأن، َّ
وأثبتت ما كان عليه البالغيون من رهافة حس؛ وذوق بليغ بديع؛ وقدرة على
ولما كانت أساليب البالغة محمولةمعرفة أساليب العرب وطرائقهم في التعبيرّ ...
من مخيلة الذهن الصانع ،والحدس المتوقد زدنا على ما جاء من المعاني المجازية
معاني أخرى ...ودرسناها كلها وفق منظور جمالي نقدي موازن ومثير ..ابتداء
بأسلوب األمر فالنهي فاالستفهام والتمني وانتهاء بأسلوب النداء الذي تطاول حجماً
كتطاول صوت النداء في (يا وأيا) ،واعتنى بطرائق وإ يحاءات كتنوع أدواته
وثراء دالالتها.
ضمت أبرز نتائج البحث؛ ولم تستطع أن
وأخيراً كانت الخاتمة التي َّ
بعد فهرس المصادر والمراجع،
تستوعبها كلها ...ما جعلنا نوجز فيها؛ لنثبت من ُ
ثم فهرس الموضوعات.
ومرة أخرى أقول :بين الحركة والسكون عالقة تفاعل وتجاذب؛ فإذا كان
تجسد
السكون يمثل لحظة االطمئنان واالرتياح والصفاء والتأمل فإن الحركة ّ
حقيقة الفعل والوجود ،والتغيير ،وتخترق االطمئنان المتغلغل في الذات والكون
لتُ ْحدث لحظة االندهاش واإلنتاج واإلبداع والتقدم واالرتقاء إلى مراتب الكمال
والجالل...
وكلَّما تماهى المرء في السكون والحركة قبض على مفهوم الجمال أوالً؛
ث التأثير ثانياً .ولن يكون لـه ذلك إال إذا بسط
وب ّ
وفعل االستيعاب والفهم والتحليل َ
رداءه للمعرفة ،وعقله للمنهج السديد العلمي والدقيق؛ ونفسه للتوق إلى كل
جديد ...وحواسه اللتقاط عناصر الجمال البديعة.
من هنا كان بحثنا المستمر عن ُد َرر الآللئ البالغية في ِع ْقد نظمته أساليب
العربية ...وتزينت به كتب أفذاذ الرجال ،في إطار التناظر والتناسب والدقة؛
والجودة .وحين أخذت هذه الفنون الجمانية بألباب المرء طفق يسعى وراءها في
كتب البالغة واللغة قديمها وحديثها؛ فيفيد منها موازنة ومناظرة ،موافقة ومخالفة،
وال سيما دراسة أحمد مطلوب ومنير سلطان من المحدثين وكتب الجرجاني
والزمخشري والقزويني وابن أبي اإلصبع والسكاكي من القدماء .ومن ثم تُستجلب
الشواهد مما حوته المظان البالغية ومما وقعنا عليه من دواوين الشعراء؛ عامدين
- 12 -
إلى تحليلها جمالياً واستنباط أحكامها.
إن الهدف الذي نتوخى بلوغه إنما هو تقديم درس بالغي جمالي نقدي من
نمط جديد ألساليب البالغة العربية يعتمد على الشرح والتحليل وإ دراك العناصر
الجمالية بكل أبعادها ...مفيدين من فضاءات الدراسات القديمة كلها إعجازية أو
نقدية أو أدبية أو لغوية ...ومن ثم فإننا نفتح أعيينا على إبداع اآلخر مما استجد
في الشرق والغرب ،ألننا نعتقد بأنه المنهج المفيد لدراستنا ....وحينما تمسكنا
بأصول أساليب البالغة لم نقع في مطب التباهي والتفاخر 0...ولما امتد فكرنا إلى
صب بالدهشة واالستالب؛ ومن ثم التبعية ...فقد أدركنا في الحالين كل حديث لم ُن َ
أن الثقافة موزعة بين خلق اهلل جميعاً ،وأن العرب يملكون من أساليب الكالم
غيرهم 0...وهو إرث فني مختزن في الذات والفكر الجميل والرشيق ما ال يملكه ْ
واللغة واألدب والبالغة ...بل في الحياة كافة.
بقي علينا أن نوضح عدم تخريج الشواهد الشعرية؛ وهي متمكنة في
مواضعها البالغية ،أي :إنها مستمدة من كتب البالغة المذكورة في الحواشي أوالً
ولعل كثرتها دفعت بنا إلى عدم تخريجها من مظانها في الدواوين ثانياً علماً بأنها
شواهد موثقة من الشعر القديم والحديث.
وبعد؛ فإنني أخشى أن أكون قد قصَّرت في إدراك ما أرجوه؛ ويقع تقصيري
بين يدي قارئ ال يرى من الكأس إال قسمها الفارغ فتأخذه العزة باإلثم ثم يعمد إلى
التجريح والتشنيع ...وقد نسي أن كل إنسان مركب على النقص ....وربما يقع
بين يدي قارئ آخر جعل نفسه كشجرة زيتون معمرة؛ وظن أنه وحده من يملك
الحقيقة المطلقة ،لهذا لم يرض بما خطه قلمنا؛ وثارت به نزعة االستبداد لما يراه.
ولعل هناك امرءاً يمتد به األمر إلى رفض كل ما أبدعه البالغيون العرب
القدامى ...في ضوء ثقافة مستحدثة ...أو في ضوء قراءة جزئية 0...أو في ضوء
اعتداده بنفسه؛ فيشيح بوجهه عن هذا العمل .لذلك كله؛ نبتهل إلى اهلل لكي تكون
دراستنا مفتاحاً للتحليل العلمي؛ مثيرة للعقل قبل العاطفة؛ وباعثة في النفس منهج
الحوار الفعَّال والمتكامل للوصول إلى ما فيه الكمال والخير لفعلنا الثقافي
والحضاري 0...ومن ثم البالغي الجمالي والنقدي.
إننا نقدم هذه الدراسة وغيرها مما أزمعنا على النهوض به إلى كل قارئ آمن
ضوء انفتاح عقلي
بتراث هذه األمة؛ وأيقن بأنه وسيلة دفع أوتوجيه لحياتنا ...في َ
وواع وموضوعي 0على ثقافة اآلخر ليدرك ما كنا عليه وما نحن فيه.
ٍ حر
علمي ّ
علي؛ وإ ن كنت قصَّرت فعسى فإن كنت وفقت؛ فهذا فضل من اهللَّ ،
ومنة منه َّ
- 13 -
أن يكون هديك ـ عزيزي القارئ ـ موجهاً لي إلقالتي من عثرتي ..مستشهداً بقوله
ِسط( األعراف .)7/29 ٍ
ربي بالق ْ
َمر ّ
تعالى :قل أ َ
والحمد هلل وسالم على عباده الذين اصطفىَّ
(النمل )27/59؛ واهلل في
عون العبد ما دام العبد في عون أخيه؛ وهو ولي التوفيق.
حسين جمعة
- 14 -
مدخل:
مفهوم الجمال والجميل والجليل والجمالية
َّ
قدم لنا تراثنا العديد من الرؤى الجمالية في معالجة كثير من قضايا األدب
قسم منها َّ
والفن ،واللغة والبالغة ...فضالً عن قضايا الحياة والدين 0...وربما مثل ٌ
تقارباً في الصيغ واألهداف والوظائف سواء تعلقت بمسألة الشكل الفني أم تعلقت
بالمضمون.
ُ
والظاهر لدينا من دراسات أجدادنا القدماء تجسيدها لمعايير جمالية محددة في
كل نمط إبداعي ،وإ ن لم تصل إلى صفة الشمولية ،أو إلى صفة الكمال.
وضوح أن مصطلح ومن يطلع ـ مثالً ـ على علم البالغة العربية يدرك بكل ُ
البالغة الذي جعله البالغيون العرب غالباً مماثالً للفَصاحة ،وكالهما مالزم للبيان
إنما يحمالن مالمح الصفاء والنقاء والبهاء؛ والجودة واإلتقان ،والوضوح والدقة
في الداللة واالختيار ،وتنقية كل أسلوب من أي لفظ يشينه ،تحسيناً وتزييناً ،ليغدو
النص متالحم األجزاء ،عذباً رقيق الحواشي ،بعيداً عن التقيد والغموض والهشاشة ّ
ِ
والضَّعف والتنافر 0...إنه قطعة نسيج َحبرة دقيقة الصنع ناعمة الملمس ،قوية
التأثير ...مثيرة للعاطفة والفكر معاً)1(...
فأي باحث يتأمل في أساليب البالغة؛ يلحظ أن المتكلم ال يكتفي بأن يعرض
أسلوبه بشكل تقريري مباشر؛ وإ نما قد يرسله على سبيل المجاز ،مستخدماً أساليب
مرافقة لـه كالترصيع؛ والتصريع؛ واإلشارة؛ والتلويح ....ليزيد كالمه ألقاً
وإ شراقاً 0...وهذا كله من عناصر الجمال...
ولما كنا قد شددنا على ذلك كله في كتابنا (في جمالية الكلمة) على اعتبار أن
كل مادة ترتقي إلى البالغة والفصاحة إنما هي شكل جمالي؛ وكذلك كل ما يتعلق
بأحوال اإلسناد والذكر والحذف ،والتعريف والتنكير 0...رأى آخرون أن الجمال
- 15 -
يتركب ـ فقط ـ من نظام األشياء أو الظواهر وفق مفاهيم أرسطو( )2ومن ثم فإن
الجمال هو التعبير الجمالي الناجح عند كروتشه(.)3
وإ ذا كان هذا وحده ال يرضينا؛ وإ ذا كانت إشارتنا هذه شديدة اإليجاز؛ ألن
البحث ال يتجه إلى التفصيل في أمر مفاهيم الجمال فإننا نذهب إلى أن الجمال وقع
في اإلبداع البالغي كما وقع في غيره من أنماط إبداعية إنسانية وال سيما حين
َح َرصت أساليب البالغة على استخراج أسرار الجملة اللغوية والنحوية واألدبية
في وقت واحد لتصل بالكالم العربي إلى مرتبة البيان الناصع المؤثر الساحر الذي
يثير النفس والفكر إذا سمعه البلغاء؛ كما جرى مع سيد
المرسلين حين استمع إلى عمرو بن األهتم وأعجب بقوله فقال[ :إن من البيان
لسحراً]( ...)4ولعل هذا كله ما جعل ابن األثير يربط بين البيان والجمال؛ فيقول:
"شيئان النهاية لهما :البيان والجمال"(.)5
فالبيان/الجمال في أساليب العربية أدباً وبالغة ...غدا هدف الدراسات
الحديثة باعتبار األساليب اإلبداعية التعبيرية إنتاجاً إنسانياً جمالياً؛ وباعتبار أنها
تماثل الجمال الذي تلتقطه الحواس من الطبيعة واألشياء والظواهر .فالجمال ـ كما
نعرف ـ يرتبط بالظواهر الطبيعية؛ وكذلك يتصل بكل إبداع إنساني 0...من جهة
الشكل غالباً؛ بينما الجميل يحتاج إلى الحواس والشعور معاً ...وهو يرتبط بالقيود
والقوانين على الرغم من أنه يبدو مستقالً عنها ...فهو يراعيها ويتفق معها ...أما
الجمال فإنه يظل مرهوناً بالتذوق الفردي ورهافة الحس ودقته وسالمته ...ما
يجعله متحرراً من كل قيد إال ذلك ...وتتمثل األشكال الجمالية في الفن المبدع
بظواهر أسلوبية عدة؛ فهي التناظر واإليقاع؛ والتوازن والتناغم و التوافق والتنوع
مع الوحدة والتناسب والتصوير ،ونظام التأليف0....
وحينما يلح الجماليون على الشكل في مفهوم الجمال فإنما يرون أن الجميل
إنما هو تجلي الروح واألفكار في األشياء والظواهر ...والجميل في الفن واألدب
والبالغة هو نهاية المطاف من جهة ما تعرف لـه المضامين ،أما الجليل فهو يتطلع
إلى مقام رفيع سام يتجسد بالوجود اإللهي 0،وكل مثل أعلى للجمال.
فالجليل يرتقي بمرتبة الجمال والجميل إلى حالة الكمال المطلق ،إذ ال يوجد
شبيه لـه في األشياء والظواهر ،وإ بداعات اإلنسان 0...على الرغم من أن اإلنسان
قد يرتضي لنفسه نماذج إبداعية إنسانية قد تبلغ درجة عالية من الروعة ،وربما
وصلت إلى مرتبة قريبة من الجليل ،فيصفها بالكمال والجالل؛ على حين ظل
- 16 -
مفهوم الجليل مرتبطاً بالمعتقد الديني؛ إذ يقابل مفهوم الذات المقدسة .فاهلل أسمى
من كل ما في الوجود؛ ألنه خالق الكون ،وهو الخير المثالي ،والمظهر المطلق
للكون واإلنسان والمصير؛ وإ ن لكل جمال جالالً ولكل جالل جماالً ،وما بأيدي
الخلق يظهر لهم من جمال اهلل(.)6
فالجليل موضوع يتمثل بالموجود وجوداً موضوعياً مستقالً عن الكون
يجسد ال نهائية العالم ـ على حد قول عدد منواإلنسان؛ ما يجعله موضوعاً جمالياُ ّ
الفالسفة القدماء والمحدثين ـ وإ ن حاول اإلنسان أن يجعل بعض إبداعاته الممثِّلة
ٍ
ولطاقات فنية مدهشة َنمطاً من اإلبداع الجليل... ٍ
عجيبة، ٍ
روحية ٍ
لقدرات
أما الجمالية فلها شأن آخر؛ فنحن نتناولها ليس باعتبارها داللة على كل شيء
جميل؛ أو أنها ترادف معنى الجمال /البيان /البالغة في األدب والفن وأساليب
البالغة العربية؛ وكأنها لون من ألوان اإلبداع في الجمال ،ولو مثّل حالة من
والموضوع 0...وإ نما نتناولها باعتبارها منهجاً تحليلياً لدراسة
ُ التناغم بين الشكل
نقدية فنية أدبية بالغية 0....يماثل المنهج الواقعي أو النفسي أو الرمزي أو
النص اإلبداعي كالدقة والجودة واإلتقان ونظام االجتماعي ،منهجاً يعالج جمالية ّ
التركيب وتناسبه وإ يقاع ألفاظه وصوره0...
والمضمون؛0
ُ لهذا تتعلق الجمالية بالتجربة الجمالية( )7ذاتها من جهة الشكل
وتماثل ما أطلق عليه بعض الباحثين (المنهج الجمالي) الذي يرتكز في أساسه
على نظرية (علم الجمال :االستطيقا)؛ ويحكم بها الناقد أو البالغي على األشياء
سواء كانت طبيعية أم مصنوعة ...أم كانت إبداعاً فنياً أو لغوياً أو أدبياً و...
بأحكام جمالية؛ كأن توصف بأنها جميلة أو فاتنة أو دميمة أو مثيرة للسخرية( 0...
،)8علماً بأن اإلبداع في النقد األدبي يتركز بأربعة أشياء (العاطفة والفكرة
واألسلوب والخيال)( )9فالخيال صانع للصور الجمالية التي تلبي جملة من
األهداف والوظائف.
فا0ل0ج0م0ا0ل0ي0ة 0ه0ي 0در0ا0س0ة 0ج0م0ل0ة 0م0ن 0ا0ل0م0س0ائ0ل 0م0ج0ت0م0ع0ة 0أ0و 0م0ن0فر0د0ة0؛ 0م0ث0ل 0:0م0ا0
ص 0م0ا 0،0م0ه0م0ا 0ك0ا0ن 0حج0م0ه 0و0ج0ن0سه0؟ 0م0ا 0ع0ال0ق0ة0 ا0ل0ج0م0ا0ل0؟ 0م0ا 0ا0ل0غ0ا0ي0ة 0ا0ل0ت0ي 0ي0ق0و0م 0ع0ل0ي0ه0ا 0ن ّ0
ا0ل0ش0ك0ل 0با0ل0م0ضُ 0م0و0ن 0ف0ي 0أ0ي 0ن0م0ط 0إ0ب0د0ا0ع0ي0؟ 0م0ا 0ا0ل0ع0نا0ص0ر 0ا0ل0ت0ي 0ت0شت0ر0ك 0ف0ي 0ص0ي0ا0غ0ة0
ص 0م0ا 0،0و0ت0ك0و0ن 0م0ال0م0ح0ه 0و0و0ظي0ف0ت0ه0.0.0؟ 0إن0ه0ا 0أ0س0ئ0ل0ة 0ك0ث0ي0رة 0،0ي0س0ع0ى 0ا0ل0م0ن0ه0ج 0ا0ل0ج0م0ا0ل0ي0 ن0ّ 0
(0ا0ل0ج0م0ا0ل0ي0ة 0)0ل0إل0ج0ا0ب0ة 0ع0ل0ي0ه0ا 0)100(0،0ب0ر0و0ح 0م0و0ض0و0ع0ي0ة 0ب0ع0يد0ة 0ع0ن 0ا0ل0ع0و0ا0طف 0و0ا0أل0ف0ك0ا0ر0
ا0ل0م0س0ب0ق0ة0.0
- 17 -
بهذا كله نحن نقف مع العديد من الباحثين الذين توسعوا في مفهوم الجمالية؛ ـ
النص ووظيفته لمضمون ُّ وإ ن كان أكثر منظريها ال يقيمون اعتباراً وال وزناً
وغايته ـ أياً كان نوعه تاريخياً أم اجتماعياً؛ نفسياً أم فنياً ،خلقياً أم دينياً؛ لغوياً أو
بالغياً؛ موسيقاً أم أدبياً.)110(...
وحينما نعالج أي أسلوب بالغي فإننا نقف عند بنيته كاملة من جهة الشكل
والمضمون؛ 0في داللته الحقيقية والمجازية الموحية بالظالل المعنوية الكثيرة ،وال
نهمل قيمته الخلقية...
إننا ـ ونحن نسعى إلى ذلك ـ ال تمنعنا آراء العديد من الذين رفضوا الوظيفة
والغاية الخلقية النبيلة في اإلبداع من أصحاب النظرية الجمالية؛ فذهبوا إلى أن
البحث في األدب أو الفن أو أي إبداع آخر عن الوظيفة والغاية السامية إنما هو
أمر مضحك؛ ...فاألخالق والقيم والصدق في القول والفكر والحياة ال يبحث عنه
إال األنبياء والمصلحون 0.....ومن هنا رأى بعض الباحثين الجماليين أن األخالق
ليست من معايير الجمال فلم يحكموا على األعمال الخيرة بالجمال؛ والشريرة
بالقبح ،وإ نما نظروا إلى العناصر الجمالية باعتبار نظامها(.)12
ولعلنا في ذلك نستند إلى معنى المصطلح في األصل الالتيني
( ،)Aisthesisوهو التطلع إلى موضوعات طريفة وإ دراكها .فالجمالية مصدر
صناعي يقابل الجمالي؛ وهذا المصطلح يعادل مصطلح (استطيقا )Aesthetica
وهو ترجمة لكلمة ( )Aesthetikosاليونانية األصل استطيقي
( .)Aisthētikosوقد صاغه للمرة األولى الفيلسوف األلماني بومجارتن عام
(1735م)(.)13
ولهذا فهو من جهة اللفظ االصطالحي يرادف عند بعض الباحثين مفهوم
(الشكلي أو الفني) باعتباره ْبنَيةً()14؛ على حين أصبحت نظرية النقاء الفني
الجمالي عند تيار آخر( )15تتمثل في تلك البنية الشكلية لمصطلح
الجمالي/الجمالية.
وأياً ما تشعبت اآلراء في مفهوم الجمالية؛ فإنه يعد منهجاً تحليلياً نقدياً لدراسة
البنية اللغوية واألسلوبية وما تؤسسه من دالئل ووظائف وأهداف ...ألن النص
صل
والمضمون؛ وال فَ ْ
ُ اإلبداعي أياً كان جنسه يؤكد خصائصه باتجاهين :الشكل
للنص صورته اإليجابية الفعًّالة ،ومن ثم يجسد حقيقته الجمال بينهما ...مما يحقق ّ
بكل خصائصها الداللية ...ألن للكالم جسداً وروحاً ،وكذا لكل جسم جوهر
- 18 -
وحقيقة...
وأي أسلوب بالغي ـ مهما قيل فيه قديماً وحديثاً ـ إنما هو بنية لغوية داللية
مباشرة وغير مباشرة يحمل وظائف اإلثارة واإلمتاع في الوقت الذي يحمل وظيفة
التوصيل واإلبالغ واإلفادة بنقل األفكار ...ولهذا فوظيفة األسلوب البالغي ذات
وجوه متعددة؛ بعكس األسلوب العادي بين الناس؛ ومن ثم تتجاوز األسلوب األدبي
في الشعر والنثر؛ وإ ن اقترب في وظيفته مع األسلوب البالغي من بعض الوجوه.
فاألسلوب البالغي بوصفه ظاهرة بالغية تجمع بين عناصر األدب والفن
واللغة والحياة في بنية فنية مثيرة للعاطفة والوجدان والعقل ....باعتبار ما تكتنزه
من أسرار موحية في الشكل والمضمون ...وما على القارئ المرهف المثقف
الذي حاز الشروط الذاتية؛ ثم الموضوعية( )16إال أن يدرك مكونات كل أسلوب
ويستوعبه ليفهم إشاراته القريبة والبعيدة ،دون أن يقع في مطب األحكام الذاتية
واالنطباعية ،والمسبقة والجاهزة ...فاإلحساس بالجمال استجابة روحية
وموضوعية لعناصر الجمال في األشياء والظواهر و...
وإ ذا كانت األحكام البالغية الجمالية قد تباينت بين متل ٍ
ق وآخر قديماً وحديثاً
لهذا األسلوب أو ذاك فإننا حاولنا استكناه كل ما قيل فيه ،والتعمق في فهم الظاهرة
البالغية القرآنية للوصول إلى تجربة جمالية جديدة في أسلوب الخبر واإلنشاء.
وهو ما سعينا إليه من قبل في دراسة توقفت عند عدد من جماليات الكلمة البالغية(
.)17
ومن هنا يمكننا أن نقول :إننا نسعى إلى تجاوز الرؤية الجمالية الجزئية التي
استند إليها البالغيون العرب القدامى؛ لنبلغ مرتبة الشمول وفق مبدأ التنظير
نص أدبي أو
والتطبيق للرؤية الجمالية لدراسة األسلوب البالغي؛ 0وإ ن اجتزئ من ّ
لغوي أكبر .وهو األسلوب الذي أسسه لنا البالغي الفذ عبد القاهر الجرجاني في
نظرية (النظم) وفي مصطلح (الهيئة) الذي يبنى على الصورة والداللة ...وكذلك
نصي متكامل ،والفعل عدد آخر غيره في النظر إلى األسلوب البالغي في سياق ّ
النص القرآني كالباقالني
سيما ما وجدناه عند البالغيين الذين تناولوا ّ
والزمخشري0...
ونحن ال نرتاب لحظة واحدة في أن البالغيين العرب القدامى قد توقفوا عند
شكل الجملة اللغوية؛ ولكنهم لم يروا هذا الشكل محايداً بذاته .فقد ارتفع مفهوم
التذوق الفني البالغي لديهم حينما انتهوا إلى أن أي شكل بالغي يحمل في طبيعته
- 19 -
الجمالية وعي اإلنسان لما يحيط به بطريقة إرادية أو ال إرادية .وبهذا ارتقوا عن
مفهوم الجمال الطبيعي المجسد في ماهية األسلوب اللغوي .فاللغة والصورة
والخيال واإليقاع أدوات يتجسد فيها مضمون ما؛ ينطوي على وظائف متنوعة
وأهداف كثيرة؛ مما يحقق للشكل البالغي الجمالي فلسفة تفسير الوجود والكون
والمصير.
ولهذا كله فإن البالغيين والنقاد القدامى قد أغنوا األساليب البالغية بنظراتهم
الجمالية والفلسفية ،وال سيما ما يتعلق بالبالغة القرآنية .ولما اختلفت تفسيراتهم
لمعنى الشكل البالغي ـ أحياناً ـ فإنهم أمدونا بتنوع ال نظير لـه من الفكر والفن في
كل أسلوب من تلك األساليب .فالوجدان الجمالي الحقيقي في كل أطيافه انبثق من
الشكل ـ دون ريب ـ ولكن عناصره لم تتقيد عندهم بزمان ما؛ أو مكان ما؛ أو سبب
ما 0...فالتذوق الذي مارسوه على الشكل انخرط في صميم التجربة اإلبداعية؛
فاستمدوا منه العديد من الرؤى الفكرية والفنية التي ال يستطيع عامة الناس أن
يستنبطوها .وكانوا كلما انغمسوا في األسلوب البالغي انغماس الصوفي الناسك،
واستغرقوا في عالمه الخاص كانوا يستخرجون لنا ضروباً من الجمال الموحية
بالصفاء والنقاء والبهاء 0...ومن ثم أكدوا أن الصورة اللغوية البالغية ليست
مجردة؛ بل هي صورة تعيش في عالم الحياة؛ وتستجيب على الدوام لكل انفعال
ولكل فكر .فظلت أعمالهم خالدة حية في وجداننا ووجدان الدارسين الغربيين
المنصفين الذين اعترفوا لهم بالفضل والريادة.
ولعل هذا كله ما نتمثله في جمالية الخبر واإلنشاء في حدودهما ومفهومهما
وآلياتهما وداللتهما الحقيقية والمجازية.
***
حواشي المدخل
( )1راجع كتابنا :في جمالية الكلمة 21ـ 50وانظر كشاف اصطالحات الفنون 1/187ـ
189ومداخل إلى علم الجمال األدبي .58
( )2انظر األسس الجمالية في النقد العربي 43ومداخل إلى علم الجمال األدبي 12ـ .16
- 20 -
( )3انظر علم الجمال 14وانظر األسس الجمالية في النقد العربي 53وفلسفة الجمال في
الفكر المعاصر 17ـ 21ومعنى الجمال .73
( )4الجامع الصغير من حديث البشير النذير ( 1/231حديث رقم .)2456
( )5المثل السائر 1/40وانظر فيه 33ـ .38
( )6انظر كشاف اصطالحات الفنون 1/330ـ 332ورسائل ابن عربي 25ـ .43
( )7انظر النقد الفني ـ دراسة جمالية وفلسفية ـ 3وعلم الجمال األدبي 23ـ 24و 26ـ .28
( )8انظر مقدمة في النقد األدبي ( 48محمد حسن عبد اهلل) دار البحوث العلمية ـ الكويت ـ
1975م.
( )9انظر النقد األدبي ـ أحمد أمين ـ 22ومداخل إلى علم الجمال 38ـ 39و 92ـ .93
( )10انظر موسوعة المصطلح النقدي (الجمالية) 273ومداخل إلى علم الجمال األدبي 14ـ
18و 100ـ .128
( )11انظر النقد الفني ـ دراسة جمالية وفلسفية ـ 31وموسوعة المصطلح النقدي 307و 314
و 362واألسس الجمالية في النقد العربي .371
( )12انظر األسس الجمالية في النقد العربي 86و 371و 378ومداخل إلى علم الجمال
األدبي 40ـ 54و 91ومعنى الجمال 93ـ . 105وسينهض كتابنا القادم التقابل
الجمالي في النص القرآني بذلك كله -طبعة دار النمير -دمشق.2005 -
( )13انظر معنى الجمال 9و ( 39الهامش).
( )14انظر مقدمة في النقد األدبي ( 434علي جواد الطاهر) المؤسسة العربية للدراسات 0ـ
بيروت ـ 1979م.
( )15انظر النقد الفني ـ دراسة جمالية وفلسفية ـ 29و 202وفلسفة الجمال في الفكر المعاصر
52ـ .67
( )16انظر كيفية قراءة النص األدبي 269ـ 322ومداخل إلى علم الجمال األدبي 22ـ 25
و 29ـ .39
( )17انظر (في جمالية الكلمة) فصول (مفهوم الكلمة وجمالياتها في الفَصاحة والبالغة؛
ومفهوم الجملة وجمالياتها من جهة البنية واألركان وأحوال اإلسناد في الذكر والحذف؛
وجمالية التعريف والتنكير) ....فالجمال مقترن بالبالغة والفصاحة والبيان ...بمثل ما هو
مقترن بالجودة واإلتقان والدقة ،وإ نزال األلفاظ في مواضعها من نظامها الدقيق
المؤتلف ...فالجمال هو نظام التوافق والتوازن والتناظر ...والبهاء هو الرونق في
الديباجة ،والتناسب فيها...
ومن ثم فمن يتأمل مسائل الجمال في البالغة العربية عامة وفي أسلوبي الخبر واإلنشاء
خاصة يدرك مدى االنسجام المطلق القائم على خطوط متوازية ومتنوعة في إطار الوحدة
والتنوع والمحل سواء ربط األسلوبان بأثرهما في النفس أم في الفضيلة التي دعا إليها
أفالطون للوصول إلى مبدأ اللذة واإلمتاع مع الفائدة ...وبهما يتحقق مفهوم (الجميل).
- 21 -
ولعل مجرد إثارة مثل هذه القضايا تعد سبيالً إلى الحوار الواعي لحل مشكلة مفهوم الجمال
ومنهجه المتصلين بأساليب البالغة العربية ...التي صاحبت التفكير الجمالي عند العرب؛
وإ ن لم يخصوه بالدرس المنفصل ....وهذا ال يعني أننا نتوقف عند مجرد المحاكاة
الجمالية للفكر الجمالي الغربي ،بل نؤسس طريقة جديدة في دراسة البالغة العربية دراسة
جمالية تتحدث عن عالقة الجمال بالفن وفي طليعته فن البالغة.
- 22 -
الباب األَول:
من تأصيل مفاهيم علم المعاني
إلى جمالية الخبر
- 23 -
- 24 -
الفصل األول :حدود ومفاهيم
- 25 -
بعد (علم المعاني)
أبواب أخرى كلها كانت من الموضوعات التي أطلق عليها فيما ُ
على الرغم من أن مصطلح (المعاني) 0كان شائعاً في غير ذلك.
الع ْبرة ليست في معرفة قواعد النحو وحدها؛ بل فيما تقوم وأكد الجرجاني أن ِ
معان وأغراض وأصول 0....فالمزية ال تكمن في اللغة ومعرفتها ولكن عليه من ٍ
المزية ما يؤدى بها من مواضعات؛ فليس النظم إال معاني النحو ،وليس معاني
النحو إال علم المعاني ...وهذا كله قدم للدراسات البالغية عامة ولعلم المعاني
خاصة فوائد عظيمة .فمسألة اإلعجاز القرآني صاحبة الفضل على (علم المعاني)
في نضجه ،وجعله أبرز أساليب الجملة الجمالية 0....ولكي نتوصل إلى ذلك ال بد
من تعريف لـه وإ يضاح ما انتهى إليه عند البالغيين العرب أمثال الس َّ
َّكاكي (ت
626هـ) ،والقزويني (ت 739هـ) ،وسعد الدين التفتازاني (ت 792هـ)(.)8
ولعل الزمخشري (ت 538هـ) أول من أشار إلى علم المعاني وعلم البيان
في تفسيره المعروف (بالكشاف) حيث قال" :وال يغوص على شيء من تلك
الحقائق إال رجل قد بلغ في علمين مختصين بالقرآن؛ 0وهما :علم المعاني وعلم
البيان"(.)9
ولم يوضح الزمخشري المراد من علم المعاني أو علم البيان وإ ن طفق
ٍ
بمعان يوضح ما في القرآن من لطائف بالغية بديعة تؤثر في النفوس وتحيط
سامية ،بينما يرى الدكتور شوقي ضيف أن الزمخشري أول من ميز بين
المصطلحين وقَسَّم البالغة إلى ٍ
معان وبيان.
فالزمخشري ينظر بعين عبد القاهر الجرجاني في مفهومه لموضوعات علم
صل والوصل واإليجازالمعاني كالخبر واإلنشاء واإلسناد؛ والقصر والفَ ْ
واإلطناب؛ والحذف والذكر؛ والتقديم والتأخير ،وهو يمارس تفسيره آليات القرآن
دون أن تجتمع في نسق واحد.
وكذلك فعل فخر الدين الرازي (ت 606هـ) الذي استعمل مصطلح
(علم المعاني) ومصطلح (علم البيان) ولم يحدد داللتهما ،كما فعل سلفه
الزمخشري(.)10
َّكاكي بعد أن استعملوأخذ مصطلح (علم المعاني) وغيره يتضح على يد الس َّ
عبارات عديدة تدل عليه مثل (صناعة علم المعاني ـ علماء علم المعاني ـ أئمة علم
المعاني ـ)(.)11
فهو أول من قسَّم البالغة إلى (علم للمعاني ،وعلم للبيان؛ ومحسنات لفظية
- 26 -
ومعنوية) .ولعل الموضوعات التي وردت عند عبد القاهر الجرجاني في كتابه
(دالئل اإلعجاز) هي التي تشكل (علم المعاني) عند السكاكي ،بينما موضوعات
الجرجاني في كتابه (أسرار البالغة) ـ من تشبيه ومجاز وكناية واستعارة؛ وكل ما
يبحث في الصورة الخيال ـ تشكل (علم البيان) عند السكاكي ،على حين أن المحسنات
صار اسمها (البديع) عند بدر الدين بن مالك (ت 686هـ)( .)12
ولسنا اآلن بصدد نقد السكاكي (ما لـه وما عليه) ولكننا بصدد تقسيمه للبالغة
التي ثبتت على رأيه بعده ـ غالباً ـ 0...وراعت تقسيماته لعلم المعاني ما يتعلق
بالخبر وما يتعلق باإلسناد في الجملة وأحوال المسند والمسند إليه...
ولم نجد خروجاً كبيراً عند من جاء بعده في الحديث عن (علم المعاني)
فالقزويني ـ مثالً ـ (ت 739هـ) يرفض تعريف السكاكي لعلم المعاني؛ وهو "تتبع
خواص تراكيب الكالم في اإلفادة وما يتصل بها من االستحسان وغيره ليحترز
بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكالم على ما يقتضي الحال ذكره"()13
ويثبت لـه تعريفاً آخر وهو الذي شاع في كتب البالغة العربية :إنه "علم يعرف به
أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال"
( )14ويساق وفق الغرض الذي ُرمي إليه .وقد وفّق في هذا التعريف أكثر من
السكاكي ،وال شك في أنه أفاد منه؛ وقد تبين أن صورة الكالم تختلف الختالف
األحوال؛ وليس كما ذهب إليه السكاكي من (تتبع خواص التركيب )...ألن التتبع
ليس بعلم وال يصدق عليه تعريفه.
وحصر القزويني علم المعاني في ثمانية أبواب "أحوال اإلسناد الخبري؛
أحوال المسند إليه؛ أحوال المسند ،أحوال متعلقات الفعل ،القصر؛ اإلنشاء؛ الفصل
والوصل ،واإليجاز واإلطناب".
ولم يخرج القزويني ثم سعد الدين التفتازاني وآخرون عن منهج السكاكي
كثيراً كما نجده في كتابه (عروس األفراح)( .)15فقد تأصلت علوم البالغة على
قواعد محددة؛ وكذلك استقرت أبواب (علم المعاني) في الدراسات البالغية على
وجه معين تعتمد االستقالل في كل باب منها ليالئم الدراسات البالغية
فعادت إلى ما أسسه عبد القاهر الجرجاني على نحو ما 0...في واألدبيةَ .....
التمييز بين كل نمط من أنماطها؛ لكنها اتخذت لديهم غالباً جانب التقعيد الجاف؛
على عكس الجرجاني الذي ُعني بالجانب البالغي الجمالي المستند إلى النقد
التذوقي واللغوي ،على األغلب( .)16وهو نقد يستظهر المبادئ الجمالية المعروفة
لدينا كاالتساق والدقة في االختيار والجودة في التأليف وارتباط التركيب عامة
- 27 -
بالمضمون في وحدة فنية متكاملة .فالصورة اللغوية لديه كالجسم أو اآللة التي
تنتظم في وظيفة محددة.
فالجرجاني أطلق الحديث عن المعاني األُول والمعاني الثواني وعزز فعل
الكتابة باالصطفاء المعنوي البليغ ....وأوضح مدى القدرة اإلبداعية للغتنا على
االستجابة الجمالية لألشكال الدافعة للكلمات في التأثير والتحول الداللي.
فقد استطاع أن يضع مباحث علم النحو في دائرة التوهج البالغي؛ حين وجه
النحو ،وعلم المعاني فحقق لنا
ذلك في اتجاه مزدوج إذ ال فصل بين معاني ّ
أنموذجاً فذاً في الدرس البالغي وكشف عن حقيقة اإلعجاز األدبي واللغوي للنسق
القرآني.
فالمعاني المؤلفة تشكل لديه أساس البنية الفكرية؛ وعناصر التكوين البالغي
والجمالي 0...فانتقل بنا من الحديث عن المعنى إلى الحديث عن معنى المعنى.
ولهذا يمكننا تصنيف مباحث عبد القاهر تحت مصطلح "فلسفة البالغة
وماهيتها" ألنه نظر إلى األثر المكون للبنية التركيبية بذاته ومن ثم عند المتكلم
والمخاطب(.)17
ثم استنبط الزمخشري قواعد علم المعاني ،وعلم البيان من عبد القاهر
ومارسها تطبيقياً في تفسيره للقرآن الكريم في كتابه المشهور (الكشاف).
ولّما جاء السكاكي (ت 626هـ) استخلص قوانين (علم المعاني) فكانت هي
هي التي رأيناها عند سابقيه ،ولكنه قعًّدها بشكل صارم ،وكذلك فعل بعلم البيان.
ثم جاء حازم القرطاجني (ت 684هـ) فأفاد من الجميع في نظرته البالغية
والنقدية للشعر العربي؛ فضالً عن تأثره بأرسطو ...فأبدع نظرية التناسب في
كتابه (منهاج البلغاء).
وفي ضوء ذلك كله نشير إلى مفهوم الجملة وركنيها وانقسامها إلى اسمية
وفعلية من جهة البالغة ال النحو ،ومن ثم معالجتها في باب من أبواب علم المعاني
المعروفة بستة أبواب" :الخبر واإلنشاء ،التقديم والتأخير ،الوصول والفصل؛
القصر ،الذكر والحذف ،اإليجاز واإلطناب" .وسنختار باب الخبر واإلنشاء؛
ونقتصر من اإلنشاء على الطلبي منه؛ إمعاناً في عدم إثقال حجم البحث؛ ونظراً
ألن إبراز جمالية الكلمة تظهر في كل شكل من األشكال؛ وهذا ما ال يستطيع بحث
واحد أن يحيط به ....ألن الشكل في أي حيِّز تركيبي هو تضمين لمعنى يحوز
فعالية خاصة في إطار العالقات المنعقدة فيه ....ومن هنا يوجد معنى حاضر
- 28 -
وآخر مستتر توحي به تلك العالقات السياقية .وهو يحتاج إلى دراسات
مستفيضة...
ولهذا فكل من يتعامل مع البالغة العربية؛ ال بد لـه من أن يتجه إلى المعنى
المستتر؛ أو ما عرف بالمجازي .وبهذا فهو ينتقل من بنية جمالية إلى بنية جمالية
أخرى ...ولعل هذا كله يجعله ينأى بعيداً عن الرؤية النقدية القديمة ،ومن ثم ال
يقع في تبعة تقليد كل ما يأتي من الغرب .فالتأمل النقدي الجمالي ألي أسلوب
بالغي في كالم العرب يتيح للناقد القوة على الغوص في جوهر األسلوب اللغوي
والبالغي؛ ومن ثم إدراك الجوهر المشرق والمثير في النص الذي يعالجه ...أياً
كانت طبيعته التركيبية .وهذا ما نسعى إليه في جمالية الخبر واإلنشاء ،ونبدأ
بمفهومهما0.
- 29 -
القسم الثاني :تطور مفهوم الخبر واإلنشاء
إذا استكملت الجملة ركنيها (المسند إليه والمسند) ذكراً أو تقديراً ،كان
المعنى هو المعول عليه؛ وهو ال ينفصل عن قصد المتكلم وإ رادة إفادة السامع به
وإ متاعه0...
ومن هنا تصبح القيود التي ترافق الجملة ذات غاية كبرى في عمليتي اإلمتاع
واإلفادة؛ وتتنوع الجملة وتتعدد صياغتها بين الخبر والطلب ،والتقديم والتأخير،
والقصر ،والفصل والوصل ،والذكر والحذف 0...على تداخل ذلك بعضه في
بعض.
ولهذا وقف الجاحظ (ت 255هـ) مبيناً بالغة الجملة وجماليتها الممتعة كما
في قوله" :ومتى شاكل ـ أبقاك اهلل ـ اللفظ معناه ،وأعرب عن فحواه ،وكان لتلك
الحال َو ْفقاً ،ولذلك القدر ِل ْفقاً ،وخرج عن سماجة االستكراه ،وسلم من فساد التكلف
كان قميناً بحسن الموقع وبانتفاع المستمع 0...وأن ال تزال به القلوب معمورة،
والصدور مأهولة.)18("...
وهذه الصورة من التخيل البالغي عند الجاحظ أسبق إلى الظهور في (علم
أكثر كالم العرب
المعاني) وال سيما الخبر واإلنشاء؛ ألنه يعد أبرز أبوابه ،بل ُ
طلب وخبر ملونان بالعاطفة واألفكار .وبهذا سبق كولردج في حديثه عن عالقة
ٌ
الصورة بالخيال والعاطفة(.)19
وقد سبقت اإلشارة إلى أن علم المعاني ظهر في رحاب الدراسات القرآنية؛
وكان ألهل االعتزال والكالم نظرات في نظام القرآن ،فذهبوا إلى أنه أمر ونهي
وخبر ...ومن ثم نظروا في مسألة الصدق والكذب من جهة ذلك فانتهت عند
المتأخرين إلى أنها قضية ُمرتبطة بمطابقة الخبر (الحكم) للواقع بغض النظر عن
النظَّام (ت 221هـ) قد ربطها بالمتكلم؛
قائلها .وكان أبو إسحاق إبراهيم بن َسيَّار َّ
فص ْدق الخبر مطابقة حكمه العتقاد المتكلم صواباً كان أم خطأ ،وكذبه مطابقة ِ
حكمه لـه .فمن أخبر بخبر معتقداً بصحته ،ثم ظهر بخالف الواقع ما كذب ولكن
شهد؛ ِإنك
أخطأ 0...أما كذب المنافقين في قوله تعالى :إذا جاءك المنافقون قالواَ :ن ُ
لرسو ُل اهلل( 0"...المنافقون )63/1فإنه مطابق للواقع ألن النبي الكريم رسول اهلل
حقاً وصدقاً وعدالً؛ ولكنهم يكذبون في قولهم المناقض العتقادهم؛ فهم في قرارة
- 30 -
أنفسهم ال يعتقدون به رسوالً ،ولهذا أعلن اهلل كذبهم صراحة في ختام اآلية واهلل
يشهد :إن المنافقين لكاذبون.
فالتشكيل الجمالي ـ هنا ـ ينبثق من الوصف السردي الدقيق للواقع النفسي
والفكري لحالة القوم.
نشاء باعتقاد المتكلم ال وبهذا كله يربط َّ َّ
النظام مسألة الصدق والكذب خبراً وإ ً
بمطابقة الكالم للواقع .أما الجاحظ فقد أنكر انحصار الجملة بالصدق والكذب،
ورأى أن الحكم الموجود في الكالم ثالثة أقسام:
1ـ خبر صادق :وهو المطابق للواقع مع االعتقاد بأنه مطابق له.
2ـ خبر كاذب :وهو ما ال يطابق الواقع مع االعتقاد بأنه غير مطابق له.
3ـ خبر غير صادق وال كاذب؛ وهو أربعة أقسام:
أ ـ خبر مطابق للواقع مع االعتقاد بأنه غير مطابق له.
ب ـ الخبر المطابق للواقع بال اعتقاد.
ج ـ الخبر غير المطابق للواقع مع االعتقاد بأنه مطابق له.
د ـ الخبر غير المطابق للواقع بال اعتقاد(.)20
فالمتكلم يمتلك رؤية عقلية يدرك بها ما لم يدرك بالحواس في تصوره
الجتماع عناصر السياق البالغي والجمالي وصياغتها .وقد شارك أهل األدب
والبالغة في الحديث عن مسألة الصدق والكذب في الخبر واإلنشاء كابن قتيبة (ت
وخبر واستخبار ورغبة؛ ثالثة ال
َمر َ
276هـ) الذي رأى أن الكالم أربعة :أ ٌ
يدخلها الصدق والكذب؛ وهي األمر واالستخبار والرغبة؛ وواحد يدخله الصدق
الخبر(.)21
والكذب وهو َ
أما أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم بن وهب فقد قسم الكالم إلى خبر وطلب،
فالخبر قول لم يكن عند المستمع علم به وأُفيد به ،والطلب كل ما طلبته من غيرك(
.)22
وتحدث أحمد بن فارس (ت 395هـ) في كتابه (الصاحبي) عن معاني الكالم َّ
ورأى أنها عشرة أبواب (خبر واستخبار ،وأمر ونهي ،ودعاء وطلب ،وعرض
وتعجب) ثم قال" :أما أهل اللغة فال يقولون في الخبر أكثر من
ّ وتحضيض؛ ٍّ
وتمن
أنه ِإعالم :تقول :أخبرته أُخبره؛ والخبر هو ِ
العْلم .وأهل النظر يقولون :الخبر ما
جاز تصديق قائله أو تكذيبه ،وهو إفادة المخاطب أمراً في ماض من زمان أو
- 31 -
مستقبل ،أو دائم"(.)23
ثم جاء المتأخرون من البالغيين فعرضوا تلك األقوال واآلراء على النظر
ويفندون المزاعم التي
يفرقون بين الكالم الخبري ،والكالم اإلنشائيّ ،وأخذوا ّ
تقدمت ،بعد أن كان الحديث متداخالً عن الخبر واإلنشاء.
فالسكاكي قد ناقش ذلك وانتهى إلى أن الخبر والطلب مستغنيان عن التعريف
النظَّام والجاحظ وغيرهما
الحدي( )24والخطيب القزويني توقف طويالً عند آراء َّ ّ
وردها ،مؤسساً لرأيه بقوله" :اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق َّ
والكاذب ،فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما؛ ثم اختلفوا .فقال األكثر منهم:
ِ
مطابقة حكمه له .هذا هو المشهور وعليه عدم ِ ِ
ص ْدقُه مطابقةُ حكمه للواقع ،وك ْذبه ُ
التعويل"(.)25
فالقزويني يذهب مذهب الجمهور وكذلك ذهب كل من جاء بعده ،وكل منهم
ٍ
متماه في الفكر والحس إليجاد عالقة بالغية جمالية موحية أكثر يرى أَن الخبر
منها عالقة مباشرة.
وفي ضوء ما تقدم اتضح لنا أن مسألة الصدق والكذب في الجملة من جهة
الحكم تقوم عند المعتزلة ـ غالباً ـ على اعتبارها لذاتها بغض النظر عن قائلها؛
والم َسلَّمات
الح َرج أخرجوا القرآن الكريم والحديث الشريف ُ وحتى ال يقعوا في َ
الثابتة من تلك المسألة فاستراحوا؛ ألنهم جعلوها صادقة بعلم مسبق.
وإ ذا تأملنا بالنظر بنية الجملة باعتبار قائلها في ذاته اعتقاداً وتصوراً
ومشاعر؛ في حال اإلثبات أو النفي للكالم لزمنا أن نتساءل :هل بالضرورة إذا
كان المتكلم كاذباً حقيقة أال ينقل إلينا خبرٍاً صحيحاً؛ أو إذا كان صادقاً أال َّ
يتعمد
نقل خبر كاذب ألمر ما في نفسه ،أو أنه ينقل خبراً كاذباً دون أن يدري بكذبه
ومخالفته للواقع؟
فالصادق قد يستقر في ذهنه خبر ما ،وينقله إلينا ثم يظهر أنه بخالف الواقع؛
هل نقول عنه :إنه كاذب؟ .ولو نقل الكاذب خبراً ما؛ وظهرت مطابقته للواقع هل
نقول عنه :إنه صادق؛ وهو المشهور بالكذب ،وما نقله إال متعمداً الكذب ألنه لم
يعرف أنه صادق؟
الح ّر ـ وهو ليس كذلك
ولو افترضنا جدالً أن هناك أحداً قال :هذا يوم شديد َ
في الواقع ،ونحن نشعر بأنه ليس شديد الحرارة ـ فهل نقول له :إنه كاذب؟ فلو كان
بالح ّر ،أو كان مريضاً بالحمى ،فهل يعني قوله ذاك أنه كاذب ،بينما
شعوره نفسياً َ
- 32 -
إحساسه صادق وعبارته مطابقة العتقاده ومشاعره...؟
وماذا نقول في بيت المتنبي اآليت؟:
سرانا؟!
َبيت على ما فات َح ْ
وال أ ُ شر ِئ ُّ
ب إلى ما لم َيفُ ْت طمعاً ال أَ ْ
إنه ال يتطلع إلى شيء ،وال يتحسر على ما فاته0...
فهل نتهمه بالكذب؛ وهو من كان يسعى وراء المجد والعظمة أينما الح له،
ومضى من أجله إلى كافور اإلخشيدي في مصر؟ أم نصفه بالصدق باعتبار
مشاعره وتصوره واعتقاده؟ أم نصف الكالم بالصدق أو الكذب باعتبار مطابقته
للواقع حيناً ومخالفته لـه حيناً آخر ،وتبعاً لتصور السامعين؟0.
ومثله قول أبي نواس:
قضى اهللُ وما َقدَّرا
بما َ مان َم ْجراهما ق ِ
والح ْر ُ الر ْز ُ
ِّ
َ
هل نقول له :إنه كاذب فالمال يجري بين يديه؛ ألنه األثير عند بعض الخلفاء
واألمراء؛ فهو ينال عطاءهم كلما مدحهم،؟ أم نقول له :إنه صادق؛ ألن الخبر
مطابق للمعتقد الديني السائد في المجتمع ،ولم يطابق الواقع الحقيقي لكثير من
الفقراء؟.
إن التحليل المتوازن آلراء القدماء جميعها؛ والنظر في كالم العرب؛
والدرس البالغي الجمالي النقدي والمنطقي يدعونا إلى إثبات أن أسلوب اإلنشاء
والخبر بما انتهى إليه قديماً وحديثاً ال يقاس وفق مطابقة الكالم للواقع أو مخالفته؛
لنحكم عليه بالصدق أو الكذب؛ وال يقاس باعتبار قائله إن كان صادقاً أو كاذباً؛
وإ نما يقاس باعتبار اعتقاد القائل في مشاعره وتصوره أوالً؛ وباعتبار مطابقة
الكالم للواقع الفني قبل الواقع الحقيقي والطبيعي والفكري ...ثانياً.
نقوم الكالم في إطار مدى تعبير الخبر أو اإلنشاء عن عواطف القائل فنحن ِّ
واعتقاده وتصوره وتطلعاته 0...ومدى قدرة تعبيره على إمتاعنا وإ فادتنا .فالصدق
أو الكذب في الجملة ـ بهذا الوعي ـ ليسا مرتبطين بالقائل وحده ،وال بالواقع وحده
وال بالسامع وحده؛ وإ نما مرتبط بهم جميعاً وبجمالية التعبير وقدرته على اإلمتاع
واإلفادة...
هذه هي الجمالية الجديدة لكيفية دراسة علم المعاني عامة والخبر واإلنشاء
ض َعا ألغراض محددة ومثيرة ،أو غير محددة انتهى إليها خاصة وإ ن و ِ
ُ
البالغيون0...
- 33 -
وإ ننا لنعتقد بأننا نضيف بعداً جديداً لمسألة الصدق والكذب على أنها مسألة
جمالية في الجملة ترتبط بالواقع الفني ...ويكون الحكم النهائي بالغياً على هذا
األساس .فالجملة بمقدار ما تمتعنا جمالياً وتحقق لديناً َن ْشوة عاطفية عالية ،وتأمالً
فكرياً عريضاً تكون صادقة 0...وال يعيبها الوضوح والدقة أو الهدف الذي تسعى
ومزيفة للهدف
ّ إليه ...وهي بمقدار ما تكون مباشرة وجافة و سقيمة و نابية؛
والواقع الفني 0...تكون كاذبة وتسقط جماليتها ...دون أن ننكر وجود العديد من
الصور التقريرية التي فاجأتنا بجماليات ما في نبرتها الخطابية أو السردية ،وفي
إيحاءاتها لدالالت كثيرة توقظ القلب الغافي وال سيما في القرآن .هذا هو مقياسنا
للدرس البالغي في الخبر واإلنشاء؛ على الرغم من أننا نفيد من البالغيين العرب
في االبتداء بالحديث عن الخبر ثم اإلنشاء بفروعه وأقسامه ،ومن ثم التركيز على
األساليب المجازية ...دون أن ننكر التداخل فيما بينها .فالخبر يشتمل على
صر ،أو الذكر والحذف يشتمل على ضروب كثيرة من اإلنشاء وغيره ...وكذا القَ ْ
الخبر واإلنشاء وغيرهما ...ولكن الدرس البالغي يقتضي التفريع للتيسير،
والوصول إلى تناول كل أسلوب بدقة وفهم كاملين ،وبيان سماته الجمالية...
ولذلك كله لزمنا أن نتحدث في التمهيد عن إنزال الخبر مكان اإلنشاء
والعكس صحيح؛ وإ ن كان المقام يقتضي أن نتحدث عنهما في آخر الكالم0....
ولكننا حين أفردنا تمهيداً لوجوه االلتقاء واالفتراق كان المقام هنا أ َْولى ،ألن مفهوم
يؤصل لدالالت بعيدة ودقيقة؛ بل لمغامرة عاطفية التبادل في األساليب اللغوية ّ
فكرية عظيمة تعتلج في ذات المتكلم .فهو يعيش في حالة توتر داخلي منذ تلقيه
لحالة الخطاب أو الموقف الذي يواجهه ...ولهذا يغدو النمط األسلوبي اللغوي
موازاة فنية لذلك كله بكل خصائصه الجمالية...
وهذا يعني أنه ينتج أسلوباً جمالياً فريداً يتمثل في طبيعة الحركة اللغوية التي
تناظر االنفعال والموقف والمخاطب؛ أي يغدو التناغم العاطفي الفكري حركة
لغوية يتولّد منها أسلوب بالغي يسمى إنزال شيء مكان آخر ....و أي حركة ـ في
هذا اإلطار ـ ينبثق منها تجربة بالغية ،بل لنقل :تجربة نقدية جمالية متميزة؛
باعتبار النقد في جوهره األصيل عملية َخْلق رؤية فنية وفكرية مستمدة من
التشخيص الدقيق لألسلوب والدقة في فهمه والعمق في تحليله...
ولعل البالغة العربية مثلها مثل عدد من األجناس األدبية واللغوية والنقدية
شوش معطياتها وطبيعتها ،وهو يحمل في داخله الحديثة قد أُصيبت بخلط غريب ّ
- 34 -
كل ما يثير األسى ويبكي النفس ...وهذا ما دعانا إلى استجالب الدرس البالغي
العربي القديم ،ومحاولة فهمه وتذوقه وتحليله في نماذجه األصيلة ،ومعايرته
النقدية بكل ما من شأنه أن يبين خصائصه ويثريه من أفكار األسلوبية الجديدة دون
إخراجه عن طبيعته .فالنقد البالغي ـ لدينا ـ يستند إلى منهج جديد في التحليل
النقدي األصيل والمعاصر دون أن يتخلى لحظة واحدة عن التذوق؛ والتأمل
الطويل ومن ثم إدراك عناصر الرؤى المتعددة القديمة ألهل اللغة والنحو،
وللبالغة األدبية ،والبالغة القرآنية ...ويمكننا أن نتبين ذلك فيما يأتي.
- 35 -
القسم الثالث :إنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو العكس
لعل هذا األسلوب ينطوي على جمالية كبرى حين يمارس مفهوم االنزياح...
فجمالية االنزياح ذات نكهة خاصة وقفت في عدد من أساليب البالغة كالتعريف
والتنكير ،والذكر والحذف والتقديم والتأخير 0...وال سيما حين يتجلى االنحراف
في معيار النسق اللغوي واالتجاه به إلى التعبير عما يجري في النفس ،وعما
يرمي إليه المتكلم من مقاصد وفق مراعاة مقتضى الحال والمقام 0....وهذا كله
يحدد معيار فصاحته وبالغته في إطار الجوار واالختيار.
ولعله قد تأكد لنا أن جمال البالغة ،وثراء أساليبها لدى العرب ال يتعرض
يجسد نمطاً من التفكير
للشيء في تجلياته الظاهرة المباشرة في الغالب ،وإ نما ّ
الراقي المتطور في إطار التحوالت النفسية والفكرية 0....ثم الفنية للعرب ،وينفي
عنهم فكرة الجمود عند الظواهر المادية والتعلق بوصفها ...فقد اتهموا "بالمادية
المفرطة ،وبضعف الخيال؛ وجمود العواطف"(.)26
وما من أحد ال يرى أن الذائقة األدبية ،ومن ثم البالغية قد تطورت من
العصر الجاهلي حتى اليوم 0...فالشعراء في بداية العصر الجاهلي ـ باعتبارهم قادة
الفكر والبالغة ـ اعتمدوا ـ غالباً ـ الذائقة الحسية المادية ،ثم إن هذه الذائقة ارتقت
شيئاً فشيئاً من الوصف المادي والظاهري لألشياء إلى التفكير الحسي بها على يد
زهير والنابغة الذبياني والحطيئة وكعب بن زهير وأمثالهم ...ثم ما لبثت أن
مزجت بين التفكير الحسي والمعنوي والذهني المجرد ...ما جعل العرب يتهيؤون
في أواخر العصر الجاهلي لنزول اإلسالم وتعاليمه القائمة على المفاهيم
المجردة ...بل إن العمل الفني نفسه لم يعد مجرد نتاج الوسط الطبيعي المحيط،
وإ نما أصبح لوحة فنية متكاملة العناصر ،تبدل هذا العنصر مكان ذاك ،وتجري
عملية تغيير ذهنية كبيرة بينها ،وهي تستجيب لعالم نفسي واجتماعي وفكري ال
حدود له؛ إذ حقق لها خلق حالة فنية جمالية مثيرة.
وفي هذا المقام كانت أساليب التعبير تواكب ذلك كله وتستجيب هي األخرى
لكل ما يحدث في عملية البناء الفني ...وكان الشاعر ينزل الخبر منزلة اإلنشاء
والعكس صحيح بصورة فطرية تلبي نزوعه النفسي والفكري والفني 0...ثم تطور
األمر بعيداً بوفود الثقافات وتطور األساليب ...فتجاوزت الرؤية البالغية
- 36 -
والجمالية الجديدة تلك الرؤى القديمة التي عبر عنها شعراء الجاهلية ثم شعراء
العصر اإلسالمي ...وإ ن ظلت على صلة كبرى بها ....وتظل التجربة الجمالية
القرآنية متفردة في هذا السياق ألنها كانت األبرز في تطور المفهوم البالغي عند
العرب؛ على أهمية ما وفد إليهم من اآلخرين.
وبهذا كله أصبحت التجربة البالغية تجربة عربية غنية ومستندة إلى األسس
التي ُبنيت عليها التجربة األدبية ....فقد صارت البالغة بحق علم الجمال الفني
األدبي المستند إلى مفاهيم مستخلصة من تراث العرب وأشعارهم( .)27فحين
تحدث القاضي عبد الجبار عن الفصاحة أوضح جماليتها في طريقة أداء المعنى
في األسلوب البليغ عند العرب من الجاهلية حتى عصره 0...وذهب إلى أن اللفظة
ليست جميلة بذاتها ،وال تستطيع أن تكشف عن أسباب روعتها إال في ضوء
والتصور لها:
ّ صفات ثالث قائمة في السياق
1ـ االختيار الدقيق والمناسب لها بين أخواتها.
2ـ شدة تعلقها بغيرها من جهة التركيب ،وما يوحيه من فروق داللية في
عملية التبادل اللغوي؛ حين يقوم لفظ مقام آخر،أو تركيب مقام تركيب.
3ـ موقعها من جهة الصياغة تؤدي إلى إبراز داللتها على الوجه المراد.
وهنا تكمن أهمية أساليب البالغة واللغة مثل التقديم والتأخير ،والحذف
والذكر؛ وإ نزال الخبر مكان اإلنشاء.)28(...
وهذا كله يعطيها بعداً جمالياً فريداً في عملية االنزياح اللغوي والبالغي0...
فإنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو العكس يؤدي إلى انحراف المتكلم عن أسلوب إلى
أسلوب ليدل على معان ليست لـه في األصل .......وبهذا يختلف عن األسلوب
المباشر المعروف الذي يأخذ سماته المميزة له ،والثابتة فيه .فذلك األسلوب
البالغي يكسب الجملة أبعاداً فكرية ونفسية جديدة ،وتتجاوز الحدود المعروفة
والمشهورة لعملية الداللة 0...إن القدرة اللغوية والبالغية التي تتصف بها العربية؛
والسليقة التي يحملها العربي تكمنان وراء هذا األسلوب البالغي الذي ُيعد وسيلة
جديدة الستخراج ما في النفس البشرية من أطياف فكرية وإ يحاءات نفسية
عاطفية...
ومن هنا يصبح لزاماً علينا أن نبين المواضع التي يقع فيها الخبر موقع
اإلنشاء ومن ثم العكس؛ ألن فيها مستويات لغوية بالغية لم تلق العناية من قبل
على الوجه الدقيق ...وسيقت في إطار العرض السريع وربما الساذج.
- 37 -
1ـ إنزال الخبر منزلة اإلنشاء:
ُي ْقصد بهذا األسلوب أن صياغة الجملة صياغة خبرية ولكن داللتها داللة
إنشائية ،وتؤدي وظيفة ما من وظائف األساليب اإلنشائية التي ستمر بنا ،ولها
أغراض عدة منها:
1ـ التفاؤل:
َملته عنده...
الخ ْير وأ َّ
والتطير ،تفاءلت به :رجوت فيه َ
ّ التفاؤل ضد التشاؤم
لهذا حين يتخيل المتكلم أن الخبر حاصل عنده ،أو عند المخاطب ،أو حين يتعلق
به تعلقاً شديداً حتى يظن حدوثه فإنه يستعمل لـه األسلوب الخبري ،ويختار لـه
الفعل الماضي المثبت ...كأن نقول للضَّال عن أمر اهلل( :هداك اهلل لصالح
األعمال) 0...فالمراد :كأن الهداية قد حصلت حقاً؛ ولذلك استعمل لفظ الفعل
الماضي على التقرير والتحقيق ...بدالً من أسلوب اإلنشاء في الدعاء وغيره...
ومثله قولنا لمن ُنحب من الناس( :أذاقك اهلل حالوة النجاح والتفوق) .فالمراد :كأن
حالوة التفوق وقعت فعالً 0...ولم تكن من باب التمني أو الرجاء ...ومثل ذلك
َّب اهلل إليك التثبت على الحق.).. قولنا( :ع ِ
وحب َ
الح ْي َرة؛ َ
مت من َ
ص َ ُ
فالتفاؤل بحدوث ذلك كله أخرج الداللة من أسلوب اإلنشاء إلى أسلوب الخبر
وكأن المعنى واقع ال محالة ،فمارس عملية الهدم والبناء في النفس والفكر إلحداث
الفتنة الجمالية .فالتكثيف في الوظيفة الحقيقية لهذا األسلوب ُي ْكتَ َسب من األواصر
القوية بين األلفاظ والمقام الذي تعرض له 0...وهذه هي المزية الجمالية لـه دون
َغيره من أساليب الكالم؛ فهي وظيفة جمالية ومعنوية في آن معاً.
2ـ الدعاء:ـ
الدعاء ـ في اللغة ـ النداء ،والفعل :دعا يدعو ...وهو أحد أساليب اإلنشاء؛ بيد
الخبر منزلة اإلنشاء في الداللة ـ وإ ن اتخذ صورة الخبر في اللغة ـ
أنه قد ينزل َ
لهدف الدعاء لـه أو التعجيل به ...ونستعمل ـ غالباً ـ في هذا األسلوب صيغة الفعل
(صل وسلِّ ْم 0.)...وحين
ِّ الماضي ،فنحن حين نذكر الرسول الكريم نقول )(:أي:
(ارض عنهم
َ نذكر الخلفاء الراشدين نقول( :رضي اهلل عنهم ،ورحمهم) أي:
(نزههُ ،وأ ِ
َعل مقامه). (كرم اهلل وجهه)؛ أيّ :
وارحمهم) .ونقولَّ :
األسلوب
َ وألجل التأدب مع اهلل واليقين بتحقيق الداللة وكأنها 0واقعة يستعمل المتكلم في ذلك كله
الخبري الذي يفيد الدعاء ...وال يجوز أن يقال له :إنه كاذب أو صادق ...ما يجعله يهدم الداللة اللغوية
والبالغية المعروفة للناس ،إليجاد داللة بديلة .ولم يقتصر هذا الغرض على الفعل الماضي الذي يفيد
- 38 -
وقوع الحدث حقيقة؛ إنما يستخدم لها الجملة االسمية المثبتة على السبيل نفسه؛ كقولنا لألمير أو الرئيس
واعف؛ ألنك أنت من تملك ذلك) ...وفي ُ ونحوهما( :المغفرة 0لك ،والعفو منك) ...أي( :اغفر عني؛
ال الفعل الماضي في السقيا:الدعاء قال طرفة بن العبد مستعم ً
ب الربيع ِ
ود ْيم ٌة تَ ْهمي فسقى ديار ِك َغ ْير م ْف ِ
ص ْو ُ
َ سدها َ ُ َ
فهو لم يكتف بالدعاء للديار بالسقيا وإ نما احترس في كلمة (غير مفسدها) لما عرف عن المطر
من تخريب الديار ....وقال مروان بن أبي َح ْفصة:
والب ْعد
جد على القُْرب ُ
ويا َحبَّذا َن ٌ سقى اهلل نجداً والسالم على نجد
ونجد صيغة األسلوب الخبري الواقعة موقع اإلنشاء في القرآن الكريم تتكرر
ريب عليكم اليوم يغفر اهلل لكم( يوسف .)12/92فاليوم
كثيراً كقوله تعالى :ال تَثْ َ
الذي هو مظنة التقريع ال تثريب فيه وال ذهاب بماء الوجه ،ثم جاء بجملة دعائية
تدعو لهم بالمغفرة(..)29
ولعل الدارس الممعن في هذا األسلوب البالغي (إنزال الخبر منزلة اإلنشاء)
ال يمكنه أن يتوقف عند الصورة اللغوية الخارجية ألنها مكونة من صورتين قريبة
وبعيدة متخيلة ...وال تناقض فيما بينهما؛ ألن التوافق النفسي هو الذي يوازن
بينهما في الوظيفة؛ وإ ن بدا للوهلة األولى أن هناك جموداً في الشكل...
ومن القدرات الجمالية العجيبة لهذا األسلوب اجتماع عدة أشكال من الوظائف في وقت واحد؛ فقد
يحمل معنى التفاؤل؛ ومعنى الدعاء والتعجيل به كما نجده في إحدى اعتذاريات النابغة للنعمان بن
المنذر ،كقوله:
ب
صُتم منها وأَ ْن َ
َه ُّ
وتلك التي أ ْ
َ أَتاني ـ أ ََب ْي َت اللَّ ْع َن ـ َّأن َك لمتني
ت أن تأتي
فجملة (أبيت اللعن) تحية كانت تستعمل دعاء للملوك؛ وتعني( :أََب ْي َ
ما تُْل َع ُن به) .وقد استعملها الجاهليون بصيغة الماضي المثبت ألن الدعاء بها واقع
ال محالة؛ كما أن هذه التحية في معرض سياق البيت تعزز فكرة التفاؤل في نفس
الشاعر ،وهي تستفز المشاعر التي تؤرقه وتبعث في نفسه الهموم ،فلعل هذه
التحية تكون مدعاة للتفاؤل بالصفح عنه...
فهذا األسلوب متفرد بجمالية خاصة لما يملكه من قدرات تعبيرية بارعة
تقتنص دفقات الشعور وتستجلي مكنوناته وآفاقه في زحمة اختالطها بإيحاءات
عديدة تنسجم مع المبنى تركيباً وإ يقاعاً 0...وهذا ما يتجسد أيضاً فيما يأتي.
- 39 -
في موضع حصين .وهذا أسلوب بالغي ليس لـه صورة لغوية معينة ،وإ نما يفهم
من السياق والمقام معاً 0...وبغيرهما قد يضل المتلقي له 0...فحين ينظر األمير في
(ي ْنظر موالي في أمري)؛ فكأننا احترزنا من الخطاب بصيغة ساعته ،نقول لهَ :
األمر فقلنا ذلك بدل أن نقول له( :انظر في أمري بدل أن تنظر في ساعتك)...
ومثله قول العبد لسيده :يقضي سيدي حاجتي...
وهذه الصورة من التأدب ليست مقتصرة على مخاطبة األدنى لألعلى ،فقد
يقول الزميل لزميله إذا لم يرد تلبية رغبته التي حضر لها( :تأتيني غداً)؛ فهو
يخيب رجاءه أو يسوف أو ّيحمله بألطف عبارة على عدم قضاء حاجته دون أن ّ
يأمره باإلتيان ...فالتركيب اللغوي الجمالي في هذا األسلوب يالئم الحالة النفسية
للمتلقي.
وقد يكون المتكلم في منزلة أعلى من المخاطب ويقول لـه في شأن ما :يمكن
عرض ما ترغب فيه؛ كأن المراد :اعرض رغبتك0...
فاللغة في هذا الغرض تضطلع بوظيفة جمالية وفكرية ونفسية؛ وتتألق
بجاذبية خاصة تتشكل في صورة العالقة بين الصورة والداللة والمقام 0...فالجمال
البالغي اللغوي حريص على أال يحدث فجوة حادة بين المتكلم والمخاطب ،بل
يريد أن يخلق دفئاً كبيراً من االتصال العاطفي ...وربما يكمن هذا المعنى في
الموضع الرابع بما يحمله من مفهوم توليد المعنى الحاصل من اجتماع عدة
عناصر في سياق النسق البالغي.
- 40 -
أنفع لكم من التمادي في الكسل والعبث).
فالتركيب البالغي في هذا األسلوب يعد أكثر شمولية في الداللة من غيره
متوضعة في التجربة النفسية واالجتماعية والفكرية...
ّ ألنه يستجلي عناصر كثيرة
وشبيه به ما نراه في الموضع الخامس ،وهو اآلتي.
5ـ المبالغة في الطلب للتنبيه على سرعة االمتثال:
يعتمد هذا األسلوب على الوظيفة التي يؤديها ،ألنه يحاول إيصال فكرة معينة
مضمونه كقوله تعالى :ال َي َم ّسه إال
ُ بصيغة الخبر ،والمراد منه األمر ،وتنفيذ
المطهرون( الواقعة .)56/79فال النافية أفادت المبالغة في النهي 0،كأنهم ُنهوا
فامتثلوا؛ ثم أخبر عنهم باالمتثال عند ما جاء بأداة الحصر والخبر بعده؛
فالمطهرون وحدهم يمسون القرآن ويقرؤون فيه.
ومثله قوله تعالى :إذا أخذنا ميثاقكم ال تسفكون دماءكم( البقرة .)2/84
فاهلل سبحانه لم يقل( :ال تسفكوا الدماء ،قصداً بالمبالغة في النهي 0،ومن ثم
لسرعة االمتثال له).
ففي هذا األسلوب يبرز لنا قدرة المتكلم على احتواء االنفعاالت المتباينة؛
وهو يعمد إلى توجيه الفكر إلى ما فيه صالح النفس ...وحين يسعى إلى تنظيم
العالقات بين الكلمات إنما ينظمها بين النفس وما تحمله من أفكار وتلقيه إلى
المتلقي ،لتحافظ على جسور االتّصال بينهما .فالصورة الجمالية تتركز في طبيعة
تحولت من مجرد شعور انفعالي إلى فكرة معنوية قوية التأثير اإلحساس بها؛ وقد ّ
والفعل 0...وهو عينه ما نراه فيما يلي.
- 41 -
فهذا األسلوب يثير في المتلقي أ َْنماطاً من عناصر الدهشة لما ينطوي عليه
من أبعاد فكرية ونفسية؛ وهو يستعير أسلوباً ألسلوب آخر...
أما الغرض السابع فإنه يعيدنا إلى الغرض األول على نحو ما؛ ألنه شبيه به
في الصيغة اللغوية وإ ن اختلف الغرض.
س ِد
بالح َ
عين َم ْن يأتي َك َ
قََّر ْت بها ُ ربي ُم َعاقب ًة
فعاقبني ِّ
َ إذاً،
إن الصراع النفسي الذي وقع تحته النابغة من غضب النعمان عليه جعله
يتخيل أن العقاب قد ُنفِّذ فيه ،وفرح الوشاة والعواذل بهذا العقاب....
فالبنية الجمالية لهذا األسلوب تخلق العناصر المكونة لها فنياً في نطاق
الوظائف التي تؤديها 0...إنها بنية تنصهر في الذات الفاعلة ليتحد الهدف بالمقام
وهما يتجاوبان مع التوترات النفسية المتعددة....
وهذا كله يمكن أن يتجلى في المواضع التي ينزل فيها اإلنشاء منزلة الخبر
وهو حديثنا القادم 0....وإ ن كان الحديث عن االتجاه األول ال يتوقف عند الصيغ
واألغراض التي عرضنا لها ،وقد استقينا أكثر صيغه من األدب الجاهلي لنؤكد
مرة بعد مرة أن الذائقة األدبية للجاهليين لم تكن ذائقة حسية مادية فحسب؛ ومن ثم
ِ
البالغة الصورةَ الجمالية البديعة التي تطورت بتطور تلك الذائقة أساليب كانت
ُ
المرهفة.
- 42 -
1ـ إظهار العناية بالشيء واالهتمام به:
يرتبط هذا األسلوب بالوعي الكامن في ذهن المخاطب كما يتصوره المتكلم
ليضبط فيه القدرة على التحكم بالغرض والعناية به لعظيم أمره وجليل شأنه...
فاألسلوب اللغوي البالغي في هذا المقام يمنح الداللة قيمتها الجمالية من جهة خلق
النسيج المتجانس بين التجربة الشعورية للمخاطب وبين الوظيفة المختزنة
للغايات ...ويظهر لنا أن هذا األسلوب مبثوث بكثرة في آيات القرآن الكريم،
بالق ْسط ،وأقيموا وجوهكم عند كل َم ْسجد( األعرافكقوله تعالى :قل أَمر ربي ِ
َ
.)7/29
فاألسلوب الوارد في اآلية :أقيموا وجوهكم ...أسلوب إنشائي من جهة
قامة وجوهكم) عطفاً على أمر ربيالصيغة اللغوية؛ وكان الحق أن تكون (وإ ِ
بالقسط .وحين جاءت الصياغة إنشائية ظلت الداللة خبرية ،ولم يكن االنحراف
اللغوي في إقامة اإلنشاء مقام الخبر إال للعناية بأمر الصالة لجالل شأنها وعظيم
قدرها في الدين ...وكأنما أراد القول" :اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين
إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود ،وهو الصالة"(.)31
فالمقام مقام إخبار ولكنه جاء بأسلوب إنشائي لذاك الغرض؛ ومثله قوله
وم ْرساها( هود .)11/41
تعالى :وقال اركبوا فيها ،بسم اهلل َم ْجراها ُ
فالمقام للخبر وكأنه قال :فركبوا فيها يقولون :بسم اهلل وهي تجري
حول صيغةبهم .(32)..ولكن العناية بأمر نوح ومن معه ،وإ ظهار االهتمام به ّ
وفعال.
تحول حيوي ّ تحول غير آلي؛ إنه ُّ
التعبير من أسلوب إلى أسلوب 0....وهو ُّ
فالحدث هنا محقق وواقع بعكس الغرض السابق من أغراض إنزال الخبر منزلة
اإلنشاء ...ولكن المتكلم يحرص على االنزياح في النسق التعبيري ليبرز لطائف
بالغية ال تكمن في األسلوب اللغوي الذي يقتضيه المقام الخبري.
ومثل هذا اللطيفة البالغية نجدها في الغرض الثاني من مواضع إنزال
الخبر...
اإلنشاء منزلة َ
2ـ التبكيت:
التبكيت هو المبالغة في التعنيف واللوم وجهاً لوجه ،والفعل منه َّ
بكت ِّ
يبكت
تبكيتاً ..وهو يثبت هذا األسلوب مدة التأثيرات العاطفية التي يتركها في صميم
النفوس ،فهو ليس مجرد وسيلة لنقل رسالة من الرسائل ...إنه ينحرف عن طبيعته
- 43 -
المباشرة ليلبي هدف التبكيت ...كما يتوخاه المتكلم وفق حال المخاطب ومقامه.
إنه أسلوب يجمع جملة من العناصر الجمالية التي تستجيب لعواطف المتكلم
ومقاصده وترسي هدفاً ما عند المخاطب ،وهي تخاطب عواطفه قبل عقله...
ولي ْبكوا كثيراً( التوبة .)9/82
وعليه قوله تعالى :فليضحكوا قليالً َ
صرة فالمقام ـ هنا ـ للخبر ألن اآلية تتحدث عن المنافقين الذين قعدوا عن ُن ْ
المؤمنين؛ فرحين بما فعلوه ،وكان ينبغي القول" :فسيضحكون قليالً ويبكون
كثيراً ،إال أنه أخرج على لفظ األمر للداللة على أنه َحتْ ٌم واجب ال يكون غيره"(
)33وعلى سبيل تبكيت أعمالهم وتوبيخ مقاصدهم ...ومثله قوله تعالى :فهل
نجازي إال الكفور( سبأ )34/17وكأن اهلل سبحانه قال( :للكافر وحده العذاب) .فالتأكيد هنا جاء
على تبكيته وإ دخاله نار جهنم .ولكي يصل إلى هذا الهدف أنزل اإلنشاء منزلة الخبر حتى ال يحتمل
أمرًا آخر؛ ألنه ثابت عليه وال تبديل لـه ....فالمقام للخبر واألسلوب أسلوب إنشاء ال يحتمل الصدق أو
الكذب ...وعليه قول الشاعر:
ٍ
فقلت لهاَ :ه ْل أثَّر اللَّ ْو ُم في َ
الب ْح ِر؟ ُ ض ُل في َّ
الندى والئمة المتْ َك يا فَ ْ
فجمال الصورة الشعرية ،ثم البالغية يكمن في صميم التضاد الضمني الذي
انطوى التركيب عليه؛ ثم شحنت العاطفة في المتلقي للوصول إلى الهدف الذي
تبتغيه .وهذا ما نراه في التحاشي من المساواة؛ أي التنزيه عنها.
- 44 -
وتوضيح ما قاله الزمخشري "أن صيغة الخبر ال تحتمل إال اإلخبار بوقوع
إشهاد
ٌ اإلشهاد منه ،فلما كان إشهاده هلل واقعاً محققاً عبَّر عنه بصيغة الخبر ألنه
وعبر في جانبهم بصيغة األمر التي تتضمن االستهانة بدينهم وقلة صحيح ثابت؛ ّ
المباالة بهم ،وهو مراده في هذا المقام معهم.)350("...
ونرى أن ما جاء في هذا التوضيح وما قاله الزمخشري محتم ُل الداللة؛ ولكن
ما هو أحق منه أن إشهاد اهلل حقيقة؛ وكذلك إشهاده لهم ،وإ نما عدل إلى صيغة
األمر للتمييز بين الخطاب اإللهي وخطابه لهم لعدم المساواة بينهما ...فأراد أن
َج ُّل وأ َْوقَر من صيغة األمر ،وإ ن
الخبر ،وهي أ َ
يعبر عن الخطاب اإللهي بصيغة َ
كان فيها من الداللة إقامة الحجة عليهم.
وهذا األسلوب كثير 0في القرآن الكريم يؤدي إلى وظائف نفسية وفكرية كثيرة()36؛ ومثله قول
طرفة بن العبد:
ال تَر َك اهلل لـه ِ
واض َح ْه ت خالَ ْلتُ ُه ُك ُّل ٍ
خليل ك ْن ُ
ُ َ
فالشاعر َع َدل عن األسلوب الخبري لما يفيد من الحقائق ،واستمرار الفعل،
وثباته على أ َْمر آخر؛ وهو نفيه بالدعاء 0...فالشطر األول إثبات للصداقة والمودة
فنفي لها .ولهذا أراد بتبديل األسلوب أن يثبت عدم المساواة بينهما وفَ َّر أما الثاني ٌ
من ذلك تحاشياً لهذا االعتقاد ،وإ ن كان المقام مقام إخبار.
ولهذا فإن االتجاه إلى الكالم مفرداً أو مركباً ال ينعزل بأي حال من األحوال
عما يدل عليه ،وجمالية الصياغة وأساليبها تنبع من قدراتها على اإليحاء بدالالت
كبيرة.
- 45 -
االلتفات( 0...)39وبعضهم قصره على انصراف المتكلم عن اإلخبار إلى
المخاطبة.
معنى ،ويعترضه عارض يغير في أسلوب فحين يكون المتكلم آخذاً في
ً
الصياغة ليلفت االنتباه إليه ...ويحث عليه ويرغب فيه ...وهذا هو أسلوب
االلتفات .أما في اجتماع الخبر مع اإلنشاء فإن الهدف المعروف منذ البداية كان
وراء تبدل األسلوب ،والغاية هي هي في أسلوب االلتفات ...كقوله تعالى :وإ ن
فور رحيم( التغابن .)64/14صفحوا وتغفروا فإن اهلل َغ ٌتَعفوا وتَ ْ
وقوله :فاعف عنهم واصفح إن اهلل يحب المحسنين( المائدة .)5/13
فالعفو والصفح والغفران والرحمة ألفاظ متقاربة في المعنى ،وكذلك العفو
والصفح واإلحسان ...وإ نما جاء التشديد على ذكرها ترغيباً فيها وحثاً عليها وإ ن
اختلفت الصياغة في االبتداء باإلنشاء واالنتهاء بالخبر 0...فالسياق والمقام لم
يتغير.
فأياً كانت المقاصد واألساليب فإنها تثبت أن إنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو
العكس إنما يؤدي وظيفة ما ،في الوقت الذي يكسب الجملة جماالً أخاذاً؛ ألنها
كسرت القاعدة في الصياغة الرتيبة ،وتحولت من شكل إلى شكل 0...فصدق عليها
ما قاله جاكبسون .فالصورة الجمالية الجديدة صورة انبعاث الرؤية الذاتية في
تعبير شفاف وخالّق يأخذ موقعه في نفس المتلقي كما ينبغي لـه بكل دقة وارتياح.
والو ْعظ:
صح َ 5ـ النُّ ْ
قد يجتمع الخبر واإلنشاء في غرض التوجيه والنصح؛ وغالباً يقع هذا األسلوب في الشرط،
يجسد
وتكون جملة الجواب ـ في أكثر الحاالت ـ إنشائية؛ كقولنا( :كلما جاء زيد فأكرمه )...فاإلنشاء ّ
نمطاً إيقاعياً جمالياً يرتفع في النفس بترداد حدة النغم فيه ...وقد تكون جملة الجواب خبرية كقول زهري:
وإ الَّ تُ َ
ض ِّي ْعها َّ
فإن َك قاتلُ ْه للص ْي ِد ِغَّرةً ت :تَعلَّ ْم أ َّ
َن َّ وق ْل ُ
فجملة الجواب ـ هنا ـ تطالعنا بالتعبير عما يتراءى للمتكلم ويعتقد بأن
المخاطب بحاجة إلى ما يراه نصيحة منه وإ رشاداً 0...وبهذا يتحرك التركيب
البالغي في عالم الوجدان في صميم عالقة جدلية مع الفكر 0....فالبنية اللغوية
البالغية منصهرة بالمشاعر الجياشة النتظام صالح اآلخر عن طريق إرساء رؤية
فكرية دقيقة تأخذ طريقها إليه لتعمق وعيه بالحقائق والجمال في وقت واحد.
ومن هنا يمكن للمرء أن يقول :إن ذلك كله يصدق على أي موضع يوضع
فيه اإلنشاء موضع الخبر ،أو العكس لغرض أخالقي أو تربوي أو اجتماعي0...
- 46 -
أو0...
فأساليب البالغة ـ بهذا الوعي ـ تحقق وظيفة مركبة وكبرى في عملية البناء
الفردي والجماعي ،الفني والفكري ...ويغدو كل أسلوب منها على ارتباطه بذلك
أسلوباً جمالياً مثيراً.
تلك هي صورة من صور أساليب البالغة في الخبر واإلنشاء ،ومن ثم في
أج ّل الغايات ،وأنبل المشاعر...
إنزال أحدهما مكان اآلخر 0...وهي تعبر عن َ
ولعل جماليتها البديعة تتولد من خصائصها اللغوية والبالغية سواء عبَّرت عن
رؤية فردية أم رؤية جماعية ...ومن ثم فهي تتوجه إلى المخاطب (المتلقي) تحت
إهاب النصح أو اإلرشاد أو التبكيت أو غير ذلك.
ثم تبقى تلك الصور قادرة على البوح بالمشاعر والحاجات العميقة كلما
حساً حياً ومتطوراً يعيش اللحظات الجماليةتجسد ّ تسربلت بخطوط أو ألوان متألقة ّ
بتدرج فكري ونفسي مطرد يدرك العالقات المتباينة و المتفقة فيها على السواء.
ونؤكد قائلين :تلك هي صورة ألساليب البالغة العربية في هدفها الجمالي؛ وفي
قدرتها على إبراز تطور الفكر الفني العربي وارتقائه ...فلم يكن في مراحله كلها
بما يختزنه من أسرار فنية وأدبية ...أقل من أي فكر آخر .فقد تبين لنا أن كل
عبر عن إنزال الشيء مكان اآلخر إنما انتهى ـ بما ال يقبلأسلوب بالغي جمالي ّ
الشك ـ إلى إثبات مدى تم ّكن العرب من الجملة اللغوية والبالغية التي تنبئ
بالصور الفكرية العظيمة؛ والدفقة الشعورية الفياضة ....فالجملة اللغوية البالغية
في األسلوب السابق كانت موحية بجمالية المفارقات الداللية؛ وكأن البنية التركيبة
ال تقوى إال باجتماع الشيء وضده ،وعلى المتلقي أن يستنبط إيحاءاتهما الجمالية
وغيرها.
هذا هو الوجه الجمالي البالغي الذي أدركه الجرجاني بقوله" :وإ نه ليأتيك من
الشيء الواحد بأشباه عدة ويشتق من األصل الواحد أغصاناً في كل غصن ثمر
على حدة"( .)40إنه إدراك جمالي يقوم على استنباط العالقات الداللية التي
يوحيها النسق البالغي؛ 0ليس باعتباره نسقاً لغوياً فقط ،إنما باعتباره صورة بالغية
مشحنة بالرؤى واالنفعاالت كما دلت عليه أمثلته.
يحدونا بقوة إلى بيان جمالية الخبر واإلنشاء مفهوماً وداللة
ولعل ما قدمناه ُ
واكتناه أغراضهما وأساليبهما الحقيقية والمجازية ...بادئين بأسلوب الخبر.
- 47 -
***
حواشي الفصل األول من الباب األول
( )1الحيوان 4/90وانظر فيه 1/9و .3/132
( )2انظر بيان إعجاز القرآن .26
( )3انظر النكت في إعجاز القرآن .98
( )4انظر إعجاز القرآن .169
( )5انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل 16/199وما بعدها.
( )6انظر الصاحبي البن فارس (ت 395هـ) 279 :واإلمتاع والمؤانسة ( )1/121مناظرة
السيرافي (ت 368هـ) مع يونس بن متَّى.
( )7انظر دالئل اإلعجاز 60 ،55و 81و 87و 315ـ 316وانظر ما يأتي من الفصل
الثاني حاشية ( .)30
( )8كتاب :مفتاح العلوم للسكاكي ،واإليضاح في علوم البالغة ،والتلخيص في علوم البالغة
للقزويني ،والمطول (الشرح المطول على التخليص) للتفتازاني.
( )9الكشاف /1ك و ،11وانظر :البالغة تطور وتاريخ ـ د .شوقي ضيف ـ 221و 271و
.288
( )10انظر نهاية اإليجاز في دراية اإلعجاز .36
( )11انظر مفتاح العلوم 247و 250و .414
( )12انظر المصباح.
( )13مفتاح العلوم 247وانظر اإليضاح .15
( )14اإليضاح .15
( )15انظر :عروس األفراح للس ُّْبكي ا 51 /ـ .53
( )16انظر كتاب الدكتور شوقي ضيف (البالغة تطور وتاريخ) وكتاب الدكتور أحمد مطلوب
(أساليب بالغية) ،ومع البالغة العربية في تاريخها للدكتور محمد علي سلطاني.
( )17انظر البالغة تطور وتاريخ 219و 270وتاريخ النقد األدبي 2/214ـ 235ومن
تجليات الخطاب البالغي 49و 72وما بعدها.
( )18انظر المطول 43وأساليب بالغية .78
( )19البيان والتبيين 2/7ـ 8وانظر الصورة الشعرية ـ سيسيل دي لويس ـ 23والمنهج
األسطوري في تفسير الشعر الجاهلي 78وفلسفة الجمال في الفكر المعاصر 42ـ 44و
.68
( )20انظر اإليضاح 18ـ .21
( )21انظر أدب الكاتب .4
- 48 -
( )22انظر البرهان في وجوه البيان .113
( )23الصاحبي في فقه اللغة العربية .179
( )24انظر مفتاح العلوم 251ـ 252واإليضاح 18ـ .21
( )25اإليضاح 18وانظر شروح التلخيص 1/183وكشاف اصطالحات الفنون 2/16ـ
.18
( )26انظر فجر اإلسالم .144
( )27انظر مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ .25
( )28انظر المغني في أبواب التوحيد 16/299ـ 301والبرهان في علوم القرآن .3/398
( )29انظر الكشاف للزمخشري .2/342
( )30انظر المصدر السابق .4/193
( )31المصدر السابق .2/75
( )32المصدر السابق .2/270
( )33المصدر السابق 2/205ـ .206
( )34انظر تحرير التحبير 198و 454و .459
( )35الكشاف 2/276والرأي األصوب مع الزمخشري.
( )36انظر مثالً :آل عمران 3/52و 58والمائدة 5/111واألعراف 7/172وهود
.11/17
( )37قضايا الشعرية 24والنظريات الموجهة نحو القارئ 103ـ 104وهسهسة اللغة 167
ـ 170وحاشية رقم ( )109من الباب الثاني.
( )38انظر تحرير التحبير 377و .593
( )39انظر تحرير التحبير 123والكشاف .1/62
( )40أسرار البالغة 114ـ .115
- 49 -
الفصل الثاني :جمالية أسلوب الخبر
- 50 -
الصدق أو الكذب 0...وهو يسلمنا إلى بيان أغراض الخبر الحقيقية ثم المجازية؛
ومؤكداته 0...ليثبت ذلك كله أنه من الخطأ الفادح
أضربه ُ
بعد يوقفنا عند ُ
ومن ُ
التعامل مع أسلوب الخبر على أساس صورته اللغوية المباشرة ،أو من خالل ما
شاع لـه من تعريف أحادي االتجاه.
- 51 -
وقال المتنبي موضحًا لسامعيه ما يراه في بعض الناس من التقصير في عمل اخلري:
تمِم
بم ِّ ٍ
وال ُك ُّل فَ َّعال لـه ُ
ٍ
بفاعل ِ
للجميل كل ٍ
هاو وما ُّ
فهو يفيدهم بما ال يعرفونه ،ولهذا فإن أسلوب الخبر يتجه إلى االقتصاد
اللغوي فيما يدل عليه فقط .ثم إن هذه الجمل التي استشهدنا بها تناقض ما قاله
البالغيون في شأن توضيح غرض الفائدة حين حصروه بالجملة الخبرية المتجهة
إلى ذلك دون التواء؛ وأخذوا الشواهد من القرآن والشعر باعتبار التفسير الظاهري
للخطاب اللغوي المباشر .ولهذا تحررنا من الخطاب المباشر من جهة؛ وربطنا
الخبر بالمتكلم من جهة أخرى ،إذ تبينا أن القول الذي يلقيه المتكلم إلفادة المخاطب
يتضمن فكرة بديعة بأسلوب أدبي رفيع ومثير...
فهو حكم مطابق للواقع الحقيقي ومنسجم مع تطلعاتنا الفنية والبالغية ،على
اعتبار أن صاحبه يعرف تماماً ما يهدف إليه ....وعليه قوله تعالى في اإلخبار
عن الغيبة ـ وهو كثير في القرآن الكريم ـَّ :إنا فَتَ ْحنا لك فتحاً ُمبيناً( الفتح .)48/1
ب ـ الزم الفائدة
هو إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بالحكم؛ ولهذا فال يقدم معرفة أو علماً
يذكر للمخاطب 0...فضالً عن جماليته المتضائلة ،مما يدعو إلى إهماله أحياناً.
هذا ما رأيناه في بعض كتب البالغة عن هذا الغرض؛ فالمتكلم يريد إخبار المخاطب أنه يعلم
الخبر الذي يعرفه ....وهنا ُيستشهد ببيت 0المتنبي في مدح شجاعة سيف الدولة وبطولته:
المطاعم الو ِ
كور بك الخي ُل الوكور على ُّ
ُ وقد كثَُر ْت حول ُ الذرا َ تدوس َ
ُ
فسيف الدولة يعلم بذلك كله ،كما هو في بعض كتب البالغة ،وال تزيد عليه
شيئاً ُيذكر كما ذهبت إليه.
ولو افترضنا أن زيداً قد زار صديقه محمداً ؛ فخاطبناه بقولنا( :زارك زيد البارحة) لكان الخبر
من هذا الباب ،ألنه ال يحمل عبارة مشرقة ومفيدة؛ ولكن لو قلنا له( :زيارة زيد لك البارحة كانت ماتعة
ومثمرة) 0...الختلف أسلوب العبارة والعلم بداللتها .وهذا الذي يتّصف به الكالم البليغ الذي يمتاز من
صور فيها بطولة سيف الدولة الكالم السقيم .ومن هنا فالمتنبي لم َي ُسق الخبر بعبارة جافة ومنفرة ،وإ نما َّ
بسنَة:
َ الخالفة مه بأسلوب بديع .ومثله وجدناه في مدح الفرزدق لسليمان بن عبد الملك بعد تسلّ
- 52 -
إلهية؛ وجعل الخير يستقر بين يدي سليمان.
فمشاركة المتكلم المخاطب بمعرفة الحكم كالم مفيد
بيد أنه قد ال يضيف تفرداً جمالياً إذا ُحمل الخبر على
الحدي لالزم الفائدة ،فحين قلنا لمحمد قبل قليل:
المفهوم ّ
(زارك زيد البارحة )...فقد ألقيها بطريقة تدل على
استهجان ،أو تعجب ،أو مدح 0...ما يجعلها ترتبط باعتقاد
المتكلم ومشاعره وتصوره ،فيضاف إلى باب االشتراك
في الحكم معنى جديد لم يعرفه المخاطب 0.ولهذا يصبح
لعالمات الترقيم مكانة جمالية في أساليب البالغة ترتبط
بالقرينة مشافهة وكتابة .ثم إن القرينة في الكالم قد تدل
على معنى ال يعرفه المخاطب ،أو ال يتخيل أن يقوله
المتكلم على الوجه الذي سيق فيه ...وهذا ما نستشفه من
مدح المتنبي لسيف الدولة الذي طفح وجهه بالبشر حين
رأى هزيمة عدوه وكثرة ما أوقعه باألبطال من القتل
والجراحة؛ ولكن لم يكن يعلم بالطريقة التي سيصف بها
المتنبي ذلك كله في قوله البديع القائم على مفهوم التقابل
الجمالي 0الطريف بين الشطر األول والثاني ،فاألول يوحي
بالعبوس ،وجهامة وجه المهزوم ،والثاني يشي بانتصار
سيف الدولة وعزته ،حين طفح وجهه بالبشر والفرحة،
وهو يستعرض جنود أعدائه المهزومين فيقول:
باسم
َّاح وثَ ْغ ُر َك ُ
وو ْج ُه َك وض ٌ
َ بك األبطا ُل َك ْلمى هزيم ًة
تمر َ
ُّ
وضحالة
أضحوكةً َُ قر بمبدأ التقسيم الوارد في الخبر ،لكننا نرى فيه فنحن ُن ُّ
- 53 -
إن وقف عند مفهوم االشتراك في حكم المعرفة بين المتكلم والسامع في الزم
الفائدة.
رؤى جديدة
ً وهنا نسجل لعلم الكالم فضالً على أسلوب الخبر ،إذ َّ
قدم
ألغراضه؛ وبخاصة حين منح أسلوب الخبر بعض المصطلحات مثل (المحكوم
عليه) و(المحكوم به) و(الزم الفائدة).
وعلى الرغم من أنه قيَّد البالغة بمفاهيمه المنطقية الخاصة؛ فإن البالغة
بجمالياتها بقيت أعظم منه بكثير ...ما جعلتنا نقترح تعريفنا السابق للخبر ،ثم
لغرضي الخبر ،وهو تحليل يتفق مع روح البالغة وأساليبها َ عرضنا تحليالً جمالياً
بحد ذاتها ،وإ ن لم ترتق إلى ما
الفنية ...دون أن ننكر تقسيماتها أو تفريعاتها ّ
تحدثنا عنه.
هذان هما الغرضان األصليان اللذان يهدف إليهما الخبر وفق مقتضى
الم ْفلقين السحرة في هذا الفن ينفثون
الظاهر ...ويقول السكاكي " :ثم إنك ترى ُ
الكالم ال على مقتضى الظاهر كثيراً"( ،)2وكأنه ال يرضيه إال هذا الغرض؛ إذ
يستشف من عبارته أنه يزري بمن سبقه في الحديث عن هذا الغرض.
والم ْن ِكر
والشاك ُ
ّ أـ إنزال خالي الذهن منزلة السائل المتر ّدد
سنتوقف بعد قليل عند أضرب الخبر باعتبار طريقة إلقائها للمخاطب 0...تبعاً
ألحواله في قبول الخبر أو إنكاره ...ولهذا يحتاج المتكلم إلى توكيد خبره بمؤكد أو
أكثر حسب الحاجة في الخطاب ...وهذا هو الشيء الحسن في الخطاب البالغي0،
فح ْسنه تقويته بالمؤكدات المراعية لحال السامع .ويظهر لنا أن أنماط المؤكدات
ُ
تستعمل في أغراض الخبر التي تكون بخالف الظاهر؛ إذا أنزل المتكلم مخاطبه
- 54 -
ك ،أو المنكر على الرغم من أنه خالي الذهن تماماً
منزل السائل المتردد ،أو الشا ّ
من حكم الخبر.
فالمتردد والشاك في الحكم ليس متيقناً منه بين الرافض له ،والقابل به؛
والمنكر لـه يكون أقرب إلى رفضه وعدم قبوله ...ما يجعل المتكلم يتبع طريقة
مغايرة في إلقاء الخبر إليه مغايرة للطريقة التي يتبعها فيما لو أنزلـه تلك المنزلة...
فالجملة الخبرية تتخذ أسلوباً جمالياً شفيفاً وجديداً ومتنوعاً بوساطة المؤكدات
أو الشرح والتفصيل 0...وهو أسلوب يعتمد على المخزون الشعوري الفياض
والمتوتر.
فالمخاطب المتردد يمكن أن يلقى إليه الكالم بمؤكد واحد؛ أو بالشرح له؛
ومثله الشاك كقوله تعالى يخاطب فيه نوحاً (عليه السالم) :وال تخاطبني في الذين
ظلموا؛ إنهم ُم ْغ َرقون( هود .)37 /11
جملة "إنهم مغرقون" جملة خبرية مؤكدة بالحرف (إن) 0...فاألصل أن تخرج
وفق مقتضى الظاهر؛ وتكون (فهم مغرقون) ألن (نوحاً) خالي الذهن من الحكم
فيها ،وكان يدور في خلده موقف نفسي آخر في الذين خاطب بهم ربه؛ في أن
يغفر لهم وابنه منهم ...لهذا خرجت جملة (إنهم 0)...بخالف مقتضى الظاهر،
وتقدم لـه الخبر لينتهي التردد الذي حصل في نفسه حول مصير القوم 0...واستعمل
فيها مؤكداً واحداً.
وإ ذا زادت حيرة المخاطب وترددهُ في قبول الحكم استعمل في الخبر أكثر
إبراهيم
َ من مؤكد كقولـه تعالى في خطابه إلبراهيم (عليه السالم) :فلما ذهب عن
ليم أ ََّواه ُمنِ ْيب يا
ٍ
لح ٌالبشرى؛ يجادلُنا في قوم لُ ْوط* إن إبراهيم َ
وجاءتْه ُ
َ الر ْوع،
َّ
ذاب َغ ْي ُر مردود( هود ربك؛ وإ نهم آتيهم َع ٌ
إبراهيم أَعرض عن هذا؛ إنه جاء أ َْمر َ
74 /11ـ .)76
فإبراهيم (عليه السالم) في موقف حيرة وتردد وتساؤل عن أمر القوم بعد
جدال طويل فيهم ...ألنه طامع في أن ُي ْغفَ َر لهم على علمه بذنوبهم ...ما اقتضى
الخطاب اإللهي أن يزيد المؤكدات لمناسبة مقتضى الحال والمقام النفسي له...
وهو مقام مختلف عما رأيناه عند نوح من قبل ...لهذا كله جيء بالمؤكد َّ
(إن)
ثالث مرات؛ آخرها كان اإلبرام فيها بالقرار (إنهم آتيهم )...ومن قبل استعمل
حرف الالم مع (حليم) فقال (لحليم)0...
فس أل ََّم َارةٌ بالسوء( يوسف /12 إن َّ
الن َ ُبرئ نفسي؛ َّ
أما قوله تعالى :وما أ ّ
ّ
- 55 -
)53فيوسف يتساءل في نفسه على لسان أحد ما :لماذا تبرئ نفسك؟ وهو مقام
استنكاري ،فاستخدم (إن والالم)؛ ويوضح هذا تمام اآلية "إال ما رحم ربي"
وسياقها في النص ،وقيه ورد توكيدان لصدق يوسف ،وإ زالة اإلنكار الذي يعتقد به
فيه ،حين قالت امرأة العزيز :وإ نه لمن الصادقين( يوسف ،)51 /12وحين قال
وأن اهلل ال َي ْهدي َك ْي َد الخائنين ،وما أَُب ِرئُ
َخ ْنه بالغيبَّ ،
يوسف :ذلك ليعلم أَني لم أ ُ
نفسي( يوسف 52 /12ـ .)53
من هنا ثار السؤال حين تصور اآليات إنساناً ما يقول ليوسف :لماذا تبرئ
نفسك...؟ 0لذلك عومل هذا اإلنسان معاملة المنكر الجاحد إنكاراً قطعياً ،ال متردداً؛
لما أحاطه باإلنكار الشديد المبرم
فألقي إليه الخبر على أنه خالي الذهن؛ أيّ :
استدعى الحكم في الجملة عدداً من المؤكدات مراعاة لمقتضى الحال ...ومنها
تتولد دالالت تخفي جملة من المكنونات النفسية والمعنوية البعيدة عند المتلقي قبل
المتكلم؛ مما يضفي عليها طابعاً جمالياً ساحراً.
وقد أدرك البالغيون واألدباء مدى جمالية هذا األسلوب في الخطاب،
وافتراقه من غيره؛ وهو أسلوب ٍ
جار على بالغة كالم العرب( ،)3إذ يجعل فيه
المتكلم مجال اإليحاء متجاوزاً االنطباعات المباشرة.
- 56 -
إنكم بعد ذلك لميتون( إن ـ والالم ـ وميِّتون) بدل (يموتون) ....ومن ثم قوله "ثم
يوم القيامة تُبعثون" .فكرر الحرف (ثم) ليدل على طبيعة المهلة والتراخي بعد إنكم َ
الموت ولكن البعث واقع ،فجاء بالتوكيد (إنكم)0...
فطبيعة الجملة تقدم محاكمة عقلية وفق قياس يتغير لتغير حالة الشعور
والموقف للمخاطب.
ضلة (أحد
ويذكر بعض كتب البالغة قول َح َجلة بن َن ْ
شعراء األصمعيات) 0في هذا املقام(:)48
رماح
ُ إن َبني َع ِّم َك فيهم
َّ شقيق عارضاً ُر ْم َح ُه
ٌ جاء
َ
فشقيق عال صهوة حصانه وجاء ساحة القوم ،وقد عارض رمحه معارضة؛
ومظهراً شدة إعجابه بفروسيته وشخصه ،اعتقاداً منه أن أي أحد ِ ًّ
ُمدال بشجاعته ُ
من بني عمومته ال يجرؤ على مجابهته ،فألقي إليه الخبر (إن بني عمك )...مؤكداً
بـ "إن" ليزيل عنه عالمات اإلنكار والتوهم التي ظهرت في تصرفه وتصوره.
- 57 -
فال يزيد على مؤكد واحد من المؤكدات المعروفة لفظاً أو معنى 0...وعليه قوله
دى للمتقين( البقرة .)2 /2
ب فيه ُه ًتعالى :ذلك الكتاب ال َر ْي َ
فالخطاب اإللهي ينزل الكفار المعاندين المستكبرين منزلة من هو خالي
الذهن ،وغير المنكر للقرآن الكريم؛ فأُلقي إليهم الكالم بال توكيد ،على خالف
الظاهر لعلهم يعودون إلى رشدهم ويهتدون به.
وهذا األسلوب ينطبق عليه قوله تعالى :ثم إنكم يوم القيامة تبعثون
(المؤمنون .)16 /23فالمؤمنون ال ينكرون يوم القيامة ،ولكن الغافلين والكفار
ينكرونه لعدم وجود أدلته الظاهرة؛ فجاء الخطاب اإللهي ولم يكثر من التوكيد
فأنزلهم منزلة من ال ينكر الخبر واستعمل الخبر واستعمل مؤكداً واحداً (إنكم)
لعلهم يرتدعون عن إنكارهم.
واحد؛ ال إلهَ إال هو الرحمن الرحيم( البقرة
وعليه قولـه تعالى :وإ لهكم إلهٌ ٌ
)163 /2فاهلل ـ سبحانه ـ يخاطب منكري الوحدانية؛ ولكن الخطاب اإللهي أنزلهم
منزلة من ال ينكر فلم يؤكد الخبر ...وكذا نقول للكذاب( :الكذب حرام وبهتان
وض َر ُره كبير
وزور )...أو كقولنا للمسلم الشارب الخمر( :شرب الخمر حرامَ ،
في الصحة والمال.)...
وقد يتبادر لذهن المتعجل الناظر في هذا األسلوب باعتباره الشكلي الخارجي
أنه ألقي للمخاطب غير المتردد؛ فيحكم عليه حكماً سريعاً؛ بيد أن جماليته المثيرة
الضمني؛ بما يقوم عليه السياق اإليحائي الذي يعتمد علىإنها تتجسد في التضاد ّ
حال المتلقي .فالغرض منه ليس مطلق اإلخبار كما هو في فائدة الخبر أو الزم
الفائدة؛ بل غرضه تحريك النفس على حقيقة حال المتلقي بما انطوت عليه من
ولما انحرف األسلوب اللغوي عن استخدام المؤكدات التي إنكار شديد للحقيقةّ .
قدم جمالية بالغية ال نظير لها .فصياغة التجربة الجديدةتالئم حال الشديد اإلنكار َّ
تصدر من مشكاة تجربة المتكلم مع المخاطب ودرايته بأحواله .ولهذا كثف تجربته
بهذا األسلوب اللغوي الموجز والمعبر الذي ينتفع به المتلقي أكثر مما ينتفع من
األسلوب الخبري اآلخر المشحون بالمؤكدات.
- 58 -
الواقع الحقيقي أو الفني وفق الغرض المقصود إيصاله إلى المخاطب...
فقد ظهر عنوان (معاني القرآن) اسماً لعدد من الكتب التي تطرقت لذلك
الباب؛ للفراء (ت 207هـ) والزجاج (ت 311هـ) والنحاس (ت 338هـ) ...كما
عرض لـه ابن قتيبة (ت 276هـ) في كتابه (تأويل مشكل القرآن)؛ 0وابن فارس (ت
395هـ) في (الصاحبي)...
ولما لمس فيه هؤالء األفذاذ بعض الجوانب اللغوية الداللية اتجه الزمخشري
فيه اتجاهاً بالغياً تحليلياً في الكلمة المفردة وفي الجملة ،فاستحق كتابه (الكشاف)
اسمه بكل جدارة.
ورأى هؤالء وغيرهم أن اللفظ المثنى قد يراد به الواحد ،وهو ما كان شائعاً
عند العرب ،وقد يراد باللفظ الواحد الجمع أو العكس 0...وربما يقع اللفظ الواحد
مفرداً مرة وجمعاً مرة أخرى ...أو يستعمل الفعل المضارع؛ ومقتضى الظاهر
أن يكون ماضياً أو أمراً؛ والعكس صحيح ...ولكل ذلك نكتة بالغية على صعيد
البنية اللغوية إيقاعاً وتصويراً يوحيان بفهم عميق وشعور متدفق بالموقف المعبَّر
عنه.
- 59 -
ومعناها معنى الجمع ،والدليل على ذلك قوله عز وجل:
فسواهن سبع سموات ...من اآلية نفسها .وأيد ذلك بعدد من الجمل الخبرية
التي خرجت عن مقتضى الظاهر ،وإ ن خالفه األخفش في بعض منها(.)6
الزمخشري في هذا االتجاه حين يتوقف عند قوله تعالى :إنما وليكم ويبدع َ
ِ
قلت :قد ُذكرت جماعة فهالّقيل:اهلل والرسول( المائدة ـ )55 /5فيقول( :فإن َ
فجعلت الوالية هلل على طريق ت :أصل الكالم :إنما وليكم اهلل؛ ُ
إنما أولياؤكم قْل ُ
األصالة؛ ثم نظم في سلك في إثباتها لرسول اهلل ( )والمؤمنين على سبيل التََّبع؛
ولو قيل :إنما أولياؤكم اهلل ورسوله والذين آمنوا ،لم يكن في الظالم أصل وتبع"(
.)7
ومن التعليقات البالغية الجميلة في مجال النظر والتطبيق ما جاء في حديثه
عن الصالة؛ مفردة ،والصلوات ،جمعاً في سورة المؤمنون :قد أفلح المؤمنون
الذين هم في صالتهم خاشعون( المؤمنون .)1 /23فالسياق اللفظي يقتضي أن
صفُوا بالخشوع لما "و ِ
يكون لفظ (الصالة) مجموعاً للحديث عن المؤمنين؛ ولكنهم َّ ُ
وحدت ُليفاد الخشوع في جنس الصالة؛ أي صالة كانت" وأ ُِريد بها في صالتهمِّ 0...
الجميع على المعنى المراد ذلك ...أما قوله تعالى :والذين هم على صلواتهم
يحافظون( المؤمنون )9 /23فقد جاء اللفظ موافقاً للجمع مع المؤمنين؛ ألنه أريد
المحافظة على الصلوات الخمس "وأال يسهوا عنها ،ويؤدوها في أوقاتها ويقيموا
أركانها ويوكلوا نفوسهم باالهتمام بها؛ وبما ينبغي أن تتم به أوصافهم"(.)8
وفي هذا المقام يمكن أن توضح االكتشافات العلمية التي جرت على اإلنسان
فيزيولوجياً حقيقة اإلعجاز اللغوي والبالغي للنسق القرآني وتفرده من بقية الكالم
المؤلف...
فقد جمع سبحانه وتعالى اللفظ المفرد والمجموع في قوله :وجعل لكم السمع
واألبصار واألفئدة لعلكم تشكرون( النحل .)78 /16
فالشكر في دوامه يقود إلى الوعي بالشيء وفهم حقيقته من قبل المخاطب؛
كما يوضحه الفعل المضارع (يشكرون) 0،ثم تأتي األداة (لعل) لتفيد الرجاء بدوام
ذلك ...أما إذا نظر البالغي إلى استخدام كلمة (السمع) وجد أنها مفردة ،على حين
جاءت كلمة (األَبصار واألفئدة) جمعاً 0...ويتساءل المرء :لم وقع ذلك؟ ويأتي
الجواب من التأمل العلمي في مراكز الحواس والقلب ...فمركز السمع واحد في
- 60 -
الدماغ دون غيره؛ ولهذا ورد اللفظ بصيغة اإلفراد؛ بينما مراكز األبصار واألفئدة
متعددة وغير محصورة في الدماغ ،فعلم الفيزياء يقول :تتعدد البقع الضوئية لتمثل
الصورة البصرية بوساطة العينين؛ 0...وهذا يؤدي بالنتيجة لتعدد مراكز الفؤاد
(القلب) المرتبط بالسمع والبصر معاً 0...فَضالً عن اضطرام األعصاب وتعددها
في القلب؛ علماً أن الفؤاد في اللغة من الفَأَد وهو توقد النار( .)9وال تضطرم
األفئدة إال بعد تأثر مركز السمع في الدماغ والمراكز البصرية المتعددة.
وقد يقول قائل :لماذا جاءت األلفاظ الثالثة السابقة مفردة كلها؛ كما هو عليه
لك به ِعْلم؛ َّ
إن السمع والبصر والفؤاد ُك ُّل أولئك قف ما ليس َ
قوله تعالى :وال تَ ُ
كان عنه مسؤوالً( اإلسراء )36 /17وكلها قد جاءت مرتبة على ترتيب واحد
كما هو في اآلية السابقة؟!.
إن المتأمل في السياق القرآني للنصين يلحظ بدقة الفوارق البالغية والمعنوية
بين كل منهما .فاآلية الثانية تتحدث عن (العلم) الذي يتم باإلدراك ،والعلم أو
اإلدراك في اللفظ مفرد وليس جمعاً 0...والعلم يقع باإلدراك بطريق حاسة السمع
ألنه مركز عواطف المرء وحاسة البصر؛ ثم يوكل إلى الفؤاد بما ينتج عنهما؛ ّ
اد أ ُِّم
وأفكاره فرحاً وترحاً ،رهباً وطمعاً ...و 0...ويؤكده قوله تعالى :وأصبح فُ َؤ ُ
نرد الفعل الغريزي للعلم بالشيء إلى موسى فارغاً( القصص .)10 /28ولهذا ُّ
اإلدراك ،وكالهما مفرد في اللفظ ،ولذلك ُجعل اإلفراد موجباً لهما في قوله تعالى:
َّم َع والبصر .فالنقلة السريعة في الجملة من لفظ مفرد إلى غيره إنما هي إن الس ْ
نقلة نفسية تكسر رتابة اإليقاع وجمود النسق اللغوي على شكل واحد.
ويعد استعمال فعل مكان فعل؛ أو فعل مكان اسم ،أو العكس أو استعمال اسم ُّ
مكان اسم بخالف مقتضى الظاهر من أعظم األمور البالغية في القرآن الكريم
ص ُّدون عن سبيل اهلل
وي ُ
وفي كالم العرب ...ففي قوله تعالى :إن الذين كفروا َ
(الحج )25 /22استعمل الفعل المضارع (يصدون) مع الماضي (كفروا)
ومقتضى الظاهر أن يكون (صدوا) ،وكذلك واقع القوم في حالتهم الراهنة؛ ولكن
(الص ُّد منهم كالدائم ،فكأنك قلت :إن الذين كفروا من شأنهم الص ُّ
َّد)( ّ الفراء يقول:
.)10
لهذا اختير الفعل المضارع إلفادة الدوام واالستمرار بالصد بخالف مقتضى
الظاهر.
وقد يقتضي الظاهر استعمال فعل أمر مكان مضارع لداللة مقتضى الظاهر
َوالد ُه َّن َح ْولين كاملين( البقرة /2 عليه كقوله تعالى :والوالدات ير ِ
ض ْعن أ َ ُْ
- 61 -
.)233ويفسر لنا الزجاج هذه القضية فيقول( :اللفظ لفظ الخبر ،والمعنى :األمر،
ِ
اكتف بدرهم؛ وكذلك معنى كما تقول :حسبك درهم؛ فلفظه لفظ الخبر ،ومعناه:
اآلية :لترضع الوالدات).
وهذا يعني خروج اللفظ بخالف مقتضى الظاهر.)11(...
وربما استعمل المضارع بمعنى اسم الفاعل على الحال كما في قوله تعالى:
إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي واإلشراق( ص )18 /38فيكون بخالف
الظاهر...
مسبحات 0على
يقول الزمخشري" :يسبحن بمعنى ّ
ومسبحات؛0
ّ يسبحن
الحال؛ فإن قلت :هل من فرق بين ّ
قلت 0:نعم ،وما اختير يسبحن على مسبحات إال لذلك؛
وهو الداللة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد
شيء ،وحاالً بعد حال؛ كأن السامع محاضر تلك الحال0
يسمعها تسبح" .ومثله قول األعشى8:
ق
اع تُ َحِّر ُ ض ْو ِء ٍ
نار في َيفَ ٍ إلى َ يون كثيرةٌ لع ْم ِري لقَ ْد َ
الح ْت ُع ٌ َ
"ولو قال :محرقة؛ لم تكن شيئاً"(.)12
وقد يقع اللفظ أياً كان بخالف مقتضى الظاهر وتبعاً لتصور المتكلم لحال
وجزاء كقوله تعالى:
ً المخاطب؛ فقد يكون خبراً والمعنى بخالفه كأن يكون شرطاً
ريح بإحسان( البقرة )2/229؛ أي َم ْن
ك بمعروف أو تَ ْس ٌ الطَّ ُ
الق َم َّرتان فإمسا ٌ
طلق امرأته مرتين فليمسكها بعد ذلك بمعروف أو عليه أن يفصم عرى الزوجية
بإحسان(.)13
هكذا تبينا أن خروج اللفظ عن مقتضى الظاهر َو ْفق تصور المتكلم لحال
المخاطب يعد أسلوباً رابعاً في خروج الخبر عن مقتضى الظاهر ...وهو أسلوب
بالغي جمالي ،ثم أسلوب نقدي يثير دالالت ال تنحصر وال ينقدح الفهم فيها إال
وب ْسطة في معرفة القواعد الثابتة
لذوي السالئق الذين أُوتوا َس َعة في العلم َ
وغيرها 0...ولعل هذا يبرز امتالك هؤالء للذوق المرهف الذي تحتاج إليه
األغراض المجازية للخبر ،وهي ال تتصل بمقتضى الظاهر أو بخالفه؛ كما يأتي.
- 62 -
ثالثاً ـ األغراضـ المجازية وأساليبها:
إن الرؤية الجمالية البالغية عند العرب ظلت مشدودة في تناسقها ووحدتها
ووظيفتها إلى الرؤية الجزئية المجسدة في صورة الجملة ،وفي أحسن الحاالت في
البيت وسياقه أو في عدد قليل من األبيات .ولعل جمالية التساوق البالغي
ألغراض الخبر المجازية ترتبط بالهدف الذي يرمي إليه المتكلم من وراء الجملة
الخبرية وإ خراجها بصورة فنية مغايرة تماماً لما عرفناه من قبل .فهو ال يخرجها
على مقتضى الظاهر كالفائدة والزم الفائدة ،وال يخرجها بخالف مقتضى
الظاهر ...وعلى المتلقي أن يستشف ذلك من السياق؛ ويلمحه في قرائن األحوال
بما يمتلكه من ذوق فني ورهافة حس .فالعالقة الفنية بين أسلوب الجملة الخبرية
وهدفها في األغراض المجازية تشهد بالديباجة الممتعة ،والرونق البهي في السبك
وصفاً وبرهاناً وإ يضاحاً موحياً ...وتدل على نمو العالقة الترابطية البنيوية بينها
وبين األشكال التعبيرية المتعددة التي تخدم سياق الهدف من األسلوب المجازي
الخبري ...وبهذا تؤسس لعالقة المتلقي بها في ضوء االرتباط النفسي والفكري
في وقت واحد...
ومن هنا تنبع الوظائف التي تقدمها الجملة الخبرية وتقدم جماليتها في ضوء
صلتها بالمخيلة الفنية للقائل وتمثل في الوقت نفسه روح العصر وثقافته 0...وكيف
انتهت إلى أيدي البالغيين فوضعوا لها المعايير البالغية 0...فأجادوا تارة كما نراه
عند عبد القاهر الجرجاني؛ وجمدوا قوالبها الفنية تارة أخرى حين أسسوا لها
معايير ضابطة كما هي عند السكاكي؛ علماً أن الفن ال يتقيد بمعايير محددة
وقوانين صارمة .وهذا عينه هو الذي توحيه األغراض المجازية؛ التي يظن في
بادئ األمر أنها شديدة الشبه بخروج الكالم على خالف مقتضى الظاهر الذي
رسمه البالغيون.
ونبدأ بهذه األغراض من آخر وجه في األغراض السابقة لنلمح فيها المغايرة
في الهدف والوسيلة.
1ـ األمر:
هو صيغة من صيغ اإلنشاء يطلب فيه المتكلم من المخاطب تنفيذ فعل ما
على صفة اإليجاب في الفعل والتزام المخاطب به ...وهو يفيد في اإلنشاء طلب
تنفيذ أمر بعد إلقائه؛ وكذلك هو في أسلوب الخبر؛ الذي ينزاح إلى فعل مضارع أو
غيره ...فإذا ُعدل إلى المضارع رمى منه المتكلم إلى إلغاء الحدود الزمانية؛ إذ
- 63 -
أصبح األمر المجازي في الجملة الخبرية تجربة إنسانية مستمرة ...وهذه هي
عما هو عليه كقوله تعالى: الجمالية المثيرة لـه في انزياح التركيب اللغوي ّ
والوالدات ي ِ
ضاعة( البقرة /2 الر َ
تم َّ
َن ُي َّ َوالد ُه َّن َح ْولين كاملين َ
لم ْن أَراد أ ْ رض ْع َن أ َ ُ ُ
.)233والمقصود (لترضع الوالدات أوالدهن حولين كاملين )...وهذا يدل على
والمطلقات
ُ أن الكالم لم يخرج بخالف مقتضى الظاهر ...وكذلك قوله تعالى :
بأنفسهن ثالثةَ قُروء( البقرة )228 /2؛ أي (فليتربَّصن) .قال َّ َّص َن
يترب ْ
الزمخشري" :وإ خراج األمر في صورة الخبر تأكيد لألمر وإ شعار بأنه مما يجب
أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ،فكأنهن امتثلن األمر بالتربص ،فهو ُيخبر عنه
موجوداً .ونحوه قولهم في الدعاء( :رحمك اهلل)؛ أخرج في صورة الخبر ثقة
ض ُلباالستجابة كأنما وجدت الرحمة عنها؛ وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فَ ْ
تأكيد؛ ولو قيل :ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة"( .)14فالسياق البالغي ٍ
نقل الفعل المضارع الذي يفيد الزمن الحضوري إلى الزمن المطلق لكل امرأة
أمر لها بما ينبغي أن تفعله في كل زمان ومكان 0...وهذه هي
ذات ولد ...إنه ٌ
الجمالية البديعة.
2ـ النهي:
طلب فيه الكف عن ٍ
أمر ما؛ وي ْ
هذا أيضاً أسلوب آخر من أساليب اإلنشاء؛ ُ
ولكنه إذا استعمل في الجملة الخبرية فإنه يحمل إثارة خاصة باالستعمال اللغوي
المغاير ...فالداللة تنبثق من زاوية الرؤية البعيدة المقترنة بالسياق ،وما تنتهي إليه
من وظائف وغايات.
طهَّ ُرون( الواقعة )79 /56؛ والصفة الم َ
وعليه قوله تعالى :ال َي َمسُّهُ إال ُ
راجعة إلى القرآن الكريم وإ لى من يمسك به ويتدبره؛ فالمعنى "ال ينبغي أن َي َمسَّه
إال ما هو على الطهارة من الناس؛ يعني مس المكتوب منه؛ ومن الناس من حمله
على القراءة أيضاً"(.)15
النهي في أسلوب الجملة الخبرية "ونحوهمن هنا ظهرت األهداف من وراء َّ
قول رسول اهلل :المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يسلمه؛ أي ال ينبغي لـه أن
يظلمه أو يسلمه"( ،)16ولو جاء على األصل لقال :ال تظلم أخاك المسلم وال تسلمه
إلى العدو.
فالجملة بما بنيت عليه من مسند ومسند إليه كانت مليئة بالرموز واإلشارات
لهذا اكتفت بالقليل من الروابط الموحية لسياق َّ
النهي ...وهو سياق لم يكتف بإنارة
العقل وتعليمه كيفية التعامل مع القرآن الكريم؛ أو كيفية تعامل الناس بعضهم مع
- 64 -
بعض؛ وإ نما أرسى في بنيته إثارة لالنفعال النفسي إذا لم يكن صاحبه كذلك.
فاالنحراف في األسلوب الخبري لم يكن تحوالً عارضاً أو معيارياً بل هو انزياح
بالغي تصويري لحاالت النفس التي تختزن عواطف شتى يستجيب لها المخاطب
بكل جوارحه.
3ـ التمني:
يتقدم األسلوب الخبري خطوة أخرى حين يخرج الكالم إلى أحد أساليب
اإلنشاء؛ فالتمني طلب أمر ما على جهة الرغبة في حصوله وإ ن كان وقوعه
ممتنعاً إما الستحالته ،وإ ما لبعد وقوعه ...وتفيد الجملة الخبرية بهذا المقام وكأن
(و َّد) وصيغه ،وهي مما التمني قريب من الحدوث .ولهذا ال ُي ْكتَفى باستعمال فعل َ
يكثر في هذا المجال ولكن تستعمل ألفاظ أخرى فيها داللة إمكان حدوث الفعل،
خلنا َربُّنا مع القوم
رب أن تغفر لي؛ وكقوله تعالى :ونطمع أن ُي ْد َ كقولنا :أطمع ِّ
الصالحين( المائدة .)84 /5
التمني،
إنهم يطمعون في إنعام اهلل عليهم بصحبة الصالحين 0...على وجه ّ
ولكنه لن يكون.
- 65 -
جمالياً مثيراً إذا استعمل في الجملة الخبرية ،وقد أبدع عبد القاهر الجرجاني في
الحديث عن ذلك حين تعرض لبعض اآليات القرآنية التي تفيد النفي الضمني
كقولـه تعالىَّ :إنما يتذكر أولو األلباب الرعد .)19 /13فهذا "التعريض إنما
تضمن الكالم معنى النفي من بعد اإلثبات،
ِّ وقع بأن كان من شأن (إنما) أن
والتصريح بامتناع التذكر ممن ال يعقل"( ،)18وعليه قولنا" :إنما أنت حالم"،
وعكسه قوله (ما المستشير بنادم) ،ومثله قوله تعالى :وما محمد إال رسول قد
خلت من قبله الرسل( آل عمران ،)144 /3فالغرض "من بعثة الرسل تبليغ
الرسالة وإ لزام الحجة ال وجوده بين أظهر قومه"( ،)19ولهذا جاء النفي ثم
ُن قض بالحصر فأفاد اإلثبات وتأكيد المعنى المجازي للجملة الخبرية ،وعليه قوله
وأن اهلل ليس بظالم للعبيد( آل عمران /3
تعالى :ذلك بما قدمت أيديكم َّ
)182فقد يقول قائلِ :ل َم عطف كالماً منفياً على كالم
مثبت؟! "قلت 0:معنى كونه غير ظالم للعبيد أنه عادل
عليهم"( ،)20فالمضمون والهدف من النفي إنما هو
لإلثبات 0،وشبيه به في األسلوب ما قاله املتنيب:
ٍ للجميل بفَ ٍ
ِ
وال ُك ُّل فَ َّعال لـه ُ
بمتَ ِّمم اعل وما ُك ُّل ٍ
هاو
أحب األمر الجميل يصنعه ،وال كل من يصنعهوالمعنى( :ليس كل َم ْن َّ
يتممه) 0...فالسياق في الجملة خبري؛ يوحي باإلثبات؛ بيد أن المراد منه هو النفي.
5ـ الدعاء:
هذا أسلوب آخر من أساليب اإلنشاء ـ والدعاء ـ كما
قلناـ :النداء؛ ولكنه يستعمل في صيغة الخبر ،وله أشكال
تضرع وابتهال و ...كقولنا :رحمك اهلل؛ عدة ،فهو مع اهلل ّ
وعفا اهلل عنك؛ وأرشدك اهلل؛ أي زادك ُر ْشداً ،وعليه قول
كعب بن زهير في مدح الرسول الكرمي:
ِ
القرآن فيها مواعيظٌ وتفصي ُل أعطاك نافل َة
َ اك الذي
َم ْهالً َه َد َ
َّاك َن ْستَعين( الفاتحة
ك َن ْعبد ،وإ ي َ
وعليه قوله تعالى في صفة المؤمنين :إيَّا َ
- 66 -
َعَّنا دائماً على عبادتك ،واستمرار العون في طاعتك 0)...وإ ذا توجه )5 /1أي (أ ِ
المتكلم بالدعاء إلى الممدوح فهو يرجو لـه البقاء أو دوام الصحة؛ وقد يدعو لـه بأال
ذم عليه كما في الدعاء
يأتيه شيء يسيئه 0...ويستحق ذلك فهو لم يفعل شيئاً ُي ّ
للن ْعمان بن المنذر:
(أبيت اللعن)؛ وعليه مدح النابغة ُ
َ المشهور
ب
صُتم منها وأَ ْن َ وتلك الَّتي أ ْ
َه ُّ َ أَتاني ـ أ ََب ْي َت اللَّ ْع َن ـ أ ََّن َك لُ ْمتني
فإذا كانت الجملة في رأي عدد من العلماء شرقاً وغرباً هي أصغر وحدة
مفيدة بنفسها للخطاب( )21فإن الجملة الدعائية التي وردت في ذلك كله مثل (أبيت
اللعن ،رحمك اهلل 0...أبقاك اهلل؛ حفظك اهلل )...ترتسم فيها مالمح الجمال المثير
بهذا التركيب الموجز ،فضالً عن سماتها البالغية الموحية والمعبرة عن وظيفة
نفسية وحاجة اجتماعية ...فهي تموج بشحنة عاطفية عالية تقوم على االبتهال
واالستعطاف ...فالممارسة االجتماعية والدينية صورة متضمنة في النسق
الدعائي .فأسلوب الدعاء في الجملة الخبرية يقدم وظائف متنوعة كتنوع أنماطه،
ولو ظهر أحادي النمط بصفته تركيباً موجزاً ...فالتفصيل والتوضيح الذي خرج
إليه كعب بن زهير في تفسير ماهية الدعاء أخرجه عن نمطية الجملة القصيرة
إنشاء أم خبراً ،وذلك ما نراه أيضاً
ً التي يؤثرها أسلوب الدعاء؛ أياً كانت طريقته
في أسلوب التعظيم والتنزيه ،والتعظيم جعل الشيء أو اإلنسان عظيماً ،والتنزيه
جعلهما نزيهاً؛ أي طاهراً ومبرأً من كل إثم أو عيب أو قبيح...
6ـ التعظيم والتنزيه:
ُّ
يعد المستوى اللغوي والتركيبي غنياً بمجاالت داللية مثيرة؛ ما جعل
البالغيين يتأملون أسلوب الخبر بصفته البالغية قبل أن يكون صورة لغوية أو
مستوى أول ،وهو ركيزتهم إلى مستوى أعلى
ً نحوية ،وبهذا كانوا يرون التركيب
يرتقي المتلقي بفهمه واستيعابه إلى إدراك جماليات كبرى .فالمجال البالغي أوسع
بكثير من المجال اللغوي والنحوي؛ ِل َما ينطوي عليه من معارف وإ شارات بعيدة
كالتعظيم والتنزيه في األسلوب الخبري.
- 67 -
ذليل)؛ ولكن هذا األسلوب غير بديع؛ وليس فيه قيمة
جمالية 0...ولهذا يخرج األسلوب الخبري في التعظيم إلى
صور جمالية عند المتكلم على نحو من األنحاء؛ كما نراه
عند الكثير من الشعراء المادحين قديماً وحديثاً؛ ليخلق في
النفس العديد من االنفعاالت؛ ويثير فيها التأمل؛ 0ولو بالغ
صاحبه فيه؛ كقول األعشى يفتخر بقومه(:)22
ِ
أحشاد ش ِّم األُنوف؛ َغ ِ
ران ٍ
ق ُ بة قَ ْيسي ٍ
َّة إِ ّني امر ٌؤ من عص ٍ
ُ ْ ُ
ني واأل َْب ِ
راد يمشون في َّ
الدفَ ِّ هم ِ ِ
صدور نعال ْ
الواطئين على ُ
وط ِ
راد تنازل ِ
ٍ للح ْمد يوم الوغى
َ يوم َ
والضامنين بقومهم َ
باإل ِ
قصاد ثَ ْق ِ
ف اليدين ُي ِه ُّل ِ ٍ
فارس يوم الوغى كم فيهم من
فقد وصفهم وصفاً رفيعاً يشي بمدى تمسكهم بطاعة اهلل والدفاع عن دينه ال
يرجون سبيالً غير ذلك...
هكذا رأينا أن التعظيم في الناس قد يدخله التكلف والتنزيه الزائف؛ ولكنه إذا
جاء في أسلوب خبري موجه إلى اهلل َّأدى معنى التنزيه والتطهر من أدران الدنيا
حقاً؛ وصار التوجه إلى تعظيم الخالق وإ جالله ِ
دافعاً شخصياً ذاتياً ال عالقة لـه
بالدافع االجتماعي ،أو النفعي الذي يحرك الناس كما مثَّلنا لـه سابقاً ،إنه يختلف عن
قولنا( :سبحان اهلل؛ الحمد هلل؛ الشكر هلل؛ ولك الحمد كما ينبغي لوجهك الكريم...
العتْبى حتى ترضى 0)...فهنا نجد أدعية ابتهالية قائمة على تعظيم اإلله؛
ك ُول َ
- 68 -
وعليه قوله تعالى :فسبحان اهلل رب العرش عما يصفون( األنبياء .)22 /21
فهذه الجملة تنزه اهلل سبحانه عن وصف المشركين له؛ حين جعلوا لـه شركاء من
واصطفاك على ِ
نساء العالمين( آل ِ طهَّ َر ِك ِ
اصطفاك و َ األصنام ،وكقوله :إن اهلل
عمران .)42 /3 :فاهلل سبحانه اختص مريم بالكرامة السنية ونزهها عن األفعال
القذرة التي كان اليهود يقترفونها ،وطهرها منها جميعاً.
وفي ضوء ما تقدم ندرك أن المستوى التركيبي اللغوي يختزن دالالت كثيرة؛
ومضمونها ،وإ نما فيما ترسيه في أنفسنا
ُ ولكن إثارته ال تكمن فقط في نظام كلماته؛
تصور
من مواقف إنسانية جوهرية ترتفع بالنفس عن الدنايا والشر ،وال سيما حين ّ
المثال اإلنساني النقي .وبهذا يصبح التشكيل البالغي الجمالي وسيلة إلى استخراج
الباطن من عملية التصوير؛ وهذا ما نراه فيما يأتي.
الو ْعد:
7ـ َ
الو ْعد بنظام حروفها ليست مجرد عالمة لغوية؛ وإ ّنما تمتلك طاقة كبيرة كلمة َ
فتحولت ـ غالباً ـ عن التهديد
ّ ر؛ ي
َْالخ في استخدمت ألنها والمعارف؛ المدركات من
والشر إلى الخير .فزيادة حرف الياء في كلمة (الوعد) ينقلها من مفهوم إلى
آخر ...ولهذا فالوعد تختلف داللة عن الوعيد.
- 69 -
فترضى( الضحى .)5 /93فكلمة (سوف) في سياقها أفادت الرجاء والوعد
المنتظر من اهلل لرسوله؛ وهو انتصار في الدنيا على الكافرين ،وفوز لـه
وللمؤمنين في اآلخرة بجنات النعيم 0...وعليه قوله تعالى :فسوف نؤتيه أجراً
عظيماً( النساء .)114 /4
َجراً عظيماً( النساء .)146 /4وكذلك وقولـه :وسوف ِ
يؤت اهلل المؤمنين أ ْ
استخدمت (السين) في قوله تعالى :سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أَنفسهم حتى
(ع َّز ِ ُّ َّن لهم َّأنه
الحق( فصلت .)53 /41 :قال الزمخشري" :يعني ما ُيس ّر اهلل َ يتبي َ
صار دينه في آفاق الدنيا وبالد المشرق َو َج َّل) لرسوله وللخلفاء من بعده ُ
ون ّ
والمغرب عموماً وفي باحة العرب خصوصاً من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها
ألحد من خلفاء األرض قبلهم"(.)23
8ـ الوعيد:
هذا غرض شديد االلتصاق بالسابق ولكنه يقوم على التَّضاد معه في الداللة
وفعله
تحول عنها إلي الوعيد؛ ْ على اشتقاقهما من مادة واحدة وهي الوعد؛ ولكنه ّ
أَو َعدُ ،ي ِ
وع ُد. ْ
وقد ترك علم اللغة القديم والحديث صوراً بديعة في
تعرف بناء الكلمات 0،وما تقوم عليه من معارف وتجارب
انتهت إلى نظام بالغي مثير .فالوجود اللغوي ليس مجرد
كالم طارئ وإ نما هو داللة في ذاته على تغير بنيته...
وهذا ما تفيده كلمة (الوعيد) .فزيادة حرف على كلمة
(الوعد) نقلها من الخير إلى الشر ،وصارت تستعمل
التوعد واإليعاد .وبهذا لم
ّ لإلنذار والتهديد بالشر؛ ومثلها
تكتف الكلمة بأن تكون مجرد عالمة لغوية كما يقول
أصحاب 0اللسانيات الحديثة ،ما يجعلها مادة لينة بيد
المفسرين ...وبمعنى آخر قد تغدو نظاماً مفتوحاً فوضوياً
بيد المتلقي يتصرف فيه كما يشاء 0...ما َي ْعني أن ُنلغي
- 70 -
منه صورة التجربة الذاتية واالجتماعية ،ومن ثم صورة
السياق التي تقوم عليه ،وهذا ما تحققه الجمل الخبرية
التي ساقها النابغة الذبياني حين حدثنا عن تجربته مع
النعمان بن المنذر ـ وهي تجربة حقيقية ـ ومما قاله فيها:
مكان ِّ
الش َغاف تبتغيه األصابعُ َ دون ذلك شاغ ٌل
وقَ ْد َحال َه ٌّم َ
ِ
فالضواجعُ
س َ أتاني ودوني راك ٌ وعيد أبي قابوس في غير ُك ْنهه
ُ
فالنابغة يصور الهَ َّم الذي داخله وشغله عن ذكر األحبة؛ وهو داء عضال أخذ
بشراسيف ضلوعه ،وجماع قلبه ...وهذا الهم ليس إال رمزاً لوعيد النعمان للنابغة
وتهديده بالويل والثبور.
َوعد ،ومصدرهومرة أخرى نقول :إن الوعيد استعمل في التهديد ،وفعله أ َ
ص َر به؛ فقد يستعمل في الخير ،مثلما يستعمل (وعد) اإليعاد؛ وال يعني هذا أنه ح ِ
ُ
في الشر؛ وإ ن كان ذلك قليالً في لغة العرب( ،)24ولم تقتصر الجملة على
استخدام ذلك المعنى فقط في هذا المجال فإن القرآن الكريم والشعر استعمال
(السين) و(سوف) وألفاظاً أخرى في معناه .ويدل عليه قوله تعالى:
صليه ناراً( النساء )30 /4فكل من ينحرف عن جادة الحق مصيره فسوف ُن ْ
إلى النار ...وحين استعملت كلمة (سوف) ظن اإلنسان الظالم أنه بمنجى من
العقاب؛ فإذا بالسياق يؤكد العقاب ونوعه 0...لهذا جاءت (سوف) متضمنة أفعال
الشر التي قام بها ويقوم ليكون مآله إلى النار ...فالتوعد والتهديد جاء في إطار
أنباء َما كانوا به َي ْستهزئون
التراخي في المهلة وكذلك قوله :فسوف يأتيهم ُ
(األنعام .)5 /6فالمكذبون بما أنزل اهلل وإ عراضهم عنه ليس بالشيء الهين؛
وكذلك استهزاؤهم به 0...لهذا ينذرهم بعقاب شديد يوم القيامة؛ فضالً عن إرسال
العذاب عليهم في الدنيا ...حين ينتصر اإلسالم0....
وهذا المعنى من التوعد والتهديد تفيده (السين) وهو أقرب في التحقق الزمني
أي ُم ْنقلب َينقلبون
ظلموا َّ
وسَي ْعلم الذين َ
مما عليه بناء (سوف) كقوله تعالىَ :
(الشعراء .)227 /26فالظلم هو الكفر بما أنزل اهلل ،ولذلك ختم به اهلل سبحانه
سورة الشعراء .وقال الزمخشري" :ختم السورة بآية ناطقة بما ال شيء أهيب منه
َهول ،وال أَنكى لقلوب المتأملين ،وال أَصدع ألكباد المتدبرين؛ وذلك قوله وأ ْ
- 71 -
ِ
(وسيعلم) وما فيه من الوعيد البليغ"( .)25ومن ذلك أيضاً قوله تعالىَ :سَنس ُمهُ
الخرطوم( القلم ...)16 /68فالكافر المعاند الذي تتلى عليه آيات اهلل ينعتها على ُ
بأنها أساطير األولين ،ويشمخ بأنفه وكأنه ال يأبه بالرسالة ،فهو يملك المال
والبنين ...لذلك جاء التوعد بالسين ألنه أَلصق بالكلمة ،والتصاق السين تركيباً بها
َد َّل على أثرها 0...في اإلذالل "فعبَّر بالوسم على الخرطوم عن غاية اإلذالل
ِّمة على الوجه َش ْي ٌن وأَذالَةٌ؛ فكيف بها على أكرم موضع منه"(
واإلهانة ألن الس َ
.)26
- 72 -
السياق بكلمة (أمين) لتدل على ذلك اإلنكار وإ ثبات صدقه فيما عهدوه عليه ...أما
بالسياق العام لآلية فهو في معرض تكذيب األمم لألنبياء وإ نكارهم أنهم رس ُل َر ّ
العرش العظيم ...لهذا أراد (هود) أن يدحض إنكارهم بهذه الجملة الخبرية التي
تثبت صدقه ...ثم ظهرت مرة أخرى في السورة نفسها (اآلية )144على لسان
صالح المرسل إلى ثمود ،كما ظهرت على لسان النبي (لوط) في (اآلية )162
وعلى لسان (شعيب) في (اآلية .)178
ومن قرأ اآلية التي جاءت في إحدى وصايا (لقمان) 0البنه أدرك أن اإلنكار لم
ضرب به المثل في النكارة وهو صوت يأت لصفة الصوت في الحيوان الذي ُ
ت الحمير(لقمان /31 لص ْو ُ ِ ض من صوتِ َ
ك؛ إن أنكر األصوات َ ض ْواغ ُ
الحمارْ :
.)19فجملة( :إن أنكر )...جملة خبرية ترمي إلى إنكار رفع الصوت في بعض
الحاالت غير المؤاتية نفسياً ومكانياً لرفع الصوت.
- 73 -
10ـ التبكيت:
الع ْذل؛ والتقريع والتوبيخ الالذع. هو التأنيب؛ والتثريب؛ وهو أعلى مقاماً من َ
إنه نمط من االستنكار الشديد إلى حد المبالغة في االستهجان وتقبيح فعل َم ْن يدل
العزيز الكريم،
ُ ت مضمون الجملة الخبرية؛ كما في قوله تعالىُ :ذ ْق؛ َّإن َ
ك أ َْن َ ُ عليه
به تَ ْمتَرون( الدخان 49 /44ـ .)50فأبو َج ْهل وأمثاله من إن هذا ما كنتم ِ َّ
َعزة بكفرهم ،وكانوا يتعالون بمنزلتهم على المشركين كانوا يرون أنفسهم أ َّ
قومهم 0...وينكرون الرسالة ويتهكمون بالرسول الكريم ...من هنا جاءت الجملة
وتبكت عملهم .وعليه قوله تعالى: الخبرية لتنكر عليهم ذلك؛ وتسخر منهم َّ
َزيدَ ،كالَّ إنه كان آلياتنا َعنيداً( المدثر 14 /74 ت لـه تَ ْمهيداً ،ثم يطمعُ أن أ َ
ومهَّ ْد ُ
ـ .)16في هذه الجمل الخبرية يتحدث اهلل سبحانه عن الوليد بن المغيرة وكان من
وجهاء قريش؛ فبسط اهلل لـه الجاه العريض والرياسة في قومه ،ويطمع بالمزيد...
قال الزمخشري" :ثم يطمع؛ استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه :يعني أنه ال مزيد
على ما أُوتي سعة وكثرة ...إنه كان ...تعليل للردع على وجه االستئناف" ثم
ص ُعوداً"؛ أي أنه سيكون من أهل النار؛ وتكون "سأُرهقُهُ َ
تأتي اآلية السابعة عشرة َ
كلمة َر ْد ٍع أخرى "رداً لزعمه أن الجنة لم تخلق إال له ،وإ خباراً بأنه من أشد أهل
النار عذاباً ،ويعلل ذلك بعناده"(.)28
فطبيعة العالم المرئي أشارت بوضوح إلى طبيعة العالم غير المرئي في إطار
بالغي مجازي مثير.
11ـ التوبيخ:
يوبخ ...فهو أعلى التوبيخ ذم اآلخر َّ
والنيل منه والتشنيع عليه؛ والفعل :وبَّخ ّ
درجة من التقريع والتعنيف؛ فهو إيجاع في العتاب واستقصاء فيه حتى يصل إلى
مرتبة التأنيب الالذع للمرء ومن ثم ازدراء فعله أو سلوكه القبيح ...ولكنه ال
يماثل اإلنكار وال التبكيت؛ وإ ن التقى معهما في بعض المعاني 0...والدليل على ما
نذهب إليه أننا نقول للمؤمن الغافل عن الصالة( :الصالة خير من العبث واللهو
والنوم )..فإننا نلومه على إهماله للصالة؛ وعدم مواظبته عليها؛ أما من تركها
نوبخهُ على
بشكل دائم؛ فإننا نقول له( :الصالة ركن من أركان الدين 0)...فنحن ّ
تهاونه في إقامة دعامة من دعائم الدين.
وإ ذا أردنا عدم مراعاة الحالة النفسية للمخاطب أو منزلته وكان من صفاته
الكذب فإننا نوبخه مصرحين بفعله فنقول( :الكذب إثم وزور وبهتان 0)..وإ ن لم
نقل له :أنت كذاب ...ومن هنا يظهر الفرق بين نمطي الجملة الخبرية؛ فالجملة
- 74 -
األولى( :الكذب إثم )...توحي بغرض مجازي هو التوبيخ؛ والجملة الثانية( :أنت
كذاب) تؤكد خبراً وتثبته على جهة الحقيقة.
ونستدل على صورة اإليحاء بالتوبيخ ما ورد في قوله تعالى في صفة
الكافرين :إنهم لن يضروا اهلل شيئاً( آل عمران .)176 /3فاآلية توبخهم على
فعلهم؛ فهم "ال يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ،وما وبال ذلك عائداً
على غيرهم"(.)29
12ـ التحذير:
التحذير هو التخويف والتهديد بالشر ،والفعلَ :ح َّذر ُي ِّ
حذر تحذيراً؛ وهو
يخالف أسلوب التحذير في اللغة ،الذي يعني التحذير من الوقوع في الشيء
بأسلوب محدد كقولنا :إياك من الغلط.
ومن هنا ندرك قيمة هذا األسلوب ،فهو من أطرف األغراض المجازية
للجملة الخبرية في انزياح األسلوب البالغي عن وجوهه اللغوية العديدة؛ كقوله
تعالى :الطالق مرتان؛ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان( البقرة
.)2/228فالتطليق حكم شرعي واحذر أن تطلق مرتين ألنه لن يكون لك بعدها
إال خيار واحد إما اإلمساك بحسن العشرة وإ ما التسريح الجميل؛ فال رجعة بعد
الثالثة ،ومن التحذير مع الترغيب قوله تعالىَّ :
إن الذين َيغضُّون أصواتهم عند
قلوبهم للتقوى( الحجرات .)3 /49فصفة رسول اهلل أولئك الذين امتحن اهلل َ
َخ ْفض الصوت في مجلس النبي؛ أو عند ندائه من وراء حجرات صفة األتقياء،
وهذا يعني أن اآلية ال تتوقف عند هذا اإلخبار وإ نما توحي بغرض آخر وهو
التحذير من رفع الصوت في مثل هذا الموقف والنهي عنه ،والترغيب في خفضه.
والع ْجز:
13ـ الضعف َ
العجز :نقيض
ض ُعف 0...ومثله َ ض ُعف َي ْ
َّعف نقيض القوة والقدرةَ ، الض ْ
صيَّره عاجزاً.
َ زه: ج
ََْع
أ و عليه... يقدر لم :ز ِ
ج ع
َْ ُي األمر عن زالح ْزم؛ َع َ َ
ج َ
ولعل كثيراً من صيغ األساليب المجازية مستمدة من اللغة ،وهي تفسر
القيمة الفنية التي تستجيب لنفس المتكلم باعتبار األسلوب فناً بالغياً جميالً؛ وقد
يكون تصويراً لغيره؛ وعلى ذلك قوله تعالى على لسان زكرياَ :ر ِّ
ب إني َو َه َن
واشتعل الرأس شيباً( مريم )4 /19ويقول الشاعر
َ العظم ِّ
مني
وقد أظهر عجزه وضعف جسمه ،ويدعو للمخاطب أال
- 75 -
يصاب بما أصيب به:
س ْمعي إلى تَْر ُج ِ
مان َح َو َج ْت َ
قَ ْد أ ْ وبلِّ ْغتَها ـ
الثمانين ـ ُ
َ إن
َّ
اهلل ِن ْ
ضوا وتذكرت طاع َة ِ
َّ ْ
ِ
بطاعة َن ْفسي ذهب ْت ِجدَّتي
َ
وكم من إنسان يستطلع ندامة أبي نواس على ما فََّرط في شبابه؛ ألنه لم
يعوض ما
وسيرته نحو شهواتها ...فكيف ّ يجعلها في طاعة اهلل ،وقد ركبته نفسه ّ
فاته؟!
- 76 -
والتوجع:
ُّ التحسر
ُّ 14ـ
يتحسر :يتلهف من الحزنّ التحسر :التلهف ،وتحسَّر
وغيره 0...والتوجع :التألم والشكوىَّ ...
توجع يتوجع له:
رثى لـه من مكروه نازل .فاالنزياح اللغوي عن التعبير
المباشر في الجملة الخبرية إلى أنساق جمالية مثيرة يبرز
التحول السياقي .وال يشك أحد منا في أن التوجع
ّ قيمة
للشباب جزء من رثاء النفس على نحو من األنحاء؛ وهو
دليل على ذلك؛ كما نراه في قول الشاعر:
َسود المشيب ب ُك ِّل ٍ
يوم أ ْ ُ وأتى الص َبا مض ِت الليالي ال ِب ْي ُ
ض في َز َم ِن ِّ َ
فالحزن أو األسى يتجلى في هذا َّ
النسق التعبيري
المثير لكنه يصبح أكثر شدة في حالة الفقد المركب حين
تعيره
يفقد المتكلم شبابه ومحبوبته ،أو حين تشرع المرأة ّ
وضعفه؛ كما نستشفه من قول ساعدة بن جؤية في بع ْجزه ََ
تتجمل بالصرب:
خطابه ألميمة؛ طالباً منها أن ّ
أميم ـ وقد خال عمري ـ قلي ُل عيش جمالَ ِك َّإنما ي ِ
جديك ٌ
َ ُ َ
- 77 -
فجمالية التعبير تنبع من الحاجة النفسية الشعورية
وهي تسوق األنساق الخبرية على التوالي بال تقديم وال
تأخير ...وتعبر عن تجربة فلسفية للشاعر في حياته ،في
إطار تصوير فني مثير ...فالشاعر يقدم لنا فكرة ما؛ لكنه
ال يقدمها كما يطرحها العلم ،وإ نما يعبر عنها بثوب
جمالي مثير للعاطفة البشرية ...وهنا نرى المتنبي يعبر
بصورة بديعة عن غدر الموت باألحياء 0،وال شيء أدل
على ذلك من اختطافه ألخت سيف الدولة وهي ال زالت
في ريعان الشباب ...فالموت مولع بقتل الناس جيالً بعد
جيل:
َصبت ،وكم أسكت من ِ
لج ِب!! بم ْن أ ْ موت!! كم أَفْنيت من ٍ
عدد َغ َد ْر َت يا ُ
َ
موح ،وإ نما استعظم كثرة
فالمتنبي لم يكتف بتقرير صورة غدر الموت بشكل ٍ
من يصيبهم ويسكت أنفاسهم ،فلجأ إلى استعمال (كم) الخبرية التي تفيد الكثرة،
وكررها تأكيداً منه لمعنى المبالغة في اإلكثار واالستعظام.
15ـ ال َف ْخر والتفاخر:
التمدح بالخصال واألمجاد واألحساب الفَ ْخر هو ّ
والمناقب 0،والفعل :فَ َخر يفَ َخر ،بينما التفاخر هو التعاظم
بذلك على اآلخر؛ والفعل تفاخر يتفاخر 0،وفاخره عارضه
بفخره .ويدل أسلوب الفخر والتفاخر على الهدف منه،
والوظيفة التي يرمي إليها المتكلم ،وقد يرمي التفاخر إلى
تبجحاً 0...فالمفتخر يتلذذ العظم والشرف ِ
والك ْبر ّ ادعاء ِ
بإرسال الكلمات ويفتح عينيه على كل ما فيه من معطيات
الزهو واالستعالء 0...وهذا األسلوب من أبرز ما عرفه
- 78 -
الشعر العربي ابتداء من الجاهلية حتى اليوم؛ سواء كان
ذلك فخراً ذاتياً ،أم جماعياً؛ كقول عمرو بن كلثوم يفتخر
بقومه:
حملونا
ونحم ُل عنهم ما َّ ندافعُ عنهم األعداء قدماً
ضرب بالسيوف إذا ُغ ِشينا
و َن ُ الناس َع َّنا
ُ راخى
طاعن ما تَ َ
ُن ُ
- 79 -
ويظل الحكم الجمالي شديد الصلة بالذوق ،والذوق ـ غالباً ـ من يحكم على
العناصر الفنية كما انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني 0...ألنه طريق الشعور باللذة
الفنية واللغوية؛ علماً أن أي أسلوب يظل ذا هدف محدد ويقدم وظيفة ما 0...وهو ما
نراه في األساليب كلها.
16ـ االستعطاف واالسترحام:
طفاً: طف ي ِ
عطف َع ْ االستعطاف مشتق من فعل ع َ َ
ورق له .وتعطَّف عليه :رحمه ،وتعاطف القوم: َّ رحمه
طفَه فتعطَّف :أمال قلبه
رحم بعضهم بعضاً ،وأعطفه وع ّ
إلى الرحمة ،ومثله استعطفه :طلب رحمته ،والمصدر:
االستعطاف .أما االسترحام فهو طلب الرحمة والمغفرة
معاً؛ والرحمة :هي الرقة والتعطُّف والمغفرة ،والفعل:
رحم َي ْر َحم .وحين يستخدمان في أسلوب الخبر فإن
جماليتهما تنبع من السياق ال من شروط خاصة تستبطن
يعبران عنها بأشكال متباينة التأثير
الحالة النفسية؛ ألنهما ّ
وتتغلغل فيها روح العصر وثقافته وطبيعته .ولعل من
الضعف البشري أجمل ما يقع في ذلك إبراز حاالت َّ
واالستكانة والتوسل في سؤال الرحمة من اهلل أو أصحاب0
الجاه؛ 0كما في قول أبي نواس:
ٍم تجاوزتُ ُه َّن ِل ْعباً ولَ ْهوا ف َن ْفسي على ٍ
ليال وأَيَّا له َ
ْ
وع ْفوا ص ْفحاً َّ
عنا و َغ ْفراً َ َـهم َ قد أسأْ َنا ُك َّل ِ
اإلساءة فاللـّ
وقال النابغة يعتذر إلى النعمان بن المنذر ويستعطف
قلبه:
ستَ ُّك منها المسامعُ
وتلك التي تَ ْ أبيت اللَّ ْع َن ـ أنك لمتني
أَتاني ـ َ
- 80 -
وذلك من تلقاء مثلك رائعُ سوف أَنالُه؛
َ أن قد ُق ْل َت:
مقال ُة ْ
17ـ المدح:
أسلوب يقوم على تعداد صفات الممدوح والثناء عليه
إنشاء وخبراً ،ففي
ً بما يستحقه ،وهو األصل .ويقع
األسلوب الخبري يقدم المتكلم عدداً من اإلشارات النفسية
والفكرية ،والجمالية حين يتجه إلى سرد صفات 0الممدوح
والثناء عليه كمدح النابغة الذبياين:
كوكب
ُ منه َّن
طلع ْت لم َي ْب ُد ُ
إذا َ كواكب
ٌ شمس والملو ُك
ٌ َّ
فإنك
فالعناصر األسلوبية تتعدد بتعدد الجمل الخبرية وترسم ألواناً مثيرة ،فضالً
النعمة التي تقررها للغساسنة؛ ألن الصورة الخارجية تُفضي بكل دقة إلى عن ّ
الواقع الثقافي والديني الذي كان عليه القوم آنذاك؛ وهو واقع يستدعي الثناء عليهم.
18ـ الحث على السعي والجد وعلى أي أمر محمود:
َح َسُنوا
هذا غرض آخر في الجملة الخبرية المجازية كقوله تعالى :للذين أ ْ
الح ْسَنى وزيادةٌ( يونس .)26 /10فالجمالية هنا ال تتوقف ُ
عند إبراز العناصر الجمالية للجملة الخبرية وإ نما تبرز
ازدياد القدرة النفسية والفكرية على توسيع آفاق التصور،
وعليه قول محمد بن بشير اخلارجي:
- 81 -
يقوى على ُخلُقي
وكان مالي ال َ همتي ِج َدتي
رت عن َّ
ص ْإني وإ ْن قَ ُ
الر ِن ِ
ق ش ِر ُعني في َ
الم ْن َهل َّ وي ْ
عاراً ُ لتار ٌك َّ
كل أ َْم ٍر كان ُي ْل ِزمني
- 82 -
القسم الثاني :أَضْ رب الخبر ومؤكداته
- 83 -
باعتبار المتكلم ،ولكنها تفترق في الهدف؛ وهي:
أوالً ـ الضَّ ْرب االبتدائي:
ويكون المخاطب في هذا الضرب خالي الذهن من الحكم الذي يلقيه إليه
آمنا
المتكلم ،وال علم لـه به ،وليس لـه موقف مسبق منه؛ كقوله تعالى :ويقولونّ :
ريق منهم من بعد ذلك( النور ...)47 /24 باهلل وبالرسول ،وأطعنا ،ثم يتولَّى فَ ٌ
فهذه اآلية خلت من أي توكيد؛ ومضت إلى القدر الذي احتاج إليه المخاطب
من الكالم؛ بينما نجد قوله تعالى :قال :بل فعله كبيرهم هذا( األنبياء )36 /21
مختصراً تبعاً للحاجة إليه في خطاب إبراهيم (عليه السالم) للقوم.
- 84 -
الصدر ،ومن صيغ أبنية الكلمات وتقارب حروف قسم منها.
ثانياً ـ الضَّ ْرب الطلبي:
هو كل كالم يتوجه فيه المتكلم إلى المخاطب ويتصور أنه ٌّ
شاك أو متردد بين
قبوله ورفضه ألنه ال يعرف مدى صحته؛ وهو الذي قال عنه السكاكي" :وإ ذا
متحير طرفاها عنده دون االستناد فهوألقاها [أي الجملة الخبرية] إلى طالب لها ّ
منه بين بين لينقذه عن ورطة الحيرة استحسن تقوية المنقذ بإدخال الالم في الجملة
إن"(.)31أو َّ
فالمتكلم هنا يحتاج إلى استعمال إحدى المؤكدات اللفظية التي سنأتي على
ف
ليوس ُ إنَّ ،
أن ،قد ،الم االبتداء ،القسم ...كقوله تعالى :إذ قالواُ : ذكرها ومنها َّ
َخ ْوهُ أ ُّ
َحب إلى أبينا منا( يوسف ،)8 /12فالم االبتداء أزالت التردد عند وأ ُ
المخاطب0...
- 85 -
الخبر وعليه قول تأبط شراً حين وجد القوم ينكرون قتله
للغُ ْول:
قين َب ْل َع َي ِ
ان ُخ ِّب ُر عن َي ٍ
أَ وجود ال ُغول ِّإني
َ فم ْن ينكر
َ
ص ِ
حان َّ ِ بس ْه ٍب لقيت ال ُغول تَ ْه ِوي
ص ْح َ
كالصحيفة َ َ بأَّني قد ُ
للي َد ْي ِن ولل ِج ِ
ران صريعاً َ
َ ربها بال َد َه ٍ
ش َف َخَّر ْت َض ُ
فأ ْ
- 86 -
مر بنا في أضرب الخبر وأساليبه المجازية تؤديتفضلها الجملة الخبرية كما َّ
وظيفة جمالية تعبيرية ووظيفة نفسية وفكرية في آن واحد؛ ألن فعلية التغيير
اللغوي في األسلوب البالغي عملية بناء في وجدان المتكلم ،ومن ثم في وجدان
المتلقي (المخاطب) .وهناك مسوغات وغايات تقتضي استعمال هذا الضَّرب من
الخبر أو ذاك ،أو هذا النمط من الكالم دون غيره.
وحين تصبح لغة المتكلم على هذه الجهة المشحونة بالعواطف ـ وقد اقتضت
زيادة عدد المؤكدات في الجملة الواحدة ـ فإنما تؤكد أن المتكلم لم تكن غايته أن
يتالعب باأللفاظ وهو يكرر العديد منها ،أو ينوع في أشكالها ،فاألسلوب الخبري
حرة مرتبطة بوظائف نفسية عالية ،وموضوعية وفنية. بأشكاله كلها ممارسة َّ
ولعل هذا كله ما نلقاه في الحديث عن أنواع مؤكدات الجملة الخبرية بما تقوم
به من عملية ربط لغوي وداللي في الوقت الذي ُّ
تعد مكثفة لتجربة المتكلم في كيفية
إلقاء خطابه إلى المخاطب؛ وتوظيف المؤكدات توظيفاً دقيقاً في المجاالت
المتعددة .فالمضمون األصيل لألداة لم يعد مجرد أداة ربط؛ بل تعدى هذه المهمة
إلى خدمة رؤية المتكلم وفق عمليتي الخلق والتذوق ،ومن أجل إحكام العالقة مع
المخاطب (المتلقي) والمجتمع.
- 87 -
فالتجربة البالغية تجربة لغوية جمالية ـ بهذا التصور ـ وهي تجسد طاقات
نفسية وفكرية واجتماعية 0...كثيرة ،وتبرز في الوقت نفسه قدرة المتكلم على
اإلقناع واإلبداع...
من هنا يصبح بحث (مؤكدات الخبر) بحثاً بالغياً جمالياً ،وإ ن أخضعه
اللغويون لقواعد تحدد طبيعة أنواع المؤكدات ...فمعرفة طبيعة المؤكدات ال يعني
أكثر من إدراك أساليب توكيد الجملة الخبرية في ضوء األحوال اللغوية 0...ولكن
الصورة الجمالية لهذه األساليب تكمن في الداللة التصويرية لما تتبناه هذه
األساليب ،واختالفها عن غيرها ...فاللغة الجمالية في مؤكدات الخبر تغدو
خصيصة ذاتية لها تتعلق بالهدف والمقام ...وتصبح اللفظة في حسن مالءمتها
ألخواتها وإ صابة المراد منها جميلة وإ ال ُع َّدت مستقبحة ،فهي أداة ربط وأداة
معنوية في وقت واحد.
هذا ما حاول عبد القاهر الجرجاني أن يثبته منذ القديم في كتابه (دالئل
اإلعجاز) وهذا ما تتبناه أحدث النظريات الجمالية 0...ولعل ما يلفت النظر في
مؤكدات الجملة الخبرية أن الداللة منفتحة على قصدية المتكلم ومراعاة المقام
والحال ...ولهذا نرى أن أي ضرب من ضروب أساليب التوكيد متم ّكن في الجملة
الخبرية يكشف عن جمالية خاصة ،وربما تنوعت فيه أشكال الجمال0...
وهنا نبرز من جديد ما نؤمن به من أن اللغة في الجملة الخبرية أو في الجملة
اإلنشائية ليست لغة محايدة ،وال منفتحة على عالم ال ٍ
متناه كما تذهب إليه نظرية
النص المفتوح التي نادى بها المفكر الفرنسي (روالن بارت)()32؛ في الوقت
الذي يمكن لها أن تحقق ذلك .فاأللفاظ في مؤكدات الجملة الخبرية تكتسب
جماليتها من تنوعها ثم كثرتها في أسلوب ما أوالً ثم فيما تحمله من وظائف ثانياً،
فأي متكلم محكوم بشروط ذاتية وموضوعية وفنية الستخدام هذا المؤكد أو ذاك،
مما يجعل اللغة في بنية كالمه غير إشارية وال اعتباطية( .)33ولعل دخول هذا
اللفظ أو ذاك في سياق بالغي ما يعبر عن مفهوم لغوي انزياحي ليحقق للمتكلم في
معرض االستبدال والتوزيع ما يصبو إليه.
فأساليب البالغة تصبح في مؤكدات الخبر لغة أخرى انحرفت عن المعيار
وضح هذا األمر
كما يقول (جان كوهن) في حديثه عن اللغة الشعرية( .)34وقد ّ
الذي نتجه إليه (ريفاتير) بتصوره لمفهوم االنزياح اللغوي الذي "يكون خرقاً
للقواعد حيناً ،ولجوءاً إلى ما ندر من الصيغ حيناً آخر .أما في حالته األولى فهو
من مشموالت علم البالغة ،وأما في صورته الثانية فالبحث فيه من مقتضيات
- 88 -
اللسانيات عامة واألسلوبية بوجه خاص"(.)35
ومن هنا نخرج إلى ذكر المؤكدات التي استعملت لتوكيد الخبر ،وأبرزها:
1ـ َّإن :هذا الحرف يعد رأس حروف النواسخ التي
تختص بالجملة االسمية فتنصب المبتدأ (المسند إليه)
وترفع الخبر (المسند) االسم ،أو يكون في محل رفع خبر
(الفعل) .أي إن أثره عظيم في البنية اللغوية فضالً عن
التوكيد ،ولهذا وقف عنده عبد القاهر الجرجاني وغيره
من الدارسين( .)36ومثاله قول البحرتي:
تفرعُ
الم ِّ َع ُّم النبي ِ
ص ُه ُوع ْي ُ ّ أباكم
إن ُ ش َرفاً َبني العبَّاس ََّ
إن الفضيل َة للَّذي استسقى ِ
ستَشفعُشفِّ َع إِ ْذ َغدا َي ْ
ُع َمٌر ،و ُ به َّ
واستعمل َّ
(إن) للتوكيد أبو نواس في قوله:
إن ِغنى َن ْف ِسك بالياْ ِ
س َّ اس من َّ
الن ِ عليك باليأ ِ
ْس َ َ
(إن) في بيت أبي نواس "وكيف قبول النفس لها، إنك ترى حسن موقع َّ
وليس ذلك إال ألن الغالب على الناس أنهم ال يحملون أنفسهم على اليأس ،وال
َي َد ُع ْو َن الرجاء والطمع ،وال يعترف كل أحد ،وال ُي َسلّم أن الغنى في اليأس .فلما
كان كذلك كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد .فلذلك كان من حسنها ما ترى"
(إن) أي حذفت نون منها في قوله تعالىِ :إ ْن ُكالًّ َّ
لما ( .)37وقد جاءت مخففة ْ
ُلي َوفَّيَّنهم ربُّك أَعمالَهم( هود )111 /11ومن الناس من أهمل
عملها كقول الشاعر:
ِ
المعادن()38 كرام آل ٍ َّيم من ِ ابن أ ِ
ُباة الض ِ
كانت َ
وإِ ْن مال ٌك ْ مالك أنا ُ
أن :لم يجعلها العديد من اللغويين القدماء من المؤكدات ألن ما بعدها 2ـ َّ
في حكم المفرد ،وإ نما المراد بالتوكيد تأكيد النسبة ال (المسند إليه أو المسند) َب ْي َد
َن ـ تكون حرف توكيد تنصب االسم وترفع الخبر، أن ابن هشام قال" :ـ أ َّ
(إن) المكسورة"( ،)39وعليه قوله تعالى :قل :إنما واألصح أنها فرع عن َّ
- 89 -
إلي أََّنما إلهكم إله واحد( األنبياء )108 /21وقوله تعالى :وقضينايوحى َّ
(أن) بحذف نونأن دابر هؤالء مقطوع( الحجر .)66 /15وقد تخفف َّ إليه َّ
َن سيكون منكم
َن) 0ويبقى لها العمل والتوكيد كقوله تعالىَ :علم أ ْ
منها فتصبح (أ ْ
(المزمل )20 /73وكقول جرير: َم ْرضى
ٍ ِ ِ َن سيقت ُل ِم ْربعاً
بطول سالمة يا م ْر َبعُ َبشر
أ ْ دق أ ْ
زعم الفََر ْز ُ
َ
ومن الشواهد الشعرية على َّ
(أن) المشددة للتوكيد قول
النابغة الذبياين:
الع ْق ِ
رب وفي ُن ِ ِ خبركم أ ََّنه
ب َ صحه َذ َن ُْ ناصح
ٌ ُ ُي
المؤكد سواء كانت بسيطة (الكاف) أم ِّ كأن :هذه األداة تشتمل على التشبيه 3ـ َّ
(أن)( )400كقوله (كأن) وتصبح متضمنة للحرف َّ وأن َّ مركبة من كاف التشبيه َّ
لم ْن
َن اهلل َي ْب ُسط الرزق َ َصبح الذين تَ َمَّنوا مكانه باألمس يقولونَ :و ْ
ي كأ َّ تعالى :وأ َ
ي َّ ِ ِ
لح
كأنه ال ُي ْف ُ ف بناَ ،و ْ َن َم َّن اهلل علينا َ
لخس َ وي ْقدر ،لوال أ ْ
يشاء من عباده؛ َ
ُ
الكافرون( القصص .)82 /28
- 90 -
واحد اليوم ِ
الدولة ف
س ْي َ تعجبا إِ َّن ُّ
ُ َ ولكن َ
َّ يوف كثيرةٌ
الس َ فال َ
(لكن َّ
أن) (لكن) بسيطة؛ فأصلها ْ ويرى البصريون أن َّ
(لكن) للساكنين؛ بيد أن
فطُرحت الهمزة للتخفيف ونون ْ
الكوفيين يرون َّأنها مركبة من (ال) َّ
و(إن) أما الكاف
فزائدة؛ وليست للتشبيه ،على حين ُحذفت الهمزة تخفيفاً (
.)41وقد تدخل ما الزائدة عليها فتكفها عن العمل؛ ومن
ثم تدخل على الجملة الفعلية ويبقى لها التوكيد كقول
امرئ القيس:
المجد المؤثَّ َل أَمثالي
َ وقَ ْد ُي ْدر ُك ولك ّنما أسعى ٍ
لمجد مؤثَّ ٍل ْ
5ـ الم االبتداء :الم االبتداء؛ سميت بهذا ألنها في األصل تدخل على
َحب ِإلى أَبِينا َّ
منا ف وأَخوه أ ُّ
ليوس ُ
المبتدأ وتفيد التوكيد( )42كقوله تعالىُ :
(يوسف )8 /12وكقول ميسون بنت حَبْدل:
إلي من قَص ٍر م ِن ْي ِ
ف ب ََّح ُّ
ْ ُ أَ واح فيه
ت تَ ْخفُق األ َْر ُ
َلب ْي ٌ
- 91 -
وقول أبي العالء:
تطع ُه األوائ ُل ٍ
س ْ لم تَ ْ
آلت بما ْ َخير زما ُن ُه
كنت األ َ
وإ ني وإ ن ُ
ولها مواضع ذكرها اللغويون كالمبتدأ أو الخبر المتقدم على المبتدأ وبعد (ِإ َّن)
المكسورة وفي المضارع والماضي.
6ـ قد :لها معان خمسة أبرزها توكيد الماضي( )44كقوله تعالى :قد أفلح
اب َم ْن
المؤمنون( المؤمنون )1 /23وقوله :قَ ْد أَفلح َم ْن َز ّكاها* وقد َخ َ
دسَّاها( الشمس 9 /91ـ )10وقول الفرزدق:
وضح ْت صفَ ِ
حات القَُّر ِح ال ِه ْيِم واستَ َ َ َ ف حتى قال :قد فَ َعلَ ْت
وقَ ْد تَ َحَّر َ
- 92 -
(والباء) عكس (الواو) يطرد ذكر فعل القسم معها ويندر حذفه ،كقوله
تعالى :وأقسموا باهلل َج ْه َد أَيمانهم( األنعام )109 /6وهناك آيات
أخرى؛ وكقول زهير في املدح:
وج ْر ُهِم رجا ٌل ب َن ْوهُ ،من قَُر ٍ
يش ُ طاف حولَ ُه
َقسمت بالبيت الذي َ
ُ أ
وم ْب َرِم ال من َ ِ ٍ
كل َح ٍ
على ِّ الس ِّي ِ ِ
سح ْيل ُ جدتُما
دان ُو ْ نع َم َّ
يميناً ،ل ْ
ويمكن حذف الفعل معه على ندرة كقولناِ :
باهلل ،قد نجح زيد .أما (التاء) فال
نامكم( األنبياء .)57 /21 ألكيد َّن أ ْ
َص َ َ يذكر فعل القسم معها ،كقوله تعالى :تا هلل
- 93 -
الشعرية قول الفرزدق:
لم ُي ْكتَِم
تشر إذا ْ
والسُّر ُم ْن ٌ
ِّ استود ْع ِتني
َ َكتمن ِ
لك الذي وأل َّ
9ـ السين وسوف :وهما مختصان بالفعل المضارع ،وتفيدان التوكيد في
استعمالها للوعد والوعيد؛ ويلغى معنى التسويف ...والفرق بين السين وسوف ،أن
سوف تنفرد بدخول الالم عليها نحو قوله تعالى :ولسوف يعطيك ربك فترضى
(الضحى )5 /93ومعنى (سوف) هنا للتوكيد ألنها في باب الوعد وكقولـه تعالى:
ولسوف يرضى( الليل .)21 /92واستعملت السين لتأكيد الوعد في قوله
تعالى :أولئك سيرحمهم اهلل( التوبة .)71 /9
وفي الوعيد نجد قوله تعالى :سيصلى ناراً ذات لَهَب( المسد .)3 /111
وكقولنا :سأنتقم منك ،وكذلك فيها رائحة الوعيد في
قول املتنيب:
خير َم ْن تَ ْمشي به َق َد ُم
بأنني ُ مجلسنا
ُ ض َّم
سيعلم الجمعُ ممن َ
ُ
فس ْوف َيعلمون( الصافات ومن الوعيد في (سوف) قوله تعالى :فكفروا به َ
)170 /37وقوله :فسوف يكون لزاماً( الفرقان .)77 /25
وللسين وسوف ٍ
معان أخرى ليست من التوكيد ،علماً أن السين عند بعض
اللغويين مقتطعة من (سوف)؛ وهي دعوى مردودة لدينا(.)50
10ـ حروف التنبيه:
أولها (أال) للتنبيه؛ وتفيد تحقيق ما بعدها ...كقوله تعالى :أَال إنهم ُه ُم
السُّفَهاء( البقرة )13 /2ودخلت فيه على االسمية كما تدخل على الجملة
الفعلية ...كقوله تعالى :أال يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم( هود .)8 /11
- 94 -
ميم ِ
وهي َر ُ
ظام َ وي ْحيي الع َ
ُ يرهُيعلم ال َغ ْي َب َغ ُ
َما والذي ال ُ
أَ
(أما) مثلما اختلف في تركيب بنية (أال) ،وقد تقع واختلف في ماهية تركيب َ
َن) على التأويل إذا وقعتا بعد (أَال) و(إن) أو تفتح (أ َّ
بمعنى (حقّاً) وتكسر همزة َّ
َما) )52( ،وفي كلتا الحالتين تفيدان التوكيد. ( أَ
11ـ الحروف الزائدة:
ظالَّم للعبيد( ق )29 /50 ومنها (الباء) ِ
و(م ْن) كقوله تعالى :وما أََنا ب َ
بقادر على أ َْن يحيي الموتى( القيامة )40 /75؛ أليس ذلك ٍوقولهَ :
وقال عمرو بن معد يكرب:
ِّيت ُب ْردا
فاعلم وإِ ْن ُرد َ ليس الجما ُل ِ
بم ْئ َز ٍر َ
وزيادة الباء تكون للتوكيد في ستة مواضع( )53وتزاد في جمل إنشائية،
وفي جمل خبرية متضمنة معنى األمر كفاعل كفى 0،نحو قوله تعالى :كفى باهلل
شهيداً بيني وبينكم( الرعد )43 /13وقال المتنبي ،وزاد الباء في فاعل (كفى)0
المتعدي لواحد:
َهل ِه أ ْ
َه ُل َمسيت من أ ِ
َ َن أ
ود ْهٌر أل ْ
َ منه ُم
بأنك ُ
كفى ثُ َعالً فَ ْخراً َ
وتتصل الباء الزائدة للتوكيد بالمفعول في الجملة الخبرية كقوله تعالى:
فطفق َم ْسحاً بالسُّوق( ص )33 /38أي يمسح مسحاً(.)54
(م ْن) 0،وتأتي زائدة لتوكيد العموم؛ كقولنا :ما جاءني من أحد، واألداة الثانية ِ
فهي التي تُسبق بنفي أو نهي أو استفهام( )55ولذا تكون للجمل اإلنشائية في مثل
هذه المواضع 0...وغيرها ...ولم ُيشترط أن تسبق بذلك عند بعض اللغويين
ودخلت في الجملة الخبرية للتوكيد؛ واستُدل بقول العرب "قد كان من مطر"،
وبقوله تعالى :ولقد جاءك من َنبأ المرسلين( األنعام )34 /6وخرجها الكسائي
الناس َعذاباً يوم القيامة "إن ِم ْن أ ّ
َشد َّ على الزيادة للتوكيد في الحديثَّ :
ِ
السماء وي ِّنز ُل ِم َن
المصورون" .وهي زائدة على قول الفارسي في قوله تعالىُ :
جبال فيها من َب َرٍد( النور .)56()43 /24 من ٍ
ويكون "دخولها في الكالم كخروجها .وتسمى الزائدة لتوكيد االستغراق"،
فضالً عن أنها قد تزاد "لتفيد التنصيص على العموم [وتسمى الزائدة الستغراق
الجنس]"(.)57
- 95 -
12ـ ضمائر الفصل:
ذهب عدد من اللغويين إلى أن الضمائر المنفصلة (أنا ،نحن ،هو ،هي0...
أنت 0)...وما يطّرد فيها قد تفيد الفَصل مع التوكيد في بعض الجملأنتِ ،
هنَ ...
أنت
إنك َ
الخبرية واإلنشائية()58؛ كأن نقول :زيد هو العالم؛ وكقوله تعالىَ :
ك هو األ َْبتَر( الكوثر /108 عالَّم الغيوب( المائدة )109 /5وقولهَّ :
إن شانئ َ
الرقيب عليهم( القصص .)58 /28 َ أنت
وكنت َ
...)3وقولهَ :
فالتوكيد بضمير الفصل يكون لضمير مستتر أو متصل أياً كان موقعه في
اإلعراب 0...كما في قوله تعالىْ :إن كنا نحن الغالبين( األعراف /7
)113واختلف في عودة ضمير الفَصل إلى فاعله المؤكد
لـه في قول جرير؛ أهو المتصل أم املسترت:
صابا يراني لو أ ِ اطح ِم ْن صدي ٍ ِ
الم َ
هو ُت َ
ُص ْب ُ َ ق وكائن باأل ََب ِ
فالضمير (هو) يؤكد الفاعل العائد إلى الصديق ،أو إلى المصاب؛ ويكون
التقدير اآلتي( :لو يرى صديقي المصاب هو المصاب) .وذهب أكثر البصريين
إلى أن ضمائر الفصل اسم مؤكد وال محل لـه من اإلعراب ،بينما رآها الكوفيون
حروفاً جاءت لمعنى ما.)59(...
أما:
13ـ َّ
هي حرف شرط وتفصيل وتوكيد؛ وأكثر ما يلتفت إليها اللغويون في الحديث
عن الشرط (من اإلنشاء غير الطلبي) وأما ما يتعلق بالجمل الخبرية فقد كشف
عنه الزمخشري .يقول ابن هشام" :وأما التوكيد َّ
فقل من ذكره ولم أ ََر َم ْن أحكم
(أما) في الكالم أن تعطيه فضل توكيد شرحه غير الزمخشري فإنه قال :فائدة َّ
تقول :زيد ذاهب ،فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه ال محالة ذاهب ،وأنه بصدد الذهاب
زيد فذاهب؛ ولذلك قال سيبويه في تفسيره :مهما يكن أما ٌوأنه منه عزيمة قلتّ :
من شيء فزيد ذاهب ،وهذا التفسير مدل بفائدتين :بيان كونه توكيداً ،وأنه في
معنى الشرط"(.)60
ُّ
الحق من َربِّهم فأما الذين آمنوا فيعلمون َّأنهُ
وعليه قوله تعالىّ :
(البقرة )26 /2وقول الفرزدق في مدح الوليد بن عبد
الملك يوم بنى المسجد األموي:
- 96 -
ِّعِم ِبعلمه فيه ُم ْلكاً َ
ثابت الد َ فإن اهللَ أَورثَ ُه
الوليد َّ
ُ أما
َّ
َما) شروط ذكرها النحاة ليس هنا مجال ذكرها(.)61
والستعمال (أ َّ
تلك هي أبرز مؤكدات الجملة الخبرية التي تتطلع إلى حال المخاطب في
درجات إنكاره؛ ما يجعلها ذات جمالية نفسية خاصة في طرائق استعمالها ،وإ ن
وجدت أدوات أخرى للتوكيد(.)62
إن الجملة الخبرية بما انتهينا إليه في دراستنا لها تقدم لمتلقيها البالغي
والجمالي رؤية جمالية فريدة ،تقوم على عناصر ذات دوائر متعددة ومتسعة...
أساسها اللغة وجناحها الخيال الموحي ،والتصور النفسي واالجتماعي والفكري
الرفيع ...وال يختلف في هذا الوصف أي نمط من أنماطها سواء على سبيل
اإلخبار الحقيقي المرتبط بهدف محدد ،أم على سبيل اإلخبار المجازي الذي يجعل
هدفه كامناً في جملته0...
أضرب الخبر أن تقدم شيئاً جديداً ،لم نعثر عليه في كثير من
وقد استطاعت ُ
األغراض الحقيقية أو المجازية عند عدد غير قليل من الدارسين للجملة الخبرية.
وبذلك كله استطاعت الجملة الخبرية أن تحمل طاقات خالقة في الداللة
والتأثير ولم تكن مجرد أنساق لغوية مباشرة وجافة ...ولم تقف العالقة بين
عناصرها الفنية عند سطح األشياء؛ وإ نما كانت تتضافر فيما بينها لتخلق الجمال
الشفاف للجوهر وللشكل في وقت واحد...
وقد حرصنا على الوفاء بما قدمه البالغيون في رؤيتهم لها ولكننا آثرنا أن
نصوغها صياغة جمالية مستندة إلى معارفهم وأذواقهم ،ولم تقطع عالقتها بما ُ
انتهت إليه الدراسات الجمالية واألسلوبية في عالم اليوم 0...وانتهينا إلى أن الجملة
فعاالً مع كثير من مقاالت البالغيين اليوم سواء في الخبرية الجمالية أثبتت التقاء ّ
الشكل أم في الوظيفة والهدف...
فالجملة الخبرية بهذا التصور لم تكن مجرد إشارة لغوية عابرة ،وليست
وفعال مع الذات والحياة0...
مجرد حامل ومحمول؛ وإ نما دلت على تناغم أصيل ّ
نص
النصية؛ ولكنها في النهاية ٌّ
ّ والوجود؛ وإ ن قامت على أساس من الجزئيات
متكامل ما دام أنه يفيد معنى بذاته ،ويقدم رؤية فنية وفكرية ومستقلة.
أخيراً يمكننا القول :إن الجملة الخبرية فيما بنيت عليه من أشكال جمالية؛
يمكن أن تكون حاجة جمالية لإلنسان؛ وكذلك هي الجملة اإلنشائية؛ ثم قل البالغة
كلها.
- 97 -
فاإلنسان يحتاج إلى الجمال؛ ويتشبع به لتسمو روحه؛ وهو قادر على
الوصول إلى ذلك في أساليب الصور الشعرية والفنية المكتنزة ألشكال إبداعية
كثيرة ،منها أساليب البالغة بما فيها من خبر وإ نشاء ...وكل أسلوب فيها يشكل
تجربة متفردة تقرأ الواقع النفسي والفكري واالجتماعي ...وبكالم آخر إنه إبداع
جمالي يخلق الواقع النفسي واالجتماعي 0...و 0...بأساليب جديدة مثيرة ومدهشة
لكنها ال تهدم الماضي بل تبني عليه؛ ألن اللغة جزء جوهري أصيل لكل من
الحاضر والماضي والمستقبل ...وعلى مستويات عدة .وهي مستويات تتضمن
في بنيتها روح الداللة الفكرية والرؤية النقدية التي يبني عليها المتلقي اتجاهاته
الفنية والنقدية والفكرية ...فالمؤلف حاضر في نصه شاء المتلقي أم أبى؛ ولم يمت
أبداً كما ذهب إليه (روالن بارت) في نظرية (موت المؤلف)( .)63وبذلك فإن
أدوات التشكيل البالغي أدوات نقدية ثرية في فهم النص األدبي ...وهذا ما يتمثل
أيضاً في أسلوب اإلنشاء وأغراضه الحقيقية والمجازية كما سيأتي.
***
- 98 -
( )14الكشاف .365 /1
( )15الكشاف .59 /3
( )16الكشاف .59 /3
( )17الكشاف .144 /2
( )18دالئل اإلعجاز 356وانظر فيه 353ـ .355
( )19الكشاف 468 /1وانظر في ظالل القرآن .1/485
( )20الكشاف 484 /1ـ 485وانظر في ظالل القرآن 537 /1ـ .538
( )21انظر في ذلك ما ورد في بالغة الكلمة والجملة .101
( )22شم األنوف :كناية عن المجد والعزة .غرانق :جمع غرنوق؛ وأراد الشاب األبيض
ض ْرب من الثياب المخططة ،األَبراد :األثواب الطويلة .ثَِقف :حاذق. الجميلَّ .
الدفَنيَ :
ُي ِه ّل :يصيح .اإل ْقصادِ :إصابة السهم للهدف.
( )23الكشاف 458 /3وانظر فيه .264 /4
( )24لسان العرب ـ مادة (وعد).
( )25الكشاف .3/134
( )26الكشاف .143 /4
( )27الكشاف .234 /3
( )28الكشاف 182 /4ـ .183
( )29الكشاف .482 /1
( )30دالئل اإلعجاز 315ـ 316وراجع حاشية ( )7من القسم األول ،وانظر الحديث عن
َضرب الخبر في مفتاح العلوم 258ـ .264
أ ْ
(أض ُرب الخبر).
( )31مفتاح العلوم 258وانظر اإليضاح 24وما بعدها ْ
( )32انظر هسهسة اللغة 85ـ 96وانظر الخطيئة والتكفير 90و ( .123والكتابة في
درجة الصفر – 16روالن بارت ( R.barthes, S/Z Editions Du Seuil/
)Points, 1976,P.16
( )33انظر الخطيئة والتكفير 29وما بعدها و 44ـ 48و 127ونظرية البنائية في النقد
األدبي 39و 108وما بعدها و 137ـ 138و 140وما بعدها وانظر فيه ما يتعلق
باألنظمة اللغوية.
( )34انظر بنية اللغة الشعرية .6
( )35األسلوبية والنقد األدبي .39
( )36انظر مغني اللبيب 37و 55والجنى الداني 393وجامع الدروس العربية 317 /2
وما بعدها وانظر دالئل اإلعجاز .322
- 99 -
( )37دالئل اإلعجاز 325وانظر حديثه عن (إن) فيه 322فهو حديث بديع.
( )38انظر جامع الدروس العربية .325 /2
( )39مغني اللبيب 59وانظر فيه 46وجامع الدروس العربية 327 /2والجنى الداني 402
والبرهان في علوم القرآن 255 /4وما بعدها.
( )40انظر مغني اللبيب 253ـ 254ودالئل اإلعجاز 258والجنى الداني 568والبرهان
في علوم القرآن .337 /4
( )41انظر مغني اللبيب 383ـ 384والبرهان في علوم القرآن 422 /2والجنى الداني
615وما بعدها.
( )42انظر الخصائص 314 /1والجنى الداني 95وما بعدها.
( )43الجامع الصغير ـ رقم الحديث ( .)2457
( )44انظر مغني اللبيب 231وجامع الدروس العربية 310 /2ـ 311والجنى الداني 255
والبرهان في علوم القرآن 431 /2و .331 /4
( )45مغني اللبيب 230ـ .231
( )46انظر الجنى الداني 57و 153والكشاف 4/107ـ .108
( )47انظر البرهان في علوم القرآن 45 /3ـ 51وانظر فيه 2/389والجنى الداني 141
وما بعدها.
( )48انظر مغني اللبيب .443
( )49انظر الجنى الداني 142ـ .143
( )50انظر الجنى الداني 59ـ 60والبرهان في علوم القرآن 307 /4ـ .309
( )51انظر الجنى الداني 381وما بعدها ومغني اللبيب 96والبرهان في علوم القرآن /2
.430
( )52انظر الجنى الداني 390ـ .393
( )53انظر الجنى الداني 48ـ .55
( )54انظر مغني اللبيب 144ـ .150
( )55انظر الجنى الداني 316ـ .317
( )56انظر مغني اللبيب 427ـ .428
( )57الجنى الداني .316
( )58انظر البرهان في علوم القرآن 423 /2ـ 427والكتاب لسيبويه 395 /1ومغني
اللبيب 463و 641ـ 646والجنى الداني 350ـ 351و .507
( )59انظر الجنى الداني 350ـ .351
القسم األول:
أساليب األمر الحقيقي (األسلوب المباشر) :لم تختلف الدراسات البالغية كلها
في هذا النوع وفي صيغه؛ فهو طلب الفعل على جهة االستعالء من األعلى إلى
األدنى على جهة الحقيقة واإللزام بفعله 0....وينطبق عليه تعريف صاحب
(الطراز) الذي أشرنا إليه سابقاً .ولألمر صيغ أربع تولد نشاطات عاطفية
التموج وهي:
وحاالت فكرية ثابتة ليست كثيرة ّ
1ـ صيغة األمر المعروفة:
الكتاب بقوة( مريم )19/12وقوله:
َ وعليه قوله تعالى :يا يحيى ُخ ِذ
أم ْر قومك يأخذوا بأحسنها( األعراف )7/145وكقوله: فخذها بقوة و ُ
وأقيموا الصالة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين( البقرة )2/43وقوله :يا
مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين( آل عمران )3/43؛ فكل ما وضع
المضمون بعد
ُ وجوب تنفيذ
ُ تحته خط أمر .وهناك بالغيون ذهبوا إلى أن صورة األمر الحقيقي تحمل
الطلب بشكل مطلق( .)4ولكن هذا الرأي غير دقيق؛ فاألمر قد يكون حقيقيًا وال يمكن تنفيذه؛ ألمر ما،
وهو ما يجعله قريباً من األمر المجازي كما في خطاب عامل المدينة مروان بن الحكم للفرزدق:
الم ْق ِ
دس| ِ واعم ْد َّ ود ِع المدينة ،إِ َّنها َم ْرهوب ٌة
لمك َة أ َْو َلب ْيت َ َ َ
لم ِ
س المتَ ِّ
نكراء مث ُل صحيفة ُ
ُ ألق الصحيفة يا فرزدق؛ إنها
1ـ الدعاء:ـ
سماه ابن وفعله دعا يدعو ...وقد ّ الدعاء :اسم ومصدر ومثله (الدعوى) ْ
صفة فارس (المسألة) ويتجه اآلمر( )8بكالمه إلى من هو أعلى منه على ِ
والض عف واالبتهال والرجاء واالستكانة واالستعطاف ،أو االنتقام .فمن َّ التضرع
ّ
علي( النملت َّ َنعم
َ ْ أ التي متك عِ
ن ر ك
ُ َشأ َنأ أوزعني ِّ
ب ر تعالى: قوله التضرع
َ ْ ْ َ
عذاب النار
َ نا ِ
ق و ة
ً حسن اآلخرة وفي سنة ح
َ الدنيا في آتنا )27/19وقوله :ربَّنا
(البقرة .)2/201ووقع فيه معنى االستكانة والضعف كما وقع الدعاء باالنتقام
كما ّبينه الزمخشري ( )9في قوله تعالى :ربنا اطمس على قلوبهم ،واشدد على
2ـ االلتماس:
االلتماس مصدر؛ وفعله (التمس) ،وهو شبيه بالدعاء والرجاء من جهة الفعل والحدوث؛ لكن
خصوه عادةً بأسلوب األمر بين المتساوين في المنزلة والقدر على سبيل االحترام البالغيين قد ّ
والتلطف ،كقولنا للذين يماثلوننا( :هاتوا الكتاب) ...ويمثله امرؤ القيس في خطاب االثنين ،سواء كان
المخاطب (المثنى) ـ هنا ـ موجوداً أم متخيّالً:
الب ِ
نود وخ ْفق ُ
ط ْعن القَنا َ
بي َن َ
ْ كريم
وأنت ُش عزيزاً أو ُم ْت َ ِع ْ
ومنه قوله تعالى :وأ ِ
َس ّروا قولكم أو اجهروا به( الملك )67/13وقال الرصايف:
ِ
باإلحسان منك تَ َمُّردا زاد
وإ ْن َ َح ِس ْن إلى َم ْن قد أَساء ُّ
تكرماً وأ ْ
مساو في المعنى لألول ـ وهو قريب والتسوية هنا في المعنى ،فالشطر الثاني ٍ
من التخيير ،ولكنه ال يماثله في طرفي المعادلة.
7ـ التخيير:
(تخير) ويقال لـه (التمييز) وال تشترط المساواة بين األمرين المطلوبين ال
التخيير مصدر وفعله ّ
في المعنى وال في اللفظ والتركيب 0.وفيه يطلب إلى المخاطب أن يختار بين أمرين على جهة المعنى
الحقيقي أو المجازي ،كقولنا( :تزوج هنداً أو أختها) وقال البحرتي:
ِ
المطالب كفاني َنداكم عن جميع فليج ْد
وم ْن شاء ُ
فليبخلَ ،
ْ فم ْن شاء
َ
وقد يتساوى األمران وال بد من أن يختار المخاطب بينهما 0كقول بشار:
مقارف َذ ْن ٍب مرةً وم ِ
جان ُب ْه ُ ش واحداً أو ِ
ص ْل أَخا َك َّ
فإنه فَ ِع ْ
ُ
ونلمس في هذا األسلوب واألسلوب السابق جمالية الوظيفة النفسية
واالجتماعية في احترام إرادة المخاطب وعقله؛ فهو حر في تنفيذ األمر.
10ـ التعجب:
َّب ،ويكون الستعظام ٍ
أمر ما ظهر المزية. التعجب مصدر ،وفعله تعج َ
وهذا النمط يظهر من السياق بصيغ األمر المعروفة كقوله تعالى :انظر كيف
ص ِدفُون( األنعام ..)6/46ويستعمل بصيغ التعجب ف اآليات ثم ُه ْم َي ْ
ص ِّر ُ
ُن َ
المخصصة بفعل األمر وإ ن كانت داللته للمضي ،ويعرب إعراب الفعل
ع بهم( مريم )19/38وقول كعب: ِ
الماضي ،كقوله تعالى :أَسم ْ
صح َم ْقبو ُل ان ُّ
الن َ ولو َّ
موعودها َ
َ َح ِس ْن بها ُخلَّ ًة لو َّأنها َ
صدقَ ْت أْ
فالتعجُّب يقع في نفس المتكلم من صفة ما في المخاطب ،فيلجأ إلى أسلوب
األمر للداللة على استعظامه لتلك الصفة ،لذا تتحقق فيه جمالية اإلثارة للوصول
إلى اللذة الفكرية والنفسية.
ض ُر بطن ٍ
واد دونه ُم َ لن تقطعوا َ غماً في جزيرتكم
موتوا من الغيظ ّ
فاألسلوب البالغي (هنا) ليس مجرد انزياح تركيبي وداللي؛ وإ نما هو ـ أيضاً
المشُورة:
18ـ َ
وهذا نوع آخر من البالغة الطريفة ألسلوب األمر الذي يجعل فيه المتكلم
مخاطبه مشاركاً لـه في الرأي ،ويطلب إليه النصح أو المشورة ...وال يلزمه
ص ِه
فشاور لبيباً؛ وال تَع ِ
ْ ِْ عليك التَوى
َ ناب أ َْم ٍر
وإ ْن ُ
19ـ التكوين واإليجاد:
نوع من الطلب على غير جهة اإللزام يصور فيه المتكلم كيفية التكوين أو
إيجاد الشيء أو حدوثه .وأطلق عليه الزمخشري تصوير كيفية وقوع الحدث
( .)12ولعل ما أثبتناه أكثر تعميماً وإ ثارة في صيغة األمر ...كقوله تعالى:
فإنما يقول لهُ :ك ْن فيكون( البقرة )2/117ونحو هذه اآلية في
وإ ذا قضى أ َْمراً ّ
(آل عمران 3/47ومريم 19/35وغافر )40/68وقوله :إنما أ َْم ُرهُ إذا أراد
شيئاً أن يقول له :كن فيكون( يس .)36/82
فالتكوين في أسلوب األمر (هنا) يغاير ما ذهب إليه ابن فارس في التبكيت أو
التوبيخ الذي سبقت الكلمة فيه .فجمالية األسلوب وداللته تعتمد على الطريقة أو
اآللية في إحداث الشيء وتجسيده بصورة الفتة للنظر .فالصورة الجمالية المميزة
السامع في تكوين جديد للخلق والصنع ال يعرفه في واقعه
َ لهذا األسلوب تدخل
المحسوس .وحين يتوقف علم الجمال في بعض اتجاهاته عند الصورة؛ فإن هذا
األسلوب يعبر بكل دقة عن الصورة الجوهرية المنتظمة لعملية التكوين الواعية،
والمنطلقة من قدرة المتكلم على إبراز ذلك.
20ـ اإلباحة:
َحللته لك ،وأباح
الشيء :أ ْ
َ ك
اإلباحة مصدر فعله (أباح) .ونقول :أََب ْحتُ َ
الشيء :أطلقه.
والمباح خالف المحظور؛ إذ ُيتْرك لإلنسان أن يفعل ما يشاء .وهو أسلوب
بالغي يدخل في األمر؛ ويشبه ـ نوعاً ما ـ التفويض والتسليم؛ ولكنه يتجه اتجاهاً
وجهَ األمر يكاد يطمس فيه ...وهذا ما يثيرنابالغياً أكثر حرية وتنوعاً ...بل إن ْ
األبيض من
ُ الخيطُ
َّن لكم َ
واشربوا حتى يتبي َ
ُ فنياً في جماليته ،كقوله تعالى :كلُوا
الخيط األسود من الفَجر( البقرة .)2/187فإذا كان اكتشاف الجمال يتركز في
اإلدراك السابق على التجربة ،فإن هذا النص يقع في صميمه .فاهلل سبحانه أمر
لدينا ،وال َم ْقِل َّي ٌة إِ ْن تَ َقلَّ ِت َح ِسني ال َملُ ْوم ٌة أِ
َسيئي بنا أَو أ ْ
مقلية .ووجه حسنه إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت أي :ال أنت ملومة وال ّ
لفظ األمر حتى كأنه مطلوب ،أي :مهما اخترت في حقي من اإلساءة واإلحسان
راض بن غاية الرضا فعامليني بهما ،وانظري هل تتفاوت حالي معك في ٍ فأنا
الحالين"( .)13فالندب أسلوب في األمر ال يستند إلى مبدأ االحتمال ولكن إلى
اإلباحة.
ومثله اإلذْن :أ َِذن لـه في الشيء ِإذناً :أباحه لـه ليفعله بحريته الكاملة .فلو قلنا
للطارق( :ادخل) فقد أبحنا لـه الحرية في الدخول ...ولو وافقنا الطالب على عمل
ما وقلنا له( :افعل ذلك) ...ألذنا لـه أن يعمل ما يشاء تاركين لـه الحرية المدركة
لفعل الشيء.
وإ ذا حمل أسلوب اإلباحة شيئاً من التعظيم للمخاطب أطلق عليه (اإلكرام)؛
ف؛ كأن نبيح للقوم الدخول في حكم ُي ْج َزون به ُح ْسناً ،كقوله
شر َ
وفعله أكرم :أي َّ
تعالى :ادخلوها بسالم آمنين( الحجر .)15/46
وكأن اإلكرام قرين (االمتنان) وهو يدخل في اإلباحة (أيضاً) وال ينفصل
طيباً( المائدة )5/88وقوله:
عنه ،كقوله تعالى :وكلوا مما َر َزقكم اهللُ حالالً ّ
الموت( المنافقون .)63/10
ُ أح َدكم
قبل أَن يأتي َوأَنفقوا مما رزقناكم من ِ
فجمالية هذا األسلوب تظهر في ثراء الداللة وتنوعها على الرغم من وجود
الشكل المتماثل في الصياغة .وقد الحظنا أن أسلوب اإلباحة أصل ٍ
معان عدة في
أسلوب األمر المجازي ومن ثم تجتمع فيه عدة وظائف وأهداف .وأول هدف
يظهر لدينا أنه يحمل صورة التشريع للقوم كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
َحٍد منهم َ
مات أبداً ص ِّل على أ َومن ذلك خطابه تعالى للرسول الكريم :وال تُ َ
وال تَقُ ْم على قَْبره( التوبة .)9/84فاهلل-سبحانه -ينهى رسوله الكريم عن أن
يصلي على الكافرين والمنافقين ...بينما يبين كيفية هيئة الصالة بشكل محدد في
وابتغ ْبي َن ذلك سبيالً( اإلسراء
ِ خافت بها
بصالتك وال تُ ْ
َ قوله تعالى :وال تجهَ ْر
1ـ الدعاء:ـ
وهو الرغبة إلى اهلل والتوسل إليه ،اسم ومصدر؛ ومثله (الدعوى) وفعله
دعا ـ يدعو؛ كما يقع بألفاظ دالة عليه .ويكون من األدنى إلى األعلى على سبيل
االستعطاف والرجاء والتوسل والتضرع ...كقوله تعالى :ربنا ال تؤاخذنا إن
بالرفَ ِد
األعداء ِّ
ُ وإ ْن تأثَّفَ َك لـه
اء ُ ِ
بر ْك ٍن ال كفَ َ
ِ
ال تَقذفَ ّني ُ
وقال كعب بن زهير يمدح رسول اهلل؛ ويعتذر إليه:
2ـ االلتماس:
اسم ومصدر ،وفعله التمس يلتمس :طلب ـ يطلب ،ويكون في النهي
المجازي بأسلوب يدل عليه السياق .وهو يقع بين النظراء في المنزلة أو القرابة
تتوان عن المجيء) وكقوله تعالى َ أو بين األصدقاء وأمثالهم كقولنا لصديق( :ال
على لسان هارون يخاطب أخاه موسى :يا ْاب َن أ َُّم ،ال تأخ ْذ بِِل ْحَيتي وال برأسي
(طه )20/94وقول املتنيب:
وال تخشيا ُخ ْلفاً لما أنا قائ ُل تريا َو ْدقي فهاتا المخاي ُل ِ
قفَا َ
وقال املعري:
ير ُم ْغتَ ِ
فر عني يوم ٍ
السَّر ِّ
ب َغ ُ
ذلك َذ ْن ٌ
فإن َ
َّ نائبة َ ال تَ ْطويا ِّ
وقال ِد ْعبل:
ط ْرفي في َدمي اشتركا
َق ْلبي و َ المتي أَحداً
ال تأخذا بظُ َ
3ـ التمني:
ويكون لما ال يحصل ،ويتوجه فيه أيضاً لما ال َي ْعِقل ،كقولنا( :ال تدوري أيتها األرض) و(ال
تغيبي 0أيتها الكواكب )..وكقول اخلنساء:
ص ْب ُحِ ،ق ْ
ف ال تَ ْطلع يا ُ وم ُز ْل
يا لي ُل طُ ْل ،يا َن ُ
وقال أبو نواس في مدح األمني:
والر ْك ِن ِس ّي ِ
ان راح ِت ِه ُّ
تقبي ُل َ ناق ال تسأمي أو تبلغي ملكاً
يا ُ
فاألسلوب البالغي ـ هنا ـ ال يقتصر على المثير اإلنساني أو المثير التاريخي
واالجتماعي وإ نما يندمج في المثير الطبيعي في إطار الذات الفردية ِل َما تتلقفه
الحواس من الوسط الطبيعي الذي أضاف إليه الخيال روح المغامرة العقلية ،فجمع
بين المتعة والفائدة؛ وهو سمة الفن الجميل.
ق ُخلَّ ُ
ب َكثر إِ ْي َم ِ
اض البوار ِ فأ ُ ش ٍة
س ٍن بشا َ وال تغتَ ِر ْر منهم ُ
بح ْ
وقال المتنبي في سيف الدولة:
الناس ما أَنا قائ ُل عطي َّن َعط الناس ما أَ ْن َت ِ
أَخا الجود أ ِ
َ وال تُ َ مال ٌك َ
وقال املعري:
الحِل ُ
ف المأثم َ
َ
فيدك إالَّ
فما ُي َ ق وال َك ِذ ٍب
صد ٍ ال تَ ِ
حلفَ َّن على ْ
فاألسلوب البالغي ـ هنا ،وفيما يأتي ـ ال يعتمد على مبدأ اإلقصاء والتعالي
وإ ّنما يهدف إلى وظيفة جمالية أخالقية ترتقي في مكوناتها الفنية واالتصالية...
فالجمال ال ينحصر في الشكل الخارجي للصورة البالغية ،بل يغوص في
مضمونها ،وهو ما نراه فيما يأتي أيضاً0...
5ـ التأديب:
هذا َّ
الضرب شبيه بالسابق لكن الغاية منه إرساء ُخلُق كريم أو النهي عن سلوك سيئ ...فغايته
السفَهاء تُ ْع ِدي
خالئق ُّ
َ فإن
َّ َهل َّ
الد َنايا تجلس إلى أ ْ
ْ وال
وقال اآلخر يستنهض همة قومه وإ رادتهم بعد هزيمتهم في إحدى املعارك:
فلرب م ْغ ٍ
لوب َهوى ثم ارتقى مجدكم ال تيأسوا أن ِ
تستردُّوا َ
َّ َ
فالبعد البالغي في وظائفه االجتماعية والنفسية ينبثق من السياق الداللي غير
المعزول عن الفضاء والزمن ...فعالقة األسلوب باآلخر عالقة الفرد بالجماعة في
سياق يرنو إلى المثل األرحب اجتماعياً وأخالقياً ،وال يحكم بالمناسبة العابرة.
ولعل األساليب الثالثة السابقة وبعض األساليب القادمة حتى األسلوب العاشر
توحي بأنها تلبية لحاجات نفسية وروحية واجتماعية ،قبل أن تؤكد اإلحساس باللذة
الجمالية.
باب ِ ْ ِ ِ ِ
له َّن ُ
ليس ُ
من ال ُخ َيالء َ ات
امي ٌ
تذهب بح ْلم َك ط َ وال
الب ْي َع قَ ْد َز ِر َما
إن َال تَ ْح ِط َم َّن ِك َّ ت لها وهي تسعى تَ ْح َت لَب َِّتها
ق ْل ُ
قوله( :ال تحطمنك 0)...أراد َن ْهي تلك المرأة أن تعدو إلى جانب ناقته لتبيعه
األَدم؛ إنه ينهاها عما تفعله وإ ال حطمتها ناقته والسيما أن البيع قد انتهى وانقطع.
ومن يتأمل هذا المعنى يلحظ مستوى قيمة الوعي المصحوب بعملية التقويم
الفكري ،وهو منبع الجمال ومصدره فيه.
عظيم
ُ عليك إذا فَع ْل َت
َ عار
ٌ وتأتي مثلَه ال تَ ْن َه عن ُخلُ ٍ
ق
َ
ويوبخ المتنبي ذلك الذليل الذي ظهر على غير حقيقته فيقول:
روق َدفيناً َجودةُ الكفَ ِن
وهل َي ُ ض ْيماً حس ُن ِبَّز ِ
ته عجب َّن م ِ
ِ
ُ ْ ال ُي َ َ
فجمالية النص ال تكمن في ماهية التجربة ،فقط ،بل في كونها غدت مادة للتعميم في صورة
الذليل .وقد يصل التقريع والتبكيت بأحد الشعراء إلى أن يقول للمخاطب؛ في صورة التعميم أيضاً:
ش مستريحاً ناعم ِ
البال صعب ِ
وع ْ ٌ المجد سلَّ ُم ُه
َ المجد إن
َ ال تطلب
فالجمال مرتبط بالحس والتقدير اللذين يمتاز بهما المخاطب ،كما يدل عليه
أسلوب النهي...
َ
13ـ التعجب:
قال الزماني" :المطلوب في التعجب اإلبهام ،ألن من شأن الناس أن يتعجبوا
مما ال يعرف سببه ،فكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن"(.)24
ولهذا يكشف أسلوب النهي التعجبي عن ٍ
معان دقيقة تتضمنها صيغته الوحيدة ،ما يدل على ثراء
في الداللة؛ لكثرة ما توحيه منها ...فالنهي في قول دعبل الخزاعي يراد منه التعجب؛ في الوقت الذي
يبرز خصوصية التجربة الجمالية في نظرة الناس إلى الشيب:
برأس ِه فبكى
ض ِح َك المشيب ِ
ُ َ س ْلم من ٍ
رجل ال تَ ْعجبي يا َ َ
ولعل ما تقدم في هذا األسلوب وما يأتي من التعجب في األساليب المجازية
األخرى يبرز َخصائص البالغة العربية باعتبارها وثيقة لغوية فنية شديدة
االتصال بالحياة والنفس.
المتضرِم
ِّ ِ
العارض صلِّ َينا في
تَ َ واذكر ْن
َ س َي ْن فينا َنصيبك
ال تَ ْن َ
فالنابغة ما زال على عهده بما جرى بينه ويبن المخاطب ،لذلك يريد أن يثبته مذ ّكراً إياه بذلك...
تعود ذوق العالقم ،وال يزال صابراً لم يجزع من فراق األحبة على مرارته وشدته أما المتنبي فقد ّ
ـ توطئة
يعد أسلوب االستفهام أحد أساليب اإلنشاء الطلبي في الجملة العربية سواء
ّ
كان لهدف محدد ومباشر أم كان لتصور إيحائي جمالي غير مباشر عند المتكلم.
فاالستفهام قد ال يبحث فيه المتكلم عن إجابة محددة؛ وإ نما يهدف إلى تصور ما
يتحدث عنه فيخرجه عن حقيقته إلى مقاصد شتى؛ ويكون بوساطة أدوات سميت
بأدوات االستفهام ،تستعمل في أقسامه.
وال مراء في أن أسلوب االستفهام أسلوب لغوي ـ قبل كل شيء ـ وأساسه
طلب الفهم؛ والفَ ْهم صورة ذهنية تتعلق بشخص ما أو شيء ما ،أو بنسبة أو بحكم
من األحكام على جهة اليقين أو الظن .وله قسمان :حقيقي ومجازي؛ وكالهما لقي
عناية البالغيين العرب قديماً وحديثاً( )32وتعرضوا ألغراضهما وإ ن لم تجتمع
متكاملة كما هي لدينا.
الموفور؟!
ُ الم َبَّرأ
أأنت ُ
َ المعي ُر بالدهر
ِّ الشامت
ُ أيها
والتصديق :هو طلب السؤال عن شيء حدث وقوعه أم ال؛ وتكون اإلجابة
عليه بكلمة (نعم) لإلثبات ،و(ال) للنفي؛ كقولنا( :أنجح زيد؟) وقوله تعالى:
ت هذا بآلهتنا يا إبراهيم( األنبياء .)21/62فالتصديق إدراك نسبة َنت فَ َعْل َ
أَأ َ
ردد بين إثبات الشيء ونفيه .ولهذا يطلب تحديد اإلجابةالفعل بدقة ،ألن المتكلم ُمتَ ّ
وتعيينها ،ومن ثم يمتنع ِذ ْكر المعادل بـ(أم)؛ فإذا استعملت الهمزة للتصديق؛ وجاء
معها (أم) فهي أم المنقطعة وتكون بمعنى (بل) وكذا استعملت مع (هل).
فالمتصلة ال يستغني ما قبلها عما يليها؛ عكس المنقطعة ،فإذا قلنا :أنجح زيد أم
عمر؟ فالسؤال عن عمرو ،ألننا ٍ
ألمر ما كالنسيان وقع لفظ (زيد) على لساننا وهو
غير مقصود 0...وهذا يعني أن (أَم) بمعنى (بل).
والتصور :هو إدراك المفرد؛ واالستفسار عن كيفية حدوث فعل ما؛ ويتلو
همزة التصور المسؤول عنه؛ وتقترن بـ (أم) المعادلة ـ غالباً وتسمى هنا
(المتصلة).
وتكون اإلجابة على ذلك بتحديد الفعل ،ومن قام به على وجه الدقة ،على اعتبار أن المتكلم
ب ـ هل:
وهو حرف وضع لطلب التصديق اإليجابي دون التصور ،ودون التصديق السلبي ،كما تختص
باالستقبال غالباً ،وإ ْن دخلت على الماضي كما في قول زهري:
زير تَ َمَّرغ في َد ِ
مان؟! ِ
كخ ْن ٍ لئيم
يشتمني ٌ ُ على ما قام
ويجوز إثباتها في االستفهام التعجبي على َم ْن ذهب لهذا المعنى في قوله
فبأي
ت لهم( آل عمران )3/159فهي بمعنىّ : رحمة من اهلل ِل ْن َ
ٍ تعالى :فبما
رحمة ...أما من جعل (ما) في هذه اآلية زائدة فقد خرج من الموضوع كله ،فهي ٍ
زائدة للتوكيد(.)37
وإ ذا ُر ِّكَب ْ
ت (ما) مع (ذا) ال تحذف ألفها ،وتكون أداة متكاملة ،كلها اسم جنس بمعنى 0شيء ،كقول
المثقب العبدي:
ش ِب؟!
وع ْن َن َ
ض َالمدافعُ عن ِع ْر ٍ
َمن ُ عرض ْت؟
َ َم ِن المداوي إذا ما ِعلَّ ٌة
(م ْن) 0و(ذا) لتصبح كلمة واحدة ،ألن كالً منهما مبهم ،كقولنا: ويجوز تركيب َ
وأخ ْرت؟) 0.واختلف اللغويون في شأن ذلك؛ فمنهم من قدمت َّ (منذا قابلت؟) (منذا َّ
رأى زيادتها؛ ومنهم َم ْن رأى أنها موصولة( )39محتجين بقوله تعالىَ :م ْن ذا
الذي ُي ْق ِر ُ
ض اهللَ قَ ْرضاً َح َسناً( البقرة .)2/245
3ـ كم :يأتي هذا االسم باالستفهام وغيره؛ وهو اسم لعدد مبهم الجنس
والمقدار ،وهو عند ابن هشام ليس مركباً خالفاً لما ذهب إليه بعض اللغويين
والفراء ،وال خالف في اسمية االستفهامية .و(كم) اسم استفهام مفتقر كالكسائي ّ
إلى تمييز منصوب ،ويتصدر جملته؛ كقوله تعالى :كم لبثتم؟ قالوا :يوماً أو
بعض يوم( الكهف )18/19وكقولنا( :كم كتاباً قرأت؟) .ويجوز أن تجر (كم) َ
اشتريت الكتاب؟)
َ ٍ ِ ٍ
بحرف جر ،وحينئذ يجر التمييز معها ،كقولنا( :ب َك ْم د ْرهم
ويجوز حذف التمييز (كم مالُك؟!).
حل فيه الشيء كقوله تعالى: 4ـ أ َْي َن :ظرف يستفهم به عن المكان الذي َّ
يقول اإلنسان يومئذ :أين المفَ ّر؟( القيامة )75/10وكقولنا 0:أين سافرت؟ وكقول المرقش
َ
األكرب:
1ـ التقرير:
التقرير هو اإلثبات مع الوضوح؛ وكذلك هو اإلثبات مع التسليم ...وهو ال
يحتاج إلى جواب في االستفهام المجازي؛ ألنه يقرر فكرة من األفكار؛ يحمل
المخاطب على اإلقرار بها؛ وبمعنى آخر السؤال نفسه جواب ثابت .ويستعمل
في هذا األسلوب الفعل المنفي المسبوق ـ غالباً ـ بهمزة االستفهام؛ وإ ن جاز
استعمال األدوات األخرى ـ كقوله تعالى :أَلَ ْم يجدك يتيماً فأوى( الضحى
)93/6والمعنى (وجدك) وقوله :أَلَ ْم َي ْج َعل َك ْي َدهم في تضليل( الفيل )105/3
أي (جعل كيدهم 0)...وقوله :ألم نشرح لك صدرك( االنشراح )93/1وقال البحرتي:
للح ْم ِد ِ
جاب؟ إذا ما لم ي ُك ْن َ هم جوداً وأَزكا
َع َّم ْ
َلس َت أ َ
أ ْ
فالهمزة إذا دخلت على نفي؛ فإنه ال يراد معنى النفي بل يراد تقرير ما بعده.
وهذا يختلف كثيراً عن األسلوب اآلتي في اإلخبار والتحقيق )45(،كما أنه يختلف
كثيراً عن االستفهام الحقيقي الذي يحتاج إلى جواب.
ميم؟
وهي َر ُ
يض َالعظام ال ِب َ
َ ويحيي
ُ غيرهُ
الغيب ُ
َ يعلم
َما والذي ال ُ
أَ
ومثله قول صخر اهلذيل:
َمات وأَحيا والذي أ َْم ُرهُ األ َْم ُر؟
أ َ َض َح َك والذي
َما والذي أَبكى وأ ْ
أَ
فالمعنى الذي يرمي إليه المتكلم في االستعمال المجازي ألسلوب االستفهام
يتجه إلى معنى المعنى وفق ما يتطلبه السياق ،ال وفق ما تبنى عليه الكلمات في
التركيب النحوي ،وبذلك يتركز مفهوم الجميل0...
3ـ التسوية:
اختص أسلوب التسوية باستعمال (الهمزة) مع (أم) المعادلة؛ ألن الهمزة
تستعمل للتسوية في الداللة بين ما قبل (أم) وما بعدها ،والجملة بعد الهمزة
يصح حلول المصدر محلها 0...وتوهم غير باحث أنها تستعمل فقط مع (سواء)
َن َذ ْرتَهم أم لم تُنذرهم ال ُيؤمنون( البقرة .)2/6
كما في قوله تعالى :سواء عليهم أَأ ْ
ودليل رأينا أنها تستعمل مع (ما أدري) ونحوه ،قول الفرزدق:
س َبا؟
تناولت أ َْم َك ْ
ُ أَكان تُراثاً ما العلَى
إدراكي ُ بع َد
ت أُبالي ْ
ولس ُ
ْ
َ
ومع (ليت شعري ،وليت علمي) ونحوهما( ،)48على اعتبار أن الصياغة تتصل بصور من
والحض:
ّ ض
الع ْر ُ
4ـ َ
هذان أسلوبان متماثالن؛ وإ ن زاد أحدهما على اآلخر في المعنى؛
ض :طلبه بقوة مرة بعد مرة؛ ويستعمل فيهما ض :طلب الشيء بِلينَ ،
والح ُّ فالع ْر ُ
َ
الهمزة مع (ال) فتصبحان (أَالَ) وهما كاالسم الواحد؛ والطلب ال يراد منه
(بنعم) أو (ال) وتختص بالفعل ،ومن العرض قوله تعالى :أال تحبون اإلجابة َ
أن يغفر اهلل لكم( النور )24/22؛ أما قول الشاعر عمرو بن قَعَّاس المرادي فعلى تقدير فعل
حمذوف:
صلَ ٍة تُ ُ
بيت؟ َي ُد ُّل على ُم َح ِّ أَال َرجالً جزاهُ اهللُ َخيراً
أي "أَالَ تُُرونني رجالً هذه صفته ،فحذف الفعل مدلوالً عليه بالمعنى" ،وقيل
قول آخر(.)49
َيمانهم( التوبة .)9/13
ومن الحض قوله تعالى :أَال تقاتلون قوماً َن َكثُوا أ َ
القوم َن ِ
ائت ِ أ فهو يحثهم على القتال؛ أي (قاتلوهم)؛ وكذلك قوله تعالى:
َ
قوم فرعون؛ أَالَ يتقون( الشعراء 26/10ـ )11؛ أي (ائتهم وأمرهم الظالمين* َ
بالتقوى).
إن فنيات التعبير وأشكاله الجمالية ماثلة في جوهر استعمال اللفظ وفق نظام
مثير ودقيق ومتناسب النسق مع السياق دون أن يتخلى عن بنيته ،ولو تعدد،
كاتحاد همزة االستفهام بـ (ال)(.)50
7ـ التشويق:
التشويق من جنس َّ
الش ْوق؛ وهو حمل النفس على النزاع إلى الشيء؛
وتهييجها إليه .ولهذا قد يأتي االستفهام لجذب النفوس وشدها إلى أمر حدث من
8ـ األمر:
إيحاء جمالياً ،ألن
ً يخرج االستفهام إلى أسلوب مجازي يسمى األمر؛ فيزيده
المقصود ليس االستفهام الحقيقي كما في قوله تعالى :فهل أنتم منتهون( المائدة
)5/91أي (انتهوا) ،وقوله :فهل أنتم مسلمون( هود )11/14أي (أسلموا)0...
وهذا نحو قوله تعالى في آل عمران ( :)3/20أَأَسلمتم؟ أي (أَسلموا)؛ 0وكقوله
تعالى :وما لكم ال تقاتلون في سبيل اهلل( النساء )4/75أي (قاتلوا في سبيل اهلل)
( .)54فالعبرة من هذا االستخدام إنما هو في التركيب الذي يجسد أمراً غير
حاصل وقت الطلب بأسلوب االستفهام .ولهذا يصبح التركيب كالكلمة الواحدة؛ ما
يكسبه جماالً فريداً؛ وبالغة موحية.
9ـ النفي:
كثر خروج االستفهام إلى النفي في كالم العرب وأشعارها ،وفي القرآن0...
ولعل هذا األسلوب يثير المتلقي على جمالية من نوع بالغي جديد وبديع كقوله
تعالىَ :م ْن يغفر الذنوب إال اهلل( آل عمران )3/135أي (ال يغفرها إال
اهلل) 0...وكقوله :من ذا الَّذي َي ْشفعُ عنده ِإال بإذنه( البقرة )2/255أي (ال
10ـ التمني:
هذا أسلوب آخر في أساليب االستفهام كثر في كالم العرب وفي القرآن
عاء فيشفعوا لنا( األعراف )7/53فالذين خسروا
الكريم كقوله تعالى :فهَل لنا من ُشفَ َ
أنفسهم يتمنون أن ُي َر ُّد وا إلى الدنيا ليعلموا غير الذي عملوه ،ولكن هيهات لهم الرجوع( .)56فما
استعمل أسلوب التمني الحقيقي بل استعمل االستفهام؛ فجاء األسلوب أعلى إيحاء ....وعليه أيضاً قول
أبي العتاهية في مدح األمني:
كنت تُوليني َ َّ تذكر َ ِ
تذكر
لعلك ُ وما َ وح ْر َمتي
أمين اهلل حقّي ُ ًّ ْ
ظر؟ الف الد ِإلي بها في س ِ بالع ْي ِن التي َ
َّهر تُْن ُ َ َّ كنت َمَّرةً لي َ فمن َ
َ
فاالستفهام خرج إلى التمني إلنزال الممكن منزلة المستحيل؛ إلعالء مكانة الممدوح ألن غيره ال
يستطيع 0فعله الذي أنفذه مع الشاعر .ومثله في التمني قول الشاعر:
يد ال َغفَ ِ
الت؟ َب ما أثْأَ ْت ُ
فَ َي ْرأ َ رجوع ُه
ُ أال ُع ْم َر ولَّى ُم ْ
ستطاعٌ
تمن مقرون بالفاء ...وهيهات أن فقد َنصب الشاعر فعل (يرأب) ألنه جواب ٍّ
يرجع العمر الذي ذهب إلى رجعة ...إذ أفسدت يد الغفالت ذلك )57(...فاللغة
البالغية في هذا األسلوب وغيره تنسلخ من معيارتها النحوية إلى طريقة أسلوبية
موحية ومثيرة ال تنشغل ببنية الظاهرة اللغوية الجمالية لذاتها ولكنها في آن معاً
تغوص في العالقات الكامنة فيها.
11ـ النهي:
يخرج أسلوب االستفهام إلى النهي عن فعل شيء ما كقوله تعالى:
َن تخ َشوه إن كنتم مؤمنين( التوبة )9/13وأراد (ال َح ُّ
ق أْ أَتَ ْخ َشونهم؟ فاهلل أ َ
واخ َش ْو ِن( المائدة .)5/44ومن
تخشوهم)؛ بدليل قوله تعالى :فال تَ ْخ َشوا الناس ْ
وضوح ِ
بيان؟ َ قيام ٍ
دليل أو َت
األعداء بعد الذي َرأ ْ
ُ أتلتمس
ُ
َ
وفي التعظيم واإلجالل الذي ورد في الرثاء يقول المتنبي مظهراً ما كان للمرثي في حياته من
صفات السيادة والشجاعة والكرم؛ ما جعل الشاعر يتحسر عليه ويتفجع 0لفقده:
13ـ التهويل:
المهَ َّو ِل منه؛
التهويل في اللغة :هو التخويف الشديد والتفزيع مع تعظيم شأن ُ
وتعجيبه ،ومثله التهاويل .ولعل هذا األسلوب االستفهامي المجازي من أعظم
أنماط التصوير اإليحائي في القرآن الكريم سواء ورد في مشهد يوم القيامة أم في
غيره( ،)60وعليه قوله تعالى :القارعةُ* ما القارعة* ،وما أدراك ما القارعة
ديث الغاشية* وجوه يومئذ خاشعة (القارعة 101/1ـ ،)3وقوله :هل أتاك َح ُ
(الغاشية 88/1ـ .)2
ويعد استعمال أداة االستفهام (ما) المبهمة في الداللة من أعظم ُّ
االستعماالت في هذا المقام؛ وهي ذات إيحاء بديع في التأثير كما في قوله
تعالى :وما أدراك ما يوم الفصل؟( المرسالت .)77/14فسياق النص
القرآني يبرز عظمة التصوير الذي يجسد الخوف في نفوس المكذبين بيوم
وع ُدون لواقع* فإذا النجوم طُمست* القيامة كما تدل عليه اآليات اآلتية َّ إنما تُ َ
ت* ألي يوم أ ِّ
ُجلَ ْ ت* ِّ ت* وإ ذا الجبال ُن ِسفت* وإ ذا ُّ
الرسل أُقِّتَ ْ وإ ذا السماء فُ ِر َج ْ
ٍ
يومئذ للمك ّذبين( المرسالت 77/7ـ صل* وي ٌل صل* وما أدراك ما يوم الفَ ْ ليوم الفَ ْ
صل؟)؛ وإ َّنما كان
الف ْ
ِّلت) أو (ما يوم َ
)15فالتعظيم والتهويل لم ينحصر في االستفهام (ألي يوم أُج ْ
السياق يقوي ذلك ويوضحه( .)61وعليه قول ساعدة بن جؤية في وصف نتائج معركة وقد تركت
وراءها إما رجالً حزيناً على قتاله ،وإ ما رجالً يتجرع حسرات الموت في آخر حياته يعاني من عطش
شديد:
ص ْع َد ٍة ِح َ
طِم؟! ٍ ِ
وساهف ثم ٍل في َ وان مكتئب
َس َماذا هنالك من أ ْ
فالجمال البالغي يقوم على التناغم بين سياقات األسلوب وموازاة الحالة
النفسية والفكرية للمخاطب؛ فالتشكيل الجمالي إنما هو تشكيل نفسي فكري
واجتماعي يرتفع عن الحالة الزمانية المؤقتة0...
15ـ التعجب:
أمر ظاهر المزية خافي السبب؛ وإ ذا خرج من أسلوب النحو السماعي والقياسي إلىهو استعظام ٍ
االستفهام فإنما يراد به المبالغة في إظهار التعجب( .)63كقول أبي متام:
ص ِاد؟ ِ
بأن َنداك بالم ْر َ
هلت َّ
َج ْ علي َّ
كأنها مالل ُخ ِ
طوب ط َغ ْت َّ
فهو يعجب من تراكم الشدائد عليه في حين أن ممدوحه كان لها بالمرصاد ،وكقول المتنبي في
وصف الحمى التي تعجب 0لشأنها كيف استطاعت أن تحل في عظامه على كثرة الشدائد التي يعاني
منها؛ فهو يستعظم 0فعلها ويتعجب منه فيقول:
وص ْل ِت أَ ْن ِت من ِّ
الزحام؟ فكيف َ
َ كل ٍ
بنت َّه ِر ِعندي ُّ
أَِب ْن َت الد ْ
ومثل هذا نجده في قول امرأة من صدر اإلسالم تتعجب البنها الذي أراد
أن يؤدبها وقد بلغت من العمر عتياً؛ فهي تستعظم فعله وتستنكره على سبيل
التعجب منه فتقول:
والتحسر:
ّ التفجع
16ـ ّ
قد يخرج االستفهام إلى معنى التفجع أو التحسر واأللم؛ ()65وقد يدخل في التعجب والتكثير؛
حتى يغدو شبيهاً به ،ويفترق 0عنه أنه يتركز في الحسرة أوالً؛ وثانياً هو أشد ارتباطاً بتصورات المتكلم
وأحواله ،كقول شمس الدين الكويف:
س ِك ِ
بان؟ َب ِع َ
يد ال َك َرى عيناهُ تَ ْن َ ُم ُه
المفارق أ َّ
َ أَالَ َم ْن رأى الطِّ َ
فل
ويزور المتنبي سيف الدولة في مرضه الذي ظهر إثر دمل في جسمه فيتحسر على حاله؛
17ـ اإلنكار:
قد يكون المتلقي منكراً ٍ
ألمر من األمور؛ وجاحداً لـه ،فيقوم الخطاب
باالنزياح التركيبي مرة أخرى فيأتي أسلوب االستفهام اإلنكاري لينكر على
المخاطب إنكاره وليبطله أو يكذبه أو يوبخه ،أو يقوم بتبكيته ،ثم يقرر شيئاً ما.
ويستعمل استعمال (يكون أو ال يكون أو لم يكن 0.)....وجعله الجرجاني أحد أربعة
مقاصد لالستفهام المجازي(.)66
جمع
َن لَ ْن َن َ اإلن َسان أ ْ
أيحسب ْ فمن استعمال اإلنكار بما يكون قوله تعالىَ :
َيحسب أن لم َي َرهُ أحد( البلد
عظامه( القيامة ،)3 /75وقوله تعالى :أ َ
يخلص إلى التقرير في اآليات الثالث التابعة أَلم نجعل لـه عينين، ُ .)90/7ثم
ولساناً وشفتين،وهديناه النجدين.
ٍ
بكاف َع ْب َدهُ( الزمر َليس اهلل
وكذلك يكون اإلنكار للتقرير في قوله تعالى :أ َ
،)36 /39وقوله :كيف تكفرون وأنتم تُْتلى عليكم آيات اهلل وفيكم رسوله( آل
عمران .)101 /3
ويستعمل االستفهام لإلنكار والتكذيب (بما لم يكن)( ،)67ويدخل فيه معنى
التعجب؛ ليعلم منه قوة اإلنكار وتعاظم صورته وحالته في النفس البشرية؛ كقولـه
تعالىِ :أَِإلـهٌ مع اهلل؛ تعالى اهلل عما يشركون ـ (النمل .)63 /27وقولـه تعالى:
كيف تحكمون* أَفال تَ َّ
ذكرون* أم لكم ِ
البنات على البنين* مالكم؛ َ طفَى
أَص َ
بين( ،الصافات 153 /37ـ .)156 سلطان ُم ٌٌ
18ـ التوبيخ:
إن اإليحاء الجمالي المثير أن يغدو األسلوب االستفهامي مقصوداً للتوبيخ
على فعل من األفعال ،أو على رأي من اآلراء ....واإلنكار وحده غير كاف في
هذه الحال كما في قوله تعالى :يا معشر الجن واإلنس ألم يأتكم ُر ُسل منكم
يقصون عليكم آياتي( 0...األنعام ،)130 /6فاهلل ـ سبحانه ـ يخاطب الكافرين
على جهة ا لتوبيخ :ألم يأتكم ...وعلى الرغم من هذا ال يؤمنون()69؛ بل
21ـ التهكم:
هو االستهزاء؛ أو الزراية على اآلخر بشيء ما والغضب عليه ...والوقوع فيه بقول السوء()75؛
كما في قول زهير بن أبي ُسْلمى:
ِ ِ ف إِخا ُل أ َْدري
ص ٍن أ َْم ن ُ
ساء؟ َقوم َآ ُل ح ْ
أ ٌ وما أ َْد ِري َ
وس ْو َ
ويستخف بهم؛ فهو ال يتحقق من جنسهم؛ إن كانوا ذكوراً أم إناثاً...
ّ فزهير يستهجن من القوم،
تق من قفاه حين وهذا ما بينه قوله( :أقوم .)...ومثله نجده في قول المتنبي 0الذي لم يعرف وجه ُّ
الد ُم ْس َ
ضياع؟!
َي َ
الح ْزم فيه أ َّ
ضيَّعوا َ
َ الح من أ َْم ِر قَ ْوٍم
الص َ
كيف أ َْرجو َّ
فالتشكيل البالغي الجمالي لهذا األسلوب يجسد الجوهر النفسي واإلنساني،
ومن ثم يغدو موازياً له ،وكذا نراه في األسلوب اآلتي.
ضي ُر؟!
اب َي ْ َج َنح ِة ُّ
الذ َب ِ َطني ُن أ ْ َ
أ ْ ضائري
عيد َك َ
الوعيد فما َو ُ
َ فدع
ِ
فإذا ظن أن طنين أجنحة الذباب يؤذي فإن وعيده يمكن أن يضره ...وذلك ما
ال يكون 0...فقد شبه الشاعر وعيد عدوه بصوت أجنحة الذباب.
وهذا الضرب من االستفهام المجازي سماه الجرجاني (الخروج إلى معنى
التمثيل والتشبيه)؛ باعتباره أحد أساليب االستفهام( ....)76فإذا كان معنى التشبيه
والتمثيل يدخل في كثير من صور األساليب المجازية التي تحدثنا عنها أدركنا
لماذا اختصر الجرجاني االستفهام المجازي في أربعة أساليب سنشير إليها في آخر
كالمنا هذا ...فضالً عن أنه آثر تلك التسمية اتساقاً مع مفهومه لنظرية النظم.
الضرب ما وقع في هجاء المتنبي 0لكافور وانتقاصه والحط من قَ ْدره:
ْ ومن هذا
والجلَ ُم؟ ِم ْن أَي ِ
َّة الطُّ ْر ِ
كافور َ
ُ اجم يا
المح ُ
أين َ الكرم؟
ُ ق يأتي نحوك
بضعة األصل والحسب ،وقد كان عبداً لحجَّام بمصر ثم اشتراه
فهو ينعته َ
اإلخشيد ،ومن ثم صار حاكم مصر ( .)77ولذلك يتساءل( :أين أدوات الحجامة
23ـ االستبعاد:
ال 0أو هذا نمط بالغي لالستفهام المجازي يوضح فيه المتكلم أن حدوث ٍ
أمر ما يكاد يكون متخي ً
مستحيالً؛ 0كقول أبي متام:
24ـ االستبطاء:
هذا الغرض ليس بمعنى 0استبعاد وقوع الفعل أو الحدث؛ وإ نما بمعنى خروج االستفهام إلى فعل
محقق بالضرورة؛ ويؤمن المرء بحدوثه؛ ولكنه يستبطئ وقوعه إما بسبب االستهتار والعبث وإ َّما بسبب
استنكاره ،وإ ما بسبب تأخيره ...،وإ ما بسبب 0آخر ال يظهر( .)79واالستهتار والعبث إنما يقوم على
مفهوم الوعي به ومعرفة أبعاده كلها .فمن االستبطاء 0بسبب 0االستهتار 0والعبث قول الشاعر:
ف وال قَ َدِم
وماس َراه على ُخ ٍّ
ُ لم؟!ُّ
النجم في الظ َ
ساري ْ َحتَّ َ
ام نحن ُن َ
25ـ معاقبة حرف القسم:
قد تستعمل همزة االستفهام عوضاً من حرف القسم (الباء) ألصالته في
وإ ذا كنا قد استطعنا إثبات األنواع السابقة لالستفهام المجازي فإن األذواق
المرهفة والقرائن السياقية قادرة على إيجاد أنواع أخرى له....
وتلك األنواع التي جمعناها من الدراسات البالغية افتقرت إلى أنماط أخرى
عند الدارسين الذين عنوا بعلوم القرآن وبالغته؛ فأثبتوا أنواعاً أخرى غيرها؛ وإ ن
ساقوا بعض أنماط سابقة ،كما أنهم قسموا االستفهام المجازي تقسيمات مغايرة كما
نجده ـ مثالً ـ عند الجرجاني (ت 471هـ) ،والزمخشري (ت 538هـ)،
والزركشي بدر الدين محمد بن عبد اهلل (ت 794هـ) وغيرهم(.)86
وحين نتناول أساليب االستفهام المجازية التي انتهت إلى انزياح في التركيب
وفي الداللة البد أن نستحضر الدوافع وراءها ،عند المتكلم والمخاطب على
السواء ...ومن ثم البد من استحضار اإلطار النفسي واالجتماعي والفكري
صله عن السياق النصي الذي والزمني الذي قيل فيه هذا األسلوب أو ذاك دون فَ ْ
يرمي إلى هدف ما .ولعل المعاناة الحقيقية والفهم الدقيق ألسلوب من األساليب
يساعدان في إنتاج جمالية جديدة ومبدعة لقراءة نص من النصوص.
متميزة في هذا االتجاه؛
وتعد قراءة عبد القاهر الجرجاني للنص القرآني ّ
فتناول الجملة القرآنية المؤلفة باعتبار أساليبها ظاهرة لغوية بالغية جمالية معجزة
تختزن في بنيتها إشارات ال متناهية من الصور الفنية الداللية 0....فكانت نظريته
البديعة (نظرية النظم) مفتاحاً لعلوم جديدة .وفيها رصد أثر البنية اللغوية والسيما
األثر النحوي والصوتي والصرفي فانتهى إلى تقسيم جديد ألساليب االستفهام
النص القرآني؛ في إطار التقديم والتأخير والحذف والوصل المجازية في ّ
والفصل 0...و 0....فرآها أربعة أقسام.)87( :
1ـ تقديم االسم وتقديم الفعل الماضي مع الهمزة التي لالستفهام.
2ـ تقديم الفعل وتقديم االسم والفعل المضارع في االستفهام.
3ـ االستفهام الذي يخرج إلى معنى اإلنكار.
4ـ االستفهام الذي يخرج إلى معنى التمثيل والتشبيه.
أما الزمخشري الذي حذا حذو الجرجاني في تقديم االسم في االستفهام ،وفي
ـ تقديم
سعى البالغيون منذ القديم إلى إدراك الداللة الحقيقية لألصل اللغوي ألسلوب
التمني؛ وفي الوقت نفسه تَبين لهم أن هذا األسلوب قد خرج إلى ٍ
معان أخرى
تتضح من السياق على قلة األدوات المستخدمة فيه(.)94
وقد انحاز هؤالء البالغيون إلى جعل التمني أحد أساليب اإلنشاء الطلبي بينما
إنشاء طلبياً وإ نما رأوا فيه إنشاء غير طلبي0.....
ً لم يروا في أسلوب الرجاء
ولو نظر الباحث بعين فاحصة ألدرك أنهما يؤديان غاية واحدة ،فكالهما
يبنى على طلب ال يتحقق إما الستحالته أو لبعد وقوعه ...ولكن الفرق بينهما عند
القدماء أن التمني غير قابل للوقوع أياً كان شأنه ...بينما الترجي قابل للوقوع،
وغايته اإلخبار لديهم فهو يدخل في الممكن ال المستحيل(.)95
وفي ضوء ذلك البد أن نؤخر الحديث عن أسلوب الرجاء إلى حينه في
اإلنشاء غير الطلبي 0...ونقصر الحديث هنا على التمني الطلبي0...
الشيب ِم ْن َن َدِم؟
ِ أ َْم َه ْل على العيش بعد اله َرم َ ِ
ياليت ش ْعري ،أال َم ْنجى من َ
وضعف؛ وكيف
فهو يتمنى أن ينجو من الهرم ،وكبر السن بما فيه من شيب َ
لـه ذلك.؟0...
َّإنه ٍّ
تمن مستحيل ...أما ابن الرومي فإنه يتمنى أن يمتد ليل رمضان حتى يعادل شهراً ،على حين
مر السحاب:
يتمنى 0أن يمر النهار الذي يكون فيه صائماً َّ
المشيب
ُ فأ ُْبل َغ ُه بما فَ َع َل الشباب يعود يوماً
َ ليت
أال َ
1ـ هل:
تقع (هل) موقع (ليت) وتدل داللتها الحقيقية كما هي في قوله تعالى:
َمتَّنا اثنتين ،وأ ْ
َحَي ْيتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من قالوا :ربنا أ َ
سبيل( غافر .)11 /40فالكافرون يتمنون أن يخرجوا من النار خروجاً سريعاً
أو بطيئاً بعد أن رأوا قدرة اهلل ،وكيف يخرجون منها وقد أشركوا به؟!.)960(..
2ـ لو:
(و َّد ـ
تستعمل هذه األداة أيضاً مكان (ليت)؛ ولها استعماالن األول مع الفعل َ
يود 0.)....والثاني من دونه ...وكالهما في التمني( .)97فمن األول قوله تعالى:
هن ُفيدهنون( القلم .)68/9فقد َو َّد الكاذبون المداهنة ...أي تمنوا لو
َ و ُّدوا لو تُ ْد ُ
لنت لهم وترفقت بهم ،وأن تتركهم على الشرك والكفر وتوافقهم عليهما ...ولكن
ط القتاد ...فقد جاء استعمال (لو) 0،بمعنى التمني غير الحاصل... دون أمنيتهم َخ ْر َ
ولم ينصب الفعل (فيدهنون) 0،إذ ُعدل به إلى طريق اإلخبار؛ أي فهم يدهنون.
وهناك قراءة أخرى بنصب الفعل (فيدهنوا)(.)98
ومن الثاني قوله تعالى :لو أن لي بكم قَُّوةً( ،هود .)80 /11فالنبي (لوط)
(عليه السالم) لم يكن لـه قوة كافية لردع قومه عن الفحشاء وخزيه في ضيفه لهذا
تمنى أن ُيمنح تلك القوة التي يقوى بها عليهم بنفسه؛ فاستعمل (لو) للتمني غير
المحقق وبعيد الوقوع(.)99
وقبل أن نمضي في الحديث عن األداة الثالثة ا لتي تقوم مقام(ليت) نؤكد أن
األسلوب البالغي في التمني يرتبط جمالياً باألداة البالغية اللغوية ويتعامل معها
بناء على تشكيل جمالي ينساق وفق مستوى التركيب ومن ثم إحساس المتلقي
بعالقات التبادل التركيبي وعناصرها الجمالية.
3ـ لعل:
أبلغ
تستعمل (لعل) استعمال (ليت) للتمني غير الحاصل كقوله تعالى :لعلّي َ
فأطلع على إله موسى ـ (غافر 36 /40ـ .)37
َ األسباب* أَسباب السموات
َ
هامان أن يبني 0لـه صرحاً مكشوفاً عالياً متمنياً أن يحقق لـه أمنيته إذا عاله في
َ فرعون
ُ فقد أمر
1ـ الترجي:
إذا كان األمر المرغوب فيه في أسلوب التمني مما يرجى حصوله وليس
مستحيالً؛ كان طلبه ترجياً ويعبر عنه بـ (لعل وعسى )....ومن ذلك قوله تعالى:
َّ
لعل اهللَ ُي ْحدث بعد ذلك أمراً( الطالق .)1 /65فهذا الكالم جزء من آية يأمر
فيها اهلل المطلقة أال تخرج من بيت الزوجية حتى تنقضي ِّ
العدة ،فلعل اهلل يغير قلب
ذلك الزوج ،ويقلب قلبه من البغض إلى المحبة ،ومن عدم الرغبة فيها إلى الرغبة
فيها ،ومن عزيمة الطالق إلى الندم عليه فيراجعها 0...أي أحصوا العدة لعلكم
ترغبون وتندمون وتراجعون (.)102
ونلحظ أن هذا األسلوب لم ِ
يأت على صيغة التمني في المعنى ،وإ نما جاء
على جهة أداة اللغة لوظيفة مباشرة؛ وهي استخدام (لعل) على األصل في الرجاء
الذي يمكن حصوله ..فاألسلوب البالغي يؤدي وظيفة محددة؛ بينما إذا استخدمت
(لعل) في التمني ،أو استخدمت (ليت) في موضع (لعل أو عسى) 0فإن األمر
سيتغير كثيراً .فاللغة في مثل هذا األسلوب تقوم على نظام غير معياري في إطار
العناصر التي تتضافر فيه وفق عملية االنزياح لتؤدي وظيفة جديدة في عملية
التشكيل الجمالي.
فأداة التمني (ليت) إذا استعملت في معنى الترجي ،وحلَّت محل (لعل) أفادت
معنى المبالغة في الحصول على الطلب 0...وأبرزت الطلب الممكن في صورة
المستحيل...
ومن هنا تكمن القدرة على التشكيل الجمالي الخيالي المثير .فلو قلنا( :ليت لي ألف
دينار.)....لس قنا الحصول على هذا المبلغ في إطار نسق التمني؛ والتمني ال يتحقق ،بينما 0الحصول على
ُ
حي ز إالمكان ...فخرج الكالم عن المألوف إلبراز صورة الممكن في صورة ّ في واقع المذكور المبلغ
المستحيل؛ وماهو إال إلبراز المعنى على جهة المبالغة ،وهنا تكمن الجمالية الفريدة ألسلوب التمني...
وقيل :إذا وقعت (ليت) في معنى (لعل وعسى) كانت للترجي وليس للتمني ،ألنها خرجت عن معناها
األصلي.ولكن بعض الشعراء أكثر من استعمال (ليت) في مكان (لعل) لالستحالة فكشف عن جمالية
مدهشة ذات إيحاءات متعددة ،كما نراه في قول املتنيب:
شتََرى أو َي ْر ِجعُ
لو كان ذلك ُي ْ َّام ُه
الشباب حميدةً أَي ُ
ُ ولَّى
فالعالقة التركيبية تقوم على التضاد البالغي بين (ولَّى) و(يرجع) وما بينهما يتشوف فيه الشاعر
إلىعهد الصبا الذي عاش فيه أيامه الجميلة...حيث برزت عنايته بذلك حين استخدم (لو) في التمني ،وهو
يتشوق 0فيه إلى الشباب الذي يتمتع 0به غيره ..وقد يكون إبراز المعنى الممكن وقوعه والتشوق إليه
ال 0بما يجري مع المتكلم الذي يتمنى أن يلقى أحبته لما رأى جماعة من الطير في السماء كقول ابن ممث ً
املعتز:
ِ
طوباك طوباك؛ يا ليتني واي ِ
َّاك، ِ ت لها:
طير ،فق ْل ُ
س َح َراً ٌ
َمَّر ْت بنا َ
فاللذة الجمالية لهذا األسلوب البالغي تبرز في التأليف الفني التركيبي القائم
على المشاكلة والتضاد.أي إن ميدان الجمال ليس فيما بني عليه التركيب من ألفاظ
واضحة؛ وإ نما فيما حواه ذلك التعبير من خلق صورة ممتعة غير متوقعة في كمال
المعنى والتشوق إلى حدوثه.
ولَ ْي َت غائب َة الشمسين لم تَِغ ِب سين غائب ٌة ليت طالع َة َّ
الش ْم َ َف َ
فالمتنبي 0حرص على استعمال صفة الشمس في حال المغيب واإلشراق؛ واعتمد على مفهوم
التضاد إلبراز المعنى من جهة ،وبيان عزته وندرته ....فالتمني اعتمد على أسلوب االختالف النادر في
المطابقة ...فالشمس تطلع وتغيب ،ولكنه تمنى أال تطلع ،أما أخت سيف الدولة فقد غابت إلى األبد....
وتمنى 0أال تغيب 0.وبهذا أنتج األسلوب البالغي معنى العزة في المتَ َّ
منى ،وعليه قول المتنبي أيضًا في
مدح سيف الدولة:
ص ِر األ ِ
ُول؟ ليت المدائح تَستَوفي ِ
َع ُ
َه ُل األ ْ
ب وأ ْ
فما ُكلَ ْي ٌ مناق َب ُه َ ْ َ
ٍ
خاف عن النفس وغير متوقع ومكانته قد فعزة ممدوحه ومكانته قد دفعت بالمتنبي 0إلى إيحاء بعيد
خاف عن النفس وغير متوقع لندرته ...حين تمنى أن تستوفي المدائح ٍ دفعت بالمتنبي 0إلى إيحاء بعيد
صفاته ،ألنه فاق كليبًا في المنزلة والمناقب وسبق فيها أي إنسان من أي عصر ....وذلك كله ينطبق0
على قول المتنبي أيضاً:
- 176 -
الفصل الخامس ـ
أسلوب النداء وبالغته وجمالياته
ـ حدود وأبعاد:
النداء ظاهرة غريزية في اإلنسان والحيوان ،وهي تمثل لدى اإلنسان ِ
صَيغاً
راقية عما هي لدى الحيوان ،وإ ن اشتركا فيه بالتعبير عن تلبية الحاجات،
واستعمالها أداة للدفاع عن الذات في بعض األحيان ،بيد أن النداء (الصوت) يتآزر
في هذا األسلوب مع السياق البالغي اللغوي ليقدم وظيفة ما .وبهذا ننظر إلى
ظاهرة النداء عند اإلنسان ليس باعتبارها وسيلة اتّصال فحسب ،وإ نما باعتبارها
أداة تعبير عن المشاعر واألفكار منذ فجر التاريخ .وإ ذا كان كثير من لغات األمم
قد تخلَّى عن األصل الداللي الذي وضعت لـه أساليب النداء ،ومال إلى الداللة
االصطالحية وأثرها فإن العربية ظلت متمسكة باألصل الداللي الذي وضع لـه
النداء وكانت ترتقي في الوقت نفسه مع الداللة المجازية لتكتسب على الدوام رقياً
فكرياً ونفسياً واجتماعياً؛ بل قل حضارياً0....
وبهذا أصبحت أساليب النداء في داللتها وجماليتها البالغية رسالة كالمية
وعمالً فنياً في آن معاً .ولعل هذه األساليب تستجيب للسؤال الذي طرحه (رومان
جاكبسون) حين قال(( :ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً؟)) (.)109
إن الجملة البالغية في أساليب النداء عند العرب أداة وهدف من دون أن
يكون هناك اتفاق مسبق بين المتكلم والمخاطب ...ولهذا تستدعي مكونات
الخطاب الندائي منا قراءة واعية لطبيعته ووظيفته .فالمتكلم ليس مجرد ُم ْر ِسل
ألدوات النداء وإ نما هي تعبير مثير عن مشاعره وأفكاره؛ ومرتبطة ـ في الوقت
وب ْعداً في المكان أو المنزلة الذاتية واالجتماعية ...وبمعنى
نفسه ـ بالمخاطب قرباً ُ
آخر؛ إن المتكلم يدخل في إطار البنية التركيبية الستعمال هذه األدوات أو تلك،
َج ِملي
ص ْر ِمي فأ ْ ِ ِ
وإِ ْن ُك ْنت قد أ َْز َم ْعت َ ض هذا التدلُّ ِل
أفاطم َم ْهالً َب ْع َ
ُ
فالتشكيل الصوتي لنداء القريب رمز قوي لمجاورة المخاطب للنفس لِقُرب المسافة والمنزلة،
وعليه قول الشاعر:
ِّب
العاقل المتأَد ُ
َ فافه ْم فإن
َ ِّب
سين إني واعظٌ ومؤد ُ
َح ُأُ
وكقول الشاعر مخاطباً أحبته:
س َّك ُ
ان ِ مان األ ِ
َراك تيقَّنوا َس َّك َ
بأََن ُك ُم في َر ْب ِع قلبي ُ ان ُن ْع َ أُ
ويقول املتنيب:
ِ ِه َب ُ
ات اللُّ َج ْين ِ ِّ
العبيد؟! ق
وعتْ ُ َمال َك ِرقي َ
وم ْن شأ ُن ُه أَ
ِ
الوريد والموت مني ِ
كحبل ُ ِء الرجا
انقطاع َِّ دعوتُ ِك عند
وي ْعتِ َ
ق فالمتنبي يقول :يا َم ْن ملك نفسي عبودية ،ويامن شأنه أن يهب الفضَّة ُ
ِ
وقرب مني الموت مالك ِرقي لي لما انقطع الرجاء من غيركّ ، العبيد؛ دعوتك يا َ
إلي من حبل الوريد ....وبهذا كله برز إلى العيان قيمة جمال الجوهر فكان أقرب َّ
المرتبط برمزية حرف النداء ،في مقاربة نفسية زمانية ومكانية .إن إنزال البعيد
منزلة القريب يقوم على جمالية بالغية مثيرة ،دون أن يتخلى عن األصل الوضعي
للهمزة .فلما كانت الهمزة للقريب استدعت إنزال البعيد إليها؛ وبذلك ظلت
محتفظة بأصلها القديم؛ ولعل ذلك كله نراه في القسم اآلتي (نداء البعيد).
أ ـ البعد الحقيقي:
يتضح لنا من أدوات النداء للبعيد أنها موضوعة على الترتيب تبعاً لبعد
المسافة بين المتكلم والمخاطب .ولهذا فإن الهمزة بما تحمله من صوت انفجاري
التموج قد يصبح طويالً إذا ُم َّد به؛ فإن أصبح صوتها ممطوطاً ـ لما فيه من
قصير ّ
لين ـ انقلبت إلى (آ)؛ و(أي) انقلبت إلى (آي) 0....وهذا كله من الخصائص
زيد) ،و(آيالفطرية لطبيعة الصوت عند اإلنسان األول( ،)115فنقول( :آ ُ
َي) ....وهناك من يرى أن محمد) .وتصبح المسافة أبعد مما هي عليه في (أَ ـ أ ْ
ُ
الياء في (أي) ُم َّدت ألفاً فصارت (آ) 0....وفي الحالين أصبح الصوت ممطوطاً
ليالئم ُب ْعد المسافة ،ما يجعل النداء للبعيد حقيقة أو حكماً فقط وإ ن استعمل في
المجاز (.)116
أما إذا كانت المسافة أبعد مما ينبغي فإن األداة المستعملة في هذا المقام هي
(يا) ،ألن صوتها يتشكل من جوف الفم مع حركة انفتاح الفك األسفل باتجاه
الصدر .وهذا يعني أنه يخرج من أقصى الحلق ثم يلتصق بالقعر العميق لتجويف
الفم؛ مما يجعله بعيداً في المنطلق ،وأكثر التصاقاً بالنفس الداخلية ...لتردده في
الصدر.
ونرجح أنه قد ظل لها هذا االمتداد الصوتي على مر الزمن ،وتمايز
وضعفاً ...لهذا كله وضعت أداة النداء (يا) البيئات ولو تمايزت األصوات قوة َ
كأداة اتصال للبعيد ثم للتعبير عنه ...وقد التزم األسلوب القرآني هذا االستعمال
في خطاب المشركين كقوله تعالى :يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم ـ (البقرة )21 /2؛
ال يسمع سعيد ِ
أقدم)؛ وعليه قول عبد يغوث 0ينادي بأعلى صوته لعل رج ً ُ أو كقولنا إلنسان بعيد عنا( :يا
نداءه فيبلغ َرسالته إلى ندمانه في جنران:
َن ال تَالَقيا
جران أ ْ
داماي من َن َ
َ َن ض َت فبلِّ َغ ْن
فيا راكباً إِ َّما َع َر ْ
ومثله قول مالك بن الريب لتبليغ أهله أنه سيفارقهم إلى األبد؛ ألن الموت قضى قضاءه فيه:
والر ْي ِب أ ْ
َن ال تَالقيا بني ٍ
مازن َّ ض َت فبلِّ َغ ْن
فيا صاحباً إِ َّما َع َر ْ
أما نداء األنبياء بأسمائهم في القرآن ،فِإَّنما هو نداء على البعد الحقيقي مثل
1ـ الدعاء:
كثر هذا األسلوب في القرآن الكريم ،وتكرر في غير ما موضع إلفادة
ت من َسكن ُ
المبالغة في التضرع واالبتهال إلى اهلل سبحانه؛ كقوله :ربَّنا إني أ ْ
الم َح َّرم*ربنا ُليقيموا الصالة 0*....ربنا إنك ٍ
ُذ ِّرَيتي بواد غير ذي َز ْر ٍع عند بيتك ُ
َّل ُدع ِ
اء* تعلم ما ُنخفي وما نعلن؛ ِّ
قيم الصَّالة ومن ذريتي ،ربنا وتقب ْ َاجعلني ُم َ
رب َ
ربنا اغفر لي ولوالديَّ( ...إبراهيم 14/37ـ 38و 40ـ .)41قال الزمخشري:
((النداء المكرر دليل التضرع واللجوء إلى اهلل تعالى إنك تعلم ما نخفي وما نعلن
،تعلم السر كما تعلم العلن علماً ال تفاوت فيه؛ ألن غيباً من الغيوب ال يحتجب
عنك .والمعنى :أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا ،وما يفسدنا منا ،وأنت أرحم بنا،
وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها ،فال حاجة إلى الدعاء والطلب؛ وإ نما ندعوك إظهاراً
للعبودية لك وتخشعاً لعظمتك ،وتذلالً لعزتك ،وافتقاراً إلى ما عندك))(.)122
وقد كثر الدعاء بالنداء في الشعر في مخاطبة الديار ،ويفهم هذا من السياق ،كقول ذي الرمة:
بجرعائ ِك القَ ْط ُر
ِ وال زال م ْن َهالًّ
ُ دار َم َّي على ال ِبلَى
اسلَمي يا َ
أَال يا ْ
وهناك نداء محذوف بعد أداة النداء األولى دل ما بعده عليه؛ مثل الجملة التفسيرية؛ وقال امرؤ
القيس:
الر ْك ِب إِ ْن َ
شئت حديث َّ الربعُ وا ْن ِط ِ ِ
ق َِّث ِ وحد
واص ِدْ
ْ
َ ق صباحاً أَيُّها ْ
أَال ع ْم َ
عسيب
ُ َقام
مقيم ما أ َ
وإ ني ٌ تنوب
ُ الخطوب
َ أَجارتَنا إِ َّن
نسيب
ُ و ُك ُّل َغ ٍ
ريب للغريب أجارتنا َّإنا غريبان ُ
ههنا
ص
إليك،وماكان لي َم ْن َك ُ
َ األمور
ُ صي ََّرتْني
َع ْلقَ ُم ،قد َ
أَ
فالنداء ال يقوم على التخيل الوهمي ،والترميز الذهني ،بل يمد يده إلى مقاربة
الداللة بكل لطف إلزاحة الدكنة السوداء التي علقت بنفس علقمة من األعشى...
4ـ التمني:
أسلوب التمني في النداء يفهم من السياق والقرائن الدالة عليه ،ويبرز أن أداة النداء وضعت لـه
يت يا َر ُج ُل
مكان يا َج َم ُلُ ،ح ِّي َ
َ َشكرها
التحي َة كا َن ْت لي فأ َ
َّ ليت
َ
فالصورة البالغية اللغوية مشحونة بالعفوية والعاطفة المشخصة لعناصر
التجربة الموازية .وهذا ما أكسبها حيويتها وجمالها.
سوا فََزعا
شلون إذا ما آ َن ُ
الي ْف َ
َ س ٍب
يا َه ْو َذ؛ إنك من قَ ْوٍم ذوي َح َ
َّ
والش َرعا للوَّراد ِ
المواهب ُ َب ْحر يمشي على قدم
ٍ يا َه ْو َذ ،يا َخ ْي َر ِم ْن
الم َحلِّ َ
ق بن َح ْنتَم ،وهو من أفقر َخْلق اهلل ،وال منزلة لديه وال قرابة من الشاعر ويمدح األعشى ُ
فيقول:
َع َرقوا
أقوام بذاك وأ ْ جد
فأَ ْن َ صنعتُ ُم أَبا م ِ
ٌ سم ٍع سار الذي قد ْ
ُ ْ
إن صيغة اسم الفاعل وداللتها تبين مع السياق أن ذكر المخاطب (المنادى) قد سار في اآلفاق ،ما
يدل على أن النداء وضع إلبراز صفات الممدوح؛ وإ عالء شأنه فهو في األصل من عامة الناس ...ومن
هذا األسلوب في إبراز صورة الثناء والمبالغة في مدح الممدوح ما نراه في قول المتنبي يمدح سيف
الدولة؛ فيقول:
َحدانا
تصيد الناس أ ْ
ُ إن اللُّ ُي َ
وث َّ جانبه
وب ُ المره ِ
ُ الج ْح ِ
فل صائد َ
َ يا
ِ
بعض أهون من
ُ الشر
بعض ِّ
َح َناني َك؛ ُ بعضنا
ق َ ْنيت فاستب ِ أَبا ٍ
منذر!! أَف َ
6ـ االستعالء:
ب من أساليب النداء المجازي الذي استنبطه الزمخشري من آيات ض ْر ٌ هذا َ
القرآن الكريم ،فنداء الجماد يدل على((مظاهر استعالء الربوبية ،وانقياد األشياء
لها .لذا يعمد القرآن إلى هذا األسلوب -وله عنه مندوحة -ليبث في النفوس هيبة
الربوبية ،ويطبع فيها الشعور بعزتها وكبريائها))( .)129وعليه قوله تعالى :يا
ِجبا ُل أ َِّوبي َم َعهُ والطَّ ْي َر( سبأ .)10 /34قال الزمخشري مبيناً سياق اآلية كامالً
وربطها بما تقدمها من آيات(( :وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير
منا فضالًقلت:أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال :وآتينا داود ّ
بأصواتها ...فإن َ
تأويب الجبال معه والطير؟ ...قلت :كم بينهما؟ ...أال ترى إلى مافيه من الفخامة
التي ال تخفى من الداللة على عزة الربوبية وكبرياء اإللهية حيث جعلت الجبال
ُمَن َّزلة منزلة العقالء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإ ذا دعاهم سمعوا وأجابوا
إشعاراً بأنه مامن حيوان وجماد وناطق وصامت إال وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع
على إرادته))(.)1300
فالنداء هنا أفاد استعالء المنادى ألنه عومل معاملة ما يعقل ومثل هذا نجده في خطاب الشعراء
لديارهم وما ال يعقل كالحيوان؛ فينزلونها منزلة العقالء إعالء لمكانتها 0في نفوسهم ....كقول عنرتة:
ِ
عامر ولكن أ َْب ِشري أ َُّم
ْ عليكم، إن قَ ْب ِري ُم َحَّر ٌم
ال تقبروني َّ
وهذا أسلوب يختلف عن النداء الحقيقي في إنزال القريب جداً منزلة البعيد
َّبع بأنها ستكون مقبرة
لعلو قَ ْدره وعظيم شأنه .فعلو شأن الشنفرى جعله يكرم الضُ ّ
لجدثه؛ ال األرض التي تضم أجساد الناس ...مما يوحي بمفهومه الفكري
واالجتماعي0...
وقد يكون االستعالء لوجه بالغي آخر ،كأن يقع كراهية بين األزواج فيكون الطالق بعد
استعالء وتكبراً كقول األعشى:
ً االجتماع 0فينادي الرجل زوجه بكلمة (جارة)
كذاك أمور الناس ٍ
غاد وطارقَ ْه فإن ِك َ
طالقَ ْه يا جارتي ِب ْيني َّ
َ ُ
إن جمالية هذا المعنى تستدعي منا استحضار السياق التراثي الثقافيَّ
واالجتماعي قبل استدعاء عواطف المتكلم ورؤيته الشخصية 0...فاألسلوب
البالغي في هذا المقام ممارسة شخصية لمتكلم تملكته نزعة المغايرة من أن
يصرح باختالفه عن اآلخر .ولعل مثل هذه المغايرة المتجهة إلى االستعالء هي
التي أكسبت أسلوب النداء جماالً خاصاً به..
-7التهكم والسخرية:
يكتسب أسلوب النداء من السياق والقرائن معاني كثيرة؛ 0ويؤثر في النفس تأثيراً عظيماً وال سيما
إذا اعتمد على التقديم أو التأخير ،أو على الحذف ،أو على الشرح والتفصيل في غير ما استعمال ،ومنه
استعماله للتهكم والسخرية؛ ومنه قول عامر بن الطفيل يفتخر بنفسه ويتهكم ساخراً من ُم َّرةَ بن عوف
الذبياني ،معتمدًا على مبدأ الشرح والتفصيل في قوله:
َّبعُ
هم الض ُ
فإن قومي لم تأك ْل ُ
َّ إما أَ ْن َت ذا َنفَ ٍر
شةَ!! ّ
أبا ُخرا َ
أما أبو الطيب المتنبي فقد استعمل أداة النداء (الهمزة) للقريب ،وأوهمنا أن المخاطب بشجاعته
المرة
وجرأته وقدرته استطاع أن يقتل األسد الهصور ،ثم يأتي السياق في الشطر الثاني ليفيد السخرية ّ
جميع المسلمينا
َ يا احمدوا اهلل كثيراً
ق األ ِ
َمينا ربَّنا أ َْب ِ ثم قولُوا ال تَملُّوا:
فالظاهر من تقديم جملة جواب النداء (احمدوا اهلل )..أنه قصد إلى المدح؛ ولهذا طلب إلى
المسلمين جميعاً ..أن يحمدوا اهلل ويشكروه ..وهي صورة لغوية مكتملة المعنى وتدل على حقيقة
بعينها ....فاالستغراق ممثل (بأل التعريف) في المسلمين ،ثم دفع أي توهم في النفس فجاء بكلمة
ينبه المدعويين لـه
(جميع) ثم طلب إليهم أن يدعوا اهلل بالثناء والشكر ..فالداعي يقظ لما يقول وأراد أن ّ
فجاء بالنداء للبعيد ليصل قوله إلى أبعد ما يمكن أن يسمعه ..ثم أمرهم بدوام الشكر وعدم الملل وبين
نوع الدعاء فقال( :ربنا أبق األمينا)؛ فحذف أداة النداء ليظل الداعي قريبًا من اهلل في مناجاته ..ثم يأتي
سياق األبيات ليدل على أن معنى أسلوب الدعاء إنما كان على سبيل السخرية والتهكم ،في أسلوب
الذع ،فهو يتطير منه ومن سوء صنيعه وتدميره؛ 0ألنه يتابع 0كالمه فيقول:ٍ
التعليم
ُ َهالَّ ل َن ْف ِس َك كان ذا الم َعلِّ ُم َغ ْي َرهُ
يا أَيُّها الرج ُل ُ
تلك هي المعاني التي التقطناها ألساليب النداء المجازي مما لم يعرض لـه
اآلخرون؛ ومن ثم نعرض لما عرف لديهم في أسلوب جمالي يجاري ما بدأنا به..
وهو ليس عرضاً عابراً وال جزئياً ،وإ نما عرض يتوشح بإبراز التشكيل الجمالي
في صميم األسلوب البالغي..
-8الزجر والتهديد:
صلوا القول فيه .وقد يتخيل أحدنا أن هذا المعنى
عرض البالغيون لهذا المعنى؛ ولكنهم لم يُفَ ّ
ينتمي 0في بعض صوره إلى تنبيه المخاطب على غفلته وشرود ذهنه ..يصل في بعض الحاالت إلى
شيء من التوبيخ ..فهو أعلى درجة من النداء الحقيقي الذي يكتفي بمجرد التنبيه من الغفلة ..كما في
قول عامر بن الطفيل يهدد فيه ويتوعد ضبيعة بن الحارث الذي نجا هذه المرة من المعركة ..وإ ن نجا
هذه المرة فلن ينجو 0في المرة القادمة:
-9اإلغراء والتحريض:
يراعي المتكلم هنا حال المخاطب وموقفه؛ أو يستعمل أسلوب النداء لإلغراء والتحريض ألمر
خاص به ..ومن ذلك قولنا للمظلوم ،وهو مستكين للظلم ال يتكلم( :يا مظلوم ال تسكت)؛ أو كقولنا
ّ
زيد ال تخف) ،وهكذا ..وقد أكثر الشعراء من استعمال للشجاع المتردد( :يا شجاع أقدم) أو للخائف( :يا ُ
هذا األسلوب كقول طرفة بن العبد ُيغري عمرو بن هند باالنقضاض على بني ُمراد:
ِ
مجاور!!؟ جار رأي َم ْع ٍ أَعمر َ ٍ
أماتوا أبا حسان َ
َ شر بن هند أما ترى َ َ َْ
فالسياق يوضح أنه ما استخدم النداء لمجرد النداء الحقيقي لعلو منزلة المخاطب ..وكذا فعل
األعشى حينما أغرى أقرباءه بالسلم فقال:
-10التحيُّر والتضجّر:
يعد هذا األسلوب من أبدع األساليب الجمالية؛ إذ يتوجه الخطاب فيه إلى المتكلم ذاته غالبًا ليبين
ّ
ما به من حيرة وقلق واضطراب ..وال يمنع 0أن يتوجه فيه إلى المخاطب كما في قول الحارث بن ِحلَِّزة:
ِ
نيأس الص ْر َم تختارين بالوصل
أَم َّ عر ِ
س اوي!! َه ْل لي عندكم من ُم َّ
َم َّ
أَ
المتلب ِ
س ِّ المخلوج ِة
َ من َّ
الش ِّك ذي َ الصريم َة راح ٌة
إن َّ
أَبيني لناَّ ،
مصوراً حالته كأنه في حالة سكر ال يدري ماذا يفعل..
ّ ويخاطب امرؤ القيس الحارث بن عمرو
الضجر نفسه فناداه بقوله:
فهو قلق مضطرب حيران ،مأل ّ
ويع ُدو على المر ِء ما ِ
يأتم ْر رو كأني َخ ِم ْر
أحار بن َع ْم ٍ
ِ
َْ َْ
أما األعشى فإنه وقف موقف المتيقن من وجهة سير إحدى النساء؛ على حين أن المخاطب
(المدعو) بأسلوب النداء ظل حائرًا في ذلك فقال:
يثرب َم ْوعدا
َ فإن لها في أهل
َّ يم َّم ْت؟!
أال أَيهذا السائلي :أين َ
ومن هنا نجد أن أسلوب النداءالمجازي يجري كثيراً على ألسنة الشعراء في مخاطبتهم للديار
واألطالل؛ فيصورون حالهم حيرى ضجرة ،كقول الشاعر:
ِ
بكيناك من ِ
أجل هذا بكيناها منازل س ْلمى أين س ِ
لماك؟ أَيا
َ َ َ َ
فالشاعر مضطرب ال يدري أين رحلت سلمى؛ فلعل الجواب عند آثارها
الدارسة؛ بيد أنها كانت أكثر حيرة وقلقاً منه؛ ألنها مثله ال تعرف أين رحلت.
ولعل النظرية المتأنية لمثل هذا األسلوب تسلم صاحبها إلى الوقوف على
ماهية الصورة الداخلية المختزنة ..وهي صورة تستبطن جمالية خاصة في
-11التذ ُّكر:
التذكر ألمر
ُ يتجه في معناه إلى صفة
لعل هذا المعنى شديد الشبه بالمعنى 0السابق ،ولكن المتكلم ّ
ما ومحاولة الوصول إلى اليقين كقول امرئ القيس:
راب ْه
ذكرى حبيب ببعض األرض قد َ آب ْه
يا بؤس للقلب بعد اليوم ما َ
فإذا كان امرؤ القيس قد شك في وجهة رحيل صاحبته وحاول أن يتذكر ذلك وما كان لـه معها
من أيام جميلة فإن شاعراً آخر يقف أمام أطالل محبوبته ساعياً إلى تذكر ما كان لـه معها ،متمنياً أن
ترجع؛ فيقول:
ين رواجع؟!
ض َ ِ
هل األ َْز ُم ُن الالتي َم َ سالم عليكما
س ْل َمى ٌ
أَيا َم ْنزلَ ْي َ
وهناك أناس ما إن تمر بهم ريح الشمال في وقت السحر حتى تذكرهم شمائل أحبتهم فيعبر عنهم
الشاعر قائالً:
حاضر فيها
ٌ ٍ
سرور كأن ُك َّل
َّ ت أَنسى ِط ْي َبها أبداً
لس ُ
يا ليل ًة ْ
وبهذا كله يصبح أسلوب النداء أسلوباً جمالياً فريداً في التعبير اللغوي
الجمالي.
-12التحسّر والتوجع:
سواء بالموت أم بغيره ..وهو من المعاني الكثيرة التي
ً يرتبط هذا المعنى بقضية الفقد غالبًا
استعملت في أسلوب النداء وغيره منذ القديم )131( ،ويظل السياق وحده من يكشف عن ذلك ،كقول
امرئ القيس في رثاء قومه وبكاء مملكتهم 0الزائلة:
ِّ
وبكي لي الملوك الذاهبينا أال يا ِ
عين َب ّكي لي شنينا
وقال آخر في رثاء ابنه:
ْساً َعليَّا
َّت َد ْعوتي يأ َ
فرد ْ
ُ ني فلم تُ ِج ْبني
دعوتُ َك يا ُب َّ
وقالت ليلى بنت طريف في رثاء أخيها:
ط ِر ْي ِ
ف تحز ْن على ِ
ابن َ َّ
كأن َك لم َ شجر الخابور!! مال َك مورقاً
أَيا َ
ِ
بانقضاب حباله
ُ آذ َنتْني وأين م ّني شبابي؟!
يا شبابي!! َ
ِ
الرطاب ان َفنان ِه ّ
اللد ِ تحت أ ِ وله ِوي
ف نفسي على َنعيمي ْ
له َ
ْ
فالقيمة الجمالية لهذا النمط من أساليب النداء ال تنبع من العناصر الفنية
نما تنبثق من التصوير المجازي المرتبط بمشاعر المكتملة في الصورة فقط وإ ّ
أصحابه ،ومن إرسائه في ُنفوسنا ..ولهذا فنحن نحس بمالمح التجربة الذاتية في
إطار جمالي مثير ،وهذا ما نجده في األساليب اآلتية ،ومنها التعجب واالستغاثة
والندب..
تج ْن؟
اح َ آخر ِ
الليل :ماذا ْ ِت من ِ الر ْه ِن للقائال
عج َب َّ
فيا َ
وكقولنا :يا عجبًا َلم فعلت هذا؟ والرابعة أن تحذف الالم نهائيًا؛ 0ولكنه ال يجوز حذف أداة النداء
فيها وفي غيرها كقول الشاعر:
-14االستغاثة:
هذا األسلوب في النداء يماثل في تركيبه أسلوب التعجب السابق؛ ولكن
المتكلم ينادي شخصاً آخر لكي يعينه على دفع بالء أو ِش َّدة .ورأى سيبويه
( ) 133أن أداة النداء (يا) و(الم الجر) المفتوحة مع المستغاث به ال تحذفان ،كقولنا :يا لَألَغنياء؛ بينما
يجوز حذف (الم الجر) المكسورة في المستغاث لـه ..بدليل أو من دون دليل .ومن ثم فهو وأمثاله لم
يجيزوا حذف (يا) حتى ال يلتبس أمر الالم المفتوحة في الم االبتداء ،كقول الشاعر:
أل ٍ
ُناس ُعتُُّو ُه ْم في ازدياد ِ
وياألمثال قَ ْومي يا لَقَ ْومي،
فأداة النداء (يا) للتنبيه واالستغاثة ،ويحذف معها المستغاث لـه مع الالم كقول
المهلهل:
رار؟! يا لب ْك ٍر!! أ َْي َن؟ أ َ ِ يا لَ َب ْك ٍر!! أَ ْن ِش ُروا لي ُكلَ ْيبا
َين الف ُ َ
وضع ت في أداة النداء (يا) فقط مثلما هي في التعجب؛ فهي المختصة بهذا
َ قلنا :إن االستغاثة
المعنى ويستعمل معه الم مفتوحة مع المستغاث 0به ،أما المستغاث 0لـه الذي يستعمل معه الم مكسورة 0فقد
حرف الجر (من) كقول الشاعر:
ُ يستعمل بدالً من الالم
عالما؟!
أعراضنا أم َ
ُ ألع ْب ٍد
َ العاما يا لَ ٍ ِ ِ
قيس!! لما لقَينا َ
فالتفصيل الذي نراه في أسلوب االستغاثة المجازي يخرجه عن األصل الذي
وضع لـه عند اإلنسان األول ..وكذا نقول في نداء الندبة.
-15نداء النُّدبَة:
هو نداء المتفجع عليه ...أو المتوجع منه؛ وال يكون إال معرفة؛ فال يكون
نكرة ،وال مبهماً؛ 0...وكالهما جاز نداؤهما في غيره ..ويستثنى االسم الموصول
من المبهم ألن جملة الصلة توضحه ،بيد أنه قبيح في هذا الباب (.)134
وار ِزي َ
َّتي ْه سلمىَ :
وتقول َ ماء ُم ْعول ًة
تبكيهم َد ْه ُ
ُ
وهاء السكت ،تكاد تالزم ألف الندبة ،وكالهما حرف ال محل لـه من
اإلعراب..
أما األداة (يا) فليست مختصة بالندبة؛ وهي الوحيدة من أدوات النداء التي تشارك (وا) في الندبة
إذا أمن اللبس بينها وبين النداء الحقيقي أو المجازي اآلخر .كقول جرير في ندب عمر بن عبد العزيز:
-16التنبيه:
ذهب بعض الباحثين إلى أن النداء يكون للتنبيه ،ويزيد بتكراره؛ وكذا هو إذا
دخل على حرف آخر؛ وهو ما ذهب إليه الزركشي ( .)137وقد استعملت مع ليت
كثيراً في القرآن .قال الزمخشري مبيناً موقف مريم "تمنت لو كانت شيئاً تافهاً ال
يؤبه لـه من شأنه وحقه أن ينسى في العادة؛ وقد ُنسي وطرح فوجد فيه النسيان
الذي هو حقه ،وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشور من الناس على حكم العادة
البشرية ..ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيباً يعاب به ويعنف بسببه ،أو لخوفها
على الناس أن يعصوا اهلل بسببها" (.)138
ومن هنا ندرك القيمة الجمالية التعبيرية ألداة النداء التي جاءت للتنبيه عما هي عليه حالتها
النفسية .وعليه قول الشاعر:
ش ْنفَاهُ
ق َ
ـذي َي ْب ُر ُ الر ْي ُم الَّـ
أال يا بأَِبي؛ ِّ
ولعل طرفة قد تشبعت نفسه بجمال صاحبته ولذلك زاد من عالمات التنبيه
على جمالها فاستعمل (أال) و(يا) للتنبيه على ذلك ..ولذا بدأ بالتنبيه المتدرج على
وجه االستعالء وما يستتبعه صوت (األلف) في (أال) و(يا) لبعث التأثير في
النفوس ولجلب انتباهها إلى ما تتصف به محبوبته إمعاناً منه في إبراز جمالها...
ذلك أسلوب التنبيه في أداة النداء الداخلة على الحروف؛ ولكن التنبيه قد يدخل على االسم
مباشرة؛ لزيادة َج ْذب االنتباه 0والتأثير السريع؛ كقولنا( :يا وي ٌل له) وكقول الشاعر:
-17االختصاص:
جمالية هذا األسلوب تكمن في القدرة على الجمع بين الرؤية الفكرية والنفسية
وبين اإلبداع الفني القائم على مفهوم االنزياح في اللغة والتركيب.
فاالختصاص في أسلوب النداء ذكر اسم ظاهر بعد ضمير يقصد به
االختصاص ال النداء؛ ألجل بيانه ونعته .فأسلوب النداء ُجِّرد من طلب اإلقبال ،وإ نما
صص مدلوله بما ُنسب إليه من صفات ...فاالختصاص أُجري على حرف النداء ُخ ّ
(إنا أيها الرجل كرماء) ..وكقوله تعالى رحمة اهلل وبركاته عليكمالمحذوف؛ كقولناَّ :
البيت؛ إنه حميد مجيد" (هود .)73/ 11قال الزمخشري" :أرادوا أن هذه أهل ِ
َ
وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم باإلنعام به يا أهل بيت النبوة فليست
بمكان عجب ..وأهل البيت نصب على النداء أو على االختصاص؛ ألن أهل البيت
مدح لهم؛ إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن" ( .)140
ويكون نداء االختصاص في هذا الموضع لغرضين إما التفاخر وإ ما التوضيح؛ وال يجوز إظهار
(حرف النداء) العامل فيه وفي المنادى مع اشتراكهما في المعنى فمن التفاخر قول عمرو بن األهتم:
س ْع ٍد و َناديها
س َراةُ َبني َ
فينا َ س ٍب َّإنا بني ِم ْن ٍ
قر قَ ْو ٌم َذ ُوو َح َ
اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ..فقد أردنا أن نختص
ومن التوضيح قولناَّ ،
بالدعاء دون بقية الناس ..فال يجوز أن ندخل أداة النداء (يا) هنا وال في السابق
ألننا لسنا في معرض تنبيه غيرنا؛ وإ نما أردنا االختصاص والتوضيح أو التفاخر.
مقدمة 7.....................................................................................................
مدخل :مفهوم الجمال والجميل والجليل والجمالية13..........................................
حواشي المدخل 19................................................
الباب األَول :من تأصيل مفاهيم علم المعاني إلى جمالية الخبر21........................
الفصل األول :حدود ومفاهيم 23..................................................................................
القسم األول :النشأة والتأصيل23 ........................................................ :
القسم الثاني :تطور مفهوم الخبر واإلنشاء 28 .........................................
القسم الثالث :إنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو العكس 34 .............................
1ـ إنزال الخبر منزلة اإلنشاء36........................................... :
1ـ التفاؤل36.................................................................... :
2ـ الدعاء36.................................................................... :
3ـ االحتراز من صورة األمر تأدبا ً واحتراما ً للمخاطب38...........
4ـ التنبيه على تيسير المطلوب لقوة األسباب؛ واألمر به والحث
عليه39............................................................................ :
5ـ المبالغة في الطلب للتنبيه على سرعة االمتثال39.................:
6ـ التوجيه واإلرشاد40...................................................... :
7ـ إظهار الرغبة في الشيء والحرص على وقوعه40..............:
2ـ وضع اإلنشاء موضع الخبر 41..........................................
1ـ إظهار العناية بالشيء واالهتمام به41................................ :
2ـ التبكيت42................................................................... :
3ـ التحاشي واالحتراز من مساواة الالحق بالسابق43...............:
4ـ الترغيب في الشيء والحث عليه44.................................. :
5ـ النُّصْ ح وال َو ْعظ45......................................................... :
حواشي الفصل األول من الباب األول46...................
الفصل الثاني :جمالية أسلوب الخبر 49........................................................................
القسم األَول :مفهوم الخبر وأغراضه وأساليبه49 ....................................
1ـ مفهوم الخبر49............................................................. :
2ـ أغراض الخبر وأساليبه50.............................................. :
أوالً ـ األغراض وفق مقتضى الظاهر50.................................
أ ـ فائدة الخبر50................................................. :
ب ـ الزم الفائدة 51................................................
ثانيا ً ـ األغراض بخالف مقتضى الظاهر53............................ :
أـ إنزال خالي الذهن منزلة السائل المتر ّدد والشا ّك
وال ُم ْن ِكر 53....................................................
ب ـ إنزال غير المنكر منزلة المنكر55......................
ج ـ إنزال المنكر منزلة غير المنكر56......................
د ـ استعمال لفظ مكان لفظ بخالف مقتضى الظاهر57...
ثالثا ً ـ األغراض المجازية وأساليبها62................................... :
القسم الثاني :أَضْ رب الخبر ومؤكداته 79 ..............................................
-24المؤثرات الفارسية في شعر األعشى (أبحاث ندوة العالقات األدبية واللغوية العربية
اإليرانية) –مطبوعات اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1999م.
-15ابن رشيق وآراؤه النقدية (مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق –مج 2001 – 76م).
-16جمالية التصوف –مفهوماً ولغة –(الموقف األدبي بدمشق –عدد .)364
-17جمالية اللسان في اللغة والحياة –(مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق –مج – 77
2002م).
-18فكرة الزمان في الدراسات العربية (مجلة التراث العربي بدمشق –عدد – 86
.)87
-19الزمن في مداخل الشعر القديم –(مجلة المعرفة بدمشق –عدد .)470
-20أدب الخيال في رسالة الغفران للمعري (مجلة التراث العربي بدمشق –عدد .)90
*وهناك أبحاث كثيرة أخرى ،واستكتابات للموسوعات القطرية والعربية والمنظمة العربية
للثقافة ..وبرامج إذاعية وتلفزيونية...
***