You are on page 1of 225

‫جمالية الخبر وا ِإلنشاء‬

‫(دراسة بالغية جمالية نقدية)‬

‫‪-2-‬‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫التـحــاد الـكـتـّاب الــعـرب‬

‫‪unecriv@net.sy E-mail‬‬ ‫االلكتروني‪:‬‬ ‫البريد‬


‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة اإلنترنت‬
‫‪www.awu-dam.org‬‬

‫‪‬‬

‫‪-3-‬‬
‫د‪.‬حسين جمعة‬

‫جمالية الخبر وا ِإلنشاء‬


‫(دراسة بالغية جمالية نقدية)‬

‫‪-4-‬‬
‫منشورات اتحاد الكتاب العرب‬
‫دمشق ‪2005 -‬‬

‫‪-5-‬‬
-6-
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫قال تعالى‪:‬‬
‫وا فَ َسيَ َرى هّللا ُ َع َملَ ُك ْم َو َرسُولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون َو َستُ َر ُّد َ‬
‫ون‬ ‫‪َ ‬وقُ ِل ا ْع َملُ ْ‬
‫ون ‪‬‬ ‫إِلَى َعالِ ِم ْال َغ ْي ِ‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُكم ِب َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫صدق اهلل العظيم‬


‫(التوبة ‪)9/105‬‬

‫***‬

‫‪-7-‬‬
-8-
‫مقدمة‬

‫حين يغدو سكون النفس جماالً‪ ،‬وحركة العقل وهجاً يعانق إشراق الكلمات؛‬
‫وشوقاً راقياً إلى فنون العرب البديعة‪ 0....‬يتماهى الوعد في الفعل‪ ..‬فيتجلى عن‬
‫دراسة جمالية بالغية نقدية جديدة تتناول أساليب بالغية في إطار يجمع بين‬
‫األصالة والمعاصرة‪.‬‬
‫‪ ..‬وكانت دراستنا السابقة (في جمالية الكلمة) المنشورة من قبل‪ ،‬قد استقرت‬
‫عند مرافئ عديدة من شواطئ الجمال والصفاء؛ فارتاحت النفس لدى أطياف‬
‫فصاحة الكلمة وبالغتها؛ واستودعت فيها أنماط البيان والبهاء في الجملة الفعلية‬
‫واالسمية من جهة اإلسناد وأركانه ومواضعه ودالالته وأحواله في الحذف‬
‫ضلة‪...‬‬‫والذكر‪ ،‬والتعريف والتنكير في المسند والمسند إليه والفَ ْ‬
‫الح ْسن في‬
‫وللجمال أفنان وألوان أبدعتها ذاكرة األجداد ومخيلتهم‪ ...‬فلم يقف ُ‬
‫الكالم والحياة والفن عند ٍّ‬
‫حد معين‪ 0...‬وإ نما كانوا يبنون حياتهم وأدبهم ولغتهم‬
‫ونقدهم بناء جمالياً يمتد إلى آفاق إنسانية رحبة؛ ومثيرة‪ .‬فما خلَّفه األجداد لنا من‬
‫بالح ْسن في كل‬
‫أساليب فنية وبالغية إنما يدل على مدى عشقهم للجمال وولعهم ُ‬
‫شيء‪ 0...‬ولما كان الجمال روح األثر الفني لديهم فإنه غدا وجهاً من وجوه الوجود‬
‫الحي والفاعل‪ ...‬فالحسن الذي ترتاح إليه العين قبل النفس أصبح سمة مشخصة‬
‫في كل أسلوب من أساليب كالمهم؛ وكان لعلم المعاني منزلة كبرى في هذا المجال‬
‫الجمالي‪.‬‬
‫ومن هنا يظل التعلق بالجمال هاجسنا‪ ،‬ويظل إبداع البالغيين العرب في‬
‫همنا؛ وكذلك يبقى‬
‫قراءتهم لطرائق العرب رائدنا‪ ،‬ويظل التفاعل مع النقد الجديد ّ‬
‫االتصال بالدراسات األسلوبية المعاصرة أسلوباً يحث اآلخرين على النظر فيه‪.‬‬
‫ولما كان ذلك كذلك دفعتنا الرغبة من جديد إلى تلمس مواطن الجمال في‬
‫ّ‬

‫‪-9-‬‬
‫أساليب البالغة العربية وإ دراك عناصرها اللغوية البنيوية والفنية المتألقة‪،‬‬
‫والحاملة لقيم نبيلة رفيعة صافية صفاء نفوس أهلها‪ 0....‬دفعتنا الرغبة األدبية إلى‬
‫استجالء مالمح ذلك وبيان قيمتها في واحد من أهم أساليب علم المعاني؛ إنه‬
‫أسلوب (الخبر واإلنشاء)‪.‬‬
‫َخاذ؛ ويمتح من‬ ‫يجسم ظالل الجمال األ َّ‬
‫فأسلوب الخبر واإلنشاء ال يكتفي بأنه ّ‬
‫ِ‬
‫وخر ْيدته فقط وإ نما‬‫ود َّرته َ‬ ‫فضاء النور رونقه‪ ،‬ويأخذ من وسط ِ‬
‫الع ْقد جوهرته ُ‬
‫يحقق للفكر عطشه إلى المعرفة‪ ،‬وإ دراك أسرارها‪ ....‬ودراستنا ألسلوب الخبر‬
‫واإلنشاء لم يكن على اعتبار النسخ والتقليد أو التبعية واالستحضار لكل ما قاله‬
‫القدماء والمحدثون‪ 0...‬بل كان على وجه التحليل والدرس والفهم والموازنة‬
‫واالستقراء واالستنباط في إهاب ثوب جمالي شفاف نسج خيوطه الذهبية مع معين‬
‫المذاهب الجمالية والنقدية واللغوية الحديثة‪ ...‬في الوقت الذي بني على ماهية‬
‫األصالة الفاعلة‪.‬‬
‫إنها دراسة تستند إلى مفهوم الفعل الممتد المؤثر في جوهر األساليب الجمالية‬
‫لعلم المعاني ومعرفة أبعادها الحقيقية والمجازية والوقوف عند أسرارها العظيمة‬
‫ٍ‬
‫ونفوس‬ ‫التي ال تنتهي‪ 0....‬فكلما تأملها الدارسون بعيون مفتوحة‪ ،‬وقلوب ٍ‬
‫يقظة‪،‬‬
‫مر‬ ‫ٍ‬
‫شغوف بكل جديد أبانت لهم عن مخزون داللي ال ينفد وال ينقطع على ّ‬
‫األجيال‪ ...‬وبهذا الوعي يتقدم أسلوب الخبر واإلنشاء ليحتل المكانة األولى في‬
‫جمالية علم المعاني‪ ...‬ولهذا كان االنحياز إليه‪...‬‬
‫يوضح لنا أن البالغيين العرب‬
‫إن أسلوب الخبر واإلنشاء بكل إيحاءاته ّ‬
‫امتلكوا حساً جمالياً راقياً لمفهوم التشكيل والصيغ قارب ما عرفه الشكالنيون‬
‫المحدثون‪.‬‬
‫إنهم أدركوا أهمية الخطاب البالغي اللغوي في عناصره ومكوناته‪ ،‬وال سيما‬
‫حين اتجه نظرهم إلى المفهوم الجمالي المثير للدهشة واالنفعال واإلدراك‪0...‬‬
‫لعهم بالشكل الجمالي الذي يكثف‬ ‫فالتقوا مع الشكالنيين الجدد‪ ،‬وزادوا عليهم َو َ‬
‫الغ ْور‪ ،‬بمثل ما التقوا‬
‫رسائل عديدة من أهمها الرسالة الداللية المجازية البعيدة َ‬
‫بالنقاد أنصار الشكل‪ .‬ولعل البالغيين العرب قد سبقوا الغرب حين أكدوا أن‬
‫االتصال بالصور البالغية وأساليبها‪ ،‬ومعرفة دالئلها ال يتم في ضوء المفاهيم‬
‫البالغية فحسب؛ بل يرتقي إلى مستويات أخرى في التركيب‪ ،‬يقوم بعضها على‬
‫النحو كما هو عند عبد القاهر الجرجاني؛ وبعضها اآلخر‬ ‫توخي معاني ْ‬ ‫مستوى ِّ‬
‫على الدال والمدلول والمرجع كما هو عند أبي سليمان الخطابي في رسالته عن‬

‫‪- 10 -‬‬
‫إعجاز القرآن‪ 0...‬وهذا كله أسبق من مفاهيم األساليب الحديثة الغربية ومن‬
‫مفاهيمها اللسانية والجمالية‪.‬‬
‫وفي ضوء ذلك كان ال بد أن نستكمل الحديث ـ من جديد ـ عن جمالية الكلمة‬
‫البالغية ببحث آخر يتناول (جمالية الخبر واإلنشاء) مؤسسين لـه بمدخل يبين‬
‫مفهوم الجمال والجميل و الجليل‪ ،‬ويحدد ماهية الجمالية باعتبارها منهجاً تحليلياً‬
‫للدراسة‪ .‬ومن ثم قسمناه إلى بابين اثنين‪ :‬األول بعنوان (من تأصيل مفاهيم علم‬
‫المعاني إلى جمالية الخبر)؛ والثاني بعنوان (جمالية أسلوب اإلنشاء)‪.‬‬
‫أما الباب األول فقد قسمناه إلى فصلين؛ حمل الفصل األول عنوان (حدود‬
‫ومفاهيم) وأبرز نشأة الحديث عن أسلوب الخبر واإلنشاء وتأصيل مفاهيم (علم‬
‫المعاني)؛‪ 0‬ومن ثم توقف عند تطور مفهوم الخبر واإلنشاء‪ ،‬وإ نزال أحدهما مكان‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫أما الفصل الثاني فعنوانه (جمالية أسلوب الخبر)‪ .‬وتعلقنا فيه بمفهوم الخبر‪،‬‬
‫(و ْفق مقتضى الظاهر)؛ وهو ما عرف بفائدة الخبر؛ والزم‬ ‫وكشفنا عن أغراضه َ‬
‫الفائدة؛ و(بخالف مقتضى الظاهر)؛ وعرف بأربعة مقاصد‪:‬‬
‫ك؛ والشاك الم ِ‬
‫نكر‪.‬‬ ‫المتَ ِّ‬
‫ردد الشا ّ‬
‫ُ‬ ‫‪ :‬إنزال خالي الذهن منزلة السائل ُ‬ ‫األول‬
‫‪ :‬إنزال غير الم ِ‬
‫نكر منزلة المنكر‪.‬‬ ‫والثاني‬
‫ُ‬
‫‪ :‬إنزال المنكر منزلة غير المنكر‪.‬‬ ‫والثالث‬
‫‪ :‬استعمال لفظ مكان لفظ‪ .‬ولم يعرض البالغيون لهذا األسلوب من‬ ‫والرابع‬
‫قبل إال نادراً‪ ،‬علماً أننا استنبطناه واستخلصناه من الدراسات القرآنية‪،‬‬
‫وال سيما تلك التي دارت حول إعجاز القرآن‪ ،‬وأفدنا فيه الكثير من د‪.‬‬
‫فصلنا القول في األساليب البالغية المجازية‪ ،‬وزدنا‬
‫منير سلطان‪ .‬ثم ّ‬
‫عليها العديد من األساليب مما لم يذكره البالغيون سابقاً‪ 0...‬وكنا نبرز‬
‫في كل أسلوب ماهيته ووظيفته وخصائصه الجمالية‪.‬‬
‫َضرب الخبر الثالثة‪( :‬الضرب االبتدائي؛‬ ‫وختمنا هذا الفصل بالحديث عن أ ُ‬
‫لألضرب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والطلبي‪ ،‬واإلنكاري) وأخيراً جاءت مؤكدات الخبر تبعاً‬
‫واستحق الباب الثاني ـ وهو أكبر البابين ـ عنوان (جمالية أسلوب اإلنشاء‬
‫الطلبي)‪ 0.‬وولجنا إليه بحدود وأبعاد بينت مفهوم اإلنشاء‪ ،‬ثم تلمسنا أقسامه التي‬
‫تتعلق باإلنشاء الطلبي بالتفصيل‪ ،‬وأَجَّلنا الحديث عن اإلنشاء غير الطلبي إلى‬
‫دراسة أخرى (لألساليب البالغية الجمالية)‪ 0...‬فعظمة أقسام اإلنشاء الطلبي تحليالً‬

‫‪- 11 -‬‬
‫وموازنة وشرحاً مع بيان خصائصها اللغوية والجمالية استحوذت على هذه‬
‫الدراسة وملكت قلبها‪ 0...‬وجوارحها‪ .‬ولهذا قسمناها إلى خمسة فصول تبعاً ألقسام‬
‫الطلب؛ فكنا نتوقف عند األسلوب اإلنشائي الحقيقي لنطوف بعد ذلك في الحديقة‬
‫الغناء للمعاني المجازية‪ .‬فقد دلت هذه المعاني على أغراض عجيبة الشأن‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأثبتت ما كان عليه البالغيون من رهافة حس؛ وذوق بليغ بديع؛ وقدرة على‬
‫ولما كانت أساليب البالغة محمولة‬‫معرفة أساليب العرب وطرائقهم في التعبير‪ّ ...‬‬
‫من مخيلة الذهن الصانع‪ ،‬والحدس المتوقد زدنا على ما جاء من المعاني المجازية‬
‫معاني أخرى‪ ...‬ودرسناها كلها وفق منظور جمالي نقدي موازن ومثير‪ ..‬ابتداء‬
‫بأسلوب األمر فالنهي فاالستفهام والتمني وانتهاء بأسلوب النداء الذي تطاول حجماً‬
‫كتطاول صوت النداء في (يا وأيا)‪ ،‬واعتنى بطرائق وإ يحاءات كتنوع أدواته‬
‫وثراء دالالتها‪.‬‬
‫ضمت أبرز نتائج البحث؛ ولم تستطع أن‬
‫وأخيراً كانت الخاتمة التي َّ‬
‫بعد فهرس المصادر والمراجع‪،‬‬
‫تستوعبها كلها‪ ...‬ما جعلنا نوجز فيها؛ لنثبت من ُ‬
‫ثم فهرس الموضوعات‪.‬‬
‫ومرة أخرى أقول‪ :‬بين الحركة والسكون عالقة تفاعل وتجاذب؛ فإذا كان‬
‫تجسد‬
‫السكون يمثل لحظة االطمئنان واالرتياح والصفاء والتأمل فإن الحركة ّ‬
‫حقيقة الفعل والوجود‪ ،‬والتغيير‪ ،‬وتخترق االطمئنان المتغلغل في الذات والكون‬
‫لتُ ْحدث لحظة االندهاش واإلنتاج واإلبداع والتقدم واالرتقاء إلى مراتب الكمال‬
‫والجالل‪...‬‬
‫وكلَّما تماهى المرء في السكون والحركة قبض على مفهوم الجمال أوالً؛‬
‫ث التأثير ثانياً‪ .‬ولن يكون لـه ذلك إال إذا بسط‬
‫وب ّ‬
‫وفعل االستيعاب والفهم والتحليل َ‬
‫رداءه للمعرفة‪ ،‬وعقله للمنهج السديد العلمي والدقيق؛ ونفسه للتوق إلى كل‬
‫جديد‪ ...‬وحواسه اللتقاط عناصر الجمال البديعة‪.‬‬
‫من هنا كان بحثنا المستمر عن ُد َرر الآللئ البالغية في ِع ْقد نظمته أساليب‬
‫العربية‪ ...‬وتزينت به كتب أفذاذ الرجال‪ ،‬في إطار التناظر والتناسب والدقة؛‬
‫والجودة‪ .‬وحين أخذت هذه الفنون الجمانية بألباب المرء طفق يسعى وراءها في‬
‫كتب البالغة واللغة قديمها وحديثها؛ فيفيد منها موازنة ومناظرة‪ ،‬موافقة ومخالفة‪،‬‬
‫وال سيما دراسة أحمد مطلوب ومنير سلطان من المحدثين وكتب الجرجاني‬
‫والزمخشري والقزويني وابن أبي اإلصبع والسكاكي من القدماء‪ .‬ومن ثم تُستجلب‬
‫الشواهد مما حوته المظان البالغية ومما وقعنا عليه من دواوين الشعراء؛ عامدين‬

‫‪- 12 -‬‬
‫إلى تحليلها جمالياً واستنباط أحكامها‪.‬‬
‫إن الهدف الذي نتوخى بلوغه إنما هو تقديم درس بالغي جمالي نقدي من‬
‫نمط جديد ألساليب البالغة العربية يعتمد على الشرح والتحليل وإ دراك العناصر‬
‫الجمالية بكل أبعادها‪ ...‬مفيدين من فضاءات الدراسات القديمة كلها إعجازية أو‬
‫نقدية أو أدبية أو لغوية‪ ...‬ومن ثم فإننا نفتح أعيينا على إبداع اآلخر مما استجد‬
‫في الشرق والغرب‪ ،‬ألننا نعتقد بأنه المنهج المفيد لدراستنا‪ ....‬وحينما تمسكنا‬
‫بأصول أساليب البالغة لم نقع في مطب التباهي والتفاخر‪ 0...‬ولما امتد فكرنا إلى‬
‫صب بالدهشة واالستالب؛ ومن ثم التبعية‪ ...‬فقد أدركنا في الحالين‬ ‫كل حديث لم ُن َ‬
‫أن الثقافة موزعة بين خلق اهلل جميعاً‪ ،‬وأن العرب يملكون من أساليب الكالم‬
‫غيرهم‪ 0...‬وهو إرث فني مختزن في الذات والفكر‬ ‫الجميل والرشيق ما ال يملكه ْ‬
‫واللغة واألدب والبالغة‪ ...‬بل في الحياة كافة‪.‬‬
‫بقي علينا أن نوضح عدم تخريج الشواهد الشعرية؛ وهي متمكنة في‬
‫مواضعها البالغية‪ ،‬أي‪ :‬إنها مستمدة من كتب البالغة المذكورة في الحواشي أوالً‬
‫ولعل كثرتها دفعت بنا إلى عدم تخريجها من مظانها في الدواوين ثانياً علماً بأنها‬
‫شواهد موثقة من الشعر القديم والحديث‪.‬‬
‫وبعد؛ فإنني أخشى أن أكون قد قصَّرت في إدراك ما أرجوه؛ ويقع تقصيري‬
‫بين يدي قارئ ال يرى من الكأس إال قسمها الفارغ فتأخذه العزة باإلثم ثم يعمد إلى‬
‫التجريح والتشنيع‪ ...‬وقد نسي أن كل إنسان مركب على النقص‪ ....‬وربما يقع‬
‫بين يدي قارئ آخر جعل نفسه كشجرة زيتون معمرة؛ وظن أنه وحده من يملك‬
‫الحقيقة المطلقة‪ ،‬لهذا لم يرض بما خطه قلمنا؛ وثارت به نزعة االستبداد لما يراه‪.‬‬
‫ولعل هناك امرءاً يمتد به األمر إلى رفض كل ما أبدعه البالغيون العرب‬
‫القدامى‪ ...‬في ضوء ثقافة مستحدثة‪ ...‬أو في ضوء قراءة جزئية‪ 0...‬أو في ضوء‬
‫اعتداده بنفسه؛ فيشيح بوجهه عن هذا العمل‪ .‬لذلك كله؛ نبتهل إلى اهلل لكي تكون‬
‫دراستنا مفتاحاً للتحليل العلمي؛ مثيرة للعقل قبل العاطفة؛ وباعثة في النفس منهج‬
‫الحوار الفعَّال والمتكامل للوصول إلى ما فيه الكمال والخير لفعلنا الثقافي‬
‫والحضاري‪ 0...‬ومن ثم البالغي الجمالي والنقدي‪.‬‬
‫إننا نقدم هذه الدراسة وغيرها مما أزمعنا على النهوض به إلى كل قارئ آمن‬
‫ضوء انفتاح عقلي‬
‫بتراث هذه األمة؛ وأيقن بأنه وسيلة دفع أوتوجيه لحياتنا‪ ...‬في َ‬
‫وواع وموضوعي‪ 0‬على ثقافة اآلخر ليدرك ما كنا عليه وما نحن فيه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حر‬
‫علمي ّ‬
‫علي؛ وإ ن كنت قصَّرت فعسى‬ ‫فإن كنت وفقت؛ فهذا فضل من اهلل‪َّ ،‬‬
‫ومنة منه َّ‬

‫‪- 13 -‬‬
‫أن يكون هديك ـ عزيزي القارئ ـ موجهاً لي إلقالتي من عثرتي‪ ..‬مستشهداً بقوله‬
‫ِسط‪( ‬األعراف ‪.)7/29‬‬ ‫ٍ‬
‫ربي بالق ْ‬
‫َمر ّ‬
‫تعالى‪ :‬قل أ َ‬
‫و‪‬الحمد هلل وسالم على عباده الذين اصطفى‪َّ ‬‬
‫(النمل ‪)27/59‬؛ واهلل في‬
‫عون العبد ما دام العبد في عون أخيه؛ وهو ولي التوفيق‪.‬‬

‫دمشق ‪ -‬مساء االثنين‬


‫‪22/2/2004‬م‬

‫حسين جمعة‬
‫‪‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫مدخل‪:‬‬
‫مفهوم الجمال والجميل والجليل والجمالية‬

‫َّ‬
‫قدم لنا تراثنا العديد من الرؤى الجمالية في معالجة كثير من قضايا األدب‬
‫قسم منها‬ ‫َّ‬
‫والفن‪ ،‬واللغة والبالغة‪ ...‬فضالً عن قضايا الحياة والدين‪ 0...‬وربما مثل ٌ‬
‫تقارباً في الصيغ واألهداف والوظائف سواء تعلقت بمسألة الشكل الفني أم تعلقت‬
‫بالمضمون‪.‬‬
‫ُ‬
‫والظاهر لدينا من دراسات أجدادنا القدماء تجسيدها لمعايير جمالية محددة في‬
‫كل نمط إبداعي‪ ،‬وإ ن لم تصل إلى صفة الشمولية‪ ،‬أو إلى صفة الكمال‪.‬‬
‫وضوح أن مصطلح‬ ‫ومن يطلع ـ مثالً ـ على علم البالغة العربية يدرك بكل ُ‬
‫البالغة الذي جعله البالغيون العرب غالباً مماثالً للفَصاحة‪ ،‬وكالهما مالزم للبيان‬
‫إنما يحمالن مالمح الصفاء والنقاء والبهاء؛ والجودة واإلتقان‪ ،‬والوضوح والدقة‬
‫في الداللة واالختيار‪ ،‬وتنقية كل أسلوب من أي لفظ يشينه‪ ،‬تحسيناً وتزييناً‪ ،‬ليغدو‬
‫النص متالحم األجزاء‪ ،‬عذباً رقيق الحواشي‪ ،‬بعيداً عن التقيد والغموض والهشاشة‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫والضَّعف والتنافر‪ 0...‬إنه قطعة نسيج َحبرة دقيقة الصنع ناعمة الملمس‪ ،‬قوية‬
‫التأثير‪ ...‬مثيرة للعاطفة والفكر معاً‪)1(...‬‬
‫فأي باحث يتأمل في أساليب البالغة؛ يلحظ أن المتكلم ال يكتفي بأن يعرض‬
‫أسلوبه بشكل تقريري مباشر؛ وإ نما قد يرسله على سبيل المجاز‪ ،‬مستخدماً أساليب‬
‫مرافقة لـه كالترصيع؛ والتصريع؛ واإلشارة؛ والتلويح‪ ....‬ليزيد كالمه ألقاً‬
‫وإ شراقاً‪ 0...‬وهذا كله من عناصر الجمال‪...‬‬
‫ولما كنا قد شددنا على ذلك كله في كتابنا (في جمالية الكلمة) على اعتبار أن‬
‫كل مادة ترتقي إلى البالغة والفصاحة إنما هي شكل جمالي؛ وكذلك كل ما يتعلق‬
‫بأحوال اإلسناد والذكر والحذف‪ ،‬والتعريف والتنكير‪ 0...‬رأى آخرون أن الجمال‬

‫‪- 15 -‬‬
‫يتركب ـ فقط ـ من نظام األشياء أو الظواهر وفق مفاهيم أرسطو(‪ )2‬ومن ثم فإن‬
‫الجمال هو التعبير الجمالي الناجح عند كروتشه(‪.)3‬‬
‫وإ ذا كان هذا وحده ال يرضينا؛ وإ ذا كانت إشارتنا هذه شديدة اإليجاز؛ ألن‬
‫البحث ال يتجه إلى التفصيل في أمر مفاهيم الجمال فإننا نذهب إلى أن الجمال وقع‬
‫في اإلبداع البالغي كما وقع في غيره من أنماط إبداعية إنسانية وال سيما حين‬
‫َح َرصت أساليب البالغة على استخراج أسرار الجملة اللغوية والنحوية واألدبية‬
‫في وقت واحد لتصل بالكالم العربي إلى مرتبة البيان الناصع المؤثر الساحر الذي‬
‫يثير النفس والفكر إذا سمعه البلغاء؛ كما جرى مع سيد‬
‫المرسلين حين استمع إلى عمرو بن األهتم وأعجب بقوله فقال‪[ :‬إن من البيان‬
‫لسحراً](‪ ...)4‬ولعل هذا كله ما جعل ابن األثير يربط بين البيان والجمال؛ فيقول‪:‬‬
‫"شيئان النهاية لهما‪ :‬البيان والجمال"(‪.)5‬‬
‫فالبيان‪/‬الجمال في أساليب العربية أدباً وبالغة‪ ...‬غدا هدف الدراسات‬
‫الحديثة باعتبار األساليب اإلبداعية التعبيرية إنتاجاً إنسانياً جمالياً؛ وباعتبار أنها‬
‫تماثل الجمال الذي تلتقطه الحواس من الطبيعة واألشياء والظواهر‪ .‬فالجمال ـ كما‬
‫نعرف ـ يرتبط بالظواهر الطبيعية؛ وكذلك يتصل بكل إبداع إنساني‪ 0...‬من جهة‬
‫الشكل غالباً؛ بينما الجميل يحتاج إلى الحواس والشعور معاً‪ ...‬وهو يرتبط بالقيود‬
‫والقوانين على الرغم من أنه يبدو مستقالً عنها‪ ...‬فهو يراعيها ويتفق معها‪ ...‬أما‬
‫الجمال فإنه يظل مرهوناً بالتذوق الفردي ورهافة الحس ودقته وسالمته‪ ...‬ما‬
‫يجعله متحرراً من كل قيد إال ذلك‪ ...‬وتتمثل األشكال الجمالية في الفن المبدع‬
‫بظواهر أسلوبية عدة؛ فهي التناظر واإليقاع؛ والتوازن والتناغم و التوافق والتنوع‬
‫مع الوحدة والتناسب والتصوير‪ ،‬ونظام التأليف‪0....‬‬
‫وحينما يلح الجماليون على الشكل في مفهوم الجمال فإنما يرون أن الجميل‬
‫إنما هو تجلي الروح واألفكار في األشياء والظواهر‪ ...‬والجميل في الفن واألدب‬
‫والبالغة هو نهاية المطاف من جهة ما تعرف لـه المضامين‪ ،‬أما الجليل فهو يتطلع‬
‫إلى مقام رفيع سام يتجسد بالوجود اإللهي‪ 0،‬وكل مثل أعلى للجمال‪.‬‬
‫فالجليل يرتقي بمرتبة الجمال والجميل إلى حالة الكمال المطلق‪ ،‬إذ ال يوجد‬
‫شبيه لـه في األشياء والظواهر‪ ،‬وإ بداعات اإلنسان‪ 0...‬على الرغم من أن اإلنسان‬
‫قد يرتضي لنفسه نماذج إبداعية إنسانية قد تبلغ درجة عالية من الروعة‪ ،‬وربما‬
‫وصلت إلى مرتبة قريبة من الجليل‪ ،‬فيصفها بالكمال والجالل؛ على حين ظل‬

‫‪- 16 -‬‬
‫مفهوم الجليل مرتبطاً بالمعتقد الديني؛ إذ يقابل مفهوم الذات المقدسة‪ .‬فاهلل أسمى‬
‫من كل ما في الوجود؛ ألنه خالق الكون‪ ،‬وهو الخير المثالي‪ ،‬والمظهر المطلق‬
‫للكون واإلنسان والمصير؛ وإ ن لكل جمال جالالً ولكل جالل جماالً‪ ،‬وما بأيدي‬
‫الخلق يظهر لهم من جمال اهلل(‪.)6‬‬
‫فالجليل موضوع يتمثل بالموجود وجوداً موضوعياً مستقالً عن الكون‬
‫يجسد ال نهائية العالم ـ على حد قول عدد من‬‫واإلنسان؛ ما يجعله موضوعاً جمالياُ ّ‬
‫الفالسفة القدماء والمحدثين ـ وإ ن حاول اإلنسان أن يجعل بعض إبداعاته الممثِّلة‬
‫ٍ‬
‫ولطاقات فنية مدهشة َنمطاً من اإلبداع الجليل‪...‬‬ ‫ٍ‬
‫عجيبة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫روحية‬ ‫ٍ‬
‫لقدرات‬
‫أما الجمالية فلها شأن آخر؛ فنحن نتناولها ليس باعتبارها داللة على كل شيء‬
‫جميل؛ أو أنها ترادف معنى الجمال ‪/‬البيان‪ /‬البالغة في األدب والفن وأساليب‬
‫البالغة العربية؛ وكأنها لون من ألوان اإلبداع في الجمال‪ ،‬ولو مثّل حالة من‬
‫والموضوع‪ 0...‬وإ نما نتناولها باعتبارها منهجاً تحليلياً لدراسة‬
‫ُ‬ ‫التناغم بين الشكل‬
‫نقدية فنية أدبية بالغية‪ 0....‬يماثل المنهج الواقعي أو النفسي أو الرمزي أو‬
‫النص اإلبداعي كالدقة والجودة واإلتقان ونظام‬ ‫االجتماعي‪ ،‬منهجاً يعالج جمالية ّ‬
‫التركيب وتناسبه وإ يقاع ألفاظه وصوره‪0...‬‬
‫والمضمون؛‪0‬‬
‫ُ‬ ‫لهذا تتعلق الجمالية بالتجربة الجمالية(‪ )7‬ذاتها من جهة الشكل‬
‫وتماثل ما أطلق عليه بعض الباحثين (المنهج الجمالي) الذي يرتكز في أساسه‬
‫على نظرية (علم الجمال‪ :‬االستطيقا)؛ ويحكم بها الناقد أو البالغي على األشياء‬
‫سواء كانت طبيعية أم مصنوعة‪ ...‬أم كانت إبداعاً فنياً أو لغوياً أو أدبياً و‪...‬‬
‫بأحكام جمالية؛ كأن توصف بأنها جميلة أو فاتنة أو دميمة أو مثيرة للسخرية‪( 0...‬‬
‫‪ ،)8‬علماً بأن اإلبداع في النقد األدبي يتركز بأربعة أشياء (العاطفة والفكرة‬
‫واألسلوب والخيال)(‪ )9‬فالخيال صانع للصور الجمالية التي تلبي جملة من‬
‫األهداف والوظائف‪.‬‬
‫فا‪0‬ل‪0‬ج‪0‬م‪0‬ا‪0‬ل‪0‬ي‪0‬ة‪ 0‬ه‪0‬ي‪ 0‬در‪0‬ا‪0‬س‪0‬ة‪ 0‬ج‪0‬م‪0‬ل‪0‬ة‪ 0‬م‪0‬ن‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬م‪0‬س‪0‬ائ‪0‬ل‪ 0‬م‪0‬ج‪0‬ت‪0‬م‪0‬ع‪0‬ة‪ 0‬أ‪0‬و‪ 0‬م‪0‬ن‪0‬فر‪0‬د‪0‬ة‪0‬؛‪ 0‬م‪0‬ث‪0‬ل‪ 0:0‬م‪0‬ا‪0‬‬
‫ص‪ 0‬م‪0‬ا‪ 0،0‬م‪0‬ه‪0‬م‪0‬ا‪ 0‬ك‪0‬ا‪0‬ن‪ 0‬حج‪0‬م‪0‬ه‪ 0‬و‪0‬ج‪0‬ن‪0‬سه‪0‬؟‪ 0‬م‪0‬ا‪ 0‬ع‪0‬ال‪0‬ق‪0‬ة‪0‬‬ ‫ا‪0‬ل‪0‬ج‪0‬م‪0‬ا‪0‬ل‪0‬؟‪ 0‬م‪0‬ا‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬غ‪0‬ا‪0‬ي‪0‬ة‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬ت‪0‬ي‪ 0‬ي‪0‬ق‪0‬و‪0‬م‪ 0‬ع‪0‬ل‪0‬ي‪0‬ه‪0‬ا‪ 0‬ن ّ‪0‬‬
‫ا‪0‬ل‪0‬ش‪0‬ك‪0‬ل‪ 0‬با‪0‬ل‪0‬م‪0‬ض‪ُ 0‬م‪0‬و‪0‬ن‪ 0‬ف‪0‬ي‪ 0‬أ‪0‬ي‪ 0‬ن‪0‬م‪0‬ط‪ 0‬إ‪0‬ب‪0‬د‪0‬ا‪0‬ع‪0‬ي‪0‬؟‪ 0‬م‪0‬ا‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬ع‪0‬نا‪0‬ص‪0‬ر‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬ت‪0‬ي‪ 0‬ت‪0‬شت‪0‬ر‪0‬ك‪ 0‬ف‪0‬ي‪ 0‬ص‪0‬ي‪0‬ا‪0‬غ‪0‬ة‪0‬‬
‫ص‪ 0‬م‪0‬ا‪ 0،0‬و‪0‬ت‪0‬ك‪0‬و‪0‬ن‪ 0‬م‪0‬ال‪0‬م‪0‬ح‪0‬ه‪ 0‬و‪0‬و‪0‬ظي‪0‬ف‪0‬ت‪0‬ه‪0.0.0‬؟‪ ‍0‬إن‪0‬ه‪0‬ا‪ 0‬أ‪0‬س‪0‬ئ‪0‬ل‪0‬ة‪ 0‬ك‪0‬ث‪0‬ي‪0‬رة‪ 0،0‬ي‪0‬س‪0‬ع‪0‬ى‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬م‪0‬ن‪0‬ه‪0‬ج‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬ج‪0‬م‪0‬ا‪0‬ل‪0‬ي‪0‬‬ ‫ن‪0ّ 0‬‬
‫(‪0‬ا‪0‬ل‪0‬ج‪0‬م‪0‬ا‪0‬ل‪0‬ي‪0‬ة‪ 0)0‬ل‪0‬إل‪0‬ج‪0‬ا‪0‬ب‪0‬ة‪ 0‬ع‪0‬ل‪0‬ي‪0‬ه‪0‬ا‪ 0)100(0،0‬ب‪0‬ر‪0‬و‪0‬ح‪ 0‬م‪0‬و‪0‬ض‪0‬و‪0‬ع‪0‬ي‪0‬ة‪ 0‬ب‪0‬ع‪0‬يد‪0‬ة‪ 0‬ع‪0‬ن‪ 0‬ا‪0‬ل‪0‬ع‪0‬و‪0‬ا‪0‬طف‪ 0‬و‪0‬ا‪0‬أل‪0‬ف‪0‬ك‪0‬ا‪0‬ر‪0‬‬
‫ا‪0‬ل‪0‬م‪0‬س‪0‬ب‪0‬ق‪0‬ة‪0.0‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫بهذا كله نحن نقف مع العديد من الباحثين الذين توسعوا في مفهوم الجمالية؛ ـ‬
‫النص ووظيفته‬ ‫لمضمون ّ‬‫ُ‬ ‫وإ ن كان أكثر منظريها ال يقيمون اعتباراً وال وزناً‬
‫وغايته ـ أياً كان نوعه تاريخياً أم اجتماعياً؛ نفسياً أم فنياً‪ ،‬خلقياً أم دينياً؛ لغوياً أو‬
‫بالغياً؛ موسيقاً أم أدبياً‪.)110(...‬‬
‫وحينما نعالج أي أسلوب بالغي فإننا نقف عند بنيته كاملة من جهة الشكل‬
‫والمضمون؛‪ 0‬في داللته الحقيقية والمجازية الموحية بالظالل المعنوية الكثيرة‪ ،‬وال‬
‫نهمل قيمته الخلقية‪...‬‬
‫إننا ـ ونحن نسعى إلى ذلك ـ ال تمنعنا آراء العديد من الذين رفضوا الوظيفة‬
‫والغاية الخلقية النبيلة في اإلبداع من أصحاب النظرية الجمالية؛ فذهبوا إلى أن‬
‫البحث في األدب أو الفن أو أي إبداع آخر عن الوظيفة والغاية السامية إنما هو‬
‫أمر مضحك؛‪ ...‬فاألخالق والقيم والصدق في القول والفكر والحياة ال يبحث عنه‬
‫إال األنبياء والمصلحون‪ 0.....‬ومن هنا رأى بعض الباحثين الجماليين أن األخالق‬
‫ليست من معايير الجمال فلم يحكموا على األعمال الخيرة بالجمال؛ والشريرة‬
‫بالقبح‪ ،‬وإ نما نظروا إلى العناصر الجمالية باعتبار نظامها(‪.)12‬‬
‫ولعلنا في ذلك نستند إلى معنى المصطلح في األصل الالتيني‬
‫(‪ ،)Aisthesis‬وهو التطلع إلى موضوعات طريفة وإ دراكها‪ .‬فالجمالية مصدر‬
‫صناعي يقابل الجمالي؛ وهذا المصطلح يعادل مصطلح (استطيقا ‪)Aesthetica‬‬
‫وهو ترجمة لكلمة (‪ )Aesthetikos‬اليونانية األصل استطيقي‬
‫(‪ .)Aisthētikos‬وقد صاغه للمرة األولى الفيلسوف األلماني بومجارتن عام‬
‫(‪1735‬م)(‪.)13‬‬
‫ولهذا فهو من جهة اللفظ االصطالحي يرادف عند بعض الباحثين مفهوم‬
‫(الشكلي أو الفني) باعتباره ْبنَيةً(‪)14‬؛ على حين أصبحت نظرية النقاء الفني‬
‫الجمالي عند تيار آخر(‪ )15‬تتمثل في تلك البنية الشكلية لمصطلح‬
‫الجمالي‪/‬الجمالية‪.‬‬
‫وأياً ما تشعبت اآلراء في مفهوم الجمالية؛ فإنه يعد منهجاً تحليلياً نقدياً لدراسة‬
‫البنية اللغوية واألسلوبية وما تؤسسه من دالئل ووظائف وأهداف‪ ...‬ألن النص‬
‫صل‬
‫والمضمون؛ وال فَ ْ‬
‫ُ‬ ‫اإلبداعي أياً كان جنسه يؤكد خصائصه باتجاهين‪ :‬الشكل‬
‫للنص صورته اإليجابية الفعًّالة‪ ،‬ومن ثم يجسد حقيقته الجمال‬ ‫بينهما‪ ...‬مما يحقق ّ‬
‫بكل خصائصها الداللية‪ ...‬ألن للكالم جسداً وروحاً‪ ،‬وكذا لكل جسم جوهر‬

‫‪- 18 -‬‬
‫وحقيقة‪...‬‬
‫وأي أسلوب بالغي ـ مهما قيل فيه قديماً وحديثاً ـ إنما هو بنية لغوية داللية‬
‫مباشرة وغير مباشرة يحمل وظائف اإلثارة واإلمتاع في الوقت الذي يحمل وظيفة‬
‫التوصيل واإلبالغ واإلفادة بنقل األفكار‪ ...‬ولهذا فوظيفة األسلوب البالغي ذات‬
‫وجوه متعددة؛ بعكس األسلوب العادي بين الناس؛ ومن ثم تتجاوز األسلوب األدبي‬
‫في الشعر والنثر؛ وإ ن اقترب في وظيفته مع األسلوب البالغي من بعض الوجوه‪.‬‬
‫فاألسلوب البالغي بوصفه ظاهرة بالغية تجمع بين عناصر األدب والفن‬
‫واللغة والحياة في بنية فنية مثيرة للعاطفة والوجدان والعقل‪ ....‬باعتبار ما تكتنزه‬
‫من أسرار موحية في الشكل والمضمون‪ ...‬وما على القارئ المرهف المثقف‬
‫الذي حاز الشروط الذاتية؛ ثم الموضوعية(‪ )16‬إال أن يدرك مكونات كل أسلوب‬
‫ويستوعبه ليفهم إشاراته القريبة والبعيدة‪ ،‬دون أن يقع في مطب األحكام الذاتية‬
‫واالنطباعية‪ ،‬والمسبقة والجاهزة‪ ...‬فاإلحساس بالجمال استجابة روحية‬
‫وموضوعية لعناصر الجمال في األشياء والظواهر و‪...‬‬
‫وإ ذا كانت األحكام البالغية الجمالية قد تباينت بين متل ٍ‬
‫ق وآخر قديماً وحديثاً‬
‫لهذا األسلوب أو ذاك فإننا حاولنا استكناه كل ما قيل فيه‪ ،‬والتعمق في فهم الظاهرة‬
‫البالغية القرآنية للوصول إلى تجربة جمالية جديدة في أسلوب الخبر واإلنشاء‪.‬‬
‫وهو ما سعينا إليه من قبل في دراسة توقفت عند عدد من جماليات الكلمة البالغية(‬
‫‪.)17‬‬
‫ومن هنا يمكننا أن نقول‪ :‬إننا نسعى إلى تجاوز الرؤية الجمالية الجزئية التي‬
‫استند إليها البالغيون العرب القدامى؛ لنبلغ مرتبة الشمول وفق مبدأ التنظير‬
‫نص أدبي أو‬
‫والتطبيق للرؤية الجمالية لدراسة األسلوب البالغي؛‪ 0‬وإ ن اجتزئ من ّ‬
‫لغوي أكبر‪ .‬وهو األسلوب الذي أسسه لنا البالغي الفذ عبد القاهر الجرجاني في‬
‫نظرية (النظم) وفي مصطلح (الهيئة) الذي يبنى على الصورة والداللة‪ ...‬وكذلك‬
‫نصي متكامل‪ ،‬وال‬‫فعل عدد آخر غيره في النظر إلى األسلوب البالغي في سياق ّ‬
‫النص القرآني كالباقالني‬
‫سيما ما وجدناه عند البالغيين الذين تناولوا ّ‬
‫والزمخشري‪0...‬‬
‫ونحن ال نرتاب لحظة واحدة في أن البالغيين العرب القدامى قد توقفوا عند‬
‫شكل الجملة اللغوية؛ ولكنهم لم يروا هذا الشكل محايداً بذاته‪ .‬فقد ارتفع مفهوم‬
‫التذوق الفني البالغي لديهم حينما انتهوا إلى أن أي شكل بالغي يحمل في طبيعته‬

‫‪- 19 -‬‬
‫الجمالية وعي اإلنسان لما يحيط به بطريقة إرادية أو ال إرادية‪ .‬وبهذا ارتقوا عن‬
‫مفهوم الجمال الطبيعي المجسد في ماهية األسلوب اللغوي‪ .‬فاللغة والصورة‬
‫والخيال واإليقاع أدوات يتجسد فيها مضمون ما؛ ينطوي على وظائف متنوعة‬
‫وأهداف كثيرة؛ مما يحقق للشكل البالغي الجمالي فلسفة تفسير الوجود والكون‬
‫والمصير‪.‬‬
‫ولهذا كله فإن البالغيين والنقاد القدامى قد أغنوا األساليب البالغية بنظراتهم‬
‫الجمالية والفلسفية‪ ،‬وال سيما ما يتعلق بالبالغة القرآنية‪ .‬ولما اختلفت تفسيراتهم‬
‫لمعنى الشكل البالغي ـ أحياناً ـ فإنهم أمدونا بتنوع ال نظير لـه من الفكر والفن في‬
‫كل أسلوب من تلك األساليب‪ .‬فالوجدان الجمالي الحقيقي في كل أطيافه انبثق من‬
‫الشكل ـ دون ريب ـ ولكن عناصره لم تتقيد عندهم بزمان ما؛ أو مكان ما؛ أو سبب‬
‫ما‪ 0...‬فالتذوق الذي مارسوه على الشكل انخرط في صميم التجربة اإلبداعية؛‬
‫فاستمدوا منه العديد من الرؤى الفكرية والفنية التي ال يستطيع عامة الناس أن‬
‫يستنبطوها‪ .‬وكانوا كلما انغمسوا في األسلوب البالغي انغماس الصوفي الناسك‪،‬‬
‫واستغرقوا في عالمه الخاص كانوا يستخرجون لنا ضروباً من الجمال الموحية‬
‫بالصفاء والنقاء والبهاء‪ 0...‬ومن ثم أكدوا أن الصورة اللغوية البالغية ليست‬
‫مجردة؛ بل هي صورة تعيش في عالم الحياة؛ وتستجيب على الدوام لكل انفعال‬
‫ولكل فكر‪ .‬فظلت أعمالهم خالدة حية في وجداننا ووجدان الدارسين الغربيين‬
‫المنصفين الذين اعترفوا لهم بالفضل والريادة‪.‬‬
‫ولعل هذا كله ما نتمثله في جمالية الخبر واإلنشاء في حدودهما ومفهومهما‬
‫وآلياتهما وداللتهما الحقيقية والمجازية‪.‬‬

‫***‬

‫حواشي المدخل‬
‫( ‪ )1‬راجع كتابنا‪ :‬في جمالية الكلمة ‪ 21‬ـ ‪ 50‬وانظر كشاف اصطالحات الفنون ‪ 1/187‬ـ‬
‫‪ 189‬ومداخل إلى علم الجمال األدبي ‪.58‬‬
‫( ‪ )2‬انظر األسس الجمالية في النقد العربي ‪ 43‬ومداخل إلى علم الجمال األدبي ‪ 12‬ـ ‪.16‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫( ‪ )3‬انظر علم الجمال ‪ 14‬وانظر األسس الجمالية في النقد العربي ‪ 53‬وفلسفة الجمال في‬
‫الفكر المعاصر ‪ 17‬ـ ‪ 21‬ومعنى الجمال ‪.73‬‬
‫( ‪ )4‬الجامع الصغير من حديث البشير النذير ‪( 1/231‬حديث رقم ‪.)2456‬‬
‫( ‪ )5‬المثل السائر ‪ 1/40‬وانظر فيه ‪ 33‬ـ ‪.38‬‬
‫( ‪ )6‬انظر كشاف اصطالحات الفنون ‪ 1/330‬ـ ‪ 332‬ورسائل ابن عربي ‪ 25‬ـ ‪.43‬‬
‫( ‪ )7‬انظر النقد الفني ـ دراسة جمالية وفلسفية ـ ‪ 3‬وعلم الجمال األدبي ‪ 23‬ـ ‪ 24‬و ‪ 26‬ـ ‪.28‬‬
‫( ‪ )8‬انظر مقدمة في النقد األدبي ‪( 48‬محمد حسن عبد اهلل) دار البحوث العلمية ـ الكويت ـ‬
‫‪1975‬م‪.‬‬
‫( ‪ )9‬انظر النقد األدبي ـ أحمد أمين ـ ‪ 22‬ومداخل إلى علم الجمال ‪ 38‬ـ ‪ 39‬و ‪ 92‬ـ ‪.93‬‬
‫( ‪ )10‬انظر موسوعة المصطلح النقدي (الجمالية) ‪ 273‬ومداخل إلى علم الجمال األدبي ‪ 14‬ـ‬
‫‪ 18‬و ‪ 100‬ـ ‪.128‬‬
‫( ‪ )11‬انظر النقد الفني ـ دراسة جمالية وفلسفية ـ ‪ 31‬وموسوعة المصطلح النقدي ‪ 307‬و ‪314‬‬
‫و ‪ 362‬واألسس الجمالية في النقد العربي ‪.371‬‬
‫( ‪ )12‬انظر األسس الجمالية في النقد العربي ‪ 86‬و ‪ 371‬و ‪ 378‬ومداخل إلى علم الجمال‬
‫األدبي ‪ 40‬ـ ‪ 54‬و ‪ 91‬ومعنى الجمال ‪ 93‬ـ ‪ . 105‬وسينهض كتابنا القادم التقابل‬
‫الجمالي في النص القرآني بذلك كله‪ -‬طبعة دار النمير‪ -‬دمشق‪.2005 -‬‬
‫( ‪ )13‬انظر معنى الجمال ‪ 9‬و ‪( 39‬الهامش)‪.‬‬
‫( ‪ )14‬انظر مقدمة في النقد األدبي ‪( 434‬علي جواد الطاهر) المؤسسة العربية للدراسات‪ 0‬ـ‬
‫بيروت ـ ‪1979‬م‪.‬‬
‫( ‪ )15‬انظر النقد الفني ـ دراسة جمالية وفلسفية ـ ‪ 29‬و ‪ 202‬وفلسفة الجمال في الفكر المعاصر‬
‫‪ 52‬ـ ‪.67‬‬
‫( ‪ )16‬انظر كيفية قراءة النص األدبي ‪ 269‬ـ ‪ 322‬ومداخل إلى علم الجمال األدبي ‪ 22‬ـ ‪25‬‬
‫و ‪ 29‬ـ ‪.39‬‬
‫( ‪ )17‬انظر (في جمالية الكلمة) فصول (مفهوم الكلمة وجمالياتها في الفَصاحة والبالغة؛‬
‫ومفهوم الجملة وجمالياتها من جهة البنية واألركان وأحوال اإلسناد في الذكر والحذف؛‬
‫وجمالية التعريف والتنكير)‪ ....‬فالجمال مقترن بالبالغة والفصاحة والبيان‪ ...‬بمثل ما هو‬
‫مقترن بالجودة واإلتقان والدقة‪ ،‬وإ نزال األلفاظ في مواضعها من نظامها الدقيق‬
‫المؤتلف‪ ...‬فالجمال هو نظام التوافق والتوازن والتناظر‪ ...‬والبهاء هو الرونق في‬
‫الديباجة‪ ،‬والتناسب فيها‪...‬‬
‫ومن ثم فمن يتأمل مسائل الجمال في البالغة العربية عامة وفي أسلوبي الخبر واإلنشاء‬
‫خاصة يدرك مدى االنسجام المطلق القائم على خطوط متوازية ومتنوعة في إطار الوحدة‬
‫والتنوع والمحل سواء ربط األسلوبان بأثرهما في النفس أم في الفضيلة التي دعا إليها‬
‫أفالطون للوصول إلى مبدأ اللذة واإلمتاع مع الفائدة‪ ...‬وبهما يتحقق مفهوم (الجميل)‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫ولعل مجرد إثارة مثل هذه القضايا تعد سبيالً إلى الحوار الواعي لحل مشكلة مفهوم الجمال‬
‫ومنهجه المتصلين بأساليب البالغة العربية‪ ...‬التي صاحبت التفكير الجمالي عند العرب؛‬
‫وإ ن لم يخصوه بالدرس المنفصل‪ ....‬وهذا ال يعني أننا نتوقف عند مجرد المحاكاة‬
‫الجمالية للفكر الجمالي الغربي‪ ،‬بل نؤسس طريقة جديدة في دراسة البالغة العربية دراسة‬
‫جمالية تتحدث عن عالقة الجمال بالفن وفي طليعته فن البالغة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫الباب األَول‪:‬‬
‫من تأصيل مفاهيم علم المعاني‬
‫إلى جمالية الخبر‬

‫الفصل األول‪ :‬حدود ومفاهيم‬


‫القسم األول ـ النشأة والتأصيل‪.‬‬
‫القسم الثاني ـ تطور مفهوم الخبر واإلنشاء‪.‬‬
‫القسم الثالث ـ إنزال أحدهما مكان اآلخر‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬جمالية أسلوب الخبر‬


‫القسم األول – مفهوم الخبر وأغراضه وأساليبه‬
‫َضرب الخبر ومؤكداته‪.‬‬
‫القسم الثاني – أ ْ‬

‫‪- 23 -‬‬
- 24 -
‫الفصل األول‪ :‬حدود ومفاهيم‬

‫القسم األول‪ :‬النشأة والتأصيل‪:‬‬


‫كان للدراسات البالغية واألدبية أثر عظيم في توضيح مسألة إعجاز القرآن‬
‫عامة ومسألة التأليف وتوخي معاني النحو في النظم خاصة‪ .....‬وكان الجاحظ‬
‫(ت ‪ 255‬هـ) قد آمن بأن نظم القرآن معجز كما في قوله‪" :‬وفي كتابنا المنزل‬
‫الذي يدل على أنه صدق‪ ،‬نظمه البديع الذي ال يقدر على مثله العباد مع ما سوى‬
‫ذلك من الدالئل التي جاء بها من جاء به"(‪.)1‬‬
‫وجاء باحثون بعده فتناولوا فكرة (إعجاز القرآن ونظمه وتأليفه) كأبي عبد‬
‫اهلل محمد بن يزيد الواسطي (ت ‪ 306‬هـ) وأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم‬
‫الخطابي (ت ‪ 388‬هـ) الذي رأى أن القرآن عمود البالغة "التي تجمع لها هذه‬
‫الر َّماني (ت ‪386‬هـ) فقد جعل‬
‫الصفات‪ .)20("....‬أما أبو الحسن علي بن عيسى ُّ‬
‫القرآن أعلى مرتبة في حسن البيان وتعديل النظم(‪ )3‬بينما ذهب أبو بكر محمد بن‬
‫الطيب الباقالني (ت ‪403‬هـ) إلى أن القرآن معجز بالنظم؛ ألنه خارج عن جميع‬
‫وجوه النظم المعتاد في كالم العرب(‪.)4‬‬
‫ثم كان كالم القاضي عبد الجبار األسد آبادي (ت ‪ 415‬هـ) أكثر بياناً عن‬
‫وضم كلماته بعضها إلى بعض وقارنها‬ ‫ّ‬ ‫وجوه الفصاحة و البالغة في التأليف؛‬
‫والمواضعات اإلعرابية ومواقعها من جهة‬
‫َ‬ ‫مخصوصة تبعاً للصفات‬ ‫بطريقة ُ‬
‫النحو(‪ .)5‬ثم ذهب مذهب الجاحظ في تفاضل البالغة بين الناس بالتأليف ال‬
‫بالمعاني(‪.)6‬‬
‫وتسلم عبد القاهر الجرجاني (ت ‪ 471‬هـ) مسألة إعجاز القرآن ونظمه؛‬
‫فأطال الكالم فيها‪ ،‬وانتهى إلى أن التأليف أو النظم هو توخي معاني النحو(‪.)7‬‬
‫وهذه تشتمل على الخبر وأركان الجملة (المسند والمسند إليه وأحوالهما) وعلى‬

‫‪- 25 -‬‬
‫بعد (علم المعاني)‬
‫أبواب أخرى كلها كانت من الموضوعات التي أطلق عليها فيما ُ‬
‫على الرغم من أن مصطلح (المعاني)‪ 0‬كان شائعاً في غير ذلك‪.‬‬
‫الع ْبرة ليست في معرفة قواعد النحو وحدها؛ بل فيما تقوم‬ ‫وأكد الجرجاني أن ِ‬
‫معان وأغراض وأصول‪ 0....‬فالمزية ال تكمن في اللغة ومعرفتها ولكن‬ ‫عليه من ٍ‬
‫المزية ما يؤدى بها من مواضعات؛ فليس النظم إال معاني النحو‪ ،‬وليس معاني‬
‫النحو إال علم المعاني‪ ...‬وهذا كله قدم للدراسات البالغية عامة ولعلم المعاني‬
‫خاصة فوائد عظيمة‪ .‬فمسألة اإلعجاز القرآني صاحبة الفضل على (علم المعاني)‬
‫في نضجه‪ ،‬وجعله أبرز أساليب الجملة الجمالية‪ 0....‬ولكي نتوصل إلى ذلك ال بد‬
‫من تعريف لـه وإ يضاح ما انتهى إليه عند البالغيين العرب أمثال الس َّ‬
‫َّكاكي (ت‬
‫‪ 626‬هـ)‪ ،‬والقزويني (ت ‪ 739‬هـ)‪ ،‬وسعد الدين التفتازاني (ت ‪ 792‬هـ)(‪.)8‬‬
‫ولعل الزمخشري (ت ‪ 538‬هـ) أول من أشار إلى علم المعاني وعلم البيان‬
‫في تفسيره المعروف (بالكشاف) حيث قال‪" :‬وال يغوص على شيء من تلك‬
‫الحقائق إال رجل قد بلغ في علمين مختصين بالقرآن؛‪ 0‬وهما‪ :‬علم المعاني وعلم‬
‫البيان"(‪.)9‬‬
‫ولم يوضح الزمخشري المراد من علم المعاني أو علم البيان وإ ن طفق‬
‫ٍ‬
‫بمعان‬ ‫يوضح ما في القرآن من لطائف بالغية بديعة تؤثر في النفوس وتحيط‬
‫سامية‪ ،‬بينما يرى الدكتور شوقي ضيف أن الزمخشري أول من ميز بين‬
‫المصطلحين وقَسَّم البالغة إلى ٍ‬
‫معان وبيان‪.‬‬
‫فالزمخشري ينظر بعين عبد القاهر الجرجاني في مفهومه لموضوعات علم‬
‫صل والوصل واإليجاز‬‫المعاني كالخبر واإلنشاء واإلسناد؛ والقصر والفَ ْ‬
‫واإلطناب؛ والحذف والذكر؛ والتقديم والتأخير‪ ،‬وهو يمارس تفسيره آليات القرآن‬
‫دون أن تجتمع في نسق واحد‪.‬‬
‫وكذلك فعل فخر الدين الرازي (ت ‪ 606‬هـ) الذي استعمل مصطلح‬
‫(علم المعاني) ومصطلح (علم البيان) ولم يحدد داللتهما‪ ،‬كما فعل سلفه‬
‫الزمخشري(‪.)10‬‬
‫َّكاكي بعد أن استعمل‬‫وأخذ مصطلح (علم المعاني) وغيره يتضح على يد الس َّ‬
‫عبارات عديدة تدل عليه مثل (صناعة علم المعاني ـ علماء علم المعاني ـ أئمة علم‬
‫المعاني ـ)(‪.)11‬‬
‫فهو أول من قسَّم البالغة إلى (علم للمعاني‪ ،‬وعلم للبيان؛ ومحسنات لفظية‬

‫‪- 26 -‬‬
‫ومعنوية)‪ .‬ولعل الموضوعات التي وردت عند عبد القاهر الجرجاني في كتابه‬
‫(دالئل اإلعجاز) هي التي تشكل (علم المعاني) عند السكاكي‪ ،‬بينما موضوعات‬
‫الجرجاني في كتابه (أسرار البالغة) ـ من تشبيه ومجاز وكناية واستعارة؛ وكل ما‬
‫يبحث في الصورة الخيال ـ تشكل (علم البيان) عند السكاكي‪ ،‬على حين أن المحسنات‬
‫صار اسمها (البديع) عند بدر الدين بن مالك (ت ‪ 686‬هـ)( ‪.)12‬‬
‫ولسنا اآلن بصدد نقد السكاكي (ما لـه وما عليه) ولكننا بصدد تقسيمه للبالغة‬
‫التي ثبتت على رأيه بعده ـ غالباً ـ‪ 0...‬وراعت تقسيماته لعلم المعاني ما يتعلق‬
‫بالخبر وما يتعلق باإلسناد في الجملة وأحوال المسند والمسند إليه‪...‬‬
‫ولم نجد خروجاً كبيراً عند من جاء بعده في الحديث عن (علم المعاني)‬
‫فالقزويني ـ مثالً ـ (ت ‪ 739‬هـ) يرفض تعريف السكاكي لعلم المعاني؛ وهو "تتبع‬
‫خواص تراكيب الكالم في اإلفادة وما يتصل بها من االستحسان وغيره ليحترز‬
‫بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكالم على ما يقتضي الحال ذكره"(‪)13‬‬
‫ويثبت لـه تعريفاً آخر وهو الذي شاع في كتب البالغة العربية‪ :‬إنه "علم يعرف به‬
‫أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال"‬
‫(‪ )14‬ويساق وفق الغرض الذي ُرمي إليه‪ .‬وقد وفّق في هذا التعريف أكثر من‬
‫السكاكي‪ ،‬وال شك في أنه أفاد منه؛ وقد تبين أن صورة الكالم تختلف الختالف‬
‫األحوال؛ وليس كما ذهب إليه السكاكي من (تتبع خواص التركيب‪ )...‬ألن التتبع‬
‫ليس بعلم وال يصدق عليه تعريفه‪.‬‬
‫وحصر القزويني علم المعاني في ثمانية أبواب "أحوال اإلسناد الخبري؛‬
‫أحوال المسند إليه؛ أحوال المسند‪ ،‬أحوال متعلقات الفعل‪ ،‬القصر؛ اإلنشاء؛ الفصل‬
‫والوصل‪ ،‬واإليجاز واإلطناب"‪.‬‬
‫ولم يخرج القزويني ثم سعد الدين التفتازاني وآخرون عن منهج السكاكي‬
‫كثيراً كما نجده في كتابه (عروس األفراح)(‪ .)15‬فقد تأصلت علوم البالغة على‬
‫قواعد محددة؛ وكذلك استقرت أبواب (علم المعاني) في الدراسات البالغية على‬
‫وجه معين تعتمد االستقالل في كل باب منها ليالئم الدراسات البالغية‬
‫فعادت إلى ما أسسه عبد القاهر الجرجاني على نحو ما‪ 0...‬في‬ ‫واألدبية‪َ .....‬‬
‫التمييز بين كل نمط من أنماطها؛ لكنها اتخذت لديهم غالباً جانب التقعيد الجاف؛‬
‫على عكس الجرجاني الذي ُعني بالجانب البالغي الجمالي المستند إلى النقد‬
‫التذوقي واللغوي‪ ،‬على األغلب(‪ .)16‬وهو نقد يستظهر المبادئ الجمالية المعروفة‬
‫لدينا كاالتساق والدقة في االختيار والجودة في التأليف وارتباط التركيب عامة‬

‫‪- 27 -‬‬
‫بالمضمون في وحدة فنية متكاملة‪ .‬فالصورة اللغوية لديه كالجسم أو اآللة التي‬
‫تنتظم في وظيفة محددة‪.‬‬
‫فالجرجاني أطلق الحديث عن المعاني األُول والمعاني الثواني وعزز فعل‬
‫الكتابة باالصطفاء المعنوي البليغ‪ ....‬وأوضح مدى القدرة اإلبداعية للغتنا على‬
‫االستجابة الجمالية لألشكال الدافعة للكلمات في التأثير والتحول الداللي‪.‬‬
‫فقد استطاع أن يضع مباحث علم النحو في دائرة التوهج البالغي؛ حين وجه‬
‫النحو‪ ،‬وعلم المعاني فحقق لنا‬
‫ذلك في اتجاه مزدوج إذ ال فصل بين معاني ّ‬
‫أنموذجاً فذاً في الدرس البالغي وكشف عن حقيقة اإلعجاز األدبي واللغوي للنسق‬
‫القرآني‪.‬‬
‫فالمعاني المؤلفة تشكل لديه أساس البنية الفكرية؛ وعناصر التكوين البالغي‬
‫والجمالي‪ 0...‬فانتقل بنا من الحديث عن المعنى إلى الحديث عن معنى المعنى‪.‬‬
‫ولهذا يمكننا تصنيف مباحث عبد القاهر تحت مصطلح "فلسفة البالغة‬
‫وماهيتها" ألنه نظر إلى األثر المكون للبنية التركيبية بذاته ومن ثم عند المتكلم‬
‫والمخاطب(‪.)17‬‬
‫ثم استنبط الزمخشري قواعد علم المعاني‪ ،‬وعلم البيان من عبد القاهر‬
‫ومارسها تطبيقياً في تفسيره للقرآن الكريم في كتابه المشهور (الكشاف)‪.‬‬
‫ولّما جاء السكاكي (ت ‪ 626‬هـ) استخلص قوانين (علم المعاني) فكانت هي‬
‫هي التي رأيناها عند سابقيه‪ ،‬ولكنه قعًّدها بشكل صارم‪ ،‬وكذلك فعل بعلم البيان‪.‬‬
‫ثم جاء حازم القرطاجني (ت ‪ 684‬هـ) فأفاد من الجميع في نظرته البالغية‬
‫والنقدية للشعر العربي؛ فضالً عن تأثره بأرسطو‪ ...‬فأبدع نظرية التناسب في‬
‫كتابه (منهاج البلغاء)‪.‬‬
‫وفي ضوء ذلك كله نشير إلى مفهوم الجملة وركنيها وانقسامها إلى اسمية‬
‫وفعلية من جهة البالغة ال النحو‪ ،‬ومن ثم معالجتها في باب من أبواب علم المعاني‬
‫المعروفة بستة أبواب‪" :‬الخبر واإلنشاء‪ ،‬التقديم والتأخير‪ ،‬الوصول والفصل؛‬
‫القصر‪ ،‬الذكر والحذف‪ ،‬اإليجاز واإلطناب"‪ .‬وسنختار باب الخبر واإلنشاء؛‬
‫ونقتصر من اإلنشاء على الطلبي منه؛ إمعاناً في عدم إثقال حجم البحث؛ ونظراً‬
‫ألن إبراز جمالية الكلمة تظهر في كل شكل من األشكال؛ وهذا ما ال يستطيع بحث‬
‫واحد أن يحيط به‪ ....‬ألن الشكل في أي حيِّز تركيبي هو تضمين لمعنى يحوز‬
‫فعالية خاصة في إطار العالقات المنعقدة فيه‪ ....‬ومن هنا يوجد معنى حاضر‬

‫‪- 28 -‬‬
‫وآخر مستتر توحي به تلك العالقات السياقية‪ .‬وهو يحتاج إلى دراسات‬
‫مستفيضة‪...‬‬
‫ولهذا فكل من يتعامل مع البالغة العربية؛ ال بد لـه من أن يتجه إلى المعنى‬
‫المستتر؛ أو ما عرف بالمجازي‪ .‬وبهذا فهو ينتقل من بنية جمالية إلى بنية جمالية‬
‫أخرى‪ ...‬ولعل هذا كله يجعله ينأى بعيداً عن الرؤية النقدية القديمة‪ ،‬ومن ثم ال‬
‫يقع في تبعة تقليد كل ما يأتي من الغرب‪ .‬فالتأمل النقدي الجمالي ألي أسلوب‬
‫بالغي في كالم العرب يتيح للناقد القوة على الغوص في جوهر األسلوب اللغوي‬
‫والبالغي؛ ومن ثم إدراك الجوهر المشرق والمثير في النص الذي يعالجه‪ ...‬أياً‬
‫كانت طبيعته التركيبية‪ .‬وهذا ما نسعى إليه في جمالية الخبر واإلنشاء‪ ،‬ونبدأ‬
‫بمفهومهما‪0.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬تطور مفهوم الخبر واإلنشاء‬
‫إذا استكملت الجملة ركنيها (المسند إليه والمسند) ذكراً أو تقديراً‪ ،‬كان‬
‫المعنى هو المعول عليه؛ وهو ال ينفصل عن قصد المتكلم وإ رادة إفادة السامع به‬
‫وإ متاعه‪0...‬‬
‫ومن هنا تصبح القيود التي ترافق الجملة ذات غاية كبرى في عمليتي اإلمتاع‬
‫واإلفادة؛ وتتنوع الجملة وتتعدد صياغتها بين الخبر والطلب‪ ،‬والتقديم والتأخير‪،‬‬
‫والقصر‪ ،‬والفصل والوصل‪ ،‬والذكر والحذف‪ 0...‬على تداخل ذلك بعضه في‬
‫بعض‪.‬‬
‫ولهذا وقف الجاحظ (ت ‪ 255‬هـ) مبيناً بالغة الجملة وجماليتها الممتعة كما‬
‫في قوله‪" :‬ومتى شاكل ـ أبقاك اهلل ـ اللفظ معناه‪ ،‬وأعرب عن فحواه‪ ،‬وكان لتلك‬
‫الحال َو ْفقاً‪ ،‬ولذلك القدر ِل ْفقاً‪ ،‬وخرج عن سماجة االستكراه‪ ،‬وسلم من فساد التكلف‬
‫كان قميناً بحسن الموقع وبانتفاع المستمع‪ 0...‬وأن ال تزال به القلوب معمورة‪،‬‬
‫والصدور مأهولة‪.)18("...‬‬
‫وهذه الصورة من التخيل البالغي عند الجاحظ أسبق إلى الظهور في (علم‬
‫أكثر كالم العرب‬
‫المعاني) وال سيما الخبر واإلنشاء؛ ألنه يعد أبرز أبوابه‪ ،‬بل ُ‬
‫طلب وخبر ملونان بالعاطفة واألفكار‪ .‬وبهذا سبق كولردج في حديثه عن عالقة‬
‫ٌ‬
‫الصورة بالخيال والعاطفة(‪.)19‬‬
‫وقد سبقت اإلشارة إلى أن علم المعاني ظهر في رحاب الدراسات القرآنية؛‬
‫وكان ألهل االعتزال والكالم نظرات في نظام القرآن‪ ،‬فذهبوا إلى أنه أمر ونهي‬
‫وخبر‪ ...‬ومن ثم نظروا في مسألة الصدق والكذب من جهة ذلك فانتهت عند‬
‫المتأخرين إلى أنها قضية ُمرتبطة بمطابقة الخبر (الحكم) للواقع بغض النظر عن‬
‫النظَّام (ت ‪ 221‬هـ) قد ربطها بالمتكلم؛‬
‫قائلها‪ .‬وكان أبو إسحاق إبراهيم بن َسيَّار َّ‬
‫فص ْدق الخبر مطابقة حكمه العتقاد المتكلم صواباً كان أم خطأ‪ ،‬وكذبه مطابقة‬ ‫ِ‬
‫حكمه لـه‪ .‬فمن أخبر بخبر معتقداً بصحته‪ ،‬ثم ظهر بخالف الواقع ما كذب ولكن‬
‫شهد؛ ِإنك‬
‫أخطأ‪ 0...‬أما كذب المنافقين في قوله تعالى‪ :‬إذا جاءك المنافقون قالوا‪َ :‬ن ُ‬
‫لرسو ُل اهلل‪( 0"...‬المنافقون ‪ )63/1‬فإنه مطابق للواقع ألن النبي الكريم رسول اهلل‬
‫حقاً وصدقاً وعدالً؛ ولكنهم يكذبون في قولهم المناقض العتقادهم؛ فهم في قرارة‬

‫‪- 30 -‬‬
‫أنفسهم ال يعتقدون به رسوالً‪ ،‬ولهذا أعلن اهلل كذبهم صراحة في ختام اآلية ‪‬واهلل‬
‫يشهد‪ :‬إن المنافقين لكاذبون‪.‬‬
‫فالتشكيل الجمالي ـ هنا ـ ينبثق من الوصف السردي الدقيق للواقع النفسي‬
‫والفكري لحالة القوم‪.‬‬
‫نشاء باعتقاد المتكلم ال‬ ‫وبهذا كله يربط َّ َّ‬
‫النظام مسألة الصدق والكذب خبراً وإ ً‬
‫بمطابقة الكالم للواقع‪ .‬أما الجاحظ فقد أنكر انحصار الجملة بالصدق والكذب‪،‬‬
‫ورأى أن الحكم الموجود في الكالم ثالثة أقسام‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ خبر صادق‪ :‬وهو المطابق للواقع مع االعتقاد بأنه مطابق له‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ خبر كاذب‪ :‬وهو ما ال يطابق الواقع مع االعتقاد بأنه غير مطابق له‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ خبر غير صادق وال كاذب؛ وهو أربعة أقسام‪:‬‬
‫أ ـ خبر مطابق للواقع مع االعتقاد بأنه غير مطابق له‪.‬‬
‫ب ـ الخبر المطابق للواقع بال اعتقاد‪.‬‬
‫ج ـ الخبر غير المطابق للواقع مع االعتقاد بأنه مطابق له‪.‬‬
‫د ـ الخبر غير المطابق للواقع بال اعتقاد(‪.)20‬‬
‫فالمتكلم يمتلك رؤية عقلية يدرك بها ما لم يدرك بالحواس في تصوره‬
‫الجتماع عناصر السياق البالغي والجمالي وصياغتها‪ .‬وقد شارك أهل األدب‬
‫والبالغة في الحديث عن مسألة الصدق والكذب في الخبر واإلنشاء كابن قتيبة (ت‬
‫وخبر واستخبار ورغبة؛ ثالثة ال‬
‫َمر َ‬
‫‪ 276‬هـ) الذي رأى أن الكالم أربعة‪ :‬أ ٌ‬
‫يدخلها الصدق والكذب؛ وهي األمر واالستخبار والرغبة؛ وواحد يدخله الصدق‬
‫الخبر(‪.)21‬‬
‫والكذب وهو َ‬
‫أما أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم بن وهب فقد قسم الكالم إلى خبر وطلب‪،‬‬
‫فالخبر قول لم يكن عند المستمع علم به وأُفيد به‪ ،‬والطلب كل ما طلبته من غيرك(‬
‫‪.)22‬‬
‫وتحدث أحمد بن فارس (ت ‪ 395‬هـ) في كتابه (الصاحبي) عن معاني الكالم‬ ‫َّ‬
‫ورأى أنها عشرة أبواب (خبر واستخبار‪ ،‬وأمر ونهي‪ ،‬ودعاء وطلب‪ ،‬وعرض‬
‫وتعجب) ثم قال‪" :‬أما أهل اللغة فال يقولون في الخبر أكثر من‬
‫ّ‬ ‫وتحضيض؛ ٍّ‬
‫وتمن‬
‫أنه ِإعالم‪ :‬تقول‪ :‬أخبرته أُخبره؛ والخبر هو ِ‬
‫العْلم‪ .‬وأهل النظر يقولون‪ :‬الخبر ما‬
‫جاز تصديق قائله أو تكذيبه‪ ،‬وهو إفادة المخاطب أمراً في ماض من زمان أو‬

‫‪- 31 -‬‬
‫مستقبل‪ ،‬أو دائم"(‪.)23‬‬
‫ثم جاء المتأخرون من البالغيين فعرضوا تلك األقوال واآلراء على النظر‬
‫ويفندون المزاعم التي‬
‫يفرقون بين الكالم الخبري‪ ،‬والكالم اإلنشائي‪ّ ،‬‬‫وأخذوا ّ‬
‫تقدمت‪ ،‬بعد أن كان الحديث متداخالً عن الخبر واإلنشاء‪.‬‬
‫فالسكاكي قد ناقش ذلك وانتهى إلى أن الخبر والطلب مستغنيان عن التعريف‬
‫النظَّام والجاحظ وغيرهما‬
‫الحدي(‪ )24‬والخطيب القزويني توقف طويالً عند آراء َّ‬ ‫ّ‬
‫وردها‪ ،‬مؤسساً لرأيه بقوله‪" :‬اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق‬ ‫َّ‬
‫والكاذب‪ ،‬فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما؛ ثم اختلفوا‪ .‬فقال األكثر منهم‪:‬‬
‫ِ‬
‫مطابقة حكمه له‪ .‬هذا هو المشهور وعليه‬ ‫عدم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْدقُه مطابقةُ حكمه للواقع‪ ،‬وك ْذبه ُ‬
‫التعويل"(‪.)25‬‬
‫فالقزويني يذهب مذهب الجمهور وكذلك ذهب كل من جاء بعده‪ ،‬وكل منهم‬
‫ٍ‬
‫متماه في الفكر والحس إليجاد عالقة بالغية جمالية موحية أكثر‬ ‫يرى أَن الخبر‬
‫منها عالقة مباشرة‪.‬‬
‫وفي ضوء ما تقدم اتضح لنا أن مسألة الصدق والكذب في الجملة من جهة‬
‫الحكم تقوم عند المعتزلة ـ غالباً ـ على اعتبارها لذاتها بغض النظر عن قائلها؛‬
‫والم َسلَّمات‬
‫الح َرج أخرجوا القرآن الكريم والحديث الشريف ُ‬ ‫وحتى ال يقعوا في َ‬
‫الثابتة من تلك المسألة فاستراحوا؛ ألنهم جعلوها صادقة بعلم مسبق‪.‬‬
‫وإ ذا تأملنا بالنظر بنية الجملة باعتبار قائلها في ذاته اعتقاداً وتصوراً‬
‫ومشاعر؛ في حال اإلثبات أو النفي للكالم لزمنا أن نتساءل‪ :‬هل بالضرورة إذا‬
‫كان المتكلم كاذباً حقيقة أال ينقل إلينا خبرٍاً صحيحاً؛ أو إذا كان صادقاً أال َّ‬
‫يتعمد‬
‫نقل خبر كاذب ألمر ما في نفسه‪ ،‬أو أنه ينقل خبراً كاذباً دون أن يدري بكذبه‬
‫ومخالفته للواقع؟‬
‫فالصادق قد يستقر في ذهنه خبر ما‪ ،‬وينقله إلينا ثم يظهر أنه بخالف الواقع؛‬
‫هل نقول عنه‪ :‬إنه كاذب؟‪ .‬ولو نقل الكاذب خبراً ما؛ وظهرت مطابقته للواقع هل‬
‫نقول عنه‪ :‬إنه صادق؛ وهو المشهور بالكذب‪ ،‬وما نقله إال متعمداً الكذب ألنه لم‬
‫يعرف أنه صادق؟‬
‫الح ّر ـ وهو ليس كذلك‬
‫ولو افترضنا جدالً أن هناك أحداً قال‪ :‬هذا يوم شديد َ‬
‫في الواقع‪ ،‬ونحن نشعر بأنه ليس شديد الحرارة ـ فهل نقول له‪ :‬إنه كاذب؟ فلو كان‬
‫بالح ّر‪ ،‬أو كان مريضاً بالحمى‪ ،‬فهل يعني قوله ذاك أنه كاذب‪ ،‬بينما‬
‫شعوره نفسياً َ‬

‫‪- 32 -‬‬
‫إحساسه صادق وعبارته مطابقة العتقاده ومشاعره‪...‬؟‬
‫وماذا نقول في بيت المتنبي اآليت؟‪:‬‬
‫سرانا؟!‬
‫َبيت على ما فات َح ْ‬
‫وال أ ُ‬ ‫شر ِئ ُّ‬
‫ب إلى ما لم َيفُ ْت طمعاً‬ ‫ال أَ ْ‬
‫إنه ال يتطلع إلى شيء‪ ،‬وال يتحسر على ما فاته‪0...‬‬
‫فهل نتهمه بالكذب؛ وهو من كان يسعى وراء المجد والعظمة أينما الح له‪،‬‬
‫ومضى من أجله إلى كافور اإلخشيدي في مصر؟ أم نصفه بالصدق باعتبار‬
‫مشاعره وتصوره واعتقاده؟ أم نصف الكالم بالصدق أو الكذب باعتبار مطابقته‬
‫للواقع حيناً ومخالفته لـه حيناً آخر‪ ،‬وتبعاً لتصور السامعين؟‪0.‬‬
‫ومثله قول أبي نواس‪:‬‬
‫قضى اهللُ وما َقدَّرا‬
‫بما َ‬ ‫مان َم ْجراهما‬ ‫ق ِ‬
‫والح ْر ُ‬ ‫الر ْز ُ‬
‫ِّ‬
‫َ‬
‫هل نقول له‪ :‬إنه كاذب فالمال يجري بين يديه؛ ألنه األثير عند بعض الخلفاء‬
‫واألمراء؛ فهو ينال عطاءهم كلما مدحهم‪،‬؟ أم نقول له‪ :‬إنه صادق؛ ألن الخبر‬
‫مطابق للمعتقد الديني السائد في المجتمع‪ ،‬ولم يطابق الواقع الحقيقي لكثير من‬
‫الفقراء؟‪.‬‬
‫إن التحليل المتوازن آلراء القدماء جميعها؛ والنظر في كالم العرب؛‬
‫والدرس البالغي الجمالي النقدي والمنطقي يدعونا إلى إثبات أن أسلوب اإلنشاء‬
‫والخبر بما انتهى إليه قديماً وحديثاً ال يقاس وفق مطابقة الكالم للواقع أو مخالفته؛‬
‫لنحكم عليه بالصدق أو الكذب؛ وال يقاس باعتبار قائله إن كان صادقاً أو كاذباً؛‬
‫وإ نما يقاس باعتبار اعتقاد القائل في مشاعره وتصوره أوالً؛ وباعتبار مطابقة‬
‫الكالم للواقع الفني قبل الواقع الحقيقي والطبيعي والفكري‪ ...‬ثانياً‪.‬‬
‫نقوم الكالم في إطار مدى تعبير الخبر أو اإلنشاء عن عواطف القائل‬ ‫فنحن ِّ‬
‫واعتقاده وتصوره وتطلعاته‪ 0...‬ومدى قدرة تعبيره على إمتاعنا وإ فادتنا‪ .‬فالصدق‬
‫أو الكذب في الجملة ـ بهذا الوعي ـ ليسا مرتبطين بالقائل وحده‪ ،‬وال بالواقع وحده‬
‫وال بالسامع وحده؛ وإ نما مرتبط بهم جميعاً وبجمالية التعبير وقدرته على اإلمتاع‬
‫واإلفادة‪...‬‬
‫هذه هي الجمالية الجديدة لكيفية دراسة علم المعاني عامة والخبر واإلنشاء‬
‫ض َعا ألغراض محددة ومثيرة‪ ،‬أو غير محددة انتهى إليها‬ ‫خاصة وإ ن و ِ‬
‫ُ‬
‫البالغيون‪0...‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫وإ ننا لنعتقد بأننا نضيف بعداً جديداً لمسألة الصدق والكذب على أنها مسألة‬
‫جمالية في الجملة ترتبط بالواقع الفني‪ ...‬ويكون الحكم النهائي بالغياً على هذا‬
‫األساس‪ .‬فالجملة بمقدار ما تمتعنا جمالياً وتحقق لديناً َن ْشوة عاطفية عالية‪ ،‬وتأمالً‬
‫فكرياً عريضاً تكون صادقة‪ 0...‬وال يعيبها الوضوح والدقة أو الهدف الذي تسعى‬
‫ومزيفة للهدف‬
‫ّ‬ ‫إليه‪ ...‬وهي بمقدار ما تكون مباشرة وجافة و سقيمة و نابية؛‬
‫والواقع الفني‪ 0...‬تكون كاذبة وتسقط جماليتها‪ ...‬دون أن ننكر وجود العديد من‬
‫الصور التقريرية التي فاجأتنا بجماليات ما في نبرتها الخطابية أو السردية‪ ،‬وفي‬
‫إيحاءاتها لدالالت كثيرة توقظ القلب الغافي وال سيما في القرآن‪ .‬هذا هو مقياسنا‬
‫للدرس البالغي في الخبر واإلنشاء؛ على الرغم من أننا نفيد من البالغيين العرب‬
‫في االبتداء بالحديث عن الخبر ثم اإلنشاء بفروعه وأقسامه‪ ،‬ومن ثم التركيز على‬
‫األساليب المجازية‪ ...‬دون أن ننكر التداخل فيما بينها‪ .‬فالخبر يشتمل على‬
‫صر‪ ،‬أو الذكر والحذف يشتمل على‬ ‫ضروب كثيرة من اإلنشاء وغيره‪ ...‬وكذا القَ ْ‬
‫الخبر واإلنشاء وغيرهما‪ ...‬ولكن الدرس البالغي يقتضي التفريع للتيسير‪،‬‬
‫والوصول إلى تناول كل أسلوب بدقة وفهم كاملين‪ ،‬وبيان سماته الجمالية‪...‬‬
‫ولذلك كله لزمنا أن نتحدث في التمهيد عن إنزال الخبر مكان اإلنشاء‬
‫والعكس صحيح؛ وإ ن كان المقام يقتضي أن نتحدث عنهما في آخر الكالم‪0....‬‬
‫ولكننا حين أفردنا تمهيداً لوجوه االلتقاء واالفتراق كان المقام هنا أ َْولى‪ ،‬ألن مفهوم‬
‫يؤصل لدالالت بعيدة ودقيقة؛ بل لمغامرة عاطفية‬ ‫التبادل في األساليب اللغوية ّ‬
‫فكرية عظيمة تعتلج في ذات المتكلم‪ .‬فهو يعيش في حالة توتر داخلي منذ تلقيه‬
‫لحالة الخطاب أو الموقف الذي يواجهه‪ ...‬ولهذا يغدو النمط األسلوبي اللغوي‬
‫موازاة فنية لذلك كله بكل خصائصه الجمالية‪...‬‬
‫وهذا يعني أنه ينتج أسلوباً جمالياً فريداً يتمثل في طبيعة الحركة اللغوية التي‬
‫تناظر االنفعال والموقف والمخاطب؛ أي يغدو التناغم العاطفي الفكري حركة‬
‫لغوية يتولّد منها أسلوب بالغي يسمى إنزال شيء مكان آخر‪ ....‬و أي حركة ـ في‬
‫هذا اإلطار ـ ينبثق منها تجربة بالغية‪ ،‬بل لنقل‪ :‬تجربة نقدية جمالية متميزة؛‬
‫باعتبار النقد في جوهره األصيل عملية َخْلق رؤية فنية وفكرية مستمدة من‬
‫التشخيص الدقيق لألسلوب والدقة في فهمه والعمق في تحليله‪...‬‬

‫ولعل البالغة العربية مثلها مثل عدد من األجناس األدبية واللغوية والنقدية‬
‫شوش معطياتها وطبيعتها‪ ،‬وهو يحمل في داخله‬ ‫الحديثة قد أُصيبت بخلط غريب ّ‬

‫‪- 34 -‬‬
‫كل ما يثير األسى ويبكي النفس‪ ...‬وهذا ما دعانا إلى استجالب الدرس البالغي‬
‫العربي القديم‪ ،‬ومحاولة فهمه وتذوقه وتحليله في نماذجه األصيلة‪ ،‬ومعايرته‬
‫النقدية بكل ما من شأنه أن يبين خصائصه ويثريه من أفكار األسلوبية الجديدة دون‬
‫إخراجه عن طبيعته‪ .‬فالنقد البالغي ـ لدينا ـ يستند إلى منهج جديد في التحليل‬
‫النقدي األصيل والمعاصر دون أن يتخلى لحظة واحدة عن التذوق؛ والتأمل‬
‫الطويل ومن ثم إدراك عناصر الرؤى المتعددة القديمة ألهل اللغة والنحو‪،‬‬
‫وللبالغة األدبية‪ ،‬والبالغة القرآنية‪ ...‬ويمكننا أن نتبين ذلك فيما يأتي‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬إنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو العكس‬
‫لعل هذا األسلوب ينطوي على جمالية كبرى حين يمارس مفهوم االنزياح‪...‬‬
‫فجمالية االنزياح ذات نكهة خاصة وقفت في عدد من أساليب البالغة كالتعريف‬
‫والتنكير‪ ،‬والذكر والحذف والتقديم والتأخير‪ 0...‬وال سيما حين يتجلى االنحراف‬
‫في معيار النسق اللغوي واالتجاه به إلى التعبير عما يجري في النفس‪ ،‬وعما‬
‫يرمي إليه المتكلم من مقاصد وفق مراعاة مقتضى الحال والمقام‪ 0....‬وهذا كله‬
‫يحدد معيار فصاحته وبالغته في إطار الجوار واالختيار‪.‬‬
‫ولعله قد تأكد لنا أن جمال البالغة‪ ،‬وثراء أساليبها لدى العرب ال يتعرض‬
‫يجسد نمطاً من التفكير‬
‫للشيء في تجلياته الظاهرة المباشرة في الغالب‪ ،‬وإ نما ّ‬
‫الراقي المتطور في إطار التحوالت النفسية والفكرية‪ 0....‬ثم الفنية للعرب‪ ،‬وينفي‬
‫عنهم فكرة الجمود عند الظواهر المادية والتعلق بوصفها‪ ...‬فقد اتهموا "بالمادية‬
‫المفرطة‪ ،‬وبضعف الخيال؛ وجمود العواطف"(‪.)26‬‬
‫وما من أحد ال يرى أن الذائقة األدبية‪ ،‬ومن ثم البالغية قد تطورت من‬
‫العصر الجاهلي حتى اليوم‪ 0...‬فالشعراء في بداية العصر الجاهلي ـ باعتبارهم قادة‬
‫الفكر والبالغة ـ اعتمدوا ـ غالباً ـ الذائقة الحسية المادية‪ ،‬ثم إن هذه الذائقة ارتقت‬
‫شيئاً فشيئاً من الوصف المادي والظاهري لألشياء إلى التفكير الحسي بها على يد‬
‫زهير والنابغة الذبياني والحطيئة وكعب بن زهير وأمثالهم‪ ...‬ثم ما لبثت أن‬
‫مزجت بين التفكير الحسي والمعنوي والذهني المجرد‪ ...‬ما جعل العرب يتهيؤون‬
‫في أواخر العصر الجاهلي لنزول اإلسالم وتعاليمه القائمة على المفاهيم‬
‫المجردة‪ ...‬بل إن العمل الفني نفسه لم يعد مجرد نتاج الوسط الطبيعي المحيط‪،‬‬
‫وإ نما أصبح لوحة فنية متكاملة العناصر‪ ،‬تبدل هذا العنصر مكان ذاك‪ ،‬وتجري‬
‫عملية تغيير ذهنية كبيرة بينها‪ ،‬وهي تستجيب لعالم نفسي واجتماعي وفكري ال‬
‫حدود له؛ إذ حقق لها خلق حالة فنية جمالية مثيرة‪.‬‬
‫وفي هذا المقام كانت أساليب التعبير تواكب ذلك كله وتستجيب هي األخرى‬
‫لكل ما يحدث في عملية البناء الفني‪ ...‬وكان الشاعر ينزل الخبر منزلة اإلنشاء‬
‫والعكس صحيح بصورة فطرية تلبي نزوعه النفسي والفكري والفني‪ 0...‬ثم تطور‬
‫األمر بعيداً بوفود الثقافات وتطور األساليب‪ ...‬فتجاوزت الرؤية البالغية‬

‫‪- 36 -‬‬
‫والجمالية الجديدة تلك الرؤى القديمة التي عبر عنها شعراء الجاهلية ثم شعراء‬
‫العصر اإلسالمي‪ ...‬وإ ن ظلت على صلة كبرى بها‪ ....‬وتظل التجربة الجمالية‬
‫القرآنية متفردة في هذا السياق ألنها كانت األبرز في تطور المفهوم البالغي عند‬
‫العرب؛ على أهمية ما وفد إليهم من اآلخرين‪.‬‬
‫وبهذا كله أصبحت التجربة البالغية تجربة عربية غنية ومستندة إلى األسس‬
‫التي ُبنيت عليها التجربة األدبية‪ ....‬فقد صارت البالغة بحق علم الجمال الفني‬
‫األدبي المستند إلى مفاهيم مستخلصة من تراث العرب وأشعارهم(‪ .)27‬فحين‬
‫تحدث القاضي عبد الجبار عن الفصاحة أوضح جماليتها في طريقة أداء المعنى‬
‫في األسلوب البليغ عند العرب من الجاهلية حتى عصره‪ 0...‬وذهب إلى أن اللفظة‬
‫ليست جميلة بذاتها‪ ،‬وال تستطيع أن تكشف عن أسباب روعتها إال في ضوء‬
‫والتصور لها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫صفات ثالث قائمة في السياق‬
‫‪ 1‬ـ االختيار الدقيق والمناسب لها بين أخواتها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ شدة تعلقها بغيرها من جهة التركيب‪ ،‬وما يوحيه من فروق داللية في‬
‫عملية التبادل اللغوي؛ حين يقوم لفظ مقام آخر‪،‬أو تركيب مقام تركيب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ موقعها من جهة الصياغة تؤدي إلى إبراز داللتها على الوجه المراد‪.‬‬
‫وهنا تكمن أهمية أساليب البالغة واللغة مثل التقديم والتأخير‪ ،‬والحذف‬
‫والذكر؛ وإ نزال الخبر مكان اإلنشاء‪.)28(...‬‬
‫وهذا كله يعطيها بعداً جمالياً فريداً في عملية االنزياح اللغوي والبالغي‪0...‬‬
‫فإنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو العكس يؤدي إلى انحراف المتكلم عن أسلوب إلى‬
‫أسلوب ليدل على معان ليست لـه في األصل‪ .......‬وبهذا يختلف عن األسلوب‬
‫المباشر المعروف الذي يأخذ سماته المميزة له‪ ،‬والثابتة فيه‪ .‬فذلك األسلوب‬
‫البالغي يكسب الجملة أبعاداً فكرية ونفسية جديدة‪ ،‬وتتجاوز الحدود المعروفة‬
‫والمشهورة لعملية الداللة‪ 0...‬إن القدرة اللغوية والبالغية التي تتصف بها العربية؛‬
‫والسليقة التي يحملها العربي تكمنان وراء هذا األسلوب البالغي الذي ُيعد وسيلة‬
‫جديدة الستخراج ما في النفس البشرية من أطياف فكرية وإ يحاءات نفسية‬
‫عاطفية‪...‬‬
‫ومن هنا يصبح لزاماً علينا أن نبين المواضع التي يقع فيها الخبر موقع‬
‫اإلنشاء ومن ثم العكس؛ ألن فيها مستويات لغوية بالغية لم تلق العناية من قبل‬
‫على الوجه الدقيق‪ ...‬وسيقت في إطار العرض السريع وربما الساذج‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫‪ 1‬ـ إنزال الخبر منزلة اإلنشاء‪:‬‬
‫ُي ْقصد بهذا األسلوب أن صياغة الجملة صياغة خبرية ولكن داللتها داللة‬
‫إنشائية‪ ،‬وتؤدي وظيفة ما من وظائف األساليب اإلنشائية التي ستمر بنا‪ ،‬ولها‬
‫أغراض عدة منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ التفاؤل‪:‬‬
‫َملته عنده‪...‬‬
‫الخ ْير وأ َّ‬
‫والتطير‪ ،‬تفاءلت به‪ :‬رجوت فيه َ‬
‫ّ‬ ‫التفاؤل ضد التشاؤم‬
‫لهذا حين يتخيل المتكلم أن الخبر حاصل عنده‪ ،‬أو عند المخاطب‪ ،‬أو حين يتعلق‬
‫به تعلقاً شديداً حتى يظن حدوثه فإنه يستعمل لـه األسلوب الخبري‪ ،‬ويختار لـه‬
‫الفعل الماضي المثبت‪ ...‬كأن نقول للضَّال عن أمر اهلل‪( :‬هداك اهلل لصالح‬
‫األعمال)‪ 0...‬فالمراد‪ :‬كأن الهداية قد حصلت حقاً؛ ولذلك استعمل لفظ الفعل‬
‫الماضي على التقرير والتحقيق‪ ...‬بدالً من أسلوب اإلنشاء في الدعاء وغيره‪...‬‬
‫ومثله قولنا لمن ُنحب من الناس‪( :‬أذاقك اهلل حالوة النجاح والتفوق)‪ .‬فالمراد‪ :‬كأن‬
‫حالوة التفوق وقعت فعالً‪ 0...‬ولم تكن من باب التمني أو الرجاء‪ ...‬ومثل ذلك‬
‫َّب اهلل إليك التثبت على الحق‪.)..‬‬ ‫قولنا‪( :‬ع ِ‬
‫وحب َ‬
‫الح ْي َرة؛ َ‬
‫مت من َ‬
‫ص َ‬ ‫ُ‬
‫فالتفاؤل بحدوث ذلك كله أخرج الداللة من أسلوب اإلنشاء إلى أسلوب الخبر‬
‫وكأن المعنى واقع ال محالة‪ ،‬فمارس عملية الهدم والبناء في النفس والفكر إلحداث‬
‫الفتنة الجمالية‪ .‬فالتكثيف في الوظيفة الحقيقية لهذا األسلوب ُي ْكتَ َسب من األواصر‬
‫القوية بين األلفاظ والمقام الذي تعرض له‪ 0...‬وهذه هي المزية الجمالية لـه دون‬
‫َغيره من أساليب الكالم؛ فهي وظيفة جمالية ومعنوية في آن معاً‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الدعاء‪:‬ـ‬
‫الدعاء ـ في اللغة ـ النداء‪ ،‬والفعل‪ :‬دعا يدعو‪ ...‬وهو أحد أساليب اإلنشاء؛ بيد‬
‫الخبر منزلة اإلنشاء في الداللة ـ وإ ن اتخذ صورة الخبر في اللغة ـ‬
‫أنه قد ينزل َ‬
‫لهدف الدعاء لـه أو التعجيل به‪ ...‬ونستعمل ـ غالباً ـ في هذا األسلوب صيغة الفعل‬
‫(صل وسلِّ ْم‪ 0.)...‬وحين‬
‫ِّ‬ ‫الماضي‪ ،‬فنحن حين نذكر الرسول الكريم نقول‪ )(:‬أي‪:‬‬
‫(ارض عنهم‬
‫َ‬ ‫نذكر الخلفاء الراشدين نقول‪( :‬رضي اهلل عنهم‪ ،‬ورحمهم) أي‪:‬‬
‫(نزههُ‪ ،‬وأ ِ‬
‫َعل مقامه)‪.‬‬ ‫(كرم اهلل وجهه)؛ أي‪ّ :‬‬
‫وارحمهم)‪ .‬ونقول‪َّ :‬‬
‫األسلوب‬
‫َ‬ ‫وألجل التأدب مع اهلل واليقين بتحقيق الداللة وكأنها‪ 0‬واقعة يستعمل المتكلم في ذلك كله‬
‫الخبري الذي يفيد الدعاء‪ ...‬وال يجوز أن يقال له‪ :‬إنه كاذب أو صادق‪ ...‬ما يجعله يهدم الداللة اللغوية‬
‫والبالغية المعروفة للناس‪ ،‬إليجاد داللة بديلة‪ .‬ولم يقتصر هذا الغرض على الفعل الماضي الذي يفيد‬

‫‪- 38 -‬‬
‫وقوع الحدث حقيقة؛ إنما يستخدم لها الجملة االسمية المثبتة على السبيل نفسه؛ كقولنا لألمير أو الرئيس‬
‫واعف؛ ألنك أنت من تملك ذلك)‪ ...‬وفي‬ ‫ُ‬ ‫ونحوهما‪( :‬المغفرة‪ 0‬لك‪ ،‬والعفو منك)‪ ...‬أي‪( :‬اغفر عني؛‬
‫ال الفعل الماضي في السقيا‪:‬‬‫الدعاء قال طرفة بن العبد مستعم ً‬
‫ب الربيع ِ‬
‫ود ْيم ٌة تَ ْهمي‬ ‫فسقى ديار ِك َغ ْير م ْف ِ‬
‫ص ْو ُ‬
‫َ‬ ‫سدها‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫فهو لم يكتف بالدعاء للديار بالسقيا وإ نما احترس في كلمة (غير مفسدها) لما عرف عن المطر‬
‫من تخريب الديار‪ ....‬وقال مروان بن أبي َح ْفصة‪:‬‬

‫والب ْعد‬
‫جد على القُْرب ُ‬
‫ويا َحبَّذا َن ٌ‬ ‫سقى اهلل نجداً والسالم على نجد‬
‫ونجد صيغة األسلوب الخبري الواقعة موقع اإلنشاء في القرآن الكريم تتكرر‬
‫ريب عليكم اليوم يغفر اهلل لكم‪( ‬يوسف ‪ .)12/92‬فاليوم‬
‫كثيراً كقوله تعالى‪ :‬ال تَثْ َ‬
‫الذي هو مظنة التقريع ال تثريب فيه وال ذهاب بماء الوجه‪ ،‬ثم جاء بجملة دعائية‬
‫تدعو لهم بالمغفرة(‪..)29‬‬
‫ولعل الدارس الممعن في هذا األسلوب البالغي (إنزال الخبر منزلة اإلنشاء)‬
‫ال يمكنه أن يتوقف عند الصورة اللغوية الخارجية ألنها مكونة من صورتين قريبة‬
‫وبعيدة متخيلة‪ ...‬وال تناقض فيما بينهما؛ ألن التوافق النفسي هو الذي يوازن‬
‫بينهما في الوظيفة؛ وإ ن بدا للوهلة األولى أن هناك جموداً في الشكل‪...‬‬
‫ومن القدرات الجمالية العجيبة لهذا األسلوب اجتماع عدة أشكال من الوظائف في وقت واحد؛ فقد‬
‫يحمل معنى التفاؤل؛ ومعنى الدعاء والتعجيل به كما نجده في إحدى اعتذاريات النابغة للنعمان بن‬
‫المنذر‪ ،‬كقوله‪:‬‬

‫ب‬
‫صُ‬‫تم منها وأَ ْن َ‬
‫َه ُّ‬
‫وتلك التي أ ْ‬
‫َ‬ ‫أَتاني ـ أ ََب ْي َت اللَّ ْع َن ـ َّأن َك لمتني‬
‫ت أن تأتي‬
‫فجملة (أبيت اللعن) تحية كانت تستعمل دعاء للملوك؛ وتعني‪( :‬أََب ْي َ‬
‫ما تُْل َع ُن به)‪ .‬وقد استعملها الجاهليون بصيغة الماضي المثبت ألن الدعاء بها واقع‬
‫ال محالة؛ كما أن هذه التحية في معرض سياق البيت تعزز فكرة التفاؤل في نفس‬
‫الشاعر‪ ،‬وهي تستفز المشاعر التي تؤرقه وتبعث في نفسه الهموم‪ ،‬فلعل هذه‬
‫التحية تكون مدعاة للتفاؤل بالصفح عنه‪...‬‬
‫فهذا األسلوب متفرد بجمالية خاصة لما يملكه من قدرات تعبيرية بارعة‬
‫تقتنص دفقات الشعور وتستجلي مكنوناته وآفاقه في زحمة اختالطها بإيحاءات‬
‫عديدة تنسجم مع المبنى تركيباً وإ يقاعاً‪ 0...‬وهذا ما يتجسد أيضاً فيما يأتي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ االحتراز من صورة األمر تأدباً واحتراماً للمخاطب‬


‫وتحرز منه‪ :‬جعل نفسه‬
‫َّ‬ ‫االحتراز مصدر‪ ،‬وفعله احترز‪ ،‬واحترز من الشيء‬

‫‪- 39 -‬‬
‫في موضع حصين‪ .‬وهذا أسلوب بالغي ليس لـه صورة لغوية معينة‪ ،‬وإ نما يفهم‬
‫من السياق والمقام معاً‪ 0...‬وبغيرهما قد يضل المتلقي له‪ 0...‬فحين ينظر األمير في‬
‫(ي ْنظر موالي في أمري)؛ فكأننا احترزنا من الخطاب بصيغة‬ ‫ساعته‪ ،‬نقول له‪َ :‬‬
‫األمر فقلنا ذلك بدل أن نقول له‪( :‬انظر في أمري بدل أن تنظر في ساعتك)‪...‬‬
‫ومثله قول العبد لسيده‪ :‬يقضي سيدي حاجتي‪...‬‬
‫وهذه الصورة من التأدب ليست مقتصرة على مخاطبة األدنى لألعلى‪ ،‬فقد‬
‫يقول الزميل لزميله إذا لم يرد تلبية رغبته التي حضر لها‪( :‬تأتيني غداً)؛ فهو‬
‫يخيب رجاءه أو‬ ‫يسوف أو ّ‬‫يحمله بألطف عبارة على عدم قضاء حاجته دون أن ّ‬
‫يأمره باإلتيان‪ ...‬فالتركيب اللغوي الجمالي في هذا األسلوب يالئم الحالة النفسية‬
‫للمتلقي‪.‬‬
‫وقد يكون المتكلم في منزلة أعلى من المخاطب ويقول لـه في شأن ما‪ :‬يمكن‬
‫عرض ما ترغب فيه؛ كأن المراد‪ :‬اعرض رغبتك‪0...‬‬
‫فاللغة في هذا الغرض تضطلع بوظيفة جمالية وفكرية ونفسية؛ وتتألق‬
‫بجاذبية خاصة تتشكل في صورة العالقة بين الصورة والداللة والمقام‪ 0...‬فالجمال‬
‫البالغي اللغوي حريص على أال يحدث فجوة حادة بين المتكلم والمخاطب‪ ،‬بل‬
‫يريد أن يخلق دفئاً كبيراً من االتصال العاطفي‪ ...‬وربما يكمن هذا المعنى في‬
‫الموضع الرابع بما يحمله من مفهوم توليد المعنى الحاصل من اجتماع عدة‬
‫عناصر في سياق النسق البالغي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ التنبيه على تيسير المطلوب لقوة األسباب؛ واألمر به‬


‫والحث عليه‪:‬‬
‫يندمج في هذا الغرض مختلف الرؤى الفكرية والنفسية لتؤكد حدوث الشيء؛‬
‫وما انتهى إليه بعد أخذ األسباب كاملة‪ ...‬ويكثر استعمال هذا األسلوب عند‬
‫الكبراء والسادة والممتازين؛ كقول األمير لجنده‪( :‬تأخذون بنواصيهم‪ ،‬وتنزلونهم‬
‫(خذوهم بنواصيهم؛ وأنزلوهم من صياصيهم)‪.‬‬ ‫من صياصيهم‪ )...‬أي ُ‬
‫وهذا األسلوب مبثوث في القرآن الكريم بكثرة؛ كقوله تعالى‪ :‬ولكم في‬
‫القصاص حياة يا أُولي األلباب‪( ‬البقرة ‪.)2/179‬‬
‫والمراد من ذلك (اقتصوا من المجرمين ليكون ذلك ردعاً لغيرهم‪ ،‬وليحيا‬
‫المجتمع حياة مطمئنة‪ 0)...‬وعليه قولنا‪( :‬االجتهاد خير لكم)؛ فالمراد (اجتهدوا هو‬

‫‪- 40 -‬‬
‫أنفع لكم من التمادي في الكسل والعبث)‪.‬‬
‫فالتركيب البالغي في هذا األسلوب يعد أكثر شمولية في الداللة من غيره‬
‫متوضعة في التجربة النفسية واالجتماعية والفكرية‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ألنه يستجلي عناصر كثيرة‬
‫وشبيه به ما نراه في الموضع الخامس‪ ،‬وهو اآلتي‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ المبالغة في الطلب للتنبيه على سرعة االمتثال‪:‬‬
‫يعتمد هذا األسلوب على الوظيفة التي يؤديها‪ ،‬ألنه يحاول إيصال فكرة معينة‬
‫مضمونه كقوله تعالى‪ :‬ال َي َم ّسه إال‬
‫ُ‬ ‫بصيغة الخبر‪ ،‬والمراد منه األمر‪ ،‬وتنفيذ‬
‫المطهرون‪( ‬الواقعة ‪ .)56/79‬فال النافية أفادت المبالغة في النهي‪ 0،‬كأنهم ُنهوا‬
‫فامتثلوا؛ ثم أخبر عنهم باالمتثال عند ما جاء بأداة الحصر والخبر بعده؛‬
‫فالمطهرون وحدهم يمسون القرآن ويقرؤون فيه‪.‬‬
‫ومثله قوله تعالى‪ :‬إذا أخذنا ميثاقكم ال تسفكون دماءكم‪( ‬البقرة ‪.)2/84‬‬
‫فاهلل سبحانه لم يقل‪( :‬ال تسفكوا الدماء‪ ،‬قصداً بالمبالغة في النهي‪ 0،‬ومن ثم‬
‫لسرعة االمتثال له)‪.‬‬
‫ففي هذا األسلوب يبرز لنا قدرة المتكلم على احتواء االنفعاالت المتباينة؛‬
‫وهو يعمد إلى توجيه الفكر إلى ما فيه صالح النفس‪ ...‬وحين يسعى إلى تنظيم‬
‫العالقات بين الكلمات إنما ينظمها بين النفس وما تحمله من أفكار وتلقيه إلى‬
‫المتلقي‪ ،‬لتحافظ على جسور االتّصال بينهما‪ .‬فالصورة الجمالية تتركز في طبيعة‬
‫تحولت من مجرد شعور انفعالي إلى فكرة معنوية قوية التأثير‬ ‫اإلحساس بها؛ وقد ّ‬
‫والفعل‪ 0...‬وهو عينه ما نراه فيما يلي‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ التوجيه واإلرشاد‪:‬‬


‫يحمل هذا األسلوب روابط نفسية كبرى‪ ،‬لما يدور فيها من تفاعالت وأفكار‬
‫تلد وتموت أو تتغير‪ 0...‬ولهذا يسعى المتكلم إلى إعادة تكوين األفكار وخلقها بشكل‬
‫جديد‪ ...‬ويصبح إنزال الخبر منزلة اإلنشاء في هذا المقام من أصح األساليب‬
‫تعبيراً عنها وأكثرها جماالً‪ ...‬وهو أسلوب مطرد في القرآن الكريم لغرض‬
‫اإلرشاد والتوجيه كقولـه تعالى‪ :‬أ َْولَى لك فأولى* ثم أَولى لك فأَولى‪( ‬القيامة‬
‫صد عن ذكر اهلل وذهب إلى‬ ‫‪ 75/34‬ـ ‪ .)35‬فهاتان اآليتان نزلتا بأبي َج ْهل بعد أن َّ‬
‫أهله يتمطَّى‪ ..‬فجاء اإلرشاد بعد ذلك لكل إنسان لكيال يفعل فعله‪ ،‬حين دعا عليه‬
‫بالويل والثبور ‪‬أ َْولى لك‪ 0...‬فسيأتيه بعد كفره ما يكرهه(‪.)30‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫فهذا األسلوب يثير في المتلقي أ َْنماطاً من عناصر الدهشة لما ينطوي عليه‬
‫من أبعاد فكرية ونفسية؛ وهو يستعير أسلوباً ألسلوب آخر‪...‬‬
‫أما الغرض السابع فإنه يعيدنا إلى الغرض األول على نحو ما؛ ألنه شبيه به‬
‫في الصيغة اللغوية وإ ن اختلف الغرض‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ إظهار الرغبة في الشيء والحرص على وقوعه‪:‬‬


‫تصوره لـه حتى يخيل إليه أنه حاصل ال محالة استعمل‬ ‫إذا عظمت رغبة المتكلم في شيء وكثر ّ‬
‫لـه صورة اللفظ بصيغة الماضي؛ كأن نقول للغائب عنا‪( :‬رزقني اهلل لقاءك‪ )...‬فكأن اللقاء واقع لديه؛‬
‫ولهذا استعمل الفعل الماضي الذي يفيد ثبوت الحدث ووقوعه؛ وعليه قول النابغة الذبياني في االعتذار‬
‫إلى النعمان بن املنذر‪:‬‬

‫س ِد‬
‫بالح َ‬
‫عين َم ْن يأتي َك َ‬
‫قََّر ْت بها ُ‬ ‫ربي ُم َعاقب ًة‬
‫فعاقبني ِّ‬
‫َ‬ ‫إذاً‪،‬‬
‫إن الصراع النفسي الذي وقع تحته النابغة من غضب النعمان عليه جعله‬
‫يتخيل أن العقاب قد ُنفِّذ فيه‪ ،‬وفرح الوشاة والعواذل بهذا العقاب‪....‬‬
‫فالبنية الجمالية لهذا األسلوب تخلق العناصر المكونة لها فنياً في نطاق‬
‫الوظائف التي تؤديها‪ 0...‬إنها بنية تنصهر في الذات الفاعلة ليتحد الهدف بالمقام‬
‫وهما يتجاوبان مع التوترات النفسية المتعددة‪....‬‬
‫وهذا كله يمكن أن يتجلى في المواضع التي ينزل فيها اإلنشاء منزلة الخبر‬
‫وهو حديثنا القادم‪ 0....‬وإ ن كان الحديث عن االتجاه األول ال يتوقف عند الصيغ‬
‫واألغراض التي عرضنا لها‪ ،‬وقد استقينا أكثر صيغه من األدب الجاهلي لنؤكد‬
‫مرة بعد مرة أن الذائقة األدبية للجاهليين لم تكن ذائقة حسية مادية فحسب؛ ومن ثم‬
‫ِ‬
‫البالغة الصورةَ الجمالية البديعة التي تطورت بتطور تلك الذائقة‬ ‫أساليب‬ ‫كانت‬
‫ُ‬
‫المرهفة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ وضع اإلنشاء موضع الخبر‬


‫هذا األسلوب البالغي معاكس تماماً في أنماطه اللغوية لألسلوب السابق‬
‫ولكنه مثله لم يخلق للمعاني الثانوية‪ ،‬وإ نما وضع ألغراض مقصودة وأوليَّة‬
‫ظاهرة وباطنة‪ ،‬جلية وخفيَّة‪ .‬وهو كذلك أسلوب يمنح الجملة اإلنشائية دالالت‬
‫جديدة في معرض االنزياح اللغوي‪ ،‬ويعبر عن عظمة العمق الذي تقوم عليه في‬
‫أهدافها كلها‪ ،‬وأبرزها‪:‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫‪ 1‬ـ إظهار العناية بالشيء واالهتمام به‪:‬‬
‫يرتبط هذا األسلوب بالوعي الكامن في ذهن المخاطب كما يتصوره المتكلم‬
‫ليضبط فيه القدرة على التحكم بالغرض والعناية به لعظيم أمره وجليل شأنه‪...‬‬
‫فاألسلوب اللغوي البالغي في هذا المقام يمنح الداللة قيمتها الجمالية من جهة خلق‬
‫النسيج المتجانس بين التجربة الشعورية للمخاطب وبين الوظيفة المختزنة‬
‫للغايات‪ ...‬ويظهر لنا أن هذا األسلوب مبثوث بكثرة في آيات القرآن الكريم‪،‬‬
‫بالق ْسط‪ ،‬وأقيموا وجوهكم عند كل َم ْسجد‪( ‬األعراف‬‫كقوله تعالى‪ :‬قل أَمر ربي ِ‬
‫َ‬
‫‪.)7/29‬‬
‫فاألسلوب الوارد في اآلية‪ :‬أقيموا وجوهكم‪ ...‬أسلوب إنشائي من جهة‬
‫قامة وجوهكم) عطفاً على ‪‬أمر ربي‬‫الصيغة اللغوية؛ وكان الحق أن تكون (وإ ِ‬
‫بالقسط‪ .‬وحين جاءت الصياغة إنشائية ظلت الداللة خبرية‪ ،‬ولم يكن االنحراف‬
‫اللغوي في إقامة اإلنشاء مقام الخبر إال للعناية بأمر الصالة لجالل شأنها وعظيم‬
‫قدرها في الدين‪ ...‬وكأنما أراد القول‪" :‬اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين‬
‫إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود‪ ،‬وهو الصالة"(‪.)31‬‬
‫فالمقام مقام إخبار ولكنه جاء بأسلوب إنشائي لذاك الغرض؛ ومثله قوله‬
‫وم ْرساها‪( ‬هود ‪.)11/41‬‬
‫تعالى‪ :‬وقال اركبوا فيها‪ ،‬بسم اهلل َم ْجراها ُ‬
‫فالمقام للخبر وكأنه قال‪ :‬فركبوا فيها يقولون‪ :‬بسم اهلل وهي تجري‬
‫حول صيغة‬‫بهم‪ .(32)..‬ولكن العناية بأمر نوح ومن معه‪ ،‬وإ ظهار االهتمام به ّ‬
‫وفعال‪.‬‬
‫تحول حيوي ّ‬ ‫تحول غير آلي؛ إنه ُّ‬
‫التعبير من أسلوب إلى أسلوب‪ 0....‬وهو ُّ‬
‫فالحدث هنا محقق وواقع بعكس الغرض السابق من أغراض إنزال الخبر منزلة‬
‫اإلنشاء‪ ...‬ولكن المتكلم يحرص على االنزياح في النسق التعبيري ليبرز لطائف‬
‫بالغية ال تكمن في األسلوب اللغوي الذي يقتضيه المقام الخبري‪.‬‬
‫ومثل هذا اللطيفة البالغية نجدها في الغرض الثاني من مواضع إنزال‬
‫الخبر‪...‬‬
‫اإلنشاء منزلة َ‬
‫‪ 2‬ـ التبكيت‪:‬‬
‫التبكيت هو المبالغة في التعنيف واللوم وجهاً لوجه‪ ،‬والفعل منه َّ‬
‫بكت ِّ‬
‫يبكت‬
‫تبكيتاً‪ ..‬وهو يثبت هذا األسلوب مدة التأثيرات العاطفية التي يتركها في صميم‬
‫النفوس‪ ،‬فهو ليس مجرد وسيلة لنقل رسالة من الرسائل‪ ...‬إنه ينحرف عن طبيعته‬

‫‪- 43 -‬‬
‫المباشرة ليلبي هدف التبكيت‪ ...‬كما يتوخاه المتكلم وفق حال المخاطب ومقامه‪.‬‬
‫إنه أسلوب يجمع جملة من العناصر الجمالية التي تستجيب لعواطف المتكلم‬
‫ومقاصده وترسي هدفاً ما عند المخاطب‪ ،‬وهي تخاطب عواطفه قبل عقله‪...‬‬
‫ولي ْبكوا كثيراً‪( ‬التوبة ‪.)9/82‬‬
‫وعليه قوله تعالى‪ :‬فليضحكوا قليالً َ‬
‫صرة‬ ‫فالمقام ـ هنا ـ للخبر ألن اآلية تتحدث عن المنافقين الذين قعدوا عن ُن ْ‬
‫المؤمنين؛ فرحين بما فعلوه‪ ،‬وكان ينبغي القول‪" :‬فسيضحكون قليالً ويبكون‬
‫كثيراً‪ ،‬إال أنه أخرج على لفظ األمر للداللة على أنه َحتْ ٌم واجب ال يكون غيره"(‬
‫‪ )33‬وعلى سبيل تبكيت أعمالهم وتوبيخ مقاصدهم‪ ...‬ومثله قوله تعالى‪ :‬فهل‬
‫نجازي إال الكفور‪( ‬سبأ ‪ )34/17‬وكأن اهلل سبحانه قال‪( :‬للكافر وحده العذاب)‪ .‬فالتأكيد هنا جاء‬
‫على تبكيته وإ دخاله نار جهنم‪ .‬ولكي يصل إلى هذا الهدف أنزل اإلنشاء منزلة الخبر حتى ال يحتمل‬
‫أمرًا آخر؛ ألنه ثابت عليه وال تبديل لـه‪ ....‬فالمقام للخبر واألسلوب أسلوب إنشاء ال يحتمل الصدق أو‬
‫الكذب‪ ...‬وعليه قول الشاعر‪:‬‬
‫ٍ‬
‫فقلت لها‪َ :‬ه ْل أثَّر اللَّ ْو ُم في َ‬
‫الب ْح ِر؟‬ ‫ُ‬ ‫ض ُل في َّ‬
‫الندى‬ ‫والئمة المتْ َك يا فَ ْ‬
‫فجمال الصورة الشعرية‪ ،‬ثم البالغية يكمن في صميم التضاد الضمني الذي‬
‫انطوى التركيب عليه؛ ثم شحنت العاطفة في المتلقي للوصول إلى الهدف الذي‬
‫تبتغيه‪ .‬وهذا ما نراه في التحاشي من المساواة؛ أي التنزيه عنها‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ التحاشي واالحتراز من مساواة الالحق بالسابق‪:‬‬


‫تمتاز اللغة العربية بعدد من أساليب البالغة باختالف المقاصد؛ كما تختلف‬
‫المضمون‪ ...‬وقد الحظت العرب أن الكالم يكون‬ ‫ُ‬ ‫صياغة كل جملة بما يتجه إليه‬
‫بمقدار الحاجة إليه‪ ...‬ولهذا وجدت أساليب اإلطناب واإليجاز‪ ...‬والمساواة(‪.)34‬‬
‫ولكن االحتراز من المساواة هنا يصبح وسيلة بالغية وهدفاً في وقت واحد‪...‬‬
‫فالمتكلم يحرص على أال يتساوى معنيان في الداللة‪ ،‬لهذا يلجأَ إلى تغيير صياغة‬
‫الجملة؛ فيجمع بين األسلوب الخبري واألسلوب اإلنشائي في الصياغة؛ وإ ن كان‬
‫بريء مما‬
‫ٌ‬ ‫ُشهد اهلل؛ واشهدوا أَني‬
‫المقام مقام إخبار‪ ..‬كقوله تعالى‪ :‬قال‪ :‬إني أ ُ‬
‫تُشركون من دونه‪( ‬هود ‪ )11/54‬لم يقل‪ :‬وأشهدكم‪ ،‬تحاشياً عن مساواة شهادة‬
‫اهلل تعالى بشهادة العباد "ألن إشهاد اهلل على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت‬
‫تهاون بدينهم وداللة‬
‫ٌ‬ ‫في معنى تثبيت التوحيد وشد معاقده‪ .‬أما إشهادهم فما هو إال‬
‫على قلة المباالة بهم فحسب؛ فعدل به عن لفظ األول الختالف ما بينهما‪ ،‬وجيء به‬
‫على لفظ األمر بالشهادة"‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫وتوضيح ما قاله الزمخشري "أن صيغة الخبر ال تحتمل إال اإلخبار بوقوع‬
‫إشهاد‬
‫ٌ‬ ‫اإلشهاد منه‪ ،‬فلما كان إشهاده هلل واقعاً محققاً عبَّر عنه بصيغة الخبر ألنه‬
‫وعبر في جانبهم بصيغة األمر التي تتضمن االستهانة بدينهم وقلة‬ ‫صحيح ثابت؛ ّ‬
‫المباالة بهم‪ ،‬وهو مراده في هذا المقام معهم‪.)350("...‬‬
‫ونرى أن ما جاء في هذا التوضيح وما قاله الزمخشري محتم ُل الداللة؛ ولكن‬
‫ما هو أحق منه أن إشهاد اهلل حقيقة؛ وكذلك إشهاده لهم‪ ،‬وإ نما عدل إلى صيغة‬
‫األمر للتمييز بين الخطاب اإللهي وخطابه لهم لعدم المساواة بينهما‪ ...‬فأراد أن‬
‫َج ُّل وأ َْوقَر من صيغة األمر‪ ،‬وإ ن‬
‫الخبر‪ ،‬وهي أ َ‬
‫يعبر عن الخطاب اإللهي بصيغة َ‬
‫كان فيها من الداللة إقامة الحجة عليهم‪.‬‬
‫وهذا األسلوب كثير‪ 0‬في القرآن الكريم يؤدي إلى وظائف نفسية وفكرية كثيرة(‪)36‬؛ ومثله قول‬
‫طرفة بن العبد‪:‬‬
‫ال تَر َك اهلل لـه ِ‬
‫واض َح ْه‬ ‫ت خالَ ْلتُ ُه‬ ‫ُك ُّل ٍ‬
‫خليل ك ْن ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فالشاعر َع َدل عن األسلوب الخبري لما يفيد من الحقائق‪ ،‬واستمرار الفعل‪،‬‬
‫وثباته على أ َْمر آخر؛ وهو نفيه بالدعاء‪ 0...‬فالشطر األول إثبات للصداقة والمودة‬
‫فنفي لها‪ .‬ولهذا أراد بتبديل األسلوب أن يثبت عدم المساواة بينهما وفَ َّر‬ ‫أما الثاني ٌ‬
‫من ذلك تحاشياً لهذا االعتقاد‪ ،‬وإ ن كان المقام مقام إخبار‪.‬‬
‫ولهذا فإن االتجاه إلى الكالم مفرداً أو مركباً ال ينعزل بأي حال من األحوال‬
‫عما يدل عليه‪ ،‬وجمالية الصياغة وأساليبها تنبع من قدراتها على اإليحاء بدالالت‬
‫كبيرة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الترغيب في الشيء والحث عليه‪:‬‬


‫تؤكد اللغة ـ عامة ـ أنها تتصف بنظام ما لنقل رسالة ما‪ ...‬وقد تكون في‬
‫الوقت نفسه أثراً فنياً‪ ...‬وهذا الذي ثار في ذهن (رومان جاكبسون) فسأل‪" :‬ما‬
‫الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً؟"(‪.)37‬‬
‫وقد ثبت لنا في عدد من أساليب البالغة أن اللغة حاجة نفسية ثم فكرية؛ قبل‬
‫كل شيء‪ ،‬وهي تعبر عن الشعور الذاتي وحاجاته بكل وضوح‪...‬‬
‫وحين ينظر الباحث إلى اجتماع صياغتين لغويتين في جملة واحدة ـ والمقام‬
‫مقام واحد في الداللة ـ يثور في نفسه سؤال‪ :‬ما سبب ذلك‪...‬؟‪ 0‬فقد تجمع الجملة بين‬
‫الخبر واإلنشاء‪ ،‬أو بين النفي واإلثبات(‪ )38‬أو بين األفعال واألسماء وغير‬
‫ذلك‪ ...‬وقد توقف علماء البالغة عند هذا التحول في الصياغة وسمي بأسلوب‬

‫‪- 45 -‬‬
‫االلتفات(‪ 0...)39‬وبعضهم قصره على انصراف المتكلم عن اإلخبار إلى‬
‫المخاطبة‪.‬‬
‫معنى‪ ،‬ويعترضه عارض يغير في أسلوب‬ ‫فحين يكون المتكلم آخذاً في‬
‫ً‬
‫الصياغة ليلفت االنتباه إليه‪ ...‬ويحث عليه ويرغب فيه‪ ...‬وهذا هو أسلوب‬
‫االلتفات‪ .‬أما في اجتماع الخبر مع اإلنشاء فإن الهدف المعروف منذ البداية كان‬
‫وراء تبدل األسلوب‪ ،‬والغاية هي هي في أسلوب االلتفات‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬وإ ن‬
‫فور رحيم‪( ‬التغابن ‪.)64/14‬‬‫صفحوا وتغفروا فإن اهلل َغ ٌ‬‫تَعفوا وتَ ْ‬
‫وقوله‪ :‬فاعف عنهم واصفح إن اهلل يحب المحسنين‪( ‬المائدة ‪.)5/13‬‬
‫فالعفو والصفح والغفران والرحمة ألفاظ متقاربة في المعنى‪ ،‬وكذلك العفو‬
‫والصفح واإلحسان‪ ...‬وإ نما جاء التشديد على ذكرها ترغيباً فيها وحثاً عليها وإ ن‬
‫اختلفت الصياغة في االبتداء باإلنشاء واالنتهاء بالخبر‪ 0...‬فالسياق والمقام لم‬
‫يتغير‪.‬‬
‫فأياً كانت المقاصد واألساليب فإنها تثبت أن إنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو‬
‫العكس إنما يؤدي وظيفة ما‪ ،‬في الوقت الذي يكسب الجملة جماالً أخاذاً؛ ألنها‬
‫كسرت القاعدة في الصياغة الرتيبة‪ ،‬وتحولت من شكل إلى شكل‪ 0...‬فصدق عليها‬
‫ما قاله جاكبسون‪ .‬فالصورة الجمالية الجديدة صورة انبعاث الرؤية الذاتية في‬
‫تعبير شفاف وخالّق يأخذ موقعه في نفس المتلقي كما ينبغي لـه بكل دقة وارتياح‪.‬‬

‫والو ْعظ‪:‬‬
‫صح َ‬ ‫‪ 5‬ـ النُّ ْ‬
‫قد يجتمع الخبر واإلنشاء في غرض التوجيه والنصح؛ وغالباً يقع هذا األسلوب في الشرط‪،‬‬
‫يجسد‬
‫وتكون جملة الجواب ـ في أكثر الحاالت ـ إنشائية؛ كقولنا‪( :‬كلما جاء زيد فأكرمه‪ )...‬فاإلنشاء ّ‬
‫نمطاً إيقاعياً جمالياً يرتفع في النفس بترداد حدة النغم فيه‪ ...‬وقد تكون جملة الجواب خبرية كقول زهري‪:‬‬

‫وإ الَّ تُ َ‬
‫ض ِّي ْعها َّ‬
‫فإن َك قاتلُ ْه‬ ‫للص ْي ِد ِغَّرةً‬ ‫ت‪ :‬تَعلَّ ْم أ َّ‬
‫َن َّ‬ ‫وق ْل ُ‬
‫فجملة الجواب ـ هنا ـ تطالعنا بالتعبير عما يتراءى للمتكلم ويعتقد بأن‬
‫المخاطب بحاجة إلى ما يراه نصيحة منه وإ رشاداً‪ 0...‬وبهذا يتحرك التركيب‬
‫البالغي في عالم الوجدان في صميم عالقة جدلية مع الفكر‪ 0....‬فالبنية اللغوية‬
‫البالغية منصهرة بالمشاعر الجياشة النتظام صالح اآلخر عن طريق إرساء رؤية‬
‫فكرية دقيقة تأخذ طريقها إليه لتعمق وعيه بالحقائق والجمال في وقت واحد‪.‬‬
‫ومن هنا يمكن للمرء أن يقول‪ :‬إن ذلك كله يصدق على أي موضع يوضع‬
‫فيه اإلنشاء موضع الخبر‪ ،‬أو العكس لغرض أخالقي أو تربوي أو اجتماعي‪0...‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫أو‪0...‬‬
‫فأساليب البالغة ـ بهذا الوعي ـ تحقق وظيفة مركبة وكبرى في عملية البناء‬
‫الفردي والجماعي‪ ،‬الفني والفكري‪ ...‬ويغدو كل أسلوب منها على ارتباطه بذلك‬
‫أسلوباً جمالياً مثيراً‪.‬‬
‫تلك هي صورة من صور أساليب البالغة في الخبر واإلنشاء‪ ،‬ومن ثم في‬
‫أج ّل الغايات‪ ،‬وأنبل المشاعر‪...‬‬
‫إنزال أحدهما مكان اآلخر‪ 0...‬وهي تعبر عن َ‬
‫ولعل جماليتها البديعة تتولد من خصائصها اللغوية والبالغية سواء عبَّرت عن‬
‫رؤية فردية أم رؤية جماعية‪ ...‬ومن ثم فهي تتوجه إلى المخاطب (المتلقي) تحت‬
‫إهاب النصح أو اإلرشاد أو التبكيت أو غير ذلك‪.‬‬
‫ثم تبقى تلك الصور قادرة على البوح بالمشاعر والحاجات العميقة كلما‬
‫حساً حياً ومتطوراً يعيش اللحظات الجمالية‬‫تجسد ّ‬ ‫تسربلت بخطوط أو ألوان متألقة ّ‬
‫بتدرج فكري ونفسي مطرد يدرك العالقات المتباينة و المتفقة فيها على السواء‪.‬‬
‫ونؤكد قائلين‪ :‬تلك هي صورة ألساليب البالغة العربية في هدفها الجمالي؛ وفي‬
‫قدرتها على إبراز تطور الفكر الفني العربي وارتقائه‪ ...‬فلم يكن في مراحله كلها‬
‫بما يختزنه من أسرار فنية وأدبية‪ ...‬أقل من أي فكر آخر‪ .‬فقد تبين لنا أن كل‬
‫عبر عن إنزال الشيء مكان اآلخر إنما انتهى ـ بما ال يقبل‬‫أسلوب بالغي جمالي ّ‬
‫الشك ـ إلى إثبات مدى تم ّكن العرب من الجملة اللغوية والبالغية التي تنبئ‬
‫بالصور الفكرية العظيمة؛ والدفقة الشعورية الفياضة‪ ....‬فالجملة اللغوية البالغية‬
‫في األسلوب السابق كانت موحية بجمالية المفارقات الداللية؛ وكأن البنية التركيبة‬
‫ال تقوى إال باجتماع الشيء وضده‪ ،‬وعلى المتلقي أن يستنبط إيحاءاتهما الجمالية‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫هذا هو الوجه الجمالي البالغي الذي أدركه الجرجاني بقوله‪" :‬وإ نه ليأتيك من‬
‫الشيء الواحد بأشباه عدة ويشتق من األصل الواحد أغصاناً في كل غصن ثمر‬
‫على حدة"(‪ .)40‬إنه إدراك جمالي يقوم على استنباط العالقات الداللية التي‬
‫يوحيها النسق البالغي؛‪ 0‬ليس باعتباره نسقاً لغوياً فقط‪ ،‬إنما باعتباره صورة بالغية‬
‫مشحنة بالرؤى واالنفعاالت كما دلت عليه أمثلته‪.‬‬
‫يحدونا بقوة إلى بيان جمالية الخبر واإلنشاء مفهوماً وداللة‬
‫ولعل ما قدمناه ُ‬
‫واكتناه أغراضهما وأساليبهما الحقيقية والمجازية‪ ...‬بادئين بأسلوب الخبر‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫***‬
‫حواشي الفصل األول من الباب األول‬
‫( ‪ )1‬الحيوان ‪ 4/90‬وانظر فيه ‪ 1/9‬و ‪.3/132‬‬
‫( ‪ )2‬انظر بيان إعجاز القرآن ‪.26‬‬
‫( ‪ )3‬انظر النكت في إعجاز القرآن ‪.98‬‬
‫( ‪ )4‬انظر إعجاز القرآن ‪.169‬‬
‫( ‪ )5‬انظر المغني في أبواب التوحيد والعدل ‪ 16/199‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )6‬انظر الصاحبي البن فارس (ت ‪ 395‬هـ)‪ 279 :‬واإلمتاع والمؤانسة ( ‪ )1/121‬مناظرة‬
‫السيرافي (ت ‪ 368‬هـ) مع يونس بن متَّى‪.‬‬
‫( ‪ )7‬انظر دالئل اإلعجاز ‪ 60 ،55‬و ‪ 81‬و ‪ 87‬و ‪ 315‬ـ ‪ 316‬وانظر ما يأتي من الفصل‬
‫الثاني حاشية ( ‪.)30‬‬
‫( ‪ )8‬كتاب‪ :‬مفتاح العلوم للسكاكي‪ ،‬واإليضاح في علوم البالغة‪ ،‬والتلخيص في علوم البالغة‬
‫للقزويني‪ ،‬والمطول (الشرح المطول على التخليص) للتفتازاني‪.‬‬
‫( ‪ )9‬الكشاف ‪/1‬ك و ‪ ،11‬وانظر‪ :‬البالغة تطور وتاريخ ـ د‪ .‬شوقي ضيف ـ ‪ 221‬و ‪ 271‬و‬
‫‪.288‬‬
‫( ‪ )10‬انظر نهاية اإليجاز في دراية اإلعجاز ‪.36‬‬
‫( ‪ )11‬انظر مفتاح العلوم ‪ 247‬و ‪ 250‬و ‪.414‬‬
‫( ‪ )12‬انظر المصباح‪.‬‬
‫( ‪ )13‬مفتاح العلوم ‪ 247‬وانظر اإليضاح ‪.15‬‬
‫( ‪ )14‬اإليضاح ‪.15‬‬
‫( ‪ )15‬انظر‪ :‬عروس األفراح للس ُّْبكي ا‪ 51 /‬ـ ‪.53‬‬
‫( ‪ )16‬انظر كتاب الدكتور شوقي ضيف (البالغة تطور وتاريخ) وكتاب الدكتور أحمد مطلوب‬
‫(أساليب بالغية)‪ ،‬ومع البالغة العربية في تاريخها للدكتور محمد علي سلطاني‪.‬‬
‫( ‪ )17‬انظر البالغة تطور وتاريخ ‪ 219‬و ‪ 270‬وتاريخ النقد األدبي ‪ 2/214‬ـ ‪ 235‬ومن‬
‫تجليات الخطاب البالغي ‪ 49‬و ‪ 72‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )18‬انظر المطول ‪ 43‬وأساليب بالغية ‪.78‬‬
‫( ‪ )19‬البيان والتبيين ‪ 2/7‬ـ ‪ 8‬وانظر الصورة الشعرية ـ سيسيل دي لويس ـ ‪ 23‬والمنهج‬
‫األسطوري في تفسير الشعر الجاهلي ‪ 78‬وفلسفة الجمال في الفكر المعاصر ‪ 42‬ـ ‪ 44‬و‬
‫‪.68‬‬
‫( ‪ )20‬انظر اإليضاح ‪ 18‬ـ ‪.21‬‬
‫( ‪ )21‬انظر أدب الكاتب ‪.4‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫( ‪ )22‬انظر البرهان في وجوه البيان ‪.113‬‬
‫( ‪ )23‬الصاحبي في فقه اللغة العربية ‪.179‬‬
‫( ‪ )24‬انظر مفتاح العلوم ‪ 251‬ـ ‪ 252‬واإليضاح ‪ 18‬ـ ‪.21‬‬
‫( ‪ )25‬اإليضاح ‪ 18‬وانظر شروح التلخيص ‪ 1/183‬وكشاف اصطالحات الفنون ‪ 2/16‬ـ‬
‫‪.18‬‬
‫( ‪ )26‬انظر فجر اإلسالم ‪.144‬‬
‫( ‪ )27‬انظر مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ ‪.25‬‬
‫( ‪ )28‬انظر المغني في أبواب التوحيد ‪ 16/299‬ـ ‪ 301‬والبرهان في علوم القرآن ‪.3/398‬‬
‫( ‪ )29‬انظر الكشاف للزمخشري ‪.2/342‬‬
‫( ‪ )30‬انظر المصدر السابق ‪.4/193‬‬
‫( ‪ )31‬المصدر السابق ‪.2/75‬‬
‫( ‪ )32‬المصدر السابق ‪.2/270‬‬
‫( ‪ )33‬المصدر السابق ‪ 2/205‬ـ ‪.206‬‬
‫( ‪ )34‬انظر تحرير التحبير ‪ 198‬و ‪ 454‬و ‪.459‬‬
‫( ‪ )35‬الكشاف ‪ 2/276‬والرأي األصوب مع الزمخشري‪.‬‬
‫( ‪ )36‬انظر مثالً‪ :‬آل عمران ‪ 3/52‬و ‪ 58‬والمائدة ‪ 5/111‬واألعراف ‪ 7/172‬وهود‬
‫‪.11/17‬‬
‫( ‪ )37‬قضايا الشعرية ‪ 24‬والنظريات الموجهة نحو القارئ ‪ 103‬ـ ‪ 104‬وهسهسة اللغة ‪167‬‬
‫ـ ‪ 170‬وحاشية رقم ( ‪ )109‬من الباب الثاني‪.‬‬
‫( ‪ )38‬انظر تحرير التحبير ‪ 377‬و ‪.593‬‬
‫( ‪ )39‬انظر تحرير التحبير ‪ 123‬والكشاف ‪.1/62‬‬
‫( ‪ )40‬أسرار البالغة ‪ 114‬ـ ‪.115‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬جمالية أسلوب الخبر‬

‫القسم األَول‪ :‬مفهوم الخبر وأغراضه وأساليبه‬

‫‪ 1‬ـ مفهوم الخبر‪:‬‬


‫انتهينا فيما سبق إلى أن البالغيين العرب لم يتفقوا على تعريف واحد للخبر؛‬
‫وإ ن شاع تعريف القزويني لـه قديماً وحديثاً‪ ...‬وملخصه أنه كل كالم يحتمل‬
‫الصدق والكذب لذاته‪...‬‬
‫ويؤكد ذلك تعريف فخر الدين الرازي (ت ‪ 606‬هـ) بقوله‪ :‬إنه "القول‬
‫وم ْن َح َّده بأنه‬
‫المقتضى بتصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفي أو باإلثبات‪َ .‬‬
‫المحتمل للصدق والكذب المحدودين بالخبر لزمه الدور‪ .‬ومن َح َّده بأنه المحتمل‬
‫للتصديق والتكذيب المحدودين بالصدق والكذب وقع في الدور مرتين"(‪ .)1‬فالنفي‬
‫تعمد الكذب ال الكذب كقول الكافر‪( :‬الحق باطل)‪ 0...‬وتصديقه قوله‪( :‬الحق‬
‫َع ْد ٌل)‪.‬‬
‫وبهذا نظروا إلى الخبر باعتبار مطابقة الواقع ْأو ال؛ بغض النظر عن قائله؛‬
‫فأخرجوا كل ما يتعلق (بالقرآن والحديث والبديهيات والحقائق العلمية والمسلمات‬
‫التي ال يشوبها الشك) من احتمال الكذب فيها مع أنها تنتمي إلى اإلخبار‪ ...‬فهو‬
‫أسلوب بالغي جمالي شديد التركيب وإ ن ظهر للوهلة األولى أنه بسيط وقريب‪.‬‬
‫وكنا أبرزنا في مناقشتنا السابقة عدم دقة تعريف الخبر لديهم؛ لقصور واضح في‬
‫نع ّرف الخبر في إطار ما سبق كله بأنه كل كالم يحتمل‬ ‫جوانب شتى‪ .‬ويمكننا أن ُ‬
‫الصدق أو الكذب لذاته أو باعتبار اعتقاد قائله أو باعتبار الواقع الحقيقي أو‬
‫الفني‪.‬‬
‫حد‬
‫ولعل هذا التعريف ال يخرج أي نمط من أنماط القول التي ينطبق عليها ّ‬

‫‪- 50 -‬‬
‫الصدق أو الكذب‪ 0...‬وهو يسلمنا إلى بيان أغراض الخبر الحقيقية ثم المجازية؛‬
‫ومؤكداته‪ 0...‬ليثبت ذلك كله أنه من الخطأ الفادح‬
‫أضربه ُ‬
‫بعد يوقفنا عند ُ‬
‫ومن ُ‬
‫التعامل مع أسلوب الخبر على أساس صورته اللغوية المباشرة‪ ،‬أو من خالل ما‬
‫شاع لـه من تعريف أحادي االتجاه‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ أغراض الخبر وأساليبه‪:‬‬


‫نظر البالغيون إلى أغراض الخبر باعتبار المتكلم ـ ووفق مقتضى الظاهر ـ‬
‫فوجدوا أن لـه غرضين أصليين‪ .‬فهناك جملة ألقاها المتكلم بغرض إفادة‬
‫المخاطب؛ أطلق عليها (فائدة الخبر)‪ .‬وهناك جملة أخرى أُْلقيت بغرض اإلمتاع‬
‫وتحقيق الخبر وتوكيده عند السامع أطلق عليها اصطالحاً (الزم الفائدة)‪.‬‬
‫ونظروا إليها باعتبار المتكلم والمخاطب ـ وبخالف مقتضى الظاهر ـ فوجدوا‬
‫لها ثالثة أغراض‪ ،‬ثم رأوا أن هناك أغراضاً خرجت عن ذلك كله فأطلقوا عليها‬
‫األغراض المجازية‪ ...‬وهذا كله ما سنحاول إيضاحه تباعاً‪.‬‬

‫أوالً ـ األغراض وفق مقتضى الظاهر‬


‫للخبر غرضان وفق هذا االتجاه وهما‪:‬‬
‫أ ـ فائدة الخبر‪:‬‬
‫هو إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة أو الكالم‪ ...‬وهو األصل في‬
‫أي خبر يقدمه المتكلم للمخاطب‪ 0...‬وفيه يتصور المتكلم أن المخاطب خالي الذهن‬
‫علم يقدم إليه بالخبر‪ ،‬ولم يفكر فيه‪ ،‬ولم ُيعمل ذهنه بمعرفته؛ ولم يكن لـه‬‫من ٍ‬
‫موقف نحوه فيقدم لـه المتكلم جديداً يفيده به؛ أي إنه يريد أن يفيد السامع بما كان‬
‫يجهله‪...‬‬
‫وهذا الخبر ينظر إليه باعتبار المتكلم وحده؛ مما ينقض آراء البالغيين‬
‫حول التعريف الذي تبنوه للخبر وفق عالقته بالمخاطب‪ ...‬ونبدأ بقوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬تبارك الذي َّ‬
‫نزل الفُ ْرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً‪( ‬الفرقان ‪ 25/1‬ـ ‪ .)2‬فاهلل‬
‫سبحانه وتعالى الذي يتصف بالعدل والصدق‪ ....‬أراد هداية البشر فأخبرهم بأنه نزل كتابه على رسوله‬
‫لينذرهم بوساطته إلى صراط مستقيم‪ ...‬ولم يكن لديهم علم به قبل نزوله‪ .‬ومثله قول الفرزدق حين‬
‫طلق زوجه (النوار) ومن ثم ندم على فعلته التي أخرجته من جنتها؛ مثله مثل آدم الذي أخرجه فعله من‬
‫الجنة؛ فهو يخبرنا بذلك ولم نعلم به من قبل‪:‬‬

‫ِّرار‬ ‫كآدم حين َّ ِ‬ ‫وكا َن ْت َج َّنتي فَ ْ‬


‫لج به الض ُ‬ ‫َ‬ ‫ت منها‬
‫خرج ُ‬

‫‪- 51 -‬‬
‫وقال المتنبي موضحًا لسامعيه ما يراه في بعض الناس من التقصير في عمل اخلري‪:‬‬
‫تمِم‬
‫بم ِّ‬ ‫ٍ‬
‫وال ُك ُّل فَ َّعال لـه ُ‬
‫ٍ‬
‫بفاعل‬ ‫ِ‬
‫للجميل‬ ‫كل ٍ‬
‫هاو‬ ‫وما ُّ‬
‫فهو يفيدهم بما ال يعرفونه‪ ،‬ولهذا فإن أسلوب الخبر يتجه إلى االقتصاد‬
‫اللغوي فيما يدل عليه فقط‪ .‬ثم إن هذه الجمل التي استشهدنا بها تناقض ما قاله‬
‫البالغيون في شأن توضيح غرض الفائدة حين حصروه بالجملة الخبرية المتجهة‬
‫إلى ذلك دون التواء؛ وأخذوا الشواهد من القرآن والشعر باعتبار التفسير الظاهري‬
‫للخطاب اللغوي المباشر‪ .‬ولهذا تحررنا من الخطاب المباشر من جهة؛ وربطنا‬
‫الخبر بالمتكلم من جهة أخرى‪ ،‬إذ تبينا أن القول الذي يلقيه المتكلم إلفادة المخاطب‬
‫يتضمن فكرة بديعة بأسلوب أدبي رفيع ومثير‪...‬‬
‫فهو حكم مطابق للواقع الحقيقي ومنسجم مع تطلعاتنا الفنية والبالغية‪ ،‬على‬
‫اعتبار أن صاحبه يعرف تماماً ما يهدف إليه‪ ....‬وعليه قوله تعالى في اإلخبار‬
‫عن الغيبة ـ وهو كثير في القرآن الكريم ـ‪َّ  :‬إنا فَتَ ْحنا لك فتحاً ُمبيناً‪( ‬الفتح ‪.)48/1‬‬

‫ب ـ الزم الفائدة‬
‫هو إفادة المخاطب أن المتكلم عالم بالحكم؛ ولهذا فال يقدم معرفة أو علماً‬
‫يذكر للمخاطب‪ 0...‬فضالً عن جماليته المتضائلة‪ ،‬مما يدعو إلى إهماله أحياناً‪.‬‬
‫هذا ما رأيناه في بعض كتب البالغة عن هذا الغرض؛ فالمتكلم يريد إخبار المخاطب أنه يعلم‬
‫الخبر الذي يعرفه‪ ....‬وهنا ُيستشهد ببيت‪ 0‬المتنبي في مدح شجاعة سيف الدولة وبطولته‪:‬‬

‫المطاعم‬ ‫الو ِ‬
‫كور‬ ‫بك الخي ُل الوكور على ُّ‬
‫ُ‬ ‫وقد كثَُر ْت حول ُ‬ ‫الذرا‬ ‫َ‬ ‫تدوس َ‬
‫ُ‬
‫فسيف الدولة يعلم بذلك كله‪ ،‬كما هو في بعض كتب البالغة‪ ،‬وال تزيد عليه‬
‫شيئاً ُيذكر كما ذهبت إليه‪.‬‬
‫ولو افترضنا أن زيداً قد زار صديقه محمداً ؛ فخاطبناه بقولنا‪( :‬زارك زيد البارحة) لكان الخبر‬
‫من هذا الباب‪ ،‬ألنه ال يحمل عبارة مشرقة ومفيدة؛ ولكن لو قلنا له‪( :‬زيارة زيد لك البارحة كانت ماتعة‬
‫ومثمرة)‪ 0...‬الختلف أسلوب العبارة والعلم بداللتها‪ .‬وهذا الذي يتّصف به الكالم البليغ الذي يمتاز من‬
‫صور فيها بطولة سيف الدولة‬ ‫الكالم السقيم‪ .‬ومن هنا فالمتنبي لم َي ُسق الخبر بعبارة جافة ومنفرة‪ ،‬وإ نما َّ‬
‫بسنَة‪:‬‬
‫َ‬ ‫الخالفة‬ ‫مه‬ ‫بأسلوب بديع‪ .‬ومثله وجدناه في مدح الفرزدق لسليمان بن عبد الملك بعد تسلّ‬

‫عاد ْت فواضلُ ْه‬ ‫ِ‬


‫وس ٍّت مع التسعين َ‬ ‫مض ْت له‬
‫أرى اهللَ في تسعين عاماً َ‬
‫فسليمان يعلم أن اإلسالم مضى عليه من الهجرة ستة وتسعون عاماً انتهى‬
‫فضلها كله‬
‫إليه‪ ..‬ولكن الفرزدق ساقها بشكل لطيف ومثير حين ساق الخطاب بإرادة‬

‫‪- 52 -‬‬
‫إلهية؛ وجعل الخير يستقر بين يدي سليمان‪.‬‬
‫فمشاركة المتكلم المخاطب بمعرفة الحكم كالم مفيد‬
‫بيد أنه قد ال يضيف تفرداً جمالياً إذا ُحمل الخبر على‬
‫الحدي لالزم الفائدة‪ ،‬فحين قلنا لمحمد قبل قليل‪:‬‬
‫المفهوم ّ‬
‫(زارك زيد البارحة‪ )...‬فقد ألقيها بطريقة تدل على‬
‫استهجان‪ ،‬أو تعجب‪ ،‬أو مدح‪ 0...‬ما يجعلها ترتبط باعتقاد‬
‫المتكلم ومشاعره وتصوره‪ ،‬فيضاف إلى باب االشتراك‬
‫في الحكم معنى جديد لم يعرفه المخاطب‪ 0.‬ولهذا يصبح‬
‫لعالمات الترقيم مكانة جمالية في أساليب البالغة ترتبط‬
‫بالقرينة مشافهة وكتابة‪ .‬ثم إن القرينة في الكالم قد تدل‬
‫على معنى ال يعرفه المخاطب‪ ،‬أو ال يتخيل أن يقوله‬
‫المتكلم على الوجه الذي سيق فيه‪ ...‬وهذا ما نستشفه من‬
‫مدح المتنبي لسيف الدولة الذي طفح وجهه بالبشر حين‬
‫رأى هزيمة عدوه وكثرة ما أوقعه باألبطال من القتل‬
‫والجراحة؛ ولكن لم يكن يعلم بالطريقة التي سيصف بها‬
‫المتنبي ذلك كله في قوله البديع القائم على مفهوم التقابل‬
‫الجمالي‪ 0‬الطريف بين الشطر األول والثاني‪ ،‬فاألول يوحي‬
‫بالعبوس‪ ،‬وجهامة وجه المهزوم‪ ،‬والثاني يشي بانتصار‬
‫سيف الدولة وعزته‪ ،‬حين طفح وجهه بالبشر والفرحة‪،‬‬
‫وهو يستعرض جنود أعدائه المهزومين فيقول‪:‬‬
‫باسم‬
‫َّاح وثَ ْغ ُر َك ُ‬
‫وو ْج ُه َك وض ٌ‬
‫َ‬ ‫بك األبطا ُل َك ْلمى هزيم ًة‬
‫تمر َ‬
‫ُّ‬
‫وضحالة‬
‫أضحوكةً َ‬‫ُ‬ ‫قر بمبدأ التقسيم الوارد في الخبر‪ ،‬لكننا نرى فيه‬ ‫فنحن ُن ُّ‬

‫‪- 53 -‬‬
‫إن وقف عند مفهوم االشتراك في حكم المعرفة بين المتكلم والسامع في الزم‬
‫الفائدة‪.‬‬
‫رؤى جديدة‬
‫ً‬ ‫وهنا نسجل لعلم الكالم فضالً على أسلوب الخبر‪ ،‬إذ َّ‬
‫قدم‬
‫ألغراضه؛ وبخاصة حين منح أسلوب الخبر بعض المصطلحات مثل (المحكوم‬
‫عليه) و(المحكوم به) و(الزم الفائدة)‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أنه قيَّد البالغة بمفاهيمه المنطقية الخاصة؛ فإن البالغة‬
‫بجمالياتها بقيت أعظم منه بكثير‪ ...‬ما جعلتنا نقترح تعريفنا السابق للخبر‪ ،‬ثم‬
‫لغرضي الخبر‪ ،‬وهو تحليل يتفق مع روح البالغة وأساليبها‬ ‫َ‬ ‫عرضنا تحليالً جمالياً‬
‫بحد ذاتها‪ ،‬وإ ن لم ترتق إلى ما‬
‫الفنية‪ ...‬دون أن ننكر تقسيماتها أو تفريعاتها ّ‬
‫تحدثنا عنه‪.‬‬
‫هذان هما الغرضان األصليان اللذان يهدف إليهما الخبر وفق مقتضى‬
‫الم ْفلقين السحرة في هذا الفن ينفثون‬
‫الظاهر‪ ...‬ويقول السكاكي‪ " :‬ثم إنك ترى ُ‬
‫الكالم ال على مقتضى الظاهر كثيراً"(‪ ،)2‬وكأنه ال يرضيه إال هذا الغرض؛ إذ‬
‫يستشف من عبارته أنه يزري بمن سبقه في الحديث عن هذا الغرض‪.‬‬

‫ثانياً ـ األغراض بخالف مقتضى الظاهر‪:‬‬


‫ترتبط األغراض التي تخرج بخالف مقتضى الظاهر بالمتكلم والمخاطب‬
‫مترد ٌد سائل‪ ،‬أو خالي الذهن‬
‫معاً‪ ،‬فالمتكلم يعامل المخاطب على أنه خالي الذهن ّ‬
‫شاك‪ ،‬أو خالي الذهن ُم ْن ِكر‪ ...‬وكل ذلك مرتبط بمقاصد المتكلم ومعرفته‪...‬‬
‫ٌّ‬
‫وبتصوره ألحوال المخاطب‪ ...‬وقد ينزل المتكلم المخاطب المنكر منزلة غير‬
‫المنكر والعكس صحيح ألمر بالغي ما‪ ...‬إنها ثالثة أغراض في عرف البالغيين‬
‫العرب‪ ،‬ويزيد الفراء والزمخشري وغيرهما غرضاً رابعاً فنياً‪ ...‬وهو استعمال‬
‫لفظ مكان لفظ ألمر بالغي ما‪ 0...‬وسنعرضها بالتفصيل‪.‬‬

‫والم ْن ِكر‬
‫والشاك ُ‬
‫ّ‬ ‫أـ إنزال خالي الذهن منزلة السائل المتر ّدد‬
‫سنتوقف بعد قليل عند أضرب الخبر باعتبار طريقة إلقائها للمخاطب‪ 0...‬تبعاً‬
‫ألحواله في قبول الخبر أو إنكاره‪ ...‬ولهذا يحتاج المتكلم إلى توكيد خبره بمؤكد أو‬
‫أكثر حسب الحاجة في الخطاب‪ ...‬وهذا هو الشيء الحسن في الخطاب البالغي‪0،‬‬
‫فح ْسنه تقويته بالمؤكدات المراعية لحال السامع‪ .‬ويظهر لنا أن أنماط المؤكدات‬
‫ُ‬
‫تستعمل في أغراض الخبر التي تكون بخالف الظاهر؛ إذا أنزل المتكلم مخاطبه‬

‫‪- 54 -‬‬
‫ك‪ ،‬أو المنكر على الرغم من أنه خالي الذهن تماماً‬
‫منزل السائل المتردد‪ ،‬أو الشا ّ‬
‫من حكم الخبر‪.‬‬
‫فالمتردد والشاك في الحكم ليس متيقناً منه بين الرافض له‪ ،‬والقابل به؛‬
‫والمنكر لـه يكون أقرب إلى رفضه وعدم قبوله‪ ...‬ما يجعل المتكلم يتبع طريقة‬
‫مغايرة في إلقاء الخبر إليه مغايرة للطريقة التي يتبعها فيما لو أنزلـه تلك المنزلة‪...‬‬
‫فالجملة الخبرية تتخذ أسلوباً جمالياً شفيفاً وجديداً ومتنوعاً بوساطة المؤكدات‬
‫أو الشرح والتفصيل‪ 0...‬وهو أسلوب يعتمد على المخزون الشعوري الفياض‬
‫والمتوتر‪.‬‬
‫فالمخاطب المتردد يمكن أن يلقى إليه الكالم بمؤكد واحد؛ أو بالشرح له؛‬
‫ومثله الشاك كقوله تعالى يخاطب فيه نوحاً (عليه السالم)‪ :‬وال تخاطبني في الذين‬
‫ظلموا؛ إنهم ُم ْغ َرقون‪( ‬هود ‪.)37 /11‬‬
‫جملة "إنهم مغرقون" جملة خبرية مؤكدة بالحرف (إن)‪ 0...‬فاألصل أن تخرج‬
‫وفق مقتضى الظاهر؛ وتكون (فهم مغرقون) ألن (نوحاً) خالي الذهن من الحكم‬
‫فيها‪ ،‬وكان يدور في خلده موقف نفسي آخر في الذين خاطب بهم ربه؛ في أن‬
‫يغفر لهم وابنه منهم‪ ...‬لهذا خرجت جملة (إنهم‪ 0)...‬بخالف مقتضى الظاهر‪،‬‬
‫وتقدم لـه الخبر لينتهي التردد الذي حصل في نفسه حول مصير القوم‪ 0...‬واستعمل‬
‫فيها مؤكداً واحداً‪.‬‬
‫وإ ذا زادت حيرة المخاطب وترددهُ في قبول الحكم استعمل في الخبر أكثر‬
‫إبراهيم‬
‫َ‬ ‫من مؤكد كقولـه تعالى في خطابه إلبراهيم (عليه السالم)‪ :‬فلما ذهب عن‬
‫ليم أ ََّواه ُمنِ ْيب يا‬
‫ٍ‬
‫لح ٌ‬‫البشرى؛ يجادلُنا في قوم لُ ْوط* إن إبراهيم َ‬
‫وجاءتْه ُ‬
‫َ‬ ‫الر ْوع‪،‬‬
‫َّ‬
‫ذاب َغ ْي ُر مردود‪( ‬هود‬ ‫ربك؛ وإ نهم آتيهم َع ٌ‬
‫إبراهيم أَعرض عن هذا؛ إنه جاء أ َْمر َ‬
‫‪ 74 /11‬ـ ‪.)76‬‬
‫فإبراهيم (عليه السالم) في موقف حيرة وتردد وتساؤل عن أمر القوم بعد‬
‫جدال طويل فيهم‪ ...‬ألنه طامع في أن ُي ْغفَ َر لهم على علمه بذنوبهم‪ ...‬ما اقتضى‬
‫الخطاب اإللهي أن يزيد المؤكدات لمناسبة مقتضى الحال والمقام النفسي له‪...‬‬
‫وهو مقام مختلف عما رأيناه عند نوح من قبل‪ ...‬لهذا كله جيء بالمؤكد َّ‬
‫(إن)‬
‫ثالث مرات؛ آخرها كان اإلبرام فيها بالقرار (إنهم آتيهم‪ )...‬ومن قبل استعمل‬
‫حرف الالم مع (حليم) فقال (لحليم)‪0...‬‬
‫فس أل ََّم َارةٌ بالسوء‪( ‬يوسف ‪/12‬‬ ‫إن َّ‬
‫الن َ‬ ‫ُبرئ نفسي؛ َّ‬
‫أما قوله تعالى‪ :‬وما أ ّ‬
‫ّ‬

‫‪- 55 -‬‬
‫‪ )53‬فيوسف يتساءل في نفسه على لسان أحد ما‪ :‬لماذا تبرئ نفسك؟ وهو مقام‬
‫استنكاري‪ ،‬فاستخدم (إن والالم)؛ ويوضح هذا تمام اآلية "إال ما رحم ربي"‬
‫وسياقها في النص‪ ،‬وقيه ورد توكيدان لصدق يوسف‪ ،‬وإ زالة اإلنكار الذي يعتقد به‬
‫فيه‪ ،‬حين قالت امرأة العزيز‪ :‬وإ نه لمن الصادقين‪( ‬يوسف ‪ ،)51 /12‬وحين قال‬
‫وأن اهلل ال َي ْهدي َك ْي َد الخائنين‪ ،‬وما أَُب ِرئُ‬
‫َخ ْنه بالغيب‪َّ ،‬‬
‫يوسف‪ :‬ذلك ليعلم أَني لم أ ُ‬
‫نفسي‪( ‬يوسف ‪ 52 /12‬ـ ‪.)53‬‬
‫من هنا ثار السؤال حين تصور اآليات إنساناً ما يقول ليوسف‪ :‬لماذا تبرئ‬
‫نفسك‪...‬؟‪ 0‬لذلك عومل هذا اإلنسان معاملة المنكر الجاحد إنكاراً قطعياً‪ ،‬ال متردداً؛‬
‫لما أحاطه باإلنكار الشديد المبرم‬
‫فألقي إليه الخبر على أنه خالي الذهن؛ أي‪ّ :‬‬
‫استدعى الحكم في الجملة عدداً من المؤكدات مراعاة لمقتضى الحال‪ ...‬ومنها‬
‫تتولد دالالت تخفي جملة من المكنونات النفسية والمعنوية البعيدة عند المتلقي قبل‬
‫المتكلم؛ مما يضفي عليها طابعاً جمالياً ساحراً‪.‬‬
‫وقد أدرك البالغيون واألدباء مدى جمالية هذا األسلوب في الخطاب‪،‬‬
‫وافتراقه من غيره؛ وهو أسلوب ٍ‬
‫جار على بالغة كالم العرب(‪ ،)3‬إذ يجعل فيه‬
‫المتكلم مجال اإليحاء متجاوزاً االنطباعات المباشرة‪.‬‬

‫ب ـ إنزال غير المنكر منزلة المنكر‬


‫الم ْن ِكر وإ ن‬
‫المخاطب على أنه خالي الذهن‪ ،‬ولكنه ينزله منزلة ُ‬ ‫المتكلم‬
‫ُ‬ ‫يعامل‬
‫ِ‬
‫لم يكن في الحقيقة ُم ْنكراً‪ 0...‬والمنكر ألي حكم يظهر عليه شيء من اإلنكار في‬
‫تصرفه أو قوله على نحو ما‪0...‬‬
‫لهذا يتخيل المتكلم مخاطباً ما منكراً لما سيلقي إليه من معلومة فيؤكد خبره‬
‫إليه بعدد من المؤكدات تبعاً لحالة التصور اإلنكاري ليتأكد هو أن إمارات الشك‬
‫واإلنكار قد زالت‪ ...‬فالمؤكدات ـ بهذا الفهم ـ ليست ضرباً من الزخرف الخارجي؛‬
‫وإ نما هي تشكيل لغوي وظيفي بأسلوب جمالي بديع ندر وقوعه في غير لغتنا‪،‬‬
‫المضغة‬
‫ْ‬ ‫ض َغة‪ ،‬فخلقنا‬
‫طفة َعلَقة‪ ،‬فخلقنا العلقة ُم ْ‬ ‫وعليه قوله تعالى‪ :‬ثم خلقنا ُّ‬
‫الن ْ‬
‫َحسن الخالقين* ثم‬
‫عظاماً‪ ،‬ف َك َسونا العظام لحماً؛ ثم أ َْنشأناه َخْلقاً آخر‪ ،‬فتبارك اهلل أ ُ‬
‫إنكم بعد ذلك لميتون* ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‪( ‬المؤمنون ‪ 14 /23‬ـ ‪.)16‬‬
‫وكيف نغفل الحديث عن جمالية النسق الحرفي المتدفق المثير الذي يصور اإلنسان‬
‫غيه؛ غافالً عن ِذ ْكر ربِّه؛ متغابياً عن حقيقة البعث‪ ،‬وإ ن اعتقد بوجود‬ ‫سادراً في ّ‬
‫المنكر‪ ،‬لذا أورد عدداً من المؤكدات بقوله تعالى‪ :‬ثم‬ ‫الموت؟ فالنص ينزله منزلة ِ‬

‫‪- 56 -‬‬
‫إنكم بعد ذلك لميتون‪( ‬إن ـ والالم ـ وميِّتون) بدل (يموتون)‪ ....‬ومن ثم قوله "ثم‬
‫يوم القيامة تُبعثون"‪ .‬فكرر الحرف (ثم) ليدل على طبيعة المهلة والتراخي بعد‬ ‫إنكم َ‬
‫الموت ولكن البعث واقع‪ ،‬فجاء بالتوكيد (إنكم)‪0...‬‬
‫فطبيعة الجملة تقدم محاكمة عقلية وفق قياس يتغير لتغير حالة الشعور‬
‫والموقف للمخاطب‪.‬‬

‫ضلة (أحد‬
‫ويذكر بعض كتب البالغة قول َح َجلة بن َن ْ‬
‫شعراء األصمعيات)‪ 0‬في هذا املقام(‪:)48‬‬
‫رماح‬
‫ُ‬ ‫إن َبني َع ِّم َك فيهم‬
‫َّ‬ ‫شقيق عارضاً ُر ْم َح ُه‬
‫ٌ‬ ‫جاء‬
‫َ‬
‫فشقيق عال صهوة حصانه وجاء ساحة القوم‪ ،‬وقد عارض رمحه معارضة؛‬
‫ومظهراً شدة إعجابه بفروسيته وشخصه‪ ،‬اعتقاداً منه أن أي أحد‬ ‫ِ ًّ‬
‫ُمدال بشجاعته ُ‬
‫من بني عمومته ال يجرؤ على مجابهته‪ ،‬فألقي إليه الخبر (إن بني عمك‪ )...‬مؤكداً‬
‫بـ "إن" ليزيل عنه عالمات اإلنكار والتوهم التي ظهرت في تصرفه وتصوره‪.‬‬

‫وهذا يماثله قول الفرزدق حين مدح عبد الرحيم بن‬


‫سليم الكلبي في قوله‪:‬‬
‫غيرها‬ ‫الع ْق ِد قد َ‬
‫ش َّد القُوى َم ْن ُي ُ‬ ‫من َ‬ ‫وإ نا ـ و َك ْلباً ـ إِخوةٌ‪ ،‬بيننا ُع ً‬
‫رى‬
‫فالفرزدق يقف عند إرثه الثقافي واالجتماعي (تجربة األحالف بين القبائل)‬
‫ليشيد بتجربة قومه في هذا؛ فيتخيل أقواماً ينكرون العالقة الصادقة ببني كلب؛‬
‫وينزلهم منزلة المنكر‪ ،‬على الرغم من عدم وجودهم‪ .‬ولهذا يستعمل المؤكدات‬
‫(إنا‪ ...‬وقد‪)...‬؛‪ 0‬فالعالقة بين الحيين متينة أحكم عقد صالتها رجال حكماء‬
‫أشداء‪ ...‬وكل بصير بالحقائق يكتشف أبعاد تلك األخوة التي تغيب عن بال الناس‬
‫العاديين‪.‬‬

‫ج ـ إنزال المنكر منزلة غير المنكر‬


‫قد ينزل المتكلم المخاطب المنكر ألي حكم منزلة غير المنكر؛ ويخاطبه على‬
‫أنه خالي الذهن بخالف مقتضى الظاهر‪ ،‬ومقتضى الحال‪ ...‬ويرى أن هذا‬
‫األسلوب يجعله أكثر ارتداعاً عن إنكاره‪.‬‬
‫فالمتكلم في هذه الحال يلقي كالمه بال توكيد‪ ،‬وإ ذا استدعى الخطاب توكيده‬

‫‪- 57 -‬‬
‫فال يزيد على مؤكد واحد من المؤكدات المعروفة لفظاً أو معنى‪ 0...‬وعليه قوله‬
‫دى للمتقين‪( ‬البقرة ‪.)2 /2‬‬
‫ب فيه ُه ً‬‫تعالى‪ :‬ذلك الكتاب ال َر ْي َ‬
‫فالخطاب اإللهي ينزل الكفار المعاندين المستكبرين منزلة من هو خالي‬
‫الذهن‪ ،‬وغير المنكر للقرآن الكريم؛ فأُلقي إليهم الكالم بال توكيد‪ ،‬على خالف‬
‫الظاهر لعلهم يعودون إلى رشدهم ويهتدون به‪.‬‬
‫وهذا األسلوب ينطبق عليه قوله تعالى‪ :‬ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‪‬‬
‫(المؤمنون ‪ .)16 /23‬فالمؤمنون ال ينكرون يوم القيامة‪ ،‬ولكن الغافلين والكفار‬
‫ينكرونه لعدم وجود أدلته الظاهرة؛ فجاء الخطاب اإللهي ولم يكثر من التوكيد‬
‫فأنزلهم منزلة من ال ينكر الخبر واستعمل الخبر واستعمل مؤكداً واحداً (إنكم)‬
‫لعلهم يرتدعون عن إنكارهم‪.‬‬
‫واحد؛ ال إلهَ إال هو الرحمن الرحيم‪( ‬البقرة‬
‫وعليه قولـه تعالى‪ :‬وإ لهكم إلهٌ ٌ‬
‫‪ )163 /2‬فاهلل ـ سبحانه ـ يخاطب منكري الوحدانية؛ ولكن الخطاب اإللهي أنزلهم‬
‫منزلة من ال ينكر فلم يؤكد الخبر‪ ...‬وكذا نقول للكذاب‪( :‬الكذب حرام وبهتان‬
‫وض َر ُره كبير‬
‫وزور‪ )...‬أو كقولنا للمسلم الشارب الخمر‪( :‬شرب الخمر حرام‪َ ،‬‬
‫في الصحة والمال‪.)...‬‬
‫وقد يتبادر لذهن المتعجل الناظر في هذا األسلوب باعتباره الشكلي الخارجي‬
‫أنه ألقي للمخاطب غير المتردد؛ فيحكم عليه حكماً سريعاً؛ بيد أن جماليته المثيرة‬
‫الضمني؛ بما يقوم عليه السياق اإليحائي الذي يعتمد على‬‫إنها تتجسد في التضاد ّ‬
‫حال المتلقي‪ .‬فالغرض منه ليس مطلق اإلخبار كما هو في فائدة الخبر أو الزم‬
‫الفائدة؛ بل غرضه تحريك النفس على حقيقة حال المتلقي بما انطوت عليه من‬
‫ولما انحرف األسلوب اللغوي عن استخدام المؤكدات التي‬ ‫إنكار شديد للحقيقة‪ّ .‬‬
‫قدم جمالية بالغية ال نظير لها‪ .‬فصياغة التجربة الجديدة‬‫تالئم حال الشديد اإلنكار َّ‬
‫تصدر من مشكاة تجربة المتكلم مع المخاطب ودرايته بأحواله‪ .‬ولهذا كثف تجربته‬
‫بهذا األسلوب اللغوي الموجز والمعبر الذي ينتفع به المتلقي أكثر مما ينتفع من‬
‫األسلوب الخبري اآلخر المشحون بالمؤكدات‪.‬‬

‫د ـ استعمال لفظ مكان لفظ بخالف مقتضى الظاهر‬


‫توقف عدد من اللغويين والبالغيين القدماء في تأمالتهم آليات القرآن الكريم‬
‫عند عدد غير قليل من األلفاظ التي استعمل الخطاب اإللهي بعضاً منها مكان‬
‫بعض بخالف مقتضى الظاهر مراعاة لمقتضى الحال للمتكلم أو المخاطب‪ ،‬أو‬

‫‪- 58 -‬‬
‫الواقع الحقيقي أو الفني وفق الغرض المقصود إيصاله إلى المخاطب‪...‬‬
‫فقد ظهر عنوان (معاني القرآن) اسماً لعدد من الكتب التي تطرقت لذلك‬
‫الباب؛ للفراء (ت ‪207‬هـ) والزجاج (ت ‪311‬هـ) والنحاس (ت ‪ 338‬هـ)‪ ...‬كما‬
‫عرض لـه ابن قتيبة (ت ‪276‬هـ) في كتابه (تأويل مشكل القرآن)؛‪ 0‬وابن فارس (ت‬
‫‪395‬هـ) في (الصاحبي)‪...‬‬
‫ولما لمس فيه هؤالء األفذاذ بعض الجوانب اللغوية الداللية اتجه الزمخشري‬
‫فيه اتجاهاً بالغياً تحليلياً في الكلمة المفردة وفي الجملة‪ ،‬فاستحق كتابه (الكشاف)‬
‫اسمه بكل جدارة‪.‬‬
‫ورأى هؤالء وغيرهم أن اللفظ المثنى قد يراد به الواحد‪ ،‬وهو ما كان شائعاً‬
‫عند العرب‪ ،‬وقد يراد باللفظ الواحد الجمع أو العكس‪ 0...‬وربما يقع اللفظ الواحد‬
‫مفرداً مرة وجمعاً مرة أخرى‪ ...‬أو يستعمل الفعل المضارع؛ ومقتضى الظاهر‬
‫أن يكون ماضياً أو أمراً؛ والعكس صحيح‪ ...‬ولكل ذلك نكتة بالغية على صعيد‬
‫البنية اللغوية إيقاعاً وتصويراً يوحيان بفهم عميق وشعور متدفق بالموقف المعبَّر‬
‫عنه‪.‬‬

‫فمن َسعة العربية (كما يقول الفراء) إطالق لفظ‬


‫االثنين ويراد به الواحد كما في قول امرئ القيس‪:‬‬
‫الم َع َّذ ِب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضي لَُبانات الفُؤاد ُ‬
‫ُنقَ ّ‬ ‫ليلي مَّرا بي على أ ُِّم ُج ْن ِ‬
‫دب‬ ‫َخ َّ ُ‬
‫ثم قال معبراً عن عمق إحساسه بالموقف الوجداني‬
‫ألم به حين أتاها ليالً‪:‬‬
‫الذي َّ‬
‫طي ِ‬
‫َّب؟!‬ ‫ت بها ِط ْيباً وإِ ْن لم تَ َ‬
‫وج ْد ُ‬
‫َ‬ ‫َلم تََر أَني كلما ِج ْئ ُ‬
‫ت طارقاً‬ ‫أْ‬
‫الفراء هذا في معرض‬‫فرجع إلى الواحد وأول كالمه اثنان(‪ .)5‬وجاء كالم َّ‬
‫التعليق على بعض آيات القرآن كقوله تعالى‪َ :‬ي ْخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‪‬‬
‫(الرحمن ‪ .)22 /55‬إنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من ِ‬
‫المْلح ال من العذب‪ ،‬ولكنه‬
‫استعمل (منهما) في اللفظ مثنى وأراد به الواحد وهو الماء المالح‪ 0...‬فهي جملة‬
‫خبرية استعمل فيها لفظ المثنى مقام المفرد على حين استعمل اللفظ المفرد مكان‬
‫الجميع في قوله تعالى‪ :‬هو الذي خلق لكم ما في األرض جميعاً ثم استوى إلى‬
‫السماء‪( ‬البقرة ‪ .)29 /2‬ويقول الزجاج‪ ..." :‬والسماء لفظها لفظ الواحد‪،‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫ومعناها معنى الجمع‪ ،‬والدليل على ذلك قوله عز وجل‪:‬‬

‫‪‬فسواهن سبع سموات‪ ...‬من اآلية نفسها‪ .‬وأيد ذلك بعدد من الجمل الخبرية‬
‫التي خرجت عن مقتضى الظاهر‪ ،‬وإ ن خالفه األخفش في بعض منها(‪.)6‬‬
‫الزمخشري في هذا االتجاه حين يتوقف عند قوله تعالى‪ :‬إنما وليكم‬ ‫ويبدع َ‬
‫ِ‬
‫قلت‪ :‬قد ُذكرت جماعة فهالّقيل‪:‬‬‫اهلل والرسول‪( ‬المائدة ـ ‪ )55 /5‬فيقول‪( :‬فإن َ‬
‫فجعلت الوالية هلل على طريق‬ ‫ت‪ :‬أصل الكالم‪ :‬إنما وليكم اهلل؛ ُ‬
‫إنما أولياؤكم قْل ُ‬
‫األصالة؛ ثم نظم في سلك في إثباتها لرسول اهلل (‪ )‬والمؤمنين على سبيل التََّبع؛‬
‫ولو قيل‪ :‬إنما أولياؤكم اهلل ورسوله والذين آمنوا‪ ،‬لم يكن في الظالم أصل وتبع"(‬
‫‪.)7‬‬
‫ومن التعليقات البالغية الجميلة في مجال النظر والتطبيق ما جاء في حديثه‬
‫عن الصالة؛ مفردة‪ ،‬والصلوات‪ ،‬جمعاً في سورة المؤمنون‪ :‬قد أفلح المؤمنون‬
‫الذين هم في صالتهم خاشعون‪( ‬المؤمنون ‪ .)1 /23‬فالسياق اللفظي يقتضي أن‬
‫صفُوا بالخشوع‬ ‫لما "و ِ‬
‫يكون لفظ (الصالة) مجموعاً للحديث عن المؤمنين؛ ولكنهم َّ ُ‬
‫وحدت ُليفاد الخشوع في جنس الصالة؛ أي صالة كانت" وأ ُِريد بها‬ ‫في صالتهم‪ِّ 0...‬‬
‫الجميع على المعنى المراد ذلك‪ ...‬أما قوله تعالى‪ :‬والذين هم على صلواتهم‬
‫يحافظون‪( ‬المؤمنون ‪ )9 /23‬فقد جاء اللفظ موافقاً للجمع مع المؤمنين؛ ألنه أريد‬
‫المحافظة على الصلوات الخمس "وأال يسهوا عنها‪ ،‬ويؤدوها في أوقاتها ويقيموا‬
‫أركانها ويوكلوا نفوسهم باالهتمام بها؛ وبما ينبغي أن تتم به أوصافهم"(‪.)8‬‬
‫وفي هذا المقام يمكن أن توضح االكتشافات العلمية التي جرت على اإلنسان‬
‫فيزيولوجياً حقيقة اإلعجاز اللغوي والبالغي للنسق القرآني وتفرده من بقية الكالم‬
‫المؤلف‪...‬‬
‫فقد جمع سبحانه وتعالى اللفظ المفرد والمجموع في قوله‪ :‬وجعل لكم السمع‬
‫واألبصار واألفئدة لعلكم تشكرون‪( ‬النحل ‪.)78 /16‬‬
‫فالشكر في دوامه يقود إلى الوعي بالشيء وفهم حقيقته من قبل المخاطب؛‬
‫كما يوضحه الفعل المضارع (يشكرون)‪ 0،‬ثم تأتي األداة (لعل) لتفيد الرجاء بدوام‬
‫ذلك‪ ...‬أما إذا نظر البالغي إلى استخدام كلمة (السمع) وجد أنها مفردة‪ ،‬على حين‬
‫جاءت كلمة (األَبصار واألفئدة) جمعاً‪ 0...‬ويتساءل المرء‪ :‬لم وقع ذلك؟ ويأتي‬
‫الجواب من التأمل العلمي في مراكز الحواس والقلب‪ ...‬فمركز السمع واحد في‬

‫‪- 60 -‬‬
‫الدماغ دون غيره؛ ولهذا ورد اللفظ بصيغة اإلفراد؛ بينما مراكز األبصار واألفئدة‬
‫متعددة وغير محصورة في الدماغ‪ ،‬فعلم الفيزياء يقول‪ :‬تتعدد البقع الضوئية لتمثل‬
‫الصورة البصرية بوساطة العينين؛‪ 0...‬وهذا يؤدي بالنتيجة لتعدد مراكز الفؤاد‬
‫(القلب) المرتبط بالسمع والبصر معاً‪ 0...‬فَضالً عن اضطرام األعصاب وتعددها‬
‫في القلب؛ علماً أن الفؤاد في اللغة من الفَأَد وهو توقد النار(‪ .)9‬وال تضطرم‬
‫األفئدة إال بعد تأثر مركز السمع في الدماغ والمراكز البصرية المتعددة‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬لماذا جاءت األلفاظ الثالثة السابقة مفردة كلها؛ كما هو عليه‬
‫لك به ِعْلم؛ َّ‬
‫إن السمع والبصر والفؤاد ُك ُّل أولئك‬ ‫قف ما ليس َ‬
‫قوله تعالى‪ :‬وال تَ ُ‬
‫كان عنه مسؤوالً‪( ‬اإلسراء ‪ )36 /17‬وكلها قد جاءت مرتبة على ترتيب واحد‬
‫كما هو في اآلية السابقة؟!‪.‬‬
‫إن المتأمل في السياق القرآني للنصين يلحظ بدقة الفوارق البالغية والمعنوية‬
‫بين كل منهما‪ .‬فاآلية الثانية تتحدث عن (العلم) الذي يتم باإلدراك‪ ،‬والعلم أو‬
‫اإلدراك في اللفظ مفرد وليس جمعاً‪ 0...‬والعلم يقع باإلدراك بطريق حاسة السمع‬
‫ألنه مركز عواطف المرء‬ ‫وحاسة البصر؛ ثم يوكل إلى الفؤاد بما ينتج عنهما؛ ّ‬
‫اد أ ُِّم‬
‫وأفكاره فرحاً وترحاً‪ ،‬رهباً وطمعاً‪ ...‬و‪ 0...‬ويؤكده قوله تعالى‪ :‬وأصبح فُ َؤ ُ‬
‫نرد الفعل الغريزي للعلم بالشيء إلى‬ ‫موسى فارغاً‪( ‬القصص ‪ .)10 /28‬ولهذا ُّ‬
‫اإلدراك‪ ،‬وكالهما مفرد في اللفظ‪ ،‬ولذلك ُجعل اإلفراد موجباً لهما في قوله تعالى‪:‬‬
‫َّم َع والبصر‪ .‬فالنقلة السريعة في الجملة من لفظ مفرد إلى غيره إنما هي‬ ‫‪‬إن الس ْ‬
‫نقلة نفسية تكسر رتابة اإليقاع وجمود النسق اللغوي على شكل واحد‪.‬‬
‫ويعد استعمال فعل مكان فعل؛ أو فعل مكان اسم‪ ،‬أو العكس أو استعمال اسم‬ ‫ُّ‬
‫مكان اسم بخالف مقتضى الظاهر من أعظم األمور البالغية في القرآن الكريم‬
‫ص ُّدون عن سبيل اهلل‪‬‬
‫وي ُ‬
‫وفي كالم العرب‪ ...‬ففي قوله تعالى‪ :‬إن الذين كفروا َ‬
‫(الحج ‪ )25 /22‬استعمل الفعل المضارع (يصدون) مع الماضي (كفروا)‬
‫ومقتضى الظاهر أن يكون (صدوا)‪ ،‬وكذلك واقع القوم في حالتهم الراهنة؛ ولكن‬
‫(الص ُّد منهم كالدائم‪ ،‬فكأنك قلت‪ :‬إن الذين كفروا من شأنهم الص ُّ‬
‫َّد)(‬ ‫ّ‬ ‫الفراء يقول‪:‬‬
‫‪.)10‬‬
‫لهذا اختير الفعل المضارع إلفادة الدوام واالستمرار بالصد بخالف مقتضى‬
‫الظاهر‪.‬‬
‫وقد يقتضي الظاهر استعمال فعل أمر مكان مضارع لداللة مقتضى الظاهر‬
‫َوالد ُه َّن َح ْولين كاملين‪( ‬البقرة ‪/2‬‬ ‫عليه كقوله تعالى‪ :‬والوالدات ير ِ‬
‫ض ْعن أ َ‬ ‫ُْ‬

‫‪- 61 -‬‬
‫‪ .)233‬ويفسر لنا الزجاج هذه القضية فيقول‪( :‬اللفظ لفظ الخبر‪ ،‬والمعنى‪ :‬األمر‪،‬‬
‫ِ‬
‫اكتف بدرهم؛ وكذلك معنى‬ ‫كما تقول‪ :‬حسبك درهم؛ فلفظه لفظ الخبر‪ ،‬ومعناه‪:‬‬
‫اآلية‪ :‬لترضع الوالدات)‪.‬‬
‫وهذا يعني خروج اللفظ بخالف مقتضى الظاهر‪.)11(...‬‬
‫وربما استعمل المضارع بمعنى اسم الفاعل على الحال كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي واإلشراق‪( ‬ص ‪ )18 /38‬فيكون بخالف‬
‫الظاهر‪...‬‬

‫مسبحات‪ 0‬على‬
‫يقول الزمخشري‪" :‬يسبحن بمعنى ّ‬
‫ومسبحات؛‪0‬‬
‫ّ‬ ‫يسبحن‬
‫الحال؛ فإن قلت‪ :‬هل من فرق بين ّ‬
‫قلت‪ 0:‬نعم‪ ،‬وما اختير يسبحن على مسبحات إال لذلك؛‬
‫وهو الداللة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد‬
‫شيء‪ ،‬وحاالً بعد حال؛ كأن السامع محاضر تلك الحال‪0‬‬
‫يسمعها تسبح"‪ .‬ومثله قول األعشى‪8:‬‬
‫ق‬
‫اع تُ َحِّر ُ‬ ‫ض ْو ِء ٍ‬
‫نار في َيفَ ٍ‬ ‫إلى َ‬ ‫يون كثيرةٌ‬ ‫لع ْم ِري لقَ ْد َ‬
‫الح ْت ُع ٌ‬ ‫َ‬
‫"ولو قال‪ :‬محرقة؛ لم تكن شيئاً"(‪.)12‬‬
‫وقد يقع اللفظ أياً كان بخالف مقتضى الظاهر وتبعاً لتصور المتكلم لحال‬
‫وجزاء كقوله تعالى‪:‬‬
‫ً‬ ‫المخاطب؛ فقد يكون خبراً والمعنى بخالفه كأن يكون شرطاً‬
‫ريح بإحسان‪( ‬البقرة ‪)2/229‬؛ أي َم ْن‬
‫ك بمعروف أو تَ ْس ٌ‬ ‫‪‬الطَّ ُ‬
‫الق َم َّرتان فإمسا ٌ‬
‫طلق امرأته مرتين فليمسكها بعد ذلك بمعروف أو عليه أن يفصم عرى الزوجية‬
‫بإحسان(‪.)13‬‬
‫هكذا تبينا أن خروج اللفظ عن مقتضى الظاهر َو ْفق تصور المتكلم لحال‬
‫المخاطب يعد أسلوباً رابعاً في خروج الخبر عن مقتضى الظاهر‪ ...‬وهو أسلوب‬
‫بالغي جمالي‪ ،‬ثم أسلوب نقدي يثير دالالت ال تنحصر وال ينقدح الفهم فيها إال‬
‫وب ْسطة في معرفة القواعد الثابتة‬
‫لذوي السالئق الذين أُوتوا َس َعة في العلم َ‬
‫وغيرها‪ 0...‬ولعل هذا يبرز امتالك هؤالء للذوق المرهف الذي تحتاج إليه‬
‫األغراض المجازية للخبر‪ ،‬وهي ال تتصل بمقتضى الظاهر أو بخالفه؛ كما يأتي‪.‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫ثالثاً ـ األغراضـ المجازية وأساليبها‪:‬‬
‫إن الرؤية الجمالية البالغية عند العرب ظلت مشدودة في تناسقها ووحدتها‬
‫ووظيفتها إلى الرؤية الجزئية المجسدة في صورة الجملة‪ ،‬وفي أحسن الحاالت في‬
‫البيت وسياقه أو في عدد قليل من األبيات‪ .‬ولعل جمالية التساوق البالغي‬
‫ألغراض الخبر المجازية ترتبط بالهدف الذي يرمي إليه المتكلم من وراء الجملة‬
‫الخبرية وإ خراجها بصورة فنية مغايرة تماماً لما عرفناه من قبل‪ .‬فهو ال يخرجها‬
‫على مقتضى الظاهر كالفائدة والزم الفائدة‪ ،‬وال يخرجها بخالف مقتضى‬
‫الظاهر‪ ...‬وعلى المتلقي أن يستشف ذلك من السياق؛ ويلمحه في قرائن األحوال‬
‫بما يمتلكه من ذوق فني ورهافة حس‪ .‬فالعالقة الفنية بين أسلوب الجملة الخبرية‬
‫وهدفها في األغراض المجازية تشهد بالديباجة الممتعة‪ ،‬والرونق البهي في السبك‬
‫وصفاً وبرهاناً وإ يضاحاً موحياً‪ ...‬وتدل على نمو العالقة الترابطية البنيوية بينها‬
‫وبين األشكال التعبيرية المتعددة التي تخدم سياق الهدف من األسلوب المجازي‬
‫الخبري‪ ...‬وبهذا تؤسس لعالقة المتلقي بها في ضوء االرتباط النفسي والفكري‬
‫في وقت واحد‪...‬‬
‫ومن هنا تنبع الوظائف التي تقدمها الجملة الخبرية وتقدم جماليتها في ضوء‬
‫صلتها بالمخيلة الفنية للقائل وتمثل في الوقت نفسه روح العصر وثقافته‪ 0...‬وكيف‬
‫انتهت إلى أيدي البالغيين فوضعوا لها المعايير البالغية‪ 0...‬فأجادوا تارة كما نراه‬
‫عند عبد القاهر الجرجاني؛ وجمدوا قوالبها الفنية تارة أخرى حين أسسوا لها‬
‫معايير ضابطة كما هي عند السكاكي؛ علماً أن الفن ال يتقيد بمعايير محددة‬
‫وقوانين صارمة‪ .‬وهذا عينه هو الذي توحيه األغراض المجازية؛ التي يظن في‬
‫بادئ األمر أنها شديدة الشبه بخروج الكالم على خالف مقتضى الظاهر الذي‬
‫رسمه البالغيون‪.‬‬
‫ونبدأ بهذه األغراض من آخر وجه في األغراض السابقة لنلمح فيها المغايرة‬
‫في الهدف والوسيلة‪.‬‬
‫‪1‬ـ األمر‪:‬‬
‫هو صيغة من صيغ اإلنشاء يطلب فيه المتكلم من المخاطب تنفيذ فعل ما‬
‫على صفة اإليجاب في الفعل والتزام المخاطب به‪ ...‬وهو يفيد في اإلنشاء طلب‬
‫تنفيذ أمر بعد إلقائه؛ وكذلك هو في أسلوب الخبر؛ الذي ينزاح إلى فعل مضارع أو‬
‫غيره‪ ...‬فإذا ُعدل إلى المضارع رمى منه المتكلم إلى إلغاء الحدود الزمانية؛ إذ‬

‫‪- 63 -‬‬
‫أصبح األمر المجازي في الجملة الخبرية تجربة إنسانية مستمرة‪ ...‬وهذه هي‬
‫عما هو عليه كقوله تعالى‪:‬‬ ‫الجمالية المثيرة لـه في انزياح التركيب اللغوي ّ‬
‫والوالدات ي ِ‬
‫ضاعة‪( ‬البقرة ‪/2‬‬ ‫الر َ‬
‫تم َّ‬
‫َن ُي َّ‬ ‫َوالد ُه َّن َح ْولين كاملين َ‬
‫لم ْن أَراد أ ْ‬ ‫رض ْع َن أ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫‪‬‬
‫‪ .)233‬والمقصود (لترضع الوالدات أوالدهن حولين كاملين‪ )...‬وهذا يدل على‬
‫والمطلقات‬
‫ُ‬ ‫أن الكالم لم يخرج بخالف مقتضى الظاهر‪ ...‬وكذلك قوله تعالى‪ :‬‬
‫بأنفسهن ثالثةَ قُروء‪( ‬البقرة ‪)228 /2‬؛ أي (فليتربَّصن)‪ .‬قال‬ ‫َّ‬ ‫َّص َن‬
‫يترب ْ‬
‫الزمخشري‪" :‬وإ خراج األمر في صورة الخبر تأكيد لألمر وإ شعار بأنه مما يجب‬
‫أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله‪ ،‬فكأنهن امتثلن األمر بالتربص‪ ،‬فهو ُيخبر عنه‬
‫موجوداً‪ .‬ونحوه قولهم في الدعاء‪( :‬رحمك اهلل)؛ أخرج في صورة الخبر ثقة‬
‫ض ُل‬‫باالستجابة كأنما وجدت الرحمة عنها؛ وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فَ ْ‬
‫تأكيد؛ ولو قيل‪ :‬ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة"(‪ .)14‬فالسياق البالغي‬ ‫ٍ‬
‫نقل الفعل المضارع الذي يفيد الزمن الحضوري إلى الزمن المطلق لكل امرأة‬
‫أمر لها بما ينبغي أن تفعله في كل زمان ومكان‪ 0...‬وهذه هي‬
‫ذات ولد‪ ...‬إنه ٌ‬
‫الجمالية البديعة‪.‬‬
‫‪2‬ـ النهي‪:‬‬
‫طلب فيه الكف عن ٍ‬
‫أمر ما؛‬ ‫وي ْ‬
‫هذا أيضاً أسلوب آخر من أساليب اإلنشاء؛ ُ‬
‫ولكنه إذا استعمل في الجملة الخبرية فإنه يحمل إثارة خاصة باالستعمال اللغوي‬
‫المغاير‪ ...‬فالداللة تنبثق من زاوية الرؤية البعيدة المقترنة بالسياق‪ ،‬وما تنتهي إليه‬
‫من وظائف وغايات‪.‬‬
‫طهَّ ُرون‪( ‬الواقعة ‪)79 /56‬؛ والصفة‬ ‫الم َ‬
‫وعليه قوله تعالى‪ :‬ال َي َمسُّهُ إال ُ‬
‫راجعة إلى القرآن الكريم وإ لى من يمسك به ويتدبره؛ فالمعنى "ال ينبغي أن َي َمسَّه‬
‫إال ما هو على الطهارة من الناس؛ يعني مس المكتوب منه؛ ومن الناس من حمله‬
‫على القراءة أيضاً"(‪.)15‬‬
‫النهي في أسلوب الجملة الخبرية "ونحوه‬‫من هنا ظهرت األهداف من وراء َّ‬
‫قول رسول اهلل ‪ :‬المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يسلمه؛ أي ال ينبغي لـه أن‬
‫يظلمه أو يسلمه"(‪ ،)16‬ولو جاء على األصل لقال‪ :‬ال تظلم أخاك المسلم وال تسلمه‬
‫إلى العدو‪.‬‬
‫فالجملة بما بنيت عليه من مسند ومسند إليه كانت مليئة بالرموز واإلشارات‬
‫لهذا اكتفت بالقليل من الروابط الموحية لسياق َّ‬
‫النهي‪ ...‬وهو سياق لم يكتف بإنارة‬
‫العقل وتعليمه كيفية التعامل مع القرآن الكريم؛ أو كيفية تعامل الناس بعضهم مع‬

‫‪- 64 -‬‬
‫بعض؛ وإ نما أرسى في بنيته إثارة لالنفعال النفسي إذا لم يكن صاحبه كذلك‪.‬‬
‫فاالنحراف في األسلوب الخبري لم يكن تحوالً عارضاً أو معيارياً بل هو انزياح‬
‫بالغي تصويري لحاالت النفس التي تختزن عواطف شتى يستجيب لها المخاطب‬
‫بكل جوارحه‪.‬‬
‫‪3‬ـ التمني‪:‬‬
‫يتقدم األسلوب الخبري خطوة أخرى حين يخرج الكالم إلى أحد أساليب‬
‫اإلنشاء؛ فالتمني طلب أمر ما على جهة الرغبة في حصوله وإ ن كان وقوعه‬
‫ممتنعاً إما الستحالته‪ ،‬وإ ما لبعد وقوعه‪ ...‬وتفيد الجملة الخبرية بهذا المقام وكأن‬
‫(و َّد) وصيغه‪ ،‬وهي مما‬ ‫التمني قريب من الحدوث‪ .‬ولهذا ال ُي ْكتَفى باستعمال فعل َ‬
‫يكثر في هذا المجال ولكن تستعمل ألفاظ أخرى فيها داللة إمكان حدوث الفعل‪،‬‬
‫خلنا َربُّنا مع القوم‬
‫رب أن تغفر لي؛ وكقوله تعالى‪ :‬ونطمع أن ُي ْد َ‬ ‫كقولنا‪ :‬أطمع ِّ‬
‫الصالحين‪( ‬المائدة ‪.)84 /5‬‬
‫التمني‪،‬‬
‫إنهم يطمعون في إنعام اهلل عليهم بصحبة الصالحين‪ 0...‬على وجه ّ‬
‫ولكنه لن يكون‪.‬‬

‫وترتبط الرغبة في شيء ما بالدعاء كما هو قول‬


‫ساعدة بن ُج َؤيَّة‪:‬‬
‫َّراع ُة وال ُكلو ُل‬ ‫ِل َ ِ ِ‬ ‫قالت أمام ُة إِ ْذ رأَتْني‬
‫شانئ َك الض َ‬ ‫أَالَ ْ‬
‫فهذه المرأة تمنت أن يصاب كل من يبغض ساعدة بالمصائب والدواهي‪،‬‬
‫والتصاغر‪...‬‬
‫(ود) أكثر استعماالً في هذا المقام كقولنا‪( :‬وددت أن تأتي)؛ وقال‬ ‫ويظل فعل َّ‬
‫الش ْوكة تكون لكم‪( ‬األنفال ‪ )7 /8‬قال الزمخشري‪:‬‬ ‫ِ‬
‫تودون أن غير ذات َّ‬ ‫تعالى‪ُّ  :‬‬
‫َ‬
‫الع ْير ألنها الطائفة التي ال ِح َّدة لها وال شدة‪ ،‬وال تريدون‬
‫"تتمنون أن تكون لكم ِ‬
‫الطائفة األخرى"(‪ ،)17‬المجهزة بالرجال والسالح‪.‬‬
‫فالجمالية البالغية في الجملة الخبرية التي تهدف إلى التمني تكمن في الخيال‬
‫الرحب الذي تختزنه؛ وفي التصور النفسي الذي تحتفظ به‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ النفي‪:‬‬
‫النفي أحد أساليب اإلنشاء غير الطلبي؛ ويفيد إخراج الفعل من صفة‬
‫الحدوث؛ ألن الحدوث إيجاب على صفة اإلطالق‪ ...‬ولكن النفي يفيد اتجاه ًا‬

‫‪- 65 -‬‬
‫جمالياً مثيراً إذا استعمل في الجملة الخبرية‪ ،‬وقد أبدع عبد القاهر الجرجاني في‬
‫الحديث عن ذلك حين تعرض لبعض اآليات القرآنية التي تفيد النفي الضمني‬
‫كقولـه تعالى‪َّ  :‬إنما يتذكر أولو األلباب‪ ‬الرعد ‪ .)19 /13‬فهذا "التعريض إنما‬
‫تضمن الكالم معنى النفي من بعد اإلثبات‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وقع بأن كان من شأن (إنما) أن‬
‫والتصريح بامتناع التذكر ممن ال يعقل"(‪ ،)18‬وعليه قولنا‪" :‬إنما أنت حالم"‪،‬‬
‫وعكسه قوله (ما المستشير بنادم)‪ ،‬ومثله قوله تعالى‪ :‬وما محمد إال رسول قد‬
‫خلت من قبله الرسل‪( ‬آل عمران ‪ ،)144 /3‬فالغرض "من بعثة الرسل تبليغ‬
‫الرسالة وإ لزام الحجة ال وجوده بين أظهر قومه"(‪ ،)19‬ولهذا جاء النفي ثم‬
‫ُن قض بالحصر فأفاد اإلثبات وتأكيد المعنى المجازي للجملة الخبرية‪ ،‬وعليه قوله‬
‫وأن اهلل ليس بظالم للعبيد‪( ‬آل عمران ‪/3‬‬
‫تعالى‪ :‬ذلك بما قدمت أيديكم َّ‬
‫‪ )182‬فقد يقول قائل‪ِ :‬ل َم عطف كالماً منفياً على كالم‬
‫مثبت؟! "قلت‪ 0:‬معنى كونه غير ظالم للعبيد أنه عادل‬
‫عليهم"(‪ ،)20‬فالمضمون والهدف من النفي إنما هو‬
‫لإلثبات‪ 0،‬وشبيه به في األسلوب ما قاله املتنيب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫للجميل بفَ ٍ‬
‫ِ‬
‫وال ُك ُّل فَ َّعال لـه ُ‬
‫بمتَ ِّمم‬ ‫اعل‬ ‫وما ُك ُّل ٍ‬
‫هاو‬
‫أحب األمر الجميل يصنعه‪ ،‬وال كل من يصنعه‬‫والمعنى‪( :‬ليس كل َم ْن َّ‬
‫يتممه)‪ 0...‬فالسياق في الجملة خبري؛ يوحي باإلثبات؛ بيد أن المراد منه هو النفي‪.‬‬
‫‪5‬ـ الدعاء‪:‬‬
‫هذا أسلوب آخر من أساليب اإلنشاء ـ والدعاء ـ كما‬
‫قلناـ‪ :‬النداء؛ ولكنه يستعمل في صيغة الخبر‪ ،‬وله أشكال‬
‫تضرع وابتهال و‪ ...‬كقولنا‪ :‬رحمك اهلل؛‬ ‫عدة‪ ،‬فهو مع اهلل ّ‬
‫وعفا اهلل عنك؛ وأرشدك اهلل؛ أي زادك ُر ْشداً‪ ،‬وعليه قول‬
‫كعب بن زهير في مدح الرسول الكرمي‪:‬‬
‫ِ‬
‫القرآن فيها مواعيظٌ وتفصي ُل‬ ‫أعطاك نافل َة‬
‫َ‬ ‫اك الذي‬
‫َم ْهالً َه َد َ‬
‫َّاك َن ْستَعين‪( ‬الفاتحة‬
‫ك َن ْعبد‪ ،‬وإ ي َ‬
‫وعليه قوله تعالى في صفة المؤمنين‪ :‬إيَّا َ‬

‫‪- 66 -‬‬
‫َعَّنا دائماً على عبادتك‪ ،‬واستمرار العون في طاعتك‪ 0)...‬وإ ذا توجه‬ ‫‪ )5 /1‬أي (أ ِ‬
‫المتكلم بالدعاء إلى الممدوح فهو يرجو لـه البقاء أو دوام الصحة؛ وقد يدعو لـه بأال‬
‫ذم عليه كما في الدعاء‬
‫يأتيه شيء يسيئه‪ 0...‬ويستحق ذلك فهو لم يفعل شيئاً ُي ّ‬
‫للن ْعمان بن المنذر‪:‬‬
‫(أبيت اللعن)؛ وعليه مدح النابغة ُ‬
‫َ‬ ‫المشهور‬

‫ب‬
‫صُ‬‫تم منها وأَ ْن َ‬ ‫وتلك الَّتي أ ْ‬
‫َه ُّ‬ ‫َ‬ ‫أَتاني ـ أ ََب ْي َت اللَّ ْع َن ـ أ ََّن َك لُ ْمتني‬
‫فإذا كانت الجملة في رأي عدد من العلماء شرقاً وغرباً هي أصغر وحدة‬
‫مفيدة بنفسها للخطاب(‪ )21‬فإن الجملة الدعائية التي وردت في ذلك كله مثل (أبيت‬
‫اللعن‪ ،‬رحمك اهلل‪ 0...‬أبقاك اهلل؛ حفظك اهلل‪ )...‬ترتسم فيها مالمح الجمال المثير‬
‫بهذا التركيب الموجز‪ ،‬فضالً عن سماتها البالغية الموحية والمعبرة عن وظيفة‬
‫نفسية وحاجة اجتماعية‪ ...‬فهي تموج بشحنة عاطفية عالية تقوم على االبتهال‬
‫واالستعطاف‪ ...‬فالممارسة االجتماعية والدينية صورة متضمنة في النسق‬
‫الدعائي‪ .‬فأسلوب الدعاء في الجملة الخبرية يقدم وظائف متنوعة كتنوع أنماطه‪،‬‬
‫ولو ظهر أحادي النمط بصفته تركيباً موجزاً‪ ...‬فالتفصيل والتوضيح الذي خرج‬
‫إليه كعب بن زهير في تفسير ماهية الدعاء أخرجه عن نمطية الجملة القصيرة‬
‫إنشاء أم خبراً‪ ،‬وذلك ما نراه أيضاً‬
‫ً‬ ‫التي يؤثرها أسلوب الدعاء؛ أياً كانت طريقته‬
‫في أسلوب التعظيم والتنزيه‪ ،‬والتعظيم جعل الشيء أو اإلنسان عظيماً‪ ،‬والتنزيه‬
‫جعلهما نزيهاً؛ أي طاهراً ومبرأً من كل إثم أو عيب أو قبيح‪...‬‬
‫‪6‬ـ التعظيم والتنزيه‪:‬‬
‫ُّ‬
‫يعد المستوى اللغوي والتركيبي غنياً بمجاالت داللية مثيرة؛ ما جعل‬
‫البالغيين يتأملون أسلوب الخبر بصفته البالغية قبل أن يكون صورة لغوية أو‬
‫مستوى أول‪ ،‬وهو ركيزتهم إلى مستوى أعلى‬
‫ً‬ ‫نحوية‪ ،‬وبهذا كانوا يرون التركيب‬
‫يرتقي المتلقي بفهمه واستيعابه إلى إدراك جماليات كبرى‪ .‬فالمجال البالغي أوسع‬
‫بكثير من المجال اللغوي والنحوي؛ ِل َما ينطوي عليه من معارف وإ شارات بعيدة‬
‫كالتعظيم والتنزيه في األسلوب الخبري‪.‬‬

‫ولذا نرى أن الممدوح صاحب‪ 0‬المنزلة الخاصة يمكن‬


‫أن َّ‬
‫يبجل ويكرم على الحقيقة؛‪ 0‬كأن نخاطب سيداً أخطأ‬
‫عبده بحقّه‪( :‬أنت أرفع من أن تنزل إلى مستوى ٍ‬
‫عبد‬

‫‪- 67 -‬‬
‫ذليل)؛ ولكن هذا األسلوب غير بديع؛ وليس فيه قيمة‬
‫جمالية‪ 0...‬ولهذا يخرج األسلوب الخبري في التعظيم إلى‬
‫صور جمالية عند المتكلم على نحو من األنحاء؛ كما نراه‬
‫عند الكثير من الشعراء المادحين قديماً وحديثاً؛ ليخلق في‬
‫النفس العديد من االنفعاالت؛ ويثير فيها التأمل؛‪ 0‬ولو بالغ‬
‫صاحبه فيه؛ كقول األعشى يفتخر بقومه(‪:)22‬‬
‫ِ‬
‫أحشاد‬ ‫ش ِّم األُنوف؛ َغ ِ‬
‫ران ٍ‬
‫ق‬ ‫ُ‬ ‫بة قَ ْيسي ٍ‬
‫َّة‬ ‫إِ ّني امر ٌؤ من عص ٍ‬
‫ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ني واأل َْب ِ‬
‫راد‬ ‫يمشون في َّ‬
‫الدفَ ِّ‬ ‫هم‬ ‫ِ ِ‬
‫صدور نعال ْ‬
‫الواطئين على ُ‬
‫وط ِ‬
‫راد‬ ‫تنازل ِ‬
‫ٍ‬ ‫للح ْمد يوم‬ ‫الوغى‬
‫َ‬ ‫يوم َ‬
‫والضامنين بقومهم َ‬
‫باإل ِ‬
‫قصاد‬ ‫ثَ ْق ِ‬
‫ف اليدين ُي ِه ُّل ِ‬ ‫ٍ‬
‫فارس يوم الوغى‬ ‫كم فيهم من‬

‫فهذه صورة من التفاخر‪ 0‬تدل على تعظيم أفراد قومه‬


‫وتبالغ في ذلك التمجيد من تعداد مآثرهم مستعمالً الجملة‬
‫الخبرية التي تفيد التقرير والتأكيد‪ ...‬وكذلك وجدنا هذا‬
‫فعاالً في مدح النابغة الذبياني للغساسنة؛ حيث‬
‫األسلوب ّ‬
‫يقول‪:‬‬
‫الع ِ‬
‫واقب‬ ‫جون َغ ْي َر َ‬
‫ويم؛ فما َي ْر َ‬
‫قَ ٌ‬ ‫ودي ُن ُه ْم‬ ‫َم َحلَّتُ ُهم ُ‬
‫ذات اإلله ِ‬

‫فقد وصفهم وصفاً رفيعاً يشي بمدى تمسكهم بطاعة اهلل والدفاع عن دينه ال‬
‫يرجون سبيالً غير ذلك‪...‬‬
‫هكذا رأينا أن التعظيم في الناس قد يدخله التكلف والتنزيه الزائف؛ ولكنه إذا‬
‫جاء في أسلوب خبري موجه إلى اهلل َّأدى معنى التنزيه والتطهر من أدران الدنيا‬
‫حقاً؛ وصار التوجه إلى تعظيم الخالق وإ جالله ِ‬
‫دافعاً شخصياً ذاتياً ال عالقة لـه‬
‫بالدافع االجتماعي‪ ،‬أو النفعي الذي يحرك الناس كما مثَّلنا لـه سابقاً‪ ،‬إنه يختلف عن‬
‫قولنا‪( :‬سبحان اهلل؛ الحمد هلل؛ الشكر هلل؛ ولك الحمد كما ينبغي لوجهك الكريم‪...‬‬
‫العتْبى حتى ترضى‪ 0)...‬فهنا نجد أدعية ابتهالية قائمة على تعظيم اإلله؛‬
‫ك ُ‬‫ول َ‬

‫‪- 68 -‬‬
‫وعليه قوله تعالى‪ :‬فسبحان اهلل رب العرش عما يصفون‪( ‬األنبياء ‪.)22 /21‬‬
‫فهذه الجملة تنزه اهلل سبحانه عن وصف المشركين له؛ حين جعلوا لـه شركاء من‬
‫واصطفاك على ِ‬
‫نساء العالمين‪( ‬آل‬ ‫ِ‬ ‫طهَّ َر ِك‬ ‫ِ‬
‫اصطفاك و َ‬ ‫األصنام‪ ،‬وكقوله‪ :‬إن اهلل‬
‫عمران‪ .)42 /3 :‬فاهلل سبحانه اختص مريم بالكرامة السنية ونزهها عن األفعال‬
‫القذرة التي كان اليهود يقترفونها‪ ،‬وطهرها منها جميعاً‪.‬‬
‫وفي ضوء ما تقدم ندرك أن المستوى التركيبي اللغوي يختزن دالالت كثيرة؛‬
‫ومضمونها‪ ،‬وإ نما فيما ترسيه في أنفسنا‬
‫ُ‬ ‫ولكن إثارته ال تكمن فقط في نظام كلماته؛‬
‫تصور‬
‫من مواقف إنسانية جوهرية ترتفع بالنفس عن الدنايا والشر‪ ،‬وال سيما حين ّ‬
‫المثال اإلنساني النقي‪ .‬وبهذا يصبح التشكيل البالغي الجمالي وسيلة إلى استخراج‬
‫الباطن من عملية التصوير؛ وهذا ما نراه فيما يأتي‪.‬‬
‫الو ْعد‪:‬‬
‫‪7‬ـ َ‬
‫الو ْعد بنظام حروفها ليست مجرد عالمة لغوية؛ وإ ّنما تمتلك طاقة كبيرة‬ ‫كلمة َ‬
‫فتحولت ـ غالباً ـ عن التهديد‬
‫ّ‬ ‫ر؛‬ ‫ي‬
‫َْ‬‫الخ‬ ‫في‬ ‫استخدمت‬ ‫ألنها‬ ‫والمعارف؛‬ ‫المدركات‬ ‫من‬
‫والشر إلى الخير‪ .‬فزيادة حرف الياء في كلمة (الوعد) ينقلها من مفهوم إلى‬
‫آخر‪ ...‬ولهذا فالوعد تختلف داللة عن الوعيد‪.‬‬

‫والوعد من المصادر المجموعة؛ وفعله َو َعد‪َ ،‬ي ِعد؛‬


‫ومثله المصدر ِ‬
‫(ع َدة) كقول الشاعر‪:‬‬
‫وأخلفوك ِع َدى األ َْم ِر الذي َو َعدوا‬ ‫الب ْي َن فانجردوا‬
‫َجدُّوا َ‬
‫طأَ‬‫ِإٍٍِن الخلي َ‬
‫فالشاعر كان ينتظر خيراً يرجوه في لقائه بأحبَّته‪ ،‬ولكنهم أَخلفوا ما وعدوه‬
‫وموح بصور جمالية‬
‫ٍ‬ ‫به‪ ...‬وساق هذا التفصيل في سياق خبري الفت للنظر‪...‬‬
‫مؤثرة‪.‬‬
‫ولم تقف الجملة الخبرية عند استعمال ألفاظ الوعد وإ نما استعملت جملة من‬
‫األلفاظ الحاملة لداللته‪ ،‬وال سيما ما يرتبط بحرفي (السين) و(سوف)‪ ...‬ومالت‬
‫اللغة إلى استعمال (السين) بالوعد‪ ،‬و(سوف) بالوعيد؛ بيد أن القرآن الكريم‬
‫استخدمهما في الوعيد والوعد على السواء‪.‬‬
‫وبهذا أكد كثافة ما يختزنه الحرف من شحنة عاطفية وفكرية يوضحها‬
‫السياق‪ ،‬ما يؤكد لنا أن الرؤية الجمالية للكلمة تخلق تصوراً ال متناهياً في التركيب‬
‫اللغوي والسياقي‪ 0...‬وعليه قوله تعالى‪ :‬ولسوف يعطيك ربك‬

‫‪- 69 -‬‬
‫فترضى‪( ‬الضحى ‪ .)5 /93‬فكلمة (سوف) في سياقها أفادت الرجاء والوعد‬
‫المنتظر من اهلل لرسوله؛ وهو انتصار في الدنيا على الكافرين‪ ،‬وفوز لـه‬
‫وللمؤمنين في اآلخرة بجنات النعيم‪ 0...‬وعليه قوله تعالى‪ :‬فسوف نؤتيه أجراً‬
‫عظيماً‪( ‬النساء ‪.)114 /4‬‬
‫َجراً عظيماً‪( ‬النساء ‪ .)146 /4‬وكذلك‬ ‫وقولـه‪ :‬وسوف ِ‬
‫يؤت اهلل المؤمنين أ ْ‬
‫استخدمت (السين) في قوله تعالى‪ :‬سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أَنفسهم حتى‬
‫(ع َّز‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫َّن لهم َّأنه‬
‫الحق‪( ‬فصلت‪ .)53 /41 :‬قال الزمخشري‪" :‬يعني ما ُيس ّر اهلل َ‬ ‫يتبي َ‬
‫صار دينه في آفاق الدنيا وبالد المشرق‬ ‫َو َج َّل) لرسوله ‪ ‬وللخلفاء من بعده ُ‬
‫ون ّ‬
‫والمغرب عموماً وفي باحة العرب خصوصاً من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها‬
‫ألحد من خلفاء األرض قبلهم"(‪.)23‬‬
‫‪8‬ـ الوعيد‪:‬‬
‫هذا غرض شديد االلتصاق بالسابق ولكنه يقوم على التَّضاد معه في الداللة‬
‫وفعله‬
‫تحول عنها إلي الوعيد؛ ْ‬ ‫على اشتقاقهما من مادة واحدة وهي الوعد؛ ولكنه ّ‬
‫أَو َعد‪ُ ،‬ي ِ‬
‫وع ُد‪.‬‬ ‫ْ‬
‫وقد ترك علم اللغة القديم والحديث صوراً بديعة في‬
‫تعرف بناء الكلمات‪ 0،‬وما تقوم عليه من معارف وتجارب‬
‫انتهت إلى نظام بالغي مثير‪ .‬فالوجود اللغوي ليس مجرد‬
‫كالم طارئ وإ نما هو داللة في ذاته على تغير بنيته‪...‬‬
‫وهذا ما تفيده كلمة (الوعيد)‪ .‬فزيادة حرف على كلمة‬
‫(الوعد) نقلها من الخير إلى الشر‪ ،‬وصارت تستعمل‬
‫التوعد واإليعاد‪ .‬وبهذا لم‬
‫ّ‬ ‫لإلنذار والتهديد بالشر؛ ومثلها‬
‫تكتف الكلمة بأن تكون مجرد عالمة لغوية كما يقول‬
‫أصحاب‪ 0‬اللسانيات الحديثة‪ ،‬ما يجعلها مادة لينة بيد‬
‫المفسرين‪ ...‬وبمعنى آخر قد تغدو نظاماً مفتوحاً فوضوياً‬
‫بيد المتلقي يتصرف فيه كما يشاء‪ 0...‬ما َي ْعني أن ُنلغي‬

‫‪- 70 -‬‬
‫منه صورة التجربة الذاتية واالجتماعية‪ ،‬ومن ثم صورة‬
‫السياق التي تقوم عليه‪ ،‬وهذا ما تحققه الجمل الخبرية‬
‫التي ساقها النابغة الذبياني حين حدثنا عن تجربته مع‬
‫النعمان بن المنذر ـ وهي تجربة حقيقية ـ ومما قاله فيها‪:‬‬
‫مكان ِّ‬
‫الش َغاف تبتغيه األصابعُ‬ ‫َ‬ ‫دون ذلك شاغ ٌل‬
‫وقَ ْد َحال َه ٌّم َ‬
‫ِ‬
‫فالضواجعُ‬
‫س َ‬ ‫أتاني ودوني راك ٌ‬ ‫وعيد أبي قابوس في غير ُك ْنهه‬
‫ُ‬
‫فالنابغة يصور الهَ َّم الذي داخله وشغله عن ذكر األحبة؛ وهو داء عضال أخذ‬
‫بشراسيف ضلوعه‪ ،‬وجماع قلبه‪ ...‬وهذا الهم ليس إال رمزاً لوعيد النعمان للنابغة‬
‫وتهديده بالويل والثبور‪.‬‬
‫َوعد‪ ،‬ومصدره‬‫ومرة أخرى نقول‪ :‬إن الوعيد استعمل في التهديد‪ ،‬وفعله أ َ‬
‫ص َر به؛ فقد يستعمل في الخير‪ ،‬مثلما يستعمل (وعد)‬ ‫اإليعاد؛ وال يعني هذا أنه ح ِ‬
‫ُ‬
‫في الشر؛ وإ ن كان ذلك قليالً في لغة العرب(‪ ،)24‬ولم تقتصر الجملة على‬
‫استخدام ذلك المعنى فقط في هذا المجال فإن القرآن الكريم والشعر استعمال‬
‫(السين) و(سوف) وألفاظاً أخرى في معناه‪ .‬ويدل عليه قوله تعالى‪:‬‬
‫صليه ناراً‪( ‬النساء ‪ )30 /4‬فكل من ينحرف عن جادة الحق مصيره‬ ‫‪‬فسوف ُن ْ‬
‫إلى النار‪ ...‬وحين استعملت كلمة (سوف) ظن اإلنسان الظالم أنه بمنجى من‬
‫العقاب؛ فإذا بالسياق يؤكد العقاب ونوعه‪ 0...‬لهذا جاءت (سوف) متضمنة أفعال‬
‫الشر التي قام بها ويقوم ليكون مآله إلى النار‪ ...‬فالتوعد والتهديد جاء في إطار‬
‫أنباء َما كانوا به َي ْستهزئون‪‬‬
‫التراخي في المهلة وكذلك قوله‪ :‬فسوف يأتيهم ُ‬
‫(األنعام ‪ .)5 /6‬فالمكذبون بما أنزل اهلل وإ عراضهم عنه ليس بالشيء الهين؛‬
‫وكذلك استهزاؤهم به‪ 0...‬لهذا ينذرهم بعقاب شديد يوم القيامة؛ فضالً عن إرسال‬
‫العذاب عليهم في الدنيا‪ ...‬حين ينتصر اإلسالم‪0....‬‬
‫وهذا المعنى من التوعد والتهديد تفيده (السين) وهو أقرب في التحقق الزمني‬
‫أي ُم ْنقلب َينقلبون‪‬‬
‫ظلموا َّ‬
‫وسَي ْعلم الذين َ‬
‫مما عليه بناء (سوف) كقوله تعالى‪َ  :‬‬
‫(الشعراء ‪ .)227 /26‬فالظلم هو الكفر بما أنزل اهلل‪ ،‬ولذلك ختم به اهلل سبحانه‬
‫سورة الشعراء‪ .‬وقال الزمخشري‪" :‬ختم السورة بآية ناطقة بما ال شيء أهيب منه‬
‫َهول‪ ،‬وال أَنكى لقلوب المتأملين‪ ،‬وال أَصدع ألكباد المتدبرين؛ وذلك قوله‬ ‫وأ ْ‬

‫‪- 71 -‬‬
‫ِ‬
‫(وسيعلم) وما فيه من الوعيد البليغ"(‪ .)25‬ومن ذلك أيضاً قوله تعالى‪َ  :‬سَنس ُمهُ‬
‫الخرطوم‪( ‬القلم ‪ ...)16 /68‬فالكافر المعاند الذي تتلى عليه آيات اهلل ينعتها‬ ‫على ُ‬
‫بأنها أساطير األولين‪ ،‬ويشمخ بأنفه وكأنه ال يأبه بالرسالة‪ ،‬فهو يملك المال‬
‫والبنين‪ ...‬لذلك جاء التوعد بالسين ألنه أَلصق بالكلمة‪ ،‬والتصاق السين تركيباً بها‬
‫َد َّل على أثرها‪ 0...‬في اإلذالل "فعبَّر بالوسم على الخرطوم عن غاية اإلذالل‬
‫ِّمة على الوجه َش ْي ٌن وأَذالَةٌ؛ فكيف بها على أكرم موضع منه"(‬
‫واإلهانة ألن الس َ‬
‫‪.)26‬‬

‫البنى البالغية في الجملة الخبرية على‬‫بهذا كله دلت ُ‬


‫فعالية عظيمة في ذاتها‬ ‫أنها ذات وظيفة متنوعة تستهدف ّ‬
‫وفي سياقها النفسي واالجتماعي والفكري والديني‪...‬‬
‫ويصبح التغير األسلوبي البالغي موازياً للسياق إن لم‬
‫يكن أبعد أثراً‪ 0...‬ولهذا قيل‪ :‬إذا استعمل الفعل (أوعد) مع‬
‫الباء اختص بالشر دون الخير دائماً كقولنا‪ :‬أوعدني‬
‫َّجن‪ ،‬وإ ذا خال من الباء جاز استعماله للخير؛ وإ ن‬
‫بالس ْ‬
‫كان استعماله للشر أكثر كقول الشاعر‪:‬‬
‫فضالً طريفاً إلى أ ِ‬
‫َياديه‬ ‫وي ْوعدني‬
‫مرةً؛ ُ‬
‫سطني َّ‬
‫َي ْب ُ‬
‫‪9‬ـ اإلنكار‪:‬‬
‫اإلنكار هو الجحود؛ والتجاهل بالشيء وعدم المعرفة به؛ والفعل أنكر‬
‫ُي ْنكر‪ ...‬وقد يحمل معنى الشجب والتنديد‪ .‬لذا فإن االعتداد بالمظهر التركيبي‬
‫يعبر‬
‫وحده إن لم تحلل مكوناته؛ قد يخدع المرء‪ ،‬ولن يستطيع أن يصل إلى كنه ما ّ‬
‫عنه‪ .‬ونحن إذ نشدد على َّ‬
‫النمط الداللي باعتبار بناء الجملة فإننا ال نهمل ما يسمى‬
‫بالتوسع الداللي للجملة؛ وهو ما بحثت عنه البالغة العربية‪ ...‬فالوقوف عند ظاهر‬
‫الجملة الخبرية في كثير من الحاالت قد يضلل القارئ‪ ...‬ألنها ذات إيحاءات‬
‫َمين‪( ‬الشعراء ‪ 125 /26‬و‬ ‫متنوعة كما هو عليه قوله تعالى‪ :‬إني لكم رسو ٌل أ ٌ‬
‫‪ 143‬و‪ 16‬و ‪ .)178‬فباستعمال (إني) يصطدم المتلقي بالخبر ويفيده أن المتكلم‬
‫أراد إثباته إلنكار القوم لرسالته وأنه مبعوث من قبل رب العالمين‪ ...‬ثم جاء‬

‫‪- 72 -‬‬
‫السياق بكلمة (أمين) لتدل على ذلك اإلنكار وإ ثبات صدقه فيما عهدوه عليه‪ ...‬أما‬
‫ب‬‫السياق العام لآلية فهو في معرض تكذيب األمم لألنبياء وإ نكارهم أنهم رس ُل َر ّ‬
‫العرش العظيم‪ ...‬لهذا أراد (هود) أن يدحض إنكارهم بهذه الجملة الخبرية التي‬
‫تثبت صدقه‪ ...‬ثم ظهرت مرة أخرى في السورة نفسها (اآلية ‪ )144‬على لسان‬
‫صالح المرسل إلى ثمود‪ ،‬كما ظهرت على لسان النبي (لوط) في (اآلية ‪)162‬‬
‫وعلى لسان (شعيب) في (اآلية ‪.)178‬‬
‫ومن قرأ اآلية التي جاءت في إحدى وصايا (لقمان)‪ 0‬البنه أدرك أن اإلنكار لم‬
‫ضرب به المثل في النكارة وهو صوت‬ ‫يأت لصفة الصوت في الحيوان الذي ُ‬
‫ت الحمير‪(‬لقمان ‪/31‬‬ ‫لص ْو ُ‬ ‫ِ‬ ‫ض من صوتِ َ‬
‫ك؛ إن أنكر األصوات َ‬ ‫ض ْ‬‫واغ ُ‬
‫الحمار‪ْ  :‬‬
‫‪ .)19‬فجملة‪( :‬إن أنكر‪ )...‬جملة خبرية ترمي إلى إنكار رفع الصوت في بعض‬
‫الحاالت غير المؤاتية نفسياً ومكانياً لرفع الصوت‪.‬‬

‫قال الزمخشري‪" :‬فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير‬


‫وتمثيل أصواتهم ُّ‬
‫بالنهاق؛ ثم إخالء الكالم من لفظ التشبيه‬
‫وإ خراجه َم ْخرج االستعارة‪ ،‬وأن جعلوا حميراً وصوتهم‬
‫ُنهاقاً مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإ فراط في التثبيط‬
‫عن رفع الصوت؛‪ 0‬والترغيب عنه‪ ،‬وتنبيه على أنه من‬
‫كراهة اهلل بمكان"(‪ )27‬بحيث يبلغ َّ‬
‫حد التبكيت الذي‬
‫سنتحدث عنه بعد قليل‪ ،‬ويماثل ذلك إنكار الشاعر لفعل‬
‫صاحبه الذي يدعي صحبته بينما فعله معاكس‪:‬‬
‫لعازب‬
‫ُ‬ ‫الرأي من َك‬
‫َ‬ ‫صديقُك!! إِ َّن‬
‫َ‬ ‫تزعم َّأنني‬
‫ُ‬ ‫عدوي؛ ثم‬ ‫ُّ‬
‫تود ّ‬
‫غائب‬
‫ُ‬ ‫ولكن أخي َم ْن ودَّني وهو‬
‫ْ‬ ‫عين ِه‬
‫وليس أَخي م ْن ودَّني رأْي ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫فالهدف في الجملة الخبرية ال يتعلق بالتركيب البسيط للمسند والمسند إليه‬
‫ومتمماتهما؛ وإ نما ينطلق من الكيفية بشرح ما يعتمل في نفس الشاعر نحو‬
‫صديقه؛ واستنكاره لفعله غير السوي الذي يتولد من اللوحة الكاملة لسياق الجمل‬
‫الخبرية‪...‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫‪10‬ـ التبكيت‪:‬‬
‫الع ْذل؛ والتقريع والتوبيخ الالذع‪.‬‬ ‫هو التأنيب؛ والتثريب؛ وهو أعلى مقاماً من َ‬
‫إنه نمط من االستنكار الشديد إلى حد المبالغة في االستهجان وتقبيح فعل َم ْن يدل‬
‫العزيز الكريم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫مضمون الجملة الخبرية؛ كما في قوله تعالى‪ُ  :‬ذ ْق؛ َّإن َ‬
‫ك أ َْن َ‬ ‫ُ‬ ‫عليه‬
‫به تَ ْمتَرون‪( ‬الدخان ‪ 49 /44‬ـ ‪ .)50‬فأبو َج ْهل وأمثاله من‬ ‫إن هذا ما كنتم ِ‬ ‫َّ‬
‫َعزة بكفرهم‪ ،‬وكانوا يتعالون بمنزلتهم على‬ ‫المشركين كانوا يرون أنفسهم أ َّ‬
‫قومهم‪ 0...‬وينكرون الرسالة ويتهكمون بالرسول الكريم‪ ...‬من هنا جاءت الجملة‬
‫وتبكت عملهم‪ .‬وعليه قوله تعالى‪:‬‬ ‫الخبرية لتنكر عليهم ذلك؛ وتسخر منهم َّ‬
‫َزيد‪َ ،‬كالَّ إنه كان آلياتنا َعنيداً‪( ‬المدثر ‪14 /74‬‬ ‫ت لـه تَ ْمهيداً‪ ،‬ثم يطمعُ أن أ َ‬
‫‪‬ومهَّ ْد ُ‬
‫ـ ‪ .)16‬في هذه الجمل الخبرية يتحدث اهلل سبحانه عن الوليد بن المغيرة وكان من‬
‫وجهاء قريش؛ فبسط اهلل لـه الجاه العريض والرياسة في قومه‪ ،‬ويطمع بالمزيد‪...‬‬
‫قال الزمخشري‪" :‬ثم يطمع؛ استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه‪ :‬يعني أنه ال مزيد‬
‫على ما أُوتي سعة وكثرة‪ ...‬إنه كان‪ ...‬تعليل للردع على وجه االستئناف" ثم‬
‫ص ُعوداً"؛ أي أنه سيكون من أهل النار؛ وتكون‬ ‫"سأُرهقُهُ َ‬
‫تأتي اآلية السابعة عشرة َ‬
‫كلمة َر ْد ٍع أخرى "رداً لزعمه أن الجنة لم تخلق إال له‪ ،‬وإ خباراً بأنه من أشد أهل‬
‫النار عذاباً‪ ،‬ويعلل ذلك بعناده"(‪.)28‬‬
‫فطبيعة العالم المرئي أشارت بوضوح إلى طبيعة العالم غير المرئي في إطار‬
‫بالغي مجازي مثير‪.‬‬
‫‪11‬ـ التوبيخ‪:‬‬
‫يوبخ‪ ...‬فهو أعلى‬ ‫التوبيخ ذم اآلخر َّ‬
‫والنيل منه والتشنيع عليه؛ والفعل‪ :‬وبَّخ ّ‬
‫درجة من التقريع والتعنيف؛ فهو إيجاع في العتاب واستقصاء فيه حتى يصل إلى‬
‫مرتبة التأنيب الالذع للمرء ومن ثم ازدراء فعله أو سلوكه القبيح‪ ...‬ولكنه ال‬
‫يماثل اإلنكار وال التبكيت؛ وإ ن التقى معهما في بعض المعاني‪ 0...‬والدليل على ما‬
‫نذهب إليه أننا نقول للمؤمن الغافل عن الصالة‪( :‬الصالة خير من العبث واللهو‬
‫والنوم‪ )..‬فإننا نلومه على إهماله للصالة؛ وعدم مواظبته عليها؛ أما من تركها‬
‫نوبخهُ على‬
‫بشكل دائم؛ فإننا نقول له‪( :‬الصالة ركن من أركان الدين‪ 0)...‬فنحن ّ‬
‫تهاونه في إقامة دعامة من دعائم الدين‪.‬‬
‫وإ ذا أردنا عدم مراعاة الحالة النفسية للمخاطب أو منزلته وكان من صفاته‬
‫الكذب فإننا نوبخه مصرحين بفعله فنقول‪( :‬الكذب إثم وزور وبهتان‪ 0)..‬وإ ن لم‬
‫نقل له‪ :‬أنت كذاب‪ ...‬ومن هنا يظهر الفرق بين نمطي الجملة الخبرية؛ فالجملة‬

‫‪- 74 -‬‬
‫األولى‪( :‬الكذب إثم‪ )...‬توحي بغرض مجازي هو التوبيخ؛ والجملة الثانية‪( :‬أنت‬
‫كذاب) تؤكد خبراً وتثبته على جهة الحقيقة‪.‬‬
‫ونستدل على صورة اإليحاء بالتوبيخ ما ورد في قوله تعالى في صفة‬
‫الكافرين‪ :‬إنهم لن يضروا اهلل شيئاً‪( ‬آل عمران ‪ .)176 /3‬فاآلية توبخهم على‬
‫فعلهم؛ فهم "ال يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم‪ ،‬وما وبال ذلك عائداً‬
‫على غيرهم"(‪.)29‬‬
‫‪12‬ـ التحذير‪:‬‬
‫التحذير هو التخويف والتهديد بالشر‪ ،‬والفعل‪َ :‬ح َّذر ُي ِّ‬
‫حذر تحذيراً؛ وهو‬
‫يخالف أسلوب التحذير في اللغة‪ ،‬الذي يعني التحذير من الوقوع في الشيء‬
‫بأسلوب محدد كقولنا‪ :‬إياك من الغلط‪.‬‬
‫ومن هنا ندرك قيمة هذا األسلوب‪ ،‬فهو من أطرف األغراض المجازية‬
‫للجملة الخبرية في انزياح األسلوب البالغي عن وجوهه اللغوية العديدة؛ كقوله‬
‫تعالى‪ :‬الطالق مرتان؛ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‪( ‬البقرة‬
‫‪ .)2/228‬فالتطليق حكم شرعي واحذر أن تطلق مرتين ألنه لن يكون لك بعدها‬
‫إال خيار واحد إما اإلمساك بحسن العشرة وإ ما التسريح الجميل؛ فال رجعة بعد‬
‫الثالثة‪ ،‬ومن التحذير مع الترغيب قوله تعالى‪َّ  :‬‬
‫إن الذين َيغضُّون أصواتهم عند‬
‫قلوبهم للتقوى‪( ‬الحجرات ‪ .)3 /49‬فصفة‬ ‫رسول اهلل أولئك الذين امتحن اهلل َ‬
‫َخ ْفض الصوت في مجلس النبي؛ أو عند ندائه من وراء حجرات صفة األتقياء‪،‬‬
‫وهذا يعني أن اآلية ال تتوقف عند هذا اإلخبار وإ نما توحي بغرض آخر وهو‬
‫التحذير من رفع الصوت في مثل هذا الموقف والنهي عنه‪ ،‬والترغيب في خفضه‪.‬‬
‫والع ْجز‪:‬‬
‫‪13‬ـ الضعف َ‬
‫العجز‪ :‬نقيض‬
‫ض ُعف‪ 0...‬ومثله َ‬ ‫ض ُعف َي ْ‬
‫َّعف نقيض القوة والقدرة‪َ ،‬‬ ‫الض ْ‬
‫صيَّره عاجزاً‪.‬‬
‫َ‬ ‫زه‪:‬‬ ‫ج‬
‫َْ‬‫َع‬
‫أ‬ ‫و‬ ‫عليه‪...‬‬ ‫يقدر‬ ‫لم‬ ‫‪:‬‬‫ز‬ ‫ِ‬
‫ج‬ ‫ع‬
‫َْ ُ‬‫ي‬ ‫األمر‬ ‫عن‬ ‫ز‬‫الح ْزم؛ َع َ َ‬
‫ج‬ ‫َ‬
‫ولعل كثيراً من صيغ األساليب المجازية مستمدة من اللغة‪ ،‬وهي تفسر‬
‫القيمة الفنية التي تستجيب لنفس المتكلم باعتبار األسلوب فناً بالغياً جميالً؛ وقد‬
‫يكون تصويراً لغيره؛ وعلى ذلك قوله تعالى على لسان زكريا‪َ  :‬ر ِّ‬
‫ب إني َو َه َن‬
‫واشتعل الرأس شيباً‪( ‬مريم ‪ )4 /19‬ويقول الشاعر‬
‫َ‬ ‫العظم ِّ‬
‫مني‬
‫وقد أظهر عجزه وضعف جسمه‪ ،‬ويدعو للمخاطب أال‬

‫‪- 75 -‬‬
‫يصاب بما أصيب به‪:‬‬
‫س ْمعي إلى تَْر ُج ِ‬
‫مان‬ ‫َح َو َج ْت َ‬
‫قَ ْد أ ْ‬ ‫وبلِّ ْغتَها ـ‬
‫الثمانين ـ ُ‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫َّ‬

‫أما ساعدة بن جؤية فيصف لنا نسوة عاجزات باكيات‬


‫يرفلن بأثواب مهترئة بعد أن كن يلبسن البرود اليمنية‪0...‬‬
‫فحالة َّ‬
‫الض ْعف ليست في القدرة الجسدية وإ نما في الحالة‬
‫النفسية‪8:‬‬
‫الر َدِم‬ ‫الخ ِ‬
‫ال في ُّ‬ ‫َي ْر ُف ْل َن بعد ثياب َ‬ ‫ِ‬
‫األشفار ُم ْن َحدراً‬ ‫ْرين َد ْمعاً على‬
‫َيذ َ‬

‫أما المتنبي فإنه يحدثنا عن حالة من الضعف النفسي‬


‫والجسمي نتيجة مرض أصابه فيقول‪:‬‬
‫الركاب وال أَمامي‬ ‫بي‬
‫ب َ‬‫تَ ُخ ُّ‬
‫ُ‬ ‫مصر فال ورائي‬
‫ت بأرض َ‬
‫أَقَ ْم ُ‬
‫لقاءه في ُك ِّل عام‬
‫يمل َ‬‫ُّ‬ ‫الفراش وكان جنبي‬ ‫ني‬‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ومل َ‬‫َ‬
‫َّ‬
‫والضعف في‬ ‫ويظل بكاء الشباب يمثل صورة العجز‬
‫الشيخوخة وهو من أبرز المعاني التي يقررها الشعراء‬
‫صوروا لنا مالمح هذه‬
‫بأساليبهم الخبرية الموحية‪ ،‬وقد َّ‬
‫الشيخوخة بما تحمل فيه من أمراض وهزيمة جسدية‬
‫ونفسية فيقول أبو نواس‪:‬‬
‫ضوا‬
‫ضواً فَ ُع ْ‬
‫َموت ُع ْ‬
‫وأُراني أ ُ‬ ‫وع ْلواً‬
‫س ْفالً ُ‬
‫ام ُ‬
‫السقَ ُ‬
‫في َّ‬
‫ب َّ‬
‫َد َّ‬

‫اهلل ِن ْ‬
‫ضوا‬ ‫وتذكرت طاع َة ِ‬
‫َّ ْ‬
‫ِ‬
‫بطاعة َن ْفسي‬ ‫ذهب ْت ِجدَّتي‬
‫َ‬
‫وكم من إنسان يستطلع ندامة أبي نواس على ما فََّرط في شبابه؛ ألنه لم‬
‫يعوض ما‬
‫وسيرته نحو شهواتها‪ ...‬فكيف ّ‬ ‫يجعلها في طاعة اهلل‪ ،‬وقد ركبته نفسه ّ‬
‫فاته؟!‬

‫‪- 76 -‬‬
‫والتوجع‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫التحسر‬
‫ُّ‬ ‫‪14‬ـ‬
‫يتحسر‪ :‬يتلهف من الحزن‬‫ّ‬ ‫التحسر‪ :‬التلهف‪ ،‬وتحسَّر‬
‫وغيره‪ 0...‬والتوجع‪ :‬التألم والشكوى‪َّ ...‬‬
‫توجع يتوجع له‪:‬‬
‫رثى لـه من مكروه نازل‪ .‬فاالنزياح اللغوي عن التعبير‬
‫المباشر في الجملة الخبرية إلى أنساق جمالية مثيرة يبرز‬
‫التحول السياقي‪ .‬وال يشك أحد منا في أن التوجع‬
‫ّ‬ ‫قيمة‬
‫للشباب جزء من رثاء النفس على نحو من األنحاء؛ وهو‬
‫دليل على ذلك؛ كما نراه في قول الشاعر‪:‬‬
‫َسود‬ ‫المشيب ب ُك ِّل ٍ‬
‫يوم أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫وأتى‬ ‫الص َبا‬ ‫مض ِت الليالي ال ِب ْي ُ‬
‫ض في َز َم ِن ِّ‬ ‫َ‬
‫فالحزن أو األسى يتجلى في هذا َّ‬
‫النسق التعبيري‬
‫المثير لكنه يصبح أكثر شدة في حالة الفقد المركب حين‬
‫تعيره‬
‫يفقد المتكلم شبابه ومحبوبته‪ ،‬أو حين تشرع المرأة ّ‬
‫وضعفه؛ كما نستشفه من قول ساعدة بن جؤية في‬ ‫بع ْجزه َ‬‫َ‬
‫تتجمل بالصرب‪:‬‬
‫خطابه ألميمة؛ طالباً منها أن ّ‬
‫أميم ـ وقد خال عمري ـ قلي ُل‬ ‫عيش‬ ‫جمالَ ِك َّإنما ي ِ‬
‫جديك ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫حتى تبلغ التفجع الالذع‬ ‫وتتصاعد الحسرة والمواجع‬


‫الموت راحته َّ‬
‫النفسية؛‬ ‫ك‬
‫وهتَ َ‬
‫إذا فقد المتكلم عزيزاً له‪َ ،‬‬
‫كما نجده في رثاء أبي‬ ‫فطفق يرزح تحت ثقل المصيبة‬
‫العتاهية البنه علي‪:‬‬
‫البكاء علي َك شيَّا‬
‫ُ‬ ‫فما أَ ْغ َنى‬ ‫بد ْم ِع عيني‬
‫علي َ‬
‫بكيتُ َك يا ُّ‬
‫حيا‬
‫اليوم أ َْوعظُ منك ّ‬
‫َ‬ ‫وأنت‬ ‫وكا َن ْت في حياتك لي ِع ٌ‬
‫ظات‬

‫‪- 77 -‬‬
‫فجمالية التعبير تنبع من الحاجة النفسية الشعورية‬
‫وهي تسوق األنساق الخبرية على التوالي بال تقديم وال‬
‫تأخير‪ ...‬وتعبر عن تجربة فلسفية للشاعر في حياته‪ ،‬في‬
‫إطار تصوير فني مثير‪ ...‬فالشاعر يقدم لنا فكرة ما؛ لكنه‬
‫ال يقدمها كما يطرحها العلم‪ ،‬وإ نما يعبر عنها بثوب‬
‫جمالي مثير للعاطفة البشرية‪ ...‬وهنا نرى المتنبي يعبر‬
‫بصورة بديعة عن غدر الموت باألحياء‪ 0،‬وال شيء أدل‬
‫على ذلك من اختطافه ألخت سيف الدولة وهي ال زالت‬
‫في ريعان الشباب‪ ...‬فالموت مولع بقتل الناس جيالً بعد‬
‫جيل‪:‬‬
‫َصبت‪ ،‬وكم أسكت من ِ‬
‫لج ِب!!‬ ‫بم ْن أ ْ‬ ‫موت!! كم أَفْنيت من ٍ‬
‫عدد‬ ‫َغ َد ْر َت يا ُ‬
‫َ‬
‫موح‪ ،‬وإ نما استعظم كثرة‬
‫فالمتنبي لم يكتف بتقرير صورة غدر الموت بشكل ٍ‬
‫من يصيبهم ويسكت أنفاسهم‪ ،‬فلجأ إلى استعمال (كم) الخبرية التي تفيد الكثرة‪،‬‬
‫وكررها تأكيداً منه لمعنى المبالغة في اإلكثار واالستعظام‪.‬‬
‫‪15‬ـ ال َف ْخر والتفاخر‪:‬‬
‫التمدح بالخصال واألمجاد واألحساب‬ ‫الفَ ْخر هو ّ‬
‫والمناقب‪ 0،‬والفعل‪ :‬فَ َخر يفَ َخر‪ ،‬بينما التفاخر هو التعاظم‬
‫بذلك على اآلخر؛ والفعل تفاخر يتفاخر‪ 0،‬وفاخره عارضه‬
‫بفخره‪ .‬ويدل أسلوب الفخر والتفاخر على الهدف منه‪،‬‬
‫والوظيفة التي يرمي إليها المتكلم‪ ،‬وقد يرمي التفاخر إلى‬
‫تبجحاً‪ 0...‬فالمفتخر يتلذذ‬ ‫العظم والشرف ِ‬
‫والك ْبر ّ‬ ‫ادعاء ِ‬
‫بإرسال الكلمات ويفتح عينيه على كل ما فيه من معطيات‬
‫الزهو واالستعالء‪ 0...‬وهذا األسلوب من أبرز ما عرفه‬
‫‪- 78 -‬‬
‫الشعر العربي ابتداء من الجاهلية حتى اليوم؛ سواء كان‬
‫ذلك فخراً ذاتياً‪ ،‬أم جماعياً؛ كقول عمرو بن كلثوم يفتخر‬
‫بقومه‪:‬‬
‫حملونا‬
‫ونحم ُل عنهم ما َّ‬ ‫ندافعُ عنهم األعداء قدماً‬
‫ضرب بالسيوف إذا ُغ ِشينا‬
‫و َن ُ‬ ‫الناس َع َّنا‬
‫ُ‬ ‫راخى‬
‫طاعن ما تَ َ‬
‫ُن ُ‬

‫ومثله قول أبي فراس في قومه‪:‬‬


‫وادلَ َه ّْم‬‫ب ْ‬ ‫وناب َخ ْط ٌ‬
‫ُن َ‬ ‫الز َما‬ ‫َّإنا إذا َّ‬
‫اشتد َّ‬
‫والكر ْم‬ ‫الش ِ‬
‫جاعة‬ ‫ُع َد َد َّ‬ ‫َلفيت َح ْو َل بيو ِتنا‬
‫أ َ‬
‫َ‬
‫وللندى ُح ْم ُر َّ‬
‫الن َع ْم‬ ‫ف َّ‬ ‫ِ‬ ‫بيض السيو‬ ‫للقا ِ‬
‫العدا ُ‬
‫راق َد ْم‬
‫وي ُ‬‫ودى َد ٌم‪ُ ،‬‬
‫ُي َ‬ ‫هذا وهذا َدأ ُْبنا‬

‫فالجملة الخبرية في أنساقها التعبيرية لم تقم على‬


‫النمط الواقعي العقالني؛ وإ نما تصوغ فكرة الدفاع عن‬
‫الذات الجماعية بأسلوب خيالي مثير يلبي مقتضيات‬
‫الحاجات‪ 0‬النفسية في التفاخر‪ ...‬ويربط بينه وبين روح‬
‫الجدل الذي يدافع فيه عن قومه‪ 0...‬وكذلك نراه في صورة‬
‫التفاخر‪ 0‬بالذات عند أبي فراس كقوله‪:‬‬
‫َض ِ‬
‫ياف‬ ‫ومنز ُل األ ْ‬ ‫ومكارمي َع َد ُد ُّ‬
‫َمأ َْوى الكرام َ‬ ‫النجوم ومنزلي‬ ‫َ‬
‫لعل جمالية األسلوب الخبري تنبثق هنا من منطق‬
‫التعداد في المآثر والمحامد؛ بينما نجد أبا العالء المعري‬
‫يركز فخره في منطقه وشعره فيقول‪:‬‬
‫على َّأنني بين ِّ‬
‫الس َماكين َناز ُل‬ ‫ض لي ك ْن َه منزلي‬
‫طق لم َي ْر َ‬
‫ولي َم ْن ٌ‬

‫‪- 79 -‬‬
‫ويظل الحكم الجمالي شديد الصلة بالذوق‪ ،‬والذوق ـ غالباً ـ من يحكم على‬
‫العناصر الفنية كما انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني‪ 0...‬ألنه طريق الشعور باللذة‬
‫الفنية واللغوية؛ علماً أن أي أسلوب يظل ذا هدف محدد ويقدم وظيفة ما‪ 0...‬وهو ما‬
‫نراه في األساليب كلها‪.‬‬
‫‪16‬ـ االستعطاف واالسترحام‪:‬‬
‫طفاً‪:‬‬ ‫طف ي ِ‬
‫عطف َع ْ‬ ‫االستعطاف مشتق من فعل ع َ َ‬
‫ورق له‪ .‬وتعطَّف عليه‪ :‬رحمه‪ ،‬وتعاطف القوم‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫رحمه‬
‫طفَه فتعطَّف‪ :‬أمال قلبه‬
‫رحم بعضهم بعضاً‪ ،‬وأعطفه وع ّ‬
‫إلى الرحمة‪ ،‬ومثله استعطفه‪ :‬طلب رحمته‪ ،‬والمصدر‪:‬‬
‫االستعطاف‪ .‬أما االسترحام فهو طلب الرحمة والمغفرة‬
‫معاً؛ والرحمة‪ :‬هي الرقة والتعطُّف والمغفرة‪ ،‬والفعل‪:‬‬
‫رحم َي ْر َحم‪ .‬وحين يستخدمان في أسلوب الخبر فإن‬
‫جماليتهما تنبع من السياق ال من شروط خاصة تستبطن‬
‫يعبران عنها بأشكال متباينة التأثير‬
‫الحالة النفسية؛ ألنهما ّ‬
‫وتتغلغل فيها روح العصر وثقافته وطبيعته‪ .‬ولعل من‬
‫الضعف البشري‬ ‫أجمل ما يقع في ذلك إبراز حاالت َّ‬
‫واالستكانة والتوسل في سؤال الرحمة من اهلل أو أصحاب‪0‬‬
‫الجاه؛‪ 0‬كما في قول أبي نواس‪:‬‬
‫ٍم تجاوزتُ ُه َّن ِل ْعباً ولَ ْهوا‬ ‫ف َن ْفسي على ٍ‬
‫ليال وأَيَّا‬ ‫له َ‬
‫ْ‬
‫وع ْفوا‬ ‫ص ْفحاً َّ‬
‫عنا و َغ ْفراً َ‬ ‫َـهم َ‬ ‫قد أسأْ َنا ُك َّل ِ‬
‫اإلساءة فاللـّ‬
‫وقال النابغة يعتذر إلى النعمان بن المنذر ويستعطف‬
‫قلبه‪:‬‬
‫ستَ ُّك منها المسامعُ‬
‫وتلك التي تَ ْ‬ ‫أبيت اللَّ ْع َن ـ أنك لمتني‬
‫أَتاني ـ َ‬

‫‪- 80 -‬‬
‫وذلك من تلقاء مثلك رائعُ‬ ‫سوف أَنالُه؛‬
‫َ‬ ‫أن قد ُق ْل َت‪:‬‬
‫مقال ُة ْ‬
‫‪17‬ـ المدح‪:‬‬
‫أسلوب يقوم على تعداد صفات الممدوح والثناء عليه‬
‫إنشاء وخبراً‪ ،‬ففي‬
‫ً‬ ‫بما يستحقه‪ ،‬وهو األصل‪ .‬ويقع‬
‫األسلوب الخبري يقدم المتكلم عدداً من اإلشارات النفسية‬
‫والفكرية‪ ،‬والجمالية حين يتجه إلى سرد صفات‪ 0‬الممدوح‬
‫والثناء عليه كمدح النابغة الذبياين‪:‬‬
‫كوكب‬
‫ُ‬ ‫منه َّن‬
‫طلع ْت لم َي ْب ُد ُ‬
‫إذا َ‬ ‫كواكب‬
‫ٌ‬ ‫شمس والملو ُك‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫فإنك‬

‫أراد بالجملة الخبرية (إنك شمس‪ )...‬أن يبين منزلته‬


‫العظيمة ويمدحه بها‪ .‬فهناك جملتان في الشطر األول‬
‫ترسمان إيقاعاً متكامالً وتبرزان خصائص الممدوح‪،‬‬
‫وكذلك قوله في الغساسنة‪8:‬‬
‫الس َب ِ‬
‫اسب‬ ‫يوم َّ‬ ‫قاق ِّ‬
‫ِر ُ‬
‫بالر ْيحان َ‬
‫ُي َحي َّْو َن َّ‬ ‫ب ُح ُجزاتهم‬
‫ط ّي ٌ‬
‫النعال َ‬
‫ِ‬
‫المناكب‬ ‫دان ُخ ِ‬
‫ضر‬ ‫األر ِ‬
‫بخالصة ْ‬ ‫يصونون أَجساداً قديماً َنعيمها‬

‫فالعناصر األسلوبية تتعدد بتعدد الجمل الخبرية وترسم ألواناً مثيرة‪ ،‬فضالً‬
‫النعمة التي تقررها للغساسنة؛ ألن الصورة الخارجية تُفضي بكل دقة إلى‬ ‫عن ّ‬
‫الواقع الثقافي والديني الذي كان عليه القوم آنذاك؛ وهو واقع يستدعي الثناء عليهم‪.‬‬
‫‪18‬ـ الحث على السعي والجد وعلى أي أمر محمود‪:‬‬
‫َح َسُنوا‬
‫هذا غرض آخر في الجملة الخبرية المجازية كقوله تعالى‪ :‬للذين أ ْ‬
‫الح ْسَنى وزيادةٌ‪( ‬يونس ‪ .)26 /10‬فالجمالية هنا ال تتوقف‬ ‫ُ‬
‫عند إبراز العناصر الجمالية للجملة الخبرية وإ نما تبرز‬
‫ازدياد القدرة النفسية والفكرية على توسيع آفاق التصور‪،‬‬
‫وعليه قول محمد بن بشير اخلارجي‪:‬‬
‫‪- 81 -‬‬
‫يقوى على ُخلُقي‬
‫وكان مالي ال َ‬ ‫همتي ِج َدتي‬
‫رت عن َّ‬
‫ص ْ‬‫إني وإ ْن قَ ُ‬
‫الر ِن ِ‬
‫ق‬ ‫ش ِر ُعني في َ‬
‫الم ْن َهل َّ‬ ‫وي ْ‬
‫عاراً ُ‬ ‫لتار ٌك َّ‬
‫كل أ َْم ٍر كان ُي ْل ِزمني‬

‫فعناصر اإلثارة الفنية قد تخدع القارئ بأنها عناصر‬


‫ثابتة في الجملة الخبرية‪ ،‬ولكنها في أساليبها المجازية‬
‫خاصة تبنى على طابع التغير النفسي والموضوعي‪0....‬‬
‫ألنها ذات مضمون يحرك النوازع المتعددة لدى المتكلم‬
‫والمخاطب‪ 0،‬وال سيما إذا كان يحرض اإلنسان على عدم‬
‫الضعف والواقع؛ كما في قول ابن ُنباتة‬‫االستكانة وقبول َّ‬
‫السعدي‪:‬‬
‫ِ ِ‬
‫بات ساعيا‬
‫ويدنو إلى الحاجات َم ْن َ‬ ‫ضجيع التَُّّرهات ط ُ‬
‫البه‬ ‫َ‬ ‫وت‬
‫َيفُ ُ‬
‫إن أي أسلوب مما تقدم يولّد في ذاته جملة من العناصر الفنية المتعاونة؛ وإ ن‬
‫ُبني أحياناً على أنساق تعبيرية إنشائية فهي جزء من السياق العام للجملة‬
‫الخبرية‪ ....‬وما على المتلقي إال أن يعي التناغم الداللي والتعبيري فيها‪ ،‬ويراعي‬
‫صفة الترابط في العمل الفني‪ 0...‬وهذا ما يمكن أن نراه في أضرب الخبر الرامية‬
‫إلى أهداف معينة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أَضْ رب الخبر ومؤكداته‬

‫‪1‬ـ أضرب الخبر‬


‫أوضح لنا عبد القاهر الجرجاني الفروق الدقيقة في طريقة إلقاء الخبر‬
‫َض ُرب الخبر)‪ ...‬وبيَّن‬
‫للمخاطب؛ وهي طريقة ترتبط بأحواله‪ ،‬وسميت (أ ْ‬
‫الجرجاني َر َّد أبي العباس المبرد (ت ‪285‬هـ) على الكندي (ت ‪260‬هـ) فقال‪:‬‬
‫"واعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده‪ ،‬أن ههنا فروقاً خفية‬
‫تجهلها العامة وكثير من الخاصة‪ ،‬ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في‬
‫آخر‪ ،‬بل ال يدرون أنها هي‪ ،‬وال يعلمونها في جملة وال تفصيل‪ .‬روي عن ابن‬
‫األنباري أنه قال‪َ :‬ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له‪ :‬إني ألجد في‬
‫كالم العرب حشواً‪ ،‬فقال لـه أبو العباس‪ :‬في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال‪ :‬أجد‬
‫العرب يقولون‪ :‬عبد اهلل قائم؛ ثم يقولون‪ :‬إن عبد اهلل قائم؛ ثم يقولون‪ :‬إن عبد اهلل‬
‫لقائم؛ فاأللفاظ متكررة والمعنى واحد‪ .‬فقال أبو العباس‪ :‬بل المعاني مختلفة‬
‫الختالف األلفاظ؛ فقولهم‪( :‬عبد اهلل قائم) إخبار عن قيامه؛ وقولهم‪( :‬إن عبد اهلل‬
‫قائم) جواب عن سؤال سائل‪ ،‬وقولهم‪( :‬إن عبد اهلل لقائم) جواب عن إنكار منكر‬
‫لتكرر المعاني‪ ،‬قال‪ :‬فما أحار المتفلسف جواباً"‪ .‬ثم‬
‫قيامه؛ فقد تكررت األلفاظ ُّ‬
‫أن ههنا دقائق لو أن الكندي استقرى وتصفح وتتبع مواقع‬ ‫يقول الجرجاني‪" :‬واعلم ْ‬
‫سواء دخولها وأن ال‬‫ً‬ ‫َن ليس‬
‫(إن) ثم أَلطف النظر وأكثر التدبر لعلم علم ضرورة أ ْ‬
‫تدخل"(‪.)30‬‬
‫فالجرجاني ما يزال ينظر بعين معاني النحو وأثره في عملية التأليف وارتباط‬
‫ذلك بأحوال المخاطب‪ ...‬فالمتكلم حين يلقي إليه كالمه ينظر في أحواله فإن وجده‬
‫ردداً أو ُم ْن ِكراً‪0...‬‬
‫مثبتاً لما يقول كان لـه طريقة خاصة مغايرة لها فيما لو كان ُمتَ ِّ‬
‫فالمتكلم يتصور الحالة الذهنية للمخاطب‪ 0...‬وهذا ما بينه عبد القاهر على لسان‬
‫المبرد‪ ،‬ولم يتنبه لـه الفيلسوف‪...‬‬
‫فصياغة الجملة الخبرية وتحديد تركيبها يتوافق مع حال المخاطب‪ ،‬فيخرج‬
‫الكالم َو ْفق القاعدة البالغية (لكل مقام مقال) و(مقتضى الحال) حال المخاطب ال‬
‫حال المتكلم كما أشرنا إليه من قبل‪ .‬وقد تبين البالغيون ثالثة مصطلحات لثالث‬
‫أحوال؛ أطلقوا عليها أضرب الخبر‪ ...‬وربما تتشابه في الطريقة مع أغراضه‬

‫‪- 83 -‬‬
‫باعتبار المتكلم‪ ،‬ولكنها تفترق في الهدف؛ وهي‪:‬‬
‫أوالً ـ الضَّ ْرب االبتدائي‪:‬‬
‫ويكون المخاطب في هذا الضرب خالي الذهن من الحكم الذي يلقيه إليه‬
‫آمنا‬
‫المتكلم‪ ،‬وال علم لـه به‪ ،‬وليس لـه موقف مسبق منه؛ كقوله تعالى‪ :‬ويقولون‪ّ :‬‬
‫ريق منهم من بعد ذلك‪( ‬النور ‪...)47 /24‬‬ ‫باهلل وبالرسول‪ ،‬وأطعنا‪ ،‬ثم يتولَّى فَ ٌ‬
‫فهذه اآلية خلت من أي توكيد؛ ومضت إلى القدر الذي احتاج إليه المخاطب‬
‫من الكالم؛ بينما نجد قوله تعالى‪ :‬قال‪ :‬بل فعله كبيرهم هذا‪( ‬األنبياء ‪)36 /21‬‬
‫مختصراً تبعاً للحاجة إليه في خطاب إبراهيم (عليه السالم) للقوم‪.‬‬

‫فهذا الضرب ال يحتاج إلى توكيد؛ ويكون طول‬


‫الجملة وقصرها على قَ ْدر الحاجة عند المخاطب‪ 0‬تبعاً‬
‫لتصور المتكلم؛ وعليه قول المتنبي المشبع بأساليب‬
‫بالغية جميلة؛ وال سيما الطباق والمقابلة وااللتفات‪:‬‬
‫ص َم ُم‬
‫َسمع ْت كلماتي َم ْن به َ‬
‫وأ َ‬ ‫ظر األعمى إلى أ ََدبي‬
‫أَنا الذي َن َ‬
‫ختصم‬ ‫وي‬ ‫ِ‬ ‫أ ِ‬
‫ُ‬ ‫هر ال َخ ْلق َجَّراها َ‬
‫س ُ‬‫وي ْ‬
‫َ‬ ‫شواردها‬ ‫لء ُجفوني عن‬
‫َنام م َ‬
‫ُ‬
‫وكذلك قول أبي متام‪:‬‬
‫عالم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وي ْكدي الفتى في َد ْهره وهو ُ‬ ‫ُ‬ ‫عيشه وهو جاه ُل‬ ‫ينال الفتى من‬
‫البهائم‬ ‫َهلَ ْك َن إذاً من َج ْهل ِه َّن‬ ‫َرزاق تجري على ِ‬
‫الح َجا‬ ‫ولو ِ‬
‫كانت األ ُ‬
‫ُ‬
‫وقال أبو الطيب‪:‬‬
‫وتأَتي على قَ ْد ِر ِ‬
‫المكارم‬
‫ُ‬ ‫الكرام‬ ‫العزائم‬
‫ُ‬ ‫َه ِل َ‬
‫الع ْزم تأتي‬ ‫على قَ ْدر أ ْ‬
‫العظائم‬
‫ُ‬ ‫وتص ُغر في عين العظيم‬ ‫وتكبر في َع ْي ِن الصغير صغارها‬ ‫ُ‬
‫تعرض لما وراءه‬‫فلما كان الغرض من هذا األسلوب مطلق اإلخبار من غير ّ‬
‫موشى بظالل جميلة الفتة للنظر لما‬ ‫أُرسل على هذا الشكل التقريري‪ ،‬ولكنه‬
‫ً‬
‫اشتمل عليه من الحكمة الموشاة ببهاء التقابل الجمالي المعبر والمثير للفكر‬
‫والنفس‪ ،‬فضالً عن اإليقاع الموسيقي الجميل الناشئ من أسلوب رد العجز على‬

‫‪- 84 -‬‬
‫الصدر‪ ،‬ومن صيغ أبنية الكلمات وتقارب حروف قسم منها‪.‬‬
‫ثانياً ـ الضَّ ْرب الطلبي‪:‬‬
‫هو كل كالم يتوجه فيه المتكلم إلى المخاطب ويتصور أنه ٌّ‬
‫شاك أو متردد بين‬
‫قبوله ورفضه ألنه ال يعرف مدى صحته؛ وهو الذي قال عنه السكاكي‪" :‬وإ ذا‬
‫متحير طرفاها عنده دون االستناد فهو‬‫ألقاها [أي الجملة الخبرية] إلى طالب لها ّ‬
‫منه بين بين لينقذه عن ورطة الحيرة استحسن تقوية المنقذ بإدخال الالم في الجملة‬
‫إن"(‪.)31‬‬‫أو َّ‬
‫فالمتكلم هنا يحتاج إلى استعمال إحدى المؤكدات اللفظية التي سنأتي على‬
‫ف‬
‫ليوس ُ‬ ‫إن‪َّ ،‬‬
‫أن‪ ،‬قد‪ ،‬الم االبتداء‪ ،‬القسم‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬إذ قالوا‪ُ :‬‬ ‫ذكرها ومنها َّ‬
‫َخ ْوهُ أ ُّ‬
‫َحب إلى أبينا منا‪( ‬يوسف ‪ ،)8 /12‬فالم االبتداء أزالت التردد عند‬ ‫وأ ُ‬
‫المخاطب‪0...‬‬

‫وقال جرير (ت ‪110‬هـ) مستخدماً التوكيد َّ‬


‫(إن)‪:‬‬
‫قَت ْل َن َنا ثم لم ُي ْح ِي ْي َن قَتْالنا‬ ‫ط ْر ِفها َح َوٌر‬
‫العيون التي في َ‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫َّ‬

‫وقال أبو العتاهية‪:‬‬


‫َهوى ِل َما أ ْ‬
‫َخشى‬ ‫ت ما أ ْ‬
‫فتر ْك ُ‬ ‫واقب الدنيا‬
‫ت َع َ‬
‫إني رأ َْي ُ‬
‫فالمقصود بهذا األسلوب الطلب‪ ،‬ولهذا وجب تأكيده في النفس بما يقرره فيها‬
‫ويوضح المقصود منه‪...‬‬

‫ثالثاً ـ الضَّ ْرب اإلِنكاري‪:‬‬


‫هو كل خبر يعلم به المخاطب على نحو ما ولكنه ينكره إنكاراً يحتاج إلى‬
‫توكيد بأكثر من مؤكد كقوله تعالى‪َّ  :‬إنا إليكم لمرسلون‪( ‬يس ‪)16 /36‬‬
‫العزيز الرحيم‪( ‬الشعراء ‪ 9 /26‬و‪ 68‬و‪ 104‬و‪122‬‬ ‫ُ‬ ‫وكقوله‪ :‬وإِ َّن رب َ‬
‫ِّك لهُ َو‬
‫وأنفُ ِس ُكم‪( ‬آل‬
‫و‪ 140‬و‪ 159‬و‪ 175‬و‪ )191‬وقوله‪ :‬لتُْبلَ ُو َّن في أموال ُكم ْ‬
‫عمران ‪ )186 /3‬فالتوكيد هنا بالم القسم‪ ،‬ونون التوكيد‬
‫الثقيلة‪ 0...‬فالمطلوب وجوب التأكيد ألجل إنكار المخاطب‬
‫للخبر‪ ...‬فكلما زاد الشك واإلنكار زاد التوكيد في صياغة‬

‫‪- 85 -‬‬
‫الخبر وعليه قول تأبط شراً حين وجد القوم ينكرون قتله‬
‫للغُ ْول‪:‬‬
‫قين َب ْل َع َي ِ‬
‫ان‬ ‫ُخ ِّب ُر عن َي ٍ‬
‫أَ‬ ‫وجود ال ُغول ِّإني‬
‫َ‬ ‫فم ْن ينكر‬
‫َ‬
‫ص ِ‬
‫حان‬ ‫َّ ِ‬ ‫بس ْه ٍب‬ ‫لقيت ال ُغول تَ ْه ِوي‬
‫ص ْح َ‬
‫كالصحيفة َ‬ ‫َ‬ ‫بأَّني قد ُ‬
‫للي َد ْي ِن ولل ِج ِ‬
‫ران‬ ‫صريعاً َ‬
‫َ‬ ‫ربها بال َد َه ٍ‬
‫ش َف َخَّر ْت‬ ‫َض ُ‬
‫فأ ْ‬

‫وقال لبيد بن ربيعة‪:‬‬


‫هام َها‬ ‫إن المنايا ال تَ ُ ِ‬
‫طيش س ُ‬ ‫َّ‬ ‫لتأتين َمنيَّتي‬
‫َّ‬ ‫ت‬
‫لم ُ‬
‫ولقد َع ْ‬
‫ض ْرب من المؤكدات تثبت للمخاطب وللنفس على‬ ‫فهذا البيت ينطوي على َ‬
‫السواء أن الموت مصير كل حي؛ وسهام المنايا ال تخيب‪ ...‬ولنلحظ الصورة‬
‫اإلنكارية المختبئة وراء التّصوير الفني‪ 0...‬فهناك من يشك أشد الشك في مجيء‬
‫الموت بعد طول عمر‪ ،‬ما جعل الشاعر يستنكر عليه فعله‪ .‬لهذا استعمل (الالم‬
‫الموطئة للقسم مع قد) ثم استعمل (الالم الواقعة في الجواب مع التوكيد بنون‬
‫التوكيد)‪.‬‬
‫(إن) الذي يفيد التوكيد‪0...‬‬ ‫ِ‬
‫يكتف بهذا‪ ،‬وإ نما أضاف إليه الحرف َّ‬ ‫ولم‬
‫وشبيه به قول حسان بن ثابت في استعمال المؤكدات‬
‫التي يرد بها على من ينكر عليه صفاته‪:‬‬
‫ُع َّو ِد‬ ‫ِ‬
‫وإ ِّني لتََّرا ٌك ل َما ْ‬
‫لم أ َ‬ ‫وإ ِّني ُ‬
‫لح ْل ٌو تَ ْعتريني َم َرارةٌ‬
‫إن بناء العناصر الفنية الشعرية من لغة وصورة وإ يقاع ال تلغي المستويات‬
‫الفنية البالغية الدالة على مفاهيم ودالالت نفسية متعددة‪0...‬‬
‫ومن هنا نرجع مباشرة إلى اللغة الفنية ذاتها‪ ،‬فالبالغة العربية رحلة في‬
‫أعماق الكلمات‪ ،‬وهي ترسم فيها تساؤالت كثيرة تعبر عما يدور في خلد المتكلم‬
‫ومن ثم المخاطب على جهة اإلسناد الحقيقي ـ كما رأينا ـ أو على جهة اإلسناد‬
‫المجازي بخروج الخبر من أغراض إلى أخرى مما يبرز جمالياتها المتعددة‪...‬‬
‫وهذا نفسه ما يجعلنا نتحدث عن جماليات المؤكدات التي تستعمل في الجملة‬
‫الخبرية‪ ،‬فهي ليست مجرد زينة أو ألفاظ عابرة‪ .‬فهناك أنماط لغوية خاصة‬

‫‪- 86 -‬‬
‫مر بنا في أضرب الخبر وأساليبه المجازية تؤدي‬‫تفضلها الجملة الخبرية كما َّ‬
‫وظيفة جمالية تعبيرية ووظيفة نفسية وفكرية في آن واحد؛ ألن فعلية التغيير‬
‫اللغوي في األسلوب البالغي عملية بناء في وجدان المتكلم‪ ،‬ومن ثم في وجدان‬
‫المتلقي (المخاطب)‪ .‬وهناك مسوغات وغايات تقتضي استعمال هذا الضَّرب من‬
‫الخبر أو ذاك‪ ،‬أو هذا النمط من الكالم دون غيره‪.‬‬
‫وحين تصبح لغة المتكلم على هذه الجهة المشحونة بالعواطف ـ وقد اقتضت‬
‫زيادة عدد المؤكدات في الجملة الواحدة ـ فإنما تؤكد أن المتكلم لم تكن غايته أن‬
‫يتالعب باأللفاظ وهو يكرر العديد منها‪ ،‬أو ينوع في أشكالها‪ ،‬فاألسلوب الخبري‬
‫حرة مرتبطة بوظائف نفسية عالية‪ ،‬وموضوعية وفنية‪.‬‬ ‫بأشكاله كلها ممارسة َّ‬
‫ولعل هذا كله ما نلقاه في الحديث عن أنواع مؤكدات الجملة الخبرية بما تقوم‬
‫به من عملية ربط لغوي وداللي في الوقت الذي ُّ‬
‫تعد مكثفة لتجربة المتكلم في كيفية‬
‫إلقاء خطابه إلى المخاطب؛ وتوظيف المؤكدات توظيفاً دقيقاً في المجاالت‬
‫المتعددة‪ .‬فالمضمون األصيل لألداة لم يعد مجرد أداة ربط؛ بل تعدى هذه المهمة‬
‫إلى خدمة رؤية المتكلم وفق عمليتي الخلق والتذوق‪ ،‬ومن أجل إحكام العالقة مع‬
‫المخاطب (المتلقي) والمجتمع‪.‬‬

‫‪2‬ـ مؤكدات الخبر‬


‫تصور‬
‫اللغة في الشعر تستشعر الحالة النفسية والموضوعية‪ ،‬وال سيما حين ّ‬
‫أبعادها كلها؛ لتغدو القصيدة الشعرية تجربة فنية مرئية أساسها الكلمات‪ ،‬وكذلك‬
‫هي قطعة النثر الفني‪ .‬ويبدو لي أن اللغة ذاتها في أساليب الخبر تأخذ رحلة مثيرة‬
‫تعبر عن صور نفسية وفكرية واجتماعية و‪ 0...‬متعددة؛‬ ‫على متن األلفاظ‪ .‬فهي ّ‬
‫ألن اللغة والعاطفة والفكرة ماهيات ُمتداخلة‪ ،‬على ما يقال‪ :‬إن اللغة وعاء للفكر‪.‬‬
‫فاللغة تحكي الحالة النفسية بمثل ما تعبر عن التجربة الذاتية واالجتماعية‬
‫والموضوعية‪.‬‬
‫ولهذا فإن التالحم العضوي بين اللغة والحالة النفسية يمثله جوهر الشكل‬
‫البالغي‪ ،‬أو األسلوب اللغوي للتعبير‪ ...‬فيتلون بتلون الصور الداللية التي يعبر‬
‫عنها‪ ،‬ويتماوج بتماوج النفس وأحوالها المتنوعة‪0...‬‬
‫فحين يرى المتكلم أن المخاطب شديد اإلنكار لما يقوله فإن لغته ستختلف‬
‫عنها فيما لو كان المخاطب مقراً بما لدى المتكلم‪ ...‬فاألسلوب البالغي يأخذ على‬
‫عاتقه جملة من األهداف التي يسعى المتكلم إلى تعزيزها‪0...‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫فالتجربة البالغية تجربة لغوية جمالية ـ بهذا التصور ـ وهي تجسد طاقات‬
‫نفسية وفكرية واجتماعية‪ 0...‬كثيرة‪ ،‬وتبرز في الوقت نفسه قدرة المتكلم على‬
‫اإلقناع واإلبداع‪...‬‬
‫من هنا يصبح بحث (مؤكدات الخبر) بحثاً بالغياً جمالياً‪ ،‬وإ ن أخضعه‬
‫اللغويون لقواعد تحدد طبيعة أنواع المؤكدات‪ ...‬فمعرفة طبيعة المؤكدات ال يعني‬
‫أكثر من إدراك أساليب توكيد الجملة الخبرية في ضوء األحوال اللغوية‪ 0...‬ولكن‬
‫الصورة الجمالية لهذه األساليب تكمن في الداللة التصويرية لما تتبناه هذه‬
‫األساليب‪ ،‬واختالفها عن غيرها‪ ...‬فاللغة الجمالية في مؤكدات الخبر تغدو‬
‫خصيصة ذاتية لها تتعلق بالهدف والمقام‪ ...‬وتصبح اللفظة في حسن مالءمتها‬
‫ألخواتها وإ صابة المراد منها جميلة وإ ال ُع َّدت مستقبحة‪ ،‬فهي أداة ربط وأداة‬
‫معنوية في وقت واحد‪.‬‬
‫هذا ما حاول عبد القاهر الجرجاني أن يثبته منذ القديم في كتابه (دالئل‬
‫اإلعجاز) وهذا ما تتبناه أحدث النظريات الجمالية‪ 0...‬ولعل ما يلفت النظر في‬
‫مؤكدات الجملة الخبرية أن الداللة منفتحة على قصدية المتكلم ومراعاة المقام‬
‫والحال‪ ...‬ولهذا نرى أن أي ضرب من ضروب أساليب التوكيد متم ّكن في الجملة‬
‫الخبرية يكشف عن جمالية خاصة‪ ،‬وربما تنوعت فيه أشكال الجمال‪0...‬‬
‫وهنا نبرز من جديد ما نؤمن به من أن اللغة في الجملة الخبرية أو في الجملة‬
‫اإلنشائية ليست لغة محايدة‪ ،‬وال منفتحة على عالم ال ٍ‬
‫متناه كما تذهب إليه نظرية‬
‫النص المفتوح التي نادى بها المفكر الفرنسي (روالن بارت)(‪)32‬؛ في الوقت‬
‫الذي يمكن لها أن تحقق ذلك‪ .‬فاأللفاظ في مؤكدات الجملة الخبرية تكتسب‬
‫جماليتها من تنوعها ثم كثرتها في أسلوب ما أوالً ثم فيما تحمله من وظائف ثانياً‪،‬‬
‫فأي متكلم محكوم بشروط ذاتية وموضوعية وفنية الستخدام هذا المؤكد أو ذاك‪،‬‬
‫مما يجعل اللغة في بنية كالمه غير إشارية وال اعتباطية(‪ .)33‬ولعل دخول هذا‬
‫اللفظ أو ذاك في سياق بالغي ما يعبر عن مفهوم لغوي انزياحي ليحقق للمتكلم في‬
‫معرض االستبدال والتوزيع ما يصبو إليه‪.‬‬
‫فأساليب البالغة تصبح في مؤكدات الخبر لغة أخرى انحرفت عن المعيار‬
‫وضح هذا األمر‬
‫كما يقول (جان كوهن) في حديثه عن اللغة الشعرية(‪ .)34‬وقد ّ‬
‫الذي نتجه إليه (ريفاتير) بتصوره لمفهوم االنزياح اللغوي الذي "يكون خرقاً‬
‫للقواعد حيناً‪ ،‬ولجوءاً إلى ما ندر من الصيغ حيناً آخر‪ .‬أما في حالته األولى فهو‬
‫من مشموالت علم البالغة‪ ،‬وأما في صورته الثانية فالبحث فيه من مقتضيات‬

‫‪- 88 -‬‬
‫اللسانيات عامة واألسلوبية بوجه خاص"(‪.)35‬‬
‫ومن هنا نخرج إلى ذكر المؤكدات التي استعملت لتوكيد الخبر‪ ،‬وأبرزها‪:‬‬
‫‪1‬ـ َّإن‪ :‬هذا الحرف يعد رأس حروف النواسخ التي‬
‫تختص بالجملة االسمية فتنصب المبتدأ (المسند إليه)‬
‫وترفع الخبر (المسند) االسم‪ ،‬أو يكون في محل رفع خبر‬
‫(الفعل)‪ .‬أي إن أثره عظيم في البنية اللغوية فضالً عن‬
‫التوكيد‪ ،‬ولهذا وقف عنده عبد القاهر الجرجاني وغيره‬
‫من الدارسين(‪ .)36‬ومثاله قول البحرتي‪:‬‬
‫تفرعُ‬
‫الم ِّ‬ ‫َع ُّم النبي ِ‬
‫ص ُه ُ‬‫وع ْي ُ‬ ‫ّ‬ ‫أباكم‬
‫إن ُ‬ ‫ش َرفاً َبني العبَّاس َّ‬‫َ‬
‫إن الفضيل َة للَّذي استسقى ِ‬
‫ستَشفعُ‬‫شفِّ َع إِ ْذ َغدا َي ْ‬
‫ُع َمٌر‪ ،‬و ُ‬ ‫به‬ ‫َّ‬

‫واستعمل َّ‬
‫(إن) للتوكيد أبو نواس في قوله‪:‬‬
‫إن ِغنى َن ْف ِسك بالياْ ِ‬
‫س‬ ‫َّ‬ ‫اس‬ ‫من َّ‬
‫الن ِ‬ ‫عليك باليأ ِ‬
‫ْس َ‬ ‫َ‬
‫(إن) في بيت أبي نواس "وكيف قبول النفس لها‪،‬‬ ‫إنك ترى حسن موقع َّ‬
‫وليس ذلك إال ألن الغالب على الناس أنهم ال يحملون أنفسهم على اليأس‪ ،‬وال‬
‫َي َد ُع ْو َن الرجاء والطمع‪ ،‬وال يعترف كل أحد‪ ،‬وال ُي َسلّم أن الغنى في اليأس‪ .‬فلما‬
‫كان كذلك كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد‪ .‬فلذلك كان من حسنها ما ترى"‬
‫(إن) أي حذفت نون منها في قوله تعالى‪ِ :‬إ ْن ُكالًّ َّ‬
‫لما‬ ‫(‪ .)37‬وقد جاءت مخففة ْ‬
‫ُلي َوفَّيَّنهم ربُّك أَعمالَهم‪( ‬هود ‪ )111 /11‬ومن الناس من أهمل‬
‫عملها كقول الشاعر‪:‬‬
‫ِ‬
‫المعادن(‪)38‬‬ ‫كرام‬ ‫آل ٍ‬ ‫َّيم من ِ‬ ‫ابن أ ِ‬
‫ُباة الض ِ‬
‫كانت َ‬
‫وإِ ْن مال ٌك ْ‬ ‫مالك‬ ‫أنا ُ‬
‫أن ‪ :‬لم يجعلها العديد من اللغويين القدماء من المؤكدات ألن ما بعدها‬ ‫‪2‬ـ َّ‬
‫في حكم المفرد‪ ،‬وإ نما المراد بالتوكيد تأكيد النسبة ال (المسند إليه أو المسند) َب ْي َد‬
‫َن ـ تكون حرف توكيد تنصب االسم وترفع الخبر‪،‬‬ ‫أن ابن هشام قال‪" :‬ـ أ َّ‬
‫(إن) المكسورة"(‪ ،)39‬وعليه قوله تعالى‪ :‬قل‪ :‬إنما‬ ‫واألصح أنها فرع عن َّ‬

‫‪- 89 -‬‬
‫إلي أََّنما إلهكم إله واحد‪( ‬األنبياء ‪ )108 /21‬وقوله تعالى‪ :‬وقضينا‬‫يوحى َّ‬
‫(أن) بحذف نون‬‫أن دابر هؤالء مقطوع‪( ‬الحجر ‪ .)66 /15‬وقد تخفف َّ‬ ‫إليه َّ‬
‫َن سيكون منكم‬
‫َن)‪ 0‬ويبقى لها العمل والتوكيد كقوله تعالى‪َ  :‬علم أ ْ‬
‫منها فتصبح (أ ْ‬
‫(المزمل ‪ )20 /73‬وكقول جرير‪:‬‬ ‫َم ْرضى‪‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن سيقت ُل ِم ْربعاً‬
‫بطول سالمة يا م ْر َبعُ‬ ‫َبشر‬
‫أ ْ‬ ‫دق أ ْ‬
‫زعم الفََر ْز ُ‬
‫َ‬
‫ومن الشواهد الشعرية على َّ‬
‫(أن) المشددة للتوكيد قول‬
‫النابغة الذبياين‪:‬‬
‫الع ْق ِ‬
‫رب‬ ‫وفي ُن ِ ِ‬ ‫خبركم أ ََّنه‬
‫ب َ‬ ‫صحه َذ َن ُ‬‫ْ‬ ‫ناصح‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُي‬
‫المؤكد سواء كانت بسيطة (الكاف) أم‬ ‫ِّ‬ ‫كأن‪ :‬هذه األداة تشتمل على التشبيه‬ ‫‪3‬ـ َّ‬
‫(أن)(‪ )400‬كقوله‬ ‫(كأن) وتصبح متضمنة للحرف َّ‬ ‫وأن َّ‬ ‫مركبة من كاف التشبيه َّ‬
‫لم ْن‬
‫َن اهلل َي ْب ُسط الرزق َ‬ ‫َصبح الذين تَ َمَّنوا مكانه باألمس يقولون‪َ :‬و ْ‬
‫ي كأ َّ‬ ‫تعالى‪ :‬وأ َ‬
‫ي َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لح‬
‫كأنه ال ُي ْف ُ‬ ‫ف بنا‪َ ،‬و ْ‬ ‫َن َم َّن اهلل علينا َ‬
‫لخس َ‬ ‫وي ْقدر‪ ،‬لوال أ ْ‬
‫يشاء من عباده؛ َ‬
‫ُ‬
‫الكافرون‪( ‬القصص ‪.)82 /28‬‬

‫وقال الحارث‪ 0‬بن خالد المخزومي في رثاء هشام بن‬


‫المغيرة وقد استعمل (كأن) بمعنى (ألن)‪:‬‬
‫هشام‬
‫ُ‬ ‫األرض ليس بها‬
‫َ‬ ‫كأن‬
‫َّ‬ ‫ش ِعّراً‬ ‫َصبح َب ْط ُن َّ‬
‫مك َة ُم ْق َ‬ ‫وأ َ‬
‫ولذا استعملت (كأن) على الحقيقة ال على التشبيه‪ ،‬فلم يعد المرثي فوق‬
‫األرض وإ َّنما صار في بطنها‪.‬‬
‫(كأن) إلى أسلوب جمالي طريف وبديع‪،‬‬ ‫وبهذا كله خرجت البالغة باستعمال َّ‬
‫بعد أن كانت أداة ربط وتشبيه فقط‪ 0...‬حين أنزلتها مقام أداة أخرى على الحقيقة‪.‬‬
‫لكن‪ :‬أداة تستعمل لتأكيد الجمل؛ وقيل للتوكيد مع االستمرار؛ وقيل‪ :‬هي‬ ‫‪4‬ـ َّ‬
‫َّ‬
‫ولكن اهلل يهدي‬ ‫(إن) للتوكيد دائماً كقوله تعالى‪ِ :‬إَّنك ال تَ ْهدي من أحببت‪،‬‬
‫مثل َّ‬
‫َّ‬
‫ولكن‬ ‫من يشاء‪( ‬القصص ‪ )56 /28‬وكقوله‪ِ :‬إن اهلل لذو فَ ٍ‬
‫ضل على الناس‬ ‫َ‬
‫أكثرهم ال يشكرون‪( ‬يونس ‪ ،60 /10‬وانظر فيها آية ‪،55‬‬
‫وسورة األعراف ‪ ...)131 /7‬وكقول املتنيب‪:‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫واحد‬ ‫اليوم‬ ‫ِ‬
‫الدولة‬ ‫ف‬
‫س ْي َ‬ ‫تعجبا إِ َّن ُّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ولكن َ‬
‫َّ‬ ‫يوف كثيرةٌ‬
‫الس َ‬ ‫فال َ‬
‫(لكن َّ‬
‫أن)‬ ‫(لكن) بسيطة؛ فأصلها ْ‬ ‫ويرى البصريون أن َّ‬
‫(لكن) للساكنين؛ بيد أن‬
‫فطُرحت الهمزة للتخفيف ونون ْ‬
‫الكوفيين يرون َّأنها مركبة من (ال) َّ‬
‫و(إن) أما الكاف‬
‫فزائدة؛ وليست للتشبيه‪ ،‬على حين ُحذفت الهمزة تخفيفاً (‬
‫‪ .)41‬وقد تدخل ما الزائدة عليها فتكفها عن العمل؛ ومن‬
‫ثم تدخل على الجملة الفعلية ويبقى لها التوكيد كقول‬
‫امرئ القيس‪:‬‬
‫المجد المؤثَّ َل أَمثالي‬
‫َ‬ ‫وقَ ْد ُي ْدر ُك‬ ‫ولك ّنما أسعى ٍ‬
‫لمجد مؤثَّ ٍل‬ ‫ْ‬
‫‪5‬ـ الم االبتداء‪ :‬الم االبتداء؛ سميت بهذا ألنها في األصل تدخل على‬
‫َحب ِإلى أَبِينا َّ‬
‫منا‪‬‬ ‫ف وأَخوه أ ُّ‬
‫ليوس ُ‬
‫المبتدأ وتفيد التوكيد(‪ )42‬كقوله تعالى‪ُ  :‬‬
‫(يوسف ‪ )8 /12‬وكقول ميسون بنت حَبْدل‪:‬‬
‫إلي من قَص ٍر م ِن ْي ِ‬
‫ف‬ ‫ب َّ‬‫َح ُّ‬
‫ْ ُ‬ ‫أَ‬ ‫واح فيه‬
‫ت تَ ْخفُق األ َْر ُ‬
‫َلب ْي ٌ‬

‫وإ ذا دخلت َّ‬


‫(إن) على جملة مؤكدة بالم االبتداء فصل‬
‫بينهما بفاصل كالحديث الشريف‪" :‬إن من البيان ِ‬
‫لس ْحراً"(‬
‫‪ )43‬وكقول المتنبي في مدح كافور‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ضياء‬ ‫ياء ُي ْز ِري ب ُك ِّل‬ ‫ِ‬ ‫إِ َّن في ثو ِبك الذي‬
‫لَض ً‬ ‫المجد فيه‬
‫ُ‬
‫وربما انتقلت إلى الخبر فأطلق عليها (الالم المزحلقة) كقوله تعالى‪َّ  :‬‬
‫إن‬
‫المقربين‪‬‬ ‫احر عليم‪( ‬األعراف ‪ )109 /7‬وقوله‪ :‬قال َنعم؛ وإ نكم ِ‬
‫لم َن َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫لس ٌ‬
‫هذا َ‬
‫(إبراهيم ‪/14‬‬ ‫(األعراف ‪ )114 /7‬وكقولـه‪ِ 0:‬إ َّن ربِّي لسميعُ الدعاء‪‬‬
‫‪ )39‬وكقول الفرزدق‪:‬‬
‫ِ‬
‫العظائم‬ ‫ِ‬
‫المنكرات‬ ‫ِإل ْح َدى األ ِ‬
‫ُمور‬ ‫وإ َّن ِهجاء ِ‬
‫الباه ّلي ْي َن دارماً‬ ‫َ‬

‫‪- 91 -‬‬
‫وقول أبي العالء‪:‬‬
‫تطع ُه األوائ ُل‬ ‫ٍ‬
‫س ْ‬ ‫لم تَ ْ‬
‫آلت بما ْ‬ ‫َخير زما ُن ُه‬
‫كنت األ َ‬
‫وإ ني وإ ن ُ‬
‫ولها مواضع ذكرها اللغويون كالمبتدأ أو الخبر المتقدم على المبتدأ وبعد (ِإ َّن)‬
‫المكسورة وفي المضارع والماضي‪.‬‬
‫‪6‬ـ قد‪ :‬لها معان خمسة أبرزها توكيد الماضي(‪ )44‬كقوله تعالى‪ :‬قد أفلح‬
‫اب َم ْن‬
‫المؤمنون‪( ‬المؤمنون ‪ )1 /23‬وقوله‪ :‬قَ ْد أَفلح َم ْن َز ّكاها* وقد َخ َ‬
‫دسَّاها‪( ‬الشمس ‪ 9 /91‬ـ ‪ )10‬وقول الفرزدق‪:‬‬
‫وضح ْت صفَ ِ‬
‫حات القَُّر ِح ال ِه ْيِم‬ ‫واستَ َ َ َ‬ ‫ف حتى قال‪ :‬قد فَ َعلَ ْت‬
‫وقَ ْد تَ َحَّر َ‬

‫وقال البحتري في وصف أخالق ممدوحه‪:‬‬


‫ِ‬
‫المجد ُخي ِ‬ ‫وقد زادها إِفرا َ‬
‫َّب‬ ‫أصفار من‬
‫خالئق ْ‬
‫َ‬ ‫س ٍن ُ‬
‫جوارها‬ ‫ط ُح ْ‬
‫واختلف في معناها إذا دخلت على المضارع المتصف باهلل سبحانه؛ فقيل‪:‬‬
‫هي للتوكيد والتحقيق‪ ،‬وقيل‪ :‬هي لتقليل متعلقها‪ .‬فهي للتوكيد في قوله تعالى‪:‬‬
‫هلل ما في السموات واألرض‪ ،‬قَ ْد‬‫إن ِ‬
‫لون منكم ِل َواذاً‪ 0*...‬أَالَ َّ‬‫َّ‬
‫يعلم اهلل الذين يتسل َ‬
‫‪‬قد ُ‬
‫يعلم ما أَنتم عليه‪( ‬النور ‪ 63 /24‬ـ ‪ .)64‬ويرى ابن هشام أنها في مثل هذه‬ ‫ُ‬
‫لتقليل متعلقها؛ أي (ما هم عليه هو أقل معلوماته سبحانه"(‪ ،)45‬وتدخل الم‬ ‫ِ‬ ‫األمثال‬
‫االبتداء على (قد) وتسمى عند بعض النحويين (الم) القسم؛ أي الواقعة في جوابه؛‬
‫آيات للسائلين‪( ‬يوسف ‪.)7 /12‬‬‫كقوله تعالى‪ :‬لقد كان في يوسف وإ خوته ٌ‬
‫ٍ‬
‫أدوات وأركاناً‪ ...‬ويشتمل على جملة‬ ‫‪7‬ـ القسم‪ :‬يقع القسم بألفاظ كثيرة؛‬
‫القسم وجملة جواب القسم‪ .‬وكلتاهما عند النحاة جملة يؤكد بها المتكلم خبره‬
‫إن المنافقين لكاذبون‪( ‬المنافقون ‪ .)1 /63‬وقد كثرت‬ ‫كقوله تعالى‪ :‬واهللُ يشهد َّ‬
‫األيمان باهلل‪ ،‬وبكل ما هو عزيز مكرم عند المتكلم‪ ،‬كما سنمثل لـه فيما يأتي‪0...‬‬
‫وللقسم حروف هي (الواو والتاء والباء)(‪)46‬؛ والواو أصلها‪ ،‬لذا اختصت‬
‫بجواز حذف الفعل معها‪ ،‬وذكره نادر‪ ،‬كقولنا‪ :‬أقسم واهلل‪ ،‬إنه لصادق؛ واألكثر‬
‫حذف الفعل‪ ،‬وحذفه مطّرد في القرآن والشعر؛ كقوله تعالى‪:‬‬
‫(الضحى ‪1 /93‬ـ ‪ )2‬وقول الشاعر‪:‬‬ ‫‪ُّ ‬‬
‫والضحى* والليل إذا سجى‪‬‬
‫تر‬
‫تسمو إلى المجد وال تَ ْف ُ‬
‫ُ‬ ‫واهلل إِني ألَ ُخو ِه َّم ٍة‬
‫ِ‬

‫‪- 92 -‬‬
‫(والباء) عكس (الواو) يطرد ذكر فعل القسم معها ويندر حذفه‪ ،‬كقوله‬
‫تعالى‪ :‬وأقسموا باهلل َج ْه َد أَيمانهم‪( ‬األنعام ‪ )109 /6‬وهناك آيات‬
‫أخرى؛ وكقول زهير في املدح‪:‬‬
‫وج ْر ُهِم‬ ‫رجا ٌل ب َن ْوهُ‪ ،‬من قَُر ٍ‬
‫يش ُ‬ ‫طاف حولَ ُه‬
‫َقسمت بالبيت الذي َ‬
‫ُ‬ ‫أ‬
‫وم ْب َرِم‬ ‫ال من َ ِ ٍ‬
‫كل َح ٍ‬
‫على ِّ‬ ‫الس ِّي ِ‬ ‫ِ‬
‫سح ْيل ُ‬ ‫جدتُما‬
‫دان ُو ْ‬ ‫نع َم َّ‬
‫يميناً‪ ،‬ل ْ‬
‫ويمكن حذف الفعل معه على ندرة كقولنا‪ِ :‬‬
‫باهلل‪ ،‬قد نجح زيد‪ .‬أما (التاء) فال‬
‫نامكم‪( ‬األنبياء ‪.)57 /21‬‬ ‫ألكيد َّن أ ْ‬
‫َص َ‬ ‫َ‬ ‫يذكر فعل القسم معها‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬تا هلل‬

‫وتعد جملة القسم من اإلنشاء غير الطلبي‪ ،‬ولكنها‬


‫جملة تؤكد القسم‪ ،‬ما جعلها تأخذ اسمه(‪ .)47‬وقد تدخل‬
‫(الم) في جملة القسم أو جوابه وتفيد التوكيد‪ ،‬وعليهما‬
‫قول النابغة الذبياني‪ ،‬وأقسم بعمره؛ فأدخل الالم في‬
‫قسمه‪ ،‬ثم جاء بها في الجواب (لقد)‪:‬‬
‫علي األَقارعُ‬
‫لقد َنطقَ ْت ُب ْطالً َّ‬ ‫بهي ٍن‬
‫علي ِّ‬
‫لع ْمري؛ وما َع ْمري َّ‬
‫َ‬
‫فإحساس النابغة بالظلم جعله يستعمل التوكيد مرات عديدة (القسم ـ الالم ـ قد ـ‬
‫أسلوب الحصر ـ تكرار الالم ولفظ عمري ـ أسلوب التعجب) وكل ذلك ليبرئ نفسه‬
‫من وشاة أقارع بني عوف‪.‬‬
‫‪8‬ـ نونا التوكيد‪ :‬وهما نونا التوكيد الخفيفة والثقيلة‪ ،‬وتتصالن بالجملة‬
‫الخبرية التي صدرها فعل مضارع؛ وقد اجتمعتا في قوله تعالى‪ :‬ولئن لم يفعل‬
‫وليكون ْن من الصاغرين‪( ‬يوسف ‪ )32 /12‬وكلتاهما أصل‬ ‫َ‬ ‫آمره ُلي ْس َجَن َّن‬
‫ما ُ‬
‫عند البصريين؛ بينما الثقيلة هي األصل عند الكوفيين‪ ،‬ومعناهما للتوكيد‪ ،‬وقال‬
‫َّ‬
‫لنحشرنهم‬ ‫فو ربِّك‬
‫الخليل‪ :‬والتوكيد بالثقيلة أبلغ(‪ )48‬ومنه قوله تعالى‪َ  :‬‬
‫حضرنهم حول جهنم ِجثِّياً‪( ‬مريم ‪ .)68 /19‬ونقل‬ ‫َّ‬ ‫والشياطين‪ ،‬ثم ُلن‬
‫التوكيد بالنون كثيراً في كتب النحو‪ ،‬وذكرت لـه شروطاً‬
‫وأحواالً‪ ،‬ليس موضعها هنا)(‪ .)49‬ومن شواهد النون‬

‫‪- 93 -‬‬
‫الشعرية قول الفرزدق‪:‬‬
‫لم ُي ْكتَِم‬
‫تشر إذا ْ‬
‫والسُّر ُم ْن ٌ‬
‫ِّ‬ ‫استود ْع ِتني‬
‫َ‬ ‫َكتمن ِ‬
‫لك الذي‬ ‫وأل َّ‬
‫‪9‬ـ السين وسوف‪ :‬وهما مختصان بالفعل المضارع‪ ،‬وتفيدان التوكيد في‬
‫استعمالها للوعد والوعيد؛ ويلغى معنى التسويف‪ ...‬والفرق بين السين وسوف‪ ،‬أن‬
‫سوف تنفرد بدخول الالم عليها نحو قوله تعالى‪ :‬ولسوف يعطيك ربك فترضى‪‬‬
‫(الضحى ‪ )5 /93‬ومعنى (سوف) هنا للتوكيد ألنها في باب الوعد وكقولـه تعالى‪:‬‬
‫‪‬ولسوف يرضى‪( ‬الليل ‪ .)21 /92‬واستعملت السين لتأكيد الوعد في قوله‬
‫تعالى‪ :‬أولئك سيرحمهم اهلل‪( ‬التوبة ‪.)71 /9‬‬
‫وفي الوعيد نجد قوله تعالى‪ :‬سيصلى ناراً ذات لَهَب‪( ‬المسد ‪.)3 /111‬‬
‫وكقولنا‪ :‬سأنتقم منك‪ ،‬وكذلك فيها رائحة الوعيد في‬
‫قول املتنيب‪:‬‬
‫خير َم ْن تَ ْمشي به َق َد ُم‬
‫بأنني ُ‬ ‫مجلسنا‬
‫ُ‬ ‫ض َّم‬
‫سيعلم الجمعُ ممن َ‬
‫ُ‬
‫فس ْوف َيعلمون‪( ‬الصافات‬ ‫ومن الوعيد في (سوف) قوله تعالى‪ :‬فكفروا به َ‬
‫‪ )170 /37‬وقوله‪ :‬فسوف يكون لزاماً‪( ‬الفرقان ‪.)77 /25‬‬
‫وللسين وسوف ٍ‬
‫معان أخرى ليست من التوكيد‪ ،‬علماً أن السين عند بعض‬
‫اللغويين مقتطعة من (سوف)؛ وهي دعوى مردودة لدينا(‪.)50‬‬
‫‪10‬ـ حروف التنبيه‪:‬‬
‫أولها (أال) للتنبيه؛ وتفيد تحقيق ما بعدها‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬أَال إنهم ُه ُم‬
‫السُّفَهاء‪( ‬البقرة ‪ )13 /2‬ودخلت فيه على االسمية كما تدخل على الجملة‬
‫الفعلية‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬أال يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم‪( ‬هود ‪.)8 /11‬‬

‫وقيل‪ :‬إنها مركبة من (الهمزة) و(ال) والهمزة إذا‬


‫دخلت على النفي أفادت التحقيق(‪)51‬؛ كقول املعري‪:‬‬
‫وح ْزم ونائل‬
‫عفاف وإ قدام َ‬
‫ٌ‬ ‫أال في سبيل المجد ما أنا فاعل‬

‫َما) التي تتصدر‬


‫وأُختها في التنبيه وإ فادة التوكيد (أ َ‬
‫القسم وطالئعه كقول حاتم الطائي‪:‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫ميم‬ ‫ِ‬
‫وهي َر ُ‬
‫ظام َ‬ ‫وي ْحيي الع َ‬
‫ُ‬ ‫يرهُ‬‫يعلم ال َغ ْي َب َغ ُ‬
‫َما والذي ال ُ‬
‫أَ‬
‫(أما) مثلما اختلف في تركيب بنية (أال)‪ ،‬وقد تقع‬ ‫واختلف في ماهية تركيب َ‬
‫َن) على التأويل إذا وقعتا بعد (أَال) و‬‫(إن) أو تفتح (أ َّ‬
‫بمعنى (حقّاً) وتكسر همزة َّ‬
‫َما)‪ )52( ،‬وفي كلتا الحالتين تفيدان التوكيد‪.‬‬ ‫( أَ‬
‫‪11‬ـ الحروف الزائدة‪:‬‬
‫ظالَّم للعبيد‪( ‬ق ‪)29 /50‬‬ ‫ومنها (الباء) ِ‬
‫و(م ْن) كقوله تعالى‪ :‬وما أََنا ب َ‬
‫بقادر على أ َْن يحيي الموتى‪( ‬القيامة ‪)40 /75‬؛‬ ‫أليس ذلك ٍ‬‫وقوله‪َ  :‬‬
‫وقال عمرو بن معد يكرب‪:‬‬
‫ِّيت ُب ْردا‬
‫فاعلم وإِ ْن ُرد َ‬ ‫ليس الجما ُل ِ‬
‫بم ْئ َز ٍر‬ ‫َ‬
‫وزيادة الباء تكون للتوكيد في ستة مواضع(‪ )53‬وتزاد في جمل إنشائية‪،‬‬
‫وفي جمل خبرية متضمنة معنى األمر كفاعل كفى‪ 0،‬نحو قوله تعالى‪ :‬كفى باهلل‬
‫شهيداً بيني وبينكم‪( ‬الرعد‪ )43 /13‬وقال المتنبي‪ ،‬وزاد الباء في فاعل (كفى)‪0‬‬
‫المتعدي لواحد‪:‬‬
‫َهل ِه أ ْ‬
‫َه ُل‬ ‫َمسيت من أ ِ‬
‫َ‬ ‫َن أ‬
‫ود ْهٌر أل ْ‬
‫َ‬ ‫منه ُم‬
‫بأنك ُ‬
‫كفى ثُ َعالً فَ ْخراً َ‬
‫وتتصل الباء الزائدة للتوكيد بالمفعول في الجملة الخبرية كقوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬فطفق َم ْسحاً بالسُّوق‪( ‬ص‪ )33 /38‬أي يمسح مسحاً(‪.)54‬‬
‫(م ْن)‪ 0،‬وتأتي زائدة لتوكيد العموم؛ كقولنا‪ :‬ما جاءني من أحد‪،‬‬ ‫واألداة الثانية ِ‬
‫فهي التي تُسبق بنفي أو نهي أو استفهام(‪ )55‬ولذا تكون للجمل اإلنشائية في مثل‬
‫هذه المواضع‪ 0...‬وغيرها‪ ...‬ولم ُيشترط أن تسبق بذلك عند بعض اللغويين‬
‫ودخلت في الجملة الخبرية للتوكيد؛ واستُدل بقول العرب "قد كان من مطر"‪،‬‬
‫وبقوله تعالى‪ :‬ولقد جاءك من َنبأ المرسلين‪( ‬األنعام ‪ )34 /6‬وخرجها الكسائي‬
‫الناس َعذاباً يوم القيامة‬ ‫"إن ِم ْن أ ّ‬
‫َشد َّ‬ ‫على الزيادة للتوكيد في الحديث‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫السماء‬ ‫وي ِّنز ُل ِم َن‬
‫المصورون"‪ .‬وهي زائدة على قول الفارسي في قوله تعالى‪ُ  :‬‬
‫جبال فيها من َب َرٍد‪( ‬النور ‪.)56()43 /24‬‬ ‫من ٍ‬
‫ويكون "دخولها في الكالم كخروجها‪ .‬وتسمى الزائدة لتوكيد االستغراق"‪،‬‬
‫فضالً عن أنها قد تزاد "لتفيد التنصيص على العموم [وتسمى الزائدة الستغراق‬
‫الجنس]"(‪.)57‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫‪12‬ـ ضمائر الفصل‪:‬‬
‫ذهب عدد من اللغويين إلى أن الضمائر المنفصلة (أنا‪ ،‬نحن‪ ،‬هو‪ ،‬هي‪0...‬‬
‫أنت‪ 0)...‬وما يطّرد فيها قد تفيد الفَصل مع التوكيد في بعض الجمل‬‫أنت‪ِ ،‬‬
‫هن‪َ ...‬‬
‫أنت‬
‫إنك َ‬
‫الخبرية واإلنشائية(‪)58‬؛ كأن نقول‪ :‬زيد هو العالم؛ وكقوله تعالى‪َ  :‬‬
‫ك هو األ َْبتَر‪( ‬الكوثر ‪/108‬‬ ‫عالَّم الغيوب‪( ‬المائدة ‪ )109 /5‬وقوله‪َّ  :‬‬
‫إن شانئ َ‬
‫الرقيب عليهم‪( ‬القصص ‪.)58 /28‬‬ ‫َ‬ ‫أنت‬
‫وكنت َ‬
‫‪ ...)3‬وقوله‪َ  :‬‬
‫فالتوكيد بضمير الفصل يكون لضمير مستتر أو متصل أياً كان موقعه في‬
‫اإلعراب‪ 0...‬كما في قوله تعالى‪ْ  :‬إن كنا نحن الغالبين‪( ‬األعراف ‪/7‬‬
‫‪ )113‬واختلف في عودة ضمير الفَصل إلى فاعله المؤكد‬
‫لـه في قول جرير؛ أهو المتصل أم املسترت‪:‬‬
‫صابا‬ ‫يراني لو أ ِ‬ ‫اطح ِم ْن صدي ٍ‬ ‫ِ‬
‫الم َ‬
‫هو ُ‬‫ت َ‬
‫ُص ْب ُ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫وكائن باأل ََب ِ‬
‫فالضمير (هو) يؤكد الفاعل العائد إلى الصديق‪ ،‬أو إلى المصاب؛ ويكون‬
‫التقدير اآلتي‪( :‬لو يرى صديقي المصاب هو المصاب)‪ .‬وذهب أكثر البصريين‬
‫إلى أن ضمائر الفصل اسم مؤكد وال محل لـه من اإلعراب‪ ،‬بينما رآها الكوفيون‬
‫حروفاً جاءت لمعنى ما‪.)59(...‬‬
‫أما‪:‬‬
‫‪13‬ـ َّ‬
‫هي حرف شرط وتفصيل وتوكيد؛ وأكثر ما يلتفت إليها اللغويون في الحديث‬
‫عن الشرط (من اإلنشاء غير الطلبي) وأما ما يتعلق بالجمل الخبرية فقد كشف‬
‫عنه الزمخشري‪ .‬يقول ابن هشام‪" :‬وأما التوكيد َّ‬
‫فقل من ذكره ولم أ ََر َم ْن أحكم‬
‫(أما) في الكالم أن تعطيه فضل توكيد‬ ‫شرحه غير الزمخشري فإنه قال‪ :‬فائدة َّ‬
‫تقول‪ :‬زيد ذاهب‪ ،‬فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه ال محالة ذاهب‪ ،‬وأنه بصدد الذهاب‬
‫زيد فذاهب؛ ولذلك قال سيبويه في تفسيره‪ :‬مهما يكن‬ ‫أما ٌ‬‫وأنه منه عزيمة قلت‪ّ :‬‬
‫من شيء فزيد ذاهب‪ ،‬وهذا التفسير مدل بفائدتين‪ :‬بيان كونه توكيداً‪ ،‬وأنه في‬
‫معنى الشرط"(‪.)60‬‬
‫ُّ‬
‫الحق من َربِّهم‪‬‬ ‫فأما الذين آمنوا فيعلمون َّأنهُ‬
‫وعليه قوله تعالى‪ّ  :‬‬
‫(البقرة ‪ )26 /2‬وقول الفرزدق في مدح الوليد بن عبد‬
‫الملك يوم بنى المسجد األموي‪:‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫ِّعِم‬ ‫ِبعلمه فيه ُم ْلكاً َ‬
‫ثابت الد َ‬ ‫فإن اهللَ أَورثَ ُه‬
‫الوليد َّ‬
‫ُ‬ ‫أما‬
‫َّ‬
‫َما) شروط ذكرها النحاة ليس هنا مجال ذكرها(‪.)61‬‬
‫والستعمال (أ َّ‬
‫تلك هي أبرز مؤكدات الجملة الخبرية التي تتطلع إلى حال المخاطب في‬
‫درجات إنكاره؛ ما يجعلها ذات جمالية نفسية خاصة في طرائق استعمالها‪ ،‬وإ ن‬
‫وجدت أدوات أخرى للتوكيد(‪.)62‬‬
‫إن الجملة الخبرية بما انتهينا إليه في دراستنا لها تقدم لمتلقيها البالغي‬
‫والجمالي رؤية جمالية فريدة‪ ،‬تقوم على عناصر ذات دوائر متعددة ومتسعة‪...‬‬
‫أساسها اللغة وجناحها الخيال الموحي‪ ،‬والتصور النفسي واالجتماعي والفكري‬
‫الرفيع‪ ...‬وال يختلف في هذا الوصف أي نمط من أنماطها سواء على سبيل‬
‫اإلخبار الحقيقي المرتبط بهدف محدد‪ ،‬أم على سبيل اإلخبار المجازي الذي يجعل‬
‫هدفه كامناً في جملته‪0...‬‬
‫أضرب الخبر أن تقدم شيئاً جديداً‪ ،‬لم نعثر عليه في كثير من‬
‫وقد استطاعت ُ‬
‫األغراض الحقيقية أو المجازية عند عدد غير قليل من الدارسين للجملة الخبرية‪.‬‬
‫وبذلك كله استطاعت الجملة الخبرية أن تحمل طاقات خالقة في الداللة‬
‫والتأثير ولم تكن مجرد أنساق لغوية مباشرة وجافة‪ ...‬ولم تقف العالقة بين‬
‫عناصرها الفنية عند سطح األشياء؛ وإ نما كانت تتضافر فيما بينها لتخلق الجمال‬
‫الشفاف للجوهر وللشكل في وقت واحد‪...‬‬
‫وقد حرصنا على الوفاء بما قدمه البالغيون في رؤيتهم لها ولكننا آثرنا أن‬
‫نصوغها صياغة جمالية مستندة إلى معارفهم وأذواقهم‪ ،‬ولم تقطع عالقتها بما‬ ‫ُ‬
‫انتهت إليه الدراسات الجمالية واألسلوبية في عالم اليوم‪ 0...‬وانتهينا إلى أن الجملة‬
‫فعاالً مع كثير من مقاالت البالغيين اليوم سواء في‬ ‫الخبرية الجمالية أثبتت التقاء ّ‬
‫الشكل أم في الوظيفة والهدف‪...‬‬
‫فالجملة الخبرية بهذا التصور لم تكن مجرد إشارة لغوية عابرة‪ ،‬وليست‬
‫وفعال مع الذات والحياة‪0...‬‬
‫مجرد حامل ومحمول؛ وإ نما دلت على تناغم أصيل ّ‬
‫نص‬
‫النصية؛ ولكنها في النهاية ٌّ‬
‫ّ‬ ‫والوجود؛ وإ ن قامت على أساس من الجزئيات‬
‫متكامل ما دام أنه يفيد معنى بذاته‪ ،‬ويقدم رؤية فنية وفكرية ومستقلة‪.‬‬
‫أخيراً يمكننا القول‪ :‬إن الجملة الخبرية فيما بنيت عليه من أشكال جمالية؛‬
‫يمكن أن تكون حاجة جمالية لإلنسان؛ وكذلك هي الجملة اإلنشائية؛ ثم قل البالغة‬
‫كلها‪.‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫فاإلنسان يحتاج إلى الجمال؛ ويتشبع به لتسمو روحه؛ وهو قادر على‬
‫الوصول إلى ذلك في أساليب الصور الشعرية والفنية المكتنزة ألشكال إبداعية‬
‫كثيرة‪ ،‬منها أساليب البالغة بما فيها من خبر وإ نشاء‪ ...‬وكل أسلوب فيها يشكل‬
‫تجربة متفردة تقرأ الواقع النفسي والفكري واالجتماعي‪ ...‬وبكالم آخر إنه إبداع‬
‫جمالي يخلق الواقع النفسي واالجتماعي‪ 0...‬و‪ 0...‬بأساليب جديدة مثيرة ومدهشة‬
‫لكنها ال تهدم الماضي بل تبني عليه؛ ألن اللغة جزء جوهري أصيل لكل من‬
‫الحاضر والماضي والمستقبل‪ ...‬وعلى مستويات عدة‪ .‬وهي مستويات تتضمن‬
‫في بنيتها روح الداللة الفكرية والرؤية النقدية التي يبني عليها المتلقي اتجاهاته‬
‫الفنية والنقدية والفكرية‪ ...‬فالمؤلف حاضر في نصه شاء المتلقي أم أبى؛ ولم يمت‬
‫أبداً كما ذهب إليه (روالن بارت) في نظرية (موت المؤلف)(‪ .)63‬وبذلك فإن‬
‫أدوات التشكيل البالغي أدوات نقدية ثرية في فهم النص األدبي‪ ...‬وهذا ما يتمثل‬
‫أيضاً في أسلوب اإلنشاء وأغراضه الحقيقية والمجازية كما سيأتي‪.‬‬

‫***‬

‫حواشي الفصل الثاني من الباب األول‬


‫( ‪ )1‬نهاية اإليجاز ‪ 37‬وانظر مفتاح العلوم ‪ 251‬وما بعدها واإليضاح ‪ 21‬والطراز ‪.517‬‬
‫( ‪ )2‬مفتاح العلوم ‪ 259‬وانظر اإليضاح ‪ 22‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )3‬انظر دالئل اإلعجاز ‪ 211‬ومفتاح العلوم ‪ 254‬واإليضاح ‪ 22‬وما بعدها والطراز ‪518‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )4‬األصمعيات ‪ 38‬ق ‪ 43‬ومفتاح العلوم ‪ 263‬واإليضاح ‪.25‬‬
‫( ‪ )5‬انظر معاني القرآن للفراء ‪ 78 /2‬ـ ‪ 79‬وتأويل مشكل القرآن ‪.292‬‬
‫( ‪ )6‬انظر معاني القرآن للزجاج ‪ 75 /1‬و ‪.487 /2‬‬
‫( ‪ )7‬الكشاف ‪ 623 /1‬وانظر فيه ‪ 119 /3‬و ‪.558‬‬
‫( ‪ )8‬الكشاف ‪.27 /3‬‬
‫( ‪ )9‬لسان العرب ـ مادة (فأد)‪.‬‬
‫( ‪ )10‬معاني القرآن للفراء ‪ 221 /2‬وانظر الكشاف ‪.301 /3‬‬
‫( ‪ )11‬معاني القرآن للزجاج ‪.306 /1‬‬
‫( ‪ )12‬الكشاف ‪.364 /3‬‬
‫( ‪ )13‬انظر الصاحبي ‪ 179‬والبرهان في علوم القرآن ‪.334 /2‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫( ‪ )14‬الكشاف ‪.365 /1‬‬
‫( ‪ )15‬الكشاف ‪.59 /3‬‬
‫( ‪ )16‬الكشاف ‪.59 /3‬‬
‫( ‪ )17‬الكشاف ‪.144 /2‬‬
‫( ‪ )18‬دالئل اإلعجاز ‪ 356‬وانظر فيه ‪ 353‬ـ ‪.355‬‬
‫( ‪ )19‬الكشاف ‪ 468 /1‬وانظر في ظالل القرآن ‪.1/485‬‬
‫( ‪ )20‬الكشاف ‪ 484 /1‬ـ ‪ 485‬وانظر في ظالل القرآن ‪ 537 /1‬ـ ‪.538‬‬
‫( ‪ )21‬انظر في ذلك ما ورد في بالغة الكلمة والجملة ‪.101‬‬
‫( ‪ )22‬شم األنوف‪ :‬كناية عن المجد والعزة‪ .‬غرانق‪ :‬جمع غرنوق؛ وأراد الشاب األبيض‬
‫ض ْرب من الثياب المخططة‪ ،‬األَبراد‪ :‬األثواب الطويلة‪ .‬ثَِقف‪ :‬حاذق‪.‬‬ ‫الجميل‪َّ .‬‬
‫الدفَني‪َ :‬‬
‫ُي ِه ّل‪ :‬يصيح‪ .‬اإل ْقصاد‪ِ :‬إصابة السهم للهدف‪.‬‬
‫( ‪ )23‬الكشاف ‪ 458 /3‬وانظر فيه ‪.264 /4‬‬
‫( ‪ )24‬لسان العرب ـ مادة (وعد)‪.‬‬
‫( ‪ )25‬الكشاف ‪.3/134‬‬
‫( ‪ )26‬الكشاف ‪.143 /4‬‬
‫( ‪ )27‬الكشاف ‪.234 /3‬‬
‫( ‪ )28‬الكشاف ‪ 182 /4‬ـ ‪.183‬‬
‫( ‪ )29‬الكشاف ‪.482 /1‬‬
‫( ‪ )30‬دالئل اإلعجاز ‪ 315‬ـ ‪ 316‬وراجع حاشية ( ‪ )7‬من القسم األول‪ ،‬وانظر الحديث عن‬
‫َضرب الخبر في مفتاح العلوم ‪ 258‬ـ ‪.264‬‬
‫أ ْ‬
‫(أض ُرب الخبر)‪.‬‬
‫( ‪ )31‬مفتاح العلوم ‪ 258‬وانظر اإليضاح ‪ 24‬وما بعدها ْ‬
‫( ‪ )32‬انظر هسهسة اللغة ‪ 85‬ـ ‪ 96‬وانظر الخطيئة والتكفير ‪ 90‬و ‪ ( .123‬والكتابة في‬
‫درجة الصفر ‪ – 16‬روالن بارت ( ‪R.barthes, S/Z Editions Du Seuil/‬‬
‫‪)Points, 1976,P.16‬‬
‫( ‪ )33‬انظر الخطيئة والتكفير ‪ 29‬وما بعدها و ‪ 44‬ـ ‪ 48‬و ‪ 127‬ونظرية البنائية في النقد‬
‫األدبي ‪ 39‬و ‪ 108‬وما بعدها و ‪ 137‬ـ ‪ 138‬و ‪ 140‬وما بعدها وانظر فيه ما يتعلق‬
‫باألنظمة اللغوية‪.‬‬
‫( ‪ )34‬انظر بنية اللغة الشعرية ‪.6‬‬
‫( ‪ )35‬األسلوبية والنقد األدبي ‪.39‬‬
‫( ‪ )36‬انظر مغني اللبيب ‪ 37‬و ‪ 55‬والجنى الداني ‪ 393‬وجامع الدروس العربية ‪317 /2‬‬
‫وما بعدها وانظر دالئل اإلعجاز ‪.322‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫( ‪ )37‬دالئل اإلعجاز ‪ 325‬وانظر حديثه عن (إن) فيه ‪ 322‬فهو حديث بديع‪.‬‬
‫( ‪ )38‬انظر جامع الدروس العربية ‪.325 /2‬‬
‫( ‪ )39‬مغني اللبيب ‪ 59‬وانظر فيه ‪ 46‬وجامع الدروس العربية ‪ 327 /2‬والجنى الداني ‪402‬‬
‫والبرهان في علوم القرآن ‪ 255 /4‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )40‬انظر مغني اللبيب ‪ 253‬ـ ‪ 254‬ودالئل اإلعجاز ‪ 258‬والجنى الداني ‪ 568‬والبرهان‬
‫في علوم القرآن ‪.337 /4‬‬
‫( ‪ )41‬انظر مغني اللبيب ‪ 383‬ـ ‪ 384‬والبرهان في علوم القرآن ‪ 422 /2‬والجنى الداني‬
‫‪ 615‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )42‬انظر الخصائص ‪ 314 /1‬والجنى الداني ‪ 95‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )43‬الجامع الصغير ـ رقم الحديث ( ‪.)2457‬‬
‫( ‪ )44‬انظر مغني اللبيب ‪ 231‬وجامع الدروس العربية ‪ 310 /2‬ـ ‪ 311‬والجنى الداني ‪255‬‬
‫والبرهان في علوم القرآن ‪ 431 /2‬و ‪.331 /4‬‬
‫( ‪ )45‬مغني اللبيب ‪ 230‬ـ ‪.231‬‬
‫( ‪ )46‬انظر الجنى الداني ‪ 57‬و ‪ 153‬والكشاف ‪ 4/107‬ـ ‪.108‬‬
‫( ‪ )47‬انظر البرهان في علوم القرآن ‪ 45 /3‬ـ ‪ 51‬وانظر فيه ‪ 2/389‬والجنى الداني ‪141‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )48‬انظر مغني اللبيب ‪.443‬‬
‫( ‪ )49‬انظر الجنى الداني ‪ 142‬ـ ‪.143‬‬
‫( ‪ )50‬انظر الجنى الداني ‪ 59‬ـ ‪ 60‬والبرهان في علوم القرآن ‪ 307 /4‬ـ ‪.309‬‬
‫( ‪ )51‬انظر الجنى الداني ‪ 381‬وما بعدها ومغني اللبيب ‪ 96‬والبرهان في علوم القرآن ‪/2‬‬
‫‪.430‬‬
‫( ‪ )52‬انظر الجنى الداني ‪ 390‬ـ ‪.393‬‬
‫( ‪ )53‬انظر الجنى الداني ‪ 48‬ـ ‪.55‬‬
‫( ‪ )54‬انظر مغني اللبيب ‪ 144‬ـ ‪.150‬‬
‫( ‪ )55‬انظر الجنى الداني ‪ 316‬ـ ‪.317‬‬
‫( ‪ )56‬انظر مغني اللبيب ‪ 427‬ـ ‪.428‬‬
‫( ‪ )57‬الجنى الداني ‪.316‬‬

‫( ‪ )58‬انظر البرهان في علوم القرآن ‪ 423 /2‬ـ ‪ 427‬والكتاب لسيبويه ‪ 395 /1‬ومغني‬
‫اللبيب ‪ 463‬و ‪ 641‬ـ ‪ 646‬والجنى الداني ‪ 350‬ـ ‪ 351‬و ‪.507‬‬
‫( ‪ )59‬انظر الجنى الداني ‪ 350‬ـ ‪.351‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫( ‪ )60‬مغني اللبيب ‪ 82‬وانظر الجني الداني ‪ 522‬وما بعدها والبرهان في علوم القرآن ‪/4‬‬
‫‪.269‬‬
‫( ‪ )61‬انظر مغني اللبيب ‪ 82‬ـ ‪ 83‬والجني الداني ‪ 523‬ـ ‪.527‬‬
‫( ‪ )62‬انظر مثالً‪ :‬الجنى الداني ‪.332‬‬
‫( ‪ )63‬انظر الخطيئة والتكفير ‪ 27‬ـ ‪ 28‬و ‪ 56‬و ‪ 62‬ـ ‪ 66‬و ‪ 71‬ـ ‪ 72‬وكيفية قراءة النص‬
‫األدبي ‪ 269‬ـ ‪ 270‬و ‪ 280‬ـ ‪ 281‬و ‪.296‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫الباب الثاني‬
‫جمالية أسلوب اإلنشاء الطلبي‬

‫ـ حدود وأبعاد‪ :‬مفهوم اإلنشاء‬


‫‪ :‬أسلوب األمر وبالغته وجمالياته‬ ‫الفصل األول‬
‫‪ :‬أسلوب النهي وبالغته وجمالياته‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪ :‬أسلوب االستفهام وبالغته وجمالياته‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪ :‬أسلوب التمني وبالغته وجمالياته‬ ‫الفصل الرابع‬
‫الفصل الخامس ‪ :‬أسلوب النداء وبالغته وجمالياته‬

‫‪- 102 -‬‬


- 103 -
‫حدود وأبعاد؛ مفهوم اإلنشاء‪:‬‬
‫وأغراضها‬
‫َ‬ ‫اتضح لنا من مفهوم الجملة الخبرية‬
‫مضمونها ال يتوقف على النطق بها‪ ،‬أي ال‬‫ُ‬ ‫وأضربها أن‬
‫يتحقق بنطقها حدوث فعل ما‪ .‬فلو قلنا‪ :‬نجح محمد‬
‫فالنجاح‪ 0‬تحقق‪ ،‬وال يتوقف على إخبار المتكلم به‪...‬‬
‫وكذلك عليه قول المتنبي حين أخبرنا بمجيء جيش العدو‬
‫الكثير العدد لحرب لسيف الدولة؛ إذ مأل عدده الشرق‬
‫وتجهز بكل أنواع السالح من خيل وسيوف‬ ‫والغرب‪ّ ،‬‬
‫ورماح ودروع‪ ،‬حتى تسمع لـه جلبة وأصواتاً تبلغ نجم‬
‫اجلوزاء‪:‬‬
‫وائم‬ ‫ٍ‬ ‫ون الحديد كأ ََّنهم‬
‫له َّن قَ ُ‬ ‫س َر ْوا بجياد ما ُ‬
‫َ‬ ‫جر َ‬
‫أَتَ ْو َك َي ُّ‬
‫وفي أُ ُذن الجوزاء م ْن ُه َز َمازم‬ ‫ب َز ْحفُ ُه‬ ‫س بشرق األ َْر ِ‬
‫ض وال َغ ْر ُ‬ ‫مي ٌ‬
‫َخ ْ‬

‫ثم أخبرنا بانتصار سيف الدولة كما في قوله‪:‬‬


‫وادم‬
‫الخوافي تَ ْحتَها والقَ ُ‬
‫تموت َ‬
‫ُ‬ ‫جناحْيهم على ال َقْل ِب َ‬
‫ض َّم ًة‬ ‫ض َم ْم َت َ‬
‫َ‬
‫قادم‬ ‫وصار إلى اللَّبَّات َّ‬ ‫بضْر ٍب أَتى َ ِ َّ‬
‫ص ُر ُ‬‫والن ْ‬ ‫صر غائب‬
‫الهامات والن ُ‬ ‫َ‬
‫فالشاعر يتحدث عن معركة سيف الدولة التي انتصر فيها‪ ،‬ولم يرضه إال فْلق‬
‫هامات األعداء لتجرؤهم على الظلم واالعتداء‪ .‬فهو يخبرنا ببطولته واصفاً إياها‬
‫وصف من شاهد المعركة وخبر أحداثها؛ وهو يرى سيف الدولة ثابتاً قوياً‪،‬‬
‫والنصر محقق بيديه‪...‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫مضمونه يتوقف على النطق به‪ ،‬وطريقته تحدد نوع الطلب‬ ‫ُ‬ ‫أما اإلنشاء فإن‬
‫واستدعاء ما هو غير حاصل‪ ،‬ومن ثم ينفذه المخاطب‪ ،...‬كقوله تعالى في خطاب‬
‫موسى وأخيه هارون؛ ‪‬اذهبا إلى فرعون إنه طغى‪ ،‬فقوال لـه قوالً ليناً لعله يتذ ّكر‬
‫متوقف على النطق بها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مضم ِ‬
‫ون هذه الجملة‬ ‫ُ‬ ‫أو يخشى‪( ‬طه ‪ .)43 /20‬فتحقُّ ُ‬
‫ق‬
‫ثم يتم تنفيذ ما تدل عليه‪ ...‬ومثله قوله تعالى في خطابه لموسى‪ :‬قال‪ :‬أَْلِقها يا‬
‫موسى‪ ‬فكان الجواب لهذا األمر قوله تعالى‪ :‬فألقاها فإذا ِه َي َحَّيةٌ تسعى‪( ‬طه‬
‫‪ 19 /20‬ـ ‪.)20‬‬
‫ومن هنا قيل‪ :‬إن تعريف الجملة اإلنشائية هي‪ :‬كل كالم ال يصح أن يقال‬
‫لصاحبه‪ :‬إنه صادق فيه أو كاذب‪ ...‬أو كل كالم ال يحتمل الصدق أو الكذب‬
‫لذاته‪ 0...‬وقال القزويني‪" :‬ووجه الحصر أن الكالم إما خبر أو إنشاء‪ ،‬ألنه إما أن‬
‫يكون لنسبته خارج تطابقه أو ال تطابقه‪ ،‬أو ال يكون لها خارج‪ .‬األول الخبر‪،‬‬
‫والثاني اإلنشاء"(‪.)1‬‬
‫فاإلنشاء ال داللة لـه قبل نطقه‪ ،‬ولم يقع سابقاً‪ ...‬ولهذا ال يطابق الواقع الذي‬
‫والخْلق‪ ،‬أنشأه اهلل‪ :‬خلقه‪ ،‬وابتدأه‪0...‬‬ ‫َّ‬
‫تقدمه‪ ...‬واإلنشاء في اللغة‪ :‬اإليجاد‪َ ،‬‬
‫ومن هنا فإننا نراه أنه كالم ال يحتمل الصدق والكذب ويستدعي مطلوباً غير‬
‫حاصل وقت الطلب‪ 0...‬ولهذا ال يجوز أن يقال لقائله‪ :‬إنه صادق أو كاذب‪...‬‬
‫فاإلنشاء قائم على أساس الطلب الذي يطلبه المتكلم من المخاطب؛ فالكالم‬
‫اإلنشائي في مثل هذه الحال مرتبط بتصور المتكلم ومشاعره؛ وإ ن خرج عن‬
‫أغراضه الحقيقية أحياناً إلى أغراض مجازية‪ ...‬وقد يكون في وسع المخاطب‬
‫تنفيذ ذلك أو عدم إنفاذه‪ ...‬تبعاً للتفاعل الحقيقي الذي يتمتع به‪ ...‬كما دلنا عليه‬
‫ويوضحه اآليات التي تلت‬‫ّ‬ ‫السياق القرآني في خطاب اهلل تعالى لموسى وهارون‬
‫اآليتين السابقتين من سورة طه؛ في قوله سبحانه‪ :‬قاال‪ :‬ربنا إننا نخاف أن َي ْفرطُ‬
‫علينا أو أن يطغى* قال‪ :‬ال تخافا……*‪ ‬ثم وقع الفعل الحقيقي بعد الطلب‬
‫ك‪ ،‬والسالم على َم ْن اتبع الهدى‪( ‬طه ‪ 20/45‬ـ‬ ‫جئناك ٍ‬
‫بآية من رب َ‬ ‫َ‬ ‫والتوضيح‪ :‬قد‬
‫‪ .)47‬وعليه اإلنشاء الطلبي قسمان فقط‪ :‬إيجابي (األمر والتمني واالستفهام‬
‫(النهي)‪0.‬‬
‫والنداء‪ )...‬وسلبي ّ‬
‫ولهذا كله أُخرج اإلنشاء غير الطلبي عند القدماء من جملة اإلنشاء الطلبي‬
‫بقسميه وأساليبهما؛ ألنه ال يستدعي مطلوباً بعد النطق به‪ ...‬كالشرط والقسم‪،‬‬
‫والتعجب والمدح والذم والرجاء‪ ،‬وصيغ العقود‪ ...‬وهناك من أخرجه من بحث‬
‫اإلنشاء كله‪ .‬وإ ذا كنا نتفق معهم في مفهوم التصور البالغي ـ على أننا سنتناول‬

‫‪- 105 -‬‬


‫هذه األساليب في كتاب آخر يختص بأساليب بالغية متنوعة تتجه إلى الجانب‬
‫وفعال ـ وإ ذا كانت جملة من أساليب اإلنشاء غير الطلبي‬
‫الجمالي بشكل مدروس ّ‬
‫تخرج من اإلنشاء فإننا ال نطلق موافقتنا لهم في الشرط والقسم‪ .‬فالجملة الشرطية‪،‬‬
‫أو جملة القسم تدخل في اإلنشاء الطلبي إذا كان الجواب فيها طلباً؛ وإ ال فهي من‬
‫اإلنشاء غير الطلبي‪ 0...‬ومن الباحثين من أدخلها كلها في الجملة الخبرية‪ ،‬ونحن ال‬
‫نتفق معهم‪.‬‬
‫وال شيء أدل على رأينا من قولنا‪( :‬إن نجح محمد فأكرمه)‪ ...‬فالجملة‬
‫الشرطية هنا جملة طلبية؛ ألن جملة الجواب استدعت طلباً وهو اإلكرام‪...‬‬
‫وكذلك قولنا في جملة القسم‪( :‬باهلل عليك كافئ خالداً)‪ 0...‬فجواب القسم طلب‬
‫من المخاطب أن يكافئ خالداً؛ فلما كان اإلنشاء ـ لغة ـ اإليجاد‪ ،‬فال بد من تحقيق‬
‫جواب القسم‪.‬‬
‫كرمتُه)‪ ،‬أو (باهلل عليك لتكافئن خالداً)‪ ...‬فإن‬
‫أما لو قلنا‪( :‬إن نجح محمد ّ‬
‫الكالم سيختلف عن الكالم السابق؛ ويصبح كالماً إنشائياً ال يستدعي المتكلم تحقيقه‬
‫بعد النطق به‪....‬‬
‫ومن هنا نقول‪ :‬إن اإلنشاء غير الطلبي‪ :‬هو كل كالم ال يستدعي مطلوباً‬
‫للتحقق‪ .‬وهذا هو الفرق بينه وبين اإلنشاء الطلبي؛ ولكنه يتفق معه من وجه آخر‬
‫محول في‬
‫أنه ال يقال لصاحبه‪ :‬إنه صادق أو كاذب‪ ....‬فضالً عن أن الشرط ّ‬
‫األصل عن طلب كقولنا للمخاطب‪ ( :‬إن تنجح أُكرمك)؛‪ 0‬وكأننا نقول له‪( :‬انجح‬
‫أكرمك)‪ ...‬وكذا القسم بمعنى التوكيد أو ما يشبه الطلب‪.‬‬
‫وفي ضوء ذلك كله يمكننا أن ندخل اإلنشاء غير الطلبي في مباحث اإلنشاء‬
‫عامة‪ ،‬وإ ن أخرجه القدماء منه‪ ،‬في ضوء عدم استدعائه لمطلوب؛ يمكننا أن ندخله‬
‫ألنه ال يحتمل الصدق أو الكذب‪ ...‬إذ ال يجوز أن نقول لقائله‪( :‬إنك صادق أو‬
‫كاذب)‪.‬‬
‫وإ ذا كان البالغيون قد أخرجوا اإلنشاء غير الطلبي من اإلنشاء وأساليبه؛‬
‫ألن األغراض المتعلقة به قد تبدو للمتسرع نادرة الصلة به‪ ،‬أو ألن أساليبه نقلت‬
‫من معانيها األصلية إلى غيرها فإن هذا برأينا أ َْدعى ألن بالدارسين إلى تناولها؛‬
‫لبيان جماليتها المرتبطة بالسياق الذي أخرجها في الداللة من الجملة الخبرية إلى‬
‫الجملة اإلنشائية‪ ،‬وإ ن كانت الصياغة ال زالت تتبع صياغة أساليب الخبر‪ ...‬وهنا‬
‫يكمن ثراؤها الجمالي‪ 0...‬فهذا نمط فريد من االنزياح الداللي يحتاج إلى وقفة‬

‫‪- 106 -‬‬


‫متأنية إلدراك أبعاده كلها‪ 0...‬وإ ذا كانت هذه الدراسة ال تتسع له‪ ،‬فعسى نخصه‬
‫ببحث منفصل‪ ...‬أو يقوم به غيرنا‪0...‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫الفصل األول ـ‬
‫أسلوب ألَمر وبالغته وجمالياته‬

‫توطئة‪ :‬مفهوم أسلوب األمر‬


‫قَعَّد النحويون أسلوب األمر في صيغة فعل األمر وحده ونظروا إليه من جهة‬
‫األحوال‪...‬ووسع البالغيون دائرة‬
‫ّ‬ ‫أحوال بنائه وارتباط الضمائر والحروف بتلك‬
‫أسلوب األمر فربطوه بصيغ الطلب التي تدل على األمر‪ ...‬وبهذا نظروا إلى‬
‫روح اللغة؛ فقال العلوي في (الطِّ َراز) معرفاً صيغته‪" :‬هو صيغة تستدعي الفعل‪،‬‬
‫أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة االستعالء"(‪.)2‬‬
‫ومن ثمة توسع البالغيون بصيغ أسلوب األمر وقَعَّدوه ـ أيضاً ـ بقواعد بالغية‬
‫على وجه الحقيقة؛ ثم أوجدوا لـه صيغاً تخرج عن روح تلك القواعد فأطلقوا عليها‬
‫سعوا إلى دمج بنية الخطاب اللغوي ببنية المقاصد‬ ‫ما عرف باألمر المجازي؛ إذ َ‬
‫التي يتدبرونها في السياق‪.‬‬
‫أما أصحاب البالغة القرآنية فما راق لعدد منهم فعل البالغيين في هذا الشأن‬
‫ورأوا فيه تجميداً للجملة البالغية؛ وال سيما المتعلقة بالقرآن الكريم‪...‬‬
‫دونك وبعثُه‬
‫فالزمخشري مثالً يعرف أسلوب األمر بقوله‪" :‬طلب الفعل ممن هو َ‬
‫عليه"(‪.)3‬‬
‫والزمخشري نفسه الذي راعى قواعد البالغيين لم َير رؤيتهم في أسلوب‬
‫األمر المجازي‪ .‬فاألمر المجازي عنده قد يكون تشريعاً للناس‪ ،‬وال يشترط فيه‬
‫يصور الحالة النفسية لآلمر‪ ،‬وللمخاطبين؛ على اختالف مكانة‬
‫االستعالء؛ وقد ّ‬
‫اآلمر والمأمور وشرفهما‪ 0...‬دون أن يهمل كيفية وقوع األمر ووظيفته‪ .‬فاألمر أياً‬
‫كان ينطوي على وظيفة نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو أخالقية أو تربوية‪ 0...‬أو‬

‫‪- 108 -‬‬


‫عاطفية‪...‬‬
‫نبين أساليبه البالغية ساعين إلى‬
‫ولهذا كله فسنعرف أسلوب األمر؛ ثم ّ‬
‫التوفيق بين البالغيين في أصولهم التي رأوها وبين نظرة أصحاب الدراسات‬
‫القرآنية في األساليب المباشرة وغير المباشرة‪ .‬فاألمر ـ وفق الجمع بين الرؤى‬
‫الثالث السابقة ووظائف كل منها مما يهدف إليه المتكلم ـ (هو طلب الفعل على‬
‫وجه التكليف واإللزام بشيء لم يكن حاصالً قبل الطلب وفي وقته على جهة‬
‫الحقيقة أو المجاز) كقولنا‪ :‬أ َْم ِسك نفسك عند الغضب‪ .‬فمن أراده على الحقيقة جاز‬
‫ظنهَ في إطار مفهوم المقاصد‪.‬‬‫ومن أ َّوله على المجاز لم يخب ُّ‬
‫لـه ذلك‪َ ،‬‬
‫الفصل األول‪ :‬أساليب األمر‪:‬‬
‫وهي تحمل القصدية المباشرة ضمن الصيغ اللغوية والبالغية التي اتفق‬
‫عليها القدماء والمحدثون بمثل ما تنفتح على دالئل كثيرة عند القارئ لذا فهي‬
‫قسمان‪ ،‬أساليب حقيقية‪ ،‬وأخرى مجازية‪:‬‬

‫القسم األول‪:‬‬
‫أساليب األمر الحقيقي (األسلوب المباشر)‪ :‬لم تختلف الدراسات البالغية كلها‬
‫في هذا النوع وفي صيغه؛ فهو طلب الفعل على جهة االستعالء من األعلى إلى‬
‫األدنى على جهة الحقيقة واإللزام بفعله‪ 0....‬وينطبق عليه تعريف صاحب‬
‫(الطراز) الذي أشرنا إليه سابقاً‪ .‬ولألمر صيغ أربع تولد نشاطات عاطفية‬
‫التموج وهي‪:‬‬
‫وحاالت فكرية ثابتة ليست كثيرة ّ‬
‫‪ 1‬ـ صيغة األمر المعروفة‪:‬‬
‫الكتاب بقوة‪( ‬مريم ‪ )19/12‬وقوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫وعليه قوله تعالى‪ :‬يا يحيى ُخ ِذ‬
‫أم ْر قومك يأخذوا بأحسنها‪( ‬األعراف ‪ )7/145‬وكقوله‪:‬‬ ‫‪‬فخذها بقوة و ُ‬
‫‪‬وأقيموا الصالة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين‪( ‬البقرة ‪ )2/43‬وقوله‪ :‬يا‬
‫مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين‪( ‬آل عمران ‪)3/43‬؛ فكل ما وضع‬
‫المضمون بعد‬
‫ُ‬ ‫وجوب تنفيذ‬
‫ُ‬ ‫تحته خط أمر‪ .‬وهناك بالغيون ذهبوا إلى أن صورة األمر الحقيقي تحمل‬
‫الطلب بشكل مطلق(‪ .)4‬ولكن هذا الرأي غير دقيق؛ فاألمر قد يكون حقيقيًا وال يمكن تنفيذه؛ ألمر ما‪،‬‬
‫وهو ما يجعله قريباً من األمر المجازي كما في خطاب عامل المدينة مروان بن الحكم للفرزدق‪:‬‬

‫الم ْق ِ‬
‫دس|‬ ‫ِ‬ ‫واعم ْد َّ‬ ‫ود ِع المدينة‪ ،‬إِ َّنها َم ْرهوب ٌة‬
‫لمك َة أ َْو َلب ْيت َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لم ِ‬
‫س‬ ‫المتَ ِّ‬
‫نكراء مث ُل صحيفة ُ‬
‫ُ‬ ‫ألق الصحيفة يا فرزدق؛ إنها‬

‫‪- 109 -‬‬


‫فأفعال األمر (دع‪ ،‬اعمد‪ ،‬ألق) ال يمكن تحقيقها وإ ن صدرت من األعلى إلى‬
‫األدنى‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الفعل المضارع المقرون بالم األمر‪:‬‬


‫(لي ْنفق ـ ليوفوا ـ ليطوفوا) من قوله تعالى‪ُ  :‬لي ْنفق ذو َس َع ٍة من‬ ‫ومثاله الفعل ُ‬
‫َّ‬
‫وليط ْوفُوا بالبيت‬
‫ذورهم؛ َ‬ ‫وليوفُوا ُن َ‬
‫سعته‪( ‬الطالق ‪)65/7‬؛ وقوله‪ُ  :‬‬
‫(ليجل ـ ليفدح) من قول أبي متام‪:‬‬
‫ّ‬ ‫العتيق‪( ‬الحج ‪)22/29‬؛ والفعل‬

‫ماؤها ُعذ ُْر‬


‫ض ُ‬ ‫لع ْي ٍن لم َي ِف ْ‬
‫فليس َ‬ ‫وليفدح األ َْم ُر‬
‫ِ‬ ‫فلي ِج َّل ال َخ ْط ُ‬
‫ب‬ ‫كذا َ‬
‫فعلى الرغم من أن صورة الفعل المضارع تثير حركة ما مع اقترانها بالم‬
‫األمر إال أنها ذات اتجاه ثابت في الخطاب والتأثير‪ ...‬وهي موجهة على سبيل‬
‫االستعالء الحقيقي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ اسم فعل األمر‪:‬‬


‫هو كلمة تدل على ما يدل عليه الفعل‪ ،‬وال تقبل عالمته‪ 0...‬وهو يلزم صيغة‬
‫واحدة ـ غالباً ـ مع المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث إال ما لحقته كاف‬
‫دونك‪ ،‬رويد ََِ‪0‬‬
‫ِك)‬ ‫(عليك‪َِ ،‬‬ ‫َ‬ ‫الخطاب فيراعى فيه المخاطب في الحاالت السابقة‪ ،‬مثل‬
‫فيمكن أن نقول‪ :‬عليكما ـ دونكما ـ رويدكما‪ 0....‬عليكم ـ دونكم ـ رويدكم‪ 0)...‬فضالً‬
‫معنى إضافياً وإ ن لزم حالة واحدة؛ مثل‬ ‫عن أن التنوين يلحق بعض صيغه فيفيد‬
‫ً‬
‫يه)‪ .‬وقيل في (هاك) ـ بمعنى خذ ـ إنها تتجرد من الكاف وتصبح‬ ‫(م ٍه‪ ،‬وص ٍه‪ ،‬وإ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫(هاء)‪ ،‬وللواحدة‬‫َ‬ ‫للواحد‬ ‫فنقول‪:‬‬ ‫وتتصرف؛‬ ‫الهمزة‪،‬‬ ‫تلحقها‬ ‫أن‬ ‫ويجوز‬ ‫(ها)‪،‬‬
‫(هاء)‪ ...‬ولجمع الذكور (هاؤم) كقولـه تعالى‪ :‬هاؤم اقرؤوا كتابَِي ْه‪( ‬الحاقة‬‫ِ‬
‫(هات) حالة واحدة‪ ،‬بل‬ ‫‪ )69/19‬أي خذوا‪ .‬وكذلك ذهب قوم إلى عدم إلزام ِ‬
‫يتصرف؛ ويخاطب به المذكر والمؤنث؛ كما في معلقة امرئ القيس؛ وكقوله‬
‫(هلم‪:‬‬
‫تعالى‪ :‬هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‪( ‬البقرة ‪ .)2/111‬ومثله اسم الفعل َّ‬
‫يعلم اهلل‬
‫تعال) فنقول‪( :‬هلموا إلينا) وإ ن جاء بصيغة واحدة في قوله تعالى‪ :‬قد ُ‬
‫الم َع َّوقين منكم والقائلين إلخوانهم‪َ :‬هلُ َّم إلينا‪( ‬األحزاب ‪.)33/18‬‬
‫ُ‬
‫أقسام اسم فعل األمر‪ :‬وهي ثالثة أقسام (‪ )1‬أسماء مرتجلة‪( :‬أي ُوضعت في‬
‫و(بْلهَ‪:‬‬
‫و(مه‪ :‬اكفف) َ‬
‫ْ‬ ‫و(ص ْه‪ :‬اسكت)‬
‫َ‬ ‫أصلها كذلك) ومنها (آمين‪ 0:‬بمعنى استجب)‬
‫ازد ْد‪ ،‬أو أقبل)‪...‬‬ ‫ِ‬
‫و(إيه‪َ :‬‬ ‫َقبل)‬
‫و(حي‪ :‬أ ْ‬
‫َّ‬ ‫ع أو اترك)‬
‫َد ْ‬

‫‪- 110 -‬‬


‫‪ 2‬ـ أسماء منقولة‪:‬‬
‫أي أنها تنقل عن جار ومجرور أو ظرف أو مصدر أو تنبيه‪ ،‬وتتغير الداللة‬
‫نفسك)‪ :‬أي الزمها؛ وعليه قوله تعالى‪ :‬يا أيها الذين‬ ‫(عليك َ‬
‫َ‬ ‫واإلعراب كقولنا‪:‬‬
‫ضل إذا اهتديتم‪( ‬المائدة ‪ ،)5/105‬وقولنا‪:‬‬‫َّ‬ ‫يضركم َم ْن َ‬
‫َنفسكم ال ُّ‬
‫آمنوا عليكم أ َ‬
‫ك‬
‫(إليك عني‪ :‬أي تنحَّ‪ ،‬وابتعد)‪ 0...‬ومن أمثلة ما نقل عن الظرف قولنا‪( :‬دون َ‬ ‫َ‬
‫و(مكانك‪ :‬أي اُُثبت)‪ .‬ومن أمثلة‬
‫َ‬ ‫عنه)‬ ‫ابتعد‬ ‫أي‬ ‫النمر‪:‬‬ ‫و(دونك‬ ‫خذه)‬ ‫أي‬ ‫الكتاب‪:‬‬
‫و(بْله َّ‬
‫الش َّر‪ :‬اتركه ـ)‪ ..‬وقلنا أيضاً‪:‬‬ ‫(ر ْوَيدك‪ :‬تمهَّل) َ‬
‫ما نقل عن المصدر قولنا‪ُ :‬‬
‫ينقل اسم الفعل من كلمات تفيد التنبيه كما في (ها) كقولنا‪:‬‬
‫الكتاب‪ :‬أي خذه)‪ .‬وهذه األسماء والتي تليها ال تقع إال في األمر‪ ،‬فهي ال تقع‬ ‫َ‬ ‫(ها‬
‫في الماضي والمضارع‪...‬‬

‫‪ 3‬ـ أسماء معدولة‪:‬‬


‫و(ح َذ ِار) فهما معدوالن عن وقت وقعت شواهد‬ ‫(ن َز ِ‬
‫ال) َ‬ ‫هي أسماء ُعدلت عن فعل األمر؛ كقولنا‪َ :‬‬
‫في الشعر ألكثر ما سقناه‪ ،‬ومنها قول املتنيّب ‪:‬‬

‫وعدَّهُ ِم َّما تُني ُل‬


‫َي ُ‬
‫تَأ َّ‬ ‫ُر َو ْي َد َك أَيُّها المل ُك الجلي ُل‬
‫وقال اإلمام علي (كرم اهلل وجهه)‪:‬‬
‫و ِبِّر ذوي القُربى و ِبِّر األ ِ‬
‫َباعد‬ ‫عليك ِب ِبِّر الوالدين كليهما‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫فلفظ (عليك) اسم فعل أمر بمعنى (الزم)‪ ،‬وبهذا انتقل داللة وإ عراباً من‬
‫الجار والمجرور إلى اسم فعل األمر‪ ،‬بينما انتقل (رويدك) من المصدر في البيت‬
‫األسبق إلى اسم فعل األمر‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ المصدرـ النائب عن فعله‪:‬‬


‫هو اللفظ الدال على الحدث غير مقترن بالزمن؛ متضمن أحرف فعله‬
‫لفظاً‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬وبالوالدين إحسانا‪( ‬البقرة ‪)2/83‬؛ فلفظ (إحساناً) ناب عن فعل األمر‬
‫الفجاءة (ت ‪ 78‬هـ)‪:‬‬ ‫(اصبِر) في قول قطري بن‬ ‫(أ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫(ص ْبراً) ناب عن ْ‬
‫َحسن)؛ وكذا هو المصدر َ‬
‫تطاع‬
‫س ِ‬ ‫بم ْ‬
‫فما َن ْي ُل الخلود ُ‬ ‫فص ْبراً في مجال الموت صبراً‬
‫َ‬
‫ولفظ (وقوفاً) ناب عن (قف) في كل من قول امرئ القيس‪:‬‬
‫وتجم ِل‬ ‫أسى‬ ‫ِ‬
‫يقولون‪ :‬ال تَ ْهلك ً‬
‫َّ‬ ‫علي مطيَّهم‬
‫َّ‬ ‫وقوفاً بها صحبي‬
‫وقول أَ ْشجع ُّ‬
‫السلَمي‪:‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫تجود ِب ِه َقلي ُل؟‬
‫ُ‬ ‫وه ْل فيما‬
‫َ‬ ‫بالمطي ولو قليالً‬
‫ِّ‬ ‫وقوفاً‬

‫القسم الثاني‪ :‬أساليب األمر المجازي‪:‬‬


‫تبين لنا أن المعنى الحقيقي كما وضع لـه األصل اللغوي يظل ثابتاً‪ ،‬ولكن‬
‫أسلوب األمر ال يتقيد بمعيارية التركيب النحوي؛ وإ نما تنزاح فيه اللغة في صيغ‬
‫األمر الحقيقي األربع إلى اتجاهات جديدة‪ ،‬كما تقول الدراسات األسلوبية فال‬
‫المضمن في الجملة على وجه اإليجاب‪ ...‬وإ نما‬
‫ّ‬ ‫تقتضي اإللزام بتنفيذ الطلب‬
‫ٍ‬
‫حاصل‬ ‫يعبر فيه عن معنى‬‫ُي ْستَخرج المعنى من القرائن الدالة في السياق؛ ولهذا قد ّ‬
‫يقربه من اإلنشاء غير الطلبي في الداللة‪.‬‬
‫قبل الطلب‪ 0...‬وهذا ّ‬
‫وإ ذا كان األمر الحقيقي ُيلقى على وجه االستعالء فإن األمر المجازي ال‬
‫يشترط منزلة االستعالء بين المتكلم والمخاطب أو بين اآلمر والمأمور‪ ...‬فقد‬
‫يكون اآلمر أدنى منزلة ويستعمل صيغة األَمر‪ ...‬ولهذا قيل‪ :‬إنه ليس على الوجه‬
‫الحقيقي لألمر(‪ )5‬وقد أوضح ذلك السكاكي في (مفتاح العلوم) ومن جاء بعده(‪.)6‬‬
‫وضمت اآلمر‬
‫ّ‬ ‫وبذلك اتسعت دائرة المعاني التي يدور عليها األمر المجازي؛‬
‫والمأمور (المتكلم والمخاطب) ومضمون األمر الذي ال ُي ْسأل المأمور عن‬
‫تنفيذه‪ ...‬فقد انحرفت الداللة عن صورة التحديد والتعيين‪.‬‬
‫ثراء فإن أساليبه كانت كثيرة التنوع في اإليحاء مما يدل‬
‫وحين عظمت داللته ً‬
‫على جمالية طرائق األمر بأشكال الفتة للنظر‪ .‬فالمرء ال يتعامل مع الصورة‬
‫اللغوية بمعزل عن السياق واستحضار معانيه‪ ،‬وهو المجاز في عرف القدماء‪( ،‬‬
‫‪ )7‬ويدخل فيه غير المباشر ذو اإليحاء البعيد‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الدعاء‪:‬ـ‬
‫سماه ابن‬ ‫وفعله دعا يدعو‪ ...‬وقد ّ‬ ‫الدعاء‪ :‬اسم ومصدر ومثله (الدعوى) ْ‬
‫صفة‬ ‫فارس (المسألة) ويتجه اآلمر(‪ )8‬بكالمه إلى من هو أعلى منه على ِ‬
‫والض عف واالبتهال والرجاء واالستكانة واالستعطاف‪ ،‬أو االنتقام‪ .‬فمن‬ ‫َّ‬ ‫التضرع‬
‫ّ‬
‫علي‪( ‬النمل‬‫ت َّ‬ ‫َنعم‬
‫َ ْ‬ ‫أ‬ ‫التي‬ ‫متك‬ ‫ع‬‫ِ‬
‫ن‬ ‫ر‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫َش‬‫أ‬ ‫َن‬‫أ‬ ‫أوزعني‬ ‫ِّ‬
‫ب‬ ‫ر‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫التضرع‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬
‫عذاب النار‪‬‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫حسن‬ ‫اآلخرة‬ ‫وفي‬ ‫سنة‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫الدنيا‬ ‫في‬ ‫آتنا‬ ‫‪ )27/19‬وقوله‪ :‬ربَّنا‬
‫(البقرة ‪ .)2/201‬ووقع فيه معنى االستكانة والضعف كما وقع الدعاء باالنتقام‬
‫كما ّبينه الزمخشري (‪ )9‬في قوله تعالى‪ :‬ربنا اطمس على قلوبهم‪ ،‬واشدد على‬

‫‪- 112 -‬‬


‫وضلُّوا وال مطمع في إيمانهم‪ ...‬ومن االستكانة واالستعطاف‬ ‫قلوبهم‪( ‬يونس ‪ ،)10/88‬ألنهم كفروا َ‬
‫قول النابغة الذبياني يخاطب النعمان بصيغة (مهالً) و(فداءً)‪:‬‬

‫مال و ِم ْن َولَ ِد‬


‫وما أُثَ ِّمر من ٍ‬ ‫هم‬‫ُّ‬
‫األقوام كل ُ‬
‫ُ‬ ‫لك‬
‫داء َ‬ ‫ِ‬
‫َم ْهالً‪ ،‬ف ً‬
‫وقال كعب بن زهير يستعطف الرسول الكريم ويمدحه؛ ويبدأ بصيغة (مهالً)‪:‬‬
‫القرآن فيها مواعيظٌ وتَ ْفصي ُل‬ ‫َعطاك نافل َة‬
‫َ‬ ‫اك الذي أ‬
‫َم ْهالً‪َ ،‬ه َد َ‬
‫وقال المتنبي يخاطب سيف الدولة يرجوه ويتوسل إليه أن يخلصه من كيد الحساد بصيغة (أَ ِز ْل)‪:‬‬
‫سدا‬
‫صي َّْرتَهم لي ُح َّ‬
‫فأنت الذي َ‬
‫َ‬ ‫تهم‬
‫ساد عني ب َك ْب ُ‬
‫الح َّ‬ ‫أ َِز ْل َح َ‬
‫س َد ُ‬
‫فالمتنبي هنا لم يكتف باألمر المباشر وإ نما لجأ إلى أسلوب التعليل غير‬
‫المباشر إلظهار رغبته‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ االلتماس‪:‬‬
‫االلتماس مصدر؛ وفعله (التمس)‪ ،‬وهو شبيه بالدعاء والرجاء من جهة الفعل والحدوث؛ لكن‬
‫خصوه عادةً بأسلوب األمر بين المتساوين في المنزلة والقدر على سبيل االحترام‬ ‫البالغيين قد ّ‬
‫والتلطف‪ ،‬كقولنا للذين يماثلوننا‪( :‬هاتوا الكتاب)‪ ...‬ويمثله امرؤ القيس في خطاب االثنين‪ ،‬سواء كان‬
‫المخاطب (المثنى) ـ هنا ـ موجوداً أم متخيّالً‪:‬‬

‫فح ْو َم ِل‬ ‫بس ْق ِط اللِّوى بين َّ‬


‫الد ُخول َ‬
‫ِ‬ ‫حبيب وم ْن ِ‬
‫زل‬ ‫َ‬
‫ِقفَ ِ‬
‫انبك من ذكرى ٍ‬
‫ومثله قول الشاعر اآلخر في خطاب املثىَّن ‪:‬‬
‫ِ‬
‫الشباب‬ ‫إلي َع ْه َد‬ ‫أو أ ِ‬
‫َع ْيدا َّ‬ ‫ليلي خلّياني وما بي‬
‫يا َخ َّ‬
‫أما االلتماس الذي يتوجه به المتكلم إلى المخاطب المفرد والمساوي لـه بالمنزلة والقَ ْدر فمثاله‬
‫قول الشاعر‪:‬‬
‫َجرني أبا ٍ‬
‫وإ ال فهبني امرأً هالكا‬ ‫خالد‬ ‫ت‪ :‬أ ِ ْ‬
‫ف ُق ْل ُ‬
‫‪ 3‬ـ التمني‪:‬‬
‫(الم ْنية)‪ ،‬وهو كل ما يتمناه اإلنسان‪ 0...‬ثم‬
‫(المنى) والمفرد ُ‬
‫التمني أصله من ُ‬
‫ِ‬
‫صار كل طلب ال يرجى تحققه؛ ويبقى مجرد أ ُْمنّية في نفس المتكلم‪.‬‬
‫ويمكن أن تكون محادثة األطالل من هذا َّ‬
‫النمط وإ ن اشتملَت على شيء من الدعاء لها‪ .‬ولهذا‬
‫ال عند المتلقي؛ كقول عنرتة‪:‬‬
‫تصبح الوظيفة النفسية والعاطفية أكثر تأم ً‬

‫دار عبل َة واسلمي‬ ‫ِِ‬ ‫بالج ِ‬


‫واء تكلَّمي‬ ‫يا دار َع ْبل َة ِ‬
‫وعمي صباحاً َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫فالف ْعل (تكلمي ـ عمي ـ اسلمي) من باب حديث النفس الذي تمناه‪ 0‬الشاعر؛ وكذا قول امرئ القيس‪:‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫صر الخالي؟‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الع ُ‬
‫وهل َيع َم ْن َم ْن كان في ُ‬ ‫أالع ْم صباحاً أيُّها الطل ُل البالي‬
‫وقال أيضاً يخاطب الليل؛ متمنياً‪ 0‬أن يزول ما َح َّل به من الهم‪ ،‬ولكن ـ هيهات ـ فللزمن مقداره‪:‬‬
‫اإلصباح من َك بأ َْمثَ ِل‬
‫ُ‬ ‫بص ْب ٍح وما‬
‫ُ‬ ‫أَال أيُّها اللي ُل الطويل أال ِ‬
‫انجل‬
‫وتمنى أبو العالء المعري أن يزوره الموت وسط هذه الحياة الذميمة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫دهرك هاز ُل‬
‫َ‬ ‫س ِج ّدي؛ َّ‬
‫إن‬ ‫ويا َن ْف ُ‬ ‫إن الحياة ذميم ٌة‬
‫موت ُز ْر؛ َّ‬
‫فيا ُ‬
‫‪ 4‬ـ التهديد واإلنذار‪:‬ـ‬
‫تتخذ صورة األمر شحنة انفعالية متعاظمة في نفس المتكلم اآلمر كما تثير فيه‬
‫والم َّدعين والعاصين والمنافقين‬
‫أفكاراً شتى حين يتجه إلى المتكبرين ُ‬
‫والمقصرين‪ 0...‬ليرتدعوا‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬تَمتَّ ُعوا َّ‬
‫فإن مصيركم إلى النار‪‬‬
‫(إبراهيم ‪ )14/30‬وقوله‪ :‬اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير‪( ‬فصلت‬
‫‪ .)41/40‬ويبين فيه اآلمر سخطه على المأمور ـ كما وضحه الزمخشري(‪ )10‬ـ‬
‫ويتوعده مهدداً على سبيل المبالغة؛ فإذا لم َير منه إال اإلباء والتصميم‪ ،‬قال له‪:‬‬
‫أنت وشأنك‪ ،‬افعل ما تشاء‪.‬‬
‫وعليه قول الشاعر‪:‬‬
‫شاء‬
‫حي‪ ،‬فاص َن ْع ما تَ ُ‬
‫ستَ ِ‬
‫ولم تَ ْ‬
‫ْ‬ ‫تخش عاقبة الليالي‬
‫إذا لم َ‬
‫وال يشترط في هذا األسلوب منزلة ما بين اآلمر والمأمور‪ ،‬ويظل السياق‬
‫وحده الدليل عليها‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ التحدي والتعجيز‪:‬‬


‫هو طلب شيء ما من المخاطب ال َي ْقدر عليه؛ ألنه ليس بوسعه تحقيقهُ؛‬
‫ريب مما ّنزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله‪،‬‬ ‫كقوله تعالى‪ :‬وإ ن كنتم في ٍ‬
‫وادعوا شهداءكم من دون اهلل إن كنتم صادقين‪( ‬البقرة ‪ )2/23‬وقوله‪ :‬يا‬
‫واإلنس ِإن استطعتم أن تنف ُذوا من أقطار السموات واألرض فانف ُذوا‬ ‫معشر ِ‬
‫الج ّن ِ‬ ‫َ‬
‫ال تنفذون إال بسلطان‪( ‬الرحمن ‪ )55/33‬وكقول املهلهل‪:‬‬

‫رار؟‬ ‫ِ‬ ‫يا ٍ‬ ‫يا َلب ْك ٍر!! أَ ْن ِشروا لي ُكليباً‬


‫أين؟ أين الف ُ‬
‫لبكر َ‬
‫فكل أفعال األمر (ادعوا ـ أتوا ـ انفذوا ـ أ ِ‬
‫َنشروا) حملت معنى التحدي‪ ،‬وكذا قول الشاعر‪:‬‬
‫أرى ما تََر ْي َن أو َبخيالً ُم َخلَّدا‬ ‫أَريني جواداً مات ُه ْزالً لعلَّني‬

‫‪- 114 -‬‬


‫فالفعل (أَريني) َو َر د على سبيل التعجيز في اإلتيان بمثل ذلك‪ ،‬وعليه قول اآلخر في (أرين)‪:‬‬
‫لك عن أَ َق ِّل ِعثَ ِ‬
‫ار‬ ‫متغاضياً َ‬ ‫أ َِرني الذي عاشرتَه َ‬
‫فوج ْدتَه‬
‫‪ 6‬ـ التسوية‪ :‬ليس هو األسلوب البالغي المقابل لإليجاز أو اإلطناب؛ ّإنما‬
‫طلب على جهة المساواة بين أمرين ال على جهة‬ ‫هو أحد أساليب األمر‪ .‬وهو ٌ‬
‫التخيير بينهما؛ كقوله تعالى‪ :‬اصبروا أو ال تصبروا‪( ‬الطور ‪ )52/16‬وقال املتنيب‪:‬‬

‫الب ِ‬
‫نود‬ ‫وخ ْفق ُ‬
‫ط ْعن القَنا َ‬
‫بي َن َ‬
‫ْ‬ ‫كريم‬
‫وأنت ُ‬‫ش عزيزاً أو ُم ْت َ‬ ‫ِع ْ‬
‫ومنه قوله تعالى‪ :‬وأ ِ‬
‫َس ّروا قولكم أو اجهروا به‪( ‬الملك ‪ )67/13‬وقال الرصايف‪:‬‬
‫ِ‬
‫باإلحسان منك تَ َمُّردا‬ ‫زاد‬
‫وإ ْن َ‬ ‫َح ِس ْن إلى َم ْن قد أَساء ُّ‬
‫تكرماً‬ ‫وأ ْ‬
‫مساو في المعنى لألول ـ وهو قريب‬ ‫والتسوية هنا في المعنى‪ ،‬فالشطر الثاني ٍ‬
‫من التخيير‪ ،‬ولكنه ال يماثله في طرفي المعادلة‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ التخيير‪:‬‬
‫(تخير) ويقال لـه (التمييز) وال تشترط المساواة بين األمرين المطلوبين ال‬
‫التخيير مصدر وفعله ّ‬
‫في المعنى وال في اللفظ والتركيب‪ 0.‬وفيه يطلب إلى المخاطب أن يختار بين أمرين على جهة المعنى‬
‫الحقيقي أو المجازي‪ ،‬كقولنا‪( :‬تزوج هنداً أو أختها) وقال البحرتي‪:‬‬

‫ِ‬
‫المطالب‬ ‫كفاني َنداكم عن جميع‬ ‫فليج ْد‬
‫وم ْن شاء ُ‬
‫فليبخل‪َ ،‬‬
‫ْ‬ ‫فم ْن شاء‬
‫َ‬
‫وقد يتساوى األمران وال بد من أن يختار المخاطب بينهما‪ 0‬كقول بشار‪:‬‬
‫مقارف َذ ْن ٍب مرةً وم ِ‬
‫جان ُب ْه‬ ‫ُ‬ ‫ش واحداً أو ِ‬
‫ص ْل أَخا َك َّ‬
‫فإنه‬ ‫فَ ِع ْ‬
‫ُ‬
‫ونلمس في هذا األسلوب واألسلوب السابق جمالية الوظيفة النفسية‬
‫واالجتماعية في احترام إرادة المخاطب وعقله؛ فهو حر في تنفيذ األمر‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ االعتبار والموعظة‪:‬‬


‫ويكون بأي صيغة من صيغ األمر‪ ،‬على جهة االتعاظ والعبرة؛ ما يقربه من‬
‫أسلوب النصح‪ 0...‬لذا فهو طلب على سبيل الموعظة واالعتبار‪ ،‬وليس غايته‬
‫تضمن اإلشارة إلى الرغبة في تجنب فعل ما‪ ،‬أو اإلقبال على‬‫التنفيذ الفوري؛ وإ ن ّ‬
‫ثمر ِه إذا أ َ‬
‫َثمر‪( ‬األنعام‬ ‫فعل ما وتعزيزه‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬انظروا إلى ِ‬
‫‪.)6/99‬‬
‫وهذا األسلوب وما يتبعه يؤكد مفهوم االنزياح الداللي‪ ،‬واللغوي‪ ،‬ومن ثم‬
‫يثبت أن النفس البشرية مولعة بالتجديد واالستبدال؛ بمثل ما ترتاح إلى استمرار‬

‫‪- 115 -‬‬


‫بعض الدالئل والقيم‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ الدوام واالستمرار‪:‬‬
‫وهذا األسلوب متعلق بالمتكلم والمخاطب على السواء‪ ،‬وفيه تكمن جمالية‬
‫بالغية خاصة ومثيرة‪ .‬فهو طلب أمر على سبيل الترغيب في االستمرار بالشيء‬
‫ودوامه لدى المتكلم أو المخاطب؛ كقوله تعالى‪ :‬اهدنا الصراط المستقيم‪( ‬الفاتحة‬
‫آمنوا باهلل ورسوله‪( ‬النساء ‪ .)4/126‬فاآلية‬‫‪)1/6‬؛ وقوله‪ :‬يا أيها الذين آمُنوا ِ‬
‫َ‬
‫ليثبت‬
‫ُ‬ ‫األولى تدل على أمر يفيد الدوام لدى المتكلم بينما الثانية موجهة للمخاطب‬
‫على اإليمان باهلل ورسوله‪ .‬وهو نظير النهي الدال على االستمرار‪ ،‬ولكنه معاكس‬
‫لـه في الداللة‪ .‬فجمالية الفعل الممتد في الزمن تكتسب حيويتها من قيم الخير‬
‫باعتبارها أجزاء من علم الجمال‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ التعجب‪:‬‬
‫َّب‪ ،‬ويكون الستعظام ٍ‬
‫أمر ما ظهر المزية‪.‬‬ ‫التعجب مصدر‪ ،‬وفعله تعج َ‬
‫وهذا النمط يظهر من السياق بصيغ األمر المعروفة كقوله تعالى‪ :‬انظر كيف‬
‫ص ِدفُون‪( ‬األنعام ‪ ..)6/46‬ويستعمل بصيغ التعجب‬ ‫ف اآليات ثم ُه ْم َي ْ‬
‫ص ِّر ُ‬
‫ُن َ‬
‫المخصصة بفعل األمر وإ ن كانت داللته للمضي‪ ،‬ويعرب إعراب الفعل‬
‫ع بهم‪( ‬مريم ‪ )19/38‬وقول كعب‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الماضي‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬أَسم ْ‬
‫صح َم ْقبو ُل‬ ‫ان ُّ‬
‫الن َ‬ ‫ولو َّ‬
‫موعودها َ‬
‫َ‬ ‫َح ِس ْن بها ُخلَّ ًة لو َّأنها َ‬
‫صدقَ ْت‬ ‫أْ‬
‫فالتعجُّب يقع في نفس المتكلم من صفة ما في المخاطب‪ ،‬فيلجأ إلى أسلوب‬
‫األمر للداللة على استعظامه لتلك الصفة‪ ،‬لذا تتحقق فيه جمالية اإلثارة للوصول‬
‫إلى اللذة الفكرية والنفسية‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ التلهيف والتحسُّر‪:‬‬


‫التلهيف يتعلق بالمخاطب ال المتكلم‪ ،‬بعكس التلهُّف‪ ...‬وهذا ضرب آخر‬
‫من األمر المجازي الذي يفيد التلهف عند المخاطب والتحسر لديه‪ ،‬بينما المتكلم‬
‫يكون في حالة من الزهو واالستعالء؛ كقوله تعالى‪ :‬موتوا بغيظم‪( ‬آل عمران‬
‫‪ ،)3/119‬وكقول جرير‪:‬‬

‫ض ُر‬ ‫بطن ٍ‬
‫واد دونه ُم َ‬ ‫لن تقطعوا َ‬ ‫غماً في جزيرتكم‬
‫موتوا من الغيظ ّ‬
‫فاألسلوب البالغي (هنا) ليس مجرد انزياح تركيبي وداللي؛ وإ نما هو ـ أيضاً‬

‫‪- 116 -‬‬


‫ـ انبثاق عاطفي متوتر ومتحفز يؤديه السياق البالغي واللغوي‪ ،‬وهذا هي الجمالية‬
‫التي يتفرد بها‪.‬‬

‫‪ 12‬ـ التهكُّم والسخرية واالستهزاء‪:‬‬


‫أسلوب بالغي مجازي يأخذ داللته من فعل المخاطب‪ ،‬في استقباح نتائجه‪،‬‬
‫والتذمر منه‪ ...‬فهو نمط من األساليب غير المباشرة في التعبير‪ .‬وكثر وروده‬
‫في القرآن الكريم وأبرزه الزمخشري بشكل جيد(‪ .)11‬ويتوجه فيه المتكلم إلى‬
‫المدعي‪...‬؛ كقوله تعالى‪:‬‬ ‫السامع أو المخاطب الغافل أو المعاند والمكابر أو َّ‬
‫الموت إن كنتم صادقين‪( ‬آل عمران ‪ .)3/167‬فاهلل‬ ‫َ‬ ‫‪‬قل‪ :‬فادرؤوا عن ِ‬
‫أنفسكم‬
‫تعالى يتهكم ويهزأ من أولئك الذين قالوا‪ :‬لو أطاعونا ما قُتلوا‪ ...‬في اآلية نفسها؛‬
‫فجاء أسلوب األمر َلي ْن َعى عليهم موقفهم وكالمهم؛ وعليه قول أبي نواس‪:‬‬

‫َم ُّن َك المعروف ِم ْن َك َد ِر ْه‬ ‫علي يداً‬ ‫ِ‬


‫فامض ال تَ ْم ُنن َّ‬
‫فالجمالية التي يتوخاها إنما تكمن في تحسين السلوك الذي يصدر عن‬
‫المعاند‪ ،‬والغافل والمكابر‪ ،‬وكذلك تكمن في الشكل اللغوي‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ اإلهانة والتحقير‪:‬‬


‫الفعاليات النفسية العالية عند المتكلم مفيداً مما لدى‬ ‫هذا أسلوب يستند إلى ّ‬
‫المخاطب من أوضاع ُم ْز رية في بعض الحاالت‪ ،‬فيشتد التألم منه ويحس بالقبح‬
‫يتجلى في سلوكه‪ .‬لذا فهو أعلى شأناً في التأثير‪ ،‬وأعظم زراية من النمط‬
‫السابق وأقل درجة من التبكيت؛ كقوله تعالى‪ :‬أَْلقُوا ما أنتم ُمْلقون‪( ‬يونس‬
‫َّح رة صغير الشأن حقير أمام ما يملكه موسى (عليه السالم)‬ ‫‪ .)10/80‬فعمل الس َ‬
‫وكقولـه‪ُ  :‬ذ ْق َّإنك َ‬
‫أنت العزيز الكريم‪( ‬الدخان ‪ ..)44/49‬فاألمر في ( ُذق) لم يكتف‪0‬‬
‫باالستهزاء‪ 0‬وإ نما وصل إلى مرتبة التقريع ِ‬
‫واإلهانة لذلك الكافر الذي لم يرتدع ولم يؤمن بأنه سيبعث‪ 0‬في‬
‫اآلخرة‪ ...‬وعليه قول جرير في هجاء الراعي النميري؛ إذ يحقر منزلته ومنزلة قومه‪:‬‬

‫فال َك ْعباً بل َغ ْت وال ِكالبا‬ ‫ض الطَّ ْر َ‬


‫ف َّإن َك من ُن َم ْي ٍر‬ ‫ف ُغ َّ‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫تطيق لـه ِعنادا‬
‫ُ‬ ‫فع ِان ْد َم ْن‬
‫َ‬ ‫تكب ُر أن تُصادا‬
‫العنقاء ُ‬
‫َ‬ ‫أرى‬
‫‪ 14‬ـ التبكيت أو التوبيخ‪ :‬التبكيت ُمشاكل للتوبيخ في الداللة‪ ،‬ولهما مرتبة‬
‫واحدة تقريباً‪...‬‬
‫وي َع ُّد في المرتبة العليا‬
‫وهو أسلوب في التقريع القاسي والذم الشديد الوطء؛ ُ‬

‫‪- 117 -‬‬


‫من التجريح بالمخاطب كقولـه تعالى‪ :‬كونوا قردة خاسئين‪( ‬األعراف‬
‫ص َّورهُ اهلل على هذه الهيئة المذلة‪،‬‬
‫‪ .)7/166‬إنه نوع من إذالل المخاطب عندما َ‬
‫وكذلك قوله تعالى‪ :‬كونوا حجارةً أو حديداً‪( ‬اإلسراء ‪ .)17/50‬فلما استبعد‬
‫الكفار بعثهم من جديد بعد أن تصبح عظامهم رفاتاً جاء التبكيت لهم‪ ،‬وتوبيخهم بأن‬
‫يبقوا على هذه الصورة المزرية‪ ...‬وأحسن الزمخشري في إبرازه‪ )12( ،‬أيما‬
‫إحسان‪.‬‬
‫وهذا النمط في أسلوب األمر أطلق عليه ابن فارس (التكوين)؛ ونحن نرى أن التكوين غير هذا؛‬
‫َعم مما ورد هنا(‪ .)13‬وعليه قول الحطيئة في هجاء الزبرقان بن بدر‪:‬‬
‫فالتكوين أشمل بكثير‪ 0‬وأ ّ‬
‫الطاعم الكاسي‬
‫ُ‬ ‫واقع ْد فإن َك أَ ْن َت‬
‫ُ‬ ‫رح ْل ُلب ْغيتها‬
‫المكارم ال تَ َ‬
‫َ‬ ‫َد ِع‬
‫فهذا أسلوب غاية في اإلقذاع والتوبيخ والتبكيت‪ ،‬فليس المهجو بقادر على‬
‫فعل شيء من المكارم؛ إذ ال يقدر إال أن يأكل وينام‪ ...‬وهو معنى يلوح للمبدع‬
‫ومن ثم يتلقاه القارئ وفق اإليحاء الذي بني عليه‪ ،‬ويؤيده السياق اللغوي‪.‬‬
‫والجوهر الجمالي يكمن في الهدف الظاهري والباطني على السواء؛ ألن الصورة‬
‫تجمع بين العام والخاص‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ التكذيب مع التحدي‪:‬‬


‫وي ْفهم تكذيب المخاطب من‬ ‫يتّجه هذا النمط إلى التكذيب مع التقريع‪ُ ،‬‬
‫السياق في أغلب األحيان؛ كقوله تعالى في خطابه للمالئكة الذين كانوا يظنون‬
‫هؤالء إن كنتم صادقين‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بأسماء‬ ‫أنهم أحق باالستخالف في األرض‪ :‬أَنبئوني‬
‫ووبخهم على كذبهم الذي يخفونه؛‬ ‫(البقرة ‪)2/31‬؛ وقَ َّرع اهلل بني ِإسرائيل ّ‬
‫الموت ِإ ْن كنتم صادقين‪‬‬
‫َ‬ ‫فيزعمون أنهم يؤمنون باآلخرة فقال سبحانه‪َّ  :‬‬
‫فتمنوا‬
‫األمنية‪ ،‬ولن يفعلوا؛ لكفرهم‬
‫ّ‬ ‫(البقرة ‪ .)2/94‬فاألمر هنا يتجه إلى مجرد‬
‫وج َّل‪ :‬ولن َيتَ ُّ‬
‫منوه أبداً بما قَ َّدمت أيديهم‪( ‬البقرة ‪ )2/95‬وقال‬ ‫وعنادهم كما قال َع َّز َ‬
‫الفرزدق‪:‬‬
‫أولئك آبائي فج ْئني ِ‬
‫بمثْل ِه ْم‬
‫جرير المجامعُ‬
‫ُ‬ ‫جمعتْنا يا‬
‫إذا َ‬
‫فهذا النمط البالغي يجمع بين التفرد الذي يتصف به المخاطب وبين صورة‬
‫تعميم فعله على كل من ماثله؛ ليصبح أنموذجاً لالعتبار‪ ...‬ومن هنا تنبع جمالية‬
‫هذا األسلوب المجازي؛ ومثله األسلوب اآلتي‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫‪ 16‬ـ النصح وإلرشاد‪:‬‬
‫هو طلب ما‪ ،‬ال إلزام فيه؛ وإِ نما يرمي فيه المتكلم إلى التوجيه والتأديب؛‬
‫ع ما يريبك إلى ما ال يريبك) وكقوله تعالى‪ :‬خذِ‬
‫(د ْ َ ْ ُ‬
‫مما يليك) ونحو َ‬ ‫نحو ( ُك ْل ّ‬
‫َع ِرض عن الجاهلين‪( ‬األعراف ‪ )7/199‬فاهلل سبحانه يخاطب‬‫بالع ْرف وأ ْ‬
‫وأم ْر ُ‬
‫العفو ُ‬
‫رسوله بأن يأخذ الناس باللطف والرقة والعفو عن المذنبين‪ ،‬واألخذ بأحسن األفعال؛ وأال يكافئ الجهلة‬
‫بمثل أفعالهم‪ ...‬وكقول الشاعر‪:‬‬

‫س ِب‬ ‫محمودهُ عن َّ‬


‫الن َ‬ ‫ُ‬ ‫غنيك‬
‫ُي َ‬ ‫واكتسب أ ََدبا‬
‫ْ‬ ‫ابن َم ْن ِش ْئ َت‬
‫كن َ‬
‫وقال المتنبي في مدح سيف الدولة يبين فيه للناس كيف يقتدون به في محاربة األعداء‪:‬‬
‫الب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َرا َك فليكن الط ُ‬
‫وم ْث ُل ُ‬ ‫طلب األعادي‬
‫كذا فليس ْر َم ْن َ‬
‫وقال أبو العتاهية يوجه النصح إلى كل من تولى أمراً بأن يكون رفيقاً بالناس‪:‬‬
‫وار َغ ْب بنفسك عن ر َدى اللذ ِ‬
‫ّات‬ ‫جناح َك إن ُم ِن ْحت إمارةً‬ ‫ض‬ ‫ِ‬
‫واخف ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال الشاعر ينصح بأخذ الحذر من الناس‪ ،‬وعدم االنخداع باملظاهر‪:‬‬
‫وال َي ُغُّر َك منهم ثَ ْغر م ْب ِ‬
‫تسم‬ ‫وكن على َح ٍ‬
‫ذر للناس تستُُره‬ ‫ْ‬
‫ُ ُ‬
‫فجمالية هذا الشكل الفني البالغي تتركز في التخصيص النوعي للفعل‬
‫المطلوب اتباعه‪.‬‬

‫‪ 17‬ـ التفويض والتسليم‪:‬‬


‫قد يشتبه هذا األسلوب باإلباحة لشدة تقاربهما‪ ،‬بيد أن التفويض؛ على ما فيه‬
‫من إثارة؛ يقوم على ضوابط مع المخاطب؛ ولو فُّوض بأمر من األمور؛ أو ُسلِّم لـه‬
‫قاض‪( ‬طه ‪)20/72‬‬ ‫فاقض ما أنت ٍ‬ ‫بت فيه؛ كقوله تعالى‪ِ  :‬‬
‫بالحكم ليفعله؛ أو ُلي َّ‬
‫َن أفيضوا علينا من ِ‬
‫الماء‬ ‫افعل ما تُ ْؤ َمر‪( ‬الصافات ‪ .)37/102‬وقوله‪ :‬أ ْ‬
‫وقوله‪ْ  :‬‬
‫أو مما رزقكم اهلل‪( ‬األعراف ‪ .)7/50‬فهذا األسلوب يستند إلى احترام المخاطب‬
‫وإ كرامه في حرية الفعل‪ 0...‬لكنه ِف ْعل ليس على أساس التخيير بين أمرين‪ ،‬وال هو‬
‫إباحة بالمطلق؛ وال هو مجرد محاكاة سطحية‪ ...‬بل هو ُم َك ِّو ٌن دقيق للفعل كما يدل‬
‫عليه دقة التركيب وجودته‪.‬‬

‫المشُورة‪:‬‬
‫‪ 18‬ـ َ‬
‫وهذا نوع آخر من البالغة الطريفة ألسلوب األمر الذي يجعل فيه المتكلم‬
‫مخاطبه مشاركاً لـه في الرأي‪ ،‬ويطلب إليه النصح أو المشورة‪ ...‬وال يلزمه‬

‫‪- 119 -‬‬


‫بإنفاذهما‪ ...‬فهو حر باإلجابة كقوله تعالى‪ :‬فانظر ماذا َترى‪( ‬الصافات‬
‫‪ )37/102‬فإسماعيل (عليه السالم) ترك الرأي ألبيه ليرى فيه الحكم الفَصل؛‬
‫فهو أعلم بما يفعله‪ ...‬وقوله‪ :‬واألَمر ِإ ِ‬
‫ليك فانظري ماذا تأمرين‪( ‬النمل ‪.)27/33‬‬
‫ُْ‬
‫وقال طرفة بن العبد (الديوان ‪:)167‬‬

‫ص ِه‬
‫فشاور لبيباً؛ وال تَع ِ‬
‫ْ‬ ‫ِْ‬ ‫عليك التَوى‬
‫َ‬ ‫ناب أ َْم ٍر‬
‫وإ ْن ُ‬
‫‪ 19‬ـ التكوين واإليجاد‪:‬‬
‫نوع من الطلب على غير جهة اإللزام يصور فيه المتكلم كيفية التكوين أو‬
‫إيجاد الشيء أو حدوثه‪ .‬وأطلق عليه الزمخشري تصوير كيفية وقوع الحدث‬
‫(‪ .)12‬ولعل ما أثبتناه أكثر تعميماً وإ ثارة في صيغة األمر‪ ...‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫فإنما يقول له‪ُ :‬ك ْن فيكون‪( ‬البقرة ‪ )2/117‬ونحو هذه اآلية في‬
‫‪‬وإ ذا قضى أ َْمراً ّ‬
‫(آل عمران ‪ 3/47‬ومريم ‪ 19/35‬وغافر ‪ )40/68‬وقوله‪ :‬إنما أ َْم ُرهُ إذا أراد‬
‫شيئاً أن يقول له‪ :‬كن فيكون‪( ‬يس ‪.)36/82‬‬
‫فالتكوين في أسلوب األمر (هنا) يغاير ما ذهب إليه ابن فارس في التبكيت أو‬
‫التوبيخ الذي سبقت الكلمة فيه‪ .‬فجمالية األسلوب وداللته تعتمد على الطريقة أو‬
‫اآللية في إحداث الشيء وتجسيده بصورة الفتة للنظر‪ .‬فالصورة الجمالية المميزة‬
‫السامع في تكوين جديد للخلق والصنع ال يعرفه في واقعه‬
‫َ‬ ‫لهذا األسلوب تدخل‬
‫المحسوس‪ .‬وحين يتوقف علم الجمال في بعض اتجاهاته عند الصورة؛ فإن هذا‬
‫األسلوب يعبر بكل دقة عن الصورة الجوهرية المنتظمة لعملية التكوين الواعية‪،‬‬
‫والمنطلقة من قدرة المتكلم على إبراز ذلك‪.‬‬

‫‪ 20‬ـ اإلباحة‪:‬‬
‫َحللته لك‪ ،‬وأباح‬
‫الشيء‪ :‬أ ْ‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫اإلباحة مصدر فعله (أباح)‪ .‬ونقول‪ :‬أََب ْحتُ َ‬
‫الشيء‪ :‬أطلقه‪.‬‬
‫والمباح خالف المحظور؛ إذ ُيتْرك لإلنسان أن يفعل ما يشاء‪ .‬وهو أسلوب‬
‫بالغي يدخل في األمر؛ ويشبه ـ نوعاً ما ـ التفويض والتسليم؛ ولكنه يتجه اتجاهاً‬
‫وجهَ األمر يكاد يطمس فيه‪ ...‬وهذا ما يثيرنا‬‫بالغياً أكثر حرية وتنوعاً‪ ...‬بل إن ْ‬
‫األبيض من‬
‫ُ‬ ‫الخيطُ‬
‫َّن لكم َ‬
‫واشربوا حتى يتبي َ‬
‫ُ‬ ‫فنياً في جماليته‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬كلُوا‬
‫الخيط األسود من الفَجر‪( ‬البقرة ‪ .)2/187‬فإذا كان اكتشاف الجمال يتركز في‬
‫اإلدراك السابق على التجربة‪ ،‬فإن هذا النص يقع في صميمه‪ .‬فاهلل سبحانه أمر‬

‫‪- 120 -‬‬


‫عباده بالصوم في أوقات‪ ،‬وأباح لهم الطعام في أوقات وترك لهم الحرية في الطعام‬
‫والشراب إلى وقت معلوم‪.‬‬
‫(ن َدب ـ َي ْن ُدب معناه الدعوة إلى أمر ما‪ ،‬وهو أدخل في‬ ‫ب؛ وفعله َ‬ ‫َّ‬
‫والن ْد ُ‬
‫أسلوب اإلباحة‪ ،‬فأنا حين أحثك على أمر ما ال ألزمك بفعله‪ .‬لهذا فإذا َن َدب‬
‫المخاطب ألمر ما فقد أباح لـه الحرية في اإلجابة؛ كقوله تعالى‪ :‬فإذا‬ ‫َ‬ ‫المتكلم‬
‫ُ‬
‫يت الصالة فانتشروا في األرض‪( ‬الجمعة ‪ )62/10‬وقوله تعالى‪ :‬فإذا‬ ‫ض ِ‬‫قُ ِ‬
‫ط ِع ْمتم فانتشروا‪( ‬األحزاب ‪ .)33/53‬فبعد أن ُندبوا ألمر الصالة في اآلية األولى أباح لهم السعي‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫طعام في منزل الرسول الكريم‬ ‫في األرض وطلب الرزق‪ ،‬أما في اآلية الثانية فبعد أن ُدعي القوم إلى‬
‫أُمروا بالتفرق وعدم المكوث في المكان‪ ...‬وأبيح لهم التوجه إلى حيث يشاؤون‪ ....‬وقال القزويني‪:‬‬
‫"ومن أحسن ما جاء فيه قول ُك َثرِّي ‪:‬‬

‫لدينا‪ ،‬وال َم ْقِل َّي ٌة إِ ْن تَ َقلَّ ِت‬ ‫َح ِسني ال َملُ ْوم ٌة‬ ‫أِ‬
‫َسيئي بنا أَو أ ْ‬
‫مقلية‪ .‬ووجه حسنه إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت‬ ‫أي‪ :‬ال أنت ملومة وال ّ‬
‫لفظ األمر حتى كأنه مطلوب‪ ،‬أي‪ :‬مهما اخترت في حقي من اإلساءة واإلحسان‬
‫راض بن غاية الرضا فعامليني بهما‪ ،‬وانظري هل تتفاوت حالي معك في‬ ‫ٍ‬ ‫فأنا‬
‫الحالين"(‪ .)13‬فالندب أسلوب في األمر ال يستند إلى مبدأ االحتمال ولكن إلى‬
‫اإلباحة‪.‬‬
‫ومثله اإلذْن‪ :‬أ َِذن لـه في الشيء ِإذناً‪ :‬أباحه لـه ليفعله بحريته الكاملة‪ .‬فلو قلنا‬
‫للطارق‪( :‬ادخل) فقد أبحنا لـه الحرية في الدخول‪ ...‬ولو وافقنا الطالب على عمل‬
‫ما وقلنا له‪( :‬افعل ذلك)‪ ...‬ألذنا لـه أن يعمل ما يشاء تاركين لـه الحرية المدركة‬
‫لفعل الشيء‪.‬‬
‫وإ ذا حمل أسلوب اإلباحة شيئاً من التعظيم للمخاطب أطلق عليه (اإلكرام)؛‬
‫ف؛ كأن نبيح للقوم الدخول في حكم ُي ْج َزون به ُح ْسناً‪ ،‬كقوله‬
‫شر َ‬
‫وفعله أكرم‪ :‬أي َّ‬
‫تعالى‪ :‬ادخلوها بسالم آمنين‪( ‬الحجر ‪.)15/46‬‬
‫وكأن اإلكرام قرين (االمتنان) وهو يدخل في اإلباحة (أيضاً) وال ينفصل‬
‫طيباً‪( ‬المائدة ‪ )5/88‬وقوله‪:‬‬
‫عنه‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬وكلوا مما َر َزقكم اهللُ حالالً ّ‬
‫الموت‪( ‬المنافقون ‪.)63/10‬‬
‫ُ‬ ‫أح َدكم‬
‫قبل أَن يأتي َ‬‫‪‬وأَنفقوا مما رزقناكم من ِ‬
‫فجمالية هذا األسلوب تظهر في ثراء الداللة وتنوعها على الرغم من وجود‬
‫الشكل المتماثل في الصياغة‪ .‬وقد الحظنا أن أسلوب اإلباحة أصل ٍ‬
‫معان عدة في‬
‫أسلوب األمر المجازي ومن ثم تجتمع فيه عدة وظائف وأهداف‪ .‬وأول هدف‬
‫يظهر لدينا أنه يحمل صورة التشريع للقوم ‪‬كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط‬

‫‪- 121 -‬‬


‫زيَنتكم عند كل مس ٍ‬
‫جد وكلُوا واشربوا وال‬ ‫األبيض‪ ...‬أو قوله‪ :‬يا بني آدم خذوا ْ‬
‫َْ‬
‫يحب المسرفين‪( ‬األعراف ‪.)7/31‬‬ ‫تُ ْسرفوا َّإنه ال ُّ‬
‫فأساليب األمر جاءت لتبين لإلنسان أن يأخذ نفسه في عباداته وغيرها بأحسن‬
‫هيئة؛ وأباحت لـه التصرف في ذلك وفي اختيار ما يشاء من أطيب الطعام‬
‫والشراب ونهته عن اإلسراف‪ 0...‬فكل طعام أو شراب وصل إلى حد الشره إنما‬
‫هو حرام؛ واألصل فيه التحليل؛ إن لم يكن من مصدر حرام‪ .‬فالوظيفة الخلقية في‬
‫النص القرآني تأخذ طريقها إلى أسلوب األمر‪ ...‬ليصبح نمطاً من التشريع السامي‬ ‫ّ‬
‫المختزن في صميم اإلباحة في األكل والشرب واللباس‪ ...‬ولهذا رأى الزمخشري‬
‫وجه التشريع في اإلباحة‪ ،‬ولم يشر إلى‬
‫غيره مما سبقت كلمتنا فيه‪ ...‬فجاء بقوله تعالى‪ :‬وإ ذا َحلَْلتم فاصطادوا‪( ‬المائدة‬
‫ط ِره عليهم‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬وإ ذا‬
‫‪ )5/2‬وقال‪ :‬فاصطادوا‪ :‬إباحة لالصطياد بعد َخ ْ‬
‫حللتم فال ُجناح عليكم أن تصطادوا)‪.(14‬‬
‫تحول من اتجاه إلى‬
‫ولكن األطر الجمالية ماثلة في سياق التعبير الفني الذي َّ‬
‫التحول كان يقوم على التناسب في بناء الجملة‪ ،‬ودقة تعبيرها عن‬
‫اتجاه؛ وفي هذا ّ‬
‫الجوهر الذي تحمله‪.‬‬
‫فالغايات الوظيفية غايات جمالية فنية في الوقت الذي كانت غايات نفسية‬
‫وخلقية وفكرية‪ 0...‬وقد برزت في امتداد آماد الكالم واتساع مجاله وفق مفهوم‬
‫االنزياح الداللي‪ ،‬وال سيما في البالغة القرآنية‪ .‬وهذا ما جعلنا ُنفرد لبعض‬
‫المفسرين جملة من المعاني التي أبدعوها‪ ،‬كالزمخشري المعتزلي المذهب‪.‬‬

‫‪ 21‬ـ معان أخرى عند الزمخشري‪:‬‬


‫لم يتبع الزمخشري منهج البالغيين في تبويب معاني أَساليب األمر المجازي‬
‫وإ ن اشترك معهم في بعض المعاني التي تناولها في جملة من اآليات القرآنية‬
‫ض ْعفاً واستكانة‬
‫كمعنى التهكم واالستهزاء والتبكيت و التكوين واإلباحة والدعاء َ‬
‫وانتقاماً‪ ...‬والوعيد والتهديد‪ ...‬وذلك مما أشرنا إليه سابقاً‪.‬‬
‫وحين افترق عنهم في بعض المسميات أضاف إليهم وجوهاً بالغية أخرى لم‬
‫استمدها من تأمله لألسلوب القرآني في األمر‪...‬‬
‫ّ‬ ‫يتعرضوا لها‬
‫فقد توقف عند تصوير الحاالت النفسية ِ‬
‫لآلمرين ورأى فيها لطائف بالغية‬
‫مثل‪:‬‬
‫الح ْيرة واالضطراب‪ :‬فقد رأى هذا المعنى في قول أصحاب النار‬
‫‪1‬ـ َ‬
‫‪- 122 -‬‬
‫أن ِأف ْيضوا علينا من ِ‬
‫الماء‪( ‬األعراف ‪ )7/50‬فما‬ ‫ألصحاب الجنة‪ْ  :‬‬
‫هم عليه من َح ْيرة واضطراب والنار تأكل جلودهم جعلهم يطلبون ذلك‬
‫الطلب بعد أن يئسوا من اإلجابة لـه (‪.)15‬‬
‫(ه ْود) في خطابه‪ ،‬فَأتِنا بما‬
‫‪ 2‬ـ اإلنكار واالستبعاد‪ :‬وهو ما ظهر من قوم ُ‬
‫كنت من الصادقين‪( ‬األعراف ‪ )7/70‬قال الزمخشري‪:‬‬ ‫تَ ْع ُدنا إن َ‬
‫"يريدون االستهزاء ألنهم كانوا يعتقدون أن اهلل تعالى ال يرسل إال‬
‫المالئكة"‪ .‬فهم ينكرون أن يبعث اهلل رسوالً بشراً‪ ،‬ويستبعدون‬
‫ذلك(‪.)16‬‬
‫ومن األمور البالغية البديعة التي رآها في أساليب األمر خروج األمر إلى‬
‫(تصوير شرف المأمور وارتفاع منزلته)‪ ...‬وهذا كثير في أسلوب القرآن الكريم(‬
‫ات تجري‬ ‫جن ٍ‬
‫أن لهم َّ‬‫وب ِّشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات‪َّ ،‬‬ ‫‪ ،)17‬كقوله تعالى‪َ  :‬‬
‫من تحتها األنهار‪( ‬البقرة ‪ ...)2/25‬قال الزمخشري‪" :‬فإن قلت‪ :‬من المأمور‬
‫بقوله تعالى‪ :‬وبشر؟ قلت‪ :‬يجوز أن يكون رسول اهلل (‪ ،)‬وأن يكون كل أحد كما‬
‫قال (عليه الصالة والسالم)‪[َ :‬ب ّشر المشائين إلى المساجد في الظُّلَم ُّ‬
‫بالنور التام يوم‬
‫ظ ِمه وفخامة شأنه‬ ‫يؤذن بأن األمر ِلع َ‬
‫َجزل‪ ،‬ألنه ِ‬‫َحسن وأ ْ‬ ‫القيامة]‪ .‬وهذا الوجه أ ْ‬
‫محقوق بأن يبشر به ُّ‬
‫كل من قَ َدر على البِشارة به"(‪.)18‬‬
‫بهذا كله اختلف الزمخشري في زاوية الرؤية لالتجاه البالغي وفق مفهوم‬
‫اآلمر والمأمور وحالتهما النفسية‪ ،‬ومن ثم وفق حالة الداللة في األمر‪ ...‬ولكنه‬
‫مرة‪...‬‬
‫غير َّ‬
‫التقى البالغيين في معاني األمر المجازي التي خرج إليها َ‬
‫وال يمكن لباحث أن يحيط بأساليب األمر المجازية ومعانيها عند دارسيها‬
‫لتعدد الرؤى والمواقف‪ ...‬وكلها تؤكد عظمة أساليب العربية في جماليتها المثيرة‪.‬‬
‫فالوظيفة أياً كان نوعها تغدو مثيرة في عقل المتلقي‪ 0...‬والجمالية لم تعد وحيدة‬
‫االتجاه لديه في معيارية التركيب النحوي‪ ،‬ومن ثم في انزياح اللغة عنها‪ ...‬فكل‬
‫قدمت نفسها في إطار الشروح واإليضاح مرة‪،‬‬ ‫أسلوب من أساليب األمر المجازية ّ‬
‫وفي إطار التعليل مرة أخرى‪ ...‬وهكذا‪...‬‬
‫فالترتيب في األسلوب لم يكن وحيد االتجاه وإ نما يحمل من ثنائية الحركة في‬
‫الفعل ما يوحي به بتموجات الحالة الشعورية والفكرية لآلمر‪ .‬ومن هنا تبين لنا أن‬
‫ماهية اإلباحة في صورة األمر ليست ذات اتجاه واحد في حركة الشعور أو في‬
‫داللة المعنى‪ ...‬فظهرت للتشريع وندبت المأمور ألمر ما‪ ،‬أو اإلذن لـه أو اإلكرام‬
‫أو االمتنان‪ 0...‬بل لعل صور األمر كلها توحي بذلك‪ ،‬وإ ن غلب عليها شكل الجملة‬

‫‪- 123 -‬‬


‫القصيرة واألسلوب الموجز المكثف الداللة بحسب مناسبة المقام كما أكده‬
‫البالغيون العرب‪.‬‬
‫صماء؛ وإ نما‬
‫فجمالية أسلوب األمر أكدت أننا ال نتعامل مع جملة لغوية َّ‬
‫نتعامل مع جملة فاعلة وحيوية في استحضار المعاني المتعددة وبيان وظيفتها‪.‬‬
‫وهذا نفسه الذي قامت عليه الدراسات األسلوبية الحديثة‪ ...‬وكان القدماء قد تنبهوا‬
‫على الجانب الشكلي في النسيج الفني‪ ،‬فالشاعر َّ‬
‫كالنساج الحاذق الذي ُيفَ ّوف َو ْشَيهُ؛‬
‫ثم جاءت البالغة لتوضح ذلك دون أن تنسى القصدية من أي عمل فني(‪0...)19‬‬
‫ويعد عبد القاهر الجرجاني متفرداً في هذا الجانب؛ إذ قلَّبه على وجوه بالغية‬
‫ُّ‬
‫وخي معاني النحو‬ ‫جمالية الفتة للنظر ليثبت مفهومه لنظرية النظم التي تهدف إلى تَ ّ‬
‫تهدى في األصباغ التي عمل منها الصورة‬ ‫كما في قوله‪" :‬فكما أنك ترى الرجل قد َّ‬
‫والتدبر في أنفس األصباغ وفي‬ ‫ّ‬ ‫ض ْرب من التخير‬
‫والنقش في ثوبه الذي نسج إلى َ‬
‫مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيب إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه‪،‬‬
‫فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب كذلك حال الشاعر والشاعر في‬
‫توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول (النظم)"(‪.)20‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫‪ 2‬ـ أسلوب النَّهْي وبالغته وجمالياته‬

‫توطئة‪ :‬مفهوم النهي‪:‬‬


‫يقع النهي بعد األمر في الطلب‪ ،‬ويتفق معه من جهة االستعالء وارتباطه‬
‫النهي‪ ،‬فاآلمر أو الناهي ال‬ ‫بالمخاطب‪ ،‬وإ رادة المتكلم الفاعل للمعنى على معنى َّ‬
‫يوجه األمر أو النهي إلى نفسه إال على جهة المجاز‪ ..‬ويختلف عنه بالصيغة‪،‬‬
‫فللنهي صيغة وحيدة؛ وهي الفعل المضارع المقترن بال الناهية؛ نحو (ال تكذب)‬
‫بينما كان لألمر صيغ أربع‪ 0...‬ويشتمل األمر على توافر إرادة اآلمر‪ ،‬بينما يحتوي‬
‫النهي على كراهية م ْنهي ِ‬
‫ِّه(‪ .)21‬فالنهي‪ :‬خالف األمر (نهاه‪ ،‬ينهاه‪َ ،‬ن ْهياً؛ فانتهى‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ‬
‫شيء ما من المخاطب على جهة‬ ‫الكف عن فعل ٍ‬
‫طلب ِّ‬ ‫وتناهى)‪َّ 0:‬‬
‫كف‪ .‬إذن؛ فالنهي ُ‬
‫الحقيقة أو المجاز‪ ...‬ومن هنا فأسلوب النهي يقسم إلى قسمين الحقيقي‬
‫والمجازي‪...‬‬

‫القسم األول‪ :‬النهي الحقيقي‪:‬‬


‫ف عن ٍ‬
‫شيء ما على جهة االستعالء من األعلى إلى األدنى لتنفيذه‬ ‫طلب ال َك ِّ‬
‫على وجه اإللزام واإليجاب‪...‬‬
‫وهذه الصيغة من النهي تفيد تشريعاً ما في النواهي االعتقادية الدينية خاصة‬
‫والنواهي الدنيوية عامة؛ أو تشديد الرغبة في وقوع فعل على هيئة معينة كما‬
‫انتهى إليه الزمخشري‪.‬‬

‫َحٍد منهم َ‬
‫مات أبداً‬ ‫ص ِّل على أ َ‬‫ومن ذلك خطابه تعالى للرسول الكريم‪ :‬وال تُ َ‬
‫وال تَقُ ْم على قَْبره‪( ‬التوبة ‪ .)9/84‬فاهلل‪-‬سبحانه‪ -‬ينهى رسوله الكريم عن أن‬
‫يصلي على الكافرين والمنافقين‪ ...‬بينما يبين كيفية هيئة الصالة بشكل محدد في‬
‫وابتغ ْبي َن ذلك سبيالً‪( ‬اإلسراء‬
‫ِ‬ ‫خافت بها‬
‫بصالتك وال تُ ْ‬
‫َ‬ ‫قوله تعالى‪ :‬وال تجهَ ْر‬

‫‪- 125 -‬‬


‫‪ .)17/110‬فليس المنهي عنه هو الصالة؛ ّإنما المنهي عنه أن يصليها بجهارة‬
‫الصوت أو بخفوته‪ .‬ومنه قوله‪ :‬وال تقربوا الصالة وأنتم ُسكارى‪( ‬النساء‬
‫آمنوا ال تتخذوا بطانةً‬‫‪ .)4/43‬ومن النواهي الدنيوية قوله تعالى‪ :‬يا أيُّها الذين ُ‬
‫من دونكم ال َي ْألُونكم َخباالً‪( ‬آل عمران ‪ .)3/118‬فاهلل ينهى اإلنسان عن أن يتّخذ‬
‫بطانةً لـه ليس قادرة على ُنصحه؛ وإ ن كانت من جنسه وملته‪ ...‬وكذلك قوله‪:‬‬
‫‪‬وال تقربوا مال اليتيم إال بالتي هي أحسن‪( ‬األنعام ‪ )6/152‬وقوله‪ :‬وال تُ ْفسدوا‬
‫تب‬
‫في األرض بعد إصالحها‪( ‬األعراف ‪ )7/85‬وقوله‪ :‬وال تجسَّسوا وال َي ْغ ْ‬
‫بعضكم بعضاً‪( ‬الحجرات ‪.)49/12‬‬
‫وهذا كله يؤكد أن أسلوب النهي ال يتصل بالبالغة العربية وحدها وإ نما يتصل بالقرآن وعلومه‬
‫وبالفقه وأصوله‪ ...‬وقد َم َّدت جسورها لتصل فيما بينها وبين النحو وعلوم البالغة‪ ...‬وحين استنبط‬
‫الباحثون واألحكام الزاخرة في الجملة من جهة علم من علوم القرآن أو غيره لم يكتفوا بالحكم على‬
‫مستوى التركيب الظاهري وإ نما غاصوا وراء ما يختزنه األسلوب اللغوي فخرج من األسلوب المباشر‬
‫الذي يقوم عليه النهي الحقيقي إلى األسلوب غير المباشر في النهي المجازي‪ .‬فاألسلوب البالغي ينقل‬
‫الشيء من حال إلى حال كما هو في قول بشار بن برد‪:‬‬
‫ِ‬
‫للقوادم‬ ‫الخوافي قَُّوةٌ‬
‫فإن َ‬
‫َّ‬ ‫عليك َغضاض ًة‬
‫َ‬ ‫الش ْورى‬ ‫وال تَ ْج ِ‬
‫عل ُّ‬
‫الح ْزم ليس ِ‬
‫بنائم‬ ‫َن ُؤوماً فإن َ َ‬ ‫و َخ ِّل ُ‬
‫اله َو ْينى للضَّعيف وال ت ُك ْن‬
‫وض ْعف وعدم خبرة‪ ...‬ومن هنا ساقها بشار‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫وم ْنقصة وخسَّة َ‬ ‫فالغضاضة ذلة َ‬
‫في إطار سياقي إيجابي ال في اإلطار السلبي الذي تحمله اللغة لها‪ ...‬حين قدم‬
‫النهي عليها بكلمة (ال تجعل)‪ .‬وبهذا رفع التعسف واإلكراه عنها وعن كلمة‬ ‫َّ‬
‫(الشورى) التي تتضمن الموقف المطلوب‪ 0...‬ورفع من نفس المخاطب التردد‬
‫والخوف من إقدامه على المشورة‪ ...‬ولم يكتف بذلك بل جاء بجملة تقريرية‬
‫تعليلية بعدها؛ وكأن هذه الجملة بمنزلة البرهان على الحكم الذي تضمنه النهي (ال‬
‫تجعل)‪ 0...‬وبهذا أكد اإلقدام على استشارة ذوي الرأي والحكمة‪ 0...‬فالطيران ال‬
‫يتحقق إال بتعاون بين ريش القوادم وريش الخوافي‪ 0....‬وفي هذا األسلوب البديع‬
‫من النهي الحقيقي يقف بشار كالنسر األشم ليلقي بحكمته وخبرته‪ ...‬وليوضح‬
‫للناس بيان مساوئ االستبداد بالرأي‪ ...‬فكأن االستبداد بالرأي يماثل في المعنى ما‬
‫تشير إليه كلمة (غضاضة)‪...‬‬
‫وبهذا ندرك أن أسلوب النهي وإ ن استعمل في المعنى الحقيقي ال يقتصر على‬
‫الداللة النحوية المباشرة‪ ،‬أو المعيارية اللغوية لترتيب الجملة وما تفرضه على‬
‫المتلقي من تناولها الداللي القريب‪ .‬فالترتيب اللغوي للتركيب النحوي وسيلة‬

‫‪- 126 -‬‬


‫إيجابية لفهم المعنى المباشر‪ 0...‬ولكن المتلقي إذا وقف عنده أذهب بهاء الجمال‬
‫الفني والبالغي الذي تنطوي عليه أساليب النهي أو غيره‪ ...‬فال بد من استحضار‬
‫الغاية األبعد من البنية المباشرة ألسلوب النهي‪ 0...‬وهذا ما يتضح لنا من أساليب‬
‫النهي المجازي‪.‬‬
‫فمن يتأملها ويستقر بها واحداً واحداً وينظر إلى مواقعها في عملية الصياغة‬
‫الجمالية فسيجد فيها من اللطف والظَّ ْرف ما يجعلها كالقالدة في الجيد‪ .‬فأسلوب‬
‫النهي عامة والمجازي خاصة لـه من سحر الجمال ما تقصر العبارة عن أداء حقه‪،‬‬
‫والمعول عليه أن تراجعه النفس وتتأمل فضاءاته‪ ،‬وال سيما أن القدماء قد توسعوا‬
‫فيه‪ .‬فوراء ذلك حشد عظيم من الرؤى الفكرية والفنية التي تكاملت مع األشكال‬
‫الجمالية لتحقق نمطاً من اإلبداع األخاذ‪ ...‬وهو إبداع يؤكد أنه لم ينضج دفعة‬
‫واحدة وإ نما تعاقبت عليه أزمان وعقول وأفكار حتى وصل إلى هذا الطراز الرفيع‬
‫من الكالم؛ طراز لم يكتف بما يحمله من أساليب فريدة‪ ،‬وآراء مخترعة‪،‬‬
‫وجماليات مثيرة؛ وإ نما كان سباقاً ـ أيضاً ـ إلى إبداع مصطلحات بالغية وأسلوبية‬
‫ونقدية قدمت للنقد الحديث ومدارسه الكثير من الخدمات التي يتطاول بها كل‬
‫مخلص لتراثه‪ ....‬فالتشكيل الجمالي النقدي ثم التشكيل االصطالحي إنما يميز‬
‫مذاهب البالغيين القدامى من العرب في اإلنشاء وغيره؛ حقيقة ومجازاً؛ وهو في‬
‫المجاز أكثر إثارة كما يأتي‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬النهي المجازي‪:‬‬


‫الكف عن شيء ال على سبيل االستعالء‪ ،‬بل على سبيل المجاز ممن‬ ‫هو طلب ّ‬
‫هو أعلى مكانة من المتكلم‪ ،‬أو ممن هو أقل شأناً منه ألمر بالغي‪0...‬‬
‫وقد عرض السكاكي أكثر معانيه التي يخرج إليها في كتابه (مفتاح العلوم)‬
‫وكذلك(‪ )22‬قام من جاء بعده‪ .‬فقد توسع البالغيون بأسلوب النهي‪ 0،‬وقلبوا وجوهه‬
‫غنى في أساليبه‬ ‫فكشفوا عن ٍ‬
‫فعالة بما فيه من ً‬ ‫معان داللية كثيرة‪ ،‬فأصبح ذا حيوية ّ‬
‫الجمالية؛ منها‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الدعاء‪:‬ـ‬
‫وهو الرغبة إلى اهلل والتوسل إليه‪ ،‬اسم ومصدر؛ ومثله (الدعوى) وفعله‬
‫دعا ـ يدعو؛ كما يقع بألفاظ دالة عليه‪ .‬ويكون من األدنى إلى األعلى على سبيل‬
‫االستعطاف والرجاء والتوسل والتضرع‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬ربنا ال تؤاخذنا إن‬

‫‪- 127 -‬‬


‫إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َنسينا أو أَخطأنا‪ ،‬ربنا وال تحم ْل علينا ْ‬
‫(البقرة ‪ .)2/286‬وقال النابغة الذبياني يعتذر إلى النعمان؛ ويتوسل إليه للعفو عنه‪:‬‬

‫بالرفَ ِد‬
‫األعداء ِّ‬
‫ُ‬ ‫وإ ْن تأثَّفَ َك‬ ‫لـه‬
‫اء ُ‬ ‫ِ‬
‫بر ْك ٍن ال كفَ َ‬
‫ِ‬
‫ال تَقذفَ ّني ُ‬
‫وقال كعب بن زهير يمدح رسول اهلل؛ ويعتذر إليه‪:‬‬

‫أُذ ِْن ْب ولو َكثَُر ْت َّ‬


‫في األَقاوي ُل‬ ‫َقوال الو ِ‬
‫شاة ولم‬ ‫ال تأخ َذ ّني بأ ِ ُ‬
‫وقال مسلم بن الوليد في الرشيد‪:‬‬
‫أَقَم َت ُقلَّته من بع ِد تَأ ِ‬
‫ْويد‬ ‫اإلسالم من َمِل ٍك‬
‫ِ‬ ‫ال َي ْع ِدم ْن َك ِح َمى‬
‫َْ‬ ‫ْ‬
‫وقال البحتري في مدح اخلليفة‪:‬‬
‫عليك ُم َعادا‬
‫َ‬ ‫أبداً و َن ْو ٍ‬
‫روز‬ ‫رورهُ‬
‫س ُ‬ ‫ٍ‬
‫عيش ي ُكُّر ُ‬ ‫ال تخ ُل من‬
‫فالجمال الفني في هذا المعنى وأمثاله يستند إلى الطاقة الروحية لإلنسان‬
‫وارتقاء صورها الجماعية‪...‬‬

‫‪ 2‬ـ االلتماس‪:‬‬
‫اسم ومصدر‪ ،‬وفعله التمس يلتمس‪ :‬طلب ـ يطلب‪ ،‬ويكون في النهي‬
‫المجازي بأسلوب يدل عليه السياق‪ .‬وهو يقع بين النظراء في المنزلة أو القرابة‬
‫تتوان عن المجيء) وكقوله تعالى‬ ‫َ‬ ‫أو بين األصدقاء وأمثالهم كقولنا لصديق‪( :‬ال‬
‫على لسان هارون يخاطب أخاه موسى‪ :‬يا ْاب َن أ َُّم‪ ،‬ال تأخ ْذ بِِل ْحَيتي وال برأسي‪‬‬
‫(طه ‪ )20/94‬وقول املتنيب‪:‬‬

‫وال تخشيا ُخ ْلفاً لما أنا قائ ُل‬ ‫تريا َو ْدقي فهاتا المخاي ُل‬ ‫ِ‬
‫قفَا َ‬
‫وقال املعري‪:‬‬
‫ير ُم ْغتَ ِ‬
‫فر‬ ‫عني يوم ٍ‬
‫السَّر ِّ‬
‫ب َغ ُ‬
‫ذلك َذ ْن ٌ‬
‫فإن َ‬
‫َّ‬ ‫نائبة‬ ‫َ‬ ‫ال تَ ْطويا ِّ‬
‫وقال ِد ْعبل‪:‬‬
‫ط ْرفي في َدمي اشتركا‬
‫َق ْلبي و َ‬ ‫المتي أَحداً‬
‫ال تأخذا بظُ َ‬
‫‪ 3‬ـ التمني‪:‬‬
‫ويكون لما ال يحصل‪ ،‬ويتوجه فيه أيضاً لما ال َي ْعِقل‪ ،‬كقولنا‪( :‬ال تدوري أيتها األرض) و(ال‬
‫تغيبي‪ 0‬أيتها الكواكب‪ )..‬وكقول اخلنساء‪:‬‬

‫لص ْخر َّ‬


‫الن َدى؟!‬ ‫ِ‬
‫تبكيان َ‬ ‫أَال‬ ‫تجمدا‬
‫َعيني ُجودا وال ُ‬
‫أ َّ‬

‫‪- 128 -‬‬


‫وقول اآلخر‪:‬‬

‫ص ْب ُح‪ِ ،‬ق ْ‬
‫ف ال تَ ْطلع‬ ‫يا ُ‬ ‫وم ُز ْل‬
‫يا لي ُل طُ ْل‪ ،‬يا َن ُ‬
‫وقال أبو نواس في مدح األمني‪:‬‬
‫والر ْك ِن ِس ّي ِ‬
‫ان‬ ‫راح ِت ِه ُّ‬
‫تقبي ُل َ‬ ‫ناق ال تسأمي أو تبلغي ملكاً‬
‫يا ُ‬
‫فاألسلوب البالغي ـ هنا ـ ال يقتصر على المثير اإلنساني أو المثير التاريخي‬
‫واالجتماعي وإ نما يندمج في المثير الطبيعي في إطار الذات الفردية ِل َما تتلقفه‬
‫الحواس من الوسط الطبيعي الذي أضاف إليه الخيال روح المغامرة العقلية‪ ،‬فجمع‬
‫بين المتعة والفائدة؛ وهو سمة الفن الجميل‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ النصح واإلرشاد‪:‬‬


‫يتم هذا للتوجيه في أمر من األمور أو للتنبيه عليه؛ على سبيل النصح‬
‫يأب كاتب أن‬ ‫واإلرشاد؛ ال على سبيل اإللزام واإليجاب؛ كقوله تعالى‪ :‬ال َ‬
‫أشياء إن تُْب َد لكم‬
‫َ‬ ‫يكتب كما علمه اهلل‪( ‬البقرة ‪ )2/282‬وقوله‪ :‬ال تسألوا عن‬
‫تسؤكم‪( ‬المائدة ‪ ،)5/101‬وكقولنا لمن يلتفت في صالته‪( :‬ال تلتفت وأنت في الصالة)‪ ،‬وكقول‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫فتتعب من ِ‬ ‫لزم َّن الناس غير ِ‬
‫ويتعبوا‬
‫ُ‬ ‫طول العتاب‬ ‫َُ‬ ‫طباعهم‬ ‫َ َ‬ ‫فال تُ ِ َ‬
‫وقوله‪:‬‬

‫ق ُخلَّ ُ‬
‫ب‬ ‫َكثر إِ ْي َم ِ‬
‫اض البوار ِ‬ ‫فأ ُ‬ ‫ش ٍة‬
‫س ٍن بشا َ‬ ‫وال تغتَ ِر ْر منهم ُ‬
‫بح ْ‬
‫وقال المتنبي في سيف الدولة‪:‬‬
‫الناس ما أَنا قائ ُل‬ ‫عطي َّن‬ ‫َعط الناس ما أَ ْن َت ِ‬
‫أَخا الجود أ ِ‬
‫َ‬ ‫وال تُ َ‬ ‫مال ٌك‬ ‫َ‬
‫وقال املعري‪:‬‬

‫الحِل ُ‬
‫ف‬ ‫المأثم َ‬
‫َ‬
‫فيدك إالَّ‬
‫فما ُي َ‬ ‫ق وال َك ِذ ٍب‬
‫صد ٍ‬ ‫ال تَ ِ‬
‫حلفَ َّن على ْ‬
‫فاألسلوب البالغي ـ هنا‪ ،‬وفيما يأتي ـ ال يعتمد على مبدأ اإلقصاء والتعالي‬
‫وإ ّنما يهدف إلى وظيفة جمالية أخالقية ترتقي في مكوناتها الفنية واالتصالية‪...‬‬
‫فالجمال ال ينحصر في الشكل الخارجي للصورة البالغية‪ ،‬بل يغوص في‬
‫مضمونها‪ ،‬وهو ما نراه فيما يأتي أيضاً‪0...‬‬

‫‪ 5‬ـ التأديب‪:‬‬
‫هذا َّ‬
‫الضرب شبيه بالسابق لكن الغاية منه إرساء ُخلُق كريم أو النهي عن سلوك سيئ‪ ...‬فغايته‬

‫‪- 129 -‬‬


‫َّ‬
‫تأخذنك في اللص رحمة وال شفقة)؛ وكقول الشاعر‪:‬‬ ‫نصحه؛ كقولنا‪( :‬ال‬
‫تأديب السامع وليس مجرد ْ‬
‫والدهر قد َرفَ َع ْه‬
‫ُ‬ ‫تركع يوماً‬
‫َ‬ ‫الفقير َعلَّ َك أ ْ‬
‫َن‬ ‫َ‬ ‫وال تهي َن َّن‬
‫فالحاجة إلى مثل هذا األسلوب تنبع من الوعي برغبة اإلصالح االجتماعي؛ وعليه قول اآلخر‪:‬‬
‫الشيطان‪ ،‬واهللَ فاعبدا‬ ‫وال ِ‬
‫تعبد‬ ‫تقر ْب َنها‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وإ يا َك والميتات ال َ‬
‫وقال الطُّ ْغرائي‪:‬‬
‫واألسباب‬
‫ُ‬ ‫األدوات‬
‫ُ‬ ‫تتكامل‬ ‫تطمح َّن إلى المراتب قبل أن‬
‫َ‬ ‫ال‬
‫وقال تعالى‪ :‬وال تسرفوا إنه ال يحب المسرفين‪ 0....‬وال تتبعوا خطوات‬
‫الشيطان‪( ‬األنعام ‪ 6/141‬ـ ‪.)142‬‬

‫‪ 6‬ـ استنهاض الهمة والحث على الشيء‪:‬‬


‫الضرب شيء من معاني النصح واإلرشاد‪ ،‬ولكن الغاية منه استنهاض الهمة‬ ‫قد يجتمع في هذا َّ‬
‫على ٍ‬
‫أمر ما‪ ،‬والحث عليه وتجنب‪ 0‬فعل آخر لكراهيته؛ كقول املعري‪:‬‬

‫السفَهاء تُ ْع ِدي‬
‫خالئق ُّ‬
‫َ‬ ‫فإن‬
‫َّ‬ ‫َهل َّ‬
‫الد َنايا‬ ‫تجلس إلى أ ْ‬
‫ْ‬ ‫وال‬
‫وقال اآلخر يستنهض همة قومه وإ رادتهم بعد هزيمتهم في إحدى املعارك‪:‬‬
‫فلرب م ْغ ٍ‬
‫لوب َهوى ثم ارتقى‬ ‫مجدكم‬ ‫ال تيأسوا أن ِ‬
‫تستردُّوا َ‬
‫َّ َ‬
‫فالبعد البالغي في وظائفه االجتماعية والنفسية ينبثق من السياق الداللي غير‬
‫المعزول عن الفضاء والزمن‪ ...‬فعالقة األسلوب باآلخر عالقة الفرد بالجماعة في‬
‫سياق يرنو إلى المثل األرحب اجتماعياً وأخالقياً‪ ،‬وال يحكم بالمناسبة العابرة‪.‬‬
‫ولعل األساليب الثالثة السابقة وبعض األساليب القادمة حتى األسلوب العاشر‬
‫توحي بأنها تلبية لحاجات نفسية وروحية واجتماعية‪ ،‬قبل أن تؤكد اإلحساس باللذة‬
‫الجمالية‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ التيئيس وإحباط الهمم‪:‬‬


‫هكذا عكس المعنى السابق الذي يتجه إليه أسلوب النهي المجازي؛ إذ مهما‬
‫فعل المخاطب من أمر فلن يفيده؛ كقوله تعالى‪ :‬ال تعتذروا قد كفرتم بعد‬
‫إيمانكم‪( ‬التوبة ‪ .)9/66‬فالمنافقون الذين كذبوا بآيات اهلل واستهزؤوا بها‬
‫وبرسوله جاؤوا يوم القيامة وقد حقت بهم كلمة العذاب فشرعوا يعتذرون عما‬
‫فرط منهم فجاء الجواب بالنهي عن ذلك ‪‬ال تعتذروا‪ ‬فقد كنتم تظهرون اإليمان‬
‫وتؤذون الرسول‪ ...‬وعليه قول المتنبي‪ 0‬في مدح سيف الدولة‪:‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫إن الكرام بأسخاهم َيداً ُختموا‬ ‫بن كريماً بع َد ر ْؤ ِ‬
‫يته‬ ‫ال تَ ْطلُ َّ‬
‫ْ ُ‬
‫فالمرء مهما‪ 0‬بذل من جهد ليعثر على رجل جواد غير سيف الدولة فهو عاجز عن ذلك ألن‬
‫الكرماء ُختموا بأكرم واحد فيهم؛ وهو سيف الدولة‪ ...‬وقال الشاعر‪:‬‬
‫ب َن َدى ي َد ْي ِه فلس َت ِم ْن أَ ْن ِ‬
‫داده‬ ‫لج ْعفَ ٍر متشابهاً‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫رض َّن َ‬
‫ال تَ ْع َ‬
‫فالشاعر يخاطب سامعه أال يبذل السعي والجهد ليصل إلى مرتبة َج ْعفر في الجود والكرم؛ فهو‬
‫أقل من ذلك ولن يجني إال الخيبة‪ .‬وعليه قول النابغة في تعيير عامر بن الطفيل بالجهل و وصفه‬
‫بالعجز‪:‬‬

‫باب‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ ِ ِ‬
‫له َّن ُ‬
‫ليس ُ‬
‫من ال ُخ َيالء َ‬ ‫ات‬
‫امي ٌ‬
‫تذهب بح ْلم َك ط َ‬ ‫وال‬

‫‪ 8‬ـ باب عاقبة الشيء‪:‬‬


‫أمر ما كالظلم أو الغفلة أو التقصير أو العناد أو‬ ‫يبين فيه المتكلم عاقبة ٍ‬
‫تحسبن الذين قُتلوا في سبيل‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫النفاق أو الكذب أو الكفر(‪ )23‬كقوله تعالى‪ :‬وال‬
‫اهلل أمواتاً‪( ‬آل عمران ‪ .)3/169‬فالجهاد في سبيل اهلل جزاؤه جنات َع ْدن‬ ‫ِ‬
‫عسى أن َي ْنفَ َعنا أو‬
‫تجري من تحتها األنهار؛ ومثله قوله تعالى‪ :‬وال تقتلُوهُ َ‬
‫نتخ َذهُ ولداً‪( ‬القصص ‪ .)28/9‬فعاقبة عدم قتل موسى كما تقول امرأة فرعون؛ إما أن تتخذه ولدًا‬
‫وإ ما أن تتخذه لمقاصد نفعية‪ .‬وقال النابغة الذبياين‪:‬‬

‫الب ْي َع قَ ْد َز ِر َما‬
‫إن َ‬‫ال تَ ْح ِط َم َّن ِك َّ‬ ‫ت لها وهي تسعى تَ ْح َت لَب َِّتها‬
‫ق ْل ُ‬
‫قوله‪( :‬ال تحطمنك‪ 0)...‬أراد َن ْهي تلك المرأة أن تعدو إلى جانب ناقته لتبيعه‬
‫األَدم؛ إنه ينهاها عما تفعله وإ ال حطمتها ناقته والسيما أن البيع قد انتهى وانقطع‪.‬‬
‫ومن يتأمل هذا المعنى يلحظ مستوى قيمة الوعي المصحوب بعملية التقويم‬
‫الفكري‪ ،‬وهو منبع الجمال ومصدره فيه‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ التهديد واإلنذار والوعيد‪:‬‬


‫ويكون غالباً لكل من يعاند في أمر‪ ،‬أو يخالف فيه قول الحق‪ ،‬وال‬
‫يرتدع‪ ...‬كقولنا للخادم‪( :‬ال تُطع أ َْمري) و(ال تمتثل لـه) و(ال تقلع عن‬
‫َه َل الكتاب ال تَ ْغلُوا في دينكم َغ ْي َر الحق؛‬
‫عنادك)‪ 0...‬وكقولـه تعالى‪ :‬قل‪ :‬يا أ ْ‬
‫وضلُّوا عن سواء‬ ‫َضلوا كثيراً‪َ ،‬‬ ‫ضلوا من قبل وأ َ‬
‫قوم قد ُّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫أهواء ٍ‬ ‫وال تتبعوا‬
‫السبيل‪( ‬المائدة ‪ .)5/77‬وكقوله تعالى‪ :‬وال تعتدوا إن اهلل ال يحب المعتدين‪‬‬
‫(المائدة ‪ .) 5/87‬فمن يتأمل هذه الشواهد يدرك أنها حالة عقلية قبل أن تكون حالة عاطفية انفعالية؛ ما‬
‫يبرز القيمة الجمالية في نسب اتصال الصورة الجمالية بين العقل والعاطفة‪ ،‬وهو ما نراه ـ أيضاً ـ في‬
‫عدد من الشواهد الشعرية؛ كقول النابغة الذبياين‪:‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫هل مثل ِ‬
‫واحدهم من َم ْع ٍ‬
‫شر رج ُل؟!‬ ‫ال تُرهبيني ٍ‬
‫بقوم وانظري نظري‬
‫وقول زهير بن أبي سلمى‪:‬‬
‫الص ِ‬
‫يداء‬ ‫فوارس َّ‬ ‫تقر ُب َّن‬
‫َ‬ ‫ال ُ‬ ‫ت لكم‪:‬‬
‫نهيتكم وق ْل ُ‬
‫ُ‬ ‫ولقد‬
‫وقول المسيب بن زيد مناة‪:‬‬
‫ش ِج ْينا‬
‫وفي َح ْلقكم َع ْظ ٌم وقد َ‬ ‫س َب ْينا‬
‫ال تنكروا القَ ْت َل وقد ُ‬
‫‪ 10‬ـ اللوم والعتاب‪:‬‬
‫هو طلب الكف عن شيء على سبيل اللوم‪ ،‬أو العتاب كقول املتنيب‪:‬‬
‫َن رأَتْ َك ُم ْبتَ ِسما‬
‫أطر َبها أ ْ‬
‫َ‬ ‫لمها على تواقُ ِعها‬
‫فال تَ ْ‬
‫فالنهي فيه تلطف وترفق بالمخاطب‪ ،‬وكذلك قوله‪:‬‬
‫الع َّذ ِال‬ ‫ـا ِ‬
‫ق فيها يا أعذل ُ‬ ‫الع َّ‬
‫شـ‬ ‫أعشق ُ‬
‫ُ‬ ‫تلمني؛ فإنني‬
‫ال ُ‬
‫وعليه قوله تعالى‪ :‬ال يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم‪‬‬
‫(الحجرات ‪.)49/11‬‬
‫ونرى أن هذا األسلوب الجمالي المثير ليس لـه وجود مستقل خارج النفس‬
‫البشرية وموضوعها االجتماعي‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ التحقير وتصغير الشأن‪:‬‬


‫قد يكون المخاطب ذا شأن وجاه فيأتي خطاب النهي لينقص من قدره؛ ويهوي‪ 0‬به إلى الحضيض‬
‫كما هو عليه هجاء المتنبي لكافور اإلخشيدي‪:‬‬
‫تر َ َّ‬
‫ناكيد‬
‫جاس َم ُ‬
‫إن العبيد ألَ ْن ٌ‬
‫َّ‬ ‫مع ُه‬
‫صا َ‬ ‫العبد إِال َ‬
‫والع َ‬ ‫شِ‬
‫ال تَ ْ‬
‫ونحوه ما فعله المتنبي‪ 0‬حين استصغر الشعراء اآلخرين‪ ،‬وخاطب سيف الدولة لكي يرى رأيه‬
‫فيهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ْس َد القو ُل حتى أ ِ‬
‫قد أُف ِ‬ ‫شاعر ِه‬
‫ِ‬ ‫وال تُ ِ ِ‬
‫الص َم ُم‬
‫ُحم َد َّ‬ ‫بال بش ْع ٍر ْ‬
‫بع َد‬
‫وقد يلجأ المتكلم إلى نهي المخاطب عن أمر ما؛ ألنه أصغر من أن يفعل ذلك؛ كقول الشاعر‪:‬‬

‫لن تبل َغ المجد حتَّى تَ ْل َ‬


‫عق ا لصبرا‬ ‫ْ‬ ‫أنت آكلُ ُه‬
‫المجد تَ ْمراً َ‬
‫َ‬ ‫س ِب‬
‫ال تَ ْح َ‬
‫ولعل هذا المعنى يوحي بمدى العالقة بين الجمال والمجتمع‪ ،‬إذ يظهر الجمال‬
‫في صميم العالقة االجتماعية‪.‬‬

‫‪- 132 -‬‬


‫‪ 12‬ـ التوبيخ والتبكيت‪:‬‬
‫هذا النمط يتضمن من المعاني التقريع والحط من القدر بشكل أعظم من‬
‫السابق؛ وأكثر ما يكون المخاطب فيه مدعياً‪ ،‬كاذباً‪ ،‬منافقاً؛ مخادعاً أو ذليالً‪...‬‬
‫الحق بالباطل وتكتموا‬ ‫َّ‬ ‫ويزعم غير الذي هو عليه‪ ...‬كقوله تعالى‪ :‬وال تَْلبِ ُسوا‬
‫يوبخ بني إسرائيل ألنهم جعلوا الشيء‬ ‫الحق وأنتم تعلمون‪( ‬البقرة ‪ .)2/42‬فاهلل ّ‬
‫متشابهاً بغيره حين خلطوا بين الحق المنزل عليهم بالباطل الذي اخترعوه‪ ،‬ومن‬
‫ثم كتموا ما فعلوه حتى ال يميز الناس بينهما‪ ...‬وعليه قوله تعالى‪ :‬وال تَْل ِم ُزوا‬
‫اإليمان‪( ‬الحجرات ‪/49‬‬ ‫وق بعد ِ‬ ‫االسم الفُ ُس ُ‬ ‫بئس‬ ‫أنفسكم وال تَنابزوا باأل ِ‬
‫َلقاب َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫‪ ...)11‬فالنهي هنا وصل إلى درجة تبكيت‪ 0‬كل مؤمن وتقريعه تقريعاً شديداً إن راح يلمز هذا ويلقب‬
‫ذاك بألقاب مؤذية‪ ...‬فقد وصل األمر بخطاب النهي إلى تهجين فعل أولئك القوم‪ .‬ومثله قول أبي األسود‬
‫الدؤلي فيمن يدعو إلى الخير ويفعل الشر‪:‬‬

‫عظيم‬
‫ُ‬ ‫عليك إذا فَع ْل َت‬
‫َ‬ ‫عار‬
‫ٌ‬ ‫وتأتي مثلَه‬ ‫ال تَ ْن َه عن ُخلُ ٍ‬
‫ق‬
‫َ‬
‫ويوبخ المتنبي ذلك الذليل الذي ظهر على غير حقيقته فيقول‪:‬‬
‫روق َدفيناً َجودةُ الكفَ ِن‬
‫وهل َي ُ‬ ‫ض ْيماً حس ُن ِبَّز ِ‬
‫ته‬ ‫عجب َّن م ِ‬
‫ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫ال ُي َ َ‬
‫فجمالية النص ال تكمن في ماهية التجربة‪ ،‬فقط‪ ،‬بل في كونها غدت مادة للتعميم في صورة‬
‫الذليل‪ .‬وقد يصل التقريع والتبكيت بأحد الشعراء إلى أن يقول للمخاطب؛ في صورة التعميم أيضاً‪:‬‬
‫ش مستريحاً ناعم ِ‬
‫البال‬ ‫صعب ِ‬
‫وع ْ‬ ‫ٌ‬ ‫المجد سلَّ ُم ُه‬
‫َ‬ ‫المجد إن‬
‫َ‬ ‫ال تطلب‬
‫فالجمال مرتبط بالحس والتقدير اللذين يمتاز بهما المخاطب‪ ،‬كما يدل عليه‬
‫أسلوب النهي‪...‬‬
‫َ‬
‫‪ 13‬ـ التعجب‪:‬‬
‫قال الزماني‪" :‬المطلوب في التعجب اإلبهام‪ ،‬ألن من شأن الناس أن يتعجبوا‬
‫مما ال يعرف سببه‪ ،‬فكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن"(‪.)24‬‬
‫ولهذا يكشف أسلوب النهي التعجبي عن ٍ‬
‫معان دقيقة تتضمنها صيغته الوحيدة‪ ،‬ما يدل على ثراء‬
‫في الداللة؛ لكثرة ما توحيه منها‪ ...‬فالنهي في قول دعبل الخزاعي يراد منه التعجب؛ في الوقت الذي‬
‫يبرز خصوصية التجربة الجمالية في نظرة الناس إلى الشيب‪:‬‬

‫برأس ِه فبكى‬
‫ض ِح َك المشيب ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫س ْلم من ٍ‬
‫رجل‬ ‫ال تَ ْعجبي يا َ َ‬
‫ولعل ما تقدم في هذا األسلوب وما يأتي من التعجب في األساليب المجازية‬
‫األخرى يبرز َخصائص البالغة العربية باعتبارها وثيقة لغوية فنية شديدة‬
‫االتصال بالحياة والنفس‪.‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫‪ 14‬ـ اإليناس‪:‬‬
‫وب ْعث المودة في‬
‫معنى طريف تختزنه صيغة النهي يدل على األلفة َ‬ ‫هذا‬
‫ً‬
‫النفس بعد الوحشة‪ ،‬أو يكون العكس تماماً‪ ...‬فمن األول قوله تعالى على لسان‬
‫رسوله الكريم يخاطب أبا بكر (‪ :)‬ال تَ ْح َزن إن اهلل معنا‪( ‬التوبة ‪.)9/40‬‬
‫والض يق التي انتابت أبا بكر خشية اكتشاف المشركين لهما‬ ‫ّ‬ ‫فحالة الخوف والقلق‬
‫ُّ‬
‫ويبث فيه السكينة‪ .‬وكذلك أصاب‬ ‫جعلت رسول اهلل (‪ُ )‬يهَدئ نفس صاحبه‬
‫الفزع والخوف لوطاً لما جاءت رسل ربه‪ ،‬فآنسته وأزالت عنه الوحشة قائلة له‪:‬‬
‫َهلَك ِإال امرأَتك كانت من الغابرين‪( ‬العنكبوت‪0‬‬‫وك وأ ْ‬
‫نج َ‬
‫‪‬ال تخف وال تحزن؛ إنا ُم ّ‬
‫‪ ) 29/33‬ومن الثاني قول المتنبي‪ ،‬وفيه يعبر عن وحشته التي ألقت بظاللها على نفسه‪ ،‬ولم يؤانِ ْسه إال‬
‫وحشة ذلك الطلل الذي قتله أهله بفراقهم له‪ ،‬بعد أن عمروه طويالً؛ فقال‪:‬‬

‫حي ِف ْرقكم قَتَلَ ْه‬


‫أ ََّول ٍّ‬ ‫طلَلَ ْه‬
‫حس ُبوا َر ْبع ُك ْم وال َ‬
‫ال تَ َ‬
‫وفيه ِ‬
‫ص ْر ٌم ُم َر َّوج إبلَ ْه‬ ‫وأو َحشنا‬
‫َه ٌل ْ‬
‫خال وفيه أ ْ‬
‫للر ْبع‪ ،‬وبهذا أكد أن‬
‫فالمتنبي جاء بمعنى جديد حين جعل مفارقة الطلل قتالً َّ‬
‫قدم لـه ما لم يكن‬
‫ضج‪ 0...‬ألن المتنبي ّ‬ ‫الجمال أوسع من الفن مهما اتصف ُّ‬
‫بالن ْ‬
‫معروفاً من قبل‪...‬‬

‫‪ 15‬ـ الدوام واالستمرار‪:‬‬


‫قد يتخذ أسلوب النهي سبيالً آخر في المعنى ينتهي إلى تأكيد دوام الشيء‬
‫واستمراره ألمر بالغي يتضمنه السياق فضالً عن معنى الثبات والسيرورة؛ كقوله‬
‫تعالى‪ :‬وال تحسبن اهلل غافالً عما يفعل الظالمون‪( ‬إبراهيم ‪.)14/42‬‬
‫فالخطاب هنا موجه لرسول اهلل ليثبته على ما هو عليه؛ وأنه مطلع بشكل مستمر على كل ٍ‬
‫ظالم‪،‬‬
‫وال تغفل عينه عما يقوم به الكفار‪ ،‬ولكن الكافر يغتر بحلم اهلل وإ مهاله لـه فيستمر بالعناد والظلم‪ .‬لذلك‬
‫تحسب َّن‪ )...‬مفيداً مع السياق داللة الثبات واالستمرار في الفعل المنهي عنه‪ .‬وعليه قول‬
‫َ‬ ‫جاء الفعل (ال‬
‫أبي خراش اهلذيل‪:‬‬

‫ُميم ـ جمي ُل‬


‫ص ْبري ـ يا أ َ‬
‫ولكن َ‬
‫َّ‬ ‫ت َع ْه َدهُ‬
‫اس ْي ُ‬
‫فال تحسبي أَني تََن َ‬
‫فهو ما يزال حزينًا على أخيه الذي فقده‪ ،‬وإ ن ظهر للناس أنه صابر‪ ...‬فحزنه حزن دائم على‬
‫فقيده‪ ...‬ومثله قول النابغة الذبياين‪:‬‬

‫المتضرِم‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫العارض‬ ‫صلِّ َينا في‬
‫تَ َ‬ ‫واذكر ْن‬
‫َ‬ ‫س َي ْن فينا َنصيبك‬
‫ال تَ ْن َ‬
‫فالنابغة ما زال على عهده بما جرى بينه ويبن المخاطب‪ ،‬لذلك يريد أن يثبته مذ ّكراً إياه بذلك‪...‬‬
‫تعود ذوق العالقم‪ ،‬وال يزال صابراً لم يجزع من فراق األحبة على مرارته وشدته‬ ‫أما المتنبي فقد ّ‬

‫‪- 134 -‬‬


‫وديمومته فقال‪:‬‬
‫َّ‬
‫القمه‬
‫الر َدى حتى َحل ْت لي َع ُ‬
‫ت َّ‬‫َر َع ْي ُ‬ ‫فال يتَّ َ‬
‫هم ّني الكاشحون فإنني‬
‫وقال أبو الفتح البستي؛ مبيناً‪ 0‬دوام َجزعه‪ ،‬واستمرار حزنه؛ فال يزيده المخاطب فراقاً آخر‪:‬‬
‫ال تَسته ّل من الفراق شؤوني‬ ‫فال تُ ْج ِزع ّني بالفراق فإنني‬
‫النمط من َّ‬
‫النهي المجازي في‬ ‫وقد أحسن الزمخشري في الحديث عن هذا َّ‬
‫تعليقه على قوله تعالى‪ :‬فال تموتُ َّن إال وأنتم مسلمون‪( ‬البقرة ‪ )2/132‬فقال‪:‬‬
‫(فال تموتن‪ :‬معناه فال يكن موتكم إال على حال كونكم ثابتين على اإلسالم‪ .‬فالنهي‬
‫في الحقيقة عن كونهم على خالف حال اإلسالم إذا ماتوا"(‪ .)25‬وقال تعالى‪ :‬ال‬
‫َي ُغ َّرَّنك تقلُّب الذين كفروا في البالد‪( ‬آل عمران ‪.)3/196‬‬
‫(ال يغرنك) الخطاب لرسول اهلل؛ أي (ال تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في‬
‫األرض وتصرفهم في البالد وكأنهم ثابتون فيها)‪ 0...‬ثم ثبَّت في الوقت نفسه ما هو‬
‫عليه من إيمان وصدق في الدعوة‪ .‬وكقوله‪ :‬وال تكن مع الكافرين‪( ‬هود‬
‫‪ ...)11/42‬وهذا في النهي نظير قوله في األمر ‪‬اهدنا الصراط‬
‫المستقيم‪( ‬الفاتحة ‪ ...)1/6‬وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب وهو في المعنى‬
‫غره الغتر به‬
‫للمخاطب‪ .‬وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب؛ ألن التقلب لو َّ‬
‫فمنع السبب ليمتنع المسبب"(‪.)26‬‬
‫وللزمخشري كالم لطيف في دوام النهي وثباته واستمراره في شكل من‬
‫اإلثارة والتهييج حين فَسَّر بعض آيات القرآن في ضوء ذلك(‪ .)27‬وقد جمع بين‬
‫الدرس الجمالي والفكر الجمالي الذي ينشده األخالقيون‪0...‬‬

‫‪ 16‬ـ النهي عن قبح الفعل وتعميمه‪:‬‬


‫تفرد الزمخشري في هذا األسلوب ثم اختار أَفظع المعاني التي تدل عليه؛ إذ‬
‫رأى أن اغتصاب حق اليتيم من أَشنع األفعال قبحاً كما دل عليه قول تعالى‪:‬‬
‫بالطي ِب‪ ،‬وال تأكلوا أَموالَهم إلى‬
‫ّ‬ ‫الخبيث‬
‫َ‬ ‫تتبدلوا‬
‫‪‬وآتَوا اليتامى أموالهم؛ وال ّ‬
‫أموالهم؛ إنه كان ُح ْوباً كبيراً‪( ‬النساء ‪ .)4/1‬قال الزمخشري‪" :‬أبلغ الكالم ما‬
‫تعددت وجوه إفادته؛ وال شك أن النهي عن األدنى وإ ن أفاد النهي عن األعلى؛ إال‬
‫أن للنهي عن األعلى أيضاً فائدة أخرى جليلة ال تؤخذ من النهي عن األدنى؛ وذلك‬
‫المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد‪ .‬وال شك أن‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫فخصص‬ ‫المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور األكل‪ّ ،‬‬
‫بالنهي تشنيعاً على من يقع فيه حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه‬

‫‪- 135 -‬‬


‫فنعى عليهم فعلهم‬
‫الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى اإلحجام من أكل ماله مطلقاً‪َ ...‬‬
‫وسمع بهم ليكون أزجر لهم"(‪ )28‬والجواب على ذلك؛ بقوله‪ :‬إنه كان حوباً كبيراً‬
‫‪ ‬فالذنب عظيم وكبير‪ ...‬فجمالية هذا األسلوب تكمن في التعبير المعجز الذي‬
‫صور شناعة الفعل القبيح الذي يرتكبه مغتصبو مال اليتيم‪ ...‬وهو تعبير يستجيب‬ ‫ّ‬
‫للحاجة الروحية الجمالية التي يبنيها‪.‬‬

‫‪ 17‬ـ المبالغة في تصوير المنهي عنه‪:‬‬


‫انفرد الزمخشري أيضاً في هذا األسلوب الذي يفيد فيه النهي المبالغة في‬
‫التصوير لتعظيم الحدث وبيان شأنه؛ وعليه قوله تعالى في قراءة (تَ ْسأَل) بالبناء‬
‫َل عن أصحاب الجحيم‪( ‬البقرة ‪ .)2/119‬فهذه القراءة معناها‬ ‫للمعلوم‪ :‬وال تَ ْسأ ْ‬
‫على النهي "روي أنه قال‪ :‬ليت شعري ما فعل أبواي؟ ُفنهي عن السؤال عن‬
‫أَحوال الكفرة واالهتمام بأعداء اهلل‪ ،‬وقيل معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من‬
‫َل عنه‪.‬‬
‫بلية؛ ُفيقال لك‪ :‬ال تَ ْسأ ْ‬
‫العذاب‪ ،‬كما تقول‪ :‬كيف فالن؟ سائالً عن الواقع في ّ‬
‫ووجه التعظيم أن المستخبِر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته‪ ،‬فال‬
‫مستخبر ال تقدر على استماع خبره إليحاشه‬ ‫ُ‬ ‫تسأله وال تكلفه ما يضجره‪ ،‬وأنت يا‬
‫أل"(‪ .)29‬فالزمخشري يشدد على الصيغة اللغوية في‬ ‫السامع وإ ضجاره؛ فال تَ ْس ْ‬
‫قراءة فعل (تسأل) بالبناء للمعلوم؛ ليثبت استجابة النفس البشرية للوفاء بالحاجة‬
‫الجمالية الروحية السامية؛ ما يجعله أحد أبرز الجماليين في استجالء وظيفة جمال‬
‫األسلوب‪.‬‬
‫النهي المجازي؛ وإ ن‬ ‫تلك هي أبرز وجوه المعاني التي خرجت إليها أساليب َّ‬
‫معان أخرى يستطيع أن يقع عليها ذوو السالئق وأصحاب اإلحساس‬ ‫كان هناك ٍ‬
‫المرهف‪ ...‬وكلها أكدت أن اللغة الفنية "متعددة النظم؛ وإ دراكها ال يتم بصورة‬
‫آلية؛ ومستوياتها تحمل معنى ليس معجمياً بالضبط؛ بل [مادة] واسعة من المعاني‬
‫الجمالية‪ 0...‬والثقافية‪ ...‬وهذا يعني أن اللغة في النص األدبي تكون أكثر من مجرد‬
‫حامل محايد للمعنى؛ إذ إنها جزء من المعنى"(‪ .)30‬والشرط األصيل في ذلك أن‬
‫يساق المعنى على أساس من القالب الفني الجمالي ألن الشعر‪ ،‬أو النثر الفني ال‬
‫يطرح منظومة من المعارف والعلوم كما نراه في النثر العلمي‪ ....‬وكذلك نراه في‬
‫الكلمة المعجزة الراقية أدبياً للغة القرآن الكريم‪ .‬فكل ذلك يحقق وظيفة عاطفية‬
‫وفكرية وتربوية و‪ 0...‬وفنية ويدفع العقل الواعي إلى التفكير فيما وراء الصورة‬
‫الفنية؛ وال سيما الصورة الشعرية؛ حتى يغدو الشعر أو النثر الفني بعد لغة القرآن‬

‫‪- 136 -‬‬


‫المعجز ِة معرفةً فيما وراء المعرفة الفنية‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا يمكن أن ندفع بتصور (دوسوسير) للعالمة بوصفها توحيداً‬
‫مدى‪ .‬فاللغة نفسها تبيح للمتلقي أن يؤسس مدلوالت لها‬
‫بين دال ومدلول إلى أبعد ً‬
‫خارج إطار القواعد والمقاصد‬ ‫ٍ‬
‫تمتد إلى ما وراء الواقع في سياق ممارسة‬
‫َ‬
‫المباشرة(‪.)31‬‬
‫فأساليب البالغة في أسلوب النهي تنبع من موقف المتكلم وفق قرائن تشكيلية‬
‫جمالية تتصل بالموقف اإلنساني عن طريق الخاطب والفكرة‪ ...‬وهو تشكيل‬
‫يظهر مثله في أسلوب االستفهام‪...‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫الفصل الثالث ـ‬
‫أسلوب االستفهام وبالغته وجمالياته‬

‫ـ توطئة‬
‫يعد أسلوب االستفهام أحد أساليب اإلنشاء الطلبي في الجملة العربية سواء‬
‫ّ‬
‫كان لهدف محدد ومباشر أم كان لتصور إيحائي جمالي غير مباشر عند المتكلم‪.‬‬
‫فاالستفهام قد ال يبحث فيه المتكلم عن إجابة محددة؛ وإ نما يهدف إلى تصور ما‬
‫يتحدث عنه فيخرجه عن حقيقته إلى مقاصد شتى؛ ويكون بوساطة أدوات سميت‬
‫بأدوات االستفهام‪ ،‬تستعمل في أقسامه‪.‬‬
‫وال مراء في أن أسلوب االستفهام أسلوب لغوي ـ قبل كل شيء ـ وأساسه‬
‫طلب الفهم؛ والفَ ْهم صورة ذهنية تتعلق بشخص ما أو شيء ما‪ ،‬أو بنسبة أو بحكم‬
‫من األحكام على جهة اليقين أو الظن‪ .‬وله قسمان‪ :‬حقيقي ومجازي؛ وكالهما لقي‬
‫عناية البالغيين العرب قديماً وحديثاً(‪ )32‬وتعرضوا ألغراضهما وإ ن لم تجتمع‬
‫متكاملة كما هي لدينا‪.‬‬

‫القسم األول‪ :‬االستفهام الحقيقي‪:‬‬


‫هو طلب العلم بشيء اسماً أو حقيقةً أو صفة أو عدداً لم يكن معلوماً من قبل‪،‬‬
‫أو هو االستخبار الذي قيل فيه‪ :‬طلب خبر ما ليس عند المتكلم‪ ،‬أو هو ما سبق‬
‫أوالً؛ ولم يفهم حق الفهم فطلب فهمه من المخاطب فإذا سئل عنه ثانياً كان‬
‫استفهاماً(‪ .)33‬أي إن المتكلم يطلب من المخاطب أن يحصل لديه فهم دقيق عن‬
‫أمر لم يكن حاصالً قبل سؤاله عنه‪ .‬وقد استعمل البالغيون مصطلح (االستفهام)‬
‫لكليهما معاً في أدوات االستفهام كلها‪ ،‬كما يأتي‪:‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫‪ 1‬ـ الحروف؛ وهي حرفان‪:‬‬
‫أ ـ الهمزة‪:‬‬
‫ُخصَّت بأمور لم تعرف بها بقية أدوات االستفهام وهي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تحذف ولو تقدمت على (أم) أو لم تتقدمها‪ 0،،‬فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة‪:‬‬
‫ِ‬
‫بثمان؟‬ ‫الجمر أم‬
‫َ‬ ‫ِب َ‬
‫س ْب ٍع َر َم ْي َن‬ ‫كنت دارياً‬
‫فو اهلل ما أدري وإ ن ُ‬
‫أراد‪ :‬أَبسبع‪ ...‬ولم تتقدم (أم) في قول الكميت‪:‬‬
‫ب؟‬ ‫الش ْي ِب َ‬
‫يلع ُ‬ ‫وال لَ ِعباً ِّ‬
‫مني؛ وذو َّ‬ ‫رب‬ ‫ش ْوقاً إلى ال ِب ْي ِ‬
‫ض أَ ْط ُ‬ ‫ط ِر ْب ُ‬
‫ت وما َ‬ ‫َ‬
‫أراد‪ :‬أ ََو ذو الشيب يلعب؟‬
‫‪ 2‬ـ تدخل على اإلثبات ـ كما تقدم في األمثلة ـ وعلى النفي كقوله تعالى‪ :‬أَلم‬
‫صدرك‪( ‬االنشراح ‪.)94/1‬‬ ‫لك َ‬
‫َن ْشرح َ‬
‫‪ 3‬ـ تتصدر الهمزة جملتها‪ ،‬بينما تتأخر األدوات األخرى عن حروف العطف‬
‫مثالً‪0...‬‬
‫‪ 4‬ـ تكون الهمزة للتصديق وللتصور‪ ،‬بينما‪( 0‬هل) للتصديق فقط؛ وبقية أدوات االستفهام للتصور؛‬
‫ومن الشواهد على ذلك كله قول عدي بن زيد‪:‬‬

‫الموفور؟!‬
‫ُ‬ ‫الم َبَّرأ‬
‫أأنت ُ‬
‫َ‬ ‫المعي ُر بالدهر‬
‫ِّ‬ ‫الشامت‬
‫ُ‬ ‫أيها‬
‫والتصديق‪ :‬هو طلب السؤال عن شيء حدث وقوعه أم ال؛ وتكون اإلجابة‬
‫عليه بكلمة (نعم) لإلثبات‪ ،‬و(ال) للنفي؛ كقولنا‪( :‬أنجح زيد؟) وقوله تعالى‪:‬‬
‫ت هذا بآلهتنا يا إبراهيم‪( ‬األنبياء ‪ .)21/62‬فالتصديق إدراك نسبة‬ ‫َنت فَ َعْل َ‬
‫‪‬أَأ َ‬
‫ردد بين إثبات الشيء ونفيه‪ .‬ولهذا يطلب تحديد اإلجابة‬‫الفعل بدقة‪ ،‬ألن المتكلم ُمتَ ّ‬
‫وتعيينها‪ ،‬ومن ثم يمتنع ِذ ْكر المعادل بـ(أم)؛ فإذا استعملت الهمزة للتصديق؛ وجاء‬
‫معها (أم) فهي أم المنقطعة وتكون بمعنى (بل) وكذا استعملت مع (هل)‪.‬‬
‫فالمتصلة ال يستغني ما قبلها عما يليها؛ عكس المنقطعة‪ ،‬فإذا قلنا‪ :‬أنجح زيد أم‬
‫عمر؟ فالسؤال عن عمرو‪ ،‬ألننا ٍ‬
‫ألمر ما كالنسيان وقع لفظ (زيد) على لساننا وهو‬
‫غير مقصود‪ 0...‬وهذا يعني أن (أَم) بمعنى (بل)‪.‬‬
‫والتصور‪ :‬هو إدراك المفرد؛ واالستفسار عن كيفية حدوث فعل ما؛ ويتلو‬
‫همزة التصور المسؤول عنه؛ وتقترن بـ (أم) المعادلة ـ غالباً وتسمى هنا‬
‫(المتصلة)‪.‬‬
‫وتكون اإلجابة على ذلك بتحديد الفعل‪ ،‬ومن قام به على وجه الدقة‪ ،‬على اعتبار أن المتكلم‬

‫‪- 139 -‬‬


‫عارف بأن الحدث قد وقع لكنه ال يعرف كيفيته بدقة؛ كقولنا‪( :‬أزيد قائم أم عمرو؟) وقال الزركلي‪:‬‬
‫سهيد؟!‬
‫هم وال التسهيد تَ ْ‬
‫اله ُّم ٌّ‬
‫ال َ‬ ‫نبات الشام أم ِع ْي ُد‬
‫حلُم على ج ِ‬
‫َ‬ ‫ٌُ‬
‫لهذا كله ُيسأل عن المسند إليه سواء كان مبتدأً أم فاعالً؛ كقولنا‪( :‬أسافر زيد‬
‫أم خالد؟) أو قولنا‪( :‬أزيد نجح أم محمد؟)‪0...‬‬
‫(أذاهب أنت غداً إلى دمشق أم ذاهب إلى‬
‫ٌ‬ ‫وي ْسأَل بها عن المسند كقولنا‪:‬‬
‫ُ‬
‫حلب؟)‪....‬‬
‫زرت أم خالداً؟) والحال‬
‫َ‬ ‫كالمفعول به مثل‪( :‬أزيداً‬
‫ُ‬ ‫ويسأل بها عن الفَضلة؛‬
‫تذهب أم بعده؟)‪ .‬ومن المفعول‬
‫ُ‬ ‫(أغداً‬
‫جئت أم ماشياً‪ ،‬والظرف مثل‪َ :‬‬ ‫مثل‪ :‬أراكباً َ‬
‫به قوله تعالى‪ :‬قل أالذكرين َح َّرم أَم األُنثيين أ َْم ما اشتملت عليه أَرحام األنثيين‪‬‬
‫(األنعام ‪....)6/144‬‬
‫وتخرج الهمزة عن االستفهام الحقيقي إلى االستفهام المجازي في عدة‬
‫بعد؛ وهي (التقرير‪ ،‬والتسوية‪،‬‬
‫وسنفصل القول فيها من ُ‬
‫ّ‬ ‫مواضع وسنشير إليها هنا‬
‫واإلنكار اإلبطالي والتوبيخي‪ ،‬والتهكم‪ ،‬واألمر‪ ،‬والتعجب واالستبطاء)‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫إنها ثمانية وال صحة لغيرها‪ ،‬وتستعمل معها (أم) أو ال؛ وال يحتاج االستفهام إلى‬
‫إجابة(‪.)34‬‬

‫ب ـ هل‪:‬‬
‫وهو حرف وضع لطلب التصديق اإليجابي دون التصور‪ ،‬ودون التصديق السلبي‪ ،‬كما تختص‬
‫باالستقبال غالباً‪ ،‬وإ ْن دخلت على الماضي كما في قول زهري‪:‬‬

‫سِم؟‬ ‫َح َِ‬


‫يان‪ :‬هل أقسمتُ ُم كل ُم ْق َ‬
‫و ُذ ْب َ‬ ‫الف ع ّني رسال ًة‬ ‫فمن مبلغُ األ ْ‬
‫َ‬
‫(إن)‪ ،‬وال على اسم َب ْع َده فعل في االختيار‪.‬‬ ‫وال تدخل على الشرط‪ ،‬وال على َّ‬
‫وقد تقع بعد العاطف ال قبله‪ ،‬وبعد (أ َْم) كقوله تعالى‪َ  :‬ه ْل َي ْستوي األَعمى‪0‬‬
‫والبصير أم َه ْل تستوي الظلمات والنور‪( ‬الرعد ‪ )13/16‬وقد يراد بها النفي‬
‫اإلحسان إال اإلحسان‪( ‬الرحمن‬ ‫فتدخل على الخبر كقوله تعالى‪ :‬هل جزاء ِ‬
‫ِ‬
‫‪ ،)55/60‬وتأتي بمعنى (قد) مع الفعل كقوله تعالى‪ :‬هل أَتى على اإلنسان ح ْي ٌن‬
‫من الدهر‪( ‬اإلنسان ‪ .)76/1‬وقيل غير هذا(‪ )35‬وما تقدم كله يدخل في االستفهام‬
‫المجازي لـ(هل) وال يحتاج إلى إجابة بينما االستفهام الحقيقي الذي وضع للتصديق‬
‫يحتاج إلى إجابة‪ .‬وفيه تُسمى (هل) بسيطة؛ ألنه يستفهم بها عن وجود شيء في‬
‫نفسه؛ و الجواب يكون بـ (نعم) لإلثبات و(ال) للنفي‪ .‬ولهذا ال يجوز أن تستعمل‬
‫سمى المنقطعة؛ كقولنا‪:‬‬ ‫(أم) المعادلة معها؛ وإ ذا استعملت فهي بمعنى (بل) وتُ ّ‬

‫‪- 140 -‬‬


‫(هل نجح زيد أم عمرو؟)‪ 0.‬فالسؤال عن عمرو ال عن زيد؛ فكأن السؤال‪( :‬بل‬
‫نجح عمرو؟) وكقوله تعالى‪ :‬أم لـه البنات ولكم البنون‪( ‬الطور ‪ )52/39‬أي (بل‬
‫لت؟ على معنى‪ :‬هل؛ وهو‬ ‫ألهُ البنات‪...‬؟)‪ 0‬وقد تستبدل (أل) بـ(هل) فنقول‪ :‬أل فَ َع َ‬
‫إبدال الخفيف ثقيالً كما في اآلل عند سيبويه(‪.)36‬‬

‫‪ 2‬ـ أسماء االستفهام‪:‬‬


‫ويحدد فعل‬
‫ّ‬ ‫للتصور فقط‬
‫ّ‬ ‫أسماء االستفهام إما مبنية وإ ما معربة‪ ،‬وتستعمل‬
‫التصور؛ ويوضَّح باإلجابة حين ُي َعيَّن المسؤول عنه‪ .‬والمبنية سبعة أسماء‬
‫والمعربة اسم واحد‪ ،‬كما هو مبين فيما يأتي‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ األسماء المبنية‪:‬‬


‫وتبنى على حركة آخرها؛ وهي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ما‪ :‬وتستعمل لغير العاقل؛ ويطلب بها السؤال عن معرفة حقيقة الشيء‬
‫الع ْسجد؟)‪.‬‬‫المستفهم عنه أو شرحه‪ .‬فمن معرفة الحقيقة قولنا‪( :‬ما اإلنسان؟ أو ما َ‬
‫ومن معرفة شرح حاله أو صفته قوله تعالى‪ :‬ادعُ لنا ربَّك يبيِّن لنا ما هي‬
‫لونها‪( ...‬البقرة ‪)2/69‬‬ ‫ِّن لنا ما ُ‬
‫َّك يبي ُ‬
‫‪( ‬البقرة ‪)2/68‬؛ وقوله‪ :‬ادعُ لنا رب َ‬
‫صقَ َر‬‫بيمينك يا موسى‪( ...‬طه ‪ )20/17‬وقوله‪ :‬ما َسلَ َك ُكم في َ‬ ‫َ‬ ‫وقوله‪ :‬ما تِْل َ‬
‫ك‬
‫‪( ‬المدثر ‪ .)74/42‬فاستعمل (ما) لم يكن فقط للداللة على غير العاقل‪ ،‬وإ نما‬
‫أبرزت معنى المباينة الدالة على اإلبداع‪ ،‬فهي توحي بالزجر واإلنذار‪ ...‬أما من‬
‫جهة حذف (األلف) في (ما) فإنه يقع في (ما) االستفهامية للتفريق بينها وبين‬
‫َنت ِم ْن‬
‫فيم أ َ‬
‫(ما) الموصولية‪ ،‬أي للتفريق بين االستفهام والخبر‪ ،‬كقوله تعالى‪َ  :‬‬
‫ذكراها‪( ‬النازعات ‪ .)79/43‬وحذف األلف مع الجر واجب‪ ،‬وندر إثباته إال للضرورة الشعرية كما‬
‫في قول حسان بن ثابت‪:‬‬

‫زير تَ َمَّرغ في َد ِ‬
‫مان؟!‬ ‫ِ‬
‫كخ ْن ٍ‬ ‫لئيم‬
‫يشتمني ٌ‬ ‫ُ‬ ‫على ما قام‬
‫ويجوز إثباتها في االستفهام التعجبي على َم ْن ذهب لهذا المعنى في قوله‬
‫فبأي‬
‫ت لهم‪( ‬آل عمران ‪ )3/159‬فهي بمعنى‪ّ :‬‬ ‫رحمة من اهلل ِل ْن َ‬
‫ٍ‬ ‫تعالى‪ :‬فبما‬
‫رحمة‪ ...‬أما من جعل (ما) في هذه اآلية زائدة فقد خرج من الموضوع كله‪ ،‬فهي‬ ‫ٍ‬
‫زائدة للتوكيد(‪.)37‬‬
‫وإ ذا ُر ِّكَب ْ‬
‫ت (ما) مع (ذا) ال تحذف ألفها‪ ،‬وتكون أداة متكاملة‪ ،‬كلها اسم جنس بمعنى‪ 0‬شيء‪ ،‬كقول‬
‫المثقب العبدي‪:‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫ِ‬
‫ولك ْن بالم َغي ِ‬
‫َّب َن ِّبئيني‬ ‫ت؟ سأَتَّ ِ‬
‫قيه‬ ‫لم ُ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َدعي ماذا َع ْ‬
‫فالجمهور أعرب (ماذا) مفعوالً به لفعل (دعي)(‪ .)380‬واختلف في شأن‬
‫تركيب (ماذا) فمنهم من لم يرض بأن تكون كلها اسم جنس‪ ،‬وذهبوا إلى أن (ذا)‬
‫سألونك‪ :‬ماذا ينفقون؟‪‬‬
‫َ‬ ‫إما موصولية وإ ما اسم إشارة؛ وعليه قوله تعالى‪َ :‬ي‬
‫(البقرة ‪.)2/219‬‬
‫وي ْستَفسر به عن الجنس‪ ،‬كقوله‬ ‫‪ 2‬ـ َم ْن‪ :‬اسم يستعمل للعاقل ـ غالباً ـ ُ‬
‫وم ْن‬ ‫تعالى‪ :‬قال‪َ :‬م ْن ُيحيي العظام وهي رميم‪( ‬يس ‪ )36/78‬وكقولنا‪َ 0:‬‬
‫(م ْن سافر اليوم؟ َ‬
‫فتح إفريقيَّة؟)؛ وقال حافظ إبراهيم‪:‬‬

‫ش ِب؟!‬
‫وع ْن َن َ‬
‫ض َ‬‫المدافعُ عن ِع ْر ٍ‬
‫َمن ُ‬ ‫عرض ْت؟‬
‫َ‬ ‫َم ِن المداوي إذا ما ِعلَّ ٌة‬
‫(م ْن)‪ 0‬و(ذا) لتصبح كلمة واحدة‪ ،‬ألن كالً منهما مبهم‪ ،‬كقولنا‪:‬‬ ‫ويجوز تركيب َ‬
‫وأخ ْرت؟)‪ 0.‬واختلف اللغويون في شأن ذلك؛ فمنهم من‬ ‫قدمت َّ‬ ‫(منذا قابلت؟) (منذا َّ‬
‫رأى زيادتها؛ ومنهم َم ْن رأى أنها موصولة(‪ )39‬محتجين بقوله تعالى‪َ  :‬م ْن ذا‬
‫الذي ُي ْق ِر ُ‬
‫ض اهللَ قَ ْرضاً َح َسناً‪( ‬البقرة ‪.)2/245‬‬
‫‪ 3‬ـ كم‪ :‬يأتي هذا االسم باالستفهام وغيره؛ وهو اسم لعدد مبهم الجنس‬
‫والمقدار‪ ،‬وهو عند ابن هشام ليس مركباً خالفاً لما ذهب إليه بعض اللغويين‬
‫والفراء‪ ،‬وال خالف في اسمية االستفهامية‪ .‬و(كم) اسم استفهام مفتقر‬ ‫كالكسائي ّ‬
‫إلى تمييز منصوب‪ ،‬ويتصدر جملته؛ كقوله تعالى‪ :‬كم لبثتم؟ قالوا‪ :‬يوماً أو‬
‫بعض يوم‪( ‬الكهف ‪ )18/19‬وكقولنا‪( :‬كم كتاباً قرأت؟)‪ .‬ويجوز أن تجر (كم)‬ ‫َ‬
‫اشتريت الكتاب؟)‬
‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بحرف جر‪ ،‬وحينئذ يجر التمييز معها‪ ،‬كقولنا‪( :‬ب َك ْم د ْرهم‬
‫ويجوز حذف التمييز (كم مالُك؟!)‪.‬‬
‫حل فيه الشيء كقوله تعالى‪:‬‬ ‫‪ 4‬ـ أ َْي َن‪ :‬ظرف يستفهم به عن المكان الذي َّ‬
‫‪‬يقول اإلنسان يومئذ‪ :‬أين المفَ ّر؟‪( ‬القيامة ‪ )75/10‬وكقولنا‪ 0:‬أين سافرت؟ وكقول المرقش‬
‫َ‬
‫األكرب‪:‬‬

‫الم َحامونا؟‬ ‫ِ‬ ‫ِقْي ُل‬ ‫معشر أَفنى ِ‬


‫ٍ‬ ‫َّإنا ِ‬
‫أين ُ‬
‫الكماة‪ :‬أال َ‬ ‫أوائلَهم‬ ‫لمن‬
‫ويجوز أن تسبق بحرف الجر (من) للداللة على مكان بروز الشيء‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫تخرجت؟)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(من أين‬
‫‪ 5‬ـ متى‪ :‬المشهور فيها أنها ظرف (استفهام وشرط) واالستفهام فيها لتعيين الزمن ماضيًا أو‬
‫ال؛‪ 0‬كقولنا‪( :‬متى سافر أحمد؟ ومتى تعود؟) وقال حافظ إبراهيم‪:‬‬
‫مستقب ً‬

‫‪- 142 -‬‬


‫كنزاً من العلم ال كنزاً من ال َذ ِ‬
‫هب؟!‬ ‫باتت خزائنه‬
‫متى نراه وقد ْ‬
‫وقد وقعت حرف جر في لغة هذيل‪ ،‬وليس هنا الحديث عنه؛ وعن اسم‬
‫الشرط‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أيَّان‪ :‬ظرف بمعنى ِ‬
‫(الح ْين) يطلب به تعيين زمان المستقبل فقط؛ كقولنا‪:‬‬
‫أي وقت)‪.‬‬
‫(أيان تسافر؟ أي في ّ‬
‫ووقع استعماله في القرآن الكريم في غير المعنى الحقيقي‪ ،‬إذ وقع في التفخيم‬
‫َّان ُم ْرساها؟‪( ‬األعراف‬
‫أو التهويل مثل قوله تعالى‪ :‬يسألونك عن الساعة‪ :‬أَي َ‬
‫‪ )7/187‬و(النازعات ‪ )79/42‬أو في غير ذلك‪.‬‬
‫واعلم أننا حين نفسر االستفهام على هذا الوجه إنما ألنه محض المعنى؛‬
‫ليتنبه السائل على الحقيقة فيرجع إلى نفسه ويخجل من السؤال الذي يطرحه‪ ،‬ثم‬
‫يأتي جواب اآلية ليردعهُ‪.)40(...‬‬
‫سواء وقع اسماً صريحاً ُي ْخَب ُر به‬
‫ً‬ ‫‪ 7‬ـ كيف‪ :‬اسم يستعمل للسؤال عن الحال‬
‫كقولنا‪( :‬كيف أنت؟) و(كيف كنت؟) أم وقع فضلة كقولنا‪( :‬كيف جاء زيد؟)‬
‫ُم ٍة بشهيد‪( ‬النساء ‪ ،)4/41‬وقول الفرزدق‪:‬‬
‫ومثله قوله تعالى‪ :‬فكيف إذا ِجئنا من كل أ َّ‬
‫وبالشام أخرى؛ كيف يلتقيان؟‬ ‫إلى اهلل أَشكو بالمدينة حاج ًة‬
‫فوصف الحال ثابت في االستفهام‪ ،‬وهو يدل على أن السقم والتذمر موجود‬
‫ثابت فيه‪ ،‬وبهذا تتجلى جماليته‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ أ ََّنى‪ :‬يستعمل هذا االسم للسؤال عن المكان والزمان والحال تبعاً للسياق‪،‬‬
‫وتقوم مقام (أين أو متى‪ ،‬أو كيف)‪ .‬فهو بمعنى (من أين) في قوله تعالى‪ :‬يا‬
‫َم ْرَي ُم‪ ،‬أََّنى لك هذا‪( ‬آل عمران ‪ )3/57‬وكقولنا‪َّ :‬‬
‫(أنى تجلس؟)‪.‬‬
‫(أنى تذهب؟)‪.‬‬ ‫وهو بمعنى (متى)‪ 0‬في قولنا‪َّ :‬‬
‫وبمعنى (كيف) في قوله تعالى‪ :‬أََّنى يحيى هذه اهلل بعد موتها؟‪( ‬البقرة‬
‫‪.)2/259‬‬
‫والسياق يدل على أن اإللزام بمجيء الشيء بعد وصف ثابت بقدرة اهلل‪ ،‬كما‬
‫تدل عليه بقية اآلية(‪.)41‬‬

‫‪ 2‬ـ األسماء المعربة؛ وهي اسم واحد هو (أيّ)‪.‬‬


‫زادتْه هذه إيماناً‪‬‬ ‫أي‪ :‬اسم استفهام يستعمل ُم َّ‬
‫شدداً كقوله تعالى‪ :‬أَيُّكم َ‬ ‫ُّ‬

‫‪- 143 -‬‬


‫صر بن سيّار‪:‬‬
‫(التوبة ‪ )9/124‬أي بتضعيف الياء‪ ،‬وقد يخفف كما في قول الفرزدق يمدح فيه َن ْ‬
‫مواطر ْه‬
‫ُ‬ ‫علي من ال َغ ْيث استَ َهلَّ ْت‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫والسماكين ْأي ُهما‬ ‫صراً‬ ‫تنظَّ ْر ُ‬
‫ت َن ْ‬
‫فبأي آالء ربكما تكذبان‪‬‬
‫ويجوز أن يسبق بحروف قبله كقوله تعالى‪ِّ  :‬‬
‫(الرحمن ‪.)55/13‬‬
‫هذا من جهة بنية الكلمة في االستعمال‪ ،‬أما من جهة استعمالها اسم استفهام‬
‫حقيقي فإنها تُستعمل بمعنى أسماء االستفهام المبنية كلها تبعاً إلضافتها إلى ما‬
‫بعدها‪ 0...‬فيطلب بها تحديد شيء في أمر مشترك وعام كقولنا‪( :‬أَيُّكما أكبر سناً؟)‪.‬‬
‫فالمتكلم يستفسر عن تمييز شيء مشترك بينهما وهو كبر السن‪ ،‬ولكن‬
‫أحدهما زاد في العمر على اآلخر؛ ولهذا يطلب التحديد‪.‬‬
‫أي من معاني‬ ‫ويكتسب االسم (أي) داللته من إضافته‪ ،‬فاإلضافة توضح في ٍّ‬
‫(م ْن من الطالب‬ ‫(أي الطالب عندك؟) كأننا نسأل‪َ :‬‬
‫االستفهام استعمل‪ ،‬كقولنا‪ُّ :‬‬
‫َي يوم تسافر؟) كأننا نسأل‪( :‬متى تسافر؟) وكقوله تعالى‪ :‬أيُّكم‬
‫عندك؟)‪ ...‬أو (أ َّ‬
‫(م ْن منكم)؟ فأي االستفهامية تضاف إلى‬‫يأتيني بعرشها‪( ‬النمل ‪ ،)27/38‬أي َ‬
‫أكرمت؟)‪0.‬‬
‫َ‬ ‫(أي جاء؟) َّ‬
‫و(أياً‬ ‫المعرفة وإ لى النكرة‪ ،‬وقد تقطع عن اإلضافة نحو‪ٌّ :‬‬
‫فالصلة الجمالية بين أُسلوب االستفهام الحقيقي وبين الجمال إنما تتحقق‬
‫بالتفاعل الواقعي مع الصفات واألفكار على مستوى الطابع الفكري واالجتماعي‬
‫والنفسي وفق منظور الموضوع الحقيقي الذي يرتبط بنوعية الطلب ووظيفته‪.‬‬
‫فالمحتوى يفصح عن حقائق ومدركات تنهض بالصياغة الجمالية بوساطة‬
‫االستفهام الحقيقي‪ ،‬على حين تغدو صياغة بعيدة عن المباشرة في أساليب‬
‫االستفهام المجازية‪ ،‬وهو ما نراه فيما يأتي‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬االستفهام المجازي‬


‫أبرز البالغيون العرب في الدراسات األدبية والقرآنية أن أدوات االستفهام ال‬
‫تتوقف عند المعاني األصلية التي ينتهي إليها أسلوب االستفهام الحقيقي الذي‬
‫يتطلب إجابة محددة‪ .‬ولكن االستفهام قد ال يبحث عن إجابة محددة؛ وإ نما يبحث‬
‫عن تصور ما للمتكلم دون أن يستفسر عن شيء؛ وبهذا يخرج أسلوب االستفهام‬
‫إلى أسلوب مجازي ال يطابق في داللته المجازية الداللة الحقيقية فيصبح بمعنى‬
‫الخبر‪ ،‬ال بمعنى اإلنشاء(‪.)42‬‬
‫وحين يخرج االستفهام إلى أسلوب مجازي ّإنما يؤدي ظاهرة جمالية وبالغية‬
‫ال تعرف في األسلوب الحقيقي الذي يسأل به المتكلم عن شيء معروف ومشهور‪،‬‬

‫‪- 144 -‬‬


‫أو عن معنى يفهم من السياق؛ ويتوجه فيه المتكلم إلى نفسه قبل أن يتوجه به إلى‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫وإ ذا كان البالغيون قد اختلفوا في عدد المعاني التي خرج إليها أسلوب‬
‫االستفهام فإن األسلوب المجازي يعتمد على السالئق والذوق والسياق والقرائن‬
‫التي يدور حولها الكالم‪ 0...‬ونرى أنه ال يحصر األسلوب المجازي لالستفهام‬
‫ٍ‬
‫بمعان محددة؛ وإ ن اتجهت الدراسات البالغية القرآنية اتجاهاً قد ال‬ ‫بمعنى أو‬
‫يتطابق مع الدراسات البالغية األخرى(‪ .)43‬فالتراث البالغي حضور متفاوت‬
‫في الذهن البشري‪ ،‬ونوع معرفي غير ثابت‪ .‬ولهذا سنسوق أساليب االستفهام‬
‫نبين بعض الفوارق عند عدد من دارسي‬ ‫المجازية المشتركة بين تلك الدراسات ثم ّ‬
‫أساليب االستفهام في القرآن الكريم‪ ،‬ال على سبيل التضاد بل على جهة االستدالل‬
‫للوصول إلى معرفة جمالية نوعية بأساليب البالغة كلها‪0...‬‬

‫‪ 1‬ـ التقرير‪:‬‬
‫التقرير هو اإلثبات مع الوضوح؛ وكذلك هو اإلثبات مع التسليم‪ ...‬وهو ال‬
‫يحتاج إلى جواب في االستفهام المجازي؛ ألنه يقرر فكرة من األفكار؛ يحمل‬
‫المخاطب على اإلقرار بها؛ وبمعنى آخر السؤال نفسه جواب ثابت‪ .‬ويستعمل‬
‫في هذا األسلوب الفعل المنفي المسبوق ـ غالباً ـ بهمزة االستفهام؛ وإ ن جاز‬
‫استعمال األدوات األخرى ـ كقوله تعالى‪ :‬أَلَ ْم يجدك يتيماً فأوى‪( ‬الضحى‬
‫‪ )93/6‬والمعنى (وجدك) وقوله‪ :‬أَلَ ْم َي ْج َعل َك ْي َدهم في تضليل‪( ‬الفيل ‪)105/3‬‬
‫أي (جعل كيدهم‪ 0)...‬وقوله‪ :‬ألم نشرح لك صدرك‪( ‬االنشراح ‪ )93/1‬وقال البحرتي‪:‬‬

‫للح ْم ِد ِ‬
‫جاب؟‬ ‫إذا ما لم ي ُك ْن َ‬ ‫هم جوداً وأَزكا‬
‫َع َّم ْ‬
‫َلس َت أ َ‬
‫أ ْ‬
‫فالهمزة إذا دخلت على نفي؛ فإنه ال يراد معنى النفي بل يراد تقرير ما بعده‪.‬‬
‫وهذا يختلف كثيراً عن األسلوب اآلتي في اإلخبار والتحقيق‪ )45(،‬كما أنه يختلف‬
‫كثيراً عن االستفهام الحقيقي الذي يحتاج إلى جواب‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ اإلخبار والتحقيق‪:‬‬


‫اإلخبار هو اإلعالم بالشيء‪ ،‬ويستعمل إلثبات أمر ما؛ لذا ارتبط بالتحقيق‬
‫في أسلوب االستفهام ألنه يتجه إلى إطالع السامع أو تثبيت خبر لديه‪ ،‬أو أنه‬
‫يرمي إلى كليهما معاً كقوله تعالى‪ :‬أال إنهم ُهم المفسدون ولكن ال يشعرون‪‬‬
‫ِّك فينا وليداً‪( ‬الشعراء ‪ )26/18‬والمعنى (إننا‬
‫(البقرة ‪ )2/12‬وقوله‪ :‬ألم ُن َرب َ‬

‫‪- 145 -‬‬


‫قد ربيناك فينا وليداً)؛ على حين َدلَّت في الشاهد األول على التحقق لما بعدها‬
‫والتنبيه عليه (أال إنهم‪ )460()...‬ويستعمل فيه ـ غالباً ـ (همزة االستفهام) ـ كما‬
‫ورد في األمثلة السابقة ـ وكذلك يستعمل فيه (هل) كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬هل أتى على اإلنسان ِ‬
‫ح ْين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً‪( ‬اإلنسان ‪)76/1‬؛‬
‫(حق ـ حقاً) أو تستعمل مع النفي الذي‬
‫والمعنى (قد أتى على اإلنسان)(‪ .)47‬وقد تستعمل الهمزة مع لفظ ّ‬
‫يغوث يستعملها مع (حقًا) في قوله‪:‬‬
‫َ‪0‬‬ ‫يراد منه اإلخبار والتحقيق؛ فهذا َعْب ُد‬

‫المتَاليا‬ ‫شيد ِّ ِ‬ ‫عباد ِ‬


‫الم ْعزبين َ‬
‫الر َعاء ُ‬ ‫َن َ‬ ‫لست سامعاً‬
‫َن ُ‬‫اهلل أ ْ‬ ‫أَحقّاً َ‬
‫حيي الموتى‬ ‫ٍ‬
‫َليس ذلك بقادر على أن ُي َ‬
‫ومن استعمالها مع النفي قوله تعالى‪ :‬أ َ‬
‫‪( ‬سورة القيامة ‪.)75/40‬‬
‫ص ِّد َر ْ‬
‫ت بما يتلقى به‬ ‫ولما كانت لها هذه الرتبة من التحقيق مع النفي ندر أن تقع جملة بعدها إال ُ‬
‫القسم على نحو ما؛ كقول حاتم الطائي‪:‬‬

‫ميم؟‬
‫وهي َر ُ‬
‫يض َ‬‫العظام ال ِب َ‬
‫َ‬ ‫ويحيي‬
‫ُ‬ ‫غيرهُ‬
‫الغيب ُ‬
‫َ‬ ‫يعلم‬
‫َما والذي ال ُ‬
‫أَ‬
‫ومثله قول صخر اهلذيل‪:‬‬
‫َمات وأَحيا والذي أ َْم ُرهُ األ َْم ُر؟‬
‫أ َ‬ ‫َض َح َك والذي‬
‫َما والذي أَبكى وأ ْ‬
‫أَ‬
‫فالمعنى الذي يرمي إليه المتكلم في االستعمال المجازي ألسلوب االستفهام‬
‫يتجه إلى معنى المعنى وفق ما يتطلبه السياق‪ ،‬ال وفق ما تبنى عليه الكلمات في‬
‫التركيب النحوي‪ ،‬وبذلك يتركز مفهوم الجميل‪0...‬‬

‫‪ 3‬ـ التسوية‪:‬‬
‫اختص أسلوب التسوية باستعمال (الهمزة) مع (أم) المعادلة؛ ألن الهمزة‬
‫تستعمل للتسوية في الداللة بين ما قبل (أم) وما بعدها‪ ،‬والجملة بعد الهمزة‬
‫يصح حلول المصدر محلها‪ 0...‬وتوهم غير باحث أنها تستعمل فقط مع (سواء)‬
‫َن َذ ْرتَهم أم لم تُنذرهم ال ُيؤمنون‪( ‬البقرة ‪.)2/6‬‬
‫كما في قوله تعالى‪ :‬سواء عليهم أَأ ْ‬
‫ودليل رأينا أنها تستعمل مع (ما أدري) ونحوه‪ ،‬قول الفرزدق‪:‬‬

‫مضارب ْه؟‬ ‫الع ْو ِد أم أعيت عليه‬ ‫بج ْن َد ٍل‬ ‫ِ‬


‫ُ‬ ‫عن َ‬ ‫أج ْب ٌن َ‬
‫وواهلل ما أدري‪ُ ،‬‬
‫بعيد ما‬
‫َقريب أ َْم ٌ‬
‫ونستدل على ذلك أيضاً بقوله تعالى‪ :‬وإ ن أ َْدري أ ٌ‬
‫توعدون‪( ‬األنبياء‪ .)21/109 0‬وتستعمل كذلك مع تركيب (ما أبالي) ونحوه؛ كقول املتنيب‪:‬‬

‫س َبا؟‬
‫تناولت أ َْم َك ْ‬
‫ُ‬ ‫أَكان تُراثاً ما‬ ‫العلَى‬
‫إدراكي ُ‬ ‫بع َد‬
‫ت أُبالي ْ‬
‫ولس ُ‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫ومع (ليت شعري‪ ،‬وليت علمي) ونحوهما(‪ ،)48‬على اعتبار أن الصياغة تتصل بصور من‬

‫‪- 146 -‬‬


‫التوازن والتنسيق بنسبة جمالية تؤكد الوعي الجمالي بالشكل والمضمون؛ ومنه قول الفرزدق‪:‬‬
‫َميرها؟‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إلى ال َغ ْيط أ َْم ماذا يقول أ ُ‬ ‫ليت شعري ما أرادت ُم َجاشعٌ‬
‫أَال َ‬
‫وقد يُ ْم َزج أسلوب التسوية بالتهكم والهجاء كما في قول حسان بن ثابت‪:‬‬
‫لئيم‬ ‫ِ ٍ‬ ‫بالح ْز ِن تَ ْي ٌ‬
‫بظهر َغ ْيب ُ‬ ‫لحاني‬
‫ْأم َ‬ ‫س‬ ‫ب َ‬ ‫وما أُبالي أََن َّ‬
‫فجمالية هذا األسلوب إنما تنبثق من شبكة العالقات المعنوية بين الكلمات‪،‬‬
‫وهي تؤسس سياقات ومقاصد يجتهد المتكلم في إيصالها إلى المخاطب دون حاجة‬
‫رد أو جواب‪.‬‬ ‫إلى ٍّ‬

‫والحض‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ض‬
‫الع ْر ُ‬
‫‪4‬ـ َ‬
‫هذان أسلوبان متماثالن؛ وإ ن زاد أحدهما على اآلخر في المعنى؛‬
‫ض‪ :‬طلبه بقوة مرة بعد مرة؛ ويستعمل فيهما‬ ‫ض‪ :‬طلب الشيء بِلين‪َ ،‬‬
‫والح ُّ‬ ‫فالع ْر ُ‬
‫َ‬
‫الهمزة مع (ال) فتصبحان (أَالَ) وهما كاالسم الواحد؛ والطلب ال يراد منه‬
‫(بنعم) أو (ال) وتختص بالفعل‪ ،‬ومن العرض قوله تعالى‪ :‬أال تحبون‬ ‫اإلجابة َ‬
‫أن يغفر اهلل لكم‪( ‬النور ‪)24/22‬؛ أما قول الشاعر عمرو بن قَعَّاس المرادي فعلى تقدير فعل‬
‫حمذوف‪:‬‬

‫صلَ ٍة تُ ُ‬
‫بيت؟‬ ‫َي ُد ُّل على ُم َح ِّ‬ ‫أَال َرجالً جزاهُ اهللُ َخيراً‬
‫أي "أَالَ تُُرونني رجالً هذه صفته‪ ،‬فحذف الفعل مدلوالً عليه بالمعنى"‪ ،‬وقيل‬
‫قول آخر(‪.)49‬‬
‫َيمانهم‪( ‬التوبة ‪.)9/13‬‬
‫ومن الحض قوله تعالى‪ :‬أَال تقاتلون قوماً َن َكثُوا أ َ‬
‫القوم‬ ‫َن ِ‬
‫ائت‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫فهو يحثهم على القتال؛ أي (قاتلوهم)؛ وكذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫‪‬‬
‫قوم فرعون؛ أَالَ يتقون‪( ‬الشعراء ‪ 26/10‬ـ ‪)11‬؛ أي (ائتهم وأمرهم‬ ‫الظالمين* َ‬
‫بالتقوى)‪.‬‬
‫إن فنيات التعبير وأشكاله الجمالية ماثلة في جوهر استعمال اللفظ وفق نظام‬
‫مثير ودقيق ومتناسب النسق مع السياق دون أن يتخلى عن بنيته‪ ،‬ولو تعدد‪،‬‬
‫كاتحاد همزة االستفهام بـ (ال)(‪.)50‬‬

‫‪ 5‬ـ اإلرشاد والتوجيه والتذكير‪:‬‬


‫هذه ٍ‬
‫معان ثالثة تجتمع في سياق بالغي واحد في أسلوب االستفهام المجازي‪.‬‬
‫تعوده المتكلم أو السامع‬
‫فهنا يراد باالستفهام اإلرشاد والتوجيه إلى أمر غير الذي ّ‬

‫‪- 147 -‬‬


‫وي ْسِفك الدماء‪( ‬البقرة‬ ‫ِ‬
‫كما في قوله تعالى‪ :‬قالوا‪ :‬أتجعل فيها َم ْن ُي ْفسد فيها َ‬
‫‪ .)2/30‬فالمالئكة رأوا الجن يسفكون الدماء في األرض ويفسدون فيها؛ لهذا‬
‫خاطبوا اهلل ـ سبحانه ـ لما قرر أن يجعل بني آدم فيها؛ فتوجهوا إليه بالسؤال‬
‫ليرشدهم عن أمر بني آدم؛ أم أن شأنهم سيكون شأن الجن؛ فكان قول اهلل سبحانه‬
‫وتعالى‪ :‬قال‪ :‬إني أعلم ما ال تعلمون‪( ‬البقرة ‪ .)2/30‬ولما كان سؤالهم سؤال‬
‫توجيه وإ رشاد لم يستكبروا أن يسجدوا آلدم‪ ،‬بعكس إبليس الذي عصى أ َْم َر ربه‪،‬‬
‫كما يستدل عليه من قوله تعالى‪ :‬وإ ذ قلنا للمالئكة‪ :‬اسجدوا آلدم فسجدوا ِإالَّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين‪( ‬البقرة ‪.)2/34‬‬ ‫َ‬
‫فاالستفهام المجازي يدل على السياق‪ ،‬وقد خرج إلى لطائف بالغية جميلة‬
‫َلم َي ِج ْد َ‬
‫ك‬ ‫وموحية؛ كما نجده في معنى التذكير الذي ينطوي عليه قوله تعالى‪ :‬أ ْ‬
‫يتيماً فآوى‪( ‬الضحى ‪ )93/6‬وغير ذلك من المعاني مما يدخل تحت هذا العنوان‪،‬‬
‫يؤول على غير معنى‪.‬‬ ‫(‪ )51‬أو تحت عنوانات أخرى تجتمع في شاهد واحد‪ ،‬ألنه ّ‬
‫‪ 6‬ـ االستئناس واإلفهام‪:‬‬
‫استعمل هذا األسلوب في القرآن الكريم؛ وهو يجمع بين (االستئناس)‬
‫و(اإلفهام) معاً؛ ألنهما يرادان لذاتهما في شكل استفهامي مجازي ال يقصد منه‬ ‫ِ‬
‫وي ْفهم من قوله تعالى‪ :‬ما تلك‬ ‫اإلجابة؛ لكنه يشي بجمالية عالية في اإليحاء‪ُ .‬‬
‫بيمينك يا موسى‪( ‬طه ‪ .)20/17‬فموسى كان يستأنس بعصاه ويستعملها لغاياته‬
‫دب الرعب‬‫حيةٌ تسعى‪( ‬طه ‪ )20/20‬فَ َّ‬ ‫الخاصة؛ وحينما أَلقاها بأمر اهلل ‪‬فإذا هي َّ‬
‫عيدها ِس ْيرتها األولى‪‬‬
‫سن ُ‬ ‫في نفسه‪ ،‬فهَ َّدأ اهلل روعه في قوله‪ :‬قال‪ُ :‬خ ْذها وال تَ َخ ْ‬
‫ف ُ‬
‫(طه ‪ )20/21‬أي ُنرجعهُا إلى مبدئها الذي عرفه موسى وهو العصا غير المؤذية؛‬
‫ليبين لـه اهلل أنه قادر على أن ينصره؛ ويفعل ما يشاء‪.‬‬ ‫وإ نما المؤنسة‪ ...‬ومن ثم ّ‬
‫فجمالية االستئناس واإلفهام تظهر في َنسقية السياق مراعاة لمقتضى الحال؛ أي أن‬
‫السياق وحده قد أوضح أن االستفهام المجازي في قوله ‪‬ما تلك‪ 0...‬وهو وحده‬
‫الذي يفرض التحليل الداللي والبالغي(‪ .)52‬فالسائل في االستفهام الحقيقي يسأل‬
‫عما يعلم وعما ال يعلم‪ ،‬ويحتاج إلى جواب؛ أما في االستفهام المجازي فيتجه‬
‫الكالم إلى استبطان الجواب في السؤال نفسه‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ التشويق‪:‬‬
‫التشويق من جنس َّ‬
‫الش ْوق؛ وهو حمل النفس على النزاع إلى الشيء؛‬
‫وتهييجها إليه‪ .‬ولهذا قد يأتي االستفهام لجذب النفوس وشدها إلى أمر حدث من‬

‫‪- 148 -‬‬


‫قبل؛ أو أمر يكون فيه خير‪ ،‬فيستعمل لتصور ذلك كله؛ كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬يا أيها الذين آمنوا‪ :‬هل أ َُدلَّ ُكم على تجار ٍة تُْنجيكم من َع ٍ‬
‫ذاب أَليم‪( ‬الصف‬
‫‪ .)61/10‬فالمؤمنون يتشوقون إلى معرفة‪ :‬ما التجارة التي تنجيهم بالسؤال (هل‬
‫أدلكم)؟ ثم جاءت اآلية التالية لتفسير تلك التجارة وإ راحة النفس من عواطفها‬
‫تؤمن ْو َن باهلل ورسوله وتجاهدون في‬
‫الفياضة وفضاءاتها الفكرية بقوله تعالى‪ُ  :‬‬
‫إن كنتم تعلمون‪( ‬الصف ‪.)61/11‬‬ ‫سبيل اهلل بأموالكم وأَنفسكم‪ ،‬ذلكم َخ ْير لكم ْ‬
‫فالسياق في النص وحده من يكشف عن الجمالية الفنية لالستفهام المجازي‪،‬‬
‫ومْلك ال‬ ‫وكذلك نجده في قوله تعالى‪ :‬قال‪ :‬يا آدم؛ َه ْل أ َُدلك على شجرة ُ ِ‬
‫الخلد ُ‬ ‫ُ‬
‫َيْبلى‪( ‬طه ‪ .)20/120‬فالشيطان وسوس البن آدم وشوقه إلى شجرة الخلد‬
‫بالسؤال (هل أدلك‪ 0.)...‬وهذا التشويق جعله يز ّل؛ ويتبع غواية الشيطان؛ فكان أن‬
‫عصى ربه فأهبطه إلى األرض‪.‬‬
‫ومن هنا تُصبح الرؤية الجمالية لإلمام عبد القاهر الجرجاني أساس انبثاق‬
‫رؤى أخرى‪ ...‬فاالنسجام والتناسب بين عناصر الجملة يستندان إلى عالقة‬ ‫ً‬
‫الجوار واالختيار التي تحقق شرف منزلة المعنى‪ ،‬فاأللفاظ ال تتغير إال بالتأليف أو‬
‫ما سماه الجرجاني نظرية (النظم) (‪.)53‬‬

‫‪ 8‬ـ األمر‪:‬‬
‫إيحاء جمالياً‪ ،‬ألن‬
‫ً‬ ‫يخرج االستفهام إلى أسلوب مجازي يسمى األمر؛ فيزيده‬
‫المقصود ليس االستفهام الحقيقي كما في قوله تعالى‪ :‬فهل أنتم منتهون‪( ‬المائدة‬
‫‪ )5/91‬أي (انتهوا)‪ ،‬وقوله‪ :‬فهل أنتم مسلمون‪( ‬هود ‪ )11/14‬أي (أسلموا)‪0...‬‬
‫وهذا نحو قوله تعالى في آل عمران (‪ :)3/20‬أَأَسلمتم؟‪ ‬أي (أَسلموا)؛‪ 0‬وكقوله‬
‫تعالى‪ :‬وما لكم ال تقاتلون في سبيل اهلل‪( ‬النساء ‪ )4/75‬أي (قاتلوا في سبيل اهلل)‬
‫(‪ .)54‬فالعبرة من هذا االستخدام إنما هو في التركيب الذي يجسد أمراً غير‬
‫حاصل وقت الطلب بأسلوب االستفهام‪ .‬ولهذا يصبح التركيب كالكلمة الواحدة؛ ما‬
‫يكسبه جماالً فريداً؛ وبالغة موحية‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ النفي‪:‬‬
‫كثر خروج االستفهام إلى النفي في كالم العرب وأشعارها‪ ،‬وفي القرآن‪0...‬‬
‫ولعل هذا األسلوب يثير المتلقي على جمالية من نوع بالغي جديد وبديع كقوله‬
‫تعالى‪َ  :‬م ْن يغفر الذنوب إال اهلل‪( ‬آل عمران ‪ )3/135‬أي (ال يغفرها إال‬
‫اهلل)‪ 0...‬وكقوله‪ :‬من ذا الَّذي َي ْشفعُ عنده ِإال بإذنه‪( ‬البقرة ‪ )2/255‬أي (ال‬

‫‪- 149 -‬‬


‫(الرحمن‬ ‫اإلحسان ِإال اإلحسان‪‬‬
‫جزاء ِ‬
‫ُ‬ ‫يشفع عنده أحد إال بإذنه)‪ .‬وكقوله‪ :‬هل‬
‫‪ )55/60‬أي (ما جزاء اإلحسان إال اإلحسان)(‪ )55‬وقال أبو متام‪:‬‬

‫َمير َها؟‬ ‫ٍ‬ ‫عدنان ُكلُّها‬ ‫ِ‬


‫بم ْلتَحم إال وأنت أ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َحياء‬
‫اجتمعت أ ُ‬
‫ْ‬ ‫هل‬
‫فلم تجتمع بطون عدنان في مكان لقتال إال كنت أميرها‪ .‬ومثله قول الشاعر‪:‬‬
‫بما كان فيها من ب ٍ‬
‫الء ومن َخ ْف ِ‬
‫ض؟‬ ‫ساع ٌة ثم تَ ْنقضي‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّه ُر إال َ‬
‫هل الد ْ‬
‫أراد‪ :‬ما الدهر‪ ...‬ودليل النفي في الشاهدين انتقاضه بإال؛ ومثله قول البحرتي‪:‬‬
‫وانفراجها؟‬
‫ُ‬ ‫َو ِشيكاً وإ ال َ‬
‫ض ْيق ٌة‬ ‫ِ‬
‫هل الدهر إال َغ ْمرةٌ وانجالؤها‬

‫‪ 10‬ـ التمني‪:‬‬
‫هذا أسلوب آخر في أساليب االستفهام كثر في كالم العرب وفي القرآن‬
‫عاء فيشفعوا لنا‪( ‬األعراف ‪ )7/53‬فالذين خسروا‬
‫الكريم كقوله تعالى‪ :‬فهَل لنا من ُشفَ َ‬
‫أنفسهم يتمنون أن ُي َر ُّد وا إلى الدنيا ليعلموا غير الذي عملوه‪ ،‬ولكن هيهات لهم الرجوع(‪ .)56‬فما‬
‫استعمل أسلوب التمني الحقيقي بل استعمل االستفهام؛ فجاء األسلوب أعلى إيحاء‪ ....‬وعليه أيضاً قول‬
‫أبي العتاهية في مدح األمني‪:‬‬
‫كنت تُوليني َ َّ‬ ‫تذكر َ ِ‬
‫تذكر‬
‫لعلك ُ‬ ‫وما َ‬ ‫وح ْر َمتي‬
‫أمين اهلل حقّي ُ‬ ‫ًّ ْ‬
‫ظر؟‬ ‫الف الد ِ‬‫إلي بها في س ِ‬ ‫بالع ْي ِن التي َ‬
‫َّهر تُْن ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫كنت َمَّرةً‬ ‫لي َ‬ ‫فمن َ‬
‫َ‬
‫فاالستفهام خرج إلى التمني إلنزال الممكن منزلة المستحيل؛ إلعالء مكانة الممدوح ألن غيره ال‬
‫يستطيع‪ 0‬فعله الذي أنفذه مع الشاعر‪ .‬ومثله في التمني قول الشاعر‪:‬‬
‫يد ال َغفَ ِ‬
‫الت؟‬ ‫َب ما أثْأَ ْت ُ‬
‫فَ َي ْرأ َ‬ ‫رجوع ُه‬
‫ُ‬ ‫أال ُع ْم َر ولَّى ُم ْ‬
‫ستطاعٌ‬
‫تمن مقرون بالفاء‪ ...‬وهيهات أن‬ ‫فقد َنصب الشاعر فعل (يرأب) ألنه جواب ٍّ‬
‫يرجع العمر الذي ذهب إلى رجعة‪ ...‬إذ أفسدت يد الغفالت ذلك‪ )57(...‬فاللغة‬
‫البالغية في هذا األسلوب وغيره تنسلخ من معيارتها النحوية إلى طريقة أسلوبية‬
‫موحية ومثيرة ال تنشغل ببنية الظاهرة اللغوية الجمالية لذاتها ولكنها في آن معاً‬
‫تغوص في العالقات الكامنة فيها‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ النهي‪:‬‬
‫يخرج أسلوب االستفهام إلى النهي عن فعل شيء ما كقوله تعالى‪:‬‬
‫َن تخ َشوه إن كنتم مؤمنين‪( ‬التوبة ‪ )9/13‬وأراد (ال‬ ‫َح ُّ‬
‫ق أْ‬ ‫‪‬أَتَ ْخ َشونهم؟ فاهلل أ َ‬
‫واخ َش ْو ِن‪( ‬المائدة ‪ .)5/44‬ومن‬
‫تخشوهم)؛ بدليل قوله تعالى‪ :‬فال تَ ْخ َشوا الناس ْ‬

‫‪- 150 -‬‬


‫اإلنسان‪ :‬ما َغ َّرك َبربِّك الكريم؟‪‬‬
‫ُ‬ ‫أسلوب االستفهام للنهي قوله تعالى‪ :‬يا أيها‬
‫(االنفطار ‪ .)82/6‬أراد (ال تغتر باهلل ورحمته(‪ )58‬واعمل ألخرتك)‪ 0...‬وهذا‬
‫يوم ال تملك‬
‫يوضحه سياق سورة االنفطار وال سيما اآلية األخيرة التاسعة عشرة ‪َ ‬‬
‫نفس لنفس شيئاً‪ .‬فالسياق في أسلوب االستفهام السابق غير محايد ويصبح متمماً‬ ‫ٌ‬
‫لداللة المنهي عنها في ُبعد إيحائي يعبر عن رمزية اللغة؛ باعتبار ما تحمله من‬
‫وظائف بالغية وفكرية‪.‬‬

‫‪ 12‬ـ التعظيم والتفخيم‪:‬‬


‫اللفظان كالهما بمعنى‪ 0‬واحد؛ وهو اإلجالل واإلكبار والتقدير‪ .‬ويستعمل االستفهام المجازي في‬
‫هذا السياق الداللي على نحو كبير‪ .....‬فهذا المقصد البالغي من األساليب الجمالية المثيرة في‬
‫الدراسات البالغية وفي أغراض القول‪ ...‬فالتعظيم‪ 0‬والتبجيل والتفخيم يرمي إليها المتكلم بأسلوب لفظي‬
‫مباشر‪ ،‬وبأسلوب االستفهام الحقيقي‪ ،‬ولكنه في االستفهام المجازي يحمل طبيعة جمالية خاصة؛ كقول‬
‫الع ْر ِجي مفتخرًا بنفسه‪:‬‬
‫َ‬
‫كريهة وس ِ‬
‫داد ثَ ْغ ِر؟‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ليوم‬ ‫أضاعوا‬
‫فتى َ‬
‫َ‬ ‫َي ً‬
‫َضاعوني وأ َّ‬
‫أ َ‬
‫فالشاعر رفع من شأنه وأوضح أن العشيرة خسرت به رجالً عظيماً في الشدائد‪ .‬وجمع المتنبي‬
‫خصه اهلل على يديه من‬
‫في مديح كافور اإلخشيدي بين تعظيمه وبين استنكاره الرتياب األعداء فيما ّ‬
‫النصر والحظ السعيد‪:‬‬

‫وضوح ِ‬
‫بيان؟‬ ‫َ‬ ‫قيام ٍ‬
‫دليل أو‬ ‫َت‬
‫األعداء بعد الذي َرأ ْ‬
‫ُ‬ ‫أتلتمس‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫وفي التعظيم واإلجالل الذي ورد في الرثاء يقول المتنبي مظهراً ما كان للمرثي في حياته من‬
‫صفات السيادة والشجاعة والكرم؛ ما جعل الشاعر يتحسر عليه ويتفجع‪ 0‬لفقده‪:‬‬

‫فقد ْت بفَ ْقد َك َن ّيراً ال يطلعُ‬


‫َ‬ ‫والس َرى‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫والجحافل‬ ‫ِ‬
‫للمحافل‬ ‫َم ْن‬

‫ضاعوا و ِمثلُ َك ال يكاد ُي َ‬


‫ض ِّيعُ؟‬ ‫ْت على الض ِ‬
‫ُّيوف َخليف ًة‬ ‫ومن اتخذ َ‬
‫فاألسلوب ـ هنا ـ أضفى على اللغة قدرة على التأثير فيما عبَّر عنه من‬
‫المشاعر واألحاسيس‪ .‬وكذلك خرج أسلوب االستفهام المجازي في القرآن إلى‬
‫معنى التعظيم والتفخيم في قوله تعالى‪ :‬يسألونك عن الساعة ّأيان ُم ْرساها‪‬‬
‫(النازعات ‪ )79/42‬وفي قوله‪ :‬وما أدراك ما يوم الدين* ثم ما أدراك ما يوم‬
‫الدين‪( ‬االنفطار ‪ 82/17‬ـ ‪ .)18‬وتؤكد اآلية التاسعة عشرة من (االنفطار)‬
‫ٍ‬
‫يومئذ هلل‪ .‬وكذلك نرى‬ ‫نفس ٍ‬
‫لنفس شيئاً؛ واأل َْم ُر‬ ‫معنى االستعظام ‪‬يوم ال تملك ٌ‬
‫التفخيم في عدد غير قليل من آيات القرآن الكريم(‪)59‬؛ والتي نحس بها قدسية الجوهر في منابعه‬
‫ال عن التعظيم المؤسس في البنية‬
‫الكونية التي تشعرنا بالوظيفة اإلنسانية إلعادة صياغة الحياة‪ ،‬فض ً‬
‫اللغوية والبالغية‪ ...‬ونجد نحواً من ذلك في قول ابن هانئ األندلسي‪:‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫ير؟‬ ‫ِ‬ ‫م ْن منكم ِ‬
‫المل ُك المطاعُ َّ‬
‫وابغ تُبَّعٌ في ح ْم ُ‬
‫الس ِ‬‫تحت َّ‬
‫َ‬ ‫كأنه‬ ‫َ‬
‫فهو يخاطب الجنود مستفسراً ومستعظماً‪ :‬من منكم الملك الذي لـه من القوة‬
‫والسلطان ما لممدوحه؛ وكأنه في ساحة المعركة ملك من ملوك اليمن (قبيلة‬
‫حمير)‪ .‬فامتالك الشاعر للغته الذاتية تجسد في حسه المدرك طريقة توزيعه‬
‫للكلمات في المواقع التي تشعرنا بوظيفتها البالغية المتجهة إلى التعظيم واإلجالل‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ التهويل‪:‬‬
‫المهَ َّو ِل منه؛‬
‫التهويل في اللغة‪ :‬هو التخويف الشديد والتفزيع مع تعظيم شأن ُ‬
‫وتعجيبه‪ ،‬ومثله التهاويل‪ .‬ولعل هذا األسلوب االستفهامي المجازي من أعظم‬
‫أنماط التصوير اإليحائي في القرآن الكريم سواء ورد في مشهد يوم القيامة أم في‬
‫غيره(‪ ،)60‬وعليه قوله تعالى‪ :‬القارعةُ* ما القارعة*‪ ،‬وما أدراك ما القارعة‪‬‬
‫ديث الغاشية* وجوه يومئذ خاشعة‪‬‬ ‫(القارعة ‪ 101/1‬ـ ‪ ،)3‬وقوله‪ :‬هل أتاك َح ُ‬
‫(الغاشية ‪ 88/1‬ـ ‪.)2‬‬
‫ويعد استعمال أداة االستفهام (ما) المبهمة في الداللة من أعظم‬ ‫ُّ‬
‫االستعماالت في هذا المقام؛ وهي ذات إيحاء بديع في التأثير كما في قوله‬
‫تعالى‪ :‬وما أدراك ما يوم الفصل؟‪( ‬المرسالت ‪ .)77/14‬فسياق النص‬
‫القرآني يبرز عظمة التصوير الذي يجسد الخوف في نفوس المكذبين بيوم‬
‫وع ُدون لواقع* فإذا النجوم طُمست*‬ ‫القيامة كما تدل عليه اآليات اآلتية ‪َّ ‬إنما تُ َ‬
‫ت*‬ ‫ألي يوم أ ِّ‬
‫ُجلَ ْ‬ ‫ت* ِّ‬ ‫ت* وإ ذا الجبال ُن ِسفت* وإ ذا ُّ‬
‫الرسل أُقِّتَ ْ‬ ‫وإ ذا السماء فُ ِر َج ْ‬
‫ٍ‬
‫يومئذ للمك ّذبين‪( ‬المرسالت ‪ 77/7‬ـ‬ ‫صل* وي ٌل‬ ‫صل* وما أدراك ما يوم الفَ ْ‬ ‫ليوم الفَ ْ‬
‫صل؟)؛ وإ َّنما كان‬
‫الف ْ‬
‫ِّلت) أو (ما يوم َ‬
‫‪ )15‬فالتعظيم والتهويل لم ينحصر في االستفهام (ألي يوم أُج ْ‬
‫السياق يقوي ذلك ويوضحه(‪ .)61‬وعليه قول ساعدة بن جؤية في وصف نتائج معركة وقد تركت‬
‫وراءها إما رجالً حزيناً على قتاله‪ ،‬وإ ما رجالً يتجرع حسرات الموت في آخر حياته يعاني من عطش‬
‫شديد‪:‬‬

‫ص ْع َد ٍة ِح َ‬
‫طِم؟!‬ ‫ٍ ِ‬
‫وساهف ثم ٍل في َ‬ ‫وان مكتئب‬
‫َس َ‬‫ماذا هنالك من أ ْ‬
‫فالجمال البالغي يقوم على التناغم بين سياقات األسلوب وموازاة الحالة‬
‫النفسية والفكرية للمخاطب؛ فالتشكيل الجمالي إنما هو تشكيل نفسي فكري‬
‫واجتماعي يرتفع عن الحالة الزمانية المؤقتة‪0...‬‬

‫‪ 14‬ـ التكثير للتعظيم أو التهويل‪:‬‬


‫ربما لجأ الشعراء والعرب إلى االستفهام المجازي الذي يدل على التكثير‪ 0‬للتعظيم أو التهويل في‬

‫‪- 152 -‬‬


‫معنى من المعاني‪ ،‬أو صورة من الصور فتتعدد اإليحاءات وتعظم كقول املتنيب‪:‬‬ ‫أي‬
‫ً‬
‫أَيحيطُ ما َي ْف َنى بما ال َي ْنفَ ُد؟‬ ‫الكالم وال يحيط بوصف ُك ْم‬
‫ُ‬ ‫َي ْف َنى‬
‫فالشاعر يستكثر من فضل ممدوحه ويعظّم شأن ذلك فهو لكثرته ال ينفد(‪ .)62‬وقد استكثر أبو‬
‫العالء المعري من مات من البشر حتى أصبحت أجسادهم جزءًا من التراب الذي ندوسه‪ .‬فدل كل منهما‬
‫على أن الشاعر يدرك واقعه جمالياً بمثل ما يدركه فكرياً؛ فيقول املعري‪:‬‬
‫ـب فأَين القبور من عهد ِ‬
‫عاد؟!‬ ‫الر ْحـ‬
‫قبورنا تَ ْمألُ َّ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اح َهذي ُ‬
‫ص ِ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫رض إال من هذه األَجساد‬ ‫َدي َم األ‬
‫َظن أ ْ‬ ‫َخفِّف َ‬
‫الو ْط َء ما أ ُّ‬
‫فالمعري حين استكثر قبور الموتى‪ ،‬جعل األرض مقبرة؛ داعياً اإلنسان إلى التواضع والعفو‬
‫والمسامحة‪ .‬ولذا فإن جمالية الفن لم تسقط في المباشرة والوعظ التقريري‪ ،‬وعليه أيضًا قول الشاعر‪:‬‬

‫القلب عنها كان لي تََب َعا‬ ‫صحا‬ ‫كم ِم ْن َد ِن ٍّي لها قد ِ‬


‫ُ‬ ‫ولو َ‬ ‫َتبع ُه؟‬
‫تأ ُ‬ ‫ص ْر ُ‬ ‫ْ‬
‫بسعة‬
‫وهذا األسلوب على شدة تقاربه مع التعظيم والتهويل يفترق عنهما َ‬
‫التخييل‪ ،‬في الوقت الذي يعيش حالة وعي الحياة ليصوغ منها موقفاً فكرياً يمتلئ‬
‫بالمفاجآت والمؤثرات‪ ،‬وهو الذي يضفي عليه خصائص الجمال‪ 0...‬فهذا الغرض ـ‬
‫الذي جعلناه مستقالً ـ يتصف بالمبالغة الفنية وصفاً وداللة‪ ...‬ومن هنا تبرز‬
‫جماليته؛ إذ لم يعد مجرد مبالغة في التهويل أو التعظيم لشخص ما؛ بل غدا هذا‬
‫األسلوب ذا وظيفة عددية تتمثل فيها عناصر التجربة الفنية بكل أبعادها البشرية‬
‫والفكرية‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ التعجب‪:‬‬
‫أمر ظاهر المزية خافي السبب؛ وإ ذا خرج من أسلوب النحو السماعي والقياسي إلى‬‫هو استعظام ٍ‬
‫االستفهام فإنما يراد به المبالغة في إظهار التعجب(‪ .)63‬كقول أبي متام‪:‬‬

‫ص ِاد؟‬ ‫ِ‬
‫بأن َنداك بالم ْر َ‬
‫هلت َّ‬
‫َج ْ‬ ‫علي َّ‬
‫كأنها‬ ‫مالل ُخ ِ‬
‫طوب ط َغ ْت َّ‬
‫فهو يعجب من تراكم الشدائد عليه في حين أن ممدوحه كان لها بالمرصاد‪ ،‬وكقول المتنبي في‬
‫وصف الحمى التي تعجب‪ 0‬لشأنها كيف استطاعت أن تحل في عظامه على كثرة الشدائد التي يعاني‬
‫منها؛ فهو يستعظم‪ 0‬فعلها ويتعجب منه فيقول‪:‬‬

‫وص ْل ِت أَ ْن ِت من ِّ‬
‫الزحام؟‬ ‫فكيف َ‬
‫َ‬ ‫كل ٍ‬
‫بنت‬ ‫َّه ِر ِعندي ُّ‬
‫أَِب ْن َت الد ْ‬
‫ومثل هذا نجده في قول امرأة من صدر اإلسالم تتعجب البنها الذي أراد‬
‫أن يؤدبها وقد بلغت من العمر عتياً؛ فهي تستعظم فعله وتستنكره على سبيل‬
‫التعجب منه فتقول‪:‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫ش ْي ِبي يبغي عندي األ ََدبا؟‬
‫أ َْب َعد َ‬ ‫ق أَثوابي ُي َؤ ّدبني‬
‫يمز ُ‬
‫أَ ْنشا ّ‬
‫وهذا األسلوب كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى‪ :‬أَجعل اآللهة إلهاً* إن‬
‫جاءكم ِذ ْكٌر من‬
‫أن َ‬ ‫اب‪(‬ص ‪ .)5 /38‬وقوله تعالى‪ :‬أَو ِ‬
‫عجبتم ْ‬ ‫َ‬ ‫لشيء ُع َج ٌ‬
‫ٌ‬ ‫هذا‬
‫ربكم على رجل منكم‪( 0...‬األعراف ‪ ،)63 /7‬وانظر في السورة (‪69‬‬
‫و‪ 97‬ـ ‪ ،)98‬وقوله تعالى على لسان سليمان ـ عليه السالم ـ ‪‬مالي ال أ ََرى الهُ ْد ُه َد‪‬‬
‫ـ (النمل ‪ .)20/ 27‬وقولـه تعالى‪ :‬مالهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في‬
‫األسواق‪ ‬ـ الفرقان ‪ ،)25/7‬فالكفَّار يعجبون من نزول القرآن على بشر يأكل‬
‫مثلهم ويشرب‪ ،‬فلو نزل القرآن على ملك آلمنوا كما تشير تتمة اآلية ‪‬لوال أ ُْن ِزل‬
‫فيكون معه َنذيراً‪ .‬ومن التعجب قوله تعالى‪ :‬كيف تكفرون باهلل وكنتم‬ ‫َ‬ ‫ك‬
‫إليه َملَ ٌ‬
‫أمواتاً فأحياكم‪( ‬البقرة ‪.)64( )28 /2‬‬
‫فاالستفهام التعجبي في القرآن ّإنما هو حرص من اهلل ـ سبحانه ـ على المؤمنين رحمة وشفقة بهم‬
‫من إسرافهم في الغلط‪ ...‬بينما نجد التعجب في بعض الصور االستفهامية إلظهار الحسرة واأللم مما‬
‫يحصل من أمر ما‪ ،‬كقول أحمد شوقي في األحزاب التي تصارعت على الوصول إلى الوزارة‪ ،‬وهي‬
‫تزعم أنها تريد حرية البالد وبناءها‪:‬‬

‫الضجة الكبرى عالما؟‬


‫وهذي ّ‬ ‫إالم‬
‫بينكم َ‬‫ُ‬ ‫ف‬ ‫إالم ال ُخ ْل ُ‬
‫َ‬
‫صاما؟‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫العداوةَ والخ َ‬
‫بدون َ‬
‫وتُ َ‬ ‫لبعض‬ ‫بعض ُك ُم‬
‫يكيد ُ‬
‫وفيم ُ‬ ‫َ‬
‫ركبتم في قضي ِ‬
‫َّته الظالما؟!‬ ‫لما‬
‫بالحق َّ‬
‫ِّ‬ ‫ذهبتم‬ ‫َين‬
‫وأ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫لحدث خارج الذات‬
‫َ‬ ‫وتنبثق جمالية هذا األسلوب من صورته النفسية المتحفزة‬
‫أو داخلها‪.‬‬

‫والتحسر‪:‬‬
‫ّ‬ ‫التفجع‬
‫‪ 16‬ـ ّ‬
‫قد يخرج االستفهام إلى معنى التفجع أو التحسر واأللم؛ (‪)65‬وقد يدخل في التعجب والتكثير؛‬
‫حتى يغدو شبيهاً به‪ ،‬ويفترق‪ 0‬عنه أنه يتركز في الحسرة أوالً؛ وثانياً هو أشد ارتباطاً بتصورات المتكلم‬
‫وأحواله‪ ،‬كقول شمس الدين الكويف‪:‬‬

‫َهلي وال ِجيرا ُنها جيراني؟‬


‫أْ‬ ‫َهلُها‬
‫َصبح ْت ال أ ْ‬ ‫ِ‬
‫للمنازل أ َ‬ ‫ما‬
‫فهذا األسلوب وما قبله وما بعده حتى النهاية يستند إلى تشكيل جمالي ال ينفصل عن الواقع‬
‫االجتماعي‪ ،‬في الوقت الذي يلبي الرغبة الذاتية ويرسم جملة من العادات والتقاليد وعليه قول ابن‬
‫الزيات (ت‪ 233‬هـ) في رثاء زوجته‪:‬‬

‫س ِك ِ‬
‫بان؟‬ ‫َب ِع َ‬
‫يد ال َك َرى عيناهُ تَ ْن َ‬ ‫ُم ُه‬
‫المفارق أ َّ‬
‫َ‬ ‫أَالَ َم ْن رأى الطِّ َ‬
‫فل‬
‫ويزور المتنبي سيف الدولة في مرضه الذي ظهر إثر دمل في جسمه فيتحسر على حاله؛‬

‫‪- 154 -‬‬


‫ويعجب‪ 0‬كيف تنوبه الشكوى وكان المستغاث به في النائبات؛‪ 0‬فيقول‪:‬‬
‫طبيب‬
‫ُ‬ ‫وأنت ِلعلَّة الدنيا‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بشيء؟‬ ‫وكيف تُِعلُّ َك الدُّنيا‬
‫وب‬ ‫وكيف تَنوب َك الشكوى ٍ‬
‫تغاث لما ي ُن ُ‬
‫س ُ‬ ‫الم ْ‬
‫وأنت ُ‬
‫َ‬ ‫بداء؟‬ ‫ُ‬
‫وهذا األسلوب مبثوث في القرآن الكريم كقوله تعالى على لسان المجرمين‪:‬‬
‫‪‬يا ويلتنا؛ مالهذا الكتاب ال يغادر صغيرةً وال كبيرةً إال أحصاها‪ ‬ـ (الكهف ‪/18‬‬
‫‪ .)49‬وقال املتنيب‪:‬‬

‫َي رزاياه ِ‬ ‫ِ‬


‫بوتْ ٍر ُن ُ‬
‫طالب؟‬ ‫وأ ّ‬ ‫عاتب‬ ‫ِ‬
‫الدهر فيه ُن ُ‬ ‫صروف‬ ‫َي‬
‫أل ِّ‬
‫فالمنوال البالغي في هذا األسلوب والذي قبله يكتسب لذته الجمالية من عمق‬
‫التأثير الذاتي والروحي للنفس البشرية التي تصطدمها الحيرة والهموم‬
‫والفواجع‪...‬‬

‫‪ 17‬ـ اإلنكار‪:‬‬
‫قد يكون المتلقي منكراً ٍ‬
‫ألمر من األمور؛ وجاحداً لـه‪ ،‬فيقوم الخطاب‬
‫باالنزياح التركيبي مرة أخرى فيأتي أسلوب االستفهام اإلنكاري لينكر على‬
‫المخاطب إنكاره وليبطله أو يكذبه أو يوبخه‪ ،‬أو يقوم بتبكيته‪ ،‬ثم يقرر شيئاً ما‪.‬‬
‫ويستعمل استعمال (يكون أو ال يكون أو لم يكن‪ 0.)....‬وجعله الجرجاني أحد أربعة‬
‫مقاصد لالستفهام المجازي(‪.)66‬‬
‫جمع‬
‫َن لَ ْن َن َ‬ ‫اإلن َسان أ ْ‬
‫أيحسب ْ‬ ‫فمن استعمال اإلنكار بما يكون قوله تعالى‪َ  :‬‬
‫َيحسب أن لم َي َرهُ أحد‪( ‬البلد‬
‫عظامه‪( ‬القيامة ‪ ،)3 /75‬وقوله تعالى‪ :‬أ َ‬
‫يخلص إلى التقرير في اآليات الثالث التابعة ‪‬أَلم نجعل لـه عينين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ .)90/7‬ثم‬
‫ولساناً وشفتين‪،‬وهديناه النجدين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بكاف َع ْب َدهُ‪( ‬الزمر‬ ‫َليس اهلل‬
‫وكذلك يكون اإلنكار للتقرير في قوله تعالى‪ :‬أ َ‬
‫‪ ،)36 /39‬وقوله‪ :‬كيف تكفرون وأنتم تُْتلى عليكم آيات اهلل وفيكم رسوله‪( ‬آل‬
‫عمران ‪.)101 /3‬‬
‫ويستعمل االستفهام لإلنكار والتكذيب (بما لم يكن)(‪ ،)67‬ويدخل فيه معنى‬
‫التعجب؛ ليعلم منه قوة اإلنكار وتعاظم صورته وحالته في النفس البشرية؛ كقولـه‬
‫تعالى‪ِ :‬أَِإلـهٌ مع اهلل؛ تعالى اهلل عما يشركون‪ ‬ـ (النمل ‪ .)63 /27‬وقولـه تعالى‪:‬‬
‫كيف تحكمون* أَفال تَ َّ‬
‫ذكرون* أم لكم‬ ‫ِ‬
‫البنات على البنين* مالكم؛ َ‬ ‫طفَى‬
‫‪‬أَص َ‬
‫بين‪( ،‬الصافات ‪ 153 /37‬ـ ‪.)156‬‬ ‫سلطان ُم ٌ‬‫ٌ‬

‫‪- 155 -‬‬


‫ويلحظ المرء أن هذه األسئلة كلها تكذب الكافرين بما زعموه عن اهلل من أن‬
‫المالئكة لديه إناث اصطفاهم لذاته دون الذكور‪ ،‬كما يتضح من قوله تعالى‬
‫البنون* أ َْم‬
‫ُ‬ ‫البنات ولهم‬
‫ُ‬ ‫فاستَ ْفتِهم أَلرب َ‬
‫ِّك‬ ‫مستنكراً عليهم قولهم في اآليات التالية‪ْ  :‬‬
‫خلقنا المالئكة إناثاً وهم شاهدون* أَال ِإَّنهم لكاذبون‪(‬الصافات ‪ 149 / 37‬ـ‬
‫‪ .)152‬ويعد هذا كله من اإلنكار اإلبطالي في المفهوم البالغي‪0.‬‬
‫ونالحظ اإلنكار الذي يبلغ حد التوبيخ في االستفهام السابق‪ :‬أال إنهم من‬
‫إفكهم‪‬ولهذا يصبح التوبيخ جزءاً أصيالً في االستفهام اإلنكاري حتى سمي عند‬
‫الدارسين (‪ )68‬باإلنكار التوبيخي؛ ويدخل في أسلوب (ماال يكون) كقوله تعالى‪:‬‬
‫َغ ْي َر اهلل تدعون إن كنتم صادقين‪( ‬األنعام ‪ ،)40 /6‬وقوله‪ :‬أَئِ ْفكاً آلهةً ُد ْو َن‬
‫‪‬أ َ‬
‫اهلل تريدون‪( ‬الصافات ‪)86 /37‬؛ وعليه قول الشاعر‪:‬‬
‫وآذ َن ْت بم ِش ٍ‬
‫يب بعده َه َر ُم‬ ‫لم ْن َولَّ ْت شبيبتُ ُه‬
‫َ‬ ‫ارعواء َ‬
‫َ‬ ‫أَال‬
‫وقد رأى عدد من الدارسين البالغيين إدخال التوبيخ والتبكيت‪ 0‬في االستفهام اإلنكاري لوقوعها في‬
‫دائرة معنوية متشابهة‪ ،‬وهي دائرة تستجيب لحاجات نفسية وفكرية معينة عند المتكلم قبل المخاطب‪،‬‬
‫ولكننا سنخصص كالً منهما‪ 0‬بالحديث المنفصل؛ ألننا نرى َّأنهما مقصودان لذاتهما قبل اإلنكار‪.‬وقبل أن‬
‫نسوق ذلك نقدم أسلوب االستفهام االستنكاري (بما ال يكون) كما جاء على لسان امرئ القيس الذي‬
‫يتهكم‪ 0‬ويستنكر تهديد عدوه له؛ ويكذبه‪:‬‬
‫ياب أَ ْغ ِ‬
‫وال؟!‬ ‫ق كأَ ْن ِ‬
‫سنون ٌة ُز ْر ٌ‬
‫وم ْ‬ ‫ض ِ‬
‫اجعي‬ ‫في ُم َ‬
‫والمشر ُّ‬ ‫أ ََي ْقتُلُني‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أما المتنبي فإنه ال يليق به أن يكفر نعمة ممدوحه وقد غمره بالمجد والسؤدد‪ ،‬فهو يستنكر على‬
‫نفسه أن تفعل ذلك؛ بل إن ذلك ال يكون منه في قوله‪:‬‬

‫مو الفجر والفَ ْج ُر ساطعُ؟!‬‫لي ُن َّ‬


‫َع َّ‬ ‫ماء عندي وقد َن َم ْت‬ ‫َكفر َك َّ‬
‫الن ْع َ‬ ‫أَأ ُ‬
‫ف خاشعُ‬‫فوض وال الطَّ ْر ُ‬
‫فال القو ُل َم ْخ ٌ‬ ‫بع َد ِذلَّتي‬
‫أعززتَني ْ‬
‫وأَنت الذي ْ‬
‫فالنشوة ليست مقتصرة على سماع إيقاعات هذا الشعر‪ ،‬وإ نما في ابتكار‬
‫استعارات جديدة مجازية وفق أسلوب االستفهام اإلنكاري‪.‬‬

‫‪ 18‬ـ التوبيخ‪:‬‬
‫إن اإليحاء الجمالي المثير أن يغدو األسلوب االستفهامي مقصوداً للتوبيخ‬
‫على فعل من األفعال‪ ،‬أو على رأي من اآلراء‪ ....‬واإلنكار وحده غير كاف في‬
‫هذه الحال كما في قوله تعالى‪ :‬يا معشر الجن واإلنس ألم يأتكم ُر ُسل منكم‬
‫يقصون عليكم آياتي‪( 0...‬األنعام ‪ ،)130 /6‬فاهلل ـ سبحانه ـ يخاطب الكافرين‬
‫على جهة ا لتوبيخ‪ :‬ألم يأتكم‪ ...‬وعلى الرغم من هذا ال يؤمنون(‪)69‬؛ بل‬

‫‪- 156 -‬‬


‫هناك من رغبوا عن الزواج باإلناث كما هي سنة الخلق وأصروا بقوة على‬
‫الذكران من العالمين* وتذرون‬ ‫إتيان الذكور‪ .‬لذا وبخ اهلل هؤالء قائالً‪ :‬أَتأتون ُّ‬
‫ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؛ بل أنتم قوم عادون‪ ‬ـ (الشعراء ‪ 165 /26‬ـ‬
‫‪ .)166‬ومن الناس من يطمع في مال زوج طلقها؛ ولهذا يوبخهم اهلل بقوله‪:‬‬
‫‪‬وإِن أ ََر ْدتم استبدال َز ْوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً‪ ،‬فال تأخذوا منه‬
‫شيئاً؛ أتأخذونه بهتاناً وإِ ثماً ُمبِيناً‪( ‬النساء ‪ .)20 /4‬فبعد أن نهاهم عن فعل ذلك‬
‫أتأخذونه‪ ،...‬أما حسان بن ثابت فقد وجد جملة من الفرسان‬
‫َ‬ ‫فعلوه؛ لهذا وبخهم قائالً‪ :‬‬
‫يتخاذلون عن المعركة ويتجمعون مثل النساء عند التنانير؛ فقال‪ :‬موبخاً إياهم بأسلوب استفهامي مجازي‬
‫ذي تشكيل جمالي ولغوي مثير بوظيفته؛ فقال‪:‬‬

‫التنانير؟!‬ ‫إِالَّ تَ َج ُّ‬


‫ش ُؤكم َح ْو َل‬ ‫ٍ‬
‫عادية‬ ‫رسان‬
‫طعان‪ ،‬أَال فُ َ‬
‫َ‬ ‫أَال‬
‫ُ‬
‫وقال إبراهيم ناجي يخاطب أ َُّمته‪:‬‬
‫ب‬
‫الم ْه ُد واشتاقت ُك ُم التَُر ُ‬
‫شكاكم َ‬
‫ُ‬ ‫المنام؟ فَقَ ْد‬
‫ُ‬ ‫أكبر ما هذا‬
‫اهلل ُ‬
‫‪ 19‬ـ التبكيت‪:‬‬
‫لعل التبكيت أعلى درجة من التوبيخ فهو توبيخ وتقريع وتعنيف واستنكار؛‬
‫واالستفهام يخرج إلى هذا المعنى في كثير من آيات القرآن الكريم وفي كالم‬
‫العرب(‪ .)70‬ويستعمل في أمر ال يجوز أن يقوم اإلنسان به أو يفكر فيه كقوله‬
‫وأمي إلهين من دون اهلل‪ ‬ـ (المائدة ‪،)116 /5‬‬ ‫ت للناس اتّخذوني ّ‬ ‫ت ُقْل َ‬
‫تعالى‪ :‬أَأ َْن َ‬
‫فاهلل سبحانه يخاطب عيسى(‪ )‬مستنكراً عليه ومبكتاً فعل أتباعه بإشراك عبيده في‬
‫كنت قلتُهُ‬
‫َقول ما ليس لي بحق؛ إن ُ‬ ‫َن أ َ‬‫يكون لي أ ْ‬
‫ك ما ُ‬ ‫حان َ‬
‫عبادته فقال عيسى‪ُ  :‬س ْب َ‬
‫َّ‬
‫أعلم ما في نفسك؛ إنك أنت عالم الغيوب* ما‬ ‫فقد علمتَه؛ تعلم ما في نفسي وال ُ‬
‫اعبدوا اهلل َربِّي وربَّكم‪ ‬ـ (المائدة ‪ 116 /5‬ـ ‪.)117‬‬ ‫َن ُ‬ ‫َم ْرتَني به؛ أ ِ‬ ‫َّ‬
‫قلت إال ما أ َ‬ ‫ُ‬
‫َح ٍد من‬
‫ويب ّكت (لوط) قومه بقوله‪ :‬أَتَاتون الفاحشةَ ما َسَبقَ ُك ْم بها من أ َ‬
‫العالمين‪( ‬األعراف ـ ‪)80 /7‬؛ وهو قول تتآزر فيه همزة االستفهام مع السياق‬
‫لتخلق لدى المتلقي عملية االستهجان من عمل القوم‪ .‬ومثله قوله تعالى‪ :‬حتى إذا‬
‫جاؤوا؛ قال‪ :‬أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً‪ ،‬أم ماذا كنتم‬
‫تعملون‪ ‬ـ (النمل ‪ .)84/ 27‬ولهذا كان جواب االستفهام الذي خرج إلى التبكيت (‬
‫‪ )71‬في قوله تعالى‪ :‬ووقع القول عليهم بما ظلموا‪ ،‬فهم الينطقون‪( ‬النمل ‪/ 27‬‬
‫‪.)85‬‬
‫إن فاعلية التناسق في التأليف إحدى عوامل التأثير النفسي والفكري كما‬

‫‪- 157 -‬‬


‫أرسته األساليب المتقدمة؛ وهي مبنية على ما عرف عند عبد القاهر بنظرية النظم‬
‫واقترانها بعلم النمو وأثره في توخي المعاني والصور فضالً عن أنه يقول‪":‬إذا‬
‫استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت إلى النفوس‬
‫أعجب؛ وكانت النفوس لها أطرب"‪ .‬وهذا عينه الذي ترمي إليه األساليب‬
‫المجازية(‪.)72‬‬

‫‪ 20‬ـ الوعيد والتهديد‪:‬‬


‫الوعيد أو التوعد‪ ،‬هو التهديد أو اإلنذار بالشر؛ والوعيد ـ غالبًا ـ يكون بالشر والويل والثبور؛‬
‫وفعله أ َْو َعد (‪ .)73‬وهو أَحد المعاني التي يخرج إليها أسلوب االستفهام‪ ،‬وقد يجتمعان توكيداً وتحقيقاً‬
‫في اللفظ لخلق عالقات تركيبية جديدة ذات فاعلية كبرى في النفس والعقل؛ كما في قول النابغة الذبياين‪:‬‬

‫وتتر ُك َع ْب َداً ظالماً وهو راتعُ؟‍‌!‬ ‫أَتُ ِ‬


‫وع ُد َع ْبداً لم َي ُخ ْن َك أَمان ًة‬
‫فالفعل استعمل في التهديد واإلنذار بالشر ثم أكدت همزة االستفهام ذلك‬
‫المقصد‪ ،‬فالنعمان يتهدد النابغة الذي لم يرتكب إثماً؛ بينما ترك من أَذنب فحاد عن‬
‫الحق وجار على الشاعر‪.‬‬
‫وقد يأتي االستفهام للتهديد من دون اجتماعه مع فعل (أوعد) وصيغه‪ ،‬كما‬
‫لك األ َّولين‪ ‬ـ (المرسالت ‪.)16 /77‬والدليل على الوعيد‬ ‫في قوله تعالى‪ :‬أَلَم ُنه ِ‬
‫ْ ْ‬
‫اآلخرين* كذلك‬‫بالشر المستطير ما نعرضه من آيات قرآنية مثل‪ :‬ثم ُنتْبعهم ِ‬
‫يومئذ للمكذبين‪ ‬ـ (المرسالت ‪ 17/ 77‬ـ ‪ ،)19‬فطرائق‬ ‫ٍ‬ ‫نفعل بالمجرمين* ويل‬
‫بناء األسلوب توحي بعناصر التهديد والوعيد‪ .‬ونلمح هذا التهديد واإلنذار في‬
‫يجعل‬ ‫ُّك بِأَصحاب ِ‬
‫الفْيل* أَلم‬
‫ْ‬ ‫سورة الفيل(‪ 1 /105‬ـ ‪ :)2‬ألم تََر كيف فَ َع َل َرب َ ْ َ‬
‫كيدهم في تضليل؟‪ .‬وقوله تعالى في سورة الماعون‬
‫كذب بالدين؟)‪ . (74‬فالوظيفة النفسية والفكرية تبرز‬ ‫(‪ :)107/1‬أرأيت الذي ُي ِّ‬
‫بالوظيفة البالغية الجمالية في سياق العالقات التبادلية بين أسلوب االستفهام‬
‫ومضمونه‪0...‬‬

‫‪ 21‬ـ التهكم‪:‬‬
‫هو االستهزاء؛ أو الزراية على اآلخر بشيء ما والغضب عليه‪ ...‬والوقوع فيه بقول السوء(‪)75‬؛‬
‫كما في قول زهير بن أبي ُسْلمى‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف إِخا ُل أ َْدري‬
‫ص ٍن أ َْم ن ُ‬
‫ساء؟‬ ‫َقوم َآ ُل ح ْ‬
‫أ ٌ‬ ‫وما أ َْد ِري َ‬
‫وس ْو َ‬
‫ويستخف بهم؛ فهو ال يتحقق من جنسهم؛ إن كانوا ذكوراً أم إناثاً‪...‬‬
‫ّ‬ ‫فزهير يستهجن من القوم‪،‬‬
‫تق من قفاه حين‬ ‫وهذا ما بينه قوله‪( :‬أقوم‪ .)...‬ومثله نجده في قول المتنبي‪ 0‬الذي لم يعرف وجه ُّ‬
‫الد ُم ْس َ‬

‫‪- 158 -‬‬


‫أتى لينازل سيف الدولة‪:‬‬
‫الئم؟‬ ‫ِ‬ ‫قَفاهُ على ِ‬ ‫أ َِفي ُك ِّل ٍ‬
‫للو ْجه ُ‬
‫اإلق َْدام َ‬ ‫قادم‬
‫تق ٌ‬ ‫س ُ‬ ‫ُّم ْ‬
‫يوم ذا الد ُ‬
‫رك أن نترك ما يعبد آباؤنا؛ أو أن َن ْف َعل في‬ ‫تأم َ‬
‫َصالتُك ُ‬
‫وعليه قوله تعالى‪ :‬أ َ‬
‫أموالنا ما نشاء‪( ‬هود ‪ .)87 /11‬ثم تبين سياق اآليات بعدها وضوح تهكم القوم‬
‫عنهُ‪ِ ،‬إ ْن أ ُ‬
‫ُريد‬ ‫َن أُخالفكم إلى ما أ َْنهَاكم ْ‬
‫ُريد أ ْ‬
‫من ُشعيب والسيما قوله تعالى‪ :‬ما أ ُ‬
‫ت‪( ‬هود ‪.)88 /11‬‬ ‫إالَّ‬
‫استطع ُ‬
‫ْ‬ ‫اإلصالح ما‬
‫َ‬
‫هكذا تبينا أن كل أداة طريقتها اإليحائية في التهكم؛ ولها مذاقها الخاص‬
‫ل المسلمين كالمجرمين* مالكم؛ كيف تحكمون‪( ‬القلم‬ ‫كما في قوله تعالى‪ :‬أَفََن ْجع ُ‬
‫‪ 35 /68‬ـ ‪ .)36‬فالهمزة و(ما) و(كيف) ثالثتها‪ 0‬تدل على التهكم والسخرية ولكنها تتباين في اإليحاء‬
‫إبالغاً وتأثيراً‪ .‬وقال أبو فراس احلمداين‪:‬‬

‫ضياع؟!‬
‫َي َ‬
‫الح ْزم فيه أ َّ‬
‫ضيَّعوا َ‬
‫َ‬ ‫الح من أ َْم ِر قَ ْوٍم‬
‫الص َ‬
‫كيف أ َْرجو َّ‬
‫فالتشكيل البالغي الجمالي لهذا األسلوب يجسد الجوهر النفسي واإلنساني‪،‬‬
‫ومن ثم يغدو موازياً له‪ ،‬وكذا نراه في األسلوب اآلتي‪.‬‬

‫‪ 22‬ـ التحقير أو االزدراء‪:‬‬


‫هو تصغير شأن المخاطب واالستخفاف به‪ ،‬والحطّ من منزلته؛ كقولنا‪:‬‬
‫‪‬أَهذا الذي أُعجبت به كثيراً ومدحته؟‪ ،‬وكقول عبداهلل بن أبي ُعيينة‪:‬‬

‫ضي ُر؟!‬
‫اب َي ْ‬ ‫َج َنح ِة ُّ‬
‫الذ َب ِ‬ ‫َطني ُن أ ْ َ‬
‫أ ْ‬ ‫ضائري‬
‫عيد َك َ‬
‫الوعيد فما َو ُ‬
‫َ‬ ‫فدع‬
‫ِ‬
‫فإذا ظن أن طنين أجنحة الذباب يؤذي فإن وعيده يمكن أن يضره‪ ...‬وذلك ما‬
‫ال يكون‪ 0...‬فقد شبه الشاعر وعيد عدوه بصوت أجنحة الذباب‪.‬‬
‫وهذا الضرب من االستفهام المجازي سماه الجرجاني (الخروج إلى معنى‬
‫التمثيل والتشبيه)؛ باعتباره أحد أساليب االستفهام(‪ ....)76‬فإذا كان معنى التشبيه‬
‫والتمثيل يدخل في كثير من صور األساليب المجازية التي تحدثنا عنها أدركنا‬
‫لماذا اختصر الجرجاني االستفهام المجازي في أربعة أساليب سنشير إليها في آخر‬
‫كالمنا هذا‪ ...‬فضالً عن أنه آثر تلك التسمية اتساقاً مع مفهومه لنظرية النظم‪.‬‬
‫الضرب ما وقع في هجاء المتنبي‪ 0‬لكافور وانتقاصه والحط من قَ ْدره‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ومن هذا‬
‫والجلَ ُم؟‬ ‫ِم ْن أَي ِ‬
‫َّة الطُّ ْر ِ‬
‫كافور َ‬
‫ُ‬ ‫اجم يا‬
‫المح ُ‬
‫أين َ‬ ‫الكرم؟‬
‫ُ‬ ‫ق يأتي نحوك‬
‫بضعة األصل والحسب‪ ،‬وقد كان عبداً لحجَّام بمصر ثم اشتراه‬
‫فهو ينعته َ‬
‫اإلخشيد‪ ،‬ومن ثم صار حاكم مصر (‪ .)77‬ولذلك يتساءل‪( :‬أين أدوات الحجامة‬

‫‪- 159 -‬‬


‫بكؤوسها ومشراطها؟)‪.‬‬
‫ونك إالَّ ُه ُزواً؛‬ ‫إن يتخ ُذ َ‬ ‫ك ْ‬ ‫ومن هذا النمط االستفهامي قوله تعالى‪ :‬وإ ذا رأَو َ‬
‫بعث اهلل رسوالً!؟‪ ‬ـ (الفرقان ‪ .)41 /25‬ولهذا يسخر منهم اهلل سبحانه‬ ‫َهذا الذي َ‬ ‫أَ‬
‫ت‬ ‫ت من اتّخ َذ ِإلهَهُ هواهُ‪ ،‬أَفأ َْن َ‬‫وتعالى ألنهم جعلوا أهواءهم آلهة لهم فقال‪ :‬أ ََرأ َْي َ‬
‫تكون عليه وكيالً؟‪( ‬الفرقان ‪ .)25/43‬فالسؤال األول‪:‬‬
‫‪‬أرأيت‪ .....‬تحقيرواستهزاء؛ والسؤال الثاني‪ :‬أفأَنت‪ 0...‬لنفي وكالة الرسول‬
‫َن أكثرهم يسمعون أو يعقلون‪ِ ،‬إن هم إالَّ‬ ‫ب أ َّ‬
‫َ َ َ ْ ُْ‬ ‫عنهم‪ ،‬بدليل اآلية التالية‪ :‬أَم تَ ْح َس ُ‬
‫َضل سبيالً‪ ‬ـ (الفرقان ‪ .)44/ 25‬فالنسق البالغي اللغوي في‬ ‫كاألنعام؛ بل ُهم أ ُّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫أسلوب االستفهام في هذا المقام وغيره ينتظم وفق بنية سياقية فكرية واجتماعية‬
‫ونفسية و‪ ....‬ومن ثم يصبح التشكيل الجمالي في إطار العالقات اللغوية التبادلية‬
‫فعاالً يختلف عن مفهوم النظام اللغوي العادي‪ .‬وهذا ما نراه أيضاً في‬ ‫نظاماً لغوياً ّ‬
‫األسلوبين القادمين‪.‬‬

‫‪ 23‬ـ االستبعاد‪:‬‬
‫ال‪ 0‬أو‬ ‫هذا نمط بالغي لالستفهام المجازي يوضح فيه المتكلم أن حدوث ٍ‬
‫أمر ما يكاد يكون متخي ً‬
‫مستحيالً؛‪ 0‬كقول أبي متام‪:‬‬

‫رد َجوا ِب ِه؟‬ ‫ت كان ِ‬


‫الح ْل ُم َّ‬ ‫وج َه ْل ُ‬
‫َ‬ ‫ض ْبتُ ُه‬ ‫ٍ‬
‫بإنسان إذا أَ ْغ َ‬ ‫َم ْن لي‬
‫فأبو تمام يستبعد‪ 0‬وجود إنسان حليم ال يغضب إذا أهين‪ ،‬وكذلك يستبعد‪ 0‬الشعراء أن تنطق األطالل‬
‫وترد على أسئلتهم؛ إذ ليس لها عهد بالتكلم كقول أحدهم‪:‬‬

‫أم َه ْل لها بتكلم َع ْه ُد؟‬ ‫لس ٍ‬


‫ائل ردُّ؟‬ ‫هل بالطُّ ِ‬
‫لول َ‬
‫وكذلك المتنبي‪ 0‬يستبعد وجود من يحفظ الصنيع أو المعروف الذي أ سدي إليه في قوله‪:‬‬
‫اليدا؟!‬
‫بالحِّر الذي َي ْحفَظُ َ‬
‫لك ُ‬ ‫وم ْن َ‬
‫َ‬ ‫كالع ْف ِو ُ‬
‫عنه ُم‬ ‫رار َ‬‫َح َ‬
‫وما قَتَ َل األ ْ‬
‫ومن االستفهام الذي خرج إلى أسلوب االستبعاد قوله تعالى‪َّ  :‬أنى لهم‬
‫مجنون‪( ،‬الدخان‬‫وقالوا‪:‬م َعلَّم ُ‬
‫ُ‬ ‫ين*ثم تََولَّوا عنه‪،‬‬‫الذ ْكرى‪ ،‬وقد جاءهم رسو ٌل ُمبِ ٌ‬ ‫ِّ‬
‫استبعد عنهم الهداية والذكرى بعد أن جاء الرسول‬ ‫َ‬ ‫‪ 44/13‬ـ ‪ .)14‬أي أن اهلل‬
‫الكريم وبين لهم طريق الحق لكنهم تولَّوا عنه‪.‬‬
‫وقد يجتمع االستبعاد والتعجب في االستفهام المجازي كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫لشيء عجيب‪( ،‬هود‬
‫ٌ‬ ‫عجوز‪ ،‬وهذا َب ْعِلي شيخاً‪ ،‬إن هذا‬
‫ٌ‬ ‫‪‬قالت‪ :‬يا َوْيلَتَى؛ أَأَِل ُد‪َ ،‬وأََنا‬
‫إن اهلل أجرى الوالدة في صغيرات السن من‬ ‫‪ .)11/72‬وهو استبعاد من حيث َّ‬
‫النساء وفي الشباب‪ ،‬لذلك استبعدت والدتها وتعجبت لشأن ذلك االستبعاد‪(....‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫‪.)78‬‬
‫واالستبعاد والتعجب يجتمعان في قوله تعالى على لسان ذلك اإلنسان‬
‫المستهتر الذي فسدت حياته الدنيا؛ ألنه استبعد حدوث يوم القيامة‪ ،‬وظن أنه لن‬
‫وم القيامة‪‬ـ (القيامة ‪ .)6 /75‬وقد أوضح هذا‬ ‫يبعث من جديد‪ :‬يسأل أيَّان َي ُ‬
‫المقصد من االستفهام سياق اآليات المتقدمة ‪‬أيحسب اإلنسان أن لن نجمع‬
‫ي بنانه‪ ‬ـ (القيامة ‪ 3 /75‬ـ ‪ .)4‬فطاقات‬
‫عظامه* بلى قادرين على أن ُن َس ّو َ‬
‫االستفهام المجازي ـ هنا ـ تتضمن صوراً جمالية ال ترتبط بالمصادفة أو العفوية‬
‫وإ نما تتشكل فيها عناصر الوعي بالموقف واللغة‪.‬‬

‫‪ 24‬ـ االستبطاء‪:‬‬
‫هذا الغرض ليس بمعنى‪ 0‬استبعاد وقوع الفعل أو الحدث؛ وإ نما بمعنى خروج االستفهام إلى فعل‬
‫محقق بالضرورة؛ ويؤمن المرء بحدوثه؛ ولكنه يستبطئ وقوعه إما بسبب االستهتار والعبث وإ َّما بسبب‬
‫استنكاره‪ ،‬وإ ما بسبب تأخيره‪ ...،‬وإ ما بسبب‪ 0‬آخر ال يظهر(‪ .)79‬واالستهتار والعبث إنما يقوم على‬
‫مفهوم الوعي به ومعرفة أبعاده كلها‪ .‬فمن االستبطاء‪ 0‬بسبب‪ 0‬االستهتار‪ 0‬والعبث قول الشاعر‪:‬‬

‫نحوك يهوي فاتحاً فاهُ؟!‬


‫َ‬ ‫والموت‬
‫ُ‬ ‫له ٍو وفي ٍ‬
‫لعب‬ ‫حتَّى متى أَ ْن َت في ْ‬
‫ومن االستبطاء بسبب التأخر في حدوثه على اإليمان به ما جاء في قوله‬
‫ص ُر اهلل‪( ،‬البقرة‬
‫تعالى‪ :‬حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه‪ :‬متى َن ْ‬
‫‪ ...)2/214‬وهناك أنماط االستبطاء بسبب التردد والعناد والكفر‪ ،‬وعليه قوله‬
‫الوعد؛ إن كنتم صادقين‪ ‬ـ (يونس ‪ ،)48 /10‬وكذا‬ ‫ُ‬ ‫تعالى‪ :‬ويقولون متى هذا‬
‫يوم الدين‪( ‬الذاريات ‪ .)12/ 51‬فالمعنى على حكاية‬ ‫أيان ُ‬
‫قوله تعالى‪ :‬يسألون َ‬
‫أُناس كفروا باهلل فاستفسروا عن يوم القيامة بعد أن أبطأ عليهم‪ 0....‬وكان‬
‫االستبطاء مدعاة لهم في تكذيب المؤمنين(‪.)80‬‬
‫وقد يكون االستبطاء وقوع الغنى ألن الفقر والشقاء قد لزم المرء كما يقول المتنبي؛‪ 0‬ولذلك زحم‬
‫البيت باالستفهام المجازي (إلى أين‪ ...‬حتى متى‪ ....‬إلى كم)‪:‬‬
‫وحتَّى متى في ِش ْقو ٍة؟ وإ لى ِ‬
‫كم؟‬ ‫َي ِح ْين َ‬
‫أنت في زي ُم ْح ِرِم؟‬ ‫إِلَى أ ِّ‬
‫وقد يكون االستفهام الستبطاء ظهور الصباح؛ فقد أبطأ الليل بنجومه بعد أن أنهك التعب المتنبي‬
‫لسيره وسهره الطويل يقطع الفيافي فقال‪:‬‬

‫ف وال قَ َدِم‬
‫وماس َراه على ُخ ٍّ‬
‫ُ‬ ‫لم؟!‬‫ُّ‬
‫النجم في الظ َ‬
‫ساري ْ‬ ‫َحتَّ َ‬
‫ام نحن ُن َ‬
‫‪ 25‬ـ معاقبة حرف القسم‪:‬‬
‫قد تستعمل همزة االستفهام عوضاً من حرف القسم (الباء) ألصالته في‬

‫‪- 161 -‬‬


‫القسم؛ كقولنا‪ِ :‬‬
‫آهلل لقد كان كذا وكذا‪ 0....‬واختلف في جر المقسم به هل يكون‬
‫بالهمزة ألنها قامت مقام (الباء) أو يكون بحرف الجر المحذوف (الباء)؛ وتقديره‬
‫(أباهلل)؟(‪.)81‬‬

‫‪ 26‬ـ التنبيه ولفت النظر‪:‬‬


‫أمر ما‪ ،‬أو تذكيره به ولفت نظره‬ ‫قد يخرج االستفهام إلى تنبيه الخاطب على ٍ‬
‫ِّ‬
‫كيف َم َّد الظ َّل‪( ‬الفرقان‬
‫إليه؛ أو إلى أي شأن(‪ )82‬كقوله تعالى‪ :‬أَلَم تََر إلى ربِّك َ‬
‫ماء فتصبح األرض‬ ‫‪)45 /44‬؛ وقولـه‪ :‬ألم تر أن اهلل قد أَنزل من السماء ً‬
‫ُم ْخضَّرة‪( ‬الحج ‪ ،)63 /22‬وقوله‪ :‬فأين تذهبون‪ ‬ـ (التكوير ‪.)81/26‬‬
‫ومن ذلك قول المتنبي في كافور؛ ويلفت انتباهه إلى أن الحظَّ والسعد مالزم له؛ ماجعله يتساءل‪:‬‬
‫الق ِس ِّي ويُ ْعنى‪ 0‬باأل َّ‬
‫َسنة والرماح؟‪:‬‬ ‫لماذا يحتاج‪ 0‬إلى ِ‬

‫الس ْع ِد َي ْرمي دونك الثَّ ِ‬


‫قالن؟‬ ‫عن َّ‬ ‫سي وإ َّنما‬ ‫فمالك تختار ِ‬
‫الق َّ‬ ‫َ‬
‫ان ب َغير ِسنان؟‬
‫ط َّع ٌ‬
‫ُّك َ‬
‫وجد َ‬
‫َ‬
‫ومالك تُع َنى باأل ِ‬
‫َس َّنة والقَنا‬ ‫ْ‬
‫ومن التنبيه على الخطأ قوله تعالى‪ :‬أَتستبدلون الذي هو أ َْدَنى بالذي‬
‫فعلوه‬ ‫ٍ‬
‫هوخ ْيٌر‪‬؟ (البقرة ‪ .)61 /2‬فاهلل سبحانه وتعالى ينبه قوم موسى على خطأ َ‬ ‫َ‬
‫حين طالبوه أن يخرج لهم اهلل من األرض الفوم والبصل (‪ .)83‬ثم ختمت اآلية‬
‫صوا وكانوا َي ْعتَ ُدون‪ .‬وعلى هذا المعنى قول إبراهيم ناجي‪:‬‬
‫بقوله‪ :‬ذلك بما َع َ‬
‫َض َد ِاد‬
‫يتنابذون تناب َذ األ ْ‬
‫َ‬ ‫السعيد؟ وأهله‬ ‫ِ‬
‫البالد هو َّ‬ ‫أي‬
‫ُّ‬

‫‪27‬ـ إفادة االستفهام العديدـ من المعاني‪:‬‬


‫أفرد الزمخشري هذا النمط من أسلوب االستفهام المجازي بالحديث؛ ورأى‬
‫أنه قد يجتمع التقرير والتوبيخ والتعجب في المقصد كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪‬أتأمرون الناس بالبِر ْ‬
‫وتنسون أ َْنفُ َسكم‪( ‬البقرة ‪ ،)44 /2‬فقال‪ :‬أتأمرون‪ :‬الهمزة‬
‫للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم)(‪.)84‬‬
‫وقد يفيد اإلنكار والتعجب كما في قوله تعالى‪ :‬وكيف تكفرون باهلل وكنتم‬
‫أمواتاً فأحياكم؛ ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون‪( ‬البقرة ‪.)85( ،)2/28‬‬
‫وكنا رأينا أمثلة كثيرة من ذلك فيما مر بنا سابقاً من أغراض االستفهام المجازي والسيما‪ 0‬بيت‬
‫المتنبي الذي خرج إلى الهجاء ومزجه بالتوبيخ والتقريع والتهكم حين خاطب كافوراً‪:‬‬

‫الجلَ ُم؟‬ ‫من أَي ِ‬


‫َّة الطُّ ْر ِ‬
‫ور و َ‬
‫المحاجم يا كافُ ُ‬
‫ُ‬ ‫َين‬
‫أ َ‬ ‫ق يأتي َن ْح َو َك ال َك َر ُم‬

‫‪- 162 -‬‬


‫ولعل الجمع بين عدد من األغراض في أسلوب االستفهام المجازي كان ناتجًا من اشتماله على‬
‫مقاصد عدة؛ كقول المتنبي السابق‪ ،‬وقول أبي تمام الذي يفيد التهكم واإلنكار والتكذيب والتوبيخ‬
‫للمنّجمني‪:‬‬

‫ف فيها ومن َك ِذ ِب؟‬


‫صا ُغوهُ ِم ْن ُز ْخر ٍ‬
‫ُ‬ ‫النجوم وما‬
‫ُ‬ ‫َين الروايةُ؟ بل أين‬
‫أ َ‬

‫وإ ذا كنا قد استطعنا إثبات األنواع السابقة لالستفهام المجازي فإن األذواق‬
‫المرهفة والقرائن السياقية قادرة على إيجاد أنواع أخرى له‪....‬‬
‫وتلك األنواع التي جمعناها من الدراسات البالغية افتقرت إلى أنماط أخرى‬
‫عند الدارسين الذين عنوا بعلوم القرآن وبالغته؛ فأثبتوا أنواعاً أخرى غيرها؛ وإ ن‬
‫ساقوا بعض أنماط سابقة‪ ،‬كما أنهم قسموا االستفهام المجازي تقسيمات مغايرة كما‬
‫نجده ـ مثالً ـ عند الجرجاني (ت ‪ 471‬هـ)‪ ،‬والزمخشري (ت ‪ 538‬هـ)‪،‬‬
‫والزركشي بدر الدين محمد بن عبد اهلل (ت ‪794‬هـ) وغيرهم(‪.)86‬‬
‫وحين نتناول أساليب االستفهام المجازية التي انتهت إلى انزياح في التركيب‬
‫وفي الداللة البد أن نستحضر الدوافع وراءها‪ ،‬عند المتكلم والمخاطب على‬
‫السواء‪ ...‬ومن ثم البد من استحضار اإلطار النفسي واالجتماعي والفكري‬
‫صله عن السياق النصي الذي‬ ‫والزمني الذي قيل فيه هذا األسلوب أو ذاك دون فَ ْ‬
‫يرمي إلى هدف ما‪ .‬ولعل المعاناة الحقيقية والفهم الدقيق ألسلوب من األساليب‬
‫يساعدان في إنتاج جمالية جديدة ومبدعة لقراءة نص من النصوص‪.‬‬
‫متميزة في هذا االتجاه؛‬
‫وتعد قراءة عبد القاهر الجرجاني للنص القرآني ّ‬
‫فتناول الجملة القرآنية المؤلفة باعتبار أساليبها ظاهرة لغوية بالغية جمالية معجزة‬
‫تختزن في بنيتها إشارات ال متناهية من الصور الفنية الداللية‪ 0....‬فكانت نظريته‬
‫البديعة (نظرية النظم) مفتاحاً لعلوم جديدة‪ .‬وفيها رصد أثر البنية اللغوية والسيما‬
‫األثر النحوي والصوتي والصرفي فانتهى إلى تقسيم جديد ألساليب االستفهام‬
‫النص القرآني؛ في إطار التقديم والتأخير والحذف والوصل‬ ‫المجازية في ّ‬
‫والفصل‪ 0...‬و‪ 0....‬فرآها أربعة أقسام‪.)87( :‬‬
‫‪ 1‬ـ تقديم االسم وتقديم الفعل الماضي مع الهمزة التي لالستفهام‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تقديم الفعل وتقديم االسم والفعل المضارع في االستفهام‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ االستفهام الذي يخرج إلى معنى اإلنكار‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ االستفهام الذي يخرج إلى معنى التمثيل والتشبيه‪.‬‬
‫أما الزمخشري الذي حذا حذو الجرجاني في تقديم االسم في االستفهام‪ ،‬وفي‬

‫‪- 163 -‬‬


‫تقديم الفعل فإنه أضاف جملة من أساليب االستفهام األخرى إلى ما جاء به‬
‫أما ما اتفق معهم‬
‫البالغيون أو شرحها فاتفق معهم في أقسام واختلف في أقسام‪َّ .‬‬
‫فيه فهو اآلتي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى معنى التفخيم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى تبكيت المخاطب‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى التحقيق‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى االستبعاد‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى اإلنكار‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى التوبيخ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ خروج االستفهام المجازي إلى عدد من المعاني‪.‬‬
‫وانفرد بالحديث عن خروج االستفهام المجازي إلى غرض آخر؛ وهو أن‬
‫يكون الجواب هو المقصد من السؤال؛ وذلك ألن للجواب أثراً في سياق‬
‫الكالم(‪ .)88‬والغرض منه كما في قوله تعالى‪  :‬قال‪َ :‬ربِّي َّأنى يكون لي ُغ ٌ‬
‫الم‪،‬‬
‫الكَبر ِعتياً‪( ‬مريم ‪ )8 /19‬توكيد المعنى‪،‬‬
‫ت من ِ‬ ‫بلغ ُ‬
‫وكانت امرأتي عاقراً‪ ،‬وقد ْ‬
‫وإ زالة أي توهم لدى السامع؛ وبهذا تكمن جماليته البديعة‪.‬‬
‫وهناك أمور أخرى تحتاج إلى وقفة متأنية في دراسة منفصلة‪...‬‬
‫فالزمخشري لم يكتف بالنظر إلى نمط التأليف‪ ،‬وإ نما جرى وراء الدالئل‬
‫واإلشارات السياقية للنص القرآني‪ 0....‬فأنتج لنا مفاهيم بالغية بديعة في تفسيره‬
‫للقرآن الكريم في تفسيره المعروف بالكشاف (‪.)89‬‬
‫أما أبو عبد اهلل الزركشي فقد قسم االستفهام قسمين؛ االستفهام بمعنى الخبر؛‬
‫واالستفهام بمعنى اإلنشاء(‪:)90‬‬

‫‪ 1‬ـ االستفهام بمعنى الخبر‪:‬‬


‫ويسمى االستفهام اإلنكاري؛ فالمعنى منفي في‬ ‫ّ‬ ‫ولـه نوعان أولهما للنفي‬
‫َّ‬
‫ك إال القَ ْو ُم الفاسقون؟‪ ‬ـ‬
‫أسلوب االستفهام وتصحبه (إال) كقوله تعالى‪ :‬فَهَ ْل ُي ْهلَ ُ‬
‫(األحقاف ‪ .)35 /46‬وثانيهما لإلثبات ويسمى التقرير؛ ويأتي النفي بعد االستفهام‬
‫ت بربكم‪( ‬األعراف ‪.)172 /7‬‬ ‫َلس ُ‬
‫كقوله تعالى‪ :‬أ ْ‬
‫فالنفي أكد معنى االستفهام الذي جاء لإلثبات؛ وقد يجتمع مع اإلثبات أغراض‬
‫أخرى كاالفتخار والتوبيخ والعقاب والتبكيت والتسوية والتعظيم والتهويل؛‬

‫‪- 164 -‬‬


‫والتسهيل والتخفيف والتفجع والتكثير واالسترشاد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستفهام بمعنى اإلنشاء‪:‬‬
‫وله أنواع كثيرة؛ منها الطلب والنهي والتحذير والتذكير والتنبيه والترغيب‬
‫والدعاء والعرض والتحضيض واالستبطاء والتيئيس‪ ،‬واإليناس والتهكم‬
‫واالستهزاء والتحقير والتعجب واالستبعاد والتوبيخ‪.‬‬
‫ومهما تكن قيمة هذا التقسيم فإنه يدل على التداخل بين القسمين في‬
‫األغراض؛ كما يدل على التكرار‪...‬‬
‫ولعل ما انتهينا إليه من أقسام أكثر وضوحًا وإ فادة‪ ...‬ويسرًا على المتلقي؛‬
‫وتصبح الداللة المجازية أعظم انفتاحًا على مفهوم الدراسات البالغية الحديثة اللغوية‬
‫واألسلوبية؛ وهي في الوقت نفسه تظل مخلصة للجذور التي انبثقت منها‪.‬‬
‫وبناء على ما تقدم كله اتضح لنا أن أسلوب االستفهام المجازي هو كل‬
‫أسلوب ينزاح من حقل إلى حقل داللي آخر وتشكيل ذلك بأساليب جمالية مثيرة في‬
‫النفس تمتاز بالتموج الصوتي والتنوع اإليقاعي الصادر عن تنوع أدوات‬
‫االستفهام؛ وإ قامة التناسب بينها وبين العناصر الفنية األخرى؛ ومن ثم دقة إيحائها‬
‫بدالالتها‪.‬‬
‫وال يمكن أن يفوتنا التذكير بما تتصل به جمالية االستفهام المجازي من‬
‫إيحاءات عظيمة في الداللة؛ ما يجعلها تتجه إلى اإليجاز واالقتصاد اللغوي‪0...‬‬
‫واع ومرهف لكل نمط استفهامي حتى يستطيع المتلقي‬ ‫وبهذا تحث الفكر على تأمل ٍ‬
‫االنفتاح على هذا النمط أو ذاك‪ ...‬وعلى الرغم من تأثر حازم القرطاجني بمفاهيم‬
‫أرسطو البالغية فإنه طرح للمرة األولى المفهوم الجمالي للبالغة بصورة دقيقة‬
‫تنطبق على ما تقدم كله فيقول‪(( :‬يكون النظر في صناعة البالغة من جهة ما‬
‫يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه ومن جهة ما يكون عليه‬
‫بالنسبة إلى موقعه في النفوس من جهة هيأته وداللته‪ ،‬ومن جهة ماتكون عليه تلك‬
‫الصور الذهنية في أنفسها‪ ،‬ومن جهة مواقعها من النفوس‪ ،‬من جهة هيئاتها‬
‫ودالالتها على ما خارج الذهن‪ ،‬ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها األشياء التي‬
‫تلك المعاني الذهنية صور لها‪ ،‬وأمثلة دالة عليها‪ ،‬ومن جهة مواقع تلك األشياء من‬
‫النفوس"(‪.)91‬‬
‫ومن ثم يعتمد في ذلك كله إقامة التناسب في كل جماليات الكالم المسموع‬
‫والمكتوب؛ وهو أول من أظهر نظرية التناسب بشكل جمالي بديع يذكرنا بنظرية‬

‫‪- 165 -‬‬


‫النظم عند عبد القاهر‪ ،‬كما يذكرنا بمعايير فَصاحة اللفظ المؤلف عند ابن سنان‬
‫الخفاجي ومن جاء بعده‪ ...‬فقال‪(( :‬ومعرفة طرق التناسب في المسموعات‬
‫والمفهومات ال يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إال بالعلم الكلي في ذلك‪،‬وهو‬
‫علم البالغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب التناسب والوضع؛ فيعرف‬
‫حال ما خفيت به طرق االعتبارات من ذلك بحال ما وضحت فيه طرق االعتبار‪،‬‬
‫وتوجد طرقهم في جميع ذلك؛ تترامى إلى جهة واحدة من اعتماد ما يالئم واجتناب‬
‫ما ينافر))(‪.)920‬‬
‫إن تأمل االستفهام أياً كانت طبيعتها تحقق لنا القدرة على التناسب الذي يخلق‬
‫المتعة الفنية وتقوم على التالؤم بينها وبين الجوهر الذي تحمله في تنظيم دقيق‪...‬‬
‫وتناسق فاعل‪.‬وقد أكدت مقولة حازم القرطاجني في مفهوم التناسب جمالية خلق‬
‫التناغم بين المتكلم والمخاطب في وضعهما النفسي واالجتماعي والفكري‪ ...‬وفق‬
‫مقتضيات مفهوم البالغة لكل مقام مقال؛ ووفق مقتضى الحال والخطاب‪ ،‬وبهذا‬
‫أسس لقراءة المتلقي للنص األدبي نوعاً ما مع غيره(‪ .)93‬ولعل هذا كله ما نراه‬
‫في بقية األساليب كأسلوب التّمني والنداء‪ ...‬فكل أسلوب بالغي مجازي إنما يقوم‬
‫على مفهوم التداول النقدي المعروف بين األساليب‪ ،‬ألن األسلوب المجازي لم يعد‬
‫يستعمل على الحقيقة‪.‬‬
‫ولهذا تصبح الرؤية الجمالية النقدية جزءاً فاعالً في فهم األسلوب ألنه في‬
‫األصل نسق لغوي في بنية متكاملة ال تضيق باإلشارات الكثيرة‪ ،‬والتحوالت الفنية‬
‫الثرية بالدالئل‪ ...‬ما يحدونا إلى الدخول في تأمل العبارة البالغية؛ ال باعتبارها‬
‫مادة سحرية خفية؛ بل لكونها أنموذجاً لغوياً مشكالً بصورة إبداعية تدعو القارئ‬
‫إلى التدقيق فيها؛ وفهمها وتحليلها؛ إلنجاز إبداع جديد يصدر عنها دون أن‬
‫يقتلها‪...‬‬
‫ومن هنا نخرج إلى أسلوب التمني لنقرأه في ضوء ذلك‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫الفصل الرابع ـ‬
‫أسلوب التمني وبالغته وجمالياته‬

‫ـ تقديم‬
‫سعى البالغيون منذ القديم إلى إدراك الداللة الحقيقية لألصل اللغوي ألسلوب‬
‫التمني؛ وفي الوقت نفسه تَبين لهم أن هذا األسلوب قد خرج إلى ٍ‬
‫معان أخرى‬
‫تتضح من السياق على قلة األدوات المستخدمة فيه(‪.)94‬‬
‫وقد انحاز هؤالء البالغيون إلى جعل التمني أحد أساليب اإلنشاء الطلبي بينما‬
‫إنشاء طلبياً وإ نما رأوا فيه إنشاء غير طلبي‪0.....‬‬
‫ً‬ ‫لم يروا في أسلوب الرجاء‬
‫ولو نظر الباحث بعين فاحصة ألدرك أنهما يؤديان غاية واحدة‪ ،‬فكالهما‬
‫يبنى على طلب ال يتحقق إما الستحالته أو لبعد وقوعه‪ ...‬ولكن الفرق بينهما عند‬
‫القدماء أن التمني غير قابل للوقوع أياً كان شأنه‪ ...‬بينما الترجي قابل للوقوع‪،‬‬
‫وغايته اإلخبار لديهم فهو يدخل في الممكن ال المستحيل(‪.)95‬‬
‫وفي ضوء ذلك البد أن نؤخر الحديث عن أسلوب الرجاء إلى حينه في‬
‫اإلنشاء غير الطلبي‪ 0...‬ونقصر الحديث هنا على التمني الطلبي‪0...‬‬

‫القسم األول‪ :‬التمني الحقيقي‪:‬‬


‫تمن مستحيل‪ٍّ ،‬‬
‫وتمن بعيد الوقوع‪،‬‬ ‫فرق البالغيون بين نوعين من التمني؛ ٍّ‬‫ّ‬
‫وكالهما ال يرجى حصوله‪ 0....‬وجعلوا لهما أداة أصلية وهي (ليت)‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ التمني المستحيل‪:‬‬


‫هو طلب أمر مرغوب فيه أو محجوب ال يرجى حصوله لكونه مستحيل‬
‫وز فَوزاً عظيماً‪( .‬النساء ‪/4‬‬
‫ت معهم فَأَفُ َ ْ‬
‫كن ُ‬
‫الوقوع‪.‬ومثاله قوله تعالى‪ :‬ياليتني ْ‬

‫‪- 167 -‬‬


‫‪ .) 73‬فالتمني واقع للمنافقين الذين يتخلفون عن المؤمنين؛ فإذا أصابهم فضل عظيم تمنى المنافقون أن‬
‫يكونوا معهم ليفوزوا أيضاً بما حصلوا عليه‪ ...‬ولكن َّأنى لهم ذلك؟‪ ...‬وعليه قول ساعدة بن ُج َؤيَِّة‪:‬‬

‫الشيب ِم ْن َن َدِم؟‬
‫ِ‬ ‫أ َْم َه ْل على العيش بعد‬ ‫اله َرم‬ ‫َ ِ‬
‫ياليت ش ْعري‪ ،‬أال َم ْنجى من َ‬
‫وضعف؛ وكيف‬
‫فهو يتمنى أن ينجو من الهرم‪ ،‬وكبر السن بما فيه من شيب َ‬
‫لـه ذلك‪.‬؟‪0...‬‬
‫َّإنه ٍّ‬
‫تمن مستحيل‪ ...‬أما ابن الرومي فإنه يتمنى أن يمتد ليل رمضان حتى يعادل شهراً‪ ،‬على حين‬
‫مر السحاب‪:‬‬
‫يتمنى‪ 0‬أن يمر النهار الذي يكون فيه صائماً َّ‬

‫ومُّر نهاره َمَّر السحاب‬


‫َ‬ ‫ش ْهراً‬
‫الليل فيه كان َ‬
‫فليت َ‬‫َ‬
‫ولعل كثيراً من القوم يتمنون أمنيته المستحيلة ألنهم ال يدركون فضل الصيام؛ ومعنى التعبد‬
‫فيه‪ ...‬أما أبو العتاهية فقد تمنى عودة شبابه الذي ذهب وال سبيل إلى عودته‪:‬‬

‫المشيب‬
‫ُ‬ ‫فأ ُْبل َغ ُه بما فَ َع َل‬ ‫الشباب يعود يوماً‬
‫َ‬ ‫ليت‬
‫أال َ‬

‫‪ 2‬ـ التمني البعيد الوقوع‪:‬‬


‫وهو طلب أمر مرغوب فيه أو محبوب لكونه ممكن‪ 0‬الحدوث ولكنه بعيد‬
‫مثل ما أُوتي‬
‫ياليت لنا َ‬
‫المنال في التحقق‪ ،‬فهو أشبه بالمستحيل؛ كقوله تعالى‪َ  :‬‬
‫قارون‪ ‬ـ (القصص ‪ .) 28/79‬فمن أراد الحياة الدنيا رغب في الحصول على مال وفير يعادل مال‬
‫قارون‪ ...‬فإذا كان قارون قد أوتي من الحظ الكثير فال يعني أن يتحقق لآلخرين وإ ن لم يكن‬
‫مستحيالً‪ ...‬ومنه قول مروان بن أبي َح ْفصة في رثاء َم ْعن بن زائدة‪:‬‬

‫الع ْم َر ُم َّد لـه فَطاال‬


‫ولي َت ُ‬
‫ْ‬ ‫الشامتين به فَ َد ْوهُ‬
‫َ‬ ‫فليت‬
‫َ‬
‫لما مات؛ أو لو‬
‫فالشاعر يتمنى لو أن الحساد والمبغضين فَ َدوا َم ْعن بن زائدة َ‬
‫أن عمره طال‪ 0......‬ولكن هيهات؛ هيهات!‪ ..‬فعلى الرغم من أن العمر قد يطول‬
‫ببعض الناس إال أنهم طعام للموت؛ ومن ثم تمنى لو كان أعداء َم ْع ٍن وعواذله‬
‫قرباناً له‪ 0...‬لكن تمنيه كان بعيد الوقوع وال يتحقق فقد مات َم ْع ٌن‪0...‬‬

‫‪ 3‬ـ أدوات تقوم مقام (ليت)‪:‬‬


‫بهذا اتضح لنا أن صيغة التمني الوحيدة في المعنيين السابقين هي (ليت) فهي‬
‫موضوعة للمعنى األصلي فيه‪ ...‬وقد يستعمل في معناها أدوات ثالث أخرى هي‬
‫(هل‪ ،‬لو‪ ،‬لعل)‪ .‬وال يتمنى بهذه األدوات الثالث إال في المعنى المقطوع بعدم‬
‫حمل معانيها في التمني على معانيها األصلية‪ ،‬مما يبرز الفرق بين‬
‫وقوعه؛ لئال تُ َ‬
‫والع َرض‪.‬‬
‫الجوهر َ‬

‫‪- 168 -‬‬


‫وحين تختص هذه األدوات بالتمني فإن البالغيين واللغويين رأوا أن الفعل‬
‫المضارع إذا وقع في جوابها وجب نصبه‪ ...‬وهي تستخدم مكان (ليت) ألمر‬
‫بالغي وجمالي وهي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ هل‪:‬‬
‫تقع (هل) موقع (ليت) وتدل داللتها الحقيقية كما هي في قوله تعالى‪:‬‬
‫َمتَّنا اثنتين‪ ،‬وأ ْ‬
‫َحَي ْيتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من‬ ‫‪‬قالوا‪ :‬ربنا أ َ‬
‫سبيل‪( ‬غافر ‪ .)11 /40‬فالكافرون يتمنون أن يخرجوا من النار خروجاً سريعاً‬
‫أو بطيئاً بعد أن رأوا قدرة اهلل‪ ،‬وكيف يخرجون منها وقد أشركوا به؟!‪.)960(..‬‬

‫‪ 2‬ـ لو‪:‬‬
‫(و َّد ـ‬
‫تستعمل هذه األداة أيضاً مكان (ليت)؛ ولها استعماالن األول مع الفعل َ‬
‫يود‪ 0.)....‬والثاني من دونه‪ ...‬وكالهما في التمني(‪ .)97‬فمن األول قوله تعالى‪:‬‬
‫هن ُفيدهنون‪( ‬القلم ‪ .)68/9‬فقد َو َّد الكاذبون المداهنة‪ ...‬أي تمنوا لو‬
‫‪َ ‬و ُّدوا لو تُ ْد ُ‬
‫لنت لهم وترفقت بهم‪ ،‬وأن تتركهم على الشرك والكفر وتوافقهم عليهما‪ ...‬ولكن‬
‫ط القتاد‪ ...‬فقد جاء استعمال (لو)‪ 0،‬بمعنى التمني غير الحاصل‪...‬‬ ‫دون أمنيتهم َخ ْر َ‬
‫ولم ينصب الفعل (فيدهنون)‪ 0،‬إذ ُعدل به إلى طريق اإلخبار؛ أي فهم يدهنون‪.‬‬
‫وهناك قراءة أخرى بنصب الفعل (فيدهنوا)(‪.)98‬‬
‫ومن الثاني قوله تعالى‪ :‬لو أن لي بكم قَُّوةً‪( ،‬هود ‪ .)80 /11‬فالنبي (لوط)‬
‫(عليه السالم) لم يكن لـه قوة كافية لردع قومه عن الفحشاء وخزيه في ضيفه لهذا‬
‫تمنى أن ُيمنح تلك القوة التي يقوى بها عليهم بنفسه؛ فاستعمل (لو) للتمني غير‬
‫المحقق وبعيد الوقوع(‪.)99‬‬
‫وقبل أن نمضي في الحديث عن األداة الثالثة ا لتي تقوم مقام(ليت) نؤكد أن‬
‫األسلوب البالغي في التمني يرتبط جمالياً باألداة البالغية اللغوية ويتعامل معها‬
‫بناء على تشكيل جمالي ينساق وفق مستوى التركيب ومن ثم إحساس المتلقي‬
‫بعالقات التبادل التركيبي وعناصرها الجمالية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ لعل‪:‬‬
‫أبلغ‬
‫تستعمل (لعل) استعمال (ليت) للتمني غير الحاصل كقوله تعالى‪ :‬لعلّي َ‬
‫فأطلع على إله موسى‪ ‬ـ (غافر ‪ 36 /40‬ـ ‪.)37‬‬
‫َ‬ ‫األسباب* أَسباب السموات‬
‫َ‬
‫هامان أن يبني‪ 0‬لـه صرحاً مكشوفاً عالياً متمنياً أن يحقق لـه أمنيته إذا عاله في‬
‫َ‬ ‫فرعون‬
‫ُ‬ ‫فقد أمر‬

‫‪- 169 -‬‬


‫الوصول إلى ما وصل إليه النبي موسى(‪ .)100‬وهذا يكون على إنزال (لعل) التي تفيد الترجي‪ ،‬منزلة‬
‫(ليت) التي تفيد التمني؛ والبد من نصب فعل (أبلغ)‪ .‬وبهذا يفيد القول رغبة نفسية مغايرة‪ 0‬للتركيب‬
‫وعليه قول الشاعر‪:‬‬

‫ير‬ ‫لعلّي إلى من قَ ْد َه ِو ْي ُ ِ‬ ‫ِ‬


‫ت أَط ُ‬ ‫َ‬ ‫جناحه‬
‫َ‬ ‫عير‬
‫أَس ْر َب القَطا! هل َم ْن ُي ُ‬
‫(م ْن)‪ 0‬وربطها بـَ‬
‫فاألسلوب هنا زلزل الصورة الثقافية اللغوية الستعمال َ‬
‫(لعل) في شكل مثير‪.‬‬
‫هكذا تبين لنا أن التمني أيأ كانت أدواته إنما هو طلب أمر مرغوب فيه أو‬
‫محبوب ال يرجى حصوله لكونه مستحيالً‪ ،‬أو لكونه ممكناً بعيد الوقوع ال يتحقق‬
‫وله أداة أصلية هي (ليت) وأدوات أخرى تقوم مقامها وتحل محلها في المعنى‪...‬‬
‫ومن هنا يثبت أن البنية اللغوية ليست بنية محايدة في التعبير واألداء؛ وهي‬
‫حين تنطلق من الوحدة التركيبية المعنوية الصغرى في (أداة التمني) ال تقتصر‬
‫عليها فالبد لها من سياق يؤطر معنى التمني‪ ،‬ويقدمه على الوجه المراد منه‪...‬‬
‫ولما ُربط التمني باالستقبال وربطت األدوات بالفعل المضارع المنصوب لم‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بمعان محددة‪ ،‬كالتي أشرنا إليها‪ ،‬فالسياق القائم على وحدة‬ ‫يكن هذا ليحصرها‬
‫معنوية كبرى قد يوجه معنى التمني إلى اتجاه آخر‪ ،‬وإ ن ظل السياق مؤطراً‬
‫باألداة‪...‬‬
‫وهذا كله يجعل التركيب في أسلوب التمني أعظم من أن يحتويه أسلوب ذو‬
‫اتجاه واحد‪ ،‬أو أسلوب مباشر؛ فالبد أن يتجه إلى أسلوب متنوع يأخذ في أعماق‬
‫الداللة‪ 0...‬وتصبح روح اللغة هي الهدف والوسيلة‪ 0...‬فاألسلوب هنا يتجه إلى‬
‫وظيفة عاطفية أعلى في شدتها ودرجتها مما عرفناه من قبل؛ وتبعث من‬
‫اإليحاءات الفكرية أضعاف ما انطوت عليه في األسلوب السابق‪....‬‬
‫ومن هنا سنتحدث عن المعاني البالغية البعيدة ألسلوب التمني المجازي‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أسلوب التمني المجازي‪:‬‬
‫إن المتكلم المتمني لطلب ما إنما يوظف ألفاظه لغرض ما قد يكون بعيداً في‬
‫التأمل كبعد التمني في التحقق والحدوث‪ 0...‬ولهذا يهيئ كالشاعر تماماً ((لأللفاظ‬
‫نظاماً ونسقاً وجواً [يسمح] لها بأن تشع أكبر شحتنها من الصور والظالل‬
‫واإليقاع))(‪.)101‬‬
‫فاللغة في هذا األسلوب تتجلى عن ٍ‬
‫معان مثيرة حاضرة في الذهن والقلب‬
‫والنفس ومن ثم متجددة ومتعانقة بالخيال؛ لتنفتح على عالم من الرؤى البعيدة‬

‫‪- 170 -‬‬


‫والعجيبة‪ .‬فمهمة األسلوب الجمالي المثير نابعة من مهمة اللغة التصويرية البديعة‬
‫والدالة على إيماءات تقترب من الرمزية‪ 0...‬وإ ن لم َّ‬
‫تتخل عن األبعاد الواقعية للغة‬
‫األسلوب الحقيقي للتمني‪ 0...‬فأسلوب التمني يتصل بأسرار النفس اإلنسانية‪،‬‬
‫ويحاول كشف جوهر حركة التغيير في الواقع االجتماعي باعتباره غاية وهدفاً‪...‬‬
‫ولعل هذا ما يتجلى في كل أسلوب من أساليب التمني المجازي؛ مما يأتي‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الترجي‪:‬‬
‫إذا كان األمر المرغوب فيه في أسلوب التمني مما يرجى حصوله وليس‬
‫مستحيالً؛ كان طلبه ترجياً ويعبر عنه بـ (لعل وعسى‪ )....‬ومن ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫‪َّ ‬‬
‫لعل اهللَ ُي ْحدث بعد ذلك أمراً‪( ‬الطالق ‪ .)1 /65‬فهذا الكالم جزء من آية يأمر‬
‫فيها اهلل المطلقة أال تخرج من بيت الزوجية حتى تنقضي ِّ‬
‫العدة‪ ،‬فلعل اهلل يغير قلب‬
‫ذلك الزوج‪ ،‬ويقلب قلبه من البغض إلى المحبة‪ ،‬ومن عدم الرغبة فيها إلى الرغبة‬
‫فيها‪ ،‬ومن عزيمة الطالق إلى الندم عليه فيراجعها‪ 0...‬أي أحصوا العدة لعلكم‬
‫ترغبون وتندمون وتراجعون (‪.)102‬‬
‫ونلحظ أن هذا األسلوب لم ِ‬
‫يأت على صيغة التمني في المعنى‪ ،‬وإ نما جاء‬
‫على جهة أداة اللغة لوظيفة مباشرة؛ وهي استخدام (لعل) على األصل في الرجاء‬
‫الذي يمكن حصوله‪ ..‬فاألسلوب البالغي يؤدي وظيفة محددة؛ بينما إذا استخدمت‬
‫(لعل) في التمني‪ ،‬أو استخدمت (ليت) في موضع (لعل أو عسى)‪ 0‬فإن األمر‬
‫سيتغير كثيراً‪ .‬فاللغة في مثل هذا األسلوب تقوم على نظام غير معياري في إطار‬
‫العناصر التي تتضافر فيه وفق عملية االنزياح لتؤدي وظيفة جديدة في عملية‬
‫التشكيل الجمالي‪.‬‬
‫فأداة التمني (ليت) إذا استعملت في معنى الترجي‪ ،‬وحلَّت محل (لعل) أفادت‬
‫معنى المبالغة في الحصول على الطلب‪ 0...‬وأبرزت الطلب الممكن في صورة‬
‫المستحيل‪...‬‬
‫ومن هنا تكمن القدرة على التشكيل الجمالي الخيالي المثير‪ .‬فلو قلنا‪( :‬ليت لي ألف‬
‫دينار‪.)....‬لس قنا الحصول على هذا المبلغ في إطار نسق التمني؛ والتمني ال يتحقق‪ ،‬بينما‪ 0‬الحصول على‬
‫ُ‬
‫حي ز إالمكان‪ ...‬فخرج الكالم عن المألوف إلبراز صورة الممكن في صورة‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫واقع‬ ‫المذكور‬ ‫المبلغ‬
‫المستحيل؛ وماهو إال إلبراز المعنى على جهة المبالغة‪ ،‬وهنا تكمن الجمالية الفريدة ألسلوب التمني‪...‬‬
‫وقيل‪ :‬إذا وقعت (ليت) في معنى (لعل وعسى) كانت للترجي وليس للتمني‪ ،‬ألنها خرجت عن معناها‬
‫األصلي‪.‬ولكن بعض الشعراء أكثر من استعمال (ليت) في مكان (لعل) لالستحالة فكشف عن جمالية‬
‫مدهشة ذات إيحاءات متعددة‪ ،‬كما نراه في قول املتنيب‪:‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫فحم َل ُك َّل َق ْل ٍب ما أطاقا‬
‫َّ‬ ‫فلي َت َهوى األَحب ِ‬
‫َّة كان َع ْدالً‬ ‫َ َ‬
‫وقوله أيضاً في معنى بديع وقد َحلَّت به المصائب فال تزايله‪:‬‬
‫الب ْع ِد ما بيني وبين المصائب‬ ‫ِ‬
‫م َن ُ‬
‫ليت ما بيني وبين ِ‬
‫أحبَّتي‬ ‫فيا َ‬
‫وقوله في معنى طريف آخر‪:‬‬
‫ِ ٍ‬ ‫الملوك على األَق ِ‬
‫فلم يكن لدن ْيء عنده طمعُ‬ ‫ْدار ُم ْعطي ٌة‬ ‫َ‬ ‫ليت‬
‫ال على قدر فعلهم ونبل أنفسهم فال‬
‫الشعراء ما ً‬
‫َ‬ ‫فهو يرجو أن يعطي الملوك‬
‫يطمع في عطائهم خسيس دنيء‪ ،‬والملوك قادرون على ذلك‪ ...‬ولكنه حين استعمل‬
‫(ليت) أخرج المعنى بصورة المستحيل‪ ،‬فحقق وظيفة البالغة والجمال معًا‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ إبرازـ المعنى المستحيل في صورة الممكن القريب‪:‬‬


‫هذا األسلوب عكس األسلوب السابق فوظيفة اللغة فيه نمط من الجموح العاطفي والفكري إلى‬
‫تمنى أن يرجع أخوه كليب حياً ليعرف ويشاهد كيف ثأر‬‫تحقيق‪ 0‬ماال يمكن تحقيقه كقول المهلهل الذي ّ‬
‫له‪ ،‬وقد كان يصفه بأنه ال هم لـه إال زيارة النساء؛ لذا يرجو أن يعود من قبره ليرى بأسه وشجاعته‪،‬‬
‫وهيهات‪:‬‬

‫أي ِز ْير‪.‬‬ ‫في ْخ ِبر َّ‬


‫بالذنائب‪ُّ :‬‬ ‫المقابر عن ُك ٍ‬
‫ليب‬ ‫فلو ُن ِب َ‬
‫ش‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫وكذلك قول النابغة في فتاة تمنت‪ 0‬أن يكون الحمام الطائر في السماء لها‪ ،‬وهي ال تملك إال واحدة‬
‫منه؛ فأخرج المعنى المستحيل في صورة الممكن‪ ،‬على اعتبار فقر تلك الفتاة‪:‬‬
‫إلى حمامتنا أو ِنصفَه ِ‬
‫فقد‬ ‫الحمام ل َنا‬ ‫أَال ليتما َه َذا‬
‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫َُ‬
‫أم ا صريع الغواني (مسلم بن الوليد) فقد تمنى عودة أيام الصبا‪ ،‬ويتحسر على ذهابها فيقول‪:‬‬
‫ّ‬
‫بالمقام قليال‬
‫ف ُ‬ ‫َس َع َ‬
‫لو كان أ ْ‬ ‫وزمان ِه‬
‫ِ‬ ‫الصبا‬ ‫واهاً ألَي ِ‬
‫َّام ِّ‬
‫فاألسلوب البالغي للتمني في ذلك كله سعى إلى إبراز المعنى المستحيل في‬
‫لتقبل ذلك حتى في المثال‬
‫صورة قابلة للوقوع؛ والتّصرف اللغوي أفسح المجال ّ‬
‫َسعف) في‬ ‫األخير‪ ...‬فالتركيب في ظاهره (لو كان أسعف‪ ،)...‬يدخل (كان) و(أ ْ‬
‫االستحالة‪ ،‬بعد أن كان فعل (أسعف) يدل على اإلمكان‪ 0...‬بيد أن التركيب‬
‫المتكامل يتولد منه داللة جديدة تؤكد إبراز المعنى المستحيل في صورة الممكن‪0،‬‬
‫ألن فعلي (أسعف) و(كان) مرتبطان باإليجاد والحدوث على ارتباط أداة الشرط‬
‫(لو) باالمتناع‪.‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫‪ 3‬ـ العناية بالمعنى القابل للحصول والتشوق إليه‪:‬‬
‫ينحرف أسلوب التمني إلى طلب أمر مرغوب فيه يمكن تحققه في الواقع‬
‫ولم ا فات المتكلم ذلك الطلب تشوق إليه وحرص على إدراكه‪0...‬‬ ‫لغير المتكلم‪ّ .‬‬
‫وهذا األسلوب يستند إلى تطابق داللته مع منطق األشياء في الواقع المعيش ال‬
‫الواقع النفسي الحقيقي للمتكلم؛ ما َولَّد شحنة عاطفية عالية عنده كحال الكافرين‬
‫شفَعاء فيشفعوا لنا‪( ‬األعراف ‪ .)53 /7‬فالتركيب‪ 0‬بني على‬
‫في قوله تعالى‪ :‬فهل لنا من ُ‬
‫أساس التمني ال على أصل حقيقة االستفهام؛ َفعدم االستشفاع امتنع للكفرة المكذبين بالرسل وبلقاء اهلل؛‬
‫فتولد منه التمني المناسب للمقام؛ وهو إبراز العناية في صورة الممكن التي تتحقق‪ 0‬بشفاعة اهلل لهم‬
‫والعفو عنهم وعن شفعائهم‪ ...‬أما أن يشفع لهم من غزوهم في الحياة الدنيا فضرب من المحال‪ ...‬ومثل‬
‫ذلك األسلوب نجده في قول الشاعر‪:‬‬

‫شتََرى أو َي ْر ِجعُ‬
‫لو كان ذلك ُي ْ‬ ‫َّام ُه‬
‫الشباب حميدةً أَي ُ‬
‫ُ‬ ‫ولَّى‬
‫فالعالقة التركيبية تقوم على التضاد البالغي بين (ولَّى) و(يرجع) وما بينهما يتشوف فيه الشاعر‬
‫إلىعهد الصبا الذي عاش فيه أيامه الجميلة‪...‬حيث برزت عنايته بذلك حين استخدم (لو) في التمني‪ ،‬وهو‬
‫يتشوق‪ 0‬فيه إلى الشباب الذي يتمتع‪ 0‬به غيره‪ ..‬وقد يكون إبراز المعنى الممكن وقوعه والتشوق إليه‬
‫ال‪ 0‬بما يجري مع المتكلم الذي يتمنى أن يلقى أحبته لما رأى جماعة من الطير في السماء كقول ابن‬ ‫ممث ً‬
‫املعتز‪:‬‬
‫ِ‬
‫طوباك‬ ‫طوباك؛ يا ليتني واي ِ‬
‫َّاك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ت لها‪:‬‬
‫طير‪ ،‬فق ْل ُ‬
‫س َح َراً ٌ‬
‫َمَّر ْت بنا َ‬
‫فاللذة الجمالية لهذا األسلوب البالغي تبرز في التأليف الفني التركيبي القائم‬
‫على المشاكلة والتضاد‪.‬أي إن ميدان الجمال ليس فيما بني عليه التركيب من ألفاظ‬
‫واضحة؛ وإ نما فيما حواه ذلك التعبير من خلق صورة ممتعة غير متوقعة في كمال‬
‫المعنى والتشوق إلى حدوثه‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ اإلشعار بعزة المتمنَّى وندرته‪:‬‬


‫إن من أهداف التمني تحويل االنتباه من شيء إلى شيء إثارة للدهشة وحثاً‬
‫للفكر على التأمل‪ ....‬ولعل المعرفة التي يقدمها أسلوب التمني في هذا االتجاه‬
‫يكمن في إشعار المخاطب بعزة المتمنى وندرته‪ ...‬ويصبح األسلوب بهذا التحول‬
‫ذا جمالية خاصة ال نجدها في األساليب السابقة‪ .‬وعليه قوله تعالى‪:‬‬
‫فنكون من المؤمنين‪ ‬ـ (الشعراء ‪ .)102/ 26‬فلما تقطعت‬ ‫َ‬ ‫كرةً‬ ‫‪‬فلو َّ‬
‫أن لنا َّ‬
‫األسباب بالكافرين وكانوا قد اتبعوا كبراءهم فظلموا أنفسهم فكانوا حطباً‬
‫لجهنهم‪َّ ...‬‬
‫تمنوا لو عادوا إلى الحياة الدنيا واتبعوا الرسل والمؤمنين‪ .‬فأعمالهم‬
‫انقلبت حسرات عليهم بينما أعمال المؤمنين كانت نعيماً وفوزاً بالجنة‪.)103(.‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫وبهذا برز المتمنى بصورة عزيزة وعظيمة‪ ،‬ال يستطيع الكفرة إدراكه‪ ...‬وقد أجاد المتنبي‪ 0‬في‬
‫استعمال هذا األسلوب حين رثى أخت سيف الدولة في قوله‪:‬‬

‫ولَ ْي َت غائب َة الشمسين لم تَِغ ِب‬ ‫سين غائب ٌة‬ ‫ليت طالع َة َّ‬
‫الش ْم َ‬ ‫َف َ‬
‫فالمتنبي‪ 0‬حرص على استعمال صفة الشمس في حال المغيب واإلشراق؛ واعتمد على مفهوم‬
‫التضاد إلبراز المعنى من جهة‪ ،‬وبيان عزته وندرته‪ ....‬فالتمني اعتمد على أسلوب االختالف النادر في‬
‫المطابقة‪ ...‬فالشمس تطلع وتغيب‪ ،‬ولكنه تمنى أال تطلع‪ ،‬أما أخت سيف الدولة فقد غابت إلى األبد‪....‬‬
‫وتمنى‪ 0‬أال تغيب‪ 0.‬وبهذا أنتج األسلوب البالغي معنى العزة في المتَ َّ‬
‫منى‪ ،‬وعليه قول المتنبي أيضًا في‬
‫مدح سيف الدولة‪:‬‬
‫ص ِر األ ِ‬
‫ُول؟‬ ‫ليت المدائح تَستَوفي ِ‬
‫َع ُ‬
‫َه ُل األ ْ‬
‫ب وأ ْ‬
‫فما ُكلَ ْي ٌ‬ ‫مناق َب ُه‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫خاف عن النفس وغير متوقع ومكانته قد‬ ‫فعزة ممدوحه ومكانته قد دفعت بالمتنبي‪ 0‬إلى إيحاء بعيد‬
‫خاف عن النفس وغير متوقع لندرته‪ ...‬حين تمنى أن تستوفي المدائح‬ ‫ٍ‬ ‫دفعت بالمتنبي‪ 0‬إلى إيحاء بعيد‬
‫صفاته‪ ،‬ألنه فاق كليبًا في المنزلة والمناقب وسبق فيها أي إنسان من أي عصر‪ ....‬وذلك كله ينطبق‪0‬‬
‫على قول المتنبي أيضاً‪:‬‬

‫فال أَشتكي فيها وال أَتعتَّ ُ‬


‫ب‬ ‫أال ْلي َت ِش ْع ِري َه ْل أَقو ُل قصيدةً‬
‫فقد أشعرنا المتنبي بعزة تلك القصيدة التي ال يشتكي فيها من شيء‪ 0....‬حين‬
‫استعمل كلمة (ليت) فهي نادرة الوجود‪ ....‬ومنه قولنا‪( :‬لو تأتيني فأحدثك‬
‫وتحدثني)؛‪ 0‬فقد أنزلنا مجيء ٍ‬
‫أحد ما منزلة العزيز النادر‪ .‬وهذا كله يعلي من تقدير‬
‫المقدر لقيمة الخيال الخالّق في تحديد نوعية األسلوب البالغي‪0...‬‬
‫التشكيل الجمالي ّ‬
‫إذ كل أسلوب ال يماثل أخاه في مكوناته الجمالية‪ ،‬ولو انبثق كل منهما من مشكاة‬
‫خيال واحد‪ ...‬وال يعني هذا أن األسلوب البالغي يهدف إلى تبديل العالمة اللغوية‬
‫إلى معنى؛ وإ نما يهدف إلى تشكيل جمالي يعالج ماهية البنية ذاتها في إطار‬
‫وظيفتها النفسية والفكرية و‪....‬‬

‫‪ 5‬ـ التندّم والتحسُّر‪:‬‬


‫عبد القاهر الجرجاني الغربيين ال‬
‫النحوي الذي سبق به ُ‬ ‫إن رصد األثر ْ‬
‫يتوقف عند عملية االنزياح اللغوية بغرض خلق دالالت جديدة؛ وإ نما يخلق في‬
‫الوقت نفسه دالئل من داخل البنية التركيبية المؤلفة‪ ....‬وإ ذا كان علم الداللة اليوم‬
‫يعنى ببنية الجملة وتفسيرها من الجهة الداللية فإن عبد القاهر الجرجاني قد سبقهم‬
‫إلى ذلك حين قال‪(( :‬ليس إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو‬
‫وتعمل على قوانينه وأصوله)) (‪ .)104‬ولكن عملية التحول في األثر النحوي ال‬
‫تتحدد في البنى األساسية والبد أن تراعي الهدف من البنية المركبة(‪.)105‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫فالتمني على سبيل المثال قد يكون موضوعاً لغاية التندم والتحسر وفق مقتضى‬
‫السياق التركيبي والنصي كما في قوله تعالى يتحدث فيه عن رجل ظن أن جنته‬
‫(حديقته) لن تبيد أبداً؛ فلما قضى اهلل أمره فيها وأماتها؛ وذهب بمائها أصبح ذلك‬
‫الرجل ‪‬ي َقلِّب َكفَّْي ِه على ما أنفق وهي َخاويةٌ على ع ِ‬
‫روشها ويقول‪ :‬يا ليتني لم‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫بربي أحداً‪( ،‬الكهف ‪(( .)20/42‬وتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر‬ ‫ّ‬ ‫ُشرك‬
‫أ ْ‬
‫ألن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن‪ ،))...‬ثم جاءت كلمة ((ياليتني تذكر موعظة‬
‫أخيه فعلم أنه أُتي من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى ال يهلك‬
‫اهلل بستانه))(‪.)106‬‬
‫فرط في ذات‬ ‫ومثل ذلك نراه في قول الكافر الظالم لنفسه الذي ندم على ما ّ‬
‫اهلل حين عصاه؛ ولم يتخذ الرسول خليالً لـه بينما اتخذ إبليس ولياً لـه وخليالً فقال‬
‫ت مع‬ ‫ض الظالم على يديه؛ يقول‪ :‬يا ليتني اتخ ْذ ُ‬ ‫تعالى واصفاً إياه‪ :‬ويوم َي َع ُّ‬
‫الرسول سبيالً* يا ويلتَى ليتني لم أتخذ فالناً خليالً‪( ‬الفرقان ‪ 27 /25‬ـ ‪ .)28‬فقد‬
‫((تمنى لو صحب الرسول وسلك معه طريقاً واحداً وهو طريق الحق‪ 0،))...‬ولكنه‬
‫ندم والت ساعة مندم‪ ،‬وبدت الحسرة عليه في قوله‪ :‬ياويلتى‪ ،‬ليتني)‪. (107‬‬
‫مت‬
‫قد ْ‬ ‫المرء ما َّ‬
‫ُ‬ ‫وهو ـ من ثم ـ يتمنى أن يكون تراباً في قوله تعالى‪ :‬يوم ينظر‬
‫يداه‪ ،‬ويقول الكافر‪ :‬يا ليتني كنت تُراباً‪( ‬النبأ ‪ .)40 /78‬فإبليس نفسه الذي كفر‬
‫تمنى أن يكون مثله تراباً بعد‬ ‫بأمر اهلل وأَغوى اإلنسان الذي خلقه اهلل من تراب‪َّ ...‬‬
‫أن أدرك الحقيقة؛ وطالما احتقر اإلنسان المخلوق من التراب وفضَّل نفسه عليه‬
‫ألنه ُخلق من نار(‪ .)108‬فأسلوب التمني بهذه األشكال الشفافة تنبئ بوظائف‬
‫عديدة بالغية وجمالية وداللية‪0...‬‬
‫ومن ثم أدركنا أن الدرس البالغي في أساليب التمني إنما هو درس أسلوبي‬
‫العرب العديد من آراء األسلوبية واللسانية‬
‫ُ‬ ‫جمالي فني ولغوي؛ وقد سبق به‬
‫الحديثة على نحو ما؛ وإ ن جاءت هذه بمصطلحات متطورة ومتنوعة ال تشبه ما‬
‫أشرنا إليه عند العرب‪.‬‬
‫ولعل ما نقوله في أسلوب النداء يكمل ما بدأنا به؛ فضالً عن أن الممارسة‬
‫التحليلية ألساليب اإلنشاء قادرة على إظهار لطائف بالغية وأسلوبية كثيرة ال‬
‫تنحصر فيما َّ‬
‫قدمناه أو سنقدمه‪ .‬فالممارسة اإلبداعية ـ على مدى التاريخ ـ أكثر‬
‫رحابة من أن تقف عند ٍ‬
‫أحد ما مهما كانت عبقريته النقدية أو البالغية‪ ،‬ولكل‬
‫عصر قضاياه ورؤاه ومبدعوه‪.‬‬

‫‪- 175 -‬‬




- 176 -
‫الفصل الخامس ـ‬
‫أسلوب النداء وبالغته وجمالياته‬

‫ـ حدود وأبعاد‪:‬‬
‫النداء ظاهرة غريزية في اإلنسان والحيوان‪ ،‬وهي تمثل لدى اإلنسان ِ‬
‫صَيغاً‬
‫راقية عما هي لدى الحيوان‪ ،‬وإ ن اشتركا فيه بالتعبير عن تلبية الحاجات‪،‬‬
‫واستعمالها أداة للدفاع عن الذات في بعض األحيان‪ ،‬بيد أن النداء (الصوت) يتآزر‬
‫في هذا األسلوب مع السياق البالغي اللغوي ليقدم وظيفة ما‪ .‬وبهذا ننظر إلى‬
‫ظاهرة النداء عند اإلنسان ليس باعتبارها وسيلة اتّصال فحسب‪ ،‬وإ نما باعتبارها‬
‫أداة تعبير عن المشاعر واألفكار منذ فجر التاريخ‪ .‬وإ ذا كان كثير من لغات األمم‬
‫قد تخلَّى عن األصل الداللي الذي وضعت لـه أساليب النداء‪ ،‬ومال إلى الداللة‬
‫االصطالحية وأثرها فإن العربية ظلت متمسكة باألصل الداللي الذي وضع لـه‬
‫النداء وكانت ترتقي في الوقت نفسه مع الداللة المجازية لتكتسب على الدوام رقياً‬
‫فكرياً ونفسياً واجتماعياً؛ بل قل حضارياً‪0....‬‬
‫وبهذا أصبحت أساليب النداء في داللتها وجماليتها البالغية رسالة كالمية‬
‫وعمالً فنياً في آن معاً‪ .‬ولعل هذه األساليب تستجيب للسؤال الذي طرحه (رومان‬
‫جاكبسون) حين قال‪(( :‬ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً؟)) (‪.)109‬‬
‫إن الجملة البالغية في أساليب النداء عند العرب أداة وهدف من دون أن‬
‫يكون هناك اتفاق مسبق بين المتكلم والمخاطب‪ ...‬ولهذا تستدعي مكونات‬
‫الخطاب الندائي منا قراءة واعية لطبيعته ووظيفته‪ .‬فالمتكلم ليس مجرد ُم ْر ِسل‬
‫ألدوات النداء وإ نما هي تعبير مثير عن مشاعره وأفكاره؛ ومرتبطة ـ في الوقت‬
‫وب ْعداً في المكان أو المنزلة الذاتية واالجتماعية‪ ...‬وبمعنى‬
‫نفسه ـ بالمخاطب قرباً ُ‬
‫آخر؛ إن المتكلم يدخل في إطار البنية التركيبية الستعمال هذه األدوات أو تلك‪،‬‬

‫‪- 177 -‬‬


‫وكذلك المخاطب في مقاماته‪ ،‬ومن ثم يدخالن في البنية البالغية الجمالية بطبيعتها‬
‫الذاتية الفردية‪ ،‬ثم بالطابع االجتماعي والفكري الذي ترسيه في مواضعاتها‪.‬‬
‫وبهذا يصبح أسلوب النداء ذا جمالية إشارية في تعانقه مع اللغة والمتكلم‬
‫تحوالته وأنواعه‪ ....‬فالنداء بالهمزة موضوع‬ ‫وغاية في ّ‬‫ق َ‬‫طلَ ٌ‬
‫والمخاطب ألنه ُم ْن َ‬
‫لداللة مغايرة للداللة التي وضع لها حرف النداء (يا) أو (وا)‪0...‬‬
‫فصوت النداء (أ) أو (أي) أو (آ) يكاد يكون واحداً في اللغة الفرنسية أو‬
‫اإلنكليزية ممثالً بالحرف (‪ )A‬وإ ن اختلف َّ‬
‫الن ْبر فيه بين الفتح أو الكسر فيهما‪،‬‬
‫وهو صوت محايد إذا كان منفرداً بذاته بينما هو في العربية غير محايد في إفراده‬
‫وتركيبه ومن ثم ما ينتج عنه من داللة في النظام الصوتي لتشكيالت الحروف‬
‫وقيمة إيقاعاتها وطاقاتها النغمية يجسد قيمة فكرية وجمالية متميزة‪.‬‬
‫إن الخطاب البالغي واللغوي ألساليب النداء وصيغه في العربية ينتمي إلى‬
‫نوع خاص من جماليات اللغة العربية التي اختزنت في ذاتها مشاعر المتكلم‬
‫ومقاصده منذ فجر التاريخ؛ فاحتفظت باألصوات األولى المنبعثة لإلنسان األول؛‬
‫تحوالت جمالية مثيرة‬
‫تحولت ّ‬ ‫فأخلصت لجذور اللغة؛ إذ تمسكت بمالمح منها؛ ثم َّ‬
‫في االستخدام‪ 0....‬على الدوام‪...‬‬
‫ولما أثبتت الدراسات البالغية الجديدة أن البالغيين العرب قد امتلكوا قامات‬
‫عالية في دراساتهم البالغية ألساليب العربية‪ ،‬وال يق ّل عنهم علماء اللغة واألدب‬
‫كان علينا أن ُنَن ّوه بذلك لندرك أن المشكلة الجوهرية لدينا هي كيف ُن ْنصف أنفسنا‬
‫في العصر المتفجر بالمعرفة في ميادين شتى؛ وفي طليعتها الدراسات اللسانية‬
‫واألسلوبية والبالغية النصية‪ ...‬التي ذهبت بعيداً في الغرب في ضوء الفلسفات‬
‫الفكرية الكثيرة لديه‪.‬‬
‫لهذا؛ علينا أن ننظر إلى مكونات خطاب النداء بعين االعتزاز لما قدمه‬
‫البالغيون العرب؛ ـ ونحن نفتح عيوننا على الدرس البالغي المعاصر ـ لنفيد من‬
‫فضاءات نظراتهم مركزين على جمالية ذلك الخطاب وسماته‪ .‬لذا سنتوقف عند‬
‫تعريف النداء؛ وأدواته؛ وما يدل عليه صوت كل أداة‪ ،‬ومن ثم نبين أساليبه‬
‫الحقيقية والمجازية‪.‬‬

‫ـ مفهوم النداء وأدواته‪:‬‬


‫النداء ـ لغة ـ‪ :‬التصويت والدعاء؛ واصطالحاً‪ :‬طلب إقبال المدعو‬
‫(المخاطب) على الداعي(المتكلم)‪ 0‬ألمر ما بحرف يقوم مقام فعل النداء (أدعو)‬

‫‪- 178 -‬‬


‫ويتضمن معناه‪.‬‬
‫ص َحب باألمر‬ ‫وأدواته ٍ‬
‫ثمان‪( :‬أ ـ أي ـ آ ـ آي ـ يا ـ هيا ـ أيا ـ وا)‪ .‬وأكثر ما ُي ْ‬
‫والنهي‪ ،‬وإ ن ورد معه استفهام أو َخبر‪.)110(.‬‬
‫وقد اتفق اللغويون والبالغيون على أن توزيع الصوت الكامن في هذه‬
‫(األدوات) صالح في طبعه لتقسيمها إلى قسمين‪ :‬نداء القريب‪ ،‬وخصوه باثنتين (أ ـ‬
‫أي)؛ وباقي األدوات للبعيد‪ .‬وقد أشار (سيبويه) إلى استعمال حروف النداء‬
‫القريب للبعيد مرة والبعيد للقريب مرة أخرى؛ ثم انتهى إلى قوله‪(( :‬فأما االسم‬
‫غير المندوب فينبه بخمسة أشياء بـ(يا) و(أيا) و(هيا) و(أي) وباأللف‪ ،‬نحو‪:‬‬
‫يمدوا‬
‫َحار بن عمرو) إال أن األربعة غير األلف قد يستعملونها إذا أرادوا أن ّ‬ ‫(أ ِ‬
‫الم ْع ِرض عنهم الذي يرونه أنه ال يقبل‬ ‫أصواتهم للشيء المتراخي عنهم أو اإلنسان ُ‬
‫للمد في موضع‬ ‫عليهم إال باالجتهاد‪ ،‬أو النائم المستثقل‪ .‬وقد يستعملون هذه التي ّ‬
‫يمدون فيها‪ ،‬وقد يجوز‬ ‫(األلف) وال يستعملون (األلف) في هذه المواضع التي ّ‬
‫لك أن تستعمل هذه الخمسة غير (وا) إذا كان صاحبك قريباً منك مقبالً عليك‬
‫(حار بن كعب)‪ ،‬وذلك أن‬ ‫توكيداً؛ وإ ن شئت حذفتهن كلهن استغناء؛ كقولك‪ِ :‬‬
‫جعلهم بمنزلة من هو مقبل عليه بحضرته يخاطبه‪ .‬وال يحسن أن تقول‪( :‬هذا)‪،‬‬
‫وال‪:‬؛ (رجل)‪ ،‬وأنت تريد‪( :‬يا هذا‪ ،‬يا رجل)‪ ،‬وال يجوز ذلك في المبهم؛ ألن‬
‫أي حين َح َذفتَهُ))‪.)111( .‬‬
‫الم ْبهَم كأنه صار بدالً من ُّ‬ ‫الحرف الذي ينبه به لزم ُ‬
‫فسيبويه قد أوجز بكالم بليغ شديد االختصار ما يتعلق باستعمال أدوات‬
‫النداء‪ ،‬وحذفها‪ ،‬في النداء الحقيقي أو المجازي…‬
‫وقد لزمتنا نظراته البارعة والذكية أن نبرزها في إطار الجمال البالغي ال الحديث اللغوي الكمي‬
‫السابق مشيرين في البداية إلى أن حذف أداة النداء اليغير‪ 0‬من نوع النداء ويكون تبعاً لتقديرها كقول أبي‬
‫العالء يتحسر على من في القبور‪:‬‬
‫فأ َْي َن القبور من عه ِد ِ‬
‫عاد؟‍‍!‬ ‫الر ْح َب‬
‫قبورنا تمألُ َّ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫صاح هذي ُ‬
‫ِ‬
‫وهذا ينقلنا إلى بيان أساليب النداء وبيان جمالياتها‪...‬‬
‫القسم األول‪ :‬أسلوب النداء الحقيقي‪:‬‬
‫قسَّم البالغيون النداء إلى قسمين تبعاً ألدوات النداء‪ ،‬النداء القريب‪ ،‬والنداء‬
‫البعيد‪.‬‬

‫‪- 179 -‬‬


‫‪ 1‬ـ نداء القريب‪:‬‬
‫وفيه قسمان نشأا عن داللة القرب في (أ ـ أي) وهما‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ القريب الحقيقي‪:‬‬
‫تستعمل (أ ـ أي) لنداء القريب الحقيقي‪ ،‬وليس بصحيح ما قيل عن أنها للقريب والمتوسط والبعيد(‬
‫‪ ،) 112‬والدليل على ذلك أن صوت الهمزة صوت انفجاري ال ينبه السامع إال لمسافة قصيرة؛ وال يلفت‬
‫المخاطب البعيد؛‪ ...‬لهذا وضعت الهمزة منذ األصل لنداء القريب كما في قول امرئ القيس‪،‬‬

‫َج ِملي‬
‫ص ْر ِمي فأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإِ ْن ُك ْنت قد أ َْز َم ْعت َ‬ ‫ض هذا التدلُّ ِل‬
‫أفاطم َم ْهالً َب ْع َ‬
‫ُ‬
‫فالتشكيل الصوتي لنداء القريب رمز قوي لمجاورة المخاطب للنفس لِقُرب المسافة والمنزلة‪،‬‬
‫وعليه قول الشاعر‪:‬‬

‫فإذا ُد ِع ْي َت إلى المكارم فاف َْع ِل‬ ‫كارب يو ِم ِه‬


‫ُ‬ ‫ني إِ َّن أ َ‬
‫َباك‬ ‫أ َُب َّ‬
‫ضر في خطاب رسول اهلل؛ فهي تخاطبه بصوت ال يشي إال بالعاطفة‬ ‫وكقول قُتَْيلَة بنت َّ‬
‫الن ْ‬
‫اللصيقة بالنفس‪:‬‬

‫في قو ِمها‪ ،‬والفَح ُل فَ ْح ٌل ُم ْع ِر ُ‬


‫ق‬ ‫ٍ‬
‫كريمة‬ ‫ض ْن ِء‬
‫َمحمد يا َخ ْير ِ‬
‫أ ٌ‬
‫َ‬
‫فالهمزة في داللتها على القريب لطبيعة ما بنيت عليه من صوت‪ ،‬تدل في الوقت نفسه في‬
‫الشواهد السابقة على قرب المنادى من النفس؛ فانفتاح الفم بالهمزة يدل على تلطف في الخطاب المناسب‬
‫لصوتها‪ ...‬وهو خطاب يغاير‪ 0‬تماماً ما نجده في الحرف الثاني الموضوع لنداء القريب (أي)‪ .‬فالصوت‬
‫في هذه األداة ال يحتمل أن يستعمل للبعيد على جهة اإلطالق؛ ألنه جمع بين (الهمزة والياء)‪ ،‬والياء‬
‫أفادت االستكانة والحنو والعطف فضالً عن التلطف الذي تحمله الهمزة‪....‬كما نجده في خطاب ُكثَيِّر‬
‫َع َّزة لفتاة يقال لها َعْب َدة‪:‬‬

‫دير‬ ‫ٍ‬ ‫بد في َر ْو َن ِ‬


‫لهن َه ُ‬
‫حمامات َّ‬ ‫بكاء‬
‫َ‬ ‫ُّحى‬
‫ق الض َ‬ ‫َي َع َ‬
‫سمعي؛ أ ْ‬
‫أَلَ ْم تَ ْ‬
‫فبعد أنا استعمل ( ُكثَيِّر) االستفهام االستنكاري (ألم‪ 0).....‬رجع القهقهرى إلى‬
‫علي ما‬
‫عبد‪ )....‬وعليه قولنا‪( :‬أي بني؛ أَعد َّ‬ ‫َي َ‬ ‫إرسال المودة والعطف فاستعمل (أ ْ‬
‫ني ال تكن يابساً فتكسر وال تكن ليناً‬
‫َي ُب َّ‬
‫سمعت)‪ .‬وعليه القول المأثور‪( :‬أ ْ‬
‫فتعصر)‪ .‬فالصوت في نداء القريب يحمل وظيفة التسمية والوصف في آن معاً ثم‬
‫يتأطر في نظام تركيبي مثير‪...‬‬
‫وفي ضوء ماتقدم يتضح لنا أن صوت الهمزة و(أي) لم يتغير في موجاته‬
‫ودالالته فال زال يحمل ذلك منذ أن وضع لـه عند اإلنسان األول‪ ،‬وقد ظل الحرف‬
‫(أي) محصوراً باستعمال القريب‪.‬‬
‫وقد ُّ‬
‫يرد قائل‪ :‬لماذا استعملت الهمزة في نداء البعيد؟ فتكون اإلجابة في‬
‫األسلوب الثاني الستعمال النداء القريب الحقيقي الذي ينزل البعيد منزلة القريب‪.‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫ب ـ إنزالـ البعيد منزلة القريب‪:‬‬
‫تال لألسلوب السابق تطور بتطور المشاعر واألفكار عند العرب فأنزلوا البعيد منزلة‬ ‫هذا المعنى ٍ‬
‫ٍ‬
‫للطيفة بالغية جميلة‪ ،‬وهي أن‬ ‫القريب الحقيقي في النداء واستعملوا لـه الهمزة فقط‪ ...‬وكان منهم هذا‬
‫قرب المخاطب من قلب المتكلم؛ وحضوره في ذهنه‪ ،‬وكأنه ماث ٌل أمام العين؛ جعله يستعمل‪ 0‬الهمزة‬
‫لتأكيد هذه المعاني على الحقيقة ال المجاز؛ كقولنا لولدنا المسافر‪( :‬أبني‪ ،‬تنبَّه؛ فإن المكاره محدقة بك)‪،‬‬
‫وكقول الشاعر كاتباً‪ 0‬إلى ولده ينصحه‪:‬‬

‫ِّب‬
‫العاقل المتأَد ُ‬
‫َ‬ ‫فافه ْم فإن‬
‫َ‬ ‫ِّب‬
‫سين إني واعظٌ ومؤد ُ‬
‫َح ُ‬‫أُ‬
‫وكقول الشاعر مخاطباً أحبته‪:‬‬

‫س َّك ُ‬
‫ان‬ ‫ِ‬ ‫مان األ ِ‬
‫َراك تيقَّنوا‬ ‫َس َّك َ‬
‫بأََن ُك ُم في َر ْب ِع قلبي ُ‬ ‫ان ُن ْع َ‬ ‫أُ‬
‫ويقول املتنيب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِه َب ُ‬
‫ات اللُّ َج ْين ِ‬ ‫ِّ‬
‫العبيد؟!‬ ‫ق‬
‫وعتْ ُ‬ ‫َمال َك ِرقي َ‬
‫وم ْن شأ ُن ُه‬ ‫أَ‬
‫ِ‬
‫الوريد‬ ‫والموت مني ِ‬
‫كحبل‬ ‫ُ‬ ‫ِء‬ ‫الرجا‬
‫انقطاع َّ‬‫ِ‬ ‫دعوتُ ِك عند‬

‫وي ْعتِ َ‬
‫ق‬ ‫فالمتنبي يقول‪ :‬يا َم ْن ملك نفسي عبودية‪ ،‬ويامن شأنه أن يهب الفضَّة ُ‬
‫ِ‬
‫وقرب مني الموت‬ ‫مالك ِرقي لي لما انقطع الرجاء من غيرك‪ّ ،‬‬ ‫العبيد؛ دعوتك يا َ‬
‫إلي من حبل الوريد‪ ....‬وبهذا كله برز إلى العيان قيمة جمال الجوهر‬ ‫فكان أقرب َّ‬
‫المرتبط برمزية حرف النداء‪ ،‬في مقاربة نفسية زمانية ومكانية‪ .‬إن إنزال البعيد‬
‫منزلة القريب يقوم على جمالية بالغية مثيرة‪ ،‬دون أن يتخلى عن األصل الوضعي‬
‫للهمزة‪ .‬فلما كانت الهمزة للقريب استدعت إنزال البعيد إليها؛ وبذلك ظلت‬
‫محتفظة بأصلها القديم؛ ولعل ذلك كله نراه في القسم اآلتي (نداء البعيد)‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ نداء البعيد‪:‬‬


‫نشأ نداء البعيد من داللة بعض أدوات النداء عليه وهي(آ‪ 0‬ـ آي ـ يا ـ هيا ـ أيا ـ‬
‫وا)‪ .‬وينادى بهذه األدوات على ُب ْعد المخاطب من المتكلم مكاناً وزماناً؛ بشخصه‬
‫أو منزلته أو روحه‪ ،‬أو استحالة الوصول إليه‪ ...‬وتختلف مسافة البعيد باختالف‬
‫مقام المتكلم وحاله‪ ،‬وكذلك باختالف مقام المخاطب وحاله‪ 0.....‬ولم يذكر سيبويه‬
‫أداة النداء (آ ـ آي) في أدوات النداء (‪ .)113‬ويحتوي نداء البعيد على قسمين‬
‫نزال القريب منزلة النداء البعيد)‪ ،‬وقد يجتمعان‬ ‫ِ‬
‫(نداء البعيد الحقيقي؛ وإ ِ‬ ‫حقيقيين‪:‬‬
‫في نداء اهلل سبحانه وتعالى‪ .‬فإذا ((صدر النداء من العبد لخالقه فهو نداء للبعيد‬
‫بعداً حقيقياً كامناً في علوه؛ وهو نداء قريب قرباً حقيقياً كامناً في رحمة اهلل‬

‫‪- 181 -‬‬


‫ب َد ْع َوةَ‬
‫ُجي ُ‬
‫قريب أ ْ‬
‫ٌ‬ ‫بعباده))‪ .)114(.‬وهو القائل‪:‬وإ ذا سألك عبادي عني فإني‬
‫دعان‪( ‬البقرة ‪ .)186 /2‬وكذلك يكون النداء من الخالق لعبده للبعد‪،‬‬ ‫الداعي إذا ِ‬
‫قسمي‬
‫وإ ن استعمل في أمور بالغية مجازية‪ ...‬وسيتضح لنا ذلك في الحديث عن َ‬
‫نداء البعيد وغيرهما‪0....‬‬

‫أ ـ البعد الحقيقي‪:‬‬
‫يتضح لنا من أدوات النداء للبعيد أنها موضوعة على الترتيب تبعاً لبعد‬
‫المسافة بين المتكلم والمخاطب‪ .‬ولهذا فإن الهمزة بما تحمله من صوت انفجاري‬
‫التموج قد يصبح طويالً إذا ُم َّد به؛ فإن أصبح صوتها ممطوطاً ـ لما فيه من‬
‫قصير ّ‬
‫لين ـ انقلبت إلى (آ)؛ و(أي) انقلبت إلى (آي)‪ 0....‬وهذا كله من الخصائص‬
‫زيد)‪ ،‬و(آي‬‫الفطرية لطبيعة الصوت عند اإلنسان األول(‪ ،)115‬فنقول‪( :‬آ ُ‬
‫َي)‪ ....‬وهناك من يرى أن‬ ‫محمد)‪ .‬وتصبح المسافة أبعد مما هي عليه في (أَ ـ أ ْ‬
‫ُ‬
‫الياء في (أي) ُم َّدت ألفاً فصارت (آ)‪ 0....‬وفي الحالين أصبح الصوت ممطوطاً‬
‫ليالئم ُب ْعد المسافة‪ ،‬ما يجعل النداء للبعيد حقيقة أو حكماً فقط وإ ن استعمل في‬
‫المجاز (‪.)116‬‬
‫أما إذا كانت المسافة أبعد مما ينبغي فإن األداة المستعملة في هذا المقام هي‬
‫(يا)‪ ،‬ألن صوتها يتشكل من جوف الفم مع حركة انفتاح الفك األسفل باتجاه‬
‫الصدر‪ .‬وهذا يعني أنه يخرج من أقصى الحلق ثم يلتصق بالقعر العميق لتجويف‬
‫الفم؛ مما يجعله بعيداً في المنطلق‪ ،‬وأكثر التصاقاً بالنفس الداخلية‪ ...‬لتردده في‬
‫الصدر‪.‬‬
‫ونرجح أنه قد ظل لها هذا االمتداد الصوتي على مر الزمن‪ ،‬وتمايز‬
‫وضعفاً‪ ...‬لهذا كله وضعت أداة النداء (يا)‬ ‫البيئات ولو تمايزت األصوات قوة َ‬
‫كأداة اتصال للبعيد ثم للتعبير عنه‪ ...‬وقد التزم األسلوب القرآني هذا االستعمال‬
‫في خطاب المشركين كقوله تعالى‪ :‬يا أيُّها الناس اعبدوا ربكم‪ ‬ـ (البقرة ‪)21 /2‬؛‬
‫ال يسمع‬ ‫سعيد ِ‬
‫أقدم)؛ وعليه قول عبد يغوث‪ 0‬ينادي بأعلى صوته لعل رج ً‬ ‫ُ‬ ‫أو كقولنا إلنسان بعيد عنا‪( :‬يا‬
‫نداءه فيبلغ َرسالته إلى ندمانه في جنران‪:‬‬

‫َن ال تَالَقيا‬
‫جران أ ْ‬
‫داماي من َن َ‬
‫َ‬ ‫َن‬ ‫ض َت فبلِّ َغ ْن‬
‫فيا راكباً إِ َّما َع َر ْ‬
‫ومثله قول مالك بن الريب لتبليغ أهله أنه سيفارقهم إلى األبد؛ ألن الموت قضى قضاءه فيه‪:‬‬

‫والر ْي ِب أ ْ‬
‫َن ال تَالقيا‬ ‫بني ٍ‬
‫مازن َّ‬ ‫ض َت فبلِّ َغ ْن‬
‫فيا صاحباً إِ َّما َع َر ْ‬
‫أما نداء األنبياء بأسمائهم في القرآن‪ ،‬فِإَّنما هو نداء على البعد الحقيقي مثل‬

‫‪- 182 -‬‬


‫‪‬يا عيسى‪( ‬آل عمران ‪.)55 /3‬‬
‫وإ ذا أريد نداء المخاطب األبعد استعمل لـه (هيا)؛ ولألبعد منه تستعمل األداة (أيا)‪ .‬والسبب في‬
‫هذا أن االهتزاز الصوتي في (الهاء) مع (يا) أقل منه مع (الهمزة) و(يا)‪ ...‬ومن ثم الهمزة أبعد مخرجاً‬
‫ال عن االنفجار الصوتي الذي ُبنيت‪ 0‬عليه‪ ...‬وقد ذهب ابن هشام إلى أن الهاء‬‫من الهاء في الحلق فض ً‬
‫وأي د رأيه ببيت للراعي النميري يصح إبدال الهاء فيه همزة في قوله (هيا‬‫مبدلة من الهمزة (‪ّ ،)117‬‬
‫ربا) من البيت التايل‪:‬‬

‫ويقول ِم ْن َفَر ٍح‪ :‬هيا ربَّا‬


‫َ‬ ‫يكون حيَّا‬
‫َ‬ ‫َن‬
‫اخ َي ْرجو أ ْ‬
‫َص َ‬
‫فأ َ‬
‫ونرى أن األغلب العجلي (‪21‬هـ)قد جاء بتلك الصيغة على األصل من دون إبدال (‪ )118‬فقال‪:‬‬
‫رفَّ َع ْت من صوتها هيا أ ََب ْه‬ ‫ض َب ْه‬
‫ان ُم ْغ َ‬
‫صٌ‬ ‫وانصرفَ ْت وهي َح َ‬
‫ُك ُّل ٍ‬
‫فتاة بأبيها ُم ْع َج َب ْه‬
‫ومثله نراه في بيت للحطيئة؛ وهو قوله‪:‬‬
‫بحقِّ َك ال تَ ْح ِر ْم ُه تا اللَّْيلَ َة اللَّ ْح َما‬ ‫رى‬ ‫ِ‬
‫ف وال ق ً‬
‫ض ْي ٌ‬
‫فقال‪ :‬هيا ربَّاهُ َ‬
‫ال‪ 0‬من (هيا) إذ تقوم‬
‫وفي ضوء هذه الشواهد تستعمل (هيا) و(أيا) لألبعد‪ ،‬لكن (أيا) أشهر استعما ً‬
‫مقامها؛‪ 0‬وتبلغ من البعد ماال تبلغه تلك كقول ذي ُّ‬
‫الر َّمة‪:‬‬
‫النقا ِ‬
‫آأنت أ َْم أ ُُّم سالم؟!‬ ‫وب ْي َن َّ‬ ‫ظ ْبي َة الو ْعس ِ‬
‫اء بين ُجالَ ِج ٍل‬
‫َ‬ ‫أ ََيا َ َ َ َ‬
‫وكقول الشاعر‪:‬‬
‫سيم َها‬
‫إلي َن ُ‬
‫الص َبا يخلص َّ‬
‫نسيم َّ‬
‫َ‬ ‫مان باللَّ ِه َخلِّيا‬
‫أ ََيا َجَبلي ُن ْع َ‬
‫ويتوقف حديث البالغيين عند اإلشارة السريعة لنداء البعيد مع التمثيل‪ ،‬وال‬
‫يعرضون لنداء االستغاثة والندبة في هذا المقام؛ ما يدفعنا إلى الرجوع إلى أداة‬
‫ق بالصدر وبأعماق النفس‪ .‬فنحن نرى أنها‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ملتص ٍ‬ ‫النداء (يا) التي تتميز‬
‫تعبر عن المشاعر الجياشة فرحاً وحزناً‪ ...‬وإ ذا كنا قد ذكرنا النداء للبعيد على‬
‫خصص لـه نداء المستغاث به والمندوب على وجه يشير إلى‬ ‫وجه اإلطالق فهنا ُن ّ‬
‫العالقة بين ما تحمله األداة (يا) من هذه المشاعر‪ ،‬وبين ما تعبر عنه في أصل‬
‫الوضع الذي نشأت عليه‪ 0...‬فنحن نستغيث باألداة (يا) فنقول‪( :‬يا اهلل) و(يارب‬
‫السماء)‪ ،‬و(يا مجيب الدعوات)‪ 0...‬ونندب بها فنقول‪( :‬يا زيداه) و(يا عمراه)‪.‬‬
‫وقد تحذف ألف الندبة كما هو عليه قول جرير في رثاء عمر بن عبد العزيز‪:‬‬

‫وقم َت فيه ِبأَم ِر ِ‬


‫اهلل يا ُع َمرا‬ ‫فاصطبر َت‬ ‫لهِّم ْل َت أ َْمراً عظيماً‬
‫ح‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُُ‬
‫فاألداة استعملت للندب الحقيقي في نداء البعيد الذي غاب‪ ...‬وإ ذا كانت (يا)‬

‫‪- 183 -‬‬


‫لم تختص باالستغاثة أو الندبة‪ ،‬وال تستعمل فيهما إال إذا أمن اللبس (وفي إطار‬
‫صيغة سوف نأتي عليها) فإن أداة النداء (وا) مختصة بهما على الحقيقة منذ فجر‬
‫التاريخ‪ ،‬ثم استعملت على المجاز وليس العكس(‪ .)119‬والسبب في ذلك أن‬
‫الصوت التماوجي الدائري الترنمي الذي يحصل من إشباع تدافع النفس في جوف‬
‫شجياً‬
‫ضيقة أشبه بالدائرة يحدث امتداداً ّ‬ ‫الفم مع ضم الشفتين على شكل حلقة ّ‬
‫ترنم مثير كلما كرر المتكلم حركة الصوت نفسه من جديد‪،‬‬ ‫ويحدث لـه ّ‬
‫بالصوت َ‬
‫وأرجعه إلى الصدر وانطلق مرة أخرى من جوف الفم فالشفتين اندفعت أصوات‬
‫اآلهات المتتالية على الفطرة والطبيعة التي بني عليها صوت (وا) في ترابطه‬
‫اآللي ذي الخصائص المثيرة‪ ...‬ولهذا لبَّى صوت أداة النداء (وا) ما تحس به‬
‫النفس‪ ،‬وما تحمله من نشيج فاعل‪ ...‬ثم جاء (األلف) في آخر االسم المندوب‬
‫ليزيد انطالقة الشجا َّ‬
‫ترنماً وتأثيراً؛ فتؤدي زيادته إلى المبالغة في التأثير الناتج ـ‬
‫ض ْعفاً وسكينة عند‬‫أيضاً ـ عن طبيعته‪ ...‬ويستمر الصوت باالرتفاع إلى أن يستقر َ‬
‫الندبة؛ لذا يقال لها (هاء) السكت؛ كقولنا‪( :‬وازيداه) أو (وا‬
‫(هاء) في آخر ّ‬
‫معتصماه)‪.‬‬
‫ومن ثم أضحت أدوات النداء واضحة التسمية والصفات طبقاً لماهيتها ووفق‬
‫ظاهرة التبادل الداللي ونكتفي بهذا القدر هنا‪ ،‬فالبد من إجالء النمط الثاني من نداء‬
‫البعيد وهو إنزال القريب منزلة البعيد الحقيقي ألمر بالغي محكم في عالقاته‬
‫الموحية‪ ،‬منسجم في نسقه اللغوي المختزن لعناصر الجمال الممتعة والمفيدة‪.‬‬

‫ب ـ إنزالـ القريب منزلة البعيد‪:‬‬


‫أنزل البالغيون العرب المنادى القريب منزلة المنادى البعيد الحقيقي؛‪...‬‬
‫ولهذا استعملوا أدوات النداء للبعيد‪ ،‬واألصل أن تستعمل أدوات النداء القريب‬
‫للقريب؛ وذلك للطائف بالغية مع التأكيد بأن الخطاب الذي يتلوه معني به جداً‪،‬‬
‫الستمرار الحدث وتشكيل العناصر الجمالية األخرى‪ 0....،‬وقد جاءت تلك اللطائف‬
‫في ثالثة أنماط‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ علو منزلة المخاطب‪:‬‬


‫قد تكون منزلة المخاطب أو مرتبته رفيعة الشأن عظيمة القدر وهو قريب من المتكلم قرب مكان‬
‫أو زمان أو روح أو قرابة اجتماعية‪ ...‬ولهذا يعمد المتكلم إلى تعظيم‪ 0‬قدره ويخاطبه بأداة نداء للبعيد؛‬
‫إجالالً لـه وتقديراً لمنزلته ومرتبته‪ ...‬فاهلل سبحانه وتعالى أقرب إلينا من حبل الوريد؛ ولكن عظم شأنه‬
‫وجليل قدره جعلت أبا نواس يدعوه بأداة نداء للبعيد (يا)؛ وينزله منزلة البعيد‪:‬‬

‫‪- 184 -‬‬


‫ظ ُم‬
‫َع َ‬
‫ت بأن َع ْف َو َك أ ْ‬
‫علم ُ‬
‫فلقد ْ‬ ‫ب؛ إِ ْن عظُ َم ْت ُذ ُنوبي كثرةً‬
‫يا َر ِّ‬
‫ورحمة اهلل جزء من عظمة اهلل وشرف قدره‪ ،‬لهذا توجه إليها الشاعر بالنداء بـ(يا) قال‪:‬‬
‫س من ِ‬
‫جار‬ ‫وجاورينا فدتْ ِك َّ‬
‫الن ْف ُ‬
‫يا رحمة ِ‬
‫اهلل ُحلِّي في َمنازلنا‬
‫وقد تستعمل في هذا المقام(هيا) أو (أيا) كقول احلطيئة‪:‬‬
‫ط ْعما‬
‫س ْر لـه َ‬
‫وي ِّ‬ ‫ِ‬ ‫بح ْير ٍة‪:‬‬
‫أَيا أَبت اذبحني؛ َ‬ ‫لما رآهُ َ‬
‫فقال اب ُن ُه‪َّ ،‬‬
‫بحقِّ َك؛ ال تحرمه تا الليل َة اللحما‬ ‫رى‬ ‫ِ‬
‫ف وال ق ً‬
‫ض ْي ٌ‬
‫وقال‪ :‬هيا ربَّاه َ‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫الشكر‬
‫ُ‬ ‫ض بإحسانك‬ ‫إِ َّ‬
‫لي فلم َي ْن َه ْ‬ ‫وب ْدأةً‬
‫س ْن َت َع ْوداً َ‬
‫َح َ‬
‫رب قد أ ْ‬
‫أيا ِّ‬
‫ونحن ال ننظر إلى هذا األسلوب من جهة ارتدائه ألساليب البيان والرمز‬
‫ص‪ .‬وقد‬ ‫وإ نما من جهة طبيعة النداء ووظيفته؛ وهو أسلوب كثير ال ي ْح ِ‬
‫صيه ُم ْح ِ‬ ‫ُ‬
‫أبدع الزمخشري في الحديث عنه حين تناول تفسير آيات القرآن‪ ،‬والسيما الخطاب‬
‫اإللهي لرسوله الكريم فقال‪ :‬جعل نداءه بالنبي والرسول في قوله تعالى‪ :‬يا أيُّها‬
‫َح َّل اهلل لك‪ ‬ـ (التحريم ‪ ،)66/1‬وقوله‪ :‬يا أيها الرسول َبلِّغ ما‬ ‫النبي ِل َم ِّ‬
‫تحرم ما أ َ‬
‫أَنزل إليك‪( .‬النساء ‪ ،)67 /4‬وترك نداءه باسمه كما قال‪ :‬يا آدم‪ ‬ـ (البقرة ‪/2‬‬
‫‪ 33‬و‪ ،)35‬يا موسى‪( ‬البقرة ‪ )55 /2‬آل عمران ‪)55 /3‬؛ ‪‬يا داود‪( ‬ص‪/38‬‬
‫‪ )26‬كرامة لـه وتشريفاً ورباً بمحله وتنويهاً بفضله‪ .‬فإن قلت‪ :‬إن لم يوقع اسمه‬
‫في النداء فقد أوقعه في اإلخبار في قوله‪ :‬محمد رسول اهلل‪( ‬الفتح ‪)29 /4/8‬؛ و‬
‫‪‬ما محمد إال رسول‪( ‬آل عمران ‪)144 /3‬؛ قلت‪ :‬ذاك لتعليم الناس بأنه رسول‬
‫اهلل وتلقين لهم أن يسموه بذلك‪ ،‬ويدعوه به فال تفاوت بين النداء واإلخبار؛ أال ترى‬
‫إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من اإلخبار‪ ،‬كيف ذكره بنحو ما ذكره في‬
‫ب‪‬‬‫النداء‪ :‬لقد جاءكم رسول من أنفسكم‪( ‬التوبة ‪ ،)9/128‬و‪‬قال الرسول يا َر ِّ‬
‫(الفرقان ‪)30 /25‬؛ ‪‬لقد كان لكم في رسول اهلل أسوة حسنة‪( ‬األحزاب‪/33‬‬
‫‪.)120()21‬‬
‫شرف منزلة نبيه الكريم؛‬
‫وبهذا يوضح لنا الزمخشري أن اهلل سبحانه وتعالى ّ‬
‫وعلى شدة قربه استعمل أدوات النداء البعيد إلظهار ُعلُِّو مرتبته ومنزلته‪ 0...‬وليس‬
‫هذا فحسب‪ ،‬بل استعمل نداءه بالنبوة والرسالة مبالغة في إكرامه‪ ،‬وإ عالء شأنه‪.‬‬
‫فأسلوب النداء وفق هذا النسق البالغي َّ‬
‫قدم شحنة عاطفية عالية‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي أسس لمفهوم االنزياح التركيبي في التفريق بينه وبين اإلخبار‪ ،‬فانطوى على‬

‫‪- 185 -‬‬


‫توهج جمالي في األسلوب والداللة‪ 0....‬وهو ما يمكن أن نجده في األسلوب الثاني‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ انحطاط منزلة المخاطب‪:‬‬
‫يعتقد المتكلم أن المخاطب (المدعو)‪ 0‬قليل القدر صغير الشأن؛ ال يؤبه له‪،‬‬
‫لذلك بعدت مرتبته عن مقام المتكلم‪ ،‬وبعدت روحه ما يستدعيه مخاطبته بأدوات‬
‫النداء البعيد؛ كقولنا لمن معنا‪( :‬ياهذا)‪ ،‬أو‪( :‬أيا هذا‪ ،‬اصمت)‪.‬‬
‫وقد عبر عن ذلك الفرزدق حين استصغر شأن جرير‪:‬‬
‫أُولئ َك آبائي فجئني ِ‬
‫بمثل ِه ْم‬
‫المجامعُ‬
‫رير َ‬
‫إذا َج َمعتْ َنا يا َج ُ‬
‫وكذلك قول األحوص‪:‬‬
‫الم‬ ‫سالم ِ‬
‫الس ُ‬
‫ط ُر َّ‬
‫يام َ‬
‫عليك َ‬
‫َ‬ ‫وليس‬
‫َ‬ ‫طٌر عليها‬
‫اهلل يا َم َ‬ ‫َ ُ‬
‫وربما حذفت أداة النداء للبعيد ودل عليها السياق‪ ،‬كقول الشاعر‪:‬‬
‫ف‬‫الخ َز ُ‬
‫ريف‪ ،‬ولكن أنتم َ‬
‫ص ٌ‬ ‫وال َ‬ ‫ب‬‫أنتم َذ َه ٌ‬
‫َبني ُغ َدانةَ؛ ما إن ُ‬
‫فالشاعر يستصغر قدر بني غدانة ويرى أنهم فَ َّخار َوليسوا ذهباً وال ِفضَّة‪...‬‬
‫ونلحظ أن استعمال أدوات النداء في هذا األسلوب البالغي الذي يفيد المعنى‬
‫الحقيقي للبعيد في األدوات قد استعمل استعماالً جديداً عما يختزنه صوتها‪0...‬‬
‫وعليه قوله تعالى في خطابه إلبليس لما عاند أمره واستكبر على السجود آلدم‪ :‬يا‬
‫إبليس مالَ َ َّ‬
‫مع السَّاجدين‪( ‬الحجرة ‪ .)32 /15‬فإباؤه للسجود جعل اهللَ‬ ‫تكون َ‬
‫ك أَال َ‬ ‫ُ‬
‫يستصغر شأنه‪ ،‬وإ ن ظن إبليس نفسه أفضل مكانة من آدم‪ .‬فاألسلوب البالغي‬
‫الجميل يستعين بالصور المركبة والمجردة وذات التأثير النفسي في المتلقي لما‬
‫فيها من إضفاء السخرية على المخاطب (المنادى)‪0...‬‬

‫‪ 3‬ـ غفلة المخاطب وشرود ذهنه‪:‬‬


‫يتخيل المتكلم (الداعي) أن المخاطب (المدعو)غافل عن أمر ما؛ أو أنه‬
‫شارد الذهن َفب ُعد به المقام عما ينبغي لـه أن يفعله‪ ،‬ومن ثم بعدت به المسافة‬
‫بينهما‪ .‬لذلك البد من استعمال أدوات النداء البعيد لتنبيهه وشده إلى ما يقول‬
‫النصائح‬
‫وإ نقاذه من غفلته وشرود ذهنه؛ في الوقت الذي يقدم لـه جملة من ّ‬
‫واإلرشادات‪ ...‬وقد كثر هذا األسلوب في القرآن الكريم والشعر؛ إذ توجه‬
‫المتكلم به إلى الخلق جميعاً أياً كانت منزلتهم الشخصية أو االجتماعية؛ كقوله‬
‫تعالى في خطاب نوح لقومه حين رآهم ثابتين على كفرهم وعنادهم وقد غفلت‬

‫‪- 186 -‬‬


‫قوم اعملُوا على مكانتِكم‪‬‬
‫قلوبهم عن مقام الحق‪ ،‬وتاهت عقولهم عن سبيله‪ :‬يا ِ‬
‫الم َّ‬
‫ض رب؛ وقد استعمل فيه (يا) وحرف التنبيه (ها) مع (أي)‬ ‫(األنعام ‪ .)135 /6‬وكقول َس َّواربن ُ‬
‫المنادى؛ إلمعانه في الغفلة‪:‬‬

‫أَو ُي ْح ِدثَ ْن لك طو ُل الدهر نسيانا؟!‬ ‫تنهاك َم ْو ِعظ ٌة‬


‫َ‬ ‫يا أَيُّها القلب! هل‬
‫وكقول أبي العتاهية؛ وقد استعمل (من) المبهمة في المعنى ليفيد التعميم‪:‬‬
‫ط ْر‬ ‫ِ‬
‫الحياة عليه َخ َ‬ ‫وطو ُل‬ ‫ِ‬
‫الحياة‬ ‫أ ََيا َم ْن ُي َؤ ِّم ُل طو َل‬
‫بعد ِ‬
‫الك َب ْر‬ ‫ِ‬
‫العيش َ‬ ‫فال َخ ْي َر في‬ ‫الشباب‬ ‫إِذا ما ك ِب ْر َت َ‬
‫وبان‬
‫ُ‬
‫وقال آخر‪ ،‬وقد رفع صوته وأبعد في النداء لعله يصل بندائه إلى كل إنسان على هذه الصفة‪:‬‬
‫تموت؟‬
‫ُ‬ ‫لم ْن تجمع الدنيا‪ ،‬وأَ ْن َت‬ ‫ٍ‬
‫بالغة‬ ‫جامع الدُّنيا ل َغ ْير‬ ‫أيا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال آخر‪ ،‬وقد حذف أداة النداء ليدل على قرب المنادى وكأنه يهمس‪ 0‬في أذنه‪:‬‬
‫مبين‬
‫ت فنسيا ُن ُه ضال ٌل ُ‬ ‫ذاكر المو‬
‫تز ْل َ‬
‫شم ْر وال َ‬
‫صاح‪ِّ ،‬‬
‫ِ‬
‫فجمالية أسلوب النداء في هذا المقام تكمن في إحساس المتكلم بالمفارقة‬
‫النفسية غير المتوازنة لدى المنادى المخاطب‪ 0...‬فأقام نسقه البالغي على جهة‬
‫تخيل ذلك والتعبير عنه‪.‬‬

‫القسم الثاني ـ أسلوب النداء المجازي‬


‫اتضح لنا فيما سبق أن النداء الحقيقي القريب أو البعيد إنما هو طلب إقبال‬
‫المخاطب لما وضعت لـه أدوات النداء على وجهها األصلي‪ ،‬ولم تتغير داللتها في‬
‫االستعمال المتطور‪ ....‬ولكنها قد تخرج عن ذلك كله فينادى بها القريب أو‬
‫المتوسط أو البعيد واألبعد ألمر بالغي مجازي؛ ال عالقة لـه بطبيعة الصوت وال‬
‫بالمعنى الحقيقي‪ 0...‬وقد تتبع البالغيون ذلك منذ القديم‪ ،‬وقدموا لنا فيه نظرات‬
‫جمالية رائعة‪ 0...‬وال زالت الدراسات البالغية تعنى بهذا األسلوب لما يتصف به‬
‫من دالالت مثيرة‪ ،‬وأنماط فنية ممتعة‪.)121(...‬‬
‫وبهذا لم يتوقف أسلوب النداء عند الحدود التعريفية التي اشتمل عليها من‬
‫قب ُل؛ فهناك توظيف متنوع يحول التركيب اللغوي النحوي والداللي عن بنيته‬
‫المباشرة تحويالت إيحائية تستوحى من السياق‪ ،‬وتستخلصها العقول والقرائح من‬
‫القرائن الدالة عليه‪ .‬وقد ذكر البالغيون َمعاني بعينها‪ ،‬وهي تسعة (اإلغراء‬
‫واالستغاثة‪ ،‬والندبة والتعجب واالختصاص والتنبيه والتحسر والتذكر والتضجر)؛‬
‫معنى استنبطت من القرآن الكريم والحديث‬ ‫ولكنها وصلت لدينا إلى سبعة عشر‬
‫ً‬

‫‪- 187 -‬‬


‫الشريف والشعر‪ ،‬واجتهادات البالغيين‪ 0...‬وهي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الدعاء‪:‬‬
‫كثر هذا األسلوب في القرآن الكريم‪ ،‬وتكرر في غير ما موضع إلفادة‬
‫ت من‬ ‫َسكن ُ‬
‫المبالغة في التضرع واالبتهال إلى اهلل سبحانه؛ كقوله‪ :‬ربَّنا إني أ ْ‬
‫الم َح َّرم*ربنا ُليقيموا الصالة‪ 0*....‬ربنا إنك‬ ‫ٍ‬
‫ُذ ِّرَيتي بواد غير ذي َز ْر ٍع عند بيتك ُ‬
‫َّل ُدع ِ‬
‫اء*‬ ‫تعلم ما ُنخفي وما نعلن‪‬؛ ِّ‬
‫قيم الصَّالة ومن ذريتي‪ ،‬ربنا وتقب ْ َ‬‫اجعلني ُم َ‬
‫رب َ‬
‫ربنا اغفر لي ولوالديَّ‪( ...‬إبراهيم ‪ 14/37‬ـ ‪ 38‬و‪ 40‬ـ ‪ .)41‬قال الزمخشري‪:‬‬
‫((النداء المكرر دليل التضرع واللجوء إلى اهلل تعالى ‪‬إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‬
‫‪ ،‬تعلم السر كما تعلم العلن علماً ال تفاوت فيه؛ ألن غيباً من الغيوب ال يحتجب‬
‫عنك‪ .‬والمعنى‪ :‬أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا‪ ،‬وما يفسدنا منا‪ ،‬وأنت أرحم بنا‪،‬‬
‫وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها‪ ،‬فال حاجة إلى الدعاء والطلب؛ وإ نما ندعوك إظهاراً‬
‫للعبودية لك وتخشعاً لعظمتك‪ ،‬وتذلالً لعزتك‪ ،‬وافتقاراً إلى ما عندك))(‪.)122‬‬
‫وقد كثر الدعاء بالنداء في الشعر في مخاطبة الديار‪ ،‬ويفهم هذا من السياق‪ ،‬كقول ذي الرمة‪:‬‬
‫بجرعائ ِك القَ ْط ُر‬
‫ِ‬ ‫وال زال م ْن َهالًّ‬
‫ُ‬ ‫دار َم َّي على ال ِبلَى‬
‫اسلَمي يا َ‬
‫أَال يا ْ‬
‫وهناك نداء محذوف بعد أداة النداء األولى دل ما بعده عليه؛ مثل الجملة التفسيرية؛ وقال امرؤ‬
‫القيس‪:‬‬

‫الر ْك ِب إِ ْن َ‬
‫شئت‬ ‫حديث َّ‬ ‫الربعُ وا ْن ِط ِ‬ ‫ِ‬
‫ق َ‬‫ِّث ِ‬ ‫وحد‬
‫واص ِدْ‬
‫ْ‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫صباحاً أَيُّها ْ‬
‫أَال ع ْم َ‬

‫وقال زهير بن أبي سلمى‪:‬‬


‫واسلَم‬
‫الربعُ ْ‬
‫أَال ا ْن َع ْم صباحاً أَيُّها ْ‬ ‫لرب ِعها‪:‬‬
‫ت ْ‬ ‫الدار ق ْل ُ‬
‫ْت َ‬ ‫فلما َعرف ُ‬
‫فكلمة الربع في النداء مع السياق توضح الدعاء لتلك األطالل بأن تظل‬
‫خضرة يزورها الناس في كل ربيع‪ .‬وهذا يعني أن طبيعة الجمال في أساليب‬
‫اإلنشاء ليست واحدة وال متشابهة‪ ،‬وإ ن حملت العنوانات نفسها؛ وكذلك هو‬
‫وظيفتها وأهدافها‪ .‬فكل أسلوب يبحث عن ماهية مختلفة‪ ،‬ما يجعله يؤسس لجمالية‬
‫مختلفة‪...‬‬

‫‪ 2‬ـ التقرب والمالطفة‪:‬‬


‫يتجه األسلوب الندائي إلى المخاطب ليشعر المتكلم أنه قريب منه يأنس به أو‬
‫يتلطف لديه القبول‪ 0....‬أياً كانت منزلة المخاطب‪ ،‬أو جنسه أو نوعه‪ .‬فالمتكلم‬

‫‪- 188 -‬‬


‫يحس بشعور قلق مضطرب‪ 0...‬لهذا يسعى إلى إقامة التوازن في نفسه بهذا‬
‫الخطاب ويستعمل األداة المناسبة للمقام المقتضى كما في قوله تعالى على لسان‬
‫هارون يخاطب أخاه موسى‪ ،‬وكان موسى قد خلفه في القوم‪ ،‬فلما رجع إليهم‬
‫وجره إليه فقال لـه أخوه‪:‬‬
‫وجدهم عاكفين على عجلهم فأخذ موسى برأسه ولحيته َّ‬
‫ابن أ ُِّم‪ ،‬إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني‪( ...‬األعراف ‪ .)150 /7‬وكذلك‬
‫‪َ ‬‬
‫ابن أ ُِّم ال تأخذ بِلحيتي ورأسي‪‬‬
‫قوله تعالى في القصة ذاتها من سورة الكهف‪َ :‬يا َ‬
‫(الكهف ‪.)94 /20‬‬
‫فلما َّ‬
‫ظن هارون أن أخاه موسى قد فرط في العقاب استحق أن يناديه بقوله‬ ‫َّ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫‪‬يا ابن أ ُِّم‪ ،‬على قراءة من قرأ باإلضافة‪ .‬وقال الزمخشري‪(( :‬فإنما أضافه إلى‬
‫األم إشارة إلى َّأنهما من بطن واحد‪ ،‬وذلك أدعى إلى العطف والرقة وأعظم‬
‫للواجب)) (‪.)123‬‬
‫وقد يتساءل متسائل‪ :‬ما بال خطاب النداء في األولى استعمل من دون أداة؛‬
‫بينما في اآلية الثانية أثبتت أداة النداء‪ ،‬واستعملت فيها (يا)؟‪ ..‬فاإلجابة على هذا‬
‫أن إثبات أداة النداء في اآلية الثانية على شدة القرابة‪ ،‬وما تحمله كلمة ‪‬ابن أ ُِّم‪،‬‬
‫من التقرب والمالطفة والعطف لم تمنع استخدام أداة النداء (يا)‪ 0....‬فالمقام مقام‬
‫مساءلة من موسى ألخيه‪ :‬لماذا حدث ذلك في غيابه‪ ،‬ولم يكن قد أَخذ يعاتُبه‬
‫فاستعملت (يا) لتراعي الحالة النفسية للنبي موسى‪ 0،‬والمنادى (ابن أم) مراعاة‬
‫لحالة هارون‪ 0...‬فلما شرع موسى يجره بلحيته ورأسه اقتضى ذلك حذف أداة‬
‫النداء للمبالغة في تأكيد التقرب والمالطفة والعطف‪.‬‬
‫وهذا األسلوب نفسه في حذف أداة النداء للتقرب والمالطفة استعمل في‬
‫ض عن هذا‪( ‬يوسف ‪/12‬‬ ‫َع ِر ْ‬
‫فأْ‬‫يوس ُ‬
‫الخطاب اإللهي ليوسف (عليه السالم)‪ُ  :‬‬
‫‪ .) 19‬قال الزمخشري‪(( :‬حذف منه حرف النداء ألنه منادى قريب مفاطن للحديث‪ ،‬وفيه تقريب لـه‬
‫وتلطيف لمحله)) (‪ )124‬فالمنادى هنا غير شارد العقل وال غافل القلب‪ ،‬وإ َّنما قُصد النداء رحمة به‬
‫وعطفاً عليه‪ .‬وهذا كله أسلوب شائع في الشعر القديم كنداء الشنفرى لبني أمه في قوله‪:‬‬

‫فِإ ّني إِلى َق ْوٍم ِسواكم أل َْمَي ُل‬ ‫ور َم ِطيَّكم‬


‫ص ُد َ‬
‫ُمي‪ُ ،‬‬
‫أَقيموا؛ بني أ ِّ‬
‫ومثله قول امرئ القيس يخاطب امرأة وقف عند قبرها؛ واستحضر روحها فأحيا شخصها؛ وهو‬
‫الغريب البعيد عن وطنه؛ وأخذ يكرر نداء القريب مع لفظ يدل على لطف بديع لِيزيل وحشتَهُ‪:‬‬

‫عسيب‬
‫ُ‬ ‫َقام‬
‫مقيم ما أ َ‬
‫وإ ني ٌ‬ ‫تنوب‬
‫ُ‬ ‫الخطوب‬
‫َ‬ ‫أَجارتَنا إِ َّن‬
‫نسيب‬
‫ُ‬ ‫و ُك ُّل َغ ٍ‬
‫ريب للغريب‬ ‫أجارتنا َّإنا غريبان ُ‬
‫ههنا‬

‫‪- 189 -‬‬


‫غريب‬
‫ُ‬ ‫ص ِرمينا فالغريب‬
‫وإِ ْن تَ ْ‬ ‫فإن تصلينا فالقرابة بيننا‬
‫ِ‬
‫الزمان قريب‬ ‫وماهو ٍ‬
‫آت في‬ ‫يؤوب‬ ‫فات ليس‬
‫أَجارتنا ما َ‬
‫ُ‬
‫فجمال هذا األسلوب عند امرئ القيس ينبثق من التشخيص الناتج عن تكرار‬
‫ألفاظ عديدة‪ ،‬فضالً عن المواجهة بينه وبين ذلك القبر الذي دفعه إلى إظهار مفهوم‬
‫العجز أمام جبروت الموت‪0...‬‬
‫فغربة امرئ القيس غربتان غربة عن الوطن‪ ،‬وغربة االنفراد بقبر امرأة؛‬
‫وهو يقف عنده شاحب اللون كاسف البال‪ ،‬مريضاً‪ ...‬وليس لـه إال أن يقرب روح‬
‫صاحبة القبر لتزيل ما به على الرغم من ابتعادها في أعماق األرض‪ ...‬بيد أنه‬
‫استعمل أداة النداء(أَ) ولفظ (جارتنا)‪ ،‬ثم كرر ذلك تأكيداً فيه لمعاني المالطفة‬
‫واألنس في قرب الروح‪0...‬‬
‫وشبيه من ذلك المعنى يطلقه أبو زبيد الطائي حين يخاطب أخاه الذي رحل عنه؛ فيكرر النداء‬
‫الستشعار‪ 0‬القرب والتعبير عن حالته النفسية بفقد أخيه فيقول‪:‬‬
‫ش ِ‬
‫ديد‬ ‫أَ ْن َت َخلَّ ْفتَني َ‬
‫لد ْه ٍر َ‬ ‫ق نفسي‬
‫شقَ ِّي َ‬
‫ُمي و َُ‬
‫ابن أ ِّ‬
‫يا َ‬
‫وفي األسلوب نفسه نقرأ المعاني التي اشتمل عليها قول األَعشى في اعتذاره لعلقمة بن ُعالثَة؛‬
‫وقد تشكلت الصورة البالغية في صميم الحضور االجتماعي والنفسي الموحي باالعتذار‪:‬‬

‫ص‬
‫إليك‪،‬وماكان لي َم ْن َك ُ‬
‫َ‬ ‫األمور‬
‫ُ‬ ‫صي ََّرتْني‬
‫َع ْلقَ ُم‪ ،‬قد َ‬
‫أَ‬
‫فالنداء ال يقوم على التخيل الوهمي‪ ،‬والترميز الذهني‪ ،‬بل يمد يده إلى مقاربة‬
‫الداللة بكل لطف إلزاحة الدكنة السوداء التي علقت بنفس علقمة من األعشى‪...‬‬

‫‪ 3‬ـ الترغيب والترهيب‪:‬‬


‫استعمل هذا األسلوب بكثرة في الخطاب اإللهي للبشر وذكره الدكتور منير‬
‫سلطان فقال‪(( :‬وإ ذا صدر من الرب سبحانه إلى العبد فيكون ترغيباً‪ :‬يابني آدم‬
‫ولباس التقوى ذلك خير‪( 0....‬األعراف ‪ .)26 /7‬أو‬‫ُ‬ ‫قد أَنزلنا عليكم لباساً‪...‬‬
‫شيء عظيم‪( ‬الحج ‪( )22/1‬‬‫ٌ‬ ‫ترهيباً ‪‬يا أيُّها الناس اتقوا ربَّكم‪َّ ،‬‬
‫إن زلزلةَ الساعة‬
‫‪.)125‬‬
‫ففي اآلية األولى يذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده ويذكرهم بها‪...‬‬
‫ثم يرغبهم في لباس أحسن لهم من الزينة والثياب‪ 0...‬إنه لباس التقوى‪.‬‬
‫وفي اآلية الثانية نداء عام للمشركين لكي يمتثلوا أوامر ربهم وأن يلبسوا‬
‫لباس التقوى‪ ،‬ثم علل وجوب هذا بذكر الساعة‪ ...‬فالنداء خرج إلى الترهيب مما‬

‫‪- 190 -‬‬


‫يفعلونه وااللتزام بأوامر اهلل‪ ....‬وهو عينه الترهيب الذي يكرره في السورة‬
‫الب ْع ِث فِإَّنا خلقناكم من تراب‪( 0....‬الحج‬ ‫ِ‬
‫نفسها ‪‬يا أيها الناس إن كنتم في َر ْي ٍب م َن َ‬
‫‪.)22/5‬‬
‫وقد عرفنا هذا األسلوب يجري على نمطين ـ غالباً ـ فإذا ذكر ـ سبحانه ـ‬
‫الخطاب ‪‬يا أيها الذين آمنوا‪ 0...‬كان للترغيب والحث على ٍ‬
‫أمر ما‪ 0...‬وإ ذا ذكر‬
‫‪‬يا أيها الناس‪ 0.)....‬فإن الخطاب يتوجه للكافرين ويكون فيه ترهيب من أمر ما‬
‫يفعلونه‪.‬‬
‫وقد يجد المرء مثل هذا األسلوب في الشعر العربي‪ ،‬كقول امرئ القيس‪:‬‬
‫َحسبا‬
‫عليه عقيقتُه أ ْ‬ ‫أَيا ِه ْن ُد‪ ،‬ال تنكحي ُب ْو َه ًة‬
‫فامرؤ القيس لما وجد هند عازمة على الزواج من رجل أحمق َح َّذرها وأرهبها من فعلها؛‪ ....‬ثم‬
‫يصف هذا الرجل بأنه ضعيف ال خير فيه وال عقل لـه؛ وبه علل كثيرة‪ ...‬وكذلك فعل األعشى في‬
‫ترهيب بني ُعَب اد ومالك حين وجدهم يظلمون الناس ويبطرون في وقت أتت فيه السنون على غيرهم‬
‫فيقول‪:‬‬

‫أن ُك ُّل َم ْن فوقَها لها؟‬


‫َلم تعلما ْ‬
‫أْ‬ ‫َخوينا ِم ْن أَبينا وأ ِّ‬
‫ُمنا‬ ‫فيا أ َ‬
‫فكل من فوق التراب إلى ِ‬
‫تراب‪ ،‬هذه هي الحقيقة التي اختزلها أسلوب النداء‬
‫في تصوير حتمية المصير في الوجود اإلنساني واستشعار الرهبة منه‪...‬‬
‫وتعد وصايا لقمان البنه من أبدع أساليب اإلعجاز األدبي في القرآن؛ لتنوعها‬ ‫ّ‬
‫وعمق داللتها‪ ،‬وخروجها على النمط المألوف‪ ...‬كما في أسلوب النداء‪ .‬فالنداء‬
‫فيها ليس على وجه البعد أو القرب‪ ،‬وال إنزال أحدهما مكان اآلخر‪ ،‬وليس لغفلة‬
‫المخاطب أو شرود عقله‪ 0...‬فالعقل حاضر‪ ،‬والنفس متلهفة لسماع كل كلمة‪...‬‬
‫لهذا خرج النداء إلى مفهوم الترغيب في أمور محمودة ليلتزم بها ابنه ويثبت‬
‫شرك باللَّه؛ َّ‬
‫إن‬ ‫ِ‬ ‫ني؛ ال تُ ْ‬ ‫عزيمته عليها ألنها من سنن الكون وحقائقه فيقول له‪ :‬يا ُب َّ‬
‫مثقال حب ٍ‬
‫َّة من َخ ْر َد ٍل فت ُك ْن في‬ ‫َ َ‬ ‫ك‬ ‫رك لظُْلٍم عظيم*‪ 0......‬يا بني َّإنها ْ‬
‫إن ت ُ‬ ‫َّ‬
‫الش َ‬
‫ني أ َِقِم الصَّالةَ وأ ُْم ْر‬ ‫ص ْخر ٍة أو في السموات أو في األرض يأ ِ‬
‫ْت بِها اهلل‪ 0*...‬يا ُب َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بالمعروف‪( ....‬لقمان ‪ 13 /31‬و ‪ 16‬ـ ‪.)17‬‬
‫قال الزمخشري‪(( :‬وقد نبه اهلل سبحانه على أن الحكمة األصلية والعلم‬
‫الحقيقي هو العمل بهما وعبادة اهلل والشكر له‪ ...))...‬ومن ثم شرع يوضح لـه‬
‫ناصحاً ومرشداً ((فقال‪ :‬إن اهلل يعلم أصغر األشياء في أخفى األمكنة ألن الحبة في‬
‫الصخرة أخفى منها في الماء))(‪.)126‬‬
‫فالنداء هنا جاء على سبيل الترغيب‪ ،‬وهو يتضمن في داخله شيئاً من التحذير‬

‫‪- 191 -‬‬


‫ص ِحه وإ رشاده‪ ...‬وتوجيه مسار حياته‪ ،‬ومن ثم ليطمئن‬
‫والترهيب‪ ،‬هادفاً إلى ُن ْ‬
‫قلب لقمان بعد مفارقته الحياة‪...‬‬
‫وبعد؛ الشك أن الزمخشري أجاد في تفسيره الستعمال النداء (يا أيها) في‬ ‫ُ‬
‫الخطاب اإللهي للناس أياً كان اعتقادهم‪ ...‬فقال‪(( :‬وأي وصلة إلى نداء مافيه‬
‫األلف والالم‪ 0.......‬فالبد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى‬
‫يتضح المقصود بالنداء‪ ،‬فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي‪ ،‬واالسم التابع لـه‬
‫ض ْرب من التأكيد والتشديد‪،‬‬ ‫صفته‪ 0....‬وفي هذا التدرج من اإلبهام إلى التوضيح َ‬
‫وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدتين‪ :‬معاضدة حرف‬
‫النداء‪...‬ووقوعها عوضاً مما يستحقه؛ أي من اإلضافة‪ .‬فإن قلت‪ :‬لم كثر في‬
‫النداء على هذه الطريقة مالم يكثر في غيره؟‍!‪ ...‬قلت‪ :‬الستقالله بأوجه‬ ‫كتاب ِ‬
‫اهلل‬
‫ُ‬
‫من التأكيد وأسباب من المبالغة ألن كل ما نادى اهلل به عباده من أوامره ونواهيه‬
‫ٍ‬
‫ومعان عليهم أن‬ ‫أمور عظام وخطوب جسام‬ ‫وعظاته وزواجره ووعده ووعيده‪ٌ ...‬‬
‫يتيقظوا لها ويميلوا إليها بقلوبهم وبصائرهم إليها)) (‪.)127‬‬
‫قصر الزمخشري هذه األساليب على الغافلين فأرجعها إلى النداء‬ ‫ولما َ‬
‫الحقيقي‪ ،‬فإننا رأينا أنها تستعمل في النداء الحقيقي والمجازي‪ ،‬والسياق والقرائن‬
‫توضح في أيهما استعمل مثل هذا األسلوب من النداء‪ ...‬والسيما في أسلوب‬
‫الترغيب والترهيب والمجازي‪.‬‬
‫مفصل‪ ،‬ولكنه ظل مغلباً‬ ‫وقد تنبه الزمخشري أيضاً على هذا وشرحه بشكل ّ‬
‫لألسلوب الحقيقي(‪ .)128‬والزمخشري كغيره من أصحاب البالغة القرآنية‬
‫واألدبية عنوا بالتفصيالت الدقيقة للجملة اللغوية والبالغية؛ وحللوا دقائقها؛‬
‫وكشفوا أبعادها معتمدين في ذلك على أذواقهم المرهفة‪ ،‬وحاستهم اللغوية السليمة‬
‫والمرتبطة بثقافتهم التراثية غالباً‪ ....‬وقد نمت حركة التحليل النقدي اللغوي‬
‫والثقافي عند العرب قبل الزمخشري بكثير؛ وقبل الجاحظ (ت ‪255‬هـ)؛ ومن ثم‬
‫قبل أن يتعرفوا إلى أرسطو‪ ،‬ثم طوروها بعد معرفتهم لـه وللثقافة اليونانية‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وما بين أيدينا من أساليب النداء المجازي أعظم دليل عليه فيما تقدم وفيما‬
‫يأتي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ التمني‪:‬‬
‫أسلوب التمني في النداء يفهم من السياق والقرائن الدالة عليه‪ ،‬ويبرز أن أداة النداء وضعت لـه‬

‫‪- 192 -‬‬


‫على سبيل المجاز وليس للنداء الحقيقي‪ .‬ويتجه في النداء إلى ما ال يعقل‪ ،‬أو إلى إجراء النداء على جهة‬
‫االستحالة؛ وكالهما يضفي عليه مسحة من الجمال الخاص‪ .‬فمن األول قول امرئ القيس في نداء الليل‪:‬‬

‫باح من َك بأ َْمثَ ِل‬


‫ص ُ‬ ‫ِب ُ‬
‫ص ْب ٍح وما ِ‬
‫اإل ْ‬ ‫أَال أيُّها اللي ُل الطويل أال ِ‬
‫انجل‬
‫وقول المعري في نداء احلمائم‪:‬‬
‫باإلس َع ِاد‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫العزاء‬ ‫قليل‬
‫َن َ‬ ‫َس ِع ْد َن أ ِ‬
‫َوع ْد‬ ‫ِ‬
‫أ ََبنات الهديل أ ْ‬
‫ومن الثاني وهو إجراء النداء على جهة االستحالة قول األعشى يخاطب فيه امرأة يقال لها‬
‫حبها‪ ...‬وأََّنى‬
‫َسر ّ‬ ‫(ج ْب َر ِة) متمنياً عليها أن َّ‬
‫ترق لحاله بعد أن استعبدته؛ ثم يتساءل هل تطلق سراحه من أ ْ‬ ‫َ‬
‫لـه ذلك؟!‪:‬‬
‫لطالب ِشقَّ ٍة من ِ‬
‫زاد؟!‬ ‫ِ‬ ‫أ َْم هل‬ ‫أَجب ْير َه ْل ألسيركم ِم ْن ِ‬
‫فاد‬ ‫ْ‬ ‫َُ َ‬
‫فالسياق بمكوناته اللغوية وعناصره الفنية أبرز أن النداء يتجه إلى معنى مجازي في التمني ال‬
‫تكون المكونات اللغوية أكثر إبرازاً لذلك المعنى حين تصبح القرائن واضحة‬ ‫ُ‬ ‫النداء الحقيقي‪ ...‬وقد‬
‫غير العاقل‪ ،‬ثم يأتي السياق ليوضح ذلك كقول ُكثَيِّر َعَّزة مخاطباً امرأة‬
‫ْ‬ ‫نداء‬ ‫مع‬ ‫كاستعمال‪ 0‬أداة للتمني‬
‫ال منه‪ ،‬فتمنى لو أن التحية كانت له‪:‬‬
‫ً‬ ‫بد‬ ‫؛‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫جم‬ ‫ت من بعيد فحيَّت‬ ‫مر ْ‬
‫َّ‬

‫يت يا َر ُج ُل‬
‫مكان يا َج َم ُل‪ُ ،‬ح ِّي َ‬
‫َ‬ ‫َشكرها‬
‫التحي َة كا َن ْت لي فأ َ‬
‫َّ‬ ‫ليت‬
‫َ‬
‫فالصورة البالغية اللغوية مشحونة بالعفوية والعاطفة المشخصة لعناصر‬
‫التجربة الموازية‪ .‬وهذا ما أكسبها حيويتها وجمالها‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ المدح واالستعطاف‪:‬‬


‫يتجه النداء إلى إبراز صفات المخاطب والثناء عليه‪ ،‬وليس مجرد إنزال منزلة البعيد لتعظيم‬
‫شأنه وعلو قدره على شدة قربه من المتكلم‪ ...‬ولهذا يذهب المتكلم إلى بسط صورة المخاطب؛ كقول‬
‫األعشى في مدح َه ْو ّذة بن علي‪:‬‬

‫سوا فََزعا‬
‫شلون إذا ما آ َن ُ‬
‫الي ْف َ‬
‫َ‬ ‫س ٍب‬
‫يا َه ْو َذ؛ إنك من قَ ْوٍم ذوي َح َ‬
‫َّ‬
‫والش َرعا‬ ‫للوَّراد‬ ‫ِ‬
‫المواهب ُ‬ ‫َب ْحر‬ ‫يمشي على قدم‬
‫ٍ‬ ‫يا َه ْو َذ‪ ،‬يا َخ ْي َر ِم ْن‬
‫الم َحلِّ َ‬
‫ق بن َح ْنتَم‪ ،‬وهو من أفقر َخْلق اهلل‪ ،‬وال منزلة لديه وال قرابة من الشاعر‬ ‫ويمدح األعشى ُ‬
‫فيقول‪:‬‬

‫َع َرقوا‬
‫أقوام بذاك وأ ْ‬ ‫جد‬
‫فأَ ْن َ‬ ‫صنعتُ ُم‬ ‫أَبا م ِ‬
‫ٌ‬ ‫سم ٍع سار الذي قد ْ‬
‫ُ ْ‬
‫إن صيغة اسم الفاعل وداللتها تبين مع السياق أن ذكر المخاطب (المنادى) قد سار في اآلفاق‪ ،‬ما‬
‫يدل على أن النداء وضع إلبراز صفات الممدوح؛ وإ عالء شأنه فهو في األصل من عامة الناس‪ ...‬ومن‬
‫هذا األسلوب في إبراز صورة الثناء والمبالغة في مدح الممدوح ما نراه في قول المتنبي يمدح سيف‬
‫الدولة؛ فيقول‪:‬‬

‫َحدانا‬
‫تصيد الناس أ ْ‬
‫ُ‬ ‫إن اللُّ ُي َ‬
‫وث‬ ‫َّ‬ ‫جانبه‬
‫وب ُ‬ ‫المره ِ‬
‫ُ‬ ‫الج ْح ِ‬
‫فل‬ ‫صائد َ‬
‫َ‬ ‫يا‬

‫‪- 193 -‬‬


‫ُضيف إلى ما بعده فصار التركيب اإلضافي كالكلمة‬
‫فاسم الفاعل المنادى أ ْ‬
‫الواحدة فدلَّت على إبراز صوت المنادى؛ ثم جاءت صفة المضاف إليه لتبين ذلك‬
‫بشكل أوضح‪.‬‬
‫لعلو قدره على شدة قربه من المتكلم وإ نما طفق‬
‫فالمتنبي‪ 0‬لم يكتف بإنزال الممدوح منزلة البعيد ّ‬
‫يصوره‪ ،‬ويبين أن قوته وشجاعته بلغت منه أنه ينتصر على جيش برمته؛ ففاق األسد بهما؛ ألن األسد‬
‫يصيد الناس فردًا فردًا ‪ .‬وقد يكون النداء الستدرار عطف الممدوح والثناء عليه كما في قول طرفة‬
‫يتحنن إلى عمرو بن هند ويبالغ في ذلك‪:‬‬

‫ِ‬
‫بعض‬ ‫أهون من‬
‫ُ‬ ‫الشر‬
‫بعض ِّ‬
‫َح َناني َك؛ ُ‬ ‫بعضنا‬
‫ق َ‬ ‫ْنيت فاستب ِ‬ ‫أَبا ٍ‬
‫منذر!! أَف َ‬

‫‪ 6‬ـ االستعالء‪:‬‬
‫ب من أساليب النداء المجازي الذي استنبطه الزمخشري من آيات‬ ‫ض ْر ٌ‬ ‫هذا َ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬فنداء الجماد يدل على((مظاهر استعالء الربوبية‪ ،‬وانقياد األشياء‬
‫لها‪ .‬لذا يعمد القرآن إلى هذا األسلوب‪ -‬وله عنه مندوحة‪ -‬ليبث في النفوس هيبة‬
‫الربوبية‪ ،‬ويطبع فيها الشعور بعزتها وكبريائها))(‪ .)129‬وعليه قوله تعالى‪ :‬يا‬
‫ِجبا ُل أ َِّوبي َم َعهُ والطَّ ْي َر‪( ‬سبأ ‪ .)10 /34‬قال الزمخشري مبيناً سياق اآلية كامالً‬
‫وربطها بما تقدمها من آيات‪(( :‬وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير‬
‫منا فضالً‬‫قلت‪:‬أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال‪ :‬وآتينا داود ّ‬
‫بأصواتها‪ ...‬فإن َ‬
‫تأويب الجبال معه والطير؟‪ ...‬قلت‪ :‬كم بينهما؟‪ ...‬أال ترى إلى مافيه من الفخامة‬
‫التي ال تخفى من الداللة على عزة الربوبية وكبرياء اإللهية حيث جعلت الجبال‬
‫ُمَن َّزلة منزلة العقالء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإ ذا دعاهم سمعوا وأجابوا‬
‫إشعاراً بأنه مامن حيوان وجماد وناطق وصامت إال وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع‬
‫على إرادته))(‪.)1300‬‬
‫فالنداء هنا أفاد استعالء المنادى ألنه عومل معاملة ما يعقل ومثل هذا نجده في خطاب الشعراء‬
‫لديارهم وما ال يعقل كالحيوان؛ فينزلونها منزلة العقالء إعالء لمكانتها‪ 0‬في نفوسهم‪ ....‬كقول عنرتة‪:‬‬

‫واسلَمي‬ ‫ِِ‬ ‫بالج ِ‬


‫واء تَ َكلَّمي‬ ‫يا دار َع ْبلَ َة ِ‬
‫دار َع ْبلَ َة ْ‬
‫ص َباحاً َ‬
‫وعمي َ‬ ‫َ‬
‫بحد ذاتها تراب ال قيمة لـه ولكنها أخذت منزلتها من إضافتها إلى اسم‬
‫فالديار ّ‬
‫عبلة؛ ثم خاطبها علىجهة إعالء منزلتها بأداة النداء‪...‬‬
‫وقد أعلى الصعاليك من شأن الحيوان الذي عاشوا معه في الفلوات؛ وأنزلوه‬
‫منزلة اإلنسان العاقل كما في قول الشنفرى الذي رغب في أن يكون طعاماً‬

‫‪- 194 -‬‬


‫للضبع(أم عامر)‪:‬‬

‫ِ‬
‫عامر‬ ‫ولكن أ َْب ِشري أ َُّم‬
‫ْ‬ ‫عليكم‪،‬‬ ‫إن قَ ْب ِري ُم َحَّر ٌم‬
‫ال تقبروني َّ‬
‫وهذا أسلوب يختلف عن النداء الحقيقي في إنزال القريب جداً منزلة البعيد‬
‫َّبع بأنها ستكون مقبرة‬
‫لعلو قَ ْدره وعظيم شأنه‪ .‬فعلو شأن الشنفرى جعله يكرم الضُ‬ ‫ّ‬
‫لجدثه؛ ال األرض التي تضم أجساد الناس‪ ...‬مما يوحي بمفهومه الفكري‬
‫واالجتماعي‪0...‬‬
‫وقد يكون االستعالء لوجه بالغي آخر‪ ،‬كأن يقع كراهية بين األزواج فيكون الطالق بعد‬
‫استعالء وتكبراً كقول األعشى‪:‬‬
‫ً‬ ‫االجتماع‪ 0‬فينادي الرجل زوجه بكلمة (جارة)‬
‫كذاك أمور الناس ٍ‬
‫غاد وطارقَ ْه‬ ‫فإن ِك َ‬
‫طالقَ ْه‬ ‫يا جارتي ِب ْيني َّ‬
‫َ ُ‬
‫إن جمالية هذا المعنى تستدعي منا استحضار السياق التراثي الثقافي‬‫َّ‬
‫واالجتماعي قبل استدعاء عواطف المتكلم ورؤيته الشخصية‪ 0...‬فاألسلوب‬
‫البالغي في هذا المقام ممارسة شخصية لمتكلم تملكته نزعة المغايرة من أن‬
‫يصرح باختالفه عن اآلخر‪ .‬ولعل مثل هذه المغايرة المتجهة إلى االستعالء هي‬
‫التي أكسبت أسلوب النداء جماالً خاصاً به‪..‬‬

‫‪-7‬التهكم والسخرية‪:‬‬
‫يكتسب أسلوب النداء من السياق والقرائن معاني كثيرة؛‪ 0‬ويؤثر في النفس تأثيراً عظيماً وال سيما‬
‫إذا اعتمد على التقديم أو التأخير‪ ،‬أو على الحذف‪ ،‬أو على الشرح والتفصيل في غير ما استعمال‪ ،‬ومنه‬
‫استعماله للتهكم والسخرية؛ ومنه قول عامر بن الطفيل يفتخر بنفسه ويتهكم ساخراً من ُم َّرةَ بن عوف‬
‫الذبياني‪ ،‬معتمدًا على مبدأ الشرح والتفصيل في قوله‪:‬‬

‫ولما أُن َك ِب‬


‫رحتكم ّ‬
‫ْت قَ َ‬
‫ونكأ ُ‬ ‫مان عليكم‬ ‫يا ُمَّر‪ ،‬قد َكِل َب َّ‬
‫الز ُ‬
‫(م َّرة) حين أرسل إليه عامراً فنكأ جراحه؛ وحين استعمل أداة النداء (يا) إنما‬
‫فالزمان اشتد على ُ‬
‫كان ذلك إمعاناً في التهكم منه وتصغير شأنه‪ ..‬وكذلك فعل الشاعر حين رأى أبا ُخ َراشة يفتخر بقوة‬
‫قومه وكثرة عددهم‪ ..‬وحذف أداة النداء لتأكيد مبالغة الفخر لدى المخاطب ثم يأتي الشرح والتفصيل‬
‫هجاء ‪ ،‬وليبين أن قوم الشاعر أقدر على الثبات في السنوات العجاف‬
‫ً‬ ‫بصورة التقرير ليقلب فخره عليه‬
‫التي تأكل الناس ويصبحون طعاماً للضباع؛ مما يوحي بأبعاد رمزية جمالية‪ ،‬فضالً عن مفهوم‪ 0‬االنزياح‬
‫في اللغة؛ فيقول‪:‬‬

‫َّبعُ‬
‫هم الض ُ‬
‫فإن قومي لم تأك ْل ُ‬
‫َّ‬ ‫إما أَ ْن َت ذا َنفَ ٍر‬
‫شةَ!! ّ‬
‫أبا ُخرا َ‬
‫أما أبو الطيب المتنبي فقد استعمل أداة النداء (الهمزة) للقريب‪ ،‬وأوهمنا أن المخاطب بشجاعته‬
‫المرة‬
‫وجرأته وقدرته استطاع أن يقتل األسد الهصور‪ ،‬ثم يأتي السياق في الشطر الثاني ليفيد السخرية ّ‬

‫‪- 195 -‬‬


‫منه‪ ،‬وفق عملية انزياح لغوي وداللي مثيرة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ارم المصقوال!!؟‬
‫الص َ‬
‫َّخر َت َّ‬
‫لمن اد ْ‬
‫َ‬ ‫بس ْو ِط ِه‬ ‫ِ‬
‫َمعفَِّر اللَّ ْيث ال ِه َز ْب ِر َ‬
‫أُ‬
‫ويُ جيد أبو نواس أسلوب التقديم والتأخير في النداء للتهكم والسخرية الالذعة من الخليفة العباسي‬
‫(األمين)؛ ويصبح التشكيل البالغي مكثفًا‪ 0‬لظالل نفسية متصاعدة وغنية‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫جميع المسلمينا‬
‫َ‬ ‫يا‬ ‫احمدوا اهلل كثيراً‬
‫ق األ ِ‬
‫َمينا‬ ‫ربَّنا أ َْب ِ‬ ‫ثم قولُوا ال تَملُّوا‪:‬‬
‫فالظاهر من تقديم جملة جواب النداء (احمدوا اهلل‪ )..‬أنه قصد إلى المدح؛ ولهذا طلب إلى‬
‫المسلمين جميعاً ‪ ..‬أن يحمدوا اهلل ويشكروه‪ ..‬وهي صورة لغوية مكتملة المعنى وتدل على حقيقة‬
‫بعينها‪ ....‬فاالستغراق ممثل (بأل التعريف) في المسلمين‪ ،‬ثم دفع أي توهم في النفس فجاء بكلمة‬
‫ينبه المدعويين لـه‬
‫(جميع) ثم طلب إليهم أن يدعوا اهلل بالثناء والشكر‪ ..‬فالداعي يقظ لما يقول وأراد أن ّ‬
‫فجاء بالنداء للبعيد ليصل قوله إلى أبعد ما يمكن أن يسمعه‪ ..‬ثم أمرهم بدوام الشكر وعدم الملل وبين‬
‫نوع الدعاء فقال‪( :‬ربنا أبق األمينا)؛ فحذف أداة النداء ليظل الداعي قريبًا من اهلل في مناجاته‪ ..‬ثم يأتي‬
‫سياق األبيات ليدل على أن معنى أسلوب الدعاء إنما كان على سبيل السخرية والتهكم‪ ،‬في أسلوب‬
‫الذع‪ ،‬فهو يتطير منه ومن سوء صنيعه وتدميره؛‪ 0‬ألنه يتابع‪ 0‬كالمه فيقول‪:‬‬‫ٍ‬

‫جعل التصبير ِد ْينا‬ ‫يان حتى‬


‫ص َ‬ ‫ِ‬
‫صب ََّر الخ ْ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫بأمير المؤمنينا‬ ‫فاقتدى الناس جميعاً‬
‫فحين نستحضر السياق العام ندرك أنه ما أراد إال التهكم والسخرية المرة من الخليفة األمين؛ وقد‬
‫وظف جملة من الصور البالغية إلبراز ذلك مع أسلوب النداء‪ ،‬ومثله قول أبي األسود الدؤيل‪:‬‬

‫التعليم‬
‫ُ‬ ‫َهالَّ ل َن ْف ِس َك كان ذا‬ ‫الم َعلِّ ُم َغ ْي َرهُ‬
‫يا أَيُّها الرج ُل ُ‬
‫تلك هي المعاني التي التقطناها ألساليب النداء المجازي مما لم يعرض لـه‬
‫اآلخرون؛ ومن ثم نعرض لما عرف لديهم في أسلوب جمالي يجاري ما بدأنا به‪..‬‬
‫وهو ليس عرضاً عابراً وال جزئياً‪ ،‬وإ نما عرض يتوشح بإبراز التشكيل الجمالي‬
‫في صميم األسلوب البالغي‪..‬‬

‫‪-8‬الزجر والتهديد‪:‬‬
‫صلوا القول فيه‪ .‬وقد يتخيل أحدنا أن هذا المعنى‬
‫عرض البالغيون لهذا المعنى؛ ولكنهم لم يُفَ ّ‬
‫ينتمي‪ 0‬في بعض صوره إلى تنبيه المخاطب على غفلته وشرود ذهنه‪ ..‬يصل في بعض الحاالت إلى‬
‫شيء من التوبيخ‪ ..‬فهو أعلى درجة من النداء الحقيقي الذي يكتفي بمجرد التنبيه من الغفلة‪ ..‬كما في‬
‫قول عامر بن الطفيل يهدد فيه ويتوعد ضبيعة بن الحارث الذي نجا هذه المرة من المعركة‪ ..‬وإ ن نجا‬
‫هذه المرة فلن ينجو‪ 0‬في المرة القادمة‪:‬‬

‫أع ِق ْد علي َك التَّمائما‬


‫ِّك لم ْ‬
‫وجد َ‬
‫َ‬ ‫بيعُ –فإنني‬
‫ضَ‬ ‫فإن تَ ْن ُج –يا ُ‬
‫ْ‬

‫‪- 196 -‬‬


‫جاءت صيغة التصغير لتؤكد ذلك‪ ..‬وقد يكون أسلوب‬ ‫َ‬ ‫كما أن النداء للبعيد أفاد معنى التَحقير‪ ،‬ثم‬
‫النداء للزجر الخالص؛ كما هو عليه السادر الذاهب عن الشيء ترفعاً عنه ال يبالي وال يهتم بما يصنع؛‬
‫ويوضحه قول الشاعر‪:‬‬
‫ّ‬
‫ظلَ ْم‬ ‫الظُّ ْلم َم ْر ٌ‬
‫دود َم ْن َ‬ ‫فعل ِه‬
‫يا أيُّها الظالم في ِ‬
‫ُ‬
‫(أي)‬
‫وقد أكد الشاعران صفة خطاب الزجر حين استخدما أداة النداء مع ّ‬
‫وأداة التنبيه (ها) إليقاظه مما هو فيه وتعنيفه عليه‪..‬‬
‫وال يمتنع‪ 0‬للمتكلم أن يخاطب نفسه مجرداً منها‪ 0‬صفة ما كقول الشاعر‪:‬‬
‫َلما؟!!‬
‫ق رأسي أ َّ‬
‫والشيب فَ ْو َ‬
‫ُ‬ ‫ص ُح‬
‫تَ ْ‬ ‫ألما‬
‫المتاب؛ َّ‬
‫ُ‬ ‫أَفؤادي؛ متى‬
‫فقد تعاون أسلوب االستفهام مع أسلوب النداء إلثبات الزجر للنفس التي‬
‫لف‬
‫ّ‬ ‫قد‬ ‫انساقت وراء اللهو والعبث‪ ،‬ولم تفق من صبواتها على الرغم من أن الشيب‬
‫رد‬
‫رأس صاحبها‪ .‬وفضالً عن هذه الجمالية فهناك جمالية أخرى تنبثق من اسلوب ّ‬
‫(ألما)‪.‬‬
‫العجز على الصدر ّ‬
‫وكذلك يفعل شاعر آخر حين يقول‪:‬‬
‫يت وال اتَّقَ ْيت مالما‬
‫لما ارتَ ْم َ‬
‫ّ‬ ‫لناصح‬
‫ٍ‬ ‫عت‬
‫سم َ‬
‫ويحك! ما ْ‬
‫َ‬ ‫قلب!!‬
‫يا ُ‬
‫هذا العتاب ينضح بمعاني الزجر والتقريع من ذهاب النفس وراء شهواتها دون أن يردعها‬
‫نصيحة ناصح‪ ..‬وقد يكون الزجر من المخاطب للمتكلم ما يزيد في ألمه كقول عبيد بن األبرص‪:‬‬
‫ِ‬
‫تكونن لي بالالئم الالحي‬
‫َّ‬ ‫وال‬ ‫صاح‬
‫ِ‬ ‫ْل يا‬ ‫صاح‪ ،‬مهالً‪ ،‬أق َّل َ‬
‫العذ َ‬ ‫ِ‬ ‫يا‬

‫‪-9‬اإلغراء والتحريض‪:‬‬
‫يراعي المتكلم هنا حال المخاطب وموقفه؛ أو يستعمل أسلوب النداء لإلغراء والتحريض ألمر‬
‫خاص به‪ ..‬ومن ذلك قولنا للمظلوم‪ ،‬وهو مستكين للظلم ال يتكلم‪( :‬يا مظلوم ال تسكت)؛ أو كقولنا‬
‫ّ‬
‫زيد ال تخف)‪ ،‬وهكذا‪ ..‬وقد أكثر الشعراء من استعمال‬ ‫للشجاع المتردد‪( :‬يا شجاع أقدم) أو للخائف‪( :‬يا ُ‬
‫هذا األسلوب كقول طرفة بن العبد ُيغري عمرو بن هند باالنقضاض على بني ُمراد‪:‬‬

‫ِ‍‬
‫مجاور‍!!؟‬ ‫جار‬ ‫رأي َم ْع ٍ‬ ‫أَعمر َ ٍ‬
‫أماتوا أبا حسان َ‬
‫َ‬ ‫شر‬ ‫بن هند أما ترى َ‬ ‫َ َْ‬
‫فالسياق يوضح أنه ما استخدم النداء لمجرد النداء الحقيقي لعلو منزلة المخاطب‪ ..‬وكذا فعل‬
‫األعشى حينما أغرى أقرباءه بالسلم فقال‪:‬‬

‫الس ْلم‬ ‫الرف ِ‬


‫ْض وارموا إلى ِّ‬ ‫جيع َّ‬
‫كرد َر ِ‬
‫ِّ‬ ‫الحرب بيننا‬
‫َ‬ ‫َبني َع ِّمنا ال تبعثوا‬
‫ونجد أن أبا الطيب المتنبي‪ 0‬يغري سيف الدولة بإنزاله منزلة فوق منزلة غريه‪:‬‬
‫صم والح َك ُم‬
‫ام وأَ ْن َت ال َخ ْ‬ ‫ِ‬
‫الخص ُ‬
‫َ‬ ‫فيك‬
‫َ‬ ‫الناس إال في ُم َعاملتي‬ ‫أعدل‬
‫َ‬ ‫يا‬
‫وقد يتوجه الشاعر باإلغراء والتحريض إلى نفسه كما نجده في قول الشاعر مخاطباً ناقته ويعني‪0‬‬

‫‪- 197 -‬‬


‫ال عن لذة التخيّل‪:‬‬
‫نفسه؛ ما يوحي بجمال االنزياح اللغوي والداللي‪ ،‬فض ً‬
‫سليمان فتستريحا‬
‫َ‬ ‫إلى‬ ‫ناق ِس ْيري َع َنقاً فَ ِس ْي َحا‬
‫يا ُ‬
‫ويشتمل هذا األسلوب وسابقه على جوانب انفعالية ونفسية تمد جسورها إلى‬
‫الواقع االجتماعي‪.‬‬
‫ومن ثم يسعى المتكلم إلى إحداث توازن موضوعي بين ما يعتلج في نفسه‬
‫وما يراه‪ ،‬وهذا سر الجمال فيه‪..‬‬

‫‪-10‬التحيُّر والتضجّر‪:‬‬
‫يعد هذا األسلوب من أبدع األساليب الجمالية؛ إذ يتوجه الخطاب فيه إلى المتكلم ذاته غالبًا ليبين‬
‫ّ‬
‫ما به من حيرة وقلق واضطراب‪ ..‬وال يمنع‪ 0‬أن يتوجه فيه إلى المخاطب كما في قول الحارث بن ِحلَِّزة‪:‬‬

‫احج‬ ‫ال َيثِْن َك الحازي وال َّ‬


‫الش ُ‬ ‫المز ِمعُ ثم انثنى‬
‫يا أيُّها ُ‬
‫مر به طير أو‬ ‫فالشاعر يصور حالة إنسان متشائم متردد في ٍ‬
‫أمر ما‪ ،‬ولذلك ينصرف عنهُ إذا ّ‬
‫سمع صوت غراب؛ ويدعوه إلى أن يقلع عن تردده وتحيره‪ ..‬أما امرؤ القيس فقد اضطربت حاله مع‬
‫صاحبته (ماوية) ولم يدر هل ستفارقه أو ستبقي وصالها؟ فيقول‪:‬‬

‫ِ‬
‫نيأس‬ ‫الص ْر َم تختارين بالوصل‬
‫أَم َّ‬ ‫عر ِ‬
‫س‬ ‫اوي!! َه ْل لي عندكم من ُم َّ‬
‫َم َّ‬
‫أَ‬
‫المتلب ِ‬
‫س‬ ‫ِّ‬ ‫المخلوج ِة‬
‫َ‬ ‫من َّ‬
‫الش ِّك ذي‬ ‫َ‬ ‫الصريم َة راح ٌة‬
‫إن َّ‬
‫أَبيني لنا‪َّ ،‬‬
‫مصوراً حالته كأنه في حالة سكر ال يدري ماذا يفعل‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ويخاطب امرؤ القيس الحارث بن عمرو‬
‫الضجر نفسه فناداه بقوله‪:‬‬
‫فهو قلق مضطرب حيران‪ ،‬مأل ّ‬
‫ويع ُدو على المر ِء ما ِ‬
‫يأتم ْر‬ ‫رو كأني َخ ِم ْر‬
‫أحار بن َع ْم ٍ‬
‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َْ‬
‫أما األعشى فإنه وقف موقف المتيقن من وجهة سير إحدى النساء؛ على حين أن المخاطب‬
‫(المدعو) بأسلوب النداء ظل حائرًا في ذلك فقال‪:‬‬

‫يثرب َم ْوعدا‬
‫َ‬ ‫فإن لها في أهل‬
‫َّ‬ ‫يم َّم ْت؟!‬
‫أال أَيهذا السائلي‪ :‬أين َ‬
‫ومن هنا نجد أن أسلوب النداءالمجازي يجري كثيراً على ألسنة الشعراء في مخاطبتهم للديار‬
‫واألطالل؛ فيصورون حالهم حيرى ضجرة‪ ،‬كقول الشاعر‪:‬‬
‫ِ‬
‫بكيناك‬ ‫من ِ‬
‫أجل هذا بكيناها‬ ‫منازل س ْلمى أين س ِ‬
‫لماك؟‬ ‫أَيا‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫فالشاعر مضطرب ال يدري أين رحلت سلمى؛ فلعل الجواب عند آثارها‬
‫الدارسة؛ بيد أنها كانت أكثر حيرة وقلقاً منه؛ ألنها مثله ال تعرف أين رحلت‪.‬‬
‫ولعل النظرية المتأنية لمثل هذا األسلوب تسلم صاحبها إلى الوقوف على‬
‫ماهية الصورة الداخلية المختزنة‪ ..‬وهي صورة تستبطن جمالية خاصة في‬

‫‪- 198 -‬‬


‫وظائفها النفسية لدى المتكلم والمخاطب على السواء‪ ،‬على عكس المعنى التالي‬
‫الذي يتصل غالباً بالمتكلم‪.‬‬

‫‪-11‬التذ ُّكر‪:‬‬
‫التذكر ألمر‬
‫ُ‬ ‫يتجه في معناه إلى صفة‬
‫لعل هذا المعنى شديد الشبه بالمعنى‪ 0‬السابق‪ ،‬ولكن المتكلم ّ‬
‫ما ومحاولة الوصول إلى اليقين كقول امرئ القيس‪:‬‬

‫راب ْه‬
‫ذكرى حبيب ببعض األرض قد َ‬ ‫آب ْه‬
‫يا بؤس للقلب بعد اليوم ما َ‬
‫فإذا كان امرؤ القيس قد شك في وجهة رحيل صاحبته وحاول أن يتذكر ذلك وما كان لـه معها‬
‫من أيام جميلة فإن شاعراً آخر يقف أمام أطالل محبوبته ساعياً إلى تذكر ما كان لـه معها‪ ،‬متمنياً أن‬
‫ترجع؛ فيقول‪:‬‬

‫ين رواجع؟!‬
‫ض َ‬ ‫ِ‬
‫هل األ َْز ُم ُن الالتي َم َ‬ ‫سالم عليكما‬
‫س ْل َمى ٌ‬
‫أَيا َم ْنزلَ ْي َ‬
‫وهناك أناس ما إن تمر بهم ريح الشمال في وقت السحر حتى تذكرهم شمائل أحبتهم فيعبر عنهم‬
‫الشاعر قائالً‪:‬‬

‫س َحرا‬ ‫َّ‬ ‫يا َم ْن تُ َذ ِّك ُرني شمائلَ ُه‬


‫س ْت َ‬
‫ريح الشمال تنف َ‬
‫ُ‬
‫يصرح باسم المخاطب‪ ،‬ثم هو على سبيل اإلعزاز‬ ‫(م ْن) لإلبهام ولكنه ال ّ‬
‫فالشاعر استعمل َ‬
‫واإلكبار‪ ،‬وإ ثارة الفكر والشعور‪ .‬فالشعراء يوهموننا بنسيان أحبتهم‪ ،‬أو ال يعرفون وجهتهم‪ ..‬ومنهم من‬
‫يظل يقظ الفكر‪ ،‬متنبه النفس ال ينسى أيامه الجميلة؛ ويصر على تذكرها تقول الشاعر‪:‬‬

‫حاضر فيها‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫سرور‬ ‫كأن ُك َّل‬
‫َّ‬ ‫ت أَنسى ِط ْي َبها أبداً‬
‫لس ُ‬
‫يا ليل ًة ْ‬
‫وبهذا كله يصبح أسلوب النداء أسلوباً جمالياً فريداً في التعبير اللغوي‬
‫الجمالي‪.‬‬

‫‪-12‬التحسّر والتوجع‪:‬‬
‫سواء بالموت أم بغيره‪ ..‬وهو من المعاني الكثيرة التي‬
‫ً‬ ‫يرتبط هذا المعنى بقضية الفقد غالبًا‬
‫استعملت في أسلوب النداء وغيره منذ القديم‪ )131( ،‬ويظل السياق وحده من يكشف عن ذلك‪ ،‬كقول‬
‫امرئ القيس في رثاء قومه وبكاء مملكتهم‪ 0‬الزائلة‪:‬‬

‫ِّ‬
‫وبكي لي الملوك الذاهبينا‬ ‫أال يا ِ‬
‫عين َب ّكي لي شنينا‬
‫وقال آخر في رثاء ابنه‪:‬‬
‫ْساً َعليَّا‬
‫َّت َد ْعوتي يأ َ‬
‫فرد ْ‬
‫ُ‬ ‫ني فلم تُ ِج ْبني‬
‫دعوتُ َك يا ُب َّ‬
‫وقالت ليلى بنت طريف في رثاء أخيها‪:‬‬
‫ط ِر ْي ِ‬
‫ف‬ ‫تحز ْن على ِ‬
‫ابن َ‬ ‫َّ‬
‫كأن َك لم َ‬ ‫شجر الخابور!! مال َك مورقاً‬
‫أَيا َ‬

‫‪- 199 -‬‬


‫وقال ساعدة بن جؤية يتوجع لفقد صديق له‪:‬‬
‫المخاسف‬ ‫ُيَب ُّل على ُ‬
‫العدَّى وتُؤبى‬ ‫بمثل ِه‬
‫س ِ‬ ‫شم ٍ‬
‫فتى ما َع ْب ُد ْ‬
‫ُ‬ ‫أَال يا ً‬
‫وقال مالك بن الريب يرثي نفسه‪:‬‬
‫ت ثاويا‬
‫وأصبح ُ‬
‫ْ‬ ‫إذا أ َْدلَجوا ِّ‬
‫عني‬ ‫ف نفسي على َغ ٍد‬
‫له َ‬ ‫ٍ‬
‫َغداة غد يا ْ‬
‫وهذه الشواهد كلها في الرثاء؛ وتدل على حسرة وتوجع شديدين‪ ،‬ولكن هذه الحسرة قد تكون‬
‫مستعملة في نداء األحياء وبيان ما يلم في النفس من أحزان ومنه في غيره قول امرئ القيس لما رحلت‬
‫عنه هند‪:‬‬

‫الشفاء فلم ُيصابوا‬


‫َ‬ ‫هم كانوا‬ ‫لهف ِه ْن ٍد إِثَْر ٍ‬
‫قوم‬ ‫أال يا َ‬
‫ُ‬
‫أو قد يتحسر المرء على أمر عزيز فيستعمل أسلوب النداء لذلك كقول الشاعر‪:‬‬
‫الت ُم ِجير‬
‫حين َ‬
‫جوار َك َ‬ ‫عليك للهفَ ٍة من َخ ٍ‬
‫يبغي َ‬ ‫ائف‬ ‫َ ْ‬ ‫لَ ْهفي‬
‫وربما يتحسر اإلنسان على مكان خرب؛ فتثير رؤيته الشجا تلو الشجا‪ ،‬كما يقول األعشى‪:‬‬
‫عاب ْه‬ ‫ِ‬
‫ـسـي خاوياً َخرباً ك ُ‬
‫َ‬ ‫مان أ َْمـ‬
‫يا َم ْن َيرى َر ْي َ‬
‫ويغدو تكرار النداء في هذا المعنى للمبالغة‪ ،‬وزيادة في إرساء التأثير في النفس كما نجده في‬
‫معن بن زائدة‪:‬‬
‫قول مروان بن أبي حفصة يرثي ْ‬
‫ض َجعا‬ ‫األرض ُخطَّت َّ‬
‫للسماحة َم ْ‬ ‫من ْ‬‫َ‬ ‫أنت أو ُل حفر ٍة‬
‫فيا قَ ْب َر َم ْع ٍن َ‬
‫البُّر والبحر ُمتَْرعا‬
‫وقد كان منه َ‬ ‫جودهُ‬
‫واريت َ‬
‫َ‬ ‫ويا قبر ٍ‬
‫معن كيف‬
‫وقال ابن الرومي يتحسر على شبابه الذي مضى؛ ولما وجد أن األلم أكبر من أن يحتويه بيت‪0‬‬
‫واحد؛ رجع فشدد على ذكر اللهفة بوساطة أداة نداء‪ ،‬وحذف هذه األداة إمعاناً منه بزيادة المبالغة؛ فضالً‬
‫عن داللة السياق‪:‬‬

‫ِ‬
‫بانقضاب‬ ‫حباله‬
‫ُ‬ ‫آذ َنتْني‬ ‫وأين م ّني شبابي؟!‬
‫يا شبابي!! َ‬
‫ِ‬
‫الرطاب‬ ‫ان‬ ‫َفنان ِه ّ‬
‫اللد ِ‬ ‫تحت أ ِ‬ ‫وله ِوي‬
‫ف نفسي على َنعيمي ْ‬
‫له َ‬
‫ْ‬
‫فالقيمة الجمالية لهذا النمط من أساليب النداء ال تنبع من العناصر الفنية‬
‫نما تنبثق من التصوير المجازي المرتبط بمشاعر‬ ‫المكتملة في الصورة فقط وإ ّ‬
‫أصحابه‪ ،‬ومن إرسائه في ُنفوسنا‪ ..‬ولهذا فنحن نحس بمالمح التجربة الذاتية في‬
‫إطار جمالي مثير‪ ،‬وهذا ما نجده في األساليب اآلتية‪ ،‬ومنها التعجب واالستغاثة‬
‫والندب‪..‬‬

‫‪- 200 -‬‬


‫‪-13‬التعجب‪:‬‬
‫جمالية أسلوب النداء في التعجب يعبر عن الغاية من استعظام فعل ظاهر‬
‫المزية بأسلوب لغوي لم يكن موضوعاً له‪ ..‬وهو يدل على رهافة الذوق اللغوي‬
‫والبالغي لدى العرب لبيان مشاعرهم وأفكارهم‪ ..‬وحين استعمل الجاهليون هذا‬
‫األسلوب وغلب عليهم الذوق الحسي كان األمر يتطور في اإلسالم وبعده عما كان‬
‫عليه‪..‬‬
‫وقد ظهر أسلوب النداء التعجبي بعدة طرائق؛ أشهرها وأولها استعمال أداة النداء مع الم جر‬
‫ٍ‬
‫متوال‬ ‫مفتوحة ثم اإلتيان بالمتعجب‪ 0‬منه‪ ،‬كقول امرئ القيس متعجبًا‪ 0‬من طول الليل في لغة ذات نسق‬
‫ليس فيها تقديم وال تأخير‪ ،‬وإ نما قامت على التناسب بين الرتاكيب‪:‬‬

‫شدَّت َبيذُْب ِل‬ ‫بك ّل ُم ِ‬


‫غار الفَ ْتل ُ‬ ‫كأن نجومه‬ ‫لك ِم ْن ٍ‬
‫ليل َّ‬ ‫فيا َ‬
‫والثانية أن يحذف المتعجب لـه ويبقى المتعجب منه ويستعمل‪ 0‬معه أداة النداء (يا) والم جر‬
‫لماء‪ ،‬يا لَلعباد)‪ .‬والثالثة إذا ما حذفت الالم من المتعجب‪ 0‬لـه واستعمل‬
‫مفتوحة كقولنا‪( :‬يا لَلعجب؛ يا َل َ‬
‫فعل (التعجب) دخلت الم جارة على المتعجب منه كقول األعشى‪:‬‬

‫تج ْن؟‬
‫اح َ‬ ‫آخر ِ‬
‫الليل‪ :‬ماذا ْ‬ ‫ِت من ِ‬ ‫الر ْه ِن للقائال‬
‫عج َب َّ‬
‫فيا َ‬
‫وكقولنا‪ :‬يا عجبًا َلم فعلت هذا؟ والرابعة أن تحذف الالم نهائيًا؛‪ 0‬ولكنه ال يجوز حذف أداة النداء‬
‫فيها وفي غيرها كقول الشاعر‪:‬‬

‫السالما‬ ‫ت‪ :‬يا ريح بلّ ِ‬


‫غيه َّ‬ ‫ق ْل ُ‬ ‫الرياح ألَّني‬
‫ِ‬ ‫َح َج ُبوهُ عن‬
‫َُ‬
‫وهنا يصبح السياق دليالً على معنى التعجب؛ وعليه قول الفرزدق‪:‬‬
‫ِ‬
‫ش ٌل أو ُم َجاشعُ‬
‫َن أباها َن ْه َ‬
‫كأ َّ‬ ‫سبُّني‬ ‫فيا عجباً حتَّى ُك ْلي ٌ‬
‫ب تَ ُ‬
‫وأعاله ما وجدناه في قوله تعالى‪" :‬يا َح ْسرةً على العباد" (يس ‪.)30/ 36‬‬
‫فالحسرة ال تنادى؛ وإ ن أرجعها الزمخشري إلى معنى التلهف والحسرة على القوم‬
‫في حال استهزائهم بالرسل‪ ..‬ولكن الزمخشري نفسه قال‪" :‬ويجوز أن يكون من‬
‫اهلل تعالى على سبيل االستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به‬
‫وفرط إنكاره لـه وتعجيبه منه"‪.‬‬
‫وهذا الذي نميل إليه في األسلوب لوجود قراءة أخرى تعضد رأينا أثبتها‬
‫الزمخشري وهي (يا حسرتا)؛ وقال‪" :‬وقراءة من قرأ يا حسرتا تعضد هذا الوجه؛‬
‫ألن المعنى‪ :‬يا حسرتي" (‪.)132‬‬
‫فالرؤية الجمالية في أسلوب النداء التعجبي تعتمد على الغاية‪ ،‬والغاية مقترنة‬
‫بالمشاعر التي تعتلج في نفس المتكلم‪ ...‬ومن هنا أصبح أسلوباً جمالياً متنوعاً في‬

‫‪- 201 -‬‬


‫صيغه وفضاءاته ولم يكن مجرد تنبيه أو نداء على أمر ما‪..‬‬

‫‪-14‬االستغاثة‪:‬‬
‫هذا األسلوب في النداء يماثل في تركيبه أسلوب التعجب السابق؛ ولكن‬
‫المتكلم ينادي شخصاً آخر لكي يعينه على دفع بالء أو ِش َّدة‪ .‬ورأى سيبويه‬
‫(‪ ) 133‬أن أداة النداء (يا) و(الم الجر) المفتوحة مع المستغاث به ال تحذفان‪ ،‬كقولنا‪ :‬يا لَألَغنياء؛ بينما‬
‫يجوز حذف (الم الجر) المكسورة في المستغاث لـه‪ ..‬بدليل أو من دون دليل‪ .‬ومن ثم فهو وأمثاله لم‬
‫يجيزوا حذف (يا) حتى ال يلتبس أمر الالم المفتوحة في الم االبتداء‪ ،‬كقول الشاعر‪:‬‬

‫أل ٍ‬
‫ُناس ُعتُُّو ُه ْم في ازدياد‬ ‫ِ‬
‫وياألمثال قَ ْومي‬ ‫يا لَقَ ْومي‪،‬‬
‫فأداة النداء (يا) للتنبيه واالستغاثة‪ ،‬ويحذف معها المستغاث لـه مع الالم كقول‬
‫المهلهل‪:‬‬

‫رار؟!‬ ‫يا لب ْك ٍر!! أ َْي َن؟ أ َ ِ‬ ‫يا لَ َب ْك ٍر!! أَ ْن ِش ُروا لي ُكلَ ْيبا‬
‫َين الف ُ‬ ‫َ‬
‫وضع ت في أداة النداء (يا) فقط مثلما هي في التعجب؛ فهي المختصة بهذا‬
‫َ‬ ‫قلنا‪ :‬إن االستغاثة‬
‫المعنى ويستعمل معه الم مفتوحة مع المستغاث‪ 0‬به‪ ،‬أما المستغاث‪ 0‬لـه الذي يستعمل معه الم مكسورة‪ 0‬فقد‬
‫حرف الجر (من) كقول الشاعر‪:‬‬
‫ُ‬ ‫يستعمل بدالً من الالم‬

‫الم ْردي لهم ِد ْي ًنا‬


‫يبرح السفه ُ‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫فر‬ ‫ِ‬
‫األلباب من َن ٍ‬ ‫يا للَرجال ذوي‬
‫وكنا أوضحنا من قبل أن (يا) صوت ينبعث من جوف الحلق القريب من الصدر‪ ،‬ويؤسس حقيقة‬
‫فحذفت الالم في المستغاث‪ 0‬به‪ ،‬على‬ ‫لمعنى االستغاثة‪ .‬فالواقع في َك ْر ٍب يستغيث‪ 0‬باهلل فيقول‪( :‬يا اهلل‪ُ )..‬‬
‫يقدم استغاثة واعية على شدة‬ ‫ال عن أن السياق ّ‬ ‫حين درج األسلوب المجازي على عدم حذفها‪ ،‬فض ً‬
‫الشحنة العاطفية في العناصر اللغوية والفنية للنداء‪ ..‬فاالستغاثة في األنماط األدبية تقدم تناسقاً فنياً بديعاً‬
‫في األسلوب وتدل على شكل تصوري عقلي ال يقل قدرة على التأثير من الشحنة االنفعالية؛ كما يدل‬
‫عليه قول األعشى؛ يستغيث‪ 0‬بقومه داعيًا إياهم إلى الصرب‪:‬‬

‫عالما؟!‬
‫أعراضنا أم َ‬
‫ُ‬ ‫ألع ْب ٍد‬
‫َ‬ ‫العاما‬ ‫يا لَ ٍ ِ ِ‬
‫قيس!! لما لقَينا َ‬
‫فالتفصيل الذي نراه في أسلوب االستغاثة المجازي يخرجه عن األصل الذي‬
‫وضع لـه عند اإلنسان األول‪ ..‬وكذا نقول في نداء الندبة‪.‬‬

‫‪-15‬نداء النُّدبَة‪:‬‬
‫هو نداء المتفجع عليه‪ ...‬أو المتوجع منه؛ وال يكون إال معرفة؛ فال يكون‬
‫نكرة‪ ،‬وال مبهماً؛‪ 0...‬وكالهما جاز نداؤهما في غيره‪ ..‬ويستثنى االسم الموصول‬
‫من المبهم ألن جملة الصلة توضحه‪ ،‬بيد أنه قبيح في هذا الباب (‪.)134‬‬

‫‪- 202 -‬‬


‫(وازيد)؛ وغالباً ما تلحقها ألف‬
‫ُ‬ ‫واختصت أداة النداء (وا) بالندبة‪ ،‬كقولنا‪:‬‬
‫أطلق عليها ألف الندبة؛ وتكون للترنم‪ ،‬وتعني زيادة توكيد الندب‪ ،‬كقولنا‪:‬‬
‫(واكبدا)؛ وألف الندبة تفتح حركة كل حرف قبلها‪ ،‬إال إذا ألحقت به ياء المتكلم‬
‫واغالمي‪.‬‬ ‫فنقول‪:‬‬
‫َ‬
‫ويمكن إلحاق ألف الندبة بها وتبقى‪ 0‬على حالها‪ :‬واغالميا؛ أو أن تلحق به (هاء) تسمى (هاء)‬
‫السكت‪ ،‬كقول عبيد اهلل بن قيس الرقيات‪:‬‬

‫وار ِزي َ‬
‫َّتي ْه‬ ‫سلمى‪َ :‬‬
‫وتقول َ‬ ‫ماء ُم ْعول ًة‬
‫تبكيهم َد ْه ُ‬
‫ُ‬
‫وهاء السكت‪ ،‬تكاد تالزم ألف الندبة‪ ،‬وكالهما حرف ال محل لـه من‬
‫اإلعراب‪..‬‬
‫أما األداة (يا) فليست مختصة بالندبة؛ وهي الوحيدة من أدوات النداء التي تشارك (وا) في الندبة‬
‫إذا أمن اللبس بينها وبين النداء الحقيقي أو المجازي اآلخر‪ .‬كقول جرير في ندب عمر بن عبد العزيز‪:‬‬

‫وقُ ْم َت فيه بأ َْم ِر اهلل يا ُع َمرا‬ ‫رت لـه‬


‫ط ْب َ‬
‫فاص َ‬
‫ْت أ َْمراً عظيماً ْ‬
‫ُح ِّملَ َ‬
‫وكنا قد قلنا‪ :‬إن أداة الندبة (وا) استخدمت منذ القديم على الندب الحقيقي‬
‫ألن صوتها صوت أنين وتوجع‪ ..‬والندبة –كما قال السيرافي ‪(:-‬تفجع ونوح من حزن‬
‫وغم يلحق النادب على المندوب عند فقده؛ فيدعوه‪ ،‬وإ ن كان يعلم أنه ال يجيب‪ 0‬إلزالة الشدة التي لحقته‬
‫لفقده" (‪ ) 135‬فإذا خرجت عن هذا االستعمال فهي في األسلوب المجازي‪ ،‬ويظهر هذا من السياق؛‬
‫كقول قيس ليلى‪:‬‬

‫و ِم ْن بجسمي‪ ،‬وحالي عنده َ‬


‫سقَ ُم‬ ‫حبني‬ ‫فواكبدا ِم ْن ُح ِّ‬
‫ب َم ْن ال ُي ّ‬ ‫َ‬
‫صحيح أن الرؤية الجمالية مرتبطة بأنساق حسية في التصوير؛ لكن التجربة الفنية لم تتوقف عند‬
‫للن ْد بة‪ ،‬بل نقلته إلى فضاءات روحية عامة‪ ..‬فتجربة قيس أو المتنبي أصبحت‬‫المعنى الظاهري المباشر ُّ‬
‫تجربة عامة‪ ..‬فالمعنى يتشح بظالل الحزن والقتامة‪ ،‬لكن الرؤية الجمالية تجعله ذا ألوان براقة‪.‬‬
‫المقدم كما نجده‬
‫الندبة كامالً في سياقه ّ‬‫فالعناصر الجمالية اللغوية وغيرها تشكل األساس الفني لمشهد ُّ‬
‫في قول أحد الشعراء الذي أرسل صيغة التعجب والتحسر في إطار صيغة الندبة والتفجع‪:‬‬

‫ص فاض ُل؟‬ ‫ظه ُر َّ‬


‫الن ْق َ‬ ‫وواأسفاً كم ُي ْ‬ ‫ناقص‬
‫ٌ‬ ‫ض َل‬
‫واع َجباً كم َيدَّعي الفَ ْ‬
‫فَ َ‬
‫حول‬
‫فأسلوب الندبة كان لديه مفتاحاً للتفريج عن مشاعره الغاضبة‪ ،‬ولذلك َّ‬
‫الصيغة اللغوية إليه‪ ،‬على الرغم من أن السياق يميل إلى الحديث عن تعجبه‬
‫وحسرته‪ 0...‬فحينما أراد إقامة التناسب بين ما يعاني منه وبين الجانب الشكلي‬
‫للتجربة الفنية رأى أن أسلوب الندبة يسرع دون غيره للتعبير عن ذلك؛ مما يقدم‬
‫تجربة فنية جمالية فريدة‪ .‬فحركة النفس الشجية المتدافعة من شدة الحزن واألسى‬
‫تموت بالصوت المنبعث من أعماق الحلق حتى تخرج من الشفتين (وا)‪ 0...‬وهذا‬

‫‪- 203 -‬‬


‫ما يقال حين تستخدم أداة ُّ‬
‫الندبة في معنى الندبة واالستغاثة معاً‪ ،‬كقول تلك المرأة‪:‬‬
‫وامعتصماه‪0...‬‬
‫ولنداء الندبة أحكام لغوية عرض لها ُّ‬
‫النحاة وتفيد معاني بالغية جزئية في‬
‫بعض األحيان (‪)136‬؛ كما يتعلق بإضافة المندوب إلى نفسك أو إلى غيرك وكيفية‬
‫مر قول المتنبي في‬
‫إلحاق ألف الندبة وهاء السكت إليه؛ كقولنا‪ :‬واأبا عمراه؛ وقد َّ‬
‫هذا الشأن‪ 0...‬وكذلك للمندوب الموصوف أحكامه الخاصة به‪ ..‬وما ننبه عليه‬
‫أخيراً من أن أداة الندبة (يا) أو (وا) ال يجوز حذفها في هذا النوع من النداء‪.‬‬

‫‪-16‬التنبيه‪:‬‬
‫ذهب بعض الباحثين إلى أن النداء يكون للتنبيه‪ ،‬ويزيد بتكراره؛ وكذا هو إذا‬
‫دخل على حرف آخر؛ وهو ما ذهب إليه الزركشي (‪ .)137‬وقد استعملت مع ليت‬
‫كثيراً في القرآن‪ .‬قال الزمخشري مبيناً موقف مريم "تمنت لو كانت شيئاً تافهاً ال‬
‫يؤبه لـه من شأنه وحقه أن ينسى في العادة؛ وقد ُنسي وطرح فوجد فيه النسيان‬
‫الذي هو حقه‪ ،‬وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشور من الناس على حكم العادة‬
‫البشرية‪ ..‬ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيباً يعاب به ويعنف بسببه‪ ،‬أو لخوفها‬
‫على الناس أن يعصوا اهلل بسببها" (‪.)138‬‬
‫ومن هنا ندرك القيمة الجمالية التعبيرية ألداة النداء التي جاءت للتنبيه عما هي عليه حالتها‬
‫النفسية‪ .‬وعليه قول الشاعر‪:‬‬

‫اء حوالً أَ ْكتَ َعا‬ ‫َّ‬


‫تحملني الذ ْلفَ ُ‬ ‫ض َعا‬
‫بياً ُم ْر َ‬
‫صّ‬ ‫كنت َ‬
‫يا ليتني ُ‬
‫ب) كقوله‪:‬‬ ‫وقد أكثر امرؤ القيس من استعمال أداة النداء (يا) للتنبيه مع ُ‬
‫(ر َّ‬
‫ِ‬
‫الكواعب أ َْملسا‬ ‫حبيباً إلى البيض‬ ‫أروح ُم َر َّجالً‬
‫ُ‬ ‫رب ٍ‬
‫يوم قد‬ ‫ويا َّ‬
‫واستعمله طَ َرفة مع الجار والمجرور األصلي؛ كقوله‪:‬‬

‫ش ْنفَاهُ‬
‫ق َ‬
‫ـذي َي ْب ُر ُ‬ ‫الر ْي ُم الَّـ‬
‫أال يا بأَِبي؛ ِّ‬
‫ولعل طرفة قد تشبعت نفسه بجمال صاحبته ولذلك زاد من عالمات التنبيه‬
‫على جمالها فاستعمل (أال) و(يا) للتنبيه على ذلك‪ ..‬ولذا بدأ بالتنبيه المتدرج على‬
‫وجه االستعالء وما يستتبعه صوت (األلف) في (أال) و(يا) لبعث التأثير في‬
‫النفوس ولجلب انتباهها إلى ما تتصف به محبوبته إمعاناً منه في إبراز جمالها‪...‬‬
‫ذلك أسلوب التنبيه في أداة النداء الداخلة على الحروف؛ ولكن التنبيه قد يدخل على االسم‬
‫مباشرة؛ لزيادة َج ْذب االنتباه‪ 0‬والتأثير السريع؛ كقولنا‪( :‬يا وي ٌل له) وكقول الشاعر‪:‬‬

‫‪- 204 -‬‬


‫والصالحين على ِس ْمعان من ِ‬
‫جار‬ ‫يا لَعن ُة اهلل واأل ِ‬
‫َقوام ُكلِّهم‬ ‫ْ‬
‫وذهب قوم إلى أن المنادى محذوف في ذلك كله‪ ،‬وتقديره (يا قوم!! ويل له)‬
‫صر اهلل‬
‫و(يا قوم لعنةُ اهلل)‪ ..‬ومثله عوملت (يا) إذا دخل على الفعل؛ كقولنا‪( :‬يا َن َ‬
‫من ينصر المظلوم)؛ وقُ ِّدر المنادى‪( :‬يا قوم)‪ ..‬أو (يا َم ْن)‪)139( 0..‬‬
‫وبذلك كله تظل أداة النداء المستعملة مجازاً للتنبيه‪ ،‬والتي ترجع في داللتها‬
‫دعاء‬
‫ً‬ ‫إلى معناها الحقيقي‪ ..‬على أن السياق هو الذي جعلها لمجرد التنبيه؛ وليس‬
‫إلقبال أحد ما على المتكلم‪ ..‬نقول‪ :‬تظل للتنبيه مع الحرف فقط‪ ،‬ولكنها تكتسب‬
‫داللة جمالية من العنصر الذاتي للمتكلم أوالً ومن السياق الذي يظهر اتجاه‬
‫المضمون وجوهره ثانياً‪ .‬ويمكن أن نلحظ في هذا األسلوب نمطية جديدة وفق‬
‫تداعيات السياق وتأويل ماهية النداء‪ ..‬مما يخلق تداعيات جمالية بالغية ولغوية ال‬
‫تكمن في غيره‪..‬‬

‫‪-17‬االختصاص‪:‬‬
‫جمالية هذا األسلوب تكمن في القدرة على الجمع بين الرؤية الفكرية والنفسية‬
‫وبين اإلبداع الفني القائم على مفهوم االنزياح في اللغة والتركيب‪.‬‬
‫فاالختصاص في أسلوب النداء ذكر اسم ظاهر بعد ضمير يقصد به‬
‫االختصاص ال النداء؛ ألجل بيانه ونعته‪ .‬فأسلوب النداء ُجِّرد من طلب اإلقبال‪ ،‬وإ نما‬
‫صص مدلوله بما ُنسب إليه من صفات‪ ...‬فاالختصاص أُجري على حرف النداء‬ ‫ُخ ّ‬
‫(إنا أيها الرجل كرماء)‪ ..‬وكقوله تعالى ‪‬رحمة اهلل وبركاته عليكم‬‫المحذوف؛ كقولنا‪َّ :‬‬
‫البيت؛ إنه حميد مجيد" (هود ‪ .)73/ 11‬قال الزمخشري‪" :‬أرادوا أن هذه‬ ‫أهل ِ‬
‫َ‬
‫وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم باإلنعام به يا أهل بيت النبوة فليست‬
‫بمكان عجب‪ ..‬وأهل البيت نصب على النداء أو على االختصاص؛ ألن أهل البيت‬
‫مدح لهم؛ إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن" ( ‪.)140‬‬
‫ويكون نداء االختصاص في هذا الموضع لغرضين إما التفاخر وإ ما التوضيح؛ وال يجوز إظهار‬
‫(حرف النداء) العامل فيه وفي المنادى مع اشتراكهما في المعنى فمن التفاخر قول عمرو بن األهتم‪:‬‬

‫س ْع ٍد و َناديها‬
‫س َراةُ َبني َ‬
‫فينا َ‬ ‫س ٍب‬ ‫َّإنا بني ِم ْن ٍ‬
‫قر قَ ْو ٌم َذ ُوو َح َ‬
‫اللهم اغفر لنا أيتها العصابة‪ ..‬فقد أردنا أن نختص‬
‫ومن التوضيح قولنا‪َّ ،‬‬
‫بالدعاء دون بقية الناس‪ ..‬فال يجوز أن ندخل أداة النداء (يا) هنا وال في السابق‬
‫ألننا لسنا في معرض تنبيه غيرنا؛ وإ نما أردنا االختصاص والتوضيح أو التفاخر‪.‬‬

‫‪- 205 -‬‬


‫إنما أجري في هذا الباب ما فيه (أيُّ) وحدها (‪.)141‬‬
‫وقيل‪َّ :‬‬
‫تلك هي صور أسلوب النداء الحقيقي والمجازي فيما حاولنا أن نميل إليه من‬
‫النزعة التأملية الجمالية‪ .‬فقد كان النزوع الجمالي يدفعنا إلى وقفة تذوقية لعناصر‬
‫األسلوب وسياقه؛ وإ لى صيغته التركيبية وأثر معاني النحو فيه‪ ..‬وأدركنا أن أي‬
‫عنصر يرتبط باآلخر في داخل النسق الفني فيتحول إلى صورة جمالية بديعة‪ ،‬أو‬
‫قل‪ :‬يتحول إلى تشخيص إبداعي معقود في طراز حركة نقدية تطبيقية ورفيعة‬
‫مصحوبة بالتدقيق والتأمل‪.‬‬
‫ولم نتخل في تذوق ذلك كله عن الجملة النحوية للنداء ولكننا لم ننظر إليها‬
‫نظرة النحوي باعتبار جملة النداء أو الجواب‪ ،‬وال باعتبار المنادى وأنواعه‪ ،‬وما‬
‫والضمير‪ ،‬والتابع‬
‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬وال بكيفية نداء (المحلى بأل)‬
‫صبه لفظًا ومح ً‬
‫يتعلق بحكم َن ْ‬
‫للمنادى؛ وال باعتبار حذف أداة النداء أو العامل أو المنادى نفسه‪.)142( ...‬‬
‫ونؤكد مرة أخرى أننا إذا أفدنا من ذلك كله فليس هدف النحاة هدفنا؛ ألننا‬
‫نظرنا إلى البنية التركيبية؛ في حال التقديم أو التأخير‪ ،‬أو في التكرار أو الحذف‪..‬‬
‫من الوجهة البالغية الجمالية وأثرها في المتكلم والمخاطب‪ ..‬ومن ثم في‬
‫والتحول الزماني‪..‬‬
‫ّ‬ ‫المتلقي‪ 0..‬نظرنا إليها من جهة كثافة الداللة والشحنة العاطفية؛‬
‫والنفسي والفكري‪ ...‬وأَيقنا بأن جمالية أسلوب النداء الحقيقي على ما تحمله من‬
‫إيحاءات بعيدة ال تبلغ في درجاتها اإلبداعية ما تملكه األساليب المجازية‪ ..‬فهناك‬
‫فرق كبير بين النداء المباشر‪ ،‬وبين النداء البعيد غير المباشر في صميم مفهوم‬
‫االنزياح والتوزيع االستبدالي على المحور األفقي والشاقولي؛ وهما محور الجوار‬
‫واالختيار عند الجرجاني في بنية النظم التي ذهب إليها؛ وهي بنية لغوية عربية‬
‫تطرق إليها نحوياً عدد من اللغويين العرب كسيبويه وابن جني‪.‬‬
‫فأساليب النداء بحق –وكذا بقية أساليب اإلنشاء‪ ،‬ولكل منها نسقها وعناصرها‬
‫–كانت تخلق الصورة الفنية البالغية الجميلة وتحقق فكرة معايير الجمال في‬
‫بالمضمون والتعبير عنه بأنماط موحية وماتعة‪....‬‬
‫ُ‬ ‫االتساق والوحدة واالرتباط‬
‫ولعله من نافلة القول أن ُنعيد على األسماع ما أسهم به البالغيون العرب في‬
‫إيضاح ذلك كله‪ ،‬فقد كشفوا بذوقهم الفني ورهافة مشاعرهم؛ وعظيم مخزونهم‬
‫الثقافي ما اكتنفته أساليب القول من جمالية عظيمة‪ ..‬غير أن دراسة إمكانية‬
‫التعبير في مخزونه الجمالي لم يكن هدفاً لهم‪ ..‬وهذا ما حاولنا أن نبرزه‪..‬‬
‫فالصورة البالغية للكالم تمتاز بأنها ثمرة انتقاء وتهذيب وتكثيف مستمدة من‬
‫االنفعال الجمالي في األسلوب ذاته‪ ،‬ومن كيفية التأثر والتفاعل‪ ،‬ومن تفسير أهله‬

‫‪- 206 -‬‬


‫له‪ ..‬حتى تنتهي إلى المتلقي األخير‪ ،‬في إطار من الوعي والموازنة الدقيقة‬
‫لعناصر األسلوب وسياقه‪ .‬وبهذا تتجلى جمالية أسلوب النداء في حال التوكيد‬
‫والشرح والتوضيح والتفصيل و اإليجاز‪ ،‬والتعميم والتخصيص‪ ،‬والمبالغة‬
‫والتعجب والسخرية‪ ..‬والدعاء والتضرع والتوسل‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫ولعل االسترسال في بيان ما ورد عن أنماط اإلنشاء بحاجة إلى أكثر من‬
‫مؤلف وفق المنهج الذي اخترناه‪ ،‬والوقفة التأملية التي تذكي الجمرة الخامدة‪ ..‬لهذا‬
‫نتوقف عند هذه المحطة لنذيلها بالحواشي ثم نعرض لخاتمة البحث‪ ..‬وكلنا ثقة‬
‫وعد به في مقدمة الكتاب‪.‬‬
‫باهلل أن يمد لنا العمر كي يستكمل القلم ما َ‬
‫***‬
‫حواشي الباب الثاني‬
‫( ‪ )1‬اإليضاح ‪.16‬‬
‫( ‪ )2‬الطراز ‪.530‬‬
‫( ‪ )3‬الكشاف ‪.269 / 1‬‬
‫( ‪ )4‬انظر أساليب بالغية ‪.115‬‬
‫( ‪ )5‬انظر الصاحبي ‪.184‬‬
‫( ‪ )6‬انظر مفتاح العلوم ‪ 428‬واإليضاح ‪ 147‬وشروح التلخيص ‪.313 / 2‬‬
‫( ‪ )7‬انظر اإلتقان في علوم القرآن ‪.82 / 2‬‬
‫( ‪ )8‬انظر الصاحبي ‪.184‬‬
‫( ‪ )9‬الكشاف ‪ 250 / 2‬وانظر فيه ‪.489 / 1‬‬
‫( ‪ )10‬انظر الكشاف ‪.368 / 2‬‬
‫( ‪ )11‬انظر الكشاف ‪ 425 / 1‬و ‪.479‬‬
‫( ‪ )12‬انظر الكشاف ‪.377 / 1‬‬
‫( ‪ )13‬اإليضاح ‪.143‬‬
‫( ‪ )14‬الكشاف ‪.592 / 1‬‬
‫( ‪ )15‬انظر الكشاف ‪.82 / 2‬‬
‫( ‪ )16‬الكشاف ‪.87 / 2‬‬
‫( ‪ )17‬انظر مثالً‪ :‬البقرة ‪ 155 /2‬و ‪ 223‬والتوبة ‪ 112 / 9‬ويونس ‪ 2 / 10‬و ‪ 87‬والحج‬
‫‪ 34 / 22‬و ‪ 37‬واألحزاب ‪ 47 / 33‬والزمر ‪.......17 / 39‬‬
‫( ‪ )18‬الكشاف ‪.1/253‬‬
‫( ‪ )19‬انظر عيار الشعر ‪ 5‬ودالئل اإلعجاز ‪ 49‬و ‪ 53‬و ‪ 85‬والخصائص ‪ 217 / 1‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬

‫‪- 207 -‬‬


‫( ‪ )20‬دالئل اإلعجاز ‪.88 – 87‬‬
‫( ‪ )21‬انظر الطراز ‪.532‬‬
‫( ‪ )22‬انظر مفتاح العلوم ‪ 429‬واإليضاح ‪ 149‬وشروح التلخيص ‪ 325 / 2‬وكشاف‬
‫اصطالحات الفنون ‪.271 / 4‬‬
‫( ‪ )23‬انظر شروح التلخيص ‪.325 / 2‬‬
‫( ‪ )24‬كشاف اصطالحات الفنون ‪.190 / 3‬‬
‫( ‪ )25‬انظر الكشاف ‪.113 / 1‬‬
‫( ‪ )26‬الكشاف ‪.490 / 1‬‬
‫( ‪ )27‬انظر الكشاف ‪.253 / 2‬‬
‫( ‪ )28‬الكشاف ‪.496 – 495 / 1‬‬
‫( ‪ )29‬الكشاف ‪.308 / 1‬‬
‫( ‪ )30‬النقد والداللة –نحو تحليل سيميائي ‪– 120‬محمد عزام‪.‬‬
‫( ‪ )31‬انظر النقد األدبي –ألحمد أمين – ‪ 42‬وعودة أخرى للمثيولوجيا البيضاء ‪.79 – 78‬‬
‫( ‪ )32‬انظر مثالً‪ :‬مفتاح العلوم ‪ 418‬واإليضاح ‪ 136‬وشروح التلخيص ‪ 290 / 2‬والمصباح‬
‫‪ 42‬ودالئل اإلعجاز ‪ 89‬والبرهان في علوم القرآن ‪ 365 – 341 / 2‬وأساليب االستفهام‬
‫في القرآن ‪.165‬‬
‫( ‪ )33‬انظر مثالً‪ :‬الصاحبي ‪ 181‬والبرهان في علوم القرآن ‪ 336 / 2‬و ‪.340 – 339‬‬
‫( ‪ )34‬انظر مغني اللبيب ‪ 27‬والجنى الداني ‪ 30‬و ‪.343 – 341‬‬
‫( ‪ )35‬انظر مغني اللبيب ‪ 461 – 460‬والجنى الداني ‪ 344‬والخصائص ‪ 462 / 2‬وخزانة‬
‫األدب ‪.505 / 4‬‬
‫( ‪ )36‬انظر مغني اللبيب ‪.78‬‬
‫( ‪ )37‬انظر مغني اللبيب ‪ 395 – 394‬والجنى الداني ‪.332‬‬
‫( ‪ )38‬انظر مغني اللبيب ‪.397 – 395‬‬
‫( ‪ )39‬انظر مغني اللبيب ‪.432‬‬
‫ِ‬
‫ت من ذ ْكراها‪ ،‬إلى ربك منتهاها ‪‬‬ ‫فيم ْأن َ‬
‫( ‪ )40‬جاء الجواب باستفهام استنكاري في قوله تعالى‪َ  :‬‬
‫(النازعات ‪ ،)44 – 43 / 79‬وانظر دالئل اإلعجاز ‪ 119‬وما بعدها‪.‬‬
‫قرية وهي َخاويةٌ على ُعروشها‪ ،‬قال‪َّ :‬أنى يحيى‬ ‫كالذي م َّر على ٍ‬ ‫( ‪ )41‬تمام اآلية الكريمة‪ :‬أَو َّ‬
‫َ‬
‫ت؟‬ ‫ٍ‬
‫هذه اهلل بعد َم ْوتها؟! فأَماتَهُ‪ 0‬اهلل مائة عام ثم بعثَهُ‪ ،‬قال‪ :‬كم لبثْ َ‬
‫يتسَّن ْه‪،‬‬
‫ت مائة عام؛ فانظر إلى طعامك وشرابك لم َ‬ ‫بعض يوم‪ .‬قال‪ :‬بل لبثْ َ‬ ‫لبثت يوماً أَو َ‬
‫قال‪ُ :‬‬
‫ولنجعلَ َك آيةً للناس‪ ،‬وانظر إلى العظام كيف ُنْن ِش ُزها ثم ن ْك ُسوها لحماً‪،‬‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫حمار‬ ‫إلى‬ ‫وانظر‬
‫شيء قدير ‪( ‬البقرة ‪.)259 / 2‬‬ ‫أن اهلل على كل ٍ‬ ‫َعلم َّ‬
‫َّن لـه قال‪ :‬أ ُ‬
‫فلما تبي َ‬
‫( ‪ )42‬انظر مثالً‪ :‬اإليضاح ‪ 141‬وما بعدها وانظر مفتاح العلوم ‪ 424‬وما بعدها والكتاب‬
‫لسيبويه ‪– 126 – 89 / 1‬ودالئل اإلعجاز ‪.89 – 88‬‬

‫‪- 208 -‬‬


‫انظر مثالً‪ :‬دالئل اإلعجاز ‪ 111‬وما بعدها‪.‬‬ ‫( ‪)43‬‬
‫انظر دالئل اإلعجاز ‪ 114 – 113‬والجنى الداني ‪.32‬‬ ‫( ‪)44‬‬
‫انظر دالئل اإلعجاز ‪.126 – 124‬‬ ‫( ‪)45‬‬
‫انظر الكشاف ‪ 180 / 1‬والجنى الداني ‪.32‬‬ ‫( ‪)46‬‬
‫انظر الكشاف ‪ 194 / 4‬والجنى الداني ‪ 344‬و ‪.345‬‬ ‫( ‪)47‬‬
‫انظر الجنى الداني ‪.32‬‬ ‫( ‪)48‬‬
‫انظر مغني اللبيب ‪ 97‬و ‪ 98‬والجنى الداني ‪.382‬‬ ‫( ‪)49‬‬
‫انظر الجنى الداني ‪.384‬‬ ‫( ‪)50‬‬
‫انظر الجنى الداني ‪.32‬‬ ‫( ‪)51‬‬
‫انظر الكشاف ‪.533 / 2‬‬ ‫( ‪)52‬‬
‫انظر دالئل اإلعجاز ‪ 261 – 259‬و ‪ 286‬وما بعدها و ‪ 392 – 391‬و ‪ 402‬و ‪ 405‬و‬ ‫( ‪)53‬‬
‫‪ 410‬وما بعدها وأسرار البالغة ‪ 22 – 17‬وفي جمالية الكلمة ‪– 59 – 58‬و ‪.72 – 70‬‬
‫انظر الكشاف ‪ 262 / 2‬والجنى الداني ‪.346‬‬ ‫( ‪)54‬‬
‫انظر الكشاف ‪ 385 – 384 / 1‬و ‪ 464‬و ‪ 49 / 4‬وانظر قوله تعالى (الحاقة‪.)8 / 69 0‬‬ ‫( ‪)55‬‬
‫انظر الكشاف ‪.82 / 2‬‬ ‫( ‪)56‬‬
‫انظر الجنى الداني ‪.384‬‬ ‫( ‪)57‬‬
‫انظر الكشاف ‪.227 / 4‬‬ ‫( ‪)58‬‬
‫لعله أحد أساليب السور المكية‪ ،‬انظر مثالً في (االنفطار ‪ 18 – 17 / 82‬والطارق ‪/ 86‬‬ ‫( ‪)59‬‬
‫‪ 2‬والبلد ‪ )12 / 90‬والبرهان في علوم القرآن ‪.262 – 239 / 1‬‬
‫انظر مثالً في قوله تعالى من سورة (الحاقة ‪ 3 – 1 / 69‬و ‪.)26 8‬‬ ‫( ‪)60‬‬
‫انظر الكشاف ‪.203 / 4‬‬ ‫( ‪)61‬‬
‫"وقد أتى بالمعنى مع اختالف اللفظ‪ ،‬وهو َح َسن جيد" انظر ديوان المتنبي ‪.340 /1‬‬ ‫( ‪)62‬‬
‫انظر لسان العرب –مادة (عجب) والجنى الداني ‪.33‬‬ ‫( ‪)63‬‬
‫انظر مثالً آخر‪ :‬النمل ‪.67 / 27‬‬ ‫( ‪)64‬‬
‫انظر لسان العرب –مادة (فجع –حسر –وجع) وكتابنا‪ :‬الرثاء في الجاهلية واإلسالم (‬ ‫( ‪)65‬‬
‫‪ 115 – 111‬و ‪ 138 – 134‬و ‪.)145‬‬
‫انظر دالئل اإلعجاز ‪ 119 – 114‬والجنى الداني ‪.33‬‬ ‫( ‪)66‬‬
‫انظر الكشاف ‪ 450 /2‬والخصائص البن جني ‪.245 /1‬‬ ‫( ‪)67‬‬
‫انظر مغني اللبيب ‪.25‬‬ ‫( ‪)68‬‬
‫انظر الكشاف ‪.50 / 2‬‬ ‫( ‪)69‬‬
‫انظر لسان العرب –مادة (بكت)‪.‬‬ ‫( ‪)70‬‬
‫انظر الكشاف ‪.161 / 3‬‬ ‫( ‪)71‬‬

‫‪- 209 -‬‬


‫( ‪ )72‬انظر أسرار البالغة ‪ 109‬ودالئل اإلعجاز ‪ 88 – 87‬و ‪.95‬‬
‫( ‪ )73‬انظر الجنى الداني ‪.33‬‬
‫( ‪ )74‬انظر الكشاف ‪.289 / 4‬‬
‫( ‪ )75‬انظر الجنى الداني ‪.33‬‬
‫( ‪ )76‬انظر دالئل اإلعجاز ‪ 120‬وانظر العمدة ‪.280 – 277 / 1‬‬
‫( ‪ )77‬انظر ديوان أبي الطيب ‪.150 / 4‬‬
‫( ‪ )78‬انظر الكشاف ‪.281 / 2‬‬
‫( ‪ )79‬انظر الجنى الداني ‪.33‬‬
‫( ‪ )80‬انظر الكشاف ‪.15 / 4‬‬
‫( ‪ )81‬انظر الجنى الداني ‪.34 – 33‬‬
‫( ‪ )82‬هو التذكير فقط في الجنى الداني ‪.33‬‬
‫( ‪ )83‬انظر الكشاف ‪.285 / 1‬‬
‫( ‪ )84‬انظر الكشاف ‪.277 / 1‬‬
‫( ‪ )85‬انظر الكشاف ‪.269 / 1‬‬
‫( ‪ )86‬انظر مثالً‪ :‬التلخيص ‪ 168 – 160‬واإليضاح ‪ 141‬ومفتاح العلوم ‪ 424‬وما بعدها‪،‬‬
‫والبرهان في علوم القرآن ‪.365 – 341 / 2‬‬
‫( ‪ )87‬انظر دالئل اإلعجاز ‪.120 – 112‬‬
‫( ‪ )88‬انظر الكشاف ‪.503 / 2‬‬
‫( ‪ )89‬أسلوب االستفهام فيما انتهى إليه الزمخشري لم يحصر بمكان واحد وإ نما وزع على‬
‫مواضع عدة تبعاً لمجيء االستفهام في اآليات القرآنية‪.‬‬
‫( ‪ )90‬انظر كتابه البرهان في علوم القرآن ‪( 341 / 2‬االستفهام بمعنى الخبر) و ‪351‬‬
‫(االستفهام المراد به اإلنشاء)‪.‬‬
‫( ‪ )91‬منهاج البلغاء وسراج األدباء ‪.17‬‬
‫( ‪ )92‬منهاج البلغاء ‪.227 – 226‬‬
‫( ‪ )93‬انظر مثالً‪ :‬كيفية قراءة النص األدبي ‪.294‬‬
‫( ‪ )94‬انظر مثالً‪ :‬اإليضاح ‪ 135‬ومفتاح العلوم ‪ 415‬وشروح التلخيص ‪ 238 / 2‬والطراز ‪3‬‬
‫‪ 291 /‬والبرهان في علوم القرآن ‪.335 – 334 / 2‬‬
‫انظر البرهان في علوم القرآن ‪.335 / 2‬‬ ‫( ‪)95‬‬
‫انظر الكشاف ‪.418 / 3‬‬ ‫( ‪)96‬‬
‫انظر الجنى الداني ‪ 289 – 287‬ومغني اللبيب ‪.350‬‬ ‫( ‪)97‬‬
‫انظر الكشاف ‪.142 / 4‬‬ ‫( ‪)98‬‬
‫انظر الكشاف ‪.283 / 2‬‬ ‫( ‪)99‬‬

‫‪- 210 -‬‬


‫( ‪ )100‬انظر الكشاف ‪ 428 / 3‬والجنى الداني ‪.582 – 579‬‬
‫( ‪ )101‬النقد األدبي –أصوله ومناهجه – ‪.37‬‬
‫( ‪ )102‬انظر الكشاف ‪ 119 / 4‬والجنى الداني ‪ 470 – 466‬و ‪ 491‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪ )103‬انظر الكشاف ‪.119 / 3‬‬
‫( ‪ )104‬انظر دالئل اإلعجاز ‪ 81‬والخطيئة والتكفير ‪.55 – 52‬‬
‫( ‪ )105‬كل كالم مهما‪ 0‬كانت طبيعته يرتبط بالنية والقصد شعراً كان أم نثراً‪ ..‬انظر العمدة ‪/ 1‬‬
‫‪ 119‬ومنهاج البلغاء ‪ 77‬و ‪ 302‬و ‪ 303‬وكيفية قراءة النص األدبي ‪.289 – 288‬‬
‫( ‪ )106‬الكشاف ‪.485 / 2‬‬
‫( ‪ )107‬انظر الكشاف ‪.90 / 3‬‬
‫( ‪ )108‬انظر الكشاف ‪.211 / 4‬‬
‫( ‪ )109‬انظر قضايا الشعرية ‪ 24‬ومقاالت في األسلوبية ‪ 111‬والنظريات الموجهة نحو القارئ‬
‫– ‪ 104 – 103‬و ‪ 117 – 116‬وراجع حاشية ( ‪ )37‬من القسم األول الفصل األول‪.‬‬
‫( ‪ )110‬انظر الجنى الداني ‪ 30‬و ‪ 233 – 232‬و ‪ 352 – 351‬و ‪ 358 – 354‬و ‪– 418‬‬
‫‪ 419‬والبرهان في علوم القرآن ‪ 336 – 335 / 2‬وفي جمالية الكلمة ‪140 – 139‬‬
‫وكشاف اصطالحات الفنون ‪.267 / 4‬‬
‫( ‪ )111‬الكتاب ‪ 230 – 229 / 2‬وانظر الكشاف ‪.226 – 224 / 1‬‬
‫( ‪ )112‬انظر مغني اللبيب ‪ 17‬و ‪ 106‬والجنى الداني ‪ 30‬و ‪ 233‬ومفتاح العلوم ‪.431‬‬
‫( ‪ )113‬انظر الكتاب ‪ 182 / 2‬و ‪.229‬‬
‫( ‪ )114‬انظر الكشاف ‪ 225 / 1‬وبالغة الكلمة والجملة ‪.181‬‬
‫( ‪ )115‬انظر الخصائص ‪ 47 – 46 / 1‬و ‪ 58‬و ‪ 66 – 65‬و ‪.234 – 233‬‬
‫( ‪ )116‬انظر مغني اللبيب ‪ 29‬و ‪ 106‬والبرهان في علوم القرآن ‪.468 / 4.337 – 336 / 2‬‬
‫( ‪ )117‬انظر مغني اللبيب ‪.29‬‬
‫( ‪ )118‬األمالي –للقَالي – ‪ ،68 / 2‬وانظر شعراء أمويون ( ‪ )149‬فقد روي الشطر الثاني فيه‬
‫أن يا َأب ْه)؛ ومثله في خزانة األدب ‪.332 / 1‬‬
‫(فأعلنت بصوتها ْ‬
‫( ‪ )119‬انظر مغني اللبيب ‪.482‬‬
‫( ‪ )120‬الكشاف ‪.248 / 3‬‬
‫( ‪ )121‬انظر البرهان في علوم القرآن ‪ 337 / 2‬و ‪ 405 / 3‬ومفتاح العلوم ‪ 431‬واإليضاح‬
‫‪ 150‬وشروح التلخيص ‪ 338 / 2‬والطراز ‪ 293 / 3‬وكشاف اصطالحات الفنون ‪/ 4‬‬
‫‪.268 – 267‬‬
‫( ‪ )122‬الكشاف ‪.381 / 2‬‬
‫( ‪ )123‬الكشاف ‪.119 / 2‬‬
‫( ‪ )124‬الكشاف ‪.315 / 2‬‬

‫‪- 211 -‬‬


‫( ‪ )125‬انظر بالغة الكلمة والجملة ‪.181‬‬
‫( ‪ )126‬الكشاف ‪ 231 / 3‬و ‪.233‬‬
‫( ‪ )127‬الكشاف ‪.226 – 225 / 1‬‬
‫( ‪ )128‬انظر الكشاف ‪.226 / 1‬‬
‫( ‪ )129‬بالغة الكلمة والجملة ‪.184‬‬
‫( ‪ )130‬الكشاف ‪.281 / 3‬‬
‫( ‪ )131‬انظر –مثالً ‪ :-‬الرثاء في الجاهلية واإلسالم ‪ 96‬و ‪ 221 – 120‬و ‪ 141‬وما بعدها و‬
‫‪.154‬‬
‫( ‪ )132‬الكشاف ‪.321 – 320 / 3‬‬
‫( ‪ )133‬الكتاب ‪ 231 / 2‬وانظر الرثاء في الجاهلية واإلسالم ‪.149‬‬
‫( ‪ )134‬انظر الكتاب ‪ 228 – 227 / 1‬والرثاء في الجاهلية واإلسالم ‪ 134‬وما بعدها و ‪148‬‬
‫– ‪.149‬‬
‫انظر الكتاب ‪ 1/220‬حاشية ( ‪.)1‬‬ ‫( ‪)135‬‬
‫انظر الكتاب ‪.227 – 221 / 1‬‬ ‫( ‪)136‬‬
‫انظر البرهان في علوم القرآن ‪ 429 / 2‬و ‪.17 / 3‬‬ ‫( ‪)137‬‬
‫الكشاف ‪.506 / 2‬‬ ‫( ‪)138‬‬
‫انظر الكتاب ‪ 219 / 2‬والرثاء في الجاهلية واإلسالم ‪.126‬‬ ‫( ‪)139‬‬
‫الكشاف ‪.282 – 281 / 2‬‬ ‫( ‪)140‬‬
‫انظر الكتاب ‪.234 – 232 / 2‬‬ ‫( ‪)141‬‬
‫انظر الكتاب ‪182 / 2‬وما بعدها وجامع الدروس العربية ‪ 146 / 3‬وما بعدها‪.‬‬ ‫( ‪)142‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 212 -‬‬


‫الخاتمة‪:‬‬

‫أهم نتائج البحث‬


‫امتازت البالغة العربية بعدد من األساليب‪ ،‬فاختلفت بنيتها أو صياغتها تبعاً‬
‫للوظيفة والهدف‪ ..‬ولما أكدت هذه األساليب اتصال البنية بالمعنى (الوظيفة‬
‫والهدف) كانت تنصهر بالوجدان وعواطف المتكلم والمخاطب على السواء‬
‫النتظام صالح النسق البالغي‪ 0،‬وثراء فضائه الفني والفكري‪.‬‬
‫ولما ظلت رؤية البالغيين العرب القدامى مشدودة إلى الوظيفة البالغية وفق‬
‫الرؤية الجزئية –إذا استثنينا القليل منهم؛ كعبد القاهر الجرجاني والزمخشري –‬
‫خرجنا إلى مفهوم الشمول بدراسة أسلوب الخبر واإلنشاء ليغدو أسلوباً نقدياً يزود‬
‫النقاد قديماً وحديثاً بأدوات التشكيل البالغي وهي أدوات تشكيل نقدية‪ .‬ومن ثم‬
‫صار األسلوب البالغي قراءة جمالية مرتبطة بالبنية وسياقها ووظيفتها وهدفها في‬
‫اتفاقها مع روح اللغة وطبيعتها مفيدين من الدراسات اإلعجازية من جهة ومن‬
‫الدراسات الحديثة بكل أصنافها بالغية ولسانية‪ ،‬أسلوبية ولغوية؛ أدبية وفنية ونقدية‬
‫كون مالمح رؤية نقدية متقاربة للقدماء في‬‫من جهة أخرى‪ .‬ولعل ذلك كله قد َّ‬
‫الظاهرة البالغية وإ ن لم تكن موحدة‪ .‬وعلى الرغم من ذلك لم تأخذنا دهشة التطور‬
‫الفكري والفني بما قاموا به جميعاً فكنا نحلل األسلوب الحقيقي والمجازي‪ ،‬ونجري‬
‫عليه فَ ْحصاً فنياً ونقدياً وبالغياً ولغوياً لنكشف عن عناصر الجمال فيه‪ ..‬فناقشنا‬
‫كثيراً من النظرات واآلراء في إطار تاريخيتها‪ ،‬وفي إطار الموازنة مع العديد من‬
‫التصورات النفسية واالجتماعية كما هو في عدد من المواضع كالوعد والوعيد‬
‫والتحسر‪ ،‬والفخر والتفاخر من األغراض المجازية للخبر؛ وكذلك فعلنا‬‫ّ‬ ‫َّعف‬
‫والض ْ‬
‫في أسلوب األمر والتمني والنداء من أغراض اإلنشاء‪..‬‬
‫واتضح لدينا أن كثيراً من اآلراء التي طرحتها المدارس الحديثة ليست إال‬

‫‪- 213 -‬‬


‫رؤى متطورة ألساليب البالغة العربية كما جاء لدى (روالن بارت) و(رومان‬
‫جاكبسون) مثالً‪.‬‬
‫فقد كشفنا عن بنية جمالية ألسلوب الخبر واإلنشاء؛ باعتباره بنية غير محايدة؛‬
‫ٍ‬
‫المتناه‪ ،‬ألنها لم تكن إشارات لغوية اعتباطية‪ ..‬لهذا كله‬ ‫علماً أنها منفتحة على عالم‬
‫أكدت أنها بنية جمالية فنية تحمل رسائل إيحائية عديدة‪ ..‬فما جاء به الجرجاني‬
‫والزمخشري وغيرهما سبقا به نقاد الغرب‪ ،‬وإ ن ذهب به هؤالء بعيداً بما يوافق‬
‫أن‬
‫أدبهم وفلسفتهم‪ ..‬وكذلك أثبتت دراسة جمالية الخبر واإلنشاء وأغراضهما ّ‬
‫أساليبهما كلها كانت ممارسة نقدية ُحرة مرتبطة بوظائف نفسية وموضوعية وفنية‬
‫عالية‪.‬‬
‫فكل أسلوب في بنيته من اللفظ إلى التركيب وفي عملية االستبدال والتوزيع؛‬
‫وفي مفهوم االنزياح عن معيار النحو كان يتهيأ لجمالية خاصة وفريدة عند‬
‫الجرجاني في مفهوم الجوار واالختيار في النسق التركيبي‪.‬‬
‫إن دراستنا الجمالية التي استندت إلى التحليل والفَ ْحص الدقيق لكل أسلوب‬
‫هيأت لنا إضافة العديد من األساليب والنظرات لم يعرفها القدماء كما وقع لدينا‬
‫خاصة في األساليب المجازية للخبر كالوعد والوعيد والتبكيت والتوبيخ والضَّعف‬
‫والعجز والحث على السعي والجد‪ ،‬وعدد من أساليب األمر والنداء والنهي والتمني‬
‫واالستفهام‪.‬‬
‫وتبينا في الوقت نفسه أن الخبر ليس بالضَّرورة أن يحتمل الصدق أو الكذب‬
‫بشكل دائم ولكنه قد يصبح نمطاً فنياً يحتمل الصدق وحده باعتبار قائله أو باعتبار‬
‫مقام المخاطب والحال والواقع الحقيقي أو الفني وبهذا ارتبط المفهوم الجمالي‬
‫البالغي بالمفهوم الجمالي النقدي‪ ،‬ثم بالوظيفة التي يستند إليها كل منهما‪.‬‬
‫وإ ذا كان الخطاب اإللهي قد تميز بإعجازه الفريد البديع فإن الدراسات‬
‫قدمت الكثير من األساليب واألفكار إلى اللغة‪ ..‬ومن ثم عززت البالغة‬ ‫اإلعجازية َّ‬
‫وطورت وجهتها الوظيفية؛ وطبيعتها الفنية‪ ،‬وأغنتها بمفاهيم كثيرة وال‬ ‫األدبية‪َّ ،‬‬
‫سيما ما يتعلق بالمصطلحات‪ ..‬وكان عبد القاهر الجرجاني والزمخشري فردين‬
‫متميزين في هذا المجال‪ ..‬وبذلك كله صارت البالغة العربية ممثلة لروح اللغة‬
‫فعالة في استنباطنا لمفاهيم بالغية جديدة ومن ثم تعزيز قدرة‬‫العربية؛ وأداة نقدية ّ‬
‫النقد على التحليل‪.‬‬
‫فلم تعد مجرد وسيلة لتشخيصهما؛ ألنها هي التي دفعتنا إلى استكناه مفهوم‬

‫‪- 214 -‬‬


‫وجهنا خروج أسلوب الكالم عن مقتضى الظاهر وفق‬ ‫(استعمال لفظ مكان لفظ)؛ ثم ّ‬
‫تصور المتكلم توجيهاً جديداً مفيدين في ذلك من بعض النقاد المحدثين‪ ،‬فضالً عما‬
‫ّ‬
‫ُس ْقناه قبل قليل من قضايا جديدة‪.‬‬
‫ولعل المرء ال يغفل ما انتهت إليه جمالية الخبر واإلنشاء من االعتماد على‬
‫النص القرآني‪ ،‬والحديث الشريف‪ ،‬والشواهد الشعرية القديمة والحديثة فكنا نشفع‬ ‫ّ‬
‫منا في‬ ‫ٍ‬
‫بعدد غير قليل منها‪ ،‬مع التمثيل لها بكالم نثري من عندنا إمعاناً ّ‬
‫كل أسلوب َ‬
‫إيضاح األسلوب وإ براز طبيعته ووظيفته وجماليته‪.‬‬
‫وإ ذا كنا عمدنا إلى عدم تخريجها من دواوين أصحابها –لكثرتها –فال يعني‬
‫ذلك أننا لم نوثقها‪ ،‬ولم نضبط أكثرها‪ ،‬وال سيما الم ِ‬
‫شكل منها؛ فضالً عن أنها‬ ‫ُ‬
‫مستقاة جميعها من مصادر البالغة ومراجعها فضالً عن الدواوين والمجموعات‬
‫الشعرية‪.‬‬
‫إن قراءتنا الجمالية انطلقت من بنية اللغة ذاتها؛ وهذا فرض علينا أن نشير في‬
‫مواضع عدة إلى طبيعة األسلوب اللغوية لنتوصل منه إلى إدراك جماليته البالغية‬
‫والفنية‪ .‬أي كنا ننتقل من طبيعة اللغة وفضاءاتها إلى فضاءات األساليب ووظائفها‬
‫إما على اللغة وإ ما‬
‫و‪ ..‬بمنهج يكاد يكون مطّرداً؛ على حين قصر القدماء عنايتهم ّ‬
‫على البالغة‪ .‬فأهل اللغة كانوا يقفون عند اللغة لفظاً وتركيباً وأحواالً من جهة‬
‫اإلعراب والبناء‪ ..‬وأهل البالغة كانوا يعمدون إلى االتجاه البالغي في البنية‬
‫اللغوية ليس غير‪ .‬ولما جمعنا بين هذا وذاك لم نتغافل عن البالغة القرآنية‪ ،‬وعن‬
‫الدراسات األسلوبية والنقدية الحديثة‪.‬‬
‫تلك هي أهم نتائج البحث‪ ،‬راجياً من اهلل أن يكون فيها خير عميم للقارئ‪ ،‬علماً‬
‫أن البحث قد اشتمل على كثير غيرها‪.‬‬
‫والحمد هلل الذي أسبغ علينا نعمة القول وأتمه‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 215 -‬‬


‫فهرس المصادر والمراجع‬

‫‪-1‬اإلتقان في علوم القرآن –للسيوطي (ت ‪911‬ه‍) –المكتبة الثقافية –بيروت – ‪1973‬م‪.‬‬


‫‪-2‬أدب الكاتب –ابن قتيبة –(ت ‪276‬ه‍) –تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد –القاهرة –ط ‪3‬‬
‫– ‪1958‬م‪.‬‬
‫‪-3‬أساليب االستفهام في القرآن –عبد العليم السيد فؤاد –مؤسسة دار الشعب‪– 0‬القاهرة‪.‬‬
‫‪-4‬أساليب بالغية –د‪ .‬أحمد مطلوب –نشر وكالة المطبوعات –شارع فهد السالم –الكويت –ط ‪1‬‬
‫– ‪1980‬م‪.‬‬
‫‪-5‬أساليب النفي في القرآن –أحمد ماهر –ومحمود فهمي البقري –مطبعة دار النشر الثقافية –‬
‫اإلسكندرية – ‪‍ 1388‬ه ‪1968 /‬م‪.‬‬
‫‪-6‬أسرار البالغة –عبد القاهر الجرجاني (ت ‪471‬ه‍) تصحيح محمد رشيد رضا –دار المعرفة‬
‫–بيروت –لبنان – ‪1978‬م‪.‬‬
‫‪-7‬األسس الجمالية في النقد العربي –عرض وتفسير ومقارنة –د‪ .‬عز الدين إسماعيل –دار‬
‫الفكر العربي –القاهرة –ط ‪1974 / 3‬م‪.‬‬
‫‪-8‬األسلوبية والنقد األدبي –د‪ .‬عبد السالم المسدي –مجلة فُصول –مجلة فصلية –مصر –عدد (‬
‫‪1981 – )5‬م‪.‬‬
‫‪-9‬األصمعيات –األصمعي –(ت ‪216‬ه‍) –تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر وعبد السالم‬
‫هارون –دار المعارف بمصر –القاهرة –ط ‪1976 – 4‬م‪.‬‬
‫‪-10‬إعجاز القرآن –للقاضي الباقالني –(ت ‪402‬ه‍) –على هامش اإلتقان في علوم القرآن –‬
‫المكتبة الثقافية –بيروت –لبنان – ‪1973‬م‪.‬‬
‫‪-11‬األغاني –ألبي الفرج األصفهاني (ت ‪356‬ه‍) –دار إحياء التراث العربي –بيروت –لبنان‬
‫– د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-12‬األمالي –ألبي علي القالي (ت ‪356‬ه‍) –دار الكتاب العربي –بيروت –لبنان ‪ -‬د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-13‬اإلمتاع والمؤانسة –ألبي حيان التوحيدي علي بن محمد (ت نحو ‪400‬ه‍ ‪ )1010 /‬تصحيح‬
‫أحمد أمين وأحمد الزين –منشورات دار مكتبة الحياة –بيروت –د ‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-14‬اإليضاح في علوم البالغة –للقزويني (ت ‪739‬ه‍) –منشورات محمد علي بيضون –دار‬

‫‪- 216 -‬‬


‫الكتب العلمية –بيروت –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-15‬البديع –البن المعتز (ت ‪296‬ه‍) منشورات دار الحكمة –حلبوني –دمشق –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-16‬البرهان في علوم القرآن –للزركشي (ت ‪794‬ه‍) –منشورات محمد علي بيضون –دار‬
‫الكتب العلمية –بيروت –لبنان – ‪2001‬م‪.‬‬
‫‪-17‬البرهان في وجوه البيان (المشهور بنقد النثر –المنسوب لقدامة بن جعفر) وهو ألبي الحسن‬
‫بن ُمَنّبه –دار الكتب العلمية –بيروت لبنان – ‪1982‬م‪.‬‬
‫‪-18‬البالغة –تطور وتاريخ –الدكتور شوقي ضيف –دار المعارف بمصر –القاهرة –‬
‫‪1976‬م‪.‬‬
‫‪-19‬بالغة الكلمة والجملة والجمل –دكتور منير سلطان –منشأة المعارف باإلسكندرية –مصر –‬
‫‪1977‬م‪.‬‬
‫‪-20‬بنية اللغة الشعرية –جان كوهن –ترجمة محمد الولي ومحمد العمري –دار توبقال للنشر –‬
‫الدار البيضاء –المغرب –ط ‪1986 -1‬م‪.‬‬
‫‪-21‬بنية النص الكبرى –صبحي الطعان –مجلة عالم الفكر –المجلس الوطني للثقافة والفنون‬
‫واآلداب –الكويت –مجلد ‪– 23‬عدد ( ‪1994 )2 + 1‬م‪.‬‬
‫‪-22‬بيان إعجاز القرآن –ألبي سليمان الخطابي (ت ‪388‬ه‍) –ضمن ثالث رسائل في إعجاز‬
‫القرآن –تحقيق محمد خلف اهلل أحمد والدكتور محمد زغلول سالم –دار المعارف –القاهرة‬
‫– ‪1968‬م‪.‬‬
‫‪-23‬البيان والتبيين –للجاحظ (ت ‪255‬م) –تحقيق عبد السالم هارون –المجمع العلمي العربي‬
‫اإلسالمي –بيروت –ط ‪-4‬‬
‫‪-24‬تاريخ النقد األدبي –د‪ .‬محمد زغلول سالم –دار المعارف بمصر –القاهرة –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-25‬تأويل مشكل القرآن –البن قتيبة ( ‪276‬ه‍) –تحقيق السيد أحمد صقر –المكتبة العلمية –‬
‫بيروت –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-26‬تحرير التحبير –البن أبي اإلصبع (ت ‪654‬ه‍) –تقديم وتحقيق الدكتور حفني محمد شرف‬
‫–لجنة إحياء التراث اإلسالمي –وزارة األوقاف مصر –القاهرة – ‪1995‬م‪.‬‬
‫‪-27‬تفسير البيضاوي –للقاضي ناصر الدين الشيرازي البيضاوي (ت ‪791‬ه‍) –منشورات‬
‫محمد علي بيضون –دار الكتب العلمية –بيروت –لبنان –ط ‪1999 – 1‬م‪.‬‬
‫‪-28‬التلخيص في علوم البالغة –للقزويني (ت ‪739‬ه‍) –شرحه عبد الرحمن البرقوني –دار‬
‫الكتاب العربي –بيروت –لبنان –ط ‪1904 – 1‬م‪.‬‬
‫‪-29‬جامع الدروس العربية –مصطفى الغالييني –المكتبة العصرية –صيدا وبيروت –ط ‪– 2‬‬
‫‪1968‬م‪.‬‬
‫‪-30‬الجامع الصغير من حديث البشير النذير –للسيوطي –تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد‬
‫–دار خدمات القرآن –القاهرة –د ‪/‬ت‪.‬‬

‫‪- 217 -‬‬


‫‪-31‬الجنى الداني في حروف المعاني –للمرادي (ت ‪749‬ه‍) –تحقيق د‪ .‬فخر الدين قباوة –‬
‫واألستاذ محمد نديم فاضل –دار اآلفاق الجديدة –بيروت –ط ‪1983 – 2‬م‪.‬‬
‫‪-32‬جواهر البالغة في المعاني والبيان والبديع –أحمد الهاشمي –بيروت –لبنان –د‪ /‬ت –ط‬
‫‪.12‬‬
‫‪-33‬الحيوان –للجاحظ (ت ‪255‬ه‍) –تحقيق عبد السالم هارون –المجمع العلمي العربي –‬
‫بيروت –ط ‪1969 – 3‬م‪.‬‬
‫‪-34‬خزانة األدب –لإلمام عبد القادر البغدادي (ت ‪1093‬ه‍) –طبعة دار صادر –بيروت –‬
‫د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-35‬الخصائص –البن جني (ت ‪392‬ه‍) –تحقيق محمد علي النجار –دار الهدى للطباعة‬
‫والنشر –بيروت –لبنان –ط ‪– 2‬د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-36‬الخطيئة والتكفير –د‪ .‬عبد اهلل الغذامي –النادي األدبي الثقافي –جدة السعودية – ‪1985‬م‪.‬‬
‫‪-37‬دالئل اإلعجاز –للجرجاني (ت ‪471‬ه‍) –تحقيق محمود محمد شاكر –مكتبة الخانجي –‬
‫القاهرة – ‪1984‬م‪.‬‬
‫‪-38‬ديوان أبي الطيب المتنبي –شرح العكبري –صححه مصطفى السقا وإ براهيم اإلبياري –‬
‫وعبد الحفيظ شلبي –دار المعرفة –بيروت –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-39‬الرثاء في الجاهلية واإلسالم –د‪ .‬حسين جمعة –دار معد للنشر –دمشق –ط ‪1991 – 1‬م‪.‬‬
‫‪-40‬رسائل ابن عربي –ضبط محمد شهاب‪ 0‬الدين العربي –دار صادر –بيروت –ط ‪– 1‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬
‫‪-41‬سر الفَصاحة –البن سنان الخفاجي (ت ‪466‬ه‍) –دار الكتب العلمية –بيروت –لبنان –ط‬
‫‪1982 -1‬م‪.‬‬
‫‪-42‬شروح التلخيص –دار السرور –بيروت –د‪/‬ت؛ ويضم‪:‬‬
‫‪-1‬مختصر سعد الدين التفتازاني (ت ‪793‬ه‍) على تلخيص المفتاح‪.‬‬
‫‪-2‬مواهب الفتاح على شرح المفتاح –البن يعقوب المغربي‪.‬‬
‫‪-3‬عروس األفراح في شرح تلخيص المفتاح –وهو القسم الثالث –بهاء الدين الس ُّْبكي (أحمد بن‬
‫علي) (ت ‪763‬ه‍)‪.‬‬
‫‪-43‬شعراء أمويون –د‪ .‬نوري حمودي القيسي –عالم الكتب –ومكتبة النهضة العربية –بيروت‬
‫–ط ‪1985 – 1‬م‪.‬‬
‫‪-44‬الشعر والشعراء –البن قتيبة (ت ‪276‬ه‍) –تحقيق أحمد محمد شاكر –دار المعارف بمصر‬
‫–القاهرة –ط ‪1966 – 2‬م‪.‬‬
‫‪-45‬الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها –البن فارس (ت ‪395‬ه‍)=‬
‫*‪-‬طبعة المؤيد –مصر – ‪1910‬م وطبعة مصطفى الشويمي –بيروت – ‪1964‬م‪.‬‬
‫‪-46‬كتاب الصناعتين –ألبي هالل العسكري (ت ‪385‬ه‍) تحقيق د‪ .‬مفيد قميحة –دار الكتب‬

‫‪- 218 -‬‬


‫العلمية –بيروت –ط ‪1989 – 2‬م‪.‬‬
‫‪-47‬الصورة الشعرية –سيسيل دي لويس –ترجمة د‪ .‬أحمد نصيف الجنابي ومالك ميري‬
‫وسلمان حسن إبراهيم –مؤسسة الخليج –الصفاة –الكويت –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-48‬الطراز المتضمن ألسرار البالغة –البن حمزة العلوي –(ت ‪749‬ه‍) –تحقيق محمد عبد‬
‫السالم شاهين –دار الكتب العلمية –بيروت –ط ‪.1995 – 1‬‬
‫‪-49‬عروس األفراح في شرح تلخيص المفتاح –(انظر رقم ‪.)42‬‬
‫‪-50‬علم الجمال –بنديتو كروتشه –عربه نزيه الحكيم –المجلس األعلى لرعاية الفنون –المطبعة‬
‫الهاشمية –دمشق – ‪1963‬م‪.‬‬
‫‪-51‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده –البن رشيق (ت ‪456‬ه‍) تحقيق محمد محيي الدين‬
‫عبد الحميد –دار الجيل –بيروت –ط ‪1972 – 4‬م‪.‬‬
‫‪-52‬عودة أخرى للمثيولوجيا البيضاء –برنارد هاريسون –ترجمة رشاد عبد القادر –اآلداب‬
‫األجنبية –اتحاد الكتاب العرب –دمشق –العدد ‪2001 – 107 – 106‬م‪.‬‬
‫‪-53‬عيار الشعر –البن طبا طبا (ت ‪322‬ه‍) –تحقيق د‪ .‬محمد زغلول سالم –منشأة المعارف‬
‫باإلسكندرية –مصر – ‪1980‬م‪.‬‬
‫‪-54‬فجر اإلسالم –أحمد أمين –دار الكتب العلمية –بيروت –ط ‪1969 – 1‬م‪.‬‬
‫‪-55‬فلسفة الجمال في الفكر المعاصر –د‪ .‬محمد زكي العشماوي –دار النهضة العربية –بيروت‬
‫– ‪1981‬م‪.‬‬
‫‪-56‬في جمالية الكلمة –د‪ .‬حسين جمعة –اتحاد الكتاب العرب –دمشق – ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪-57‬في ظالل القرآن –سيد قطب –دار الشروق –بيروت –ط ‪1978 – 7‬م‪.‬‬
‫‪-58‬القاموس المحيط –للفيروز آبادي (ت ‪817‬ه‍) مطبعة البابي الحلبي –القاهرة –ط ‪– 2‬‬
‫‪1952‬م‪.‬‬
‫‪-59‬قضايا الشعرية –رومان جاكبسون –ترجمة محمد الولي –ومبارك الحنوز –دار توبقال‬
‫للنشر –الدار البيضاء –المغرب –ط ‪1988 – 1‬م‪.‬‬
‫‪-60‬الكتاب –لسيبويه (ت ‪180‬ه‍) –تحقيق عبد السالم هارون –عالم الكتب –بيروت – د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-61‬كشاف اصطالحات الفنون –للتهانوي (ت ‪1158‬ه‍) دار الكتب العلمية –بيروت –ط ‪– 1‬‬
‫‪1998‬م‪.‬‬
‫‪-62‬الكشاف –للزمخشري (ت ‪538‬ه‍) –دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-63‬كيفية قراءة النص األدبي –د‪ .‬حسين جمعة –مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق –مجلد ‪74‬‬
‫–جزء ‪-2‬نيسان ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪-64‬لسان العرب –البن منظور (ت ‪711‬ه‍) –دار صادر ‪/‬دار بيروت – ‪1956 – 1955‬م‪.‬‬
‫‪-65‬المثل السائر –البن األثير –تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة –دار نهضة مصر –القاهرة‬
‫– ‪1960‬م‪.‬‬

‫‪- 219 -‬‬


‫‪-66‬مداخل إلى علم الجمال األدبي –د‪.‬عبد المنعم تليمة –دار الثقافة –القاهرة – ‪1978‬م‪.‬‬
‫‪-67‬المزهر في علوم اللغة ـ السيوطي ـ ( ت ‪911‬هـ ) شرحه محمد أحمد جاد للولي وعلي محمد‬
‫البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-68‬المصباح (تلخيص القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي) البن مالك (ت ‪686‬ه‍) –القاهرة‬
‫– ‪1341‬ه‍‪.‬‬
‫‪-69‬المطول (الشرح المطول على التلخيص) –للتفتازاني (ت ‪793‬ه‍) –مطبعة أحمد كامل –‬
‫تركية – ‪1330‬ه‍‪.‬‬
‫‪-70‬معاني القرآن –للزجاج (ت ‪311‬ه‍) –تحقيق د‪ .‬عبد الجليل عبده شلبي –المكتبة العصرية‬
‫–صيدا –بيروت – د‪/‬ت‪.‬‬
‫للفراء (ت ‪207‬ه‍) –تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار وعبد‬
‫‪-71‬معاني القرآن – ّ‬
‫الفتاح إسماعيل شلبي –دار السرور –بيروت –د‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-72‬معاني القرآن –للنحاس (ت ‪338‬ه‍) –تحقيق د‪ .‬زهير غازي زاهد –وزارة األوقاف‬
‫العراقية –مطبعة العاني –بغداد – ‪1977‬م‪.‬‬
‫‪-73‬مع البالغة العربية في تاريخها –د‪ .‬محمد علي سلطاني –دار المأمون –دمشق –‬
‫‪1979‬م‪.‬‬
‫‪-74‬المعجم الوسيط –مجمع اللغة العربية –القاهرة –ط ‪1985 – 3‬م‪.‬‬
‫‪-75‬معنى الجمال (نظرية في االستطيقا) –ولتر‪ .‬س‪ .‬ستيس –ترجمة إمام عبد الفتاح إمام –‬
‫المجلس األعلى للثقافة –القاهرة – ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-76‬المغني في أبواب التوحيد والعدل –للقاضي عبد الجبار (ت ‪415‬ه‍) –نشر وزارة الثقافة‬
‫واإلرشاد القومي –مصر‪.‬‬
‫‪-77‬مغني اللبيب –البن هشام (ت ‪761‬ه‍) –تحقيق د‪ .‬مازن المبارك واألستاذ محمد علي حمد‬
‫اهلل –دار الفكر –بيروت –لبنان –ط ‪1972 – 3‬م‪.‬‬
‫‪-78‬مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ –د‪ .‬ميشال عاصي –مؤسسة نوفل –بيروت –‬
‫‪1981‬م‪.‬‬
‫‪-79‬مفاهيم نقدية –تأليف رينيه ويليك –ترجمة د‪ .‬محمد عصفور –سلسلة عالم المعرفة –‬
‫المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب –الكويت –العدد ‪– 110‬شباط – ‪1987‬م‪.‬‬
‫‪-80‬مفتاح العلوم للسكاكي (ت ‪626‬ه‍) تحقيق د‪ .‬عبد الحميد هنداوي –دار الكتب العلمية –‬
‫بيروت – ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-81‬مقاالت في األسلوبية –د‪ .‬منذر عياشي –اتحاد الكتاب العرب –دمشق – ‪1990‬م‪.‬‬
‫‪-82‬مقدمة في النقد األدبي –محمد حسن عبد اهلل –دار البحوث العلمية –الكويت – ‪1967‬م‪.‬‬
‫صمود –دار قرطاج للنشر –تونس –ط ‪– 1‬‬
‫حمادي ّ‬
‫‪-83‬من تجليات الخطاب البالغي – ّ‬
‫‪1999‬م‪.‬‬

‫‪- 220 -‬‬


‫‪-84‬منهاج البلغاء وسراج األدباء –حازم القرطاجني (ت ‪684‬ه‍) تحقيق محمد الحبيب ابن‬
‫الخوجة –دار الغرب اإلسالمي –بيروت –لبنان –ط ‪1981 – 2‬م‪.‬‬
‫‪-85‬المنهج األسطوري في تفسير الشعر الجاهلي –عبد الفتاح محمد أحمد –دار المناهل –‬
‫بيروت –ط ‪1987 1‬م‪.‬‬
‫‪-86‬موسوعة المصطلح النقدي –ر‪.‬ف‪ .‬جونس –ترجمة عبد الواحد لؤلؤة –دار الرشيد –بغداد‬
‫– ‪1982‬م‪.‬‬
‫‪-87‬النظريات الموجهة نحو القارئ –رامان ِسلدن‪ ،‬وبيتر بروكس –ترجمة د‪ .‬محمد نور النعيمي –‬
‫مجلة اآلداب األجنبية –اتحاد الكتاب العرب –دمشق –عدد= ‪2001 / 107 – 106‬م‪.‬‬
‫‪-88‬نظرية البنائية في النقد األدبي –د‪ .‬صالح فضل –دار اآلفاق الجديدة –بيروت –ط ‪– 3‬‬
‫‪1985‬م‪.‬‬
‫‪-89‬نظرية التناص –صك جديد لعملة قديمة –د‪ .‬حسين جمعة –مجلة مجمع اللغة العربية‬
‫بدمشق –مجلد ‪– 75‬جزء ‪– 2‬نيسان – ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-90‬النقد األدبي –أحمد أمين –دار الكتاب العربي –بيروت –لبنان –ط ‪1967 – 4‬م‪.‬‬
‫‪-91‬النقد األدبي –أصوله ومناهجه –لسيد قطب –بال مكان للطباعة؛ وال دار للنشر وال تاريخ‪.‬‬
‫‪-92‬نقد الشعر لقدامة (ت ‪337‬ه‍) –تحقيق د‪ .‬محمد عبد المنعم خفاجي –دار الكتب العلمية –‬
‫بيروت –د ‪/‬ت‪.‬‬
‫‪-93‬النقد الفني –دراسة جمالية وفلسفية –جروم ستولنتز –ترجمة فؤاد زكريا –المؤسسة العربية‬
‫للدراسات‪ 0‬والنشر –بيروت – ‪1981‬م‪.‬‬
‫‪-94‬النقد والداللة –نحو تحليل سيميائي –محمد عزام –منشورات وزارة الثقافة –دمشق‬
‫‪1969‬م‪.‬‬
‫‪-95‬النكت في إعجاز القرآن –للرماني (ت ‪384‬ه‍) ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن –‬
‫(راجع رقم ‪ )22‬من المصادر‪.‬‬
‫‪-96‬نهاية اإليجاز في دراية اإلعجاز –للرازي (ت ‪606‬ه‍) –تحقيق أحمد حجازي السقا –دار‬
‫الجيل والمكتب الثقافي –بيروت والقاهرة – ‪1992‬م‪.‬‬
‫‪-97‬النهاية في غريب الحديث –للجزري (ت ‪606‬ه‍) –تحقيق طاهر أحمد الزاوي –ومحمود‬
‫محمد الطناحي –مؤسسة إسماعيليان –قم –إيران – ‪1347‬ه‍‪.‬‬
‫‪-98‬هسهسة اللغة –روالن بارت –ترجمة د‪ .‬منذر عياشي –مركز اإلنماء الحضاري –حلب –‬
‫ط ‪.1999 – 1‬‬
‫المصادر باللغة األجنبية‪:‬‬
‫‪(-‬الكتابة في درجة الصفر)‬
‫‪R.Basthes, s/z, Editions du seuil /points, 1976, p.16‬‬
‫‪‬‬

‫‪- 221 -‬‬


‫فهرس المحتوى‬

‫مقدمة ‪7.....................................................................................................‬‬
‫مدخل‪ :‬مفهوم الجمال والجميل والجليل والجمالية‪13..........................................‬‬
‫حواشي المدخل ‪19................................................‬‬
‫الباب األَول‪ :‬من تأصيل مفاهيم علم المعاني إلى جمالية الخبر‪21........................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حدود ومفاهيم ‪23..................................................................................‬‬
‫القسم األول‪ :‬النشأة والتأصيل‪23 ........................................................ :‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬تطور مفهوم الخبر واإلنشاء ‪28 .........................................‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬إنزال الخبر منزلة اإلنشاء أو العكس ‪34 .............................‬‬
‫‪ 1‬ـ إنزال الخبر منزلة اإلنشاء‪36........................................... :‬‬
‫‪ 1‬ـ التفاؤل‪36.................................................................... :‬‬
‫‪ 2‬ـ الدعاء‪36.................................................................... :‬‬
‫‪ 3‬ـ االحتراز من صورة األمر تأدبا ً واحتراما ً للمخاطب‪38...........‬‬
‫‪ 4‬ـ التنبيه على تيسير المطلوب لقوة األسباب؛ واألمر به والحث‬
‫عليه‪39............................................................................ :‬‬
‫‪ 5‬ـ المبالغة في الطلب للتنبيه على سرعة االمتثال‪39.................:‬‬
‫‪ 6‬ـ التوجيه واإلرشاد‪40...................................................... :‬‬
‫‪ 7‬ـ إظهار الرغبة في الشيء والحرص على وقوعه‪40..............:‬‬
‫‪ 2‬ـ وضع اإلنشاء موضع الخبر ‪41..........................................‬‬
‫‪ 1‬ـ إظهار العناية بالشيء واالهتمام به‪41................................ :‬‬
‫‪ 2‬ـ التبكيت‪42................................................................... :‬‬
‫‪ 3‬ـ التحاشي واالحتراز من مساواة الالحق بالسابق‪43...............:‬‬
‫‪ 4‬ـ الترغيب في الشيء والحث عليه‪44.................................. :‬‬
‫‪ 5‬ـ النُّصْ ح وال َو ْعظ‪45......................................................... :‬‬
‫حواشي الفصل األول من الباب األول‪46...................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬جمالية أسلوب الخبر ‪49........................................................................‬‬
‫القسم األَول‪ :‬مفهوم الخبر وأغراضه وأساليبه‪49 ....................................‬‬
‫‪ 1‬ـ مفهوم الخبر‪49............................................................. :‬‬
‫‪ 2‬ـ أغراض الخبر وأساليبه‪50.............................................. :‬‬
‫أوالً ـ األغراض وفق مقتضى الظاهر‪50.................................‬‬
‫أ ـ فائدة الخبر‪50................................................. :‬‬
‫ب ـ الزم الفائدة ‪51................................................‬‬
‫ثانيا ً ـ األغراض بخالف مقتضى الظاهر‪53............................ :‬‬
‫أـ إنزال خالي الذهن منزلة السائل المتر ّدد والشا ّك‬
‫وال ُم ْن ِكر ‪53....................................................‬‬
‫ب ـ إنزال غير المنكر منزلة المنكر‪55......................‬‬
‫ج ـ إنزال المنكر منزلة غير المنكر‪56......................‬‬
‫د ـ استعمال لفظ مكان لفظ بخالف مقتضى الظاهر‪57...‬‬
‫ثالثا ً ـ األغراض المجازية وأساليبها‪62................................... :‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أَضْ رب الخبر ومؤكداته ‪79 ..............................................‬‬

‫‪- 222 -‬‬


‫‪1‬ـ أضرب الخبر ‪79.............................................................‬‬
‫أوالً ـ الضَّرْ ب االبتدائي‪80.................................... :‬‬
‫ثانيا ً ـ الضَّرْ ب الطلبي‪81....................................... :‬‬
‫ثالثا ً ـ الضَّرْ ب ا ِإلنكاري‪81.................................... :‬‬
‫‪2‬ـ مؤكدات الخبر ‪83............................................................‬‬
‫حواشي الفصل الثاني من الباب األول‪93...................‬‬
‫الباب الثاني جمالية أسلوب اإلنشاء الطلبي ـ حدود وأبعاد‪ :‬مفهوم اإلنشاء‪97..........‬‬
‫حدود وأبعاد؛ مفهوم اإلنشاء‪99................................................................................ :‬‬
‫الفصل األول ـ أسلوب ألَمر وبالغته وجمالياتهـ‪102.......................................................‬‬
‫توطئة‪ :‬مفهوم أسلوب األمر ‪102 .........................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬أساليب األمر‪103 ....................................................... :‬‬
‫القسم األول‪103................................................................. :‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أساليب األمر المجازي‪106.................................:‬‬
‫الفصل الثاني‪ 2 :‬ـ أسلوب النَّ ْهي وبالغته وجمالياتهـ‪120.................................................‬‬
‫توطئة‪ :‬مفهوم النهي‪120 .................................................................. :‬‬
‫القسم األول‪ :‬النهي الحقيقي‪120 ......................................................... :‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬النهي المجازي‪122 ....................................................... :‬‬
‫الفصل الثالثـ ـ أسلوب االستفهام وبالغته وجمالياته ‪134..............................................‬‬
‫ـ توطئة ‪134 ...................................................................................‬‬
‫القسم األول‪ :‬االستفهام الحقيقي‪134 .................................................... :‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬االستفهام المجازي ‪141 ...................................................‬‬
‫الفصل الرابع ـ أسلوب التمنيـ وبالغته وجمالياتهـ‪166...................................................‬‬
‫ـ تقديم ‪166 .....................................................................................‬‬
‫القسم األول‪ :‬التمني الحقيقي‪166 ........................................................ :‬‬
‫‪ 1‬ـ التمني المستحيل‪167..................................................... :‬‬
‫‪ 2‬ـ التمني البعيد الوقوع‪167................................................. :‬‬
‫‪ 3‬ـ أدوات تقوم مقام (ليت)‪168............................................. :‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬أسلوب التمني المجازي‪170 ............................................ :‬‬
‫الفصل الخامس ـ أسلوب النداء وبالغته وجمالياته‪177.................................................‬‬
‫ـ حدود وأبعاد‪177 .......................................................................... :‬‬
‫القسم األول‪ :‬أسلوب النداء الحقيقي‪180 ............................................... :‬‬
‫القسم الثاني ـ أسلوب النداء المجازي ‪188 .............................................‬‬
‫حواشي الباب الثاني ‪211........................................‬‬
‫الخاتمة‪217............................................................................................... :‬‬
‫أهم نتائجـ البحث ‪217................................................................................................‬‬
‫فهرس المصادر والمراجع ‪220 ..........................................................‬‬
‫فهرس المحتوى ‪226........................................................................‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 223 -‬‬


‫أ‪.‬د‪ .‬حسين علي جمعة‪.‬‬

‫*‪-‬دكتوراه في اآلداب –جامعة دمشق‪.‬‬


‫*‪-‬أستاذ األدب القديم والدراسات العليا بجامعة دمشق‪.‬‬
‫*‪-‬أستاذ األدب القديم والنقد بجامعة قطر ( ‪1997 – 1992‬م)‪.‬‬
‫*‪-‬رئيس تحرير مجلة جامعة دمشق لآلداب والعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫*‪-‬رئيس فرع دمشق التحاد الكتاب العرب‪.‬‬
‫*‪-‬مقرر جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب ( ‪2004 – 2001‬م)‪.‬‬
‫*‪-‬شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية محلياً وعربياً ودولياً‪..‬‬

‫‪-‬من مؤلفاته المنشورة‪:‬‬


‫‪-1‬الحيوان في الشعر الجاهلي (دار دانية –دمشق – ‪1989‬م)‪.‬‬
‫‪-2‬مشهد الحيوان في القصيدة الجاهلية (دار دانية –دمشق – ‪1990‬م)‪.‬‬
‫‪-3‬الملل والنحل للشهر ستاني –عرض وتعريف –(دار دانية –دمشق – ‪1990‬م)‪.‬‬
‫معد –دمشق – ‪1991‬م)‪.‬‬
‫‪-4‬الرثاء في الجاهلية واإلسالم (دار ّ‬
‫‪-5‬مختارات من األدب في صدر اإلسالم –باالشتراك –(جامعة دمشق – ‪1992‬م)‪.‬‬
‫‪-6‬قراءات في أدب العصر األموي (جامعة دمشق – ‪1993‬م)‪.‬‬
‫‪-7‬قصيدة الرثاء –جذور وأطوار – (دار النمير ومعد –دمشق – ‪1998‬م)‪.‬‬
‫‪-8‬في جمالية الكلمة –دراسة بالغية نقدية –(اتحاد الكتاب العرب‪ -‬دمشق – ‪1998‬م)‪.‬‬
‫‪-9‬ابن المقفع بين حضارتين –(المستشارية اإليرانية بدمشق – ‪2003‬م)‪.‬‬
‫‪-10‬إبداع ونقد –قراءة جديدة لإلبداع في العصر العباسي –(دار النمير –دمشق‬
‫‪2003‬م)‪.‬‬
‫‪-11‬المسبار في النقد األدبي –اتحاد الكتاب العرب –دمشق – ‪2003‬م‪.‬‬
‫‪-12‬نصوص من األدب العربي المعاصر –باالشتراك –(جامعة دمشق – ‪2005‬م)‪.‬‬

‫‪- 224 -‬‬


‫‪-13‬البيئة الطبيعية في الشعر الجاهلي (مجلة عالم الفكر –الكويت مج ‪1997 – 25‬م)‪.‬‬

‫‪-24‬المؤثرات الفارسية في شعر األعشى (أبحاث ندوة العالقات األدبية واللغوية العربية‬
‫اإليرانية) –مطبوعات اتحاد الكتاب العرب –دمشق ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪-15‬ابن رشيق وآراؤه النقدية (مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق –مج ‪2001 – 76‬م)‪.‬‬
‫‪-16‬جمالية التصوف –مفهوماً ولغة –(الموقف األدبي بدمشق –عدد ‪.)364‬‬
‫‪-17‬جمالية اللسان في اللغة والحياة –(مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق –مج ‪– 77‬‬
‫‪2002‬م)‪.‬‬
‫‪-18‬فكرة الزمان في الدراسات العربية (مجلة التراث العربي بدمشق –عدد ‪– 86‬‬
‫‪.)87‬‬
‫‪-19‬الزمن في مداخل الشعر القديم –(مجلة المعرفة بدمشق –عدد ‪.)470‬‬
‫‪-20‬أدب الخيال في رسالة الغفران للمعري (مجلة التراث العربي بدمشق –عدد ‪.)90‬‬

‫*وهناك أبحاث كثيرة أخرى‪ ،‬واستكتابات للموسوعات القطرية والعربية والمنظمة العربية‬
‫للثقافة‪ ..‬وبرامج إذاعية وتلفزيونية‪...‬‬

‫***‬

‫‪- 225 -‬‬

You might also like