You are on page 1of 3

‫في عصر ما ُيسمى بالتنوير جاء موقف ديكارت الفرنسي (‪ ]11[)1650‬من الجمال متسمًا بالطابع الذاتي النسبي الذي

يتيح تدخل اإلحساسات‬


‫واألهواء الفردية في تقديرنا للجمال‪ .‬وللجمال معنى عقلي وليس صفًة في الشيء تقوم بمعزل عن إدراكنا له‪ ،‬فانتفى بذلك الربط بين الحّق‬
‫والجمال‪ ،‬إْذ ال بداهة جمالية كما ال وجود للحقيقة‪ .‬والحكم الجمالي أصبح خاضعًا إلعجاب المتذوقين‪ .‬ومن هنا برزت اتجاهات جمالية ترتكز‬
‫‪.‬إلى النظرة الذاتية للجمال وظهر الربط بين مبحث الجمال وعلم النفس‬

‫باومجارتن (‪ )1762‬منفصلًة عنها‪ ،‬ونشأ ما ُعرف ‪Baumgarten‬وبعدما كانت مقولة الجمال مرتبطًة بالفلسفة غدت مع األلماني‬
‫العلم الذي يهتم بالطبيعة وتقدير الجمال والفن والذوق وُيعنى بـدراسة المدركات الحسية أو علم المعرفة الحسية ‪ Aesthetic‬باالستطيقا‬
‫المرتكزة إلى منطق الخيال الفني…‪ ،‬له مجاله الخاص المستقل عن المعرفة النظرية الذي يقوم به الذهن وعن السلوك األخالقي المعتمد‬
‫‪.‬على اإلرادة[‪]12‬‬

‫المدرسة اإلنجليزية التجريبية (من أبرز ممثليها هيوم ولوك وبيرك…) ربطت الجمال باإلحساس ودرست األشياء التي تحدث الّلذة في‬
‫نفوس البشر‪ .‬فميزت هذه المدرسة بين الجمال والمنفعة وعّد ت الطبيعة المعيار الذي نقيس به الجمال واألصل لكل األعمال الفنية‪ .‬بيرك (‬
‫‪ )1797‬مثًال فّر ق بين الجمال والكمال وبين الجمال والفضائل وأراد إنشاء علم للجمال يحدد فيه معيار خاص للذوق[‪ .]13‬أّث رت هذه‬
‫‪.‬المدرسة في أفكار الفيلسوف كانط‬

‫حيث نظر كانط األلماني (‪ )1804‬إلى إدراكنا للجمال في األشياء بوصفه إدراكًا مباشرًا مستقًال عن تصورنا لما هو جميل‪ .‬وأّنه ال حاجة‬
‫بنا إلى برهان للتدليل على جمال األشياء[‪ ،]14‬إنما تتبدى في الشيء سمة الجمال نقيس بمقتضاها جمال األشياء؛ فالجميُل هو ما يروق‬
‫لكل الناس أو هو حكم الذوق الذي ينطبق على الجميل‪ .‬الجميل هو الذي يبعث في النفوِس السرور واالرتياح والّلذة دون تحقيق أّية غاية‪.‬‬
‫واتصف الجمال مع كانط بالكّلية والضرورة واألولية “وأصبح مجردًا عن المضمون االجتماعي والتاريخي القابل ألن يتغير ويتطور‬
‫بحسب ظروف الزمان والمكان”[‪ ،]15‬بمعنى هو حكٌم كلٌّي َي فِقد قيمَت ه ما لم يتصف بالشمولية والدوام[‪ ]16‬ألنه ال يقوم في الموضوعات‬
‫ذاتها بل في النفس؛ كاتفاق غالب األذواق على أّن تمثال َأفروِديت المصنوع من المّر مر أجمل من التمثال نفسه المصنوع من الطين‪ ،‬وأّن‬
‫الجمال المحض هو جماُل الشكل ال المضمون‪ .‬في كتابه “نقد الحكم” َف َص ل العمل الفني عن الواقع وفّر ق بين الشكل والمضمون‪ .‬وأصبح‬
‫‪.‬الجمال ال عالقة له باألخالق‬

‫ُثّم أتى هيجل األلماني (‪ )1831‬بفلسفٍة للجمال “ليست في الواقع إال فلسفة للفنون الجميلة”[‪ُ ]17‬تعلي من اتحاد الشكل بالمضمون‪،‬‬
‫والتأثير المتبادل لكل منهما في اآلخر‪ .‬الجمال من خلق خيالنا ال وجود له في عالم الواقع‪ .‬الجماُل فكرٌة خالدٌة‪ .‬واإلنسان أسمى المخلوقات‬
‫وأجمل ما أنتجته الطبيعة ألّنه َي مِلُك العقل‪ .‬والفّن تحقيٌق لفكرة هيجل عن المطلق‪ .‬فهو التجلّي المحسوس للفكرة‪ ،‬فمضمون الفّن ليس إال‬
‫‪.‬األفكار‪ ،‬وهو ليس تقليدًا للطبيعة أو محاكاة لها‪ ،‬بل محاولة الكشف عن جوهر الحقيقة[‪]18‬‬

‫أما شوبنهاور (‪ )1860‬صاحب النظرية المثالية عن الجمال فيرى أنه تأمٌل روحي خالص ال غاية له‪ ،‬وأّن الظواهر الجمالية ذات طبيعة‬
‫روحّية أولّية‪ ،‬بينما َي بحُث الماديون عن األساس الموضوعي للظواهر الجمالية في الطبيعة وفي حياة اإلنسان‪ .‬والفّن عنده هو “القراءُة في‬
‫الطبيعة بحثًا عن جوهٍر غير طبيعي‪ ،‬وإعطاء ذلك الجوهر الشكل المرئّي المناسب له‪ ]19[”.‬ولهذا السبب ُيحُّب البشر الجمال‪ ،‬فهم حين‬
‫‪.‬يرون الجميل في الطبيعة البشرية يتمثلون الجوهر األصلي الماورائي المفارق بأنسنة ُأضيفت عليها المثالية بدرجة متعالية‬

‫جماليات القرن التاسع عشر[‪َ ]20‬س َع ت إلى التحرر من القيم واألخالق أكثر فأكثر‪ .‬وَغَد ت الطبيعة ال قيمة جمالية لها إال من خالل فّن من‬
‫الفنون يحاكيها أو يقلدها‪ .‬وتم تصوير أو تقليد الطبيعة تقليدًا مطابقًا لها‪َ ،‬ح َك َم تها نظرة الفالسفة آنذاك في السعي للسيطرة عليها وإخضاعها‬
‫‪.‬لإلنسان‪ ،‬فكانت العالقة بين الطبيعة واإلنسان (سواء أكان فنانًا أم فيلسوفًا) عالقة قوة وتحكم وإخضاع ال تسخير وتفاعل وانسجام‬

‫ونتج عن رفض الربط بين الخير والجمال وبين األخالق والجمال مذهب الطبيعيين المنادي بمذهب “الفّن من أجل الفّن ”‪ ،‬ونتج عن األخير‬
‫األدب المكشوف الذي عارض قيم المجتمع والدين معًا‪ .‬فالفُّن ليس شيئًا آخر إال الفّن ‪ ،‬وتتمثل قيمته في ممارستنا المباشرة له ال ما ُيحدثه‬
‫‪.‬من تأثير على السلوك اإلنساني‬

‫في المقابل وكرٍّد على تلك النظرة ظهر في الحداثة المتأخرة مذهبان أساسيان في عالم الجمال‪ :‬المذهب الوجودي والمذهب الماركسي‪،‬‬
‫‪.‬اللذان ربطا الفن أو الجمال بالسلوك البشري ربطًا متطرفًا‬

‫ومع بروز النـّـزعة العلمية وتبني الوضعية التي َسَع ت للخالص من التأمل الفلسفي في تفسيرها للكون واإلنسان َسَع ت في الوقت نفِس ه‬
‫إلقامة علم تجريبي للجمال على َن َس ق العلوم الطبيعية[‪ُ ،]23‬يرّك ز على البحث عن القواعد والمبادئ التي ينبغي أن ينتهجها الفنان في‬
‫إنتاجه أو الناقد الفني في نقِده أو المتذوق في تذوِقه للجمال‪ .‬مجال البحث هنا هو عقُل الفنان ونفسيته لمعرفة الظروف التي ُتؤّث ر في‬
‫‪.‬إبداعه واألذواق التي تمّيز عصره‬

‫ثم أصبحت حقيقة العالم كلها مّس تمدة من المادة‪ ،‬واإلنسان نتاج هذه المادة‪ ،‬وعقل اإلنسان وفكره نتاجان للدماغ الذي بدوره هو مادة‪،‬‬
‫‪.‬ونشاطاته عبارة عن سياالت مادية‬

‫ومع تقدم الصناعات في مجتمعات الغرب‪ ،‬ومع تفّش ي النظرة التجزيئية لألشياء وانقسام العلوم إلى تخصصات صغيرة ضيقة تطال حيزًا‬
‫صغيرًا من حياة المجتمع برز المذهب االنطباعي‪ ،‬وَن شأت السوريالية والتعبيرية كمدارس فنية متأثرة بفرويد الذي رّك ز على الالوعي‬
‫‪.‬اإلنساني وآثار دوافعه على السلوك اإلنساني‬

‫ومن فلسفة برجسون الفرنسي (‪َ )1941‬خ رجت علينا التيارات الحدسية في تفسير الظواهر الجمالية ومن أبرز ممثليها بندتو كروتشه‬
‫اإليطالي (‪ ،)1952‬ممثل المذهب المثالي في علم الجمال‪ ،‬الذي يعيد الحقيقة إلى العقل وما فيه‪ ،‬والذي عّر فه بوصفه “علم لغويات عام؛‬
‫ألنه العلم الذي تنصرف عنايته إلى وسائل التعبير”[‪ .]25‬وأّن “موهبة الخلق الفنّي ال يمكن أن تنفصل عن وسائل التعبير التي يتعامل بها‬
‫الفنان… فحدس الموسيقي ال يمكن أن يكون شيئًا آخر سوى نمط من األصوات…”[‪ .]26‬وُعرف عن كروتشه نقده لعدة من المذاهب‪:‬‬
‫التي توحد بين الفّن وبين الواقعة المادية‪ ،‬أو التي تتحدث عن عالقة بين الفّن والمنفعة العملية أو اللذة‪ ،‬أو تلك التي توحد بين العمل الفني‬
‫‪.‬وبين الفعل أو السلوك األخالقي‪ ،‬أو التي توحد بين الفّن والمعرفة التصويرية‪ .‬فلّلفن مجاله الخاص المستقل عن األخالق واللعب أو اللذة‬

‫ديوي األمريكي (‪ )1952‬عّد الفّن انعكاسًا للقيم الفكرية السائدة في مجتمع ما‪ ،‬الفلسفية والدينية واالجتماعية والسياسية‪ .‬والفنون السيئة‬
‫انعكاسات لشعور ووجدان سيء‪ .‬وكّل مجتمع ُيهمل تهذيب الذائقة الجمالية يؤدي إلى أفراد محكومين بفوضى االنفعاالت والوجدان‬
‫المشوهة للفطرة‪ .‬والخبرُة الجماليُة [‪ ]27‬هي ظاهرٌة اجتماعيٌة غير منقطعة عن خبرات الحياة المختلفة‪ .‬وال ُتستمد من المتاحف‬
‫‪.‬والمعارض والمكتبات‪ .‬فكّل خبرة عادية سواء كانت عملية ذهنية أو مجرد أداء عمل يدوي ناجح لها طابع جمالي[‪]28‬‬

‫مع نمّو الرأسمالية في الغرب‪ ،‬نــزل الفّن التصويري إلى حياة اإلنسان العادي لتعبر عن معاناته وقلقه واغترابه وعزلته‬

‫وانتشرت أعمال التصوير االنطباعي (مونيه ‪ )1926‬مع ظهور النــزعة الواقعية بعد الحرب العالمية الثانية وفي الوقت نفسه ُعورضت‬
‫المثالية الجمالية التي سعت للتعبير عن مثال للجمال المطلق‬

‫‪،‬ي النصف الثاني من القرن العشرين ابتعد الفّن عن التصوير المباشر للحياة وظهرت النــزعة التجريدية والالمعقولية‬

‫انفصلت الفنون عن كل ما يمكن أن ُيسند إلى ماهية ثابتة‪ ،‬وَأَخ َذ الخيال اإلنساني مكانًة له في قدرته على نفّي الواقع وتجاوزه‪.‬فلسفات ما‬
‫بعد الحداثة ومع طغيان نماذج المجتمعات االستهالكية‬
‫بدًال من السؤال األزلي هل هذا حق أو جميل؟ أصبح السؤال المشروع الوحيد ما مدى تحقيق النفع والفائدة واللذة؟‬

‫علماء الكالم مثًال عدوا الحسن بالعقل حسن بالشرع‪ ،‬فما حسنه العقل حسنه الشرع‪ ،‬وفي ذلك موقف جمالي عقلي يطابق بين الجمال‬
‫‪.‬والحّق‬

‫الحسن[‪ ]41‬أوسع وأشمل من مفهوم الجمال‪ ،‬وهو دال على الجمال الحقيقي في حقيقة الشيء وجوهره‪ .‬وهو كل ما هو ضد القبح أو ضد‬
‫‪.‬السوء من أحوال الَخ لق والُخ لق؛ أو الفعل والصفة[‪]42‬‬

‫الحسن والجمال‪ ،‬صفتان مترادفتان فطريتان لألشياء كلها‪ ،‬كما يقول الغزالي (‪505‬ه‪111/‬م)‪“ :‬كّل شيٍء فجماله وحسنه في أْن يحضر‬
‫كماله الالئق به الممكن له فإْن كان جميع كماالته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال‪ ،‬وإْن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال‬
‫بقدر ما حضر… ولكّل شيء كما يليق له وقد يليق بغير ضده‪ ،‬فُحسن كّل شيء في كماله الذي يليق به‪ ]43[”.‬وكذا يقول ابن خلدون (‬
‫‪808‬ه‪1405/‬م) أّن الُحسن والجمال في كّل مدرك هو مالءمة في األشكال واألوضاع كٌل “بحسب مادته بحيث ال يخرج مما تقتضيه‬
‫[”‪.‬مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع‬

You might also like