You are on page 1of 4

‫مجزوءة الوضع البشري‬

‫تقديم املجزوءة‪.‬‬
‫عندما نتحدث عن الوضع البشري فإننا نقصد بذلك كل ما يحدد الذات البشرية ويشكلها في مختلف مستويات وجودها‪.‬‬
‫تلك املستويات التي تتصف بالتداخل والتشابك و التقاطع‪ .‬األمر الذي يجعل من هذا الوضع وضعا معقدا‪ .‬يصعب النفاذ إلى عمقه‬
‫َ‬
‫وكنهه ( ل ِّبه)‪ .‬ولعل من الصعوبات التي تتعرض سبيل كل من يحاول معرفة هذا الوضع ‪ ،‬تتمثل في مكوناته التي يتداخل فيها ما هو‬
‫مرتبط بالذات كذات ( اإلنسان كشخص) أي العالقة مع الذات‪ ،‬ومنها ما هو مرتبط بالغير ‪ Autrui‬والتي تتجلى في العالقة مع األخر‬
‫‪ ،‬ومنها ما يتعلق بالتاريخ أي العالقة مع الزمن‪.‬‬
‫يتسم الوجود البشري إذن‪ ،‬بالتعقيد إذ تتداخل فيه عدة جوانب منها ما هو ذاتي وما هو عالئقي وما هو زمني فالكائن البشري‬
‫يتحدد ذاتيا بحضور الوعي وبتواجده مع اآلخرين وباالمتداد في الزمن التاريخي‪.‬‬
‫كيف يتحدد وجود اإلنسان بوصفه شخص ‪ Personne‬؟ وفي عالقته مع الغير ؟ وهل وجوده في هذا العالم يخضع للضرورة‬
‫أم هم منفتح على الحرية ؟ ثم ما دور اإلنسان كفرد و كمجتمع في التاريخ ؟‬
‫مفهوم "الشخص"‬
‫تقديم‬
‫يدل مفهوم الشخص على الكائن البشري فقط وداللة هذا املفهوم ال يمكن توسيعها لتشمل كائنات أخرى غير اآلدميين‪.‬‬ ‫َ‬
‫فالشخص حصرا وتحديدا هو اإلنسان‪ .‬وهنا ينبغي أن نميز بين الشخص والشخصية‪ .‬فهذه األخيرة لها معنا سيكولوجي يشير إلى‬
‫الصفات والسمات النفسية التي يتميز بها كل فرد عن غيره من األفراد ( حقود ـ ـ هادئ ـ ـ قلق ـ ـ متكبر‪ ) ....‬وهذا يعني أن هناك من‬
‫الشخصيات بقدر ما هنالك من األفراد ‪ ،‬بل إن شخصية الفرد قد تتغير وينقلب حالها ‪ ،‬وباملقابل نجد أن الناس جميعهم ال يختلفون‬
‫في كونهم أشخاصا ‪ ،‬إنهم أشخاص باعتبار أنهم يتميزون عن الكائنات األخرى بما يمتلكونه من فكر وحرية وإرادة ‪ ،‬وهذا يعني أن كل‬
‫فرد ‪ /‬واحد يتوفر على هوية شخصية تخصه ‪ .‬أي أنه يدرك نفسه كذات مطابقة لنفسها رغم التحوالت التي تمس شخصيته‪ .‬وهذا‬
‫يطرح السؤال‪ :‬على أي أساس تقوم وحدة الشخص وهويته؟‬
‫ثم إن كل فرد باعتباره شخصا يدرك نفسه كذات تتميز عن املوضوعات واألشياء والحيوانات‪ ،‬بل وتفوقها قدرا ومكانة‪،‬‬
‫وهنا نطرح السؤال‪ :‬من أين يستمد الفرد قيمته بوصفه شخصا؟‬
‫غير أن الكائن البشري مهما علت قيمته وسمت مكانته يظل مشدودا إلى العالم املحيط به ‪ .‬فهو بالتعريف كائن في العالم إلى‬
‫جانب اآلخرين‪ .‬إنه ال يستطيع التحرر تماما من الضرورات والشروط التي تتعلق به كفرد ذو كيان بيولوجي نفس ي أو تلك التي يفرضها‬
‫عليه املجتمع أو تلك التي تتجسد في الواقع الخارجي‪ .‬هذه الشروط والضرورات تجعل الكائن البشري يدرك مبلغ حريته وقدرته على‬
‫الفعل واملبادرة‪ .‬وهنا يطرح السؤال‪ :‬هل الشخص ذات حرة تصنع مصيرها وتوجه مسارها أم أنه خاضع الشتراطات وضرورات أكبر‬
‫من قدرته على الفعل واملبادرة؟‬
‫املحور األول‪ .‬الشخص والهوية‪:‬‬
‫عندما يسترجع أحدنا شريط ذكرياته يستطيع أن يجزم قائال ‪ :‬لقد تغيرت كثيرا ‪ ،‬إن هذا الطفل الذي أتذكره اآلن يختلف‬
‫عني إلى درجة أني ال أكاد أتعرف على نفس ي فيه‪ ،‬غير أنه يعود ويقول ‪ :‬رغم كل ما حصل من تغير فإن هذا الطفل هو أنا بالتأكيد ‪.‬‬
‫وهذا يعني أن الفرد يدرك وحدة شخصه وتطابقه مع ذاته رغم كل التحوالت التي تمس شخصيته‪ ،‬فما هو أساس إدراك املرء لهويته‬
‫الشخصية ؟ وهل تقوم هذه الهوية على الوحدة والتطابق أم على التعدد والتغير ؟‬
‫موقف ديكارت ‪:‬‬
‫في بحثه عن حقيقة أولى ثابتة وراسخة ‪ ،‬قرر ديكارت أن يبدأ من الصفر ويتخلى عن كل ما تعرف عليه منذ نعومة أظافره (‬
‫منهاج الشك )‪ .‬لقد شك ديكارت في كل ما يراه ويعرفه حتى أنه افترض أن كناك شيطانا ماكرا يعمل على خداعه فيوقعه في الخطأ‪.‬‬
‫إال أن حقيقة الفكر فرضت نفسها في نهاية املطاف كيقين مطلق مهما قلبت التفكير أو أم َعنت في الشك فإنني ال أستطيع أن أن ِّك َر‬

‫‪1‬‬
‫أنني أفكر وبالتالي فأنا موجود ففي اللحظة التي أفكر فيها بأن كل ش يء باطل فإنني ـ ـ مع ذلك ـ ـ ـ أث ِّبت أنني موجود ‪ :‬إن اكتشاف " األنا‬
‫" و اكشاف العقل ( الفكر ) َي ِّتمان ـ ـ عند ديكارت ـ ـ ـ في نفس الوقت ‪ ،‬ذلك أن األنا يظهر َوي َتعرف على نفسه في فعل التفكير باعتباره‬
‫َ‬
‫" أنا مفكر" ‪ . Le je pense‬أي ك َت َج ٍل للجوهر املفكر العاقل‪ ،‬فاألنا إذن "ش يء مفكر" ‪ .Une chose qui pense‬وال عالقة له على‬
‫اإلطالق بالجسد ‪ ،‬فهو جوهر مستقل وظيفته هي التفكير [ تستند الهوية الشخصية على كون الشخص ذاتا مفكرة‪ ،‬أي جوهرا‬
‫ثابتا مكتفيا بذاته ومستقال تماما عن الجسم]‬
‫موقف جون لوك ‪:‬‬
‫يعتبر لوك أن الشخص هو من يملك القدرة على التفكير والتعقل‪ ،‬ويستطيع أن يعود إلى ذاته باعتبارها هي نفس الش يء‬
‫الذي يفكر مهما اختلفت األزمنة وتباينت األمكنة [ الهوية الشخصية]‪ .‬إن هذا إلحساس بالهوية الشخصية يرجعه لوك إلى كون‬
‫الشخص يمتلك احساسا وشعورا بأن أفعاله وأفكاره تعود إليه وحده‪ ،‬وهذا االحساس مالزم للفكر دوما‪ ،‬إذ يستحيل على املرء أن‬
‫يدرك شيئا دون أن يعرف بأنه يدرك‪.‬‬
‫إن الوعي بالذات هو ما يحدد الهوية الشخصية ‪ :‬إنني الشخص ذاته الذي صدرت عنه هذه األفعال‪ :‬هذه األخيرة تنسب إلي‬
‫ناي فحين أبصر شيئا أو أملسه أو أرغب فيه فإنني أعرف ذلك في‬‫واحدة هي َأ َ‬
‫ٍ‬ ‫وحدي ما دمت أشعر بأن أفكاري وأفعالي ترتد إلي ٍ‬
‫ذات‬
‫اللحظة التي أنجز فيها ذلك الفعل‪ .‬وخالفا لديكارت فإن جون لوك يذهب إلى أن وحدة الشخص ال تستلزم وحدة القول بوحدة‬
‫الجوهر‪ ،‬فلسنا م َت ِّيقنين مما إذا كان نفس الجوهر هو الذي يقوم بفعل التفكير في نفس الشخص‪.‬‬
‫إن الوعي الذي يالزم الفكر دائما هو ما يجعل كل واحد هو نفسه دائما رغم التغيير والتحول‪ ،‬وإذا حصل وشعرت بأن فعال‬
‫وقع في املاض ي البعيد‪ ،‬يعود إلى ذاتي فإن هذا يعني أن هويتي الشخصية تمتد إلى هناك‪ ،‬وهو يعني أيضا أن الذات التي صدر عنها هذا‬
‫الفعل في املاض ي هي نفس الذات التي تتذكر اآلن هذا الفعل‪[ .‬تستند الهوية الشخصية على الوعي الذي يالزم أفعالنا و أفكارنا‪،‬‬
‫وعلى الذاكرة التي تحفظ هذا العي وتجعله يمتد بعيدا في املاض ي الخاص للشخص] ‪.‬‬
‫موقف شوبنهاور‪:‬‬
‫قبل أن يجيب شوبنهاور عن إشكالية " الهوية الشخصية" يستحضر إجابات أخرى ويقوم بتفنيدها وإبطالها ‪.‬‬
‫قد يكون املصدر األول لإلحساس بوحدة الشخص وهويته هو الجسم باعتباره وحدة بيولوجية متكاملة غير أن مادة الجسم‬
‫وشكله يتغيران بمرور السنين‪ ،‬ولكن هل مرور الزمان يجعل كل ش يء في اإلنسان يتغير أم أن هناك شيئا يصمد أمام التحوالت ويبقى‬
‫على حاله؟‬
‫يذكر شوبنهاور أن البعض يرى أن هذا العنصر الثابت الذي يبقى على حاله هو الشعور (الوعي) الذي يمتد بالذاكرة‪ ،‬لكنه‬
‫يرفض هذه اإلجابة ويرى أن الشعور والذاكرة ال يكفيان لتفسير الهوية الشخصية ‪،‬ألن فيهما نقصا وعيبا‪ ،‬ويتمثل هذا النقص في‬
‫أن أغلب أحداث حياتنا يلفها الغموض أو يطالها النسيان‪ ،‬ويتمثل العيب في أن ذاكرتنا قد تضعف بفعل تقدم السن أو املرض أو‬
‫يصيبها التلف بفعل اضطراب في املخ أو مس أو جنون‪ ،‬وهكذا فإن شعورنا بترابط مسار حياتنا هو شعور "متقطع" أو قد يتوقف‬
‫بفعل الزمن ‪ ،‬ومع ذلك فإن هوية الشخص التتوقف أو تتقطع بتوقف التذكر أو الشعور ‪ ،‬بل تظل ثابثة راسخة ‪ .‬وهذا يدل على‬
‫أن هناك ـ ـ في اإلنسان ـ ش يء ال تلحقه آثار التغير وعليه تتوقف هوية الشخص‪ ،‬هذا الش يء هو اإلرادة‪ .‬إرادة الحياة املبنية في جميع‬
‫مظاهر الطبيعة البشرية‪ .‬أما التفكير ما هو إال وظيفة بيولوجية يقوم بها العقل لصالح اإلرادة‪ ،‬فاإلرادة أصل والعقل (الذات‬
‫العارفة) فرع‪ ،‬فاإلرادة هي الطبيعة االنسانية والذات الحقيقية للشخص‪ ،‬وكل ما عداها إنما هو مظهر من مظاهرها فرع لها وتابع‬
‫لها‪ .‬اإلرادة أساس هوية الشخص‪.‬‬
‫استنتاج تركيبي للمحور الشخص والهوية‬

‫شوبنهاور‬ ‫جون لوك‬ ‫ديكارت‬


‫االرادة‬ ‫الشعور والذاكرة‬ ‫العقل املجرد‬
‫( إرادة الحياة )‬ ‫( الوعي )‬ ‫(التفكير في التفكير)‬

‫‪2‬‬
‫املحور الثاني‪ .‬الشخص بوصفه قيمة‪:‬‬
‫لقد قلنا سابقا أن الفرد البشري ليس مجرد كائن بيولوجي‪ ،‬وإنما هو شخص وهذا يعني أن له مكانة تميزه عن سائر الكائنات‬
‫األخرى ‪ ،‬فما طبيعة هذه املكانة أو القيمة؟ ومن أين يستمدها الفرد بوصفه شخصا؟‬
‫موقف ايمانويل كانط‪.‬‬
‫يرى كانط أن امتالك االنسان للعقل يرفع مكانته فوق جميع الكائنات األخرى‪ .‬فباعتبار اإلنسان كائنا عاقال فإنه يوجد لغاية‬
‫في ذاته‪ ،‬وهذا ما يوجب علينا أن ال نعامل كمجرد وسيلة لتحقيق أغراض معينة ‪ ،‬إن الشخص في اإلنسان له قيمة مطلقة ما بعدها‬
‫قيمة‪ ،‬أي أن الشخص له كرامة ال تقدر بثمن مهما عال وارتفع‪ ،‬وال يمكن أن ي َب َاد َل بش يء مهما كان نفيسا‪ .‬فالكرامة أنفس من كل‬
‫نفيس وأعلى قيمة من كل ماله قيمة‪.‬وعلى الفرد أن يحترم هذه الكرامة (القيمة املطلقة) في شخصه وفي أشخاص غيره‪ ,‬فال يحتكم‬
‫في تعامله مع نفسه أو مع غيره إلى امليول والرغبات‪ .‬إن الكائنات املحرومة من العقل هي التي يمكن استعمالها كوسائل ولذلك نسميها‬
‫أشياء‪ .‬في حين أن الكائن االنساني(بوصفه كائنا عاقال وحرا) ال يقبل أبدا أن ي َ‬
‫عام َل كما لو كان شيئا ‪ ،‬ألنه غاية في ذاته ولذالك‬
‫َ‬
‫نسميه شخصا ‪ .‬إن كرامة الشخص تمنعنا من اعتباره شيئا أو معاملته كوسيلة‪ .‬إن كل من يلحق أذى بنفسه أو بغيره َين ِّتهك حرمة‬
‫ً‬ ‫ٌ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫القانون األخالقي الذي يقول‪" :‬اعمل بحيث تعامل اإلنسانية ـ ـ ـ في شخصك وفي شخص غيرك ـ ـ على أنها غاية وال تعاملها أبدا‬
‫كمجرد وسيلة "‬
‫موقف جورج غوسدورف‪.‬‬
‫يرى الفيلسوف جورج غوسدروف ( ‪ 1912‬ـ ـ ـ ـ ‪ ) 2002‬أن قيمة الشخص ‪ ،‬ال يمكن في النظر إليه ككائن مجرد عن الزمان‬
‫واملكان ‪ ،‬وال ككائن فردي منعزل عن اآلخرين‪،‬يضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارض مع اآلخرين‪ ،‬بحيث يتصور نفسه كبداية‬
‫مطلقة ‪ ،‬إن الشخص األخالق ال يوجد إال باملشاركة والتضامن والتعاون مع الناس‪ ،...‬لقد فهم الشخص األخالقي أن الغنى الحقيقي‬
‫ال يوجد في التميز والتملك املنغلق‪ .‬كما لو كان بإزاء كنز خفي‪ ،‬ولكن باألحرى في وجود يكتمل ويتلقى بقدر ما يعطي ويمنح‪ .‬وبالتالي‬
‫فقيمة الشخص ال تتحدد حسب غوسدروف من خالل وجوده األخالقي ووجوده الفردي وإنما في االنضمام إلى اآلخرين وفي مشاركتهم‬
‫ملواقفهم وفي انسجامه معهم وانفتاحه عليهم‪.‬‬
‫املحور الثالث‪ :‬الشخص بين الضرورة والحرية‪.‬‬
‫رأينا سابقا مع كانط أن لإلنسان قيمة مطلقة ت ِّلزمنا أن ال نعامله أبدا كوسيلة‪ .‬إن هذه القيمة مستمدة من كون اإلنسان‬
‫يتصرف وفق قوانين العقل وأوامره‪ ،‬غير أن لإلنسان باعتراف كانط نفسه جانبا آخر يتمثل في ميول ونوازع حساسيتة يجعل الخضوع‬
‫للقانون أمرا شاقا وعسيرا ‪ ،‬ولذلك نجد الناس في الواقع الفعلي غالبا ما يتصرفون بدوافع حساسيتهم‪ .‬وهذا ما يجعلنا نتساءل ‪:‬‬
‫هل الشخص حر فعال أم أنه يخضع لضرورات أخرى لها صلة بتكوينه البيولوجي والسيكولوجي كفرد أو لها صلة بتنشئته‬
‫االجتماعية وظروفه االقتصادية مثال؟‬
‫موقف باروخ سبينوزا‪.‬‬
‫يرى سبينوزا أن ما من ش يء يحدث في الطبيعة إال وهو خاضع للضرورة‪ .‬فكل ش يء َمجبور على أن يوجد ويتصرف بطريقة‬
‫مخصوصة بما في ذلك اإلنسان‪ .‬وعندما يعقد اإلنسان أنه ال يخضع للض رورة الطبيعية الشاملة‪ ،‬أي عندما يعتقد أن أفعاله‬
‫صادرة عن إرادة حرة‪ ,‬عندما يعتقد ذلك فإنه يسقط في وهم يصعب التحرر منه‪ .‬ويشرح سبينوزا هذا الوهم من خالل األمثلة التالية‬
‫‪ :‬فالطفل يعتق د أنه يرغب في الحليب بقرار حر منه ‪ ،‬والغاضب يعتقد أنه يريد ان ينتقم ‪ ،‬والجبان يحسب أنه يهرب بملء‬
‫إرادته‪،‬والسكران يعتقد أنه يتفوه بما يريد ‪ ...‬إن كل هؤالء لديهم وعي بأفعالهم وتصرفاتهم لكنهم يجهلون تماما العلل واألسباب التي‬
‫تسبب هذه األفعال وتدفعهم للقيام بها ‪ ،‬ويضرب سبينوزا مثاال آخر لشرح وهم الحرية الذي يستبد بالعقول ‪ ،‬هذا املثال هو مثال‬
‫الحجر الذي ندفعه فيتحرك‪ :‬إذا تصورنا اآلن بأن هذا الحجر يدرك حركته فإنه سيعتقد أنه حر‪ ،‬وسينسب الحركة إلى نفسه كما‬
‫لو كانت حركة إرادية صادرة عنه بالفعل‪ .‬إن وهم الحرية عند هذا الحجر راجع إلى أن وعي الحجر في هذا ( املثال االفتراض ي ) يتوقف‬
‫عند الجهد الذي يبدله ملواصلة الحركة وال يتجاوزها إلى العلة التي سببت الحركة‪ ،‬من خالل هذه األمثلة يؤكد سبينوزا أن الحرية‬

‫‪3‬‬
‫االنسانية مجرد وهم‪ ،‬إن الناس يعتقدون ويتوهمون أنهم أحرار ألنهم يدركون ويعون أفعالهم وشهواتهم ورغباتهم ‪ ،‬لكنهم يجهلون‬
‫األسباب والعلل التي تتحطم فيها ‪ ،‬ونتيجة هذا الجهل فإن الناس ينسبون كل قراراتهم إلى إرادتهم الحرة التي ليست في حقيقتها سوى‬
‫وهم‪.‬‬
‫موفق جون بول سارتر‪.‬‬
‫يدافع سارتر عن أطروحة مفادها أن اإلنسان يملك حرية ال مشروطة ‪ ،‬ويرى أن اإلنسان عندما يترك نفسه تتحدد بالعوامل‬
‫الخارجية فإنه يتنازل عن حريته ويتخلى عن أن يكون شخصا لينحط إلى مرتبة األشياء ‪ ،‬بينما وجود اإلنسان يختلف عن وجود سائر‬
‫الكائنات األخرى ‪ ،‬ذلك أن وجوده يسبق ماهيته‪ ،‬أي أن الشخص يوجد أوال دون أن يكون محددا بماهية ثابتة ‪ ،‬وعليه بعد ذلك أن‬
‫يحدد بنفسه ماذا سيكون في املستقبل ‪ ،‬إن وجود اإلنسان ـ ـ ـ حسب سارتر ـ ـ ـ مشروع بمعنى أنه ارتماء نحو املستقبل ‪ ،‬ووثبة في اتجاه‬
‫املمكنات وعزم على تجاوز الوضع الراهن‪ ،‬من جهة أخرى فحرية الشخص تلزمه بأن يأخذ وجوده على محمل الجد وأن يختار ماهيته‬
‫وينتج ذاته باستمرار ‪ ،‬على اعتبار أن هذه املاهية ليست محددة من قبل كما هو حال األشياء‪ ،‬بل هي توجد دوما أمامه كمشروع ‪،‬‬
‫وهو من يحددها ويختارها من خالل كفاحه وعمله وعالقاته واختياراته‪ .‬إن الشخص إذن‪ ،‬حر حرية مطلقة ‪ ،‬فهو مسؤول أمام‬
‫ذاته واإلنسانية جمعاء عن وجوده واختياره‪ ،‬بهذه الطريقة يرد سارتر عن كل نزعة تتناس ى قدرة اإلنسان على التجاوز والتعالي ‪،‬‬
‫وتختزل وجوده في الخضوع للشروط واألوضاع القائمة‪.‬‬
‫موقف إيمانويل مونيي‪.‬‬
‫إلى جانب القائلين بالحتمية والضرورة والقائلين بالحرية املطلقة هناك موقف ثالث يرفضهما معا وهو موقف مونيي ‪ ،‬حيث‬
‫يرى هذا األخير أن الشخص ليس جوهرا ثابتا أو ماهية معطاة بل هو مجهود يبذله فرد ملموس واقعي في اتجاه التحرر‪ ،‬نعم إن‬
‫اإلنسان كائن حر إال أن حريته هذه حرية مشروطة وليست مطلقة كما توهم سارتر ‪ ،‬بل هي حرية محددة ومقيدة بوضعنا وظروفنا‪،‬‬
‫إنها حرية فرد ملموس يعيش في العالم إلى جاني اآلخرين وفي ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية ‪ ،‬فال يمكن للشخص أن‬
‫ينسلخ تماما عن هذه األوضاع‪ ،‬كما أن أبواب اإلمكان ليست كلها مفتوحة أمامه ليفعل ما يشاء وقت ما يشاء‪ ،‬فالحرية التي يتحدث‬
‫عنها مونيي هي حرية انسان يبذل املجهود ليتحرر من أثر األوضاع القائمة فيضفي بهذا املجهود طابعه الشخص ي على نفسه وعلى‬
‫العالم من حوله‪ ،‬وهكذا فالحرية ال تتطور وال تنمو إال في ظل العوائق وبفعل التضحية‪ ،‬إنها جهد مستمر وصراع دائم من أجل‬
‫التحرر تحقيقا لعملية التشخصن ‪.‬‬
‫استنتاج‪.‬‬
‫يتحدد الوضع البشري على مستوى الشخص بطابع الضرورة الذي تفرضه قوانين البيولوجية من جهة‪ ،‬والقوانين األخالقية‬
‫والنفسية واالجتماعية والدستورية من جهة أخرى ‪ ،‬لكن اإلنسان على الرغم من خضوعه لكل هذه الضرورات إال أن بإمكانه التعالي‬
‫عليها وتجوز وضعه بحكم ما يتميز به من وعي وإرادة وقوة على الخلق واإلبداع‪.‬‬

‫‪4‬‬

You might also like