Professional Documents
Culture Documents
إنشاء قولة العلاقة مع الغير - نحن في علاقة غامضة مع الغير تتردد بين التعاطف معه أو الخوف منه
إنشاء قولة العلاقة مع الغير - نحن في علاقة غامضة مع الغير تتردد بين التعاطف معه أو الخوف منه
"نحن فً عالقة غامضة مع الغٌر ،تتردد بٌن التعاطف معه أو الخوف منه " القولة :
لِ َم تكون العالقة مع الغٌر غامضة ؟
- 1مطلب الفهم:
إن وعً األنا بوجودها كذات ،ال ٌمكن أن ٌكون بدون وجود اآلخرٌن ،فالمرء ٌولد بمفرده وٌموت بمفرده ،لكنه ٌحًى مع اآلخرٌن ،وباآلخرٌن
ولآلخرٌن ،ففً غٌاب الغٌر تعٌش األنا عزلة قاتلة ،هذه الضرورة ،أي ضرورة الغٌر بالنسبة لؤلنا ،تفرض على األنا الدخول فً عالقة إٌجابٌة مع
الغٌر ،ألن كل توثر بٌنهما ( األنا والغٌر)ٌ ،فضً (بالضرورة) إلى ضٌاع الطرفٌن ،لكن األنا ،وفً محاولتها للتواصل مع الغٌر ،وتحقٌق الغاٌات
المنشودة معه ،تصطدم بمفارقات ٌكشف عنها واقع هذا الغٌر نفسه ،فهو تارة ٌكشف عن عالم من السعادة والطمأنٌنة واالرتٌاح ،وتارة أخرى،
ٌكشف عن عالم من القلق والتوثر والمعاناة ،مما ٌجعل األنا فً حٌرة من أمرها ،بٌن االندفاع نحو الغٌر وربط عالقات معه ،أو االنعزال عنه ،هذه
المفارقة وااللتباس الذي ٌكشف عنهم ا الغٌر،هو ما حاولت القولة إثارته بصٌغة سؤال مرفق (بها) " لِ َم تكون العالقة مع الغٌر غامضة ؟ " .
تساؤل من هذا النوعٌ ،جعل من موضوع العالقة مع الغٌر ،موضوعا إشكالٌاٌ ،حمل مفارقات ٌمكن تبٌنها فً التساؤل التالً :
إذا كان الغٌر وكما عرَّ فه الفٌلسوف الفرنسً الوجودي جون بول سارتر األنا الذي لٌس أنا" ،وإذا قبلنا بضرورة وجود الغٌر ومعرفته المعرفة
الٌقٌنٌة ،فكٌف ٌنبغً أن ُت ْب َنى العالقة معه ؟ فهل ٌنبغً بناء هذه العالقة على التفاهم والتعاون والتسامح ،أم على الصراع واإلقصاء والتشًٌء ؟
- 2مطلب التحلٌل:
ٌضعنا مضمون هذا القول أمام تصورٌن متناقضٌن للعالقة مع الغٌر(،إٌجابً وسلبً) ،وٌطالبنا بالبحث عن األسباب التً تكمن وراء الغموض الذي
ٌكتنف العالقة مع الغٌرٌ ،مكن َت َبٌُّن هذا األمر بوضوح من خالل تفكٌك داللة األلفاظ والمفاهٌم الواردة فً القولة ،والتً تفتتح بكلمة " نحن" والتً
تفٌد الجمع ،أي األنا والغٌر ،والتً تجمعهما عالقة غامضة ،ولفظة غامضة هنا ،تشٌر إلى معنى االلتباس والتناقض ،وهو ما تكشف عنه ألفاظ
ومفاهٌم العبارة األخٌرة من القولة ،ففعل " تتردد " ٌ ،حٌل على الحٌرة والغموض ،الذي توضحه كلمة " التعاطف معه " أو " الخوف منه "،
فالتعاطف هو المٌل اإلٌجابً لآلخرٌن ،وٌحمل معنى المودة والمحبة والصداقة ،أما الخوف ،فهو عكس التعاطفٌ ،حمل معنى سلبٌا ممثال فً
االضطراب والقلق والمعاناة ،فغموض العالقة مع الغٌر إذن فً هذا القولٌ ،كمن فً التقابل الموجود بٌن التعاطف كمٌل إٌجابً مع الغٌر ،والخوف
كحالة نفسٌة سلبٌة ،تناقض ومفارقة عبر عنها مجموعة من المفكرٌن ،القدماء منهم والمحدثٌن والمعاصرين ،فعلى مستوى العالقة اإلٌجابٌة مع
الغٌرٌ ،مكن أن نجد فً مفهوم الصداقة تجل من تجلٌات التعاطف مع الغٌر ،فهو مفهوم ٌحٌل على كل معانً المودة والمحبة والصدق ،أما الخوف
كحالة نفسٌة سلبٌة ،له نتائج مدمرة للذات ،ممثلة فً القلق واأللم والمعاناة ،لتنتهً إلى التشًٌء ،أي تحوٌل األنا إلى موضوع أو شًء بٌن األشٌاء،
فمفهوم الصداقة كمفهوم إٌجابً عبَّر عنه أوَّ الً فً الٌونان القدٌمة ،الفٌلسوف أرسطو .فقد منح هذا الفٌلسوف ( أرسطو) الصداقة أهمٌة كبرى فً
حٌاة اإلنسان ،إنها فً نظره تجلً من تجلٌات التعاطف مع اآلخرٌن ،أو بتعبٌره " إحدى الحاجات األش ّد ضرورة للحٌاة " ،وهو األمر الذي أكده
حٌث اعتبر الصداقة الماهٌة الحقٌقٌة التً تربط اإلنسان باآلخرٌن ،مهما كان سن هذا اإلنسان ومرتبته االجتماعٌة ،وما ٌدعم هذا القول بالنسبة
ألرسطو هو تأسٌس الصداقة على مفهوم " الفضٌلة " ،والفضٌلة قٌمة أخالقٌة ومدنٌة ،تنبً على محبة الخٌر والجمال لذاته أوال ثم لؤلصدقاء ثانٌا،
لذلك فهً تدوم وتبقى ،بخالف صداقة المنفعة والمتعة التً تزول بزوالهما ،والصداقة ضرورٌة ومطلب للحٌاة المشتركة ،ولو أمكن قٌام صداقة
الفضٌلة بٌن الناس جمٌعا ،لما احتاجوا إلى العدالة والقوانٌن ،وفً هذا ٌقول أرسطو " :الصداقة فضٌلة ،أو هً على أقل مصحوبة بالفضٌلة ،وفوق
ذلك فهً ضرورٌة على وجه اإلطالق للحٌاة :فبغٌر أصدقاء ال أحد ٌرٌد العٌش ،حتى ولو كان ٌنعم بجمٌع الخٌرات األخرى".
أما التصور الفكري الذي ٌرى فً العالقة مع الغٌر ،عالقة سلبٌة ٌ ،طبعها الخوف والقلق والمعاناة ،فقد عبَّر عنها فً العصر المعاصر الفٌلسوف
الفرنسً جون بول سارتر ) ، Jean Paul Sartre ( -1905 -1980فً مؤلفه " :الوجود والعدم " ، L'être et Le Néantلقد أكد سارتر أوَّ الً فً
هذا المؤلف ،على ضرورة الغٌر لوجود األنا ،وهو ما ٌبدو واضحا من قوله " :الغٌر هو الوسٌط الذي ال غنى عنه بٌنً وبٌن نفسً" ،لكن هذه
الضرورة ،لم تلغ فً نظر سارتر سلبٌات الغٌر ،فهو بنظراته –ٌقول سارترٌ -قٌد تصرفات األنا وٌرصد حركاتنا ،بل ٌخلق لدٌها حاالت نفسٌة
متوترة ،أبرزها حالة الخجل ، La Honteوهذه الحالة السٌكولوجٌة التً تنتاب األنا أحٌانا ،ال ٌمكن الشعور بها إال بحضور اآلخر ونظراته Ses
، Regardsوفً هذا ٌقول سارتر ":إن الخجل la Honteفً تركٌبه األول هو خجل من الذات أمام اآلخر ،فأنا خجول من نفسً من حٌث أتبدى
للغٌر" ،وٌضٌف موضحا(،بتصرف) " قد تصدر عنً حركة غٌر الئقة ،وهذه الحركة تلتصق بً ،ال أحكم علٌها وال ألومها ،لكن بمجرد ما أشاهد
شخصا ٌرمقنً ،وٌتبٌن لً أنه اكتشف ما فً حركتً هذه من سوقٌة ،حتى أشعر بحالة الخجل تدب فً أوصالً ،ال أجد لها مخرجا إال بالهروب
صبِ ُحإلً) ( Le Regardف ٌُ َح َّيو لنً إلى موضوع ،فأ ُ ْ
والتستر عن نظرات الغٌر التً تجمد حركاتً ،فالرابطة بٌن األنا والغٌر ،هو قدرته على النظر َّي
موجودا للغٌر أتحجر تحت نظرته ،ومن هنا ٌنشأ جزعً وقلقً على نفسً ،ألن إمكانٌاتً مهددة من طرفه ،فهو بنظرته إلً ٌشلنً وأنا بدوري
شًء اآلخر، وأح ِّو لُه كذلك إلى موضوع ،فهناك إذن هوة ال تردم بٌن األنا واآلخرٌ ،ستحٌل معها كل التواصل ،ألن كل منهما ٌُ ِّ
أنظر إلٌه وأشله َ
وٌسلب منه مقوماته كوعً وحرٌة وتلقائٌة وفرضٌة" ،وهذا الوضع المقلق الناشئ عن نظرات الغٌر ،هو ما دفع بسارتر ،بأن ٌختم مسرحٌة له
بعنوان " :جلسة مغلقة" ، Huis Closبعبارة مشهورة لدٌهٌ ،قول فٌها " :الجحٌم هم اآلخرون ، L’Enfer, c’est les autres " ،عبارة تجسد
بوضوح العالقة السلبٌة مع الغٌر.
ٌبدو إذن ،من تحلٌل موقف كل من أرسطو وسارتر ،وهما من المواقف المعبرة عن مضمون القولة ،أن هناك فعال عالقة غامضة مع الغٌر ،تتراوح
بٌن السلب واإلٌجاب ،لكن أي موقف من هذه المواقف السالفة الذكرٌ ،مكن االطمئنان إلٌه ،أي اعتبارها المقبولة أخالقٌا أثناء بناء عالقة مع الغٌر ؟
هل التعاطف والصداقة واالحترام ،أم الخوف والقلق والمعاناة؟
ذ محمد بنعبو المستوى:السنة 2بكالورٌا مادة الفلسفة -مجزوءة الوضع البشري /مفهوم الغٌر -نموذج تطبٌقً حول صٌغة القولة (العالقة مع الغٌر)
4 -مطلب التركٌب:
ٌتبٌن من تحلٌل ومناقشة الموقف المعبر عنه فً القولة ،حول موضوع العالقة مع الغٌر ،أن هناك تباٌنا فً فهم إشكالٌة العالقة مع الغٌر ،فهناك من
ذهب إلى تأكٌد الطابع اإلٌجابً لهذه العالقة ،المؤسس على التعاطف والمودة والصدق ،وهناك من جهة أخرى ،من ذهب عكس ذلك ،إلى التنصٌص
على العالقة السلبٌة مع الغٌر ،المؤسسة على الخوف والقلق والمعاناة ،لكن رغم المبررات التً ٌقدمها أصحاب القول بالعالقة السلبٌة مع الغٌر ،فإن
ما ٌمكن تأكٌده فً هذا المجال ،هو أن العالقة مع الغٌر ٌجب أن تكون إٌجابٌة ،لما لهذا الغٌر من أهمٌة قصوى فً تشكٌل هوٌة األنا كشخص ،وفً
غٌابه تعٌش األنا عزلة قاتلة ،لذا ال بد من رسم عالقة إٌجابٌة معه ،سواء كان هذا الغٌر قرٌبا منا أو غرٌبا عنا ،وال ٌمكن بالتالً القبول بحكم
تحول نظرات األنا الغٌر إلى موضوع " ،إال إذا كانت نظرة تح َول نظراته األنا إلى موضوع ،كما ِّ
الفٌلسوف الفرنسً سارتر على الغٌر بأنه جحٌمَ ،
بعضنا إلى بعض ال إنسانٌة ،وإال إذا شعر كل منا بأن أفعاله ،بدال من أن تتقبل وتفهم ،تخضع للمالحظة مثل أفعال حشرة" ،كما قال بذلك الفٌلسوف
الفرنسً مٌرلوبونتً ،كما أنها لٌست من نوع ا لصراع ،كما قال بذلك هٌجل ،ألن الصراع بٌن البشر ،ال ٌفضً إال إلى الهدم والفناء ،فالعالقة
اإلٌجابٌة مع الغٌر ،هً ما ٌنبغً أن ٌطبع الوجود اإلنسانً ،ألن هذا النوع من العالقة ،هو الذي ٌضمن استمرارٌة هذا الوجود ،وهذه العالقة ال
ٌنبغً أن تقف عند حدود الغٌر الصدٌق ،بل ٌنبغً أن تمتد إلى الغٌر الغرٌب ،حقا أن الصداقة تعتبر مختبرا حقٌقٌا لقدرات البشر على الوفاء
ى ما عداه من األغٌار( ،أي الغٌر الغرٌب ) ،مع العلم أن ُ
والصدق ،لكن ٌبقى هذا المفهوم غٌر ذي معنى إذا ما انحصر فً نطاق الغٌر القرٌب ،وأقصِ ِ
الموقف إزاء ما هو غرٌب ،هو أٌضا مختبر حقٌقً إلمكانٌات البشر على تقبل وتفهم المخالف لنا فً العقٌدة والمأكل والمشرب ،إنه اختبار حقٌقً
لقبول االختالف ،أي قبول ما ٌفرق بٌن البشر ،ولٌس فقط لما ٌجمع بٌنهم ،لذا فالغٌر سواء كان فردا أو جماعة أو ثقافة ،صدٌقا أو غرٌبا ،قرٌبا منا
أو بعٌدا عنا ،هو جزء ال ٌنفصل عن الذاتٌ ،منحها الوجود والتحقق ،لهذا ال بد من إقامة عالقة تواصل معه ،عالقة تقوم على أساس االعتراف
المتبادل ،مع نبذ كل أشكال التمٌٌز واإلقصاء والعنف ،ألن الغٌر فً نهاٌة المطاف ،ما هو إال أنا آخر بشري مثلنا ،ووجوده هو نداء للغٌر من أجل
تجاوز النقص الذي ٌعتري األنا ،ونداء له من أجل حوار حضاري مبنً على االحترام المتبادل والتسامح ،بعٌدا عن كل أنواع الهٌمنة والتسلط .
ملحوظة * :وردت هذه القولة فً االمتحان الوطنً الموحد للبكالورٌا ( ،الدورة االستدراكٌة ،) 2011مسلك العلوم اإلنسانٌة.