You are on page 1of 9

‫األخالق تعريفها ومؤشراتها ومصدرها ومكانتها‬

‫‪ -1‬تعريف األخالق هي‪:‬‬


‫(صفة في النفس تظهر آثارها في الكالم والسلوك العملي والمظهر‬
‫الخارجي والصحبة المختارة) (‪.)1‬‬
‫شرح التعريف‪:‬‬
‫(صفة في النفس) المقصود بذلك أن الخلق عبارة عن أمر حسن أو قبيح‬
‫كامن داخل النفس‪ ،‬تصدر عنه األعمال والتصرفات بتلقائية ويسر من غير‬
‫حاجة إلى تفكر وتأمل‪ ،‬فكأنه طبيعة وسجية‪ ،‬فمن يبذل المال بسماحة‬
‫وعفوية يسمى كريماً‪ ،‬ومن يتجاوز عن المخطئ برفق ولطف فهو متصف‬
‫بالحلم‪.‬‬
‫أما من يتكلف البذل واإلنفاق أو المسامحة والعفو عند الغضب فال يقال‬
‫بأن خلقه السخاء أو الحلم‪.‬‬
‫وبهذا يظهر الفرق بين (الخلق) (والتخلق)‪.‬‬
‫أما من يظهر منه الخلق أحيانا ً أو نادراً فال يوصف بذلك الخلق كمن‬
‫يصدر منه العدل في حالة عارضة‪.‬‬
‫و (التخلق) باألخالق الحسنة مطلوب‪ ،‬وقد يسمى (الخالق) وهو (ما‬
‫اكتسبه اإلنسان من الفضيلة بخلقه) (‪ ،)2‬وقد حث النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫على التخلق ليتعود اإلنسان عليه ويرسخ في نفسه بكثرة التكرار‪ ،‬قال صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪( :‬إنما العلم بالتعلم‪ ،‬وإنما الحلم بالتحلم‪ b،‬ومن يتحر الخير‬
‫يعطه‪ ،‬ومن يتق الشر يوقه)(‪.)3‬‬
‫(تظهر آثارها) أي أن األصل في األخالق أنها كامنة داخل النفس‪ ،‬وال‬
‫يعرف وجودها إال بظهور آثارها‪ b،‬وفي الغالب أن اإلنسان مهما حاول‬
‫إخفاء أخالقه الراسخة فيه فإنها تظهر‪ ،‬وخاصة في حاالت اإللجاء‪b‬‬
‫والمزاحمة‪ ،‬كمن يبتلي بمن يغضبه وهو قادر على االنتقام واالنتصار ومع‬
‫ذلك يحلم ويتجاوز‪ ،‬وكمن يتهيأ له كسب محرم فإن كان عفيفا ً ظهرت صفة‬
‫القناعة فيه‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ظهرت في تصرفاته صفة الجشع والحرص‪،‬‬
‫وقد جاء في بعض اآلثار (من أسر سريرة ألبسه هللا رداءها) (‪ ،)4‬ويروى‬

‫‪ )?(1‬هذا تعريف تم وضعه منتخباً‪ b‬مع إضافات‪ ،‬وللمزيد انظر التعريفات للجرجاني ص ‪ ،101‬وعنه أخذ صاحب التوقيف على مهمات‪b‬‬
‫التعاريف ‪ ،324‬وفي الكليات ص ‪ ،429‬اعتبر الخلق السجية والطبع والمروءة والدين‪ ،‬وفي المفردات للراغب ص ‪ ،158‬الخلق‪ :‬القوى‬
‫والسجايا المدركة بالبصيرة‪.‬‬
‫‪ )?(2‬المفردات للراغب ‪.158‬‬
‫‪ )?(3‬صحيح الجامع الصغير رقم ‪.2328‬‬
‫‪ )?(4‬كشف الخفاء للعجلوني ‪.2/350‬‬
‫عن عثمان رضي هللا عنه قوله‪( :‬من كانت له سريرة صالحة أو سيئة أظهر‬
‫هللا منها رداء يعرف به) (‪.)5‬‬
‫وقديما ً قال الشاعر‪:‬‬
‫وإن خالها تخفى على الناس‬ ‫ومهما تكن عند امرئ من خليقة‬
‫(‪)6‬‬
‫تعلم‬

‫(تظهر آثار الكالم والسلوك العملي والمظهر الخارجي والصحبة‬


‫المختارة)‬
‫أي أن األخالق الكامنة في نفس اإلنسان تعرف من خالل كالمه وتصرفاته‬
‫والكالم والسلوك أدلة على الخلق الكامن أما هيئته الخارجية وأصحابه الذين‬
‫يحب مجالستهم ويكثر من مخالطتهم فهي مؤشرات وقرائن تدل على وجود‬
‫السجايا‪ ،‬وعلى ما ينطوي عليه الشخص من خلق حسن أو قبيح‪ ،‬وسيأتي‬
‫بيان ذلك‪.‬‬

‫‪ )?(5‬األجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من األحاديث النبوية ‪ ،1/300‬وقال عنه إسناده ضعيف والصحيح وقفه‪ ،‬ومراده أنه ال‬
‫يصح رفعه للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويصح موقوفا ً على عثمان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ )?(6‬بيت من معلقة زهير بن أبي سلمى‪.‬‬
‫‪ -2‬أدلة ومؤشرات األخالق‪:‬‬
‫المراد بها تلك األمور الظاهرة التي تدل على وجود خلق معين أو تشير‬
‫إلى وجود ذلك الخلق قطعا ً أو ظناً‪.‬‬
‫(فليس الخلق عبارة عن الفعل‪ b،‬فرب شخص خلقه السخاء وال يبذل‪ ،‬إما‬
‫لفقد المال أو لمانع‪ ،‬وربما يكون خلقه البخل‪ b،‬وهو يبذل لباعث أو رياء) (‪.)7‬‬
‫والمسلم مطلوب منه أن يبتعد عن األلفاظ واألعمال والمظاهر التي تؤدي‬
‫إلى اتهامه بالخلق الهابط‪ ،‬كما جاء في بعض اآلثار (من عرض نفسه للتهم‬
‫فال يلومن من أساء به الظن) (‪.)8‬‬
‫وأبرز ما يدل على أخالق اإلنسان أربعة أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬الكالم‪:‬‬
‫فإن اإلنسان صندوق مقفل فإذا تكلم أبان عما هو كامن داخل نفسه‪ ،‬ولذلك‬
‫قيل في وصف اللسان بأنه (أداة يظهر بها البيان وشاهد يخبر عن‬
‫الضمير‪.)9( )...‬‬
‫وقد تعارف الناس على أن األلفاظ والعبارات التي يفوه بها اإلنسان تدل‬
‫على أخالقه – غالبا ً – فإذا تكررت منه تلك األلفاظ ترجح أنه متصف بذلك‬
‫الخلق الذي تدل عليه ألفاظه‪ ،‬فخلق الصدق يعرف بكالم صاحبه‪ ،‬وكذلك‬
‫خلق الكذب والغيبة والنميمة‪.‬‬
‫وبذاءة اللسان تدل على الوقاحة‪ ،‬وحسن القول يدل على الحياء‪ b‬وعفة‬
‫النفس‪ ،‬وهذا ما أشار إليه بعض العرب بقولهم‪( :‬إذا ثبتت األصول في‬
‫القلوب نطقت األلسنة بالفروع)(‪.)10‬‬
‫ولوال أن اللسان معبر عن األخالق الكامنة لما أمر هللا بإقامة الحد على‬
‫القاذف‪ ،‬ولما أوجبت الشريعة تعزير شاهد الزور‪ ،‬ونحو ذلك من العقوبات‬
‫الدنيوية واألخروية المترتبة على عمل اللسان‪ ،‬حتى قال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫(إذا أردت أن يُستدل على ما في القلوب فاستدل عليها بحركة اللسان‪ ،‬فإنه‬
‫يطلعك على ما في القلب‪ b‬شاء صاحبه أم أبى‪ ،‬قال يحيى بن معاذ‪" :‬القلوب‬
‫كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها" فانظر الرجل حين يتكلم فإن لسانه‬
‫يغترف لك به مما في قلبه حلواً أو حامضا ً وعذبا ً أو أجاجا ً وغير ذلك‪،‬‬
‫ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه‪ ،‬أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور‬
‫من الطعام فتدرك العلم بحقيقته‪ ،‬كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه‪،‬‬
‫فتذوق ما في قلبه من لسانه‪ ،‬كما تذوق ما في القدر بلسانك) (‪.)11‬‬
‫‪ )?(7‬التعريفات‪.101 b‬‬
‫‪ )?(8‬ذخيرة الحفاظ البن القيسراني ‪.2/932‬‬
‫‪ )?(9‬روضة العقالء ونزهة الفضالء البن حبان البستي ص ‪.43‬‬
‫‪ )?(10‬جمهرة خطب العرب ‪ 3/291‬ذكره األصمعي عن بعض األعراب‪.‬‬
‫‪ )?(11‬الجواب الكافي البن القيم ص ‪.139‬‬
‫الثاني‪ :‬السلوك العملي‪:‬‬
‫والمراد به األعمال والتصرفات التي تجري من اإلنسان‪ ،‬وداللتها على‬
‫األخالق بينة‪ ،‬فاإلنفاق بسخاء دليل الكرم‪ ،‬واإلمساك عن العطاء دليل‬
‫البخل‪ ،‬واالنفعال السريع دليل الغضب‪ ،‬ولين الجانب واألخذ باألسهل دليل‬
‫الرفق كما أن القسوة والشدة دليل العنف‪.‬‬
‫ويدخل في السلوك العملي جميع أعمال الجوارح كاليد بطشا ً وكتابة‬
‫وكذلك عمل القدمين والعين والبطن والفرج‪ b،‬وال يستثني من الجوارح هنا‬
‫إال اللسان الختصاصه الكبير في الداللة على األخالق‪ ،‬ولكونه أسرع‬
‫الجوارح حركة وأكثرها إبانة عن أخالق صاحبه‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬المظهر الخارجي‪:‬‬


‫والمراد به هيئة اإلنسان وملبسه وما يصنعه بشعر رأسه ولحيته وشاربه‬
‫وما يضعه في أصابعه أو معصمه أو رقبته ونحو ذلك مما له عالقة‬
‫بالمظهر الذي يظهر به اإلنسان أمام اآلخرين‪ ،‬وهذا مؤشر على الخلق‬
‫الكامن وليس دليالً مثل الكالم والتصرفات العملية‪.‬‬
‫ومن المعلوم بداهة أن لو ذهب إنسان إلى أمير أو ملك بثياب النوم أو‬
‫مالبس السباحة مثالً لطرد وعوقب؛ لما في هذا المظهر من داللة على‬
‫االستخفاف‪ b،‬ولو ذهب شاب يخطب فتاة وهو يرتدي الزي الرياضي لرفض‬
‫و ُوبِّخ لما في مظهره من داللة على ازدراء المخطوبة وأهلها‪.‬‬
‫بل إن المظهر الخارجي هو أول إشارة تفيد عن بعض أخالق صاحبه‪،‬‬
‫وأول انطباع يرتسم في أذهان اآلخرين عنه‪.‬‬

‫ولخطورة المظهر الخارجي‪ b‬ولداللته على الكامن من أخالق صاحبه‬


‫(لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء‪،‬‬
‫والمتشبهات من النساء بالرجال)(‪ ،)12‬وأخبر صلى هللا عليه وسلم أن (من‬
‫تشبه بقوم فهو منهم)(‪ ،)13‬وحذر أهل اإلسالم من األلبسة الشاذة في لونها أو‬
‫تفصيلها فقال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من لبس ثوب شهرة ألبسه هللا يوم‬
‫القيامة ثوب مذلة)(‪.)14‬‬
‫ومن أوضح األدلة على أن المظهر الخارجي لإلنسان يدل على خلقه نهي‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم عن إسبال الرجل مالبسه إلى ما تحت الكعبين‬
‫‪ )?(12‬أخرجه اإلمام البخاري في صحيحه ‪.5/2207‬‬
‫‪ )?(13‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ 4/44‬وسكت عنه فهو صحيح عنده‪.‬‬
‫‪ )?(14‬أخرجه ابن ماجة ‪ 2/1192‬وهو صحيح‪ ،‬انظر صحيح بن ماجة لأللباني رقم‪.2921 :‬‬
‫مبينا ً أن هذا من الخيالء والكبر الذي يبغضه هللا تعالى‪ ،‬قال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬وإياك وإسبال اإلزار فإنها من المخيلة‪ ،‬وإن هللا ال يحب المخيلة)‬
‫(‪.)15‬‬

‫الرابع‪ :‬الصاحب والصديق‪:‬‬


‫هذا مؤشر على أخالق الشخص‪ ،‬إذ من المعلوم – في غالب األحوال –‬
‫أن اإلنسان يصاحب‪ b‬من يناسبه في الطباع واألخالق‪ ،‬أما الصداقة فال تكون‬
‫وال تستمر في أكثر األحوال إال إذا توافقت‪ b‬أخالق الطرفين وتشاكلت‬
‫طباعهما‪ ،‬كما قال تعالى‪ :‬قل كل يعمل على شاكلته‪.)16(‬‬
‫أي كل أحد من الناس يصبو إلى ما يناسبه ويميل إلى من يماثله خلقا ً‬
‫وطبعاً‪ ،‬وكل امرئ يهفو إلى من يحبه‪ ،‬فالنفوس الزكية ذات األخالق‬
‫المرضية تنجذب بذاتها وهمتها وأعمالها إلى أصحاب‪ b‬الصفات‪ b‬العلية‪،‬‬
‫والنفوس السافلة تنجذب إلى من هو أدنى وأسفل‪ ،‬والواقع المحسوس يشهد‬
‫بهذه الحقيقة‪ ،‬فصاحب‪ b‬النفس الشريفة ال يرضي من األشياء واألحياء إال‬
‫بأعالها وأفضلها وأحسنها عاقبة‪ ،‬بعكس صاحب النفس الهابطة فإنه يحوم‬
‫حول الهابطين ويجري مجراهم في البحث عن األقذار الخلقية كالظلم‬
‫والفواحش‪ ،‬وهذا شأن كل النفوس طيبة كانت أو خبيثة أن فيها ميالً إلى ما‬
‫يناسبها ويشاكلها‪ ،‬وتعمل على طريقته التي تناسب أخالقه وطبيعته(‪.)17‬‬
‫وفي هذا المعنى قالت الحكماء (الصاحب ساحب) و (قل لي من تصاحب‬
‫أقل لك من أنت)‪ ،‬وقال شاعر‪:‬‬
‫وما الرشد إال أن تصاحب من‬ ‫وما الغي إال أن تصاحب غاويا ً‬
‫رشد‬ ‫ولن يصحب اإلنسان إال نظيره‬
‫(‪)18‬‬
‫وإن لم يكونا من قبيل وال بلد‬

‫وقال بعض العلماء‪( :‬إن من أعظم الدالئل على معرفة ما فيه المرء من‬
‫تقلبه وسكونه هو االعتبار بمن يحادثه ويوده‪ ،‬ألن المرء على دين خليله‪،‬‬
‫وطير السماء على أشكالها تقع‪ ،‬وما رأيت شيئا ً أدل على شيء – وال‬
‫الدخان على النار – مثل الصاحب على الصاحب) (‪.)19‬‬

‫‪ -3‬مصدر األخالق‪:‬‬
‫‪ )?(15‬جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه ‪ 4/56‬وهو صحيح‪ ،‬انظر صحيح أبي داود رقم‪.4084 :‬‬
‫‪ )?(16‬االسراء‪.84 ،‬‬
‫‪ )?(17‬أنظر زاد المعاد ‪ ،4/196‬وبدائع الفوائد ‪ ،2/406‬وعدة الصابرين ‪ ،48‬والفوائد ‪ 178‬ومدارج السالكين ‪.2/371‬‬
‫‪ )?(18‬روضة العقالء ‪.123‬‬
‫‪ )?(19‬المصدر السابق ‪.108‬‬
‫هل األخالق فطرية أم مكتسبة؟ هذا السؤال هو الذي تحدد إجابته مصدر‬
‫األخالق عند الناس‪ ،‬فهناك من ذهب إلى أن مصدر األخالق هو الفطرة‬
‫التي فطر هللا الناس عليها‪ ،‬وهناك من ذهب إلى أن المجتمع هو صانع‬
‫أخالق األفراد‪ ،‬أي أن األخالق كلها مكتسبة‪.‬‬
‫وكال القولين أخذ بطرف وأهمل الطرف اآلخر‪ ،‬إذ من األخالق ما هو‬
‫فطري ومنها ما هو مكتسب وإيضاح ذلك كما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬هناك أدلة تدل على أن بعض األخالق فطري خلقه هللا في نفس‬
‫اإلنسان ومنها قول النبي صلى هللا عليه وسلم ألشج عبدالقيس‪( :‬إن فيك‬
‫خصلتين يحبهما هللا‪ :‬الحلم واألناة)(‪ ،)20‬وفي سياق آخر أن األشج قال‪( :‬يا‬
‫رسول هللا أنا أتخلق بهما أم هللا جبلني عليهما؟ قال‪ :‬بل هللا جبلك عليهما‪،‬‬
‫قال‪ :‬الحمد هلل الذي جبلني على خلتين يحبهما هللا ورسوله) (‪.)21‬‬
‫ومن األدلة على فطرية بعض األخالق حديث النواس بن سمعان قال‪:‬‬
‫سألت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن البر واإلثم‪ ،‬فقال‪( :‬البر حسن‬
‫الخلق‪ ،‬واإلثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)(‪.)22‬‬
‫ومما استدل به بعضهم على فطرية األخالق األحاديث الواردة في الفطرة‬
‫وبعض اآليات كقوله تعالى‪ :‬ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‪‬‬
‫(‪ ،)23‬ونحو ذلك من النصوص التي تدل على المعنى داللة اقتضاء أو لزوم‪.‬‬
‫ومن هذه النصوص نستنتج أن الفطرة من مصادر األخالق‪ ،‬بمعنى أن‬
‫هللا أوجد في النفس اإلنسانية أخالقا ً في أصل خلقتها‪ ،‬وهي توجد مع‬
‫اإلنسان منذ والدته وترسخ وتقوى بما يناسبها من أعمال كسبية‪ ،‬وتضعف‬
‫وتتالشى باإلهمال‪ ،‬أو باكتساب ما يضادها من أخالق‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن األدلة على أن بعض األخالق مكتسب‪:‬‬
‫أ‪ -‬الدعاء النبوي في استفتاح الصالة‪ ،‬ومنه قوله صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫(اللهم أهدني ألحسن األعمال وأحسن األخالق‪ ،‬ال يهدي ألحسنها إال أنت‪،‬‬
‫وقني سيئ األعمال وسيء األخالق ال يقي سيئها إال أنت)(‪.)24‬‬
‫ولو كانت كل األخالق فطرية موجودة في النفس لما دعا النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم ربه أن يهديه لتحصيل األخالق الحسنة وأن يقيه األخالق السيئة‪.‬‬
‫ب‪ -‬ومثل ذلك دعاؤه صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اللهم إني أعوذ بك من‬
‫منكرات األخالق واألعمال واألهواء)(‪ ،)25‬فهذه استعاذة من أخالق يمكن أن‬
‫تحصل باالكتساب كما تحصل األعمال وكما تحدث األهواء‪.‬‬
‫‪ )?(20‬أخرجه مسلم من حديث عبدهللا بن عباس ‪.1/48‬‬
‫‪ )?(21‬أخرجه أبو داود في سننه ‪ 4/357‬وسكت عنه‪ ،‬وأخرجه أحمد في مسنده ‪ 3/22‬و ‪.4/205‬‬
‫‪ )?(22‬أخرجه مسلم في صحيحه ‪.4/1980‬‬
‫‪ )?(23‬الشمس‪.8-7 ،‬‬
‫‪ )?(24‬أخرجه النسائي من حديث جابر بن عبدهللا ‪ ،2/129‬انظر صحيح النسائي لأللباني ‪.895‬‬
‫‪ )?(25‬أخرجه الترمذي في سننه ‪ ،5/575‬وهو في صحيح الجامع برقم‪.1298 :‬‬
‫جـ‪ -‬المتأمل في طباع الناس وأخالقهم وخاصة األطفال يرى أن هناك‬
‫جملة من األخالق الحسنة أو الرديئة موجودة فيهم خلقة‪ ،‬وال يوجد دليل‬
‫على أنهم تعلموها من غيرهم‪ ،‬ويمكن إدراك هذا المعنى بجالء عندما تتأمل‬
‫حال طفلين شقيقين أو توأمين نشاءا في بيئة واحدة وفي ظروف متطابقة‪،‬‬
‫وتجد أحدهما حاد الطبع سريع الغضب واآلخر هادئ الطبع فيه أناة‪ ،‬أو‬
‫أحدهما كريم سخي‪ ،‬واآلخر شحيح ممسك‪.‬‬
‫‪ -3‬اعتبار بعض األخالق جبلي وبعضها مكتسب يتوافق مع الواقع‬
‫والمشاهد من أحوال الناس‪ ،‬وبه يحصل إعمال جميع األدلة الشرعية‪ ،‬قال‬
‫ابن القيم بعد أن أورد حديث أشج عبدالقيس السابق‪( :‬فأخبر النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم أن هللا جبله على الحلم واألناة‪ ،‬وهما من األفعال االختيارية‪ ،‬وإن‬
‫كانا خلقين قائمين بالعبد‪ ،‬فإنه األخالق ما هو كسبي ومنها ماال يدخل تحت‬
‫الكسب‪ ،‬والنوعان قد جبل هللا العبد عليهما وهو سبحانه يجب ما جُبل عبده‬
‫عليه من محاسن األخالق‪ ،‬ويكره ما جبله عليه من مساوئها فكالهما بجبله‬
‫وهذا محبوب له وهذا مكروه)(‪.)26‬‬
‫‪ /4‬أن األخالق الفطرية كالحلم واألناة والكرم والشجاعة تنمو بتأكيدها‬
‫وتثبيتها بما يناسبها من االكتساب‪ ،‬وتذوي باإلهمال أو باالكتساب المضاد‪b،‬‬
‫فالمفطور – مثالً – على األناة تزداد هذه الخصلة األخالقية لديه‬
‫باالكتساب‪ ،‬وقد تضعف إذا أهملها‪ ،‬أو اكتسب ما ينافيها كالعجلة والطيش‬
‫والتسرع‪.‬‬
‫بقي أن يشار هنا إلى أن األخالق الجبلية أو المكتسبة لها تعلق بمكونات‬
‫اإلنسان األساسية‪ ،‬فمنها ما له عالقة باللسان كالصدق والكذب‪ ،‬ومنها ما‬
‫هو متعلق بالعقل واإلدراك كالفهم والحكمة والسفه والحماقة‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫متعلق بالجوارح كالخيالء والرشوة والعنف واإليثار والرفق‪.‬‬

‫‪ -4‬مكانة األخالق‪:‬‬
‫األخالق هي عنوان أية أمة‪ ،‬وهي أساس الحضارة وقاعدة التنمية‬
‫اإليجابية الشاملة‪ ،‬وركن السعادة األخروية بعد اإليمان باهلل تعالى‪ ،‬وهي‬
‫الرابط االجتماعي الحقيقي الذي تتحقق به الكثير من األهداف العظيمة‪،‬‬
‫واألدلة على هذا المعنى من القرآن والسنة كثيرة جداً وليس المقصود هنا‬
‫سرد هذه األدلة فكثير منها معروف مشهور‪ ،‬ولكن المقصود بهذا العنوان‬
‫اإلجابة عن سؤالين مهمين هما‪:‬‬
‫‪ -1‬هل األخالق في ذاتها ثابتة أم نسبية؟‬

‫‪ )?(26‬شفاء العليل ص ‪.129‬‬


‫‪ -2‬هل األخالق نفعية أم أصيلة الزمة في كل األحوال؟‬
‫وتنبع أهمية هذين السؤالين من كونهما جزءاً أساسيا ً من أية نظرية‬
‫أخالقية‪ ،‬ويتبين ذلك – مثالً – من خالل معرفة الفلسفة الغربية المتعلقة‬
‫باألخالق‪.‬‬
‫السؤال األول‪ :‬متعلق بما يسميه الغرب وأتباعهم بنسبية األخالق‪ ،‬بمعنى‬
‫أن األخالق الحسنة عندهم ليست ثابتة وال مستمرة في كل األحوال‪ ،‬فقد‬
‫يكون خلق العدل – مثالً – جيداً ومطلوبا ً في بعض األحوال‪ ،‬ثم يمكن أن‬
‫يصبح في أحوال أخرى سيئا ً ومرفوضاً‪ ،‬فحسن العدل وقبحه متعلق‬
‫باألوضاع والظروف التي يطبق فيها‪ ،‬هذه هي النسبية األخالقية عندهم‪،‬‬
‫ولذلك شاع في تعامالتهم مع غيرهم ما يعرف اليوم بالمكاييل المزدوجة‪،‬‬
‫وهو الموصوف في القرآن بـ (التطفيف) قال تعالى‪ :‬ويل للمطففين الذين‬
‫إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‪.)27(‬‬
‫أما في اإلسالم فإن األخالق في ذاتها ثابتة مستقرة‪ ،‬فخلق العدل محمود‬
‫ومطلوب في كل حال ومع الصديق والعدو‪ ،‬ومع المحالف والمخالف‪ b،‬ومع‬
‫القريب والبعيد‪ ،‬وخلق الظلم مذموم في كل حال‪ b،‬وال يصح في اإلسالم أن‬
‫يكون العدل محموداً مرة ومذموما ً مرة أخرى‪ ،‬وبهذا تتبين مكانة األخالق‬
‫في اإلسالم‪ ،‬ويتضح الفرق الكبير بين هدي اإلسالم في األخالق والفلسفة‬
‫المادية الجائرة المنحازة‪.‬‬
‫أما السؤال الثاني‪ :‬فهو متعلق بما يطلق عليه الغربيون (الفلسفة‬
‫البرجماتية) أي النفعية‪ ،‬والتي تقوم على قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)‬
‫وقاعدة (كل ما يحقق المنفعة ويوصل إليها فهو مشروع) فإذا كانت ممارسة‬
‫خلق من األخالق تؤدي إلى تحصيل مصلحة شخصية أو سياسية أو‬
‫اقتصادية أو غير ذلك فال بد من ممارسة هذا الخلق‪ ،‬وإن كانت ممارسة هذا‬
‫الخلق ال تجلب منفعة فهو خلق غير عملي‪ ،‬والمضمون الكلي الكامن في‬
‫جعل األخالق نفعية يتمحور في أن األخالق مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة‬
‫وتحصيل المصلحة‪ b،‬فإن لم تحقق األخالق منفعة فال فائدة منها وال جدوى‬
‫من تطبيقها‪ ،‬فدعم الظالم المعتدي كاليهود في فلسطين يعتبر عند السياسيين‬
‫الغربيين عمالً جيداً ألنه يحقق لهم مصالح في بالد المسلمين‪ ،‬ومنع الظالم‬
‫المعتدي في صربيا يعتبر عمالً حسنا ً ألنه أيضا ً يحقق لهم منافع في‬
‫أوروبا‪ ،‬هذا على المستوى العام‪ ،‬أما على المستوى الشخصي فيوجد منهم‬
‫من يعتبر قتل زوجته – بطريقة ال ينكشف فيها – عمالً مناسبا ً لحفظ‬
‫ثروته‪ ،‬وذلك حين يبغضها وال يستطيع تطليقها ألنها ستحصل – قضاء –‬
‫‪ )?(27‬المطففين‪.3-1 ،‬‬
‫على نصف ثروته‪ ،‬وما دامت الغاية تبرر الوسيلة فليتخلص منها بأسلوب‬
‫يبعد عنه الشبهة‪ ،‬وشاعت من عندهم قاعدة جائرة تقول بأن القانون ال‬
‫يحمي المغفلين‪ ،‬وتلقفها بعض أبناء المسلمين ورددوها ‪،‬على حين غفلة‬
‫منهم عن دينهم القائم على العدل واإلحسان ونصرة المستضعفين من‬
‫الرجال والنساء والولدان الذين ال يجدون حيلة وال يهتدون سبيالً‪ ،‬وأمثلة‬
‫األخالق النفعية في الحياة المادية عديدة‪ ،‬لم تستطع المحاكم وال ما يسمى‬
‫العقد االجتماعي القضاء عليها ألنها منغرسة في قلب المفاهيم المادية ونابعة‬
‫منها‪.‬‬
‫أما في دين اإلسالم فإن األخالق الحسنة مطلوبة محمودة مثاب عليها‪،‬‬
‫واألخالق القبيحة مرذولة مذمومة معاقب عليها‪ ،‬سواء تحققت منها منفعة‬
‫دنيوية أو لم تتحقق‪ ،‬ولذلك جاء أمر هللا بالعدل حتى مع أشد الشائنين كما‬
‫قال تعالى‪ :‬وال يجرمنكم شنآن قوم على أال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‬
‫‪.)28(‬‬
‫وجاء اإللزام بقول الحق ولو كان فيه ضرر ألقرب األقربين‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء هلل ولو على أنفسكم‬
‫أو الوالدين أو األقربين‪.)29(‬‬
‫ولعل من أبلغ ما يدل على مكانة األخالق وعظم درجتها وأهمتها الكبرى‬
‫في دين اإلسالم قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إنما بعثت ألتمم مكارم‬
‫األخالق)(‪.)30‬‬
‫والمراد باألخالق هنا أوسع مما هو متعارف عليه بين الناس؛ حيث أن‬
‫األخالق تشتمل على جميع أنواع (المعاملة)‪:‬‬
‫‪ -1‬معاملة العبد مع ربه بالحياء‪ b‬منه واألدب معه والشكر له وغير ذلك‪،‬‬
‫ثم‪.‬‬
‫‪ -2‬معاملته مع نفسه بالعفة والنزاهة والتكريم وعلو الهمة وغير ذلك‪ ،‬ثم‪.‬‬
‫‪ -3‬معاملته مع الخلق‪ ،‬باألمانة والعدل والمسئولية والتواضع وغير ذلك‪.‬‬
‫وبهذا يمكننا فهم كالم النبي صلى هللا عليه وسلم في الحديث السابق الذي‬
‫بين فيه الهدف من بعثته عليه الصالة والسالم‪ ،‬ويتضح لنا عظم مكانة‬
‫األخالق‪.‬‬

‫‪ )?(28‬المائدة‪.8 ،‬‬
‫‪ )?(29‬النساء‪.135 ،‬‬
‫‪ )?(30‬ذكره بهذا اللفظ الهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار وقال رجاله رجال الصحيح غير محمد بن رزق هللا الكلوذاني وهو ثقة‬
‫‪ ،9/15‬وذكره الزرقاني في مختصر المقاصد ‪ 184‬وقال صحيح‪ ،‬واأللباني في السلسلة الصحيحة برقم ‪ 45‬وقال صحيح‪ ،‬وأخرجه مالك‬
‫في الموطأ بالغا ً بلفظ بعثت‪ b‬ألتمم حسن األخالق ‪ ،2/904‬وجاء بلفظ صالح األخالق عند أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة‬
‫‪ ،2/381‬وبه في األدب المفرد للبخاري ‪ ،104‬وفي المستدرك أيضا ً ‪ 2/670‬وقال حديث صحيح على شرط مسلم‪ ،‬وفي مجمع الزوائد‬
‫‪ 9/15‬وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وذكره أيضا ً في ‪ 8/188‬وقال رجاله رجال الصحيح‪..‬‬

You might also like