You are on page 1of 10

‫‪1‬‬

‫مقدمة‬
‫الرأسمالية هي إحدى المكونات المركزية في الكيان الغربي الحديث‪ ،‬بل‬
‫لن يكون من قبيل المبالغة إن اعتبرناها تمثل المركز في بنية هذا الكيان‪،‬‬
‫تزامن ظهورها مع ظهور الدولة بشكلها الحديث‪ .‬وقد تحركت‪ ،‬ومازالت‬
‫منتجات الغرب الثقافية‪ ،‬أو باالصطالح الماركسي مثّلت‬
‫ُ‬ ‫تتحرك‪ ،‬فى فلكها‬
‫البنية التحتية للمنتج الفكري الغربي‪ .‬إال أنها منذ نشوئها كانت في حاجة ماسة‬
‫أليديولوجية تمثل الغطاء ومرتكز القبول‪ ،‬فكانت الليبرالية غطاءها‬
‫األيديولوجي‪ ،‬حيث لم يكن بمقدور الرأسمالية أن تسعى لتحقيق مكاسبها بمعزل‬
‫عن نسق تبريري يمنحها القبول لدى قوى المجتمع المختلفة‪ ،‬فكان لزاماً عليها‬
‫وهي تطالب بحرية العمل والتملك – وهي مطالبها باألساس ‪ -‬أن تدمجها في‬
‫سياق حقوقي أكثر اتساعاً وأقدر على جذب اآلخرين‪ ،‬فتستطيع من خالل هذا‬
‫السياق أن تضمن تحقيق مطالبها في حرية العمل والتحرك‪ ،‬دون أن تثير‬
‫توجهاتها ردود فعل رافضة‪.‬‬

‫وكانت الحداثة هي األساس الفكري الذي ارتكنت عليه الرأسمالية في‬


‫مواجهتها لميراث الماضي ومراكز السيطرة عليه‪ ،‬اإلقطاعية والدينية‪ ،‬وفى‬
‫الوقت عينه كانت الغالف الترويجي الذي تتحرك في سياقه الرأسمالية‪ .‬وكان‬
‫لألفكار الحداثية بريقها على الصعيدين‪ :‬الداخلي الغربي والخارجي العالمي‬
‫على حد سواء‪ ،‬فتحرك الفكر الغربي في سياق حلم تحقيق الكمال اإلنساني فى‬
‫هذا العالم دون حاجة لتأجيل أخروي‪ ،‬في الوقت الذي مثّلت طموحاً لدى‬
‫الشعوب غير الغربية للحاق بركب حضارتها؛ مما أدى إلى قبولها – في‬
‫‪2‬‬

‫الغالب – دون مساءلة أو نقد لخصوصية النشأة الغربية لمنظومة الحداثة‬


‫الفكرية‪.‬‬

‫إال أن ‪MM‬ه بع ‪MM‬د أن حق ‪MM‬ق الغ ‪MM‬رب كث ‪MM‬يراً من مس ‪MM‬اعيه‪ ،‬معتم ‪MM‬داً فى ذل ‪MM‬ك على‬
‫اإليم ‪MM‬ان بالعق ‪MM‬ل وقدرات ‪MM‬ه غ ‪MM‬ير المح ‪MM‬دودة في تحقي ‪MM‬ق التق ‪MM‬دم‪ ،‬ظه ‪MM‬رت نت ‪MM‬ائج على‬
‫الص ‪MM‬عيدين ال ‪MM‬داخلي والخ ‪MM‬ارجي ض ‪MM‬ربت ه ‪MM‬ذه الثق ‪MM‬ة المطلق ‪MM‬ة في العق ‪MM‬ل وقدرات ‪MM‬ه‪،‬‬
‫فعلى الصعيد ال‪M‬داخلي ك‪M‬انت الحرب‪M‬ان العالميت‪M‬ان األولى والثاني‪M‬ة‪ ،‬من بين أس‪M‬باب‬
‫أخ‪MM M‬رى‪ ،‬ح‪MM M‬افزاً إلع‪MM M‬ادة النظ‪MM M‬ر في إمكان‪MM M‬ات العق‪MM M‬ل وحقيق‪MM M‬ة قدرت‪MM M‬ه على تحقي‪MM M‬ق‬
‫الطموح ‪MM‬ات ال ‪MM‬تي ُعلّقت علي ‪MM‬ه خالل مرحل ‪MM‬ة الحداث ‪MM‬ة‪ .‬وعلى الص ‪MM‬عيد الخ ‪MM‬ارجي‪،‬‬
‫أدى جش ‪MM‬ع الرأس ‪MM‬مالية‪ ،‬ونهبه ‪MM‬ا ل ‪MM‬ثروات الش ‪MM‬عوب‪ ،‬وفتكه ‪MM‬ا وتجويعه ‪MM‬ا للماليين –‬
‫فى الغ‪MM M‬الب – إلى رفض منتج الغ‪MM M‬رب الح‪MM M‬داثي بغث‪MM M‬ه وس‪MM M‬مينه‪ ،‬حيث لم يحق‪MM M‬ق‬
‫لمنك ‪MM‬وبي الع ‪MM‬الم أي ‪MM‬ة حداث ‪MM‬ة حقيقي ‪MM‬ة‪ ،‬فال أك ‪MM‬ثر من تغ ‪MM‬يرات ش ‪MM‬كلية أص ‪MM‬ابتهم‪ ،‬هي‬
‫أق‪MM M M‬رب للتش‪MM M M‬وهات منه‪MM M M‬ا إلى التغ‪MM M M‬يرات الحقيقي‪MM M M‬ة‪ .‬وك‪MM M M‬انت الب‪MM M M‬دائل فى الغ‪MM M M‬الب‬
‫مش ‪MM M‬روعات أص ‪MM M‬ولية تتعل ‪MM M‬ق بالماض ‪MM M‬ي حماي ‪MM M‬ة للهوي ‪MM M‬ة‪ ،‬فى ظ ‪MM M‬ل ه ‪MM M‬ذا الطغي ‪MM M‬ان‬
‫الحداثي‪.‬‬

‫كانت هذه النتائج بمثابة جرس إنذار لشطط الرأسمالية‪ ،‬حيث وجدت أن‬
‫المقوالت األيديولوجية التي تحركت تحت غطائها قد أصبحت قيد التهديد‪ ،‬بل‬
‫وغدت مرفوضة على نطاق واسع‪ ،‬مما حرك الكثيرين نحو نقدها إن لم يكن‬
‫نقضها‪ ،‬وقد احتل الفكر الماركسي مركز القلب في عمليتي النقد والنقض معاً‪،‬‬
‫فقد قام بتعرية تناقضات الرأسمالية وكشف عن وجهها القبيح‪ ،‬مؤكداً على‬
‫ضرورة الثورة عليها وتجاوزها‪ .‬وكانت حركات التحرر في العالم الثالث تعلن‬
‫هي أيضا رفضها لالستعمار ومقاومته بكافة الوسائل‪ ،‬رافضة الدور الذي‬
‫تمارسه الرأسمالية العالمية آنذاك‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫استش ‪MM‬عرت الرأس ‪MM‬مالية الخط ‪MM‬ر‪ ،‬وك ‪MM‬ان الب ‪MM‬د له ‪MM‬ا من إيج ‪MM‬اد ب ‪MM‬ديل بع ‪MM‬د أن‬
‫تراجعت مقوالت الحداثة التي كانت الحام‪M‬ل الفك‪M‬ري له‪M‬ا على م‪M‬دار ع‪M‬دة ق‪M‬رون‪،‬‬
‫فلم يع‪MM‬د بمكن‪MM‬ة الحداث‪MM‬ة المنهك‪MM‬ة أن تق‪MM‬دم الغط‪MM‬اء الالزم أو األيديولوجي‪MM‬ة الداعم‪MM‬ة‬
‫للرأس ‪MM‬مالية‪ ،‬فحوص ‪MM‬رت الرأس ‪MM‬مالية بعبء الحداث ‪MM‬ة‪ ،‬ولم يكن ثم ‪MM‬ة ب ‪MM‬د من إعالن‬
‫الث‪MM‬ورة على الحداث‪MM‬ة ومقوالته‪MM‬ا المركزي‪MM‬ة‪ ،‬ممثل‪MM‬ة فى الذاتي‪MM‬ة والعقالني‪MM‬ة والتق‪MM‬دم‪.‬‬
‫خاصة أن الش‪M‬عوب غ‪M‬ير الغربي‪M‬ة – بع‪M‬د رفض‪M‬ها للحداث‪M‬ة – أخ‪M‬ذت تس‪M‬لك المس‪M‬ار‬
‫الحداثي أمالً منها في تحقيق إنجاز يمكنها من بلوغ ما وصل إليه الغ‪MM‬رب‪ ،‬على‬
‫اعتب‪MM‬ار أن الحداث‪MM‬ة هي الطري‪MM‬ق الوحي‪MM‬د المت‪MM‬اح أمامه‪MM‬ا لمقاوم‪MM‬ة الهيمن‪MM‬ة الغربي‪MM‬ة‪،‬‬
‫معتبرين أنهم غير قادرين على مواجهة تلك الهيمنة إال باألدوات الغربية ذاتها‪.‬‬

‫ومن هنا جاءت ضرورة رفض الحداثة وإ عالن نهايتها أو تجاوزها؛‬


‫وبذلك يتم تقديم بديل الحداثة للداخل الغربي‪ ،‬وفى الوقت نفسه يتم قطع الطريق‬
‫على مستعمراته القديمة‪ ،‬والتي إن كانت قد حققت تحرراً سياسياً‪ ،‬فلم تستطع‬
‫بعد أن تحقق تحرراً موازياً على صعيد المنجز الثقافي‪ ،‬مما يعني أن مقوالت‬
‫الغرب حول تجاوز الحداثة ربما تصيب أتباعه فى العالم بحالة من االرتباك‪،‬‬
‫تجعله يحاول اللحاق بآخر مستجدات الغرب الثقافية‪ ،‬دون أن يضع فى اعتباره‬
‫أن ما ُيروج له الغرب هو لخدمة مصالحه باألساس‪ ،‬وبذلك يحاول العالم غير‬
‫الغربي – دون وعي منه ومسكوناً بفكرة الغرب المتقدم – أن يلحق بآخر‬
‫منجزات الغرب الثقافية‪ ،‬متجاوزاً مشروعه الحداثي الذي لم يكتمل بعد‪ ،‬بل‬
‫الذي لم يبدأ فى مناطق عديدة من العالم‪.‬‬

‫كان البديل األيديولوجي‪ ،‬الذي وجدت فيه الرأسمالية ضالتها لمواجهة‬


‫المتغيرات الداخلية والخارجية‪ ،‬هو ما أطلق عليه ما بعد الحداثة‪ ،‬والذي يرتكز‬
‫على نفي أسس الحداثة‪ ،‬معلناً نهاية اإلنسان وفشل العقالنية وانتهاءها‪ ،‬وعدم‬
‫اإليمان بالتقدم وما يترتب عليه من رؤية خطية للتاريخ‪ ،‬حيث تؤكد ما بعد‬
‫الحداثة على القطيعة في مسيرة التاريخ‪ .‬وعلى صعيد مقوالت رفض التقدم‬
‫‪4‬‬

‫وطرح تصور القطيعة فى مسار التاريخ‪ ،‬فإن نفي اإلنسان وإ عالن موته ومن‬
‫قبله موت اإلله يعني ضمناً أن فكرة التقدم ليست ذات محل‪ ،‬خاصة أن التقدم‬
‫كان يقوم على الحضور اإلنساني‪ ،‬وفى ظل غيابه لن يكون ثمة محل لفكرة‬
‫التقدم‪ ،‬بل نفيها هو النتاج المنطقي لنفي اإلنسان‪ ،‬ليصبح التاريخ عملية بدون‬
‫ذات‪ ،‬أي ثمة بنية من الشروط والمحددات المادية هي التي تتحكم في توجيه‬
‫حركة التاريخ وتعيين اتجاهه‪ ،‬وهي بنية خارجة عن إرادة اإلنسان‪.‬‬

‫وهذا التصور النافي للفعالية اإلنسانية‪ ،‬وبالتالي لفكرة التقدم‪ ،‬يضرب‬


‫التصور الخطي للتاريخ القائم على رسم مالمح للمستقبل والسعي لتحقيقها‪،‬‬
‫وهذا يعني‪ ،‬من بين ما يعنيه‪ ،‬إمكانية تجميد التاريخ عند لحظة الحاضر‪ ،‬والتي‬
‫تعني ضمناً لحظة تفوق الغربي على غيره من الثقافات‪ .‬ولذا يعمل خطاب‬
‫العولمة – آخر صيحة من صيحات الرأسمالية – المنبثق عن فلسفة ما بعد‬
‫الحداثة‪ ،‬على تقليص اإلحساس بالهوية المشتركة فى استهانته بالتاريخ‬
‫ِّ‬
‫المشكل للهوية‪ ،‬إلى الحاضر‬ ‫المشترك لألمة؛ لتحويل االهتمام من هذا التاريخ‬
‫تسيره قوانين السوق والتطلعات االستهالكية‪ .‬كما أن إلغاء الفعالية‬
‫الذي ّ‬
‫اإلنسانية يعني أن الحاجة أو الفعل البشري ليس هو المحرك للتاريخ‪ ،‬بل كما‬
‫أشار ألتوسير لوجود بنية خارجة عن اإلرادة اإلنسانية هي التي تقوم بدور‬
‫الفاعل‪ .‬فمع إعالن موت اإلله واإلنسان لم يعد هناك مركز مرجعي يتم‬
‫االستناد إليه‪ ،‬ويمكننا أن نستمد من خالله المعنى والداللة‪ ،‬ويجعلنا مطمئنين‬
‫لشرعية قراءاتنا وتفسيراتنا‪ .‬وفى ظل هذه الحالة السائلة تقوم الشركات متعدية‬
‫الجنسيات بممارسة دورها من خالل آلتها اإلعالمية من أجل توظيف تلك‬
‫الحالة لصالحها‪.‬‬

‫وتنشأ بالضرورة‪ M‬عن رفض األنساق الكبرى والفعالية اإلنسانية‬


‫واإليمان بالعقل وفكرة التقدم حالة من السيولة‪ ،‬وكان البد من تنظيرها‬
‫وتقديمها باعتبارها آخر مستحدثات الفكر اإلنساني‪ ،‬فكانت فلسفة التفكيك ما‬
‫بعد الحداثية‪ ،‬حيث أن المطلوب للرأسمالية العولمية هو عملية تسييل الكيانات‬
‫القديمة المتمثلة في الدولة القومية والمشروعات الوطنية والقضاء على الذاكرة‬
‫‪5‬‬

‫الوطنية للشعوب‪ ،‬وكذلك نقل الفعالية إلى كيانات جديدة بال مركز وطني‪ ،‬حيث‬
‫أن هذه المركزية تكلف الرأسمالية ما ال تريده‪ ،‬ممثالً فى مطالب عمالية داخل‬
‫دولها‪ ،‬ومطالب رعاية اجتماعية ال تريد أن تتحملها أو تساهم فيها‪ ،‬فمن خالل‬
‫إلغاء هذه المركزية القديمة سوف تتخلص من مسئولياتها االجتماعية‪ ،‬بل أتاح‬
‫لها ذلك أن تنال من الدول الراغبة فى االستثمار أن تذلل لها العقبات وتقدم لها‬
‫ما لم ُيقدم من قبل‪ ،‬وتصبح بذلك سيفاً مسلطاً على رقاب العمال‪ ،‬حيث أن أي‬
‫تململ عمالي فى مكان ما يمكن تجاوزه‪ ،‬سواء باستبدال العمال بغيرهم‪ ،‬أو من‬
‫خالل نقل فرع الشركة إلى مكان آخر يقبل بشروط الشركات العمالقة‪ ،‬بل‬
‫ويرحب بها أيضاً‪.‬‬

‫واقتضت الضرورة‪ M‬الترويجية أن تُطرح العولمة تحت الفتات الحياد‬


‫الموضوعي‪ ،‬ففي سياق النهايات الكثيرة التي أعلنتها ما بعد الحداثة‪ ،‬تم فى‬
‫عقد الستينيات اإلعالن عن نهاية األيديولوجيا‪ ،‬والتي وإ ن خفتت باحتدام‬
‫الصراعات األيديولوجية فى الستينيات‪ ،‬إال أنها عادت للظهور مجدداً إثر‬
‫سقوط جدار برلين‪ ،‬وتفكك االتحاد السوفييتي‪ ،‬والذي كان الممثل الرسمي‬
‫لأليديولوجية االشتراكية المناوئة لأليديولوجية الليبرالية‪ M‬الغربية‪ ،‬فظهرت‬
‫أطروحة "نهاية التاريخ" كإعالن وفاة لالشتراكية‪ ،‬رافعة فى اآلن ذاته شارة‬
‫النصر لأليديولوجية الليبرالية‪ ،‬باعتبارها آخر األيديولوجيات‪ ،‬والتي سيعقبها‬
‫تاريخ ال أيديولوجي تسيطر عليه الليبرالية‪ M‬الغربية بجناحيها الرأسمالي‬
‫والديمقراطي‪ ،‬وفقاً لما أكده فوكوياما فى أطروحته‪.‬‬

‫وإ ذا كان فوكوياما قد تطرق النتهاء الصراع األيديولوجي‪ ،‬فذلك كان‬


‫مالئماً للحظة إعالن النصر المتخيل على الغريم التقليدي‪ ،‬إال أنه ليس مطلوباً‬
‫ألن انتهاء الصراع بكليته يعني انتفاء العدو‪ .‬وهذا يعني أنه لن يكون ثمة‬
‫خصوم للعالم الغربي فى المستقبل‪ .‬وإ ذا كان األمر كذلك فإن الدول الغربية لم‬
‫تعد فى حاجة إلى تخصيص مبالغ هائلة للدفاع‪ ،‬وبالتالي سيغدو من غير‬
‫الممكن إقناع الناخب الغربي بضرورة الموافقة على ميزانية وزارات الدفاع‬
‫الباهظة‪ ،‬ولذا تلقفت أجهزة إعالمية وأخرى استخباراتية أطروحة صدام‬
‫‪6‬‬

‫الحضارات لهنتنجتون؛ ألنها جهات يعنيها استمرار التوترات فى العالم‪،‬‬


‫وترتبط مصالحها بتفجير بؤر الصراع لتبقى مصانعها تدفع للجيوش والشعوب‬
‫بمزيد من مخزون السالح‪ ،‬وراحت تلك الدوائر تروج ألطروحة الصدام‬
‫وتقدمها على أنها أحدث النظريات اإلستراتيجية فى إدارة األزمات على‬
‫المستوى الدولي‪ ،‬ولم تتعارض أطروحة هنتنجتون مع سابقتها لفوكوياما‪،‬‬
‫خاصة أن فوكوياما تحدث عن انتهاء الصراع بشكله األيديولوجي‪ ،‬فى الوقت‬
‫الذي تحدث فيه هنتنجتون عن صراع ذي صبغة حضاراتية‪.‬‬

‫أوالً‪ -‬أهداف الدراسة‪:‬‬

‫تسعى هذه الدراسة إلى تحديد األبعاد األيديولوجية التي تقوم عليها‬
‫ظاهرة العولمة‪ ،‬من خالل رد الظاهرة إلى مكوناتها األساسية‪ ،‬ثم عرض ما‬
‫يساهم به كل جانب فى تشكيل ما يمكن تسميته بأيديولوجية العولمة‪ ،‬خاصة أن‬
‫المروجين للعولمة يطرحون مقوالتهم باعتبارها أطروحات محايدة‪ ،‬فكان‬
‫الهدف المركزي لهذه الدراسة هو التأكيد على وجود بنية أيديولوجية تستند‬
‫إليها ظاهرة العولمة‪ ،‬وأن مروجي العولمة والمستفيدين منها يحاولون إخفاءها‪،‬‬
‫طمعاً منهم فى الترويج لكون الظاهرة حتماً تاريخياً اقتضته ظروف التطور‬
‫التكنولوجي‪ ،‬ويترتب على ذلك أن يقبلها العالم دون تخوف من كونها‬
‫أيديولوجية تخدم مصالح فئة معينة‪.‬‬

‫ثانياً‪ -‬أهمية الدراسة‪:‬‬

‫العولمة ظاهرة متشعبة‪ ،‬غطت مجاالت عديدة‪ ،‬كاالقتصاد والسياسة‬


‫والثقافة ‪ ..‬الخ‪ ،‬مما يجعلنا نؤكد أنه ما من حقل معرفي إال ويتناول ُبعداً أو‬
‫أكثر من أبعاد الظاهرة بالدراسة والبحث‪ .‬إال أن هذا التشعب فى الظاهرة‪،‬‬
‫وبالتالي اقتسامها بين الحقول المعرفية المتعددة‪ ،‬قد أدى إلى تقطيع الظاهرة‬
‫إلى كيانات جزئية‪ ،‬أدت – فى الغالب – إلى عدم إدراك الظاهرة فى كليتها‪،‬‬
‫‪7‬‬

‫فجاءت هذه الدراسة لتحاول – قدر الطاقة – أن تلم شتات الظاهرة العولمية‪،‬‬
‫سعياً منها لتقديم بنية مترابطة‪ ،‬تؤكد على ما بين هذه القطاعات المتعددة‬
‫لظاهرة العولمة من اتصال‪ ،‬موضحة ما يمثل المركز فى الظاهرة‪ ،‬وما يتوقف‬
‫غطاء ترويجيا للعولمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫دوره عند مجرد كونه‬

‫ثالثاً‪ -‬فرضيات الدراسة‪:‬‬

‫سعت هذه الدراسة إلى اختبار عدة فروض من أجل التحقق من مدى‬
‫صحتها‪ ،‬وهى كالتالي‪:‬‬

‫‪ -1‬أن العولمة ليست ظاهرة محايدة كما يروج لها الخطاب الغربى‪،‬‬
‫لكن ثمة أيديولوجية كامنة وراء الحياد الظاهرى‪ ،‬وما ذلك الحياد سوى أحد‬
‫أبعاد تلك األيديولوجية‪ ،‬وعامل مركزى فى عملية الترويج لها‪.‬‬

‫‪ -2‬أن العولمة فى أساسها ظاهرة اقتصادية‪ ،‬تمثل أعلى مراحل تطور‬


‫الرأسمالية الغربية‪ ،‬فإن لم يكن االقتصاد هو مظهرها الوحيد‪ ،‬إال أنه أبرز‬
‫جوانبها‪ ،‬وما الجوانب األخرى للعولمة سوى دعامات ساندة للتأكيد على ذلك‬
‫البعد االقتصادى‪.‬‬

‫‪ -3‬أن ما بعد الحداثة هي الغطاء األيديولوجي الذي التحفته الرأسمالية‬


‫فى صيغتها العولمية‪ ،‬حيث قامت ما بعد الحداثة بتقديم المبررات‪ M‬النظرية‬
‫الالزمة لدعم الخطاب العولمي‪ ،‬بعد أن استنفدت الحداثة ما لديها على مدى‬
‫عدة قرون‪.‬‬

‫‪ -4‬أنه إذا كانت العولمة تسهم بشكل كبير فى االنتقاص من سيادة‬


‫الدولة؛ إال أن ذلك يأتي فى سياق توظيف تاريخي لدور الدولة وفقا لما يخدم‬
‫مصالح الرأسمالية‪ .‬وأنه إذا كانت العولمة تهمش الدولة حالياً وتنتقص من‬
‫‪8‬‬

‫سيادتها‪ ،‬فربما دعاها الصالح الرأسمالي إلى تعظيم دور الدولة من جديد‪،‬‬
‫والتاريخ شاهد أساسي على ذلك‪.‬‬

‫رابعاً‪ -‬اإلطار الزمني والموضوعى للدراسة ‪:‬‬

‫تغطى هذه الدراسة فترة زمنية طويلة نسبياً‪ ،‬حيث تعرج على بدايات‬
‫ظاهرة العولمة من جذورها التى تفترض الدراسة أنها تتمثل فى بدايات العصر‬
‫الحديث فى أوروبا‪ ،‬فتغطى الدراسة فترة زمنية تقرب من الخمسة قرون‪.‬‬
‫خاصة أن الباحث تعرض للحداثة الغربية فى معرض تأصيله للظاهرة‬
‫وسع – نسبياً – من الدائرة الزمنية التي تغطيها هذه الدراسة‪.‬‬
‫العولمية‪ ،‬مما ّ‬
‫أما عن اإلطار الموضوعى للدراسة‪ ،‬فهو يتناول البنية األيديولوجية‬
‫لظاهرة العولمة‪ ،‬على اعتبار أن العولمة ليست ظاهرة محايدة كما يدعي‬
‫منظروها؛ لكنها ذات مغزى أيديولوجي‪ ،‬يسعى الغرب من ورائه للسيطرة على‬
‫العالم‪ ،‬من أجل تحقيق مصالحه على حساب غيره من الكيانات‪ .‬وإ ن كان‬
‫الغرب قد سعى خالل مراحل تاريخية معينة إلى تحقيق مصالحه عبر الغزو‬
‫واالستعمار‪ ،‬إال أن العولمة قد وفرت آليات جديدة للسيطرة على العالم‪ ،‬ومن‬
‫أبرز تلك اآلليات الشركات متعدية الجنسيات ‪ ،‬وشبكات المعلومات واألسواق‬
‫المالية‪ ،‬متحصنة فى ذلك بترسانة معرفية جاءت ما بعد الحداثة كمعبر رسمي‬
‫عنها‪.‬‬

‫خامساً‪ -‬منهج البحث ‪:‬‬

‫اعتمد الباحث فى هذه الدراسة على منهجين أساسين‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫‪ -‬المنهج التحليلي‪ :‬حيث عرض الباحث خالل الدراسة للعديد من‬


‫المفاهيم والموضوعات‪ ،‬نظراً لتشعب أطراف أيديولوجية العولمة‪ ،‬مما‬
‫استوجب التعرض لجذور المفاهيم واألفكار والخلفيات التي انطلقت منها‪،‬‬
‫‪9‬‬

‫واالرتباطات الكامنة بين تفرعاتها‪ ،‬حتى يتسنى للباحث اإللمام بتفاصيل‬


‫موضوعها ليستطيع تحديد مالمح الخطاب األيديولوجي لظاهرة العولمة‪.‬‬

‫‪ -‬المنهج النق دي‪ :‬ولم يكن التحلي‪MM‬ل وح‪MM‬ده كافياً لبل‪MM‬وغ الغاي‪MM‬ة من ه‪MM‬ذه الدراس‪MM‬ة‪،‬‬
‫ف‪MM‬رغم أهميت‪MM‬ه الك‪MM‬برى في إيض‪MM‬اح م‪MM‬ا تم التع‪MM‬رض ل‪MM‬ه‪ ،‬إال أن الرؤي‪MM‬ة النقدي‪MM‬ة هي‬
‫األس‪MM‬اس ‪ -‬من وجه‪MM‬ة نظ‪MM‬ر الب‪MM‬احث ‪ -‬في تلمس أط‪MM‬راف األيديولوجي‪MM‬ة‪ ،‬وربطه‪MM‬ا‬
‫في س‪MM M M‬ياق خط‪MM M M‬اب ش‪MM M M‬امل يجم‪MM M M‬ع االقتص‪MM M M‬ادي والفك‪MM M M‬ري والسياس‪MM M M‬ي في بني‪MM M M‬ة‬
‫أيديولوجية واح‪MM‬دة‪ .‬فح‪M‬اول الب‪MM‬احث باس‪MM‬تخدام المنهج النق‪MM‬دي القي‪M‬ام بعملي‪MM‬ة تش‪MM‬ريح‬
‫المكون ‪MM M‬ة له ‪MM M‬ا والمؤسس ‪MM M‬ة لبني ‪MM M‬ة‬
‫للظ ‪MM M‬اهرة العولمية‪ ،‬من خالل تحدي ‪MM M‬د العناص ‪MM M‬ر ُ‬
‫أي ‪MM M‬ديولوجيتها‪ ،‬وتحدي ‪MM M‬د العالق‪M M M‬ة بين جوانبه ‪MM M‬ا المختلف ‪MM M‬ة (االقتص ‪MM M‬ادية والفكري ‪MM M‬ة‬
‫والسياس‪MM M M‬ية)‪ ،‬م‪MM M M‬ع إب‪MM M M‬راز آلي‪MM M M‬ات األيديولوجي‪MM M M‬ة العولمي‪MM M M‬ة فى ص‪MM M M‬ناعة م‪MM M M‬واطن‬
‫اس‪M‬تهالكي‪ ،‬يمث‪M‬ل الم‪M‬واطن النم‪M‬وذجي لخدم‪M‬ة المص‪M‬الح الرأس‪M‬مالية‪ ،‬مس‪M‬تخدمة فى‬
‫ذل‪M‬ك آالته‪MM‬ا اإلعالمي‪MM‬ة بكاف‪M‬ة ص‪MM‬ورها وأش‪M‬كالها‪ .‬وتم التع‪MM‬رض لألطروح‪M‬ات ال‪MM‬تي‬
‫ك ‪MM‬انت بمثاب ‪MM‬ة مرتك ‪MM‬زات األيديولوجي ‪MM‬ة العولمي ‪MM‬ة‪ ،‬حيث تم التع ‪MM‬رض بالنق ‪MM‬د له ‪MM‬ذه‬
‫المقوالت الستيضاح حقيقة دورها في خدمة الرأسمالية العولمية‪.‬‬

‫سادساً‪ -‬خطة الدراسة‪:‬‬


‫الفصل األول‪ -‬الغرب والمفاهيم المؤسسة‪:‬‬

‫أوالً‪ -‬الغرب‪ :‬من الجهوي إلى الجيو ثقافي‬

‫ثانياً‪ -‬مفهوم األيديولوجيا‪.‬‬

‫ثالثاً‪ -‬مفهوم العولمة‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ -‬الركائز االقتصادية أليديولوجية العولمة‬

‫أوالً‪ -‬الرأسمالية‪ :‬المفهوم والسياق التاريخي‪.‬‬


‫‪10‬‬

‫ثانياً‪ -‬الرأسمالية العولمية‪.‬‬

‫ثالثاً‪ -‬الرأسمالية والتوظيف األيديولوجي لدور الدولة‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ -‬الركائز الفكرية أليديولوجية العولمة‬

‫أوالً‪ -‬الحداثة‪.‬‬

‫ثانياً‪ -‬ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫ثالثاً‪ -‬العولمة وما بعد الحداثة‪ ،‬جدلية العالقة‪.‬‬

‫رابعاً‪ -‬اإلعالم كجهاز أيديولوجي وصناعة المواطن ما بعد الحداثي‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ -‬األطروحات السياسية أليديولوجية العولمة‬

‫أوال‪ -‬فوكوياما والمغزى األيديولوجي ألطروحة نهاية التاريخ‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬أطروحة هنتنجتون وحقيقة الصراع‪ M‬الحضاري‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬نهاية التاريخ وصدام الحضارات‪ ،‬أطروحتان أليديولوجية عولمية‬


‫واحدة‪.‬‬

‫‪ -‬الخاتمة ونتائج الدراسة‪.‬‬


‫‪ -‬المراجع العربية واإلنجليزية‪.‬‬

You might also like