Professional Documents
Culture Documents
توفيق عطيفي
مدخل:
ارتبط ظهور سيكولوجية التعلم أساسا بنتائج السيكولوجيا العلمية التي بدأت مع فوندت
Wundtوأول مختبر للسيكولوجيا التجريبية بجامعة ليبزك بألمانيا سنة .1879وقد كان
الهدف من وراء ذلك هو فصل السيكولوجيا عن الفلسفة ليجعل منها علما قائما بذاته
موضوعه دراسة الوعي أو الشعور باستخدام المنهج التجريبي والتخلي عن
االستبطان L'introspectionالذي كان سائدا في المرحلة ما قبل العلمية.
وقد شكل هذا المشروع العلمي محور اهتمام العديد من العلماء أمثال إبنغهوسEbbinghaus
بألمانيا ووليام جيمس W. Jamesمن الواليات المتحدة األمريكية وغيرهم .من حيث
ظهرت العديد من المختبرات العلمية والمجالت المتخصصة التي ساهمت بدورها في هذا
المشروع العلمي .كما أثيرت العديد من النقاشات حول موضوع السيكولوجيا العلمية ،ليستقر
األمر أخيرا على اختيار ظاهرة التعلم اإلنساني .وقد تركت هذه النقاشات آثارها على مجمل
تاريخ سيكولوجية التعلم منذ القرن 19حتى اليوم ،مما أسفر عن ظهور اتجاهات مختلفة في
تصوراتها لهذه الظاهرة .تهتم سيكولوجية التعلم بدراسة النشاط التعلمي وشروطه وآلياته
وإذا كان التعلم خاصية مشتركة بين اإلنسان والحيوان معا فإن الفرق يكمن في نوعية هذا
التعلم وإمكانية تطوره ومدى ارتباطه بالعمليات العقلية العليا مثل التفكير والفهم واإلدراك.
فإذا كان التعلم عند الحيوان مرتبطا بحاجات أولية غريزية يتوقف عندها ،فإن التعلم عند
اإلنسان يرتبط بعمليات عقلية قابلة للتطور والنمو مدى الحياة .فما هو التعلم إذن؟ وماهي
شروطه؟ وما هي التوجهات النظرية لظاهرة التعلم؟
أوال :تعريف التعلم
التعريف اللغوي للتعلم :التعلم في اللغة العربية هو المصدر من فعل "تعلم" الذي يفيد علم نفسه بعلم .وتفيد
صيغة تفعل النشاط والحركة والفعل ،ومنه اشتقت عبارة "التعلمية" وهو علم تربوي مستحدث يدرس
التفاعالت التي تربط بين المعلم والمتعلم والمعرفة في إطار مجال مفاهيمي معين ،قصد إعانة الطفل على
امتالك المعرفة.
أما في اللغة الفرنسية فتقابل التعلم كلمة Apprentissageوهي مشتقة من اللغة الفرنسية القديمة
apprentisالتي تدل على الشخص الذي يتعلم مهنة معينة.
شروط التعلم
لكي يكون التعلم فعاال البد من توفر مجموعة من الشروط األساسية لضمان بداية جيدة وخلق رغبة متواصلة
للتعلم :ومن ضمن هذه الشروط نجد التحفيز واالنتباه.
تعتبر هذه النظريات نتاجا للدارسات واألبحاث التي أنجزت حول ظاهرة التعلم
بجوانبها المختلفة .واعتبارا للطبيعة المعقدة لهذه الظاهرة نجد أن كل نظرية قد
تناولت جانبا محددا من جوانب التعلم ،مثل الجانب البيولوجي والحسي حركي
أوالجانب العقلي والمعرفي أوالجانب االجتماعي والوجداني ،لتتكامل فيما بينها من
أجل تفسير آليات التعلم واالكتساب وتسليط الضوء على العوامل الفاعلة فيها .
ومن بين النظريات المعروفة في هذا المجال نجد النظرية السلوكية والنظرية
الجشطالتية والبنائية والمعرفية ونظرية التعلم االجتماعي والبنائية االجتماعية.
أوال – النظرية السلوكية:
تعتبر النظرية السلوكية تعبيرا عن التوجه العلمي للسيكولوجيا بشكل عام وسيكولوجية التعلم بشكل خاص،
حيث أجريت العديد من األبحاث والتجارب حول سلوك التعلم ،اقتداء بالمنهج التجريبي في البيولوجيا
والفيزيولوجيا والطبيعيات ،مما أعطى دفعة قوية للسلوكية المدرسية .وإذا كان السلوك هو الموضوع العلمي
المفضل لهذه األبحاث فإن ذلك راجع إلى خصائصه التالية:
-إمكانية مالحظة السلوك مباشرة وهو يجري في حينه؛
-إمكانية تحليل السلوك إلى أجزاء متعددة صغيرة؛
-إمكانية قياسه من حيث سرعة أداءه والمدة الزمنية التي يستغرقها ،ومدى تالؤمه معالوضعية
الجديدة؛
-إمكانية تغييره أو تعديله أو إطفائه؛
-إمكانية ضبط الشروط المحيطة التي تؤدي إلى ظهور السلوك ،وبالتالي إعادة خلقنفس الشروط.
لهذه األسباب وغيرها نفهم إلى حد ما مدى تشبث السيكولوجيا العلمية بموضوع السلوك وإصرار الباحثين
المنتمين إليها على جعله المحور الرئيسي لنظرية التعلم.
رواد النظرية السلوكية
من بين الرواد الذين أسهموا في بناء النظرية السلوكية نجد جون واطسون وبافلوف
وثورندايك وسكينر .ونظرا لتنوع األفكار والدراسات التي قدمها هؤالء الباحثين سيتم
التركيز على استعراض بعض النماذج من أجل توضيح األطروحات األساسية التي تتميز بها
النظرية السلوكية.
أ -جون واطسون John Watsonأصدر جون واطسون وهو تلميذ قديم لجون ديوي وباحث
سيكولوجي بجامعة شيكاغو كتابا بعنوان "مقدمة لعلم النفس المقارن" واعتبر فيه أن علم النفس
يعتمد على النهج التجريبي في دراسة السلوك والتحكم فيه .وفي مقابل ذلك ينتقد واطسون
بشدة النهج االستبطاني ويؤكد على ضرورة التخلي عن استخدام مفهوم الشعور الذي ذهب إليه
كل من فونت Wundtوديوي Deweyومجموعة من الباحثين في علم النفس ،ألن الحاالت
الشعورية تتطلب استبطان الفرد لحالته النفسية ،وهو ما ال يمكن أن يشكل موضوعا
لسيكولوجيا العلمية .وقد أكد واطسون من خالل أبحاثه التي نشرها في كتابه
السلوكية Behaviorismeسنة 1924أن تقدم علم النفس رهين بدراسة الظواهر الملموسة.
فمثال في دراستنا لالنفعال ينبغي أن نهتم حسب هذا التوجه بدراسة التغيرات الجسدية واإلفرازات
الهرمونية وأن نبتعد ما أمكن عن الحاالت الشعورية أو اإلحساس .كما ينفي واطسون وجود الصفات
الموروثة ويعطي أهمية كبرى لتأثيرات البيئة في تشكيل السلوك .فالقرد حسب واطسون هو نتاج لبيئته
االجتماعية .وفي هذا المعنى يقول ":أعطني مجموعة من األطفال وأنا أكون منهم الطبيب والمحامي،
والفنان ،والتاجر ،وحتى اللص والمتسول.
ب -إدوارد ثورندايك Edward Thorndike
في بداية القرن العشرين ظهر ثورندايك من جامعة هارفارد بانتقاداته ألعمال فوندت .كما قدم أطروحته
حول التعلم بالمحاولة والخطأ لدى الحيوان ،انطالقا من تجاربه الشهيرة حول القطط .يذهب ثورندايك إلى
أن التعلم هو قبل كل شيء سيرورة لتغيير السلوك المالحظ الذي ينتج عن تأكيد أو فك االرتباطات بين
المثيرات واالستجابات دون أن يتطلب ذلك أي نشاط ذهني للفرد .وبعبارة أخرى إن السلوك وتغييره حسب
ثورندايك هما نتاج لتأثير المحيطة فقط.
كما يعتبر ثورندايك أن التعلم ال يتم بالمالحظة والتأمل ،بل بالقيام بمجموعة من االستجابات الحركية
الخاطئة قبل أن يصل إلى السلوك الناجح الذي يتم من خالله تقوية االرتباطات مع المثيرات .إن حصول
التعلم كهدف ال يتم إال عبر التعديالت في السلوك بالمحاولة والخطأ ،وللتدليل على ذلك قام ثورندايك
بمجموعة من التجارب على الحيوانات استخلص منها مجموعة من القوانين في مجال التعلم.
ظهرت هذه النظرية في ألمانيا ) (1910باعتبارها تيارا معاصرا لسيكولوجية التعلم آنذاك ،وتسمى سيكولوجية الجشطالت
Gestalt psychologieوتعرف أيضا بسيكولوجية الشكل La psychologie de la formeعرفت هذه النظرية انتشارا
واسعا في أوروبا بفضل الدراسات التي أنجزها عدد من الباحثين بجامعة فرانكفورت أمثال Max Wertheimer-Khler-
Koffkaويرتيمر -كوهلر -كوفكا .ومفهوم الجشطالت يعني البنية الكلية أو الشكل الكلي ،وتذهب الجشطالتية إلى أنه من
الضروري أن ينظر إلى الظواهر في كليتها دون تجزيئ العناصر ،ألن كل جزء خارج البنية أو الشكل الكلي ال تصبح له أية
قيمة تذكر.
ومن المفاهيم المحورية في هذه النظرية نجد اإلدراك واالستبصار ،ويعتبر اإلدراك حجر الزاوية في التحليل الجشطالتي لفهم
كيفية حل المشكالت والشروط التي تتحكم في هذه العملية ،ويقصد باالستبصار Insightتلك اآللية الذهنية المرتبطة بعملية
اإلدراك والتعلم ،وقد أوالها الجشطالتيون أهمية كبيرة وميزوا في إطارها بين طريقتين:
-طريقة يقوم فيها الفرد المتعلم بسلوكات استكشافية أولية ليتعرف على ما تتضمنه الوضعية من خصائص وعالقات
وعناصر ...تتلوها فترة هدوء مؤقتة يداهم فيها الحل الفجائي ذهن الفرد -استبصار فجائي-
-طريقة يقوم فيها الفرد بمعالجة منهجية للموضوع ،بحيث يبدأ بفرز عناصر ومكونات بنيته الكلية لينتقل إلى بناء
خطوات تساعده على إيجاد حل للمشكلة ،ويحاول استكشاف العالقات الداخلية من خالل سلوكات منظمة تستبعد المحاوالت
العشوائية.
تتميز الجشطالتية عن السلوكية باألطروحة التالية:
إن السلوك اإلنساني ال يمكن أن يخضع لإلشراط الميكانيكي للمحيط الخارجي ألن نفس المنبه يمكن أن
يثير استجابات مختلفة من فرد آلخر ،والسبب في ذلك حسب هذه النظرية أن نفس المنبه يتم تمثله وتفسيره
بطرق مختلفة حسب األفراد .بمعنى آخر :إن إدراكنا لألشياء يخضع لتمثالتنا الذهنية والتفسيرات الخاصة
التي تعطى لهذه األشياء المدركة .فهذا التصور يقدم لنا نظرة أولية عن النماذج المعرفية والبنائية التي
ستسود الحقا في سيكولوجيا التربية ،بدءا من نهاية السبعينيات حتى اليوم .كما أنه سيؤثر على التطبيقات
التربوية وذلك بإثارة االنتباه إلى أهمية النشاط الفكري للمتعلم ،وهو ما يعبر عنه الرأي القائل":رأس منظم
خير من رأس مملوء".
وقد بينت سلسلة من التجارب الشهيرة بأن القرد الذي يواجه وضعية مشكلة لم يتصرف بالمحاولة والخطأ
فقط كما هو الشأن بالنسبة للنظرية السلوكية ،بل إن القرد سيمارس نشاطا ذهنيا على محيطه ،ويحول
المعطيات الخارجية إلى تصورات ذهنية ،فيتصور مجموعة من االرتباطات الممكنة بين العناصر
المتوفرة لديه .وسنعطي مثاال لبعض التجارب التي أجريت في هذا المجال وهي كالتالي:
فرضيات التعلم باالستبصار:
• المحاوالت العشوائية التي قام بها القرد ال تدل على إدراكه للعالقات بين عناصرالمجال.
• بعد إدراك العالقات بين عناصر المجال تم حل المشكلة من خالل إعادة تنظيم عناصر المجال وبالتالي
حصول االستبصار.
• إن إمكانية حصول االستبصار بناء على الخبرات السابقة أمر وارد ،لكن إمكانية حصوله بناء على
إدراك العالقات هو االستبصار الحقيقي.
• إن إمكانية انتقال االستبصار المحقق إلى مواقف مشابهة أمر وارد ،لكن هذا التعميم ليس آليا ،إذ البد من
تداخل العوامل الذاتية للكائن تبعا لنوعية الموقف.
قوانين التعلم في النظرية الجشطالتية
توصل الجشطالتيون إلى مجموعة من القوانين والشروط المتحكمة في تفسير عملية اإلدراك والتعلم نورد
منها ما يلي:
• قانون التشابه : Similaritéويعني التشابه في أشكال أو بنيات أو خصائص أشياء أو موضوعات
يساعد على إدراكها في وحدة متكاملة .وقد تكون هذه األشياء أو الموضوعات عبارة عن أحجام أو
أصوات أو ألوان أو أشكال هندسية ،كما قد يتم إدراكها بواسطة البصر أو السمع أواللمس.
• قانون التقارب أو التجاور : Proximitéإن تقارب األشياء أو األصوات ...يعتبر من العوامل المساعدة
على إدراكها ،فإذا رسمنا مجموعة من النقط المتقاربة على ورقة فإن تلك النقط المتقاربة تميل إلى تكوين
وحدات متكاملة ومستقلة عن غيرها..
• قانون استكمال البنية أو اإلغالق :تظهر األشكال مكتملة رغم عدم اكتمالها ،فالفرد أمام األشياء غير
الكاملة في أشكالها أو في معانيها يميل في الغالب إلى تكميلها ،خصوصا على مستوى إدراكه لها ،وذلك
ليعطيها صورة تامة مثال :أشكال هندسية مستطيل غير مكتمل ،مربع ،مثلت ،دوائر...
• قانون االستمرارية :ويعتبر من القوانين التي تفسر عملية اإلدراك كما يحددها الجشطالتيون فنحن نميل إلى إدراك العناصر
أو األشياء الموجهة نحو اتجاه معين على أنها ستستمر فيه بشكل ال نهائي مثال :خط مستقيم المحدود ،وخط مستقيم يحد من
جهة واحدة".
وبالرغم من التقدم الذي أحرزه علم النفس في تفسير ظاهرة التعلم واكتساب المعارف ال زالت هناك العديد من االستفهامات
المطروحة حول مدى نجاح النظريات السلوكية والجشطالتية في فهم هذه الظاهرة ،ولعل ما يؤاخذه البعض على هذه النظريات
هو افتقارها إلى النظرة االرتقائية التي تجمع بين النضج أو النمو من جانب ،وبين العوامل البيئية من جانب آخر ،وهو ما
ستحاول النظريات األخرى أن تتداركه.
ثالثا -النظرية البنائية أو التكوينية:
يعتبر بياجي أحد رواد النظرية البنائية ،وقد كان متخصصا في علوم األحياء بجامعةجنيف Geneveلكنه
أفرد جزءا من عمله لدراسة تطور الذكاء اإلنساني منذ الوالدة حتى ىسن الرشد .حدد بياجي نظريته كمسلك
ثالث بين السلوكية والجشطالتية ،فمن مؤاخذاته على السلوكية أنها ال تأخذ بعين االعتبار النشاط المعرفي
للفرد في تفاعالته البيئة .
أمامؤاخذاته على الجشطالتية فهي أنها ال تأخذ بعين االعتبار النشاط المعرفي للفرد إال في حينه أي في
تفاعالته هنا واآلن dans l'ici et le maintenant de l'interactionدون االهتمام بتكوين البنيات
المعرفية أو شروط تحول هذه البنيات .كما تحدث عن مراحل مختلفة للنموالمعرفي وتطور الذكاء ،يمكن من
خاللها تحديد القدرات المعرفية الخاصة بكل مرحلة ،فالتعلم حسب بياجي ليس عملية ميكانيكية تقوم على
أساس تخزين المعلومات في الذاكرة ،وإنما هوعملية نمائية ديناميكية تهدف إلى تحقيق التوازن من خالل آلية
االستيعاب والتالؤم ،وبذلك قدم بياجي إسهامين أساسيين للحقل التربوي:
-اإلسهام األول :هو أننا ال يمكن أن نتعلم كل شيء في أي سن كان.
-اإلسهام الثاني :يتجلى في تقديم إطار نظري سماه بنظرية التوازن Théoried'équilibrationوالتي
تسمح بفهم الكيفية التدريجية التي يكتسب بها الفرد مختلف القدرات والكفايات المعرفية التي تمكنه من
االرتقاء من مرحلة إلى أخرى.
ماذا يقصد بياجي بالتوازن إذن؟
يعتبر التوازن بمثابة الدافع الكامن وراء كل نشاط فكري للقضاء على حالة التوتروالقلق التي يعيشها الفرد
نتيجة تغيرات ظهرت في المحيط "اإلنسان عدو ما يجهل" وأنتجت لدى الفرد حاجة إلى المعرفة والفهم
لتفسير ما طرأ من تغيرات على المحيط .وكل حالة توازن تليها حالة من الالتوازن التي تتطلب حركية جديدة
للعودة إلى التوازن .وال يتم ذلك إال من خالل عملية االستيعاب والتالؤم .ماذا يقصد بياجي باالستيعاب؟
االستيعاب Assimilationهو آلية سيكولوجية تمكن من استدماج المعطيات الخارجية وإدخالها للذهن
حتى يتم فهمها وتفسيرها ،طبقا لما يتضمنه من بنيات فكرية متنوعة ،لتخرج بالتالي في شكل معرفة.
أما التالؤم Accommodationفيقصد به تلك اآللية التي تهدف إلى تحقيق نوع من التوافق بين المتعلم
وشكل المعرفة المطلوبة ،وال يتم ذلك إال من خالل تعديل أو تفسير أنشطته الفكرية حتى يصبح في مستوى
فهم وتفسير ما يروج في المحيط الخارجي ،وهذا الفهم والتوافق يؤدي إلى حصول نوع من التوازن الجديد .
وقد حاول بياجي أن يرصد عملية التعلم من خالل مختلف التحوالت األساسية التي تطرأ على تفكير الفرد في
مختلف مراحل العمر ،حيث اعتبر أن لكل مرحلة خصائصها في التعامل مع موضوع المعرفة ،وهي تتحدد
بطبيعة المرحلة النمائية التي يعيشها الفرد ،وبطبيعة اإلمكانات واألدوات الحسية والحركية والفكرية المتاحة
في كل مرحلة.
من هنا نالحظ بأن التعلم عند بياجي هو عملية وظيفية تخضع لنوع من الديالكتيك فهي تبدأ من حالة الالتوازن
أو التوتر والقلق المعرفي ،أي اإلحساس بمشكلة معينة ومحاولة اإلجابة عنها لتحقيق نوع من التوازن ،ثم تبدأ
مشكلة أخرى ليظهر معها قلق معرفي جديد وحالة من الالتوازن ،تعقبها أيضا محاوالت جديدة لتحقيق
التوازن.
وبناء على ذلك قسم بياجي النمو المعرفي إلى أربعة مراحل توازيها أربعة أنماط من التفكير وهي كالتالي:
المرحلة الحسية الحركية La phase sensori-motriceوتبدأ من الوالدة حتى السنة الثانية ،وهي مرحلة
نمائية تظهر فيها تنسيقات بين الحواس الحركات،وهو ما يساعد الوليد على تشكيل البذور الجنينية للصور
الذهنية التي تمكن من االشتغال التطبيقي والتمركز حول الذات .ففي هذه المرحلة يمكن مالحظة الوليد في
المهد وهو يكرر مجموعة من الحركات مثل :لمس أشياء قريبة منه ،والضغط عليها بقوة أو إدخالها في فمه
ومحاولة تحسسها ،فهو يعالج كل الموضوعات المقدمة إليه معالجة حسية حركية.
-المرحلة ما قبل اإلجرائية :La phase preoperatoire
تبدأ من السنة الثانية أو الثالثة حتى السنة السادسة أو السابعة من عمر الطفل .وهي فترة نمو تظهر
فيها خصائص التمركز حول الذات سيكولوجيا.
مثال الشمس تقول لي صباح الخير ،والقمر يرافقني ويمشي معي في كل مكان ...فكل األشياء فيها
روح بالنسبة إليه وتكلمه وهو ما يعني ظهور النزعة اإلحيائية لديه ،كما أنه يعتبر نفسه محور العالم
وكل األشياء تدور في فلكه ،يضاف إلى ذلك مجموعة من األدوات االستيعابية الجديدة مثل اللعب
الرمزي والحركي ،والتواصل المتنوع مع اآلخرين.
في هذه المرحلة يبقى الطفل مرتبطا بما يراه ويحسه وال يستطيع بناء مفاهيم معقدة أو الدخول في
متاهات منطقية بعيدة ،ويستمر الطفل على هذه الحال حتى حدود السنة السابعة من عمره لينتقل إلى
مرحلة أخرى
-المرحلة اإلجرائية أو المشخصة La phase concrete
تبدأ هذه المرحلة من سن السابعة أو الثامنة حتى سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة سنة .زيادة على
القدرات المكتسبة لدى الطفل سابقا ،تضاف قدرات جديدة تتمثل أساسا في بروز عمليات ذهنية قابلة للعكس
تمكن الطفل من القيام بنشاط ما ،وبعكسه ذهنيا للعودة إلى نقطة االنطالق ،وليتوصل في النهاية إلى فكرة
االحتفاظ بخصائص األشياء ،مثل الطول ،الحجم ،الوزن ،وهي فكرة كانت منعدمة في المراحل السابقة.
فبالنسبة لفكرة االحتفاظ مثال :بعد تجربة إفراغ كوب كبير من الماء في ثالثة أكواب صغيرة يعرف الطفل
ذهنيا أن الكمية لم تتغير بتغير اإلناء ألنه يستطيع ذهنيا أن يعيد السائل من األكواب الثالثة إلى الكوب
األصلي ،عكس المرحلة ما قبل اإلجرائية التي يميل فيها الطفل الى تفضيل األكواب الثالثة على الكوب
األكبر ،اعتقادا منه أنه يحتوي على كمية أكبر من السائل.
ومن األدوات االستيعابية التي تسمح للطفل بتكيف أكبر مع محيطه جملة من العمليات الذهنية من بينها
القدرة على الترتيب ،القدرة على التصنيف ،القدرة على القيام بالعمليات الزمانية والمكانية المختلفة.
-المرحلة الصورية المجردة La phase formelle
تبدأ هذه المرحلة من سن الثانية عشرة تقريبا ،وتتميز بطغيان التجريد والتعميم الذي يميز عالم المراهق،.
حيث يبدأ في تجاوز العالم المحسوس وبناء الفرضيات واستنتاج المبادئ ،بل أكثر من هذا فهو قادر على
بناء قضايا وفرضيات أخرى انطالقا من استنتاجات سابقة .وهذاما يؤهله لمعرفة القوانين والنظم
والنظريات والمعادالت والقياسات والنماذج وما يمكنه من تحقيق نموذجه االفتراضي.
وقد تركت بنائية بياجي آثارا هامة في حقل التربية خالل فترة الثمانينيات ،حيث ساهمت إلى جانب نظريات
معالجة المعلومة في إثارة انتباه المهتمين بحقل التربية إلى السيرورات الفاعلة في التعلم لدى الفرد .وفي
مقابل ذلك تركت النظرية البنائية عند بياجي العديد من الثغرات التي أثارت انتقادات صارمة من طرف
زمالء بياجي وغيرهم من رواد التيار المعرفي ،وذلك بسبب إهمال دور التفاعالت االجتماعية في التعلم
واعتبار هذا األخير رهينا بالنضج البيولوجي ،دون االنفتاح على األبعاد المختلفة للتعلم عند االنسان.