Professional Documents
Culture Documents
مقاربة تداولية للقصيدة التفاعلية - النقائض أنموذجا
مقاربة تداولية للقصيدة التفاعلية - النقائض أنموذجا
،وإذا كان منطلق التفاعل أو التواصل يقدم من طرف املتكلم في اتجاه املتلقي ،بوصفه
املسؤول عن اإلشارات والرموز التي يتم عقدها في اإلرسالية وفقا لكفاءاته وقواعده
12
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
الخاصة ،فإنه يتحقق كذلك في صورته العكسية ،فليس املرسل وحده من يقوم بإنشاء
خطابه وإنما يشاركه متلقيه يقينا منا أن املرسل وهو ينش ئ الخطاب يستدعي متلقيا قادرا
على أن يتلقى خطابه ،فيشترط األول التأثير في الثاني ويدعوه لالستجابة .وهذه االستجابة
هي ما تحقق نجاعة الفعل التواصلي.
وإذا بحثنا عن العالقة بين التداولية والقصيدة النقائضية فنجد أن هذا النوع من
القصائد لها هدف وقصد تواصلي وبعد وظيفي ذو طابع نفعي ،نتعامل معها على افتراض
مسبق أنها تقوم بين ذاتين يتبادالن األدوار واملواقع ،وأن عمليات إنتاج الخطاب واستقباله
يجمعها سياق تفاعلي محدد ومقام تواصلي معين ؛ أي أن األطراف املتخاطبة حاضرة في
زمان ومكان محددين يتم من خالله طرح املقاصد واألهداف ،ونستطيع أن نمثل للفعل
التواصلي للقصيدة التفاعلية باملخطط التالي:
املتلقي (الشاعر الثاني ) الهدف (اإلنجاز القصيدة املرسل(الشاعر األول)
املرجع (سياق املوقف) ،القناة (املشافهة /الكتابة). املشترك ،بناء /هدم )
األبعاد التداولية للقصيدة التفاعلية:
-1البعد األول املقصدية :
شكلت املقصدية الحجر األساس للمنهج التداولي فهي ترتبط بمقصد املتكلم ال تفهم
من التراكيب بل على ما تحمله هذه التراكيب أو ما يحاول السامع « أن ُيفهمه للمتلقي من
خالل أقواله اللغوية »( ،)4فيحاول املتلقي التعرف على مقصدية املتكلم من القول نفسه
« كون أن العملية التواصلية القصدية تفرض طرفين إنسانين مرسل ومتلق ،وأن املقاصد
أنواع :مقصد أولي يتجلى في املعتقدات والرغبات التي تكون لدى املتكلم ،ومقصد ثانوي
يكون فيما يعرفه املتلقي من مقاصد املتكلم ،ومقصد ثالث ينعكس في هدف املتكلم الذي
يريد أن يجعل املتلقي يعترف بأنه يريد منه جوابا مالئما»( ، )5وإن لم يفهم القصد فال
ينجح الفعل وال يحصل تواصل ،ويمكننا أن نسمي ما يعتمده الشاعر من استراتيجيات في
بناء قصيدته من صور وإيقاع وحدث « محورا أفقيا وهذا املحور غير قار ولكنه يتشكل
في هيآت مختلفة بحسب املقصدية – االجتماعية -التي وراءه وهذه العلة األولى املتحكمة
هي ما يسميه بعض الفالسفة باملقصدية وإن شئنا دعوناه محورا عموديا»( )6وأن« توجيه
14
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
فقط باستخراج مدلول العبارة؛ بل يتطلب جملة من العمليات األخرى التي تبنى على
االستنباط واستخراج املعنى املستلزم أو املضمر القابع خلف العبارة.
يتكىء الحجاج( (Argumentationعلى مقوالت رئيسية ،يجمع منظروه ّأنه عمل حواري
ينهض على فكرة استمالة املتلقي " "Adherenceعبر الخطاب ،أو هو حوار من أجل حصول
الوفاق بين األطراف املتحاورة ،أو من أجل حصول التسليم لرأي بعيد عن االعتباطية و
اآلمعقول( ،)9فيعتبر الحجاج ممارسة دفاعية يستعملها املتكلم في مواقف معينة يكون فيها
« عارضا ألفكاره ومعتقداته أو مفندا محاورا أو مقنعا»( ،)10وقد حدد "بيرمان" مجموعة
من املقومات والخصائص التي يقوم عليها الخطاب الحجاجي وينفرد بها على غيره من
الخطابات األخرى وهي (:)11
ّ
-1أنه يتوجه إلى مستمع
ّ
-2أنه ُيعبر عنه بلغة طبيعية
-3مسلماته ال تعدو أو تكون احتمالية
-4ال يفتقر تناميه -إلى ضرورة منطقية بمعنى الكلمة
-5نتائجه ملزمة.
أي ّ
أن التفاعل الحجاجي ظاهرة تواصلية يتم بواسطتها توجيه معتقدات اآلخر سواء
بإشراكه في الرأي أو إخباره على تعديله وفق ما يقتضيه املقام ،فاملتكلم يحاول بناء خطابه
وفق معطيات معينة تالئم كفاءاته املعرفية واملنطقية والبالغية والتداولية تمكنه من
تحقيق فعله اإلقناعي وهدفه التواصلي فاإلقناع « شرط موجود بالقوة لدى املرسل بشكل
ّ
سابق عن اإلرسال الحواري ،ويتمظهر في اإلرسالية بمكوناتها الظاهرة واملضمرة ،إال أن
َ
تمظهر هذا الشرط لدى املتلقي يكون بعديا وذلك بواسطة التأثيرات االستجابية سواء
باإلذعان أو الرفض أو غيرهما»( ،)12ثم يسعى املتلقي بدوره « إلى إعادة بناء قصد املتكلم
عبر تأويل كالمه ،وبالتالي يمكن أن ينجح في ذلك أو يخفق»( ،)13فأي اختالف في وجهات
النظر واألفكار والقضايا يتم ضمن بنية تواصلية حجاجية ويكون اإلقناع حسب الفعل
فمثال إذ حدث االقتناع لدى املتلقي حقق الحجاج نجاعته املطلوبة.
16
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
َ ُ إن املَ َ
املراغة ٌب من املَوت ّ َ
وت ال َّبد نائل ْه ِ هار
ِ
فه ْل ٌ
أحد يا ابن َ
َ َ َ ُ ُ ّ َ َ َ َّ
حاول ْه
بنفسك فانظر كيف أنت م ِ
َ
ِ ذاه ٌب ُ
فإني أنا املوت ال ِذي هو ِ ِ
فيجيبه جرير(:)18
َ ُ َّ َ َ ْ َ َّ
هر ش ًيئا ُيط ِاول ْه هر ٌ
خالد فاجئني ِبم ِثل الد ِهر ي ِفني املوت والد ُ ِ
أنا َّ
الد ُ ُ
فعامل التوجيه (فعل األمر) هو ما طبع هذا الشعر بالطابع االزدواجي التفاعلي بين ذاتين«
مؤهلتين ثقافيا ]...[ ،تمتلك الحجج والبراهين امتالكا مزدوجا يتشكل على هيئة ثنائيات
مركبة »( ،)19وهو ما يضمن نجاح العملية التحاورية في موقف تواصلي معين ،فكان املقام
أن املتلقي« خصائصه معروفة لدى املرسل مقام سجال يعتمد ثنائية [هدم/بناء]؛ أي ّ
ّ
مسبقا إن لم يحاجج إال من سبق أن فقه موقفه وعرف خصائصه بل واستحضرها في
ّ ذهنه قبل اإلنتاج ّ ،
ألن من تأثيرات املرسل إليه أنه ينحو مسار الحجاج إلى جانب آخر،
أن الخطاب موجه إليه بالذات فقد وعليه فهو مرسل مخصوص ،وتكمن خصوصيته في ّ
يؤيد املرسل بدليل أو أدلة حجاجية تارة ،وقد يغفلها تارة أخرى » ( ،)20فيلعب املتلقي
دورا مهما في عملية إنشاء الخطاب ،فالشاعر يستدعي املتلقي املوجه إليه ثم يبني خطابه
وفق هذا املتلقي فيكون قارئا جيدا لكل ما يدور من حوله(عقيدة ،نسب انتماء ،ظروف
نفسية اجتماعية سياسية ،وبكل ما له عالقة باألمور الفكرية والسلوكية) ليجعل منها
مكونات جوهرية يحتج بها أمام متلقيه ،فتتدخل الكفاءة التداولية في بناء الخطاب«سواء
في اختيار املقدمات أو في توزيع الحجج أو في انتقاء الخواتم [ ]...تكفل للباث وصل املقدمات
بمستتبعاتها والنتائج بأسبابها واملواقف بخلفياتها ،واملتلقي فكرة تسيطر على الباث يحاول ِ
بكل الحيل النفاذ إلى مناطق تفكيره وعوالم شعوره ليقنعه بغاية الخطاب»( ،)21وهذا ما
طرحه " طه عبد الرحمن" باسم " الحجاج التقويمي" وذلك للوصول إلى الهدف الذي
يرمي إليه الخطاب.
اتخذت النقائض الشعرية من (الفخر /الهجاء) بوصفهما نسقين متناقضين ،مدخال
مهما لبناء هذه التجربة السجالية التي تقوم على الهدم؛أي التقابل والتناظر بالتناقض،
فربطت هذه التجربة موضوعاتها بأنساق معرفية معينة فكانت أكثر األنساق تداوال ما َ
ارتبط باألمورالفكرية كاملذاهب الدينية واالنقسامات الحزبية واملفاخرات القبلية والنظم
18
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
أدوات تساعد املتكلم على بناء خطابه الحجاجي ،حيث تمنح الخطاب سمة التأثير في اآلخر،
سواء تعلق هذا التأثير ،بالتأثير االنفعالي بإثارة األحاسيس واملشاعر ،أم التأثير الفعلي-
يمس بعض السلوكات واألفعال كتغيير املعتقد مثال أو للقيام بفعل ماُ ،
فتعد العملي -الذي ّ
كل املقومات األدبية والجمالية في القصيدة غايات يروم من خاللها الشاعر التأثير في املتلقي
وإقناعه بغرضه الحجاجي.
أن خطاب النقائض حوار سجالي يهدف من خالله الشاعر األول طرح قضية ما ّ
ثم وبما ّ
يدعو الشاعر الثاني مشاركته فيها ،اكتسب هذا الشعر السمة الجدلية التي تقام بين طرفين
يتجادالن حول مجموعة األفكار واآلراء ،فيصبح الشاعر األول املدعي -لقضية ما ثم يقوم
بالتدليل لها فيعتمد على جملة من الحجج ليثبتها ويؤكدها ،ويكون الشاعر الثاني -
املعترض -على القضية فيقوم بدحضها ونقضها وبناء وتأسيس خطابه على أنقاضها
لتتبادل األدوار وليصبح بدوره املدعي واآلخر املعترض ،فلجأ الشاعران معا إلى مجموعة من
األدلة اللغوية يحاول كل شاعر بواسطتها التدليل لقضيته محاوال إقناع خصمه بها (متلقيه
املقصود) أوال ثم إقناع الجمهور الحاضر واملعاصر له ،ثم املتلقي عامة لكل قارئ لها.
ما يلفتنا للوهلة األولى من القراءة وجود بعض الخصائص البارزة للقصائد ال يستطيع
القارئ تجاوزها؛ بل تشكل ظاهرة البد من أن يجد لها تسويغا وتأويال ذات بعد تداولي
وداللي له صلة وثيقة بمقصدية أراد الشاعر إثباتها سواء ما تعلق بالجانب العقائدي أو
النفس ي أو االجتماعي أو الثقافي أو السياس ي ،وكان االعتماد على األدوات اللغوية بمثابة «
فينظم الخطاب الشعري قوالب لها أدوارها التي تنظم العالقات بين الحجج والنتائج»(ُ ،)24
وفق نسق لغوي معين وضمن سياقات بوصفها افتراضات مسبقة وخلفيات معرفية
مشتركة تحقق التواصل بين الطرفين وتضمن سير الحوار اإلقناعي وفق سيرورة تواصلية
حجاجية.
-1التكرار:
وكانت أول هذه التقنيات هو االستعمال املكثف لظاهرة التكرار التي شكلت ملمحا بارزا
ومهيمنا بتشكالته املختلفة نحاول من خالله الولوج إلى عالم القصيدة باحثين فيه عن
أهم الدالالت التي بثها الشاعر من خالل اعتماده املكثف على دوال ومدلوالت محددة تبدو
20
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
اتخذ من "الهجاء" وسيلة للهجوم والدفاع فانقسمت املضامين التكرارية إلى اثنين كل
شاعر يحتج لعواطفه األول "للفخر" والثاني" للهجاء":
الفخر :يعتمد الشاعر على تكرار دوال ومضامين دالة على ثقافة القوة
واالستعالء.
الهجاء :يعتمد الشاعر على تكرار دوال ومضامين دالة على القذف
والسب والتهكم للسخرية.
يستعمل الشاعران هذين النسقين استعماال حجاجيا يحاول كل شاعر إقناع خصمه عبر
ذلك الكم املتراكم واملكثف من القضايا التي تتعلق بإثبات املقصد الذي أراده سواء أن
ً
فضاء ذهنيا مشتركا بينهما، احتج لـ (القيم أو الوقائع أو األيام أو الحقائق) وهي ما تمثل
ومن خالل هذا املشترك يستطيع الشاعر الثاني أن يعارض دعوة الشاعر األول أو أن
يؤيدها ،فيحاول الشاعران بواسطة التكرار ترسيخ ثقافة املعارضة التي تقوم على النقض،
لكل منهما منطلقه األساس ي فأراد " الفرزدق" بواسطة الفخر أن يجسد ثقافة الوالء التي
ظهر الذات في علوها واستطالتها ،محاوال ُ
تمثل عالقة االتصال مع "نحن" ضد اآلخر أين ي ِ
إقناع خصمه بمعاني [القوة ،الغلبة] فنجده يكرر هذه املعاني ويصدح بها في كل قصيدة
محتجا لقوته الذاتية وملكانته االجتماعية جاعال منها حجة سلطوية يمارس من خاللها
سلطته على خصمه.
ولعل أول ما نلمحه من العناصر املكررة حضور ضمائر "املتكلم واملخاطب" بشكل ّ
مكثف داخل بنية القصيدة ،وشكل تكرار" أنا /الجماعية "نحن" عند "الفرزدق" قيمة
حجاجية أراد من خاللها إقناع "جرير" بشرعية قضية" النسب" التي كانت من أهم النظم
ُ
االجتماعية التي تقرتها الثقافة العربية آنذاك والتي تسعى إلى ترسيخها في أشعارها ،فكان
على الشاعر لزاما أن ينخرط مع "نحن" ليجسد انتماءه ومكانته االجتماعية باعتباره أحد
وأن ال قيمة لألنا خارج الجماعة ،فوجد "الفرزدق" في هذا االنتماء حجة سلطويةأفرادهاّ ،
يفتخر بها على "جرير" ،فأراد من تكراره لهذا الفخر ترسيخ فكرة االنتماء وعراقة نسبه
بث من خاللها مقصدية التفاوت الطبقي (القوة /الضعف) ،ونجد "الفرزدق" يكرر في
الفخر مجموعة من القيم اإلنسانية النبيلة معتمدا في ذلك على املعجم
22
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
ص َع َة َّالذي َغ َ
وصع َ
َ َ َ َ َ
مر الب َ
حارا أت ْه ُجو باألق ِار ِع وابن ليلى
َ َ ََ َ ُ َ َ
بالك َواظم ()29 أس ًيرا وال أجدافنا ثل أ ِس َيرنا وما َع ِلم األقوام ِم
ََ َ َ َ ََ ُ َ ُ َ َ َ َ
األ ْح َي ُاء ْ
أن َي ْح ِملوا َد ًما أناخ إلى أجداثنا ك ُّل غارم ِإذا ع ِجز
َ ُ ُ َّ َ ْ َ ُّ َ ظلوم َإلينا ف ُ َ ّ َ ُ
كل ظ ِال ِم ويهرب ِمنا جهده راره ترى كل م ٍ
َ َ َ ُ ََ َ َ َ ُّ َْ ُ َ
مل املغارم إذا أثق َل األعناق ح تل األ ْس َرى ول ِكن ن ُفك ُهم فال نق
2-1تكرار الفخر بالقبيلة :يجسد الفخر بالقبيلة فكرة "االنتماء"« فالقبيلة من الرموز
املشتركة تتفق حول أهميتها كل العرب يؤمنون جميعا بقداستها إذ بها يتمسك العربي
باسمها يحارب ويهادن ويعقد األحالف وينقضها ،فإذا أراد أحدهم إقناع املتلقي بفكرة ما
احتاج أن يحرك في ذاته قداسة هذا الرمز»( ،)30فكانت القبيلة آنذاك رمزا للسلطة
السياسية واالجتماعية ورمزا للحماية وااللتجاء ،فالشاعر يحمل القبيلة مجموعة من
القيم والدالالت النفسية والروحية واالجتماعية املرتبطة بالبطولة والتحدي والقوة ومن
ُ
خاللها تجسد فاعلية األنا ،فنجد الشاعر يتداول كثيرا من الوقائع التاريخية ،فيكتسب
الفخر بالقبيلة مشروعية اإلقناع عندما تتطابق هذه األحداث مع الواقع فتغدو مسلمة
يحتج بها ويكررها متى شاء ،وجعل"الفرزدق"من تكرار"النموذج الفخري"حجة سلطوية
ضد "جرير" مثبتا بها املكانة االجتماعية وقضية "االنتماء والنسب" ،باإلضافة إلى املكانة
الثقافية التي تتمثل في وظيفة كونه شاعرا اختارته القبيلة ليكون لسانها واملدافع عنها
كقوله (: )31
وائم
ُ َ ُُ َ ْ َ َ َفلو ُك ْن َت ُ
منهم لم ت ِع ْب ِمدح ِتي ُله ْم ِ
ولكن ِحمار وشيه بالق ِ
ُ َ َ ُ َ نك ّأني َأنا ُ َ ََ ُ َ
ند امل َواسم ابن َها وراحل َها املعروف ع منعت ت ِم ًيما ِم ِ
َ َ َ َ ُ ُ َ
مار امل َح ِار ِمميم وامل َحامي َو َر َاءها إذا أ ْسل َم الجاني ِذ
أنا ابن ت ٍ
3-1تكرار الهجاء:
قامت تجربة النقائض على الهجاء وفق سياقي تفاعلي سجالي ،لهذا عمد الشاعران في
كثير من القصائد على تداول وتكرير "الهجاء" ،وتشبيهه مرة بالسهم وتارة بالكأس املرة،
وتارة باملوت وتارة بالنار والوقود وتارة ّ
بالسم وتارة بالحرب ،مما يعتمد على مبدإ اإلثارة
واالستفزاز ،فيفخر الشاعر بملكته الشعرية ومقدرته على القول وإشعال نار الحروب
24
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
ليؤسس بها خطابا إقناعيا ويقيم بها تواصال حجاجيا مع اآلخر يحتج بها في عالقته
التفاعلية السجالية التي تقوم على مبدإ النقض والنفي.
يقول الفرزدق في هذا املعنى (:)32
حت َ وض ْ الل ْيل ما َ ُ ُ ُ ّ َُ ولو ٌت َ
لس ِار نجوم ِ رمى بلؤم بني كلي ٍب
الن َه ِار س ُل ْؤ ُم ُه ْم َ
وض َح ّ َّ
لدن َ ْ َ َّ َ ُ ُ
بنو كلي ٍب ولو لبس النهار
حار َ َّ َ َ ُ َ ُ دو َع ُ ْ
يغ ُ
ليطلب حاجة إال ب ِ زيز بني كليب وما
ويقول أيضا (:)33
ض َابافر َع اله َوال َج َبلي ّالذي َ َ َ ُّ
مر الث َريا بنائل ق َ
ِ وليست ِ
َ َّ َّ َ َ ُ
الرغ َابا
أتطلب يا حمار ببني كليب ..........اللهاميم ِ
ُ
الس َ فقئية ّ ُ ّ َ
بابا وتعد ُل بامل ِ ِ ِ كليب
وتعدل دارما ببني ٍ
أيت ُله اضطر َابا أتعدل َحومتي َببني ُك َليب إذا َب ْحري َ ُ
ِ ر
كعبا َ
ورثت وال ِكالبا ولم تزن الفوارس من نمير وال َ
ٍ
ّ
حظائرها الخبيثة والزرابا ولكن قد ورثت بني كليب
وطرح "جرير" في خطابه مجموعة من القيم السلبية ونسبها إلى اآلخر"الفرزدق" ،مكررا مجموعة
من الدوال حيث ال تخلو قصيدة واحدة منها (مجاشع ،كير ،القين ،جعثن) ،وشكلت هذه
الدوال البنية أو النسق الداللي الكلي التي بنى عليها "جرير" خطابه التفاعلي مع
"الفرزدق" ،وأقام بها محاورته الشعرية ليهدم ويعارض بها خطاب "الفرزدق" ،يقول
"جرير" مكررا بعض املوضوعات ليهدم بها فخر "الفرزدق" وينقض حججه ودعواه (:)34
َْ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ نوار َف َ
زدق ل ْم ُيول ِد ض ْح َت القيون فليت الفر تقو ُل ُ
َ ْ َ َ َ َ ْ
دت ول َيت َك لم تش َه ِد والر َم ِاح ش ِه
ّ َ َ
وقالت ِب ِذي حوم ٍل ِ
وعدل من ُ َ َ َ َ َ ُ
الح َمم األس َود ِ ٍ زدق بالكل َبتين وفاز الفر
فس ِد
َ َ ُ ْ لج ّد َك َ
أكي َار ُه فر ّقع ََ
وأص ِلح متاعك ال ت ِ
َ َ ْ َ
ووسع لكير َك في املق َعد
ّ الق َ
دوم ْ
وأد ِن العالة وأد ِن
ويقول مكررا املعنى نفسه :
26
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
إذا فاللغة أو الكالم بحسب هذه النظرية لم يصبح مجرد «مظهرا لسانيا يقف عند
دور تسمية األشياء ووصفها والكشف عن مضمونها؛ بل الكالم عملية اتصالية به ُينشأ
الكون ويتجدد معناه ،إذ يتمثل جوهره األساس ي في عملية تأويل العالم وفهمه على وجهه
الصحيح (» ،)40أي أن وراء كل تفاعل أو تبادل حواري نسق اجتماعي يسيطر ويوجه.
السياق التفاعلي وإنجاز الفعل الكالمي:
يعد إنجاز الفعل ممارسة إجرائية ُيسند للمتكلم الدور األساس ي لتوقيعه داخل مواقف
وسياقات ،يتم من خاللها تحديد األهداف واملقاصد التي يتم توجيهها إلى الطرف الذي
يشاركه الحوار أو الحديث ،مع تعيين الفعل املشترك بينهما ومنها يستمد كل طرف سلطته
في إحداث التفاعل والتواصل مع الغير.
َ
يعد السياق التداولي أو التفاعلي من أهم الركائز التي تضمن للفعل الكالمي تحققه إما
ّ
بالنجاح أو الفشل ،فالفعل الكالمي ال تتحدد إنجازيته إال ضمن وضعية تواصلية تحدد
طبيعة العالقة بين األطراف املتفاعلة أو الذوات املتخاطبة ّ
ألن املرامي واملقاصد التواصلية
ال تعتمد«على الداللة اللسانية للقول ،بل ينطلق منها ويتجاوزها بتشغيل كل أنواع
املقدمات واملؤشرات والقرائن السياقية »( ،)41فطرح "سيرل" إشكالية أساسية هي العالقة
بين القول والعالم أو بين القول واإلنسان ،وبحث عن اآلثار التداولية للملفوظ الواحد في
سياقات مختلفة فربط نفس امللفوظ بإنجازات متباينة فعبارة « صباح الخير بالنسبة
ليبين كيف أن املتكلم حين قال صباح الخير لشخص ما ،لم يقصد لسورل قول استعمل ّ
ّ
بهذا التعبير معناه الداللي ،وإنما كان قصده إلى التحية أو محاولة الدخول في تواصل مع
أن العناصر السياقية تساهم في الغير» ( ، )42وقد ُتستعمل لتؤدي قصدا آخرا؛ لذلك وجد ّ
ُ
ضبط التفاعل من طرف املتكلم أوال حيث يختار االستراتيجيات الخطابية التي توفي
بمقاصده ،وتساعد فيما بعد املتلقي على التأويل والوصول إلى املعنى املقصود ،فكل ما
يحدث قبل انطالق التفاعل من مواضعات تداولية تساهم إسهاما كبيرا في إنتاج بنية
معينة لحظة إنجاز الفعل الكالمي ،يبحث من خاللها املتلقي على املقاصد واألفعال املنجزة.
ومن خالل أفعال الكالم نتعرف على مقاصد املتكلمين العملية والقيم الفعلية لألقوال
28
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
ُ ُ
املنطوقات اآلدائية ) :(performativeالتي تنجز بها األفعال؛ أي تؤدى بها أعمال أثناء
نطقها ،حيث يقترن فيها النطق أو القول بأداء الفعل أو إنجازه ،وهي – لذلك – ال توصف
ّ
بكذب أو صدق وإنما تكون – بحسب شروط معينة – موفقة األداء أو غير موفقة(،)45
وبين "أوستين" كيف تنجز األفعال باألقوال فأخرجها من األداء اإلخباري ويمكننا بواسطتها ّ
أن« ننجز وعدا،أو تصريحا،أو زواجا ،أو تعميدا ،أو طالقا إلى غير ذلك من األفعال التي ْ
يقترن فيها القول بإنجاز الفعل »(.)46
َ
ولقد ق ِبل نقاد األدب فكرة اإلنجازية بوصفها« أحد األشياء التي تساعد على تمييز
أن اإلنجازية –باختصار- وأن املنطوق األدبي مثل اإلنجازي؛ أي ّ
خصائص الخطاب األدبيّ ،
ُ
تركز االنتباه على استخدام اللغة بوصفها نشاطا وصناعة للعالم [ ،]...وتساعدنا على أن
نفكر في األدب بوصفه فعال أو حدثا ،وليس مقوالت زائفة وتافهة ،ولكي يأخذ موقعه بين
أفعال اللغة التي تحول العالم خالقة لألشياء التي تسميها»( ،)47فنجد أن اإلنجاز األدبي
يرتبط كثيرا باألفعال الكالمية التعبيرية وخاصة الخطاب الشعري ،ألن هذا النوع من
األفعال الكالمية يتساوق مع طبيعة املوقف فالشعري ،فالشعر« األفق الذي يكشف فيه
اإلنسان عن نفسه ،يفجر فيه رؤيته للوجود ورغبته العميقة في االتصال باألشياء
واالنفعال عنها في نفس اآلن وخارج العالم وكل الحدود التي تحول دون مغامرة الذات
وإلحاحها على تخطي الزمان واملكان»( ،)48فيصبح الفعل التعبيري في الغالب فضاء للكشف
عن التجارب واملعاناة والتعبير عن أهواء النفس والتفجر بما ضاقت به النفس ،فالفعل
الكالمي التعبيري يرتبط ويتبلور بحسب الغرض أو املقصد الذي يود الشاعر التعبير عنه،
فيستخدم ضمير املتكلم الذي يعكس انطباعات األنا أو نحن لإلخبار والتعبير عن حال األنا
والجماعة ،فللغة في الشعر وظيفة تأثيرية جمالية سواء ما يتعلق منها بالجانب االنفعالي
الذي يثير الدهشة ويحرك العواطف ،أو وظيفة عملية تثير إنجاز سلوك معين مثل سل
السخائم والعفو أو إثارة الحماس أو التحريض أو ،...وقد نبه كثير من النقاد القدامى كـ
"ابن طباطبا""،حازم القرطاجني إلى ذلك وربطوا بين الشعر والوظيفة بوصفه قادرا على
التأثير(االنفعال) والتوجيه(التغيير).
30
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
32
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
34
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
الهوامش:
جورج يول :التداولية ،تر :قص ي العتابي ،دار األمان،الدار العربيةللعلوم والناشرون ، ()1
لبنان،2010،ص.19
( )2آن روبول ،جاك موشالر:التداولية اليوم علم جديد في التواصل ،تر:سيف الدين دغفوس ومحمد
الشيباني ،املنظمة العربية للترجمة ،ط ،1بيروت،2003،ص.53
( )3سعيد يقطين :انفتاح النص الروائي ،النص السياق،املركز الثقافي العربي ،ط ،3الدار البيضاء،
،2006ص.134
نعيمة السعدية :في إنتاج النص وتأويله -مقاربة ابستيمولوجية ،-حوليات املخبر،ع،3 ()4
بسكرة ،2005،ص.94
( )5محمد مفتاح :تحليل الخطاب الشعري ،استراتيجية التناص ،ط ،3املركز الثقافي العربي ،الدار
البيضاء ،1992،ص.164
( )6املرجع نفسه ،ص.163
ينظر :صاحب رشيد موس ى وحسين عمران محمد ،معلقة عنترة (قراءة تداولية) ،املؤتمر الدولي ()7
( )14باشا العيادي :فن املناظرة في األدب العربي دراسة أسلوبية تداولية ،كنوز املعرفة للنشر والتوزيع
،األردن ،ط ،2014 ،1ص .55
محمد الولي :الحجاج مدخل نظري ،حافظ إسماعيلي العلوي :الحجاج مفهومه ()15
36
مجلّة
المدوّنة ر .د.م.د-ISSN 2437-0819 :رقم اإليداع القانوني2014-6068:
االختالف،ط،1الجزائر،2003،ص.155
مسعود صحراوي :التداولية عند العلماء العرب ،دراسة تداولية لظاهرة األفعال الكالمية في ()39
( )41عبد السالم عشير :عندما نتواصل نغير ،مقاربة تداولية معرفية آلليات التواصل والحجاج،
إفريقيا الشرق ،الدار البيضاء ،ط ،2006 ، 1ص.55، 54
املرجع نفسه ،ص.102 ()42
( )43عبد الهادي ابن ظافر الشهري :استراتيجيات الخطاب ،ص.44 ،43
( )44محمد نظيف :الحوار وخصائص التفاعل التواصلي ،إفريقيا الشرق ،الدار البيضاء ،ط،2010 ،1
ص.48
( )45املرجع نفسه ،ص.69
( )46ينظر :علي محمود حجي الصراف :في البرجماتية ،األفعال اإلنجازية في العربية املعاصرة دراسة
داللية ومعجم سياقي مكتبة اآلداب ،القاهرة ،ط ، 2010 ،1ص.30
()47جوناثانكلر :مدخل إلى النظرية األدبية ،تر ،مصطفى بيومي عبد السالم ،املشروع القومي للترجمة
،القاهرة 2003 ،ص.135
( )48علي آيت أوشان :السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة ،دار الثقافة للنشر والتوزيع،
الدار البيضاء ،ط ،2000 1ص.133
( )49جمال بندحمان:األنساق الذهنية في الخطاب الشعري ،الشعب واالنسجام ،رؤية للنشر والتوزيع،
ط.262، 1،2011
أدونيس :كالم البدايات ،دار اآلداب ،بيروت ،ط ،1989 ،1ص.88 ()50
( )52ينظر :طه عبد الرحمن :التواصل والحجاج ،دار الثقافة للنشر والتوزيع ،الدار البيضاء ،ط1
،2000،ص.16
( )53عبد الهادي بن ظافر الشهري :استراتيجيات الخطاب ،ص.325، 324
( )54املرجع نفسه ،ص.159
رحيمة شيتر :تداولية النص الشعري ، ،دار الكتاب الحديث ،القاهرة ،ط 2016 ،1ص.113 ()55
عبد هللا الغذامي :النقد الثقافي ،قراءة في األنساق الثقافية العربية ،املركز الثقافي العربي ،الدار ()56
38