Professional Documents
Culture Documents
الملخص :يهدف هذا المقال إلى إبراز الترابط الشديد بين البالغة العربية القديمة
والتداولية المعاصرة ،وذلك من خالل الكشف عن بعض اهتمامات الطرفين ،مثل االهتمام
بالطريقة الضمنية التي يمكن أن يأتي عليها المعنى في الخطاب .فإذا كانت وظيفة التداولية
تتمثل في دراسة الظاهرة اللغوية التي تحدث بين المتكلم والمستمع في عملية التخاطب ،إلى
جانب تتبع الجوانب الضمنية للمعنى التي يمكن أن تخرج بها هذه العملية ،فنحن سنعمل في
هذا المقال على تحديد هذه الجوانب في البالغة العربية خاصة عند ابن األثير ،مع بيان أهم
الظواهر التي يتجلى فيها المعنى الضمني عنده ،مثل ظاهرة االلتفات والكناية والتعريض.
الكلمات المفتاحية :التداولية ،البالغة العربية ،المعنى الضمني ،الكناية.
67
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
68
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
69
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
70
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
األثير في كتابه "المثل السائر" وعرفه بقوله " :وحقيقته مأخوذة من التفات اإلنسان
عن يمينه وشماله ،فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا وكذلك يكون هذا النوع من
الكالم خاصة ،ألنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة ،كاالنتقال من خطاب
حاضر إلى غائب أو من خطاب غائب إلى حاضر ،أو من فعل ماض
إلى مستقبل ،أو من مستقبل إلى ماض" .5فمن خالل هذا التعريف يمكن لنا أن
نقول أن االلتفات يسعى إلى التنويع في الضمائر وأزمنة األفعال الخاصة بالخطاب
وذلك كله من أجل أن يتفاعل القارئ مع هذا الخطاب ويستجيب له ،إال أنه في كثير
من األحيان ما يؤدي هذا التنوع في الضمائر واألزمنة إلى عدم وضوح المعنى
وجالئه وهذا ما سنجده من خالل األمثلة التي أوردها ابن األثير من القرآن الكريم.
يقسم ابن األثير االلتفات إلى ثالثة أقسام وهي:
القسم األول :في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة.
القسم الثاني :في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل األمر ،وعن الفعل
الماضي إلى فعل األمر.
القسم الثالث :في اإلخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل
بالماضي .6مع العلم أن القسم األول خاص بااللتفات في الضمائر أما القسم الثاني
والثالث فهما خاصان بااللتفات في األزمنة ،حيث يمكن لهذا التنوع في الضمائر
واألزمنة من إنتاج المعنى الضمني في الخطاب ،كما هو مبين فيما يلي:
-1-1التنويع في الضمائر باعتبارها أقواال مضمرة:
إن التنويع في الضمائر يسمح للمتكلم بتبليغ معاني ضمنية مختلفة يتعذر عليه
التصريح بها ،ألن هذه الضمائر "من وجهة نظر الممارسة التداولية ،ال تثبت في
داللتها على مرجع معين ،بل يجد المرسل أن داللتها في األصل ال تفي بالتعبير عن
71
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
قصده تماما كما يريد ،لذلك يلجأ ،أحيانا ،إلى التالعب بهذا النظام واخراج هذه الدوال
عن مدلوالتها األصل 7".ولعل هذه الطريقة تخلق في المتلقي التشويق ليكشف بنفسه
عن هذه المعاني ،ومثال ذلك:
الرجوع من الغيبة إلى الخطاب في قوله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة
َّاك
َّاك َن ْعُب ُد واي َ الر ِح ِيم َمِل ِك َي ْوِم ّ
الدْي ِن إي َ الر ْح َم ِن َّ
ين َّ ِ ِ
العالَم َ
ب َ الح ْم ُد هلل َر ّ
( َ
ض ِ
وب ِ اه ِدنا الص ارطَ المستَِقيم ِ ِ
الم ْغ ُ
ت َعلَْيه ْم َغْير َ ذين أَْن َع ْم َ
ط الّ َ
ص َار َ ُْ َ َّ ين ْ َ َن ْستَع ُ
ين). ِ َعلَْي ِه ْم والَ
الضال َ
ّ
حيث يظهر المعنى الضمني للتنوع في الضمائر في هذه السورة ،من خالل
جهل المتلقي لمرجعية الضمير فيها حيث نالحظ كيف انتقل في هذه السورة من
الر ِح ِيم َملِك
الر ْح َم ِن ّين ّ
ِ
العالَم َ
ب َ (الح ْم ُد هلل َر ّالغيبة في قوله سبحانه وتعالىَ :
ين ِ َي ْوِم ّ
الد ِ
اك َن ْستَع ُاك َن ْعُب ُد واّي َين) إلى الخطاب في قوله سبحانه وتعالى ( ّإي َ
ض ِ
وب َعَلْي ِه ْم ت َعَلْي ِه ْم َغ ِ ص ار َ ِط المستَِقيم ِ اه ِدَنا
الم ْغ ُ
ير َ ين أَْن َع ْم َ
ط الّذ َ َ الص َار َ ُ ْ َ
ّ ْ
ين) مع العلم أنه استعمل في األول ضمير الغائب "هو" ثم استعمل في والَ ّ ِ
الضال َ
الثاني ضمير الحاضر "أنت" ،والمتلقي في هذه الحالة يكون في حيرة وتردد ما إذا
كان المخاطب في قوله تعالى هو ضمير المخاطب أو ضمير الغائب .فباإلضافة
إلى المضمرات واالفتراضات المسبقة التي تناولها ديكرو ،تضيف أوريكيوني
المضمرات في الضمائر االشارية حيث يتجلى المضمر فيها من خالل االلتباس
والغموض في المرجع ففي السورة السابقة مثال ،ال يظهر المتكلم بشكل واضح في
الخطاب إنما استيعابه يستند إلى مقام الكالم .تقول أوريكيوني" :وكاألشكال الكالمية
األخرى الضمائر تستند لمواضع خارج-لسانية وليس لتعابيرها األصلية".8
72
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
ومما يدخل في هذا النوع أيضا الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس،
ال
ان َفقَ َاء و ِه َي ُد َخ ٌ وذلك من مثل قوله سبحانه وتعالى ( :ثَُّم استَوى إِلَى السم ِ
َّ ْ
ض اْئتِيا طَوعا أو ُكرها قَالَتَا أَتَْينا طَائِ ِعين فَقَضاه َّن سْبع سماواتٍ لَهَا ولأل َْر ِ
َ َ ََ َ َ ُ َ َ ًْ ًْ َ
ظا الدْنيا بِمصابِيح ِ
وح ْف ً ِفي يومْي ِن وأَوحى ِفي ُك ِل سم ٍ
اء ّ َ َ َ َ َّم َ
وزّيَنا الس َ
اء أ َْم َرَها َ ََ َْ َْ َ
العلِيم) [ فصلت .]11.12.إذ تم االنتقال هنا كذلك من خطاب الع ِزيز َ
ِ ِ
َذل َك تَ ْقد ُير َ
الغيبة في قوله تعالى " استوى"" ،فقال" " ،أوحى" باستعمال ضمير الغائب "هو" ،إلى
خطاب النفس في قوله تعالى "زّينا" باستعمال ضمير الحاضر "نحن".
ومن هذا النوع كذلك الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الجماعة ومثال
ِ َعُب ُد اّل ِذي فَ َ
(وما ِلي الَ أ ْ
ط َرنِي وِالَْيه تُْر َج ُع َ
ون) [يس]22. ذلك قوله سبحانه وتعالىَ :
حيث نالحظ من خالل هذه اآلية الكريمة كيف جاء في األول خطاب النفس في قوله
"ال أعبد" باستعمال الضمير "أنا" ثم انتقل بعد ذلك إلى خطاب الجماعة في قوله
"ترجعون" باستعمال الضمير "أنتم" وهو ضمير الجمع ،فمرجع الضمير في هذه اآلية
غير ثابت يت اروح ما بين ضمير الجمع والمفرد األمر الذي يؤدي إلى اإلضمار
فيها. االضمار إلى يؤدي فيها.......................
ومن التنويع في الضمائر كذلك نجد عند ابن األثير الرجوع من الخطاب إلى الغيبة
دون وتَقَطَّ ُعوا
فاعُب ِ أمةً و ِ
اح َدةً وأََنا َرُّب ُك ْم ْ ُمتُ ُك ْم َّ َ
ومثال ذلك قوله تعالىِ ِ َّ ( :
إن َهذه أ ّ
ون) [ األنباء ]93.92.حيث تم االنتقال هنا من أَمرُهم َبْيَنهم ُك ٌّل إَلْيَنا ر ِ
اج ُع َ َ ُْ َْ ْ
ون" باستعمال الضمير "أنتم" وهو ضميراعُب ُد ِ
ُمتُ ُك ْم ""َ ،رُّب ُك ْم"" ،فَ ْ
الخطاب في قوله " أ َّ
ون" باستعمال الضمير "هم". الحاضر ،إلى الغيبة في قوله "أَمرُهم َبْيَنهم"" ،ر ِ
اج َع َ ُْ َ َْ
نالحظ إذن ،كيف أن االنتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن خالل الخطاب إلى
الغيبة ،يصطحب معه تغيي ار في الضمائر ،ونحن نعلم بأنه "يقوم الضمير في الوحدة
73
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
الكالمية بإحالة الداللة إلى مرجعه '' 9إال أن هذا التغيير في الضمائر قد يؤدي
إلى شعور السامع بإشكال وتردد حول مرجعية الضمير أثناء انتقاله من ضمير الى
آخر و''إذا تردد الضمير بين مرجعين كالهما صالح له ينشأ عن ذلك معنيان
مختلفان للوحدة الكالمية '' ،10مما ينجر عنه تعدد وغموض في المعنى ،حيث ال
يتبين عنده ما إذا كان المتكلم في الخطاب ضمير الغائب أم ضمير المتكلم.
يرى ابن األثير أن القول المضمر في ظاهرة االلتفات في الضمائر ،يظهر من
خالل التشعب في المعاني والذي ينتجه تنويع الضمائر فيقول في هذا الخصوص
"فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب الستعمال هذا النوع من الكالم ال يجري على وتيرة
واحدة ،وانما هو م قصور على العناية بالمعنى المقصود ،وذلك المعنى يتشعب شعبا
11
فهذه المعاني كثيرة ال تنحصر ،وانما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه"
المتشعبة تحمل أغراضا مضمرة تستنتج من خالل السياق .ولعل المثال الذي رأيناه
ال
ان فَقَ َ سابقا لدليل عما قلناه وهو قوله تعالى ( :ثُم استَوى إلَى السم ِ
اء و ِه َي ُد َخ ٌ َّ َ ْ
اتض اْئتِيا طَوعا أو ُكرها قَالَتَا أَتَْيَنا طَائِ ِعين فَقَضاه َّن سْبع سماو ٍ لَهَا ولأل َْر ِ
َ َ ََ َ َ ُ َ ًْ ًْ َ
الدنيا بِمصابِْيح ِ ِفي يومْي ِن وأَوحى ٍفي ُك ِل سم ٍ
وح ْفظًا اء ُّ َ َ َ َ َّم َ
وزّيَنا الس َ
اء أ َْم َرَها َ ََ َْ َْ َ
العلِ ِيم) [ فصلت]12.11. الع ِز ِ
يز َ
ِ ِ
َذل َك تَ ْقدْي ُر َ
فالقارئ يكون في أول هذا المثال مع ضمير الغائب ،و يتابع أحداثا وأفعاال قام
بها فاعل آخر في قوله :استوى ،قال ،أوحى ،وفجأة يجد نفسه مع ضمير الحاضر
"نحن" في قوله" :زينا" ،مع العلم أن الضميرين "هو" و"نحن" يخصان معنيا واحدا هو
اهلل تعالى ،ألن اهلل عز وجل هو الذي استوى ،وقال ،وأوحى ،وزين السماء كذلك
واستنتاج هذا المعنى يكون مرهونا بمساعدة سياق الخطاب .ولزيادة التوضيح نرسم
المخطط التالي:
74
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
75
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
76
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
النشور الذي يعاد فيه إحياء الموتى يوم الحساب .ولزيادة التوضيح نمثل المثالين في
مخطط:
االفتراض المسبق
(أمر ربي بالقسط)
االفتراض المسبق:
إثارة الرياح للسحاب ،نزول
الغيث ،احياء األرض.
77
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
13
ونحن في هذا المقام أمام مجموعة من أزمنة الفعل تختلف حسب كمرجع ".
اختالف مقاصد المتكلم في خطاب واحد ،مما ينتج عن ذلك اختالفا في المعنى ولكي
يستطيع المتلقي الوصول إلى هذا المعنى المقصود ،لزم عليه معرفة قصد المتكلم
وكل ما يحيط بمقام الخطاب ،ألن االختيار المتنوع لألزمنة يتوقف على هاتين
النقطتين .تقول أوريكيوني ":في كل دائرة من الحاضر /الماضي /المستقبل،
االختيار يتم حسب مختلف المحاور الشكلية التي دون تعلق بالعالمة اإلشارية
بالمعنى الدقيق ألن هذا االختيار ليس محددا بكيفية آلية بواسطة المعطيات المادية
لوضعية فعل القول – تصب في اتجاه ما سنسميه بكيفية أكثر اتساعا الذاتية –
اللغوية ،ألنها تستهدف الطريقة (جد ذاتية ) التي يأمل المرسل وضع إجرائها".14
-2المعنى الكنائي:
نجد إلى جانب االلتفات كذلك الكناية ،هذا األسلوب الذي يعتمد عليه البالغيون
القدامى في التعبير عن أغراضهم بطريقة تلميحية غير مباشرة ،ألن المعنى الناتج
من هذه التقنية ال يدل عليه ظاهر اللفظ ،وانما يستنبط من خالل سياق التخاطب.
قال الزركشي " :وهي عند أهل البيان أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني
ورديفه فال يذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه
في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليال عليه ،فيدل على المراد من طريق أولى".15
تعرض ابن األثير إلى الكناية في "المثل السائر" ووجد أن الكثير من علماء
البيان يخلطون بينهما وبي ن التعريض وذلك نظ ار لتشابههما الكبير ،ومن أجل ذلك
وضع حدودا بين المصطلحين فأعطى لكل واحد منهما مفهوما خاصا به ،فالكناية
عندهم هي "كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز
بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز والدليل على ذلك أن الكناية في أصل
78
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
الوضع أن تتكلم بشيء وتريد غيره ،يقال كنيت بكذا من كذا ،فهي تدل على ما
تكلمت به وعلى ما أردته في غيره" .16وعلى هذا األساس نجد أن الكناية عند ابن
األثير ،تجسد المعنى الضمني الذي اهتمت به التداولية كونها تمثل تلفظنا بشيء
وارادة شيئا آخر ،وهذا الشيء المتلفظ به له عالقة بالذي نريده كقولنا " شخص
كثير الرماد" فنحن تلفظنا بالقول "كثير الرماد" ولكن المعنى المراد هو أنه كثير الكرم
والعطاء والجود ،فنالحظ أن "كثير الرماد" له عالقة بكثير الكرم والعطاء ،ذلك أن
كثرة الكرم والعطاء تقتضيان كثرة الطبخ ،وكثرة الطبخ تقتضي كثرة الضيوف.
أما التعريض فيعرفه ابن األثير بقوله " :هو اللفظ الدال على الشيء من طريق
المفهوم بالموضع الحقيقي والمجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير
الطلب :واهلل إني لمحتاج ،وليس في يدي شيء وأنا عريان والبرد قد أذاني ،فإن هذا
وأشباهه تعريض بالطلب وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب ال حقيقة وال
17
وهذا معناه أن التعريض يفهم من سياق مجازا ،وانما دل عليه من طريق المفهوم"
الكالم فهو ال يشير مباشرة إلى المراد ،وانما يلمح إليه.
وبتجسيد الكناية والتعريض للمعنى الضمني في الخطاب ،نجد أن التعريض
عند ابن األثير درجة من المعنى الكنائي ،وأن الكناية تمثل االفتراض المسبق في
حين يمثل التعريض القول المضمر حيث قال " :والتعريض أخفى من الكناية ،ألن
داللة الكناية لفظية وضعية من جهة المجاز ،وداللة التعريض من جهة المفهوم ال
بالوضع الحقيقي وال المجازي وانما سمي التعريض تعريضا ألن المعنى فيه يفهم من
عرضه وعرض كل شيء جانبه .واعلم أن الكناية تشمل اللفظ المفرد والمركب معا
فتأتي على هذا تارة وعلى هذا تارة أخرى ،وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب
وال يأتي في اللفظة المفردة البتة والدليل على ذلك أنه ال يفهم المعنى فيه من جهة
79
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
الحقيقة ،وال من جهة المجاز ،وانما يفهم من جهة التلويح واإلشارة ،وذلك ال يستقل
به اللفظ المفرد ،ولكنه يحتاج في الداللة عليه على اللفظ المركب" .18وبالتالي فبما
أن داللة الكناية حسب ابن األثير ،يدل عليها اللفظ وتشمل اللفظ المفرد والمركب
معا ،فإنها تقوم مقام االفتراض المسبق الذي يحدد على أساس معطيات لغوية كما
ذكرنا سابقا ،أما التعريض الذي تكون داللته من جهة المفهوم ويشمل اللفظ المركب
فقط ،فإنه يقوم مقام القول المضمر الذي يرتبط بوضعيات الخطاب مقامه .وعليه
يمكن القول إذن ،أن الكناية هي التلفظ بشيء وارادة شيء آخر أما التعريض فهو
التلميح واإلشارة إلى الشيء المراد الذي ال يفهم إال من خالل السياق ،وهنا يكمن
البعد الضمني للكناية والتعريض إذ أنهما "معا يعمالن وفق خطوات تأويلية متقاربة
تعتمد على إدراك العالقات بين الملفوظ والمقصود" .19
المعنى
الضمني
الكناية
التعريض
80
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
ومن أجل استيعاب هذا الفرق بين الكناية والتعريض من جهة ،وبيان دورهما في
إنتاج المعنى الضمني من جهة أخرى ،أورد ابن األثير بعض األمثلة لكال الجنسين،
حيث نبدأ أوال بالكناية ومثل ذلك من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى( :
ان اهللُ على ُكل َش ْيء قَدير)
وها َو َك َ
ضا َل ْم تَطُ ُؤ َ
دي َارُه ْم وأَ ْم َواَلهُم وأَ ْر ً
ضهُ ْم َو َ
َوأَ ْوَرثَ ُك ْم أَ ْر َ
َ
[األحزاب ] 27.حيث أن اهلل سبحانه وتعالى قال أرضا لم تطؤوها وهو في
نساء لم تطؤوها بمعنى لم تنكحوها ،فهنا كناية عن مناكح النساءً الحقيقة قصده
،ويظهر االفتراض المسبق في هذه اآلية في قوله ( تطؤوها ) أي تنكحوها ،والمتلقي
في هذه الحالة يملك معارف مسبقة أن النكاح خاص بالنساء وليست األرض.
والمثال الثاني للكناية هو قول ابن األثير" :ومن لطيف الكنايات أن امرأة جاءت
يد َج َملي؟" فقالت عائشة رضي اهلل عنها:
لعائشة رضي اهلل عنها فقالت لها" :أُقَ ُ
ال .أرادت المرأة أن تضع لزوجها شيئا يمنعه عن غيرها ،أي تربطه أن يأتي
غيرها ،فظاهر هذا اللفظ هو تقييد الجمل وباطنه ما أرادته المرأة ،وفهمته عائشة
20
حيث يظهر االفتراض المسبق هنا في قول المرأة ( أقيد ) ألن المتلقي على منها"
دراية أن القيد يمنع االنسان أو الحيوان من الهروب والضياع ،وبهذه العبارة التي
على مدى خوفها إلى المستمع أن توصل استعملتها هذه المرأة استطاعت
زوجها ،إلى درجة أنها أرادت أن تعتبره كجمل وتقيده إلى جانبها كي ال يضيع
منها بطريقة غير مباشرة.
أم ا فيما يخص أمثلة التعريض ،فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى( :
اك إِالَّ َب َش ًار م ْثلَُنا َو َما َن َر َ
اك اتََّب َع َك ين َكفَ ُروا ِمن ْقو ِم ِه َما َن َر َ َّ ِ
المألُ الذ َ
ال َ فَقَ َ
ض ِل َب ْل َن ُْي َو َما َن َرى لَ ُك ْم َعلَْيَنا ِمن َف ْ ِ ِ َّ َّ ِ
ظُّن ُك ْم الر ِ
ي َّأ
ين ُه ْم أ َْراذلَُنا َباد َإِال الذ َ
ِ
ين) [ هود .] 27 .بعد أن اختار اهلل من عباده نوحا عليه السالم نبيا، َكاذبِ َ
81
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
ثار الكفار وازداد حقدهم عليه واستهزاؤهم منه فذهبوا يبحثون عن الشيء المميز
الذي يتصف به نوح عليه السالم ليصبح نبيا بدال منهم ،وقد ورد في هذه اآلية من
اك إِالَّ َب َش ًار
سورة هود تعريض حول هذا الحقد على النبوة في قوله تعالىَ ( :ما َن َر َ
م ْثلَُنا) ،وهو في الوقت نفسه يعتبر قوال مضم ار ،إذ أن الكفار لم يصرحوا بشكل
مباشر أن النبي ال يستحق النبوة ،بل راحوا يبحثون عن الشيء المميز الذي يفرقهم
عنه ،فذكروا ذلك بطريقة مضمرة يفهم من خالل سياق الحديث كما قال ابن األثير:
وأن اهلل لو بأنهم أحق منه بالنبوة "فقوله وما نراك إال بش ار مثلنا تعريض
أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ،هب أنك واحد من المأل ومواز لهم
ف ي المنزلة ،فما جعلك أحق منهم بها؟ أال ترى إلى قولهم "وال نرى لكم علينا من
فضيل؟" ".21
22
كما ورد التعريض كذلك في الشعر وذلك في قول الشيمذر الحارثي
اء ال ُغ َم ْي ِر القو ِاف َيا
َدفَ ْنتُّم ِبص ْحر ِ
ْ َ َ َب ِني َع ّم َنا الَ تَ ْذ ُك ُروا ال ّ
ش ْع َر َب ْع َد َما
أثناء قراءتنا لهذا البيت الشعري نظن أن الشاعر يتحدث عن الشعر،
إال أن قصده هو غير ذلك ألن قصد الحارثي يتمثل في تذكير هؤالء الذين
يخ اطبهم بتلك الهزيمة التي وقعت لهم .فظاهر هذا اللفظ هو الشعر وباطنه هو
ما أراده الشاعر .و هذا ما عبر عنه ابن األثير لما قال" :وليس قصده هاهنا الشعر
بل قصده ما جرى لهم في هذا الموضع من الظهور عليهم والغلبة إال أنه لم
يذكر ذلك ،بل ذكر الشعر وجعله تعريضا بما قصده أي ال تفخروا بعد تلك الواقعة
التي جرت لكم لنا بذلك المكان" .23واذا ما بحثنا عن القول المضمر في هذا البيت،
نجده فيما ذكره الشاعر حول الشعر ( ال تذكروا الشعر ،القوافيا) فقصد الشاعر هنا
82
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
ال يظهر من خالل اللفظ المعبر عنه كما في االفتراض المسبق ،إنما يظهر من
خالل السياق الذي جاء فيه هذا الكالم.
من خالل ما سبق ،يمكن القول أن كال من الكناية والتعريض يهدفان إلى
إنتاج المعنى الضمنى في الخطاب ،وذلك لكونهما يستعمالن لفظا ليس من أجل
الداللة على معنى هذا اللفظ ،وانما للداللة على معنى آخر يستنتج من هذا
اللفظ المستعمل ،فيكون بذلك قصد المتكلم وقصد الملفوظ متغايرين كما قال عبد
ِ
الثالثة اد إثباتُه والخبر به في هذه األجناس القاهر الجرجاني" :طريق العلم بما ير ُ
من ِ
اللفظ دون المعقو ُل والتمثي ُل التي هي الكنايةُ واالستعارةُ
َ
ِ
معنى اللفظ ولكنهُ
َ
ليس هو القصد باإلثبات فيهَا إلى معنى َ ُ حيث يكون
ُ
24
ويستَْنَبط منه" .فقولنا مثال في الكناية " كثير ِ ِ معنى ُي َّ
ستد ُل بمعنى اللفظ عليه ُ
الرماد" ،فإن هذه العبارات واأللفاظ المستعملة كلها تدل على معنى آخر
يستنبط منها.
وفي الختام يمكن أن نستنتج بأن:
المعنى الضمني عند ابن األثير يتجلى في ظاهرة االلتفات ،التي تقوم على
التنويع في الضمائر واألزمنة ،حيث تعتبر هذه الضمائر المتنوعة بمثابة أقوال
مضمرة يجد فيها المتلقي صعوبة في تحديد مرجعيتها ،وذلك من خالل االنتقال من
ض مير آلخر مما ينتج عن ذلك تشعبا في المعاني وتعددا في األغراض ،وهذه
األغراض تستنبط من خالل السياق .أما التنويع في األزمنة فإنها تعتبر بمثابة
افتراضات مسبقة ،خاصة زمن الماضي الذي يعبر عن المعارف المسبقة التي يشترك
فيها طرفي الخطاب.
83
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
يظهر المعنى الضمني كذلك عند ابن األثير في الكناية والتعريض ،وذلك
من خالل استعالهما أللفاظ تحمل معنى ،وتقصد معاني أخرى.
وباإلضمار الناتج من الكناية والتعريض ،نجد أن التعريض الذي يختص
باللفظ المركب فقط أخفى من الكناية التي تختص باللفظ المفرد والمركب ،وبالتالي
يمكن القول أن التعريض درجة من درجات المعنى الكنائي.
تمثل الكناية عند ابن األثير االفتراض المسبق ،ألن داللتها لفظية يدل عليها
اللفظ الظاهر في الخطاب ،بينما يمثل التعريض القول المضمر لكون داللته تكون
من جهة المفهوم يدل عليها سياق الخطاب.
وخالصة القول أن المعاني الضمنية في التراث البالغي العربي بصفة عامة،
وعند ابن األثير بصفة خاصة ،ال تظهر بشكل مباشر في الخطاب ،وانما تظهر من
خالل تلك األشكال واآلليات البالغية كالكناية والتعريض ،االلتفات في الضمائر
واألزمنة ،وغيرها من األساليب التى تضفي على النص جوا تتصارع فيه الحقيقة
والخيال.
اإلحاالت
-1يراجع عيد بلبع ،التداولية :البعد الثالث في سميوطيقا موريس من اللسانيات إلى النقد األدبي
والبالغة ،الطبعة األولى ،بلنسية للنشر والتوزيع ،جمهورية مصر العربية 1430 ،ه – 2009م،
ص.166-165
-2مسعود صحراوي ،التداولية عند العلماء العرب :دراسة تداولية لظاهرة األفعال الكالمية في
التراث اللساني العربي ،الطبعة األولى ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بيروت لبنان ، 2005،ص
.30
84
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
-3عيد بلبع ،التداولية :البعد الثالث في سميوطيقا موريس من اللسانيات إلى النقد األدبي والبالغة،
ص.169
-4مسعود صحراوي ،التداولية عند العلماء العرب :دراسة تداولية لظاهرة األفعال الكالمية في
التراث اللساني العربي ،ص.32
-5ضياء الدّين ابن األثير ،المثل السائر في أدب الكاتب وال ّشاعر ،ط ،2ج ،2قدّم له وحقّقه وعلّق
عليه الدكتور أحمد الحوفي والدكتور بدوي طبانة ،منشورات دار الرفاعي ،الرياض 1403،هـ -
،1983ص.181
85
الخطاب :المجلد ،13العدد 1 تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"
86