You are on page 1of 21

‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫تجليات البعد الضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫نعيمة يعمرانن‬ ‫ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺒﻌﺪ ﺍﻟﻀﻤﻨﻲ ﻟﻠﺨﻄﺎﺏ ﻋﻨﺪ ﺍﺑﻦ أ‪.‬‬


‫ﺍﻷﺛﻴﺮ‬ ‫ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ‪:‬‬

‫جامعة مولود معمري‪ ،‬تيزي وزو‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ‬ ‫ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ‪:‬‬


‫ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻣﻮﻟﻮﺩ ﻣﻌﻤﺮﻱ ﺗﻴﺰﻱ ﻭﺯﻭ ‪ -‬ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻵﺩﺍﺏ ﻭﺍﻟﻠﻐﺎﺕ ‪-‬‬ ‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‪:‬‬
‫ﻣﺨﺒﺮ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ‬
‫الملخص‪ :‬يهدف هذا المقال إلى إبراز الترابط الشديد بين البالغة العربية القديمة‬
‫ﺍﻟﻤؤﻟﻒ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‪ :‬ﻳﻌﻤﺮﺍﻧﻦ‪ ،‬ﻧﻌﻴﻤﺔ‬
‫والتداولية المعاصرة‪ ،‬وذلك من خالل الكشف عن بعض اهتمامات الطرفين‪ ،‬مثل االهتمام‬
‫ﻣﺞ‪ ,13‬ﻉ‪1‬‬ ‫ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ‪/‬ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬
‫بالطريقة الضمنية التي يمكن أن يأتي عليها المعنى في الخطاب‪ .‬فإذا كانت وظيفة التداولية‬
‫ﻧﻌﻢ‬ ‫ﻣﺤﻜﻤﺔ‪:‬‬
‫تتمثل في دراسة الظاهرة اللغوية التي تحدث بين المتكلم والمستمع في عملية التخاطب‪ ،‬إلى‬
‫‪2018‬‬ ‫ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ‪:‬‬
‫جانب تتبع الجوانب الضمنية للمعنى التي يمكن أن تخرج بها هذه العملية‪ ،‬فنحن سنعمل في‬
‫ﺟﺎﻧﻔﻰ‬ ‫ﺍﻟﺸﻬﺮ‪:‬‬
‫هذا المقال على تحديد هذه الجوانب في البالغة العربية خاصة عند ابن األثير‪ ،‬مع بيان أهم‬
‫‪67 - 86‬‬ ‫ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ‪:‬‬
‫الظواهر التي يتجلى فيها المعنى الضمني عنده‪ ،‬مثل ظاهرة االلتفات والكناية والتعريض‪.‬‬
‫‪914459‬‬ ‫ﺭﻗﻢ ‪:MD‬‬
‫الكلمات المفتاحية‪ :‬التداولية‪ ،‬البالغة العربية‪ ،‬المعنى الضمني‪ ،‬الكناية‪.‬‬
‫ﺑﺤﻮﺙ ﻭﻣﻘﺎﻻﺕ‬ ‫ﻧﻮﻉ ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ‪:‬‬
‫‪Arabic‬‬ ‫ﺍﻟﻠﻐﺔ‪:‬‬
‫‪Summary:The‬‬ ‫‪aim of this article is to highlight the close‬‬
‫ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ‪AraBase :‬‬
‫‪connection between ancient Arabic rhetoric and contemporary deliberation, by‬‬
‫ﺍﻟﺘﺪﺍﻭﻟﻴﺔ‪revealing some of the concerns of the parties, such as‬‬ ‫ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ‪:‬‬
‫‪attention to the implicit‬‬ ‫‪way in‬‬
‫‪which the meaning can come in the discourse. If the function of deliberation is to‬‬
‫‪study http://search.mandumah.com/Record/914459‬‬
‫‪the phenomenon of language that occurs between the speaker and listener‬‬ ‫‪ in‬ﺭﺍﺑﻂ‪:‬‬
‫‪the process of communication, as well as tracking the implicit aspects of the‬‬
‫‪meaning that can come out of this process, we will work in this article to identify‬‬
‫‪these aspects in the ancient Arabic rhetoric, especially Ibn al-Atheer, with the‬‬
‫‪statement of the most important rhetorical phenomena, which reflect the inherent‬‬
‫© ‪ 2021‬ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬
‫‪meaning such as attention, metaphor and exposure.‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‬
‫ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ‬
‫ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ‬
‫ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫تجليات البعد الضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫أ‪ .‬نعيمة يعمرانن‬


‫جامعة مولود معمري‪ ،‬تيزي وزو‬

‫الملخص‪ :‬يهدف هذا المقال إلى إبراز الترابط الشديد بين البالغة العربية القديمة‬
‫والتداولية المعاصرة‪ ،‬وذلك من خالل الكشف عن بعض اهتمامات الطرفين‪ ،‬مثل االهتمام‬
‫بالطريقة الضمنية التي يمكن أن يأتي عليها المعنى في الخطاب‪ .‬فإذا كانت وظيفة التداولية‬
‫تتمثل في دراسة الظاهرة اللغوية التي تحدث بين المتكلم والمستمع في عملية التخاطب‪ ،‬إلى‬
‫جانب تتبع الجوانب الضمنية للمعنى التي يمكن أن تخرج بها هذه العملية‪ ،‬فنحن سنعمل في‬
‫هذا المقال على تحديد هذه الجوانب في البالغة العربية خاصة عند ابن األثير‪ ،‬مع بيان أهم‬
‫الظواهر التي يتجلى فيها المعنى الضمني عنده‪ ،‬مثل ظاهرة االلتفات والكناية والتعريض‪.‬‬
‫الكلمات المفتاحية‪ :‬التداولية‪ ،‬البالغة العربية‪ ،‬المعنى الضمني‪ ،‬الكناية‪.‬‬

‫‪Summary:The‬‬ ‫‪aim of this article is to highlight the close‬‬


‫‪connection between ancient Arabic rhetoric and contemporary deliberation, by‬‬
‫‪revealing some of the concerns of the parties, such as attention to the implicit way in‬‬
‫‪which the meaning can come in the discourse. If the function of deliberation is to‬‬
‫‪study the phenomenon of language that occurs between the speaker and listener in‬‬
‫‪the process of communication, as well as tracking the implicit aspects of the‬‬
‫‪meaning that can come out of this process, we will work in this article to identify‬‬
‫‪these aspects in the ancient Arabic rhetoric, especially Ibn al-Atheer, with the‬‬
‫‪statement of the most important rhetorical phenomena, which reflect the inherent‬‬
‫‪meaning such as attention, metaphor and exposure.‬‬

‫‪67‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫يتكون الجهاز المفاهيمي للتداولية من اجراءات وآليات متعددة‪ ،‬تسمح بدراسة‬


‫ظاهرة استعمال اللغة وتتبعها عند المتخاطبين‪ ،‬مثل أفعال الكالم‪ ،‬االستلزام الحواري‪،‬‬
‫نظرية المالءمة‪ ،‬حيث تنظر إلى اللغة على أنها عملية تحدث بين المرسل والمرسل‬
‫إليه‪ ،‬إلفادة السامع معنى ما وفق سياق معين‪ ،‬مع العلم أن هذا المعنى قد يكون‬
‫مباش ار وواضحا يدل عليه اللفظ‪ ،‬وقد يكون ضمنيا غير مصرح به يدل عليه سياق‬
‫التخاطب‪ .‬وقد اهتمت التداولية بالمعنى الضمني أيما اهتمام وذلك واضح في دراسات‬
‫الباحثين أمثال سيرل ‪ Searle‬في األفعال الكالمية غير المباشرة‪ ،‬جرايس‪Grice‬‬
‫وديكرو‪ Ducrot‬وأوريكيوني ‪ ،Orecchioni‬وذلك لكوننا نتواصل باللغة الضمنية‬
‫أكثر من تواصلنا باللغة الصريحة‪ .‬فجرايس مثال‪ ،‬اهتم في محاضراته في جامعة‬
‫هارفارد بعملية التخاطب والحوار بين األفراد‪ ،‬واضعا من أجل ذلك مجموعة من‬
‫القواعد والقوانين التى تتحكم في السير الجيد لهذه العملية‪ ،‬مثل مبدأ التعاون وما‬
‫يندرج تحته من مبادئ أخرى‪ ،‬حيث يرى أن أي خرق لهذه القواعد والقوانين يؤدي إلى‬
‫‪1‬‬
‫ظهور اإلضمار في الخطاب‪.‬‬
‫وقد أدرجت التداولية المعنى الضمني ضمن متضمنات القول ‪Les‬‬
‫‪ ،Implicites‬التي تهتم بكل ما ينتجه الكالم من إضمارات مختلفة‪ ،‬ومتضمنات‬
‫القول هي عبارة عن "مفهوم تداولي إجرائي يتعلق برصد جملة من الظواهر المتعلقة‬
‫بجوانب ضمنية وخفية من قوانين الخطاب‪ ،‬تحكمها ظروف الخطاب العامة كسياق‬
‫الحال وغيره"‪ 2‬فالمتكلم في بعض األحيان ألفاظه ال تدل على قصده مباشرة‪ ،‬فنجد أن‬
‫االلفاظ الواردة في الخطاب تحمل معنى‪ ،‬وتقصد معاني أخرى‪ ،‬مع العلم أن هذه‬
‫المعاني المرادة ال يتوصل إليها المتلقي إال بعد التحليل المنطقي‪ ،‬واالنتقال من ظاهر‬
‫اللفظ إلى باطنه وذلك بمساعدة السياق‪ .‬ومن أهم هذه المتضمنات نجد‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫*االفتراض المسبق ‪ : Présupposition‬حيث تقوم كل عملية خطابية على‬


‫مجموعة من االفتراضات والخلفيات المعرفية المسبقة‪ ،‬التي يشترك فيها كل من‬
‫المتكلم والسامع وتظهر وظيفة االفتراض المسبق" فيما يتضمنه الملفوظ من وجود‬
‫حدث سابق على سبيل االفتراض الذي يوهم المستمع بوجوده وكأنه حقيقة‪ ،‬أو يحمل‬
‫المتلقي على االعتراف الضمني بما يحاول المتلفظ أن ينسبه إليه"‪ 3‬فقولنا مثال‬
‫لشخص معين‪ :‬هل شفيت؟ أو‪:‬هل ذهبت إلى الطبيب؟ يبين أن هذا الكالم يقوم على‬
‫افتراض مسبق ومشترك بين أطراف الحوار‪ ،‬وهو أن هذا الشخص كان مريضا‪.‬‬
‫*األقوال المضمرة ‪ :Les Sous-entendus‬إلى جانب االفتراض المسبق نجد‬
‫كذلك األقوال المضمرة والتي تمثل نوعا آخر من متضمنات القول‪ ،‬حيث يرتبط القول‬
‫المضمر بشكل أساسي "بوضعية الخطاب ومقامه على عكس االفتراض المسبق الذي‬
‫يحدد على أساس معطيات لغوية"‪4‬ومجال التأويل في القول المضمر مجال مفتوح‬
‫ومتعدد على حسب تعدد سياقات الخطاب‪ ،‬فقول الشخص مثال لزميله‪ :‬أنا مريض‬
‫فهذا الكالم يتضمن عدة معاني منها مثال‪:‬‬
‫‪ -‬عدم القدرة على مرافقة زميله في النزهة‪.‬‬
‫‪ -‬رغبته في زيارة الطبيب‪.‬‬
‫‪ -‬عدم قدرته للذهاب إلى العمل‪.‬‬
‫‪ -‬رغبته في البقاء في البيت‪ .....‬إلى غير ذلك من األمور التي يقصدها‬
‫المتكلم‪.‬‬
‫والسؤال المطروح في هذا المقام هو‪ :‬هل يمكن أن نجد مالمح للمعنى الضمني‬
‫عند ابن األثير الذى يعد من أبرز رواد البالغة العربية القديمة؟ بعبارة أخرى إذا كان‬

‫‪69‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫من اهتمامات التداولية البحث عن المعنى الضمني ومتضمنات القول في الخطاب‬


‫فهل يمكن أن نجد هذه الظاهرة في الموروث البالغي و بالضبط عند ابن األثير؟‬
‫بالعودة الى البالغة العربية القديمة‪ ،‬نجد أن روادها ركزوا كذلك على دراسة‬
‫المعنى وطريقة تبليغه إلى المتلقي‪ ،‬كما نجدهم أيضا قد ركزوا على ما يمكن أن‬
‫يحمله الخطاب من معاني إيحائية وضمنية وكل هذه االهتمامات ظاهرة فيما سموه‬
‫بعلم المعاني‪ ،‬أمثالهم ابن األثير في كتابه " المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"‬
‫أمهات الكتب في الثقافة العربية‪ ،‬ذلك أنه قد تناول عدة مواضيع‬
‫أهم ّ‬
‫يعد من ّ‬
‫والذي ّ‬
‫النقد حيث قام بنقد العديد من‬
‫فالمتصفح لهذا الكتاب يجد نفسه تارة أمام كتاب في ّ‬
‫ّ‬
‫شعراء عصره‪ ،‬أمثال أبي تمام وأبي الطيب المتنبي وأبي نواس وامرئ القيس‬
‫وغيرهم‪ ،‬ويجد القارئ نفسه تارة أخرى أمام كتاب في األدب ذلك أن ابن األثير حاول‬
‫بفن الكتابة سواء المنظوم‬
‫خاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫يؤسس لعلم األدب أثناء إقامته آلليات وقوانين‬
‫أن ّ‬
‫أو المنثور‪ .‬أما المجال اآلخر الذي يجده القارئ أيضا في هذا الكتاب هو مجال‬
‫الدراسة‪ ،‬إذ قام الكاتب بتعريف بعض‬
‫سنهتم به في هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫البالغة وهو المجال الذي‬
‫األشكال البالغية التي يلجأ الكتّاب الستعمالها في كتاباتهم‪ ،‬حيث سنحاول تسليط‬
‫الضوء على بعض هذه األشكال واألساليب‪ ،‬فنأخذ على سبيل المثال ظاهرة‬
‫االلتفاتالكناية والتعريض باعتبارهما أقواال مضمرة وافتراضات مسبقة تساهم في توليد‬
‫التلميح واإلضمار في المعنى‪.‬‬
‫الل لتفات معنى ضمني في الخطاب‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫يعتبر االلتفات من بين األساليب البالغية األكثر استعماال في الخطاب‪ ،‬وهي‬
‫عبارة عن تالعب المتكلم بضمائر وأزمنة الكالم‪ ،‬كما أنه أسلوب كثير الورود في‬
‫النص القرآني الكريم والشعر‪ ،‬وقد تناوله البالغيون القدامى في مؤلفاتهم مثل ابن‬

‫‪70‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫األثير في كتابه "المثل السائر" وعرفه بقوله‪ " :‬وحقيقته مأخوذة من التفات اإلنسان‬
‫عن يمينه وشماله‪ ،‬فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا وكذلك يكون هذا النوع من‬
‫الكالم خاصة‪ ،‬ألنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة‪ ،‬كاالنتقال من خطاب‬
‫حاضر إلى غائب أو من خطاب غائب إلى حاضر‪ ،‬أو من فعل ماض‬
‫إلى مستقبل‪ ،‬أو من مستقبل إلى ماض"‪ .5‬فمن خالل هذا التعريف يمكن لنا أن‬
‫نقول أن االلتفات يسعى إلى التنويع في الضمائر وأزمنة األفعال الخاصة بالخطاب‬
‫وذلك كله من أجل أن يتفاعل القارئ مع هذا الخطاب ويستجيب له‪ ،‬إال أنه في كثير‬
‫من األحيان ما يؤدي هذا التنوع في الضمائر واألزمنة إلى عدم وضوح المعنى‬
‫وجالئه وهذا ما سنجده من خالل األمثلة التي أوردها ابن األثير من القرآن الكريم‪.‬‬
‫يقسم ابن األثير االلتفات إلى ثالثة أقسام وهي‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل األمر‪ ،‬وعن الفعل‬
‫الماضي إلى فعل األمر‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬في اإلخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل‬
‫بالماضي‪ .6‬مع العلم أن القسم األول خاص بااللتفات في الضمائر أما القسم الثاني‬
‫والثالث فهما خاصان بااللتفات في األزمنة‪ ،‬حيث يمكن لهذا التنوع في الضمائر‬
‫واألزمنة من إنتاج المعنى الضمني في الخطاب‪ ،‬كما هو مبين فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1-1‬التنويع في الضمائر باعتبارها أقواال مضمرة‪:‬‬
‫إن التنويع في الضمائر يسمح للمتكلم بتبليغ معاني ضمنية مختلفة يتعذر عليه‬
‫التصريح بها‪ ،‬ألن هذه الضمائر "من وجهة نظر الممارسة التداولية‪ ،‬ال تثبت في‬
‫داللتها على مرجع معين‪ ،‬بل يجد المرسل أن داللتها في األصل ال تفي بالتعبير عن‬

‫‪71‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫قصده تماما كما يريد‪ ،‬لذلك يلجأ‪ ،‬أحيانا‪ ،‬إلى التالعب بهذا النظام واخراج هذه الدوال‬
‫عن مدلوالتها األصل‪ 7".‬ولعل هذه الطريقة تخلق في المتلقي التشويق ليكشف بنفسه‬
‫عن هذه المعاني‪ ،‬ومثال ذلك‪:‬‬
‫الرجوع من الغيبة إلى الخطاب في قوله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة‬
‫َّاك‬
‫َّاك َن ْعُب ُد واي َ‬ ‫الر ِح ِيم َمِل ِك َي ْوِم ّ‬
‫الدْي ِن إي َ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ين َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العالَم َ‬
‫ب َ‬ ‫الح ْم ُد هلل َر ّ‬
‫( َ‬
‫ض ِ‬
‫وب‬ ‫ِ‬ ‫اه ِدنا الص ارطَ المستَِقيم ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْغ ُ‬
‫ت َعلَْيه ْم َغْير َ‬ ‫ذين أَْن َع ْم َ‬
‫ط الّ َ‬
‫ص َار َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ين ْ َ‬ ‫َن ْستَع ُ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َعلَْي ِه ْم والَ‬
‫الضال َ‬
‫ّ‬
‫حيث يظهر المعنى الضمني للتنوع في الضمائر في هذه السورة‪ ،‬من خالل‬
‫جهل المتلقي لمرجعية الضمير فيها حيث نالحظ كيف انتقل في هذه السورة من‬
‫الر ِح ِيم َملِك‬
‫الر ْح َم ِن ّ‬‫ين ّ‬
‫ِ‬
‫العالَم َ‬
‫ب َ‬ ‫(الح ْم ُد هلل َر ّ‬‫الغيبة في قوله سبحانه وتعالى‪َ :‬‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫َي ْوِم ّ‬
‫الد ِ‬
‫اك َن ْستَع ُ‬‫اك َن ْعُب ُد واّي َ‬‫ين) إلى الخطاب في قوله سبحانه وتعالى ( ّإي َ‬
‫ض ِ‬
‫وب َعَلْي ِه ْم‬ ‫ت َعَلْي ِه ْم َغ ِ‬ ‫ص ار َ ِ‬‫ط المستَِقيم ِ‬ ‫اه ِدَنا‬
‫الم ْغ ُ‬
‫ير َ‬ ‫ين أَْن َع ْم َ‬
‫ط الّذ َ‬ ‫َ‬ ‫الص َار َ ُ ْ َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ين) مع العلم أنه استعمل في األول ضمير الغائب "هو" ثم استعمل في‬ ‫والَ ّ ِ‬
‫الضال َ‬
‫الثاني ضمير الحاضر "أنت"‪ ،‬والمتلقي في هذه الحالة يكون في حيرة وتردد ما إذا‬
‫كان المخاطب في قوله تعالى هو ضمير المخاطب أو ضمير الغائب‪ .‬فباإلضافة‬
‫إلى المضمرات واالفتراضات المسبقة التي تناولها ديكرو‪ ،‬تضيف أوريكيوني‬
‫المضمرات في الضمائر االشارية حيث يتجلى المضمر فيها من خالل االلتباس‬
‫والغموض في المرجع ففي السورة السابقة مثال‪ ،‬ال يظهر المتكلم بشكل واضح في‬
‫الخطاب إنما استيعابه يستند إلى مقام الكالم‪ .‬تقول أوريكيوني‪" :‬وكاألشكال الكالمية‬
‫األخرى الضمائر تستند لمواضع خارج‪-‬لسانية وليس لتعابيرها األصلية"‪.8‬‬

‫‪72‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫ومما يدخل في هذا النوع أيضا الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس‪،‬‬
‫ال‬
‫ان َفقَ َ‬‫اء و ِه َي ُد َخ ٌ‬ ‫وذلك من مثل قوله سبحانه وتعالى‪ ( :‬ثَُّم استَوى إِلَى السم ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ض اْئتِيا طَوعا أو ُكرها قَالَتَا أَتَْينا طَائِ ِعين فَقَضاه َّن سْبع سماواتٍ‬ ‫لَهَا ولأل َْر ِ‬
‫َ َ ََ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ًْ‬ ‫ًْ‬ ‫َ‬
‫ظا‬ ‫الدْنيا بِمصابِيح ِ‬
‫وح ْف ً‬ ‫ِفي يومْي ِن وأَوحى ِفي ُك ِل سم ٍ‬
‫اء ّ َ َ َ َ‬ ‫َّم َ‬
‫وزّيَنا الس َ‬
‫اء أ َْم َرَها َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ‬
‫العلِيم) [ فصلت‪ .]11.12.‬إذ تم االنتقال هنا كذلك من خطاب‬ ‫الع ِزيز َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َذل َك تَ ْقد ُير َ‬
‫الغيبة في قوله تعالى " استوى"‪" ،‬فقال"‪ " ،‬أوحى" باستعمال ضمير الغائب "هو"‪ ،‬إلى‬
‫خطاب النفس في قوله تعالى "زّينا" باستعمال ضمير الحاضر "نحن"‪.‬‬
‫ومن هذا النوع كذلك الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الجماعة ومثال‬
‫ِ‬ ‫َعُب ُد اّل ِذي فَ َ‬
‫(وما ِلي الَ أ ْ‬
‫ط َرنِي وِالَْيه تُْر َج ُع َ‬
‫ون) [يس‪]22.‬‬ ‫ذلك قوله سبحانه وتعالى‪َ :‬‬
‫حيث نالحظ من خالل هذه اآلية الكريمة كيف جاء في األول خطاب النفس في قوله‬
‫"ال أعبد" باستعمال الضمير "أنا" ثم انتقل بعد ذلك إلى خطاب الجماعة في قوله‬
‫"ترجعون" باستعمال الضمير "أنتم" وهو ضمير الجمع‪ ،‬فمرجع الضمير في هذه اآلية‬
‫غير ثابت يت اروح ما بين ضمير الجمع والمفرد األمر الذي يؤدي إلى اإلضمار‬
‫فيها‪.‬‬ ‫االضمار‬ ‫إلى‬ ‫يؤدي‬ ‫فيها‪.......................‬‬
‫ومن التنويع في الضمائر كذلك نجد عند ابن األثير الرجوع من الخطاب إلى الغيبة‬
‫دون وتَقَطَّ ُعوا‬
‫فاعُب ِ‬ ‫أمةً و ِ‬
‫اح َدةً وأََنا َرُّب ُك ْم ْ‬ ‫ُمتُ ُك ْم َّ َ‬
‫ومثال ذلك قوله تعالى‪ِ ِ َّ ( :‬‬
‫إن َهذه أ ّ‬
‫ون) [ األنباء‪ ]93.92.‬حيث تم االنتقال هنا من‬ ‫أَمرُهم َبْيَنهم ُك ٌّل إَلْيَنا ر ِ‬
‫اج ُع َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َْ ْ‬
‫ون" باستعمال الضمير "أنتم" وهو ضمير‬‫اعُب ُد ِ‬
‫ُمتُ ُك ْم "‪"َ ،‬رُّب ُك ْم"‪" ،‬فَ ْ‬
‫الخطاب في قوله " أ َّ‬
‫ون" باستعمال الضمير "هم"‪.‬‬ ‫الحاضر‪ ،‬إلى الغيبة في قوله "أَمرُهم َبْيَنهم"‪" ،‬ر ِ‬
‫اج َع َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َْ‬
‫نالحظ إذن‪ ،‬كيف أن االنتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن خالل الخطاب إلى‬
‫الغيبة‪ ،‬يصطحب معه تغيي ار في الضمائر‪ ،‬ونحن نعلم بأنه "يقوم الضمير في الوحدة‬

‫‪73‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫الكالمية بإحالة الداللة إلى مرجعه ''‪ 9‬إال أن هذا التغيير في الضمائر قد يؤدي‬
‫إلى شعور السامع بإشكال وتردد حول مرجعية الضمير أثناء انتقاله من ضمير الى‬
‫آخر و''إذا تردد الضمير بين مرجعين كالهما صالح له ينشأ عن ذلك معنيان‬
‫مختلفان للوحدة الكالمية ''‪ ،10‬مما ينجر عنه تعدد وغموض في المعنى‪ ،‬حيث ال‬
‫يتبين عنده ما إذا كان المتكلم في الخطاب ضمير الغائب أم ضمير المتكلم‪.‬‬
‫يرى ابن األثير أن القول المضمر في ظاهرة االلتفات في الضمائر‪ ،‬يظهر من‬
‫خالل التشعب في المعاني والذي ينتجه تنويع الضمائر فيقول في هذا الخصوص‬
‫"فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب الستعمال هذا النوع من الكالم ال يجري على وتيرة‬
‫واحدة‪ ،‬وانما هو م قصور على العناية بالمعنى المقصود‪ ،‬وذلك المعنى يتشعب شعبا‬
‫‪11‬‬
‫فهذه المعاني‬ ‫كثيرة ال تنحصر‪ ،‬وانما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه"‬
‫المتشعبة تحمل أغراضا مضمرة تستنتج من خالل السياق‪ .‬ولعل المثال الذي رأيناه‬
‫ال‬
‫ان فَقَ َ‬ ‫سابقا لدليل عما قلناه وهو قوله تعالى‪ ( :‬ثُم استَوى إلَى السم ِ‬
‫اء و ِه َي ُد َخ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬
‫ات‬‫ض اْئتِيا طَوعا أو ُكرها قَالَتَا أَتَْيَنا طَائِ ِعين فَقَضاه َّن سْبع سماو ٍ‬ ‫لَهَا ولأل َْر ِ‬
‫َ َ ََ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ًْ‬ ‫ًْ‬ ‫َ‬
‫الدنيا بِمصابِْيح ِ‬ ‫ِفي يومْي ِن وأَوحى ٍفي ُك ِل سم ٍ‬
‫وح ْفظًا‬ ‫اء ُّ َ َ َ َ‬ ‫َّم َ‬
‫وزّيَنا الس َ‬
‫اء أ َْم َرَها َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ‬
‫العلِ ِيم) [ فصلت‪]12.11.‬‬ ‫الع ِز ِ‬
‫يز َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َذل َك تَ ْقدْي ُر َ‬
‫فالقارئ يكون في أول هذا المثال مع ضمير الغائب‪ ،‬و يتابع أحداثا وأفعاال قام‬
‫بها فاعل آخر في قوله‪ :‬استوى‪ ،‬قال‪ ،‬أوحى‪ ،‬وفجأة يجد نفسه مع ضمير الحاضر‬
‫"نحن" في قوله‪" :‬زينا"‪ ،‬مع العلم أن الضميرين "هو" و"نحن" يخصان معنيا واحدا هو‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬ألن اهلل عز وجل هو الذي استوى‪ ،‬وقال‪ ،‬وأوحى‪ ،‬وزين السماء كذلك‬
‫واستنتاج هذا المعنى يكون مرهونا بمساعدة سياق الخطاب‪ .‬ولزيادة التوضيح نرسم‬
‫المخطط التالي‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫التنويع في الضمائر عند ابن‬


‫األثير‬

‫الشك والتردد حول مرجعية‬


‫الضمير‬

‫تشعب المعاني وتعدد األغراض‬

‫تحقق القول المضمر‬

‫‪ -2-1‬التنويع في األزمنة باعتبارها افتراضات مسبقة‪:‬‬


‫إلى جانب مساهمة التنويع في الضمائر في إنتاج المعنى الضمني‪ ،‬فإن التنويع‬
‫في األزمنة كذلك له دور فعال في تكوين االفتراضات المسبقة التي تحقق هذا‬
‫المعنى‪ ،‬خاصة زمن الماضي الذي يعبر عن المعارف والخلفيات المسبقة لطرفي‬

‫‪75‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫الخطاب‪ ،‬وبما أن االفتراضات ذو طبيعة لسانية‪ ،‬فإن المتلقي يحددها في الخطاب‬


‫كما سنرى ذلك في األمثلة التي أوردها ابن األثير من القرآن الكريم مثل‪:‬‬
‫َم َر َرّبي‬ ‫الرجوع عن الفعل الماضي إلى فعل األمر كقوله تعالى‪ُ ( :‬ق ْل أ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين َك َما َب َدأَ ُك ْم‬‫الد َ‬ ‫ند ُك ّل َم ْس ِجد و ْاد ُعوهُ ُم ْخلص َ‬
‫ين لَهُ ّ‬ ‫وه ُك ْم َع َ‬
‫يموا ُو ُج َ‬
‫بالق ْسط وأَق ُ‬
‫ون) [ األعراف‪ . ]29.‬يظهر لنا من خالل هذه اآلية كيف جاء الزمن فيها‬ ‫ود َ‬
‫تَ ُع ُ‬
‫متنوعا حيث انتقل فيه من الماضي في قوله (أمر ربي بالقسط) إلى األمر في قوله‬
‫(أقيموا وجوهكم ‪....‬وادعوه مخلصين)‪ ،‬واذا ما تتبعنا البعد التداولي لفعل الكالم في‬
‫هذه اآلية‪ ،‬نجد أن مجيء قوله (أمر ربي بالقسط) في زمن الماضي‪ ،‬هو بمثابة‬
‫افتراض مسبق لتحقق معنى ضمني وهو وجوب الصالة والذي جاء بفعل األمر فكلنا‬
‫نعلم أن القسط أي العدل واجب في اإلسالم‪ ،‬فإذا كان العدل واجبا فإن الصالة كذلك‪.‬‬
‫وقد أقر ابن األثير بهذا األمر حيث يقول‪ " :‬وكان تقدير الكالم أمر ربي بالقسط‬
‫وبإقامة وجوههم عند كل مسجد فعدل عن ذلك إلى فعل األمر للعناية بتوكيده في‬
‫نفوسهم فإن الصالة من أوكد فرائض اهلل على عباده تم أتبعها باإلخالص الذي هو‬
‫عمل القلب"‪.12‬‬
‫اإلخبار بالفعل المستقبل عن الماضي ومثال ذلك قوله تعالى‪ ( :‬واهلل الّذي‬
‫ض َب ْع َدَ م ْوتِهَا َ َذ َ‬
‫لك‬ ‫إلى َبلَ ٍد َمّي ٍت فَأ ْ‬
‫َحَيْيَنا بِه األ َْر َ‬ ‫ثير َس َح ًابا فَ ُس ْقَناهُ َ‬
‫اح فَتُ ُ‬
‫أ َْر َس َل الّرَي َ‬
‫ور) [ فاطر‪ . ]9 .‬واذا أمعنا النظر في هذه اآلية كذلك‪ ،‬لوجدنا أن قوله في زمن‬ ‫ُّ‬
‫الن ُش ُ‬
‫الماضي (أرسل الرياح‪.....‬فسقناه‪....‬فأحيينا به األرض)افتراضات مسبقة لتحقق‬
‫معنى ضمني في المستقبل وهو مفهوم النشور‪ ،‬فلكي يبين اهلل تعالى لعباده مفهوم‬
‫النشور بطريقة مضمرة‪ ،‬يقدم افتراضات مسبقة متفق عليها وهي إثارة الرياح للسحاب‬
‫نزول الغيث‪ ،‬إحياء األرض بعد موتها‪ .‬فنزول الغيث واحياء األرض بعد موتها‪ ،‬يشبه‬

‫‪76‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫النشور الذي يعاد فيه إحياء الموتى يوم الحساب‪ .‬ولزيادة التوضيح نمثل المثالين في‬
‫مخطط‪:‬‬

‫االفتراض المسبق‬
‫(أمر ربي بالقسط)‬

‫يعلمه السامع‬ ‫تحقق المعنى الضمني (وجوب الصالة)‬ ‫يعلمه المتكلم‬


‫انطالقا من افتراضات متفق عليها‬

‫االفتراض المسبق‪:‬‬
‫إثارة الرياح للسحاب‪ ،‬نزول‬
‫الغيث‪ ،‬احياء األرض‪.‬‬

‫يعلمه السامع‬ ‫يعلمه المتكلم‬


‫تحقق المعنى الضمني (مفهوم النشور)‬
‫انطالقا من افتراضات متفق عليها‬
‫نالحظ إذن‪ ،‬كيف جاء الزمن عند ابن األثير متنوعا شأنه شأن الضمائر‪،‬‬
‫فالزمن كذلك يعتبر كمرجع للوصول إلى معنى الخطاب‪ ،‬وذلك ألن ''التعبير عن‬
‫الزمن هو موضعة الحدث في مدار الزمان‪ ،‬بالنسبة للحظة زمنية معينة '' ‪ ''T‬مأخوذة‬

‫‪77‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫‪13‬‬
‫ونحن في هذا المقام أمام مجموعة من أزمنة الفعل تختلف حسب‬ ‫كمرجع ‪".‬‬
‫اختالف مقاصد المتكلم في خطاب واحد‪ ،‬مما ينتج عن ذلك اختالفا في المعنى ولكي‬
‫يستطيع المتلقي الوصول إلى هذا المعنى المقصود‪ ،‬لزم عليه معرفة قصد المتكلم‬
‫وكل ما يحيط بمقام الخطاب‪ ،‬ألن االختيار المتنوع لألزمنة يتوقف على هاتين‬
‫النقطتين‪ .‬تقول أوريكيوني ‪ ":‬في كل دائرة من الحاضر ‪ /‬الماضي ‪/‬المستقبل‪،‬‬
‫االختيار يتم حسب مختلف المحاور الشكلية التي دون تعلق بالعالمة اإلشارية‬
‫بالمعنى الدقيق ألن هذا االختيار ليس محددا بكيفية آلية بواسطة المعطيات المادية‬
‫لوضعية فعل القول – تصب في اتجاه ما سنسميه بكيفية أكثر اتساعا الذاتية –‬
‫اللغوية ‪،‬ألنها تستهدف الطريقة (جد ذاتية ) التي يأمل المرسل وضع إجرائها"‪.14‬‬
‫‪ -2‬المعنى الكنائي‪:‬‬
‫نجد إلى جانب االلتفات كذلك الكناية‪ ،‬هذا األسلوب الذي يعتمد عليه البالغيون‬
‫القدامى في التعبير عن أغراضهم بطريقة تلميحية غير مباشرة ‪ ،‬ألن المعنى الناتج‬
‫من هذه التقنية ال يدل عليه ظاهر اللفظ‪ ،‬وانما يستنبط من خالل سياق التخاطب‪.‬‬
‫قال الزركشي‪ " :‬وهي عند أهل البيان أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني‬
‫ورديفه‬ ‫فال يذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه‬
‫في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليال عليه‪ ،‬فيدل على المراد من طريق أولى"‪.15‬‬
‫تعرض ابن األثير إلى الكناية في "المثل السائر" ووجد أن الكثير من علماء‬
‫البيان يخلطون بينهما وبي ن التعريض وذلك نظ ار لتشابههما الكبير‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫وضع حدودا بين المصطلحين فأعطى لكل واحد منهما مفهوما خاصا به‪ ،‬فالكناية‬
‫عندهم هي "كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز‬
‫بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز والدليل على ذلك أن الكناية في أصل‬

‫‪78‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫الوضع أن تتكلم بشيء وتريد غيره‪ ،‬يقال كنيت بكذا من كذا‪ ،‬فهي تدل على ما‬
‫تكلمت به وعلى ما أردته في غيره"‪ .16‬وعلى هذا األساس نجد أن الكناية عند ابن‬
‫األثير‪ ،‬تجسد المعنى الضمني الذي اهتمت به التداولية كونها تمثل تلفظنا بشيء‬
‫وارادة شيئا آخر‪ ،‬وهذا الشيء المتلفظ به له عالقة بالذي نريده كقولنا " شخص‬
‫كثير الرماد" فنحن تلفظنا بالقول "كثير الرماد" ولكن المعنى المراد هو أنه كثير الكرم‬
‫والعطاء والجود‪ ،‬فنالحظ أن "كثير الرماد" له عالقة بكثير الكرم والعطاء‪ ،‬ذلك أن‬
‫كثرة الكرم والعطاء تقتضيان كثرة الطبخ‪ ،‬وكثرة الطبخ تقتضي كثرة الضيوف‪.‬‬
‫أما التعريض فيعرفه ابن األثير بقوله‪ " :‬هو اللفظ الدال على الشيء من طريق‬
‫المفهوم بالموضع الحقيقي والمجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير‬
‫الطلب‪ :‬واهلل إني لمحتاج‪ ،‬وليس في يدي شيء وأنا عريان والبرد قد أذاني‪ ،‬فإن هذا‬
‫وأشباهه تعريض بالطلب وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب ال حقيقة وال‬
‫‪17‬‬
‫وهذا معناه أن التعريض يفهم من سياق‬ ‫مجازا‪ ،‬وانما دل عليه من طريق المفهوم"‬
‫الكالم فهو ال يشير مباشرة إلى المراد‪ ،‬وانما يلمح إليه‪.‬‬
‫وبتجسيد الكناية والتعريض للمعنى الضمني في الخطاب‪ ،‬نجد أن التعريض‬
‫عند ابن األثير درجة من المعنى الكنائي‪ ،‬وأن الكناية تمثل االفتراض المسبق في‬
‫حين يمثل التعريض القول المضمر حيث قال‪ " :‬والتعريض أخفى من الكناية‪ ،‬ألن‬
‫داللة الكناية لفظية وضعية من جهة المجاز‪ ،‬وداللة التعريض من جهة المفهوم ال‬
‫بالوضع الحقيقي وال المجازي وانما سمي التعريض تعريضا ألن المعنى فيه يفهم من‬
‫عرضه وعرض كل شيء جانبه‪ .‬واعلم أن الكناية تشمل اللفظ المفرد والمركب معا‬
‫فتأتي على هذا تارة وعلى هذا تارة أخرى‪ ،‬وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب‬
‫وال يأتي في اللفظة المفردة البتة والدليل على ذلك أنه ال يفهم المعنى فيه من جهة‬

‫‪79‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫الحقيقة‪ ،‬وال من جهة المجاز‪ ،‬وانما يفهم من جهة التلويح واإلشارة‪ ،‬وذلك ال يستقل‬
‫به اللفظ المفرد‪ ،‬ولكنه يحتاج في الداللة عليه على اللفظ المركب"‪ .18‬وبالتالي فبما‬
‫أن داللة الكناية حسب ابن األثير‪ ،‬يدل عليها اللفظ وتشمل اللفظ المفرد والمركب‬
‫معا‪ ،‬فإنها تقوم مقام االفتراض المسبق الذي يحدد على أساس معطيات لغوية كما‬
‫ذكرنا سابقا‪ ،‬أما التعريض الذي تكون داللته من جهة المفهوم ويشمل اللفظ المركب‬
‫فقط‪ ،‬فإنه يقوم مقام القول المضمر الذي يرتبط بوضعيات الخطاب مقامه‪ .‬وعليه‬
‫يمكن القول إذن‪ ،‬أن الكناية هي التلفظ بشيء وارادة شيء آخر أما التعريض فهو‬
‫التلميح واإلشارة إلى الشيء المراد الذي ال يفهم إال من خالل السياق‪ ،‬وهنا يكمن‬
‫البعد الضمني للكناية والتعريض إذ أنهما "معا يعمالن وفق خطوات تأويلية متقاربة‬
‫تعتمد على إدراك العالقات بين الملفوظ والمقصود" ‪.19‬‬

‫المعنى‬
‫الضمني‬

‫الكناية‬
‫التعريض‬

‫داللة من جهة المفهوم‬ ‫داللة لفظية‬

‫يشمل اللفظ المركب فقط‬ ‫تشمل اللفظ المفرد والمركب‬

‫قول مضمر‬ ‫افتراض مسبق‬

‫‪80‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫ومن أجل استيعاب هذا الفرق بين الكناية والتعريض من جهة‪ ،‬وبيان دورهما في‬
‫إنتاج المعنى الضمني من جهة أخرى‪ ،‬أورد ابن األثير بعض األمثلة لكال الجنسين‪،‬‬
‫حيث نبدأ أوال بالكناية ومثل ذلك من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى‪( :‬‬
‫ان اهللُ على ُكل َش ْيء قَدير)‬
‫وها َو َك َ‬
‫ضا َل ْم تَطُ ُؤ َ‬
‫دي َارُه ْم وأَ ْم َواَلهُم وأَ ْر ً‬
‫ضهُ ْم َو َ‬
‫َوأَ ْوَرثَ ُك ْم أَ ْر َ‬
‫َ‬
‫[األحزاب‪ ] 27.‬حيث أن اهلل سبحانه وتعالى قال أرضا لم تطؤوها وهو في‬
‫نساء لم تطؤوها بمعنى لم تنكحوها‪ ،‬فهنا كناية عن مناكح النساء‬‫ً‬ ‫الحقيقة قصده‬
‫‪ ،‬ويظهر االفتراض المسبق في هذه اآلية في قوله ( تطؤوها ) أي تنكحوها‪ ،‬والمتلقي‬
‫في هذه الحالة يملك معارف مسبقة أن النكاح خاص بالنساء وليست األرض‪.‬‬
‫والمثال الثاني للكناية هو قول ابن األثير‪" :‬ومن لطيف الكنايات أن امرأة جاءت‬
‫يد َج َملي؟" فقالت عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬
‫لعائشة رضي اهلل عنها فقالت لها‪" :‬أُقَ ُ‬
‫ال‪ .‬أرادت المرأة أن تضع لزوجها شيئا يمنعه عن غيرها‪ ،‬أي تربطه أن يأتي‬
‫غيرها‪ ،‬فظاهر هذا اللفظ هو تقييد الجمل وباطنه ما أرادته المرأة‪ ،‬وفهمته عائشة‬
‫‪20‬‬
‫حيث يظهر االفتراض المسبق هنا في قول المرأة ( أقيد ) ألن المتلقي على‬ ‫منها"‬
‫دراية أن القيد يمنع االنسان أو الحيوان من الهروب والضياع‪ ،‬وبهذه العبارة التي‬
‫على‬ ‫مدى خوفها‬ ‫إلى المستمع‬ ‫أن توصل‬ ‫استعملتها هذه المرأة استطاعت‬
‫زوجها‪ ،‬إلى درجة أنها أرادت أن تعتبره كجمل وتقيده إلى جانبها كي ال يضيع‬
‫منها بطريقة غير مباشرة‪.‬‬
‫أم ا فيما يخص أمثلة التعريض‪ ،‬فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى‪( :‬‬
‫اك إِالَّ َب َش ًار م ْثلَُنا َو َما َن َر َ‬
‫اك اتََّب َع َك‬ ‫ين َكفَ ُروا ِمن ْقو ِم ِه َما َن َر َ‬ ‫َّ ِ‬
‫المألُ الذ َ‬
‫ال َ‬ ‫فَقَ َ‬
‫ض ِل َب ْل َن ُ‬‫ْي َو َما َن َرى لَ ُك ْم َعلَْيَنا ِمن َف ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ َّ ِ‬
‫ظُّن ُك ْم‬ ‫الر ِ‬
‫ي َّأ‬
‫ين ُه ْم أ َْراذلَُنا َباد َ‬‫إِال الذ َ‬
‫ِ‬
‫ين) [ هود ‪ .] 27 .‬بعد أن اختار اهلل من عباده نوحا عليه السالم نبيا‪،‬‬ ‫َكاذبِ َ‬

‫‪81‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫ثار الكفار وازداد حقدهم عليه واستهزاؤهم منه فذهبوا يبحثون عن الشيء المميز‬
‫الذي يتصف به نوح عليه السالم ليصبح نبيا بدال منهم‪ ،‬وقد ورد في هذه اآلية من‬
‫اك إِالَّ َب َش ًار‬
‫سورة هود تعريض حول هذا الحقد على النبوة في قوله تعالى‪َ ( :‬ما َن َر َ‬
‫م ْثلَُنا)‪ ،‬وهو في الوقت نفسه يعتبر قوال مضم ار ‪ ،‬إذ أن الكفار لم يصرحوا بشكل‬
‫مباشر أن النبي ال يستحق النبوة‪ ،‬بل راحوا يبحثون عن الشيء المميز الذي يفرقهم‬
‫عنه‪ ،‬فذكروا ذلك بطريقة مضمرة يفهم من خالل سياق الحديث كما قال ابن األثير‪:‬‬
‫وأن اهلل لو‬ ‫بأنهم أحق منه بالنبوة‬ ‫"فقوله وما نراك إال بش ار مثلنا تعريض‬
‫أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم‪ ،‬هب أنك واحد من المأل ومواز لهم‬
‫ف ي المنزلة‪ ،‬فما جعلك أحق منهم بها؟ أال ترى إلى قولهم "وال نرى لكم علينا من‬
‫فضيل؟" "‪.21‬‬
‫‪22‬‬
‫كما ورد التعريض كذلك في الشعر وذلك في قول الشيمذر الحارثي‬
‫اء ال ُغ َم ْي ِر القو ِاف َيا‬
‫َدفَ ْنتُّم ِبص ْحر ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫َب ِني َع ّم َنا الَ تَ ْذ ُك ُروا ال ّ‬
‫ش ْع َر َب ْع َد َما‬
‫أثناء قراءتنا لهذا البيت الشعري نظن أن الشاعر يتحدث عن الشعر‪،‬‬
‫إال أن قصده هو غير ذلك ألن قصد الحارثي يتمثل في تذكير هؤالء الذين‬
‫يخ اطبهم بتلك الهزيمة التي وقعت لهم‪ .‬فظاهر هذا اللفظ هو الشعر وباطنه هو‬
‫ما أراده الشاعر‪ .‬و هذا ما عبر عنه ابن األثير لما قال‪" :‬وليس قصده هاهنا الشعر‬
‫بل قصده ما جرى لهم في هذا الموضع من الظهور عليهم والغلبة إال أنه لم‬
‫يذكر ذلك‪ ،‬بل ذكر الشعر وجعله تعريضا بما قصده أي ال تفخروا بعد تلك الواقعة‬
‫التي جرت لكم لنا بذلك المكان"‪ .23‬واذا ما بحثنا عن القول المضمر في هذا البيت‪،‬‬
‫نجده فيما ذكره الشاعر حول الشعر ( ال تذكروا الشعر‪ ،‬القوافيا) فقصد الشاعر هنا‬

‫‪82‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫ال يظهر من خالل اللفظ المعبر عنه كما في االفتراض المسبق‪ ،‬إنما يظهر من‬
‫خالل السياق الذي جاء فيه هذا الكالم‪.‬‬
‫من خالل ما سبق‪ ،‬يمكن القول أن كال من الكناية والتعريض يهدفان إلى‬
‫إنتاج المعنى الضمنى في الخطاب‪ ،‬وذلك لكونهما يستعمالن لفظا ليس من أجل‬
‫الداللة على معنى هذا اللفظ‪ ،‬وانما للداللة على معنى آخر يستنتج من هذا‬
‫اللفظ المستعمل‪ ،‬فيكون بذلك قصد المتكلم وقصد الملفوظ متغايرين كما قال عبد‬
‫ِ‬
‫الثالثة‬ ‫اد إثباتُه والخبر به في هذه األجناس‬ ‫القاهر الجرجاني‪" :‬طريق العلم بما ير ُ‬
‫من‬ ‫ِ‬
‫اللفظ‬ ‫دون‬ ‫المعقو ُل‬ ‫والتمثي ُل‬ ‫التي هي الكنايةُ واالستعارةُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫معنى اللفظ ولكنهُ‬
‫َ‬
‫ليس هو‬ ‫القصد باإلثبات فيهَا إلى معنى َ‬ ‫ُ‬ ‫حيث يكون‬
‫ُ‬
‫‪24‬‬
‫ويستَْنَبط منه" ‪ .‬فقولنا مثال في الكناية " كثير‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫معنى ُي َّ‬
‫ستد ُل بمعنى اللفظ عليه ُ‬
‫الرماد"‪ ،‬فإن هذه العبارات واأللفاظ المستعملة كلها تدل على معنى آخر‬
‫يستنبط منها‪.‬‬
‫وفي الختام يمكن أن نستنتج بأن‪:‬‬
‫المعنى الضمني عند ابن األثير يتجلى في ظاهرة االلتفات‪ ،‬التي تقوم على‬ ‫‪‬‬
‫التنويع في الضمائر واألزمنة‪ ،‬حيث تعتبر هذه الضمائر المتنوعة بمثابة أقوال‬
‫مضمرة يجد فيها المتلقي صعوبة في تحديد مرجعيتها‪ ،‬وذلك من خالل االنتقال من‬
‫ض مير آلخر مما ينتج عن ذلك تشعبا في المعاني وتعددا في األغراض‪ ،‬وهذه‬
‫األغراض تستنبط من خالل السياق‪ .‬أما التنويع في األزمنة فإنها تعتبر بمثابة‬
‫افتراضات مسبقة‪ ،‬خاصة زمن الماضي الذي يعبر عن المعارف المسبقة التي يشترك‬
‫فيها طرفي الخطاب‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫يظهر المعنى الضمني كذلك عند ابن األثير في الكناية والتعريض‪ ،‬وذلك‬ ‫‪‬‬
‫من خالل استعالهما أللفاظ تحمل معنى‪ ،‬وتقصد معاني أخرى‪.‬‬
‫وباإلضمار الناتج من الكناية والتعريض‪ ،‬نجد أن التعريض الذي يختص‬ ‫‪‬‬
‫باللفظ المركب فقط أخفى من الكناية التي تختص باللفظ المفرد والمركب‪ ،‬وبالتالي‬
‫يمكن القول أن التعريض درجة من درجات المعنى الكنائي‪.‬‬
‫تمثل الكناية عند ابن األثير االفتراض المسبق‪ ،‬ألن داللتها لفظية يدل عليها‬ ‫‪‬‬
‫اللفظ الظاهر في الخطاب‪ ،‬بينما يمثل التعريض القول المضمر لكون داللته تكون‬
‫من جهة المفهوم يدل عليها سياق الخطاب‪.‬‬
‫وخالصة القول أن المعاني الضمنية في التراث البالغي العربي بصفة عامة‪،‬‬
‫وعند ابن األثير بصفة خاصة‪ ،‬ال تظهر بشكل مباشر في الخطاب‪ ،‬وانما تظهر من‬
‫خالل تلك األشكال واآلليات البالغية كالكناية والتعريض ‪،‬االلتفات في الضمائر‬
‫واألزمنة‪ ،‬وغيرها من األساليب التى تضفي على النص جوا تتصارع فيه الحقيقة‬
‫والخيال‪.‬‬

‫اإلحاالت‬

‫‪ -1‬يراجع عيد بلبع‪ ،‬التداولية‪ :‬البعد الثالث في سميوطيقا موريس من اللسانيات إلى النقد األدبي‬
‫والبالغة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بلنسية للنشر والتوزيع‪ ،‬جمهورية مصر العربية‪ 1430 ،‬ه – ‪ 2009‬م‪،‬‬
‫ص‪.166-165‬‬
‫‪ -2‬مسعود صحراوي‪ ،‬التداولية عند العلماء العرب‪ :‬دراسة تداولية لظاهرة األفعال الكالمية في‬
‫التراث اللساني العربي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت لبنان ‪ ، 2005،‬ص‬
‫‪.30‬‬

‫‪84‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫‪ -3‬عيد بلبع‪ ،‬التداولية‪ :‬البعد الثالث في سميوطيقا موريس من اللسانيات إلى النقد األدبي والبالغة‪،‬‬
‫ص‪.169‬‬
‫‪ -4‬مسعود صحراوي‪ ،‬التداولية عند العلماء العرب‪ :‬دراسة تداولية لظاهرة األفعال الكالمية في‬
‫التراث اللساني العربي‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪ -5‬ضياء الدّين ابن األثير‪ ،‬المثل السائر في أدب الكاتب وال ّشاعر‪ ،‬ط‪ ،2‬ج ‪ ،2‬قدّم له وحقّقه وعلّق‬
‫عليه الدكتور أحمد الحوفي والدكتور بدوي طبانة ‪ ،‬منشورات دار الرفاعي‪ ،‬الرياض ‪1403،‬هـ ‪-‬‬
‫‪ ،1983‬ص‪.181‬‬

‫‪ -6‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص‪.194-192- 181‬‬


‫‪ -7‬عبد الهادي بن ظافر الشهري‪ ،‬إستراتيجيات الخطاب‪ ،‬مقاربة لغوية تداولية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار‬
‫الكتاب الجديد المتحدة‪ ،‬بيروت‪-‬لبنان‪ ،2004 ،‬ص‪.286‬‬
‫‪ -8‬ك ‪ -‬أوريكيوني‪ ،‬فعل القول من الذاتية في اللغة‪ ،‬ترجمة محمد نظيف‪ ،‬أفريقيا الشرق‪،‬‬
‫المغرب‪ ،2007،‬ص‪.66‬‬
‫‪ -9‬موسى بن مصطفى العبيدان‪ ،‬داللة تراكيب الجمل عند األصوليين‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬األوائل للنشر‬
‫والتوزيع والخدمات الطباعية ‪ ،‬سورية دمشق‪ 2002 ،‬م ‪ ،‬ص‪.231‬‬
‫‪ -10‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.232‬‬
‫‪ -11‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪.183‬‬
‫‪ -12‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص ‪193‬‬
‫‪ -13‬ك ‪ -‬أوريكيوني‪ ،‬فعل القول من الذاتية في اللغة ‪ ،‬ص‪.68‬‬
‫‪ -14‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.69‬‬
‫‪ -15‬بدر الدين الزركشي‪ ،‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬ج‪،3‬‬
‫منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت‪ ،‬ص ‪.301‬‬
‫‪ -16‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص ‪.62‬‬
‫‪ -17‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪67-66‬‬

‫‪85‬‬
‫الخطاب‪ :‬المجلد ‪ ،13‬العدد ‪1‬‬ ‫تجليات البعد ال ضمني للخطاب عند " ابن األثير"‬

‫‪ - 18‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.67‬‬


‫‪ -19‬عيد بلبع‪ ،‬التداولية‪ :‬البعد الثالث في سميوطيقا موريس من اللسانيات إلى النقد األدبي والبالغة‪،‬‬
‫ص‪.357‬‬
‫‪ -20‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص ‪.76‬‬
‫‪ -21‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ -22‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 86‬‬
‫‪ -23‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص ‪.76‬‬
‫‪ -24‬عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ط‪ ،1‬شرحه وعلق عليه ووضع فهارسه د‪ .‬محمد‬
‫التنجي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪1425 ،‬هـ ‪2005 -‬م‪ ،‬ص ‪.282‬‬

‫‪86‬‬

‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like