You are on page 1of 14

‫إزالة الحزن من قلب النبي ﷺ بعد أحد ومناقشة الكفار والبخالء وتمييز الخبيث من الطيب‬

‫‪DIHILANGKANNYA KESEDIHAN DARI HATI‬‬


‫‪,RASULULLAH SAW. SETELAH PERANG UHUD‬‬
‫‪BANTAHAN TERHADAP KAUM KAFIR DAN‬‬
‫‪ORANG.ORANG KI KlR SERTA MEMBEDAKAN‬‬
‫‪ANTARAYANG BURUK DAN YANG BAIK‬‬
‫‪All’lmran Ayat 176 – 180‬‬
‫[سورة آل عمران (‪ :)٣‬اآليات ‪ ١٧٦‬الى ‪]١٨٠‬‬
‫َظي ٌم (‬ ‫ُسار ُعونَ فِي ال ُك ْف ِر إنَّهُ ْم لَ ْن يَضُرُّ وا هَّللا َ َش ْيًئا ي ُِري‪ُ f‬د هَّللا ُ أالَّ يَجْ َع‪َ f‬ل لَهُ ْم َحظًّ‪f‬ا فِي اآل ِخ‪َ f‬ر ِة ولَهُ ْم َع‪ff‬ذابٌ ع ِ‬ ‫ك الَّ ِذينَ ي ِ‬ ‫وال يَحْ ُز ْن َ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬
‫ْمان لَ ْن يَضُرُّ وا َ َش‪ْ f‬يًئا ولَهُ ْم َع‪ff‬ذابٌ ألِي ٌم (‪ )١٧٧‬وال يَحْ َس‪f‬بَ َّن ال ِذينَ َكفَ‪f‬رُوا أنم‪ff‬ا نُ ْملِي لَهُ ْم‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫إن ال ِذينَ اشتَ َر ُوا الكف َر بِاإلي ِ‬‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫‪َّ )١٧٦‬‬
‫ين (‪ )١٧٨‬ما ك‪ff‬انَ هَّللا ُ لِيَ‪َ f‬ذ َر ال ُم‪ْ f‬ؤ ِمنِينَ عَلى م‪ff‬ا أ ْنتُ ْم َعلَ ْي‪ِ f‬ه َحتّى يَ ِم‪ff‬يزَ‬ ‫خَ ْي ٌر أِل ْنفُ ِس ِه ْم إنَّما نُ ْملِي لَهُ ْم لِيَ ْزدادُوا ْإث ًما ولَهُ ْم عَذابٌ ُم ِه ٌ‬
‫وإن تُْؤ ِمنُ‪ff‬وا‬
‫ُس‪ff‬لِ ِه ْ‬ ‫ُس ‪f‬لِ ِه َمن يَش‪ff‬ا ُء فَ‪ff‬آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ ور ُ‬ ‫ب ول ِك َّن هَّللا َ يَجْ تَبِي ِمن ر ُ‬‫ُطلِ َع ُك ْم عَلى ال َغ ْي ِ‬‫ب وم‪ff‬ا ك‪ff‬انَ هَّللا ُ ِلي ْ‬ ‫يث ِمنَ الطَّيِّ ِ‬ ‫ال َخبِ َ‬
‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وتَتَّقُوا فَلَ ُك ْم أجْ ٌر َع ِظي ٌم (‪ )١٧٩‬وال يَحْ َسبَ َّن ال ِذينَ يَ ْب َخلونَ بِما آتاهُ ُم ُ ِمن فَضْ لِ ِه هُ َو خَ ْيرًا لَهُ ْم بَلْ هُ‪َ f‬و َش‪ٌّ f‬ر لَهُ ْم َس‪f‬يُطَ َّوقُونَ م‪ff‬ا‬
‫ض وهَّللا ُ بِما تَ ْع َملُونَ َخبِي ٌر (‪)١٨٠‬‬ ‫ت واألرْ ِ‬ ‫يراث السَّماوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫بَ ِخلُوا بِ ِه يَوْ َم القِيا َم ِة وهَّلِل ِ ِم‬
‫راب‪:‬‬ ‫اإلع‬
‫ك قرئ بفتح الياء وضمها‪ ،‬فمن قرأ بالفتح جعله من حزنه وهو فعل ثالثي‪ ،‬ومن قرأ بالضم جعله من أحزنه‪ ،‬وه‪f‬و‬ ‫وال يَحْ ُز ْن َ‬
‫فع‪fffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffff‬ل رب‪fffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffff‬اعي‪.‬‬
‫وال يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا يَحْ َسبَ َّن‪ :‬قرئ بالياء والتاء‪ ،‬فمن قرأ بالي‪ff‬اء ك‪ff‬ان الَّ ِذينَ َكفَ‪f‬رُوا في موض‪ff‬ع رف‪ff‬ع بأن‪ff‬ه فاع‪ff‬ل يَحْ َس‪f‬بَ َّن‪،‬‬
‫وتقديره‪ :‬وال يحسبن الكافرون‪ .‬والَّ ِذينَ اسم موصول‪ ،‬والهاء المحذوف‪ff‬ة من نُ ْملِي هي العائ‪ff‬د إلي‪ff‬ه‪ .‬وخَ ْي‪ٌ f‬ر خ‪ff‬بر أن‪ ،‬وأن وم‪ff‬ا‬
‫عملت فيه سدت مس ّد المفعولين‪ .‬ومن قرأ بالتاء كان الَّ ِذينَ المفعول األول‪ ،‬وأنَّما وما بعدها بدال من الَّ ِذينَ وس ّد مسد المفع‪ff‬ول‬
‫الث‪ffffffffffffffff‬اني‪ ،‬وم‪ffffffffffffffff‬ا بمع‪ffffffffffffffff‬نى ال‪ffffffffffffffff‬ذي‪ ،‬وتك‪ffffffffffffffff‬ون م‪ffffffffffffffff‬ا ونملي مص‪ffffffffffffffff‬درا‪.‬‬
‫وال يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ يَحْ َسبَ َّن‪ :‬قرئ بالياء والتاء‪ ،‬فمن قرأ بالياء فموضع الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ رف‪ff‬ع ألن‪ff‬ه فاع‪ff‬ل حس‪ff‬ب‪ ،‬وح‪ff‬ذف‬
‫المفعول األول لداللة الكالم عليه‪.‬‬
‫وهُ‪َ fffff‬و ض‪fffff‬مير فص‪fffff‬ل عن‪fffff‬د البص‪fffff‬ريين‪ ،‬وعم‪fffff‬اد عن‪fffff‬د الكوف‪fffff‬يين‪ .‬و َخيْ‪fffff‬رًا مفع‪fffff‬ول ث‪fffff‬اني منص‪fffff‬وب‪.‬‬
‫وتقديره‪ :‬وال يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم هللا من فضله البخل خيرا لهم‪ .‬ومن قرأ بالتاء فموضع الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ نصب ألن‪ff‬ه‬
‫مفعول أول على تقدير ح‪f‬ذف مض‪f‬اف تق‪f‬ديره‪ :‬وال تحس‪f‬بن بخ‪f‬ل ال‪f‬ذين يبخل‪f‬ون‪ .‬وهُ‪َ f‬و فص‪f‬ل‪ .‬وخَ يْ‪f‬رًا ه‪f‬و المفع‪f‬ول الث‪f‬اني‪.‬‬

‫ة‪:‬‬ ‫البالغ‬
‫ب إذ يراد به المؤمن والمنافق‪ .‬ويوجد طباق في‬ ‫َّ‬
‫يث والطيِّ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ُسار ُعونَ فِي الكف ِر وفي ال َخبِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يوجد استعارة في اشتَ َر ُوا الكف َر وفي ي ِ‬
‫ال ُك ْف‪َ fffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffff‬ر‪ ،‬بِاإلي‬
‫ْم‪fffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffff‬ان‬
‫ِ‬

‫ة‪:‬‬ ‫ردات اللغوي‬ ‫المف‬


‫ْ‬
‫ُسار ُعونَ فِي ال ُكف ِر يبادرون‬ ‫ْ‬
‫وال يَحْ ُزن َ‬
‫ك يكدرك ويؤلمك‪ ،‬من حزن بمعنى أحزن ي ِ‬
‫في نصرته‪ ،‬وهم أهل مكة أو المنافقون‪ ،‬أي ال تهتم لكفرهم‪َ .‬حظًّ‪ff‬ا نص‪ff‬يبا من الث‪ff‬واب فِي ِ‬
‫اآلخ‪َ f‬ر ِة في الجن‪ff‬ة‪ ،‬فل‪ff‬ذلك خ‪ff‬ذلهم‪.‬‬
‫ا ْشتَ َر ُوا ال ُك ْف َر أخذوا الكفر بدل اإليمان‪ ،‬كما يفعل المشتري بمبادلة المبيع بالثمن‪.‬‬
‫نُ ْملِي نمهل‪ ،‬واإلمالء‪ :‬اإلمهال لَهُ ْم بتطويل األعمار وتأخيرهم‪.‬‬
‫لِيَ ْزدادُوا ْإث ًما بكثرة المعاصي أي لتكون عاقبتهم زيادة اإلثم‪ .‬ولَهُ ْم عَذابٌ ُم ِه ٌ‬
‫ين ذو إهانة في اآلخرة‪.‬‬

‫يث المنافق ِمنَ الطَّيِّ ِ‬


‫ب المؤمن‪ ،‬أي ليظهر الفارق الواضح بين المنافق والمؤمن بالتك‪ff‬اليف‬ ‫يَ ِمي َز أي يميّز ويفرز ويفصل ال َخبِ َ‬
‫الشاقة‪ ،‬كما في يوم أحد‪.‬‬
‫ب فتعرف‪ffffffffffff‬وا المن‪ffffffffffff‬افق من غ‪ffffffffffff‬يره قب‪ffffffffffff‬ل التمي‪ffffffffffff‬يز‪.‬‬ ‫وم‪ffffffffffff‬ا ك‪ffffffffffff‬انَ هَّللا ُ لِي ْ‬
‫ُطلِ َع ُك ْم عَلى ال َغ ْي ِ‬
‫يَجْ تَبِي يختار ويصطفي ِمن ُر ُسلِ ِه َمن يَشا ُء فيطلعه على غيبه‪ ،‬كما أطلع النبي ﷺ على ح‪ff‬ال المن‪ff‬افقين وتَتَّقُ‪ff‬وا النف‪ff‬اق آت‪ff‬اهُ ُم‬
‫أعطاهم من مال غيره َسيُطَ َّوقُونَ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ما بَ ِخلُوا بِ ِه أي بزكاته يَوْ َم القِيا َم‪ِ f‬ة ب‪ff‬أن يجع‪ff‬ل‬
‫ض يرثهم‪ff‬ا بع‪ff‬د فن‪ff‬اء أهلهم‪ff‬ا والم‪ff‬يراث‪ :‬م‪ff‬ا يتوارث‪ff‬ه‬ ‫ت واألرْ ِ‬ ‫ُ‬
‫يراث السَّماوا ِ‬ ‫حية في عنقه تنهشه كما ورد في الحديث‪ .‬وهَّلِل ِ ِم‬
‫أهلهما من مال وغيره وهَّللا ُ بِما تَ ْع َملُونَ خَ بِي ٌر فيجازيكم به‪.‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬
‫نزول اآلية (‪:)١٧٩‬‬
‫ما كانَ هَّللا ُ ِليَ َذ َر‪:‬‬
‫قال السدي‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪ :‬عرضت عل ّي أمتي في صورها كما عرض‪ff‬ت على آدم‪ ،‬وأعلمت من ي‪ff‬ؤمن بي ومن يكف‪ff‬ر‪،‬‬
‫فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا‪ :‬يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر‪ ،‬ونحن معه وال يعرفن‪ff‬ا‪ ،‬ف‪ff‬أنزل هللا تع‪ff‬الى‬
‫هذه اآلية‪.‬‬
‫وقال الكلبي‪ :‬قال قريش‪ :‬تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار‪ ،‬وهللا عليه غضبان‪ ،‬وأن من اتبع‪ff‬ك على دين‪ff‬ك فه‪ff‬و من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬وهللا عنه راض‪ ،‬فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن ال يؤمن بك‪ ،‬فأنزل هللا تعالى هذه اآلية‪.‬‬
‫وقال الكلبي‪ :‬قال قريش‪ :‬تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار‪ ،‬وهللا عليه غضبان‪ ،‬وأن من اتبع‪ff‬ك على دين‪ff‬ك فه‪ff‬و من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬وهللا عنه راض‪ ،‬فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن ال يؤمن بك‪ ،‬فأنزل هللا تعالى هذه اآلية‪.‬‬
‫وقال الكلبي‪ :‬قال قريش‪ :‬تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار‪ ،‬وهللا عليه غضبان‪ ،‬وأن من اتبع‪ff‬ك على دين‪ff‬ك فه‪ff‬و من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬وهللا عنه راض‪ ،‬فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن ال يؤمن بك‪ ،‬فأنزل هللا تعالى هذه اآلية‪.‬‬
‫وقال أبو العالية‪ :‬سأل المؤمنون أن يعطوا عالمة يفرق بها بين المؤمن والمنافق‪ ،‬فأنزل هللا تعالى هذه اآلية (‪.)١‬‬

‫سبب نزول اآلية (‪:)١٨٠‬‬


‫{وال يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْب َخلُونَ ‪ .}.‬جمهور المفسرين على أنها أنزلت في م‪ff‬انعي الزك‪ff‬اة‪ .‬وروى عطي‪ff‬ة عن ابن عب‪ff‬اس أن اآلي‪ff‬ة‬
‫َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى هللا عليه وسلم ونب ّوته‪ ،‬وأراد بالبخل‪ :‬كتمان العلم الذي آتاهم هللا تع‪ff‬الى‬
‫(‪.)٢‬‬

‫المناسبة‪:‬‬
‫أدى انتصار المشركين في أح‪ff‬د وإص‪ff‬ابة المؤم‪ff‬نين بش‪ff‬يء كث‪ff‬ير من األذى‪ ،‬إلى اس‪ff‬تغالل المن‪ff‬افقين تل‪ff‬ك النتيج‪ff‬ة‪ ،‬فص‪ff‬اروا‬
‫يقولون‪ :‬لو كان محمد نبيا ما قتل وال هزم‪ ،‬وإنما هو ط‪f‬الب مل‪f‬ك‪ ،‬فت‪f‬ارة ينتص‪f‬ر وت‪f‬ارة ينه‪f‬زم‪ ،‬وب‪f‬ادروا في نص‪f‬رة الكف‪f‬ار‬
‫وتثبيط‍ المؤمنين عن القتال‪ ،‬فتألم النبي صلّى هللا عليه وسلّم وحزن‪ ،‬فنزلت هذه اآليات تسري عنه وتزيل الحزن من نفس‪ff‬ه‪،‬‬
‫{وال يَحْ ُز ْنكَ قَ‪ff‬وْ لُهُ ْم‪ِ ،‬إ َّن‬
‫كما س ّر ى عنه حينما أعرض الكافرون عن اإليمان‪ ،‬وطعنوا في القرآن أو شخصه‪ ،‬في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ث َأ َس‪f‬فاً} [الكه‪f‬ف ‪/٦‬‬ ‫آث‪f‬ار ِه ْم ِإ ْن لَ ْم يُْؤ ِمنُ‪f‬وا بِه‪َ f‬ذا ْال َح‪ِ f‬دي ِ‬
‫ِ‬ ‫ْال ِع َّزةَ هّلِل ِ َج ِميعاً} [يونس ‪ ]١٠ /٦٥‬وقوله‪{ :‬فَلَ َعلَّ َ‬
‫ك ب‪f‬ا ِخ ٌع نَ ْف َس‪َ f‬‬
‫ك عَلى‬
‫‪.]١٨‬‬

‫التفسير والبيان‪:‬‬
‫يخاطب هللا تعالى نبيه صلّى هللا عليه وسلّم لشدة حرصه على الن‪ff‬اس‪ :‬ال يحزن‪ff‬ك أيه‪ff‬ا الرس‪ff‬ول مب‪ff‬ادرة الكف‪ff‬ار إلى المخالف‪ff‬ة‬
‫والعناد والشقاق ومناصرة الكفر‪ ،‬كأبي سفيان وغيره من أهل مكة‪ ،‬واليهود والمنافقين‪.‬‬
‫إنهم لن يضروا أولياء هللا وهم النبي وصحته ش‪ff‬يئا من الض‪ff‬رر‪ ،‬وإنم‪ff‬ا يض‪ff‬رون أنفس‪ff‬هم‪ ،‬ويح‪ff‬اربون هللا تع‪ff‬الى ويس‪ff‬تعدونه‬
‫عليهم والدائرة تكون عليهم‪ ،‬ويحرمون من ثواب هللا تعالى في اآلخرة‪ ،‬ولهم عذاب عظيم ال يعرف قدره‪ ،‬وهللا يع‪ff‬اقبهم على‬
‫فعلهم ال يظلمهم‪ ،‬وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكف‪ff‬رهم وض‪ff‬اللهم ومناص‪ff‬رتهم مل‪ff‬ة الكف‪ff‬ر ومقاوم‪ff‬ة المؤم‪ff‬نين‪َ { :‬وال يَ ِحي‪ُ f‬‬
‫ق‬
‫ْال َم ْك ُر ال َّسيُِّئ ِإالّ بَِأ ْهلِ ِه}‪.‬‬
‫[فاطر ‪ ]٣٥ /٤٣‬وهذا يدل على أنه ال يؤبه بهم وال يخشى خطرهم‪.‬‬
‫‪f‬ر‪ِ ،‬منَ الَّ ِذينَ ق‪ff‬الُوا‪ :‬آ َمنّ‪ff‬ا بِ‪َf‬أ ْفوا ِه ِه ْم َولَ ْم تُ‪ْf‬ؤ ِم ْن‬
‫‪f‬ار ُعونَ فِي ْال ُك ْف‪ِ f‬‬
‫ك الَّ ِذينَ يُس‪ِ f‬‬ ‫وهي مثل قوله تعالى‪{ :‬ي‪ff‬ا َأيُّهَ‪ff‬ا الر ُ‬
‫َّس‪f‬ولُ‪ ،‬ال يَحْ ُز ْن‪َ f‬‬
‫قُلُوبُهُ ْم} [المائدة ‪.]٥ /٤١‬‬
‫وهذا ال يقتصر عليهم‪ ،‬وإنما هو حكم عام مقرر يشمل ك‪ff‬ل من آث‪f‬ر الكف‪f‬ر على اإليم‪ff‬ان‪ ،‬ل‪ff‬ذا ق‪f‬ال‪ :‬إن ال‪f‬ذين اس‪f‬تبدلوا الكف‪ff‬ر‬
‫باإليمان لن يضروا هللا شيئا‪ ،‬ولكن يضرون أنفسهم‪ ،‬ولهم عذاب مؤلم شديد األلم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ت‪ ،‬بَ‪f‬لْ ال يَ ْش‪ُ f‬عرُونَ } [المؤمن‪f‬ون ‪]٢٣ /٥٥‬‬ ‫ع لَهُ ْم فِي ْال َخ ْي‪ff‬را ِ‬ ‫وهي تشبه آية {َأيَحْ َسبُونَ َأنَّما نُ ِم ُّدهُ ْم بِ‪ِ f‬ه ِم ْن م‪f‬ا ٍل َوبَنِينَ ‪ ،‬نُ ِ‬
‫س‪f‬ار ُ‬
‫َأ‬
‫ْج ْب‪ff‬كَ ْم‪ff‬والُهُ ْم‬
‫{وال تُع ِ‬
‫ْث ال يَ ْعلَ ُم‪ff‬ونَ } [القلم ‪ ]٦٨ /٤٤‬وآي‪ff‬ة‪َ :‬‬ ‫وآي‪ff‬ة‪{ :‬فَ‪َ f‬ذرْ نِي َو َم ْن يُ َك‪ِّ f‬ذبُ بِه‪َ f‬ذا ْال َح‪ِ f‬دي ِ‬
‫ث َسن َْس‪f‬تَ ْد ِر ُجهُ ْم ِم ْن َحي ُ‬
‫ق َأ ْنفُ ُسهُ ْم َوهُ ْم كافِرُونَ } [التوبة ‪.]٩ /٨٥‬‬
‫َوَأوْ ال ُدهُ ْم‪ِ ،‬إنَّما ي ُِري ُد هللاُ َأ ْن يُ َع ِّذبَهُ ْم بِها فِي ال ُّد ْنيا‪َ ،‬وت َْزهَ َ‬
‫ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين‪ ،‬فأخبر أنه ال يحسبن هؤالء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير‬
‫ألنفسهم؛ ألنهم ال يستغلون العمر في عمل الخير‪ ،‬وإنما يستغلونه في الشر‪ ،‬فتكون عاقبتهم ازدياد اإلثم على اإلثم‪ ،‬والمبالغة‬
‫في الباطل والبهتان‪ ،‬ولهم عذاب مهين‪ :‬ذو إهانة وإذالل لهم‪ ،‬أي إنما هو مع ّد لهم‪.‬‬
‫وال يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد اإلثم كما يفعلون‪ ،‬وإنما اإلمهاللهم هو ليتوبوا ويدخلوا في اإليمان‪ ،‬ال لزيادة اإلثم‬
‫وللتعذيب‪ f،‬فيكون اإلمالء خيرا لهم‪ ،‬ولكن علم هللا سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائ‪ff‬رة الح‪ff‬ق والخ‪ff‬ير والرش‪ff‬اد‪ ،‬فه‪ff‬ؤالء لهم‬
‫عذاب مهين‪.‬‬
‫قال الزمخشري في قوله‪َ{ :‬أنَّما نُ ْملِي لَهُ ْم}‪ :‬ما‪ :‬هذه حقها أن تكتب متص‪ff‬لة؛ ألنه‪ff‬ا كاف‪ff‬ة‪ ،‬دون األولى‪ .‬وه‪ff‬ذه جمل‪ff‬ة مس‪ff‬تأنفة‬
‫تعليل للجملة قبلها‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬ما بالهم ال يحسبون اإلمالء خيرا لهم؟ فقيل‪ِ{ :‬إنَّما نُ ْملِي لَهُ ْم لِيَ ْزدادُوا ِإ ْثماً}‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف جاز أن يكون ازدياد اإلثم غرضا هلل تعالى في إمالئه لهم؟ قلت‪ :‬هو علة لإلمالء‪ ،‬وما كل عل‪f‬ة بغ‪f‬رض‪ ،‬فل‪f‬و‬
‫قلت‪ :‬قعدت عن الغزو للعجز والفاقة‪ ،‬وخرجت من البلد لمخافة الشر‪ ،‬ليس شيء منها بغرض لك‪ ،‬وإنما هي علل وأس‪ff‬باب‪،‬‬
‫فكذلك ازدياد اإلثم جعل علة لإلمهال وسببا فيه‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف يكون ازدياد اإلثم علة لإلمالء‪ ،‬كما كان العجز عل‪f‬ة للقع‪f‬ود عن الح‪f‬رب؟ قلت‪ :‬لم‪f‬ا ك‪f‬ان في علم هللا المحي‪f‬ط‍‬
‫بكل شيء أنهم مزدادون إثما‪ ،‬فكأن اإلمالء وقع من أجله وبسببه‪ ،‬على طريق المجاز (‪.)١‬‬
‫والخالصة‪ :‬إن هذا اإلمهال والتأخير ليس عناية من هللا بهم‪ ،‬وإنما هو قد جرى على سنته في الخلق‪ :‬بأن ما يصيب اإلنس‪ff‬ان‬
‫من خير أو شر‪ ،‬فإنما هو ثمرة عمله‪ .‬ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يغتر اإلنسان بهذا اإلمهال‪ ،‬ويسترس‪ff‬ل في فج‪ff‬وره‪،‬‬
‫فيوقعه ذلك في اإلثم‪ ،‬الذي يترتب عليه العذاب المهين (‪.)٢‬‬
‫ثم بيّن هللا تعالى أن المحن والشدائد تظهر صدق اإليمان‪ ،‬وأنه ال بد من أن يعقد شيئا من المحنة‪ ،‬يظهر فيه وليه ويفضح‬
‫به عدوه‪ ،‬فال يترك الناس على مثل حالتهم ي‪ff‬وم أح‪ff‬د‪ ،‬ح‪ff‬تى يم‪ff‬يز الم‪f‬ؤمن من المن‪f‬افق‪ ،‬ويع‪f‬رف الم‪ff‬ؤمن الص‪f‬ابر والمن‪ff‬افق‬
‫الفاجر‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم َحتّى نَ ْعلَ َم ْال ُمجا ِه ِدينَ ِم ْن ُك ْم َوالصّابِ ِرينَ } [محمد ‪.]٤٧ /٣١‬‬
‫يقصد به أن يوم أحد كان اختبارا امتحن هللا به المؤمنين‪ ،‬فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وط‪ff‬اعتهم هلل ولرس‪ff‬وله‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وهتك به ستار المنافقين‪ ،‬فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد‪ ،‬وخيانتهم هلل ولرسوله صلّى هللا علي‪ff‬ه‬
‫وسلّم‪.‬‬
‫وقد يفكر بعض الناس أن تمييز المؤمن الصادق من المنافق يحدث بالوحي وبأن يطلع هللا المؤم‪ff‬نين على الغيب‪ ،‬فأج‪ff‬اب هللا‬
‫تعالى‪ :‬لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عام‪f‬ة الن‪f‬اس على الغيب‪ ،‬وإنم‪f‬ا خل‪f‬ق اإلنس‪f‬ان وق‪f‬در ل‪f‬ه أن يص‪f‬ل إلى م‪f‬راده بعمل‪f‬ه‬
‫الكسبي الذي ترشد إليه الفطرة ويهدي إليه الدين وتدل عليه النبوة‪ ،‬فهو تعالى يختار من رسله من يشاء‪ ،‬ويطلعه على بعض‬
‫ول} [الجن ‪ ]٢٧ - ٧٢ /٢٦‬ثم‬ ‫ب فَال ي ْ‬
‫ُظ ِه ُر عَلى َغ ْيبِ ِه َأ َح‪ff‬داً‪ِ ،‬إالّ َم ِن ارْ تَض‪ff‬ى ِم ْن َر ُس‪ٍ f‬‬ ‫المغيبات‪ ،‬كما قال سبحانه‪{ :‬عالِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫يخبر الرسول بعض الناس بنفاق رجل وإخالص آخر‪ ،‬فيكون مصدر ذلك الخبر هو اطالع هللا على كفر أناس وإيم‪ff‬انهم‪ ،‬ال‬
‫أنه يطلعه على ما في القلوب اطالع هللا‪.‬‬
‫ثم يترك الناس لتمييز المؤمن منهم والمنافق بواسطة األسباب الكاشفة عن ذلك‪.‬‬
‫لذا يجب عليكم اإليم‪ff‬ان باهلل والرس‪ff‬ل ومنهم محم‪ff‬د ص‪f‬لّى هللا علي‪ff‬ه وس‪ff‬لّم‪ ،‬وإطاع‪ff‬ة هللا والرس‪f‬ول واتباع‪ff‬ه فيم‪ff‬ا ش‪ff‬رع لكم‪،‬‬
‫الس‪ّ f‬دي‪ :‬ق‪ff‬ال‬
‫واالعتقاد بأن الرسل ال يخبرون عن شيء إال بم‪ff‬ا أخ‪ff‬برهم هللا ب‪ff‬ه من الغي‪ff‬وب‪ .‬وه‪ff‬ذا رد على الك‪ff‬افرين‪ ،‬ق‪ff‬ال ّ‬
‫الكافرون‪ :‬إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر‪ ،‬فنزلت‪.‬وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب‪ ،‬وتتق‪ff‬وا‬
‫هللا بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه‪ ،‬فلكم ثواب عظيم ال يستطيع أحد تحديد مقداره‪.‬‬
‫ويالحظ‍ أن القرآن يقرن دائما بين اإليم‪ff‬ان والتق‪ff‬وى‪ ،‬كم‪ff‬ا يق‪ff‬رن بين الص‪ff‬الة والزك‪ff‬اة‪ ،‬لتالزمهم‪ff‬ا واالعالم ب‪ff‬أن اإليم‪ff‬ان ال‬
‫يكتمل إال بهما‪ ،‬ويقرن أيضا بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال‪.‬‬
‫وبم‪ff‬ا أن اآلي‪ff‬ات الس‪ff‬ابقة ك‪ff‬انت في الحث على الجه‪ff‬اد والتح‪ff‬ريض على ب‪ff‬ذل النفس‪ ،‬أعقب ذل‪ff‬ك الحث على ب‪ff‬ذل الم‪ff‬ال في‬
‫الجهاد‪.‬‬
‫ّ‬
‫يظنن أحد أن بخل البخالء خير لهم بك‪f‬نز الم‪f‬ال وادخ‪f‬اره‪ ،‬وأن الج‪f‬ود واإلنف‪f‬اق يفق‪f‬ر‪ ،‬وإنم‪f‬ا ه‪f‬و ش‪f‬ر عظيم على األم‪f‬ة‬ ‫فال‬
‫والفرد في الدنيا واآلخ‪f‬رة‪ ،‬والم‪f‬راد بالبخ‪f‬ل‪ :‬حجب الزك‪f‬اة المفروض‪f‬ة عن المس‪f‬تحقين‪ ،‬وع‪f‬دم الص‪f‬دقة عن‪f‬د رؤي‪f‬ة حاج‪f‬ات‬
‫المحتاجين‪.‬‬
‫أما ضرر البخل في الدنيا فتعريض مال الغ‪ff‬ني للض‪ff‬ياع والنهب والس‪f‬رقة واألحق‪f‬اد‪ ،‬وفي عص‪f‬رنا وغ‪f‬يره ظه‪f‬ور الحمالت‬
‫الشنيعة على األغنياء المترفين‪ ،‬وانتشار األفكار والنظريات المسماة باالشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية‪.‬‬
‫وأما ضرره في اآلخرة والدين‪ f:‬فهو ما أخبر عنه تعالى بأنهم سيلزمون وبال بخلهم وعاقبة ش‪ff‬حهم إل‪ff‬زام الط‪f‬وق في العن‪ff‬ق‪،‬‬
‫فال يجدون مناصا وال مهربا من توجيه اللوم والسؤال والعقاب على فعلهم‪.‬‬
‫أخرج البخاري عن أبي هريرة قال‪:‬‬
‫قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬من آتاه هللا ماال‪ ،‬فلم يؤد زكاته‪ ،‬مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان‪ ،‬يطوّق‪ff‬ه ي‪ff‬وم القيام‪ff‬ة‪،‬‬
‫ض‪f‬لِ ِه‬‫{وال يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ بِم‪ff‬ا آت‪ff‬اهُ ُم هللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫يأخذ بلهزمتيه‪-‬أي شدقيه‪-‬ثم يقول‪ :‬أنا مالك‪ ،‬أنا كنزك» ثم تال هذه اآلية‪َ :‬‬
‫ه َُو خَ يْراً لَهُ ْم‪ ،‬بَلْ هُ‪َ f‬و َش‪ٌّ f‬ر لَهُ ْم‪ .}.‬إلى آخ‪ff‬ر اآلي‪ff‬ة‪ .‬والحقيق‪ff‬ة أن هلل م‪ff‬ا في الس‪ff‬موات واألرض مم‪ff‬ا يتوارث‪ff‬ه أهلهم‪ff‬ا من م‪ff‬ال‬
‫وغيره‪ ،‬فكيف يصح لقوم يبخلون عليه بملكه‪ ،‬وال ينفقونه في سبيله‪ .‬وهذا مثل قوله تع‪ff‬الى‪َ { :‬وَأ ْنفِقُ‪ff‬وا ِم ّم‪ff‬ا َج َعلَ ُك ْم ُم ْس‪f‬ت َْخلَفِينَ‬
‫فِي ِه} [الحديد ‪ ]٥٧ /٧‬فإن األمور كلها مرجعه‪ff‬ا إلى هللا ع‪ff‬ز وج‪ff‬ل‪ ،‬فق‪ff‬دموا من أم‪f‬والكم م‪ff‬ا ينفعكم ي‪ff‬وم مع‪ff‬ادكم‪ ،‬وهللا خب‪ff‬ير‬
‫بنياتكم وضمائركم وأعمالكم‪ ،‬ال تخفى عليه خافية منها‪ ،‬ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو سوء‪.‬‬

‫فقه الحياة أو األحكام‪:‬‬


‫ال داعي للغم والحزن على مناصرة الكفار واليهود والمنافقين ألوان الكف‪ff‬ر‪ ،‬فهم لن يض‪ff‬روا إال أنفس‪ff‬هم‪ ،‬بتعريض‪ff‬ها للع‪ff‬ذاب‬
‫الشديد‪ f،‬وباإلعالم عن سوء تصرفهم وسخف عقولهم وخطأ رأيهم‪ ،‬ولن يض‪f‬روا بالتأكي‪f‬د الن‪f‬بي ص‪f‬لّى هللا علي‪f‬ه وس‪f‬لّم‪ ،‬ف‪f‬إن‬
‫المطلوب منه هو اإلبالغ‪ ،‬وهللا مؤيده وناصره وحافظه وعاصمه من الناس‪.‬‬
‫لكن قال القشيري‪ :‬والحزن على كفر الكافر طاعة‪ ،‬ولكن النبي صلّى هللا عليه وسلّم كان يف‪f‬رط‍ في الح‪f‬زن على كف‪f‬ر قوم‪f‬ه‪،‬‬
‫‪f‬ار ِه ْم ِإ ْن لَ ْم‬ ‫ت} [ف‪ff‬اطر ‪ ]٣٥ /٨‬وق‪ff‬ال‪{ :‬فَلَ َعلَّكَ ب‪ff‬ا ِخ ٌع نَ ْف َس‪َ f‬‬
‫ك عَلى آث‪ِ f‬‬ ‫ك َعلَ ْي ِه ْم َح َس‪f‬را ٍ‬‫فنهي عن ذلك‪ ،‬كما قال‪{ :‬فَال ت َْذهَبْ نَ ْف ُس َ‬
‫ث َأ َسفاً} [الكهف ‪.]١٨ /٦‬‬ ‫يُْؤ ِمنُوا بِه َذا ْال َح ِدي ِ‬
‫ولن يضروا هللا شيئا أي ال ينقصون من ملك هللا وسلطانه شيئا بكفرهم‪.‬‬
‫وقد أكد تع‪ff‬الى ه‪ff‬ذا المع‪ff‬نى في كلت‪ff‬ا اآلي‪ff‬تين (‪ )١٧٦ ،١٧٧‬فهم س‪ff‬واء ب‪ff‬ادروا إلى نص‪ff‬رة الكف‪f‬ر‪ ،‬أو أخ‪ff‬ذوا الكف‪ff‬ر ب‪ff‬دال عن‬
‫اإليمان‪ ،‬لن يضروا هللا شيئا قليال وال كثيرا‪ ،‬وإنما يض ّرون أنفسهم بما أوجبوا لها من العذاب األليم‪.‬‬
‫وهللا تعالى ال يعجل أحدا بعقوبة على ذنب ولو كان الذنب كالكفر كبيرا‪ ،‬وإنما يمهله ويزيد في عمره ويوفر ل‪ff‬ه رغ‪ff‬د العيش‬
‫ليتوب ويتمكن من العمل الص‪ff‬الح‪ ،‬فك‪ff‬أن ش‪ff‬أن اإلمه‪ff‬ال وإطال‪ff‬ة العم‪ff‬ر أن يحق‪ff‬ق األث‪ff‬ر المنش‪ff‬ود وه‪ff‬و اإليم‪ff‬ان وطاع‪ff‬ة هللا‬
‫والرسول وزيادة الحسنات‪ ،‬واإلقالل من السيئات‪ ،‬ولكن األمر في واقع الن‪ff‬اس مفه‪ff‬وم خط‪ff‬أ‪ ،‬فاس‪ff‬تمروا في غيهم وض‪ff‬اللهم‬
‫وكفرهم‪ ،‬وتوهموا أن زيادة العمر ورغد العيش وإرجاء العذاب عنهم هو خير لهم‪ ،‬مع أنه شر مستطير وس‪ff‬بب لزي‪ff‬ادة اإلثم‬
‫والذنب‪ ،‬واستحقاق العذاب األليم جزاء وفاقا‪.‬‬
‫ال يحسبن هؤالء الذين يخوفون المسلمين ويشككونهم في جدوى اإليمان والعم‪ff‬ل الص‪ff‬الح أنهم يفعل‪ff‬ون خ‪ff‬يرا‪ ،‬ف‪ff‬إن هللا ق‪ff‬ادر‬
‫على إهالكهم‪ ،‬وال يظنون أن ما أصابوه من ظفر يوم أحد كان خيرا لهم‪ ،‬وإنما كان ذل‪ff‬ك س‪ff‬ببا في زي‪ff‬ادة عق‪ff‬وبتهم‪ .‬ق‪ff‬ال ابن‬
‫{وم‪ff‬ا ِع ْن‪َ f‬د هللاِ خَ ْي‪ٌ f‬ر لَِأْل ْب‪ِ f‬‬
‫‪f‬رار} [آل‬ ‫مسعود‪ :‬ما من أحد ب ّر وال فاجر إال والموت خير له؛ ألنه إن كان برّا فقد قال هللا تع‪ff‬الى‪َ :‬‬
‫عمران ‪ ]٣ /١٩٨‬وإن كان فاجرا فقد قال هللا‪ِ{ :‬إنَّما نُ ْملِي لَهُ ْم لِيَ ْزدادُوا ِإ ْثماً}‪.‬‬
‫وفي الشدائد والمحن اختبار مدى صدق اإليم‪ff‬ان‪ ،‬فبه‪ff‬ا يتم‪ff‬يز الم‪ff‬ؤمن والمن‪ff‬افق‪ ،‬وحينئذ‪ f‬ينكش‪ff‬ف ح‪ff‬ال المن‪ff‬افقين فيح‪ff‬ذرهم‬
‫المسلمون‪ ،‬ويقدرون مدى ما لديهم من القوة الصحيحة التي يمكن االعتماد عليها‪ ،‬بل إن المحنة توضح مدى إيمان الم‪ff‬ؤمن‪،‬‬
‫فال يغتر بالظواهر‪ ،‬ويقف على حقيقة حاله من ضعف في االعتقاد‪ ،‬وفساد في األخالق‪ ،‬ومرض في النفس‪.‬‬
‫واالطالع على الغيب مقص‪ff‬ور على األنبي‪ff‬اء والرس‪ff‬ل‪ ،‬فهم أه‪ff‬ل الكرافوض‪ff‬ح األم‪ff‬ر وب‪ff‬ان الطري‪ff‬ق‪ ،‬والن‪ff‬اس في الماض‪ff‬ي‬
‫والحاضر وكل زمان‪ :‬منهم من يصغي إلى الحق ويستجيب لندائه‪ ،‬كما فعل الكثير من الناس ومنهم بعض اليهود الذين قبلوا‬
‫باإليمان بدعوة اإلس‪ff‬الم والق‪ff‬رآن‪ ،‬ومنهم من يجه‪ff‬ر بمقاوم‪ff‬ة الح‪ff‬ق‪ ،‬ومناص‪f‬رة الباط‪ff‬ل‪ ،‬واإلع‪ff‬راض عن دع‪ff‬وة هللا الخيّ‪ff‬رة‬
‫المحققة لنفع البشرية وسعادتهم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة واالبتالء في الدنيا‬


‫ار َوُأ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ فَقَ ْد فازَ َو َما ْال َحياةُ ال ُّد ْنيا ِإالّ َمتا ُ‬
‫ع‬ ‫ُأ‬
‫ت َوِإنَّما تُ َوفَّوْ نَ جُو َر ُك ْم يَوْ َم ْالقِيا َم ِة فَ َم ْن ُزحْ ِز َح ع َِن النّ ِ‬ ‫س ذاِئقَةُ ْال َموْ ِ‬ ‫{ ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫ى َكثِ‪ff‬يراً َوِإ ْن‬ ‫ُور (‪ )١٨٥‬لَتُ ْبلَ ُو َّن فِي َأ ْموالِ ُك ْم َوَأ ْنفُ ِس‪ُ f‬ك ْم َولَت َْس‪َ f‬مع َُّن ِمنَ الَّ ِذينَ ُأوتُ‪ff‬وا ْال ِك َ‬
‫ت‪f‬اب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو ِمنَ الَّ ِذينَ َأ ْش‪َ f‬ر ُكوا َأذ ً‬ ‫ْال ُغر ِ‬
‫ُأْل‬ ‫تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُوا فَِإ َّن ذلِ َ‬
‫ور (‪ })١٨٦‬مة والمرتبة العالية ال‪ff‬تي ت‪ff‬ؤهلهم ل‪ff‬ذلك االطالع‪ ،‬وم‪ff‬ا على الن‪ff‬اس إال أن‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم ا ُم ِ‬
‫يؤمنوا بما جاء به الرسل من أخب‪f‬ار الغيب‪ ،‬ويتق‪f‬وا هللا ح‪f‬ق تقات‪ff‬ه بامتث‪f‬ال الم‪ff‬أمورات وت‪f‬رك المنهي‪f‬ات والمحظ‪f‬ورات‪ .‬وال‬
‫يش‪ff‬تغل الكف‪ff‬ار بم‪ff‬ا ال يع‪ff‬نيهم من تع‪ff‬ريفهم بمن ي‪ff‬ؤمن منهم ومن ال ي‪ff‬ؤمن‪ ،‬وعليهم االش‪ff‬تغال بم‪ff‬ا يع‪ff‬نيهم وه‪ff‬و اإليم‪ff‬ان أي‬
‫التصديق واليقين ال التشوف إلى اطالع الغيب‪ ،‬فإن آمنوا واتقوا لهم الجنة‪.‬‬
‫ودلت آية { َوال يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ ‪ .}.‬على ما يأتي‪:‬‬

‫‪-‬‬ ‫‪١‬ال يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم‪ ،‬بل هو شر لهم؛ ألنهم ببخلهم يعرّض‪ff‬ون‬
‫أموالهم للضياع والتلف والسرقة وغيرها‪ ،‬ويضرون أمتهم لتقصيرهم بم‪ff‬ا يجب‬
‫عليهم من التكافل االجتماعي والتعاون على القضاء على ظ‪ff‬اهرة الفق‪ff‬ر‪ ،‬والفق‪ff‬ر‬
‫‪.‬يضر باألمة جمعاء‪ ،‬وحياة األمم متوقفة على بذل النفس والمال‬
‫والفرق بين البخل والشح‪ :‬أن األول‪ :‬ه‪f‬و االمتن‪ff‬اع من إخ‪f‬راج م‪f‬ا حص‪f‬ل عن‪ff‬دك‪ ،‬والث‪f‬اني‪ :‬الح‪f‬رص على تحص‪ff‬يل م‪f‬ا ليس‬
‫‪،‬عندك‪ .‬والصحيح أن الشح هو البخل مع حرص‬
‫‪:‬لما رواه مسلم عن جابر بن عبد هللا أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قال‬
‫اتقوا الظلم‪ ،‬فإن الظلم ظلمات يوم القيامة‪ ،‬واتق‪f‬وا الش‪f‬ح‪ ،‬ف‪f‬إن الش‪f‬ح أهل‪f‬ك من ك‪f‬ان قبلكم‪ ،‬حملهم على أن س‪f‬فكوا دم‪f‬اءهم‪«،‬‬
‫‪».‬واستحلوا محارمهم‬

‫ت َواَأْلرْ ِ‬
‫ض} ي‪ff‬دل على بق‪ff‬اء هللا تع‪ff‬الى ودوام ملك‪ff‬ه‪ ،‬وأن‪ff‬ه في األب‪ff‬د كه‪ff‬و في األزل غ‪ff‬ني عن‬ ‫ُ‬ ‫{وهّلِل ِ ِم‪f‬‬
‫‪f‬يراث َّ‬
‫الس ‪f‬ماوا ِ‬ ‫‪َ –٢‬‬
‫العالمين‪ ،‬فيرث األرض بعد فناء خلقه وزوال أمالكهم‪ ،‬فتبقى األمالك واألموال ال م ّدعى فيها‪ ،‬فجرى ه‪ff‬ذا مج‪ff‬رى الوراث‪ff‬ة‬
‫‪:‬في عادة الخلق‪ ،‬وهو ليس بميراث في الحقيقة‪ ،‬ألن الوارث في الحقيقة‬
‫هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى مالك السموات واألرض وما بينهم‪ff‬ا‪ .‬ونظ‪ff‬ير ه‪ff‬ذه اآلي‪ff‬ة قول‪ff‬ه‬
‫ث اَأْلرْ َ‬
‫ض َو َم ْن َعلَيْها} [مريم ‪ ]١٩ /٤٠‬والمعنى في اآلي‪ff‬تين‪ :‬أن هللا تع‪ff‬الى أم‪ff‬ر عب‪ff‬اده ب‪ff‬أن ينفق‪ff‬وا وال‬ ‫تعالى‪ِ{ :‬إنّا نَحْ نُ ن َِر ُ‬
‫‪.‬يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا هلل تعالى‪ ،‬وال ينفعهم إال ما أنفقوا‬
‫‪ – ٣‬علم هللا تعالى واسع ودقيق‪ ،‬فهو يعلم صغار األشياء واألعمال وكبارها‪ ،‬ويعلم ما د ّ‬
‫ق وخفي من األعمال‪ ،‬بل يعلم السر‬
‫وأخفى‪ ،‬فيجازي كل عامل بما عمل‪ ،‬ويكافئه بحسب نيته‪ ،‬كما جاء‬
‫‪:‬في الحديث المشهور عن عمر لدى الشيخين‬
‫‪».‬إنما األعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى«‬
‫بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى هللا وتكذيبهم النبي صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫‪f‬ق{‬ ‫َذاب ْال َح ِري‪ِ f‬‬
‫ق َونَقُو ُل ُذوقُوا ع َ‬ ‫لَقَ ْد َس ِم َع هللاُ قَوْ َل الَّ ِذينَ قالُوا ِإ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء َسنَ ْكتُبُ ما قالُوا َوقَ ْتلَهُ ُم اَأْل ْنبِيا َء بِ َغي ِْر َح ٍّ‬
‫ْأ‬
‫ْس بِظَالّ ٍم لِ ْل َعبِي‪ِ f‬د (‪ )١٨٢‬الَّ ِذينَ ق‪f‬الُوا ِإ َّن هللاَ َع ِه‪َ f‬د ِإلَيْن‪f‬ا َأالّ نُ‪ْf‬ؤ ِمنَ لِ َر ُس‪f‬و ٍل َحتّى يَ تِيَن‪f‬ا‬ ‫ت َأيْ‪ِ f‬دي ُك ْم َوَأ َّن هللاَ لَي َ‬
‫(‪ )١٨١‬ذلِكَ بِما قَ َّد َم ْ‬
‫ك فَقَ‪ْ f‬د‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ت َوبِال ِذي قلتُ ْم فَلِ َم قَتَلتُ ُم‪ff‬وهُ ْم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ص‪ff‬ا ِدقِينَ (‪ )١٨٣‬فَ‪ِf‬إ ْن َك‪ f‬ذبُو َ‬ ‫َّ‬ ‫بِقُرْ با ٍن تَْأ ُكلُهُ النّا ُر قُلْ قَ ْد جا َء ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن قَ ْبلِي بِالبَيِّن‪ff‬ا ِ‬
‫ْ‬
‫ير (‪)١٨٤‬‬ ‫ب ْال ُمنِ ِ‬
‫الزب ُِر َو ْال ِكتا ِ‬
‫ت َو ُّ‬ ‫ب ُر ُس ٌل ِم ْن قَ ْبلِكَ جاُؤ بِ ْالبَيِّنا ِ‬ ‫} ُك ِّذ َ‬

‫‪:‬اإلعراب‬
‫مفعول به‪ ،‬و {قَ ْتلَهُ ُم}‪ :‬معطوف منصوب على {ما} و {اَأْل ْنبِيا َء} منصوب بالمصدر المض‪ff‬اف وه‪ff‬و ‪}:‬ما{ } َسنَ ْكتُبُ ما{‬
‫‪{.‬قَ ْتلَهُ ُم}‪ ،‬وقرئ سيكتب بالبناء للمجهول‪ ،‬وحينئذ تكون {ما} مرفوعا نائب فاعل‬

‫‪:‬البالغة‬
‫أكد اليهود نسبة الفقر إلى هللا على سبيل المبالغة واإلغراق في الكفر‪ ،‬ووص‪f‬فوا أنفس‪ff‬هم ب‪f‬الغنى }ِإ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء{‬
‫‪.‬بجملة اسمية دون تأكيد للداللة على أن الغنى وصف الزم لهم ال يحتاج لمؤكد‬
‫‪.‬هللا ال يكتب وإنما يأمر بالكتابة مالئكته‪ f،‬فأسند الفعل إليه من قبيل المجاز العقلي } َسنَ ْكتُبُ ما قالُوا{‬
‫ت َأ ْي ِدي ُك ْم{‬
‫‪.‬مجاز مرسل من إطالق الجزء وإرادة الكل‪ ،‬وذكر األيدي بالذات لكثرة تداول األعمال بهن }قَ َّد َم ْ‬

‫إسناد األكل إلى الن‪ff‬ار من طري‪ff‬ق االس‪ff‬تعارة؛ ألن حقيق‪ff‬ة األك‪ff‬ل تك‪ff‬ون لإلنس‪ff‬ان والحي‪ff‬وان‪ .‬يوج‪ff‬د طب‪ff‬اق بين }تَْأ ُكلُهُ النّا ُر{‬
‫ك بِظَالّ ٍم لِ ْل َعبِي ِد} ليست للمبالغ‪ff‬ة‬ ‫{فَقِيرٌ} و {َأ ْغنِيا ُء} وجناس مغاير في {قَوْ َل الَّ ِذينَ قالُوا} وفي { َك َّذبُو َ‬
‫ك فَقَ ْد ُك ِّذ َ‬
‫ب}‪َ { .‬وما َربُّ َ‬
‫‪.‬وإنما هي للنسب مثل عطار ونجار‬

‫‪:‬المفردات اللغوية‬
‫نأمر بكتب {ما قالُوا} أي نأمر بكتب أقوالهم في صحائف أعمالهم ليجازوا علي‪ff‬ه‪ ،‬والم‪ff‬راد‪ :‬أنن‪ff‬ا س‪ff‬نعاقبهم علي‪ff‬ه } َسنَ ْكتُبُ {‬
‫‪f‬ق} المح‪ff‬رق‬ ‫{ ُذوقُ وا} أصل الذوق‪ :‬إدراك الطعم في الفم‪ ،‬ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات‪ ،‬وهو المراد هنا ْ‬
‫{ال َح ِري‪ِ f‬‬
‫والمؤلم‪ ،‬والحريق‪ :‬اسم للملتهبة من النار‪ ،‬والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة والم‪f‬راد ع‪f‬ذاب ه‪ff‬و المح‪f‬رق والم‪ff‬ؤلم‪ ،‬وه‪f‬و‬
‫‪.‬النار‪ ،‬فعذاب الحريق يراد به عذاب هو الحريق‪ ،‬أي سننتقم منهم { َع ِه َد ِإلَيْنا} أي أمرنا في التوراة وأوصانا به‬
‫هو ما يتقرب به إلى هللا من حيوان ونقد وغيرهما‪ ،‬أي فال نؤمن لك حتى تأتينا به‪ ،‬والمراد من النار‪ :‬الن‪ff‬ار ال‪ff‬تي }بِقُرْ با ٍن{‬
‫‪f‬ر} جم‪ff‬ع زب‪ff‬ور وه‪ff‬و الكت‪ff‬اب‪ ،‬مث‪ff‬ل ص‪ff‬حف‬ ‫الزبُ‪ِ f‬‬ ‫تنزل من السماء‪{ .‬قُلْ } لهم توبيخ‪ff‬ا {بِ ْالبَيِّن‪ff‬ا ِ‬
‫ت} المعج‪ff‬زات الواض‪ff‬حة { َو ُّ‬
‫ير } الواضح‪ ،‬وهو التوراة واإلنجيل‪ ،‬أي إذا كذبك الناس فتك‪ff‬ذيب الرس‪ff‬ل أم‪ff‬ر ش‪ff‬ائع فيمن قبل‪ff‬ك‪ ،‬فاص‪ff‬بر كم‪ff‬ا‬ ‫إبراهيم ْ‬
‫{ال ُمنِ ِ‬
‫‪.‬صبروا‬

‫‪:‬سبب النزول‬
‫‪:‬نزول اآلية (‪)١٨١‬‬
‫‪}:‬لَقَ ْد َس ِم َع{‬
‫أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‪ :‬دخل أبو بكر بيت الم‪ff‬دارس (‪ ،)١‬فوج‪ff‬د يه‪ff‬ود ق‪ff‬د اجتمع‪ff‬وا إلى رج‪ff‬ل‬
‫منهم يقال له (فنحاص) فقال له‪ :‬وهللا يا أبا بكر ما بنا إلى هللا من فقر‪ ،‬وإنه إلينا لفقير‪ ،‬ولو كان غنيا عن‪f‬ا م‪f‬ا اس‪f‬تقرض من‪f‬ا‪،‬‬
‫كما يزعم صاحبكم‪ ،‬فغضب أبو بكر‪ ،‬فضرب‬
‫‪:‬وجهه‪ ،‬فذهب فنحاص إلى رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬انظر ما صنع صاحبك بي‪ ،‬فقال‬
‫يا أبا بكر‪ ،‬ما حملك على ما صنعت؟ قال‪ :‬يا رس‪ff‬ول هللا‪ ،‬ق‪ff‬ال ق‪ff‬وال عظيم‪ff‬ا‪ ،‬ي‪ff‬زعم أن هللا فق‪ff‬ير‪ ،‬وأنهم عن‪ff‬ه أغني‪ff‬اء‪ ،‬فجح‪ff‬د‬
‫‪:‬فنحاص‪ ،‬فأنزل هللا‬
‫‪.‬اآلية }لَقَ ْد َس ِم َع هللاُ قَوْ َل الَّ ِذينَ قالُوا{‬

‫وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‪ :‬أتت اليه‪ff‬ود الن‪ff‬بي ص‪ff‬لّى هللا علي‪ff‬ه وس‪ff‬لّم حين أن‪ff‬زل هللا‪َ { :‬م ْن َذا الَّ ِذي يُ ْق‪ِ f‬‬
‫‪f‬رضُ هللاَ‬
‫‪.‬قَرْ ضا ً َح َسناً} فقالوا‪ :‬يا محمد‪ ،‬افتقر ربك‪ ،‬يسأل عباده‪ ،‬فأنزل هللا‪{ :‬لَقَ ْد َس ِم َع هللاُ‪ .}.‬اآلية‬

‫‪:‬المناسبة‬
‫تناولت اآليات السابقة أحداث معركة أحد‪ ،‬وما صاحبها من مكائد المنافقين ودسائس‪ff‬هم ومح‪ff‬اوالتهم تثبي‪f‬ط‍ ع‪ff‬زائم المس‪ff‬لمين‬
‫عن الجهاد‪ .‬وبدأت هذه اآليات ببيان دسائس اليهود في محاربة المسلمين‪ ،‬ليحذرهم هللا منها كما حذرهم من المن‪ff‬افقين‪ .‬غ‪ff‬ير‬
‫‪.‬أن أفعال اليهود كبائر ومخازي ال تحتمل‪ ،‬مثل نسبتهم الفقر إلى هللا‪ ،‬ونقضهم العهود‪ ،‬وقتلهم األنبياء‪ ،‬وخيانة األمانة‬
‫هذه اآليات تسجيل لبعض قبائح اليهود‪ ،‬فإنه تعالى سمع قولهم الشنيع وسيعاقبهم عليه أشد العقاب‪ ،‬وه‪ff‬و تهدي‪ff‬د ووعي‪ff‬د على‬
‫مقالتهم‪ ،‬وهي نسبة الفقر إلى هللا والغنى إلى أنفس‪f‬هم‪ ،‬ولكن‪f‬ه تع‪f‬الى س‪f‬يجازيهم على ذل‪f‬ك‪ ،‬إذ يل‪f‬زم من كتاب‪f‬ة ال‪f‬ذنب وحفظ‪f‬ه‬
‫‪.‬إنزال العقوبة عليه‬
‫ومن جرائمهم الشنيعة قتلهم األنبياء قديما بغير حق وال ذنب‪ ،‬ونسبة القت‪ff‬ل إلى اليه‪ff‬ود المعاص‪ff‬رين في زمن نبين‪ff‬ا ص‪ff‬لّى هللا‬
‫عليه وسلّم‪ ،‬مع أنه كان من أجدادهم؛ ألنهم كانوا راضين عنه‪ ،‬مقرين بما ارتكبوا‪ ،‬متعاطفين مع بني جنسهم‪ ،‬مما ي‪ff‬دل على‬
‫أن‬
‫األمة متكافلة متض‪ff‬امنة فيم‪ff‬ا بينه‪ff‬ا في القض‪ff‬ايا العام‪ff‬ة‪ ،‬وأنه‪ff‬ا تؤخ‪ff‬ذ بجري‪ff‬رة وذنب أفراده‪ff‬ا‪ ،‬إذا ك‪ff‬انوا مق‪ff‬رين أفع‪ff‬الهم ولم‬
‫‪.‬ينكروها عليهم‬
‫يق} أي النار‪ ،‬أي سيجازيهم هللا على ذلك شر الجزاء‪ ،‬وإن ه‪ff‬ذا الع‪ff‬ذاب المح‪ff‬رق‬ ‫َذاب ْال َح ِر ِ‬
‫لذا قال تعالى‪َ { :‬ونَقُولُ‪ُ :‬ذوقُوا ع َ‬
‫المؤلم بسبب أعم‪f‬الكم في ال‪f‬دنيا وبم‪f‬ا س‪f‬لف من ال‪f‬ذنوب كقت‪f‬ل األنبي‪f‬اء‪ ،‬ووص‪f‬ف هللا ب‪f‬الفقر‪ ،‬ومناص‪f‬رة الكف‪f‬ر وغ‪f‬ير ذل‪f‬ك‪.‬‬
‫وأضيف العمل إلى األي‪f‬دي؛ ألن أك‪f‬ثر أعم‪f‬ال الن‪f‬اس تك‪f‬ون باألي‪f‬دي‪ ،‬وللدالل‪f‬ة على أن الع‪f‬ذاب بس‪f‬بب عملهم الص‪f‬ادر منهم‬
‫حقيقة‪ ،‬ولتوليهم الفعل ومباشرته‪ ،‬بل إنهم حاولوا قتل النبي صلّى هللا عليه وسلّم بإلقاء الجدار عليه في المدينة‪ ،‬وب‪ff‬دس الس‪ff‬م‬
‫‪.‬في شاة في خيبر‬
‫وليس هذا العذاب في غ‪ff‬ير محل‪ff‬ه‪ ،‬وإنم‪ff‬ا ه‪ff‬و في غاي‪ff‬ة الع‪ff‬دل والحكم‪ff‬ة؛ ألن هللا ال يظلم أح‪ff‬دا‪ ،‬وألن‪ff‬ه ال يعق‪ff‬ل التس‪ff‬وية بين‬
‫ت َأ ْن نَجْ َعلَهُ ْم َكالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُ‪ff‬وا‬ ‫ب الَّ ِذينَ اجْ ت ََرحُوا ال َّسيِّئا ِ‬ ‫العاصي والطائع‪ ،‬وبين الكافر والمؤمن‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬أ ْم َح ِس َ‬
‫ت‪َ ،‬سوا ًء َمحْ ياهُ ْم َو َمماتُهُ ْم‪ ،‬سا َء م‪ff‬ا يَحْ ُك ُم‪ff‬ونَ } [الجاثي‪ff‬ة ‪َ{ .]٤٥ /٢١‬أفَنَجْ َع‪ُ f‬ل ْال ُم ْس‪f‬لِ ِمينَ َك‪ْ f‬‬
‫‪f‬ال ُمجْ ِر ِمينَ ‪ ،‬م‪ff‬ا لَ ُك ْم َك ْي‪ff‬فَ‬ ‫الصّالِحا ِ‬
‫ْ‬ ‫َأ‬
‫ض‪ْ ،‬م نَجْ َع‪ُ ff‬ل ال ُمتَّقِينَ‬ ‫َأْل‬
‫ت َكال ُم ْف ِس‪ِ ff‬دينَ فِي ا رْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫الص‪ff‬الِحا ِ‬ ‫َّ‬ ‫َأ‬
‫تَحْ ُك ُم‪ff‬ونَ ؟} [القلم ‪ْ { ]٣٦ – ٦٨ /٣٥‬م نَجْ َع‪ُ ff‬ل ال ِذينَ آ َمنُ‪ff‬وا َو َع ِملُ‪ff‬وا ّ‬
‫ّار} [ص ‪]٣٨ /٢٨‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫‪َ .‬كالفج ِ‬
‫ْس بِظَالّ ٍم لِ ْل َعبِي ِد} تقريع‪ff‬ا وتوبيخ‪ff‬ا‪ ،‬وتحق‪ff‬يرا‬ ‫ت َأ ْي ِدي ُك ْم‪َ ،‬وَأ َّن هللاَ لَي َ‬ ‫َذاب ْال َح ِر ِ‬
‫يق‪ ،‬ذلِكَ بِما قَ َّد َم ْ‬ ‫يقال لهم تلك المقاالت‪ُ { :‬ذوقُوا ع َ‬
‫‪.‬وتصغيرا‪ ،‬وتبيانا لبشاعة جرائمهم‪ ،‬وذلك إما في جهنم‪ ،‬أو عند الموت‪ ،‬أو عند الحساب‪ ،‬والقائل إما هللا أو المالئكة‬
‫ثم يقول تعالى تكذيبا لليهود أيضا الذين زعموا أن هللا عهد إليهم في كتبهم أال يؤمنوا لرسول‪ ،‬ح‪ff‬تى يك‪ff‬ون من معجزات‪ff‬ه‪ :‬أن‬
‫‪.‬من تصدق بصدقة من أمته أي قربان‪ ،‬فتقبلت منه‪ :‬أن تنزل نار من السماء تأكلها‬
‫‪.‬والقربان‪ :‬ما يتقرب به إلى هللا تعالى من نسك (إراقة دم من المواشي) وصدقة وعمل صالح‬
‫‪.‬والقصد من زعمهم هذا عدم اإليمان برسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؛ ألنه لم يأت بما قالوه‪ ،‬ولو أتى به آلمنوا‬
‫قال ابن عباس‪ :‬نزلت هذه اآلية في كعب بن األشرف ومالك بن الصّيف‪ ،‬وفنح‪ff‬اص بن ع‪ff‬ازوراء في جماع‪ff‬ة آخ‪ff‬رين‪ ،‬أت‪ff‬وا‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم فقالوا‪ :‬يا محمد‪ ،‬تزعم أنك رسول هللا‪ ،‬وأنه تعالى أوحى إليك كتابا‪ ،‬وقد عهد إلينا في التوراة‬
‫ي خفيف حين ت‪f‬نزل من الس‪f‬ماء‪ ،‬ف‪f‬إن جئتن‪ff‬ا به‪f‬ذا ص‪ff‬دقناك‪،‬‬ ‫أال نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‪ ،‬ويكون للنار دو ّ‬
‫‪.‬فنزلت اآلية‬
‫ولكن ادعاء هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم‪ ،‬لذا ر ّد هللا تعالى موبخا لهم ومكذبا‪ ،‬بأن نزول النار معجزة‪ ،‬والمعجزة لتأييد‬
‫الرسالة‪ ،‬وإثبات صدق النبي المبعوث‪ ،‬وق‪f‬د ج‪f‬اءكم رس‪f‬ل كث‪ff‬يرون مث‪ff‬ل زكري‪f‬ا ويح‪f‬يى وغيرهم‪f‬ا ب‪ff‬المعجزات أو بالبين‪f‬ات‬
‫الواض‪ff‬حة الدال‪ff‬ة على ص‪ff‬دق نب‪ff‬وتهم‪ ،‬فلم ك‪ff‬ذبتموهم؟ ولم تص‪ff‬دقوهم‪ ،‬ولم قتلتم‪ff‬وهم؟ إن كنتم ص‪ff‬ادقين أنكم تتبع‪ff‬ون‪ f‬الح‪ff‬ق‬
‫‪.‬وتنقادون للرسل‬
‫وقد نسب هذا الفعل لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل القرآني‪ ،‬مع أن تلك الجرائم كانت من أسالفهم؛ ألنهم كما بينا سابقا‬
‫رضوان عما فعلوه‪ ،‬معتقدون أنهم على حق في ذل‪ff‬ك‪ ،‬واألم‪ff‬ة أو القبيل‪ff‬ة ع‪f‬ادة تت‪ff‬أثر بص‪ff‬نع بعض أفراده‪ff‬ا‪ ،‬ويعيبه‪ff‬ا جرم‪ff‬ه‬
‫‪.‬وانحرافه‪ ،‬لنسبته إلى تلك الجماعة‬
‫ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمدا صلّى هللا عليه وسلّم أي مع ّزيا ومؤنسا له‪ ،‬ومخفف‪ff‬ا علي‪ff‬ه س‪ff‬وء موق‪ff‬ف اليه‪ff‬ود وأمث‪ff‬الهم وهم‬
‫قومه‪ ،‬وتكذيب الفريقين‪ ،‬فأخبر‪ :‬إن كذبوك بعد أن جئتهم بالدالئل‪-‬والمعجزات‪ ،‬فق‪ff‬د ك‪fّ f‬ذب رس‪f‬ل من قبل‪ff‬ك‪ ،‬ج‪f‬اؤوا بمث‪ff‬ل م‪f‬ا‬
‫جئت به من البينات والمعجزات‪ ،‬والكتب ذات األصل اإللهي كالصحف المنزلة‬
‫على المرس‪ff‬لين‪ ،‬والكت‪ff‬اب المن‪ff‬ير أي الواض‪ff‬ح الجلي وه‪ff‬و الت‪ff‬وراة واإلنجي‪ff‬ل والزب‪ff‬ور‪ ،‬فص‪ff‬بروا على األذى والس‪ff‬خرية‪،‬‬
‫والمخالفة والمعاندة‪ .‬وهذا من طبيعة البشر في كل زمن‪ ،‬منهم من يصغي إلى الحق‪ ،‬ومنهم من يقاومه ويه‪f‬زأ بص‪f‬احبه‪ ،‬فال‬
‫‪.‬تعجب من مقاومة دعوتك‪ ،‬فإن نفوسهم ال تنشد الوصول إلى الحق‪ ،‬وال تبغي الخير‬

‫‪:‬فقه الحياة أو األحكام‬


‫لم يرتكب شعب في الدنيا جرائم شنيعة مثل اليهود‪ ،‬ولم يقتصر إجرامهم على البشرية‪ ،‬وإنما تج‪ff‬اوز ذل‪ff‬ك إلى هللا والرس‪ff‬ل‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬إن هللا فقير ونحن أغنياء‪ ،‬وقتلوا األنبياء بغير حق وال ذنب‪ ،‬لذا قرعهم هللا تعالى في القرآن الكريم وهددهم وأن‪ff‬ذرهم‬
‫‪.‬بعذاب النار على أفعالهم‬
‫والسلف والخلف منهم راضون بتلك الجرائم‪ ،‬لذا صحت نسبة الجريم‪ff‬ة إلى المت‪ff‬أخرين منهم‪ ،‬وإض‪f‬افتها إليهم م‪ff‬ع أن الق‪ff‬ول‬
‫‪،‬السابق وقتل األنبياء حدثا من أسالفهم‪ ،‬وكان بينهم نحو سبعمائة سنة‪ .‬وهذا يدل على أن الرضا بالمعصية معصية‬
‫‪:‬وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم قال‬
‫إذا عملت الخطيئة في األرض‪ ،‬كان من شهدها فكرهها‪-‬وقال مرة‪ :‬فأنكرها‪ -‬كمن غ‪ff‬اب عنه‪ff‬ا‪ ،‬ومن غ‪ff‬اب عنه‪ff‬ا فرض‪ff‬يها«‬
‫‪».‬كان كمن شهدها‬
‫ومن جرائمهم‪ :‬الكذب السافر على هللا وافتراؤهم عليه أنه عهد إليهم وأنزل عليهم كتابا فيه‪ :‬أال يؤمنوا لرسول يزعم أن‪ff‬ه من‬
‫‪.‬عند هللا‪ ،‬حتى يأتيهم بقربان تأكله النار‪ .‬ويكون هذا من قبيل المعجزة الدالة على صدقه‬
‫فرد هللا تعالى عليهم أن معجزات النبي صلّى هللا عليه وسلّم دليل قاطع في إبط‪ff‬ال دع‪ff‬واهم‪ ،‬وك‪ff‬ذلك معج‪ff‬زات عيس‪f‬ى‪ ،‬ومن‬
‫‪.‬علم صدقه وجب تصديقه‬
‫‪،‬والقضية قضية مخالفة ومعاندة‪ ،‬وليست قضية قناعة وحجة وبرهان‬
‫فوضح األمر وبان الطريق‪ ،‬والناس في الماضي والحاضر وكل زمان‪ :‬منهم من يص‪ff‬غي إلى الح‪ff‬ق ويس‪ff‬تجيب لندائ‪ff‬ه‪ ،‬كم‪ff‬ا‬
‫فعل الكثير من الناس ومنهم بعض اليهود ال‪ff‬ذين قبل‪ff‬وا باإليم‪ff‬ان ب‪ff‬دعوة اإلس‪ff‬الم والق‪ff‬رآن‪ ،‬ومنهم من يجه‪ff‬ر بمقاوم‪ff‬ة الح‪ff‬ق‪،‬‬
‫‪.‬ومناصرة الباطل‪ ،‬واإلعراض عن دعوة هللا الخيّرة المحققة لنفع البشرية وسعادتهم في الدنيا واآلخرة‬

‫الموت مصير كل نفس والثواب يوم القيامة واالبتالء في الدنيا‬


‫ار َوُأ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ فَقَ ْد فا َز َو َما ْال َحياةُ ال ُّد ْنيا ِإالّ َمتاعُ{‬ ‫ت َوِإنَّما تُ َوفَّوْ نَ ُأج َ‬
‫ُور ُك ْم يَوْ َم ْالقِيا َم ِة فَ َم ْن ُزحْ ِز َح َع ِن النّ ِ‬ ‫س ذاِئقَةُ ْال َموْ ِ‬
‫ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫َأ‬ ‫َأ‬ ‫ْ‬ ‫ُأ‬ ‫َأ‬ ‫َأ‬
‫ى َكثِ‪f‬يراً َوِإ ْن‬ ‫َّ‬
‫‪f‬اب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو ِمنَ ال ِذينَ ْش‪َ f‬ر ُكوا ذ ً‬ ‫َّ‬
‫ُور (‪ )١٨٥‬لَتُ ْبلَ ُو َّن فِي ْموالِ ُك ْم َو ْنفُ ِس‪ُ f‬ك ْم َولَت َْس‪َ f‬مع َُّن ِمنَ ال ِذينَ وتُ‪f‬وا ال ِكت‪َ f‬‬ ‫ْال ُغر ِ‬
‫ُأْل‬ ‫ور (‪})١٨٦‬تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُوا فَِإ َّن ذلِ َ‬ ‫ُأْل‬
‫ور (‪)١٨٦‬‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم ا ُم ِ‬ ‫} َوِإ ْن تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُوا فَِإ َّن ذلِكَ ِم ْن ع َْز ِم ا ُم ِ‬

‫‪:‬اإلعراب‬

‫س ذاِئقَةُ ْال َموْ ِ‬


‫ت{‬ ‫‪.‬مبتدأ‪ f‬وخبر‪ ،‬جملة تامة مفيدة } ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫ما في {ِإنَّما} كافة‪ ،‬وال يجوز أن تكون بمع‪ff‬نى ال‪ff‬ذي؛ ألنه‪ff‬ا ل‪ff‬و ك‪ff‬انت بمع‪ff‬نى ال‪ff‬ذي ل‪ff‬وجب رف‪ff‬ع ‪َ }:‬وِإنَّما تُ َوفَّوْ نَ ُأج َ‬
‫ُور ُك ْم{‬
‫‪ُ{.‬أجُو َر ُك ْم} على أنه الفاعل‪ ،‬وتقديره‪ :‬إن الذي توفّونه أجوركم‬

‫‪:‬البالغة‬

‫استعارة مثل قوله {تَْأ ُكلُهُ النّارُ} ألن حقيقة الذوق تكون بحاسّة اللسان‪ ،‬كما أن حقيقة األكل لإلنسان } ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫س ذاِئقَةُ ْال َموْ ِ‬
‫ت{‬
‫‪.‬والحيوان‬
‫ار َوُأ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ{‬
‫}زحْ ِز َح ع َِن النّ ِ‬
‫‪.‬فيه ما يسمى في علم البديع بالمقابلة ُ‬

‫ع ْال ُغر ِ‬
‫ُور{‬ ‫‪.‬استعارة‪ ،‬شبه الدنيا بالمتاع الذي يغرر به المشتري ثم يظهر فساده‪ ،‬والمدلّس والمغرر هو الشيطان (‪َ } )١‬متا ُ‬

‫‪:‬المفردات اللغوية‬
‫ت{‬ ‫س ذاِئقَ‪f‬ةُ ْال َم‪ff‬وْ ِ‬ ‫أي أن الم‪ff‬وت مص‪ff‬ير ك‪ff‬ل نفس ونهاي‪ff‬ة ك‪ff‬ل حي‪ ،‬وال يبقى إال وجه‪ff‬ه الك‪ff‬ريم {تُ َوفَّوْ نَ ُأ ُج‪َ f‬‬
‫‪f‬ور ُك ْم} } ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫تعطون جزاء أعمالكم وافيا غير منقوص‪ .‬ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها‪ :‬أن كلكم تموتون‪ ،‬وال ب‪ff‬د لكم من الم‪ff‬وت‪ ،‬وال‬
‫توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم‪ ،‬وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم‪ ،‬والتوفية‪ :‬تكميل األجور‪ ،‬وم‪ff‬ا‬
‫‪.‬يكون قبل ذلك في القبر من روضة أو نعمة فبعض األجور‬

‫‪.‬ن ّحي عنها وأبعد‪ ،‬والزحزحة‪ :‬التنحية واإلبعاد }فَ َم ْن ُزحْ ِز َح ع َِن النّ ِ‬
‫ار{‬
‫نال غاية مطلوبة‪ ،‬وسعد ونجا أي تحقق له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز ب‪ff‬ه‪ ،‬وال غاي‪ff‬ة للف‪ff‬وز وراء النج‪ff‬اة }فَقَ ْد فا َز{‬
‫‪.‬من سخط‍ هللا‪ ،‬والعذاب السرمد‪ ،‬ونيل رضوان هللا والنعيم المخلد‬
‫}و َما ْال َحياةُ ال ُّد ْنيا{‬ ‫ع ْال ُغر ِ‬
‫ُور} المتاع‪ :‬ما يتمتع وينتفع به مما يباع ويشترى‪ ،‬والغرور‪ :‬مصدر غره َ‬ ‫أي العيش فيها {ِإالّ َمتا ُ‬
‫أي خدعه‪ ،‬والغرور‪ :‬الخداع والغش‪ ،‬أي أن الدنيا مثل المتاع المشترى بس‪ff‬بب التغري‪ff‬ر والغش والخ‪ff‬داع ثم يت‪ff‬بين ل‪ff‬ه فس‪f‬اده‬
‫‪.‬ورداءته‪ .‬عن سعيد بن جبير‪ :‬إنما هذا لمن آثرها على اآلخرة‪ ،‬فأما من طلب اآلخرة بها‪ ،‬فإنها متاع بالغ‬
‫‪.‬لتختبرن أي لتعاملن معاملة المختبر‪ ،‬لتظهر حالتكم على حقيقتها }لَتُ ْبلَ ُو َّن{‬
‫بإيجاب الزكاة المفروضة فيها والنفقة في سبيل هللا‪ ،‬وبالجوائح واآلفات { َوَأ ْنفُ ِس ُك ْم} بالقتل واألس‪ff‬ر والج‪ff‬راح }فِي َأ ْموالِ ُك ْم{‬
‫‪.‬والمخاوف والمصائب في سبيل هللا وبالعبادات المفروضة‪ ،‬وباألمراض وفقد األحبة واألقارب‬
‫‪.‬اليهود والنصارى {الَّ ِذينَ َأ ْش َر ُكوا} هم مشركو العرب }ُأوتُوا ْال ِك َ‬
‫تاب{‬
‫‪.‬كالسب والطعن في الدين واالفتراء على هللا والرسول والتشبيب بنسائكم }َأذ ً‬
‫ى َكثِيراً{‬
‫}وِإ ْن تَصْ بِرُوا{‬
‫على ذل‪ff‬ك‪ ،‬والص‪ff‬بر‪ :‬حبس النفس على م‪ff‬ا تك‪ff‬ره وكظم الغي‪f‬ظ‍ ومقاوم‪ff‬ة الج‪f‬زع والش‪ff‬دة ب‪ff‬التقوى والرض‪f‬ا َ‬
‫‪َ {.‬وتَتَّقُوا} هللا بامتثال األمر واجتناب النهي‪ ،‬والتقوى‪ :‬االبتعاد عن المعاصي والتزام المأمورات‬
‫ُأْل‬
‫أي من معزومات األمور التي يعزم عليها لوجوبها‪ .‬والمعنى‪ :‬أن الصبر والتق‪ff‬وى من ص‪ff‬واب الت‪ff‬دبير‪ِ } f،‬م ْن ع َْز ِم ا ُم ِ‬
‫ور{‬
‫‪.‬وقوة اإلرادة‪ ،‬وكمال العقل والفكر‪ ،‬ومن األمور المحتمة التي ال يجوز التساهل فيها‬
‫‪:‬سبب النزول‬
‫نزول اآلية‪َ { :‬ولَتَ ْس َمع َُّن‪ :.}.‬روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بس‪f‬ند حس‪f‬ن عن ابن عب‪f‬اس أنه‪f‬ا ن‪f‬زلت فيم‪f‬ا ك‪f‬ان بين أبي بك‪ff‬ر‬
‫‪.‬وفنحاص من قوله السابق‪ِ{ :‬إ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء}‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ :‬أنها نزلت في كعب بن األشرف فيما كان يهجو به النبي صلّى هللا عليه وسلّم من الشعر‪ ،‬ويحرض علي‪ff‬ه‬
‫‪.‬كفار قريش في شعره‬

‫‪:‬المناسبة‬
‫كانت اآليات السابقة تسلية وتعزية لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬واستمرت هذه اآليات في زيادة تسليته بأن ك‪ff‬ل م‪ff‬ا ت‪ff‬راه‬
‫من عنادهم فهو منته إلى غاية‪ ،‬وكل آت قريب‪ ،‬فال تضجر وال تحزن‪ ،‬وإنهم سيجازون على أعمالهم يوم القيام‪ff‬ة‪ ،‬ف‪ff‬إن أم‪ff‬د‬
‫‪.‬الدنيا قريب‪ ،‬ويوم القيامة يوم الجزاء‬
‫وهي أيضا خطاب للمؤمنين ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما س‪f‬يلقون من األذى والش‪f‬دائد‪ f‬والص‪f‬بر عليه‪ff‬ا‪ ،‬ح‪f‬تى إذا فاج‪f‬أتهم‬
‫‪.‬بغتة‪ ،‬وهم مستعدون لتحملها‪ ،‬لم يرهقهم شيء‪ ،‬كما يرهق غير المؤمن فتضيق نفسه ويشمئز ويكره الحياة‬

‫‪:‬التفسير والبيان‬

‫هذا إخبار عام من هللا تعالى يعم جميع الخالئق بأن كل نفس ذائقة الم‪f‬وت‪ ،‬كقول‪f‬ه تع‪f‬الى‪ُ { :‬ك‪f‬لُّ َم ْن َعلَيْه‪f‬ا ٍ‬
‫ف‪f‬ان‪َ .‬ويَبْقى َوجْ‪ f‬هُ‬
‫رام} [الرحمن ‪ ]٢٧ – ٥٥ /٢٦‬فكل الجن واإلنس والمالئكة وحملة العرش يموتون‪ ،‬وهللا وحده الحي‬ ‫ك ُذو ْال َج ِ‬
‫الل َواِإْل ْك ِ‬ ‫َربِّ َ‬
‫‪.‬القيوم الذي ال يموت‪ ،‬ينفرد بالديمومة‪ f‬والبقاء‪ ،‬فيكون آخرا كما كان أوال‬
‫وفي اآلية تعزية لجميع الناس‪ ،‬فإنه ال يبقى أحد على وجه األرض وفي السماء حتى يم‪ff‬وت‪ ،‬وت‪ff‬ذوق ك‪ff‬ل نفس طعم مفارق‪ff‬ة‬
‫الروح البدن‪ .‬ثم يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت‪ ،‬من خير أو ش‪ff‬ر‪ ،‬وتعطى ث‪ff‬واب عمله‪ff‬ا الطيب ك‪ff‬امال غ‪ff‬ير منق‪ff‬وص‪،‬‬
‫‪.‬ويجازى المسيء الجزاء األوفى‪ ،‬فال تظلم نفس شيئا‪ ،‬وإن كان مثقال ذرة‬
‫وفي ذكر توفية األجور على الطاعات والمعاصي إشارة إلى أن بعض األجور من خير أو ش‪ff‬ر ق‪ff‬د تص‪ff‬ل إليهم في ال‪ff‬دنيا أو‬
‫في القبور‪ ،‬بدليل‬
‫ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا إلى النبي صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر‬
‫‪».‬النار‬
‫‪،‬فمن ن ّحي عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة‪ ،‬فقد فاز بالمقصد األسمى والمطلوب األعلى الكامل‬
‫ورد عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬من أحب أن يزحزح عن النار‪ ،‬ويدخل الجنة‪ ،‬فلتدركه منيته‪ ،‬وهو م‪ff‬ؤمن باهلل والي‪ff‬وم‬
‫اآلخر‪ ،‬ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه»‪ .‬وهذا شامل للمحافظة على حقوق هللا وحق‪ff‬وق العب‪ff‬اد‪ .‬وروى ابن أبي ح‪ff‬اتم‬
‫عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬موضع سوط‍ أحدكم في الجنة خير من الدنيا وم‪ff‬ا فيه‪ff‬ا»‪ .‬اق‪ff‬رؤوا‬
‫ار‪َ ،‬وُأ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ فَقَ ْد فا َز}‪ .‬فاللهم وفقنا لما ندرك به الفوز بالجنة والنجاة من النار‬
‫‪.‬إن شئتم‪{ :‬فَ َم ْن ُزحْ ِز َح َع ِن النّ ِ‬
‫وما الحياة الدنيا التي نعيشها ونستمتع بها باللذات الجسدية من طعام وشراب والمعنوية من جاه ومنصب وس‪ff‬مو إال كالمت‪ff‬اع‬
‫المشترى بخداع وتغرير‪ ،‬ثم يتبين‪ f‬فساده ورداءته؛ ألن صاحبها دائما مغ‪ff‬رور مخ‪ff‬دوع به‪ff‬ا‪ ،‬أو ألنه‪ff‬ا حق‪ff‬يرة متروك‪ff‬ة فاني‪ff‬ة‬
‫{وم‪f‬ا ُأوتِيتُ ْم ِم ْن‬ ‫زائلة‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬بَلْ تُ‪ْf‬ؤ ثِرُونَ ْال َحي‪ff‬اةَ ال‪ُّ f‬د ْنيا‪َ ،‬واآْل ِخ‪َ f‬رةُ خَ ْي‪ٌ f‬ر َوَأبْقى} [األعلى ‪ ]١٧ – ٨٧ /١٦‬وق‪f‬ال‪َ :‬‬
‫ع ْال َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو ِزينَتُها‬
‫‪َ ،‬ش ْي ٍء فَ َمتا ُ‬
‫َوما ِع ْن َد هللاِ َخ ْي ٌر َوَأبْقى} [القصص ‪ ]٢٨ /٦٠‬وفي الحديث‪« :‬وهللا ما الدنيا في اآلخرة إال كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم‪،‬‬
‫‪.‬فلينظر بم يرجع» (‪)١‬‬
‫وتهوين شأن الدنيا على هذا النحو لمن آثرها على اآلخرة‪ ،‬قال سعيد بن جبير‪« :‬إنما ه‪ff‬ذا لمن آثره‪ff‬ا على اآلخ‪ff‬رة‪ ،‬فأم‪ff‬ا من‬
‫طلب اآلخرة بها فإنها متاع بالغ» (‪ .)٢‬فمن فضل الدنيا على اآلخرة‪ ،‬ك‪ff‬ان كمن اش‪ff‬ترى ص‪ff‬فقة خاس‪ff‬رة‪ ،‬غش‪ff‬ه فيه‪ff‬ا الب‪ff‬ائع‬
‫‪.‬ودلس عليه‪ ،‬ثم تبين‪ f‬له فسادها ورداءتها‬
‫ثم أراد تعالى بعد غزوة أحد توطين النفس وتربيته‪ff‬ا على تحم‪ff‬ل األه‪ff‬وال والش‪ff‬دائد والمص‪ff‬ائب‪ ،‬فخ‪ff‬اطب الن‪ff‬بي المص‪ff‬طفى‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم والمؤمنين مخبرا إياهم‪ :‬أن الدنيا دار ابتالء واختبار في األنفس واألموال؛ ففي األنفس‪ :‬بالقت‪ff‬ل واألس‪ff‬ر‬
‫والجراح وأنواع المخاوف والمصائب‪ ،‬وفي األم‪f‬وال‪ :‬باإلنف‪f‬اق في س‪f‬بل الخ‪f‬ير وم‪f‬ا يق‪f‬ع فيه‪f‬ا من اآلف‪f‬ات‪ ،‬وهي مث‪f‬ل قول‪f‬ه‬
‫وال َواَأْل ْنفُ ِ‬
‫س َوالثَّ َمرا ِ‬
‫ت‪َ ،‬وبَ ِّش ِر الصّابِ ِرينَ } [البقرة ‪]٢ /١٥٥‬‬ ‫ص ِمنَ اَأْل ْم ِ‬ ‫ف َو ْالج ِ‬
‫ُوع َونَ ْق ٍ‬ ‫‪.‬تعالى‪َ { :‬ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم بِ َش ْي ٍء ِمنَ ْال َخوْ ِ‬
‫وأن المسلمين ون‪ff‬بيهم يس‪ff‬معون م‪ff‬ا ي‪ff‬ؤذيهم أذى كث‪ff‬يرا من اليه‪ff‬ود والنص‪ff‬ارى ومش‪ff‬ركي الع‪ff‬رب‪ ،‬واألذى ق‪ff‬د يتن‪ff‬اول ال‪ff‬دين‬
‫والقرآن والنبي صلّى هللا عليه وسلّم‪ .‬ولكن هللا تعالى قال للمؤمنين عند مقدمهم المدينة‪ f‬قبل وقعة بدر‪ ،‬مس‪ff‬ليا لهم عم‪ff‬ا ين‪ff‬الهم‬
‫من األذى من هؤالء‪ ،‬وواصفا لهم العالج الناجع وهو الصفح والصبر والعفو والتزام تقوى هللا بامتثال المأمورات واجتن‪ff‬اب‬
‫المنهيات‪ ،‬فإن تحقق منهم ذل‪ff‬ك آت‪ff‬اهم أج‪ff‬رين من رحمت‪ff‬ه؛ ألن الص‪ff‬بر والتق‪ff‬وى من معزوم‪ff‬ات األم‪ff‬ور‪ ،‬أي ال‪ff‬تي ينبغي أن‬
‫‪.‬يعزمها كل أحد‬
‫‪:‬فقه الحياة أو األحكام‬
‫‪:‬أرشدت اآليات إلى الحقائق التالية‬
‫‪ – ١‬الدنيا فانية‪ ،‬واآلخرة باقية‪ ،‬وكل شيء هالك إلى وجه هللا الكريم‪ ،‬وكل حي سيموت‪ ،‬وأن اآلخرة دار الجزاء والحساب‪،‬‬
‫‪.‬وأن السعادة كل السعادة‪ ،‬في الفوز بالجنة‪ ،‬والنجاة من النار‬
‫ويس‪ff‬ن عن‪f‬د احتض‪f‬ار الميت تلقين‪f‬ه الش‪ff‬هادة دون إع‪f‬ادة لئال يض‪f‬جر‪ ،‬لقول‪f‬ه علي‪f‬ه الص‪ff‬الة والس‪f‬الم فيم‪f‬ا رواه أحم‪ff‬د ومس‪f‬لم‬
‫وأصحاب السنن عن أبي سعيد‪« :‬لقنوا موتاكم‪ :‬ال إله إال هللا» لتكون آخر كالمه فيختم ل‪ff‬ه بالش‪ff‬هادة‪ .‬ويس‪ff‬تحب ق‪ff‬راءة (يس)‬
‫‪،‬ذلك الوقت‬
‫لقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬اقرؤوا يس على موتاكم» (‪ .)١‬وذكر اآلجرّي من‬
‫‪».‬حديث أم الدرداء عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم قال‪« :‬ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إال هوّن عليه الموت‬
‫‪،‬ويغسل الميت إال الشهيد ويكفّن ويصلى عليه ويدفن في التراب‪ ،‬ويسن اإلسراع في المشي بالجنازة‬
‫لقوله صلّى هللا عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة‪« :‬أسرعوا بالجنازة‪ ،‬فإن تك صالحة فخير تق‪ّ f‬دمونها إلي‪ff‬ه‪ ،‬وإن‬
‫‪».‬تكن غير ذلك فش ّر تضعونه عن رقابكم‬
‫‪ – ٢.‬إن إيفاء األجور على الطاعات والعقاب على السيئات مقره يوم القيامة‪ ،‬فأجر المؤمن ثواب‪ ،‬وأجر الكافر عقاب‬
‫‪ – ٣‬الدنيا غرارة تغر المؤمن وتخدع‪f‬ه‪ ،‬فيظن ط‪f‬ول البق‪f‬اء وهي فاني‪f‬ة‪ .‬وهي أش‪f‬به بالمت‪f‬اع الحق‪f‬ير ال‪f‬ذي يتمت‪f‬ع وينتف‪f‬ع ب‪f‬ه‬
‫كالفأس والقدر والدلو والقصعة‪ ،‬ثم يزول وال يبقى ملكه‪ .‬وهذا رأي أك‪ff‬ثر المفس‪ff‬رين في قول‪ff‬ه‪َ { :‬و َم‪ff‬ا ْال َحي‪ff‬اةُ ال‪ُّ f‬د ْنيا ِإالّ َمت‪ff‬ا ُ‬
‫ع‬
‫‪.‬ال ُغر ِ‬
‫ُور}‬ ‫ْ‬

‫‪-‬‬ ‫ال اطمئنان إلى نعيم ال‪ff‬دنيا وال إلى إعراض‪ff‬ها وفق‪ff‬دها‪ ،‬فالن‪ff‬اس فيه‪ff‬ا في مرص‪ff‬د‬
‫االختب‪ff‬ار واالبتالء في األم‪ff‬وال بالمص‪ff‬ائب واألح‪ff‬داث‪ ،‬واإلنف‪ff‬اق في س‪ff‬بيل هللا‪،‬‬
‫‪.‬وسائر تكاليف الشرع‪ ،‬وفي األنفس بالموت واألمراض‪ ،‬وفقد األحباب‬
‫وقد يتأذى المؤمن بطعن في قرآنه ودينه ونبي‪ff‬ه‪ ،‬فعلي‪ff‬ه الص‪ff‬بر واالعتص‪f‬ام ب‪ff‬التقوى‪ ،‬واإلع‪ff‬راض عن الط‪f‬اعنين الك‪ff‬افرين‪،‬‬
‫والثبات على العقيدة‪ ،‬وتحمل الشدائد والقتال في سبيل هللا عند اللزوم‪ ،‬فقد ندب هللا عباده إلى الصبر والتقوى‪ ،‬وأخبر أنه من‬
‫عزم األمور‪ ،‬أي من معزوماتها التي ينبغي أن يعزمها كل أحد‪ ،‬وهي دليل على قوة اإلرادة‪ ،‬ومضاء العزيمة‪ ،‬وعلو الهم‪ff‬ة‪.‬‬
‫‪.‬قال القرطبي‪ :‬عزم األمور‪ :‬شدها وصالبتها‬
‫واألظهر أن هذه اآلية‪-‬كما ذكر القرطبي‪-‬ليست بمنسوخة‪ ،‬فإن الجدال باألحس‪ff‬ن والم‪f‬داراة أب‪f‬دا‪ ،‬من‪ff‬دوب إليه‪f‬ا‪ ،‬وك‪f‬ان علي‪f‬ه‬
‫‪.‬الصالة والسالم مع األمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم‪ ،‬ويصفح عن المنافقين (‪)١‬‬
‫أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس‬
‫ومحبتهم المدح بغير موجب‬
‫س م‪ff‬ا{‬ ‫‪f‬اس َوال تَ ْكتُ ُمونَ‪f‬هُ‪ f‬فَنَبَ‪ُ f‬ذوهُ َورا َء ظُهُ‪ِ f‬‬
‫‪f‬ور ِه ْم َواِ ْش‪f‬تَ َروْ ا بِ‪ِ f‬ه ثَ َمن‪f‬ا ً قَلِيالً فَبِْئ َ‬ ‫ق الَّ ِذينَ ُأوتُ‪ff‬وا ْال ِكت‪َ f‬‬
‫‪f‬اب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّ‪ِ f‬‬ ‫وَِإ ْذ َأ َخ َذ هللاُ ِميثا َ‬
‫يَ ْشتَرُونَ (‪ )١٨٧‬ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ بِما َأتَ‪ff‬وْ ا َويُ ِحبُّونَ َأ ْن يُحْ َم‪ f‬دُوا بِم‪ff‬ا لَ ْم يَ ْف َعلُ‪ff‬وا فَال تَحْ َس‪f‬بَنَّهُ ْم بِ َمف‪ff‬ازَ ٍة ِمنَ ْال َع‪ff‬ذا ِ‬
‫ب َولَهُ ْم‬
‫ض َوهللاُ عَلى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر (‪)١٨٩‬‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬‫ك السَّماوا ِ‬ ‫}عَذابٌ َألِي ٌم (‪َ )١٨٨‬وهّلِل ِ ُم ْل ُ‬
‫‪:‬اإلعراب‬
‫هذه القراءة بالتاء‪ ،‬ويكون {الَّ ِذينَ يَ ْف َر ُح‪ff‬ونَ } منص‪ff‬وبا على أن‪ff‬ه مفع‪ff‬ول أول‪ ،‬وح‪ff‬ذف المفع‪ff‬ول }ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ {‬
‫الثاني لداللة ما بعده عليه وهو قوله {بِ َمفا َز ٍة ِمنَ ْال َعذا ِ‬
‫ب} ويكون قوله‪{ :‬فَال تَحْ َسبَنَّهُ ْم} بدال من {ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َر ُح‪ff‬ونَ }‬
‫‪.‬والفاء زائدة‪ ،‬فال تمنع البدل‪ ،‬وهذا على هذه القراءة وعلى قراءة من قرأ بالياء‬
‫ومن قرأ‪( :‬يحسبن) بالياء جعل {الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ } في موضع رفع فاعل‪ ،‬و {الَّ ِذينَ }‪ :‬اسم موصول‪ ،‬و {يَ ْف َرحُونَ }‪ :‬صلته‪ ،‬و‬
‫ب}‪ :‬في موضع المفعول الثاني‪ ،‬وتقديره‪ :‬ف‪ff‬ائزين‪ .‬ومن‬ ‫«هم» من قوله‪{ :‬فَال تَحْ َسبَنَّهُ ْم} المفعول األول‪ .‬و {بِ َمفا َز ٍة ِمنَ ْال َعذا ِ‬
‫قرأ األول بالياء والثاني بالتاء فال يجوز في‪ff‬ه الب‪ff‬دل الختالف فاعليهم‪ff‬ا‪ ،‬ولكن يك‪ff‬ون مفع‪ff‬وال األول ق‪ff‬د ح‪ff‬ذفا لدالل‪ff‬ة مفع‪ff‬ولي‬
‫‪.‬الثاني عليهما‬

‫‪:‬البالغة‬

‫توجد استعارة في النب‪ff‬ذ واالش‪ff‬تراء‪ ،‬إذ ش‪ff‬به ع‪ff‬دم التمس‪ff‬ك بالميث‪ff‬اق بالش‪ff‬يء }فَنَبَ ُذوهُ َورا َء ظُه ِ‬
‫ُور ِه ْم َوا ْشتَ َروْ ا بِ ِه ثَ َمنا ً قَلِيالً{‬
‫‪.‬المنبوذ الملقى‪ ،‬وشبه العمل بالبديل باشتراء عوض قليل من أموال الدنيا‪ ،‬مقابل كتم آيات هللا‬
‫{وال تَ ْكتُ ُمونَهُ}‬
‫‪.‬وتوجد مقابلة بين {لَتُبَيِّنُنَّهُ} و َ‬

‫‪:‬المفردات اللغوية‬
‫اذكر إذ أخذ { ِميثاقَ} الميثاق‪ :‬العهد المؤكد‪ ،‬وهو العهد المأخوذ عليهم في التوراة بواسطة األنبياء‪ُ{ .‬أوتُوا ْال ِكت‪َ f‬‬
‫‪f‬اب} }وَِإ ْذ{‬
‫اس} لتظهرن جميع ما فيه من األحكام واألخبار بما فيها خبر نب‪ff‬وة محم‪ff‬د ص‪ff‬لّى هللا علي‪ff‬ه‬ ‫هم اليهود والنصارى‪{ .‬لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّ ِ‬
‫وسلّم‪ ،‬حتى يعرفه الن‪ff‬اس على وجه‪ff‬ه الص‪ff‬حيح‪َ .‬‬
‫{وال تَ ْكتُ ُمونَ‪f‬هُ} أي ال تخف‪ff‬ون الكت‪ff‬اب‪{ .‬فَنَبَ‪ُ f‬ذوهُ َورا َء ظُهُ‪ِ f‬‬
‫‪f‬ور ِه ْم} طرح‪ff‬وا‬
‫‪.‬الميثاق ولم يعت ّدوا به‬
‫س ما يَ ْشتَرُونَ } شراؤهم } َوا ْشت ََروْ ا بِ ِه ثَ َمنا ً قَلِيالً{‬
‫أخذوا بدله من الدنيا عوضا حقيرا‪ ،‬بسبب رياستهم في العلم‪ ،‬فكتموه‪{ .‬فَبِْئ َ‬
‫‪.‬هذا‬
‫بما فعلوا في إضالل الناس‪َ{ .‬أ ْن يُحْ َمدُوا بِما لَ ْم يَ ْف َعلُوا} أن يحمدهم الناس بما لم يفعلوا من التمسك بالحق‪ ،‬وهم على }َأتَوْ ا{‬
‫ضالل‪{ .‬فَال تَحْ َسبَنَّهُ ْم} تأكيد‪{ .‬بِ َمفا َز ٍة ِمنَ ْال َعذا ِ‬
‫ب} أي بمنجاة من الع‪ff‬ذاب في اآلخ‪ff‬رة‪ ،‬ب‪ff‬ل هم في مك‪ff‬ان يع‪ff‬ذبون‪ f‬في‪ff‬ه وه‪ff‬و‬
‫{ولَهُ ْم عَذابٌ َألِي ٌم} مؤلم فيها‬
‫‪.‬جهنم‪َ .‬‬

‫‪:‬سبب النزول‬
‫‪:‬نزول اآلية (‪)١٨٨‬‬
‫روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف‪ :‬أن مروان قال لبوابه‪ :‬اذهب يا رافع إلى ‪}:‬ال تَحْ َسبَ َّن{‬
‫معذبا‪ ،‬لنعذبن أجمعون‪ ،‬فقال ابن عباس‪ :‬م‪ff‬ا‬ ‫ابن عباس فقل‪ :‬لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل ّ‬
‫لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه اآلية في أهل الكتاب‪ ،‬سألهم النبي صلّى هللا عليه وسلّم عن ش‪f‬يء‪ ،‬فكتم‪ff‬وه إي‪ff‬اه‪ ،‬وأخ‪ff‬بروه بغ‪ff‬يره‪،‬‬
‫‪.‬فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه‪ ،‬واستحمدوا بذلك إليه‪ ،‬وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه‬
‫وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري‪ :‬أن رجاال من المنافقين كانوا إذا خرج رسول هللا صلّى هللا علي‪ff‬ه وس‪ff‬لّم إلى الغ‪ff‬زو‪،‬‬
‫تخلفوا عنه‪ ،‬وفرحوا بمقعدهم خالف رسول هللا‪ ،‬فإذا ق‪f‬دم اعت‪f‬ذروا إلي‪f‬ه‪ ،‬وحلف‪f‬وا وأحب‪f‬وا أن يحم‪f‬دوا بم‪f‬ا لم يفعل‪f‬وا‪ ،‬ف‪f‬نزلت‬
‫‪.‬اآلية‪{ :‬ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ بِما َأتَوْ ا} اآلية‬
‫وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان‪ ،‬فقال مروان‪ :‬يا رافع في‬
‫‪:‬أي شيء نزلت هذه اآلية‬
‫؟ قال راف‪ff‬ع‪ :‬ن‪ff‬زلت في ن‪ff‬اس من المن‪ff‬افقين ك‪ff‬انوا إذا خ‪ff‬رج الن‪ff‬بي ص‪ff‬لّى هللا علي‪ff‬ه وس‪ff‬لّم}ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ بِما َأتَوْ ا{‬
‫اعتذروا وقالوا‪ :‬ما حسبنا عنكم إال شغل‪ ،‬فلوددنا أنا معكم‪ ،‬فأنزل هللا فيهم هذه اآلية‪ ،‬وكان مروان أنك‪ff‬ر ذل‪ff‬ك‪ ،‬فج‪ff‬زع راف‪ff‬ع‬
‫من ذلك‪ ،‬فقال‬
‫‪.‬لزيد بن ثابت‪ :‬أنشدك باهلل‪ ،‬هل تعلم ما أقول؟ قال‪ :‬نعم‬
‫‪.‬قال الحافظ‍ ابن حجر‪ :‬يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا‬

‫‪:‬المناسبة‬
‫تحدثت سورة آل عمران عن أهل الكت‪ff‬اب‪ ،‬فناقش‪ff‬ت النص‪ff‬ارى‪ ،‬وحكت أفع‪ff‬اال غريب‪ff‬ة عن اليه‪ff‬ود ومط‪ff‬اعن في نب‪ff‬وة محم‪ff‬د‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬واستتبع ذلك بيان غزوتي أحد وبدر‪ ،‬وهنا ذكرت اآليات حاال عجيب‪ff‬ة لليه‪ff‬ود والنص‪f‬ارى وهي الطعن‬
‫في الدين‪ ،‬مع أنهم أمروا ببيان ما في كتابهم (التوراة واإلنجيل) من دالئل ناطقة بنبوة محم‪ff‬د ص‪ff‬لّى هللا علي‪ff‬ه وس‪ff‬لّم وص‪ff‬دق‬
‫‪.‬رسالته‬

‫‪:‬التفسير والبيان‬
‫هذا توبيخ من هللا وتهديد‪ f‬ألهل الكتاب الذين أخذ هللا عليهم العهد على ألسنة األنبياء أن يؤمنوا بمحمد ص‪ff‬لّى هللا علي‪ff‬ه وس‪ff‬لّم‪،‬‬
‫وأن ينوهوا بذكره في الناس‪ ،‬فيكونوا على أهبة من أمره‪ ،‬فكتموا ذلك‪ ،‬وأخذوا عوضا زهيدا عن‪ff‬ه‪ ،‬وف‪ff‬اتهم م‪ff‬ا وع‪ff‬دوا علي‪ff‬ه‬
‫‪.‬من الخير في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فبئست الصفقة صفقتهم‪ ،‬وبئست البيعة بيعتهم‬
‫وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم‪ ،‬فيصيبهم ما أصابهم‪ ،‬فعلى العلم‪ff‬اء أن يب‪ff‬ذلوا م‪ff‬ا بأي‪ff‬ديهم من العلم الن‪ff‬افع‪ ،‬ال‪ff‬دال‬
‫‪،‬على العمل الصالح‪ ،‬وال يكتموا منه شيئا‬
‫فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم أنه ق‪ff‬ال‪« :‬من س‪ff‬ئل عن علم فكتم‪ff‬ه‪ f،‬ألجم ي‪ff‬وم‬
‫‪.‬القيامة بلجام من نار» (‪)١‬‬
‫وبيان معنى اآلية‪ :‬اذكر ي‪f‬ا محم‪f‬د حين أخ‪f‬ذ هللا العه‪ff‬د المؤك‪f‬د (الميث‪f‬اق) على أه‪f‬ل الكت‪f‬اب من اليه‪f‬ود والنص‪f‬ارى بوس‪f‬اطة‬
‫األنبياء‪ :‬أن يبينوا كتابهم للناس‬
‫ويظهروه من غير كتمان شيء منه‪ ،‬وأال تحريف أو تأويل لبعض نصوصه‪ ،‬وتبيانه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم‪ ،‬ولغير‬
‫‪.‬المؤمنين‪ f‬به لدعوتهم إليه‬
‫لكنهم نبذوا كتابهم وراء ظهورهم‪ ،‬وتركوا التوراة واإلنجيل‪ ،‬وكان منهم فئة يحملونه دون فهم وال وعي لما جاء في‪ff‬ه‪ ،‬وفئة‬
‫أخرى ح ّر فوه وأولوه على غير وجهه الصحيح‪ ،‬واشتروا به ثمنا قليال من حطام الدنيا‪ ،‬أي أخذوا عوض‪ff‬ا عن‪ff‬ه فائ‪ff‬دة دنيوي‪f‬ة‪f‬‬
‫حقيرة كالشهرة الزائفة‪ ،‬والرياسة الظاهرة‪ ،‬والمال الزائل‪ ،‬فكانوا في الحقيق‪f‬ة مغب‪f‬ونين‪ f‬في ه‪f‬ذا ال‪f‬بيع أو المبادل‪f‬ة‪ ،‬إذ ترك‪f‬وا‬
‫الغالي الثمين في الدنيا واآلخرة وهو الخير الذي وعدوا به‪ ،‬وأخذوا التاف‪ff‬ه الحق‪ff‬ير‪ ،‬وه‪ff‬و الرش‪ff‬اوى والهب‪ff‬ات والمنح المالي‪ff‬ة‬
‫‪.‬ليحافظوا على كيانهم ومراكزهم‬
‫‪.‬فبئس الشيء المشترى من شرائهم؛ ألنهم جعلوا الفاني بدال من النعيم الدائم‬
‫‪:‬وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتعليمه للناس‪ ،‬قال علي كرّم هللا وجهه‬
‫ما أخذ هللا على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا‪ .‬وقال الحسن البصري‪ :‬لوال الميثاق الذي أخذه هللا‬
‫‪.‬تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه‬
‫‪،‬ثم بيّن تعالى موقف المرائين المتكثرين من أهل الكتاب والمنافقين بما لم يعطوا‬
‫»كما جاء في الصحيحين عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها‪ ،‬لم يزده هللا إال قلّة‬
‫‪».‬وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم «المتشبع بما لم يعط‍ كالبس ثوبي زور‬
‫هذه حال أخرى من أحوال أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬ليح‪ff‬ذر هللا المؤم‪ff‬نين منه‪ff‬ا‪ ،‬فال تظنن ي‪ff‬ا محم‪ff‬د أن ال‪ff‬ذين موّه‪ff‬وا الحق‪ff‬ائق‪،‬‬
‫وكتموا العلم الصحيح ودلّسوا عليك‪ ،‬وفرح‪ff‬وا بم‪ff‬ا أت‪ff‬وا من التأوي‪ff‬ل والتحري‪ff‬ف للكت‪ff‬اب‪ ،‬ورأوا ألنفس‪ff‬هم ش‪ff‬رفا في‪ff‬ه وفض‪ff‬ال‬
‫يستحقون أن يحمدوا‬
‫موجب وال داع للشكر‪ ،‬أو على أنهم أخبروك بالصدق عما سألتهم عن‪ff‬ه‪ ،‬أو على م‪ff‬ا فع‪ff‬ل المن‪ff‬افقون في التخل‪ff‬ف عن الغ‪ff‬زو‬
‫‪(.‬الجهاد) وجاؤوا به من العذر‪ ،‬وكل ما فعلوا أنهم حولوا الحق والنور والهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وعامة الناس‬
‫فهؤالء ال تظنن أنهم ناجون من العذاب‪ ،‬بل لهم عذاب أليم شديد األلم في الدنيا بالخذالن والخسف والزلزال والطوفان وغير‬
‫ذلك من الجوائح والمصائب العامة المدمرة‪ ،‬وفي اآلخرة بحشرهم في جهنم جزاء إفكهم وتحريفهم وتبديلهم وتغييرهم كتاب‬
‫ك ِإذا َأ َخ َذ ْالقُرى َو ِه َي ظالِ َمةٌ‪ِ ،‬إ َّن َأ ْخ َذهُ َألِي ٌم َش ِدي ٌد} [هود ‪]١١ /١٠٢‬‬
‫‪.‬هللا‪ .‬وذلك كقوله تعالى‪َ { :‬و َكذلِكَ َأ ْخ ُذ َربِّ َ‬
‫ت} احتجاجا على الذين قالوا‪ِ{ :‬إ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء}‪ ،‬وتكذيبا لهم‪ ،‬فقال للمؤم‪ff‬نين‪ :‬وال‬ ‫ثم كان قوله‪َ { :‬وهّلِل ِ ُم ْل ُ‬
‫ك السَّماوا ِ‬
‫تحزنوا أيها المؤمنون على عمل أهل الكتاب وعلى ما فاتكم من نصر‪ ،‬وال تض‪ff‬عفوا عن القي‪ff‬ام ب‪ff‬الواجب‪ ،‬وبين‪ff‬وا الح‪ff‬ق وال‬
‫تكتموا منه شيئا‪ ،‬وال تأخذوا عن حكم هللا الص‪f‬حيح عوض‪f‬ا مهم‪f‬ا ك‪f‬ثر‪ ،‬فإن‪ff‬ه قلي‪ff‬ل‪ ،‬وال تفرح‪f‬وا على م‪f‬ا لم تعمل‪ff‬وا‪ ،‬ف‪ff‬إن هللا‬
‫يكفيكم همومكم وينصركم على أعدائكم‪ ،‬ويمدكم بالخير والفضل؛ ألنه تعالى مال‪f‬ك ك‪ff‬ل ش‪f‬يء‪ ،‬والق‪f‬ادر على ك‪ff‬ل ش‪f‬يء‪ ،‬فال‬
‫‪.‬يعجزه شيء‪ ،‬فهابوه وال تخالفوه‪ ،‬واحذروا غضبه ونقمته‪ ،‬فإنه األعظم واألقدر من كل شيء في هذا الوجود‬

‫‪:‬فقه الحياة أو األحكام‬


‫‪.‬تضمنت اآليات توبيخا‪ ،‬وتحذيرا‪ ،‬واحتجاجا وتكذيبا‬
‫فهي توبيخ ألهل الكتاب الذين أمروا باإليمان بمحمد عليه الصالة والس‪ff‬الم وبي‪ff‬ان أم‪ff‬ره‪ ،‬فكتم‪ff‬وا نعت‪ff‬ه‪ .‬ويفهم من ه‪ff‬ذه اآلي‪ff‬ة‬
‫واجبات ثالثة‪ :‬توضيح العلماء كتاب هللا وإفهامه للن‪ff‬اس وإظه‪ff‬ار م‪f‬ا في‪ff‬ه من عظ‪ff‬ة وأس‪ff‬رار في األحك‪ff‬ام العام‪ff‬ة والخاص‪ff‬ة‪،‬‬
‫وتبيين الدين للمسلمين حتى يفهموه على حقيقته ويعرفوا أنه طريق‬
‫الخالص الوحيد من تخلف األمة وضعفها وفسادها‪ ،‬وتوضيح أحكام الدين لغير المسلمين ودعوة الن‪f‬اس إلى ص‪f‬راط‍ مس‪f‬تقيم‬
‫‪.‬حتى يهتدوا به‬
‫وهي أيضا تحذير من أفعال أهل الكتاب والمنافقين الذين يدلسون الحق‪ff‬ائق‪ ،‬ويزيف‪ff‬ون مع‪ff‬اني الكتب المنزل‪ff‬ة‪ ،‬ويتخلف‪ff‬ون عن‬
‫‪.‬الجهاد باألعذار الواهية‬
‫وهي كذلك احتجاج على اليهود الذين نسبوا الفقر إلى هللا والغنى ألنفسهم‪ ،‬وتكذيب لهم‪ ،‬ورد ق‪ff‬اطع ب‪ff‬أن هللا مال‪ff‬ك الس‪ff‬موات‬
‫‪.‬واألرض ومن فيهن‪ ،‬وله القدرة الباهرة على كل شيء‪ ،‬والسلطان النافذ في كل شيء‬

You might also like