Professional Documents
Culture Documents
Tafsir Munir
Tafsir Munir
ة: البالغ
ب إذ يراد به المؤمن والمنافق .ويوجد طباق في َّ
يث والطيِّ ِ ْ ُ
ُسار ُعونَ فِي الكف ِر وفي ال َخبِ َ ْ ُ ْ
يوجد استعارة في اشتَ َر ُوا الكف َر وفي ي ِ
ال ُك ْفَ fffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffر ،بِاإلي
ْمfffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffffان
ِ
المناسبة:
أدى انتصار المشركين في أحffد وإصffابة المؤمffنين بشffيء كثffير من األذى ،إلى اسffتغالل المنffافقين تلffك النتيجffة ،فصffاروا
يقولون :لو كان محمد نبيا ما قتل وال هزم ،وإنما هو طfالب ملfك ،فتfارة ينتصfر وتfارة ينهfزم ،وبfادروا في نصfرة الكفfار
وتثبيط المؤمنين عن القتال ،فتألم النبي صلّى هللا عليه وسلّم وحزن ،فنزلت هذه اآليات تسري عنه وتزيل الحزن من نفسffه،
{وال يَحْ ُز ْنكَ قَffوْ لُهُ ْمِ ،إ َّن
كما س ّر ى عنه حينما أعرض الكافرون عن اإليمان ،وطعنوا في القرآن أو شخصه ،في قوله تعالىَ :
ث َأ َسfفاً} [الكهfف /٦ آثfار ِه ْم ِإ ْن لَ ْم يُْؤ ِمنُfوا بِهَ fذا ْال َحِ fدي ِ
ِ ْال ِع َّزةَ هّلِل ِ َج ِميعاً} [يونس ]١٠ /٦٥وقوله{ :فَلَ َعلَّ َ
ك بfا ِخ ٌع نَ ْف َسَ f
ك عَلى
.]١٨
التفسير والبيان:
يخاطب هللا تعالى نبيه صلّى هللا عليه وسلّم لشدة حرصه على النffاس :ال يحزنffك أيهffا الرسffول مبffادرة الكفffار إلى المخالفffة
والعناد والشقاق ومناصرة الكفر ،كأبي سفيان وغيره من أهل مكة ،واليهود والمنافقين.
إنهم لن يضروا أولياء هللا وهم النبي وصحته شffيئا من الضffرر ،وإنمffا يضffرون أنفسffهم ،ويحffاربون هللا تعffالى ويسffتعدونه
عليهم والدائرة تكون عليهم ،ويحرمون من ثواب هللا تعالى في اآلخرة ،ولهم عذاب عظيم ال يعرف قدره ،وهللا يعffاقبهم على
فعلهم ال يظلمهم ،وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفffرهم وضffاللهم ومناصffرتهم ملffة الكفffر ومقاومffة المؤمffنينَ { :وال يَ ِحيُ f
ق
ْال َم ْك ُر ال َّسيُِّئ ِإالّ بَِأ ْهلِ ِه}.
[فاطر ]٣٥ /٤٣وهذا يدل على أنه ال يؤبه بهم وال يخشى خطرهم.
fرِ ،منَ الَّ ِذينَ قffالُوا :آ َمنّffا بَِfأ ْفوا ِه ِه ْم َولَ ْم تُْfؤ ِم ْن
fار ُعونَ فِي ْال ُك ْفِ f
ك الَّ ِذينَ يُسِ f وهي مثل قوله تعالى{ :يffا َأيُّهَffا الر ُ
َّسfولُ ،ال يَحْ ُز ْنَ f
قُلُوبُهُ ْم} [المائدة .]٥ /٤١
وهذا ال يقتصر عليهم ،وإنما هو حكم عام مقرر يشمل كffل من آثfر الكفfر على اإليمffان ،لffذا قfال :إن الfذين اسfتبدلوا الكفffر
باإليمان لن يضروا هللا شيئا ،ولكن يضرون أنفسهم ،ولهم عذاب مؤلم شديد األلم في الدنيا واآلخرة.
ت ،بَfلْ ال يَ ْشُ fعرُونَ } [المؤمنfون ]٢٣ /٥٥ ع لَهُ ْم فِي ْال َخ ْيffرا ِ وهي تشبه آية {َأيَحْ َسبُونَ َأنَّما نُ ِم ُّدهُ ْم بِِ fه ِم ْن مfا ٍل َوبَنِينَ ،نُ ِ
سfار ُ
َأ
ْج ْبffكَ ْمffوالُهُ ْم
{وال تُع ِ
ْث ال يَ ْعلَ ُمffونَ } [القلم ]٦٨ /٤٤وآيffةَ : وآيffة{ :فََ fذرْ نِي َو َم ْن يُ َكِّ fذبُ بِهَ fذا ْال َحِ fدي ِ
ث َسن َْسfتَ ْد ِر ُجهُ ْم ِم ْن َحي ُ
ق َأ ْنفُ ُسهُ ْم َوهُ ْم كافِرُونَ } [التوبة .]٩ /٨٥
َوَأوْ ال ُدهُ ْمِ ،إنَّما ي ُِري ُد هللاُ َأ ْن يُ َع ِّذبَهُ ْم بِها فِي ال ُّد ْنياَ ،وت َْزهَ َ
ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين ،فأخبر أنه ال يحسبن هؤالء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير
ألنفسهم؛ ألنهم ال يستغلون العمر في عمل الخير ،وإنما يستغلونه في الشر ،فتكون عاقبتهم ازدياد اإلثم على اإلثم ،والمبالغة
في الباطل والبهتان ،ولهم عذاب مهين :ذو إهانة وإذالل لهم ،أي إنما هو مع ّد لهم.
وال يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد اإلثم كما يفعلون ،وإنما اإلمهاللهم هو ليتوبوا ويدخلوا في اإليمان ،ال لزيادة اإلثم
وللتعذيب f،فيكون اإلمالء خيرا لهم ،ولكن علم هللا سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائffرة الحffق والخffير والرشffاد ،فهffؤالء لهم
عذاب مهين.
قال الزمخشري في قولهَ{ :أنَّما نُ ْملِي لَهُ ْم} :ما :هذه حقها أن تكتب متصffلة؛ ألنهffا كافffة ،دون األولى .وهffذه جملffة مسffتأنفة
تعليل للجملة قبلها ،كأنه قيل :ما بالهم ال يحسبون اإلمالء خيرا لهم؟ فقيلِ{ :إنَّما نُ ْملِي لَهُ ْم لِيَ ْزدادُوا ِإ ْثماً}.
فإن قلت :كيف جاز أن يكون ازدياد اإلثم غرضا هلل تعالى في إمالئه لهم؟ قلت :هو علة لإلمالء ،وما كل علfة بغfرض ،فلfو
قلت :قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ،وخرجت من البلد لمخافة الشر ،ليس شيء منها بغرض لك ،وإنما هي علل وأسffباب،
فكذلك ازدياد اإلثم جعل علة لإلمهال وسببا فيه.
فإن قلت :كيف يكون ازدياد اإلثم علة لإلمالء ،كما كان العجز علfة للقعfود عن الحfرب؟ قلت :لمfا كfان في علم هللا المحيfط
بكل شيء أنهم مزدادون إثما ،فكأن اإلمالء وقع من أجله وبسببه ،على طريق المجاز (.)١
والخالصة :إن هذا اإلمهال والتأخير ليس عناية من هللا بهم ،وإنما هو قد جرى على سنته في الخلق :بأن ما يصيب اإلنسffان
من خير أو شر ،فإنما هو ثمرة عمله .ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يغتر اإلنسان بهذا اإلمهال ،ويسترسffل في فجffوره،
فيوقعه ذلك في اإلثم ،الذي يترتب عليه العذاب المهين (.)٢
ثم بيّن هللا تعالى أن المحن والشدائد تظهر صدق اإليمان ،وأنه ال بد من أن يعقد شيئا من المحنة ،يظهر فيه وليه ويفضح
به عدوه ،فال يترك الناس على مثل حالتهم يffوم أحffد ،حffتى يمffيز المfؤمن من المنfافق ،ويعfرف المffؤمن الصfابر والمنffافق
الفاجر ،كما قال تعالىَ { :ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم َحتّى نَ ْعلَ َم ْال ُمجا ِه ِدينَ ِم ْن ُك ْم َوالصّابِ ِرينَ } [محمد .]٤٧ /٣١
يقصد به أن يوم أحد كان اختبارا امتحن هللا به المؤمنين ،فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطffاعتهم هلل ولرسffوله
صلّى هللا عليه وسلّم ،وهتك به ستار المنافقين ،فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد ،وخيانتهم هلل ولرسوله صلّى هللا عليffه
وسلّم.
وقد يفكر بعض الناس أن تمييز المؤمن الصادق من المنافق يحدث بالوحي وبأن يطلع هللا المؤمffنين على الغيب ،فأجffاب هللا
تعالى :لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامfة النfاس على الغيب ،وإنمfا خلfق اإلنسfان وقfدر لfه أن يصfل إلى مfراده بعملfه
الكسبي الذي ترشد إليه الفطرة ويهدي إليه الدين وتدل عليه النبوة ،فهو تعالى يختار من رسله من يشاء ،ويطلعه على بعض
ول} [الجن ]٢٧ - ٧٢ /٢٦ثم ب فَال ي ْ
ُظ ِه ُر عَلى َغ ْيبِ ِه َأ َحffداًِ ،إالّ َم ِن ارْ تَضffى ِم ْن َر ُسٍ f المغيبات ،كما قال سبحانه{ :عالِ ُم ْال َغ ْي ِ
يخبر الرسول بعض الناس بنفاق رجل وإخالص آخر ،فيكون مصدر ذلك الخبر هو اطالع هللا على كفر أناس وإيمffانهم ،ال
أنه يطلعه على ما في القلوب اطالع هللا.
ثم يترك الناس لتمييز المؤمن منهم والمنافق بواسطة األسباب الكاشفة عن ذلك.
لذا يجب عليكم اإليمffان باهلل والرسffل ومنهم محمffد صfلّى هللا عليffه وسffلّم ،وإطاعffة هللا والرسfول واتباعffه فيمffا شffرع لكم،
السّ fدي :قffال
واالعتقاد بأن الرسل ال يخبرون عن شيء إال بمffا أخffبرهم هللا بffه من الغيffوب .وهffذا رد على الكffافرين ،قffال ّ
الكافرون :إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر ،فنزلت.وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب ،وتتقffوا
هللا بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه ،فلكم ثواب عظيم ال يستطيع أحد تحديد مقداره.
ويالحظ أن القرآن يقرن دائما بين اإليمffان والتقffوى ،كمffا يقffرن بين الصffالة والزكffاة ،لتالزمهمffا واالعالم بffأن اإليمffان ال
يكتمل إال بهما ،ويقرن أيضا بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال.
وبمffا أن اآليffات السffابقة كffانت في الحث على الجهffاد والتحffريض على بffذل النفس ،أعقب ذلffك الحث على بffذل المffال في
الجهاد.
ّ
يظنن أحد أن بخل البخالء خير لهم بكfنز المfال وادخfاره ،وأن الجfود واإلنفfاق يفقfر ،وإنمfا هfو شfر عظيم على األمfة فال
والفرد في الدنيا واآلخfرة ،والمfراد بالبخfل :حجب الزكfاة المفروضfة عن المسfتحقين ،وعfدم الصfدقة عنfد رؤيfة حاجfات
المحتاجين.
أما ضرر البخل في الدنيا فتعريض مال الغffني للضffياع والنهب والسfرقة واألحقfاد ،وفي عصfرنا وغfيره ظهfور الحمالت
الشنيعة على األغنياء المترفين ،وانتشار األفكار والنظريات المسماة باالشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية.
وأما ضرره في اآلخرة والدين f:فهو ما أخبر عنه تعالى بأنهم سيلزمون وبال بخلهم وعاقبة شffحهم إلffزام الطfوق في العنffق،
فال يجدون مناصا وال مهربا من توجيه اللوم والسؤال والعقاب على فعلهم.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال:
قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم« :من آتاه هللا ماال ،فلم يؤد زكاته ،مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان ،يطوّقffه يffوم القيامffة،
ضfلِ ِه{وال يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ بِمffا آتffاهُ ُم هللاُ ِم ْن فَ ْ
يأخذ بلهزمتيه-أي شدقيه-ثم يقول :أنا مالك ،أنا كنزك» ثم تال هذه اآليةَ :
ه َُو خَ يْراً لَهُ ْم ،بَلْ هَُ fو َشٌّ fر لَهُ ْم .}.إلى آخffر اآليffة .والحقيقffة أن هلل مffا في السffموات واألرض ممffا يتوارثffه أهلهمffا من مffال
وغيره ،فكيف يصح لقوم يبخلون عليه بملكه ،وال ينفقونه في سبيله .وهذا مثل قوله تعffالىَ { :وَأ ْنفِقُffوا ِم ّمffا َج َعلَ ُك ْم ُم ْسfت َْخلَفِينَ
فِي ِه} [الحديد ]٥٧ /٧فإن األمور كلها مرجعهffا إلى هللا عffز وجffل ،فقffدموا من أمfوالكم مffا ينفعكم يffوم معffادكم ،وهللا خبffير
بنياتكم وضمائركم وأعمالكم ،ال تخفى عليه خافية منها ،ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو سوء.
- ١ال يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم ،بل هو شر لهم؛ ألنهم ببخلهم يعرّضffون
أموالهم للضياع والتلف والسرقة وغيرها ،ويضرون أمتهم لتقصيرهم بمffا يجب
عليهم من التكافل االجتماعي والتعاون على القضاء على ظffاهرة الفقffر ،والفقffر
.يضر باألمة جمعاء ،وحياة األمم متوقفة على بذل النفس والمال
والفرق بين البخل والشح :أن األول :هfو االمتنffاع من إخfراج مfا حصfل عنffدك ،والثfاني :الحfرص على تحصffيل مfا ليس
،عندك .والصحيح أن الشح هو البخل مع حرص
:لما رواه مسلم عن جابر بن عبد هللا أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قال
اتقوا الظلم ،فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،واتقfوا الشfح ،فfإن الشfح أهلfك من كfان قبلكم ،حملهم على أن سfفكوا دمfاءهم«،
».واستحلوا محارمهم
ت َواَأْلرْ ِ
ض} يffدل على بقffاء هللا تعffالى ودوام ملكffه ،وأنffه في األبffد كهffو في األزل غffني عن ُ {وهّلِل ِ ِمf
fيراث َّ
الس fماوا ِ َ –٢
العالمين ،فيرث األرض بعد فناء خلقه وزوال أمالكهم ،فتبقى األمالك واألموال ال م ّدعى فيها ،فجرى هffذا مجffرى الوراثffة
:في عادة الخلق ،وهو ليس بميراث في الحقيقة ،ألن الوارث في الحقيقة
هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل ،وهللا سبحانه وتعالى مالك السموات واألرض وما بينهمffا .ونظffير هffذه اآليffة قولffه
ث اَأْلرْ َ
ض َو َم ْن َعلَيْها} [مريم ]١٩ /٤٠والمعنى في اآليffتين :أن هللا تعffالى أمffر عبffاده بffأن ينفقffوا وال تعالىِ{ :إنّا نَحْ نُ ن َِر ُ
.يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا ذلك ميراثا هلل تعالى ،وال ينفعهم إال ما أنفقوا
– ٣علم هللا تعالى واسع ودقيق ،فهو يعلم صغار األشياء واألعمال وكبارها ،ويعلم ما د ّ
ق وخفي من األعمال ،بل يعلم السر
وأخفى ،فيجازي كل عامل بما عمل ،ويكافئه بحسب نيته ،كما جاء
:في الحديث المشهور عن عمر لدى الشيخين
».إنما األعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى«
بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى هللا وتكذيبهم النبي صلّى هللا عليه وسلّم
fق{ َذاب ْال َح ِريِ f
ق َونَقُو ُل ُذوقُوا ع َ لَقَ ْد َس ِم َع هللاُ قَوْ َل الَّ ِذينَ قالُوا ِإ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء َسنَ ْكتُبُ ما قالُوا َوقَ ْتلَهُ ُم اَأْل ْنبِيا َء بِ َغي ِْر َح ٍّ
ْأ
ْس بِظَالّ ٍم لِ ْل َعبِيِ fد ( )١٨٢الَّ ِذينَ قfالُوا ِإ َّن هللاَ َع ِهَ fد ِإلَيْنfا َأالّ نُْfؤ ِمنَ لِ َر ُسfو ٍل َحتّى يَ تِيَنfا ت َأيِْ fدي ُك ْم َوَأ َّن هللاَ لَي َ
( )١٨١ذلِكَ بِما قَ َّد َم ْ
ك فَقَْ fد َّ ْ ْ ُ
ت َوبِال ِذي قلتُ ْم فَلِ َم قَتَلتُ ُمffوهُ ْم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم صffا ِدقِينَ ( )١٨٣فَِfإ ْن َك fذبُو َ َّ بِقُرْ با ٍن تَْأ ُكلُهُ النّا ُر قُلْ قَ ْد جا َء ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن قَ ْبلِي بِالبَيِّنffا ِ
ْ
ير ()١٨٤ ب ْال ُمنِ ِ
الزب ُِر َو ْال ِكتا ِ
ت َو ُّ ب ُر ُس ٌل ِم ْن قَ ْبلِكَ جاُؤ بِ ْالبَيِّنا ِ } ُك ِّذ َ
:اإلعراب
مفعول به ،و {قَ ْتلَهُ ُم} :معطوف منصوب على {ما} و {اَأْل ْنبِيا َء} منصوب بالمصدر المضffاف وهffو }:ما{ } َسنَ ْكتُبُ ما{
{.قَ ْتلَهُ ُم} ،وقرئ سيكتب بالبناء للمجهول ،وحينئذ تكون {ما} مرفوعا نائب فاعل
:البالغة
أكد اليهود نسبة الفقر إلى هللا على سبيل المبالغة واإلغراق في الكفر ،ووصfفوا أنفسffهم بfالغنى }ِإ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء{
.بجملة اسمية دون تأكيد للداللة على أن الغنى وصف الزم لهم ال يحتاج لمؤكد
.هللا ال يكتب وإنما يأمر بالكتابة مالئكته f،فأسند الفعل إليه من قبيل المجاز العقلي } َسنَ ْكتُبُ ما قالُوا{
ت َأ ْي ِدي ُك ْم{
.مجاز مرسل من إطالق الجزء وإرادة الكل ،وذكر األيدي بالذات لكثرة تداول األعمال بهن }قَ َّد َم ْ
إسناد األكل إلى النffار من طريffق االسffتعارة؛ ألن حقيقffة األكffل تكffون لإلنسffان والحيffوان .يوجffد طبffاق بين }تَْأ ُكلُهُ النّا ُر{
ك بِظَالّ ٍم لِ ْل َعبِي ِد} ليست للمبالغffة {فَقِيرٌ} و {َأ ْغنِيا ُء} وجناس مغاير في {قَوْ َل الَّ ِذينَ قالُوا} وفي { َك َّذبُو َ
ك فَقَ ْد ُك ِّذ َ
ب}َ { .وما َربُّ َ
.وإنما هي للنسب مثل عطار ونجار
:المفردات اللغوية
نأمر بكتب {ما قالُوا} أي نأمر بكتب أقوالهم في صحائف أعمالهم ليجازوا عليffه ،والمffراد :أننffا سffنعاقبهم عليffه } َسنَ ْكتُبُ {
fق} المحffرق { ُذوقُ وا} أصل الذوق :إدراك الطعم في الفم ،ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات ،وهو المراد هنا ْ
{ال َح ِريِ f
والمؤلم ،والحريق :اسم للملتهبة من النار ،والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة والمfراد عfذاب هffو المحfرق والمffؤلم ،وهfو
.النار ،فعذاب الحريق يراد به عذاب هو الحريق ،أي سننتقم منهم { َع ِه َد ِإلَيْنا} أي أمرنا في التوراة وأوصانا به
هو ما يتقرب به إلى هللا من حيوان ونقد وغيرهما ،أي فال نؤمن لك حتى تأتينا به ،والمراد من النار :النffار الffتي }بِقُرْ با ٍن{
fر} جمffع زبffور وهffو الكتffاب ،مثffل صffحف الزبُِ f تنزل من السماء{ .قُلْ } لهم توبيخffا {بِ ْالبَيِّنffا ِ
ت} المعجffزات الواضffحة { َو ُّ
ير } الواضح ،وهو التوراة واإلنجيل ،أي إذا كذبك الناس فتكffذيب الرسffل أمffر شffائع فيمن قبلffك ،فاصffبر كمffا إبراهيم ْ
{ال ُمنِ ِ
.صبروا
:سبب النزول
:نزول اآلية ()١٨١
}:لَقَ ْد َس ِم َع{
أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :دخل أبو بكر بيت المffدارس ( ،)١فوجffد يهffود قffد اجتمعffوا إلى رجffل
منهم يقال له (فنحاص) فقال له :وهللا يا أبا بكر ما بنا إلى هللا من فقر ،وإنه إلينا لفقير ،ولو كان غنيا عنfا مfا اسfتقرض منfا،
كما يزعم صاحبكم ،فغضب أبو بكر ،فضرب
:وجهه ،فذهب فنحاص إلى رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،فقال :يا محمد ،انظر ما صنع صاحبك بي ،فقال
يا أبا بكر ،ما حملك على ما صنعت؟ قال :يا رسffول هللا ،قffال قffوال عظيمffا ،يffزعم أن هللا فقffير ،وأنهم عنffه أغنيffاء ،فجحffد
:فنحاص ،فأنزل هللا
.اآلية }لَقَ ْد َس ِم َع هللاُ قَوْ َل الَّ ِذينَ قالُوا{
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :أتت اليهffود النffبي صffلّى هللا عليffه وسffلّم حين أنffزل هللاَ { :م ْن َذا الَّ ِذي يُ ْقِ f
fرضُ هللاَ
.قَرْ ضا ً َح َسناً} فقالوا :يا محمد ،افتقر ربك ،يسأل عباده ،فأنزل هللا{ :لَقَ ْد َس ِم َع هللاُ .}.اآلية
:المناسبة
تناولت اآليات السابقة أحداث معركة أحد ،وما صاحبها من مكائد المنافقين ودسائسffهم ومحffاوالتهم تثبيfط عffزائم المسffلمين
عن الجهاد .وبدأت هذه اآليات ببيان دسائس اليهود في محاربة المسلمين ،ليحذرهم هللا منها كما حذرهم من المنffافقين .غffير
.أن أفعال اليهود كبائر ومخازي ال تحتمل ،مثل نسبتهم الفقر إلى هللا ،ونقضهم العهود ،وقتلهم األنبياء ،وخيانة األمانة
هذه اآليات تسجيل لبعض قبائح اليهود ،فإنه تعالى سمع قولهم الشنيع وسيعاقبهم عليه أشد العقاب ،وهffو تهديffد ووعيffد على
مقالتهم ،وهي نسبة الفقر إلى هللا والغنى إلى أنفسfهم ،ولكنfه تعfالى سfيجازيهم على ذلfك ،إذ يلfزم من كتابfة الfذنب وحفظfه
.إنزال العقوبة عليه
ومن جرائمهم الشنيعة قتلهم األنبياء قديما بغير حق وال ذنب ،ونسبة القتffل إلى اليهffود المعاصffرين في زمن نبينffا صffلّى هللا
عليه وسلّم ،مع أنه كان من أجدادهم؛ ألنهم كانوا راضين عنه ،مقرين بما ارتكبوا ،متعاطفين مع بني جنسهم ،مما يffدل على
أن
األمة متكافلة متضffامنة فيمffا بينهffا في القضffايا العامffة ،وأنهffا تؤخffذ بجريffرة وذنب أفرادهffا ،إذا كffانوا مقffرين أفعffالهم ولم
.ينكروها عليهم
يق} أي النار ،أي سيجازيهم هللا على ذلك شر الجزاء ،وإن هffذا العffذاب المحffرق َذاب ْال َح ِر ِ
لذا قال تعالىَ { :ونَقُولُُ :ذوقُوا ع َ
المؤلم بسبب أعمfالكم في الfدنيا وبمfا سfلف من الfذنوب كقتfل األنبيfاء ،ووصfف هللا بfالفقر ،ومناصfرة الكفfر وغfير ذلfك.
وأضيف العمل إلى األيfدي؛ ألن أكfثر أعمfال النfاس تكfون باأليfدي ،وللداللfة على أن العfذاب بسfبب عملهم الصfادر منهم
حقيقة ،ولتوليهم الفعل ومباشرته ،بل إنهم حاولوا قتل النبي صلّى هللا عليه وسلّم بإلقاء الجدار عليه في المدينة ،وبffدس السffم
.في شاة في خيبر
وليس هذا العذاب في غffير محلffه ،وإنمffا هffو في غايffة العffدل والحكمffة؛ ألن هللا ال يظلم أحffدا ،وألنffه ال يعقffل التسffوية بين
ت َأ ْن نَجْ َعلَهُ ْم َكالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُffوا ب الَّ ِذينَ اجْ ت ََرحُوا ال َّسيِّئا ِ العاصي والطائع ،وبين الكافر والمؤمن ،كما قال تعالىَ{ :أ ْم َح ِس َ
تَ ،سوا ًء َمحْ ياهُ ْم َو َمماتُهُ ْم ،سا َء مffا يَحْ ُك ُمffونَ } [الجاثيffة َ{ .]٤٥ /٢١أفَنَجْ َعُ fل ْال ُم ْسfلِ ِمينَ َكْ f
fال ُمجْ ِر ِمينَ ،مffا لَ ُك ْم َك ْيffفَ الصّالِحا ِ
ْ َأ
ضْ ،م نَجْ َعُ ffل ال ُمتَّقِينَ َأْل
ت َكال ُم ْف ِسِ ffدينَ فِي ا رْ ِ ْ الصffالِحا ِ َّ َأ
تَحْ ُك ُمffونَ ؟} [القلم ْ { ]٣٦ – ٦٨ /٣٥م نَجْ َعُ ffل ال ِذينَ آ َمنُffوا َو َع ِملُffوا ّ
ّار} [ص ]٣٨ /٢٨ ُ ْ
َ .كالفج ِ
ْس بِظَالّ ٍم لِ ْل َعبِي ِد} تقريعffا وتوبيخffا ،وتحقffيرا ت َأ ْي ِدي ُك ْمَ ،وَأ َّن هللاَ لَي َ َذاب ْال َح ِر ِ
يق ،ذلِكَ بِما قَ َّد َم ْ يقال لهم تلك المقاالتُ { :ذوقُوا ع َ
.وتصغيرا ،وتبيانا لبشاعة جرائمهم ،وذلك إما في جهنم ،أو عند الموت ،أو عند الحساب ،والقائل إما هللا أو المالئكة
ثم يقول تعالى تكذيبا لليهود أيضا الذين زعموا أن هللا عهد إليهم في كتبهم أال يؤمنوا لرسول ،حffتى يكffون من معجزاتffه :أن
.من تصدق بصدقة من أمته أي قربان ،فتقبلت منه :أن تنزل نار من السماء تأكلها
.والقربان :ما يتقرب به إلى هللا تعالى من نسك (إراقة دم من المواشي) وصدقة وعمل صالح
.والقصد من زعمهم هذا عدم اإليمان برسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؛ ألنه لم يأت بما قالوه ،ولو أتى به آلمنوا
قال ابن عباس :نزلت هذه اآلية في كعب بن األشرف ومالك بن الصّيف ،وفنحffاص بن عffازوراء في جماعffة آخffرين ،أتffوا
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم فقالوا :يا محمد ،تزعم أنك رسول هللا ،وأنه تعالى أوحى إليك كتابا ،وقد عهد إلينا في التوراة
ي خفيف حين تfنزل من السfماء ،فfإن جئتنffا بهfذا صffدقناك، أال نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ،ويكون للنار دو ّ
.فنزلت اآلية
ولكن ادعاء هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم ،لذا ر ّد هللا تعالى موبخا لهم ومكذبا ،بأن نزول النار معجزة ،والمعجزة لتأييد
الرسالة ،وإثبات صدق النبي المبعوث ،وقfد جfاءكم رسfل كثffيرون مثffل زكريfا ويحfيى وغيرهمfا بffالمعجزات أو بالبينfات
الواضffحة الدالffة على صffدق نبffوتهم ،فلم كffذبتموهم؟ ولم تصffدقوهم ،ولم قتلتمffوهم؟ إن كنتم صffادقين أنكم تتبعffون fالحffق
.وتنقادون للرسل
وقد نسب هذا الفعل لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل القرآني ،مع أن تلك الجرائم كانت من أسالفهم؛ ألنهم كما بينا سابقا
رضوان عما فعلوه ،معتقدون أنهم على حق في ذلffك ،واألمffة أو القبيلffة عfادة تتffأثر بصffنع بعض أفرادهffا ،ويعيبهffا جرمffه
.وانحرافه ،لنسبته إلى تلك الجماعة
ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمدا صلّى هللا عليه وسلّم أي مع ّزيا ومؤنسا له ،ومخففffا عليffه سffوء موقffف اليهffود وأمثffالهم وهم
قومه ،وتكذيب الفريقين ،فأخبر :إن كذبوك بعد أن جئتهم بالدالئل-والمعجزات ،فقffد كfّ fذب رسfل من قبلffك ،جfاؤوا بمثffل مfا
جئت به من البينات والمعجزات ،والكتب ذات األصل اإللهي كالصحف المنزلة
على المرسffلين ،والكتffاب المنffير أي الواضffح الجلي وهffو التffوراة واإلنجيffل والزبffور ،فصffبروا على األذى والسffخرية،
والمخالفة والمعاندة .وهذا من طبيعة البشر في كل زمن ،منهم من يصغي إلى الحق ،ومنهم من يقاومه ويهfزأ بصfاحبه ،فال
.تعجب من مقاومة دعوتك ،فإن نفوسهم ال تنشد الوصول إلى الحق ،وال تبغي الخير
:اإلعراب
:البالغة
استعارة مثل قوله {تَْأ ُكلُهُ النّارُ} ألن حقيقة الذوق تكون بحاسّة اللسان ،كما أن حقيقة األكل لإلنسان } ُكلُّ نَ ْف ٍ
س ذاِئقَةُ ْال َموْ ِ
ت{
.والحيوان
ار َوُأ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ{
}زحْ ِز َح ع َِن النّ ِ
.فيه ما يسمى في علم البديع بالمقابلة ُ
ع ْال ُغر ِ
ُور{ .استعارة ،شبه الدنيا بالمتاع الذي يغرر به المشتري ثم يظهر فساده ،والمدلّس والمغرر هو الشيطان (َ } )١متا ُ
:المفردات اللغوية
ت{ س ذاِئقَfةُ ْال َمffوْ ِ أي أن المffوت مصffير كffل نفس ونهايffة كffل حي ،وال يبقى إال وجهffه الكffريم {تُ َوفَّوْ نَ ُأ ُجَ f
fور ُك ْم} } ُكلُّ نَ ْف ٍ
تعطون جزاء أعمالكم وافيا غير منقوص .ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها :أن كلكم تموتون ،وال بffد لكم من المffوت ،وال
توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم ،وإنما توفونها يوم قيامكم من قبوركم ،والتوفية :تكميل األجور ،ومffا
.يكون قبل ذلك في القبر من روضة أو نعمة فبعض األجور
.ن ّحي عنها وأبعد ،والزحزحة :التنحية واإلبعاد }فَ َم ْن ُزحْ ِز َح ع َِن النّ ِ
ار{
نال غاية مطلوبة ،وسعد ونجا أي تحقق له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز بffه ،وال غايffة للفffوز وراء النجffاة }فَقَ ْد فا َز{
.من سخط هللا ،والعذاب السرمد ،ونيل رضوان هللا والنعيم المخلد
}و َما ْال َحياةُ ال ُّد ْنيا{ ع ْال ُغر ِ
ُور} المتاع :ما يتمتع وينتفع به مما يباع ويشترى ،والغرور :مصدر غره َ أي العيش فيها {ِإالّ َمتا ُ
أي خدعه ،والغرور :الخداع والغش ،أي أن الدنيا مثل المتاع المشترى بسffبب التغريffر والغش والخffداع ثم يتffبين لffه فسfاده
.ورداءته .عن سعيد بن جبير :إنما هذا لمن آثرها على اآلخرة ،فأما من طلب اآلخرة بها ،فإنها متاع بالغ
.لتختبرن أي لتعاملن معاملة المختبر ،لتظهر حالتكم على حقيقتها }لَتُ ْبلَ ُو َّن{
بإيجاب الزكاة المفروضة فيها والنفقة في سبيل هللا ،وبالجوائح واآلفات { َوَأ ْنفُ ِس ُك ْم} بالقتل واألسffر والجffراح }فِي َأ ْموالِ ُك ْم{
.والمخاوف والمصائب في سبيل هللا وبالعبادات المفروضة ،وباألمراض وفقد األحبة واألقارب
.اليهود والنصارى {الَّ ِذينَ َأ ْش َر ُكوا} هم مشركو العرب }ُأوتُوا ْال ِك َ
تاب{
.كالسب والطعن في الدين واالفتراء على هللا والرسول والتشبيب بنسائكم }َأذ ً
ى َكثِيراً{
}وِإ ْن تَصْ بِرُوا{
على ذلffك ،والصffبر :حبس النفس على مffا تكffره وكظم الغيfظ ومقاومffة الجfزع والشffدة بffالتقوى والرضfا َ
َ {.وتَتَّقُوا} هللا بامتثال األمر واجتناب النهي ،والتقوى :االبتعاد عن المعاصي والتزام المأمورات
ُأْل
أي من معزومات األمور التي يعزم عليها لوجوبها .والمعنى :أن الصبر والتقffوى من صffواب التffدبيرِ } f،م ْن ع َْز ِم ا ُم ِ
ور{
.وقوة اإلرادة ،وكمال العقل والفكر ،ومن األمور المحتمة التي ال يجوز التساهل فيها
:سبب النزول
نزول اآليةَ { :ولَتَ ْس َمع َُّن :.}.روى ابن أبي حاتم وابن المنذر بسfند حسfن عن ابن عبfاس أنهfا نfزلت فيمfا كfان بين أبي بكffر
.وفنحاص من قوله السابقِ{ :إ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء}
وذكر عبد الرزاق :أنها نزلت في كعب بن األشرف فيما كان يهجو به النبي صلّى هللا عليه وسلّم من الشعر ،ويحرض عليffه
.كفار قريش في شعره
:المناسبة
كانت اآليات السابقة تسلية وتعزية لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،واستمرت هذه اآليات في زيادة تسليته بأن كffل مffا تffراه
من عنادهم فهو منته إلى غاية ،وكل آت قريب ،فال تضجر وال تحزن ،وإنهم سيجازون على أعمالهم يوم القيامffة ،فffإن أمffد
.الدنيا قريب ،ويوم القيامة يوم الجزاء
وهي أيضا خطاب للمؤمنين ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سfيلقون من األذى والشfدائد fوالصfبر عليهffا ،حfتى إذا فاجfأتهم
.بغتة ،وهم مستعدون لتحملها ،لم يرهقهم شيء ،كما يرهق غير المؤمن فتضيق نفسه ويشمئز ويكره الحياة
:التفسير والبيان
هذا إخبار عام من هللا تعالى يعم جميع الخالئق بأن كل نفس ذائقة المfوت ،كقولfه تعfالىُ { :كfلُّ َم ْن َعلَيْهfا ٍ
فfانَ .ويَبْقى َوجْ fهُ
رام} [الرحمن ]٢٧ – ٥٥ /٢٦فكل الجن واإلنس والمالئكة وحملة العرش يموتون ،وهللا وحده الحي ك ُذو ْال َج ِ
الل َواِإْل ْك ِ َربِّ َ
.القيوم الذي ال يموت ،ينفرد بالديمومة fوالبقاء ،فيكون آخرا كما كان أوال
وفي اآلية تعزية لجميع الناس ،فإنه ال يبقى أحد على وجه األرض وفي السماء حتى يمffوت ،وتffذوق كffل نفس طعم مفارقffة
الروح البدن .ثم يوم القيامة توفى كل نفس بما عملت ،من خير أو شffر ،وتعطى ثffواب عملهffا الطيب كffامال غffير منقffوص،
.ويجازى المسيء الجزاء األوفى ،فال تظلم نفس شيئا ،وإن كان مثقال ذرة
وفي ذكر توفية األجور على الطاعات والمعاصي إشارة إلى أن بعض األجور من خير أو شffر قffد تصffل إليهم في الffدنيا أو
في القبور ،بدليل
ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا إلى النبي صلّى هللا عليه وسلّم« :إن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر
».النار
،فمن ن ّحي عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة ،فقد فاز بالمقصد األسمى والمطلوب األعلى الكامل
ورد عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم« :من أحب أن يزحزح عن النار ،ويدخل الجنة ،فلتدركه منيته ،وهو مffؤمن باهلل واليffوم
اآلخر ،ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه» .وهذا شامل للمحافظة على حقوق هللا وحقffوق العبffاد .وروى ابن أبي حffاتم
عن أبي هريرة قال :قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم« :موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا ومffا فيهffا» .اقffرؤوا
ارَ ،وُأ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ فَقَ ْد فا َز} .فاللهم وفقنا لما ندرك به الفوز بالجنة والنجاة من النار
.إن شئتم{ :فَ َم ْن ُزحْ ِز َح َع ِن النّ ِ
وما الحياة الدنيا التي نعيشها ونستمتع بها باللذات الجسدية من طعام وشراب والمعنوية من جاه ومنصب وسffمو إال كالمتffاع
المشترى بخداع وتغرير ،ثم يتبين fفساده ورداءته؛ ألن صاحبها دائما مغffرور مخffدوع بهffا ،أو ألنهffا حقffيرة متروكffة فانيffة
{ومfا ُأوتِيتُ ْم ِم ْن زائلة ،كما قال تعالى{ :بَلْ تُْfؤ ثِرُونَ ْال َحيffاةَ الُّ fد ْنياَ ،واآْل ِخَ fرةُ خَ ْيٌ fر َوَأبْقى} [األعلى ]١٧ – ٨٧ /١٦وقfالَ :
ع ْال َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو ِزينَتُها
َ ،ش ْي ٍء فَ َمتا ُ
َوما ِع ْن َد هللاِ َخ ْي ٌر َوَأبْقى} [القصص ]٢٨ /٦٠وفي الحديث« :وهللا ما الدنيا في اآلخرة إال كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم،
.فلينظر بم يرجع» ()١
وتهوين شأن الدنيا على هذا النحو لمن آثرها على اآلخرة ،قال سعيد بن جبير« :إنما هffذا لمن آثرهffا على اآلخffرة ،فأمffا من
طلب اآلخرة بها فإنها متاع بالغ» ( .)٢فمن فضل الدنيا على اآلخرة ،كffان كمن اشffترى صffفقة خاسffرة ،غشffه فيهffا البffائع
.ودلس عليه ،ثم تبين fله فسادها ورداءتها
ثم أراد تعالى بعد غزوة أحد توطين النفس وتربيتهffا على تحمffل األهffوال والشffدائد والمصffائب ،فخffاطب النffبي المصffطفى
صلّى هللا عليه وسلّم والمؤمنين مخبرا إياهم :أن الدنيا دار ابتالء واختبار في األنفس واألموال؛ ففي األنفس :بالقتffل واألسffر
والجراح وأنواع المخاوف والمصائب ،وفي األمfوال :باإلنفfاق في سfبل الخfير ومfا يقfع فيهfا من اآلفfات ،وهي مثfل قولfه
وال َواَأْل ْنفُ ِ
س َوالثَّ َمرا ِ
تَ ،وبَ ِّش ِر الصّابِ ِرينَ } [البقرة ]٢ /١٥٥ ص ِمنَ اَأْل ْم ِ ف َو ْالج ِ
ُوع َونَ ْق ٍ .تعالىَ { :ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم بِ َش ْي ٍء ِمنَ ْال َخوْ ِ
وأن المسلمين ونffبيهم يسffمعون مffا يffؤذيهم أذى كثffيرا من اليهffود والنصffارى ومشffركي العffرب ،واألذى قffد يتنffاول الffدين
والقرآن والنبي صلّى هللا عليه وسلّم .ولكن هللا تعالى قال للمؤمنين عند مقدمهم المدينة fقبل وقعة بدر ،مسffليا لهم عمffا ينffالهم
من األذى من هؤالء ،وواصفا لهم العالج الناجع وهو الصفح والصبر والعفو والتزام تقوى هللا بامتثال المأمورات واجتنffاب
المنهيات ،فإن تحقق منهم ذلffك آتffاهم أجffرين من رحمتffه؛ ألن الصffبر والتقffوى من معزومffات األمffور ،أي الffتي ينبغي أن
.يعزمها كل أحد
:فقه الحياة أو األحكام
:أرشدت اآليات إلى الحقائق التالية
– ١الدنيا فانية ،واآلخرة باقية ،وكل شيء هالك إلى وجه هللا الكريم ،وكل حي سيموت ،وأن اآلخرة دار الجزاء والحساب،
.وأن السعادة كل السعادة ،في الفوز بالجنة ،والنجاة من النار
ويسffن عنfد احتضfار الميت تلقينfه الشffهادة دون إعfادة لئال يضfجر ،لقولfه عليfه الصffالة والسfالم فيمfا رواه أحمffد ومسfلم
وأصحاب السنن عن أبي سعيد« :لقنوا موتاكم :ال إله إال هللا» لتكون آخر كالمه فيختم لffه بالشffهادة .ويسffتحب قffراءة (يس)
،ذلك الوقت
لقوله عليه الصالة والسالم« :اقرؤوا يس على موتاكم» ( .)١وذكر اآلجرّي من
».حديث أم الدرداء عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم قال« :ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إال هوّن عليه الموت
،ويغسل الميت إال الشهيد ويكفّن ويصلى عليه ويدفن في التراب ،ويسن اإلسراع في المشي بالجنازة
لقوله صلّى هللا عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة« :أسرعوا بالجنازة ،فإن تك صالحة فخير تقّ fدمونها إليffه ،وإن
».تكن غير ذلك فش ّر تضعونه عن رقابكم
– ٢.إن إيفاء األجور على الطاعات والعقاب على السيئات مقره يوم القيامة ،فأجر المؤمن ثواب ،وأجر الكافر عقاب
– ٣الدنيا غرارة تغر المؤمن وتخدعfه ،فيظن طfول البقfاء وهي فانيfة .وهي أشfبه بالمتfاع الحقfير الfذي يتمتfع وينتفfع بfه
كالفأس والقدر والدلو والقصعة ،ثم يزول وال يبقى ملكه .وهذا رأي أكffثر المفسffرين في قولffهَ { :و َمffا ْال َحيffاةُ الُّ fد ْنيا ِإالّ َمتffا ُ
ع
.ال ُغر ِ
ُور} ْ
- ال اطمئنان إلى نعيم الffدنيا وال إلى إعراضffها وفقffدها ،فالنffاس فيهffا في مرصffد
االختبffار واالبتالء في األمffوال بالمصffائب واألحffداث ،واإلنفffاق في سffبيل هللا،
.وسائر تكاليف الشرع ،وفي األنفس بالموت واألمراض ،وفقد األحباب
وقد يتأذى المؤمن بطعن في قرآنه ودينه ونبيffه ،فعليffه الصffبر واالعتصfام بffالتقوى ،واإلعffراض عن الطfاعنين الكffافرين،
والثبات على العقيدة ،وتحمل الشدائد والقتال في سبيل هللا عند اللزوم ،فقد ندب هللا عباده إلى الصبر والتقوى ،وأخبر أنه من
عزم األمور ،أي من معزوماتها التي ينبغي أن يعزمها كل أحد ،وهي دليل على قوة اإلرادة ،ومضاء العزيمة ،وعلو الهمffة.
.قال القرطبي :عزم األمور :شدها وصالبتها
واألظهر أن هذه اآلية-كما ذكر القرطبي-ليست بمنسوخة ،فإن الجدال باألحسffن والمfداراة أبfدا ،منffدوب إليهfا ،وكfان عليfه
.الصالة والسالم مع األمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم ،ويصفح عن المنافقين ()١
أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس
ومحبتهم المدح بغير موجب
س مffا{ fاس َوال تَ ْكتُ ُمونَfهُ fفَنَبَُ fذوهُ َورا َء ظُهُِ f
fور ِه ْم َواِ ْشfتَ َروْ ا بِِ fه ثَ َمنfا ً قَلِيالً فَبِْئ َ ق الَّ ِذينَ ُأوتُffوا ْال ِكتَ f
fاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنِّ f وَِإ ْذ َأ َخ َذ هللاُ ِميثا َ
يَ ْشتَرُونَ ( )١٨٧ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ بِما َأتَffوْ ا َويُ ِحبُّونَ َأ ْن يُحْ َم fدُوا بِمffا لَ ْم يَ ْف َعلُffوا فَال تَحْ َسfبَنَّهُ ْم بِ َمفffازَ ٍة ِمنَ ْال َعffذا ِ
ب َولَهُ ْم
ض َوهللاُ عَلى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر ()١٨٩ ت َواَأْلرْ ِك السَّماوا ِ }عَذابٌ َألِي ٌم (َ )١٨٨وهّلِل ِ ُم ْل ُ
:اإلعراب
هذه القراءة بالتاء ،ويكون {الَّ ِذينَ يَ ْف َر ُحffونَ } منصffوبا على أنffه مفعffول أول ،وحffذف المفعffول }ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ {
الثاني لداللة ما بعده عليه وهو قوله {بِ َمفا َز ٍة ِمنَ ْال َعذا ِ
ب} ويكون قوله{ :فَال تَحْ َسبَنَّهُ ْم} بدال من {ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َر ُحffونَ }
.والفاء زائدة ،فال تمنع البدل ،وهذا على هذه القراءة وعلى قراءة من قرأ بالياء
ومن قرأ( :يحسبن) بالياء جعل {الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ } في موضع رفع فاعل ،و {الَّ ِذينَ } :اسم موصول ،و {يَ ْف َرحُونَ } :صلته ،و
ب} :في موضع المفعول الثاني ،وتقديره :فffائزين .ومن «هم» من قوله{ :فَال تَحْ َسبَنَّهُ ْم} المفعول األول .و {بِ َمفا َز ٍة ِمنَ ْال َعذا ِ
قرأ األول بالياء والثاني بالتاء فال يجوز فيffه البffدل الختالف فاعليهمffا ،ولكن يكffون مفعffوال األول قffد حffذفا لداللffة مفعffولي
.الثاني عليهما
:البالغة
توجد استعارة في النبffذ واالشffتراء ،إذ شffبه عffدم التمسffك بالميثffاق بالشffيء }فَنَبَ ُذوهُ َورا َء ظُه ِ
ُور ِه ْم َوا ْشتَ َروْ ا بِ ِه ثَ َمنا ً قَلِيالً{
.المنبوذ الملقى ،وشبه العمل بالبديل باشتراء عوض قليل من أموال الدنيا ،مقابل كتم آيات هللا
{وال تَ ْكتُ ُمونَهُ}
.وتوجد مقابلة بين {لَتُبَيِّنُنَّهُ} و َ
:المفردات اللغوية
اذكر إذ أخذ { ِميثاقَ} الميثاق :العهد المؤكد ،وهو العهد المأخوذ عليهم في التوراة بواسطة األنبياءُ{ .أوتُوا ْال ِكتَ f
fاب} }وَِإ ْذ{
اس} لتظهرن جميع ما فيه من األحكام واألخبار بما فيها خبر نبffوة محمffد صffلّى هللا عليffه هم اليهود والنصارى{ .لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّ ِ
وسلّم ،حتى يعرفه النffاس على وجهffه الصffحيحَ .
{وال تَ ْكتُ ُمونَfهُ} أي ال تخفffون الكتffاب{ .فَنَبَُ fذوهُ َورا َء ظُهُِ f
fور ِه ْم} طرحffوا
.الميثاق ولم يعت ّدوا به
س ما يَ ْشتَرُونَ } شراؤهم } َوا ْشت ََروْ ا بِ ِه ثَ َمنا ً قَلِيالً{
أخذوا بدله من الدنيا عوضا حقيرا ،بسبب رياستهم في العلم ،فكتموه{ .فَبِْئ َ
.هذا
بما فعلوا في إضالل الناسَ{ .أ ْن يُحْ َمدُوا بِما لَ ْم يَ ْف َعلُوا} أن يحمدهم الناس بما لم يفعلوا من التمسك بالحق ،وهم على }َأتَوْ ا{
ضالل{ .فَال تَحْ َسبَنَّهُ ْم} تأكيد{ .بِ َمفا َز ٍة ِمنَ ْال َعذا ِ
ب} أي بمنجاة من العffذاب في اآلخffرة ،بffل هم في مكffان يعffذبون fفيffه وهffو
{ولَهُ ْم عَذابٌ َألِي ٌم} مؤلم فيها
.جهنمَ .
:سبب النزول
:نزول اآلية ()١٨٨
روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف :أن مروان قال لبوابه :اذهب يا رافع إلى }:ال تَحْ َسبَ َّن{
معذبا ،لنعذبن أجمعون ،فقال ابن عباس :مffا ابن عباس فقل :لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل ّ
لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه اآلية في أهل الكتاب ،سألهم النبي صلّى هللا عليه وسلّم عن شfيء ،فكتمffوه إيffاه ،وأخffبروه بغffيره،
.فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه ،واستحمدوا بذلك إليه ،وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري :أن رجاال من المنافقين كانوا إذا خرج رسول هللا صلّى هللا عليffه وسffلّم إلى الغffزو،
تخلفوا عنه ،وفرحوا بمقعدهم خالف رسول هللا ،فإذا قfدم اعتfذروا إليfه ،وحلفfوا وأحبfوا أن يحمfدوا بمfا لم يفعلfوا ،فfنزلت
.اآلية{ :ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ بِما َأتَوْ ا} اآلية
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان ،فقال مروان :يا رافع في
:أي شيء نزلت هذه اآلية
؟ قال رافffع :نffزلت في نffاس من المنffافقين كffانوا إذا خffرج النffبي صffلّى هللا عليffه وسffلّم}ال تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَ ْف َرحُونَ بِما َأتَوْ ا{
اعتذروا وقالوا :ما حسبنا عنكم إال شغل ،فلوددنا أنا معكم ،فأنزل هللا فيهم هذه اآلية ،وكان مروان أنكffر ذلffك ،فجffزع رافffع
من ذلك ،فقال
.لزيد بن ثابت :أنشدك باهلل ،هل تعلم ما أقول؟ قال :نعم
.قال الحافظ ابن حجر :يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا
:المناسبة
تحدثت سورة آل عمران عن أهل الكتffاب ،فناقشffت النصffارى ،وحكت أفعffاال غريبffة عن اليهffود ومطffاعن في نبffوة محمffد
صلّى هللا عليه وسلّم ،واستتبع ذلك بيان غزوتي أحد وبدر ،وهنا ذكرت اآليات حاال عجيبffة لليهffود والنصfارى وهي الطعن
في الدين ،مع أنهم أمروا ببيان ما في كتابهم (التوراة واإلنجيل) من دالئل ناطقة بنبوة محمffد صffلّى هللا عليffه وسffلّم وصffدق
.رسالته
:التفسير والبيان
هذا توبيخ من هللا وتهديد fألهل الكتاب الذين أخذ هللا عليهم العهد على ألسنة األنبياء أن يؤمنوا بمحمد صffلّى هللا عليffه وسffلّم،
وأن ينوهوا بذكره في الناس ،فيكونوا على أهبة من أمره ،فكتموا ذلك ،وأخذوا عوضا زهيدا عنffه ،وفffاتهم مffا وعffدوا عليffه
.من الخير في الدنيا واآلخرة ،فبئست الصفقة صفقتهم ،وبئست البيعة بيعتهم
وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم ،فيصيبهم ما أصابهم ،فعلى العلمffاء أن يبffذلوا مffا بأيffديهم من العلم النffافع ،الffدال
،على العمل الصالح ،وال يكتموا منه شيئا
فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم أنه قffال« :من سffئل عن علم فكتمffه f،ألجم يffوم
.القيامة بلجام من نار» ()١
وبيان معنى اآلية :اذكر يfا محمfد حين أخfذ هللا العهffد المؤكfد (الميثfاق) على أهfل الكتfاب من اليهfود والنصfارى بوسfاطة
األنبياء :أن يبينوا كتابهم للناس
ويظهروه من غير كتمان شيء منه ،وأال تحريف أو تأويل لبعض نصوصه ،وتبيانه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم ،ولغير
.المؤمنين fبه لدعوتهم إليه
لكنهم نبذوا كتابهم وراء ظهورهم ،وتركوا التوراة واإلنجيل ،وكان منهم فئة يحملونه دون فهم وال وعي لما جاء فيffه ،وفئة
أخرى ح ّر فوه وأولوه على غير وجهه الصحيح ،واشتروا به ثمنا قليال من حطام الدنيا ،أي أخذوا عوضffا عنffه فائffدة دنيويfةf
حقيرة كالشهرة الزائفة ،والرياسة الظاهرة ،والمال الزائل ،فكانوا في الحقيقfة مغبfونين fفي هfذا الfبيع أو المبادلfة ،إذ تركfوا
الغالي الثمين في الدنيا واآلخرة وهو الخير الذي وعدوا به ،وأخذوا التافffه الحقffير ،وهffو الرشffاوى والهبffات والمنح الماليffة
.ليحافظوا على كيانهم ومراكزهم
.فبئس الشيء المشترى من شرائهم؛ ألنهم جعلوا الفاني بدال من النعيم الدائم
:وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتعليمه للناس ،قال علي كرّم هللا وجهه
ما أخذ هللا على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا .وقال الحسن البصري :لوال الميثاق الذي أخذه هللا
.تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه
،ثم بيّن تعالى موقف المرائين المتكثرين من أهل الكتاب والمنافقين بما لم يعطوا
»كما جاء في الصحيحين عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم« :من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها ،لم يزده هللا إال قلّة
».وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلّى هللا عليه وسلّم «المتشبع بما لم يعط كالبس ثوبي زور
هذه حال أخرى من أحوال أهل الكتاب وغيرهم ،ليحffذر هللا المؤمffنين منهffا ،فال تظنن يffا محمffد أن الffذين موّهffوا الحقffائق،
وكتموا العلم الصحيح ودلّسوا عليك ،وفرحffوا بمffا أتffوا من التأويffل والتحريffف للكتffاب ،ورأوا ألنفسffهم شffرفا فيffه وفضffال
يستحقون أن يحمدوا
موجب وال داع للشكر ،أو على أنهم أخبروك بالصدق عما سألتهم عنffه ،أو على مffا فعffل المنffافقون في التخلffف عن الغffزو
(.الجهاد) وجاؤوا به من العذر ،وكل ما فعلوا أنهم حولوا الحق والنور والهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وعامة الناس
فهؤالء ال تظنن أنهم ناجون من العذاب ،بل لهم عذاب أليم شديد األلم في الدنيا بالخذالن والخسف والزلزال والطوفان وغير
ذلك من الجوائح والمصائب العامة المدمرة ،وفي اآلخرة بحشرهم في جهنم جزاء إفكهم وتحريفهم وتبديلهم وتغييرهم كتاب
ك ِإذا َأ َخ َذ ْالقُرى َو ِه َي ظالِ َمةٌِ ،إ َّن َأ ْخ َذهُ َألِي ٌم َش ِدي ٌد} [هود ]١١ /١٠٢
.هللا .وذلك كقوله تعالىَ { :و َكذلِكَ َأ ْخ ُذ َربِّ َ
ت} احتجاجا على الذين قالواِ{ :إ َّن هللاَ فَقِي ٌر َونَحْ نُ َأ ْغنِيا ُء} ،وتكذيبا لهم ،فقال للمؤمffنين :وال ثم كان قولهَ { :وهّلِل ِ ُم ْل ُ
ك السَّماوا ِ
تحزنوا أيها المؤمنون على عمل أهل الكتاب وعلى ما فاتكم من نصر ،وال تضffعفوا عن القيffام بffالواجب ،وبينffوا الحffق وال
تكتموا منه شيئا ،وال تأخذوا عن حكم هللا الصfحيح عوضfا مهمfا كfثر ،فإنffه قليffل ،وال تفرحfوا على مfا لم تعملffوا ،فffإن هللا
يكفيكم همومكم وينصركم على أعدائكم ،ويمدكم بالخير والفضل؛ ألنه تعالى مالfك كffل شfيء ،والقfادر على كffل شfيء ،فال
.يعجزه شيء ،فهابوه وال تخالفوه ،واحذروا غضبه ونقمته ،فإنه األعظم واألقدر من كل شيء في هذا الوجود