You are on page 1of 6

‫إسهامات في النموذج التنموي الجديد‪:‬‬

‫) الجزء الأول (‬

‫*د‪ .‬عبد الرحمن الصديقي‬


‫هسبريس‬

‫‪ I‬النموذج التنموي المغربي ورحلة البحث عن الهوية‬


‫دعا عاهل البلاد‪ ،‬أمام منتخبي الأمة‪ ،‬الى إعادة النظر في النموذج‬
‫التنموي المغربي الذي لم يعد قادرا منذ عدة سنوات على تحقيق‬
‫النمو(الكمي) ولا التنمية (الكيفية)‪ ،‬والذي زاد من حدة الفوارق الاجتماعية‬
‫والمجالية‪ ،‬في وقت لم يستطع أن يساهم في توزيع الثروة بين شرائح‬
‫المجتمع ولا بين مجالات البلاد‪.‬‬
‫إن النموذ ج التنموي المغربي المعتمد منذ بداية الألفية الثانية وإن كان‬
‫في عشريته الأولى قد حقق بعض الأهداف المنتظرة منه‪ ،‬على مستوى‬
‫البنيات التحتية وتحسين المؤشرات الماكرواقتصادية والرقي ببعض‬
‫المقاولات الوطنية الى مستوى العالمية بحيث أصبحت تنافس مقاولات‬
‫عالمية في بعض البقاع من العالم‪ ،‬فإنه (النموذج) عرض في نفس‬
‫الوقت شرائح عديدة من المجتمع المغربي الى خطر الهشاشة والإقصاء‪،‬‬
‫على رأس هؤلاء نجد شرائح الطبقات الوسطى (الممثلة تحديدا من طرف‬
‫الغرف المهنية) والتي تضررت من الانفتاح الاقتصادي ومن المنافسة‬
‫الشرسة للمقاولات العالمية من جهة‪ ،‬ومن القطاع غير المهيكل الذي نما‬
‫بشكل مواز مع الانفتاح‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬
‫كيف وصل بنا النموذج التنموي المغربي الى هذا الحال؟ وكيف للغرف‬
‫المهنية عامة (باعتبارها لسان حال الطبقات الوسطى) أن تلعب دورا‬
‫بديلا في صياغة هذا النموذج التنموي المنشود؟ وكيف للجهوية‬
‫المتقدمة باعتبارها المقياس الوسطي بين مقياس الدولة والمقياس‬
‫المحلي أن تلعب دورا في تطوير هذا النموذج؟‬
‫‪ -1‬من الاستقلال الى أواخر التسعينيات‬
‫لم يستطع المغرب المستقل أن يبلور نموذجا اقتصاديا خاصا به طوال‬
‫سنوات عدة‪ ،‬واكتفت الحكومات المتعاقبة على تدبير الأزمات وتسيير‬
‫أولويات الوضع الذي تمليه إكراهات المرحلة محليا وجهويا ودوليا‪ .‬كما‬
‫اكتفت كذلك بتطبيق إملاءات دوائر التحكم المالي والاقتصادي من خلال‬
‫فتح قطاعات الاقتصاد الوطني أمام الأسواق العالمية والاعتماد في‬
‫نفس الوقت على بعض كبريات الشركات الدولية لخلق استثمارات‬
‫صناعية في البلد‪ ،‬بدء بالإصلاحات الاقتصادية في السبعينيات‬
‫والثمانيات‪ ،‬التي نزلت في إطار إعادة التقويم الهيكلي وصولا الى‬
‫الإصلاحات الإدارية في بداية التسعينيات وما صاحبها من سياسات‬
‫اللاتركيز واللامركزية‪ ،‬وصولا الى الإصلاحات السياسية التي جاءت‬
‫بحكومة التناوب في أواخر التسعينيات وبداية الألفية‪.‬‬
‫هذه التجربة الطويلة لم تستطع بلورة نموذج تنموي قادر على خلق‬
‫أسس تنمية حقيقية (ترابية كانت أو قطاعية) وخلق ثروة واقتسامها‬
‫عموديا وأفقيا‪ .‬امتدت هذه التجربة الى أواخر التسعينيات من القرن‬
‫المنصرم وكادت تعصف بالبلاد والعباد لولا فطنة المغفور له الحسن‬
‫الثاني الذي اعترف‪ ،‬في خطابه الشهير سنة ‪ ،1995‬بأن البلد مهدد بسكتة‬
‫قلبية إن لم يتم اتخاذ الإجراءات الضرورية على كل المستويات‬
‫الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية منها والظرفية‪ .‬كلام صاحب الجلالة‬
‫المغفور له الحسن الثاني كان مبنيا على أسس علمية مستمدة من‬
‫التشخيصات المتعددة التي وضعتها مكاتب الدراسات ومؤسسات‬
‫عالمية معترف لها في وضع هكذا تقارير‪.‬‬
‫هذا "النموذج" ساهم في توسيع الهوة بين جهات وأقاليم المغرب من‬
‫جهة‪ ،‬وبين شرائح المجتمع ومكوناته من جهة ثانية‪ ،‬والذي تكرس مع‬
‫الأزمة المالية للدولة المركزية‪ ،‬التي وصلت أوجها في مرحلة سياسات‬
‫التقويم الهيكلي‪ .‬اعتماد المغرب وقتئذ على بعض كبريات الشركات‬
‫العالمية‪ ،‬لخلق مناصب عمل وإدخال العملة الصعبة وتحويل التكنولوجيا‬
‫في قطاعات بعينها (المعادن‪ ،‬الفلاحة‪ ،‬الصناعات الاستهلاكية) من خلال‬
‫منحها امتيازات إدارية واقتصادية‪ ،‬عمل في نفس الوقت على ظهور‬
‫شريحة مجتمعية اقتصادية‪-‬سياسية جديدة في الوطن مرتبطة عضويا‬
‫بهذه المقاولات الد ولية ومستفيدة من الامتيازات التي منحت لها وثبتت‬
‫في نفس الوقت بنيات ما يسمى باقتصاد الريع الذي تربع عليه‬
‫المقربون من مراكز القرار السياسي‪.‬‬
‫كل هذا حدث في وقت كان فيه المغرب يعرف مخاضا عسيرا‪ ،‬بين‬
‫البرجوازية الوطنية التقليدية والبرجوازية الجديدة الناشئة‪ ،‬والتي كانت‬
‫الساحة السياسية تعبر عنها من خلال ظهور فسيفساء مشهد حزبي يعبر‬
‫عن اختلاف الرؤى والمصالح بين الأحزاب الوطنية التاريخية والأحزاب‬
‫الجديدة‪ ،‬التي استطاعت في زمن قياسي أن تصل مناصب القرار داخل‬
‫هياكل الدولة‪.‬‬

‫‪ -2‬مرحلة ما بعد سنة ‪2000‬‬


‫بعد سنة ‪ 2000‬بدأت تظهر بالمغرب ما يمكن أن نسميه "بالنموذج‬
‫التنموي المغربي"‪ ،‬هو نفسه الذي سيصل الى مرحلة "العياء"‬
‫أو«‪ »essoufflement‬اليوم‪ .‬ويعتمد هذا النموذج بالأساس على جلب‬
‫الاستثمارات الخارجية المباشرة من أجل تقوية القدرات التنافسية للبلد‬
‫وزيادة الصادرات ورفع حجم العملة الصعبة وخلق مناصب الشغل‬
‫وتحسين مناخ الأعمال مع الاعتماد‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬على السياسات ذات‬
‫الطابع الاجتماعي‪ ،‬من خلال عودة نفقات الدولة في هذا المجال‪ ،‬بهدف‬
‫تحقيق أهداف الألفية وإدماج الطبقات والمجالات التي ظلت مهمشة‬
‫من ناحية التنمية‪.‬‬
‫خلال عقد من الزمن (الى حدود ‪ ،)2010‬استطاعت الدولة "المنعشة"‬
‫والموجهة" و"المحفزة" من خلال الاستثمار العام والدبلوماسية‬
‫الاقتصادية والتخطيط الاستراتيجي القطاعي والترابي (مخطط إقلاع‪،‬‬
‫رؤية ‪ ، 2010‬المغرب الأخضر‪ )،‬أن تحقق عدة أهداف مشهود لها بها من‬
‫عدة منابر (‪:)...FMI.BM.MENA‬‬
‫• خلق أكثر من ‪ 320‬ألف منصب عمل ما بين ‪ 2000‬و‪.2007‬‬
‫• تحسين مناخ الأعمال والاستقطابية والتنافسية‪.‬‬
‫• تحقيق معدلات نمو مهمة‪.‬‬
‫• تعميم البنيات التحتية الأساسية من خلال الاستثمارات المهيكلة الكبرى‬
‫(ميناء طنجة المتوسط‪ ،‬شبكة الطرق السيارة‪ ،‬مناطق صناعية‪...،‬‬
‫• تحقيق أهداف الألفية من الناحية الاجتماعية باعتراف الأمم المتحدة‬
‫في بعض القطاعات‪.‬‬
‫• تنويع الصادرات وتحسينها قيمة وكيفا وكما‪.‬‬
‫•وغير ذلك‪.‬‬
‫ابتداء من ‪ ، 2010‬أي مباشرة بعد الأزمة المالية الكبرى التي عصفت‬
‫بالكثير من الدول المقلعة‪ ،‬بدأت تظهر علامات غياب الفعالية على‬
‫"النموذج التنموي المغربي" ولم يعد هذا الأخير قادرا على تحقيق‬
‫الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المنتظرة منه‪ ،‬ولا الأهداف المتوخاة‬
‫المصاحبة لهذه الأهداف المباشرة (في شكل رفاهية مجتمعية)‪.‬وقد‬
‫لاحظنا كيف عجز الاقتصاد المغربي‪ ،‬بالرغم من سنوات فلاحية جيدة‪،‬‬
‫تحقيق نفس نسب النمو المسجلة في العشرية الأولى للألفية‪ .‬وبنفس‬
‫المناسبة لم يستطع خلق مناصب الشغل بنفس الوتيرة الأولى (أقل من‬
‫‪ 30‬ألف من ‪2010‬الى ‪.)2016‬يحدث هذا في وقت تزايد فيه الطلب‬
‫الداخلي ومن خلاله العجز التجاري واختلال مالية الدولة‪ ،‬التي أصبحت‬
‫تستهلك أكثر مما تنتج‪ ،‬وارتفاع المديونية‪ ،‬بشكل أصبح ي ِؤرق المتتبعين‬
‫ويرهن مصير الأجيال اللاحقة‪.‬‬
‫على المستوى الاجتماعي والمجالي‪ ،‬ساهم هذا النموذج في تكريس‬
‫الفوارق المجتمعية بين الطبقات والمجالات المستفيدة‪-‬المندمجة‬
‫والطبقات المتضررة‪-‬المقصية والتي انضافت إليها مجالات وطبقات‬
‫كانت مندمجة الى حد ما قبل أن تهددها الهشاشة التي صاحبت هذا‬
‫النموذج الاقتصادي‪ .‬كيف ذلك؟‬
‫قلنا فيما سبق‪ ،‬بأن هذا النموذج كان يعتمد بالأساس على تعزيز‬
‫الحضور المغربي في الاقتصاد المعولم ‪ mondialisé‬من خلال‬
‫استقطاب الاستثمارات المهيكلة الكبرى مع سياسات اجتماعية تتوخى‬
‫تحسين الظروف المعيشية للشرائح المجتمعية الأكثر هشاشة ومن ثمة‬
‫إرساء أسس السلم الاجتماعي‪ .‬وقد أهملت الى حد كبير وإن بصورة غير‬
‫إرادية فئات مجتمعية كبيرة وعريضة (تعتبر أساس التركيبة المجتمعية‬
‫المغربية) يطلق عليها اصطلاحا بالطبقات الوسطى في قطاعات‬
‫الحرفيين والتجار والموظفين والفلاحين وغيرهم‪ .‬النتيجة الطبيعية‬
‫والبديهية لهذه السيرورة كانت هذا الحضور القوي لبعض المقاولات‬
‫العالمية المغربية في الساحة الدولية والإفريقية على الخصوص (أول‬
‫مستثمر أجنبي بغرب إفريقيا والثاني على مستوى القارة) مستفيدة من‬
‫الهامش المتاح إليها في إطار انفتاح السوق المغربية‪ ،‬من جهة‪ .‬ومن جهة‬
‫أخرى‪ ،‬سنلاحظ انزلاق شرائح كبيرة نحو الهشاشة والإقصاء بفعل‬
‫المنافسة القوية للمقاولات العالمية التي أصبح حضورها قويا في‬
‫المجال الوطني‪.‬‬
‫صحيح أن الاقتصاد الوطني عمل على خلق الثروة خلال العقد الأول من‬
‫الألفية ولكنه وفي نفس الوقت لم يخلق آليات توزيعها بين شرائح‬
‫المجتمع‪ ،‬وهو الأمر الذي أكده صاحب الجلالة في خطاب العرش سنة‬
‫‪. 2014‬أكثر من ذلك لقد عمل هذا النموذج على تعريض شرائح واسعة‬
‫ومجالات كبيرة من التراب الوطني للهشاشة الى درجة أصبح الوضع‬
‫يهدد وبشكل ملح الاستقرار والسلم المجتمعيين بالبلد‪ .‬على سبيل المثال‬
‫ولا الحصر‪ ،‬فإن سياسة رواج في قطاع التجارة سهلت ولوج المقاولات‬
‫التجارية العالمية في شكل مولات « ‪ » malls‬وأسواق عملاقة «‬
‫‪ ، » hypermarchés‬وهددت بشكل مباشر تجارات القرب التي لم تستفد‬
‫بنفس الدرجة‪ ،‬لأمور ذاتية وأخرى موضوعية‪ .‬أصبح التجار الصغار‬
‫وال متوسطين أمام أمرين أحلاهما مر‪ :‬المنافسة الشرسة من جهة بفعل‬
‫السياسة الاقتصادية المتبعة وظاهرة الفراشة من جهة ثانية بفعل‬
‫المقاربة الاجتماعية والسياسية أو السياسوية للظاهرة‪ ،‬من جهة ثانية‪.‬‬
‫العودة القوية لمؤسسات الدولة والدور المتصاعد للمجالس الترابية في‬
‫الاقتصاد عمل بدوره على انتشار فئات جديدة جرثومية «‪»parasitaires‬‬
‫مستفيدة من الفساد والمحسوبية في توجيه الاستثمار العمومي‬
‫والخاص الموجه من طرف المؤسسات العمومية الغير الممركزة‬
‫واللامتمركزة‪ ،‬وهو الأمر الذي ما فتئت المنظمات العالمية تدق بشأنه‬
‫ناقوس الخطر‪ ،‬وأكده صاحب الجلالة بنفسه في خطاباته وسياساته‬
‫الأخيرة والهادفة الى المساءلة واستئصال الفساد‪.‬‬
‫بالرغم من المجهودات التي بذلت لإرساء أسس الحكم اللامركزي المبني‬
‫على الحكامة التشاركية‪ ،‬لا زال الحضور القوي للمركز في السياسات‬
‫الترابية‪ ،‬بشكل مباشر أو غير مباشر‪ ،‬يحول دون تحقيق الأهداف‬
‫المنشودة من السياسات القطاعية‪ ،‬على المستوى المحلي وهو الشيء‬
‫الذي ينعكس سلبا على نجاعة المشاريع المهيكلة في أكثر من جهة وأكثر‬
‫من قطاع‪ ،‬بتأخر الإنجاز والتعثر أو التخلي عن الكثير من المشاريع‪ ،‬بما‬
‫فيها "المشاريع الملكية"‪.‬‬
‫من جهة أخرى لم يستطع النموذج المغربي إرساء أسس تنمية اجتماعية‬
‫وسياسية واقتصادية حقيقية لاعتماده على المؤشرات الظرفية والمادية‬
‫على حساب المؤشرات الدائمة والاستباقية واللامادية‪ .‬لم تقوى‪ ،‬في هذا‬
‫الاتجاه‪" ،‬العشرية المجيدة" « ‪ » la décennie glorieuse‬أن ترسي أسس‬
‫رقي حقيقي للتعليم والبحث العلمي والمواطنة والتطبيب وغيرها من‬
‫المؤشرات "المبنية" « ‪ » construits‬على حد قول ‪ Michael PORTER‬في‬
‫كتابه الشهير "الامتياز التنافسي للأمم"‪ .‬مؤشر التنمية الاجتماعية‬
‫والبشرية لا زال يراوح مكانه رغم كل المجهودات التي بذلت لتقليص‬
‫نسب الأمية والفقر المطلق والولوج الى الصحة والتطبيب‪.‬‬
‫يتبع‪...‬‬
‫كلية الحقوق – طنجة *‬
‫‪saddiki@gmail.com‬‬

You might also like