Professional Documents
Culture Documents
فلسفة هيغل الجماليّة
فلسفة هيغل الجماليّة
مقدمة
ُيعُّد الفيلسوف األلماني هيغل (1770م – 1831م) أح د أهّم مؤسس ي حرك ة الفك ر
المث الي في ألماني ا وص احب المنظوم ة الجمالّي ة الواس عة المعروف ة باألس تطيقا،
والغنية بالّتحليالت العميقة ألعمال كثيرة ،والتي أثرت ،على علم اء الجم ال وعلى
نتاجاتهم الفّنّية .ويرى هيغ ل في فك ره الجم الّي حلق ة أساس ية في العل وم الفلس فّية
واالنطالق من مملكة الجمال وميدان الفّن .وفي هذه الحال ة ُيستحس ن إدراج فلس فة
علم الجمال في مجمل الفلسفة ،ألّن الفّن ه و أح د األش كال الكلّي ة للعق ل .وم ا الفّن
س وى خط وة س ابقة في طريق العق ل نح و الحقيق ة .أم ا الجم ال فال يتحق ق ،في
درجاته القصوى ،إال في الجمال الفّني ،ألّنه فكرة اإلنس ان ال تي ُتعّب ر عن الوح دة
المباشرة بين الموضوع والّذ ات .وهذه الفكرة تنبع من الّروح البشرّية.
ُيع ّرف الجم ال على أن ه البحث في النش اط الفّنّي به دف الحكم علي ه وتقييم ه على
أساس أّن ه ملك ة مبدع ة وخّالق ة عن د اإلنس ان .والجم ال هن ا ُيع ُّد ممارس ة نقدّي ة
وتقييمّية للعم ل الفّنّي ،إذ إّن الفّن ال ُيمكن أن نص در على حكم قبح ه أو جمال ه من
دون خضوع هذا العمل إلى صورة الّتقييم والحكم الجمالّي .
وبهذا يكون الجمال والفّن مالزمين لبعضهما البعض وضروريين ،وعلى ه ذا ف إّن
مشكلتهما ،أو باألحرى الفّن الجميُل هو مشكلة قديم ة ظه رت م ع البدايات األولى
للّتفكير الفلسفّي ،إذ نجد أّنها نالت اهتمام العديد من الفالسفة عبر الحقبات الّتاريخّية
المتعاقبة ،بداية من أفالط ون وأرس طو في الحض ارة اليوناني ة في العص ر الق ديم
وصوًال إلى العصر الحديث في الحضارة األلمانّية ،والتي ك انت أك ثر تط ّو رًا م ع
كانط وهيغل ،وهذا األخير فقد اس توعب م ا س بقه من األفك ار وكتاب ات المفّك رين
السابقين عليه ،إذ نجد أّن فلس فته تجم ع مجم ل اآلراء الّس الفة ،وت دير معه ا نقاش ًا
وحوارًا جدليًا بداية من فلسفة أفالطون المثالية حتى فلسفة كانط النقدّية ،وهو ب ذلك
ُيعيد بناء األفك ار الجمالّي ة والطروح ات الفّنّي ة في الحض ارة الغربّي ة على ض وء
الّتطّو ر الفلسفّي الذي شهدته الحضارة األوروبّية.
سنبّين من خالل ه ذا البحث محاول ة هيغ ل دراس ة ك ّل مظ اهر ال ّروح .كم ا أّنه ا
محاولة لرؤية تطّو ر الفلسفة الجمالّي ة من خالل فيلس وف اس توعب وحّل ل األفك ار
كلها في تاريخ نشأة الفّن ،وأشكال إبداعاته .مّم ا يجعل المهتم بدراس ات هيغ ل يج د
مجاًال خصبًا ،إذ إّن أفكاره ليست جديدة تمامًا.
أما الجديد في فكره فيكمن في تقديمه لفكرة الكلّية من خالل تحليل ه لقض ايا اإلب داع
واالغ تراب .فالجم ال ينحص ر عن د ع دد كبير من علم اء الجم ال في البحث في
ظواهر الفّن وال تتجاوز ذلك إلى ما سواه من نشاطات اإلنسان ،ولكّنها عند آخرين
ال تقف عند حدود الفّن ،وإنما تتخّطاه إلى كّل شيٍء جميل.
وق د ُع ّرف الجم ال في ه ذا المج ال «باألس تطيقا» ( ،)Aestheticsوهي مف ردة
يرجع أصلها إلى اللغة اليونانية القديمة ،وتعنّي المعرفة الحسّية أو الصورة األولّي ة
لها ،وأّو ل من صاغ ه ذا االس م ه و الفيلس وف األلم اني «ألكس ندر بوم ارتن» في
بداية القرن الّثامن عشر ،وذلك في كتاب ه «ت أمالت فلس فية في موض وعات تتعّل ق
بالّش عر» ،الذي ربط الفّنون بالمعرفة الحسّية ،وه و رأي ش اع بع د ذل ك في فلس فة
هيغل الجمالّية وطروحاته الفّنية.
وكما ه و معل وم ف إّن الفك ر الجم الّي ه و علم معي اري تمام ًا مث ل عل وم المنط ق
واألخالق ،ولكن م ا يجعل ه أش ُّد عس رًا ه و موض وعاته ال تي ال تتس م ب الّتقنين
الموضوعّي ،ب ل إّنه ا ذاتّي ة ،كم ا أّن ه ذه األحك ام مرهون ة بخصوص ّية الّت اريخ
والّثقافة ،على الرغم من أّن بعَض األعماِل الفّنية القديمة مثل اإللياذة ال ت زال تث ير
إعجابنا وتشّد نا ،وهو أمر يدّل على وجود تناقض في صميم طبيعة الجم ال عموم ًا
وجمال الفّن خصوصًا.
ولعل هذا هو ما يصّعب من مهمة من يخوض هذه المسألة ألّن هذه الّطبيعة الخالدة
لبعض األعمال الفّنية تجعل من إص دار األحك ام الّتقيمّي ة ش ديدة الّص عوبة ،ف الفّن
مقّيد بالّسياق الّتاريخي والّثقافّي ،وفي الوقت ذاته محّم ل بزخم «روحاني» يتج اوز
الّتاريخ والثقافة حتى يبدو كأّنه إرث للبشرّية جمعاء.
يقتضي الجمال الحقيقّي الحّرّية واالستقاللّية الّذ اتّي ة ،وه ذان هم ا العارض ان أم ام
الجمال في الّطبيعة .ويحاول هيغل أن يظهر أّن الفّن هو محاولة لكش ف المض مون
الّد اخلّي للحقيقة.
إذًا ،الجمال الفّنّي يمّثل تجّليات الحياة في كّل حريتها ،كما أّنه يجعل الخارج موافق ًا
للّر وح ،وهن ا تتح ّرر الحقيق ة من محيطه ا الّز م انّي ،ومن تجواله ا خالل األش ياء
المتناهّية .من خالل ما تقّد م يحاول هيغ ل إظه ار أّن الجم ال الفّني يعّب ر عن فك رة
الجمال ،وهذا من خالل الّتوسط أّي المثال ،وهنا يحاول أن يبّين فكرة الجمال عن ده
من خالل ثالث نقاط رئيسة هي :المثل األعلى بما هو كذلك ،والكيفّية ال تي يتحق ق
بها في األعمال الفّنية ،أو بمعنى آخر العمل الفّني بوصفه تحققًا للمثال ،ليص ل إلى
تحديد الّذ اتّية الخّالقة عند المبدع أّي الفّنان للجمال الفّني.
أما اإلشكالية العامة والمحورّية لهذا البحث فهي على النحو اآلتي:
ما هو تصّو ر هيغل للجمال؟ وكيف كان تصّو ره لمفهوم الجمال الفّني؟ كم ا ت رتبت
عدة تساؤالت جزئي ة خاص ة ال تق ّل أهمي ة أثن اء عملي ة إظه ار الّتص ور الهيغلّي
الخالص للجمال ،وهي اآلتية:
ما هي أهّم المنابع التي استقى منها هيغل فكره الجمالّي ؟ وما هي أبرز سمات فكرة
هيغل الجمالّية؟
لإلجاب ة على ه ذه التس اؤالت تّم تقس يم ه ذه الّد راس ة إلى مقدم ة ومبحث وحي د
وخاتم ة .تن اولت في المقدم ة مفه وم الجم ال عن د هيغ ل وكيفّي ة تص وره لمفه وم
الجمال الفّنّي .وعالجت بإسهاب في مبحث وحيد الفكر الجمالّي الهيغلّي .
أما في الخاتمة فوضعت االستنتاجات الالزمة ال تي توص لت إليه ا .كم ا اتبعُت في
بحثي هذا المنهج الّتحليلي بحسبانه األنسب لتحليل األفكار المعرفّية والفلس فّية ال تي
ارتكزت عليها أسس فلسفة هيغل الجمالّية.
الفكر الجمالّي الهيغلّي
يع ُّد هيغ ل أّن ك ل م ا في الوج ود من نظم فكرّي ة أو بش رّية أو ظ واهر مادّي ة أو
طبيعّي ة م ا هي في الّنهاية إّال مظه رًا من مظ اهر تش كّالت ال ّر وح المطل ق ال تي
يحكمها قانون الجدل الذي قوامه سيرورة دائمة.
فغاية ال ّروح هي أن تعي نفس ها ،ووس يلتها في بل وغ ه ذا ال وعّي ال ّد ين والفّن
والفلسفة .لقد استهّل هيغل عرضه لمذهبه في الجمال من خالل بحثه في الفكرة.
انطالقًا من هذا الكالم نسأل ما معنى الجمال عنده وأين نجده؟ وكي ف فّس ر الفك رة
وما عالقتها بالجمال؟ وهل اإلبداع الفّني مجرد محاكاة؟
يرى هيغل أن الجمال ميدان ه اإلدراك الحس ي إدراك ًا ال يتطلب أقيس ة مج ّر دة ،إذًا
هو فكرة عامة خالدة لها وجود مستقّل وتتجلى بش كل حس ّي في األش ياء ،وهي في
ذلك ُتخالف الحقيقة في ذاتها ،إذ إّن الحقيقة «لها وجود ذهنّي غير حسّي .كم ا أّنه ا
تتحقق في الخ ارج عن طريق وج ود مح ّد د المع الم عي نّي ،وفي حال ة تحققه ا إذا
اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تك ون حقيق ة جمالي ة»([.)]2
إذًا ،الجمالّي ة ال تس تهدف الفّن فق ط ،ب ل تتع داه إلى الطبيع ة ،وإلى جمي ع كيفّي ات
الجم ال .فالجم ال كم ا يك ون في الفّن يك ون في مص در الفّن أي في اإلنس ان
والّطبيعة .والجمال معناه :الحسن والبهاء([ ،)]3أّي حس ن األفع ال كام ل األوص اف
واإلدراك الجمالّي ال يرقى إلى درجة الفلسفة الجمالّية ،إّال عندما يتهيأ للمفكر رؤية
جمالّية للفّن تتأسس على رؤية فلسفّية شاملة لإلنسان والك ون والحي اة .إّن الجمالّي ة
هي الّنظرة الفلسفّية إلى الفّن وقضايا اإلبداع عامة .وأم ا م ا دونه ا من ت أمالت أو
نظرات في الفّن فليست تدخل في نطاق الجمالّي ة ب المعنى العلمي للكلم ة ،وإن تكن
مراحل أولى الزمة في نشوء الجمالّية وتطّو رها نح و الّتكام ل الفلس فّي وارتباطه ا
بشمولّية الفلسفة ومنهجيتها واإلدراك الجم الّي يرقى إلى درج ة الفلس فة الجمالّي ة،
الستناده على رؤية فلس فّية جلّي ة وش املة للع الم بك ل مكونات ه .فالرؤية الجمالّي ة
متماسكة ترتبط فيها النتائج باألسباب ارتباطًا وثيقًا ودقيقًا.
لذا ،نجد هيغل ينظر إلى الجم ال من جه ة المض مون ومن ناحي ة موض وعّية ،أّي
الفكرة هي كل ذلك الوفاق المتجّد د والمج ّد د باس تمرار للكلي ات الجزئي ة ووح دتها
المتوسطة كافة .إذ كيف يمكن للفكر أن يدرك الجمال؟ وهل الجمال الط بيعّي يعّب ر
حقيقة عن الجمال؟
يعُّد هيغل أن الحقيقي هو القاب ل للتص ور ،ألن أساس ه المفه وم المطل ق أو بمع نى
آخر الفكرة ،فالجمال هو أسلوب معين لتظهير الحقيق ة وتمثيله ا ،كم ا أّن الص ورة
باطنة فيها ،أي محايثة في عالم الموجودات ،موج ودة في ذاته ا ول ذاتها ،كم ا أّنه ا
الحّق في ذاته ،وهي ما يشارك في الّروح بطريقة عامة ،إذ إّن الّروح المطلق ة هي
الّر وح الكلية .إذًا ،الجمال ليس تجريدًا من تجريدات ملك ة الفهم وإّنم ا ه و المفه وم
في ذاته ،المطلق والعينّي ،الفكرة المطلقة.
إّن الحض ور الحس ّي للفك رة وال تي هي العملّي ة الكونّي ة الملموس ة في وح دتها
المتكامل ة ،وح دة الحرّي ة والحتمّي ة ،وح دة الّط بيعي وم ا وراء الّط بيعي ،وح دة
الّنومينا والفينومينا.
إذًا هي العقل الذي هو شامل ال محدود وفردي محّد د في آن معًا .وح تى نعطي عن
الفكرة تعريفها أدّق وأوضح ،فسنقول إن« :الفكرة من حيث أنها موج ودة في ذاته ا
ولذاتها ،هي أيضًا الحّق في ذاته ،وهي ما يدخل في ع داد ال ّروح بص ورة عام ة،
هي الّروحي الكونّي ،الّر وح المطلق ،وما ال ّر وح المطل ق إال ال ّروح من حيث ه و
ك وني ،وليس من حيث ه و خ اص ومتن اٍه .إّن ه يتح دد على أّن ه الح ّق الك ونّي في
حقيقته»([.)]4
يع ني أن ال ّروح المتن اهي واّل ذي يتلقى حقيقت ه القص وى من ال ّروح المطل ق
المطروح ة في ه الطبيع ة طرح ًا مثالي ًا ،ويتم يز ه ذا ال ّروح بنش اطاته المحايث ة
والفعالة ،وبذلك فهو ينقسم إلى حدين متضادين وهما :الّطبيع ة وال ّروح المتن اهي،
وهذين الحدين يمثالن الفكرة الكلّي ة من دون أن يكون ا ش كلها الحقيقّي ال واقعّي ،إذ
إّن الطبيعة ال وجود له ا بالنس بة إلى ال ّروح المطل ق إّال في الفك رة بوص فها ش يئًا
مفترضًا ،أّي أن الّروح نشاط يستطيع بفضله أن يمّيز نفسه من نفس ه ،وبالت الي م ا
ينبثق عن الّروح بفعل الّتمايز يتضمن الفكرة والّروح في كليتهم ا ،يع نّي أن حقيق ة
الّروح المتناهي أّي الّروح المطلق الذي يمثل بدوره تلك الكلّية أي الحقيقة العليا.
إذًا بقدر ما يكون الّر وح على صلة في وجوده بالّطبيعة ،يكون هو الّر وح المتناهي،
وهنا الفكرة هي المطلق الّر وحي التي تمثل كل ما هو ال متناهّي وكونّي ،ولكن هذه
الفكرة عندما يكون لها تعّين واقعّي حّسي ،تصبح هذه الفك رة في وح دة م ع الواق ع
والمفهوم ،إذ إن تحق ق ه ذا المفه وم واقعّي ًا ه و الفك رة ،وب ذلك تك ون الفك رة هي
الّتجسيد الواقعي للمفه وم ،وه و ال ذي يق ّرر ك ل ش يء ،وبالت الي ه و ال ذي يمّث ل
الفكرة ،وبهذا فالفكرة إذًا« :هي الواقعي بوجه عام وال شيء غير الواقعي ،وما هو
واقعي يتجلى بادئ ذي البدء ،بصفة هذا وجود خارجي ،بص فته واقع ًا حس يًا ،لكن
الواقعي الحسي ،ما هو بحقيقي وال بواقعي حقًا ،إال بقدر ما يطابق المفهوم»[.]5
وبهذا الّتطابق بين المفهوم والموضوع الخارجّي الواقعّي ،به يكون حقيقي ًا ،وإن لم
يطابق المفهوم الواقعي يبقى مجّرد تظ اهرة ال تحّق ق مفه وم تل ك الفك رة ب ل تبقى
مجّر د شيء هامد ،من دون تجسيد من الواقع ،مثال ذلك :ب ذرة الش جرة فهي تمّث ل
سلفًا الّش جرة المقبل ة ال تي س وف تتش ّك ل في م ا بع د ،يع نّي ه ذا أّن الش جرة كله ا
محت واة في البذرة ،ومن ه فالبذرة تمّث ل المفه وم ال ذي لم يتجّس د بع د في الواق ع،
وعندما تنم و ه ذه البذرة وتص بح ش جرة ،تمث ل الواق ع ،أي أّن البذرة وال تي هي
المفهوم ،تجسدت في الواقع وأصبحت شجرة كاملة ،وبالتالي تصبح الشجرة ما هي
إّال شرح وتجسيد للمفهوم ،وبه ذا ف المفهوم ال يمث ل الّو ح دة المج ردة ،وإنم ا يمّث ل
الوحدة العينّية المحسوسة مثال ذلك :أن نقول «إنسان» هو في ه ذه الحال ة تص ور
مجرد ولكن يكون هذا الّتصّو ر محّق ق ومط ابق للواق ع والمفه ومُ ،و جب على ه ذا
اإلنسان أن يشتمل على الميزات ،وهي الحّس ،العقل ،الّنفس والّر وح بحس بان ه ذه
الصفات هي صفات بشرية ،بها يش كل مفه وم اإلنس ان وعلي ه ف إن« :ك ل م ا ه و
موج ود ليس إذن حقيقي ًا إال من حيث أن ه فك رة ،ألّن الفك رة وح دها هي ال تي له ا
وجود واقعي حقًا ،فهذه الظاهرة أو تلك الظاهرة حقيقية ،ال ألن لها وج ود خارجي ًا
أو داخليًا ،أو ألّنها واقع بوجه عام ،وإّنما بقدر ما يكون واقعيًا مطابقًا للمفهوم»([.)]6
يعنّي أن الفكرة هي الكلّية التي تتطابق فيها الموضوعّية والوح دة الذاتّي ة للمفه وم،
إذ إّن الفكرة هي ذلك الكل والوفاق ال ذي يض م جمي ع الكلّي ات الجزئّي ة وال تي به ا
تكون الفكرة الحقيقّية كلها ،وعندئذ يغدو ما هو كائن حقيقيًا وواقعي ًا ،وإن لم تت وفر
هذه الوحدة للهوية ،بين الموض وع والمفه وم يص بح ه ذا الموج ود ظ اهر مج رد،
وعليه فالواقع المواف ق للمفه وم ه و وح ده الص حيح ،ألّن ه ذا الواق ع ه و تظ اهر
للفكرة عينها.
إذًا ،الفك رة هي الوح دة العينّي ة للفك رة الّش املة م ع موض وع أو مجموع ة من
الموضوعات ،التي تشعر أّنها تدرك بوصفها ك ثرة في وح دة ،إذ إن عام ل التع ّد د
هو جانب الموضوعية ،أما عامل الوحدة هو جانب الّذ اتية .هذه الحركة ال يعيها إّال
الّروح األخالقّي إذ يقول هيغل« :لقد رفع الّر وح شكله ال ذي يك ون في ه لوعي ه إلى
صورة الوعي ذاته ،فهو ينتج لنفسه مثل تلك التصّو رات ،وصانع األثر إّنم ا أهم ل
العمل الّتوليفّي ،أي خلط الصورة الغريبة التي للفكر والطبيعي ،وما دام الّش كل ق د
اكتس ب الص ورة ال تي للنش اط ال واعي بذات ه ف إن ص انع األث ر ق د يص ير ع امًال
روحيًا»([.)]7
كم ا أّن الجم ال عن ده ه و تركيبة عض وية بين العناص ر الّتص ورية والعناص ر
اإلدراكية ،وعليه فالجمال مرهون بالفكرة وتمثلها.
لذلك نجد أّن هيغل يرجع إلى قراءة كانط إذ إّننا نجد هذا األخير يتحدث عن الجمال
س واء أك ان طبيعّي ًا أو فنّي ًا على أّن ه نقط ة التق اء بين اإلحس اس والعق ل فيق ول:
«باستطاعتنا بوجه عام أن نصف الجمال سواء أكان جم ال الطبيع ة أو جم ال الفّن
بعبارة األفك ار الجمالّي ة ،في م ا ع دا أّن ه ذه الفك رة يجب أن تس ّبب بمفه وم عن
الّش يء في حالة الفّن الجميل ،في حين أنه يكفي في الّطبيعة الجميل ة مج ّرد الّتفك ير
في عيان ُم عطى ،من دون الحاجة إلى مفه وم عّم ا يجب أن يك ون الش يء ،ليوق ظ
ويبلغ الفكرة التي يعتبر الشيء عبارة عنها»([.)]8
إّن للجمال أنواع وأشكال ومعايير ومواصفات وأحكام ،وهنا س نحّلل مس ألة ح اول
هيغل إظهارها في فلسفته حول الجمال ،إذ إنه طرح التساؤل اآلتي :هل الجمال في
الفّن في ما ُنبدعه أم في الطبيعة فيما نراه؟ ومن الذي ُيوص ف بالجم ال اإلنس ان أم
الفعل اإلنساني أو الحيواني أو النباتي ،أم المناظر الطبيعية أو اآلثار الفّنية؟
يرى هيغل« :أن الجمال نمط معين لتمثيل الحقيقة وإظهارها في طابع حسّي »([.)]9
ونجده يح اول في فلس فته ال رّد على نظرية كان ط ح ول الجم ال ،وال ذي يرى أّن
الجمال ال يمكن أن يق دم في تص ورات ،ألّن ه قيم ة ال يمكن إدراكه ا ،ألّن األش ياء
العرضّية والمتناهّية هي الممكنة إلدراكها والجمال غير عرضي وغير متناٍه.
كما يرى هيغل أّن الجمال الفّنّي يستمد قّو ت ه من المباش ر عن ال ّروح وبالت الي عن
الحقيقة ،أما الجمال الّطبيعي يوجد كانعكاس للجم ال المتعّل ق ب الّروح ،وذل ك على
أساس أّنه وجود ناقص وغير مكتمل ،إذًا نفترض تقابل بين الّطبيعة والّروح .وهن ا
لكي يفّسر هيغل الجمال بوجه ع ام ذهب إلى ض رورة إب راز العالق ة بين الطبيع ة
والّر وح المطلق ،وهو ما يجب تطويره إلبراز هذه العالقة في جالئها ووضوحها.
الّروح يتحّر ر من الطبيعة ليعارضها ،فالّر وح المطلق هو الحقيقة العلي ا ،والطبيع ة
تعود إلى حقيقته ا ال تي هي ال ّروح .إذًا ،الطبيع ة وال ّروح المتن اهي ح دين يمثالن
الفك رة الكلي ة ،ويرى هيغ ل« :وجه ة نظ ر ال ّروح المتن اهي ال ذي تكمن حقيقت ه
باألحرى في الّروح المطل ق ه و االتح اد بين ذات ه وبين الطبيع ة ،فالطبيع ة إذن ال
وجود لها بالنسبة إليه إّال في الفكرة ،بوصفها شيئًا مفترضًا ،وبالنظر إلى أّن الّروح
نشاط يستطيع بفضله أن يمّيز نفسه بنفسه ،ينجم عن ذلك أن ما يص در عن ال ّروح
بفعل التمايز ،أعني الطبيعة ،يتضمن الفكرة والّر وح في كليتهما»([.)]10
إذًا ،الّروح في البدء ه و روح متن اٍه ،يعي من خالل ه ذا التن اهي س لبيته ،فعل ه ال
يتجاوز فعل الكينونة ،يدرك في الوقت عينه الّر وح المطلق على أنه وحدة الحقيقي،
والذي يصبح هو الّروح العملّي الذي يستمد حقيقته الخاصة من الّر وح والالمتناهي
المطل ق ،وهن ا ال ّروح المتن اهي يم ارس أم ره في موض وع مطل ق ه و الحقيق ة
المطلقة ،ومن هنا فالجمال الفّني ال وجود له في الّطبيعة ،ألّن ميدان الفّن أسمى من
ميدان الّطبيعة والّر وح المتناهي ،إذًا ف الّروح المطل ق في اتجاه ه إلى المث ل العلي ا
إّنما يتجه إلى الجم ال وإلى الحقيق ة وإلى األلوهي ة ،فُيس فر اتجاه ه ه ذا عن ال دين
والفّن والفلسفة.
يقوم الجمال في الوحدة بين الوجود الواقعّي للشيء وبين تص ّو ره العقلي ،إذ يك ون
الشيء جميًال حين يتطابق التحقيق العقلي في الوج ود م ع تص ّو ره العقلي ،بمع نى
آخر التطابق بين الوجود العقلي وبين المفهوم العقلي.
إذًا ،التص ّو ر ليس فق ط من نت اج تفكيرن ا العقلي ،ب ل ه و يوج د موض وعيًا في
الشخص الحسي ذاته وذلك ألن مثاليته موضوعية .ومن هذا المبدأ عَّد هيغل الحي اة
التي تش يع في الطبيع ة هي جميل ة من حيث إنه ا ص ورة موض وعية ومحسوس ة،
ولكن الجمال الطبيعي هو الجمال نفسه إذ إن ه ليس جميًال إال بالنس بة إلى اآلخ رين
أي بالنسبة إلينا نحن .إذًا ،كيف ولماذا الوج ود في الحي اة يبدو لن ا جميًال في آنيت ه
المباشرة؟
يعُّد هيغل أّن الفكرة هي نقطة انطالق رئيسة لمفهوم الجمال «عن دما نق ول إذن أن
الجمال فكرة ،نقصد بذلك أن الجمال والحقيقة شيء واحد .فالجمي ل ال ب ّد ،بالفع ل،
أن يكون حقيقيًا في ذاته»([ .)]11لكن لو أمعّن ا الّنظ ر في مفه ومّي الجم ال والحقيق ة
لوجدنا الفرق واالختالف بينهما؛ فالحقيقة يكون له ا وج ود خ ارجي تق وم بتظه ير
نفسها وعرض ذاتها للواقع الخارجي ،كما قد تظهر ذاته ا لل وعي ،في حين الفك رة
هي عكس الحقيقة تكون حقيقية بمقتضى طبيعتها الكلّي ة والش مولّية المتص ّو رة في
الفكر وهي بذلك تحوز وجودًا داخليًا ذا طبيعة روحّية .وعلى هذا ف الفكرة ال تك ون
حقيقّية وال جميلة إال بتظاهر الحسّي الخارجي ،ومعناه أن الفكرة كّلما كانت متجلّية
وواضحة في الواقع المحسوس كلما اكتسبت جمالها وحقيقتها ،وبهذا فإّن اتحاد ك ّل
من الحقيقة والفكرة يش كالن المفه وم «وذل ك أّن الجمي ل ه و على ال دوام المفه وم
الذي بدل أن يتناقض مع موضوعيته بمعارضته إياها بتناٍه مجرد وأحادي الجانب،
يت داخل وه ذه الموض وعية ويص بح ،بفض ل ه ذه الوح دة المحايث ة ،المتناهي ًا في
ذاته»([.)]12
فالمفهوم ينقل الفكرة إلى الوجود الواقعي ويبّث فيها الحياة والتي عن طريقها يظهر
وب ذلك تتش كل ماهي ة الجم ال وتظه ر الحقيق ة ،فموض وع الجم ال يظه ر للعي ان
بمفهومه الخاص وكأّنه متحّقق في كل وحدته الّذ اتية والحّي ة .ف المفهوم ذات ه يش كل
العنصر العيني ،إذ إن واقعه يظهر هو بدوره كتكوين مكتمل في جميع أجزائه التي
تؤّلف وحدة األفكار داخل الّر وح ،وعلى ه ذا ف إّن الّت داخل والتواف ق بين التظ اهر
الخارجي والمفهوم هو توافق حقيقي.
مثال ذلك« :وجه إنسان» هو مفهوم ولكي ينطبق هذا المفهوم مع الواقع ال ب ّد على
هذا الشكل أن يحتوي كّل الصفات التي تحتوي عليها كّل األوجه ،حاجبين وعي نين
وأنف وفم ،وأن تظهر كشكل محايث للواقع محّققة بذلك تظاهرها الخ ارجي ،طبق ًا
لمفوم هذا األخير .باجتم اع ك ل ه ذه العناص ر وأجزائه ا يش ّك ل الوح دة الفكروية
للمفهوم وبهذا «فإّن الجمال ليس تجريدًا من تجريدات ملكة الفهم ،وإنما هو المفهوم
في ذاته العيني المطلق»([.)]13
وبه ذا ف إّن الجم ال عن د هيغ ل ه و الظ اهر العي ني للفك رة ،إذ ال يحتف ظ الحّس ّي
والموض وعّية ب أّي اس تقالل في الجم ال ،أي أّن الموض وعّي ه و الحقيقّي الفعلّي ،
وبالتالي هو العقالني ،وبذلك يكون الجميل هو الفكرة المفهومة التي تجّس د الواق ع،
ولكن هذا الوجود الموضوعّي الواقعي ال تكون له قيمة إال على أنه ظهور للمفه وم
«ألّن الجميل تمامًا هو المفهوم… والمفهوم يبث الّنفس ،يبّث الوجود الحقيقي ال ذي
يجسده»([.)]14
فالش يء الجمي ل في وج وده يجع ل مفهوم ه الخ اص يبدو على أّن ه متحّق ق في
ظاهريته ،أّي في وجوده العينّي الّذ اتي ،فالمفهوم هو الذي يح ّد د غايت ه الخارجّي ة،
وبالتالي يكون واقعه في إنت اج نفس ه ،ال من إنت اج ش يء آخ ر ،وه ذا بالض بط م ا
يشّك ل ماهية الجمال الحّقة ،وعليه فإّن الجمال يصبح فكرة مجردة إذا لم تتجسد هذه
الفكرة في الواقع العينّي ،وبذلك تص بح ميتافيزيقّي ة ،وه ذا عين ه رفض ه هيغ ل ،إذ
نجده ينتقد أفالطون في هذه الفكرة ،فالجمال عن د أفالط ون فك رة مج ردة موج ودة
بعالم المثل وال نلتمس لها أي وجود حسّي ظ اهر ،وبه ذا يق ول هيغ ل« :وحّتى إذا
ك ان أفالط ون في ه ذا الص دد يمكن تناول ه كأس اس وكمرش د ،ف إّن الّتجريد
األفالطوني ،حّتى بالنس بة إلى الفك رة المنطقّي ة للجمي ل ال يع ود يقنعن ا ب المرة ،إذ
علينا أن نستوعب ،هذه الفكرة بشكل عين ،على نحو أكثر عمقًا ،نظرًا ألّن الخ واء
الذي يلتصق بالفكرة األفالطونّية ال يلّبي االحتياجات الفلسفية األكثر غ نى لروحن ا
اليوم ،وفي الحقيقة القض ّية هي أّنن ا أيض ًا يجب أن نبدأ في فلس فة الفّن بـ«فك رة»
الجمي ل ،ولكن ال يجب أن يك ون في موض ع التمس ك بك ل بس اطة ب ذلك النم ط
التجريدي الذي ب دأ ب ه التفلس ف عن الفّن »([ .)]15وهن ا يدعو أفالط ون إلى الّتأم ل
والبحث الفلس فّي ،ولكن ال ينبغي أن نتن اول موض وعات البحث في جزئيته ا ،ب ل
نتناولها من حيث هي كلي ة ،فالجم ال ه و الكلّي ،أم ا ص فاته الجزئي ة موج ودة في
العالم الحسي« ،أعمال فنية جميلة» أو «شجرة جميلة».
أما الصفة الكلية موج ودة في ع الم المث ال ،ول ذا يدعو أفالط ون أن نتفهم الجم ال
بص فته الكلّي ة ،وه ذا ال يمكن إال من خالل الّتعّم ق في التفك ير والبحث المنطقّي
والّتصورّي ،وهذا من شأنه يجعل من فكرة الجمال فكرة ميتافيزيقّية مج ردة بعي دة
من الواقع الظاهري وعليه فإّن هيغل يرفض أن يتخذ الجمال صفة التجريد.
من الواضح أن الجمال الطبيعي يتجّلى لنا في مش هد من مش اهد الطبيع ة الجميل ة،
ُيعّد أمرًا مختلفًا عن الجمال الفّني الذي يتجّلى لنا في سيمفونية ما على سبيل المثال
ال الحصر .ولكن ه ل نض ع الجم ال الفّني والجم ال الط بيعي على ق دم المس اواة؟
وكيف يمكننا التمييز بين جمال ط بيعي وجم ال ف ني ،وم ا ه و مفه وم الجم ال في
الفّن ؟
إّن الجمال الطبيعي حسب هيغ ل ه و جم ال مج ّر د ،وج د لكي يك ون جميًال ،أو لم
ُيوجد لكي يعي نفس ه ،وإنم ا وج د بالنس بة إلين ا ألّنن ا نف وس واعي ة ومدرك ة له ذا
الجمال يقول« :ليس الجمال الطبيعي الحي جميًال لذات ه وفي ذات ه ،مثلم ا ليس ه و
نتاج ذات ه ،وال موج ود بس بب ظ اهرة الجمي ل ،فالجم ال الط بيعي ،ليس جميًال إّال
([
بالنسبة إلى اآلخرين ،أي بالنسبة إلينا نحن ،بالنسبة إلى الوعي الم درك للجم ال»
،)]16فحين نتأمل الكائن الحّي في س لوكه الح ركي نج ده اعتباطي ،أي أن الحرك ة
محكوم ة بالمص ادفة ،بحيث نج ده يل بّي حاجات ه ،فيقت ات ،ويس تولي على الغ ذاء
ويلتهمه ،ويهضمه وه و ب ذلك ينج ز ك ل م ا يتطلبه بق اءه فه ذا من جه ة المظه ر
الخ ارجي ،أم ا نش اط العض وّية الداخلّي ة ال نس تطيع أن ندرك ه فه و ال يق ع تحت
انتباهنا.
وه ذان المظه ران يغ دوان موض وعًا لملك ة الفهم لكن ه ذين الج انبين ال يمكن أن
ُيظهرا لنا الحياة الحيوانية على أنها ممثلة للجمال الطبيعي وذلك «أّن الجمال هو ما
يمّيز هيئة بعينها .سواء في حالة السكون أم الحركة ،بصرف الّنظر عن تكيف ه ذه
الحاالت م ع تلبي ة الحاج ات ،وبص رف النظ ر عم ا يمكن أن يك ون في الحرك ات
نفسها من جانب مؤقت وعارض .غير الجمال ال يمكن لغير الش كل أن يعّب ر عن ه،
ألن الّش كل هو وحده الّتظاهر الخارجي الذي بواس طته تض ع ماثولي ة الك ائن الحّي
الموضوعية نفسها تحت متناول حدسنا وتأملنا الحسيين»([.)]17
يعني أن الفكر هو الذي يدرك هذا الكائن في مفهومه لحكم أن هذا المفهوم مفهوم ه
يحكم عموميته أما النظر إلى جماله يكون من خالل واقعه الظ اهر وه ذا م ا يمثل ه
المظهر الخارجي وما يتبدى للعيان وهذا من جهة مفهوم الكينونة للكائن الحي ،أم ا
من جهة خصوص يات الظ اهر الخ ارجي نج د أّن «الش كل يتم يز بم داه المك اني،
بانح داده ،بمظه ره ،بش كله ،بلون ه ،بحركات ه… إلخ ،وحش د آخ ر من التفاص يل
المماثلة»([.)]18
يرى هيغل أن الجمال الطبيعّي يوجد كانعكاس للجمال المتعلق ب الّروح وذل ك على
أساس أّنه غير مكتمل ووجوده ناقص ،أي أّنه كيفّية غ ير مس تقلة وتابع ة لل روح.
كما أن الجمال «هو الصورة بوصفها وحدة مباشرة للتصور ،وحقيقته الواقعة بقدر
ما تكون هذه الوحدة حاضرة في تجليها الواقعي المحس وس»([ .)]19في ه ذا الص دد
نجد أنفسنا أمام أنواع من الحياة ،حياة عضوية تتمثل في الكائن ات الحي ة واإلنس ان
وحياة ال عضوية مثل البنايات والكواكب .كما نجد أّنه من وجهة نظر هيغ ل «أّنن ا
اعتدنا في حياتنا اليومّية أن نتحدث عن س ماء جميل ة ،وأزه ار جميل ة ،وحيوان ات
جميل ة ،وعالوة على ذل ك الق ول ب الموجودات الجميل ة»([ .)]20كم ا أّن الجم ال في
الطبيعة يكش ف عن نق ائص خط يرة ألّن الس بب المهم أك ثر من غ يره في إظه ار
الجمال الحقيقّي هو الحرية والالمتناهي ،والفكرة بما هي كذلك المتناهية على نح و
مطلق .فالحياة التي تشيع في الطبيعة هي جميلة من حيث هي تجّسد مباشر وحس ّي
للحياة ،ومن حيث هي صورة موضوعّية ومحسوس ة .م ا هي الكيفّي ة ال تي يتحق ق
بها المفهوم في عالم الّطبيعة ليصير فكرة في هذه الحاالت؟ وكي ف ولم اذا الوج ود
في الحياة يبدو لنا جميًال في آنيته أي في وجوده البشرّي؟ يقول هيغل« :أول ما يقع
تحت الّنظر حين نتأمل الكائن الحّي في تظاهراته وسلوكه ،ه و الحرك ة اإلرادّي ة،
هذه الحركة منظورًا إليه ا كحرك ة بوج ه ع ام ،ال تع دو أن تك ون الحرّي ة التاّم ة،
التجريد في التغي ير الزم اني للمك ان ،ه ذا الّتغي ير ال ذي يبدو اعتباطي ًا في حال ة
الحيوان ،كما تبدو الحركة نفسها ،وكأنها محكومة بالمصادفة»([.)]21
هن ا حس ب أن الكيفّي ة ال تي يعتم دها أّي ك ائن حي ليش بع حاجات ه الض رورّية من
غذاء ،طريقة أخذ الطعام ،طريقة التهامه وهضمه ،أي كل ما يساعد على بقاء حياة
هذا الحيوان غير كافية كي توضح وتمث ل الجم ال الط بيعّي ال ذي ال يمكن الّتعبير
عنه إال في ش كل .أي أّن ه الّتجلي الخ ارجي ال ذي ب ه الموض وعية المثالي ة للك ائن
الحي تبدو لعياننا الحسّي ،ولتأملنا الحسّي ،لكن الشكل هو امتداد في المكان بحدوده
ومظهره ولونه وحركاته ،وبالتالي فهذا دليل على أّن الكائن العضوّي هو مجموعة
من االختالفات والتنوع ،ومنه يستمّد وجوده ،إذًا ه و ك ّل تتجّم ع أج زاؤه المختلف ة
لتبدو لنا أشياء محسوسة.
يرى هيغ ل أن النفس ال تتجلى بم ا هي نفس في الّطبيع ة ،ألّن الوح دة الذاتي ة لم
تص بح بع د وح دة في ذاّته ا ،وبالت الي ت درك النفس بحس ب تص ّو رها ،إذًا هن ا
ازدواجي ة بين عي ان الش كل الحّي من حيث أن ه االص طفاف المحض لألعض اء
وتص ّو ر الّنفس بوص فها تص ورًا ال تف رض نفس ها بص ورة حس ّية ومباش رة على
الحدس([.)]22
إذًا ،هذا هو س يرورة الحي اة كح ل للّتن اقّض بين الوح دة الفكروّي ة لألعض اء وبين
انفصالها الواقعّي ،أّي الّتأمين الحسّي للفروقات الواقعّية لجميع األعض اء ،ولجمي ع
تعيينات العضوّية ،ومن جهة أخرى االنع زال والّتجّم د في اس تقاللها ،بعض ها عن
بعض ،أّي مثالّية عامة تنعش ها وتنّش ط فيه ا الحي اة ،وه ذه ليس ت هي الح ال حين
يتعّلق األمر بإدراك الجمال عند هيغل.
إذ إّن الموضوع يجب أن ال يظهر لن ا كش يء مفك ر في ه فق ط ،وال أن يختل ف عن
العي ان ،وال أن يتع ارض مع ه إذ إن ه ال يتعل ق إال ب الفكرة .وبن اء على ذل ك يمكن
القول إّن الجمال الطبيعي نعرفه من خالل ش كل الّتالحم الحّي بين الم ادة من حيث
هي هوية مباش رة ،وبين الّتش كيالت الطبيعّي ة العينّي ة ،يظه ر تالزم الّش كل للم ادة
بصورة مباش رة بوص فه ماهيته ا الحقيقّي ة وقّو ته ا المش ّك لة ،وبالت الي فليس هن اك
تحديد دقيق للجمال الّطبيعي ،إال أّنه يمكن في رأّي هيغل أنه باستطاعتنا أن:
أ – نتح دث أحيان ًا عن الجم ال الط ّبيعي ،ال س يما عن دما نج د أنفس نا أم ام منظ ر
ط بيعي مثًال ،فهن ا ال يوج د تنظيم عض وي لألج زاء ،وبالت الي نج د أمامن ا تن ّو ع
موضوعات ،وتجمع خارجي ألش كال عض وّية وغ ير عض وّية :ك واكب ،وديان،
جبال ،م دن ،من ازل… إلخ ،وداخ ل ه ذا الّتع داد المك ّو ن للمش هد ،نج د توافق ًا أو
انسجامًا ممتعًا وأحيانًا مثيرًا يحّرك فينا االهتمام.
ب – نمّيز بين القبح والجم ال في الع الم الحي واني ،فمثًال الحيوان ات ال تي تتح رك
بص عوبة ويدّل مظهره ا على نش اطية بطيئ ة ننف ر منه ا ،ألن النش اط والحرك ة
السريعة هما عالمات على مثالّي ة عالي ة تتمّي ز به ا الحي اة ،كم ا أنن ا نن دهش عن د
بعض الكائنات التي يمكنها االنتقال من شكل إلى آخر ،ولكن ال نعّد ها جميل ة وه ذا
يمكن أن يكون نتيجة لتعودنا على نمط معين.
ج – نجزم أن هناك عالقة قائمة بين جمال الّطبيعة وبيننا ،وهذا بفعل ما يوّل ده فين ا
الجمال من حاالت نفسّية وانسجام مع ه ذه األح وال ،وهن اك ع دة أمثل ة على ذل ك
ومنه :خرير المياه المنساب في الجداول ،وسكون الليل في ضياء القمر… إلخ.
كما أننا نقول بجمال حيوان ما ،حينما نش اهد في ه تجلي ًا نفس يًا ق ريب من التجلي ات
البشرية كالجسارة ،المكر ،السخاء… إلخ ،ومن هنا عَّد هيغ ل أن الحي اة الحيواني ة
ذروة جمال الطبيع ة ،ولكن على ال رغم من ذل ك إال أنه ا حي اة مح دودة ومرتبط ة
ببعض الص فات ،من حيث أن ال دورة الحيوية للحي وان دورة ض عيفة ودوافعه ا
تسيطر عليها الحاجات الطبيعية من غذاء وغريزة جنسية… إلخ.
كما أن الحياة النفسية الباطنية للحي اة الحيواني ة ،وال تي تعّب ر عن نفس ها في الوج ه
فقيرة ،مجردة ،ال ِقوام ثابتًا لها ،ومن ثم فإّن جانبها الباطني ال يتجّلى بما هو كذلك.
إذًا هناك إشارة من هيغل إلى ما يكتسي الحياة الحيواني ة من نقص ،وه ذا بص ريح
العبارة من قوله إّن «الحياة الحيواني ة بالمقاب ل ال تمل ك ه ذه الوح دة إال في ذاته ا،
وفي هذه الوحدة يكون الواقع ،من حيث هو جسمانية ،شكل مغ اير للوح دة المثالي ة
للنفس ،إن األن ا ال واعي ه و بالنس بة إلى ذات ه تل ك الوح دة ال تي لجمي ع مركباته ا
عنصر مشترك هو المثالية الواحدة ،واألنا يتظاهر بالنسبة إلى اآلخ رين أيض ًا من
خالل هذا الّتجسد العينّي الواعّي ،لكن كل ما يفعله الحيوان هو أنه يوحي بمظه ره
للحدس ( )Intuitionبوجود نفس ،ال يملك منها سوى مظهرها الكدر ،فكأّنها نفحة
نوع من التبّخ ر ُيغّلف شيء ويؤّم ن وحدة األعضاء ،ويكش ف في المظه ر كل ه عن
البدايات األولى لط ابع خصوص ي ،تل ك هي الثغ رة ال تي ينط وي عليه ا الجم ال
الطبيعي»([.)]23
إذًا ،هذا النقص المتجلي في الجم ال الط بيعي ،دف ع بهيغ ل إلى اف تراض ض رورة
المثل األعلى ،من حيث ه و جم ال ف ني ،وخالص ة قول ه هي إن الجم ال ب المعنى
الحقيقي ال يوجد إال في اإلنسان ،ألن هذا الجمال ه و تعبير عن الص ورة العقلي ة،
وال تي ال توج د إال في عق ل اإلنس ان ،ومن ه ذا األس اس فالجم ال في المظ اهر
الطبيعية ال ُيعُّد جماًال بالمعنى الحقيقي ،ألن المنظر الطبيعي جماد خال من العق ل،
وكذا الجمال في الحي اة الحيواني ة ه و مرتبة دني ا من الجم ال ،إذ ال يظه ر إال في
حركاته ووحدة أعضائه بين أداء وظائفه ا .إذًا ،الّتعبير عن الجم ال يقتض ي عل ّو ه
عن الواقع والطبيعة وهو محاولة لكشف المضمون الباطني للحقيقة.
ه ذا النقص المتجلي في الجم ال الموج ود في الطبيع ة ،جع ل هيغ ل يذهب إلى
اف تراض ض رورة المث ل األعلى ،ل ذلك نج ده يق ول« :في ثغ رة س تحملنا على
المصادرة على ضرورة المثال ،من حيث هو جمال فني»([.)]24
إذًا ،هل هذا الجمال الموجود في الّطبيعة ليس إّال مقدمة للمثل األعلى؟ وهل المث ال
يتحقق في المجال الطبيعي؟
سنبين كيف عالج هيغل تظاهر المثالي ،التعبير عنه ،تفريده ،وتحقيق ه ،وج ّل ه ذا
يعني الصفات العامة لجمال الطبيعة في نقطتين أساسيتين هما:
– 1من حيث هو جمال مجّر د خارجي
إذا فصلنا عناصر جمال الّطبيعة عن بعضها البعض سنحصل على تعيين خارجي،
ولكن ال نحصل على الشكل الُم حايث للفكرة الّش املة ،ألن في ه ذه المرحل ة يص بو
الجمال إلى وحدة عيني ة تجع ل الهيئ ة الواقعي ة تظ اهرًا ص ريحًا لل داخل ،ولكن لم
يتوّصل إليها.
بناء على ذلك تبقى الوحدة خارجية في جم ال الطبيع ة ال ذي يقتض ي ش كًال مح دد
ومتعّين من جهة ،ينطوي على وحدة يمكنه بفضلها أن ينتس ب إلى ذات ه ،أي هن اك
صفات عامة لجمال الطبيعة ،حيث أنه ينّظم التنوع الخارجي وفَق هذا التحديد الذي
ُيسّم ى تماثًال ( )symétrieوانتظامًا ( ،)Régularitéأو تعُّد تابعًا لقوانين ونس ميه
انسجامًا (:)Harmonie
أ – االنتظام« :التناظم ،Régularitéبما هو كذلك ،يكمن بوجه ع ام في الّتس اوي
([
الخارجّي ،أو بتعبير أدّق في تكرار وجه معين واحد يعطي شكل الوح دة العّين ة»
.)]25ولكن هذه الوحدة المجّردة بعيدة جدًا من الشمول العقلي ،ألن العقل هنا ال يعي
سوى ،التماثل المجرد ال التماثل العيني ،يعني أن هذه الوح دة ليس له ا وج ود على
الواقع ،بل تبقى على مستوى التجريد والالواقع فقط مثال ذل ك« :الخ ط المس تقيم»
فهو خّط منتظم ألن ه ليس ل ه إّال اتج اه واح د ينبغي على مس توى التجريد مس اويًا
لنفس ه ،وك ذا المكّعب جس م منتظم ألن ك ل أض العه هي س طوح ذوات مق ادير
متساوية ،كما أنه مؤّلف من خطوط وزوايا متساوية ،وباعتبار زواياه قائم ة فإّنه ا
ال يمكن أن تتغّير في المقدار كما هو الحال في الزوايا الحادة أو المنفرجة([.)]26
ب – التناظر :يشبه التناظر التناظم وال يختلف عنه كث يرًا والتن اظر يقابل ه التماث ل
وبذلك فالتناظر «ال يتمثل بتكرار شكل واح د مج رد ،ب ل يتن اوب ه ذا الش كل م ع
شكل آخر يتكرر بدوره ،وهذا األخير ،منظورًا إليه بحد ذاته ،متعّين أيضًا ومماث ل
لنفسه على الدوام ،لكنه غير مساٍو للش كل األول ال ذي ه و قريبه ال دائم .ومن ه ذا
االقتران يجب أن ُتولد مساواة ووحدة أكثر تعّينًا وأكثر تنّو عًا في ذاتها»([.)]27
يعنّي أن شكل الّتناظم ال يرتك ز على ذل ك التجريد المغ الي ومث ال ذل ك« :واجه ة
منزل» لها ثالث نواف ذ أعلى ومفص ولة بمس افات أك بر أو أص غر ،وأخ يرًا ثالث
نوافذ مشابهة للنوافذ الثالث األولى في حجمها وفي المسافات ال تي تفص ل بينهم ا،
وبهذا فإّن الواجهة تعرض لنا مظهرًا تناظريًا ،وعلى هذا فالتناظر ال يكتفي بتكرار
معين واحد بل يقوم على الفروقات في الشكل واللون والحجم وغيرها من الّتعيينات
األخرى فهذا االقتران المتناظم لتعيينات غير متساوية يولد التناظر.
«إن هذين الشكلين ،التن اظم ،والتن اظر ين درجان بص ورة رئيس ة في ع داد التعّين
ض من نط اق الحجم… فهم ا مم يزان لتعيين ات الحج وم ولتش اكلها وترتيبه ا في
الالمساواة»([ ،)]28ومثال ذلك أن التشكيالت الطبيعية العض وية منه ا والالعض وية
نجدها تحقق الشكل التناظري والتناظمي س واء في الش كل أو في الحجم .فعض وية
اإلنسان متناظمة ومتناظرة .فله عينان وأذن ان وخ دان وس اقان متس اوّيان في حين
نعلم أنه توجد بعض األجزاء الداخلية غير متناظم ة مث ل :القلب والكبد واألمع اء،
وبذلك فإن التناظر يظهر من حيث الشكل والحجم ،أي ُيحّد د الج انب الخ ارجي من
العضوية ،في حين التناظم يظهر داخل الوحدة الذاتية الداخلية.
ج – تبعية القوانين« :تشكل على كل ح ال كلي ة من الف روق الجوهرية ال تتبدى
كفروق وتعارضات فحسب ،بل تحقق أيضًا في كليته ا وح دة وتالحم ًا ومث ل ه ذه
الوحدة ،المحكومة بقوانين ،ال يمكن وإن بقيت على ارتباطه ا ب الكم ،إن ت رد ثاني ة
إلى محض فروق في الحجم ،فروق خارجية بالنسبة إلى ذاته ا وقابل ة للقي اس ،ب ل
هي تشتمل س لفًا على عالق ات كيفي ة بين العناص ر المختلف ة .وله ذا ال تبدي ه ذه
الوحدة للعيان ال تكرارًا مج ردًا لتعّين واح د أوح د ،وال تناوب ًا متناظم ًا للمتس اوي
والالمتساوي ،بل تشتمل على تالقي واجتماع جوانب مختلفة جوهريًا»([.)]29
لكن ه ذه الفروق ات على ال رغم من اجتماعه ا إال أنه ا ال تظه ر للعي ان على أنه ا
مختلف ة وذل ك عائ د إلى االرتباط الكبير بين ه ذه الفروق ات بواس طة راب ط خفي
ومثال ذلك« :اإلهليليج» يتمتع بدرجة أق ل من التن اظم وال يمكن التع ّرف علي ه إال
باالستناد إلى القوانين التي يخضع لها وبالت الي تنظم ه ،ف اإلهليليج يوج د ب ه ف رق
أساسي وهو عدم توافق وتكافؤ بين المحورين الصغير والكبير ومركزه ال يتط ابق
م ع مرك ز ال دائرة ،إال أّن ه ذه االختالف ات هي اختالف ات كيفي ة لكنه ا خاض عة
ومحددة بق وانين ،وهن ا ينع دم تمام ًا التن اظم على ال رغم من وج ود ق وانين تح دد
الشكل ،فل و قس منا ه ذا الش كل البيض اوي إلى قس مين لحص لنا على نص فين غ ير
متساويين وأحداهما ال يكرر اآلخر ،وهذا بالضبط ما ينطبق على العضوية الحي ة،
إذ نجد خطوط أحد الّذ راعين ليس له ا نفس اتج اه ذراع الجنب المقاب ل ،وهن ا فع ل
القوانين هو الذي يحّد د األشكال البالغ ة التن وع للعض وية الحي ة ،إذ نج د االختالف
في الوحدة ،وذلك عائد إلى أّن القانون ال يم ارس س لطانه إّال بكيفي ة مج ّردة وه ذا
من الجهة األولى أما من الجهة الثانية ،فتل ك الفروق ات الذاتّي ة هي الش رط الوحي د
للتظاهر الحّي والمثالي.
د – التناسق« :ينجم التناسق ،بالفعل ،عن العالقة بين فروق كيفية ،فهو يشّك ل كلية
لهذه الفروق تكمن عّلتها في طبيع ة الش يء بال ذات .وتفلت ه ذه العالق ة من ت أثير
القوانين ،ذلك بقدر م ا يك ون له ا ج انب يتس م بالتن اظم ،ولكنه ا تتج اوز المس اواة
والتك رار .وفي ال وقت نفس ه تؤك د الف روق نفس ها ال كف روق في تعارض اتها
وتناقضاتها ،بل كوحدة متناسقة تبرز للعيان جميع اآلن اء ال تي منه ا تت ألف ،لكنه ا
تحتويها كلها في وضع كل واحد أوحد»([.)]30
وهذا هو التعريف األشمل للتناسق ،فهو يمّثل كلية الج وانب األساس ية في حين من
جهة أخرى يمّثل اإللغاء التام لكل االختالفات والتعارضات البسيطة وهذا يعود إلى
ذلك االتحاد الداخلي في ما بينها والذي يظهر في شكل وحدة كاملة التناس ق ومث ال
ذل ك« :األص وات الموس يقية» إذ تؤل ف أص وات من ال درجات األولى والثاني ة
والثالثة والرابعة… من السلم الموس يقي ،فه ذه األص وات النغمي ة على ال رغم من
اختالف درجاته ا إال أنه ا تتواف ق وتجتم ع في م ا بينه ا على ال رغم من تباينه ا
واختالفها وتشّك ل وحدة كلي ة تناس قية ،وه ذه الوح دة تنجم عن نفي لتل ك الف روق،
وبهذا النفي تتوّلد الوحدة ولكن ليس التناسق ه و ال ذي يخل ق ه ذه الوح دة المثالي ة.
مثال ذلك :شخصان يقومان بأداء اللحن نفسه ،يق وم على أس اس التناس ق ،لكن في
الحقيقة أن كل لحن من هذه األلحان يختلف عن اللحن اآلخ ر ،ولكن ه ذا االختالف
ليس ظاهرًا ،ألن كّل لحن من ه ذه األلح ان يعّب ر عن ذاتي ة أس مى وأك ثر حرية،
وبهذا فالتناسق البسيط ال يظهر للعيان ،ال الّر وحية وال الحيوية الذاتية ،وذل ك ألن ه
يشكل الدرجة العليا للشكل المجرد والتعبير األّو ل للوحدة المجّردة.
خاتمة
في ختام هذا البحث ،نستخلص أن فلسفة هيغ ل الجمالّي ة ،ك ان له ا أعظم أث ر على
فلسفة القرن العشرين ،وذل ك ألن هيغ ل على ال رغم من ت أثره بالفالس فة الس ابقين
عليه ،إال أنه كانت له رؤية بعيدة األفق جعلت من فكره ينحو منحى آخر .لقد س مح
لنا هذا البحث والمتابعة المسيحية التاريخية من ناحية ،والّتحليلّية من ناحية أخرى،
إلى احتساب أن الّتص ور الهيغلّي للجم ال حلق ة أساس ية ،متالحم ة ومتواص لة في
تاريخ الفكر الفلسفّي عمومًا ،وفي تاريخ علم الجمال خصوصًا ،هي حلقة متواصلة
مع ما سبقها من أفكار جمالية سواء كان هذا عند القدماء الّش رقيين وم ا تمّي زت ب ه
من ابتعاد من الحقيقة وخضوعها لط ابع ارس تقراطي متج ه اتجاه ًا ديني ًا اص طبغ
بالطابع الّروحي .ثم كان داخ ل الثقاف ة اليوناني ة ت ارة بتجاه ل الحقيق ة المحسوس ة
على أساس انعكاس ضعيف ومبهم لعالم آخر رائ ع ومتكام ل وه ذا م ع أفالط ون،
وتارة أخرى مع أرسطو بالبحث عن األفكار العامة والعالمي ة وال تي س اعدت على
قيام العلوم الطبيعية ووضعت منهجًا للتفك ير لق رون طويل ة .وهن اك ع دة ق راءات
تاريخية مختلفة إلى كانط الذي عّبر عن نظريته في الجمال من خالل مصّنفه «نق د
الحكم» والذي يعّد مقّد مة ال غ نى عنه ا في علم الجم ال ،وخاص ة باتجاه ه للبحث
عن عناصر أولية سابقة على التجرب ة .وبالت الي ت بّين لن ا أن ه يق دم تحليًال فلس فيًا،
يؤكد به استقالل ملكة الشعور بالجمال عند اإلنسان عن ملك ة المعرف ة ال تي تعتم د
على النش اط العقلي ،وتس تقّل عن ملك ة الس لوك األخالقي ال ذي يعتم د على ملك ة
اإلرادة في اإلنسان ،ومنه ُيحدد الشروط األساسية في الحكم على الشيء الجميل.
كما أظهر لنا هذا البحث كي ف ت أّثر هيغ ل به ذا اإلنت اج الفك ري الوف ير في فلس فة
الجمال ،ليبني طرحًا جديدًا في ميتافيزيقا الجمال ،مؤكدًا على أن الجمال يتجّسد في
الفكر وليس في المظهر والشكل الخارجي وعلى هذا نجد أنه يمّي ز بين ن وعين من
الجمال الطبيعي والفّني ،فالجمال الطبيعي يرفضه تمامًا ألنه تقليد ومحاكاة وبالتالي
يكون خاليًا من أي إبداع ذهني .في حين نجد هيغ ل يعلي من درج ة الجم ال الفّني،
ألنه وليد فكر اإلنسان وروحه ،وما دام أن هذا الفّن وليد العقل ،وال بد من ضرورة
أن يكون وسيلة لتمرير األفكار والحقائق ،وهنا يصبح الفّنان فيلسوفًا .وهذا م ا أك د
عليه هيغل في كل أبحاثه على أن مهمة الفّنان هي الّتعبير عن ال ّروح المطل ق وإذا
فشل في التعبير على هذا يصبح فنه ال قيمة له وال جدوى منه.
إذًا ،الجمال الفّني هو وحده الذي يكفل التوحي د بين الفك رة والش كل ،ألن ه ينبع من
روح اإلنسان وجوهره ،وليست الرغبة هي م ا يرب ط اإلنس ان بالعم ل الفّني؛ ألن
الحكم الجمالّي موضوع للفكر والتأمل غير أن التأم ل الجم الّي يختل ف عن التأم ل
في العالم ،ألن التأمل الفّني حسي والتأمل في العلم جوهري.
لقد تبّين لنا أخيرًا ،أن معرفة حاجة اإلنسان إلى النشاط الجمالّي تنبع من رغبته في
معرفة نفسه ،وتلبية احتياجات روحية عميقة لديه ،ومن ه فاإلنس ان في تلقي ه للعم ل
الفّني يتأّم له دون أن يستهلكه.
هكذا ،كان عرضنا لرؤية جديدة ومغ ايرة لم ا س بق وطرحن اه ألهم المح اور في
فلسفة هيغل الجمالّية.