You are on page 1of 22

‫فلسفة هيغل الجمالّية‬

‫مقدمة‬
‫ُيعُّد الفيلسوف األلماني هيغل (‪1770‬م – ‪1831‬م) أح د أهّم مؤسس ي حرك ة الفك ر‬
‫المث الي في ألماني ا وص احب المنظوم ة الجمالّي ة الواس عة المعروف ة باألس تطيقا‪،‬‬
‫والغنية بالّتحليالت العميقة ألعمال كثيرة‪ ،‬والتي أثرت‪ ،‬على علم اء الجم ال وعلى‬
‫نتاجاتهم الفّنّية‪ .‬ويرى هيغ ل في فك ره الجم الّي حلق ة أساس ية في العل وم الفلس فّية‬
‫واالنطالق من مملكة الجمال وميدان الفّن ‪ .‬وفي هذه الحال ة ُيستحس ن إدراج فلس فة‬
‫علم الجمال في مجمل الفلسفة‪ ،‬ألّن الفّن ه و أح د األش كال الكلّي ة للعق ل‪ .‬وم ا الفّن‬
‫س وى خط وة س ابقة في طريق العق ل نح و الحقيق ة‪ .‬أم ا الجم ال فال يتحق ق‪ ،‬في‬
‫درجاته القصوى‪ ،‬إال في الجمال الفّني‪ ،‬ألّنه فكرة اإلنس ان ال تي ُتعّب ر عن الوح دة‬
‫المباشرة بين الموضوع والّذ ات‪ .‬وهذه الفكرة تنبع من الّروح البشرّية‪.‬‬
‫ُيع ّرف الجم ال على أن ه البحث في النش اط الفّنّي به دف الحكم علي ه وتقييم ه على‬
‫أساس أّن ه ملك ة مبدع ة وخّالق ة عن د اإلنس ان‪ .‬والجم ال هن ا ُيع ُّد ممارس ة نقدّي ة‬
‫وتقييمّية للعم ل الفّنّي ‪ ،‬إذ إّن الفّن ال ُيمكن أن نص در على حكم قبح ه أو جمال ه من‬
‫دون خضوع هذا العمل إلى صورة الّتقييم والحكم الجمالّي ‪.‬‬
‫وبهذا يكون الجمال والفّن مالزمين لبعضهما البعض وضروريين‪ ،‬وعلى ه ذا ف إّن‬
‫مشكلتهما‪ ،‬أو باألحرى الفّن الجميُل هو مشكلة قديم ة ظه رت م ع البدايات األولى‬
‫للّتفكير الفلسفّي ‪ ،‬إذ نجد أّنها نالت اهتمام العديد من الفالسفة عبر الحقبات الّتاريخّية‬
‫المتعاقبة‪ ،‬بداية من أفالط ون وأرس طو في الحض ارة اليوناني ة في العص ر الق ديم‬
‫وصوًال إلى العصر الحديث في الحضارة األلمانّية‪ ،‬والتي ك انت أك ثر تط ّو رًا م ع‬
‫كانط وهيغل‪ ،‬وهذا األخير فقد اس توعب م ا س بقه من األفك ار وكتاب ات المفّك رين‬
‫السابقين عليه‪ ،‬إذ نجد أّن فلس فته تجم ع مجم ل اآلراء الّس الفة‪ ،‬وت دير معه ا نقاش ًا‬
‫وحوارًا جدليًا بداية من فلسفة أفالطون المثالية حتى فلسفة كانط النقدّية‪ ،‬وهو ب ذلك‬
‫ُيعيد بناء األفك ار الجمالّي ة والطروح ات الفّنّي ة في الحض ارة الغربّي ة على ض وء‬
‫الّتطّو ر الفلسفّي الذي شهدته الحضارة األوروبّية‪.‬‬
‫سنبّين من خالل ه ذا البحث محاول ة هيغ ل دراس ة ك ّل مظ اهر ال ّروح‪ .‬كم ا أّنه ا‬
‫محاولة لرؤية تطّو ر الفلسفة الجمالّي ة من خالل فيلس وف اس توعب وحّل ل األفك ار‬
‫كلها في تاريخ نشأة الفّن ‪ ،‬وأشكال إبداعاته‪ .‬مّم ا يجعل المهتم بدراس ات هيغ ل يج د‬
‫مجاًال خصبًا‪ ،‬إذ إّن أفكاره ليست جديدة تمامًا‪.‬‬
‫أما الجديد في فكره فيكمن في تقديمه لفكرة الكلّية من خالل تحليل ه لقض ايا اإلب داع‬
‫واالغ تراب‪ .‬فالجم ال ينحص ر عن د ع دد كبير من علم اء الجم ال في البحث في‬
‫ظواهر الفّن وال تتجاوز ذلك إلى ما سواه من نشاطات اإلنسان‪ ،‬ولكّنها عند آخرين‬
‫ال تقف عند حدود الفّن ‪ ،‬وإنما تتخّطاه إلى كّل شيٍء جميل‪.‬‬
‫وق د ُع ّرف الجم ال في ه ذا المج ال «باألس تطيقا» (‪ ،)Aesthetics‬وهي مف ردة‬
‫يرجع أصلها إلى اللغة اليونانية القديمة‪ ،‬وتعنّي المعرفة الحسّية أو الصورة األولّي ة‬
‫لها‪ ،‬وأّو ل من صاغ ه ذا االس م ه و الفيلس وف األلم اني «ألكس ندر بوم ارتن» في‬
‫بداية القرن الّثامن عشر‪ ،‬وذلك في كتاب ه «ت أمالت فلس فية في موض وعات تتعّل ق‬
‫بالّش عر»‪ ،‬الذي ربط الفّنون بالمعرفة الحسّية‪ ،‬وه و رأي ش اع بع د ذل ك في فلس فة‬
‫هيغل الجمالّية وطروحاته الفّنية‪.‬‬
‫وكما ه و معل وم ف إّن الفك ر الجم الّي ه و علم معي اري تمام ًا مث ل عل وم المنط ق‬
‫واألخالق‪ ،‬ولكن م ا يجعل ه أش ُّد عس رًا ه و موض وعاته ال تي ال تتس م ب الّتقنين‬
‫الموضوعّي ‪ ،‬ب ل إّنه ا ذاتّي ة‪ ،‬كم ا أّن ه ذه األحك ام مرهون ة بخصوص ّية الّت اريخ‬
‫والّثقافة‪ ،‬على الرغم من أّن بعَض األعماِل الفّنية القديمة مثل اإللياذة ال ت زال تث ير‬
‫إعجابنا وتشّد نا‪ ،‬وهو أمر يدّل على وجود تناقض في صميم طبيعة الجم ال عموم ًا‬
‫وجمال الفّن خصوصًا‪.‬‬
‫ولعل هذا هو ما يصّعب من مهمة من يخوض هذه المسألة ألّن هذه الّطبيعة الخالدة‬
‫لبعض األعمال الفّنية تجعل من إص دار األحك ام الّتقيمّي ة ش ديدة الّص عوبة‪ ،‬ف الفّن‬
‫مقّيد بالّسياق الّتاريخي والّثقافّي ‪ ،‬وفي الوقت ذاته محّم ل بزخم «روحاني» يتج اوز‬
‫الّتاريخ والثقافة حتى يبدو كأّنه إرث للبشرّية جمعاء‪.‬‬
‫يقتضي الجمال الحقيقّي الحّرّية واالستقاللّية الّذ اتّي ة‪ ،‬وه ذان هم ا العارض ان أم ام‬
‫الجمال في الّطبيعة‪ .‬ويحاول هيغل أن يظهر أّن الفّن هو محاولة لكش ف المض مون‬
‫الّد اخلّي للحقيقة‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬الجمال الفّنّي يمّثل تجّليات الحياة في كّل حريتها‪ ،‬كما أّنه يجعل الخارج موافق ًا‬
‫للّر وح‪ ،‬وهن ا تتح ّرر الحقيق ة من محيطه ا الّز م انّي ‪ ،‬ومن تجواله ا خالل األش ياء‬
‫المتناهّية‪ .‬من خالل ما تقّد م يحاول هيغ ل إظه ار أّن الجم ال الفّني يعّب ر عن فك رة‬
‫الجمال‪ ،‬وهذا من خالل الّتوسط أّي المثال‪ ،‬وهنا يحاول أن يبّين فكرة الجمال عن ده‬
‫من خالل ثالث نقاط رئيسة هي‪ :‬المثل األعلى بما هو كذلك‪ ،‬والكيفّية ال تي يتحق ق‬
‫بها في األعمال الفّنية‪ ،‬أو بمعنى آخر العمل الفّني بوصفه تحققًا للمثال‪ ،‬ليص ل إلى‬
‫تحديد الّذ اتّية الخّالقة عند المبدع أّي الفّنان للجمال الفّني‪.‬‬
‫أما اإلشكالية العامة والمحورّية لهذا البحث فهي على النحو اآلتي‪:‬‬
‫ما هو تصّو ر هيغل للجمال؟ وكيف كان تصّو ره لمفهوم الجمال الفّني؟ كم ا ت رتبت‬
‫عدة تساؤالت جزئي ة خاص ة ال تق ّل أهمي ة أثن اء عملي ة إظه ار الّتص ور الهيغلّي‬
‫الخالص للجمال‪ ،‬وهي اآلتية‪:‬‬
‫ما هي أهّم المنابع التي استقى منها هيغل فكره الجمالّي ؟ وما هي أبرز سمات فكرة‬
‫هيغل الجمالّية؟‬
‫لإلجاب ة على ه ذه التس اؤالت تّم تقس يم ه ذه الّد راس ة إلى مقدم ة ومبحث وحي د‬
‫وخاتم ة‪ .‬تن اولت في المقدم ة مفه وم الجم ال عن د هيغ ل وكيفّي ة تص وره لمفه وم‬
‫الجمال الفّنّي ‪ .‬وعالجت بإسهاب في مبحث وحيد الفكر الجمالّي الهيغلّي ‪.‬‬
‫أما في الخاتمة فوضعت االستنتاجات الالزمة ال تي توص لت إليه ا‪ .‬كم ا اتبعُت في‬
‫بحثي هذا المنهج الّتحليلي بحسبانه األنسب لتحليل األفكار المعرفّية والفلس فّية ال تي‬
‫ارتكزت عليها أسس فلسفة هيغل الجمالّية‪.‬‬
‫الفكر الجمالّي الهيغلّي‬
‫يع ُّد هيغ ل أّن ك ل م ا في الوج ود من نظم فكرّي ة أو بش رّية أو ظ واهر مادّي ة أو‬
‫طبيعّي ة م ا هي في الّنهاية إّال مظه رًا من مظ اهر تش كّالت ال ّر وح المطل ق ال تي‬
‫يحكمها قانون الجدل الذي قوامه سيرورة دائمة‪.‬‬
‫فغاية ال ّروح هي أن تعي نفس ها‪ ،‬ووس يلتها في بل وغ ه ذا ال وعّي ال ّد ين والفّن‬
‫والفلسفة‪ .‬لقد استهّل هيغل عرضه لمذهبه في الجمال من خالل بحثه في الفكرة‪.‬‬
‫انطالقًا من هذا الكالم نسأل ما معنى الجمال عنده وأين نجده؟ وكي ف فّس ر الفك رة‬
‫وما عالقتها بالجمال؟ وهل اإلبداع الفّني مجرد محاكاة؟‬
‫يرى هيغل أن الجمال ميدان ه اإلدراك الحس ي إدراك ًا ال يتطلب أقيس ة مج ّر دة‪ ،‬إذًا‬
‫هو فكرة عامة خالدة لها وجود مستقّل وتتجلى بش كل حس ّي في األش ياء‪ ،‬وهي في‬
‫ذلك ُتخالف الحقيقة في ذاتها‪ ،‬إذ إّن الحقيقة «لها وجود ذهنّي غير حسّي ‪ .‬كم ا أّنه ا‬
‫تتحقق في الخ ارج عن طريق وج ود مح ّد د المع الم عي نّي ‪ ،‬وفي حال ة تحققه ا إذا‬
‫اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تك ون حقيق ة جمالي ة»([‪.)]2‬‬
‫إذًا‪ ،‬الجمالّي ة ال تس تهدف الفّن فق ط‪ ،‬ب ل تتع داه إلى الطبيع ة‪ ،‬وإلى جمي ع كيفّي ات‬
‫الجم ال‪ .‬فالجم ال كم ا يك ون في الفّن يك ون في مص در الفّن أي في اإلنس ان‬
‫والّطبيعة‪ .‬والجمال معناه‪ :‬الحسن والبهاء([‪ ،)]3‬أّي حس ن األفع ال كام ل األوص اف‬
‫واإلدراك الجمالّي ال يرقى إلى درجة الفلسفة الجمالّية‪ ،‬إّال عندما يتهيأ للمفكر رؤية‬
‫جمالّية للفّن تتأسس على رؤية فلسفّية شاملة لإلنسان والك ون والحي اة‪ .‬إّن الجمالّي ة‬
‫هي الّنظرة الفلسفّية إلى الفّن وقضايا اإلبداع عامة‪ .‬وأم ا م ا دونه ا من ت أمالت أو‬
‫نظرات في الفّن فليست تدخل في نطاق الجمالّي ة ب المعنى العلمي للكلم ة‪ ،‬وإن تكن‬
‫مراحل أولى الزمة في نشوء الجمالّية وتطّو رها نح و الّتكام ل الفلس فّي وارتباطه ا‬
‫بشمولّية الفلسفة ومنهجيتها واإلدراك الجم الّي يرقى إلى درج ة الفلس فة الجمالّي ة‪،‬‬
‫الستناده على رؤية فلس فّية جلّي ة وش املة للع الم بك ل مكونات ه‪ .‬فالرؤية الجمالّي ة‬
‫متماسكة ترتبط فيها النتائج باألسباب ارتباطًا وثيقًا ودقيقًا‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬نجد هيغل ينظر إلى الجم ال من جه ة المض مون ومن ناحي ة موض وعّية‪ ،‬أّي‬
‫الفكرة هي كل ذلك الوفاق المتجّد د والمج ّد د باس تمرار للكلي ات الجزئي ة ووح دتها‬
‫المتوسطة كافة‪ .‬إذ كيف يمكن للفكر أن يدرك الجمال؟ وهل الجمال الط بيعّي يعّب ر‬
‫حقيقة عن الجمال؟‬
‫يعُّد هيغل أن الحقيقي هو القاب ل للتص ور‪ ،‬ألن أساس ه المفه وم المطل ق أو بمع نى‬
‫آخر الفكرة‪ ،‬فالجمال هو أسلوب معين لتظهير الحقيق ة وتمثيله ا‪ ،‬كم ا أّن الص ورة‬
‫باطنة فيها‪ ،‬أي محايثة في عالم الموجودات‪ ،‬موج ودة في ذاته ا ول ذاتها‪ ،‬كم ا أّنه ا‬
‫الحّق في ذاته‪ ،‬وهي ما يشارك في الّروح بطريقة عامة‪ ،‬إذ إّن الّروح المطلق ة هي‬
‫الّر وح الكلية‪ .‬إذًا‪ ،‬الجمال ليس تجريدًا من تجريدات ملك ة الفهم وإّنم ا ه و المفه وم‬
‫في ذاته‪ ،‬المطلق والعينّي ‪ ،‬الفكرة المطلقة‪.‬‬
‫إّن الحض ور الحس ّي للفك رة وال تي هي العملّي ة الكونّي ة الملموس ة في وح دتها‬
‫المتكامل ة‪ ،‬وح دة الحرّي ة والحتمّي ة‪ ،‬وح دة الّط بيعي وم ا وراء الّط بيعي‪ ،‬وح دة‬
‫الّنومينا والفينومينا‪.‬‬
‫إذًا هي العقل الذي هو شامل ال محدود وفردي محّد د في آن معًا‪ .‬وح تى نعطي عن‬
‫الفكرة تعريفها أدّق وأوضح‪ ،‬فسنقول إن‪« :‬الفكرة من حيث أنها موج ودة في ذاته ا‬
‫ولذاتها‪ ،‬هي أيضًا الحّق في ذاته‪ ،‬وهي ما يدخل في ع داد ال ّروح بص ورة عام ة‪،‬‬
‫هي الّروحي الكونّي ‪ ،‬الّر وح المطلق‪ ،‬وما ال ّر وح المطل ق إال ال ّروح من حيث ه و‬
‫ك وني‪ ،‬وليس من حيث ه و خ اص ومتن اٍه‪ .‬إّن ه يتح دد على أّن ه الح ّق الك ونّي في‬
‫حقيقته»([‪.)]4‬‬
‫يع ني أن ال ّروح المتن اهي واّل ذي يتلقى حقيقت ه القص وى من ال ّروح المطل ق‬
‫المطروح ة في ه الطبيع ة طرح ًا مثالي ًا‪ ،‬ويتم يز ه ذا ال ّروح بنش اطاته المحايث ة‬
‫والفعالة‪ ،‬وبذلك فهو ينقسم إلى حدين متضادين وهما‪ :‬الّطبيع ة وال ّروح المتن اهي‪،‬‬
‫وهذين الحدين يمثالن الفكرة الكلّي ة من دون أن يكون ا ش كلها الحقيقّي ال واقعّي ‪ ،‬إذ‬
‫إّن الطبيعة ال وجود له ا بالنس بة إلى ال ّروح المطل ق إّال في الفك رة بوص فها ش يئًا‬
‫مفترضًا‪ ،‬أّي أن الّروح نشاط يستطيع بفضله أن يمّيز نفسه من نفس ه‪ ،‬وبالت الي م ا‬
‫ينبثق عن الّروح بفعل الّتمايز يتضمن الفكرة والّروح في كليتهم ا‪ ،‬يع نّي أن حقيق ة‬
‫الّروح المتناهي أّي الّروح المطلق الذي يمثل بدوره تلك الكلّية أي الحقيقة العليا‪.‬‬
‫إذًا بقدر ما يكون الّر وح على صلة في وجوده بالّطبيعة‪ ،‬يكون هو الّر وح المتناهي‪،‬‬
‫وهنا الفكرة هي المطلق الّر وحي التي تمثل كل ما هو ال متناهّي وكونّي ‪ ،‬ولكن هذه‬
‫الفكرة عندما يكون لها تعّين واقعّي حّسي‪ ،‬تصبح هذه الفك رة في وح دة م ع الواق ع‬
‫والمفهوم‪ ،‬إذ إن تحق ق ه ذا المفه وم واقعّي ًا ه و الفك رة‪ ،‬وب ذلك تك ون الفك رة هي‬
‫الّتجسيد الواقعي للمفه وم‪ ،‬وه و ال ذي يق ّرر ك ل ش يء‪ ،‬وبالت الي ه و ال ذي يمّث ل‬
‫الفكرة‪ ،‬وبهذا فالفكرة إذًا‪« :‬هي الواقعي بوجه عام وال شيء غير الواقعي‪ ،‬وما هو‬
‫واقعي يتجلى بادئ ذي البدء‪ ،‬بصفة هذا وجود خارجي‪ ،‬بص فته واقع ًا حس يًا‪ ،‬لكن‬
‫الواقعي الحسي‪ ،‬ما هو بحقيقي وال بواقعي حقًا‪ ،‬إال بقدر ما يطابق المفهوم»[‪.]5‬‬
‫وبهذا الّتطابق بين المفهوم والموضوع الخارجّي الواقعّي ‪ ،‬به يكون حقيقي ًا‪ ،‬وإن لم‬
‫يطابق المفهوم الواقعي يبقى مجّرد تظ اهرة ال تحّق ق مفه وم تل ك الفك رة ب ل تبقى‬
‫مجّر د شيء هامد‪ ،‬من دون تجسيد من الواقع‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬ب ذرة الش جرة فهي تمّث ل‬
‫سلفًا الّش جرة المقبل ة ال تي س وف تتش ّك ل في م ا بع د‪ ،‬يع نّي ه ذا أّن الش جرة كله ا‬
‫محت واة في البذرة‪ ،‬ومن ه فالبذرة تمّث ل المفه وم ال ذي لم يتجّس د بع د في الواق ع‪،‬‬
‫وعندما تنم و ه ذه البذرة وتص بح ش جرة‪ ،‬تمث ل الواق ع‪ ،‬أي أّن البذرة وال تي هي‬
‫المفهوم‪ ،‬تجسدت في الواقع وأصبحت شجرة كاملة‪ ،‬وبالتالي تصبح الشجرة ما هي‬
‫إّال شرح وتجسيد للمفهوم‪ ،‬وبه ذا ف المفهوم ال يمث ل الّو ح دة المج ردة‪ ،‬وإنم ا يمّث ل‬
‫الوحدة العينّية المحسوسة مثال ذلك‪ :‬أن نقول «إنسان» هو في ه ذه الحال ة تص ور‬
‫مجرد ولكن يكون هذا الّتصّو ر محّق ق ومط ابق للواق ع والمفه وم‪ُ ،‬و جب على ه ذا‬
‫اإلنسان أن يشتمل على الميزات‪ ،‬وهي الحّس ‪ ،‬العقل‪ ،‬الّنفس والّر وح بحس بان ه ذه‬
‫الصفات هي صفات بشرية‪ ،‬بها يش كل مفه وم اإلنس ان وعلي ه ف إن‪« :‬ك ل م ا ه و‬
‫موج ود ليس إذن حقيقي ًا إال من حيث أن ه فك رة‪ ،‬ألّن الفك رة وح دها هي ال تي له ا‬
‫وجود واقعي حقًا‪ ،‬فهذه الظاهرة أو تلك الظاهرة حقيقية‪ ،‬ال ألن لها وج ود خارجي ًا‬
‫أو داخليًا‪ ،‬أو ألّنها واقع بوجه عام‪ ،‬وإّنما بقدر ما يكون واقعيًا مطابقًا للمفهوم»([‪.)]6‬‬
‫يعنّي أن الفكرة هي الكلّية التي تتطابق فيها الموضوعّية والوح دة الذاتّي ة للمفه وم‪،‬‬
‫إذ إّن الفكرة هي ذلك الكل والوفاق ال ذي يض م جمي ع الكلّي ات الجزئّي ة وال تي به ا‬
‫تكون الفكرة الحقيقّية كلها‪ ،‬وعندئذ يغدو ما هو كائن حقيقيًا وواقعي ًا‪ ،‬وإن لم تت وفر‬
‫هذه الوحدة للهوية‪ ،‬بين الموض وع والمفه وم يص بح ه ذا الموج ود ظ اهر مج رد‪،‬‬
‫وعليه فالواقع المواف ق للمفه وم ه و وح ده الص حيح‪ ،‬ألّن ه ذا الواق ع ه و تظ اهر‬
‫للفكرة عينها‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬الفك رة هي الوح دة العينّي ة للفك رة الّش املة م ع موض وع أو مجموع ة من‬
‫الموضوعات‪ ،‬التي تشعر أّنها تدرك بوصفها ك ثرة في وح دة‪ ،‬إذ إن عام ل التع ّد د‬
‫هو جانب الموضوعية‪ ،‬أما عامل الوحدة هو جانب الّذ اتية‪ .‬هذه الحركة ال يعيها إّال‬
‫الّروح األخالقّي إذ يقول هيغل‪« :‬لقد رفع الّر وح شكله ال ذي يك ون في ه لوعي ه إلى‬
‫صورة الوعي ذاته‪ ،‬فهو ينتج لنفسه مثل تلك التصّو رات‪ ،‬وصانع األثر إّنم ا أهم ل‬
‫العمل الّتوليفّي ‪ ،‬أي خلط الصورة الغريبة التي للفكر والطبيعي‪ ،‬وما دام الّش كل ق د‬
‫اكتس ب الص ورة ال تي للنش اط ال واعي بذات ه ف إن ص انع األث ر ق د يص ير ع امًال‬
‫روحيًا»([‪.)]7‬‬
‫كم ا أّن الجم ال عن ده ه و تركيبة عض وية بين العناص ر الّتص ورية والعناص ر‬
‫اإلدراكية‪ ،‬وعليه فالجمال مرهون بالفكرة وتمثلها‪.‬‬
‫لذلك نجد أّن هيغل يرجع إلى قراءة كانط إذ إّننا نجد هذا األخير يتحدث عن الجمال‬
‫س واء أك ان طبيعّي ًا أو فنّي ًا على أّن ه نقط ة التق اء بين اإلحس اس والعق ل فيق ول‪:‬‬
‫«باستطاعتنا بوجه عام أن نصف الجمال سواء أكان جم ال الطبيع ة أو جم ال الفّن‬
‫بعبارة األفك ار الجمالّي ة‪ ،‬في م ا ع دا أّن ه ذه الفك رة يجب أن تس ّبب بمفه وم عن‬
‫الّش يء في حالة الفّن الجميل‪ ،‬في حين أنه يكفي في الّطبيعة الجميل ة مج ّرد الّتفك ير‬
‫في عيان ُم عطى‪ ،‬من دون الحاجة إلى مفه وم عّم ا يجب أن يك ون الش يء‪ ،‬ليوق ظ‬
‫ويبلغ الفكرة التي يعتبر الشيء عبارة عنها»([‪.)]8‬‬
‫إّن للجمال أنواع وأشكال ومعايير ومواصفات وأحكام‪ ،‬وهنا س نحّلل مس ألة ح اول‬
‫هيغل إظهارها في فلسفته حول الجمال‪ ،‬إذ إنه طرح التساؤل اآلتي‪ :‬هل الجمال في‬
‫الفّن في ما ُنبدعه أم في الطبيعة فيما نراه؟ ومن الذي ُيوص ف بالجم ال اإلنس ان أم‬
‫الفعل اإلنساني أو الحيواني أو النباتي‪ ،‬أم المناظر الطبيعية أو اآلثار الفّنية؟‬
‫يرى هيغل‪« :‬أن الجمال نمط معين لتمثيل الحقيقة وإظهارها في طابع حسّي »([‪.)]9‬‬
‫ونجده يح اول في فلس فته ال رّد على نظرية كان ط ح ول الجم ال‪ ،‬وال ذي يرى أّن‬
‫الجمال ال يمكن أن يق دم في تص ورات‪ ،‬ألّن ه قيم ة ال يمكن إدراكه ا‪ ،‬ألّن األش ياء‬
‫العرضّية والمتناهّية هي الممكنة إلدراكها والجمال غير عرضي وغير متناٍه‪.‬‬
‫كما يرى هيغل أّن الجمال الفّنّي يستمد قّو ت ه من المباش ر عن ال ّروح وبالت الي عن‬
‫الحقيقة‪ ،‬أما الجمال الّطبيعي يوجد كانعكاس للجم ال المتعّل ق ب الّروح‪ ،‬وذل ك على‬
‫أساس أّنه وجود ناقص وغير مكتمل‪ ،‬إذًا نفترض تقابل بين الّطبيعة والّروح‪ .‬وهن ا‬
‫لكي يفّسر هيغل الجمال بوجه ع ام ذهب إلى ض رورة إب راز العالق ة بين الطبيع ة‬
‫والّر وح المطلق‪ ،‬وهو ما يجب تطويره إلبراز هذه العالقة في جالئها ووضوحها‪.‬‬
‫الّروح يتحّر ر من الطبيعة ليعارضها‪ ،‬فالّر وح المطلق هو الحقيقة العلي ا‪ ،‬والطبيع ة‬
‫تعود إلى حقيقته ا ال تي هي ال ّروح‪ .‬إذًا‪ ،‬الطبيع ة وال ّروح المتن اهي ح دين يمثالن‬
‫الفك رة الكلي ة‪ ،‬ويرى هيغ ل‪« :‬وجه ة نظ ر ال ّروح المتن اهي ال ذي تكمن حقيقت ه‬
‫باألحرى في الّروح المطل ق ه و االتح اد بين ذات ه وبين الطبيع ة‪ ،‬فالطبيع ة إذن ال‬
‫وجود لها بالنسبة إليه إّال في الفكرة‪ ،‬بوصفها شيئًا مفترضًا‪ ،‬وبالنظر إلى أّن الّروح‬
‫نشاط يستطيع بفضله أن يمّيز نفسه بنفسه‪ ،‬ينجم عن ذلك أن ما يص در عن ال ّروح‬
‫بفعل التمايز‪ ،‬أعني الطبيعة‪ ،‬يتضمن الفكرة والّر وح في كليتهما»([‪.)]10‬‬
‫إذًا‪ ،‬الّروح في البدء ه و روح متن اٍه‪ ،‬يعي من خالل ه ذا التن اهي س لبيته‪ ،‬فعل ه ال‬
‫يتجاوز فعل الكينونة‪ ،‬يدرك في الوقت عينه الّر وح المطلق على أنه وحدة الحقيقي‪،‬‬
‫والذي يصبح هو الّروح العملّي الذي يستمد حقيقته الخاصة من الّر وح والالمتناهي‬
‫المطل ق‪ ،‬وهن ا ال ّروح المتن اهي يم ارس أم ره في موض وع مطل ق ه و الحقيق ة‬
‫المطلقة‪ ،‬ومن هنا فالجمال الفّني ال وجود له في الّطبيعة‪ ،‬ألّن ميدان الفّن أسمى من‬
‫ميدان الّطبيعة والّر وح المتناهي‪ ،‬إذًا ف الّروح المطل ق في اتجاه ه إلى المث ل العلي ا‬
‫إّنما يتجه إلى الجم ال وإلى الحقيق ة وإلى األلوهي ة‪ ،‬فُيس فر اتجاه ه ه ذا عن ال دين‬
‫والفّن والفلسفة‪.‬‬
‫يقوم الجمال في الوحدة بين الوجود الواقعّي للشيء وبين تص ّو ره العقلي‪ ،‬إذ يك ون‬
‫الشيء جميًال حين يتطابق التحقيق العقلي في الوج ود م ع تص ّو ره العقلي‪ ،‬بمع نى‬
‫آخر التطابق بين الوجود العقلي وبين المفهوم العقلي‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬التص ّو ر ليس فق ط من نت اج تفكيرن ا العقلي‪ ،‬ب ل ه و يوج د موض وعيًا في‬
‫الشخص الحسي ذاته وذلك ألن مثاليته موضوعية‪ .‬ومن هذا المبدأ عَّد هيغل الحي اة‬
‫التي تش يع في الطبيع ة هي جميل ة من حيث إنه ا ص ورة موض وعية ومحسوس ة‪،‬‬
‫ولكن الجمال الطبيعي هو الجمال نفسه إذ إن ه ليس جميًال إال بالنس بة إلى اآلخ رين‬
‫أي بالنسبة إلينا نحن‪ .‬إذًا‪ ،‬كيف ولماذا الوج ود في الحي اة يبدو لن ا جميًال في آنيت ه‬
‫المباشرة؟‬
‫يعُّد هيغل أّن الفكرة هي نقطة انطالق رئيسة لمفهوم الجمال «عن دما نق ول إذن أن‬
‫الجمال فكرة‪ ،‬نقصد بذلك أن الجمال والحقيقة شيء واحد‪ .‬فالجمي ل ال ب ّد ‪ ،‬بالفع ل‪،‬‬
‫أن يكون حقيقيًا في ذاته»([‪ .)]11‬لكن لو أمعّن ا الّنظ ر في مفه ومّي الجم ال والحقيق ة‬
‫لوجدنا الفرق واالختالف بينهما؛ فالحقيقة يكون له ا وج ود خ ارجي تق وم بتظه ير‬
‫نفسها وعرض ذاتها للواقع الخارجي‪ ،‬كما قد تظهر ذاته ا لل وعي‪ ،‬في حين الفك رة‬
‫هي عكس الحقيقة تكون حقيقية بمقتضى طبيعتها الكلّي ة والش مولّية المتص ّو رة في‬
‫الفكر وهي بذلك تحوز وجودًا داخليًا ذا طبيعة روحّية‪ .‬وعلى هذا ف الفكرة ال تك ون‬
‫حقيقّية وال جميلة إال بتظاهر الحسّي الخارجي‪ ،‬ومعناه أن الفكرة كّلما كانت متجلّية‬
‫وواضحة في الواقع المحسوس كلما اكتسبت جمالها وحقيقتها‪ ،‬وبهذا فإّن اتحاد ك ّل‬
‫من الحقيقة والفكرة يش كالن المفه وم «وذل ك أّن الجمي ل ه و على ال دوام المفه وم‬
‫الذي بدل أن يتناقض مع موضوعيته بمعارضته إياها بتناٍه مجرد وأحادي الجانب‪،‬‬
‫يت داخل وه ذه الموض وعية ويص بح‪ ،‬بفض ل ه ذه الوح دة المحايث ة‪ ،‬المتناهي ًا في‬
‫ذاته»([‪.)]12‬‬
‫فالمفهوم ينقل الفكرة إلى الوجود الواقعي ويبّث فيها الحياة والتي عن طريقها يظهر‬
‫وب ذلك تتش كل ماهي ة الجم ال وتظه ر الحقيق ة‪ ،‬فموض وع الجم ال يظه ر للعي ان‬
‫بمفهومه الخاص وكأّنه متحّقق في كل وحدته الّذ اتية والحّي ة‪ .‬ف المفهوم ذات ه يش كل‬
‫العنصر العيني‪ ،‬إذ إن واقعه يظهر هو بدوره كتكوين مكتمل في جميع أجزائه التي‬
‫تؤّلف وحدة األفكار داخل الّر وح‪ ،‬وعلى ه ذا ف إّن الّت داخل والتواف ق بين التظ اهر‬
‫الخارجي والمفهوم هو توافق حقيقي‪.‬‬
‫مثال ذلك‪« :‬وجه إنسان» هو مفهوم ولكي ينطبق هذا المفهوم مع الواقع ال ب ّد على‬
‫هذا الشكل أن يحتوي كّل الصفات التي تحتوي عليها كّل األوجه‪ ،‬حاجبين وعي نين‬
‫وأنف وفم‪ ،‬وأن تظهر كشكل محايث للواقع محّققة بذلك تظاهرها الخ ارجي‪ ،‬طبق ًا‬
‫لمفوم هذا األخير‪ .‬باجتم اع ك ل ه ذه العناص ر وأجزائه ا يش ّك ل الوح دة الفكروية‬
‫للمفهوم وبهذا «فإّن الجمال ليس تجريدًا من تجريدات ملكة الفهم‪ ،‬وإنما هو المفهوم‬
‫في ذاته العيني المطلق»([‪.)]13‬‬
‫وبه ذا ف إّن الجم ال عن د هيغ ل ه و الظ اهر العي ني للفك رة‪ ،‬إذ ال يحتف ظ الحّس ّي‬
‫والموض وعّية ب أّي اس تقالل في الجم ال‪ ،‬أي أّن الموض وعّي ه و الحقيقّي الفعلّي ‪،‬‬
‫وبالتالي هو العقالني‪ ،‬وبذلك يكون الجميل هو الفكرة المفهومة التي تجّس د الواق ع‪،‬‬
‫ولكن هذا الوجود الموضوعّي الواقعي ال تكون له قيمة إال على أنه ظهور للمفه وم‬
‫«ألّن الجميل تمامًا هو المفهوم… والمفهوم يبث الّنفس‪ ،‬يبّث الوجود الحقيقي ال ذي‬
‫يجسده»([‪.)]14‬‬
‫فالش يء الجمي ل في وج وده يجع ل مفهوم ه الخ اص يبدو على أّن ه متحّق ق في‬
‫ظاهريته‪ ،‬أّي في وجوده العينّي الّذ اتي‪ ،‬فالمفهوم هو الذي يح ّد د غايت ه الخارجّي ة‪،‬‬
‫وبالتالي يكون واقعه في إنت اج نفس ه‪ ،‬ال من إنت اج ش يء آخ ر‪ ،‬وه ذا بالض بط م ا‬
‫يشّك ل ماهية الجمال الحّقة‪ ،‬وعليه فإّن الجمال يصبح فكرة مجردة إذا لم تتجسد هذه‬
‫الفكرة في الواقع العينّي ‪ ،‬وبذلك تص بح ميتافيزيقّي ة‪ ،‬وه ذا عين ه رفض ه هيغ ل‪ ،‬إذ‬
‫نجده ينتقد أفالطون في هذه الفكرة‪ ،‬فالجمال عن د أفالط ون فك رة مج ردة موج ودة‬
‫بعالم المثل وال نلتمس لها أي وجود حسّي ظ اهر‪ ،‬وبه ذا يق ول هيغ ل‪« :‬وحّتى إذا‬
‫ك ان أفالط ون في ه ذا الص دد يمكن تناول ه كأس اس وكمرش د‪ ،‬ف إّن الّتجريد‬
‫األفالطوني‪ ،‬حّتى بالنس بة إلى الفك رة المنطقّي ة للجمي ل ال يع ود يقنعن ا ب المرة‪ ،‬إذ‬
‫علينا أن نستوعب‪ ،‬هذه الفكرة بشكل عين‪ ،‬على نحو أكثر عمقًا‪ ،‬نظرًا ألّن الخ واء‬
‫الذي يلتصق بالفكرة األفالطونّية ال يلّبي االحتياجات الفلسفية األكثر غ نى لروحن ا‬
‫اليوم‪ ،‬وفي الحقيقة القض ّية هي أّنن ا أيض ًا يجب أن نبدأ في فلس فة الفّن بـ«فك رة»‬
‫الجمي ل‪ ،‬ولكن ال يجب أن يك ون في موض ع التمس ك بك ل بس اطة ب ذلك النم ط‬
‫التجريدي الذي ب دأ ب ه التفلس ف عن الفّن »([‪ .)]15‬وهن ا يدعو أفالط ون إلى الّتأم ل‬
‫والبحث الفلس فّي ‪ ،‬ولكن ال ينبغي أن نتن اول موض وعات البحث في جزئيته ا‪ ،‬ب ل‬
‫نتناولها من حيث هي كلي ة‪ ،‬فالجم ال ه و الكلّي ‪ ،‬أم ا ص فاته الجزئي ة موج ودة في‬
‫العالم الحسي‪« ،‬أعمال فنية جميلة» أو «شجرة جميلة»‪.‬‬
‫أما الصفة الكلية موج ودة في ع الم المث ال‪ ،‬ول ذا يدعو أفالط ون أن نتفهم الجم ال‬
‫بص فته الكلّي ة‪ ،‬وه ذا ال يمكن إال من خالل الّتعّم ق في التفك ير والبحث المنطقّي‬
‫والّتصورّي ‪ ،‬وهذا من شأنه يجعل من فكرة الجمال فكرة ميتافيزيقّية مج ردة بعي دة‬
‫من الواقع الظاهري وعليه فإّن هيغل يرفض أن يتخذ الجمال صفة التجريد‪.‬‬
‫من الواضح أن الجمال الطبيعي يتجّلى لنا في مش هد من مش اهد الطبيع ة الجميل ة‪،‬‬
‫ُيعّد أمرًا مختلفًا عن الجمال الفّني الذي يتجّلى لنا في سيمفونية ما على سبيل المثال‬
‫ال الحصر‪ .‬ولكن ه ل نض ع الجم ال الفّني والجم ال الط بيعي على ق دم المس اواة؟‬
‫وكيف يمكننا التمييز بين جمال ط بيعي وجم ال ف ني‪ ،‬وم ا ه و مفه وم الجم ال في‬
‫الفّن ؟‬
‫إّن الجمال الطبيعي حسب هيغ ل ه و جم ال مج ّر د‪ ،‬وج د لكي يك ون جميًال‪ ،‬أو لم‬
‫ُيوجد لكي يعي نفس ه‪ ،‬وإنم ا وج د بالنس بة إلين ا ألّنن ا نف وس واعي ة ومدرك ة له ذا‬
‫الجمال يقول‪« :‬ليس الجمال الطبيعي الحي جميًال لذات ه وفي ذات ه‪ ،‬مثلم ا ليس ه و‬
‫نتاج ذات ه‪ ،‬وال موج ود بس بب ظ اهرة الجمي ل‪ ،‬فالجم ال الط بيعي‪ ،‬ليس جميًال إّال‬
‫([‬
‫بالنسبة إلى اآلخرين‪ ،‬أي بالنسبة إلينا نحن‪ ،‬بالنسبة إلى الوعي الم درك للجم ال»‬
‫‪ ،)]16‬فحين نتأمل الكائن الحّي في س لوكه الح ركي نج ده اعتباطي‪ ،‬أي أن الحرك ة‬
‫محكوم ة بالمص ادفة‪ ،‬بحيث نج ده يل بّي حاجات ه‪ ،‬فيقت ات‪ ،‬ويس تولي على الغ ذاء‬
‫ويلتهمه‪ ،‬ويهضمه وه و ب ذلك ينج ز ك ل م ا يتطلبه بق اءه فه ذا من جه ة المظه ر‬
‫الخ ارجي‪ ،‬أم ا نش اط العض وّية الداخلّي ة ال نس تطيع أن ندرك ه فه و ال يق ع تحت‬
‫انتباهنا‪.‬‬
‫وه ذان المظه ران يغ دوان موض وعًا لملك ة الفهم لكن ه ذين الج انبين ال يمكن أن‬
‫ُيظهرا لنا الحياة الحيوانية على أنها ممثلة للجمال الطبيعي وذلك «أّن الجمال هو ما‬
‫يمّيز هيئة بعينها‪ .‬سواء في حالة السكون أم الحركة‪ ،‬بصرف الّنظر عن تكيف ه ذه‬
‫الحاالت م ع تلبي ة الحاج ات‪ ،‬وبص رف النظ ر عم ا يمكن أن يك ون في الحرك ات‬
‫نفسها من جانب مؤقت وعارض‪ .‬غير الجمال ال يمكن لغير الش كل أن يعّب ر عن ه‪،‬‬
‫ألن الّش كل هو وحده الّتظاهر الخارجي الذي بواس طته تض ع ماثولي ة الك ائن الحّي‬
‫الموضوعية نفسها تحت متناول حدسنا وتأملنا الحسيين»([‪.)]17‬‬
‫يعني أن الفكر هو الذي يدرك هذا الكائن في مفهومه لحكم أن هذا المفهوم مفهوم ه‬
‫يحكم عموميته أما النظر إلى جماله يكون من خالل واقعه الظ اهر وه ذا م ا يمثل ه‬
‫المظهر الخارجي وما يتبدى للعيان وهذا من جهة مفهوم الكينونة للكائن الحي‪ ،‬أم ا‬
‫من جهة خصوص يات الظ اهر الخ ارجي نج د أّن «الش كل يتم يز بم داه المك اني‪،‬‬
‫بانح داده‪ ،‬بمظه ره‪ ،‬بش كله‪ ،‬بلون ه‪ ،‬بحركات ه… إلخ‪ ،‬وحش د آخ ر من التفاص يل‬
‫المماثلة»([‪.)]18‬‬
‫يرى هيغل أن الجمال الطبيعّي يوجد كانعكاس للجمال المتعلق ب الّروح وذل ك على‬
‫أساس أّنه غير مكتمل ووجوده ناقص‪ ،‬أي أّنه كيفّية غ ير مس تقلة وتابع ة لل روح‪.‬‬
‫كما أن الجمال «هو الصورة بوصفها وحدة مباشرة للتصور‪ ،‬وحقيقته الواقعة بقدر‬
‫ما تكون هذه الوحدة حاضرة في تجليها الواقعي المحس وس»([‪ .)]19‬في ه ذا الص دد‬
‫نجد أنفسنا أمام أنواع من الحياة‪ ،‬حياة عضوية تتمثل في الكائن ات الحي ة واإلنس ان‬
‫وحياة ال عضوية مثل البنايات والكواكب‪ .‬كما نجد أّنه من وجهة نظر هيغ ل «أّنن ا‬
‫اعتدنا في حياتنا اليومّية أن نتحدث عن س ماء جميل ة‪ ،‬وأزه ار جميل ة‪ ،‬وحيوان ات‬
‫جميل ة‪ ،‬وعالوة على ذل ك الق ول ب الموجودات الجميل ة»([‪ .)]20‬كم ا أّن الجم ال في‬
‫الطبيعة يكش ف عن نق ائص خط يرة ألّن الس بب المهم أك ثر من غ يره في إظه ار‬
‫الجمال الحقيقّي هو الحرية والالمتناهي‪ ،‬والفكرة بما هي كذلك المتناهية على نح و‬
‫مطلق‪ .‬فالحياة التي تشيع في الطبيعة هي جميلة من حيث هي تجّسد مباشر وحس ّي‬
‫للحياة‪ ،‬ومن حيث هي صورة موضوعّية ومحسوس ة‪ .‬م ا هي الكيفّي ة ال تي يتحق ق‬
‫بها المفهوم في عالم الّطبيعة ليصير فكرة في هذه الحاالت؟ وكي ف ولم اذا الوج ود‬
‫في الحياة يبدو لنا جميًال في آنيته أي في وجوده البشرّي؟ يقول هيغل‪« :‬أول ما يقع‬
‫تحت الّنظر حين نتأمل الكائن الحّي في تظاهراته وسلوكه‪ ،‬ه و الحرك ة اإلرادّي ة‪،‬‬
‫هذه الحركة منظورًا إليه ا كحرك ة بوج ه ع ام‪ ،‬ال تع دو أن تك ون الحرّي ة التاّم ة‪،‬‬
‫التجريد في التغي ير الزم اني للمك ان‪ ،‬ه ذا الّتغي ير ال ذي يبدو اعتباطي ًا في حال ة‬
‫الحيوان‪ ،‬كما تبدو الحركة نفسها‪ ،‬وكأنها محكومة بالمصادفة»([‪.)]21‬‬
‫هن ا حس ب أن الكيفّي ة ال تي يعتم دها أّي ك ائن حي ليش بع حاجات ه الض رورّية من‬
‫غذاء‪ ،‬طريقة أخذ الطعام‪ ،‬طريقة التهامه وهضمه‪ ،‬أي كل ما يساعد على بقاء حياة‬
‫هذا الحيوان غير كافية كي توضح وتمث ل الجم ال الط بيعّي ال ذي ال يمكن الّتعبير‬
‫عنه إال في ش كل‪ .‬أي أّن ه الّتجلي الخ ارجي ال ذي ب ه الموض وعية المثالي ة للك ائن‬
‫الحي تبدو لعياننا الحسّي ‪ ،‬ولتأملنا الحسّي ‪ ،‬لكن الشكل هو امتداد في المكان بحدوده‬
‫ومظهره ولونه وحركاته‪ ،‬وبالتالي فهذا دليل على أّن الكائن العضوّي هو مجموعة‬
‫من االختالفات والتنوع‪ ،‬ومنه يستمّد وجوده‪ ،‬إذًا ه و ك ّل تتجّم ع أج زاؤه المختلف ة‬
‫لتبدو لنا أشياء محسوسة‪.‬‬
‫يرى هيغ ل أن النفس ال تتجلى بم ا هي نفس في الّطبيع ة‪ ،‬ألّن الوح دة الذاتي ة لم‬
‫تص بح بع د وح دة في ذاّته ا‪ ،‬وبالت الي ت درك النفس بحس ب تص ّو رها‪ ،‬إذًا هن ا‬
‫ازدواجي ة بين عي ان الش كل الحّي من حيث أن ه االص طفاف المحض لألعض اء‬
‫وتص ّو ر الّنفس بوص فها تص ورًا ال تف رض نفس ها بص ورة حس ّية ومباش رة على‬
‫الحدس([‪.)]22‬‬
‫إذًا‪ ،‬هذا هو س يرورة الحي اة كح ل للّتن اقّض بين الوح دة الفكروّي ة لألعض اء وبين‬
‫انفصالها الواقعّي ‪ ،‬أّي الّتأمين الحسّي للفروقات الواقعّية لجميع األعض اء‪ ،‬ولجمي ع‬
‫تعيينات العضوّية‪ ،‬ومن جهة أخرى االنع زال والّتجّم د في اس تقاللها‪ ،‬بعض ها عن‬
‫بعض‪ ،‬أّي مثالّية عامة تنعش ها وتنّش ط فيه ا الحي اة‪ ،‬وه ذه ليس ت هي الح ال حين‬
‫يتعّلق األمر بإدراك الجمال عند هيغل‪.‬‬
‫إذ إّن الموضوع يجب أن ال يظهر لن ا كش يء مفك ر في ه فق ط‪ ،‬وال أن يختل ف عن‬
‫العي ان‪ ،‬وال أن يتع ارض مع ه إذ إن ه ال يتعل ق إال ب الفكرة‪ .‬وبن اء على ذل ك يمكن‬
‫القول إّن الجمال الطبيعي نعرفه من خالل ش كل الّتالحم الحّي بين الم ادة من حيث‬
‫هي هوية مباش رة‪ ،‬وبين الّتش كيالت الطبيعّي ة العينّي ة‪ ،‬يظه ر تالزم الّش كل للم ادة‬
‫بصورة مباش رة بوص فه ماهيته ا الحقيقّي ة وقّو ته ا المش ّك لة‪ ،‬وبالت الي فليس هن اك‬
‫تحديد دقيق للجمال الّطبيعي‪ ،‬إال أّنه يمكن في رأّي هيغل أنه باستطاعتنا أن‪:‬‬
‫أ – نتح دث أحيان ًا عن الجم ال الط ّبيعي‪ ،‬ال س يما عن دما نج د أنفس نا أم ام منظ ر‬
‫ط بيعي مثًال‪ ،‬فهن ا ال يوج د تنظيم عض وي لألج زاء‪ ،‬وبالت الي نج د أمامن ا تن ّو ع‬
‫موضوعات‪ ،‬وتجمع خارجي ألش كال عض وّية وغ ير عض وّية‪ :‬ك واكب‪ ،‬وديان‪،‬‬
‫جبال‪ ،‬م دن‪ ،‬من ازل… إلخ‪ ،‬وداخ ل ه ذا الّتع داد المك ّو ن للمش هد‪ ،‬نج د توافق ًا أو‬
‫انسجامًا ممتعًا وأحيانًا مثيرًا يحّرك فينا االهتمام‪.‬‬
‫ب – نمّيز بين القبح والجم ال في الع الم الحي واني‪ ،‬فمثًال الحيوان ات ال تي تتح رك‬
‫بص عوبة ويدّل مظهره ا على نش اطية بطيئ ة ننف ر منه ا‪ ،‬ألن النش اط والحرك ة‬
‫السريعة هما عالمات على مثالّي ة عالي ة تتمّي ز به ا الحي اة‪ ،‬كم ا أنن ا نن دهش عن د‬
‫بعض الكائنات التي يمكنها االنتقال من شكل إلى آخر‪ ،‬ولكن ال نعّد ها جميل ة وه ذا‬
‫يمكن أن يكون نتيجة لتعودنا على نمط معين‪.‬‬
‫ج – نجزم أن هناك عالقة قائمة بين جمال الّطبيعة وبيننا‪ ،‬وهذا بفعل ما يوّل ده فين ا‬
‫الجمال من حاالت نفسّية وانسجام مع ه ذه األح وال‪ ،‬وهن اك ع دة أمثل ة على ذل ك‬
‫ومنه‪ :‬خرير المياه المنساب في الجداول‪ ،‬وسكون الليل في ضياء القمر… إلخ‪.‬‬
‫كما أننا نقول بجمال حيوان ما‪ ،‬حينما نش اهد في ه تجلي ًا نفس يًا ق ريب من التجلي ات‬
‫البشرية كالجسارة‪ ،‬المكر‪ ،‬السخاء… إلخ‪ ،‬ومن هنا عَّد هيغ ل أن الحي اة الحيواني ة‬
‫ذروة جمال الطبيع ة‪ ،‬ولكن على ال رغم من ذل ك إال أنه ا حي اة مح دودة ومرتبط ة‬
‫ببعض الص فات‪ ،‬من حيث أن ال دورة الحيوية للحي وان دورة ض عيفة ودوافعه ا‬
‫تسيطر عليها الحاجات الطبيعية من غذاء وغريزة جنسية… إلخ‪.‬‬
‫كما أن الحياة النفسية الباطنية للحي اة الحيواني ة‪ ،‬وال تي تعّب ر عن نفس ها في الوج ه‬
‫فقيرة‪ ،‬مجردة‪ ،‬ال ِقوام ثابتًا لها‪ ،‬ومن ثم فإّن جانبها الباطني ال يتجّلى بما هو كذلك‪.‬‬
‫إذًا هناك إشارة من هيغل إلى ما يكتسي الحياة الحيواني ة من نقص‪ ،‬وه ذا بص ريح‬
‫العبارة من قوله إّن «الحياة الحيواني ة بالمقاب ل ال تمل ك ه ذه الوح دة إال في ذاته ا‪،‬‬
‫وفي هذه الوحدة يكون الواقع‪ ،‬من حيث هو جسمانية‪ ،‬شكل مغ اير للوح دة المثالي ة‬
‫للنفس‪ ،‬إن األن ا ال واعي ه و بالنس بة إلى ذات ه تل ك الوح دة ال تي لجمي ع مركباته ا‬
‫عنصر مشترك هو المثالية الواحدة‪ ،‬واألنا يتظاهر بالنسبة إلى اآلخ رين أيض ًا من‬
‫خالل هذا الّتجسد العينّي الواعّي ‪ ،‬لكن كل ما يفعله الحيوان هو أنه يوحي بمظه ره‬
‫للحدس (‪ )Intuition‬بوجود نفس‪ ،‬ال يملك منها سوى مظهرها الكدر‪ ،‬فكأّنها نفحة‬
‫نوع من التبّخ ر ُيغّلف شيء ويؤّم ن وحدة األعضاء‪ ،‬ويكش ف في المظه ر كل ه عن‬
‫البدايات األولى لط ابع خصوص ي‪ ،‬تل ك هي الثغ رة ال تي ينط وي عليه ا الجم ال‬
‫الطبيعي»([‪.)]23‬‬
‫إذًا‪ ،‬هذا النقص المتجلي في الجم ال الط بيعي‪ ،‬دف ع بهيغ ل إلى اف تراض ض رورة‬
‫المثل األعلى‪ ،‬من حيث ه و جم ال ف ني‪ ،‬وخالص ة قول ه هي إن الجم ال ب المعنى‬
‫الحقيقي ال يوجد إال في اإلنسان‪ ،‬ألن هذا الجمال ه و تعبير عن الص ورة العقلي ة‪،‬‬
‫وال تي ال توج د إال في عق ل اإلنس ان‪ ،‬ومن ه ذا األس اس فالجم ال في المظ اهر‬
‫الطبيعية ال ُيعُّد جماًال بالمعنى الحقيقي‪ ،‬ألن المنظر الطبيعي جماد خال من العق ل‪،‬‬
‫وكذا الجمال في الحي اة الحيواني ة ه و مرتبة دني ا من الجم ال‪ ،‬إذ ال يظه ر إال في‬
‫حركاته ووحدة أعضائه بين أداء وظائفه ا‪ .‬إذًا‪ ،‬الّتعبير عن الجم ال يقتض ي عل ّو ه‬
‫عن الواقع والطبيعة وهو محاولة لكشف المضمون الباطني للحقيقة‪.‬‬
‫ه ذا النقص المتجلي في الجم ال الموج ود في الطبيع ة‪ ،‬جع ل هيغ ل يذهب إلى‬
‫اف تراض ض رورة المث ل األعلى‪ ،‬ل ذلك نج ده يق ول‪« :‬في ثغ رة س تحملنا على‬
‫المصادرة على ضرورة المثال‪ ،‬من حيث هو جمال فني»([‪.)]24‬‬
‫إذًا‪ ،‬هل هذا الجمال الموجود في الّطبيعة ليس إّال مقدمة للمثل األعلى؟ وهل المث ال‬
‫يتحقق في المجال الطبيعي؟‬
‫سنبين كيف عالج هيغل تظاهر المثالي‪ ،‬التعبير عنه‪ ،‬تفريده‪ ،‬وتحقيق ه‪ ،‬وج ّل ه ذا‬
‫يعني الصفات العامة لجمال الطبيعة في نقطتين أساسيتين هما‪:‬‬
‫‪ – 1‬من حيث هو جمال مجّر د خارجي‬
‫إذا فصلنا عناصر جمال الّطبيعة عن بعضها البعض سنحصل على تعيين خارجي‪،‬‬
‫ولكن ال نحصل على الشكل الُم حايث للفكرة الّش املة‪ ،‬ألن في ه ذه المرحل ة يص بو‬
‫الجمال إلى وحدة عيني ة تجع ل الهيئ ة الواقعي ة تظ اهرًا ص ريحًا لل داخل‪ ،‬ولكن لم‬
‫يتوّصل إليها‪.‬‬
‫بناء على ذلك تبقى الوحدة خارجية في جم ال الطبيع ة ال ذي يقتض ي ش كًال مح دد‬
‫ومتعّين من جهة‪ ،‬ينطوي على وحدة يمكنه بفضلها أن ينتس ب إلى ذات ه‪ ،‬أي هن اك‬
‫صفات عامة لجمال الطبيعة‪ ،‬حيث أنه ينّظم التنوع الخارجي وفَق هذا التحديد الذي‬
‫ُيسّم ى تماثًال (‪ )symétrie‬وانتظامًا (‪ ،)Régularité‬أو تعُّد تابعًا لقوانين ونس ميه‬
‫انسجامًا (‪:)Harmonie‬‬
‫أ – االنتظام‪« :‬التناظم ‪ ،Régularité‬بما هو كذلك‪ ،‬يكمن بوجه ع ام في الّتس اوي‬
‫([‬
‫الخارجّي ‪ ،‬أو بتعبير أدّق في تكرار وجه معين واحد يعطي شكل الوح دة العّين ة»‬
‫‪ .)]25‬ولكن هذه الوحدة المجّردة بعيدة جدًا من الشمول العقلي‪ ،‬ألن العقل هنا ال يعي‬
‫سوى‪ ،‬التماثل المجرد ال التماثل العيني‪ ،‬يعني أن هذه الوح دة ليس له ا وج ود على‬
‫الواقع‪ ،‬بل تبقى على مستوى التجريد والالواقع فقط مثال ذل ك‪« :‬الخ ط المس تقيم»‬
‫فهو خّط منتظم ألن ه ليس ل ه إّال اتج اه واح د ينبغي على مس توى التجريد مس اويًا‬
‫لنفس ه‪ ،‬وك ذا المكّعب جس م منتظم ألن ك ل أض العه هي س طوح ذوات مق ادير‬
‫متساوية‪ ،‬كما أنه مؤّلف من خطوط وزوايا متساوية‪ ،‬وباعتبار زواياه قائم ة فإّنه ا‬
‫ال يمكن أن تتغّير في المقدار كما هو الحال في الزوايا الحادة أو المنفرجة([‪.)]26‬‬
‫ب – التناظر‪ :‬يشبه التناظر التناظم وال يختلف عنه كث يرًا والتن اظر يقابل ه التماث ل‬
‫وبذلك فالتناظر «ال يتمثل بتكرار شكل واح د مج رد‪ ،‬ب ل يتن اوب ه ذا الش كل م ع‬
‫شكل آخر يتكرر بدوره‪ ،‬وهذا األخير‪ ،‬منظورًا إليه بحد ذاته‪ ،‬متعّين أيضًا ومماث ل‬
‫لنفسه على الدوام‪ ،‬لكنه غير مساٍو للش كل األول ال ذي ه و قريبه ال دائم‪ .‬ومن ه ذا‬
‫االقتران يجب أن ُتولد مساواة ووحدة أكثر تعّينًا وأكثر تنّو عًا في ذاتها»([‪.)]27‬‬
‫يعنّي أن شكل الّتناظم ال يرتك ز على ذل ك التجريد المغ الي ومث ال ذل ك‪« :‬واجه ة‬
‫منزل» لها ثالث نواف ذ أعلى ومفص ولة بمس افات أك بر أو أص غر‪ ،‬وأخ يرًا ثالث‬
‫نوافذ مشابهة للنوافذ الثالث األولى في حجمها وفي المسافات ال تي تفص ل بينهم ا‪،‬‬
‫وبهذا فإّن الواجهة تعرض لنا مظهرًا تناظريًا‪ ،‬وعلى هذا فالتناظر ال يكتفي بتكرار‬
‫معين واحد بل يقوم على الفروقات في الشكل واللون والحجم وغيرها من الّتعيينات‬
‫األخرى فهذا االقتران المتناظم لتعيينات غير متساوية يولد التناظر‪.‬‬
‫«إن هذين الشكلين‪ ،‬التن اظم‪ ،‬والتن اظر ين درجان بص ورة رئيس ة في ع داد التعّين‬
‫ض من نط اق الحجم… فهم ا مم يزان لتعيين ات الحج وم ولتش اكلها وترتيبه ا في‬
‫الالمساواة»([‪ ،)]28‬ومثال ذلك أن التشكيالت الطبيعية العض وية منه ا والالعض وية‬
‫نجدها تحقق الشكل التناظري والتناظمي س واء في الش كل أو في الحجم‪ .‬فعض وية‬
‫اإلنسان متناظمة ومتناظرة‪ .‬فله عينان وأذن ان وخ دان وس اقان متس اوّيان في حين‬
‫نعلم أنه توجد بعض األجزاء الداخلية غير متناظم ة مث ل‪ :‬القلب والكبد واألمع اء‪،‬‬
‫وبذلك فإن التناظر يظهر من حيث الشكل والحجم‪ ،‬أي ُيحّد د الج انب الخ ارجي من‬
‫العضوية‪ ،‬في حين التناظم يظهر داخل الوحدة الذاتية الداخلية‪.‬‬
‫ج – تبعية القوانين‪« :‬تشكل على كل ح ال كلي ة من الف روق الجوهرية ال تتبدى‬
‫كفروق وتعارضات فحسب‪ ،‬بل تحقق أيضًا في كليته ا وح دة وتالحم ًا ومث ل ه ذه‬
‫الوحدة‪ ،‬المحكومة بقوانين‪ ،‬ال يمكن وإن بقيت على ارتباطه ا ب الكم‪ ،‬إن ت رد ثاني ة‬
‫إلى محض فروق في الحجم‪ ،‬فروق خارجية بالنسبة إلى ذاته ا وقابل ة للقي اس‪ ،‬ب ل‬
‫هي تشتمل س لفًا على عالق ات كيفي ة بين العناص ر المختلف ة‪ .‬وله ذا ال تبدي ه ذه‬
‫الوحدة للعيان ال تكرارًا مج ردًا لتعّين واح د أوح د‪ ،‬وال تناوب ًا متناظم ًا للمتس اوي‬
‫والالمتساوي‪ ،‬بل تشتمل على تالقي واجتماع جوانب مختلفة جوهريًا»([‪.)]29‬‬
‫لكن ه ذه الفروق ات على ال رغم من اجتماعه ا إال أنه ا ال تظه ر للعي ان على أنه ا‬
‫مختلف ة وذل ك عائ د إلى االرتباط الكبير بين ه ذه الفروق ات بواس طة راب ط خفي‬
‫ومثال ذلك‪« :‬اإلهليليج» يتمتع بدرجة أق ل من التن اظم وال يمكن التع ّرف علي ه إال‬
‫باالستناد إلى القوانين التي يخضع لها وبالت الي تنظم ه‪ ،‬ف اإلهليليج يوج د ب ه ف رق‬
‫أساسي وهو عدم توافق وتكافؤ بين المحورين الصغير والكبير ومركزه ال يتط ابق‬
‫م ع مرك ز ال دائرة‪ ،‬إال أّن ه ذه االختالف ات هي اختالف ات كيفي ة لكنه ا خاض عة‬
‫ومحددة بق وانين‪ ،‬وهن ا ينع دم تمام ًا التن اظم على ال رغم من وج ود ق وانين تح دد‬
‫الشكل‪ ،‬فل و قس منا ه ذا الش كل البيض اوي إلى قس مين لحص لنا على نص فين غ ير‬
‫متساويين وأحداهما ال يكرر اآلخر‪ ،‬وهذا بالضبط ما ينطبق على العضوية الحي ة‪،‬‬
‫إذ نجد خطوط أحد الّذ راعين ليس له ا نفس اتج اه ذراع الجنب المقاب ل‪ ،‬وهن ا فع ل‬
‫القوانين هو الذي يحّد د األشكال البالغ ة التن وع للعض وية الحي ة‪ ،‬إذ نج د االختالف‬
‫في الوحدة‪ ،‬وذلك عائد إلى أّن القانون ال يم ارس س لطانه إّال بكيفي ة مج ّردة وه ذا‬
‫من الجهة األولى أما من الجهة الثانية‪ ،‬فتل ك الفروق ات الذاتّي ة هي الش رط الوحي د‬
‫للتظاهر الحّي والمثالي‪.‬‬
‫د – التناسق‪« :‬ينجم التناسق‪ ،‬بالفعل‪ ،‬عن العالقة بين فروق كيفية‪ ،‬فهو يشّك ل كلية‬
‫لهذه الفروق تكمن عّلتها في طبيع ة الش يء بال ذات‪ .‬وتفلت ه ذه العالق ة من ت أثير‬
‫القوانين‪ ،‬ذلك بقدر م ا يك ون له ا ج انب يتس م بالتن اظم‪ ،‬ولكنه ا تتج اوز المس اواة‬
‫والتك رار‪ .‬وفي ال وقت نفس ه تؤك د الف روق نفس ها ال كف روق في تعارض اتها‬
‫وتناقضاتها‪ ،‬بل كوحدة متناسقة تبرز للعيان جميع اآلن اء ال تي منه ا تت ألف‪ ،‬لكنه ا‬
‫تحتويها كلها في وضع كل واحد أوحد»([‪.)]30‬‬
‫وهذا هو التعريف األشمل للتناسق‪ ،‬فهو يمّثل كلية الج وانب األساس ية في حين من‬
‫جهة أخرى يمّثل اإللغاء التام لكل االختالفات والتعارضات البسيطة وهذا يعود إلى‬
‫ذلك االتحاد الداخلي في ما بينها والذي يظهر في شكل وحدة كاملة التناس ق ومث ال‬
‫ذل ك‪« :‬األص وات الموس يقية» إذ تؤل ف أص وات من ال درجات األولى والثاني ة‬
‫والثالثة والرابعة… من السلم الموس يقي‪ ،‬فه ذه األص وات النغمي ة على ال رغم من‬
‫اختالف درجاته ا إال أنه ا تتواف ق وتجتم ع في م ا بينه ا على ال رغم من تباينه ا‬
‫واختالفها وتشّك ل وحدة كلي ة تناس قية‪ ،‬وه ذه الوح دة تنجم عن نفي لتل ك الف روق‪،‬‬
‫وبهذا النفي تتوّلد الوحدة ولكن ليس التناسق ه و ال ذي يخل ق ه ذه الوح دة المثالي ة‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬شخصان يقومان بأداء اللحن نفسه ‪ ،‬يق وم على أس اس التناس ق‪ ،‬لكن في‬
‫الحقيقة أن كل لحن من هذه األلحان يختلف عن اللحن اآلخ ر‪ ،‬ولكن ه ذا االختالف‬
‫ليس ظاهرًا‪ ،‬ألن كّل لحن من ه ذه األلح ان يعّب ر عن ذاتي ة أس مى وأك ثر حرية‪،‬‬
‫وبهذا فالتناسق البسيط ال يظهر للعيان‪ ،‬ال الّر وحية وال الحيوية الذاتية‪ ،‬وذل ك ألن ه‬
‫يشكل الدرجة العليا للشكل المجرد والتعبير األّو ل للوحدة المجّردة‪.‬‬

‫‪ – 2‬الجمال بوصفه وحدة مجّر دة للمادة المحسوسة‬


‫يقصد هيغل بالجم ال في الم ادة المحسوس ة‪ ،‬حينم ا تظه ر الم ادة ص افية ط اهرة‪،‬‬
‫وبالتالي اس تبعاد ك ل تباين واختالف‪ ،‬إذ إن ه ذا الص فاء يك ون من حيث الش كل‪،‬‬
‫اللون والصوت؛ وهذا هو العنصر الجوهري المحقق لجمالها‪ ،‬إذًا‪ ،‬جمالها مره ون‬
‫بمدى بصيرتنا تجاهها‪ ،‬وهن ا يعطين ا مث اًال عن الخط وط المرس ومة‪ ،‬وال تي تمت د‬
‫بشكل مطرد‪ ،‬وتكون جلية من دون انحراف إلى اليسار أو إلى اليمين‪ ،‬نج د أنفس نا‬
‫نستريح إليها‪.‬‬
‫كما أن سكون سطح ماء‪ ،‬وصفاء السماء‪ ،‬تبعث كّله ا الرض ا والراح ة في ذواتن ا‪،‬‬
‫أما في م ا يخص األص وات‪ ،‬فك ذلك الص وت الخش ن العك ر يدعو إلى الغم وض‬
‫والنفور‪ ،‬أما الصوت الصافي يبعث فينا االرتياح‪.‬‬
‫يع ُّد الجم ال الط بيعي في رأي هيغ ل ناقص ًا‪ ،‬وه ذا بس بب تن اهي الموض وعات‬
‫الطبيعية‪ ،‬إذ إنه حتى ولو كان العقل اإلنساني م ؤهًال إلدراك المطل ق في الص ورة‬
‫الحسية‪ ،‬إال أنه في المرحلة الحالية مسلوب الّر وح‪ ،‬ومن هن ا ال ب ّد أن يخل ق لذات ه‬
‫موض وعات الجم ال‪ ،‬وبالت الي تنش أ وتظه ر الحاج ة إلى الفّن ففي رأيه الجم ال‬
‫الّط بيعي أدنى مرتبة من الجم ال الفّني‪ ،‬ومن ه «فالجم ال الّط بيعي ليس جميًال في‬
‫ذاته ولذاته‪ ،‬وليس موج ودًا بس بب ظ اهره الجمي ل‪ ،‬وإّنم ا ه و جمي ل بالنس بة إلى‬
‫اآلخرين‪ ،‬أي بالنسبة إلينا نحن‪ .‬أي بالنسبة إلى الوعي المدرك للجمال»([‪ .)]31‬ولكن‬
‫على الرغم من هذا فإّن الجمال الطبيعي هو أول تعبير عن الجمال‪.‬‬
‫إن نقص جمال الشكل الطبيعي يرجع بش كل مباش ر إلى خض وع ه ذا األخ ير إلى‬
‫جملة من الق وانين‪ ،‬ال تي جعلت من ه ناقص ًا ومج ردًا‪ ،‬يعج ز عن تجس يد الص ورة‬
‫الجمالّي ة على الواق ع العي ني‪،‬إذ «إن الفك رة هي الجم ال الكام ل في ذات ه‪ ،‬بينم ا‬
‫الطبيعة من هذا هي جمال ناقص»([‪ ،)]32‬وذلك ألّن الفكرة هي الج وهري الع ام في‬
‫تجسيد مفهوم الجمال الكامل‪ ،‬أي هي وحدة المفهوم وواقعه‪ ،‬بمعنى أن الفكرة يجب‬
‫أن تتّقدم وتتجه نحو الواقع الخارجي لتحقق جمالها‪.‬‬
‫وعلى هذا فالجمال عند هيغل هو الّتجلي المحسوس للفكرة التي هي وح دة المفه وم‬
‫وواقعه وهي الجوهري والعام‪ .‬فالفكرة ليس ت هي الفك رة ب المعنى الحقيقي للكلم ة‬
‫من دون وخارج واقعها‪ ،‬وعليه فالفكرة ينبغي أن تتقدم باتجاه الواقع‪ ،‬وب ذلك تك ون‬
‫كينونتها الفكرية مطابقة للمفهوم وتصبح بذلك هي وحدها الواقعية والحقيقة‪ ،‬وبه ذا‬
‫علينا أن نتصّو ر فكرة الجمال في كينونتها الواقعية‪ ،‬بوصفها عيني ة ذاتي ة‪ ،‬ف الفكرة‬
‫ليست بفكرة إال بقدر ما هي واقعية وتالقي واقعها في الف ردي العي ني‪ ،‬وهن ا نمّي ز‬
‫شكلين من الفردي «الفردي الطبيعي المباشر‪ ،‬والفردي الّر وحي‪ .‬فالفكرة توجد في‬
‫هذين الش كلين‪ ،‬وواح د ه و المض مون الج وهري لكال الش كلين‪ ،‬المض مون ال ذي‬
‫تشكّله الفكرة‪ ،‬وفي المضمار الخاص الذي يعنيها هنا‪ ،‬المضمون الذي تشكله فك رة‬
‫الجمال‪ ،‬لكن أن يكن للجمال الطبيعي‪ ،‬المضمون نفسه ال ذي للمث ال‪ ،‬فمن المهم أن‬
‫نشير أن الفرق القائم بين الشكلين اللذين فيهما تتحقق الفكرة‪ ،‬أي الفرق بين الفردي‬
‫الطبيعي والفردي الّر وحي‪ ،‬هو من منظور آخر فرق جوهري أيضًا بين مضموني‬
‫هذين الشكلين»([‪ ،)]33‬وعلى هذا ال بّد أن نعرف الشكل المناسب الذي يطابق الفكرة‬
‫حتمًا‪ ،‬ألن الفكرة ال تظهر حقيقتها إال في الشكل الذي يطابقها حقًا‪.‬‬
‫من المالحظ دومًا في مجال الطبيعة أن الكائنات الحية ال تحصل على «كينونتها –‬
‫لذاتها‪ ،‬على فرديتها إال بفضل صيرورة تتم بال انقطاع في داخلها وضّد الطبيع ة –‬
‫ال عضوية بالنسبة إليها – تبتلعها وتهضمها وتتمثلها‪ ،‬محول ة الخ ارجي إلى داخلي‬
‫ومحّققة على هذا النحو فحس ب كينونته ا في ذاته ا» ([‪ ،)]34‬يع ني أن ك ل الكائن ات‬
‫وبمختلف أنواعها تعتمد في وجودها وتحقيق ذاتها على غيرها فهي تح ول ك ل م ا‬
‫ه و موج ود في المج ال الخ ارجي إلى داخلي ح تى تبني ذاته ا‪ ،‬وذل ك من خالل‬
‫النشاطات التي يقوم بها نظام أجهزتها الخارجية والداخلي ة ح تى تبقى ه ذه الخليق ة‬
‫على قيد الحياة وبذلك تصبح حياة هذه الخليقة هي حياة الحاجة‪ ،‬ومنّظمة وفق مبدأ‬
‫الغائية‪ ،‬وعلى هذا «فالخليقة الحية ليست حّرة بعد بالق در الك افي لتتمكن من توكي د‬
‫نفس ها ك ذات فردية نقطوية الش كل‪ ،‬على ال ّرغم من امت داد أعض ائها في الع الم‬
‫الخارجي‪ ،‬ويبقى المركز الحقيقي لنشاطات الحياة العضوية خفي ًا علين ا‪ ،‬فال نع اين‬
‫سوى المعالم الخارجية للشكل بدوره بالريش‪ ،‬أو بالفلس‪ ،‬أو بالوبر»([‪.)]35‬‬
‫وهذه الخصائص الحيوانية كلها تمثل دونية العضوية الحيوانية من وجهة الص ورة‬
‫الجمالّية‪ ،‬وذلك أن ما نراه في هذه العضوية هو المظهر الخارجي فقط وليس الحياة‬
‫الداخلية‪ .‬فالشكل الخارجي يبقى خارجيًا وحسب وال يكش ف لن ا األس رار الداخلي ة‬
‫كما أن الشكل الداخلي يبقى داخليًا وحسب وال يتبدى ألنظارنا‪ ،‬أي أّنه ال يوج د أي‬
‫رابط أو صلة تتغلغل داخل الذات ويمكننا من معرفة مكّو ناتها وأجزائها كافة‪.‬‬
‫وهذا ما ينطبق تمامًا على العضوية اإلنسانية فال يمكن أن ندرك منها سوى الش كل‬
‫الخارجي لها من وجه‪ ،‬وأنف‪ ،‬وشعر‪ ،‬ومسام‪ ،‬وأن نقيس ضغط دمه وخفقان قلبه‪،‬‬
‫ولكن على الرغم من هذا توجد العديد من الثغرات على الحياة الداخلي ة ال تتظ اهر‬
‫في كل الواقع اإلنسانّي وذل ك «فالعل ل الباطني ة له ذه األفع ال واألح داث ال تظه ر‬
‫على ال دوام إلى الس طح‪ .‬وال تك ون على ال دوام مرئي ة غ ير المظه ر الخ ارجّي‬
‫لتحقيقها المباشر»([‪ ،)]36‬وهذا يعني أنه ال يتبدى لن ا من كلي ة الف رد س وى واقعيت ه‬
‫الخارجية‪ ،‬أي وجوده الخارجي فقط‪ ،‬من خالل مس اعيه ورغبات ه وأنم اط عيش ه‪،‬‬
‫في حين تبقى الباطنية دفينة ال يمكن الكش ف عنه ا‪ ،‬من ش أنه يش ّك ل لن ا ع ائق في‬
‫إدراك شخصية هذا الفرد وأهوائه التي تشكل جزًء ا من واقعه‪.‬‬
‫كما نجد هذا الفرد دومًا في حالة تبعية للطبيع ة الخارجي ة‪ ،‬إذ ال يس تطيع أن يحق ق‬
‫وج وده بمف رده‪ ،‬إذ نج ده ت ابع إلى مختل ف الق وانين والمؤسس ات االجتماعّي ة‬
‫والسياسّية مسبقة الوجود عليه فال خي ار ل ه‪ ،‬إال أن يمتث ل له ا من دون أن يتس اءل‬
‫ه ل تتف ق أو ال تتف ق م ع داخليت ه‪ ،‬وبه ذا تص بح ذاتي ة الف رد ليس ت بالنس بة إلى‬
‫اآلخرين كلّية في ذاتها وإّنما يصبح الحكم عليها‪ ،‬بما تنطوي علي ه أفعاله ا من نف ع‬
‫مباشر‪.‬‬
‫وانطالقًا مّم ا سبق وذكرناه‪ ،‬نستنتج نتيجة أساسّية وهي أّن «الفكرة تكتس ب بفض ل‬
‫مباشرية الفردي على وجه التحديد وجودًا واقعيًا لكن هذه المباش رية بال ذات تخل ق‬
‫بينها وبين الع الم الخ ارجي عالق ات متع ددة ومتش ابكة‪ ،‬ف الفكرة تص طدم بض غط‬
‫ظروف وأوضاع خارجية‪ ،‬بنس بية الغايات والوس ائل»([‪ .)]37‬وهن ا يك ون الوج ود‬
‫الف ردي المباش ر حس ب داخ ل ذات ه ونتيج ة له ذه العزل ة نج ده يعق د ص الت م ع‬
‫اآلخرين‪ ،‬مما يجعله يسقط في الّتبعّية لألشياء المغايرة لنفسه‪ ،‬ومن ثم تبدو كينون ة‬
‫هذا الوجود منظورًا إليها على أّنها نسق من العالق ات بين األف راد‪ ،‬وك ّل نس ق من‬
‫هذه األنساق يستخدم كوس يلة في خدم ة غايات أجنبي ة غريبة عن ه أي أن ه يك ون‬
‫بحاجة إلى ما هو خارجي ليستخدمه كوسيلة‪.‬‬
‫وعلى هذا فإن «الفكرة بوجه من العموم ال تتحّق ق هن ا إال على ص عيد الخارجي ة‪،‬‬
‫يتراءى للم رء وكأن ه يش هد انفالت العس ف والمص ادفة وهجم ة البؤس واإلمالق‬
‫الّروحيين»([‪ ،)]38‬وهنا الفكرة تكون قد حّققت ك ل مظه ر من مظاهره ا على ح دة‪،‬‬
‫وذلك أن الرابط بين الموجودات منفصل آٍت من الخ ارج‪ ،‬كأّن ه ض رورة خارجي ة‬
‫تفرضها تابعيات عدة كما يفرضها الواقع‪ ،‬إذ نجد العضوية اإلنسانية في وجوده ا‪،‬‬
‫تواجه حالة من التبعية للقوى الطبيعية الخارجية‪ ،‬إذ نجدها تتعّرض إلى العديد من‬
‫األمراض وشّتى صنوف الحرمان والبؤس‪ ،‬وه و ب ذلك يك ون أس ير في ش بكة من‬
‫ظروف خصوصية وعوائق وشروط نسبية ونتيجة لهذه األس باب كله ا يبدو الف رد‬
‫محروم من تلك الحيوية وتلك الحرية اللتين هما في أساس الجمال‪.‬‬
‫وعلى هذا فإّن العالم الطبيعي هو عالم متقلب ومتناه مليء بالّص راعات وتش ابكات‬
‫النسبية والضغوطات التي ال يستطيع الفرد الّتملص منها وب ذلك ف الفرد يبقى دوم ًا‬
‫في حالة من التبعية لما ليس هو‪.‬‬
‫أخ يرًا‪ ،‬تكمن محدودية الوج ود الف ردي في أّن «ك ل ف رد حّي منتم إلى الع الم‬
‫الحيواني يندرج قبل كل شيء في عداد نوع محدد‪ ،‬محدود‪ ،‬وبالّتالي ث ابت‪ ،‬يتع ّذ ر‬
‫عليه تخّطي حدوده»([‪ ،)]39‬إذ إّن الفرد هنا يخضع إلى حدود غير قابل ة إلى الّتخطي‬
‫وهي متأتّية من الّش روط الخارجّية إذ إّن كل فرد يخضع إلى تبعي ة ولكنه ا تختل ف‬
‫وفق المصادفات والمظاهر الخارجّية‪ .‬وهذا بدوره يقض ي على االس تقالل الف ردي‬
‫والحرية ومنه يؤثر بشكل مباشر على المنظر الجمالّي ‪ .‬وهذا ما يجعل ال ّروح يبقى‬
‫ع اجزًا‪ ،‬في تن اهّي الوج ود في تح دده وتبعيت ه الخارجّي ة‪ ،‬الس تعادة اس تقالليته‬
‫وحريته يسعى إلى البحث عن مستوى أعلى من هذا المس توى لتلبي ة ميول ه‪ ،‬وه ذا‬
‫المستوى هو الفّن ‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫في ختام هذا البحث‪ ،‬نستخلص أن فلسفة هيغ ل الجمالّي ة‪ ،‬ك ان له ا أعظم أث ر على‬
‫فلسفة القرن العشرين‪ ،‬وذل ك ألن هيغ ل على ال رغم من ت أثره بالفالس فة الس ابقين‬
‫عليه‪ ،‬إال أنه كانت له رؤية بعيدة األفق جعلت من فكره ينحو منحى آخر‪ .‬لقد س مح‬
‫لنا هذا البحث والمتابعة المسيحية التاريخية من ناحية‪ ،‬والّتحليلّية من ناحية أخرى‪،‬‬
‫إلى احتساب أن الّتص ور الهيغلّي للجم ال حلق ة أساس ية‪ ،‬متالحم ة ومتواص لة في‬
‫تاريخ الفكر الفلسفّي عمومًا‪ ،‬وفي تاريخ علم الجمال خصوصًا‪ ،‬هي حلقة متواصلة‬
‫مع ما سبقها من أفكار جمالية سواء كان هذا عند القدماء الّش رقيين وم ا تمّي زت ب ه‬
‫من ابتعاد من الحقيقة وخضوعها لط ابع ارس تقراطي متج ه اتجاه ًا ديني ًا اص طبغ‬
‫بالطابع الّروحي‪ .‬ثم كان داخ ل الثقاف ة اليوناني ة ت ارة بتجاه ل الحقيق ة المحسوس ة‬
‫على أساس انعكاس ضعيف ومبهم لعالم آخر رائ ع ومتكام ل وه ذا م ع أفالط ون‪،‬‬
‫وتارة أخرى مع أرسطو بالبحث عن األفكار العامة والعالمي ة وال تي س اعدت على‬
‫قيام العلوم الطبيعية ووضعت منهجًا للتفك ير لق رون طويل ة‪ .‬وهن اك ع دة ق راءات‬
‫تاريخية مختلفة إلى كانط الذي عّبر عن نظريته في الجمال من خالل مصّنفه «نق د‬
‫الحكم» والذي يعّد مقّد مة ال غ نى عنه ا في علم الجم ال‪ ،‬وخاص ة باتجاه ه للبحث‬
‫عن عناصر أولية سابقة على التجرب ة‪ .‬وبالت الي ت بّين لن ا أن ه يق دم تحليًال فلس فيًا‪،‬‬
‫يؤكد به استقالل ملكة الشعور بالجمال عند اإلنسان عن ملك ة المعرف ة ال تي تعتم د‬
‫على النش اط العقلي‪ ،‬وتس تقّل عن ملك ة الس لوك األخالقي ال ذي يعتم د على ملك ة‬
‫اإلرادة في اإلنسان‪ ،‬ومنه ُيحدد الشروط األساسية في الحكم على الشيء الجميل‪.‬‬
‫كما أظهر لنا هذا البحث كي ف ت أّثر هيغ ل به ذا اإلنت اج الفك ري الوف ير في فلس فة‬
‫الجمال‪ ،‬ليبني طرحًا جديدًا في ميتافيزيقا الجمال‪ ،‬مؤكدًا على أن الجمال يتجّسد في‬
‫الفكر وليس في المظهر والشكل الخارجي وعلى هذا نجد أنه يمّي ز بين ن وعين من‬
‫الجمال الطبيعي والفّني‪ ،‬فالجمال الطبيعي يرفضه تمامًا ألنه تقليد ومحاكاة وبالتالي‬
‫يكون خاليًا من أي إبداع ذهني‪ .‬في حين نجد هيغ ل يعلي من درج ة الجم ال الفّني‪،‬‬
‫ألنه وليد فكر اإلنسان وروحه‪ ،‬وما دام أن هذا الفّن وليد العقل‪ ،‬وال بد من ضرورة‬
‫أن يكون وسيلة لتمرير األفكار والحقائق‪ ،‬وهنا يصبح الفّنان فيلسوفًا‪ .‬وهذا م ا أك د‬
‫عليه هيغل في كل أبحاثه على أن مهمة الفّنان هي الّتعبير عن ال ّروح المطل ق وإذا‬
‫فشل في التعبير على هذا يصبح فنه ال قيمة له وال جدوى منه‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬الجمال الفّني هو وحده الذي يكفل التوحي د بين الفك رة والش كل‪ ،‬ألن ه ينبع من‬
‫روح اإلنسان وجوهره‪ ،‬وليست الرغبة هي م ا يرب ط اإلنس ان بالعم ل الفّني؛ ألن‬
‫الحكم الجمالّي موضوع للفكر والتأمل غير أن التأم ل الجم الّي يختل ف عن التأم ل‬
‫في العالم‪ ،‬ألن التأمل الفّني حسي والتأمل في العلم جوهري‪.‬‬
‫لقد تبّين لنا أخيرًا‪ ،‬أن معرفة حاجة اإلنسان إلى النشاط الجمالّي تنبع من رغبته في‬
‫معرفة نفسه‪ ،‬وتلبية احتياجات روحية عميقة لديه‪ ،‬ومن ه فاإلنس ان في تلقي ه للعم ل‬
‫الفّني يتأّم له دون أن يستهلكه‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬كان عرضنا لرؤية جديدة ومغ ايرة لم ا س بق وطرحن اه ألهم المح اور في‬
‫فلسفة هيغل الجمالّية‪.‬‬

You might also like