You are on page 1of 9

‫الفصل الثالث‬

‫العلوم والفنون‬
‫(‪ )١‬العلم الهندوسي‬
‫ال يطمعَّن القارئ أن يجد في هذا الكتاب ما يجده في كتاب «حضارة العرب» من فصول كثيرة عن حال العلوم‪ ،‬فالعرب إذ نقلوا إلى‬
‫الجامعات األوربية كنز العلوم المتراكمة الذي انتهى إليهم من العالم اإلغريقي الالتيني بعد أن وسَّع وا دائرته بما أضافوا إليه كثيًر ا‬
‫كان من المفيد دراسة حال العلوم عندهم في إبان سلطانهم‪ ،‬وال نجد مثل هذه الفائدة عند الهندوس؛ فالهندوس‪ ،‬خالًف ا للرأي القديم‪ ،‬قد‬
‫اقتبسوا معارفهم العلمية من األمم التي كانوا ذوي عالئق بهم فلم يعرفوا كيف ُيسِّيرونها إلى األمام‪ ،‬فدراسة العلوم لدى الهندوس في‬
‫زمن ما تعني دراسًة لتاريخ علوم األمم التي كانت لهم صالت بها مما يخرجنا من نطاق هذا الِّس ْف ر‪.‬‬
‫ويفِّس ر ما قلناه في فصل آخر عن مزاج الهندوس النفسي عدم إضافتهم شيًئ ا ذا بال إلى العلوم التي تلقوها من األجانب‪ ،‬فالروح‬
‫الهندوسية القوية في الفلسفة والدقيقة في الفنون عاطلٌة من الضبط واإلحكام الضروريين للبحث الُمْج ِدي في العلوم‪ ،‬ففي هذا سر‬
‫ضعف الروح الهندوسية في المعارف الهندوسية‪ ،‬فالحق أن الروح الهندوسية إذا كانت قادرة على هضم ما وصل إليه غيرها من‬
‫نتائج العلوم‪ ،‬فإنها ال تستطيع أن تسير إلى ما هو أبعد من هذا‪.‬‬
‫واألمتان اللتان اقتبس الهندوس منهما معارفهم العلمية هما اإلغريق والعرب‪ ،‬وترانا نجهل كيفية انتشار العلم اإلغريقي في الهند‪،‬‬
‫ولكن مباني شمال الهند الشرقي التي درسناها في فصل آخر تثبت أن الهندوس كانت لهم صالت دائمة بإغريق بقطريان‪ ،‬فمن‬
‫المحتمل أن يكون العلم اإلغريقي قد انتقل إليهم عن هذه الطريق‪ ،‬فكان ما نعلمه من امتالء أقدم كتب الهندوس في الفلك‪ ،‬ككتب وراها‬
‫ميهيرا الذي عاش في القرن السادس بأجين‪ ،‬من االصطالحات والمراجع اإلغريقية‪.‬‬
‫وأسهل من ذلك بيان الكيفية التي انتقل العلم بها إلى الهند بياًن ا صحيًح ا‪ ،‬فالعرب‪ ،‬كما قلنا في فصل سابق‪ ،‬كانت لهم قبل الميالد بزمن‬
‫طويل صالت تجارية منظمة بالهند‪ ،‬وبواسطة العرب كان الغرب يتصل بالشرق في القرون القديمة‪ ،‬فلما فتح أتباع محمد العالم‬
‫القديم‪ ،‬بعد حين‪ ،‬دامت صلة إحدى األمتين باألخرى‪ ،‬فروى مؤلفو العرب وجود كثير من علماء الهندوس في بالط الخلفاء ببغداد‪،‬‬
‫ولما مَّر ت األيام ففتح ورثة الخلفاء من المسلمين الهند تِبَع هم علماء فداوموا على نشر معارف الغرب فيها‪ ،‬ومن هؤالء العلماء أذكر‬
‫البيروني الشهير صديق فاتح الهند األول محمود الغزنوي‪ ،‬فقد ساح هذا العالم في الهند في القرن الحادي عشر‪ ،‬ونشر فيها علوم‬
‫العرب التي كانت مزدهرة في ذلك العصر أيما ازدهار‪ ،‬فكانت تقوم على ما ورثه العرب من معارف الغرب القديم وما أضافوه إليه‬
‫من االكتشافات‪ ،‬فبذلك أضحى العلم الهندوسي ال يكون بعد القرن الحادي عشر غير علم العرب‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ليست كتب العلم الهندوسي‪ ،‬التي تترَّج ح بين كتب آريابهاتا الرياضية المؤلفة في القرن الخامس من الميالد وكتب َبَر ْه َم اغبتا‬
‫المؤلفة في القرن السادس وما أِّلف إلى أيامنا‪ ،‬غير مشتملة على سوى المعارف العلمية التي دخلت الهند بتلك الطرق‪ ،‬وأهم تلك‬
‫الكتب معروٌف لدينا اليوم‪ ،‬ونعرف منها أن مؤلفيها لم يحققوا في أِّي علم أَّي تقُّدم يذكر‪ ،‬وما كان يدور حول ِقَد م علم الفلك الهندوسي‬
‫ودَّق ته من األفكار قد ُأهمل تجاه الدراسات التامة فأصبحت هذه األفكار غير جديرة بعناية أحد‪.‬‬
‫وال تبدو القضايا العلمية الجديدة القليلة جًّد ا‪ ،‬التي ُت رى في كتب الهندوس‪ ،‬إال على شكل لمحات مبهمة عاطلة من أي برهان‪ ،‬ومن‬
‫ذلك أن العالم الفلكي آريابهاتا ذكر في القرن الخامس‪ ،‬في بضعة أسطر‪ ،‬حركة األرض اليومية حول محورها من غير أن يأتي‬
‫بدليل‪ ،‬ومن ذلك أن بهاسكراجاريه جاء في القرن الثاني عشر‪ ،‬كما يظهر‪ ،‬برأي مبهم حول حساب الكمية الصغرى من غير أن‬
‫ينتهي إلى شيء‪.‬‬
‫ومما تقدم ترى أنه يجب أال ُيعزى إلى الهندوس‪ ،‬على العموم‪ ،‬أُّي إبداع في حقل العلوم‪ ،‬والهندوس‪ ،‬إذ لم نقدر على إسناد أي شيء‬
‫أساسي إليهم‪ ،‬نرى من غير المفيد أن نتكلم عن كتبهم العلمية التي ال نبصر فيها شيًئ ا لم نجده في كتب اليونان والعرب‪.‬‬
‫وَض ْع ف قدماء الهندوس في العلوم النظرية لم يمنعهم‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬من أن يكونوا ذوي معارف عملية على شيء من الرقي‪ ،‬وذلك كما‬
‫يبدو من فن عمارتهم القديم ومن فنونهم الصناعية‪ ،‬فالهندوس كانوا يعرفون صنع الزجاج والدباغة والتقطير واستخراج المعادن‬
‫وصنع الفوالذ وتحضير بعض األمالح المعدنية‪َ ،‬ب ْيَد أن هذه المعارف العملية‪ ،‬التي هي وليدة التجربة والتي نعد مصدر غير واحد‬
‫منها أجنبًّي ا‪ ،‬ظَّلت بعيدة من ميدان النظريات والمبادئ العامة ُبعًد ا ال تستحق معه أن تسمى بالعلم‪ ،‬أجل‪ ،‬إن التجربة قد ُتعِّلم الصبي‬
‫استعمال العصا في إزاحة حجر واستعمال مقذفين في دفع زورق واستعمال بكرة في رفع األثقال‪ ،‬غير أن هذا الصبي ال يصل إلى‬
‫مرتبة المعارف العلمية إال حين يعلم أن العصا والمقذف والبكرة تطبيقاٌت لمبدأ واحد‪.‬‬
‫وما أتيناه من األحكام القاسية العادلة في علم الهندوس وآدابهم غير ما أتيناه في فن عمارتهم وما نقوله‪ ،‬بعد قليل‪ ،‬عن فنونهم األخرى‪،‬‬
‫وال يعتري القارئ العاِلم بروح األفراد واألمم َد َه ٌش من ذلك‪ ،‬فوجود أمة َت ْف ُض ل جميع األمم في جميع فروع المعارف البشرية ال تراه‬
‫في غير كتب التاريخ وخيال الجماهير‪ ،‬وضالٌل كهذا مما يدل عليه االختبار الدقيق‪ ،‬وال مراء في أن األمة‪ ،‬كالفرد‪ ،‬تكون بحسب‬
‫مزاجها النفسي متفوقًة في فرع من المعارف البشرية‪ ،‬على أن تكون متأخرة في الفروع األخرى‪ ،‬وال نجد أفضلية جامعة لكل فرع‪،‬‬
‫وغير كثير ما يبدو هذا في الحقل الذهني فَن ْق ِد ر على ربط فروعه في سلسلة واحدة‪ ،‬نعم إنني أرى تفُّو ق ذوات الُّث ِدِّي على األسماك؛‬
‫لما أجده من كون جهازها العصبي أرقى من جهاز األسماك العصبي‪ ،‬ولكنني إذا ما قايست بين فيدياس ونيوتن وديكارت وقيصر لم‬
‫أجد وسيلة إلثبات أيهم أفضل من اآلخرين‪ ،‬فالتفوق الفني مستقل عن التفوق العلمي‪ ،‬وكثيًر ا ما يناقضه‪ ،‬وهو يتطلب‪ ،‬بالحقيقة‪ ،‬طراز‬
‫تفكير وإحساس خاًّص ا وُط ُر َز نظر إلى الحياة واألمور خاصة‪ ،‬فيندر أن يجتمع كال التفوقين‪ ،‬إذن‪ ،‬في أمة واحدة‪ ،‬فالعالم يحلل‬
‫الحوادث‪ ،‬ويسعى في رؤية األشياء كما هي غير مباٍل بجمالها وقبحها‪ ،‬وعكس ذلك أمر المتفنن والشاعر اللذين يجَّدان في تزيين‬
‫األشياء وإبدائها بعواطفهم على غير ما هي أو على ما هي في أحوال شاذة‪ ،‬وإال عاد المتفنن ال يكون متفنًن ا وعاد الشاعر ال يكون‬
‫شاعًر ا‪ ،‬حًّقا أننا ال نعلم أمًة وصلت إلى مثل ما وصل إليه األوربيون من الرقي العلمي في القرن التاسع عشر‪ ،‬ولكن مما ال ريب فيه‬
‫أن كثيًر ا من األمم‪ ،‬فضاًل عن اإلغريق‪ ،‬بلغت درجة من الفن أرفع من التي وصل إليها األوربيون بمراحل‪ ،‬فليس عصر البخار‬
‫والكهرباء بالعصر الذي تبلغ فيه الفنون ذروتها‪.‬‬

‫شكل ‪ :١-٣‬غولكوندا‪ .‬دقائق زخرف في مقدم مزار ملكي‪.‬‬


‫إذن‪ ،‬يجب أال ُيستنبط مما قلناه أية نتيجة لمصلحة الهندوس أو لغير مصلحتهم‪ ،‬فليس بتقدمهم الفني وحده أو بتأخرهم العلمي وحده ما‬
‫يمكن الحكم في أمرهم‪.‬‬
‫(‪ )٢‬الفنون الهندوسية‬
‫خصصنا عدة صفحات من كتابنا «حضارة العرب» إلثبات أهمية اآلثار الفنية في بعث حضارة أحد األدوار‪ ،‬فقلنا فيه إن المتفنن‬
‫والكاتب ال يصنعان غير اإلفصاح عن مشاعر الزمن الذي يعيشون فيه واحتياجاته ومعتقداته على شكل منظور فكان ما انتهى إلينا‬
‫من آثار أحد األجيال األدبية والفنية أحسن صفحات التاريخ‪ ،‬ومما ذكرناه هنالك أن استقالل المتفنن والكاتب ليس في غير الظواهر‪،‬‬
‫وأنهما مكَّبالن‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬بقيود من المؤثرات واألفكار والمعتقدات التي يتألف منها ما يسمى روح العصر القوية التي ال يستطيع‬
‫أكثر الناس حرية أن يتخلص من سلطانها غير الشعوري‪ ،‬وأنه إذا كان لكل جيل آدابه وفنونه فألن له احتياجاته ومعتقداته التي ُتعرب‬
‫عنها‪ ،‬ومما ذكرناه‪ ،‬أيًض ا‪ ،‬أن فنون أحد العروق إذ كانت‪ ،‬كُنُظ مه‪ ،‬وليدة مزاجه النفسي فإن من المتعذر على ِع رق آخر أن ينتحلها‬
‫من غير أن ُيَح ِّو لها‪ ،‬وأن فن العمارة العربي لم يتحول في الهند وحدها‪ ،‬بل تحول في مختلف البلدان التي فتحها المسلمون فكان هذا‬
‫الفُّن أحسَن مثال على هذه المطابقات‪.‬‬
‫ثم درسنا في كتابنا «حضارة العرب» مزاج أحد العروق الفني فوجدنا أنه يقوم على السرعة التي يضع بها طابعه الخاَّص على‬
‫الفنون السابقة التي ينتحلها منذ دخوله ميدان الحضارة‪.‬‬
‫شكل ‪ :٢-٣‬غولكوندا‪ .‬داخل ضريح ملكي‪.‬‬
‫ومما ذكرناه هنالك أن بعض الشعوب تقتبس من مختلف الجهات ما يالئم احتياجاتها من غير أن تضيف إليه شيًئ ا جديًد ا‪ ،‬وأن شعوًبا‬
‫أخرى تمزج العناصر األجنبية بما يفيض منها فَت ِس ُم هذا كله بطابعها الخاص َو ْس ًما ال يكشف تلك العناصر األجنبية معه غير علم‬
‫راٍق ‪ ،‬وذلك كما اتفق لإلغريق الذين اقتبسوا من اآلشوريين والمصريين فنونهم‪ ،‬وكما اتفق للعرب الذين هضموا الحضارة اليونانية‬
‫الالتينية‪ ،‬وغيُر ذلك أمر الترك وغيرهم من الشعوب العاطلة من العبقرية الفنية‪ ،‬وإيضاًح ا لذلك نقول‪ :‬إنه إذا ما قيس أقدم مساجد‬
‫القاهرة‪ ،‬كمسجد عمرو بن العاص‪ ،‬بآخرها‪ ،‬كمسجد قايتباي‪ ،‬ظهرت قدرة شعب‪ ،‬كالعرب ذوي االستعداد الفني‪ ،‬على تحويل الفنون‬
‫التي اقتبسها من شعب آخر‪ ،‬وأنه إذا ما قيست المساجد التي أقامها الترك في اآلستانة بغيرها من المباني البيزنطية ُو ِج َد أنها نسخت‬
‫بدناءة من كنيسة أيا صوفيا مع إضافة بعض العناصر األجنبية إليها إضافة تدل على عجز الترك عن التحويل‪.‬‬
‫وقد رأينا أن الهند كانت محاًّل الستيالء مختلف الفاتحين‪ ،‬فلنا أن نجد في فنون الهند عدة عوامل أجنبية‪َ ،‬ب ْيَد أن الهندوس كانوا من‬
‫الدهاء ما قدروا به على جعل ما اقتبسوه ذا طابع هندوسي بسرعة‪ ،‬وتناول دهاء الهندوس‪ ،‬أيًض ا‪ ،‬العمارة حيث يصعب إخفاء ما هو‬
‫مستعار فيها‪ ،‬فبدأ أثره واضًح ا فيها‪ ،‬فلم يلبث العمود اإلغريقي الذي اقتبسه متفننو الهندوس مثاًل أن زالت عنه صفته اإلغريقية‬
‫متحواًل إلى عمود هندوسي‪ ،‬والهندوس إذا ما وضعتم بين أيدي متفننيهم أيَة أداة فنية أوربية أبصرتم هؤالء المتفننين يجردونها من‬
‫صفتها الغربية بتجسيم بعض أجزائها وزيادة زخارف بعضها اآلخر‪ ،‬مع الرضى بشكلها العام على ما ُيحتمل‪.‬‬
‫وما اقتبسه الهندوس من العناصر األجنبية في فن البناء فقليٌل إلى الغاية أو محدود المكان على األقل كما رأينا‪ ،‬وما اقتبسوه منها في‬
‫الفنون األخرى فعظيم جًّد ا‪ ،‬ولكن جميع ذلك لم يلبث أن تغير بما حَّو لوه به فأصبح تمييزه متعذًر ا‪.‬‬
‫وإذا سألت عن مبدأ الزخرف الهندوسي العام رأيته يتصف بزيادة المبالغة وفرط الغلو في الجزئيات التي هي أبرز ما تشاهده في‬
‫آثارهم األدبية والدينية والفلسفية‪ ،‬والمرء إذا ما درس فنون الهندوس على الخصوص أدرك درجة عالئق آثار أحد العروق الشاخصة‬
‫بمزاجه النفسي‪ ،‬وأيقن أنها أوضح لسان لمن يستطيع أن يفسرها‪ ،‬فالحق أن الهندوس لو غابوا عن التاريخ كاآلشوريين لكفت نقوش‬
‫معابدهم البارزة وآثاُرهم الفنية وتماثيُلهم إلطالعنا على ماضيهم كما نعرفه اليوم‪ ،‬وأنت تعلم أننا توَّص لنا‪ ،‬بدراسة التماثيل والمعابد‪،‬‬
‫إلى معرفة تاريخ الُبَّدِهَّية معرفًة أصح مما ورد في الكتب‪.‬‬
‫ظلت الهند أغنى بالد العالم آالًف ا من السنين‪ ،‬وازدهرت الفنون فيها على الدوام مهما كان نوع الفتن التي حركتها‪ ،‬وما َف ِتَئ ت األمم‬
‫تبحث منذ أقدم أدوار التاريخ عن أدوات الهند الفنية وحليها ونسائجها حتى صار من الممكن أن يقال‪ :‬إنها استنزفت مال الدنيا في‬
‫ألوف السنين‪ ،‬أجل‪ ،‬إن الثورات وتبديل األسر المالكة مما كان يؤدي إلى انتقال الثروات بين حين وحين‪َ ،‬ب ْيَد أن هذه الثروات كانت‬
‫تبقى في الهند فيستعملها مالكوها الجدد‪ ،‬كأسالفهم‪ ،‬في َش ْيد المباني والقصور واقتناء النفائس وتشجيع الفنون التي هي من أغنى‬
‫مصادر البالد‪ ،‬وقد رأينا في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ المغازي اإلسالمية األولى درجة غنى الهند العظيمة ودرجة‬
‫وقف هذا الغنى ألنظار الفاتحين‪.‬‬
‫واليوم صارت بالد الهند أفقر بالد العالم بعد أن كانت أغناها‪ ،‬وبالد الهند قد هزلت بعد أن خضعت منذ قرن لنظام مؤد إلى‬
‫امتصاصها‪ ،‬وبالد الهند قد أخذت تستورد السلع من برمنغم ومانجستر وغيرهما من المدن اإلنجليزية بعد أن كانت تمأل العالم‬
‫بمنتجاتها‪ ،‬والهندوسُّي ‪ ،‬الذي أضحى عاجًز ا عن الوقوف أمام ما تنتجه اآلالت الصناعية األوربية‪َ ،‬ط ِفق يعدل بالتدريج عن فنونه‬
‫القديمة العهد داخاًل زمرة اُألَج َر اء والُّز َّر اع‪.‬‬
‫وقد بينا أن فن البناء شرع يغيب عن الهند منذ رسوخ اإلنجليز فيها‪ ،‬وسيكون مصير أكثر الفنون األخرى مثل ذلك بعد زمن قليل‬
‫على الرغم من تشجيع بعض ذوي النفوس النيرة‪ ،‬وما انفك كبراء األمراء المحليين يفتقرون فال يستطيعون أن َي ُح ُّث وا على التمسك‬
‫بتلك الفنون‪ ،‬وذلك فضاًل عن تملقهم لسادة الهند الجدد باقتنائهم لما تنتجه إنجلترا‪ ،‬والسائح األوربي‪ ،‬الذي يدخل قصور الهندوس‬
‫الغنية‪ ،‬كقصر مهارنا بأوديبور‪ ،‬يقف مشدوًه ا حينما يشاهد فيها أسقاط األمتعة الرخيصة الكريهة التي تخرج من األسواق اإلنجليزية‬
‫بجانب عجائب الهندوس الفنية‪.‬‬
‫ولندع اآلن تلك القواعد الكلية الضرورية ِلَتَفُّهم الفنون الهندوسية باحثين في أهمها باختصار‪.‬‬

‫شكل ‪ : ٣-٣‬حيدر آباد‪ .‬شهر منار والشارع الكبير «ال يكاد تاريخ وجود حيدر آباد يزيد على ثالثة قرون‪ ،‬وتبدو مدينة الهند هذه ذات‬
‫طابع القرون الوسطى اإلسالمي إلى أبعد حد مع ذلك‪ ،‬وتشرف هذه المدينة‪ ،‬وهي التي أنشئت في أوائل القرن السابع عشر‪ ،‬على‬
‫شارعها الكبير‪ ،‬ويتألف من حناياها قوس نصر مطلة على جميع الشارع‪ ،‬ويبلغ ارتفاع الَح ِنَّية الكبرى ‪ ١٥‬متًر ا‪ ،‬ويبلغ ارتفاع كل‬
‫واحدة من المناور ‪ ٥٦‬متًر ا‪».‬‬
‫النحت‬
‫ال تجد أمة‪ ،‬كالهندوس‪ ،‬قد اتخذت النحت أداة للزينة‪ ،‬فما في معابد الهندوس ومزاراتهم من التماثيل والنقوش البارزة ُيَع ُّد باأللوف‪،‬‬
‫ويحار المرء تجاه سكوت الكتب الباحثة في فنون الهندوس عن الوثائق الخاصة بالنحت‪ ،‬ونقٌض كهذا مما أشار إليه فيرغوسن‪ ،‬منذ‬
‫زمن طويل‪ ،‬من غير أن يفكر في تالفيه‪ ،‬وال نستطيع أن نطلع على النحت لدى الهندوس بما في بعض كتب األساطير الهندوسية من‬
‫الصور الرديئة المطبوعة بألواح الحجارة‪ ،‬والذي يظهر أن صانعي تلك الصور اختاروا أردأ األمثلة فنجم عن ذلك اعتقاد األوربيين‪،‬‬
‫على غير حق‪ ،‬أن النحت الهندوسي متأخر إلى الغاية‪ ،‬فأطمُع ‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬أن يبدو للقارئ من صور التماثيل التي نشرناها في هذا‬
‫الكتاب َخ َط ل ذلك االعتقاد‪ ،‬فقد وجدُت ‪ ،‬بجانب ما في بهوونيشور وسانجي وإيلورا وأجنتا وبادامي وكهجورا وكنبها كوَن م‪ ،‬إلخ‪ .‬من‬
‫آثار الفن الرديئة‪ ،‬آثاًر ا فنية رائعة ال يقدر رجال الفن بأوروبا على إنكار أهميتها‪ ،‬وما في أوديغيري وبهارت وسانجي ومهابلي بور‬
‫من النقوش البارزة التي نشرناها في هذا الكتاب ُيَع ُّد في كل بلد من أرقى اآلثار ال ريب‪.‬‬

‫شكل ‪ : ٤-٣‬أغرا‪ .‬مقدم القصر األحمر في القلعة «نبدأ بهذه الصورة صور مباني العصر المغولي‪ ،‬أي مباني الهند اإلسالمية منذ‬
‫القرن السادس عشر‪ ،‬ويعزو بعض المؤلفين إنشاء القصر األحمر إلى الملك جهانكير‪ ،‬ويرى كننغهم أن هذا القصر أقدم من زمن ذلك‬
‫الملك بقرن واحد‪ ،‬ويلوح لنا أن هذا القصر هو أقدم مباني المغول بأغرا‪ ،‬ونرى أنه شيد على حسب النماذج الهندوسية التي هي أقدم‬
‫منه‪ ،‬فهو ال يختلف عنها إال بما أضيف إليه من األقواس الفارسية‪».‬‬
‫وإذا نظرت إلى تلك التماثيل من الناحية التشريحية وجدتها غير ُمرضية‪ ،‬وأبصرت فيها األدلة على روح المغاالة العزيزة على‬
‫الهندوس فترى الصدور واألوراك في تماثيل النساء نامية نمًّو ا ال تشاهد مثله في الطبيعة‪ ،‬وترى اآللهة ذات األذرع األربع مما‬
‫يكرهه األوربي‪ ،‬غير أن أكثر هذه الصور ذوات حيوية شاملة للنظر‪ ،‬فهي من هذه الناحية‪ ،‬على خالف تماثيلنا المتصلبة الكئيبة‬
‫المصنوعة في القرون الوسطى وعلى خالف أكثر ما في مصر‪ ،‬وفي عالم اآللهة واألبطال واإلالهات التي تمأل المعابد أكثُر األطوار‬
‫حياًة واألوضاع تنوًع ا‪ .‬فيخيل إلى الناظر إليها أنها توشك أن تنزل من قواعدها لتتقدم نحوه‪ ،‬نعم‪ ،‬إن المنقاش اإلغريقي أدق وأضبط‪،‬‬
‫ولكنه‪ ،‬في الغالب‪ ،‬أبرد‪.‬‬
‫ومن غير المفيد أن نسهب في القول عن التماثيل‪ ،‬فعندي أن عرض صورة صادقة لها أفضل مما يقوم به َنَقَد ُة الفن‪ ،‬فلعل القارئ الذي‬
‫ينظر إلى صور التماثيل التي نشرناها في هذا الكتاب يصبح ذا رأي صائب في الموضوع‪.‬‬
‫والباحث حينما يدرس ُص َو ر التماثيل التي اشتمل عليها هذا الِّس ْف ر ويدقق في التواريخ التي ُذ كرت تحتها يرى‪ ،‬ال ريب‪ ،‬أن قيمة هذه‬
‫التماثيل ليست بحسب أزمنة صنعها‪ ،‬فبينما يشعر بروعة أقدمها‪ ،‬أي بروعة التي أقيم منها في بهارت وسانجي منذ ألفي سنة تقريًبا‪،‬‬
‫يرى رداءة ما أقيم منها في جبل آبو في القرن العاشر وحسن ما أقيم منها في كهجورا في القرن العاشر أيًض ا‪ ،‬وفيما أقيم منها في‬
‫معابد جنوب الهند حديًث ا ما هو جميل وما هو كريٌه‪ ،‬فالحق أنك ال تجد أثًر ا ظاهًر ا للتطور في فنون الهند كما أنك ال تجد أثًر ا ظاهًر ا‬
‫للتطور في آدابها‪.‬‬
‫التصوير‬
‫تندر التصاوير القديمة في الهند مع كثرة اآلثار القديمة المنحوتة فيها‪ ،‬وال تجد من التصاوير في الهند غير ما هو على حيطان معابد‬
‫أجنتا التي ُأنشئت تحت األرض في القرن الخامس من الميالد‪ ١،‬وال َتَن اُظ َر في هذه التصاوير وإن ُأتقن رسمها وكانت ُتِش ُّع حياة كما‬
‫هو ظاهر من الصور التي نشرناها لها‪ ،‬وهذه التصاوير أفضل من التصاوير البيزنطية الباردة‪ ،‬وال شَّك في أنه لم يكن في أوروبا‬
‫حين صنعها رَّس ام قادر على وضع مثلها‪.‬‬
‫ومن دواعي األسف أن ضاعت التصاوير التي ُر سمت في تاريخ متأخر‪ ،‬وما في أقدم المخطوطات‪ ،‬التي ال ترجع إلى ما قبل‬
‫المغازي اإلسالمية‪ ،‬من التصاوير ال ُيجيز لنا أن نفترض أن الهندوس أصبحوا أرقى من أسالفهم بعد زمن‪ ،‬وتخَّر ج الهندوس في‬
‫العصر المغولي على رَّس امي الفرس فكان ما رسموه ابتدائًّي ا عاطاًل من التناظر واالنسجام مع ما فيه من دقة‪ ،‬فالحق أن الهند‬
‫بتصاويرها وآدابها ظلت في حال من التطور مماثل لما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى‪.‬‬
‫الفنون الصناعية «صنع الخشب والمعادن والحجارة الثمينة‪ ،‬إلخ»‬
‫يقصد بكلمة «الفنون الجميلة»‪ ،‬على العموم‪ ،‬فن التصوير وفن النحت وفن العمارة‪ ،‬ويقصد بكلمة «الفنون الصناعية» بعُض الصنائع‬
‫ذات الفائدة العامة كالِّص ياغة والنجارة والترصيع‪ ،‬وما إلى ذلك من المهن التي تقوم على بعض المناهج اآللية‪َ ،‬ب ْيَد أن هذا التصنيف‬
‫إذا كان مالئًما لما في الغرب الذي يتدَّر ج إلى العمل اآللي فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى صنائع الشرق التي تقوم على حذق العامل‪،‬‬
‫فمما ال جدال فيه أن الفَّن مستقل عن تطبيقاته‪ ،‬فتراني أعلم أن صنع إناء مرَّصع أو ِم قَب ض ِخ ْن َج ر قد يتطلب من الفن والخيال‪ ،‬مثاًل ‪،‬‬
‫أكثر مما يتطلبه إنشاء بناء ذي خمس طبقات أو إنشاء محطة خط حديدي‪ ،‬فإذا اتخذُت كلمة «الفنون الصناعية» عنواًن ا للفنون‬
‫الحقيقية فِلُمجاراة التقسيمات التي اصُط ِلح عليها‪.‬‬

‫شكل ‪ :٥-٣‬أغرا‪ .‬دقائق عمود حجري منقوش في القصر السابق‪.‬‬


‫وما في المتحف الهندي بلندن من اآلثار يجعل دراسة الفنون الصناعية الهندوسية أمًر ا سهاًل ‪ ،‬وبلغت دراسة هذه اآلثار من الكمال ما‬
‫ال ُيفيد معه تفصيل موضوع َقَت له بيرد وود وأجفالفي وكيبلينغ وغيرهم من العلماء بحًث ا وتمحيًص ا‪ ،‬فنحن‪ ،‬إذ نحيل القارئ إلى كتب‬
‫هؤالء للوقوف على وصف تلك اآلثار وصًفا صناعًّي ا‪ ،‬نقتصر في هذا الكتاب على البيان اإلجمالي ُمتِّمين له بصور مقتبسة مما في‬
‫المتحف الهندي‪ ،‬ومما جلبناه في أثناء سياحتنا في الهند من األدوات‪٢.‬‬
‫ومن أكثر صناعات الهند استعمااًل منذ أقدم األزمان أذكر صناعة المعادن فأضعها في الصف األول‪ ،‬وعلى ما أَّدت إليه الحروب‬
‫والمغازي الكثيرة التي كانت الهند مسرًح ا لها‪ ،‬ال ريب‪ ،‬من ندرة األدوات القديمة ال نزال نملك من هذه األدوات بعض ما ُصِنع من‬
‫المعدن قبيل الميالد‪ ،‬كالصندوق الُبَّدِهي الذي وجد داخل قبة ُبَّد ِهية بوادي كابل مع نقود ُيستدل منها أنه ُأنشئ حوالي منتصف القرن‬
‫األول قبل ظهور المسيح فنشرنا صورته في هذا الكتاب‪ ،‬فهذا الصندوق قد ُصنع‪ ،‬كأدوات تلك الُبقعة‪ ،‬على حسب الفن اليوناني‬
‫الهندوسي الذي أوضحنا أصوله في فصل آخر‪.‬‬
‫وحازت البقاع المجاورة لكابل‪ ،‬ككشمير والَب ْن َج اب‪ ،‬قصب السبق في صناعة األدوات الذهبية والفضية كما تدل عليه النماذج التي‬
‫نشرنا صورها في هذا الِّس ْف ر‪ ،‬وفي الهند يصنع القوم أدوات الذهب والفضة والنحاس والبرونز بما يقضي بالعجب‪ ،‬وفي الهند بعُض‬
‫المناطق‪ ،‬كتانجور في جنوب الهند‪ ،‬اشتهر بصناعة البرونز المرَّص ع بالنحاس األحمر والفضة فنشرنا نموذًج ا ملَّو ًن ا لها‪.‬‬
‫والقوم في الهند‪ ،‬إذ كانوا ال يستعملون القاشانَّي وال الخزف المطلي بالميناء في أمورهم المنزلية راغبين في البرونز والنحاس‪َ ،‬ت ِج د‬
‫صناعة هذين المعدنين عندهم راقية‪ ،‬فتبصر حسًن ا‪ ،‬أحياًن ا‪ ،‬في بعض اآلنية المستديرة الُم َخ َّصرة في أعالها فتصُلح لحمل الماء‬
‫وحفظه‪ ،‬وما صنع من هذه اآلنية قديًما خيٌر مما يصنع اليوم فتراه اليوم نادًر ا إلى الغاية‪ ،‬وفي المتحف الهندي بلندن من هذه األواني‬
‫ما يرجع تاريخه إلى القرن الثاني من الميالد فصدر عن كولو مشتماًل على أطوار من حياة ُبَّدهة‪.‬‬

‫شكل ‪ :٦-٣‬أغرا‪ .‬منظر القلعة المغولية الخارجي «بدأ الملك أكبر بإنشائها في سنة ‪».١٥٧١‬‬
‫ولم يقتصر ِحذق الهندوس على صناعة الذهب والنحاس والبرونز وحدها‪ ،‬بل كانوا ماهرين في صناعة الحديد أيًض ا‪ ،‬وذلك كما‬
‫يظهر من العمود الحديدي الشهير الذي أمر بصنعه الملك دهاوا فُيَر ى اآلن في مسجد قطب القديم بدهلي‪ ،‬فهذا العمود قد أنشئ في‬
‫القرن الرابع من الميالد‪ ،‬ولم َي ْس ِط ع األوربيون أن يصنعوا ما هو بضخامته إال منذ زمن قريب بفضل ما انتهوا إليه من الوسائل‬
‫الكثيرة التعقيد‪.‬‬
‫وصناعة ترصيع المعادن المعروفة بصناعة التكفيت‪ ،‬وصناعُة تلبيس المعادن تلبيًس ا جزئًّي ا أو ترصيعها بالميناء الكثيف أو الشفاف‬
‫‪ ٣‬مما زاولته الهند منذ زمن طويل بإتقان لم يوَّف ق األوربيون لمثله قط‪.‬‬
‫وصناعة الحلي في الهند‪ ،‬وإن لم ُت نتج ما يالئم الذوق األوربَّي ‪ ،‬تساوي بدقتها أهم ما يصنع في أوروبا ال ريب‪.‬‬
‫ويصنع الهندوس الزجاج وينحتون الحجارة الكريمة‪ ،‬وفاق األوربيون الهندوس في ذلك‪ ،‬ال في صناعة العاج والخشب المرَّصع‪.‬‬
‫َو ُتَع ُّد األسلحة الفوالذية من أهم ما تنتجه الصناعة الهندوسية‪ ،‬ال من حيث غنى زخرفها وجمال ترصيعها وحدهما‪ ،‬بل من حيث نوع‬
‫فوالذها الذي طبقت شهرته القرون القديمة بأجمعها أيًض ا‪ ،‬وعند ِبْر د ُو ود أن نصال دمشق الذائعة الصيت كانت ُتصنع من الفوالذ‬
‫الهندوسي‪ ،‬وامتدح كَّت اب اإلغريق فوالَذ الهند‪ ،‬وكان يستحصل أجوده بالحديد الممغنط‪.‬‬
‫ولم يلبث الهندوس أن انتحلوا جميع الصنائع التي عرفتها األمم الفاتحة للهند فأتت بها من بالد فارس أو من أوروبا فحَّو لوها كما‬
‫أشرت إلى ذلك آنًف ا‪ ،‬وال يزال القوم يزاولون في أغرا صناعة ترصيع الرخام األبيض‪ ،‬التي هي من أصل إيطالي‪ ،‬بالحجارة الثمينة‬
‫كالزبرجد والفيروز والَي ْص ب والعقيق والَج َم ْس ت والالزورد إلخ‪ ،‬وفي أغرا بلغت هذه الصناعة درجة رفيعة أيام ملوك المغول‪ ،‬فكان‬
‫هؤالء الملوك ُيلبسون قصورهم تلك الزخارف‪ ،‬ويمكن القارئ أن يدرك تأثير ذلك في النفس من صورة داخل قصر ملوك المغول‬
‫بدهلي‪.‬‬
‫شكل ‪ : ٧-٣‬أغرا‪ .‬قبة القصر المغولي الرخامية في داخل القلعة «القرن السادس عشر من الميالد‪».‬‬
‫وال تزال الهند تصنع النسج الحريرية والبسط والشاالت بإتقان لم يتفق مثله للغرب إال بمشقة‪َ ،‬ب ْيَد أن تقليد األوربيين لهذه المنتجات‬
‫الفاخرة وبيعهم ما يقلدونه بثمن بخس مما ينذر بأفولها في وقت قصير‪.‬‬
‫ومع أن القوم يمارسون صناعة الخزف في كل مكان بالهند فإنهم دون األوربيين فيها‪ ،‬وتجد‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬روعًة في كثير من‬
‫مصنوعاتهم الخزفية الملونة‪.‬‬
‫وذاع فن ستر المباني بالخزف المطلي بالميناء في شمال الهند الغربي منذ الفتوح اإلسالمية‪ ،‬وأصل هذا الفن فارسي كما تشهد به‬
‫أطالل أقدم القصور ببالد فارس‪ ،‬وقد اسُتبدل َط ْل ُي الجِّص بهذا الفن في الوقت الحاضر كما تشهد بذلك الضرائح الملكية العصرية في‬
‫غولكوندا مثاًل ‪ ،‬وليس في طراز الزينة هذا ما هو متين مع أن الخزف المطلي بالميناء ال يفنى‪ ،‬وما تراه في جميع الشرق من َس تر‬
‫المباني بالخزف المطلي بالميناء‪ ،‬كما في جامع عمر بالقدس وبعض األبنية بالهور وقصر غواليار إلخ‪ ،‬من أروع ما يستوقف النظر‪،‬‬
‫فالمرُء إذا ما أبصر من بعيد مقَّد م تلك المباني المختلف األلوان كقوس ُقَز ح َظ َّن أنه أمام قصر خيالي شاده الجن‪ ،‬وال شيء يدل على‬
‫فساد تربيتنا المدرسية التقليدية أكثر من َع َط لنا من مهندس أوربي يحاول اقتباس أسلوب الزخرف العجيب هذا في قصر من قصور‬
‫الغرب‪.‬‬

‫شكل ‪ :٨-٣‬أغرا‪ .‬داخل مسجد اللؤلؤ‪ ،‬أنشئ سنة ‪ ،١٦٤٨‬يبلغ رتفاع العمود إلى أسفل التاج نحو ثالثة أمتار و‪ ٦٠‬سنتيمتًر ا‪ ،‬وجميع‬
‫داخل المسجد من الرخام األبيض‪ ،‬وفيه مكتوب‪« :‬لم ير مثله بناء منذ بدء العالم‪».‬‬
‫هنا نختم بحثنا في ِط راز بناء الهندوس وسائر فنونهم‪ ،‬فهذه الفنون‪ ،‬التي نبتت في شعب من الشعراء والمتفننين قوي الخيال والمشاعر‬
‫ضعيف العقل‪ ،‬أسفرت‪ ،‬ذاَت حين كما في منام سحري‪ ،‬عن عالم من القصائد العظيمة والنفائس الباهرة والخياالت الرائعة‪.‬‬
‫لن يعود اإلنسان إلى صنع مثل تلك اآلثار العجيبة التي هي وليدة ماٍض يتوارى مقداًر ا فمقداًر ا في ضباب األجيال‪ ،‬فيجب علينا أن‬
‫نحتفظ ببعضها على األقل‪ ،‬وإن تنازَع الجيِل الحاضر المادي في سبيل الحياة تنازًعا قاسًيا ال يترك لإلنسان مجااًل يرجع به بصره‬
‫إلى تاريخ أجداده في بعض األحيان‪ ،‬فلنتعلم كيف نحترم هذا التاريخ‪ ،‬فتلك الضرائح والمحاريب الصامتة في الوقت الحاضر وتلك‬
‫التماثيل الطاعنة في السن وتلك النقوش البارزة الصائرة إلى الخراب فيكسرها المهندس بمعوله مستخًّفا؛ ليمأل الخنادق فيمد عليها‬
‫خًّط ا حديدًّي ا هي وثائق ماٍض صدرنا عنه وال نلبث أن نصير إليه‪.‬‬
‫هوامش‬
‫(‪ )١‬لم تتفلت هذه التصاوير الممتازة المرسومة على الجدران من يد المرممين المحترفين مع تحديها الزمن‪ ،‬فما عليه هؤالء‬
‫المرممون من قلة الحذق في طالئها أسفر عن إتالف لم ُت سفر عن مثله عشرة قرون‪ ،‬فلما زرتها وجدت الطالء يتقشر من كل ناحية‬
‫جاذًبا التصوير معه فرأيت أجزاء هذا التصوير تتراكم على األرض‪.‬‬
‫(‪ )٢‬أردنا أال نقطع سلسلة صور المباني فوضعنا صور األدوات الفنية بعدها‪.‬‬
‫(‪ )٣‬تألف من األدوات المعدنية المكفتة أو المطلية بالميناء ومن الصناديق الخشبية المحفورة وال سيما صندوق ميسور الذي استوحى‬
‫صانعو وجوهه تماثيل معبد هالييد أهم األدوات التي عرضت في ساوث كنسينغتن سنة ‪.١٨٨٦‬‬

You might also like