Professional Documents
Culture Documents
الفصل الثالث
الفصل الثالث
العلوم والفنون
( )١العلم الهندوسي
ال يطمعَّن القارئ أن يجد في هذا الكتاب ما يجده في كتاب «حضارة العرب» من فصول كثيرة عن حال العلوم ،فالعرب إذ نقلوا إلى
الجامعات األوربية كنز العلوم المتراكمة الذي انتهى إليهم من العالم اإلغريقي الالتيني بعد أن وسَّع وا دائرته بما أضافوا إليه كثيًر ا
كان من المفيد دراسة حال العلوم عندهم في إبان سلطانهم ،وال نجد مثل هذه الفائدة عند الهندوس؛ فالهندوس ،خالًف ا للرأي القديم ،قد
اقتبسوا معارفهم العلمية من األمم التي كانوا ذوي عالئق بهم فلم يعرفوا كيف ُيسِّيرونها إلى األمام ،فدراسة العلوم لدى الهندوس في
زمن ما تعني دراسًة لتاريخ علوم األمم التي كانت لهم صالت بها مما يخرجنا من نطاق هذا الِّس ْف ر.
ويفِّس ر ما قلناه في فصل آخر عن مزاج الهندوس النفسي عدم إضافتهم شيًئ ا ذا بال إلى العلوم التي تلقوها من األجانب ،فالروح
الهندوسية القوية في الفلسفة والدقيقة في الفنون عاطلٌة من الضبط واإلحكام الضروريين للبحث الُمْج ِدي في العلوم ،ففي هذا سر
ضعف الروح الهندوسية في المعارف الهندوسية ،فالحق أن الروح الهندوسية إذا كانت قادرة على هضم ما وصل إليه غيرها من
نتائج العلوم ،فإنها ال تستطيع أن تسير إلى ما هو أبعد من هذا.
واألمتان اللتان اقتبس الهندوس منهما معارفهم العلمية هما اإلغريق والعرب ،وترانا نجهل كيفية انتشار العلم اإلغريقي في الهند،
ولكن مباني شمال الهند الشرقي التي درسناها في فصل آخر تثبت أن الهندوس كانت لهم صالت دائمة بإغريق بقطريان ،فمن
المحتمل أن يكون العلم اإلغريقي قد انتقل إليهم عن هذه الطريق ،فكان ما نعلمه من امتالء أقدم كتب الهندوس في الفلك ،ككتب وراها
ميهيرا الذي عاش في القرن السادس بأجين ،من االصطالحات والمراجع اإلغريقية.
وأسهل من ذلك بيان الكيفية التي انتقل العلم بها إلى الهند بياًن ا صحيًح ا ،فالعرب ،كما قلنا في فصل سابق ،كانت لهم قبل الميالد بزمن
طويل صالت تجارية منظمة بالهند ،وبواسطة العرب كان الغرب يتصل بالشرق في القرون القديمة ،فلما فتح أتباع محمد العالم
القديم ،بعد حين ،دامت صلة إحدى األمتين باألخرى ،فروى مؤلفو العرب وجود كثير من علماء الهندوس في بالط الخلفاء ببغداد،
ولما مَّر ت األيام ففتح ورثة الخلفاء من المسلمين الهند تِبَع هم علماء فداوموا على نشر معارف الغرب فيها ،ومن هؤالء العلماء أذكر
البيروني الشهير صديق فاتح الهند األول محمود الغزنوي ،فقد ساح هذا العالم في الهند في القرن الحادي عشر ،ونشر فيها علوم
العرب التي كانت مزدهرة في ذلك العصر أيما ازدهار ،فكانت تقوم على ما ورثه العرب من معارف الغرب القديم وما أضافوه إليه
من االكتشافات ،فبذلك أضحى العلم الهندوسي ال يكون بعد القرن الحادي عشر غير علم العرب.
إذن ،ليست كتب العلم الهندوسي ،التي تترَّج ح بين كتب آريابهاتا الرياضية المؤلفة في القرن الخامس من الميالد وكتب َبَر ْه َم اغبتا
المؤلفة في القرن السادس وما أِّلف إلى أيامنا ،غير مشتملة على سوى المعارف العلمية التي دخلت الهند بتلك الطرق ،وأهم تلك
الكتب معروٌف لدينا اليوم ،ونعرف منها أن مؤلفيها لم يحققوا في أِّي علم أَّي تقُّدم يذكر ،وما كان يدور حول ِقَد م علم الفلك الهندوسي
ودَّق ته من األفكار قد ُأهمل تجاه الدراسات التامة فأصبحت هذه األفكار غير جديرة بعناية أحد.
وال تبدو القضايا العلمية الجديدة القليلة جًّد ا ،التي ُت رى في كتب الهندوس ،إال على شكل لمحات مبهمة عاطلة من أي برهان ،ومن
ذلك أن العالم الفلكي آريابهاتا ذكر في القرن الخامس ،في بضعة أسطر ،حركة األرض اليومية حول محورها من غير أن يأتي
بدليل ،ومن ذلك أن بهاسكراجاريه جاء في القرن الثاني عشر ،كما يظهر ،برأي مبهم حول حساب الكمية الصغرى من غير أن
ينتهي إلى شيء.
ومما تقدم ترى أنه يجب أال ُيعزى إلى الهندوس ،على العموم ،أُّي إبداع في حقل العلوم ،والهندوس ،إذ لم نقدر على إسناد أي شيء
أساسي إليهم ،نرى من غير المفيد أن نتكلم عن كتبهم العلمية التي ال نبصر فيها شيًئ ا لم نجده في كتب اليونان والعرب.
وَض ْع ف قدماء الهندوس في العلوم النظرية لم يمنعهم ،مع ذلك ،من أن يكونوا ذوي معارف عملية على شيء من الرقي ،وذلك كما
يبدو من فن عمارتهم القديم ومن فنونهم الصناعية ،فالهندوس كانوا يعرفون صنع الزجاج والدباغة والتقطير واستخراج المعادن
وصنع الفوالذ وتحضير بعض األمالح المعدنيةَ ،ب ْيَد أن هذه المعارف العملية ،التي هي وليدة التجربة والتي نعد مصدر غير واحد
منها أجنبًّي ا ،ظَّلت بعيدة من ميدان النظريات والمبادئ العامة ُبعًد ا ال تستحق معه أن تسمى بالعلم ،أجل ،إن التجربة قد ُتعِّلم الصبي
استعمال العصا في إزاحة حجر واستعمال مقذفين في دفع زورق واستعمال بكرة في رفع األثقال ،غير أن هذا الصبي ال يصل إلى
مرتبة المعارف العلمية إال حين يعلم أن العصا والمقذف والبكرة تطبيقاٌت لمبدأ واحد.
وما أتيناه من األحكام القاسية العادلة في علم الهندوس وآدابهم غير ما أتيناه في فن عمارتهم وما نقوله ،بعد قليل ،عن فنونهم األخرى،
وال يعتري القارئ العاِلم بروح األفراد واألمم َد َه ٌش من ذلك ،فوجود أمة َت ْف ُض ل جميع األمم في جميع فروع المعارف البشرية ال تراه
في غير كتب التاريخ وخيال الجماهير ،وضالٌل كهذا مما يدل عليه االختبار الدقيق ،وال مراء في أن األمة ،كالفرد ،تكون بحسب
مزاجها النفسي متفوقًة في فرع من المعارف البشرية ،على أن تكون متأخرة في الفروع األخرى ،وال نجد أفضلية جامعة لكل فرع،
وغير كثير ما يبدو هذا في الحقل الذهني فَن ْق ِد ر على ربط فروعه في سلسلة واحدة ،نعم إنني أرى تفُّو ق ذوات الُّث ِدِّي على األسماك؛
لما أجده من كون جهازها العصبي أرقى من جهاز األسماك العصبي ،ولكنني إذا ما قايست بين فيدياس ونيوتن وديكارت وقيصر لم
أجد وسيلة إلثبات أيهم أفضل من اآلخرين ،فالتفوق الفني مستقل عن التفوق العلمي ،وكثيًر ا ما يناقضه ،وهو يتطلب ،بالحقيقة ،طراز
تفكير وإحساس خاًّص ا وُط ُر َز نظر إلى الحياة واألمور خاصة ،فيندر أن يجتمع كال التفوقين ،إذن ،في أمة واحدة ،فالعالم يحلل
الحوادث ،ويسعى في رؤية األشياء كما هي غير مباٍل بجمالها وقبحها ،وعكس ذلك أمر المتفنن والشاعر اللذين يجَّدان في تزيين
األشياء وإبدائها بعواطفهم على غير ما هي أو على ما هي في أحوال شاذة ،وإال عاد المتفنن ال يكون متفنًن ا وعاد الشاعر ال يكون
شاعًر ا ،حًّقا أننا ال نعلم أمًة وصلت إلى مثل ما وصل إليه األوربيون من الرقي العلمي في القرن التاسع عشر ،ولكن مما ال ريب فيه
أن كثيًر ا من األمم ،فضاًل عن اإلغريق ،بلغت درجة من الفن أرفع من التي وصل إليها األوربيون بمراحل ،فليس عصر البخار
والكهرباء بالعصر الذي تبلغ فيه الفنون ذروتها.
شكل : ٣-٣حيدر آباد .شهر منار والشارع الكبير «ال يكاد تاريخ وجود حيدر آباد يزيد على ثالثة قرون ،وتبدو مدينة الهند هذه ذات
طابع القرون الوسطى اإلسالمي إلى أبعد حد مع ذلك ،وتشرف هذه المدينة ،وهي التي أنشئت في أوائل القرن السابع عشر ،على
شارعها الكبير ،ويتألف من حناياها قوس نصر مطلة على جميع الشارع ،ويبلغ ارتفاع الَح ِنَّية الكبرى ١٥متًر ا ،ويبلغ ارتفاع كل
واحدة من المناور ٥٦متًر ا».
النحت
ال تجد أمة ،كالهندوس ،قد اتخذت النحت أداة للزينة ،فما في معابد الهندوس ومزاراتهم من التماثيل والنقوش البارزة ُيَع ُّد باأللوف،
ويحار المرء تجاه سكوت الكتب الباحثة في فنون الهندوس عن الوثائق الخاصة بالنحت ،ونقٌض كهذا مما أشار إليه فيرغوسن ،منذ
زمن طويل ،من غير أن يفكر في تالفيه ،وال نستطيع أن نطلع على النحت لدى الهندوس بما في بعض كتب األساطير الهندوسية من
الصور الرديئة المطبوعة بألواح الحجارة ،والذي يظهر أن صانعي تلك الصور اختاروا أردأ األمثلة فنجم عن ذلك اعتقاد األوربيين،
على غير حق ،أن النحت الهندوسي متأخر إلى الغاية ،فأطمُع ،والحالة هذه ،أن يبدو للقارئ من صور التماثيل التي نشرناها في هذا
الكتاب َخ َط ل ذلك االعتقاد ،فقد وجدُت ،بجانب ما في بهوونيشور وسانجي وإيلورا وأجنتا وبادامي وكهجورا وكنبها كوَن م ،إلخ .من
آثار الفن الرديئة ،آثاًر ا فنية رائعة ال يقدر رجال الفن بأوروبا على إنكار أهميتها ،وما في أوديغيري وبهارت وسانجي ومهابلي بور
من النقوش البارزة التي نشرناها في هذا الكتاب ُيَع ُّد في كل بلد من أرقى اآلثار ال ريب.
شكل : ٤-٣أغرا .مقدم القصر األحمر في القلعة «نبدأ بهذه الصورة صور مباني العصر المغولي ،أي مباني الهند اإلسالمية منذ
القرن السادس عشر ،ويعزو بعض المؤلفين إنشاء القصر األحمر إلى الملك جهانكير ،ويرى كننغهم أن هذا القصر أقدم من زمن ذلك
الملك بقرن واحد ،ويلوح لنا أن هذا القصر هو أقدم مباني المغول بأغرا ،ونرى أنه شيد على حسب النماذج الهندوسية التي هي أقدم
منه ،فهو ال يختلف عنها إال بما أضيف إليه من األقواس الفارسية».
وإذا نظرت إلى تلك التماثيل من الناحية التشريحية وجدتها غير ُمرضية ،وأبصرت فيها األدلة على روح المغاالة العزيزة على
الهندوس فترى الصدور واألوراك في تماثيل النساء نامية نمًّو ا ال تشاهد مثله في الطبيعة ،وترى اآللهة ذات األذرع األربع مما
يكرهه األوربي ،غير أن أكثر هذه الصور ذوات حيوية شاملة للنظر ،فهي من هذه الناحية ،على خالف تماثيلنا المتصلبة الكئيبة
المصنوعة في القرون الوسطى وعلى خالف أكثر ما في مصر ،وفي عالم اآللهة واألبطال واإلالهات التي تمأل المعابد أكثُر األطوار
حياًة واألوضاع تنوًع ا .فيخيل إلى الناظر إليها أنها توشك أن تنزل من قواعدها لتتقدم نحوه ،نعم ،إن المنقاش اإلغريقي أدق وأضبط،
ولكنه ،في الغالب ،أبرد.
ومن غير المفيد أن نسهب في القول عن التماثيل ،فعندي أن عرض صورة صادقة لها أفضل مما يقوم به َنَقَد ُة الفن ،فلعل القارئ الذي
ينظر إلى صور التماثيل التي نشرناها في هذا الكتاب يصبح ذا رأي صائب في الموضوع.
والباحث حينما يدرس ُص َو ر التماثيل التي اشتمل عليها هذا الِّس ْف ر ويدقق في التواريخ التي ُذ كرت تحتها يرى ،ال ريب ،أن قيمة هذه
التماثيل ليست بحسب أزمنة صنعها ،فبينما يشعر بروعة أقدمها ،أي بروعة التي أقيم منها في بهارت وسانجي منذ ألفي سنة تقريًبا،
يرى رداءة ما أقيم منها في جبل آبو في القرن العاشر وحسن ما أقيم منها في كهجورا في القرن العاشر أيًض ا ،وفيما أقيم منها في
معابد جنوب الهند حديًث ا ما هو جميل وما هو كريٌه ،فالحق أنك ال تجد أثًر ا ظاهًر ا للتطور في فنون الهند كما أنك ال تجد أثًر ا ظاهًر ا
للتطور في آدابها.
التصوير
تندر التصاوير القديمة في الهند مع كثرة اآلثار القديمة المنحوتة فيها ،وال تجد من التصاوير في الهند غير ما هو على حيطان معابد
أجنتا التي ُأنشئت تحت األرض في القرن الخامس من الميالد ١،وال َتَن اُظ َر في هذه التصاوير وإن ُأتقن رسمها وكانت ُتِش ُّع حياة كما
هو ظاهر من الصور التي نشرناها لها ،وهذه التصاوير أفضل من التصاوير البيزنطية الباردة ،وال شَّك في أنه لم يكن في أوروبا
حين صنعها رَّس ام قادر على وضع مثلها.
ومن دواعي األسف أن ضاعت التصاوير التي ُر سمت في تاريخ متأخر ،وما في أقدم المخطوطات ،التي ال ترجع إلى ما قبل
المغازي اإلسالمية ،من التصاوير ال ُيجيز لنا أن نفترض أن الهندوس أصبحوا أرقى من أسالفهم بعد زمن ،وتخَّر ج الهندوس في
العصر المغولي على رَّس امي الفرس فكان ما رسموه ابتدائًّي ا عاطاًل من التناظر واالنسجام مع ما فيه من دقة ،فالحق أن الهند
بتصاويرها وآدابها ظلت في حال من التطور مماثل لما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى.
الفنون الصناعية «صنع الخشب والمعادن والحجارة الثمينة ،إلخ»
يقصد بكلمة «الفنون الجميلة» ،على العموم ،فن التصوير وفن النحت وفن العمارة ،ويقصد بكلمة «الفنون الصناعية» بعُض الصنائع
ذات الفائدة العامة كالِّص ياغة والنجارة والترصيع ،وما إلى ذلك من المهن التي تقوم على بعض المناهج اآلليةَ ،ب ْيَد أن هذا التصنيف
إذا كان مالئًما لما في الغرب الذي يتدَّر ج إلى العمل اآللي فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى صنائع الشرق التي تقوم على حذق العامل،
فمما ال جدال فيه أن الفَّن مستقل عن تطبيقاته ،فتراني أعلم أن صنع إناء مرَّصع أو ِم قَب ض ِخ ْن َج ر قد يتطلب من الفن والخيال ،مثاًل ،
أكثر مما يتطلبه إنشاء بناء ذي خمس طبقات أو إنشاء محطة خط حديدي ،فإذا اتخذُت كلمة «الفنون الصناعية» عنواًن ا للفنون
الحقيقية فِلُمجاراة التقسيمات التي اصُط ِلح عليها.
شكل :٦-٣أغرا .منظر القلعة المغولية الخارجي «بدأ الملك أكبر بإنشائها في سنة ».١٥٧١
ولم يقتصر ِحذق الهندوس على صناعة الذهب والنحاس والبرونز وحدها ،بل كانوا ماهرين في صناعة الحديد أيًض ا ،وذلك كما
يظهر من العمود الحديدي الشهير الذي أمر بصنعه الملك دهاوا فُيَر ى اآلن في مسجد قطب القديم بدهلي ،فهذا العمود قد أنشئ في
القرن الرابع من الميالد ،ولم َي ْس ِط ع األوربيون أن يصنعوا ما هو بضخامته إال منذ زمن قريب بفضل ما انتهوا إليه من الوسائل
الكثيرة التعقيد.
وصناعة ترصيع المعادن المعروفة بصناعة التكفيت ،وصناعُة تلبيس المعادن تلبيًس ا جزئًّي ا أو ترصيعها بالميناء الكثيف أو الشفاف
٣مما زاولته الهند منذ زمن طويل بإتقان لم يوَّف ق األوربيون لمثله قط.
وصناعة الحلي في الهند ،وإن لم ُت نتج ما يالئم الذوق األوربَّي ،تساوي بدقتها أهم ما يصنع في أوروبا ال ريب.
ويصنع الهندوس الزجاج وينحتون الحجارة الكريمة ،وفاق األوربيون الهندوس في ذلك ،ال في صناعة العاج والخشب المرَّصع.
َو ُتَع ُّد األسلحة الفوالذية من أهم ما تنتجه الصناعة الهندوسية ،ال من حيث غنى زخرفها وجمال ترصيعها وحدهما ،بل من حيث نوع
فوالذها الذي طبقت شهرته القرون القديمة بأجمعها أيًض ا ،وعند ِبْر د ُو ود أن نصال دمشق الذائعة الصيت كانت ُتصنع من الفوالذ
الهندوسي ،وامتدح كَّت اب اإلغريق فوالَذ الهند ،وكان يستحصل أجوده بالحديد الممغنط.
ولم يلبث الهندوس أن انتحلوا جميع الصنائع التي عرفتها األمم الفاتحة للهند فأتت بها من بالد فارس أو من أوروبا فحَّو لوها كما
أشرت إلى ذلك آنًف ا ،وال يزال القوم يزاولون في أغرا صناعة ترصيع الرخام األبيض ،التي هي من أصل إيطالي ،بالحجارة الثمينة
كالزبرجد والفيروز والَي ْص ب والعقيق والَج َم ْس ت والالزورد إلخ ،وفي أغرا بلغت هذه الصناعة درجة رفيعة أيام ملوك المغول ،فكان
هؤالء الملوك ُيلبسون قصورهم تلك الزخارف ،ويمكن القارئ أن يدرك تأثير ذلك في النفس من صورة داخل قصر ملوك المغول
بدهلي.
شكل : ٧-٣أغرا .قبة القصر المغولي الرخامية في داخل القلعة «القرن السادس عشر من الميالد».
وال تزال الهند تصنع النسج الحريرية والبسط والشاالت بإتقان لم يتفق مثله للغرب إال بمشقةَ ،ب ْيَد أن تقليد األوربيين لهذه المنتجات
الفاخرة وبيعهم ما يقلدونه بثمن بخس مما ينذر بأفولها في وقت قصير.
ومع أن القوم يمارسون صناعة الخزف في كل مكان بالهند فإنهم دون األوربيين فيها ،وتجد ،مع ذلك ،روعًة في كثير من
مصنوعاتهم الخزفية الملونة.
وذاع فن ستر المباني بالخزف المطلي بالميناء في شمال الهند الغربي منذ الفتوح اإلسالمية ،وأصل هذا الفن فارسي كما تشهد به
أطالل أقدم القصور ببالد فارس ،وقد اسُتبدل َط ْل ُي الجِّص بهذا الفن في الوقت الحاضر كما تشهد بذلك الضرائح الملكية العصرية في
غولكوندا مثاًل ،وليس في طراز الزينة هذا ما هو متين مع أن الخزف المطلي بالميناء ال يفنى ،وما تراه في جميع الشرق من َس تر
المباني بالخزف المطلي بالميناء ،كما في جامع عمر بالقدس وبعض األبنية بالهور وقصر غواليار إلخ ،من أروع ما يستوقف النظر،
فالمرُء إذا ما أبصر من بعيد مقَّد م تلك المباني المختلف األلوان كقوس ُقَز ح َظ َّن أنه أمام قصر خيالي شاده الجن ،وال شيء يدل على
فساد تربيتنا المدرسية التقليدية أكثر من َع َط لنا من مهندس أوربي يحاول اقتباس أسلوب الزخرف العجيب هذا في قصر من قصور
الغرب.
شكل :٨-٣أغرا .داخل مسجد اللؤلؤ ،أنشئ سنة ،١٦٤٨يبلغ رتفاع العمود إلى أسفل التاج نحو ثالثة أمتار و ٦٠سنتيمتًر ا ،وجميع
داخل المسجد من الرخام األبيض ،وفيه مكتوب« :لم ير مثله بناء منذ بدء العالم».
هنا نختم بحثنا في ِط راز بناء الهندوس وسائر فنونهم ،فهذه الفنون ،التي نبتت في شعب من الشعراء والمتفننين قوي الخيال والمشاعر
ضعيف العقل ،أسفرت ،ذاَت حين كما في منام سحري ،عن عالم من القصائد العظيمة والنفائس الباهرة والخياالت الرائعة.
لن يعود اإلنسان إلى صنع مثل تلك اآلثار العجيبة التي هي وليدة ماٍض يتوارى مقداًر ا فمقداًر ا في ضباب األجيال ،فيجب علينا أن
نحتفظ ببعضها على األقل ،وإن تنازَع الجيِل الحاضر المادي في سبيل الحياة تنازًعا قاسًيا ال يترك لإلنسان مجااًل يرجع به بصره
إلى تاريخ أجداده في بعض األحيان ،فلنتعلم كيف نحترم هذا التاريخ ،فتلك الضرائح والمحاريب الصامتة في الوقت الحاضر وتلك
التماثيل الطاعنة في السن وتلك النقوش البارزة الصائرة إلى الخراب فيكسرها المهندس بمعوله مستخًّفا؛ ليمأل الخنادق فيمد عليها
خًّط ا حديدًّي ا هي وثائق ماٍض صدرنا عنه وال نلبث أن نصير إليه.
هوامش
( )١لم تتفلت هذه التصاوير الممتازة المرسومة على الجدران من يد المرممين المحترفين مع تحديها الزمن ،فما عليه هؤالء
المرممون من قلة الحذق في طالئها أسفر عن إتالف لم ُت سفر عن مثله عشرة قرون ،فلما زرتها وجدت الطالء يتقشر من كل ناحية
جاذًبا التصوير معه فرأيت أجزاء هذا التصوير تتراكم على األرض.
( )٢أردنا أال نقطع سلسلة صور المباني فوضعنا صور األدوات الفنية بعدها.
( )٣تألف من األدوات المعدنية المكفتة أو المطلية بالميناء ومن الصناديق الخشبية المحفورة وال سيما صندوق ميسور الذي استوحى
صانعو وجوهه تماثيل معبد هالييد أهم األدوات التي عرضت في ساوث كنسينغتن سنة .١٨٨٦