Professional Documents
Culture Documents
منهج أخلاقيات المهنة
منهج أخلاقيات المهنة
b
�إعداد
d
الباب الأول
ُ
a
n
مفاهيم عا َّمة
d
l.
c
o
m
m
o
c
l.
d
n
a
ik
e
b
o
21 مفاهيم عامة
الف�صل الأول
مفهوم الأخالق ومكانتها يف الإ�سالم
o
b
والدين»(.)1
ِّ
وا�صطالح ًا� :صفة م�ستقرة يف النف�س ذات �آثار يف ال�سلوك حممودة �أو مذمومة(.)2
ik
والأخالق هي :جمموعة القواعد واملبادئ املجردة ،التي يخ�ضع لها الإن�سان يف ت�صرفاته،
ويحتكم �إليها يف تقييم �سلوكه ،وتو�صف باحل�سن �أو بالقبح(.)3
a
فاخللق �صفة م�ستقرة ال عار�ضة؛ لأن الإن�سان قد يتلب�س ببع�ض ال�صفات غري الثابتة
n
معي ،كالكرم� ،أو اخلوف� ،أو الغ�ضب� ،أو غري ذلك ،يف حني �أنه �إذا ر�ؤي يف الأحوال
ملوقف نَّ
العادية تظهر منه ال�صفات احلقيقية التي قد تخالف هذه ال�صفات.
d
وهـذه الـ�صفة الـم�ستقرة لها �آثـار �سلوكية ،فال�سلوك لي�س هو اخللق ،بل هو �أثره
l.
و�شكله الظاهر.
ف�سلوك الإن�سان وت�صرفاته يدالن على خلقه غالب ًا ،و�إمنا قلت غالب ًا لأن الإن�سان قد
c
ي�صدر منه ت�صرفات يف حاالت طارئة ال تدل على خلقه و�س�أذكر هذه احلاالت بعد مبحثني
ولذا ف�إن ال�شرع املطهر يربط احلكم على ال�شخ�ص من خالل �سلوكه ،كما قال �( :إذا
o
( )2امليداين :عبدالرحمن ح�سن حبنكة/الأخالق الإ�سالمية و�أ�س�سها ( )10/1وانظر تعريفات �أخرى البن
م�سكويه (تهذيب الأخالق )25 :وجالينو�س (ت�سهيل النظر وتعجيل الظفر يف �أخالق امللك و�سيا�سة امللك
m
للماوردي - 101 :بتحقيق ر�ضوان ال�سيد) وامل�س�ؤولية اخللقية واجلزاء عليها للدكتور �أحمد احلليبي
(.)20 - 17
( )3انظر( :بدران� ،أمية1981 ،م ،مدى انطباق احلكم الأخالقي على طلبة املرحلتني الإعدادية والثانوية يف
الأردن ،ر�سالة ماج�ستري غري من�شورة ،اجلامعة الأردنية� ،ص .)303
وح�سنه عن �أبي �سعيد اخلدري . ( )1رواه الرتمذي (َّ )277/5
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 22
ر�أيتم الرجل يعتاد امل�ساجد فا�شهدوا له بالإميان)( )1فمن خالل �سلوكه الظاهر ُح ِكم عليه
بالإميان الباطن.
وبعد ذكر تعريف الأخالق ،ن�ستطيع �أن نع ِّرف �أخالق العمل ب�أنها:
o
املبادئ التي تع ّد �أ�سا�س ًا لل�سلوك املطلوب لأفراد املهنة ،واملعايري التي تعتمد عليها املنظمة
يف تقييم �أدائهم �إيجاب ًا و�سلب ًا(.)2
b
«فلكل مهنة من املهن قيم ،ومبادئ ،ومعايري �أخالقية ،ومعرفة علمية ،و�أ�ساليب ،ومهارات
e
فنية ،حتكم عمليات املهنة وحتدد �ضوابطها ،وللمهنة جماالت متعددة ووظائف معينة ،وقد
تتداخل جماالت املهنة ووظيفتها ومادتها العلمية ومهاراتها و�أ�ساليبها الفنية مع مهن �أخرى،
ik
وتعد درا�سة فلك�سرن ( )Flexnerعام 1915م �أقدم درا�سة يف جمال املهن ،وقد تو�صلت �إىل
معايري عدة ،منها �أن يكون للمهنة قواعد �أخالقية حتكم عملياتها»(.)3
a
الأول :كرثة الن�صو�ص الواردة فيها يف الكتاب وال�سنة :ففي القر�آن الكرمي �أكرث من
(� )300آية تتحدث عن الف�ضائل اخللقية �صراح ًة( ،)4هذا �سوى الآيات الكرمية التي تعر�ضت
l.
مقدمة لندوة «�أخالقيات العمل يف القطاعني احلكومي والأهلي» املنعقدة يف معهد الإدارة العامة يف
اململكة العربية ال�سعودية -الريا�ض يوم الثالثاء 1426/1/20هـ املوافق 2005/3/1م ،بعنوان «�أخالقيات
o
العمل وجتربة ديوان املظامل يف الرقابة عليها» من �إعداد ال�شيخ عبداهلل بن حمد ال�سعدان.
( )3الغامدي والدهي�ش/ورقة مقدمة لندوة «�أخالقيات العمل يف القطاعني احلكومي والأهلي» املنعقدة يف
معهد الإدارة العامة يف اململكة العربية ال�سعودية -الريا�ض يوم الثالثاء 1426/1/20هـ املوافق 2005/3/1م
m
بعنوان �أخالقيات مهنة التعليم و�سبل تعزيزها يف نظام التعليم ال�سعودي من �إعداد �أ .د حمدان �أحمد
الغامدي ،ود .خالد بن عبد اهلل بن دهي�ش.
( )4انظر :تف�صيل �آيات القر�آن احلكيم جلول البوم برتجمة حممد ف�ؤاد عبدالباقي �صفحة ( )385ود�ستور
الأخالق يف القر�آن ملحمد عبداهلل دراز (.)778 - 691
( )1انظر :كنز العمال للمتقي الهندي (.)440 - 3/3
23 مفاهيم عامة
يف الثاين :املنزلة العظيمة التي جعلت لها يف ميزان الإ�سالم :حيث ِ
مدح بها النبي
e
منهي عنها ،و�أمثلة ذلك كثرية ،منها قوله تعاىل :ﱫﯙ ﯚ ﯛ م�أمو ٌر بها ،والأخالق ال�سيئة ٌّ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﱪ [الن�ساء ،]58 :وقوله �سبحانه:
a
ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﱪ
n
[الأنعام.]152 :
d
()5
الأعمال يوم القيامة اخللق احل�سن .
o
الثالث :جعل ال�شارع الكرمي الأخالق هدف ًا من �أهداف �أركان الإ�سالم العبادية..
( )2رواه �أبو داود ( )253/4عن �أبي �أمامة .
m
( )3رواه البزار عن �أبي هريرة ب�سند �صحيح (جممع الزوائد ،)15/9( :ورواه �أحمد ( )381/2واحلاكم
( )670/2و�صححه بلفظ «�صالح الأخالق».
( )4رواه �أبو داود ( )220/4والرتمذي ( )466/3و�صححه عن �أبي هريرة .
( )5رواه �أبو داود ( )253/4والرتمذي ( )362/4و�صححه عن �أبي الدرداء .
( )1رواه البخاري (ال�صوم/من مل يدع قول الزور والعمل به يف ال�صوم )1804 -عن �أبي هريرة .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 24
ثالث� :إذا ح َّدث كذب ،و�إذا وعد �أخلف ،و�إذا ا�ؤمتن خان)(.)2
و�شهد للمر�أة التي ت�ؤذي جريانها ب�أنها يف النار(.)3
c
اخلام�س :اهتمام علماء ال�شريعة بها :فقد اهتم علماء ال�شريعة بالأخالق منذ الع�صر
o
الأول الهجري ،حني كانوا يحر�صون على االلتزام بالأخالق الإ�سالمية ،ويحثون النا�س على
m
االلتزام بها.
( )2متفق عليه (البخاري :الإميان/عالمة املنافق ،33 -م�سلم :الإميان/خ�صال املنافق )59 -عن �أبي
هريرة .
( )3رواه ابن حبان ( )76/13واحلاكم ( )183/4عن �أبي هريرة .
( )1ابن اجلوزي/عبدالرحمن� :صفة ال�صفوة (.)258/1
25 مفاهيم عامة
ال�صديق �أنه كان يحلب للحي �أغنامهم ،فلما ويل اخلالفةِّ كما جاء عن �أبي بكر
قالت جارية منهم :الآن ال يحلب لنا منايح الغنم .ف�سمعها �أبو بكر ،فقال« :بلى لعمري
لأحلبنها لكم»(.)1
o
وورد عن عمر �أنه كان يقوم بنف�سه برعاية امر�أة عجوز يف املدينة ال كافل لها،
وا�ستمر على ذلك حتى بعد خالفته(.)2
b
وقال عمر« :ال تغرين �صالة امرئ وال �صومه ،من �شاء �صام ومن �شاء �صلى ،ال دين ملن
e
وورد عن عبداهلل بن عمر ر�ضي اهلل عنهما حني �سئل عن الذي يختلف كالمه �أمام النا�س
عن كالمه يف خلوته ،فقال« :كنا نع ّد هذا نفاق ًا على عهد ر�سول اهلل » (�- )4أي� :أنه يجب
االلتزام بال�صدق يف كل حال.-
a
ويربز اهتمام علماء الإ�سالم بالأخالق من خالل الكتب التي �ألفوها يف الأخالق
n
الإ�سالمية ،ككتب الأخالق عموم ًا ،والكتب التي �ألفت يف خلق نَّ
معي ،فمن الكتب التي �ألفت
يف الأخالق:
d
ومن الكتب التي �أ ِّلفت يف �أخالق ال�سا�سة وامللوك ا�ستقال ًال �أو �ضمناً:
< الأحكام ال�سلطانية للماوردي
< الأحكام ال�سلطانية للقا�ضي �أبي يعلى احلنبلي
o
< ت�سهيل النظر وتعجيل الظفر يف �أخالق ا َمللك و�سيا�سة املُلك للماوردي
e
ال ِق َيم لغة :القيمة بالك�سر واحدة القيم ،ويف مفردات الراغب« :تقومي ال�سلعة بيان
n
قيمتها»(.)1
ِّ
«ويخطئون من يقول :ق َّيموا الدار� ،أي :جعلوا لها قيمة معلومة. ويف معجم الأخطاء ال�شائعة:
d
وال�صواب :قوموها تقومي ًا؛ لأن الفعل واوي .وقد جاء يف املعجم الو�سيط :ق َّيم ال�شيء
l.
هو امل�ستقيم ،ومنه قوله تعاىل :ﱫﮈ ﮉ ﮊﱪ [البينة� ،]3 :أي م�ستقيمة تبني احلق من
الباطل»(.)2
o
الق َيم ا�صطالح ًا�« :أما املعنى اال�صطالحي للقيمة فقد تعددت بتعدد جماالت ِ
m
ا�ستخدامها يف الن�شاطات الإن�سانية ،و�إن كل معنى من هذه املعاين يتخذ خا�صية املعيار
للمجال الذي ا�ستخدم فيه ،وهكذا ظهرت نظرية القيم �أو علم القيم ( .)Axiologyو ُيعزى
( )2العدناين/حممد :معجم الأخطاء ال�شائعة� :صفحة ،212ن�شر مكتبة لبنان 1983م.
( )1نق ًال عن :الغامدي والدهي�ش (مرجع �سابق) وهـو تعريف يتميز بال�شمول والو�ضوح.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 28
ظهور هذا املفهوم �إىل الفيل�سوف الأملاين «نيت�شه» وتنح�صر وظيفة هذه النظرية يف القيام
بتحليل طبيعة القيم و�أنواعها ومعايريها وتُعترب وثيقة ال�صلة بكثري من العلوم ومنها
الأخالق»(.)1
o
تعود فكرة هذه املدر�سة �إىل �أفالطون ( 427ق .م 347 -ق .م) ،ويجمع عامل القيم املثايل
مثلث �أفالطون املعروف :احلق ،اخلري ،اجلمال ،وظلت القيم امل�أخوذة من هذه املدر�سة
e
وما زالت قدمي ًا وحديث ًا م�صدر ًا لأهداف الرتبية و�صياغة ما ُيطلق عليه الرتبية الأخالقية
« »Moral Educationوانعك�س ذلك على العملية التعليمية والرتبوية بهدف متكني القيم من
ik
فكرة هذه املدر�سة عك�س املدر�سة املثالية من حيث و�ضع القيم ،فهي تعترب القيم اخلالدة
n
م�ستمرة وثابتة وعامة ،مبعنى �أن القيم من وجهة نظر هذه املدر�سة يف بدايتها معايري خلقية
حتكم حركة الإن�سان يف عمومه ،وترجع بداية هذا التطور احلديث للمدر�سة الواقعية منذ
d
�أن بد�أ «كانت» (1724 - 1804م) النظر �إىل القانون الأخالقي على �أنه من مدلوالت العقل،
والقيم ُمث ٌل ُعليا وغايات �إن�سانية توجه م�سرية احلياة وتعترب �أحد مقومات الوجــود الإن�ساين
l.
(.)Kant, 1965
c
تعترب هذه املدر�سة يف جوهرها نظرية «القيم» ،حيث تعترب ال�سلوك الإن�ساين جتاه
الأ�شياء هو الذي يحدد قيمتها مبعنى �أنه ال توجد للقيم طبيعة مطلقة ،لذلك احتلت قيمة
m
«العمل» مكانة مهمة يف نظرية القيم عند دعاة هذه املدر�سة ،ومن ثم ف�إن القيم و�سائل
لتو�ضيح الأفكار� ،أو �أدوات للو�صول �إىل احلقيقة ،ويتزعم هذه املدر�سة جون ديوي (1952
1859 -م) الذي يعترب فيل�سوف ومطور هذه املدر�سة( .فينك�س.)1965 ،
( )1انظر :الغامدي والدهي�ش/مرجع �سابق.
29 مفاهيم عامة
القيم يف الإ�سالم تنزع �إىل ال�شمول ،فالدين الإ�سالمي مل ي�أت خا�ص ًا ب�أمة دون �أخرى بل هو
للنا�س كافة� ،أما ميدان تطبيقه فهو �شامل يف قواعده وت�شريعاته جميع نواحي احلياة الدنيا
b
والآخرة ،وقد كونت مبادئ الإ�سالم وقيمه نظام ًا اجتماعي ًا له قيمه ومعايريه والتي متثلت يف
العلم ،والعمل ،والتقوى ،والعدل .فقيمة العمل ت�أتي يف مقدمة القيم ومل تكن مكانتها �أقل من
e
قيمة العلم ،و�إمنا هي مرتبطة بها� ،أما قيمة التقوى فهي متثل ركيزة �أ�سا�سية لقيمة العمل،
ik
والتقوى مبنزلة املعيار الذي ُيقا�س العمل به وهي ترمز يف ال�شريعة الإ�سالمية �إىل �صون
الإن�سان نف�سه من القيام ب�أفعال يجب املعاقبة عليها� ،أو ترك �أفعال ُيعاقب على تركها� .أما
قيمة العدل يف الإ�سالم فذات م�ضمون اجتماعي ،وي�ضع املفكرون من امل�سلمني قيمة العدل
a
على ر�أ�س قائمة املبادئ ،وقيمة العدل تطبق على م�ستوى الفرد والأ�سرة واملجتمع (عبد
الرا�ضي1992 ،م).
n
والقيم يف الإ�سالم هي ف�ضائل خلقية ،وهي املعيار ل�سلوك �أفراد املجتمع عامة ،و�أرباب
d
املهن خا�صة ،فالدين الإ�سالمي مبنزلة املعيار الذي على �أ�سا�سه تحُ دد قيمة �أخالقية العمل،
فجميع امل�سلمني تق ّوم �أعمالهم يف �إطار غايات و�أهداف الدين الإ�سالمي احلنيف ،وامل�سلم
l.
امللتزم ذو �أخالق �إ�سالمية ،يخ�شى اهلل ويلتزم بالقيم التي حث عليها القر�آن الكرمي وال�سنة
النبوية ال�شريفة(.)1
c
o
ت�أثري هذه امل�ؤثرات �إىل �أن تطغى على خلقه الأ�سا�سي ،حتى ي�صبح ال�سلوك اجلديد له خُ ُلق ًا
وطبع ًا ،وقد قال ( :ومن يت�صبرَّ ي�صبرِّ ه اهلل)( ،)2وقال �أبو الدرداء �« :إمنا العلم
( )2رواه البخاري (الزكاة/اال�ستعفاف عن امل�س�ألة )1400 -عن �أبي �سعيد اخلدري .
( )1رواه البيهقي� /شعب الإميان.)397/7( :
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 30
بالتعلُّم ،و�إمنا احللم بالتحلُّم»( ،)1وهذا احلديث والأثر دليالن على �أن الإن�سان ي�ستطيع �أن
يتخلق بالأخالق احل�سنة �إذا عزم على ذلك و�أعانه اهلل �سبحانه وتعاىل.
ولي�س من ال�صحيح �أن يقول �أحد �إن الإن�سان املفطور على خلق معني ال ي�ستطيع االنفكاك
o
عنه ،بل ي�ستطيع من خالل املجاهدة والعوامل الآتية �أن يغيرِّ من خلقه �إىل الأف�ضل ،ولعل
هذا �أحد التف�سريات اجليدة لقوله �سبحانه :ﱫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﱪ
b
[الرعد ،]11 :فمدلول النف�س يف قوله :ﱫﯖﱪ يوحي بال�صفات الداخلية ال اخلارجية،
�أي �أن الأخالق التي هي يف احلقيقة �صفات نف�سية ميكن بل يطلب تغيريها �إىل الأف�ضل حتى
e
ال ّ
�شك �أن املحرك الأول للأخالق احل�سنة هو الإميان والتوحيد؛ لأنه يربط الإن�سان
n
بخالقه عزوجل ،فيورثه خلق التوا�ضع عندما يتذكر عظمة اهلل تعاىل و�ضعف الإن�سان ،ولذا
قيل :من عرف نف�سه فقد عرف ر َّبه( ،)2وقيل� :إذا دعتك قدرتك على ظلم النا�س فتذكر
d
ويــورثه خــلق الرحــمة؛ لأنــها �صــفة اهلل تعــاىل ،ويحب �أن يتخلق بها لريحمه اهلل ف�إن
اهلل يرحم من عباده الرحماء( ،)3وابتداء القــر�آن كل �سور ٍة من �سوره بهاتني ال�صفتني:
ير�سخ خلق الرحمة عند امل�سلم.
c
يوم الـقيامة ،وال يـعي ذلـك �إال مـن يـ�ؤمـن بــاليـوم الآخر،
m
( )2من عرف �ضعف نف�سه وحاجتها و�أنه م�ستحق لو�صف العبودية ،عرف غنى اهلل تعاىل وقوته و�أنه م�ستحق
لو�صف الألوهية.
( )3متفق عليه عن �أ�سامة بن زيد ( .البخاري :اجلنائز/قول النبي يعذب امليت ببع�ض بكاء �أهله
عليه ،1224 -م�سلم :اجلنائز/البكاء على امليت .)923 -
( )1اجلليل/عبدالعزيز وعقيل/بهاء الدين� :أين نحن من �أخالق ال�سلف (�صفحة .)113
31 مفاهيم عامة
ويورثه خلق التجرد فال يعمل العمل ال�صالح رجاء ال�سمعة وامل�صلحة ،بل يبتغي بذلك
ر�ضى مواله �سبحانه؛ ولأن املرائني واملنافقني يوم القيامة يجعل ما عملوا هباء منثور ًا ،ثم
يعذَّ بون ،فيخاف امل�سلم من املراءاة والنفاق.
o
ويورثه خلق الإح�سان �إىل الآخرين ،ليجد جزاء ذلك يوم القيامة ،ومينعه من الأخالق
ال�سيئة لأنه يخ�شى من عقوبتها،
b
والإميان بالر�سل الكرام عليهم ال�سالم يدعوه �إىل التخلق ب�أخالقهم؛ لأنهم خري
اخللق خ ُلق ًا.
ik
وهكذا تتجاوب العقيدة مع اخللق فيكمل �أحدهما الآخر ،وي�ؤدي كل منهما �إىل �صاحبه.
a
ومبا �أن الإميان يزيد وينق�ص لدى الإن�سان بني مدة و�أخرى ،كما قال �سبحانه :ﱫﭬ ﭭ
ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﱪ [الفتح ]4 :ف�إن هذه الأخالق تزيد عند زيادة
n
الذكر والعلم،�آيات اهلل ال�شرعية ،والإقبال على الطاعات ،وترك الكبائر ،وح�ضور جمال�س ِّ
l.
جاء عن فاطمة بنت عبدامللك بن مروان ،امر�أة عمر بن عبدالعزيز رحمهما اهلل �أنها دخلت
عليه ،ف�إذا هو يف م�صاله يده على خده� ،سائلة دموعه ،فقلت« :يا �أمري امل�ؤمنني� ،أل�شيء
o
حدث؟ قال :يا فاطمة! �إين تقلدت �أمر �أمة حممد ،فتفكرت يف الفقري اجلائع ،واملري�ض
m
ال�ضائع ،والعاري املجهود ،واملظلوم املقهور ،والغريب امل�أ�سور ،والكبري وذي العيال يف �أقطار
الأر�ض ،فعلمت �أن ربي �سي�س�ألني عنهم ،و�أن خ�صمي دونهم حممد ،فخ�شيت �أال تثبت
يل حجة عند خ�صومته ،فرحمت نف�سي فبكيت»()1
( )1رواه ال�ضياء املقد�سي ب�سند �صحيح (اجلامع الكبري لل�سيوطي )546/1 :وللبزار نحوه ب�سند �صحيح (جممع
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 32
�أثر يف توا�ضع الإن�سان ورحمته الآخرين ،والزكاة تنمي خلق الرحمة والإح�سان والتوا�ضع،
e
وتزيد الروابط االجتماعية ،وتربط بالآخرة ،مما له �أثر يف �ضبط �سلوك الإن�سان ونظرته
للآخرين ،وال�صيام ي�ضبط الأع�صاب وال�سلوك ،ويزيد الرقابة ،وي�شعر بالفقراء واملحتاجني
ik
و�إذا كانت العبادات مل ت�أخذ دورها الإيجابي يف حياة بع�ض امل�سلمني ،فتجدهم بالرغم
من �أدائهم لعباداتهم �أ�صحاب �أخالق �سيئة ،فذلك لأنهم مل ي�ؤدوها على الوجه املطلوب،
n
ال مل ي� ِأت الأمر بها يف القر�آن الكرمي �إال مقرون ًا ب�إقامتها ﱫﮛ ﮜﱪ فال�صالة مث ً
d
ﱫﯠﯡﱪ ،ذلك �أن �إقامتها تعني �أن ت�ؤ َّدى كما ُ�شرِ عت لر�سول اهلل ،كاملة خا�شعة،
ال كما يريد الإن�سان �أن ي�صليها ح�سب هواه ،ف�إذا أُ� ِّديت كما �شرعت �أورثت الأثر املطلوب،
l.
وامل�سلمون الذين كانوا ي�ؤدونها على وجهها ال�صحيح قدمي ًا ،والذين ي�ؤدونها يف كل وقت
كذلك� ،آثار العبادات عليهم وا�ضحة يف ح�سن �أخالقهم.
c
وقد قمت بعمل ا�ستبانة ملجموعة من النا�س� ،س�ألتهم فيها عن �أثر العبادات عليهم فكان
o
قدوة ،ف�صرت �أحا�سب نف�سي و�أحاول التزام �سعة ال�صدر ،وجنحت يف ذلك.
< بعد �أن حافظت على ال�صالة جماعة وعلى ذكر اهلل� ،أح�س�ست بتح�سن كبري يف
�أخالقي ،و�صرت �أ�شعر بوازع من نف�سي مينعني من الغيبة وغريها.
33 مفاهيم عامة
< كنت يف خارج اململكة للدرا�سة ومل �أكن متم�سك ًا بالدين كثري ًا ،ويف ليلة ا�ستعددت
ل�صالة الع�شاء ،ثم ذكرت حاجة يل عند �أحد زمالئي فوجدت عنده ن�ساء جميالت،
فتذكرت الو�ضوء واال�ستعداد لل�صالة فحماين اهلل بذلك من الفاح�شة.
o
وهذه مناذج واقعية ت�ؤكد ما �سبق ،ومن النماذج التاريخية ما رواه جابر قال قال رجل
للنبي � :إن رج ًال يقر أ� القر�آن الليل كله ،ف�إذا �أ�صبح �سرق قال�( :ستنهاه قراءته)(.)1
ik
وعن �أبي هريرة :قالوا يار�سول اهلل �إن فالن ًا ي�صلي من الليل ف�إذا �أ�صبح �سرق قال:
(�ستنهاه �صالته)(.)2
a
وقد جزم النبي يف الق�صتني على �أثر القراءة وال�صالة ب�سبب �أن عباداتهم كانت
n
م�ؤثرة يف �سلوكهم ،ولو اقرتف �أحدهم �شيئ ًا من املعا�صي �أو ال�سلوكيات اخلاطئة ف�سرعان
ما يرتكها.
d
ومن هنا كان ال�سلف ال�صالح ي�ستعينون بالعبادات على �أمورهم ،قال �سبحانه :ﱫﯳ
()3
l.
ﯴﯵﱪ [البقرة� ]45 :أي :ا�ستعينوا بال�صالة وال�صرب الذي قال جماهد �إنه ال�صوم
على تقومي �أخالقكم ،وا�ستعينوا بهما على همومكم ،وا�ستعينوا بهما على �ش�ؤون حياتكم.
c
لعل من نافلة القول �أن الإن�سان يت�أثر مبن يخالط ،ف�إن هذا املفهوم م�ستق ٌّر يف العقول
والأذهان على م ّر الع�صور ،وقد قيل(:)4
m
الزوائد.)258/2 :
( )2رواه البيهقي (�شعب الإميان )174/3 :و�أحمد ( )447/2ب�سند �صحيح (جممع الزوائد.)258/2 :
( )3تف�سري القرطبي (.)372/1
( )4القائل عدي بن زيد (بهجة املجال�س البن عبدالرب.)705/2 :
( )1متفق عليه عن �أبي هريرة (البخاري :بدء اخللق/خري مال امل�سلم غنم يتبع بها �شعف اجلبال ،-325
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 34
والرجل واملر�أة يت�أثرون مبن يخالطون وي�صاحبون ،كما قيل :ال�صاحب �ساحب ،واكت�ساب
فطري ،بل �إن من فطرة الإن�سان �أن يتط ّبع بطباع من
ّ ال�سلوكيات من الأقران والأ�صحاب �أم ٌر
b
يخالط ولو حيوان ًا ،لذا قال ( :الفخر واخليالء يف الف َّدادين �أهل الوبر ،وال�سكينة يف �أهل
الغنم)( )1ذلك ملا يغلب على الإبل من الفخر ،وما يغلب على الغنم من الب�ساطة.
e
ومل يغفل الإ�سالم ذلك ،ف�أو�صى مبجال�سة ال�صاحلني وترك جمال�سة الطاحلني ،قال
ik
لكل �صحابي من املهاجرين �أخ ًا له من الأن�صار يعينه وينا�صحه. ولهذا املعنى جعل النبي
n
ومن �أمثلة ذلك �أن كان �سلمان الفار�سي من ن�صيب �أبي الدرداء ر�ضي اهلل عنهما ،فزار
d
متبذلة �أي الب�سة ثياب البذلة وهي�سلمان �أبا الدرداء ،فر�أى �أم الدرداء ر�ضي اهلل عنها ِّ
املهنة واملراد �أنها تاركة للب�س ثياب الزينة فقال« :ما �ش�أنك؟ قالت� :أخوك �أبو الدرداء لي�ست
l.
له حاجة يف الدنيا ،فجاء �أبو الدرداء ف�صنع له طعام ًا ،فقال �سلمان :كل .قال� :إين �صائم.
قال �سلمان :ما �آنا ب�آكل حتى ت�أكل ،ف�أكل ،فلما كان الليل ذهب �أبو الدرداء يقوم ،قال �سلمان:
c
من .فنام ،ثم ذهب يقوم ،فقال :من .فلما كان من �آخر الليل قال �سلمان :قم الآن .ف�ص َّليا.
فقال �سلمان� :إن لربك عليك حق ًا ،ولنف�سك عليك حق ًا ،ولأهلك عليك حق ًا ،ف�أعط كل ذي
o
حقٍّ حقّه» .ف�أتى النبي فذكر ذلك له ،فقال �( :صدق �سلمان)(.)3
m
والن�صيحة� ،أو لأن فيه مر�ض ًا نف�سي ًا كالغرور وهو ال ي�شعر ،ويعترب هو هذا ال�صديق �صديق ًا
مثالي ًا لأنه يحبه بدليل مدحه الكثري له وموافقته امل�ستمرة.
b
ويف احلقيقة �أن هذا ال�صديق املادح املوافق يف جميع الأحوال ي�ضر وال ينفع؛ لأنه ال يريد
e
اخلري ملن ي�صحبه ،بل يريد م�صلحة نف�سه ،ولو كان يريد اخلري ل�صاحبه لنا�صحه؛ لأنه ال
يخلو �إن�سان من �أخطاء ،وكفى املرء نب ًال �أن تع ّد معايبه ،فكيف خال �صاحبه من املعايب؟!
ik
فامل�سلم احلق يبحث عمن ين�صح له ،وكان عمر يقول« :رحم اهلل امرء ًا �أهدى �إ َّ
يل
عيوبي»( )1فانظر كيف جعل عمر الن�صيحة هدية يهديها له �أخوه!
a
واخلال�صة �إن لل�صداقة �أثر �إيجابي �أو �سـلبي علـى الإن�سـان ،ولـهـا ت�أثري على ال�سلوك
خري ًا �أو �شـر ًا ،فهنيـئ ًا ملـن وفـقـه الـله لـل�صـحـبة ال�صاحلة.
n
()2 لتوجه الن�شء التوجيه ال�صالح ،فت ؤ� ِّثر يف �أخالقه ت�أثري ًا بالغ ًا ،كما قيل ت�أتي الرتبية ِّ
l.
ـجى ول ـ ـ ــكن
ومــا نـ ـب ــغ الفـ ــتى بحـ ـ ـ ـ ً
يـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ِّوده الـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــد ُّي َن �أق ــربـ ـ ــوه
o
و�أرى �أن هذه الرتبية هي الفاعل الأول يف الت�أثري على �أخالق ال�صغري ،ولكن مل �أجعلها
m
�أول العوامل؛ لأنها يف مرحل ٍة مع َّينة من العمر بخالف العوامل ال�سابقة فهي ت�ؤثر يف جميع
مراحل عمر الإن�سان.
( )2القائل �أبو العالء املعري (اللزوميات.)601/2 :
( )1القائل �أبو متام حبيب بن �أو�س الطائي (ديوانه ب�شرح اخلطيب التربيزي )200/3 :وهـذا ن�ص البيت فيه،
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 36
والرتبية ال�صاحلة لها و�سائل :منها :الرتغيب والرتهيب ،والن�صيحة والتوجيه ،والقدوة،
والرتبية باملواقف احلياتية ،والرتبية بال�ش َّدة �أحيان ًا ،كما قيل(:)1
يك حازم ًا
ف ـق ــ�س ــا ل ـت ــزدجــروا ومن ُ
o
الأطفال وتربيتهم الرتبية الإ�سالمية ،قال ( :تنكح املر�أة ملالها وحل�سبها وجلمالها
e
ـدم
�إذا كـ ـن ــت ت ـ ـب ـن ـي ــه وغ ــريك يـ ـه ـ ُ
ول ــو �أل ـ ُـف ب ــانٍ خلـ ـف ــهم واحـ ـ ٌد ك ــفى
n
والرتبية الأ�سرية يف �أغلب املجتمعات املعا�صرة تتعر�ض ملع ِّوقات ت�ؤخر ت�أثريها على الطفل
والفتى؛ فاالنفتاح غري املن�ضبط على املجتمعات الأخرى ،والإعالم احل ّر بغ ِّثه و�سمينه،
l.
والتجارب ال�سيئة التي ي�سمعها االبن من �أقرانه ،و�ضعف الرقابة الأ�سرية نتيجة الإغراق يف
الأعمال التجارية من قبل الآباء� ،إ�ضافة لعمل املر�أة وت�سليم االبن للخدم مبا فيهم من عادات
c
و�أخالق غري �إ�سالمية يف كثري من الأحيان ،كل هذه وغريها مع ِّوقات للرتبية ال�صاحلة.
o
فال ب ّد �أن تكون الرتبية متنوع ًة حمبب ًة ل�صيق ًة بالطفل ،حتى حتميه من امل�ؤثرات املعرقلة
ال�سوي ،وال ب ّد �أن تكون الرتبية ال�صاحلة خيار ًا �أولي ًا للأبوين؛ لأنه واجب �شرعي �أو ًال،
m
ّ لبنائه
يرحم.
ويف احلا�شية :يف بع�ض الن�سخ :على من ُ
( )2متفق عليه عن �أبي هريرة ( .البخاري :النكاح/الأكفاء يف الدين ،4802 -م�سلم :النكاح/ا�ستحباب
نكاح ذات الدين .)1466 -
( )1متفق عليه عن ابن عمر ر�ضي اهلل عنهما( .البخاري :اجلمعة/اجلمعة يف القرى واملدن ،853 -م�سلم:
37 مفاهيم عامة
ولأنه يف م�صلحة الأبوين ثاني ًا ،فاالبن البا ّر والبنت البا َّرة �سيعينان الأبوين على الدين
والدنيا ،ويحفظان حقهما يف الكرب وبعد املمات ،ويرتكان الذكر احل�سن للأبوين ،قال:
e
(�إذا مات ابن �آدم انقطع عمله �إال من ثالث� :صدق ٍة جارية� ،أو ٍ
علم ينتفع به� ،أو ٍ
ولد �صالح
يدعو له)(.)2
ik
ا�ستثناءات:
a
هناك العديد من العوامل التي تخرج الإن�سان عن اختياره ،فت�ضطره للقيام ب�أعمال� ،أو
النطق ب�أقوال ال يرت�ضيها ،ومن قواعد الدين الإ�سالمي �أنه ال ي�ؤاخذ الإن�سان �إال مبا ي�صدر
n
العامل الأول :الإكراه :فاملكره الذي يرغم على فعل ما ال يريد� ،أو قول ما ال يريد ال
c
را�ض بها ،فعذره اهلل تعاىل وقال له ر�سول اهلل �( :إنالنطق بكلمة الكفر ،فقالها غري ٍ
عادوا ف ُعد)()3؛ لأنه يعلم �أن قلبه مطمئن بالإميان.
m
املوجه للإن�سان غري ملجئ ،و�إمنا يرتتب عليه بع�ض الإحراج ،فال يع ّد �أما �إذا كان الأمر َّ
�إكـراه ًا �شــرع ًا ،ومن ثم ف�إنه ي�ؤاخذ على تنفيذ ما �أمر به؛ لأنه نفَّذ الأمر باختياره و�إرادته.
e
و�إذا كان املرء غري م�ؤاخذ على الإكراه ،فال تع ّد ت�صرفاته التي ت�صدر منه حال الإكراه
ik
�سو َّية؛ لأن الأخالق حمل للثواب والعقاب �شرع ًا ،يرتفع بها الإن�سان وينخف�ض عند اهلل
تعاىل ،ف�إذا كان غري م�ؤاخذ يف حال الإكراه فلي�ست هي بالأخالق املعتربة.
a
وال�سبب الآخر� :أن اخللق �صفة م�ستقرة يف النف�س -كما تقدم يف تعريفها -والت�صرفات
n
يخرج منه من كلمات وت�صرفات غري مدرو�سة ،ومل مت ّر على العقل مدة كافية للت�أمل فيها.
l.
وت�صدر من الإن�سان �سلوكيات م�ستغربة حال الغ�ضب ال�شديد� ،إذا مل ي�ضبطها فقد ت�ؤدي
به �إىل التف ُّوه بكلمات خطرية كالكفر والعياذ باهلل� ،أو الإقدام على االعتداء �أو اجلرمية� ،أو
c
فقدان عالقات اجتماعية وثيقة� ،أو وظيفة ،وغري ذلك من الأ�ضرار الكثرية.
o
لذا ف�إن امل�سلم ُم ْلزَ م �أن ي�ضبط �أع�صابه ويتحكم فيها بحيث ال يقوده الغ�ضب ،بل هو يقود
نف�سه ،قال (لي�س ال�شديد بال�صرعة� ،إمنا ال�شديد الذي ميلك نف�سه عند الغ�ضب)(.)2
m
وامتالك زمام النف�س �أمام رغائبها ونزواتها من �أ�شق الأمور ،ويف حال الغ�ضب �أكرث
القوي حق ًا� ،أما من �س َّلم للغ�ضب زمامه وته َّور
م�شقة ،فمن قدر على �ضبط �أع�صابه ،فهو ّ
فلي�س ب�شجاع و�إن كان �أقوى النا�س ج�سدي ًا.
o
ومن هنا ف َّرق العلماء بني القوة وال�شجاعة ،فالقوة ال تعني ال�شجاعة ،والعك�س ،ولكن
ال�شجاعة هي التي ميدح بها الإن�سان ال القوة فقط(.)1
b
وكظم الغيظ ال ينافيه التعبري عن الغ�ضب بطريقة �إيجابية� ،أي مبناق�شة امل�شكلة� ،أو �إبداء
ik
ت�ضايقك مما ح�صل ،لأنه نوع من التنفي�س املريح� ،أما كتم ما تكرهه يف نف�سك دائم ًا وحت ّمله،
ف�إنه قد ي�سبب ارتفاع �ضغط الدم والك�آبة(.)2
a
وهناك و�سائل ي�ستطيع الإن�سان بوا�سطتها تخفيف الغ�ضب ،وقبل الو�سائل �أحب �أن �أقرر
حقيقتني مهمتني:
n
الأوىل� :أن م� ِّؤجج الغ�ضب يف نف�س الإن�سان هو ال�شيطان؛ لأنه يحب �أن يثري نفو�س امل�ؤمنني
d
بع�ضهم على بع�ض ،وهذا ما قاله نبي اهلل مو�سى ÷ حني غ�ضب وثار وقتل الرجل ،ثم
قال :ﱫﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﱪ [الق�ص�ص ،]15 :فن�سب الغ�ضب وما تبعه �إىل
l.
عد ِّو اهلل ال�شيطان ،فدفع الغ�ضب يكون بدفع �سببه ومن�شئه يف النف�س ،لذا ف�إن من ا�ستوىل
ال�شيطان عليه وعلى ت�صرفاته يف حياته ،كان �أبعد النا�س عن احللم.
c
الثانية� :أن االنت�صار للنف�س غريزة �إن�سانية ،قد يربطها بع�ض النا�س بالعزة والقوة
o
ارتباط بينهما ،بل ميكن �أن يكون االنت�صار للنف�س جزء ًا من
ٌ والكرامة ،وقد ال يكون هناك
ظان �أن كل �إم�ضاء للغ�ضب عزة ،وال كل كظم للغيظ مهانة ،و�سن�أتي
الكرب والغرور ،فال يظن ّ
m
ال�شيطان� ،إ�ضاف ًة �إىل الوقت الذي ي�أخذه الإن�سان يف الو�ضوء مما يخفف الغ�ضب� ،إ�ضاف ًة
b
�إىل املاء الذي ي ِّربد حرارة الغ�ضب امل�شتعلة يف القلب واجل�سد ،ولأجل هذا كله قال �( :إن
الغ�ضب من ال�شيطان ،و�إن ال�شيطان خلق من النار ،و�إمنا تطف�أ النار باملاء ،ف�إذا غ�ضب
e
�أحدكم فليتو�ض�أ)(.)1
ik
ور�أى ر�سول اهلل رج ًال غ�ضب ًا قـد احـم ّر وجـهه ،فـقال �( :إنـي لأعـلم كلمة
n
لو قالها ذهب عنه الذي يجد ،لو قال� :أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم ذهب عنه ما
d
يجد)(.)2
الو�سيلة الثالثة :تغيري هيئة الإن�سان من الوقوف �إىل اجللو�س؛ �أو اال�ضطجاع� ،أو اخلروج
l.
ي�شجع على االنتقام ب�سرعة ،بخالفمن املكان� ،أو �صرف وجهه عمن �أغ�ضبه؛ لأن الوقوف ِّ
c
اجللو�س ،واملكث يف املكان يذ ِّكر الإن�سان بكل كلمة قيلت ،بخالف اخلروج من املكان حيث
يرى م�شاهدات �أخرى ين�شغل بها ،لذا قال �( :إذا غ�ضب �أحدكم وهو قائم فليجل�س ،ف�إن
o
الو�سيلة الرابعة� :إ�شغال النف�س مبلهيات خمتلفة؛ كالريا�ضة ،وركوب ال�سيارة ،واللعب
بالكمبيوتر� ،أو غريه ،والذهاب لل�سوق� ،أو التم�شية على البحر ،وغري ذلك ،حيث تن�سيه تلك
امللهيات كثري ًا مما جرى ،وتعطيه فر�صة للمراجعة.
o
الو�سيلة ال�ساد�سة :عدم مقابلة الهجوم بهجوم ،والتفكري يف االنت�صار ،والرد ال�سريع
e
وبقوة على ما قيل ،بل الرتكيز على التفكري يف ما قيل وتو�ضيح اللب�س فيه؛ لأن املقابل قد
يكون فهم خط أً� �أو نقل �إليه نقل غري �صحيح ،كما قيل(:)1
ik
و�أن الإن�سان يتجاوب مع املقابل يف م�ستوى ال�صوت ،ف�إذا خف�ضت �صوتك ف�إن املقابل
�سيتجاوب بخف�ض �صوته وتخفيف غ�ضبه(.)2
l.
وال يحتج �أحد ب�أن ت�صرفاته �صدرت من غري ق�صد ،وبالتايل ال ي�ؤاخذ مبا ينتج عنها،
c
و�إذا كانت الأخالق يجب �صدورها عن اختيار ،ففي حال الغ�ضب ال�شديد ال يتحقق فيها
ذلك يف كث ٍري من الأحيان ،فالغ�ضب ي�ؤثر على ال�سلوك الأخالقي بحيث ال ميكن االعتماد على
m
( )2جبلني/لي�س :كيف تتمتع بالثقة والقوة يف التعامل مع النا�س -ترجمة مكتبة جرير -ط الأوىل 1999م
-ف�صل :كيفية ال�سيطرة على غ�ضب الآخرين (.)60
( )1رواه احلاكم ( )303/3و�صححه عن معاذ .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 42
العامل الثالث :الرياء وامل�صلحة :فاملرائي يت�صنّع ال�سلوك الذي يخدمه يف م�صلحته ولو
كان غري خلق له ،فيت�صنّع الكرم �أو التد ُّين �أو خدمة الآخرين لينال بذلك م�صلحة ،فال تع ّد
هذه الت�صرفات �أخالق ًا لل�شخ�ص؛ لأنها لي�ست �صادرة عن �صفة نف�سية م�ستقرة ،فهي نو ٌع
والغ�ش وخداع الآخرين ،قال تعاىل :ﱫﭶ ﭷ * ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ من الكذب ّ
o
ي�صح اعتبار الت�صرفات امل�صلحية �أخالق ًا ،و�إال اختلط ال�صادق بالكاذب.
فال ّ
e
وقد ي�س�أل �سائل :كيف ن�ستطيع متييز ال�صادق من الكاذب ،ونحن م�أمورون �أن نحكم
على ال�شخ�ص بظاهر ت�صرفاته ،واهلل يتوىل ال�سرائر؟
ik
واجلواب� :إن التمييز يف مثل هذه احلالة من ال�صعوبة مبكان ،وميكن لبع�ض النا�س �إتقان
الت�صنُّع بحيث ال ي�ستطيع ال�شخ�ص العادي متييز �صدقه من كذبه ،كما �أن رجال اجلمارك
a
والأمن يتفاوتون يف �إدراكهم للمز ِّورين وامله ِّربني ،ولكن هناك ثالث طرق ت�ساعد على
التعرف على �صدق الت�صرف من عدمه ،هي:
n
< الرجوع �إىل �أهل الدراية واخلربة الذين ي�ستطيعون من خالل طول التجربة متييز
d
< مالحظة ال�سلوك العام لل�شخ�ص يف مدة مع َّينة؛ لأن املت�ص ِّنع ال ي�ستطيع الت�صنُّع
�أبد الدهر ،وال ملدة طويلة �أي�ض ًا ،فال ب ّد �أن تظهر منه بع�ض ال�سلوكيات التي تدلّ
على ريائه وت�صنُّعه.
c
< اختبار املت�صنّع واملرائي يف بع�ض املواقف التي ال ي�صرب عليها �إال ال�صادقون،
o
فاملرائي يف العبادات ال يتحمل تعب العبادات كثري ًا ،واملرائي يف الكرم ال يتحمل
الإنفاق من ماله ال�شخ�صي دائم ًا ،واملرائي يف ال�شجاعة ال ي�صرب عند ال�شدائد،
m
�سلوكيات ال تدل على خلقه ،ف�إن الأمن حاجة فطرية ال ي�ستغني عنها ابن �آدم ،وللح�صول
عليها يلج�أ الإن�سان �إىل ت�صرفات قد ال تكون من �أخالقه وعاداته ،وقد قال اهلل تعاىل يف �ش�أن
غزوة الأحزاب :ﱫﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒﮓﮔﱪ [الأحزاب ]10 :فال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم وهم خري النا�س خافوا وظنوا
o
باهلل الظنون ،ومل ي�ؤاخذهم اهلل على ذلك ،بل قال لهم النبي �( :أال رجل ي�أتيني بخرب
b
القوم �أ�شرتط له اجلنة)( )1مرتني وثالث ًا ،فلم يتقدم �أحد من �شدة اخلوف!
فهذا يدل على �أن اخلوف ي�صرف الإن�سان عن طبيعته وخُ ُلقه.
e
ik
a
n
d
l.
c
o
m
الف�صل الثاين
مفهوم امل�صلحة العامة
o
وامل�صلحة العامة هنا تتناول املجموع ال الأفراد ،ف�إذا كانت حتقق امل�صلحة لعموم النا�س،
وت�ضر جمموعة حمدودة منهم ،فال ي�ؤثر ذلك على حتقق امل�صلحة العامة.
a
وعلى �سبيل املثال :لو ر�أى احلاكم �أن ت�سعري ال�سلع يحقق امل�صلحة العامة للنا�س ،ف�إنه
ي�شرعه ولو كان ي�ضر ببع�ض التجار.
n
وهكذا النظم الإدارية والقوانني الو�ضعية ،رمبا كانت ال تنا�سب حالة بع�ض املوظفني،
d
ولكنها تفيد �أغلبهم ،واحلكم دائم ًا على الغالب ال على النادر ال�شاذّ.
والوظيفة �إحدى �صور امل�صلحة العامة؛ لأنها ال تفيد �شخ�ص ًا معين ًا ،و�إمنا ت�ؤدي خدمات
l.
لعموم النا�س ،لذا ف�إن عالقة الوظيفة بامل�صلحة العامة عالقة اجلزء بالكل.
c
ال �شك �أن الأخالق الإ�سالمية �إذا ع َّمت يف املجتمع ،والتزم بها الأفراد ،اطم� ّأن بالهم
و�أمنوا على �أنف�سهم و�أموالهم ،وتعاونوا فيما بينهم ،ف�شاعت بينهم املحبة والتنا�صر
m
والوحدة.
وهذا ينعك�س-من ثم -على �أدائهم لعباداتهم و�أعمالهم الفردية واالجتماعية.
( )1ابن اجلوزي/عبدالرحمن� :صفة ال�صفوة (.)304 ،302/1
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 46
فخلق الإح�سان �إىل اجلار مث ًال �إذا انت�شر يف املجتمع �أورث املودة والتعاون بني امل�سلمني،
كما �أن ال�سلف ال�صالح كانوا ي�ؤثرون اجلريان على �أنف�سهم مبا يحبون ،وذلك حتقيق ًا لو�صية
اهلل ور�سوله.
o
فقد جاء �أن �أحد الأن�صار �أهدي له ر�أ�س �شاة ف�أهداه جلاره ،وهكذا اجلار فعل ...حتى
عاد للأول.
b
فامل�صلحة العامة تتحقق بالنفع العام ،والأخالق �أهم العوامل التي حتقق النفع العام،
e
ويف اجلانب الوظيفي حتقق الأخالق النفع العام بزيادة الإخال�ص والرقابة الذاتية وهو
العامل الأول يف ح�سن �أداء املوظفني ،وحتقق النفع العام بالعالقات احل�سنة بني املوظفني
ik
ومر�ؤو�سيهم ،وبني املوظفني �أنف�سهم ،وبينهم وبني املراجعني ،وحتقق النفع العام بالوقاية
من امل�شكالت الإدارية امل�ستع�صية كالر�شوة واالبتزاز ،والغ�ش ،وغري ذلك.
a
فخلق التوا�ضع مث ًال �إذا وجد يف امل�س�ؤول واملوظفني احرتم كل منهم �أخاه ،فقد جاء عن
عثمان �أنه كان -وهو خليفة -يذيب الثلج ليغت�سل به يف الليل ،وال يوقظ غلمانه ،وكان
n
وهذا �أك�سبه االحرتام بني النا�س ،قال عبداهلل بن عمر :كنا نقول على عهد ر�سول اهلل
�أبو بكر ،ثم عمر ،ثم عثمان �أي يف الأف�ضلية(.)2
l.
c
o
m
( )2رواه البخاري (ف�ضائل ال�صحابة/مناقب عثمان بن عفان ،)3494 -ويف رواية �أبي داود ( : )206/4كنا
حي �أف�ضل �أمة النبي بعده �أبو بكر ،ثم عمر ،ثم عثمان.
ّ نقول ور�سول اهلل
( )1املعجم الو�سيط (.)890/2
47 مفاهيم عامة
الف�صل الثالث
مفهوم املهنة ومرادفاتها
o
مفهوم املهنة:
b
وا�صطالح ًا :جمموعة من الأعمال تتطلب مهارات معينة ي�ؤديها الفرد من خالل
ممار�سات تدريبية(.)2
ik
مفهوم احلرفة:
a
مفهوم الوظيفة:
لغ ًة :ما يق َّدر من عمل �أو طعام �أو رزق وغري ذلك يف زمن نَّ
معي ،وت�أتي مبعنى اخلدمة
l.
املع َّينة(.)5
وا�صطالح ًا :وحدة من وحدات العمل تتكون من عدة �أن�شطة جمتمعة مع بع�ضها يف
c
امل�ضمون وال�شكل ،وميكن �أن يقوم بها موظف واحد �أو �أكرث(.)6
o
�أو :كيان نظامي يت�ضمن جمموعة من الواجبات وامل�س�ؤوليات ،توجب على �شاغلها
التزامات معينة ،مقابل متتعه باحلقوق واملزايا الوظيفية(.)1
وعليه ف�إن املوظف العام هو« :ال�شخ�ص الطبيعي الذي ي�شغل �إحدى الوظائف العامة
o
اخلا�ضعة لنظام اخلدمة املدنية �أو �أحد الأنظمة الوظيفية اخلا�صة كنظام الوزراء ونظام
الق�ضاء ...وغريها ،بال�شروط وامل�ؤهالت املطلوبة ل�شغل �أي من تلك الوظائف»(.)2
b
e
مفهوم العمل:
لغ ًة :املهنة ،والفعل عن ق�صد(.)3
ik
وا�صطالح ًا :هو ما يقوم به الإن�سان من ن�شاط �إنتاجي يف وظيفة �أو مهنة �أو حرفة(.)4
لب العمل� ،سوا ًء
وهذا يبني لنا ركني العمل الأ�سا�سيني :الن�شاط ،والإنتاج؛ فالن�شاط هو ُّ
a
ولذا ف�إن الإ�سالم ال يح ِّبذ احل�صول على املكا�سب دون ن�شاط ،ولهذا ح َّرم الإ�سالم
القمار؛ لأنه و�سيل ٌة للقعود والك�سل� ،إذ عن طريقه يح�صل الرجل على املال دون جهد �أو
d
والركن الثاين للعمل هو هدفه ،وهو الإنتاج� ،سواء كان �إنتاج ًا مادي ًا ك�صناعة ٍ
�شيء ما� ،أو
ا�ستخراجه من كنوز الأر�ض� ،أو معنوي ًا كالوظائف الكتابية� ،أو احلرا�سة التي يكون مردودها
c
الوظيفة العامة و�إدارة �ش�ؤون املوظفني -ن�شر املنظمة العربية للعلوم الإدارية (.)7
( )2اخلمي�س/ورقة مقدمة لندوة «�أخالقيات العمل يف القطاعني احلكومي والأهلي» املنعقدة يف معهد الإدارة
m
العامة يف اململكة العربية ال�سعودية -الريا�ض يوم الثالثاء 1426/1/20هـ املوافق 2005/3/1م ،بعنوان
«�أخالقيات املوظف العام» من �إعداد الأ�ستاذ/حممد بن نا�صر اخلمي�س.
( )3املعجم الو�سيط (.)628/2
( )4امل�صري :حممد عبدالغني/مرجع �سابق (.)50
( )1د .بكر القباين ،اخلدمة املدنية فـي اململكة العربية ال�سعودية� ،ص .91
49 مفاهيم عامة
ويعرف بع�ضهم العمل ب�أنه« :جمموعة حمددة من الواجبات وامل�س�ؤوليات ،يلزم للقيام
بها توافر ا�شرتاطات معينة فـي �شاغلها تتفق مع نوعها و�أهميتها وت�سمح بتحقيق الهدف من
�إيجادها»(.)1
o
b
e
ik
a
n
d
l.
c
o
m
ويوحد بع�ض الباحثني تعريف العمل مع تعريف الوظيفة العامة املتقدم ،انظر :ال�سعدان/مرجع �سابق.
ِّ
( )1املطريي/حزام بن ماطر :الإدارة الإ�سالمية :املنهج واملمار�سة .الريا�ض :مطابع الفرزدق ،توزيع دار
m
o
c
l.
d
n
a
ik
e
b
o
51 مفاهيم عامة
الف�صل الرابع
مفهوم الإدارة يف الإ�سالم وعنا�صرها
o
هناك عدة تعريفات للإدارة الإ�سالمية ،منها �أنها :الإدارة التي يتحلى �أفرادها قيادة
e
وجماعات ،رجا ًال ون�سا ًء ،بالعلم والإميان عند �أدائهم لأعمالهم املوكلة �إليهم
ٍ و�أتباع ًا� ،أفراد ًا
على اختالف م�ستوياتهم وم�س�ؤولياتهم يف الدولة الإ�سالمية(.)1
ik
ومنها �أي�ض ًا� :أنها الإدارة التي يقوم �أفرادها بتنفيذ اجلوانب املختلفة للعملية الإدارية
(التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة) ،على جميع امل�ستويات وفق ًا لل�سيا�سة ال�شرعية(.)2
a
والفرق بني التعريفني �أن الأول يركز على الأخالق الإ�سالمية للموظف بذاته ،والثاين
يركز على مطابقة العمل لل�شريعة الإ�سالمية ،وال�صحيح اجلمع بني االثنني ،بحيث ي�صبح
n
التعريف كالآتي:
d
الإدارة التي يتحلى �أفرادها بال�سلوك الإ�سالمي عند �أدائهم لأعمالهم ،ويقومون
بواجباتهم الوظيفية بجميع م�ستوياتها وفقاً لل�شريعة الإ�سالمية.
l.
هذا تعريف الإدارة الإ�سالمية� ،أما تعريف الإدارة البحتة ،فهي :الو�صول �إىل الأهداف
العامة ،عن طريق ا�ستخدام القوى الب�شرية واملوارد املادية املتاحة ب�أ�ساليب علمية ،لرفع
c
ويت�ضح الفرق بني تعريف الإدارة الإ�سالمية وتعريف الإدارة البحتة ،ب�أن الإدارة
الإ�سالمية تربط الإدارة بالغاية التي يعي�ش لها امل�سلم وهي عبادة اهلل تعاىل وعمارة الكون
m
فاملهم يف التعريفات الإدارية املجردة الو�صول �إىل الإنتاج املادي ،بغ�ض النظر عن
الو�سائل ،وهنا تتميز الإدارة الإ�سالمية حني تنظر �إىل الإنتاج على �أنه و�سيلة لعبادة اهلل،
يجب �أن ال يتعار�ض مع الهدف والغاية ،ويكون من�ضبط ًا ب�شروطها.
o
ال تختلف عنا�صر الإدارة يف الإ�سالم عن عنا�صر الإدارة يف الأنظمة الإدارية� ،إال �أنها
تتميز بارتباطها بالهدف ،وهو حتقيق عبادة اهلل �سبحانه ،وب�أنها م�ؤ�صلة ت�أ�صي ًال �شرعي ًا
e
يك�سبها قوة وثبات ًا ،مينعانها من ال�ضعف �أو التغري على مدى الأزمان.
ik
العن�صر الأول :التخطيط :وهو �أول و�أهم �أ�سا�سيات العمل الإداري ،ويت�ضمن بناء
وت�صميم الربامج الالزمة لإجناز �أهداف امل�ؤ�س�سة من خالل اال�ستثمار الكفء ملواردها
a
املادية والب�شرية.
ويت�ضح التخطيط يف الكتاب وال�سنة من خالل ق�صة يو�سف ÷ ،حني و�ضع خطة
n
اقت�صادية مل�صر كفلت للبالد النجاة من �ضائقة اقت�صادية وطنية ،وحققت له الأمن
d
ﮛ * ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﱪ [يو�سف]49-47 :
وكان يخطط للغزوات التي يغزوها ،ويع ّد لها العدة ،وكان يخطط للدعوة �إىل
o
اهلل تعاىل مبرا�سـلة امللوك ،وبعـث �أ�صحابه للبلدان املجاورة ملحاولة ك�سب الأن�صار
m
ون�شر الدعوة.
ي�ستثمر طاقات �أ�صحابه يف هذه اخلطط ،كل ح�سب مهارته. وكان
)1757 -عن عمر .
( )1رواه �أبو داود ( )215/4عن عبداهلل بن زمعة .
53 مفاهيم عامة
العن�صر الثاين :التنظيم :ويت�ضمن حتديد اخلطوات واملهام والوظائف التي ينبغي
�إجنازها ،واملواد الواجب توفريها لتحقيق الأهداف املبتغاة.
والتنظيم يف املهام يف القر�آن الكرمي يت�ضح من خالل ق�صة �سليمان ÷ الذي كان قد
o
وظف كل �شخ�ص حتت يده يف مهمة مع َّينة ،فقال تعاىل :ﱫﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ َّ
ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
b
والتنظيم كان موجود ًا يف الإدارة النبوية؛ حيث كانت املهام موزَّعة على ال�صحابة،
وك ٌّل منهم يعرف ما املطلوب منه يف الربامج املنفذة ،فاخلطيب وال�شاعر والقائد واملفاو�ض
a
واملراقب والطبيب املعالج والكاتب واملقرئ واملع ِّلم وامل�ؤذن وامل�ست�شار ،كل ذلك كان يف
n
�أ�صحاب النبي ب�شكل موزَّع بانتظام ،بحيث ال يتع َّدى �أح ٌد على مهام �آخر.
ال�صديق ي�صلي بالنا�س ،وت�أخر ِّ وعلى �سبيل املثال :ملا مر�ض النبي كان �أبو بكر
d
�أبو بكر مرة ،ف�صلى عمر ،فقال وهو يف بيته (ي�أبى اهلل ذلك وامل�سلمون) ثالث ًا(.)1
l.
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ * ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﱪ [النمل:
]21 - 20
o
ويف ال�سنة النبوية كان يق ِّوم �أعمال ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم يف وظائفهم ،كما م َّر
m
النبي على بائع يظهر اجليد من الطعام يف الأعلى ،ويخفي الرديء يف الأ�سفل ،فقال
غ�ش فلي�س مني»( .)2فهذه املراقبة.
«�أفال جعلته فوق الطعام لرياه النا�س ،من ّ
( )2رواه م�سلم (الإميان/قول النبي من غ�شنا فلي�س منا )102 -عن �أبي هريرة .
( )1رواه �أبو داود ( )301/3وابن حبان يف �صحيحه ( )451/11ب�سند ح�سن.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 54
وكان يد ِّربهم على العمل ،كما قال النبي لعلي عندما بعثه �إىل اليمن قا�ضي ًا (�إذا
تق�ض بينهم حتى ت�سمع من الآخر كما �سمعت من الأول ،ف�إنه
جل�س بني يديك اخل�صمان فال ِ
�أحرى �أن يتبني لك الق�ضاء)(.)1
o
العن�صر الرابع :ال�ضبط :ويخت�ص بو�ضع الإجراءات الكفيلة بت�صحيح الأخطاء التي
ت�صيب الأداء ،مع العمل على تفادي هذه الأخطاء م�ستقب ًال.
e
العن�صر اخلام�س :التن�سيق :وهو التعاون بني �أع�ضاء وقطاعات امل�ؤ�س�سة حلماية
ik
مواردها من الإهدار نتيجة تداخل الأعمال وامل�س�ؤوليات .و�سبق ذكر �شيء من ذلك يف
�إدارة النبي .
a
لتو�ضيح العالقة بني الإنتاجية اجليدة وو�ضع العمال �أجرى عامل االقت�صاد الإجنليزي
�آدم �سميث يف منت�صف القرن الثامن ع�شر امليالدي درا�سة عن �أ�سباب ازدهار وتدهور
d
ثروات الأمم ،فالحظ يف كتابه (ثروة الأمم) االرتباط الوثيق بني جودة الإنتاج وغزارته،
واالرتباط بني عدم جودته و�ض�آلته ،وتو�صل �إىل �أن �سبب التفاوت يعود �إىل و�ضع العاملني بني
l.
حالتي الإلزام وااللتزام ،فالذي يعمل ب�أخالقيات املهنة بدافع االلتزام يكون دقيق الإنتاج
وغزيره� ،أما الذي يعمل بدافع الإلزام فهو ركيك الإنتاج و�ضئيله(.)4
c
o
( )2رواه الرتمذي ( )373/1و�ض َّعفه ،وله �شواهد (الأذان لأ�سامة القو�صي.)80 :
( )3رواه البخاري (الأذان/هـل يتتبع امل�ؤذن فاهههـنا وههنا وهـل يلتفت يف الأذان )608 -وم�سلم (ال�صالة/
�سرتة امل�صلي )503 -عن �أبي جحيفة .
m
( )4احلميد/ورقة مقدمة لندوة «�أخالقيات العمل يف القطاعني احلكومي والأهلي» املنعقدة يف معهد الإدارة
العامة يف اململكة العربية ال�سعودية -الريا�ض يوم الثالثاء 1426/1/20هـ املوافق 2005/3/1م .بعنوان «دور
وزارة العمل يف تنظيم و�ضبط �أخالقيات العمل يف القطاع اخلا�ص» من �إعداد د .عبدالواحد بن خالد
احلميد.
o
b
e
ik
الباب الثاين
a
n
الأخالق الوظيفية
d
l.
c
o
m
m
o
c
l.
d
n
a
ik
e
b
o
57 الأخالق الوظيفية
مدخل
o
الأخالق الوظيفية جزء من الأخالق الإ�سالمية العامة ،لذا ف�إن من ين�سجم مع الأخالق
الإ�سالمية �أو يتعار�ض معها ،فهو كذلك مع الأخالق الوظيفية ،خ�صو�ص ًا يف �أنظمة اململكة
b
والأنظمة الوظيفية يف العامل ب�شكل عام تطبق الأخالق الوظيفية املتوافقة مع الأخالق
الإ�سالمية؛ وذلك �أن العقل الب�شري ال�سليم يهدي �إىل احلق �إذا جت َّرد ،والأنظمة الوظيفية يف
ik
العامل ال ي�ضعها �شخ�ص واحد ،و�إمنا ي�ضعها جمموعة من املتخ�ص�صني بعد درا�سة وبحث،
فيندر �أن يتفقوا على خمالفة الأخالق الإن�سانية التي هي يف الأ�صل �أخالق �إ�سالمية.
a
لذا ف�إن الت�شابه الذي قد يجده القارئ يف تناول الأخالق الوظيفية مع الأخالق الإ�سالمية
العامة غري م�ستغرب؛ ملا ذكرت �سابق ًا من االتفاق بينهما يف امل�صدر ،ويف امل�ضمون� ،إال
n
�أنني لن �أ�ستطرد يف ذكر جميع الأخالق الإ�سالمية لأربطها بالوظيفة؛ لأن ذلك لي�س هدف
d
البحث� ،إ�ضاف ًة �إىل �أن فيه نوع ًا من التكلف ،ولكني �س�أقت�صر على الأخالق التي لها عالقة
مبا�شرة بالوظيفة� ،أو قد ن�صَّ ت عليها الأنظمة الوظيفية.
l.
وقد يقول قائل� :إن كل الأخالق الإ�سالمية يحتاجها املوظف يف وظيفته؛ لأن املوظف ع�ض ٌو
c
يف املجتمع امل�سلم ،مطلوب منه �أن يلتزم بهذا اخللق� ،إ�ضاف ًة �إىل �أن الأخالق الإ�سالمية كلها
لها ت�أثري على �أداء املوظف يف وظيفته.
o
وقد �أتَّفق مع هذا القائل ،لكن هذا الت�أثري بع�ضه مبا�شر ،وبع�ضه غري مبا�شر ،فال
m
داعي حل�شر كل الأخالق يف مثل هذا البحث املخت�ص بالأخالق الوظيفية املبا�شرة ،وتكثري
احلديث فيما حمله مكان �آخر؛ فمن الأخالق الإ�سالمية املحمودة الإح�سان �إىل اجلار ،وبر
الوالدين ،والرحمة باحليوان ،وغري ذلك ،وهذه الأخالق االجتماعية ال �صلة لها بالوظيفة
بطريق مبا�شر ،لذا ف�إن اجتاه البحث للتخ�ص�ص هو املطلوب.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 58
وااللتزام بالأخالق عموم ًا �شيء ،وااللتزام بها للوظيفة �شي ٌء �آخر ،مبعنى �أن بع�ض
املوظفني ملتزم بالأخالق الوظيفية املحمودة ،ولكنه قد يكون غري ملتزم بالأخالق الإ�سالمية
يف حياته العامة �أو االجتماعية ،وهذا ُي�شكر على ح�سن �أدائه الوظيفي ،وين�صح با�ستكمال
بقية الأخالق يف حياته العامة.
o
عي النبي خالد بن الوليد قائد ًا لبع�ض ال�سرايا، ْولأ�ضرب مثا ًال على ذلك :عندما نَّ
b
مق�صر يف بع�ض �أخالقه العامة ،وقد حدثت منه هنات عاتبه عليها ر�سول اهلل كان يعلم �أنه ِّ
،كا�ستعجاله يف قتل بع�ض امل�سلمني يف �إحدى ال�سرايا ،وقول ر�سول اهلل ( :اللهم �إين
e
�أبر أ� �إليك مما �صنع خالد)( ،)1واجتهاده يف قتل بع�ض امل�شركني بغري �إذن يوم فتح مكة(،)2
ik
و�س ِّبه بع�ض ال�صحابة ،وقول ر�سول اهلل له( :الت�س ُّبوا �أ�صحابي)(.)3
مت�سك النبي ولكن هذا ال مينع �أن يكون خالد �أف�ضل من غريه يف هذا املن�صب ،لذا َّ
a
به ،ودافع عنه عندما تكلم بع�ض النا�س فيه ،فقال ÷�( :إنكم تظلمون خالد ًا ،ف�إنه قد
احتب�س �أدراعه و�أعتاده يف �سبيل اهلل)(.)4
n
و�أحد �أهداف هذا البحث �أن يكون التزام املوظف بالأخالق الوظيفية �صادر ًا عن
d
اجتاه �إ�سالمي؛ ذلك �أن هذه الأخالق الوظيفية املحمودة �أ�صولها �إ�سالمية ،فعند ذاك
ي�شعر املوظف بانتمائه الإ�سالمي ،وتزداد ثقته بالأنظمة التي تقرر هذه الأخالق ،ويقوى
l.
التزامه بها.
c
o
خالد بن الوليد �إىل بني جذمية ( )1رواه البخاري عن ابن عمر ر�ضي اهلل عنهما( .املغازي/بعث النبي
.)4084 -
m
( )3رواه البخاري (ف�ضائل ال�صحابة/قول النبي لو كنت متخذ ًا خلي ًال )3470 -وم�سلم (ف�ضائل
ال�صحابة/حترمي �سب ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم )2541 -عن �أبي �سعيد اخلدري .
( )4رواه البخاري (الزكاة/قول اهلل تعاىل :ﱫﮩ ﮪﱪ )1399 -وم�سلم (الزكاة/تقدمي الزكاة ومنعها
)983 -عن �أبي هريرة .
59 الأخالق الوظيفية
الف�صل الأول
الأخالق الوظيفية املحمودة
o
ـعف بـه الإنـ�سان عـما لـيـ�س لـه بـه حـق ،ويـ�ؤدي مـا عليه من
ويف اال�صـطالح :هـي خـلق ي ّ
احلقوق(.)2
ik
فمن �أمانة الإن�سان �أن يتعفف عن الأموال والأعرا�ض التي ال حتل له ،ومن �أمانته �أن ي�ؤدي
ما عليه من حقوق جتاه اهلل واخللق �أجمعني.
a
عظم الأمانة :والأمانة حم ٌل عظيم ناءت به ال�سماوات والأر�ض ،قال تعاىل :ﱫﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﱪ
n
والأمانة املرادة يف الآية الكرمية هي التكليف ،حيث حتملها الإن�سان لظلمه لنف�سه وجهله
ري من بني �آدم مل يتحملوا الأمانة؛ ولكن منهم من حت َّملها و�أ َّداها كما يجب،
بعظمها ،وكث ٌ
l.
له ،يف قوله( :ال �إميان ملن ال �أمانة له)( ،)3وهذا يدل على ارتباط الإميان بالتوحيد ،و�أنها
o
ت�صدر من اعتقاد امل�سلم باملرجعية يف �أمانته ،و�أن اهلل تعاىل هو الذي يحدد له جماالت
�أمانته وكيفيتها.
m
( )1املفردات للراغب ( )25ومعجم مقايي�س اللغة ( )133/1ومو�سوعة ن�ضرة النعيم (.)507/3
( )2نحوه يف :الأخالق الإ�سالمية و�أ�س�سها لل�شيخ عبدالرحمن حبنكة امليداين ( )645/1ومو�سوعة ن�ضرة النعيم
(.)509/3
ٍ
ب�سند �صحيح (في�ض القدير،)381/6 : ( )3رواه �أحمد ( )210 ،154،135/3وابن حبان ( )422/1عن �أن�س
واملق�صود باحلديث نفي الإميان الكامل ،ال نف ُيه بالك ِّلية.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 60
ومن اهتمام الإ�سالم بالأمانة ورود عدة �آيات قر�آنية تتحدث عنها ،وكثري من الأحاديث
التي ت�ش ِّرعها وتبني تطبيقها( ،)1ومن �أهمية الأمانة �أنها كانت من �أبرز �صفات الر�سل
والأنبياء عليهم ال�صالة وال�سالم ،فنوح ،وهود ،و�صالح ،ولوط ،و�شعيب عليهم ال�سالم ك ٌّل
o
منهم كان يقول لقومه :ﱫﯽ ﯾ ﯿ ﰀﱪ [�سورة ال�شعراء ]107 :ذلك �أن تبليغ الر�سالة
يحتاج �إىل درجة عالية من الأمانة؛ لأن اخللل �أو اخليانة فيها �أعظم من غريها بكثري.
b
ونبينا حممد كان يعرف بالأمني قبل النب َّوة ،وبعد حمله الر�سالة م َّثل الأمانة حق
متثيل ،حتى وكَّل علي ًا ب�أداء الأمانات لأهل مكة بعد �أن طردوه منها( ،)2ووقف النبي
e
يف �آخر حياته على املنرب ،وطلب من امل�سلمني �أن ي�أخذوا حقهم منه ÷ حد ًا �أو ما ًال،
ik
تكون من امل�ؤمن و�إمنا هي من خ�صال املنافقني ،قال (يطبع امل�ؤمن على كل خلة ،غري
اخليانة والكذب)( ،)4وقال (�آية املنافق ثالث� :إذا ح َّدث كذب ،و�إذا وعد �أخلف ،و�إذا ا�ؤمتن
n
خان)(.)5
d
جماالت الأمانة :الأمانة جما ٌل وا�سع ،فالعبادات �أمانة ،والأبناء �أمانة ،والأموال �أمانة،
والكلمة �أمانة ،والوظيفة �أمانة ،واحلكم �أمانة ،وقوله �سبحانه :ﱫﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
l.
( )1انظر ح�صر ًا جيد ًا لها يف :مو�سوعة ن�ضرة النعيم يف مكارم �أخالق الر�سول الكرمي (.)521 - 3/512
( )2ال�سنن الكربى للبيهقي (.)289/6
m
( )3رواه الطرباين املعجم الكبري (280/18) :و�أبو يعلى عن الف�ضل بن عبا�س ،ورجال �أبي يعلى ثقات
(جممع الزوائد .)27/9
( )4رواه البزار ( )340/3و أ�ب��و يعلى املعجم )152/1( :عن �سعد ،ورجاله رجال ال�صحيح( .جممع
الزوائد.)92/1 :
( )5متفق عليه عن �أبي هريرة وتقدم.
61 الأخالق الوظيفية
الأمانة الوظيفية :الأمانة الوظيفية ت�شمل :الأمانة املالية ،والأمانة العلمية ،والأمانة يف �أداء
العمل ،والأمانة يف الوثائق ،والنبي كان حري�ص ًا على تولية الأمناء؛ فقد قال لأهل جنران
(لأبعثن عليكم �أمين ًا حق �أمني) .فا�ست�شرف له النا�س ،فبعث �أبا عبيدة بن اجلراح (.)1
o
و�س�أقت�صر هنا على النوعني الأولني؛ لأن النوعني الآخرين �سريد ذكرهما يف �صفات �أخرى.
حمبوب للإن�سان ،قال �سبحانه :ﱫﮰ
ٌ الأمانة يف املال :من �أعظم الأمانة؛ لأن املال
b
÷ يغت�سل خ ّر عليه جراد من ذهب ،فجعل �أيوب يحتثي يف ثوبه فناداه ربه« :يا �أيوب �أمل
�أكن �أغنيتك عما ترى؟ قال :بلى وعزتك ولكن ال غنى بي عن بركتك»(.)3
a
تخ�ص �شخ�ص ًا �آخر فال يجوز التعدي عليها دون �إذنٍ منه ،قال
ولكن �إذا كانت الأموال ّ
�سبحانه :ﱫﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﱪ [البقرة ]188 :وقال ( :ال يح ّل مال امرئٍ م�سلم
n
نف�س منه)(.)4
�إال بطيب ٍ
d
وكما �أن الإن�سان ال يحب �أن يتعدى �أحد على �أمواله اخلا�صة ،ف�إنه كذلك يجب �أن ال
يتعدى على مال غريه ،ولي�س�أل الآخذ مال غريه نف�سه :هل �صاحب ال�شركة �أو امل�ؤ�س�سة �أتاه
l.
ماله بالراحة� ،أم �أنه يف الغالب تعب حتى ح�صل على هذا املال ،فكذلك هو يجب �أن ي�ؤدي
عمله بج ّد حتى يح�صل على املال(.)5
c
( )1متفق عليه عن حذيفة ( .البخاري :املناقب/مناقب �أبي عبيدة بن اجلراح ،3535 -وم�سلم :ف�ضائل
o
( )3رواه البخاري (الغ�سل/من اغت�سل عريان ًا وحده يف اخللوة )275 -عن �أبي هريرة .
( )4رواه الدارقطني ( )26/3عن �أن�س ،ورواه �أحمد ( )113/5عن عمرو بن يرثبي ،ورجال �أحمد ثقات.
(جممع الزوائد.)171/4 :
(� )5أقول (يف الغالب) لأن هـناك بع�ض �أ�صحاب الأموال ومديري ال�شركات مل يتعبوا يف احل�صول على املال،
بل جاءهم بطريق �سهل ،كالإرث� ،أو املح�سوبية� ،أو غريهما ،ولكن الغالب هو الأول.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 62
امليزانية� ،أو �أمني �صندوق� ،أو موظف ح�سابات� ،أو غريهم ،ف�إنها وديعة بيده يجب �أن يحافظ
عليها ،وال يت�صرف فيها �إال فيما فيه م�صلحة العمل� ،سواء كان العمل عام ًا �أي حكومي ًا ــ� ،أو
b
وغني عن القول �أن الأموال لي�ست بال�ضرورة �أن تكون �سائلة ،بل كل الأموال ولو �أعيان ًا ٌّ
كال�سيارات والأجهزة والأدوات والعدد وغريها ،تع ّد �أموا ًال مملوكة للدولة �أو امل�ؤ�س�سة ،ال
ik
وغني عن القول �أي�ض ًا �أن الأموال قليلها وكثريها حرام بغري يحق الت�صرف فيها �إال ب�إذنٌّ .
حق ،من القلم الر�صا�ص والورق حتى ال�سيارات!
a
وهذا وا�ضح من العموم يف قوله ( :ال يحل مال امرئ م�سلم �إال بطيب نف�س منه) ومل
يف ِّرق بني القليل والكثري ،وقوله ( :ال تزول قدما عبد يوم القيامة حتى ي�س�أل عن عمره فيما
n
�أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من �أين اكت�سبه وفيم �أنفقه وعن ج�سمه فيم �أباله)(.)2
d
وكم من اقت�صاد دول ٍة انهار ب�سبب االختال�سات وال�سرقات واخليانات املالية ،و�س� ِّ
أف�صل
القول يف االختال�س يف ال�صفات املذمومة ،ولكن �أكتفي هنا مبثال واحد:
l.
تالحق �سقوط كربيات ال�شركات التي ينه�ض عليها االقت�صاد الأمريكي احلديث ،فبعد انهيار
o
�شركة «انرون» العمالقة للطاقة يف (دجنرب) من العام املا�ضي ،وقبلها �شركة الكهرباء
( )1الفرق بني امل�صلحة احلكومية وامل�صلحة اخلا�صة �أن مالك امل�صلحة اخلا�صة كمالك امل�صنع �أو املتجر �أو
m
نحوهما له �أن يت�صرف مبا ي�شاء من ماله بال�ضوابط ال�شرعية املعروفة ،وال يحتاج �إىل �إذنٍ من �أحد� ،أما
أحد �أن يت�صرف يف �أموالها كما ي�شاء ولو كان احلاكم نف�سه؛ لأن املال فيها امل�صلحة احلكومية فلي�س ل ٍ
وقف للم�سلمني ولي�س ملك ًا �شخ�صي ًا.
( )2رواه الرتمذي ( )612/4عن �أبي برزة الأ�سلمي و�صححه.
( )3مرا�سل موقع الإ�سالم اليوم يف الرباط ،مقال يف 1423/8/18هـ املوافق 2002/10/24م.
63 الأخالق الوظيفية
لقد جاء �إفال�س �شركة «انرون» نتيجة عملية اختال�س كبرية قدرت ب�أكرث من 20مليار
دوالر! بينما انهارت �شركة «وورلدكوم» ب�سبب عملية تزوير يف احل�سابات لفائدة بع�ض
b
املديرين قدر مبلغها بنحو 38مليار دوالر! �أي �أن وراء االنهيار ق�ضية ا�سمها (الف�ساد املايل)،
وهي ظاهرة �أ�صبحت جزء ًا من املنظومة الر�أ�سمالية التي تقوم على تقدي�س الربح واقتنا�ص
e
()google ويكفي �أن تكتب جملة «بتهمة الف�ساد» يف �أحد حمركات البحث يف الإنرتنت مثل
لينهال عليك �سي ٌل من احلاالت املعا�صرة التي ال يح�صرها ع ّد ،ومن الأمثلة التي ظهرت يل يف
a
ال�صفحة الأوىل من البحث بتاريخ 1427/4/5هـ املوافق 2006/5/3م يف حمرك البحث (:)google
< اعتقال رئي�س �شركة هونداي بتهمة الف�ساد
n
< اعتقال رئي�س الدائرة املركزية حلماية امل�ستهلك يف �إيطالية بتهمة الف�ساد
l.
< القائد العام الأ�سبق لل�شرطة الإ�سرائيلية يخ�ضع للتحقيق بتهمة الف�ساد
m
ومن الأمانة يف املال� :أداء احلقوق للآخرين ،قال �سبحانه وتعاىل :ﱫﮊ ﮋ ﮌ
( :من �أخذ �أموال النا�س يريد �أداءها �أدى اهلل عنه، ﮍﱪ [الأعراف ،]85 :وقال
ومن �أخذ يريد �إتالفها �أتلفه اهلل)()1
( )1رواه البخاري (اال�ستقرا�ض/من �أخذ �أموال النا�س يريد �أداءها �أو �إتالفها )2275 -عن �أبي هريرة .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 64
ف�أرباب العمل وامل�س�ؤولون ،عليهم �أن ي�ؤدوا للموظفني حقوقهم املالية كاملة ،دون ت�أخري �أو
�أذى؛ لأن امل�س�ؤول قد يعطي احلق كام ًال ،ولكنه ي�ؤخره ومياطل فيه ،في�ؤذي �أخاه امل�سلم ،و�إذا
كان اهلل تعاىل قد منع الأذى يف ال�صدقة بقوله :ﱫﯤﯥﯦﯧﯨﱪ [البقرة :الآية
]264مع �أنها مبنية على امل�ساحمة لأنها تط ُّوع فمن باب �أوىل منع الأذى يف حقوق الآخرين.
o
فمن ويل �أمان ًة ما يف وظيفته ف�إنه يحتاج �إىل مراقبة اهلل فيها �أو ًال ،ثم �أدائها على �أمت
b
وال�صديقني ،قال ( :التاجر ال�صدوق الأمني مع ِّ وجه ،فمن فعل ذلك ف�إنه مع النبيني
وال�صديقني وال�شهداء)( ،)1وهو م�أجو ٌر على �أداء حقوق الآخرين و�إن مل يكن من ِّ النبيني
e
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ
ﭥﭦﱪ [�آل عمران ]187 :فمن يتوىل وظيفة تعليمية يف التعليم العام �أو التعليم العايل،
n
عليه واجب ن�شر العلم الذي يعلمه بحكم احلق ال�شرعي ،وبحكم الوظيفة �أي�ض ًا.
d
اجلواب وهو يعلمه؛ لأن �أ�صحاب النبي كانوا ُي�س�ألون فيتدافعون الفتوى خوف ًا من اخلط�أ،
وتوا�ضع ًا من �أنف�سهم ،ولكن كتمان العلم يكون حرام ًا عند توفر ال�شروط الآتية:
c
فاملع ِّلم عند �شرحه لطالبه ،وال�صحفي عند نقله اخلرب ،والإداري عند تف�سريه النظام،
b
والطبيب عند و�صفه الدواء ،واملهند�س عند و�ضعه اخلطط والدرا�سات ،كل �أولئك وغريهم
ال بد �أن يكونوا دقيقني واثقني من �صحة املعلومة.
e
وهنا يع ِّلمنا القر�آن الكرمي �أن نكون دقيقني يف الألفاظ ،قال اهلل �سبحانه :ﱫﮍ ﮎ
ik
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﱪ [الن�ساء]83 :
n
ن�سب له اجتهاده ،وال ين�سبه الناقل لنف�سه ،فمن نقل معلومة �أو فائدة من كتاب �أو
حقِّه �أن ُي َ
حما�ضرة فلين�سبِ الف�ضل لأهله.
l.
واجب يف كل فائدة علمية� ،أن ي�س ِّمي الناقل من �أخذها عنه ،ولو ٌ وال �أ َّدعي �أن هذا
ا�شرتطت ذلك المتلأت الكتب باحلوا�شي ،واملحا�ضرات بت�سمية الأ�شخا�ص ،ولكن �أ�شرتط ُ
c
�أال ين�سب املرء لنف�سه نظري ًة علمية� ،أو فائد ًة جديدة� ،أو نحو ذلك ،ويوحي للقارئ �أو ال�سامع
o
�أنه هو �صاحبها ،وقد التقطها من غريه ،وهو ما يعرف بال�سرقات الأدبية �أو العلمية ،ومن
هنا قرر العلماء ب�أن حقوق الن�شر والت�أليف حمفوظة؛ فال يجوز ال�سطو على الكتب والبحوث
m
وهذا القائل مل يفهم املغزى من حفظ احلقوق؛ ف�إن مبد أ� �أو فل�سفة حفظ احلقوق �أن الكاتب
�أو املنتج للربنامج ونحوه يريد �أن يخرج الكتاب بال�صورة التي خرج بها دون زيادة �أو نق�صان،
b
فالتغيري فيه يخرجه عن هدف امل�ؤلف و�أ�سلوبه اخلا�ص .و�أي�ض ًا :ف�إن كتب ال�سلف حمفوظة
احلقوق مبعنى عدم جواز الزيادة عليها �أو النق�صان منها مع ن�سبتها للم�ؤلف الأ�صلي.
e
وغني عن القول �أن هذه احلقوق ت�شمل جميع �أنواع العلوم ،وبجميع اللغات ،بغ�ض النظر عن ٌّ
ik
اعتقاد الكاتب �أو امل�ؤلف .فال يخطر ببال �أحد �أن علماء غري امل�سلمني من الأطباء والكيميائيني
والفيزيائيني والتقنيني وغريهم يجوز ال�سرقة من كتبهم العلمية! كال �إن هذا غري جائز؛ لأن
�أموال الكفار حمرتمة كنفو�سهم ،ما مل يكونوا حماربني ،لذا حافظ النبي على نفو�س اليهود
a
الذين ي�سكنون املدينة املنورة و�أموالهم حني كتب العهد معهم .فكذلك احلقوق املعنوية م�صونة
لهم ك�أموالهم .ثم �إن هذا خمالفٌ للأمانة ،وامل�ؤمن ال يخون �أحد ًا م�ؤمن ًا كان �أو كافر ًا.
n
d
االعوجاج ،والعدل يرجع �إىل املعنى الأول( ،)1وهو خالف اجلور وهو ما قام يف النف�س �أنه
م�ستقيم( .)2وقيل :لفظ يقت�ضي معنى امل�ساواة( .)3ومرادفاته :العدالة والعدولة وا َمل َ
عدلة.
c
ويف ال�شرع هو� :إعطاء كل ذي حق حقه من غري �إفراط �أو تفريط( .)4وقيل :بذل احلقوق
o
الواجبة وت�سوية امل�ستحقني يف حقوقهم ،وقيل :ف�صل احلكومة على ما يف الكتاب وال�سنة ال
بالر�أي املج َّرد( .)5والأول �أوىل ل�شموله.
m
مكانته و�أهميته :العدل من �أوجب الواجبات يف الت�شريع الإ�سالمي ،وهو ف�ضيل ٌة متفق
عليها بني جميع ال�شرائع� ،إال �أنها �أظهر يف ال�شريعة الإ�سالمية ،قال �سبحانه :ﱫﯥ ﯦ ﯧ
ﯨﱪ [الأعراف :الآية ،]29وقال تعاىل :ﱫﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﱪ [الأنعام:
]152وقال عز وجل :ﱫﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﱪ [النحل ]90 :وقال �سبحانه :ﱫﭫ ﭬ ﭭ
o
ومن �أ�سمائه �سبحانه (العدل ،واملق�سط) واهلل تعاىل كما �أنه عادل فهو قد �أوجب العدل
ik
على عباده ،و�أعلى منزلة العادلني ،فقال �سبحانه :ﱫﭫ ﭬ ﭭ ﭮﱪ [املائدة]42 :
وقال �( :إن املق�سطني يوم القيامة عند اهلل على منابر من نور عن ميني الرحمن وكلتا
يديه ميني الذين يعدلون يف حكمهم و�أهليهم وما ولوا)(.)2
a
وكما نَّبي منزلة العادلني ،فهو قد التزم العدل يف نف�سه و�أهله والنا�س �أجمعني� ،أما
n
مع نف�سه؛ فقد كان يعطي لنف�سه حقها من العبادة ،ومن الراحة ،ومن الطعام وال�شراب
واحلاجة ،فعن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها قالت :كان ر�سول اهلل ي�صوم حتى
d
و�أما مع �أهله؛ فعن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها قالت« :كان ر�سول اهلل
يق�سم فيعدل ،ويقول :اللهم هذا ق�سمي فيما �أملك فال تلمني فيما متلك وال �أملك -يعني
القلب.)4(»-
c
و�أما يف حكمه؛ فقد روى البخاري� :أن امر�أة �سرقت يف عهد ر�سول اهلل يف غزوة
o
الفتح ،ففزع قومها �إىل �أ�سامة بن زيد ر�ضي اهلل عنهما ي�ست�شفعونه لقربه من النبي ،
m
فقال �أ�سامة :ا�ستغفر يل يا ر�سول اهلل .فلما كان الع�شاء ،قام ر�سول اهلل خطيب ًا ف�أثنى
على اهلل ،ثم قال (�أما بعد ،ف�إمنا هلك النا�س �أنهم كانوا �إذا �سرق فيهم ال�شريف تركوه،
و�إذا �سرق فيهم ال�ضعيف �أقاموا عليه احلد ،والذي نف�س حممد بيده لو �أن فاطمة بنت
o
و�شن عليه حملة كبرية ،و�ساوى بني الظلم والكفر ،يف قوله �سبحانه: العدل وهو الظلمّ ،
e
ﱫﮟﮠﮡﱪ [البقرة ]254 :و�أنزل اهلل يف القر�آن الكرمي نحو ًا من � 290آية تتحدث
عن الظلم( ،)1وجعل العذاب ال�شديد ملن ظلم �شيئ ًا ي�سري ًا ،قال (من ظلم قيد �شرب من
ik
القيامة)( ،)3و�أظلم الظلم ال�شرك ،ثم من افرتى على اهلل الكذب :ﱫﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﱪ [الأنعام ،]21 :وهو م�ؤذ ٌن بخراب البالد متى وجِ د فيها،
n
يعجل اهلل ل�صاحبه العقوبة قبحها ال ي�سوغ ت�أخري جزائها ،قال ( :ما من ٍ
ذنب �أجدر �أن ِّ
يف الدنيا ،مع ما ي َّدخره له يف الآخرة ،من البغي وقطيعة الرحم)(.)4
c
للنف�س ي�س�أل اهلل تعاىل �أن يتجاوز عنه ،كما كان النبي يدعو( :اللهم �أنت امللك ال �إله
e
�إال �أنت� ،أنت ربي و�أنا عبدك ،ظلمت نف�سي واعرتفت بذنبي ،فاغفر يل ذنوبي جميع ًا� ،إنه ال
يغفر الذنوب �إال �أنت)(.)2
ik
وامل�ؤمن ال�صادق ال يتعمد ظلم الآخرين؛ لأنه يعلم �أنه �إن جنا من العقاب يف الدنيا ،ف�إنه
يالحقه بعد موته ،قال �سبحانه :ﱫﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ
a
ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﱪ [�إبراهيم]42 :
n
ومن وقع يف ظلم غريه فليتحلله يف الدنيا قبل �أن ال ي�ستطيع ،قال ( :من كانت له
مظلمة لأحد من عر�ضه �أو �شيء؛ فليتحلله منه اليوم قبل �أن ال يكون دينار وال درهم� ،إن كان
d
له عمل �صالح أُ� ِخذ منه بقدر مظلمته ،و�إن مل تكن له ح�سنات أُ� ِخذَ من �سيئات �صاحبه ُ
فح ِمل
عليه)(.)3
l.
�أمثلة على العدل :وقد �ضرب لنا ال�سلف ال�صالح �أمثل ًة نا�صع ًة يف هذا اخل ُلق نذكر منها
c
على �سبيل املثال :ورد يف ترجمة القا�ضي �أبي يو�سف يعقوب بن �إبراهيم قال :وليت هذا
أحد �إال يوم ًا واحد ًا؛ جاءين رجل فذكراحلكم و�أرجو اهلل �أن ال ي�س�ألني عن جو ٍر وال ميل �إىل � ٍ
o
�أن له ب�ستان ًا و�أنه يف يد �أمري امل�ؤمنني ،فدخلت �إىل �أمري امل�ؤمنني ف�أعلمته ،فقال :الب�ستان يل
ا�شرتاه يل املهدي .فقلت� :إن ر�أى �أمري امل�ؤمنني �أن يح�ضر لأ�سمع دعواه ،ف�أح�ضره ،فادعى
m
( )1متفق عليه عن ابن م�سعود ( .البخاري :الإميان/ظلم دون ظلم ،32 -وم�سلم :الإميان�/صدق الإميان
و�إخال�صه .)124 -
( )2رواه م�سلم (�صالة امل�سافرين/الدعاء يف �صالة الليل وقيامه )771 -عن علي بن �أبي طالب .
( )3رواه البخاري (املظامل/من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له )2317 -عن �أبي هريرة .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 70
�سمعت ما
َ بالب�ستان ،فقلت :ما تقول يا �أمري امل�ؤمنني؟ فقال :هو ب�ستاين .فقلت للرجل :قد
فحكمت بالب�ستان
ُ �أجاب .فقال الرجل :يحلف .فقلت� :أحتلف يا �أمري امل�ؤمنني؟ فقال :ال.
للمدعي .قال :فكنت يف �أثناء اخل�صومة �أو ّد �أن ينف�صل ،ومل ميكني �أن �أجل�س الرجل مع
o
اخلليفة.
ومن عدل عمر بن عبدالعزيز رحمه اهلل �أنه عندما توىل اخلالفة �أمر من ينادي� :أال
b
ذمي من �أهل حم�ص ،فقال :يا �أمري امل�ؤمنني من كانت له مظلمة فلريفعها ،فقام �إليه رجل ِّ
e
�أ�س�ألك كتاب اهلل عز وجل .قال :وما ذاك؟ قال :العبا�س بن عبدامللك اغت�صبني �أر�ضي
والعبا�س جال�س ،فقال له :يا عبا�س ما تقول؟ قال� :أقطعنيها �أمري امل�ؤمنني الوليد بن
ik
عبدامللك ،وكتب يل بها �سج ًال .فقال عمر :ما تقول يا ِّ
ذم ّي؟ قال :يا �أمري امل�ؤمنني �أ�س�ألك
كتاب اهلل عز وجل .فقال عمر :كتاب اهلل �أحق �أن يتبع من كتاب الوليد بن عبدامللك ،فاردد
عليه يا عبا�س �ضيعته ،فر ّد عليه(.)1
a
جماالت العدل :ولي�س العدل خمت�ص ًا بالق�ضاء ،بل العدل يف كل �صاحب والية ،كما ورد
n
يف احلديث (ما من والٍ يلي �أمر ع�شرة من امل�سلمني� ،إال جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان �إىل
d
ففي تربية الأوالد عدل ،وبني الزوجات عدل ،ويف ال�شهادة عدل ،ويف امليزان عدل.
c
العدل يف الوظيفة :وللعدل يف الوظيفة جماالت تطبيقية؛ منها� :إ�سناد الأعمال الإدارية
o
للأكفاء الأمناء ،ليطبقوا العدل يف �إداراتهم ،و�إال كان من و ّالهم �شريك ًا لهم يف الظلم.
يو�ضح للموظف هذه
ومنها :تو�ضيح حقوق وواجبات كل موظف؛ لأن بع�ض امل�س�ؤولني ال ِّ
m
ومنها :امل�ساواة بني املوظفني املت�ساوين يف الدرجة واخلربة يف املعاملة ،واحلقوق ،دون
متييز بينهم غ َري مربر ،ف�إن العدل يقت�ضي امل�ساواة بني املتماثلني(.)1
ومنها :تقدمي من �سبق يف م�سابقة وظيفية� ،أو يف عر�ض م�شروع� ،أو يف تقدمي طلب مقابلة
o
م�س�ؤول� ،أو طلب �إجناز معامل ٍة ما ،فالعدل يف ذلك كله �أن يق َّدم الأ�سبق؛ لأنه منهج القر�آن وال�سنة،
فالقر�آن الكرمي ق َّدم ال�سابقني على �أ�صحاب اليمني ،والنبي كان يحثّ ال�صحابة على امل�سابقة
b
على اخلري ،فمن �سبق ُو ِعد بالثواب ،كاحلديث امل�شهور (�سبقك عكا�شة) .وقد جرى مث ًال.
e
م�صلحي.
ّ نظامي ،ال على �أ�سا�س
ّ ومنها :تقومي املـوظـفـني ب�شـكل مـو�ضـوع ّـي
وعك�س ذلك ظلم ،كمحاباة بع�ض املوظفني� ،أو املراجعني لعالقة �شخ�صية �أو م�صلحة
ik
واجلواب� :إن املوظف �أو امل�س�ؤول الذي ال ي�ستطيع تطبيق العدل لي�س بكفء �أن يتوىل هذا
املن�صب ،فاملن�صب يحتاج �إىل �شجاعة وقوة �شخ�صية والقوة �إحدى �أهم �صفتني يف الوظيفة
d
ري من الإحراج يوم القيامة �أمام�آخر :وهو �أن الوقوع يف الإحراج يف الدنيا ،وتلقِّي اللوم ،خ ٌ
اهلل رب العاملني ،حني يطالب املظلوم بحقِّه ،فال ميكن �أدا�ؤه له.
c
و�أم ٌر �آخر :وهو �أن هذا املظلوم قد يدعو على املوظف الظامل له بعدم التوفيق� ،أو باالنتقام
منه ،ودعوة املظلوم م�ستجابة ،وبط�ش ربك �شديد ،وقد قال ( :ثالثة ال ترد دعوتهم؛
o
ال�صائم حتى يفطر ،والإمام العادل ،ودعوة املظلوم يرفعها اهلل فوق الغمام ويفتح لها �أبواب
ال�سماء ويقول الرب :وعزتي لأن�صرنك ولو بعد حني)()2
m
( )1لي�س العدل هو امل�ساواة مطلق ًا بني جميع النا�س� ،أو بني جميع املوظفني يف الإدارة ،فلي�س هذا من العدل
�أبد ًا ،فكيف ن�ساوي بني ال�سليم واملعاق؟ وكيف ن�ساوي بني املج ّد وغريه؟ وكيف ن�ساوي بني مدير الإدارة
واملوظف اجلديد؟ وكيف ن�ساوي بني الرجل واملر�أة؟ فالعدل �إذ ًا هـو امل�ساواة بني املتماثلني.
وح�سنه عن �أبي هريرة . ( )2رواه الرتمذي (َّ )578/5
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 72
وقال ال�شاعر(:)1
ف ــالـ ـظ ــلم آ�خ ــره يـ ـ�أت ـيـ ــكب ــالـ ـنــدم ـمن �إذا م ــا كـ ـن ــت مـ ـقــتدر ًا
ال ت ـظـ ـلـ َّ
يــدع ــو ع ـل ــيك وعــني اهلل لـ ــم تـ ـنـ ِـم نــامـ ــت ع ـ ـي ــونك واملـ ـظ ــلوم مـنـتـب ٌه
o
يخت�ص مبا يتعلق بالوظائف وقد �أن�ش�أت اململكة العربية ال�سعودية ديوان ًا للمظامل()2
ّ
d
العامة من �شكاوى ،وق�ضايا ،وو�ضعت يف كل مكتب للعمل حمكمة عمالية( )3حتكم يف املظامل
بني �أ�صحاب الأعمال وع َّمالهم ،وو�ضعت نظام ًا تف�صيلي ًا للعمل ،لئال يقع الظلم.
l.
تعريفها :الرقابة الذاتية هي �إح�سا�س املوظف والعامل ب�أنه مك َّلف ب�أداء العمل وم� ٌ
ؤمتن
o
ولو �أن كل موظف يف مكتبه ،وتاجر يف جتارته ،وعامل يف مهنته ،و�صانع يف م�صنعه،
راقب اهلل تعاىل فيما هو م�ؤمتن عليه ،لزاد الإنتاج ،وتال�شت امل�شكالت الوظيفية ،وتوفر
للدولة وامل�صلحة �أموا ٌل طائلة كانت تذهب هدر ًا.
o
بائع يبيع الطعام وقد جعل الرطب منه يف الأ�سفل والياب�س يف وعندما م َّر النبي على ٍ
e
الأعلى فقال له�( :أفال جعلته فوق الطعام ،من غ�ش فلي�س منا)( )1كان يع ِّلم هذا البائع �أن
يعتمد على نف�سه يف الرقابة الذاتية ،وال ينتظر �أحد ًا يحت�سب عليه.
ik
و�سائلها :وقد حتدث الكثريون من الك ّتاب يف علم الإدارة عن �أهمية الرقابة الذاتية عند
املوظف ،ولكن املهم هو و�سيلة احل�صول على هذه الرقابة ،و�أرى �أن الو�سائل الآتية ت�ساعد يف
a
وعن علمه ماذا عمل به)( ،)2والوظيفة تدخل يف هذا احلديث يف املال املكت�سب ،ويف
العلم امل�ؤمتن عليه.
o
لذا ف�إن املوظف امل�ؤمن هو �أقدر النا�س على القيام بالعمل؛ لأنه �أكرثهم مراقبة هلل ،فال
m
يق�صر يف عمله ،ويجتهد يف �أن ال ي�شوب الوظيفة �أي �شائبة ،بل �إنه يتعدى ذلك فال يقت�صر ِّ
أح�س
على نظافة �أدائه و�إتقانه ،بل يجتهد يف نظافة �أداء امل�ؤ�س�سة كلها التي يعمل فيها .ف�إذا � ّ
( )1تقدم تخريجه.
وتقدم قريب ًا. ( )2رواه الرتمذي و�صححه عن �أبي برزة الأ�سلمي
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 74
ب�شيء من احلرام يف عمل امل�ؤ�س�سة بادر �إىل التنبيه عليه ،حر�ص ًا على تطهري مال امل�ؤ�س�سة
ٍ
من ال�شبهة واحلرام ،من باب قوله ( :الدين الن�صيحة)(.)1
�إنها لي�ست رقابة ذاتية فح�سب ،بل هي رقابة مركَّبة ي�ست�شعرها املوظف امل�ؤمن الذي
o
االلتزام بالعقد املتفق عليه ،هذا من جهة امل�س�ؤولية الوظيفية ،ومن جهة �أخرى
e
ف���إن املوظف عليه م�س�ؤولية اجتماعية جتاه املجتمع ،فالطبيب والقا�ضي واملع ِّلم
والع�سكري يقومون بخدم ٍة اجتماعية ال ميكن �أن يقوم بها غريهم ،فتنامي الإح�سا�س
ik
بهذه امل�س�ؤولية عندهم يح ُّثهم على جودة الأداء الوظيفي بغ�ض النظر عن الرقابة
الإدارية ،وامل�س�ؤولية الوظيفية.
�إن النفو�س العالية ال تعي�ش لنف�سها ،بل تعي�ش للآخرين ،لذا ف�إنها تتعب لإ�سعاد النا�س:
a
ـ�سام
ت ـ ـعـ ـب ــت فـ ــي مـ ـ ـ ــرادهـ ـ ــا الأج ـ ُ
d
وحب الذات ،فهل نت�ص َّور موظف ًاوما تتخلف ال ُّد َول وتنهار الأمم �إال حني تنت�شر الأنانيةُّ ،
ي�ست�شعر امل�س�ؤولية ويحب العمل للآخرين ،وهو ال يقوم ب�أداء عمله املك َّلف به؟)
l.
الثاين� :أنه يتظاهر بعمله للآخرين من �أجل حتقيق امل�صلحة ال�شخ�صية ،وهذا خلله لي�س
o
ف�إذا راعى املوظف �أنه يخدم �شريح ًة كبرية من النا�س من خالل وظيفته ،ال ينفع
نف�سه فقط وال �صاحب امل�ؤ�س�سة التي يعمل فيها فح�سب ،فعند ذاك يجتهد يف حت�سني
b
�أدائه والإخال�ص يف عمله ،بعك�س من ي�ستغل الوظيفة مل�صلحته ال�شخ�صية �ضارب ًا مب�صالح
الآخرين عر�ض احلائط(.)1
e
< ح ّ��ب نفع الآخ��ري��ن :حيث �إن الوظيفة من املجاالت الوا�سعة يف تقدمي اخلدمات
ik
للنا�س ،حني ي�سعى املوظف للتعجيل ب�إنهاء معاملة أ�ح��د املراجعني ،ورمب��ا كانت
معطلة ملدة طويل ٍة قبل ذلك ،فيكون الفرج على يد هذا املوظف� ،أو ي�شفع املعاملة َّ
يعف امر�أ ًة عن الرتدد بني مكاتب ال ِّرجال لق�ضاء
له عند امل�س�ؤول للتخفيف عنه� ،أو ّ
a
�ساع يق�ضي حاجتها فيقوم بخدمتها ...وغري ذلك حاجتها حني ال يكون لها و ّ
يل �أو ٍ
من ال�ص َور الكثرية.
n
�أال ما �أجمل اللحظة التي يخدم فيها املوظف �أحد النا�س ،فين�صرف وهو يرفع يديه �إىل
d
اهلل تعاىل يدعو لهذا املوظف الذي خدمه ،ب�أن يوفقه اهلل ،ويحفظ له �أبناءه.
فمتى ا�ست�شعر املوظف هذا املعنى تلذَّ ذ �إن �صح التعبري ب�أداء العمل؛ لأنه يحب اخلري
l.
للآخرين راجي ًا بذلك الأجر من اهلل تعاىل ،قال ( :خري النا�س �أنفعهم للنا�س)(.)2
c
وقال �( :إن هلل تعاىل عباد ًا اخت�صهم بحوائج النا�س ،يفزع النا�س �إليهم يف حوائجهم،
�أولئك الآمنون من عذاب اهلل)( ،)3وقال ( :ال�ساعي على الأرملة وامل�سكني كاملجاهد يف
o
(� )1سي�أتي ذكر ا�ستغالل الوظيفة للم�صلحة ال�شخ�صية يف ال�صفات املذمومة ،لكن ذكرت االهتمام بامل�صلحة
m
�سبيل اهلل)( ،)1وقال ( :من نفَّ�س عن م�ؤمن كرب ًة من كرب الدنيا نفَّ�س اهلل عنه كرب ًة من
كرب يوم القيامة)(.)2
يحب خدمة النا�س وال يفتح لهم �أبوابه مع قدرته على ذلك فهو �أما املوظف الذي ال ّ
o
مقيت عند اهلل وعند النا�س ،قال ( :من ويل من �أمر امل�سلمني �شيئ ًا فاحتجب دون خ َّلتهم
ٌ
()3
وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم ،احتجب اهلل عز وجل دون خ َّلته وفاقته وحاجته وفقره) .
b
e
القوي �إميان ًا خ ٌ
ري من القوي ج�سد ًا ،وامل�ؤمن ّ
القوي عق ًال ،وامل�ؤمن ّ جميع �أنواع القوة ،فامل�ؤمن ّ
غريهم من امل�ؤمنني ال�ضعفاء يف هذه الأنواع.
n
والقوة للم�ؤمن مطلوبة يف الوظيفة وغريها� ،أمر اهلل بها الأنبياء عليهم ال�سالم:
d
جماالتها :والقوة يف الوظيفة تختلف من جمال لآخر ،وهي يف كل جمال بح�سبها ،كما
o
ذكر �شيخ الإ�سالم ابن تيمية رحمه اهلل ،فقال« :القوة يف كل والي ٍة بح�سبها ،فالقوة يف �إمارة
( )1متفق عليه عن �أبي هريرة ( .البخاري :النفقات/ف�ضل النفقة على الأهل ،5038 -وم�سلم :الزهد
m
احلرب ترجع �إىل �شجاعة القلب واخلربة باحلروب واملخادعة فيها ،والقوة يف احلكم بني
النا�س ترجع �إىل العلم بالعدل والقدرة على تنفيذ الأحكام»(.)1
والقوة بالن�سبة للموظف نوعان :ج�سدية ،ومعنوية؛ فاجل�سدية :هي قدرته على القيام
o
بالعمل ب�أن ال يكون فيه عاهة �أو مر�ض مينعه من القيام بالعمل،
واملعنوية :تعني القوة العلمية ،التي ت�شمل التمكن يف التخ�ص�ص ،وا�ستغالل القدرات والإمكانات،
b
ومتابعة التطوير والتجديد ،وهذا النوع من القوة مقدم على القوة املادية كما قيل(:)2
e
وقال الإمام �أحمد رحمه اهلل« :ال ينبغي للرجل �أن ين�صب نف�سه للفتيا حتى يكون فيه
خم�س خ�صال؛ �أولها� :أن تكون له نية ،ف�إن مل يكن له نية مل يكن عليه نور وال على كالمه نور،
a
والثانية� :أن يكون له علم وحلم ووقار و�سكنية .الثالثة� :أن يكون قوي ًا على ما هو فيه وعلى
معرفته .الرابعة :الكفاية و�إال م�ضغه النا�س .اخلام�سة :معرفة النا�س»(.)3
n
فالقائم مبن�صب املفتي �أو القا�ضي �أو غريهما ال ب ّد له من �إتقان التخ�ص�ص قبل
d
تويل املن�صب.
واملتويل لوظيف ٍة جتارية �أو غريها الب ّد له من الإملام بالأحكام ال�شرعية لها قبل تو ِّليها،
l.
لذا كان عمر يقول« :ال ي ِب ْع يف �سوقنا �إال من يفقه ،و�إال �أكل الربا �شاء �أم �أبى»(.)4
ومن القوة بذل اجلهد يف �أداء العمل على �أح�سن وجه ،ولي�س االكتفاء باحلد الأدنى ،كما
c
قال �( :إن اهلل يحب �إذا عمل �أحدكم عم ًال �أن يتقنه)( ،)5ويف رواية (�إن اهلل تعاىل ّ
يحب
من العامل �إذا عمل �أن يح�سن)(.)6
o
m
�أمثلة على القوة :وقد جمع اهلل تعاىل بني الق َّوتني للقائد طالوت الذي قال فيه :ﱫﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﱪ [البقرة ]247 :وجمعهما لر�سوله
فهو يف العبادة �أكرث النا�س �صرب ًا ،ويف القتال �أ�ش ّدهم ب�أ�س ًا ،ويف حمل الدين �أعظمهم
o
حتم ًال ،ويف الوقت نف�سه هو �أكرث النا�س حر�ص ًا على التجديد يف �أ�ساليب الدعوة ،وحت�سني
معي�شة امل�سلمني.
b
�أن ين�صح لإدارته وال يطلب �أكرث من حقه؛ لأنه يف الغالب ال يقوم بالعمل ب�شكل كامل ،بل على
الإدارة �أن ال توليه هذا العمل الذي ال ي�ستطيعه ،فقد قال لأبي ذ ّر (يا �أبا ذ ّر! �إين �أراك
ik
ني مال يتيم)(.)1 رن على اثنني ،وال ت َول ّ �ضعيف ًا ،و�إين � ّ
أحب لك ما �أحب لنف�سي ،ال ت�أ َّم ّ
اجتماع القوة مع الأمانة :جمع القر�آن الكرمي بني �أهم خُ لقني يحتاجهما املوظف يف
a
وجدت يف القر�آن
ُ قوله �سبحانه :ﱫﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﱪ [الق�ص�ص ،]26 :وقد
n
[يو�سف]54 :
وهذا االقرتان يدل على وجوب اجلمع بينهما قدر الإمكان ،ولكن يف بع�ض احلاالت التي
والقوي اخلائن ،فهنا نحتاج �إىل املفا�ضلة:
ّ القوي الأمني ،ويوجد ال�ضعيف الأمني
يفتقد فيها ّ
�أيهما �أ�صلح يف الوظيفة ،ف�إن كانت الوظيفة مالية �أو فيها �أ�سرار فال�ضعيف الأمني �أ�صلح،
فالقوي اخلائن �أ�صلح.
ّ و�إن كانت ج�سدية
o
وهذه احلالة التي كان �أمري امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب يتع َّوذ منها فيقول« :اللهم �إين
b
�أعوذ بك من ج َلد الفاجر وعجز الثقة»( .)1ذلك �أن الفاجر اجللد �إذا مت َّكن يف امل�صلحة وتبوَّ�أ
فيها املنا�صب العليا �سخَّ ر الإدارة لنف�سه ،ورمبا يخون البالد ،وي�ستطيع الأعداء و�أ�صحاب
e
امل�صالح �أن يغروه ،وكذلك ال�ضعيف الثقة ي�ستطيع �أ�صحاب امل�صالح �أن ي�ستغلُّوه من حيث ال
ik
كل منهما خطورة ،ولكن �إن كان ال بد من �أحدهما فكما ق َّدمت. ي�شعر ،ويف ٍّ
وهو ما �سئل عنه الإمام �أحمد رحمه اهلل حني قيل له« :الرجالن يكونان �أمريين يف الغزو
قوي فاجر والآخر �صالح �ضعيف ،مع �أيهما يغزى؟ فقال� :أما الفاجر القوي فق ّوته
�أحدهما ٌّ
a
للم�سلمني وفجوره على نف�سه ،و�أما ال�صالح ال�ضعيف ف�صالحه لنف�سه و�ضعفه على امل�سلمني،
القوي الفاجر»(.)2
n
فيغزى مع ّ
خالد بن الوليد على اجلي�ش ،وكان عمر ال�صديق ي�ستعمل َ ِّ وكان �أبو بكر
d
يف�ضل �أبا عبيدة بن اجلراح ،وال�س ّر يف ذلك كما قال �شيخ الإ�سالم ابن تيمية «�أن خالد ًا ِّ
لكل منهما �أنكان �شديد ًا كعمر بن اخلطاب ،و�أبا عبيدة كان ل ِّين ًا ك�أبي بكر ،وكان الأ�صلح ٍّ
l.
التطوير :والتطوير �شك ٌل من �أ�شكال القوة ،و�صفة من �صفات املوظف الناجح الذي ي�سعى
لتح�سني �أدائه و�أداء م�ؤ�س�سته ،والتجديد يف الأ�ساليب الوظيفية والأنظمة �سمة احليوية يف
o
امل�ؤ�س�سة� ،أما اجلمود والرتابة (الروتني) فهو م� ِّؤ�شر الف�شل؛ ذلك �أن ما ي�صلح ٍ
لوقت قد ال
ي�صلح لوقت �آخر ،وما ينا�سب �أنا�س ًا ال ينا�سب �آخرين ,وما كان مفيد ًا يف ال�سابق قد ال يكون
m
مفيد ًا الآن ،ثم �إن احلياة بطبيعتها تتجدد يومي ًا ،فك ّل ٍ
�صباح تطلع �شم�سه تكتب احلياة لب�شر
( )1ابن تيمية/امل�صدر ال�سابق (.)21
( )2ابن تيمية/امل�صدر ال�سابق (.)21
( )3ابن تيمية/امل�صدر ال�سابق (.)23
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 80
وحيوانات وكائنات ،فيحلُّون يف الدنيا وي�ضيفون عليها �شيئ ًا جديد ًا ،ويغادر �آخرون خم ِّلفني
ومنتجات
ٌ تغيري ًا ب�شكلٍ ما .واحلياة الوظيفية تتجدد �أي�ض ًا ف�شركات تن�ش�أ و�شركات تنهار،
تظهر و�أخرى تندثر ،و�أنظمة تق َّرر ومثلها تلغى .لذا ف�إن من ال يواكب التط ُّور �سيظ ّل يف �آخر
ال َّركْب ،ولي�س امل�ص ِّلي كال�سابق(.)1
o
b
و�سريته العطرة فائ�ض ٌة بح�سن معاملته� ،شهد له بها العد ّو قبل ال�صديق ،ومن ذلك
n
�أنه عندما كان يف الطريق �إىل فتح مكة ،لقيه �أبو �سفيان بن احلارث وعبداهلل بن �أبي �أمية
وهما ابن عمه وابن ع ّمته وكانا من �أ�شد النا�س �إيذا ًء له مبكة ،ف�أعر�ض عنهما ،ف�أ�شار
d
علي بن �أبي طالب على �أبي �سفيان �أن ي�أتي النبي ويقول له ما قال �إخوة يو�سف :ﱫﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﱪ [يو�سف ]91 :ف�إنه ال ير�ضى �أن يكون �أحد �أح�سن
l.
( )1امل�ص ِّلي من اخليل :الذي ي�أتي ثاني ًا بعد ال�سابق ،و�سمي بذلك؛ لأنه يجيء ور�أ�سه على �صال ال�سابق،
o
�صحيح باعتبار املعاملة احل�سنة مع اهلل واخللق مطلوبتان ،وهـذا الأ�سلوب يراد به الت�أكيد على الأهمية
كقوله ÷« :الدين الن�صيحة».
( )3رواه البزار واحلاكم ( )212/1ب�سند �صحيح عن �أبي هريرة ( .جممع الزوائد.)22/8 :
( )4رواه �أبو داود ( )3/3عن �شريح ،و�أ�صله يف �صحيح م�سلم (ال�سالم/النهي عن ابتداء �أهل الكتاب
بال�سالم وكيف يرد عليهم )2165 -عن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها.
( )5زاد املعاد (.)400/3
81 الأخالق الوظيفية
وموقفه امل�شهور يف العفو عن �أعدائه من امل�شركني بعد فتحه مكة ،حني وقف �أمام الكعبة
�شرفها اهلل ،وقال« :ما تظنون �أين فاعل بكم؟ قالوا� :أ ٌخ كرمي ،وابن � ٍأخ كرمي .فقال :اذهبوا
ف�أنتم الطلقاء»(.)1
o
يح�سن وكان جار النبي يهودي ًا واليهود كانوا من �سكان املدينة ومع ذلك كان
معاملته حتى �أ�سلم على يديه(.)2
b
يب�ش يف وجوه النا�س وخدمه �أن�س بن مالك ع�شر �سنني فما قال له � ٍّأف قط ،وكان ّ
e
يتب�سم لهم جمامل ًة اتقاء فح�شهم ،وقد �شهدت له الكتب ال�سماوية جميع ًا حتى من يبغ�ضهم َّ
ال�سابقة بح�سن خلقه ،فجاء يف التوراة «يا �أيها النبي �إنا �أر�سلناك �شاهد ًا ومب�شر ًا ونذير ًا
ik
هذه العظمة يف املعاملة جعلت غري امل�سلمني يخ�ضعون لها ،ويع ُّدونه الرجل الأول من
عظماء الب�شرية(.)4
n
(تب�سمك يف وجه
ُّ : ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﱪ [النحل ،]32:وقوله
�أخيك �صدقة)(.)5
c
< ويف االهتمام ب�أمور الآخرين وتقدمي اخلدمة املمكنة لهم؛ لقوله �سبحانه يف ق�صة
طلب منهما :ﱫﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ �سقي مو�سى ÷ للمر�أتني دون ٍ
o
( )2رواه البخاري (اجلنائز�/إذا �أ�سلم ال�صبي فمات هل ي�صلى عليه )1290 -عن �أن�س .
( )3رواه البخاري (البيوع/كراهية ال�سخب يف ال�سوق )2018 -عن عبداهلل بن عمرو بن العا�ص ،وحلف
�أن هذه �صفته فيها.
( )4كتاب املئة الأوائل ملايكل هارت (�صفحة .)21
( )5رواه الرتمذي (َّ )339/4
وح�سنه عن �أبي ذر .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 82
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱪ [الأحزاب.]58:
b
ولي�س هذا مق�صور ًا على امل�سلمني فقط ،بل حتى غري امل�سلمني يجب معاملتهم باحل�سنى؛
للعموم يف قوله �سبحانه :ﱫﯦ ﯧ ﯨ ﱪ [البقرة.]83 :
e
قال ( :من �أحب �أن يزحزح عن النار ويدخل اجلنة فلت�أته منيته وهو ي�ؤمن باهلل واليوم
الآخر ولي�أت �إىل النا�س الذي يحب �أن ي�ؤتى �إليه)( ،)2فانظر كيف حتب �أن يعاملك الآخرون
فعامل النا�س به.
a
ح�سن املعاملة يف الوظيفة� :إ�ضاف ًة للن�صو�ص ال�سابقة يف ح�سن املعاملة مع النا�س عموم ًا،
n
ف�إن الزميل يف العمل له تو�صي ٌة خا�صة يف القر�آن الكرمي ،يف قوله عز وجل :ﱫﮞ ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﱪ [الن�ساء ]36 :فاجلار ذي
d
القربى :اجلار القريب يف الن�سب ،واجلار اجلنُب :اجلار القريب يف املنزل ،وال�صاحب
باجلنب :الرفيق يف البيت ،والعمل ،وال�سفر(.)3
l.
َ
وح�سن املعاملة يحتاجه املوظف مع ر�ؤ�سائه ،وزمالئه ،ومر�ؤو�سيه ،واملراجعني..
c
فالر�ؤ�ساء واملديرون يف العمل لهم حق املعاملة احل�سنة؛ لأنهم �أقدر و�أكرث خرب ًة يف
العمل غالب ًا ،وح�سن التعامل معهم يظهر يف تنفيذ رغباتهم و�أوامرهم؛ لأنهم من �أولياء
o
الأمور �شرع ًا ،ونحن م�أمورون بطاعتهم يف الكتاب وال�سنة ،وح�سن التعامل معهم يظهر �أي�ض ًا
m
( )1رواه ال�شيخان عن �أن�س ( .البخاري :الإميان/من الإميان �أن يحب لأخيه ما يحب لنف�سه ،13 -وم�سلم:
الإميان/الدليل على �أن من خ�صال الإميان �أن يحب لأخيه امل�سلم ما يحب لنف�سه من اخلري .)45 -
( )2رواه م�سلم (الإمارة/وجوب الوفاء ببيعة اخللفاء الأول فالأول )1844 -عن عبداهلل بن عمرو بن العا�ص
ر�ضي اهلل عنهما.
( )3تف�سري ابن كثري (.)495/1
83 الأخالق الوظيفية
يف العالقة احل�سنة معهم؛ لأن لها مردود ًا على جودة الأداء؛ ويف �إح�سان ّ
الظن بهم ،وعدم
ن�شر الإ�شاعات الكاذبة عنهم� ،أو الت�شهري بهم� ،أو ِغيبتهم� ،أو �إ�ساءة �سمعتهم.
والروح الإيجابية االجتماعية �إذا �سادت العالقة بني الرئي�س واملوظفني انعك�س ذلك
o
تلقائي ًا على ك�سر الروتني الوظيفي ،والتجديد يف العمل ،والت�شجيع على النقد البنّاء مل�صلحة
العمل ،ومنع الت�شنجات يف العالقات ،وتعطيل م�صالح املوظفني.
b
وقد يلج�أ بع�ض املوظفني �إىل تخ�شني املعاملة مع امل�س�ؤول ،وغيبته والت�شهري به؛ لأنه مل
e
ويحتج بقوله
ّ ي�ستطع �أخذ حقِّه منه ،وهو متيقِّن �أنه مظلوم ،فيع ِّبـر عن غيظه بهذا ال�سلوك،
تعاىل :ﱫﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﱪ [الن�ساء]148 :
ik
�أو �إ�ضرار �أحد من النا�س به برفع ق�ضية ت�شهري �ض َّده ،مع العلم �أنه لن ي�ستفيد �شيئ ًا من هذه
الغيبة �إن كانت غيبة فع ًال لأن من ي�سمعها لن يقف معه يف حقِّه غالب ًا خوف ًا على م�صلحته.
n
الثاين� :أن �أخذ احلق له طرق �شرعية ونظامية معروفة ،ولي�س منها الت�شهري والغيبة.
d
حب من �أح�سن �إليهم وعاملهم باحل�سنى ،فخري الثالث� :أن النا�س مفطورون على ّ
l.
مواجهة لهذا الظلم �إن ُوجِ د هو ح�سن التعامل الذي يغيرِّ نظرة املقابل وموقفه ،كما قال
�سبحانه :ﱫﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱪ [ف�صلت.]34 :
c
الرابع� :أن املكا�شفة وامل�صارحة والن�صيحة اخلال�صة خري �سبيل ل�صفاء القلوب
فقدم ن�صيحتك بال�شكل املنا�سب اخلايل من الف�ضيحة ،و�صارح امل�س�ؤول وتقومي ال�سلوكِّ ،
o
مبالحظتك ،فكثري ًا ما يكون امل�س�ؤول غري قا�صد �أو غري منتبه لعواقب ما يفعل على بع�ض
m
الأفراد ،نظر ًا الن�شغال ذهنه ب�أمو ٍر �أكرب ،ف�إذا ُذ ِّكر انتبه واعتذر َّ
و�صحح.
والزمالء يف العمل لهم حق املعاملة احل�سنة؛ لأنهم �شركاء يف امل�صلحة ،ون�صحاء يف العمل،
فري�شد الواحد منهم �أخاه ،وي�س ِّهل له مهمته ،ويكون مر آ� ًة له ،لذا ف�إن التعامل احل�سن ٌ
واجب من
ك ٍّل منهم لزمالئه ،ملا يعود على املوظـف بالـراحة النف�سـية ،وعلى العمل بالأداء اجليد.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 84
وح�سن التعامل معهم يظهر يف التحية واالبت�سامة واملالطفة ،والتعاون وخدمة بع�ضهم
البع�ض ،والن�صح والت�سديد ،والتغا�ضي عن العيوب والأخطاء غري املق�صودة.
وهذا ال مينع من التناف�س ال�شريف ،ودخول امل�سابقات الوظيفية ال ي�ؤثر على املعاملة
o
احل�سنة مع الزمالء؛ لأن هذا من فعل الأ�سباب امل�شروعة يف الوظيفة ،وهو حق لكل موظف
كحقه يف الراتب والرتقية ،فال ت�أثري لها يف املعاملة ،و�أي�ض ًا ف�إن ال�صحابة ر�ضي اهلل عنهم
b
كانوا يتناف�سون يف �أمور اخلري والطاعات ويح�سنون التعامل مع بع�ضهم بع�ض ًا ،بل يحب
بع�ضهم بع�ض ًا.
e
فالواجب �أن ي�سعى كل موظف ملا يفيد �أخاه املوظف ،ويدعو له بالتوفيق دائم ًا.
ik
واملر�ؤو�سون لهم حق املعاملة احل�سنة؛ لأنهم م�ساعدون للرئي�س واملدير يف عمله ،فلوالهم
ما ا�ستطاع الرئي�س �أن ينجز مهامه� ،إ�ضاف ًة �إىل �أن املنطقي �أن يكون الرئي�س واملدير قدو ًة
a
لهم يف التعامل احل�سن ،ف�إذا كان يتعامل معهم باملالطفة والتب�سم وترك التكلُّف ،وت�سهيل
املهمات ،والتغا�ضي عن الهفوات ،وال�صدق والعدل ،ف�إنهم �سيكونون كذلك مع بع�ضهم ،ومع
n
و�إذا كان بعك�س ذلك متعالي ًا عليهم� ،شديد ًا يف حما�سبتهم ،جامد ًا يف ا�ستخدام الأنظمة،
ف�إن عطاءهم �سي�ضعف ،و�ستتوتَّر نف�سياتهم معه ومع الآخرين!.
l.
وال يعني ذلك �أن يكون املدير مت�ساه ًال يف تطبيق النظام ،كثري اخلرق له ،ال يح�سن �ضبط
العمل واملوظفني ،ف�إن هذا عالمة على �ضعف الإدارة ،ولكن الأمر يحتاج �إىل حكمة و�سيا�سة،
c
فالأ�صل االن�ضباط الوظيفي ،و�إتقان الأداء من اجلميع� ،إال �أن هناك حاالت خا�صَّ ة ت�ستدعي
املراعاة والتجاوز� ،إ�ضاف ًة �إىل �أن تطبيق النظام ال يعني العبو�س واجلفاف يف املعاملة ،بل
o
واملراجعون لهم حق املعاملة احل�سنة؛ لأنهم املقيا�س الذي يقا�س به جناح امل�ؤ�س�سة،
فانطباعهم عن امل�ؤ�س�سة �أو امل�صلحة يعك�س ر�أيهم يف تعامل موظفيها ،ولأنهم �أ�صحاب
حاجة ،ف�إن مل ت�ستطع �أن تق�ضي لهم حاجتهم فال �أق ّل من �أن ين�صرفوا م�سرورين مبا وجدوه
من ح�سن التعامل.
85 الأخالق الوظيفية
�إن ح�سن التعامل هو الإك�سري الذي تك�سب به القلوب ،مع �أنه ال يك ِّلف �شيئ ًا كثري ًا ،ولكن
�آثاره عظيمة جد ًا على م�ستوى النف�س وامل�ؤ�س�سة واملجتمع.
وقد تطورت علوم االت�صال الإن�ساين ،و�أ�صبحت تق َّدم للموظفني على �شكل دورات �إدارية
o
مفيدة يف كيفية التعامل مع املراجعني ،وعلى �سبيل املثال ذكر الدكتور �ألربت مهرابيان �أننا
�أثناء ات�صالنا بالآخرين نر�سل ما ن�سبته %7عن طريق ال�صوت ،بينما نر�سل ما ن�سبته %55
b
من ر�سائلنا للمقابل عرب االت�صال غري اللفظي ،كالإمياءات واحلركات والإ�شارات(.)1
e
فاملوظف بحاجة �إىل �أن يتعرف على هذه املهارات التي حتقق هدف ح�سن املعاملة
مع النا�س.
ik
تعريفه لغة :م�صدر و�ضع وهو اخلف�ض لل�شيء ،وتوا�ضع� :أظهر ال�ضعة� ،أو :تذلل
وتخا�شع(.)2
d
وا�صطالحاً� :إظهار التنزل عن املرتبة ملن يراد تعظيمه ،وقيل :هو تعظيم من فوقه
l.
لف�ضله(.)3
ﱫﯱ ﯲ ﯳﱪ والتوا�ضع ف�ضيل ٌة عظيمة ،يكفي فيها قول اهلل تعاىل:
c
( )1ن�شرة خدمة امل�شرتك ال�صادرة عن ال�شركة ال�سعودية للكهرباء/فرع املنطقة ال�شرقية -العدد الرابع
1422هـ.
m
وهي �صفة من �صفات امل�ؤمنني ،كما حكى اهلل تعاىل عن �سليمان ÷ عندما ر�أى نعمة
اهلل عليه يف تعليمه كالم احليوان ،فقال :ﱫﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﱪ [النمل]40 :
فلم يفخر على النا�س بعلمه .وبعك�سه قارون الذي افتخر بغناه على خلق اهلل وقال :ﱫﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﱪ [الق�ص�ص ]78 :فكان مبغو�ض ًا عند اهلل :ﱫﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
o
< اجللو�س حيث ينتهي به املجل�س ،وال يطمح �إىل �صدر املجل�س.
< �أن يكره �أن يتم ّثل له الرجال قيام ًا.
a
< عدم الت�ضايق من تقدمي غريه ممن هو �أ�صغر منه� ،أو �أفقر �إن كان يفوقه يف العلم
n
�أو الدين.
d
�أمثلة على التوا�ضع :وكان نبينا �أكرث النا�س توا�ضع ًا؛ (كان مي ّر على ال�صبيان
في�س ِّلم عليهم ،وكان يكون يف بيته يف خدمة �أهله ،وكان يخ�صف نعله ،ويرقع ثوبه ،ويحلب
l.
�شاته ،ويعلف البعري ،وي�أكل مع اخلادم ،ويجال�س امل�ساكني ،ومي�شي مع الأرملة واليتيم يف
كراع لأجبت،
حاجتهما ،ويبد أ� من لقيه بال�سالم ،ويجيب الدعوة ،وقال :لو دعيت �إىل ذراع �أو ٍ
c
ولو �أهدي �إ ّ
يل ذرا ٌع �أو كراع لقبلت.
o
وكان يعود املري�ض ،وي�شهد اجلنازة ،ويركب احلمار ،ويجيب دعوة العبد ،وينام على
احل�صري)(.)1
m
وتع َّلم منه �أ�صحابه ر�ضي اهلل عنهم هذا التوا�ضع ،حتى �ضربوا لنا �أروع الأمثلة فيه؛
ف�أبو بكر خري النا�س بعد ر�سول اهلل كان يقول« :وددت �أين �شعرة يف جنب ٍ
عبد
( )1تهذيب مدارج ال�سالكني لعبداملنعم العزي (.)680-679/2
87 الأخالق الوظيفية
م�ؤمن»( .)1ورمبا �سقط اخلطام من يده ،فال يطلب من �أحد �أن يعطيه �إياه ،بل ينزل عن
الناقة وي�أخذه(.)2
وكان عمر يخطب وهو خليفة وعليه �إزار فيه ثنتا ع�شرة رقعة( .)3وموقفه يف فتح بيت
o
املقد�س م�شهور حني دخله وهو مي�شي وغالمه راكب ،وكان وقتها يلب�س �إزار ًا مرقع ًا ،فاقرتح
عليه �أبو عبيدة بن اجلراح �أن يغيرِّ ثيابه ،ف�ضرب يف �صدره ،وقال« :لو غريك قالها! لقد كنا
b
�أذلة ف�أعزنا اهلل بالإ�سالم ،ف�إذا ابتغينا العزة بغريه �أذلنا اهلل»(.)4
وكان عثمان يقيل يف امل�سجد وهو خليفة على احل�صري( .)5وكان علي يبيع �سيفه
e
يف ال�سوق ،ويقول :من ي�شرتي مني هذا ال�سيف ،فوالذي فلق احلبة لطاملا ك�شفت به الكرب
ik
عن وجه ر�سول اهلل ،ولو كان عندي ثمن �إزار ما بعته(.)6
ولعمر اهلل ما نق�ص ذلك من قدرهم ،بل رفع ذكرهم يف الدنيا ،ومنزلتهم يف الآخرة.
a
ويظن بع�ض النا�س �أن هذه الأمثلة تنايف مكانة الإن�سان املحرتم وقدره! وخفي عليهم �أن
مقادير النا�س يف الإ�سالم ال على �أ�سا�س مظاهرهم ،بل على ما حتمله قلوبهم من �إميان
n
وتقى ..كان النبي جال�س ًا مع �أ�صحابه ،فمر رجل فقال( :ما تقولون يف هذا؟) قالوا:
حري �إن خطب �أن ُين َكح و�إن �شفع �أن ُي�شَ فَّع و�إن قال �أن ُي�س َمع.
d
ٌّ
حري �إن خطب �أن ال
ثم مر رجل من فقراء امل�سلمني ،فقال( :ما تقولون يف هذا) قالواٌّ :
l.
وهذا يك�سب احرتام الآخرين ،وي�شيع روح الفريق الواحد بني امل�س�ؤول والعاملني معه،
ويف�سح املجال لالنفتاح بني املوظفني لتقدمي الن�صح فيما فيه م�صلحة العمل.
b
ومن الأفكار اجلميلة عمل منا�سبات اجتماعية متكررة لزمالء املهنة ،وموظفي امل�ؤ�س�سة
لك�سر احلاجز الوهمي بينهم.
e
وب�ضدها تتميز الأ�شياء ،ف�إذا كنا قد عرفنا ف�ضل التوا�ضع ،ف�إن مما يبني �أهميته
التك ُّبـرِّ :
ik
ومنزلته ،معرفة عك�سه ،وهو التكبرُّ ،تلك ال�صفة البغي�ضة عند اهلل وعند النا�س ،التي يحرم
�صاحبها من دخول اجلنة (ال يدخل اجلنة من كان يف قلبه مثقال ذرة من كرب)(.)1
تعريفه لغة :ال�شرف والعظمة والتج ُّبـر(.)2
a
َ ( :ب َطر احلق � -أي ر ُّده ،-وغَ ْمط النا�س � -أي وهو ا�صطالحاً :بتعريف امل�صطفى
n
احتقارهم .)3()-
d
عن احلق واال�ستماع له ،كما قال م�شركو قري�ش :ﱫﮭ ﮮ ﮯ ﮰ فالكرب نوعان :التكبرُّ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﱪ [ف�صلت ،]26 :واحتقار النا�س ،ومنه الفخر بالأح�ساب
l.
والأن�ساب والألوان واللغات والأعراق والأموال وغريها ،قال اهلل �سبحانه :ﱫﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
c
ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﱪ [احلجرات]11:
وهو من الكبائر ،لقوله �سبحانه يف احلديث القد�سي (الكربياء ردائي والعظمة �إزاري،
o
واحد منهما عذَّ بته)( ،)4وقوله ( :يح�شر املتكربون �أمثال الذ ّر يوم
فمن نازعني يف ٍ
m
( )1رواه م�سلم (الإميان/حترمي الكرب وبيانه )91 -عن ابن م�سعود .
( )2القامو�س املحيط ( - 602كرب).
( )3رواه م�سلم ،وهو �آخر احلديث ال�سابق ،وقبله« :قال رجل� :إن الرجل يحب �أن يكون ثوبه ح�سن ًا .قال [:
�إن اهلل جميل يحب اجلمال ،الكرب بطر احلق� ...إلخ».
( )4رواه م�سلم (الرب وال�صلة والآداب/حترمي الكرب )2620عن �أبي هريرة .
89 الأخالق الوظيفية
القيامة يف �صور الرجال ،يغ�شاهم الذلّ من كل مكان ،ي�ساقون �إىل �سجن يف جهنم ي�س َّمى
بول�س تعلوهم نار الأنيار ،ي�سقون من ع�صارة �أهل النار)(.)1
بل �إنه ثاين ذنب وقع يف الوجود بعد احل�سد� ،إذ تكبرَّ �إبلي�س عن ال�سجود لآدم ÷ حني
o
فكان جزا�ؤه �أن لعنه اهلل �إىل يوم الدين ،فح�سب املتكرب �أن يكون �شبيه ًا لل�شيطان يف هذه
ik
اخل�صلة.
�أ�سبابه وعالجه:
a
1-احل�سد :وهو متني زوال النعمة عن الغري ،كما ح�سد �إخوة يو�سف �أخاهم حني ر�أوا
توهموا ذلك ،فقالوا :ﱫﮆ ﮇ ﮈ ﮉ يف�ضله عليهم� ،أو َّ
�أباهم يعقوب ÷ ِّ
n
بقتله ،وهكذا احل�سد يعمي القلب حتى يقع يف اجلرمية لي�شفي غيظه على املح�سود،
ويدفع الكرب عن احلق ،ويغري بالتعايل على الآخرين.
c
والإ�سالم يعلمنا �أن نتمنى اخلري للآخرين كما نحبه لأنف�سنا (ال ي�ؤمن �أحدكم حتى يحب
o
لأخيه ما يحب لنف�سه)( ،)2وي�شجعنا على اجلماعية ال الفردية والأنانية ،كما كان النبي
يف امل�سجد فدخل رجل ي�صلي منفرد ًا ،فقال �( :أال رج ٌل يت�صدق على هذا في�صلي
m
والتناف�س بني املوظفني ال يجب �أن يكون دافع ًا للح�سد؛ لأن التناف�س م�شروع يف الوظيفة،
�سوء للزمالء ،بل هو من �أنواع احل�سد املحمود الذي قال فيه النبي وال يت�ضمن � ّأي كراهية �أو ٍ
(ال ح�سد �إال يف اثنتني :رجل �آتاه اهلل ما ًال ف�س َّلطه على ه َلكته يف احلق ،ورج ٌل �آتاه اهلل
احلكمة فهو يق�ضي بها ويع ِّلمها)(.)1
o
فال مربر حل�سد املوظف زمالءه املوظفني؛ لأن هذا دليل على مر�ض القلب ،والأنانية
b
وحب الذات ،و�أف�ضل عالج للح�سد هو �صرف اجلهد يف الإبداع يف الوظيفة والأداء املتميز،
والهم يف ح�سد الآخرين� ،إ�ضاف ًة �إىل تذكر
مما مينحه املراتب العليا ،وي�شغله عن التفكري ّ
e
2-الغرور واعتقاد الكمال :ومتى اغ ّرت املرء بعلمه �أو ماله �أو ح�سبه �أو غري ذلك بد أ� الكرب
يت�سلل �إىل نف�سه تلقائي ًا؛ لأن الغرور والكرب قرينان ،وال�شيطان هو الذي يثري الغرور
a
ري منها ،فترتقى يف مهاوي الغرور يف النف�س الب�شرية ،حتى تتطاول على من هو خ ٌ
رت مبلكه عربة :ﱫﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ حتى تتطاول على اهلل ،ويف ق�صة النمرود �إذ اغ ّ
n
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
d
ﮘ ﮙﱪ [البقرة]258 :
l.
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ * ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ * ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ * ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﱪ
o
[الزخرف]56 - 51 :
m
( )1متفق عليه عن اب��ن م�سعود ( .البخاري :الزكاة�/إنفاق امل��ال يف حقه ،1343 -وم�سلم� :صالة
امل�سافرين/ف�ضل من يقوم بالقر�آن .)816 -
91 الأخالق الوظيفية
ﯩ * ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽﱪ
[غافر]85 - 83 :
واهلل تعاىل يع ِّلمنا بذلك �أن نفطن لنق�صنا ،فالكمال هلل وحده ،وال�شعور بالنق�ص يدفع
o
الإن�سان لتطوير وا�ستكمال معارفه وقدراته ،ولكن ال يجب �أن يتعدى ال�شعور بالنق�ص احل ّد
الذي يجلب الي�أ�س والت�شا�ؤم.
b
واملدح �أحد عوامل �إثارة الغرور ،فهو ينفخ النف�س ،ويزهو بالقلب ،لذا نهى ال�شرع عن
e
الإطراء ،فقال ( :ال تطروين كما �أطرت الن�صارى ابن مرمي ،ف�إمنا �أنا عبد ،فقولوا:
عبداهلل ور�سوله)(.)1
ik
و�أمر بحثي الرتاب يف وجوه امل َّداحني()2؛ لأنهم ُيذكون �صفة الكرب يف نفو�س الكرباء
واملديرين وامل�س�ؤولني ،ويعمونهم عن العيب واخللل.
a
ري للم�س�ؤول �أن ي�ستمع للنا�صح ،بدل �أن ي�ستمع للمادح ،وكان �أمري امل�ؤمنني عمر بن
وخ ٌ
n
ف�إذا �صاحب املتكربين اكت�سب من �صفاتهم و�أخالقهم ،لذا كان نبينا يقول:
(اللهم �أحيني م�سكين ًا ،و�أمتني م�سكين ًا ،واح�شرين يف زمرة امل�ساكني)( ،)3قال ابن
l.
و�سبب الت�أثر �أنه ي�ضطر ملجاملتهم والت�شبه بهم يوم ًا بعد يوم ،لئال يحتقر من قبلهم� ،أو
يكون �شاذ ًا بينهم ،فيتح َّول بعد ذلك �إىل �أن يكون واحد ًا منهم ،ويتطبع بطباعهم.
o
m
( )1رواه البخاري (الأنبياء/باب (واذكر يف الكتاب مرمي �إذ انتبذت) )3261 -عن ابن عبا�س ر�ضي اهلل
عنهما.
( )2رواه م�سلم (الزهد والرقائق/النهي عن املدح )3002 -عن املقداد بن عمرو .
( )3رواه احلاكم ( )358/4عن �أبي �سعيد اخلدري ،والبيهقي ( )12/7عن عبادة بن ال�صامت و�صححه
احلاكم وال�ضياء يف (املختارة).
( )4النهاية يف غريب احلديث (.)385/2
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 92
عالج الكرب:
احل�سب فلن تكون من ذهب �أو
1-معرفة حقيقة النف�س وق�صورها ،و�أنها مهما بلغت من َ
ف�ضة ،ومهما ح َوت من العلم فلن حت�صي علم املالئكة ،ومهما جمعت من املال فلن
o
وقال ال�شاعر:
e
2-تذ ّكر ف�ضل الآخرين :ليعرف �أنه �إن كان مت َّيز عن غريه يف �شيء ،ف�إن مت ُّيزه بف�ضل
غريه ،ف�أبواه ،ومع ِّلموه ،والدولة واملجتمع ،ق َّدموا له ما به ح�صل له التم ُّيز.
n
وقبل ذلك يتذكَّر ف�ضل النبي حممد عليه حيث به �صار م�سلم ًا موحد ًا ،وف�ضل
�أ�صحابه الذين نقلوا لنا القر�آن وال�سنة ،فليتخلق ب�أخالقهم.
d
4-معرفة ف�ضل التوا�ضع ،ومكانة املتوا�ضعني قال �( :أال �أخربكم ب�أهل اجلنة؟ قالوا:
o
بلى .قال :كل �ضعيف مت�ض َّعف لو �أق�سم على اهلل لأبره .ثم قال� :أال �أخربكم ب�أهل
اظ م�ستكرب)(.)2
m
حتب الرفق وتكره العنف� ،إال من انتك�ست فطرته، وال ينكر �أح ٌد ف�ضله؛ لأن طبيعة الب�شر ّ
b
ف�أ�صبح يتلذذ بالق�سوة والعنف ،ويعرف بال�سا ِد ّية ،والرفق مهم مع كل �أحد مهما بلغ من الق�سوة،
ف�إن اهلل تعاىل �أمر مو�سى ÷ بالرفق مع فرعون مع �أنه بلغ الغاية يف التجبرُّ والبط�ش ،فقال
e
والرفق �صف ٌة من �صفات اهلل تعاىل ،قال �( :إن اهلل رفي ٌق يحب الرفق ،ويعطي على
الرفق ما ال يعطي على العنف ،وما ال يعطي على ما �سواه)( ،)3و�إذا كان اهلل �سبحانه يحب
الرفق ف�إنه يثيب عليه يف الآخرة ،كما جاء يف احلديث (�أال �أخربكم مبن يحرم على النار،
a
ورحم اهلل تعاىل رج ًال ممن كان قبلنا ب�سبب ت�ساهله مع املع�سرين ورفقه بهم ،فقال :
(تلقت املالئكة روح رجلٍ ممن كان قبلكم ،فقالوا� :أعملت من اخلري �شيئ ًا؟ قال :ال .قالوا :تذ َّكر.
d
قال :كنت �أداين النا�س ف�آمر فتياين �أن ينظروا املع�سر ويتج َّوزوا عن املو�سر .قال اهلل عزوج ّل:
جت َّوزوا عنه)( ،)5وما �أجمل قول النبي ( :ما كان الرفق يف �شي ٍء �إال زانه ،وما ُنزِ ع من �شي ٍء
l.
�إال �شانه)(.)6
وفع ًال ف�إن الرفق جميل يف كل �شيء؛ لأنه يدلّ على وعي املتعامل به ،واحرتامه الكامل
c
باملقابل ،ف�إن الق�سوة ال ت�ستعمل �إال مع البهائم العجماوات ،و�إذا كان النبي �أمر بال ِّرفق
o
( )3رواه م�سلم (الرب وال�صلة والآداب/ف�ضل الرفق )2593 -عن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها.
( )4رواه الرتمذي (َّ )654/4
وح�سنه عن عبداهلل بن م�سعود .
ً
( )5متفق عليه عن حذيفة ( .البخاري :البيوع/من �أنظر مو�سرا ،1971 -وم�سلم :امل�ساقاة/ف�ضل �إنظار
املع�سر .)1560 -
( )6تقدم تخريجه �ص .80
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 94
بالعبيد اململوكني يف قوله�( :إخوانكم خولكم جعلهم اهلل حتت �أيديكم ،فمن كان �أخوه حتت
يده فليطعمه مما يطعم ،وليلب�سه مما يلب�س ،وال تكلفوهم ما ال يطيقون ،ف�إن كلفتموهم
ف�أعينوهم)( ،)1فالأحرار �أوىل منهم بالرفق.
o
< ال �أحد من النا�س �أكرث رفق ًا بالأمة من ر�سول اهلل ؛ فقد قالت �أم امل�ؤمنني عائ�شة
ر�ضي اهلل عنها للنبي « :هل �أتى عليك يوم كان �أ�ش ّد من يوم �أحد؟» قال( :لقد لقيت
e
من قومك ما لقيت ،وكان �أ�شد ما لقيت منهم يوم العقبة �إذ عر�ضت نف�سي على ابن
عبد يا ليل بن عبد كالل فلم يجبني �إىل ما �أردت ،فانطلقت و�أنا مهمو ٌم على وجهي فلم
ik
�أ�ستفق �إال و�أنا بقرن الثعالب( ،)2فرفعت ر�أ�سي ف�إذا �أنا ب�سحاب ٍة قد �أظلتني ،فنظرت
ف�إذا فيها جربيل فناداين ،فقال� :إن اهلل قد �سمع قول قومك لك وما ر ُّدوا عليك ،وقد
a
بعث اهلل �إليك ملك اجلبال لت�أمره مبا �شئت فيهم .فناداين ملك اجلبال ف�س َّلم ّ
علي ثم
قال :يا حممد� ،إن اهلل قد �سمع قول قومك لك و�أنا ملك اجلبال ،وقد بعثني ربك �إليك
n
لت�أمرين ب�أمرك ،فما �شئت؟ �إن �شئت �أن �أطبق عليهم الأخ�شبني( .)3فقال النبي :
(بل �أرجو �أن يخرج اهلل من �أ�صالبهم من يعبد اهلل وحده ال ي�شرك به �شيئ ًا)(.)4
d
< ومن رفقه ب�أمته �أنه مل يكن يحب �أن يدعو على �أحد ،فقد جاءه الطفيل بن عمرو
l.
الدو�سي و�أ�صحابه ،فقالوا :يا ر�سول اهلل� ،إن دو�س ًا ع�صت و�أبت فادع اهلل عليها .فلما
اهد دو�س ًا و� ِأت بهم)(.)5
توجه للدعاء ،قيل :هلكت دو�س .فقال ( :اللهم ِ َّ
c
( )1متفق عليه عن املعرور بن �سويد ( .البخاري :الإميان/املعا�صي من �أمر اجلاهلية ،30 -وم�سلم:
o
< ومن رفقه ب�أمته �أنه مل يكن يحب �أن ي�شقّ عليهم باملداومة على بع�ض امل�ستحبات،
خ�شية �أن تفر�ض عليهم ،فقال (لوال �أن �أ�شق على �أمتي لأمرتهم بال�سواك عند
كل �صالة)(.)1
o
و�ص َّلى عدة ليالٍ يف �شهر رم�ضان نافل ًة بعد الع�شاء ثم ترك ذلك( ،)2وعن �أم امل�ؤمنني
عائ�شة ر�ضي اهلل عنها قالت« :كان ر�سول اهلل يرتك العمل وهو يحب �أن يفعله ،خ�شية �أن
b
تطبيقات وظيفية يف الرفق :وللرفق يف الوظيفة �أهمية كبرية ،فامل�س�ؤول يطلب منه
الرفق مع املوظفني والعمال ،فال ي�شقّ عليهم يف العمل ،بل يرفق بهم؛ لأنه كما يحب �أن
ik
يراعي الآخرون ظروفه وراحته ،ف�إنهم كذلك ينتظرون منه �أن يكون بهم رفيق ًا ولهم رحيم ًا،
حل َط َمة)(� :)4أي �أن �شر الوالة وامل�س�ؤولني القا�سي الغليظ
وقد قال (�إن �ش ّر ال ِّرعاء ا ُ
ال�شاق على خلق اهلل.
a
وقال (اللهم من ويل من �أمر �أمتي �شيئ ًا فرفق بهم فارفق به ،ومن ويل من �أمر �أمتي
n
و�شكى جماع ٌة من الرعية بع�ض الوالة �إىل �أمري امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب ،ف�أمرهم �أن
يوافوه ،فلما �أتوه ،قام فحمد اهلل و�أثنى عليه ،ثم قال�« :أيها الرعاة� :إن للرعية عليكم حق ًا،
l.
ممن هو دونه»(.)6
o
( .البخاري :اجلمعة/ال�سواك يوم اجلمعة ،847 -وم�سلم :الو�ضوء/ ( )1متفق عليه عن �أبي هريرة
ال�سواك .)252 -
( )2متفق عليه (البخاري� :صالة الرتاويح/ف�ضل من قام رم�ضان ،1908 -وم�سلم� :صالة امل�سافرين
m
وق�صرها/الرتغيب يف قيام رم�ضان وهـو الرتاويح )761 -عن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها.
( )3رواه ابن خزمية ( )293/3وابن حبان (.)11/2
( )4رواه م�سلم (الإمارة/ف�ضيلة الإمام العادل وعقوبة اجلائر )1830 -عن عائذ بن عمرو .
( )5رواه م�سلم (الإمارة/ف�ضيلة الإمام العادل وعقوبة اجلائر )1828 -عن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها.
( )6ابن اجلوزي/مناقب �أمري امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب (.)117
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 96
واملوظف يطلب منه ال ِّرفق مع املراجعني و�أ�صحاب احلاجات حيث ال ي�شقّ عليهم مبطالب
غري �ضرورية ،في�ضطرهم لتعطيل م�صاحلهم ،ويحرجهم يف �أوقاتهم� ،أو ي�شقّ عليهم يف
تطويل مدة انتظارهم� ،أو يف �إتعابهم ب� ّأي �شكل.
o
وهناك بع�ض الأعمال التي ال تت�ضمن تف�صي ًال يف بنود العقد ،ولكنها تعود �إىل العرف،
ويتو�سع بع�ض النا�س يف ا�ستخدام اخلادم كالعبد، كاخلادم يف املنزل رج ًال �أو امر�أة،
b
َّ
ومطالبته بالأعمال ال�شاقّة ولو كانت امر�أة وهذا ال يجوز؛ لأنه �إ�ضرا ٌر به ،وال�ضرر
e
ممنو ٌع �شرع ًا ،وقد قال النبي ( :ال تك ِّلفوهم ما يغلبهم ،ف�إن كلفتموهم ف�أعينوهم
عليه)(.)1
ik
احل ّر �أو الربد ال�شديدين ونحو ذلك ،يحتاج �إىل الرفق بالعمال ،رحم ًة بهم وتن�شيط ًا لهم
n
على العمل.
ومن �أهم الفئات الذين يجب الرفق بها يف العمل ،الأطفال والن�ساء ،حيث ي�ضطر
d
الأطفال والن�ساء يف كث ٍري من بالد الدنيا �أن يعملوا لك�سب الرزق ،فيجب �أن ال يع َّر�ضوا
l.
للم�شقة واالمتهان.
وال يعني الرفق باملوظفني الت�ساهل يف تطبيق النظام ،وت�شجيع الت�س ُّيب الإداري ،بل هو
c
ح�سن املعاملة ،ورحمة النا�س ،فال ب ّد من احلزم مع الرفق ،كما قال عمر �« :إن هذا
o
الأمر -اخلالفة -ال ُي�ص ِلحه �إال ال�شديد يف غري عنف ،اللني يف غري �ضعف ،اجلواد يف
غري �سرف ،املم�سك يف غري بخل ،فكان ابن عبا�س يقول :ما اجتمعت هذه اخل�صال �إال يف
m
عمر»(.)2
( )1تقدم قريب ًا.
( )2رواه �أبو عبيد يف غريب احلديث ،واخلطيب يف رواة مالك عن ابن عبا�س ر�ضي اهلل عنهما .كنز العمال
(.)14262
97 الأخالق الوظيفية
ويتبني معنى التعريف و�شرحه من خالل معرفة �أنواع النا�س بالن�سبة للحلم:
e
< فمن النا�س من ال يظهر الغ�ضب ،بل قد يظهر املجاملة يف املوقف الذي �أثري فيه ،لكنه
ik
ي�ضمر االنتقام من املقابل ،ولو بعد حني ،وهذا لي�س بحليم؛ لأنه و�إن �أ�ضمر الغ�ضب
يكف نف�سه عن الث�أر.
لكنه مل ّ
a
ع�صبي �سريع الغ�ضب ،يهيج ويثور عندما يتعر�ض للإهانة ،ويتف َّوه بكلمات
ّ < و�آخر
قا�سية ،لكنه �سرعان ما يهد�أ ،وين�سى املوقف ،ويحمله على املحمل احل�سن ،بل ويلوم
n
كف نف�سه عن ري من الأول ،لكنه لي�س بحليم؛ لأنه و�إن ّ
نف�سه على غ�ضبه ،وهذا خ ٌ
الث�أر ،لكنه مل ي�ضبط نف�سه عند الغ�ضب.
d
وهو خريهم؛ قال �( :أال �إن بني �آدم خلقوا على طبقات �شتى ...و�إن منهم البطيء
الغ�ضب �سريع الفيء ومنهم �سريع الغ�ضب �سريع الفيء ،فتلك بتلك� ،أال و�إن منهم
c
�سريع الغ�ضب بطيء الفيء� ،أال وخريهم بطيء الغ�ضب �سريع الفيء� ،أال و�شرهم
�سريع الغ�ضب بطيء الفيء)(.)3
o
واالنت�صار للنف�س غريزة �إن�سانية ،قد يربطها بع�ض النا�س بالعزة والقوة والكرامة ،وال ارتباط
m
بينهما ،بل ميكن �أن يكون االنت�صار للنف�س جزء ًا من الكرب والغرور ،ف�إذا َّ
وجه �إن�سا ٌن لآخر ن�صيحة
( )1القامو�س املحيط (حلم )1416 -ومو�سوعة ن�ضرة النعيم (.)1735/5
( )2مو�سوعة ن�ضرة النعيم (.)1736/5
( )3جزء من حديث طويل رواه الرتمذي ( )484/4و�صححه عن �أبي �سعيد اخلدري .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 98
على خط أٍ� ر�آه منه ،فقد يت�ص َّور املن�صوح �أنه �أكرب من �أن ين�صح ،فت�أخذه العزة بالإثم ،ويعتربها
قدح ًا يف كرامته ،فيتكرب على الن�صيحة ،وهذا لي�س من العزة وال الكرامة يف �شيء.
�سيء فيتجاوز مل�صلح ٍة ما ،ك�أن يكون
وباملقابل قد ُيعتدى على �إن�سان بكلمة �أو ت�صرف ِّ
o
املعتدي عليه قريب رحم �أو جار �أو غريهما ،فيحافظ على العالقة التي هي �أ�سمى من
ٌ
وت�صرف معي ،فال يع ّد هذا مهان ًة منه ،بل هو رفعة �ش�أن ،و ُبعد نظر،االنت�صار ملوقف نَّ
b
ظان �أن كل �إم�ضاء للغ�ضب عزة ،وال كل كظم للغيظ مهانة .ويتوافق احللم حكيم .فال يظن ّ
e
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﱪ [هود]87 :
وقال النابغة(:)2
n
ـرائم
ـلي ال ـجـ ـ ـ ُ
و�إن كـ ـثـ ــرت مـ ــنه ع ـ َّ
m
( )1وقد ورد مقرون ًا باملغفرة يف (البقرة ،225 :و ،235و�آل عمران ،155 :واملائدة ،101 :والإ�سراء ،44 :وفاطر:
)41وبالغنى يف (البقرة )263 :وبالعلم يف (الن�ساء ،12 :واحل��ج ،59 :والأح���زاب )51 :وبال�شكر يف
(التغابن.)17 :
( )2بهجة املجال�س البن عبدالرب (.)608/2
( )3بهجة املجال�س البن عبدالرب ( )608/2و�أمته اخلليل بن �أحمد (�أدب الدنيا والدين للماوردي.)247 :
99 الأخالق الوظيفية
�أمثلة على احللم :وحلم نبينا �أ�شهر من �أن يذكر ،ومن ذلك موقفه العظيم يف حلمه
وعفوه عن كفار قري�ش الذين �آذوه وطردوه من بلده ،فلما متكن منهم مل ينتقم ،بل قال:
a
(اذهبوا ف�أنتم الطلقاء) ولو كان حام ًال للحقد يف قلبه ،وكامت ًا غيظه عليهم �إىل �أن تتاح له
الفر�صة ،لأمر بقتلهم �شر قتلة ،ولكن �أخالق الأنبياء ت�أبى هذا.
n
أعرابي فجبذه بردائه جبذ ًة �شديدة ،حتى �أثرت حا�شية الربد يف عنقه ،ثم قال:
وجاءه � ٌّ
d
يا حممد ،مر يل من مال اهلل الذي عندك .فالتفت �إليه ر�سول اهلل ثم �ضحك ،ثم �أمر
له بعطاء(.)1
l.
و�إليك هــذا القـ�صة اجلـميلة التي تبني حلــمه وبعـ�ض �أخــالقه :قــال عبد اهلل ابن
�سالم (�« :)2إن اهلل تبارك وتعاىل ملا �أراد هدى زيد بن �سعنة( ،)3قال زيد بن �سعنة� :إنه
c
مل يبق من عالمات النبوة �شيء �إال وقد عرفتها يف وجه حممد حني نظرت �إليه �إال اثنتني
o
مل �أخربهما منه ،ي�سبق حلمه جهله ،وال يزيده �شدة اجلهل عليه �إال حلم ًا ،فكنت �أتلطف له
( )1متفق عليه عن �أن�س ( .البخاري :اللبا�س/الربود واحلربة وال�شملة ،5472 -وم�سلم :الزكاة�/إعطاء
m
لأن �أخالطه ف�أعرف حلمه وجهله ،قال :فخرج ر�سول اهلل من احلجرات ومعه علي بن �أبي
طالب ،ف�أتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال :يا ر�سول اهلل قرية بني فالن قد �أ�سلموا ودخلوا
يف الإ�سالم ،وكنت �أخربتهم �أنهم �إن �أ�سلموا �أتاهم الرزق رغد ًا ،وقد �أ�صابهم �شدة وقحط من
o
الغيث و�أنا �أخ�شى يا ر�سول اهلل �أن يخرجوا من الإ�سالم طمع ًا كما دخلوا فيه طمع ًا ،ف�إن ر�أيت
�أن تر�سل �إليهم من يغيثهم به فعلت .قال :فنظر ر�سول اهلل �إىل رجل �إىل جانبه �أراه عمر
b
فقال :ما بقي منه �شيء يا ر�سول اهلل قال زيد بن �سعنة :فدنوت �إليه ،فقلت له :يا حممد
هل لك �أن تبيعني متر ًا معلوم ًا من حائط بني فالن �إىل �أجل كذا وكذا فقال :ال يا يهودي!
e
ولكن �أبيعك متر ًا معلوم ًا �إىل �أجل كذا وكذا ،وال �أ�سمي حائط بني فالن .قلت :نعم .فبايعني
ik
،ف�أطلقت همياين ،ف�أعطيته ثمانني مثقا ًال من ذهب يف متر معلوم �إىل �أجل كذا وكذا.
ف�أعطاها الرجل ،وقال( :اعجل عليهم و�أغثهم بها) قال زيد بن �سعنة :فلما كان قبل حم ّل
الأجل بيومني �أو ثالثة ،خرج ر�سول اهلل يف جنازة رجلٍ من الأن�صار ومعه �أبو بكر وعمر
a
وعثمان ونفر من �أ�صحابه ،فلما �صلى على اجلنازة دنا من جدار فجل�س �إليه ،ف�أخذت مبجامع
n
قمي�صه ،ونظرت �إليه بوج ٍه غليظ ،ثم قلت� :أال تق�ضيني يا حممد حقي ،فواهلل ما علمتكم
بني عبد املطلب ُمبطل ،ولقد كان يل مبخالطتكم علم .ونظرت �إىل عمر بن اخلطاب وعيناه
d
تدوران يف وجهه كالفلك امل�ستدير ،ثم رماين بب�صره ،وقال� :أي عدو اهلل �أتقول لر�سول اهلل
ما �أ�سمع ،وتفعل به ما �أرى ،فوالذي بعثه باحلق لوال ما �أحاذر فوته ل�ضربت ب�سيفي هذا
l.
عنقك .ور�سول اهلل ينظر �إىل عمر يف �سكون وت�ؤدة ،ثم قال «�إنا كنا �أحوج �إىل غري هذا
منك يا عمر؛ �أن ت�أمرين بح�سن الأداء وت�أمره بح�سن اتباعة ،اذهب به يا عمر فاق�ضه حقه
c
وزده ع�شرين �صاع ًا من غريه مكان ما ُرعتَه .قال زيد :فذهب بي عمر فق�ضاين حقي وزادين
o
ع�شرين �صاع ًا من متر ،فقلت :ما هذه الزيادة؟ قال� :أمرين ر�سول اهلل �أن �أزيدك مكان
ما ُرعتُك .فقلت� :أتعرفني يا عمر؟ قال :ال ،فمن �أنت؟ قلت� :أنا زيد بن �سعنة .قال :احلرب؟!
m
قلت :نعم احلرب .قال :فما دعاك �أن تقول لر�سول اهلل ما قلت وتفعل به ما فعلت؟ فقلت:
يا عمر كل عالمات النبوة قد عرفتها يف وجه ر�سول اهلل حني نظرت �إليه� ،إال اثنتني مل
�أختربهما منه ،ي�سبق حلمه جهله ،وال يزيده �شدة اجلهل عليه �إال حلم ًا ،فقد اختربتهما،
ف�أ�شهدك يا عمر �أين قد ر�ضيت باهلل رب ًا وبالإ�سالم دين ًا ومبحمد نبي ًا ،و�أ�شهدك �أن �شطر
101 الأخالق الوظيفية
مايل ف�إين �أكرثها ما ًال �صدق ٌة على �أمة حممد .فقال عمر� :أو على بع�ضهم ف�إنك ال ت�سعهم
كلهم .قلت� :أو على بع�ضهم .فرجع عمر وزيد �إىل ر�سول اهلل فقال زيد� :أ�شهد �أن ال �إله �إال
اهلل و�أن حممد ًا عبده ور�سوله »(.)1
o
وممن ا�شتهر باحللم حتى �صار ي�ضرب بحلمه املثل الأحنف بن قي�س التميمي �س ِّيدهم
b
قال له رجل خا�صمه :لئن قلت واحدة لت�سمعن ع�شر ًا .فقال الأحنف :لكنك �إن قلت ع�شر ًا
مل ت�سمع واحدة .وقال :ثالث ّيف ما �أذكرهن �إال ملعترب :ما �أتيت باب ال�سلطان �إال �أن �أدعى ،وال
دخلت بني اثنني حتى يدخالين بينهما ،وما �أذكر �أحد ًا بعد �أن يقوم من عندي �إال بخري(.)2
a
يتعر�ض امل�س�ؤول لبع�ض املواقف من بع�ض املوظفني �أو املراجعني الذين قد يثريونه
d
فيثور ويبد�أ بالدفاع �أو الهجوم ،وهذا املوقف فيه الكثري من ال�سلبيات ،ومنها:
< حت ُّول النقا�ش �إىل ترا�شق لفظي ال نقا�ش علمي.
c
< حمل ال�ضغينة يف النفو�س على الآخرين ،ولو رجعت املياه �إىل جماريها بعد ذلك� ،إال
�أن ما حدث يبقى غالب ًا يف الذاكرة.
لذا ف�إن املنتظر من امل�س�ؤول �أن يكون حليم ًا ال ي�ستجيب ال�ستدراج الآخرين لإغ�ضابه،
o
< ا�ست�شعار �أنه يف موقف اختبار ميكن �أن ينجح فيه �أو ير�سب.
< مناق�شة املو�ضوع املثار مبو�ضوعية وجت ُّرد ،وتق ُّبل كل ٍ
نقد �صحيح ،ولو كان فيه �إبراز
a
خط أ� وقع امل�س�ؤول فيه ،ف�إن الرجوع �إىل احلق خري من التمادي يف الباطل.
< تذ ُّكر �أنه ب�شر ي�صيب ويخطئ ولي�س مع�صوم ًا ،وقد كان يخطئ من هو خ ٌ
ري منه ،ولي�س
n
< تذكر �أن امل�ؤمن مر�آة �أخيه امل�ؤمن ،فرمبا كان هذا الناقد قا�صد ًا للخري بتقومي
تتوجه �إىل املو�ضوع ال �إىل
هذا امل�س�ؤول ولكنه �أ�ساء الأ�سلوب ،فالر�ؤية يجب �أن َّ
c
الأ�سلوب ،فـالـموقـف الـ�صحـيح هـو تـق ُّبل الـن�صـيـحة والـنـقـد ،وتوجيه النا�صح
o
< ويف حال تيقُّن امل�س�ؤول �أنه على حق ،و�أنه ملتز ٌم بنظام امل�ؤ�س�سة �أو الدائرة ،فعليه
تدعيم موقفه بالرباهني النظامية التي يحتكم �إليها اجلميع؛ لأن االقتناع يف هذه
احلالة �سيكون بالنظام ال بقول امل�س�ؤول واجتهاده.
103 الأخالق الوظيفية
< تلطيف اجل ّو بق�صة �أو رواية ،لتهدئة اجل ّو ،وتلقائي ًا �سيتغيرَّ �أ�سلوب النقا�ش.
b
< ك�سب و ّد املقابل ب�إبداء كل الر�ضى وال�سعادة بخدمته �أو خدمتهم ،و�أن هدفه هو
م�صلحة اجلميع ،فهذا له �أث ٌر كبري يف ترطيب القلوب.
ik
وما يقال يف امل�س�ؤول يقال يف املوظف الذي يواجه املراجعني و�أ�صحاب احلاجات،
وكثري ًا ما نرى النزاعات ون�سمع الأ�صوات املرتفعة يف بع�ض امل�ؤ�س�سات احلكومية والأهلية
a
لذا ف�إن من ال�ضروري �إدراج هذه ال�صفة وبقية ال�صفات يف الدورات الإدارية التي تعطى
للموظفني والإداريني ،ويف مناهج معاهد التدريب يف ال�شركات ،ملا لها من �أثر ناجح وف َّعال
d
الف�صل الثاين
الأخالق الوظيفية املذمومة
o
غ�ش �صدره :انطوى على احلقد وال�ضغينة،الغ�ش لغ ًة :جاء يف املعجم الو�سيطّ :
تعريفهّ :
وغ�ش �صاحبه :ز َّين له غري امل�صلحة ،و�أظهر له غري ما ي�ضمر(.)2
e
ّ
ومن مرادفاته :التزوير ،والكذب ،واخلداع .و�سي�أتي ذكر التزوير يف الف�صل املقبل.
ik
واحلقيقة �أنها لي�ست ماركة �أ�صلية ،و�إمنا مق َّلدة ا�ستخدم فيها ا�سم املاركة تزوير ًا.
الغا�ش مل يخل�ص وين�صح ل�صاحبه �أو لعمله ،بل �أظهر ماال يبطن، < و�أما اخليانة فلأن ّ
c
فغ َّرر بال�شريك مث ًال ب�أن ا�ستورد ب�ضاعة غري ما اتفق عليه ،و�أوهمه �أنها هي املتفق
o
عليه ،وهذا ّ
غ�ش وخداع� ،أو غرر باملري�ض و�أعطاه دوا ًء �أوهمه �أنه هو الأن�سب مل�صلحة
�شخ�صي ٍة له ك�أن يكون له ن�سبة مادية ي�أخذها من �شركة الدواء امل�صروف ،وهو يعلم
m
< و�أما الوعيد فنوعان :نوع باللفظ ،كقوله ( :من غ�شّ نا فلي�س منا)( ،)1وقوله:
(ما من ٍ
عبد ي�سرتعيه اهلل رعية ،ميوت يوم ميوت وهو ٌّ
غا�ش لرع َّيته� ،إال ح َّرم اهلل
عليه اجلنة)(.)2
o
ونوع باملعنى :كقوله ( :املكر واخلديعة يف النار)( ،)3وقوله �أهل النار خم�سة:
(ال�ضعيف الذي ال َز ْبر له( ،)4الذين هم فيكم تبع ًا ال يتبعون �أه ًال وال ما ًال( ،)5واخلائن الذي ال
b
يخفى له طمع و�إن دقَّ �إال خانه ،ورجل ال ي�صبح وال مي�سي �إال وهو يخادعك عن �أهلك ومالك،
e
الفحا�ش)( ،)6وقوله�( :آية املنافق ثالث� :إذا ح َّدث كذب، وذكر البخل �أو الكذب وال�شنظري َّ
و�إذا وعد �أخلف ،و�إذا ا�ؤمتن خان)( ،)7وقوله( :قال اهلل :ثالث ٌة �أنا خ�صمهم يوم القيامة؛
ik
رج ٌل �أعطى بي ثم غدر ،ورجل باع حر ًا ف�أكل ثمنه ،ورج ٌل ا�ست�أجر �أجري ًا فا�ستوفى منه ومل
يعطه �أجره)(.)8
ِ
a
( )1رواه م�سلم عن �أبي هريرة .وتقدم ،ويف لفظ �آخر عند م�سلم يف �صحيحه «من ّ
غ�ش فلي�س منا» وهـذا
أعم من الأول؛ لأنه ي�شمل غ�ش امل�سلمني وغريهم.
� ّ
( )2متفق عليه عن معقل بن ي�سار ( .البخاري :الأحكام/من ا�سرتعي رعية فلم ين�صح ،6731 -وم�سلم:
c
(( )5ال يتبعون) ،بالعني املهملة خمفف وم�شدد من االتباع ،ويف بع�ض الن�سخ (يبتغون) باملوحدة والغني
املعجمة� ،أي :ال يطلبون� .شرح النووي على �صحيح م�سلم.)299/17( :
( )6رواه م�سلم (اجلنة ونعيمها/ال�صفات التي يعرف بها يف الدنيا �أهل اجلنة و�أهل النار )-2865عن عيا�ض
بن حمار .
( )7متفق عليه عن �أبي هريرة .وتقدم �صفحة .24
( )8رواه البخاري (الإجارة�/إثم من منع �أجر الأجري )2150 -عن �أبي هريرة .
107 الأخالق الوظيفية
لئال يعزف النا�س عنه ،فو َّبخه النبي قائ ًال�( :أفال جعلته فوق الطعام كي يراه
النا�س؟! من غ�شَّ فلي�س مني) ،وي�شبه هذا البيع بيع امل�ص َّراة ،وهي ال�شاة ي�ص ُّر ثديها
b
ليجتمع اللنب فيه ،قال ابن قدامة رحمه اهلل« :الت�صرية حرام �إذا �أراد بذلك التدلي�س
على امل�شرتي؛ لقول النبي ( :ال ت�ص ُّروا)( )1وقوله( :من غ�شنا فلي�س منا) ،وروى
e
ابن ماجة يف �سننه( )2عن النبي �أنه قال( :بيع املحفَّالت خالبة( ،)3وال حتل
اخلالبة مل�سلم)»(.)4
ik
وعن حكيم بن حزام عن النبي قال( :الب ِّيعان باخليار ما مل يتفرقا ،ف�إن �صدقا
وب َّينا بورك لهما يف بيعهما ،و�إن كتما وكذبا محُ ِ قت بركة بيعهما)(� ،)5أي �أن لل�صدق �أثر ًا
a
< ويقع ّ
الغ�ش يف البحوث العلمية ،و�سبقت الإ�شارة �إليه يف مبحث الأمانة.
d
< ويقع ّ
الغ�ش يف االختبارات ب�أنواعها ،حني يلج�أ املختبرَ �إىل �سرقة املعلومات من خمتبرَ
�آخر� ،أو �أخذها منه ،فيح�صل على ما ال ي�ستحقّه من الدرجة.
l.
( )1رواه البخاري (البيوع/النهي للبائع �أن ال يحفل الإبل والبقر والغنم )2041 -وم�سلم (البيوع/حترمي
بيع الرجل على بيع �أخيه و�سومه على �سومه وحترمي النج�ش وحترمي الت�صرية )1515 -عن �أبي
c
هريرة .
( )753/2( )2ورواه الطيال�سي ( )38/1والبزار ( )337/5و�أحمد ( )433/1كلهم عن ابن م�سعود ،قال
o
ابن حجر :ويف �إ�سنــاده �ضــعف ،وقــد رواه ابن �أبي �شيبة وعــبدالرزاق موقوف ًا ب�إ�سناد �صحيح (فتح
الباري.)4/367 :
m
( )3املحفَّالت :ال�شياه امل�صرَّاة �أي جمموعة اللنب يف ال�ضرع لإيهام كرثة اللنب ،واخلالبةّ :
الغ�ش واخلداع.
(في�ض القدير.)209/3 :
( )4كتاب املُغْني البن قدامة بتحقيق الدكتورين عبداهلل الرتكي وعبدالفتاح احللو -ن�شر دارهجر -ط الأوىل
1408هـ (.)6/215-216
( )5متفق عليه( .البخاري :البيوع�/إذا بني البيعان ومل يكتما ون�صحا ،1973 -وم�سلم :البيوع/ال�صدق يف
البيع .)1532 -
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 108
املوظف تقرير ًا طبي ًا لإدارته غري متفق مع الواقع� ،أو التقارير عن امل�شاريع حني يكتب
ٍ
ik
م�ستوف لل�شروط وهو لي�س املهند�س �أن امل�شروع انتهى وهو مل ينته بعد� ،أو يكتب �أنه
كذلك� ،أو العك�س حني يكتب �أن امل�شروع مل ي�ستوف املطلوب فني ًا ،وهو يف احلقيقة
م�ستوف لل�شروط� ،أو التقارير عن املوظفني حني يكتب املدير تقرير ًا عن موظف ٍ
a
بخالف احلقيقة.
n
< ويف املخططات الإن�شائية �أو ال�صناعية ،حني ي�صادق املهند�س على خمطط غري
ٍ
م�ستوف لل�شروط� ،أو مز َّور.
d
�أنه مري�ض.
< وكذلك ا�ستخراج �شهادات مز َّورة ل ّأي جهة من اجلهات� ،أو تزوير �أوراق �أو م�ستندات
c
�أو وثائق ر�سم َّية� ،أو احل�صول على �شهادات علمية غري حقيقية.
الغ�ش :والدافع ال�ستعمال الغ�ش والتزوير عند املوظفني مبختلف طبقاتهم هو
o
دوافع ّ
احل�صول على منفعة �أو م�صلحة �شخ�صية ،وقد يكون الدافع املناف�سة غري ال�شريفة ملوظفني
m
�آخرين فيز ِّور بغر�ض ت�أخري غريه ،وقد يكون الدافع الته ُّرب من العقوبة.
وقد ي�ستعمل �أحد املوظفني ّ
الغ�ش مل�صلحة امل�ؤ�س�سة بزعمه ،ولكن ذلك يع ّد و�سيلة غري
م�شروعة؛ لأن الغاية ال تربر الو�سيلة ،مبعنى �أن العمل امل�شروع يجب �أن تكون و�سيلته م�شروعة
كذلك ،وما ُيبنى على الباطل فهو باطل.
109 الأخالق الوظيفية
ا ُ
خللق الثاين :الت�س ُّيب يف الدوام:
تعريفه :لغة� :س َّيب ال�شيء :تركه ،و�س َّيب الناقة :تركها ت�سيب حيث �شاءت ،ومنه قوله
تعاىل :ﱫﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ
o
ﰉ ﰊﱪ [املائدة.)1(]103:
b
يف وقت الدوام املتفق عليه بني العامل و�صاحب العمل .والثانية� :أن ين�شغل املوظف �أثناء
ik
يعرف باليوروكي ( ،)yorukiوهي نزعة نف�سية للإح�سا�س بالذات من خالل العمل� ،إذ بالعمل
تكمن حقيقة وجودهم ،فال يتغيب اليابانيون عن العمل �إال بن�سبة ،%2وال ي�أخذ الإجازة
n
وهذا االرتباط القد�سي بالعمل �س َّبب لهم كثري ًا من امل�شكالت ،حيث يق�ضي الياباين()2000
�ساعة عمل كمع َّدل يف ال�سنة ،مما زاد من ن�سبة القلق والرتدد على امل�صحات النف�سية
l.
واالنتحار ،لذا ف�إن وزارة ال�صحة �أو�صت بالتقليل من �ساعات العمل يف اليابان� ،إال �أن
املوظفني مل ي�ستجيبوا لهذه املطالب ،وا�ستمروا يف العمل الد�ؤوب!
c
< ن�شرت �صحيفة الوطن ال�سعودية( )2وموقع �إمارة مكة املكرمة يف 1425 /10 /27هـ ت�صريح ًا
m
للدكتور يا�سر بن �سعيد الغامدي مدير عام ال�ش�ؤون ال�صحية مبنطقة مكة املكرمة �أن
ن�سبة الت�سيب يف الدوام يف املراكز ال�صحية يف حمافظة جدة تزيد عن .!%60
( )1ل�سان العرب (� - 478/1سيب).
( )2العدد 1532يف � 27شوال 1425هـ.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 110
< و�أك��دت درا�سة ملعهد الإدارة العامة ون�شرته �صحيفة املدينة �أن ن�صف موظفي
الأجهزة احلكومية يت�أخَّ رون عن �أعمالهم ،و�أن %54منهم يخرجون �أثناء الدوام
لإح�ضار �أبنائهم �أو �إنهاء بع�ض الأعمال اخلا�صة ،و %69منهم يتغيبون بدون عذر،
o
و %95يغادرون قبل نهاية الدوام ب�ساعة ،و %22يغادرون قبل نهاية الدوام ب�ساعتني،
و %12يغادرون قبل نهاية ال��دوام بثالث �ساعات ،مما يعني �أن 400000موظف
b
الأول� :إن امل�ؤمنني عند �شروطهم ،واهلل تعاىل يقول :ﱫﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﱪ
[املائدة ]1:وهذا �أمر من اهلل تعاىل يجب االلتزام به؛ لأن الأ�صل يف الأوامر الوجوب،
a
واملخالف للواجب مرتكب للمح َّرم ،ومن ال�سنة قوله ( :امل�ؤمنون عند �شروطهم)(،)2
واملوظف احلكومي �أو الأهلي قد �أق ّر العقد املتفق عليه بينه وبني جهة العمل ،ووقَّع عليه،
n
فهو ملزم مبا �أق ّر به ووقع عليه؛ لأنه عند �شرطه ،و�إال لكان العقد ال معنى له حني يق ّر به
d
ويوافق عليه ثم ال يلتزم به ،وعدم االلتزام بالعقود املنعقدة مع�صية هلل تعاىل ،قال اهلل
�سبحانه يف �صفات امل�ؤمنني :ﱫﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ * ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
l.
يقت�ضي الوجوب ،و�س ُي�س�أل عنه يوم القيامة ،وقال �سبحانه يف �صفات الكافرين :ﱫﮧ
o
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟﱪ [الرعد ]25 :فجعل من �ضمن ما ا�ستحقوا به العقوبة نق�ض العهد وقطع ما �أمر
m
وقال النبي �( :آية املنافق ثالث� :إذا ح َّدث كذب ،و�إذا وعد �أخلف ،و�إذا ا�ؤمتن
خان)( ،)1وقال( :ا�ضمنوا يل �ست ًا من �أنف�سكم �أ�ضمن لكم اجلنة :ا�صدقوا �إذا ح َّدثتم ،و�أوفوا
وغ�ضوا �أب�صاركم ،وكفُّوا �أيديكم)(.)2
�إذا وعدمت ،و أ� ُّدوا �إذا ائت ُِمنتم ،واحفظوا فروجكمُّ ،
o
ف�إذا �أراد املوظف �أن ينق�ض االتفاق ،فعليه �أن يلغي العقد بينه وبني اجلهة ،وبذا يرب�أ من
تبعة االلتزام به.
b
التعدي عليها ،قال �( :إن دماءكم و�أموالكم الثاين� :إن �أموال الآخرين مع�صومة ال يجوز ِّ
e
معي من ال�ساعات يق�ضيها و�أعرا�ضكم عليكم حرام)( ،)3فاملوظف ي�ستحق راتبه على مقدار نَّ
يف العمل ،من�صو�ص عليها يف العقد ،ف�إن �أخ ّل بهذا املقدار من الزمن الذي يفرت�ض �أن
ik
يق�ضيه يف العمل ،ف�إنه ال ي�ستحق �شرع ًا وال نظام ًا املكاف�أة املو�ضوعة ،وال يح ّل له �أخذها.
وي�ستوي يف هذه الأموال �أموال الدولة ،و�أموال الأ�شخا�ص وال�شركات وامل�ؤ�س�سات الأهلية؛
a
ملك م�شاع ي�صرفه احلاكم يف م�صالح امل�سلمني ،وال حقّ لآحادهم يف �أما �أموال الدولة فهي ٌ
�شيء من �أموال الغنائم قبل توزيعها؛ لأنها ٌ
التعدي عليه ،ولذا ح َّرم النبي �أخذ ٍ
n
قال �سعد بن �أبي وقا�ص �« :أ�صاب ر�سول اهلل غنيمة عظيمة يف بدر ف�إذا فيها
�سيف ،ف�أخذته ،ف�أتيت به الر�سول فقلت :نفِّلني هذا ال�سيف ف�أنا من قد َ
علمت حاله.
l.
فقال( :ر َّده من حيث �أخذته) ،فانطلقت حتى �إذا �أردت �أن �ألقيه يف القب�ض ،المتني نف�سي
فرجعت �إليه ،فقلت� :أعطنيه .قال :ف�ش َّد يل �صوته( :ر َّده من حيث �أخذتَه) قال :ف�أنزل اهلل
c
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﱪ [الأنفال.)4(]1 :
( )1تقدم قريب ًا.
m
( )2رواه �أحمد ( )323/5والبيهقي ( )2889/6عن عبادة بن ال�صامت ،ورجاله ثقات ،وفيه �إر�سال( .جممع
الزوائد )145/4( :ورواه احلاكم و�صححه ).)399/4
( )3رواه البخاري (احلج/اخلطبة �أيام منى )1652 -عن ابن عبا�س ر�ضي اهلل عنهما ،وم�سلم (الق�سامة/
تغليظ حترمي الدماء والأعرا�ض والأموال )1679 -عن �أبي بكرة .
( )4رواه م�سلم (ف�ضائل ال�صحابة/ف�ضل �سعد بن �أبي وقا�ص .)1748 -
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 112
و�أما �أموال ال�شركات وامل�ؤ�س�سات الأهلية ف�إنها �أموال �أ�شخا�ص مع�صومة؛ لقوله ( :ال
نف�س منه)(.)1
يحل مال امرئٍ م�سلم �إال بطيب ٍ
وعلى هذا ف�إنه ال يجوز الت�أخُّ ر عن الدوام ،وال االن�شغال �أثناءه مبا ال عالقة له به مبا ُي�ؤَ ِّثر
o
بوقت �إ�ضايف� ،أو عملٍ �إ�ضايفعليه ،و�إذا حدث من املوظف ت�أخُّ ر يف الدوام فعليه �أن يع ِّو�ض ذلك ٍ
b
بغ�ض النظر عن الوقت الذي يق�ضي فيه عمله ،و�سائق احلافلة الذي ما يطلب منه يومي ًا ّ
ik
يقوم بتو�صيل الطالب والطالبات �إىل مكان درا�ستهم� ،أو العمال �إىل �أماكن عملهم ،فال
حرج عليه فيما زاد من الوقت.
ي�صح له �أن يت�صرف
ويت�ساءل بع�ض املوظفني عن حكم الوقت الفارغ �أثناء الدوام ،هل ّ
a
الأوىل :الفراغ احلا�صل �أثناء الدوام �إما �أن يكون نتيجة عدم وجود عمل� ،أو نتيجة
التق�صري يف عمل؟ ف�إن كان نتيجة عدم وجود عمل ،ك�أن يكون املوظف قد �أ َّدى عمله ومل
d
يبق بني يديه ما ينتظر ،فيمكن للموظف اال�ستفادة من وقته مبا يرى ،على �أن ال يغادر مكان
l.
العمل �إال با�ستئذان امل�س�ؤول؛ لأنه قد يطر�أ عمل مفاجئ يحتاج فيه �إليه.
و�إن كان نتيجة التق�صري يف عمل فلي�س له �أن ين�شغل بغري العمل املتفق عليه .وهذا التق�صري
c
ما يطلق عليه البطالة املقنَّعة ،وهو وجود موظفني ال يقومون بواجب الوظيفة ،فال هم تركوا
الوظيفة لغريهم ،وال هم �أ َّدوا ما عليهم من الواجب الوظيفي ،فهم يك ِّلفون الدولة م�صروفات
o
يقدمون للمجتمع �أي فائدة ،فيبقون عالة على الدولة واملجتمع. البطالة ،ويف الوقت نف�سه ال ِّ
m
الثانية� :إن االن�شغال �أثناء الدوام بغري م�صلحة العمل �أمر ن�سبي يعتمد على حجم العمل،
وعدد العاملني �أو املوظفني ،لذا ف�إن تقدير الت�س ُّيب من عدمه يحكمه امل�س�ؤول يف الدائرة،
فيجب الرجوع �إليه ملعرفة �إن كان هناك تق�صري من املوظف �أم ال.
( )1رواه �أحمد ب�سند �صحيح وتقدم تخريجه.
113 الأخالق الوظيفية
الثالثة� :إن نظام العمل يف كث ٍري من ال ُّد َول خ�صو�ص ًا النامية يحتوي على الكثري من
الثغرات� ،إ�ضاف ًة �إىل ارتباطه بنظام الدولة عموم ًا وطريقة �إدارتها ،فتت�أثر بيئة العمل
بالنظام املو�ضوع من الدولة ،ف�إذا كانت الوظيفة فيها الكثري من الفراغ والبطالة ،فلي�س
ذلك بال�ضرورة نتيجة �ضعف �أداء املوظف ،بقدر ما هو �ضعف النظام! وبالرغم من هذا
o
ف�إن الأكمل للموظف �أن يحاول الإبداع واالبتكار يف و�سائل العمل ،يف �سبيل تطويره وحت�سني
b
�إنتاجه ،وحينذاك فلن يجد فراغ ًا يف وقته ،كما تقدم بيانه يف خ ُلق الق َّوة.
e
الوظيفية ،مما يغريه با�ستغاللها مل�صلحته ال�شخ�صية ،ف�إذا مل يتق اهلل تعاىل ويراقبه ،ف�إنه
�سيقع يف كث ٍري من املخالفات ال�شرعية والنظامية.
a
لذا يجب الف�صل بني الوظيفة والعالقات ال�شخ�صية بقدر امل�ستطاع بحيث ال ت�ؤثر
�إحداهما على الأخرى ،فكما �أن بع�ض امل�س�ؤولني ي�سخِّ ر الوظيفة لعالقاته ال�شخ�صية ،ف�إن
n
«وهذا النمط من ال�سلوك املدان ،ينطلق من دوافع قبلية �أو عن�صرية �أو �إقليمية �أو طائفية
تقوم على التمييز بني املواطنني �أو بني املناطق �أو بني �شرائح املجتمع وفئاته العتبارات
l.
عرقية �أو عقائدية �أو طبقية ،ت�ؤدي يف النهاية �إىل تفريق ال�صفوف و�شق الوحدة الوطنية
وغر�س العداء واحلقد يف النفو�س ،وت�أليب املواطنني بع�ضهم على بع�ض ،و�إ�ضعاف ثقتهم
c
وهذا النمط من ال�سلوك الإداري يعد انحراف ًا باجلهاز الإداري عن �أهدافه املتمثلة يف
خدمة املواطنني ،وهو خروج على املبادئ القانونية التي تعمل على امل�ساواة والعدالة بني
m
املواطنني ،وهو �إ�ضعاف للقيم امل�ؤ�س�سية والوظيفية امل�ؤكدة على احلياد واملو�ضوعية والدقة
يف اتخاذ القرارات واملواقف.
�إن منا�صرة جهة وا�ستعداء �أخرى يولد ردود فعل غا�ضبة ومنفعلة بني موظفي الإدارة
واملتعاملني معها ،وهذه بدورها تولد �أمناط ًا فا�سدة مماثلة ومعاك�سة ت�ضعف االنتماء
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 114
للمنظمات وللوطن .وت�شعر الفئات املحرومة �أو الآليات امل�ضطهدة بالغربة والإحباط وكثري ًا
ما تدفع �شريحة من العلماء واخلرباء �إىل الهجرة اخلارجية� ،أو االن�سحاب من الوظيفة
العامة يف وقت مبكر ،واللجوء ملثل هذه املمار�سات املدانة غالب ًا ما يرجع �إىل �شعور �صاحبه
بال�ضعف وعدم الثقة بالنف�س ،فيلج�أ �إىل حماية ذاته باالنتماء �إىل الع�شرية �أو املدينة �أو
o
الطائفة �أو الطبقة �أو الفئة التي ت�سنده وفق ًا ملقولة�( :أنا و�أخي على ابن عمي ،و�أنا وابن عمي
b
على الغريب).
وينبغي �أال يفهم من طرحنا هذا �أننا ندعو �إىل التمرد على الع�شرية �أو الطائفة �أو نحر�ض
e
نزج بهذه
على تفكيك التنظيمات الأ�سرية والقبلية وغريها ،ولكن الذي ندعو لـه هو �أال ّ
ik
العالقات واالنتماءات عند تعاملنا مع امل�ؤ�س�سات والهيئات احلكومية ،و�أن ن�ساوي بني جميع
املواطنني دون متييز �أو حماباة ب�سبب الدين �أو القومية �أو القبلية �أو املذهب(.)1
وهذه النزاهة هي م�صدر احرتام املوظفني للم�س�ؤول ،فحيثما وجدت وجد االحرتام،
a
وحيثما فقدت فقد االحرتام ،ومن هنا قال رجل لعمر بن اخلطاب ( :عففت فعفَّت
رع َّيتك ،ولو رتعت لرتعوا)(.)2
n
واملحاباة واالنحياز لقرابة ونحوها يرتتب عليه الظلم وانت�شار الأحقاد وال�ضغائن بني
d
�أفراد املجتمع ،وقد روى احلاكم( )3عن ابن عبا�س عن النبي قوله( :من ا�ستعمل
رج ًال على ع�صابة وفيهم من هو �أر�ضى هلل منه ،فقد خان اهلل ور�سوله وامل�ؤمنني) ،وروي
l.
كذلك عن �أبي بكر عن النبي قوله( :من ويل من �أمر امل�سلمني �شيئ ًا ف أ� َّمر عليهم
�أحد ًا حماباة ،فعليه لعنة اهلل ،ال يقبل اهلل منه �صرف ًا وال عد ًال ،حتى يدخله جهنم)(.)4
c
وا�ستغالل الوظيفة للم�صالح اخلا�صة يع ّد من اخليانة ،وقد تقدم يف خلق الأمانة تف�صيل
o
� 1-أخذ الر�شوة :فالر�شوة من �أخطر جرائم املوظف العام التي يعاين منها اجلهاز
الإداري نتيجة ف�ساد ذمة املوظف املرت�شي ،والذي يكون فـي الأ�صل م�ؤمتن ًا على
م�صالح الأفراد واملجتمع ،فاملوظف املرت�شي يتجر بالوظيفة العامة وي�ستغل وجوده
o
فيها ،وما مينح له ب�سببها من �سلطات فـي حتقيق مطامع �شخ�صية له �أو م�صالح
غري م�شروعة لغريه ،من ذويه� ،أو ممن تربطه به م�صالح م�شرتكة ،وكلها �أمور
b
فا�سدة من �ش�أنها �أن ت�ؤثر على النزاهة واحليادية وغريها من ال�سمات احل�سنة
التي ينبغي �أن يتحلى بها املوظف العام ،ممثل الدولة والأم�ين على م�صاحلها
e
وم�صالح �أفرادها.
ik
2-االختال�س :يتمثل االختال�س فـي �أمور خمتلفة ،من �أهمها على �سبيل املثال :ا�ستيالء
املوظف على الأموال امل�سلمة �إليه ب�سبب وظيفته ،وقيامه بتح�صيل �أموال غري م�ستحقة
عند جباية الر�سوم �أو ال�ضرائب �أو الغرامات �أو العوائد وما �أ�شبه ،ويعترب االختال�س
a
3-قيام املوظف بحجز كل �أو بع�ض ما ي�ستحقه املوظفون من رواتب �أو �أجور� ،أو ت�أخري
دفعها �إليهم بق�صد االنتفاع ال�شخ�صي.
d
()1 � 5-إ�ضرار املوظف بامل�صلحة العامة فـي ميدان ال�صفقات واملقاوالت والتوريدات)
�إن الأموال التي يجنيها الإن�سان بغري حق هي غلول ،وقد حذر الر�سول من ذلك
c
قائ ًال( :من ا�ستعملناه منكم على عمل فكتمنا خميط ًا فما فوقه كان ذلك غلو ًال ي�أتي به يوم
o
القيامة)( ،)2وي�ستوى الوعيد يف اختال�س القليل والكثري ولو �شملة �أي عباءة ــ ،وقد توعد
النبي �أحد املختل�سني بقوله�( :إن ال�شملة لتلتهب عليه نار ًا� ،أخذها من الغنائم يوم خيرب،
m
�أمثلة على النزاهة :ومن املنا�سب هنا �أن نذكر ق�صة عمر بن عبدالعزيز حني
جاءه بري ٌد من �إحدى اجلهات لي ًال ،ف�أوقد �شمع ًة وجل�س معه ي�س�أله عن �أحوال امل�سلمني
ويتفقدهم ،فلما فرغ �س�أله الرجل عن حاله وحال �أهله ،فا�ست�أذن عمر و�أطف�أ ال�شمعة
o
و�أوقد �أخرى �صغرية ،فلما �س�أله الرجل عن ذلك قال :كنت ت�س�أل عن حال امل�سلمني
�صرت ت�س�ألني عن حايل
َ ف�أوقدت الــ�ش ـمـعة التي هي من بيت مال املــ�ســلمني ،فلما
b
�أوقدت �شمعتي!
e
ومثا ٌل �آخر عنه رحمه اهلل :فقد كان وهب بن منبه على بيت مال اليمن ،فكتب �إىل عمر
بن العزيز � :إين فقدت من بيت مال امل�سلمني دينار ًا .فكتب �إليه� :إين ال �أتهم دينك وال
ik
�أمانتك ،ولكن �أتهم ت�ضييعك وتفريطك .و�أنا حجيج امل�سلمني يف �أموالهمِ ،ولأدناهم عليك
�أن حتلف ،وال�سالم(.)1
a
ونحوها ،بالن�سبة ل�صاحب امل�ؤ�س�سة �أو املن�ش�أة ف�إن �أ�صحاب الأعمال اخلا�صة ما �أن�ش�ؤوا
�أعمالهم �إال من �أجل امل�صلحة ال�شخ�صية ولكن قد ي�ستعمل �صاحب امل�ؤ�س�سة نفوذه
d
لل�ضغط على املوظفني يف القطاع العام ،لتمرير مطالبه ،وت�سهيل م�صاحله ،وهنا يكون
اخلط�أ ،ال من جانب من ا�ستجاب له من موظفي القطاع العام ،بل من جانب �صاحب
l.
امل�ؤ�ســ�ســة �أي�ض ًا حيــث �أعانه على املعــ�صية والإثم ،مبخالفة النـظام ،ون�شر املح�سوبية
يف الوظيفة.
c
�أما املــ�س ـ�ؤولون واملوظفون يف القطاع العام ،ف�إنهم �أكرث تعر�ض ًا للخط أ� يف هذا
o
اجلانب ،ويقع بع�ضهم يف خمالفات �شرعية مثل :طلب الر�شوة ،والتنازل عن املوا�صفات
m
يخ�ص بع�ض �أ�صحابه ب�أ�سرار ال يف�شونها لأحد ،قال �أن�س بن مالك �« :أ�س َّر ّ وكان النبي
يل النبي �سر ًا ،فما �أخربت به �أحد ًا ،ولقد �س�ألتني �أ ّم �سليم �-أ ُّم �أن�س -فما �أخربتها به»(.)2
b
�إ ّ
و�إذا كان حفظ ال�سر ف�ضيلة ،فلمن حافظ على �أ�سرار النا�س �أج ٌر عظيم ،ف�إن اهلل تعاىل
e
ي�سرته يف الدنيا والآخرة؛ ي�سرته عن الكائدين ،وي�سرت عيوبه وعوراته ،قال ( :من �سرت
م�سلم ًا �سرته اهلل يف الدنيا والآخرة)(.)3
ik
واتفق العقالء على ف�ضيلة كتمان ال�س ّر ،وقالوا( :)4العفة عن الأموال �أي�سر من العفة عن
وي�شح بالي�سري من ماله �ضن ًا به وحفظ ًا له، �إذاعة الأ�سرار؛ لأن الإن�سان قد يذيع �سر نف�سهّ ،
a
ولذلك كان �أمناء الأ�سرار �أ�شد تعذُّر ًا و�أقل وجود ًا من �أمناء الأموال .قال ال�شاعر:
n
و�أطـ ــوي الـ ــ�سـ ـ َّر دون الـ ـ ـن ـ ــا�س �إنـ ــي
l.
ومن �أهم الأ�سرار ما يكون بني الزوجني ،قال �( :إن من �أعظم الأمانة عند اهلل يوم
o
ومن هنا يتبني لنا �أن حفظ ال�سر فر ٌع من فروع الأمانة ،و�إف�شاء الأ�سرار فر ٌع من
فروع اخليانة.
قال �( :إذا ح َّدث الرجل باحلديث ثم التفت ،فهي �أمانة)(� ،)1أي التفت لئال ي�سمع �أحد
o
كالمه .وقال ( :املجال�س بالأمانة �إال ثالثة؛ جمال�س �سفك دم حرام� ،أو فرج حرام� ،أو
اقتطاع مال بغري حق)(� )2أي �أن الأ�صل �أن ما يدور يف املجال�س وال يح ُّبون �أن َّ
يطلع عليه �أحد ال
b
يجوز �إف�شا�ؤه؛ لأنه من الأمانة ،وال يدخل يف هذا املجال�س املفتوحة التي يغ�شاها كل �أحد.
e
الأ�سرار الوظيفية :وهذا يت�أكد يف الوظائف ذات ال�صفة اخلا�صة ،كالطب ،والع�سكرية،
والق�ضاء ،واملنا�صب العليا ،ففيها من الأ�سرار ما يحتاج فيه العامل �إىل درج ٍة عالية من
ik
ق�سم ي�ؤديه املتقدمالأمانة؛ لئال يف�شي �أ�سرار العمل� ،أو �أ�سرار النا�س ،ولذا ُو ِ�ضع يف بع�ضها َ
كق�سم الطبيب( ،)3والع�سكري .فالطبيب يطلع على عيوب زياد ًة يف التعهد بحفظ الأ�سرارَ ،
النا�س ،ف�إن املر�ض عيب ،وال �أحد من النا�س يحب �أن يطلع على عيبه �أحد ،و�أي�ض ًا ف�إن املر�ض
a
يرتتب عليه �أحكام �شرعية يف النكاح والطالق والعبادات ،و�أي�ض ًا ف�إن املر�ض ميكن �أن ي�ستعمل
n
يف الت�شهري من مبغ�ضي الإن�سان ،لذا ال يحق للطبيب �أن يف�صح عن �أمرا�ض الأ�شخا�ص.
والع�سكري الذي يطلع على �أ�سرار الدولة ،من ت�سليحها ،وقواتها الع�سكرية ،وحجم نفقاتها
d
الع�سكرية ،وغري ذلك مما ال تر�ضى دولة �أن تف�صح عنه �إال بحدود �ض ِّيقة ،يتحمل من الأمانة
l.
ال�شيء الكثري .والقا�ضي يطلع على م�شكالت النا�س وخالفاتهم و�أ�سرارهم ،فمن واجبه �أن
�شيء من ذلك .وامل�س�ؤول عن قطاع كبري من املوظفني يكون �أمين ًا يف عدم الإف�صاح عن ٍ
c
كالوزير والوكيل والنائب واملدير العام يطلع بحكم وظيفته على �أ�سرارهم ،وم�شكالتهم،
وح�سنه عن جابر . ( )1رواه �أبوداود ( )267/4والرتمذي (َّ )341/4
o
ا�س َك َرا َمت ُهم ،و� ْأ�سرتالك وامل َر ِ�ض والألمَ والقَلق * و�أن أَ�حفَظ ِلل ّن ِ وال َأحوال َب ِاذ ًال ُو ْ�س ِعي يف ا�ستنقاذها ِمن ال َه ِ
أكتم ِ�س َّر ُه ْم * و�أن �أكونَ َعلى الد َوام من و�سا ِئل رحمة اهلل ،باذ ًال ر َِعا َيتي الطبية للقريب والبعيد، َع ْو َرت ُهم ،و� َ
ُ ُ
لل�صالح واخلاطئ ،وال�صديق والعدو * و�أن �أثابر على طلب العلم ،أ� َ�س ِخره لنف ِع ال َإن�سان ال ل َأذاه * و�أن �أ َو ّق َر َمن
الط ّب ّية ُمت َعاو ِن َني َعلى ال ِّرب والتقوى * و�أن تكون حياتي َع َّل َمني ،و�أُ َع ّل َم َمن َي ْ�صغ َرين ،و�أكون �أخ ًا ِل ُك ِّل َزميلٍ يف املِه َن ِة ُ
جتا َه اهلل َو َر ُ�سو ِل ِه َوامل� ِؤمنني * واهلل على ما �أقول �شهيد. ِم ْ�ص َداق إ� َمياين يف ِ�س ّري َو َعالن َيتيَ ،نق ّي ًة ممِ ّ ا ُي�شين َها َ
119 الأخالق الوظيفية
وق�ضاياهم ،ورمبا �أحوالهم ال�شخ�صية ،مما ي�أتيه من خمتلف اجلهات يف دائرته وغريها،
فعليه حت ُّمل الأمانة يف عدم �إف�شاء �أ�سرار املوظفني لغريهم.
�أنواع الأ�سرار :والأ�سرار الوظيفية منها ما يتعلق بالأ�شخا�ص ،ومنها ما يتعلق بالأعمال؛ فما
o
يتعلق بالأ�شخا�ص كالظروف ال�شخ�صية للموظفني التي يعلم عنها املدير� ،أو بع�ض الزمالء.
وما يتعلق بالعمل ،كعدم ك�شف ا�سم امل�ؤ�س�سة ومقدار عر�ضها يف جلنة املظاريف املوكلة
b
باختيار �أف�ضل العرو�ض املق َّدمة ،وعدم ك�شف ما يدور يف االجتماعات اخلا�صة.
e
حاالت جواز ك�شف �سر العمل :الأ�صـل �أن ال�سـ ّر ال يـجـوز ك�شفه؛ لأ�سباب:
الأول� :أن ك�شفه �إخال ٌل بالأمانة ،و� ٌ
إخالف للوعد ،ونق�ض للعهد.
ik
(وقد يرتفع هذا الواجب �إذا فقد املو�ضوع �سريته ب�أن �صار معروف ًا عند النا�س �أو �ألغي
الأمر الذي �أوجب ال�سرية� ،أو كان من �ش�أن �إف�شائها منع ارتكاب جرمية جنائية يتنا�سب
c
منعها مع �إف�شاء ال�سر� ،أو ظهر من اجلهة التي متلك ذلك نظام ًا� ،أو اقت�ضت ذلك م�صلحة
العمل كتدريب موظف جديد على مبا�شرة مهام الوظيفة.
o
و�أي ًا كان الأمر ف�إنه ينبغي �أن يالحظ �أن هناك حاالت يفرت�ض فيها النظام على املوظف
m
الإف�صاح عن هذه الأ�سرار ،ك�أن ي�صدر قرار من جهة متلك ذلك احلق نظام ًا ب�إلزام املوظف
ب�أن يف�صح عن �سر من �أ�سرار الوظيفة ومثل تلك احلاالت ال تعترب من قبل الإف�شاء املحظور
كمبد�أ عام)(.)1
( )1ال�سعدان/مرجع �سابق.
m
o
c
l.
d
n
a
ik
e
b
o
121 الأخالق الوظيفية
الف�صل الثالث
املخالفات املهنية وو�سائل التغلب عليها
o
الأخالق املذمومة ت�شمل هذه وغريها ،فبينهما خ�صو�ص وعموم .لكن نظر ًا لأن هذه
املخالفات منت�شرة واحلاجة �إىل التنبيه عليها قائمة ،خ�ص�صتها بالذكر.
a
< �إن بع�ض فروع الأخ�لاق املذمومة ال يع ّد من املخالفات املهنية ،و�إمنا هو من ترك
الأَوىل ،كاالن�شغال بغري م�صلحة العمل �أثناء الدوام �إذا مل يكن هناك عمل ،بخالف
n
احل�صول عليها.
o
وقد تكون ب�سبب عدم قناعة املوظف بالأمر املطلوب منه. <
�شك �أن املخالفات تتفاوت قو ًة و�ضعف ًا ح�سب حجم املخالفة و�أهم َّية الأمر املطلوب
وال ّ
تنفيذه ،فالت�أخر عن الدوام خمالفة وظيفية ،لكنها لي�ست ك�إف�شاء الأ�سرار الوظيفية ،ف�إن
�إف�شاء الأ�سرار يرتتب عليه �أ�ضرار ال ترتتب على الت�أخر.
o
و�س�أورد يف هذا الف�صل �أ�شهر املخالفات املهنية التي يقع فيها املديرون واملوظفون،
و�أعقبها بعد ذلك بو�سائل عالج هذه املخالفات:
ik
(اجلهاز الإداري يقوم على التد ُّرج الهرمي حيث تق�سم الوظائف �إىل مراتب يعلو بع�ضها
بع�ض ًا ،وتت�ضمن كل منها جمموعة من الفئات التي ي�شغلها مر�ؤو�سون ور�ؤ�ساء ،ولكي تكون
n
ال�سلطة الرئا�سية ذات فعالية ف�إن الأمر يتطلب تقرير واجب طاعة املر�ؤو�س لرئي�سه)(.)1
d
�أ�ضف �إىل ذلك ما يتمتع به املدير الإداري من خربة ومعرفة مبجريات الأمور والظروف
l.
املحيطة ،وقدرة على جمع املعلومات وو�ضع الت�صورات والبدائل وتقدير النتائج ،فاملدير
غالب ًا ال يتخذ قرار ًا �إال بعد درا�سة كل ما يتعلق به من �أمور من كل اجلوانب ،فهو امل�س�ؤول عن
كل ما يحدث فـي حميط �إدارته؛ لهذا �سيحر�ص على اتخاذ القرار ال�سليم ليحقق �أهداف
c
رب العمل هو �إمامرب العمل ،ف�إن كان ّ وامل�س�ؤول هو كل �شخ�ص توكل �إليه م�س�ؤولية من ّ
m
حكم طاعة امل�س�ؤولني :ال�شرع املط َّهر قرر وجوب الطاعة للم�س�ؤولني يف قوله �سبحانه:
ﱫﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ
ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﱪ [الن�ساء ،]59 :وقوله عز ا�سمه :ﱫﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
o
ﮟﱪ [الن�ساء ،]83 :ويف قوله ( :اعبدوا اهلل وال ت�شركوا به �شيئ ًا و�أطيعوا من و ّاله اهلل
b
�أمركم)( ،)1وقوله ( :من �أطاع �أمريي فقد �أطاعني ،ومن �أطاعني فقد �أطاع اهلل ،ومن
ع�صى �أمريي فقد ع�صاين ومن ع�صاين فقد ع�صى اهلل)( )2و�أحاديث كثرية يف الباب(.)3
e
وكان النبي ي�أمر بطاعة والة الأمر عملي ًا ،حني كان ير�سل ال�سرايا وي� ِّؤمر عليهم �أحد
ik
�أ�صحابه وي�أمرهم بطاعته ،كما �أر�سل عبداهلل بن حذافة ال�سهمي و�أ َّمره على �سر َّية،
فغ�ضب عليهم وقال� :ألي�س قد �أمر النبي �أن تطيعوين؟ قالوا :بلى� ....إلخ(.)4
a
< الثاين� :أنها مفتا ٌح لنجاح امل�ؤ�س�سة ،فبدونها ال تتحقق الأهداف وال تنفَّذ اخلطط،
d
< اخلام�س� :أنها �إح�سا ٌن وتقدي ٌر للجماعة لأن اجلماعة �إمنا ت�سري ب�أمر امل�س�ؤول ،فمن
o
�أطاعه فقد ق َّدر اجلماعة واحرتمها ،وبادلها الإح�سان حني خدمها بطاعة م�س�ؤولها.
( )1رواه احلاكم ( )175/1و�صححه عن العربا�ض بن �سارية ،وله �شاهد عند ابن حبان ( )182/8من حديث
m
�شخ�صي يظن املوظف �أنه و�سيل ٌة لتحقيق �أهداف �شخ�صية للمدير ،ف�إن املدير كما يفيد لقبهّ
م�س�ؤول� ،أي� :أنه حما�سب من قبل امل�ؤ�س�سة �أو ال�شركة �أو الدائرة على ما يحقق من �أهدافها
b
حكم مع�صية امل�س�ؤولني :طاعة امل�س�ؤولني لي�ست مطلقة؛ بل هي مق َّيدة بطاعة اهلل تعاىل،
لذا جند يف الآية الكرمية الأوىل �أن اهلل تعاىل �أفرد طاعة اهلل لأنها م�ستقلة بذاتها ،ثم كرر
ik
لفظ الطاعة للر�سول؛ لأن طاعته م�ستقلة بذاتها ،ثم عطف �أويل الأمر عليهما بال تكرار لفظ
الطاعة؛ لأن طاعتهم لي�ست م�ستقلة بل مرتبطة بطاعة اهلل ور�سوله .وقد قال ( :ال�سمع
a
والطاعة على املرء امل�سلم فيما �أحب وكره ما مل ي�ؤمر مبع�صية ،ف�إن �أُ ِمر مبع�صية فال �سمع
عليه وال طاعة)(.)2
n
وعليه يجوز ع�صيان الأوامر �إذا كانت تت�ضمن مع�صي ًة هلل �أو لر�سوله �أو لهما؛ لأن �أمر اهلل
تعاىل مقدم على �أمر الب�شر ،ولكن �إذا كانت مع�صية امل�س�ؤول ت�ستلزم الف�صل من الوظيفة،
c
�أو تنزيل الرتبة� ،أو غري ذلك من الأ�ضرار املادية ،فهل هذا ي�س ِّوغ للموظف �أن ينفِّذ املع�صية
حفاظ ًا على وظيفته ،ودفع ًا لل�ضرر املتوقع ح�صوله عليه من هذا امل�س�ؤول؟ قبل الإجابة عن
o
< النقطة الأوىل� :أن ال�ضرورة جتيز للإن�سان ارتكاب املحظورات ،و�أ�صل ذلك �شرع ًا
قوله �سبحانه :ﱫﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱪ [البقرة]173 :
o
فمن كان يكفيه �أن يطيع امل�س�ؤول يف �صغرية يف �سبيل دفع ال�ضرر ،فال يجوز له �أن
e
يتط ّوع بطاعته يف كبرية من الكبائر ،ومن كان يكفيه �أن يطيع امل�س�ؤول يف مع�صية
واحدة يدفع بها ال�ضرر عن نف�سه ،فال يجوز �أن يطيع امل�س�ؤول يف �أكرث من مع�صية.
ik
< النقطة الثالثة� :أن احلاجة تنزل منزلة ال�ضرورة ،فاحلاجات ال�ضرورية للإن�سان
ت�ستوي مع ال�ضرورة يف احلكم ،والفرق بني ال�ضرورة واحلاجة �أن ال�ضرورة هي التي
a
يرتتب عليها الهالك ،واحلاجة �أق ّل منها بحيث يلحق الإن�سان م�شقة يف فقدها(.)1
n
والوظيفة تعترب من احلاجات ال�ضرورية للإن�سان؛ لأنها م�صدر الرزق ،وبغريها يقع
امل�سلم يف حرج ،واحلرج مرفو ٌع يف ال�شريعة الإ�سالمية.
d
< النقطة الرابعة� :أن طاعة امل�س�ؤول يف املع�صية لي�ست مطلقة ،بل هناك حاالت ال يجوز
l.
فيها ب� ّأي حالٍ من الأحوال طاعة امل�س�ؤول يف املع�صية ،وهي ما يرتتب عليها ارتكاب
املوظف بنف�سه كبري ًة من الكبائر ك�شرب اخلمر �أو الزنا� ،أو ما يت�ضمن اعتدا ًء على
c
كانت تتعلق ب�ش�ؤون املر�ؤو�س اخلا�صة خارج الوظيفة� ،أو كانت من �أجل ارتكاب جرمية(.)2
m
وبذا يت�ضح اجلواب عن ال�س�ؤال وهو� :أن �أمر امل�س�ؤول� ،إن كان مع�صية �صغرية ال من
الكبائر ،وخمالفته �ستوقع الإن�سان يف حرج وم�شقة� ،أو حترمه من الرزق ،ف�إنه يجوز
( )1البورنو/د .حممد �صدقي :الوجيز يف �إي�ضاح قواعد الفقه الكلية (.)149
( )2ال�سعدان/مرجع �سابق.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 126
تنفيذ �أمره يف �أ�ضيق نطاق ،ويف حال العجز عن التن�صل من تنفيذ الأمر ،مع كره ذلك
ون�صح امل�س�ؤول.
تعريفه لغ ًة :ز َّور الكالم :م َّوهه وزخرفه ،وز ّور عليه كذا :ن�سبه �إليه كذب ًا وزور ًا(.)1
b
وا�صطالحاً :تغيري احلقيقة ب�إحدى الطرق املقررة بالقانون بق�صد الغ�ش يف حمرر
e
غ�ش فلي�س منا) ،وهذا العموم يدل على �أن التحرمي يتناول < �أنه نو ٌع من الغ�ش( ،ومن ّ
n
�شخ�ص
ٌ التزوير بكل �أنواعه ،و�سواء �أحدث �ضرر ًا بالآخرين �أم مل يحدث ،ف�إذا ز َّور
ما توقيع ًا �أو ختم ًا �أو ورقة ر�سمية وح�صل على ميز ٍة ال ي�ستحقها ،ف�إنه مز ِّور �شرع ًا،
d
ولو مل يحدث ال�ضرر بغريه ،خالف ًا ملا جرى عليه بع�ض القانونيني الذين ا�شرتطوا
ال�ضرر(.)3
l.
< �أن الدافع �إىل التزوير حتقيق م�صلحة �شخ�صية ب�أحد �أمرين :االنتفاع باملز َّور� ،أو
c
الإ�ضرار بالغري .وكال الأمرين حمر ٌم �شرع ًا؛ �أما الأول فلأن االنتفاع باملز َّور ا�ستخدا ٌم
لو�سيل ٍة باطلة ،والقاعدة ال�شرعية تقول :ما يبنى على الباطل فهو باطل .و�أما الثاين
o
عام كم�سجد �أو حديقة عامة ،وهذا ال يجوز �شرع ًا؛ لأن الو�سيلة التي ارتكبها غري م�شروعة،
و�إن كان يحقق بها م�صلح ًة عامة.
b
�شيء من ذلك يف مبحث الر�سمية ،والوثائق ،وال�شهادات ،وغري ذلك .وقد تقدم احلديث عن ٍ
ik
ّ
الغ�ش ،و�سي�أتي ذكر نظام عقوبة التزوير يف �أنظمة اململكة العربية ال�سعودية.
تعريفها� :أ�صلها لغ ًة من ال ِّر�شاء ،وهو احلبل ،ووجه ال�شبه بينهما �أنها يتو�صل بها �إىل
املق�صود ببذل املال(.)2
n
وا�صطالح ًا :هي ما ي�ؤخذ من ُجعل وقد يكون اجلعل ما ًال �أو منفعة عما وجب على ال�شخ�ص
d
[املائدة ]42 :ومن ت�ش َّبه بهم حلقته اللعنة كاليهود ،قال ( :لعن اهلل الرا�شي واملرت�شي)(.)4
o
وملا بعث النبي عبداهلل بن رواحة �إىل اليهود ليخر�ص عليهم عر�ضوا عليه ر�شوة،
فقال« :يا مع�شر يهود! واهلل �إنكم ملن �أبغ�ض خلق اهلل �إ ّ
يل ،وما ذلك بحاملي على �أن �أحيف
m
عليكم ،ف�أما الذي عر�ضتم من الر�شوة ف�إنها �سحت و�إنا ال ن�أكلها .قالوا :بهذا قامت
ال�سماوات والأر�ض»(.)1
ﱫﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ والثاين� :أنها �أك ٌل لأموال النا�س بالباطل ،قال �سبحانه:
o
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﱪ [البقرة]188 :
والثالث� :أنها طري ٌق لتجاوز النظام ،وطري ٌق لتعويد املوظفني على عدم تقدمي �أعمالهم
b
�إال بالر�شوة ،ومن ثم �إف�ساد ذممهم ،وحرمان الكثري من النا�س من نيل حقوقهم الطبيعية
بالطرق امل�شروعة ،لعدم �إمكانهم دفع الر�شوة ِدين ًا �أو عجز ًا.
e
والرابع� :أنها من �أ�سباب انت�شار ال�ضغائن والأحقاد يف املجتمع من قبل �أولئك الذين
ik
الهدايا :ومن الأمور املحظورة قبول الهدايا على الأعمال الواجبة :وهي نوع من الر�شوة
بطريق غري مبا�شر وغري �صريح ،والفرق بينهما من جهتني:
n
الأوىل� :إن الر�شوة غالب ًا ما يتم فيها اتفاق بني الرا�شي واملرت�شي ،بعك�س الهدية التي
d
تقدمي اخلدمة.
وكما جاء الوعيد يف الر�شوة املبا�شرة جاء الوعيد يف الهدية ففي ال�صحيحني( )3عن
c
�أبي حميد ال�ساعدي � :أنه ا�ستعمل عام ًال ،فجاء العامل حني فرغ من عمله ،فقال:
o
يل .فقال له� :أفال قعدت يف بيت �أبيك و�أمك فنظرت يا ر�سول اهلل هذا لكم وهذا �أهدي �إ ّ
�أيهدى لك �أم ال! فغ�ضب النبي غ�ضب ًا �شديد ًا ،ثم قام يف النا�س خطيب ًا وحذَّ ر ،حتى قال:
m
(فوالذي نف�سي بيده :ال يغ ّل �أحدكم منها �شيئ ًا �إال جاء به يحمله على عنقه �إن كان بعري ًا..
�أو بقرة� ..أو �شاة)...
والقر�آن الكرمي ن َّبه �إىل احلذر من الهدايا التي يق�صد بها الر�شوة يف ق�صة �سليمان
o
÷ مع بلقي�س حني �أر�سلت �إليه هدي ًة ،ولكن �سليمان ÷ مل يقبل هذه الهدية؛ لأنه
يعلم �أنها ر�شوة فقال �سبحانه :ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
b
ﭟ ﭠﱪ [النمل]36 :
e
أ�سلوب ماكر لاللتفاف على النظام ،كت�سمية الوا�سطةوتغيري الأ�سماء من هذا النوع � ٌ
خدمة ،وت�سمية الر�شوة عمولة �أو هدية ،وت�سمية تطبيق النظام ت�ش ُّدد.
ik
امل�صلحة من �صميم عمل املوظف ،وال ي�شرتط �أن تكون الر�شوة مبلغ ًا كبري ًا ،بل � ّأي
مبلغ يدفع لهذا الغر�ض فهو ر�شوة ق ّل �أو كرث.
n
< ومنها :تقدمي اخلدمات للم�س�ؤول كتخفي�ض �سعر ال�سلعة لهذا امل�س�ؤول� ،أو ترقية �أحد
d
فعلى املوظف العام �أن يكون فطن ًا لهذه املداخل ،فقد �أهدى رجل من عمال عمر بن اخلطاب
�إىل امر�أة عمر منرقتني ،فدخل فر�آهما ،فقال« :من �أين ِ
لك هاتان؟ �أ�شرتيتهما؟ قالت:
c
يل فالن .فقال :قاتل اهلل فالن ًا ،ملا �أراد حاجة فلم ي�ستطعها من ِقبلي �أتاين من
بعث بهما إ� ّ
ِقبل �أهلي .فاجتذبهما اجتذاب ًا �شديد ًا من حتت من كان عليهما جال�س ًا ،ثم �أخرجهما من
o
ومتنى عمر بن عبدالعزيز رحمه اهلل تفاح ًا ،فقام رجل من �أهل بيته ف�أهدى �إليه تفاح ًا،
فلما جاء به الر�سول ،قال عمر« :ما �أطيب ريحه ،و�أح�سنه ،ارفعه ياغالم! فاقرئ فالن ًا
ال�سالم وقل له� :إن هديتك قد وقعت منا مبوقع بحيث حتب .فقلت عمر بن مهاجر :-يا �أمري
( )1رواه البيهقي (ال�سنن الكربى.)138/10 :
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 130
امل�ؤمنني ،ابن عمك ورجل من �أهل بيتك ،وقد بلغك �أن النبي كان ي�أكل الهدية وال ي�أكل
ال�صدقة .قال :ويحك! �إن الهدية كانت للنبي هدية ،وهي لنا اليوم ر�شوة»(.)1
ولذا قال العلماء �إن الهدايا ال يقبلها احلاكم والقا�ضي �إال ممن كان يتهادى معه قبل
o
ال�سلب ،وابتززت ال�شيء :ا�ستلبته ،ومنه املثل :من ع َّز بزّ� ،أي من غلب
تعريفه لغة :البز َّ
�سلب(.)3
a
(وهو منط �سلوكي �آخر للف�ساد الإداري ميار�سه بع�ض املوظفني من العاملني يف
الأجهزة امل�س�ؤولة عن حماية ون�شر الأمن والطم�أنينة �أو مراقبة الن�شاطات االقت�صادية �أو
n
غريها من الأجهزة التحقيقية والت�أديبية والعقابية ،كال�سجون واملحاكم� ،أو من قبل اللجان
االن�ضباطية ونقاط التفتي�ش وال�سيطرة واملرور والتفتي�ش ال�صحي والرقابة على الأ�سعار
d
ودوائر البلدية وموظفي اجلمارك العاملني يف املطارات �أو نقاط احلدود ،فغالب ًا ما يلج أ�
l.
بع�ض ه�ؤالء �إىل ابتزاز املراجعني واملتهمني ممن ت�شوب ق�ضاياهم �أو تنقالتهم �شائبة،
عن طريق تخويفهم �أو تهديدهم لإرغامهم على دفع املبالغ �أو تقدمي الأ�شياء العينية� ،أو
c
يعر�ضونهم للإيذاء اجل�سدي �أو التعذيب النف�سي �أو التوقيف �أو املراقبة� ،أو ف�ضحهم عرب
و�سائل الإعالم و�إل�صاق التهم بهم والإ�ساءة ل�سمعتهم ،ومواقف كهذه يحر�ص عامة النا�س
o
على جتنبها ودفعها عن �أنف�سهم بكل ما ميلكون ،حتى ولو كانوا على يقني من �أنها تهم
باطلة وملفقة ،فالربيء حني ُي َّتهم يدفع ثمن ًا باهظ ًا من حريته و�إن�سانيته و�سمعته قبل �أن
m
يثبت براءته.
( )1ابن اجلوزي/عبدالرحمن� :سرية ومناقب عمر بن عبدالعزيز (.)189
( )2النابل�سي/عبدالغني :حتقيق الق�ضية يف الفرق بني الر�شوة والهدية (.)211 ،195
( )3ل�سان العرب بزز .)312/5( -
131 الأخالق الوظيفية
الفرق بني االبتزاز والر�شوة :وقد يلتقي االبتزاز مع الر�شوة يف النهاية ،لكن الذي
مييز االبتزاز عن الر�شوة هو �أن الأخرية تدفع طواعية من قبل مقدمها وبر�ضاه لكونها
حتقق له منفعة �أو م�صلحة �أو تدفع عنه �أذى �أو �ضرر ًا ،فى حني ينطوي االبتزاز على
ا�ستخدام التهديد بالإيذاء اجل�سدي والنف�سي �أو الإ�ضرار بال�سمعة واملكانة االجتماعية
o
بتلفيق الف�ضائح و�إل�صاق التهم ون�شر الأ�سرار؛ مما يجرب ال�شخ�ص املبت ّز على الدفع
b
الأقطار وبع�ض امل�ؤ�س�سات دون �أن ينال مقرتفوها العقاب الذي ي�ستحقونه)(.)1
ik
حكمه :ال ّ
�شك يف حترمي االبتزاز؛ لأ�سباب:
الأول� :أنه �أك ٌل لأموال النا�س بالباطل ،قال �سبحانه :ﱫﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
a
الثاين� :أنه �إ�ضـرا ٌر بالآخـريـن نف�ســي ًا واجـتـماعـي ًا ومالي ًا ،وال�ضرر حرام.
d
واملبت ّز قد �أعمى قلبه احل�صول على املال ب� ّأي و�سيلة ،و�سعى لنيله بكل ال�س ُبل ،ون�سي �أن
املال و�سيلة ولي�س غاية ،و�أنه قد يكون وبا ًال على �صاحبه ،كقارون الذي ي�ضرب املثل بغناه،
c
[الهمزة ]3-2 :فلم ي�ستفد منه �شيئ ًا يف الآخرة ،ومن �أكل ما ًال حرام ًا مل يوفَّق يف دنياه و�أخراه،
قال ( :يا كعب بن عجرة! �إنه ال يدخل اجلنة حل ٌم نبت من ُ�سحت ،النار أَ�وىل به)(.)3
m
أحد ما(.)2
وا�صطالحاً :ال�شــفاعة عـنـد أ�حـد امل�س ـ�ؤولني لتقدمي خـدمة ل ٍ
b
حث على خدمة امل�سلم لأخيه امل�سلم متى قدر على ذلك ،ولهذه اخلدمة �صور والإ�سالم ّ
e
�شخ�ص ما لتقدمي
ٍ كثرية ،منها ال�شفاعة ،حيث يقوم امل�سلم با�ستعمال جاهه ومكانته عند
خدم ٍة مل�سلم حمتاج ،ك�أن ي�شفع له عند �صاحب العقار لت�أجيل �أخذ الأجرة من امل�ست�أجر
ik
العاجز عن الدفع� ،أو ي�شفع له عند قبيلة للتنازل عن حقٍّ لهم على �أحد� ،أو ي�شفع له عند
م�س�ؤول لتخفيف العقوبة امل�ستحقة على �أحد النا�س.
a
حكمها :وهذه ال�شفاعة يحث عليها الإ�سالم ملا فيها من تكاتف امل�سلمني وتعا�ضدهم
املندوب �إليهما يف الكتاب وال�سنة ،قال �سبحانه :ﱫﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﱪ [التوبة:
n
الوا�سطة الوظيفية :ومن ال�صور امل�شهورة التي لها عالقة بالوظيفة التو�سط عند مدير
الإدارة احلكومية لتوظيف �أحد املتقدمني� ،أو ترقية موظف� ،أو �إعطائه ميزات دون غريه.
c
وهذه الوا�سطة ميكن �أن تكون حال ًال� ،أو حرام ًا ح�سب احلالة واال�ستخدام ،والأ�صل فيها
o
الإباحة ،ولذا عنونت للمبحث ب�سوء ا�ستخدام الوا�سطة؛ لأن ا�ستخدامها اجلائز لي�س من
الأخالق املذمومة.
m
�شخ�ص لأحدهم
ٌ فمث ًال �إذا ت�ساوى املتقدمون للوظيفة يف ال�شهادات واخلربات ،ثم ّ
تو�سط
لأنه ميتاز بالأمانة ،ويعرفه عن قرب� ،أو لأنه يعول �أ�سرة كبرية ،ويف توظيفه تفريج لكربته،
فالوا�سطة هنا جائزة؛ لأن الأول �أقرب �إىل حتقيق امل�صلحة العامة؛ ولأن الثاين ف َّرج عنه
o
أحد من النا�س ،وكذا لو طلب �شخ�ص �إعطاء �أحد كربة ،وهو م�أمور به �شرع ًا ،مع عدم ظلم � ٍ
ل�سبب معقول ،دون ت�أثري على الآخرين ،وهذه امليزة الوظيفية من �صالحيةاملوظفني ميزات ٍ
b
املدير ،فالوا�سطة هنا جائزة �أي�ض ًا ،ملا فيها من نفع امل�سلمني ،وقد قال ( :من ا�ستطاع
منكم �أن ينفع �أخاه فليفعل)(.)1
e
واجلامع يف الوا�سطة اجلائزة �أن تكون الوا�سطة غري خمالفة للنظام ،وال يرتتب
ik
* �أن َّ
يتو�سط ال�شخ�ص لرجلٍ يعلم �أنه ال ي�ستطيع القيام بالعمل.
n
يتو�سط ال�شخ�ص لرجلٍ مع دفع ر�شوة ،قال ( :من ت�شفع لأخيه �شفاعة، * �أن َّ
ف�أهدى لـه هدية عليها فقبلها منه ،فقد �أتى باب ًا عظيم ًا من �أبواب الربا)(.)2
d
* �أن يتو�سَّ ط ال�شخ�ص لرجلٍ مع علمه �أن توظيفه �أو ترقيته خمالف للنظام.
l.
* �أن يتو�سَّ ط ال�شخ�ص لرجلٍ ويرتتب على الوا�سطة حرمان موظف من ترقية ،مع �أنه
�أكف أ� ممن تُو�سِّ ط له� ،أو منع موظف من حقه.
c
«وال �شك ب�أن الوا�سطة ال�سيئة لها انعكا�سات �سيئة على العالقة بني املوظف والوظيفة
o
العامة مع اجلمهور ،وت�ؤدي �إىل زعزعة الثقة والإخالل بامل�ساواة بني النا�س ،والتعقيد يف
�أداء الأعمال ،وعدم املباالة مب�صالح النا�س ،وانخفا�ض م�ستوى الكفاءة الإدارية»(.)3
m
( )1رواه م�سلم (ال�سالم/ا�ستحباب الرقية من العني والنملة واحلمة والنظرة )2199( -عن جابر .
( )2حديث ح�سن رواه �أبوداود ( )291/3عن �أبي �أمامة .و�سكت عنه.
( )3الغامدي والوزان/مرجع �سابق.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 134
لذا ف�إن نظام مكافحة الر�شوة يف اململكة العربية ال�سعودية منع ا�ستخدام الوا�سطة من
�أجل خمالفة النظام(.)1
وقد يكون امل�س�����ؤول هو الذي يدفع النا�س ال�ستخدام الوا�سطة ،فال يق ّدم عم ًال �إال ب�أن
o
ت����دان.
e
بقي �أن �أقول� :إن على الإن�سان �أن ي�ستغني عن النا�س قدر ا�ستطاعته ،قال ( :من يكفل
يل �أن ال ي�س�أل النا�س �شيئ ًا و�أتكفل له باجلنة)( ،)2وقال ( :لأن ي�أخذ �أحدكم حبله في�أتي
ik
ومن اعتاد على �س�ؤال النا�س خدمتهم �أدمن على ذلك ،وق ّل اعتماده على اهلل تعاىل
n
وتو ُّكله عليه ،وق ّل اعتماده على نف�سه وثقته بها ،و�أ�صبح يزاحم �أهل احلاجات الأكرث حاج ًة
منه ،ورمبا طلب �شيئ ًا لنف�سه مع �أن غريه �أحوج منه ،بل رمبا دعاه ذلك �إىل التكثرُّ والعياذ
d
باهلل وهو� :س�ؤال النا�س خدمات لي�ست �ضرورية ،و�إمنا الهدف منها �أن يكون �أكرث من غريه
l.
مكان ًة� ،أو ما ًال .وقد قال ( :من �س�أل النا�س �أموالهم تكرث ًا ف�إمنا ي�س�أل جمر ًا فلي�ستق ّل �أو
لي�ستكرث)(.)4
c
وهذه �آف ٌة نف�سية �أراها عند بع�ض النا�س ،وهي الراحة النف�سية ب�إح�سا�س املرء بخدمة
يح�س �أنه خمدو ٌم من النا�س في�شعر باملكانة والتقدير ،وهذا وهم؛ ف�إن
النا�س له ،حيث ّ
o
املكانة تكون باالعتماد على النف�س ال باالعتماد على الآخرين ،ف�إن الناجحني واملبدعني
m
واخلال�صة �أن الوا�سطة يجب �أن ي�ض َّيق نطاقها لتبقى يف دائرة ال�ضرورة التي ال ميكن
جتاوزها �إال بها ،واهلل �أعلم.
b
e
ويدل على ذلك الإح�صائيات العاملية واملحلية ،ومن ذلك على �سبيل املثال:
* ن�شر موقع www.valuebasedmanagement.netيف �أبريل 2004م� ،أن ثالثة �أرباع
a
املنظمات ال تخ�ص�ص موظف ًا لأخالقيات العمل ،وثالثة �أرباع املنظمات لي�س لديها
n
* (قال وزير التجارة الأمريكي الأ�سبق وليم ديلي �أنه مت اكت�شاف ر�شاوى قدمتها
m
�شركات �أمريكية خارج احلدود يف املدة املمتدة من مايو � 1997إىل �إبريل 1998م
(�سنة واحدة) ت�صل قيمتها �إىل نحو 30بليون دوالر.
* ق��درت م�صادر �إعالمية و�سيا�سية يف �أوائ��ل الت�سعينيات حجم االختال�سات يف
اجلزائر ب�ستة وع�شرين بليون دوالر.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 136
* كانت املخالفات عام 1998م ح�سب التقرير ال�سنوي للنيابة الإدارية يف م�صر � 43ألف
ق�ضية)(.)1
وبعد ا�ستعرا�ض املخالفات الوظيفية ال�سابقة �أرى �أن عالجها يتلخ�ص يف الآتي:
o
< �أو ًال :تنمية الرقابة الذاتية :فاملوظف الناجح هو الذي يراقب اهلل تعاىل قبل �أن
يراقبه امل�س�ؤول ،وهو الذي يراعي امل�صلحة الوطنية قبل امل�صلحة ال�شخ�صية ،ف�إذا
b
خمل�صون لها.
وقائي لكث ٍري من املخالفات
هذه الرقابة متنع من اخليانة ،وتعني على الأمانة ،فهي عالج ّ
ik
فرد منا يحب املال ،وي�سعى جهده للح�صول على املزيد منه، الوظيفية قبل حدوثها ،فكل ٍ
ف�إذا �سنحت للموظف فر�صة �أن ي�أخذ املال ب�سهولة عن طريق ر�شوة ال ي�شعر بها �أحد ،فهنا
a
يتجاذبه نازعان :الأول يدعوه لأخذ املال ،والثاين مراقبته هلل وخوفه من عقابه ،ف�صاحب
النف�س القوية هو الذي يتغلب عقله على هواه ،وميتنع عن املخالفة.
n
لذا فهي من املقومات املتفق عليها يف العامل ،ففي ا�ستبيان �أجرته جمموعة روبرت هاف
d
�إن � ّأي نظام ب�شري يف العامل ميكن االلتفاف عليه ،وميكن ارتكاب املخالفات فيه دون
عقوبة ،لكن الو�صفة الوحيدة يف تطبيق النظام هي الرقابة الذاتية التي متنع الإن�سان ذاتي ًا
c
ولتنمية الرقابة الذاتية و�سائل :كتقوية الإميان باهلل والتقوى ،وتعزيز احل�س الوطني،
وحت ُّمل امل�س�ؤولية ،والإقناع ب�أهمية الوظيفة و�أدائها ب�شكل �صحيح(.)2
m
< ثاني ًا :و�ضع الأنظمة الدقيقة التي متنع االجتهادات الفردية اخلاطئة :لأن املمار�سات
� 7أيلول 2007م� 24/شعبان 1428هـ.
( )2للمزيد يراجع مبحث :الرقابة الذاتية يف الأخالق املحمودة.
( )1مناقب �أمري امل�ؤمنني عمر بن اخلطاب البن اجلوزي/بتحقيق د .زينب القاروط (.)240
137 الأخالق الوظيفية
الأخالقية غري ال�سوية تنتج �أحيان ًا من �ضعف النظام� ،أو عدم و�ضوحه� ،أو وجود
ثغرات فيه ترتك املجال للتالعب واال�ستغالل واالجتهادات ال�شخ�صية.
ين�ص على وجوب تعيني الأكفاء ،فال ب ّد من و�ضع عوامل الكفاءة ،ون�سبة ف�إذا كان النظام ّ
o
كل عامل منها يف الأهمية .و�إذا كان النظام مينع ال�شركات من ا�سترياد املوا ّد غري الأخالقية،
فال ب ّد من بيانها بالتف�صيل .و�إذا كان النظام مينح املوظف درجة وظيفية يف التقومي على
b
�أ�سا�س تقدميه خدمات �إ�ضافية للعمل ،فال ب ّد من بيان هذه اخلدمات بالتحديد.
e
وحتى يكون للنظام فعاليته ال يكفي و�ضعه ولو ب�شكل دقيق ،حتى تتم التوعية فيه بو�سائل
الإعالم ،والن�شرات الدورية التي ت�صدرها اجلهات احلكومية وال�شركات ،ومن املبادرات
ik
املمتازة يف هذا املجال الربنامج الإذاعي لوزارة اخلدمة املدنية يف اململكة العربية ال�سعودية
الذي يهدف �إىل التوعية بالأنظمة ،وذكر بع�ض الق�ضايا املعرو�ضة على الوزارة� ،إ�ضافة �إىل
موقع الوزارة يف �شبكة الإنرتنت ،ومن هذه املبادرات الن�شرات التي ت�صدرها ال�شركات
a
الكربى يف اململكة ،وقد اطلعت على بع�ضها فوجدت فيها توعية وظيفية بالنظام يف كل عدد
واجب على و�سائل الإعالم �أي�ض ًا� ،إ�ضاف ًة للجهات التي ت�ضم جمموعة من
ي�صدر عنها ،وهذا ٌ
n
املوظفني والعمال.
d
< ثالث ًا :القدوة احل�سنة :ف�إذا نظر العاملون �إىل املدير وهو ال يلتزم ب�أخالق املهنة ،فهم
كذلك من باب �أوىل.
l.
و�أول القدوات ر�سول اهلل الذي هو مثال النزاهة ،والإخال�ص ،وحب اخلري للآخرين،
وااللتزام مبا يقوله ،وال�صدق ،والعدل ،والر�أفة ،وح�سن التعامل ،وغري ذلك من ال�صفات
c
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﱪ [الأحزاب]21 :
وكان عمر �إذا نهى الرع َّية عن �شيء ،جمع �أهله وقال لهم�« :إين قد نهيت النا�س عن
m
كذا وكذا ،و�إن النا�س ينظرون �إليكم ،كما ينظر الطري �إىل اللحم ،ف�إن وقعتم وقعوا ،و�إن
أ�ضعفت له العذاب،
ُ نهيت النا�س عنه �إال �
هبتم هابوا ،و�إين واهلل ال �أوتى برجل وقع فيما ُ
ملكانه م ِّني ،فمن �شاء منكم فليتقدم ،ومن �شاء فليت�أخر»(.)1
( )1منهج الرتبية الإ�سالمية ملحمد قطب ،و�أ�صول الرتبية الإ�سالمية و�أ�ساليبها لعبدالرحمن النحالوي وغريها.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 138
وت�ص َّور مدير ًا يو�صي املوظفني بااللتزام بالدوام وهو من �أواخرهم ح�ضور ًا! و�آخر يو�صي
بالنزاهة ،و�أخبار ا�ستغالله ال�شخ�صي للوظيفة معروفة للقا�صي والداين! و�آخر يتظاهر
تعي يف الوظيفة لعالقتهمبحاربة املحاباة والوا�سطة ،واملوظفون يعرفون �أن زميلهم �إمنا نَّ
o
باملدير ،مع �أنه غري م� َّؤهل! فهل ميكن لبيئة كهذه �أن ت�شيع فيها �أخالقيات املهنة؟!
القدوة �ضرورة لإجناح عملية التوجيه ،والقدوة ّ
حمط �أنظار النا�س ،ومقيا�س ت�صرفاتهم،
b
وحتى يكون ال�شخ�ص مهي ًَّ�أ لها فهناك �صفات ذاتية وعلمية وعملية ميكن الرجوع �إليها يف
كتب الرتبية(.)1
e
وباملنا�سبة :لي�س القدوة هو املدير فح�سب ،بل يجب �أن يكون املوظف قدو ًة لزمالئه يف
ik
�أخالقيات املهنة ،ورمبا ت�أثر املوظفون به �أكرث من غريه ،بدافع املناف�سة بينهم ،ف�إنهم ال
يناف�سون املدير ،و�إمنا يتبارون مع زميلهم ليحققوا ر�ضى امل�ؤ�س�سة عنهم.
a
< رابع ًا :ت�صحيح الفهم الديني والوطني للوظيفة :ف�إذا اقتنع العامل ب�أن العمل عبادة،
و�أن العمل و�سيلة للتنمية الوطنية ،وازدهار البلد ،وحت�سني م�ستوى الدخل زاد لديه
n
واجب على اجلهات الوظيفية كوزارة اخلدمة املدنية ،وال�شركات الكربى ،ب�أن تكونوهذا ٌ
ال�صبغة الإ�سالمية وا�ضح ًة يف نظمها ،فنظام اخلدمة املدنية يف اململكة العربية ال�سعودية
l.
العبادة يف ذهن املوظف وهو ي�ؤدي وظيفته .وكذلك الأمر يف نظام ال�شركات الكربى.
o
والأمر الآخر هو الربط بني الوظيفة وم�ستوى الدخل للمواطنني ،ف�إن هناك تنا�سب ًا طرد ّي ًا
حت�سن دخل الفرد وانخف�ضت الأ�سعار.
حت�سن �أداء املوظفني َّ
بني االثنني؛ فكلما َّ
m
واملالحظ �أن املتحدثني عن الوطنية ي�سهبون كثري ًا يف جوانب �سيا�سية �أو اقت�صادية ويغفلون
جانب االنتماء الوطني الوظيفي؛ ف�إن الوالء للوظيفة هو والء للوطن ،ومن �صميم الوطنية.
( )1فتح الباري ( - 189/13ح.)7197 :
139 الأخالق الوظيفية
وهنا يربز دور امل�سجد واملدر�سة واجلامعة وو�سائل الإعالم يف توعية النا�س ب�أخالقيات
املهنة من منظور �إ�سالمي ،وهي �أخالق الإ�سالم التي دعا �إليها و أ�كَّد عليها ،وتوعيتهم بطبيعة
املهنة التي هي ركيزة من ركائز املجتمع الإ�سالمي� ،إذ هي من فرو�ض الكفايات ،وال غنى
للدولة الإ�سالمية عنها .وتغيري النظرة ال�سائدة عن الوظيفة من كونها م�صدر ًا للدخل فقط،
o
وعلى �سبيل املثال :املع ِّلم الذي ي ؤ� ِّدي واجبه لينال راتبه ال�شهري فح�سب ،لي�س كاملع ِّلم
الذي يذهب �إىل عمله ويف ذهنه �أنه يك�سب �أجر ًا بن�شر العلم ،والدعوة �إىل اهلل ،والأمر
e
باملعروف والنهي عن املنكر ،والن�صيحة ،والرتبية ال�صاحلة ،وتقوية �إميان الأبناء ،وغري
ik
ذلك! و�إذا مل ي�ستطع حتقيق هذه الأمور كلها ،ف�سيحقق بع�ضها .ويف نهاية الأمر �سينال راتبه
�أي�ض ًا ،ولكن معه �أج ٌر �أو �أجور ،حني ُحرِ م الآخر منها.
a
< خام�س ًا :حما�سبة امل�س�ؤولني ،واملوظفني :فال ب ّد من وجود الأجهزة الرقابية التي
املق�صرين واملخالفني.
ت�شرف على تطبيق النظام ،وحتا�سب ِّ
n
ومن �أجل ذلك �شرع الإ�سالم احلدود لتكون رادع ًا لكل متجاوزٍ للأنظمة الإ�سالمية،
d
ٍ
�ضارب بعر�ض احلائط ،كل العوائق والو�سائل املنجية من املحرمات .قال اهلل �سبحانه:
ﱫﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ
l.
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﱪ [النور.]2 :
وكان النبي يحا�سب ع َّماله ،كما قال البخاري يف �صحيحه« :باب حما�سبة الإمام ع َّماله،
c
ال�ساعدي �أن النبي ا�ستعمل ابن اللتب َّية على �صدقات بني �سليم ،فلما
ّ ثم روى عن �أبي حميد
يل ..احلديث»(.)1 جاء �إىل ر�سول اهلل وحا�سبه ،قال :هذا الذي لكم ،وهذه هدي ٌة �أُ ِ
o
هد َيت �إ ّ
وقال ابن القيم يف الطرق احلكمية(« :)2كان النبي ي�ستويف احل�ساب على عماله،
m
ال�ساعدي ،وذكر
ّ يحا�سبهم على امل�ستخرج وامل�صروف ،كما يف ال�صحيحني عن �أبي حميد
احلديث املتقدم».
(� )2صفحة (.)244
( )1رواه البيهقي (.)163/8
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 140
وكان عمر ي�س�أل الرعية�« :أر�أيتم �إذا ا�ستعملت عليكم خري من �أعلم ثم �أمرته بالعدل
أعمل مبا �أمرته �أم ال»(.)1
علي؟ قالوا :نعم .قال :ال ،حتى �أنظر يف عملهِ � ،
أكنت ق�ضيت ما ّ
� ُ
وحما�سبة امل�س�ؤول حتميه من �ضعف النف�س ،واال�ستغالل ،وحتمي امل�ؤ�س�سة من اخل�سارة،
o
�إن مبد أ� «من �أين لك هذا؟» الإ�سالمي يجب �أن ينت�شر يف جميع امل�ؤ�س�سات والإدارات،
ونحن امل�سلمني �أ�سبق من غرينا يف تطبيق هذا املبد�أ ،فلماذا يتميز الغرب الآن بتطبيقه �أكرث
e
من امل�سلمني ،عن طريق نظام ك�شف الرثوة ال�شخ�صية؟! وذلك حني يك�شف كل امل�س�ؤولني
الكبار يف الدولة عن ثروتهم ال�شخ�صية قبل وبعد تويل املنا�صب العليا ،ليت�ضح مدى الفرق
ik
بني الرثوتني ،ثم يحا�سبون عن الزوائد من الأموال واملمتلكات فيبينون م�صدر هذه الزيادة،
نظامي �أم ال؟
ٍّ وهل جاءت من طريق
a
فقد ا�ستعمل عمر �أبا هريرة ر�ضي اهلل عنهما على البحرين ،فوفد بع�شرة �آالف ،فقال
n
له عمر« :ا�ست�أثرت بهذه الأموال يا عد َّو اهلل وعدو كتابه؟» فقال �أبو هريرة :ل�ست بعد ّو اهلل
وعد ّو كتابه ،ولكني عد ّو من عاداهما .قال :فمن �أين هي لك؟ قلت :خي ٌل نتجت ،وغلة رقيق
d
فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليو ِّليه ،ف�أبى .فقال :تكره العمل وقد طلب العمل من كان
خري ًا منك ،يو�سف ÷ فقال :يو�سف نبي ،ابن نبي ،ابن نبي ،و�أنا �أبو هريرة بن �أميمة.
و�أخ�شى اثنتني وثالث ًا� ،أخ�شى �أن �أقول بغري علم ،و�أق�ضي بغري حلم .و�أن ي�ضرب ظهري،
c
والحظ قوله يف الرواية «فنظروا» �أي� :أن هناك جهة مك َّلفة بالنظر واملتابعة.
m
وال �أن�سى هنا �أن �أذ ِّكر �أن هذه املحا�سبة ال ب ّد �أن ي�سبقها توعية ب�أهمية الزهد يف الدنيا،
والورع ،والنزاهة.
( )2الذهبي�/أحمد بن عثمان� :سري �أعالم النبالء ( )612/2ورجاله ثقات.
( )1ابن اجلوزي�/سرية ومناقب عمر بن عبدالعزيز (.)105
141 الأخالق الوظيفية
< �ساد�س ًا :التقومي امل�ستمر للموظفني :مما يحفزِّ هم على التطوير �إذا علموا �أن من
يط ِّور نف�سه يق َّوم تقومي ًا �صحيح ًا ،وينال مكاف�أته على ذلك ،والتقومي يعني امل�س�ؤول
على معرفة م�ستويات موظفيه وكفاءاتهم ومواطن �إبداعهم.
o
الهالمي الذي
ّ ولكن التقومي ال يكون فعا ًال �إال �إذا كان نزيه ًا دقيق ًا .فال ينفع التقومي العا ّم
ويق�سم �إىل درجات وا�ضحة ،ويكون له �أث ٌر ملمو�س. يف�صل مواطن القوة وال�ضعفَّ ، ال ِّ
b
ونرى يف كث ٍري من اجلهات تقييم ًا �سنوي ًا للموظفني ،ولكن ال يتبعه � ّأي �أثر على تطويرهم،
e
وال معاجلة �سلبياتهم ،وذلك ب�سبب الأمن الوظيفي الذي يوفِّره النظام.
ik
وغالب ًا ما يتوفر ذلك يف الوظائف احلكومية ،فالدولة تتحا�شى معاقبة �أو ف�صل املوظف
حماي ًة له من التقومي الكيدي من قبل م�س�ؤوله ،وهذا يعطيه اطمئنان ًا وظيفي ًا ي�ؤ ِّثر على
n
يعي امل�س�ؤولون النزيهون ،ومن ثم يكونون موطن ثقة الدولة يف تقوميهم، والعالج� :أن نَّ
وميـكن �أن يكون الـتقومي مــن أ�كــرث من �شــخ�ص زيـاد ًة يف النـزاهة ،و�أن يـكون للـتـقومي
l.
فعالية ملمو�سة.
c
املتقدم بدقة.
�ضوئها ِّ
m
ف�أمرا�ض الوا�سطة واملح�سوبية وتغليب جانب ال�صداقة والقرابة واملنفعة على امل�صلحة
العامة يجب �أن تختفي �إذا كنا نطمح �إىل تنمية حقيقية ،وح�سبك �أن ر�سول اهلل كان من
�أعمامه من لعنه اهلل يف القر�آن الكرمي ،فلم يرا ِع جانب القرابة يف تقريبه والإغ�ضاء
عنه وم�ساحمته ،ما دام �أنه عد ٌّو هلل ور�سوله.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 142
وكتب عمر بن العزيز رحمه اهلل �إىل عامله على خرا�سان�« :إنه بلغني �أنك ا�ستعملت
عبداهلل بن الأهتم ،و�أن اهلل مل يبارك لعبداهلل بن الأهتم يف العمل ،فاعزله ،و�إنه على ذلك
لذو قرابة لأمري امل�ؤمنني»(.)1
o
< ت�شجيع املوظفني واملواطنني على ك�شف الف�ساد الإداري واملظاهر ال�سلبية :بو�ضع نظام
للمكاف�آت على التبليغ عن � ّأي خلل يف �أداء الوظيفة ،وتخ�صي�ص هاتف لذلك� ،أو و�ضع
b
�صندوق للمالحظات مع بيان هوية املب ِّلغ ليتم االت�صال به للتحقق ثم املكاف�أة ،مع
الت�شديد على عدم قبول البالغات الكيدية ،ومعاقبة �صاحبها.
e
وقد كان عمر بن عبدالعزيز رحمه اهلل يعطي الأعطية ملن ير�شد لأمر يظهر حق ًا �أو
ik
يبطل باط ًال ،والقا�ضي عبدالرحمن بن معاوية بن حديج رحمه اهلل ( 86هـ) جعل اجلوائز
ملن يك�شف عن �أموال اليتامى ،فحفظت بذلك �أموال اليتامى(.)2
a
n
d
l.
c
o
m
( )2العمر/د .ف�ؤاد� :أخالق العمل و�سلوك العاملني يف اخلدمة العامة (.)87
( )1متفق عليه (البخاري :الزكاة/ال�صدقة على اليتامى ،1396 -وم�سلم :الزكاة/تخوف ما يخرج من زهرة
143 الأخالق الوظيفية
الف�صل الرابع
�شروط املهنة يف الإ�سالم
o
< لأن الك�سب املباح هو الذي يبارك للإن�سان فيه ،قال ( :من ي�أخذ ما ًال بحقِّه يبا َرك
له فيه ،ومن ي�أخذ ما ًال بغري حقه فمثله كمثل الذي ي�أكل وال ي�شبع)(.)1
e
< ولأن املباح هو الطيب الذي �أباحه اهلل لنا بقوله �سبحانه :ﱫﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ
ik
< ولأن املباح ال يلحق العامل فيه الإثم ،بل بالعك�س من ذلك يناله الأجر �إن نوى فيه النية
ال�صاحلة كما تقدم يف �أول الكتاب.
l.
وعك�س الطيب اخلبيث ،وعك�س املباح احلرام ،في�شرتط يف الوظيفة �أن تخلو من احلرام
c
واخلبيث ،فال يجوز العمل بالربا مث ًال؛ لأنه حمرم بقوله �سبحانه :ﱫﮄ ﮅ ﮆﱪ [البقرة:
بالغ�ش كالتطفيف يف الكيل ،قال �سبحانه :ﱫﯖ ﯗ * ﯙ ]276وال يجوز اكت�ساب املال ّ
o
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ * ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﱪ [املطففني]3-1 :
m
بي بن �سلول زعيم املنافقني ي�ستغل جاريتني يعمالن عنده يف وكان عبداهلل بن أُ� ّ
اكت�ساب املال بالزنا قبل الإ�سالم ،فلما �أ�سلمتا ت�أ َّثمتا من ذلك ،ف�أجربهما ،ف�أنزل اهلل تعاىل
اخلدري .
ّ الدنيا )1052 -عن �أبي �سعيد
( )1رواه م�سلم (التف�سري /قوله تعاىل :ﱫﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﱪ )3029 -عن جابر .
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 144
وعن �أن�س �( :أن ر�سول اهلل لعن يف اخلمرة ع�شرة :عا�صرها ،واملع�صورة له،
b
و�شاربها ،و�ساقيها ،وامل�سقى له ،وحاملها ،واملحمولة له ،وامل�شرتي ،وامل�شرتى له ،و�آكل
ثمنها)(.)3
e
وعن جابر بن عبد اهلل ( :لعن ر�سول اهلل �آكل الربا ،وموكله ،و�شاهديه،
ik
وكاتبه ،وقال «هم �سواء«)( ،)4وعن �أبي جحيفة ( :نهى ر�سول اهلل عن ثمن الدم،
البغي)( ،)5وما تقدم مناذج من الك�سب اخلبيث ،يقا�س عليها غريها
وثمن الكلب ،وك�سب ّ
من املحرمات.
a
< ولأن العمل و�سيلة للك�سب واملعي�شة ،واملعي�شة و�سيلة لعبادة اهلل تعاىل ،والغاية ال تربر
n
الو�سيلة ،ف�إذا كانت الغاية من اخللق هي العبادة ،فيجب �أن تكون و�سيلتها مباحة ،ال �أن
d
يكت�سب الإن�سان من احلرام ثم يت�صدق به ،ويبني به امل�ساجد! قال النبي �( :إن اهلل
ط ِّي ٌب ال يقبل �إال طيب ًا ،و�إن اهلل �أمر امل�ؤمنني مبا �أمر به املر�سلني فقال :ﱫﮡ ﮢ
l.
يديه �إىل ال�سماء :يا رب يا رب .ومطعمه حرام ،وم�شربه حرام ،وملب�سه حرامُ ،
وغ ِّذي
باحلرام ف�أنى ي�ستجاب لذلك؟!)()6
o
وميكن �أن تكون الوظيفة م�شتمل ًة على احلالل واحلرام ،من خالل ر�أ�س مالها� ،أو بع�ض
�أن�شطتها ،ويف هذه احلالة تكون م�شتبهة ،والعمل فيها مكروه ،لقوله �( :إن احلالل بينِّ
ري من النا�س ،فمن اتقى ال�شبهات ا�سترب أ�
و�إن احلرام بينِّ ،وبينهما م�شتبهات ال يعلمهن كث ٌ
o
احلمى يو�شك �أن لدينه وعر�ضه ،ومن وقع يف ال�شبهات وقع يف احلرام ،كالراعي يرعى حول ِ
يرتع فيه� ،أال و�إن لكل ملك حمى� ،أال و�إن حمى اهلل حمارمه)()1
b
والتحرمي يتناول جهة الن�شاط� ،أو جهة م�صدر الدخل� ،أو جهة خمالفة الأنظمة...
e
ومثال ذلك يف الن�شاط التجاري� :أن يكون العمل قائم ًا على ن�شر املعامالت الربوية� ،أو
�صناعة اخلمر� ،أو الأ�صنام� ،أو ت�صوير مفاتن الن�ساء �أمام الرجال الأجانب ونحو ذلك ،فهذه
ik
الأعمال حمرم ٌة �شرع ًا ،وما ينبني عليها من �أجو ٍر حمر ٌم �أي�ض ًا؛ لأن اهلل تعاىل �إذا ح َّرم �شيئ ًا
ح َّرم ثمنه ،ولأن ما يبنى على الباطل فهو باطل .قال ( :لعن اهلل اليهود ،حرم اهلل عليهم
a
ومثال ذلك يف م�صدر الدخل� :أن يكون كل ر�أ�س مال العمل ربوي ًا� ،أو نتيجة تقدمي خدمات
حم َّرمة� ،أو ت�أجري مبانٍ للأن�شطة املحرمة �شرع ًا.
d
ومثال ذلك يف خمالفة الأنظمة� :أن يكون العمل املطلوب من املوظف يت�ضمن دفع ر�شوة� ،أو
l.
�إنتاج �أو بيع مواد خمالفة للنظام ،كاملنتجات املغ�شو�شة� ،أو املوا ّد املمنوعة �صحي ًا� ،أو خ ُلقي ًا.
c
( :على كل م�سلم �صدقة) قالوا :ف�إن مل يجد؟ قال( :يعمل بيده فيت�صدق)(.)3
m
( )2رواه البخاري (البيوع/ال يذاب �شحم امليتة وال يباع )2110 -وم�سلم (امل�ساقاة/حترمي بيع اخلمر وامليتة
واخلنزير والأ�صنام )1582 -عن ابن عبا�س ر�ضي اهلل عنهما.
( )3متفق عليه عن �أبي مو�سى الأ�شعري (البخاري :الزكاة�/صدقة الك�سب والتجارة ،1376 -وم�سلم:
الزكاة/بيان �أن ا�سم ال�صدقة يقع على كل نوع من املعروف .)1008 -
( )1الوزير يحيى بن هبرية (قيمة الزمن عند العلماء لعبدالفتاح �أبوغدة.)61 :
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 146
أبواب كثرية؛ منها االجتماعي ،واالقت�صادي ،والأخالقي ،وال خري يف وظيفة ال نفع
والنفع � ٌ
فيها ،ف�ض ًال عن كونها �ضا ّرة؛ ف�إن وقت الإن�سان نفي�س ،فلي�س من احلكمة ت�ضييعه يف عملٍ ال
فائدة فيه ،قال اهلل �سبحانه :ﱫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ
o
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﱪ
[الكهف ]28 :فالكافر �أمره فرط ال هدف له يف حياته� ،أما امل�ؤمن فال ي�ضيع دقيق ًة من وقته
b
و�إذا كان الأمر كذلك فكيف ير�ضى امل�سلم �أن يعمل يف وظيف ٍة ملدة ثماين �ساعات
خم�سة �أيام يف الأ�سبوع =� 6أيام يف ال�شهر = 72يوم ًا يف ال�سنة = �أي �أن ي�ستنفد من
a
عمره �شهرين ون�صف �سنوي ًا دون فائدة تعود للمجتمع!! ف�ض ًال عن �أن تكون �ضار ًة له
n
وللب�شرية.
واحل�سي؛ فال�ضرر املعنوي هو الإ�ضرار وال�ضرر هنا ي�شمل ال�ضرر املعنوي والأخالقي
d
ِّ
أفالم �أو �إ�صدارات �إلكرتونية ت�شكك يف العقيدة الإ�سالمية،
بعقيدة الإن�سان وفكره ،ك�إنتاج � ٍ
l.
�أو تن�شر الإحلاد �أو الن�صرانية� ،أو طباعة الكتب التي تتناول ذلك.
وال�ضرر الأخالقي هو �إف�ساد �أخالق املجتمع ك�شركات الإعالم الفا�ضحة ،و�إ�شاعة العري،
c
احل�سي هو الإ�ضرار باجل�سد وال�صحة ،مثل ت�أ�سي�س �شركات التدخني �أو اخلمور وال�ضرر ِّ
والعمل فيها� ،أو زراعة املخدرات �أو ت�صنيعها� ،أو �صناعة املنتجات ال�ضارة بال�صحة كالأدوية
m
املق َّلدة واملغ�شو�شة� ،أو ت�سويق و�إنتاج املوا ّد الغذائية النباتية واحليوانية املط ّعمة بالكيماويات
ال�ضا َّرة �أو ِّ
املتغذية بها.
و�صححه احلاكم. ( )1رواه الدارقطني ( )77/3واحلاكم ( )66/2عن �أبي �سعيد اخلدري
147 الأخالق الوظيفية
ف�إذا ت�ضمنت الوظيفة �ضرر ًا متيقَّن ًا على النف�س� ،أو املجتمع� ،أو البلد ،ح ُرمت؛ لأن ال�ضرر
من�صو�ص على حترميه يف ال�شرع ،يف قوله ( :ال �ضرر وال �ضرار)( ،)1وقوله ( :من ٌ
�ضا ّر �ضا ّر اهلل به)(.)2
o
واحد منا ال يقبلوكيف ير�ضى امل�سلم �أن ي�ستفيد هو على ح�ساب غريه؟ و�إذا كان كل ٍ
ال�ضرر على نف�سه من الآخرين ،فكذلك ينبغي �أن ينظر �إىل ما ينتج عن ال�شركة �أو امل�ؤ�س�سة
b
التي يعمل بها ،هل فيها �إ�ضرا ٌر بالآخرين �أم ال .ف�إن النبي قال( :من كان ي�ؤمن باهلل
e
واليوم الآخر فلت�أته من َّيته وهو ي�ؤمن باهلل واليوم الآخر ،ولي� ِأت �إىل النا�س الذي يحب �أن
ي�أتوه)(.)3
ik
وقد يقال �إن هذه الأعمال فيها فائدة لبع�ض النا�س من ناحية جتارية �أو ترفيهية،
واجلواب� :إن العربة بالغالب ،فقد ح َّرم اهلل تعاىل اخلمر مع �أن فيها منافع للنا�س؛ قال
a
ونهى اهلل عن ت�شغيل الن�ساء والفتيات يف البغاء والدعارة مع �أن فيها م�صلحة جتارية؛
d
وك ّل ال�شركات الربحية فيها منافع اقت�صادية لأفراد �أو فئات �أو دول ،ولكن �إذا كانت
املنافع االقت�صادية والتجارية تتعار�ض مع املبادئ والقيم ف�إنها تبطل ،وهو ما يعرف �شرع ًا
c
بامل�صالح امللغاة ،فاحلفاظ على النفو�س م�صلحة مق�صودة ولكنها تلغى يف اجلهاد يف
�سبيل اهلل من �أجل ن�شر الدين الذي هو �أهم من النفو�س ،وبناء الكعبة على قواعد �إبراهيم
o
أهم منها وهو عدم فتنةم�صلحة ولكنها أُ�لغ َيت يف �أول الإ�سالم لأنها تتعار�ض مع ما هو � ّ
m
والغايات.
e
املظان التي يكرث فيها االختالط بني اجلن�سني كامل�ست�شفيات ،لذا ف�إنّ و�أماكن العمل من
امل�سلم يحر�ص على التو ُّرع عن اخللوة املح َّرمة منع ًا للفتنة ،و�س ّد ًا للذريعة ،وحفاظ ًا على
ik
• الت�ساهل يف اخللوة
• التز ُّين من ٍّ
l.
مطلب ال تنفرد به الدول الإ�سالمية ،بلٌ وف�صل الرجال عن الن�ساء يف العمل والدرا�سة
تطالب به الن�سوة يف الدول العلمانية �أي�ض ًا من باب اخل�صو�ص َّية ،واجلد َّية يف العمل ،ومنع
التح ُّر�شات وامل�ضايقات:
( )1موقع مفكرة الإ�سالم يف الإنرتنت يف � 2صفر 1427هـ املوافق 2مار�س 2006م.
149 الأخالق الوظيفية
ففي جمال التنقل للعمل :ن�شرت وكاالت الأنباء الآتي :قال «جوبرت فلوري�س» ،املتحدث
با�سم �شبكة قطارات ريو دي جانريو «مرتو ريو»� :إن ريو دي جانريو ،وهى من �أكرب مدن
الربازيل خ�ص�صت عربات «للن�ساء فقط» ب�شبكة قطارات املدينة وفى �شبكة القطارات
o
العربات املكتظة.
e
واخلرب الثاين من نيودلهي وكاالت الأنباء الأملانية :بد�أت �شركة اخلطوط ال�شمالية
لل�سكك احلديدية بالهند فى تخ�صي�ص عدد من عربات القطارات للن�ساء فقط.
ik
وقامت ال�شركة بطالء العربات املخ�ص�صة للن�ساء باللون الأحمر وكتبت عليها من اخلارج
كلمة «�سيدات» باللغة الهندية �إ�ضافة اىل و�ضع �صورة ل�سيدة على مدخل كل عربة.
a
و�أو�ضح بي كيه جويل املدير الإقليمي لل�شركة� :أن هذا الإجراء اتخذ لتجنيب ال�سيدات
n
الالتي ي�سافرن مبفردهن التعر�ض لأي م�ضايقات �أو مالحظات غري الئقة.
d
واخلرب الثالث :قال متحدث با�سم �شركة كيو �إلكرتيك اليابانية� :إن �شركته تلقت يف العام
1999مئات ال�شكاوي من ال�سيدات ترتكز حول تعر�ضهن لتحر�شات ،ف�ض ًال عن مئات �أخري
l.
يخ�شى �أ�صحابها من الإبالغ عنها ،مما جعلها تعلن عن عزمها تخ�صي�ص عربات منف�صلة
لل�سيدات (فقط) يف الأوقات املت�أخرة من الليل ،بخطوطها التي تخدم املناطق الغربية من
c
ويذكر �أن التحر�شات اجلن�سية مبرتو الأنفاق والقطارات تعد �أخطر م�شكلة تواجه
ال�سيدات يف اليابان ،لدرجة �أنه تقرر تخ�صي�ص �شرطة ن�سائية يف املحطات الكربى لتلقي
m
�أما يف التعليم :فقد �أو�ضح م�س�ؤول كبري يف البيت الأبي�ض �أن الإدارة ت�شجع العودة �إىل
عدم االختالط بني البنني والبنات يف املدار�س العامة يف �إطار �إ�صالح الرتبية ،كما �أو�ضح
�أن املدار�س التي تود الف�صل بني البنني والبنات �ستمنح متوي ًال يفوق املدار�س التي �ستختار
o
من الدرا�سات التي �أجريت مب�ساهمة طالب وطالبات� ،أظهرت �أنه يف بع�ض مراحل منوهم,
e
ويف جتربة قادتها م�س�ؤولة �أمريكية عن ف�صل البنات عن البنني يف املدار�س الثانوية
جاء على ل�سانها �أنه بعد عامني من التجربة �أثبت التطبيق الوا�سع لهذا النظام �أن الطالبة
يف الف�صول املتماثلة �أكرث قدرة على التفكري ،و�أ�سرع ا�ستجابة لتقبل املعلومة ،و�أكرث تركيز ًا
a
أحب �أن �أ�شري هنا �إىل �أن منع االختالط واخللوة ال يعني �أن ال تعمل املر�أة عم ًال تكت�سب
و� ّ
كن يبعن وي�شرتين على عهد النبي دون �إنكار منه(.)2 به ،فالن�ساء ّ
d
ويعجب املرء من بع�ض الأنظمة الدولية التي تقول� :إن الف�صل املهني بني اجلن�سني لي�س
l.
�ضار ًا باملر�أة فح�سب ،بل هو �أي�ض ًا م�صدر رئي�س لفقدان الكفاءة االقت�صادية.
ويت�ساءل املرء :كيف حتققت الكفاءة االقت�صادية �إذ ًا يف املجتمعات الإ�سالمية الأوىل؟
c
بل كيف حتققت يف اململكة العربية ال�سعودية مع وجود الف�صل بني اجلن�سني؟ وكيف غابت
o
( )2عن الرب ِّيع بنت مع ّوذ ر�ضي اهلل عنها :كانت �أ�سماء بنت خمربة تبيع العطر باملدينة (رواه �إ�سحاق بن
ب�سند ح�سن .)142/5 :وعن �أن�س قال :كانت باملدينة امر�أة عطارة ت�سمى حوالء راهوية يف م�سنده ٍ
m
بنت ثويب (رواه الطرباين يف الأو�سط ب�سند فيه �ضعف :جممع الزوائد .)292/4 :وقال الكتاين :كانت
مليكة والدة ال�سائب بن الأقرع تبيع العطر ،وكانت �أم امل�ؤمنني زينب بنت جح�ش ر�ضي اهلل عنها امر�أة
�صناع اليد ،فكانت تدبغ وتخرز وتت�صدق به .وقالت قيلة الأمنارية :يا ر�سول اهلل� ،إين امر�أة �أ�شرتي
و�أبيع( .الكتاين/امل�صدر ال�سابق.)40/2، 52، 116 :
( )1رواه الرتمذي و�صححه ،وتقدم.
151 الأخالق الوظيفية
الكفاءة االقت�صادية مع عدم وجود الف�صل بني اجلن�سني يف كث ٍري من الدول؟! ومنها الدول
الأكرث فقر ًا يف العالمَ .
ومن الوفاء بالعقد توفية الأجري �أجره تام ًا ح�سب االتفاق ،لقوله (ثالثة �أنا خ�صمهم
يوم القيامة :رج ٌل �أعطى بي ثم غدر ،ورج ٌل باع حر ًا ف�أكل ثمنه ،ورج ٌل ا�ست�أجر �أجري ًا
يعطه �أجره)(.)3
فا�ستوفى منه ومل ِ
a
فال يجوز ت�أخري �إعطاء العامل �أجره الذي كان ينتظره طوي ًال ،بل الواجب �إعطا�ؤه الأجر
n
مبجرد انتهائه من عمله� ،أو يف الوقت املتفق عليه بينه وبني رب العمل ،قال �سبحانه يحكي
قول ابنة الرجل ال�صالح :ﱫﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﱪ [الق�ص�ص ،]25 :وقال
d
( )2رواه البخاري (البيوع/البيع وال�شراء مع الن�ساء )2047 -وم�سلم (العتق�/إمنا الوالء ملن �أعتق )1504 -
عن �أم امل�ؤمنني عائ�شة ر�ضي اهلل عنها.
( )3رواه البخاري عن �أبي هريرة وتقدم.
o
ب�سند ح�سن لغريه (الرتغيب والرتهيب للمنذري: ٍ ( )4رواه الطحاوي ،والبيهقي ( )121/6عن �أبي هريرة
،15/3وفي�ض القدير.)563/1 :
m
( )5رواه البخاري (احلواالت/احلوالة )2166 -وم�سلم (امل�ساقاة/حترمي مطل الغني )1564 -عن �أبي
هريرة .
( )6رواه �أبوداود ( )313/3والن�سائي ( )316/7وابن ماجة ( )811/2عن ال�شريد بن �سويد الثقفي .و�صححه
احلاكم ( )102/4ووافقه الذهبي.
ً
( )1رواه البخاري (البيوع�/إذا ا�شرتى �شيئا لغريه بغري �إذنه فر�ضي )2102 -عن ابن عمر ر�ضي اهلل عنهما.
�أخالقيات املهنة يف الإ�سالم 152
ري من احلاالت التي �أخَّ ر فيها �أرباب الأعمال �أجور عمالهم ،ف�أدى ذلك
وقد ا�شتهرت كث ٌ
�إىل كرثة اجلرمية من قبل العمالة الوافدة ،والعمل غري النظامي يف غري �أوقات العمل
لتغطية النفقات ال�شخ�صية للعامل ،واالعتداء على بع�ض �أ�صحاب الأعمال ،وال�شكاوى يف
تغ�ص بذلك ،وهو ظلم ال ير�ضاه اهلل تعاىل وال امل�ؤمنون ،ويجب معاقبة كل من مكاتب العمل ّ
o
يظلم عباد اهلل ،ويفتح باب اجلرمية والف�ساد يف املجتمع بطريق ٍة غري مبا�شرة ،ويخالف
b
فيعطونه �أجره قبل انتهاء املدة� ،أو ين ُّمونه له� ،أو يعطونه �أجر ًا �إ�ضافي ًا �إذا ر�أوا ن�شاطه،
ik
الذين �آواهم املبيت �إىل غار ،ثم تدحرجت �صخرة ف�س َّدت عليهم الغار ،فتو�سلوا �إىل اهلل
n
ب�أف�ضل �أعمالهم.
قال ( :قال الثالث :اللهم �إين ا�ست�أجرت �أجراء ف�أعطيتهم �أجرهم ،غري رجل واحد
d
ترك الذي له وذهب ،فث َّمرت �أجره حتى كرثت منه الأموال ،فجاءين بعد حني ،فقال :يا
l.
يل �أجري ،فقلت له :كل ما ترى من �أجلك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. عبداهلل� ،أ ِّد إ� َّ
فقال :يا عبداهلل ،ال ت�ستهزئ بي .فقلت� :إين ال �أ�ستهزئ بك .ف�أخذه كله فا�ستاقه فلم يرتك
فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما نحن فيه ،فانفرجت كنت ُ منه �شيئ ًا .اللهم ف�إن ُ
c
(� )1صحيح البخاري (العلم/ف�ضل العلم )59 -عن �أبي هريرة .