Professional Documents
Culture Documents
مبدأ العليـــة بين الغزالي وهيوم
مبدأ العليـــة بين الغزالي وهيوم
مبدأ العليـــة
بني الغزالي وهيوم
*1
بلقصري مصطفى
د.حممد بن علي
املركز اجلامعي أمحد زبانة غليزان
امللخص:
مشكلة العلية هلا حضور يف الفكر اإلسالمي والغريب على حد سواء ،وهي من أعقد املسائل أحفلها
باحليوية واخلصوبة وإثارة وجهات النظر املختلفة ،وتنبع أمهية هذه املشكلة من كوهنا تتصل مباشرة بقضايا اإلهليات
والطبيعيات ،وقد ساد منذ أرسطو تصور أن العلية من املبادئ العقلية الضرورية ،فاإلنسان جيد يف صميم طبيعته
الباعث الذي يبعثه إىل حماولة تعليل ما جيد من أشياء ،حىت جاء الغزايل وبعده هيوم فقاما بقلب هذا التصور،
منتقدين كل األدلة اليت تتبث الضرورة العقلية ،إنطلق الغزايل من فكرة تدخل اإلرادة اإلهلية يف احلوادث الطبيعية،
بينما إنطلق هيوم من مبادئ املذهب التجرييب ،الذي ينفي أي دور للعقل يف توليد األفكار .فكان لتصورهم
الثوري إنعاكاسات خطرية يف جمال العلوم اإلنسانية والطبيعية.
الكلمات االفتتاحية:
.
* / -طالب دكتوراه تخصص فلسفة تطبيقية /مخبر الدراسات النفسية واإلجتماعية والألنتروبولوجية بالمركز الجامعي أحمد زبانة غليزان.
199 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
مقدمة
العلية أول قضية فلسفية إستحوذت على الفكر البشري ،ودفعته صوب التفكري لكشف لغز الوجود،
فبالنسبة لإلنسان الذي يتمتع بإمكانية التفكري متثل له العلة أهم العوامل اليت تقذف به يف تيار التأمل ،ويتبلور يف
ذهنه مفهوم (ملا)؟ هذا املفهوم الذي يطرحه الذهن عن علة األشياء ،فالعلية متثل من أوليات ما يدركه البشر يف
حياته اإلعتيادية ،وهو من املبادئ العق لية الضرورية؛ ألن اإلنسان جيد يف صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إىل
حماولة تعليل ما جيد من أشياء ،وتربير وجودها باستكشاف أسباهبا .وهذا الباعث موجود بصورة فطرية يف الطبيعة
اإلنسانية ،بل قد يوجد عند عدة أنواع من احليوان أيضا .فهو يلتفت إىل مصدر احلركة غريزيا؛ ليعرف سببها،
ويفحص عن منشأ الصوت؛ ليدرك علته.
ويف مقالنا هذا ،سيكون جهدنا منكبا علىى العليةة ،ملىا هلىا عالقىة بكىل العلىوم الطبيعيىة واإلنسىانية وغريهىا،
ففي ميدان امليكروفيزياء (ميكانيك الكىم) كىان للعليىة نتىائري خطىرية ومبهمىة تصىل إىل حىد إنكىار املبىدأ العليىة ،أمىا
يف اجمل ىىال الفلس ىىفي ف ىىد فالس ىىفة س ىىبقوا النظري ىىات العلمي ىىة الراهن ىىة ولعزعى ىوا املفه ىىوم التقلي ىىدي للعلي ىىة ،ك ىىان أب ىىرلهم
فيلسىوفان كبىريان أحىدمها ينحىىدر مىن لمىرة الفالسىىفة املسىلم –أبىو حامىىد الغىزايل-واآلخىر يعىىد مىن عبىاقرة الفلسىىفة
الغربية ،منطلق من اإلشكالية التالية:
كيف يتمثل مفهوم العلية عند الغزالي وهيوم ،في ضوء تنازع العقل مع التجربة لها؟
)1مفهوم العلية عندأبو حامد الغزالي (*)1111-1059
وقف مفكرو اإلسالم األشاعرة من العلية األرسطية موقف اإلنكار هلا واهلجوم العنيف عليها .ومن اخلطأ
القول أن األشاعرة انكروا العلية إنكارا كامال ،إمنا أنكروا فق تتصور أرسطو هلا ووععوا نظرية يف العلية تتوافق مع
عناصر املذهب توافقا تاما ،وبلغت أوج نضجها لدى مفكر األشاعرة الكبري أيب حامد الغزايل ،1الذي مل يكن
أول من أنكر مبدأ السببية فلقد سبقه املتكلم األشاعرة وكان أبو املعايل اجلويين هو الذي إستطاع أن يفصل
ب مبدأ اهلوية وعدم التناقض ومبدأ السبب الكايف وعمن هذا أمكنه تأسيس مبدأ اإلحتمال ليكمل تلميذه
الغزايل األسس اليت تقوم عليه العلوم الطبيعية.2
* فيلسوف ومتكلم وفقيه ومتصوف عريب ،من أبرل مفكري العصر الذهيب يف اإلسالم ،من أهم مؤلفاته إحياء علوم الدين ،هتافت الفالسىفة ،املنقىذ مىن
الضالل (أنظر معجم الفالسفة جورج طرابيشي ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بريوت-لبنان ،الطبعة الثالثة 2006 ،ص .)426
- 1علي سامي النشار ،مناهري البحث عند مفكري اإلسالم ،دار النهضة العربية ،بريوت -لبنان ،الطبعة الثالثة ،،1984 ،ص .155
- 2حمم ىىد ياس ى عربي ىىي ،مواق ىىف ومقاص ىىد يف الفك ىىر الفلس ىىفي اإلس ىىالمي املق ىىارن ،الش ىىبكة العربي ىىة ل ا ىىات والنش ىىر ،ب ىىريوت لبن ىىان ،الطبع ىىة األوىل،
،2013ص .208
200 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
ينبغي أوال أن ال ننظر إىل الغزايل يف تصوره للعلة على أنه تعبري عن منطلقه الديين ،كي ال ينتهي بنا
املطاف إىل إساءة الفهم والنظر إليه على أنه نوع من اإلرتيابية أو السفسطة ،1بل جيب أن حنلل مفهوم الغزايل
للعلة مبوعوعية تتناسب ،وطبيعة البحث الفلسفي.
سجل لنا الغزايل تصوراته األساسية عن العلة يف نصوص فدها يف كتاب املستصفى وكتاب اإلقتصاد يف
اإلعتقاد ،لكن أهم نص هو الذي سجله يف مؤلفه الشهري هتافت الفالسفة ،وكلمة التهافت هلا دالالت متعددة
تدل على األصح عند هنري كوربان تدمري الفالسفة لبعضهم البعض ،وهنا يتالشى تناقض الغزايل ،يف إقتناعه
بعدم أهلية العقل وكفاءته لبلوغ اليق اد نفسه ،أي أنه على يق من تقويض الفالسفة عن طريق اجلدل
العقلي ،فيمتد فعل النفي اد ذاته 2إىل النقض الذايت.
وللعلة مقام مهم يف آراء الغزايل الفلسفية واملنطقية والدينية .وميكن إعتبارها رابطة منطقية حكمت نسقه
املنهجي والفكري ،3فلقد نقل الغزايل موعوع العلية إىل مكاهنا املنطقي ،وكان من أهم املسائل اليت خيالف فيها
الفالسفة يف هذا العلم مذهبهم القائل تبأن اإلقرتان املشاهد يف الوجود ب األسباب واملسببات إقرتان تاللم
بالضرورة فليس يف املقدور وال يف اإلمكان إجياد السبب دون املسبب ،وال وجود مسبب دون السببت ،4ويرى
الغزايل خطورة هذه الفكرة الطبيعية للعلية أو للسببية ،إذا طبقت يف نطاق ديين هام .فيتجه حنو تراث األشاعرة،
ليستمد منه مادة ،يصوغها صياغة كاملة ،يف إنكار العالقة الضرورية الاللمة ب العلة واملعلول.
إن إنكار هذه العالقة يستند عند الغزايل إىل أننا نشاهد حادثت الواحدة بعد األخرى ،فاصطلحنا على
تسمية إحدامها علة واألخرى معلوال بدون وجود أية رابطة عقلية اللمة ب احلادث ،يعرب الغزايل عن ذلك بقوله
تاالقرتان ب ما يعتقد يف العادة سببا وما يعتقد مسبباً ليس عرورياً عندنا بل كل شيئ ليس هذا ذاك وال ذاك
هذا ،وال إثبات أحدمها متضمن إلثبات اآلخر وال نفيه متضمن لنفي اآلخر ،فليس من عرورة وجود أحدمها
وجود اآلخر وال من عرورة عدم أحدمها عدم اآلخر مثل الري والشرب والشبع واألكل واالحرتاق ولقاء النار
والنور وطلوع الشمس واملوت وجز الرقبة والشفاء وشرب الدواء وإسهال البطن واستعمال املسهل وهلم جرا إىل
كل املشاهدات من امل قرتنات يف الطب والنجوم والصناعات واحلرف ،وإن اقرتاهنا ملا سبق من تقدير ا هل سبحانه
- 1حممود محدي لقزوق ،املنهري الفلسفي بن الغزايل وديكارت ،دار املعارف ،القاهرة ،الطبعة الرابعة ،1997 ،ص.141
- 2هنري كوربان ،تاريخ الفلسفة اإلسالمية منذ الينابيع حىت وفاة ابن رشد ،ترمجة نصري مروة وحسن قبيسي ،عويدات للنشر ،الطبعة الثانية،1998 ،
ص .277
- 3رفيق العجم ،املنطق عند الغزايل يف أبعاده األرسطية وخصوصياته اإلسالمية دار املشرق ،بريوت لبنان ،الطبعة األوىل ،1989 ،ص .246
- 4أبو حامد حممد الغزايل ،هتافت الفالسفة ،دار املشرق ،بريوت-لبنان ،الطبعة الثالثة ،1986 ،ص 195
201 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
خيلقها على التساوق ال لكونه عروريا يف نفسه غري قابل للفرق بل يف املقدور خلق الشبع دون األكل وخلق
املوت دون جز الرقبة وإدامة احلياة مع جز الرقبة وهلم جرا إىل مجيع املقرتنات ،وأنكر الفالسفة إمكانه وادعوا
استحالتهت.1
إذا يرى الغزايل أنه ال يوجد شيء إمسه سببية بالطريقة اليت يراها الفالسفة أي أنه توجد عالقة جوهرية
علية حقيقية ب السبب واملسبب أو ب العلة واملعلول ،ب السبب كالظاهرة ،فنحن حسب تعبري الغزايل نرى
الشمس تشرق ،النهار يعم الكون ،العطشان يرتوي بشرب املاء ،واجلائع يشبع عند أكل الطعام وهذا كله وهم،
فليس هناك عرورة عقلية هنتدي على غرارها إىل وجود عالقة ب املاء والعطشان ح يرتوي ،فعلة اإلرواء ال
متسها األيدي وال تراها األع ،غاية ما يف ذاك أن اإلقرتان املتكرر أكسبنا معرفة ذلك وليس الضرورة العقلية.
ويع الغزايل مثاال يتبث فكرته وهو اإلحرتاق يف القطن عند مالقاة النار فريى أنه جيول أن يتالقى القطن
والنار دون أن حيدث أي إحرتاق .وجيول إنقالب القطن رمادا حمرتقا بدون أن يتالقى مع النار فالنار إذن ليست
فاعلة اإلحرتاق على اإلطالق .بل إهنا ال تفعل شيئا فيقول تإن فاعل اإلحرتاق خيلق السواد يف القطن والتفرق يف
أجزائه وجعله حراقا أو رمادا هو ا هل تعاىل فأما النار فهي مجاد ال فعل هلات ،2إذن فما دليل الفالسفة على أهنا
الفاعل ،وما الذي دعاهم إىل القول هبذه العالقة التاللمية بينهما وب اإلحرتاق .الواقع أنه ال دليل وال برهان على
أن إحدى احلادثت علة ل خرى واألخرى معلول هلا سوى جمرد املشاهدة .واملشاهدة تدل على احلصول عنده وال
تدل على احلصول به ،وأنه ال علة سواه.
يدعم الغزايل رأيه بأمثلة ثتبت رأيه ،منها تأن إنسالك الروح والقوى املدركة ليس متوالدا من فعل
الطبائع :احلرارة والربودة والرطوبة واليبوسة .وال من فعل األب .وال من فعل اإلنسان نفسه ،فليس اإلنسان فاعال
حلياته وحواسه وسائر املعاين اليت هي فيه ومعلوم أهنا موجودة عنده ،ومل نقل أهنا موجودة بهت ،3إذا كل هذه
موجودة عنده وليست به وألن وجودها إما بغري واسطة ،أو بواسطة املالئكة املوكل هبذه األمور احلادثة املعلولة،
4
يف نظرية الفيض ،كما هي عند إبن سينا الذي يرى بأن واهب الصور هو وهذا ما يؤكده الفالسفة املسلم
العقل الفعال.
- 1حممد بن أمحد بن رشد ،يكىن بأبا الوليد ،ويلقب باحلفيد متييزا له عن أبيه وجده اللذين كان قاعي وفقيه مشهورين ،إهتم مبشكلة العقل
والنقل وما بينم من إتصال ،ظفر بشهرة مل حيظى ه ا أي فيلسوف إسالمي وقرن بأرسطو أجيابا أو سلبا (أنظر موسوعة الفلسفة لعبد الرمحن بدوي ج1
ص .)19
- 2أبو يعرب املرلوقي ،مفهوم السببية عند الغزايل ،مرجع سابق ،ص .131
205 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
وترية واحدة وليس على جمرى العادة ،1وما كان ساريا بصفة مستمرة وعلى من مع ،وعروري يف الوقت ذاته
فهو عقلي.
– كما أن نفي احلتمية السببية جيعل الداللة على وجود ا هل أمر متعذرا ،2يعرب عن إبن رشد بقوله
توينبغي أن من حد كون األسباب مؤثرة بإذن ا هل يف مسبباهتا ،أنه قد أبطل احلكمة وأبطل العلم [ ]...والقول
بنفغي األسباب يف الشاهد ليس له سبيل إىل إثبات سبب فاعل يف الغائب ،ألن احلكم على الغائب من ذلك
إمنا يكون من قبل احلكم على الشاهد ،فهؤالء ال سبيل هلم إىل معرفة ا هل تعاىلت.3
-يؤدي هذا النفي حسب إبن رشد إىل الدهرية حتما ،ألن العامل إذا كان ممكنا وليس عروري اجلريان،
فإنه ال توجد أي حكمة منه يقول إبن رشد توباجلملة مىت رفعنا األسباب واملسببات مل يكن ههنا شئ يرد به
على القائل باإلتفاق أعين الذين يقولون ال صانع ههنا وإمنا مجيع ما حدث يف العامل إمنا هو عن األسباب
املاديةت.4
كذلك فمل النقد الفلسفي يف ثالثة نقاط:
-يريد إبن رشد أن يبقي على التصور األرسطي للعلة ،باعتبارها عالقة عقلية عرورية ،فريفض تصور
الغزايل واألشاعرة ويصف إنكار وجود األسباب الفاعلة اليت نشاهدها يف احملسوسات هو قول سفسطائي ،ال
يستطيع صاحبه أن يعرتف أن كل فعل ال بد له من فاعل ،والقول بأن األفعال الصادرة عن العلة ليس بقوة كامنة
فيها ،بل بقوة مفارقة حيتاج إىل اث وفحص كثري ،ذلك أن ل شياء ذوات وصفات هي اليت إقتضت األفعال
اخلاصة هبا ،وإختلف مبوجبها ذوات األشياء وأمساؤها وحدودها ،5وعليه يكون إنكار وجود األسباب إنكارا
ل شياء ذاهتا وال تصبح متميزة عن بعضها يف اإلسم والفاعلية ،والعقل عند إبن رشد ليس هو شئ أكثر من
إدراكه املوجودات بأسباهبا وبه يفرتق من سائر القوى املدركة فمن رفع األسباب رفع العقل ،6وهذا يعين أن إقرار
- 1رعا سعادة ،مشكلة الصراع ب العقل والدين ،دار الفكر اللبناين ،بريوت-لبنان ،الطبعة األوىل ،1990 ،ص.129
- 2أبو يعرب املرلوقي ،مفهوم السببية عند الغزايل ،مرجع سابق ،ص .58
- 3أيب الوليد إبن رشد ،هتافت التهافت ،مرجع سابق ،ص .290
- 4أبو يعرب املرلوقي ،مفهوم السببية عند الغزايل ،مرجع سابق .58 ،
* قيلسوف جترييب وعامل إقتصاذ ومؤرخ إفليزي ،ينفي أي دور للعقل ،فيبين كل املعرفة على اإلدراكات احلسية أهم مؤلفاته اث يف العقل البشري،
رسالة يف الطبيعة البشرية ،حماورات عن الدين الطبيعي (أنظر الدليل الفلسفي الشامل اجلزء الثالث لرحيم أبو رغيف املوساوي ،دار احملجة البيضاء،
بريوت-لبنان،الطبعة األوىل ،2015 ،ص )631
- 1املرجع سابق ،ص 150
- 2حممد فهمي ليدان ،اإلستقراء واملنهري العلمي دار اجلامعات املصرية ،اإلسكندرية ،د/ط ،1977 ،ص .104
208 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
املفصولة ،ونبقى دائما نفرتض هذا اإلتصال حىت يف حالة عدم القدرة على كشفه ،من هنا نعتقد أن عًلقة
اإلتصال أساسية وجوهرية للعليةت.1
الثانية عالقة األسبقية الزمانية :يقول ت أما العالقة اجلوهرية الثانية يف العلل واملعلوالت يرفضها اجلميع
وهي قابلة للجدل ،وهي األسبقية الزمانية للعلة عن املعلول ،فريى البعض أن هذه األسبقية غري عرورية إذ ميكن
أن حيدث الفعل يف اللحظة نفسها ،وبالرغم من أن التجربة تكذب ذلك يف غالب األحوال إال أننا نستطيع أن
نقرر ذلك عن طريق اإلستنتاج أو الربهانت.2
يتب لنا مما سبق أن هيوم مل ينكر أن لكل حادثة علة؛ بل جاء ليقوض النظريات العقلية يف مصدر
إعتقادنا مببدأ العلية و تفسري الفالسفة العقلي له ،فريى هيوم أن تصور العلية تصور معقد وليس بسيطا ،إذ
يتضمن ثالثة أفكار وهي السبق واجلوار املكاين والضرورة كما بينا سلفا من أقواله .ومل يشكل السبق واجلوار
مشكلة لديه إذ ال توجد صعوبة يف فهمها ،ولكنه رأى أن فكرة الضرورة يف العالقة العلية فكرة تستلزم التحليل،3
فيقول ت الشئ قد يكون متصال بشئ آخر وسابقا عنه يف الزمان دون إعتباره علة له ،هناك العالقة الضرورية اليت
ال بد أن نأخذها باإلعتبار ،وهذه العالقة مهمة كثريا من العالقات األخرىت.4
لقد لعم الفالسفة العقليون أن عالقة العلية تتضمن فكرة الضرورة وكان يقصدون أنه إذا حدثت العلة
جيب أن يتبعها حدوث املعلول ،وكأن الوجوب عندهم وجوب منطقي أي ما ال ميكن إنكاره ،ألهنا عرورة آتية
من العقل بطرق فطري أو قبلي ،5فعندما ننظر حولنا من إىل املوعوعات اخلارجية ،وعندما نعترب عمل األسباب،
فإننا ال نستطيع من خالل حالة مفردة أن نكتشف أي تأثري أو إرتباط عروري ،وال أي خاصية تشد املفعول إىل
السبب ،وجتعل أحدمها إستتباعا لآلخر ال يتخلف عنه أبدا ،وإمنا فد فق أن أحدمها يتبع اآلخر تباعا فعليا....
إنه ال يبدو أن يف الطبيعة حالة واحدة من حاالت اإلرتباط ،ميكن تصورها ،فكل األحداث تبدو سائبة منفصلة،
حدث يتبع حدث ،ولكننا ال نستطيع أن نبصر أي راب بينهم ،فتبدو األحداث مقرتنة ولكنها التبدو أيضا
1
-David HUME, Traité de la nature humaine, Livre I de l'Entendement, traduit de l'anglais
par Philippe Folliot, Édition numérique réalisée le 28 janvier 2005 à Chicoutimi, Ville de
Saguenay, province de Québec, Canada. Texte revu et corrigé le 11 décembre 2009. P 83.
- 2املصدر نفسه .ص .83
- 3حممد فهمي ليدان ،اإلستقراء واملنهري العلمي ،مرجع سابق ،ص .105
4
سبق ذكره - Traité de la nature humaine, P84,
- 5حممد فهمي ليدان ،اإلستقراء واملنهري العلمي ،مرجع سابق ،ص .105
209 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
مرتابطة ،1يعلمنا هيوم أنه ال ميكننا القول بأن للعلية الضرورة العقلية أو القبلية أو املنطقية؛ يعلمنا هيوم أنه ال
ميكننا القول بأن جمرد حتليل العلة يتضمن وجود املعلول كأحد عناصرها ،أو أن حتليل احمللول يتضمن علته .يرى
هيوم أننا ال نستطيع أن نكتشف بطريق قبلي الدفء أي أن حتليل معىن الدفء ال يتضمن يف ذاته عنصر النار أو
حرارة الشمس ،وحتليل معىن النار ال يتضمن عنصر الدفء .حتليل معىن النار يتضمن معرفة للعناصر الطبيعية
والكيمياوية اليت أدت إىل إحداث النار ،ولكن ليس الدفء أحد تلك العناصر .حتليل معىن اخلبز يتضمن ما
يتألف منه من عناصر مثل القمح أو الذرة مطحونة مضافا إليها املاء وهليب النار وليس التغذي أو سد اجلوع أحد
تلك العناصر .ميكنك تصور النار دون تصور اإلحرتاق أو الدفء أو تصور اخلبز دون تصور التغذي .التصوران
خمتلفان وليس الواحد منهما داخال يف حتليل اآلخر .ليست للعالقة العلية الضرورة املنطقية اليت لعالقة التعريف
باملعرف مثال أو للبديهيات كقولنا أن املثلث شكل حماط بثالثة خطوط مستقيمة متقاطعة أو أن اجلزء أصغر من
الكل أو أن نزول املطر يبلل الطرق ،إن حتليل املوعوع يف كل من تلك العبارات يؤدي إىل أن احملمول يساويه أو
هو جزء منه ،ايث يرتتب على إنكارنا لتلك القضايا وقوع يف التناقض أو أن تصور نقيض تلك القضايا تصور
مستحيل لدى العقل .إن خالصة هذه الفكرة أن القول بان لكل حادثة علة ليست قضية حتليلية.2
ينتقل هيوم إىل مناقشة أن ملبدأ العلية مصدره التجرييب .يطبق معياره األساسي لصدق األفكار فيتساءل
هل ب أفكارنا فكرة الضرورة؟ جييب بالنفي .ح ننظر إىل األشياء واحلوادث يف العامل اخلارجي تلك اليت نقول
أن بينها عالقات علية ،فإننا ال نكتشف أي عالقة عرورية ترب املعلول بالعلة وجتعل املعلول نتيجة ال مناص
منها بعد حدوث العلة .إن ما نراه يف احلقيقة هو أن شيئ أو حادثت تتابعتا يف احلدوث أمام إدراكنا .حيدث يل
إنطباع حسي ح أرى الشمس يف الصباح مث يتبعه إنطباع رؤية الضوء .ما حدث إمنا هو تتابع أو تاللم ب
إنطباع .
فإذا إنتقلنا من جمال مالحظة احلوادث الطبيعية إىل جمال املالحظة الذاتية ألنفسنا ،يتساءل هيوم هل
نعثر ع لى إنطباع حسي أو فكرة إمسه الضرورة؟ قد يقال إننا نشعر يف داخلنا بقوة خفية هي إرادتنا مثلما حيدث
ح أريد حتريك عضو ما يف جسمي مث يليه حتريك ذلك العضو – أليست العالقة ب اإلرادة واحلركة عالقة
علية؟ يرد هيوم على هذا السؤال بقوله إننا ال نعرف معرفة دقيقة كيف يتم الفعل اإلرادي ،وال نعرف ما ذا يتم يف
أنفسنا قبل أن يتحرك العضو املراد حتريكه ،وال نعرف حقيقة العالقة ب الفعل اإلرادي واحلركة العضوية .إن معرفة
- 1دافيد هيوم ،حتقيق يف الذهن البشري ،ترمجة حممد حمجوب ،املنظمة العربية للرتمجة ،بريوت –لبنان ،الطبعة األوىل ،2008 ،ص.106
- 2حممد فهمي ليدان ،اإلستقراء واملنهري العلمي ،مرجع سابق ،ص .105
210 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
تلك العالقة إمنا هي معرفة العالقة ب العقل والبدن ،وذلك هو السر األعظم .ال ينكر هيوم عالقة العلية ب
اإل رادة وحركة األعضاء ولكنه ينكر أن تلك العالقة تتضمن معىن الضرورة باملعىن التحليلي .كل ما نعرفه عن تلك
العالقة هو إرتباط حادثت معا.
ينتقل هيوم من ذلك إىل القول بان ليس مصدر تصور العلية أساسا فطريا أو قبليا ،وإمنا أساس جترييب،
وجترييب مبعىن حمدد هو إدراك تتابع حادثت وتاللمهما تاللما متكررا ،وأن إدراك هذا التاللم املتكرر يؤدي بعقولنا
إىل تكوين تعادةت عن هذا اإلرتباط لدرجة إننا ح نرى احلادثة تأت يف املستقبل نتوقع حدوث احلادثة تبت اليت
إرتب حدوثها يف إدراكنا املاعي ادوث تأت .تصور العلة إذن عروري ،ولكن ليست الضرورة منطقية وال قبلية
وإمنا هي عرورة نفسية أساسها إدراك تاللم لوج من احلوادث وإرتباط ذلك التاللم يف الذهن وتكوين عادة عن
توقع ذلك التاللم يف املستقبل .تلك الضرورة بالتوقع وتكوين العادة تؤدي إىل اإلعتقاد بتصور العلية.1
ينتهي هيوم بتعريف للعلة بتعريف السبب على أنه تموعوعا يتبعه موعوع ،ايث تكون كل املوعوعات
املماثلة ل ول متبوعة مبوعوعات مماثلة للثاينت ،ويضيف تعريف أخر للسبب فيسميه تموعوعا متبوع مبوعوع
آخر ،وحيمل ظهوره الفكر دوما إىل ذلك اآلخرت .2إن هذا التعريف يعتربه يراه وليم كلي رايت يف كتابه تاريخ
ال فلسفة احلديثة وأن هيوم يقصد به أنه نفرض يف مجيع احلاالت اليت نستطيع أن نالحظ فيها موعوعا معينا أو
حدثا وليكن (أ) ،يتبعه باستمرار موعوع آخر أو حدث وليكن (ب) ،وانه يف مجيع احلاالت اليت نستطيع أن
نالحظ (ب) فد أن (أ) يسبقه على الدوام ،فإننا نستطيع أن نستنتري أن (أ) هي علة (ب) ،وأن (ب) تتبعها
باستمرار يف احلاالت املستقبلية ،أننا نكون على يق من الناحية العملية من هذه النتيجة ،على الرغم من أننا ال
نستطيع أن نربهن عليها بطريقة رياعية .3وطبقا هلذا يعترب مبدأ السببية عند هيوم تدبريا من أجل أغراض عملية،
وهو يتعامل م ع الوقائع اليت ميكن رؤيتها مباشرة ،وينبئنا مبدأ السببية بأن هناك دائما سببا مناسبا ميكننا أن حنصل
به على النتيجة املنشودة.4
)4نقد مفهوم العلية عند هيوم:
- 1لكي فيب حممود وأمحد أم ،قصة الفلسفة احلديثة ،مطبعة دار الكتب املصرية ،القاهرة ،الطبعة الثانية ،1936 ،ص 240
- 2حممد ناصر :هنري العقل ،تأصيل األسس وتقومي النهري ،دار احملب ،قم ،2014 ،الطبعة األوىل ،ص 177
- 3حممد باقر الصدر ،فلسفتنا ،مرجع سابق ،ص 122
213 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
-إن فكرة العلية الذي نظفر هبا حسب النظرية اهليومية ،هل ميكن نضيفها إىل العامل اخلارجي؟ ،ولنفرتض
مع هيوم أن العقل ال جيبب هنا ال بالنفي أو اإلجياب ،وهذا يعين أن القضية اليت نتسائل عنها تهل
لفكرة العلية ب احلرارة والتمدد واقع موعوعي؟ت قضية مشكوك فيها أي حمتملة ،هنا نود أن نعرف :هل
باإلمكان أن فعل من التجربة مرجحا لإلعتقاد هبذه القضية ،وسببا لتدعيم إحتمال صدقها؟ فحسب
هيوم يبدو ذل ك غري ممكننا كونه ال يرى يف التجربة واخلربة احلسية سندا إلثبات شئ إال إذا كان ظهر
مباشرة يف خربتنا احلسية ،1وهذا يؤدي بنا إىل أنه ال سبيل إىل إثبات أي واقع موعوعي ال من التجربة
وال من اخلربة احلسية.
-إذا كان هيوم ال يرى أي إعتقاد مبعرفة قبلية على التجربة فمن أين عثر على مبدأ عدم التناقض؟ وكيف
للتجربة أن متدنا به؟ مث كيف نستطيع أن نقيم العموم على ذلك؟ ،2فحسب ما يقرره هيوم مما قدمنا،
فإن ميكن القول أن شئ يوجد وال يوجد ،وأن النار ممكن أن حترق وممكن أن الحترق ،ومبدأ عدم
التناقض الذي ال ميكن لديفيد هيوم وال للتجريب أن يربهنوا عليه هو أهم مبدأ ،تبىن عليه كل العلوم
سواء منها العقلية أو التجريبية ،وبدونه تنهار كل العلوم.
-من ب الفالسفة الذين سجلوا مالحظاهتم على تصور هيوم للعلية ،فد الفيلسوف إميانويل كان الذي
يقر يف بداية كتابه مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة بالدور اهلام الذي لعبه هيوم يف فكر كان وأنه أيقظه من
سباته الدومجاطي ،غري أنه سجل عليه مالحظات مهمة يرى كان أهنا السبب يف النتائري السلبية اليت
توصل إليها هيوم والضرر الذي أحلقه بالفلسفة ،وهو أن هيوم توهم أن طبيعتنا ختضع ملبدأ واحد هو
مبدأ التناقض ،وأنه يرى أن الرياعيات البحتة تتألف من القضايا التحليلية فق ،أما امليتافيزيقا فهي
تتألف من القضايا القبلية وحدها ،وهذا حسب كان خطأ بليغ فمت عنه النتائري املؤسفة اليت أثرت
على نظرته كلها ،ولو أنه توسع يف سؤاله عن أصل األحكام الرتكيبية الستطاع جتاول تصوره امليتافيزيقي
للعلية ، 3ما حيدده كان بأنه مشكلة بالنسبة إىل هيوم هو أن املعرفة املفرتعة القبلية ليست شيئا آخر
سوى العادة املستحكمة ،يف أجياد شيء صادق ،إهنا عملية ذاتية تصف ذلك تومها.4
- 1حممد باقر الصدر ،األسس املنطقية لإلستقراء ،مؤسسة العارف للمطبوعات ،بريوت-لبنان -الطبعة األوىل 2008 ،ص .101
- 2حممد ناصر :هنري العقل ،تأصيل األسس وتقومي النهري ،مرجع سابق ،ص 177
- 3إمانويل كان ،مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة ،ترمجة ناليل إمساعيل حس ،موفم للنشر ،الرغاية – اجلزائر،د/ط ،1991 ،ص 16
- 4بارتريىىك هيلىىي ،صىىور املعرفىىة مقدمىىة لفلسىىفة العلىىم املعاصىىرة ،ترمجىىة نىىور الىىدين شىىيخ عبيىىد ،املنظمىىة العربيىىة للرتمجىىة ،بىىريوت-لبنىىان ،الطبعىىة األوىل،
،2008ص .75
214 العدد الرابع :ديسمرب 2017
جامعة موالي الطاهر سعيدة متون كلية العلوم االجتماعية واالنسانية
-بالنسبة إىل كان ،أن طريقة هيوم يف سرب العقل ،مالحظا أن الناس ال يبنون حقائقهم على أي معرفة
قبلية ،فإن ما خيلق قيمة للمبدأ ليس يف أقله عرورة القانون ،ولكنه فائدته العامة يف جمرى التجربة ،وتربل
ذاتية عرورية من العقم الذي يسميه هيوم بالعادة ،ويستنتري أن كل ادعاءات العقل بقدرته على املضي
خارج املنطقة التجريبية هي ادعاءات ال معىن هلا ،هذا ما قاد هيوم إىل الشك يف كل ما يتعلق باستخدام
املبادئ 1،وهذا ما جعل هيوم ينعت بأملع الشكاك ،ذلك أنه نفى أي قيمة موعوعية ملبدأ العلية على
مستوى التجربة ،ويف نفس الوقت ال سبيل للعقل أن يظفر هبذا املبدأ ،وهذا قمة الشك ،إذ يستحيل أي
شئ يف أن جيد مربرا يقينيا.
ي ريد كان أن يعلمنا أن مبدأ العلية هو مبدأ أويل قبلي متعايل على التجربة ،وال ميكن أن نشتقه
منها ،وأن أي حماولة إلنتزاعه من التجربة ستؤدي بنا إىل التناقض ونفي املبدأ ذاته ،فهو يندرج عمن
املقوالت العقلية الكانطية ،اليت تدخل يف بنية العقل وتشكله ،وملا كان هيوم ذو نزعة حسية ،حرمته إىل
أن يصل إىل هذه احلقيقة وفق ما يراه كان .
فما يؤخذ على منتقدي العلية عدم دقة فكرهتم عن العلة واملوجود ،فيتصورون العلة كاهنا شئ،
بينما هي رابطة أو عالقة ب شيئ ،ويتصورون املوجود على أنه جمرد ماهية غري فعالة ،مع أنه يف جوهره
فعال ،ويف هذا يقول لوي الفال ( )1951-1883إن الفعل ليس تابعا للموجود ،حيث جيب أن
نضع املوجود أوال :مث من بعده الفعل ،وإمنا ينبغي أن نقرر أن الفعل هو ماهية املوجود ،واملسلك الباطن
الذي به يكون يف نفس الوقت الذي يصنع نفسه ،وهلذا ميكننا أن نقول إن املوجود هو نفسه ليس شيئا
آخر غري الفعل أي الفعالية ،وهو أن املوجود هو وفعل املوجود شئ واحد ،2وهذا يعين أن تأثري العلة يف
املعلول يكون متلبسا هبا ،حيث ال ميكن أن نشاهد يف اخلارج هذا التأثري مبعزل عن العلة مما يوهم بأنه ال
يوجد عالقة عرورية ب العلة واملعلول.