You are on page 1of 7

‫الفلسفة لحمًا ودمًا‬

‫قراءة في ترجمة‬
‫موريس مرلو‪-‬بونتي‪ ،‬المرئي والالمرئي‪ .‬ترجمة وتقديم د‪ .‬عبد العزيز العيادي (بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪476 )2008 ،‬‬
‫صفحة‬

‫فتحي المسكيني‪ ،‬جامعة تونس المنار‬

‫الفلسفة من ناحيتها هي أكثر وأقّل من ترجمة‪ ،‬هي أكثر ألّنها هي وحدها تقول لنا ما يريد النّص قوله‪ ،‬وهي أقّل ألّنها ال يمكن"‬
‫"‪.‬استخدامها ما لم نتوّفر على النّص‬
‫مرلو‪-‬بونتي‪ ،‬المرئي والالمرئي‪،‬ص ‪95 /58‬‬

‫"إّن من ينفتح أمامه األفق يتمّك ن منه األفق ويحتويه"‬


‫مرلو‪-‬بونتي‪ ،‬نفسه‪ ،‬ص ‪237‬‬
‫" ما كذب الفؤاد ما رأى "‬
‫سورة النجم اآلية ‪11‬‬
‫‪:‬تقديم‬
‫لقد أفلح مترجُم كتاِب المرئي والالمرئي إلى حّد مثير في جعل مارلو‪-‬بونتي "كاتبا" عربيا بلسان مبين ! كأّن حلم المترجم عنده هو أن‬
‫ُينسينا كّل ما هو "أجنبّي " أو دخيل في نّص ما‪ :‬عجمته األصلية‪ ،‬غرابة عالمه األّو ل‪ ،‬وُبعد مؤّلفه عن أسمائنا‪ .‬فجأة لم يعد مهّما أن‬
‫نعرف أّن النّص الذي نتصّفحه لم ُيكتب أصًال في لغتنا‪ ،‬وإّنما هو منقول إليها نقًال‪ .‬كأّن مرلو‪-‬بنتي قد تنّبت مرة أخرى في إحدى‬
‫ُقرانا المتخّفية عن الوقت‪ ،‬وأخذ يرسم بيديه كلتيهما "لحم" أنفسنا في "لحم" لغتنا دونما وجل أو خجل‪ .‬إّن مرلو‪-‬بونتي يسخر بلطف‬
‫خاص من كّل تحّفظاتنا إزاء "الغيرية" واحتياطاتنا من "اآلخر"‪ .‬إذ بدال من أن يكون اآلخر عندي هو "الجحيم"‪ ،‬كما كان يحلو‬
‫لسارتر لجوج أن يقول‪ ،‬فإّن "بصر اآلخر‪ ،‬وفي هذا األمر يحمل إلّي جديدا‪ ،‬يلفني بكاملي‪ ،‬كينونًة وعدمًا" ‪ .‬ومن ثّم فإّن نكتة اإلشكال‬
‫إّنما تتعّلق "بفهم الكيفية التي أقدر بها على تحّمل الرؤية التي يحملها اآلخر عّن ي‪ ،‬أو في نهاية المطاف ‪..‬بفهم انتمائنا المشترك إلى‬
‫‪" .‬العالم‬
‫نحن نأخذ ترجمة كتاب المرئي والالمرئي‪ ،‬مضمونًا ومنهجًا وأصالًة وإحراجًا‪ ،‬بمثابة محّك نادر للوقوف على مدى قدرتنا على فهم‬
‫ماهية الترجمة الفلسفية في لغتنا‪ :‬فأْن نترجم يعني أن نمتحن قدرتنا على تحّمل رؤية اآلخر لنا ولكن كحدث داخلي وعميق في صلب‬
‫"أنفسنا‪ ،‬وذلك من فرط أّنه سينقال في لحم لغتنا بوصفها ليست شيئا آخر غير لحم الكينونة التي بها نحن واآلخرون "متكاينون‬
‫بين الترجمة واآلخرّية صلة سابقة إلى اللغة‪ ،‬علينا أن نتعّقب خيوطها الرفيعة‪ ،‬ولكن مع العلم بأّنه ‪(coextensifs à l’être) .‬‬
‫"فلسفّيا‪ ،‬ال وجود لتجربة اآلخر" ‪ ،‬في معنى أّنه "ليس ثّمة تجربة إيجابية لآلخر" ‪ ،‬فاآلخر ليس شيئا‪ .‬إّنه‪ ،‬حسب عبارة مرلو‪-‬بونتي‪،‬‬
‫مصنوع بالكّلية من "خجلي" بل هو "حقيقة خجلي" ‪ .‬فبأّي معنى يمكنني عندئذ أن أترجمه إلى لغتي ؟‬
‫سوف تكون اإلجابة عن هكذا سؤال في أغلبها دعوة للتجوال في عالم مرلو‪-‬بونتي كما أفلح المترجم في استدعائه إلينا "لحما ودما"‪.‬‬
‫‪.‬وذلك في نحو من المصاحبة التي تكتفي باستفزاز معاني الكتاب فتأتينا في "حالة فلق" من فرط نفسها دونما وجل أو تكّلف‬
‫‪:‬رّب مطلب سوف نلتمس في السبيل إليه التساؤلين التاليين‬
‫ما هو االكتشاف الفكري األكبر في كتاب المرئي والالمرئي بحيث تشّك ل ترجمته عرسا فلسفيا ؟ أو اكتشاف الجسد في لحم )‪1‬‬
‫الكينونة‬
‫)‪ (traduction charnelle‬ما هي مقّو مات الترجمة الفلسفية في هذا العمل ؟ أو الترجمة لحمًا ودمًا )‪2‬‬
‫======‬
‫اكتشاف الجسد في "لحم" الكينونة ‪ :‬أو في المرئّية الذات )‪1‬‬
‫"أ‪ -‬الفلسفة "سؤال موَّج ه لما ال يتكّلم‬
‫الخام التي ال تستشير أحدا في أن " )‪’’( il y a‬يعّلمنا مرلو‪-‬بونتي كيف تأخذ الفلسفة انبثاقتها الصعبة من "لحم الحاضر أو ’’الثّمة‬
‫تكون‪ .‬ثّمة كائن‪ .‬ثّمة عالم‪ .‬ثّمة جسد‪ .‬وعلينا أن نتحّمل السؤال عن معنى ذلك إلى النهاية دونما أّية "أطروحة" نهائية حول كّل ذلك‪،‬‬
‫قد تمّط ط كسل الروح في أفقنا‪ .‬ذلك بأّن "الفلسفة ليست قطيعة مع العالم" ‪ ،‬وعلى ذلك هي أيضا "ليست انطباقا معه" ‪ ،‬إّنها "ال تبحث‬
‫إذا عن تحليل عالقتنا بالعالم وعن تفكيكها وكأّنها كانت ُقّدت بالتجميع" ‪ .‬نحن لسنا جزء من أّي شيء‪ .‬بل "كائن هو بتمامه اّظ هار" أو‬
‫‪" .‬ضرب من "التبّلر‬
‫)‪" (prise de conscience‬من أجل ذلك ليس على الفيلسوف أن يواصل أسئلة "المعرفة"‪ ،‬وذلك ألّن "الفلسفة ليست استيعاء‬
‫و"نحن ليس لنا وعي مقّو م لألشياء مثلما تعتقده المثالية" ‪ .‬فنحن في األصل ال نعرف بل فقط نؤمن بإدراكاتنا‪ ،‬والفلسفة نفسها هي في‬
‫سّر ها "إيمان إدراكي" اهتدى إلى طريقة فّذ ة لطرح أسئلة مناسبة عن وعلى نفسه ‪ .‬وبعبارة واحدة‪ :‬الفلسفة في صميمها "سؤال موّج ه‬
‫‪" .‬لما ال يتكّلم" فينا‪" :‬ذلك المزيج المتكّو ن من العالم ومّنا والذي يسبق التفّك ر‬
‫حين نتفلسف نحن ننطلق سلفا من "غموضنا" وليس من "بداهاتنا" ‪ .‬والسؤال –الفاجعة األولى ال يمكن أن يكون إّال تساؤال من هذا‬
‫النحو‪" :‬ما هذا الشيء الذي هو نحن ؟" ‪ .‬وإّن ذلك هو ما افتتح فيه مرلو‪-‬بونتي مغامرة المرئي والالمرئي‪ .‬ليس الفيلسوف من يحفظ‬
‫على العالم بداهته‪ ،‬بل على العكس من ذلك هو من ليس في وسعه سوى أن يؤدي إلى "خسرانها" وتحويلها هي ذاتها إلى "لغز" قائم‬
‫الذات‪ .‬فما يحّيرنا فعال هو أّن "ولوجنا في العالم" يكاد ال يتمّيز عن "انسحابنا منه" ‪ .‬صحيح أّن لكّل مّنا "عالما خاصا" ؛ إّال أّن‬
‫ولذلك ما أبعد الفلسفة عن أن ‪ ( koinos Cosmos)" .‬العوالم الخاصة "ليست العالم"‪ ،‬نعني "العالم الوحيد‪...‬العالم المشترك‬
‫"تبحث عن بديل لغوي للعالم الذي نراه" ‪ .‬و"التفلسف ليس هو أن نضع األشياء موضع شّك باسم الكلمات" ‪ .‬إّن اللغة نفسها "عالم"‬
‫و"كينونة" ‪ .‬ولذلك "ليس بإمكاننا أن نقصر الفلسفة على تحليل لساني" لما قيل عن موضوعات محددة‪ .‬بل أكثر من ذلك‪ :‬إّن الفلسفة‬
‫ال تتعلق بما هو مقول أو ما هو معروف فحسب‪ .‬وذلك "ألّن الكالم ال يدور فقط حول ما نعرف‪... ،‬وإّنما كذلك حول ما ال نعرف" ‪.‬‬
‫وإّن الكالم الثقيل ليس ذاك "الذي يحبس ما يقوله" في قيود التحديد والتعريف‪ ،‬بل باألحرى ذاك الذي "يفتحه بكّل ما أوتي من قوة‬
‫على الكينونة" ‪ .‬لم نأت كي "نتمّلك" الكينونة‪ ،‬بل كي "نذرها تكون" ‪ .‬وذلك ألّننا ال نبحث منها عن "إجابة" بل عن "تأكيد‬
‫‪" .‬لدهشتنا‬
‫الكينونة هي ما ال يتكّلم في عالمنا‪ .‬والفلسفة الحقة هي تلك التي "تسأل تجربتنا للعالم عما هو العالم قبل أن يكون شيئا نتحدث بشأنه" ‪.‬‬
‫ولذلك ال أحد يمكنه أن يغلق دالالت اللغة فيما قيل ‪ ،‬فإّن "اللغة ال تحيى إّال بالصمت" ‪ .‬ومن ثّم فإّن عليها أن تخطئ‪ :‬بل "اللغة هي‬
‫قدرة على الخطأ" ‪ .‬والصعب هو العثور على "خطأ جّيد" ‪ .‬وذلك هو قدر الفيلسوف‪" :‬وهن فيه" أن يتكّلم‪ .‬وإذا تكّلم فكأّنما هو‬
‫‪"" .‬يصوغ صمتا معّينا يصغي إليه في داخله‬
‫أّما النتيجة المثيرة من هذا المعطى الحاسم فهي هذه‪ :‬أّن ه "ليس لي أن أخرج من ذاتي إّال بواسطة العالم" ‪ .‬العالم "أقدم" من أفكارنا‪.‬‬
‫ولذلك نحن دوما نرتبط به من خالل إيمان إدراكي ما‪" ،‬يفترضه العلم لكّته ال يوّضحه" ‪ .‬إّال أّن ه افتراض يشبه "العمى"‪ :‬فبقدر ما‬
‫يكون العلم أعمى إزاء الكينونة‪ ،‬هو ينجح في تحديد الكائن ومعرفته ‪ .‬ولذلك ال يستطيع الفيلسوف أن يمنع نفسه من مالحظة أّن‬
‫العلماء يتحّر كون وكأّنهم "يقّدمون ’’أفضلياتهم’’ كما الموسيقّي أو الرسام" ‪ .‬كأّنما أنطولوجيا الموضوع التي أقام عليها العلم الحديث‬
‫قواعده ال تعدو أن تكون غير "تفضيل معّين" ‪ .‬إّن "المتفّر ج المطلق" الذي ينتج العلم "محّلقا فوق موضوعه" هو افتراض ينبغي‬
‫مراجعته ‪ .‬وال تكمن قوة الفلسفة إّال في كونها تستطيع أن تضع "من يسأل" موضع تساؤل ‪ .‬لكّن األمر "األعسر هو أن ال نخطئ‬
‫‪" .‬بشأن ما هو السؤال‬
‫ليس السؤال مجّر د أداة تحديد أو التقاط بارد للماهيات كأّنما هي أشياء أو وقائع منقطعة عّنا مهملة في خواء الكينونة‪ .‬إّن أكبر مدعاة‬
‫للتفكير هي أّنه "ثّمة عالم"‪ .‬وال يمكن ألّي تحديد ماهوي أن يأتي على معنى ذلك‪ .‬إّن الثّمة تقع "تحت الماهية" وإّنها "التجربة التي‬
‫تشكل الماهية جزءا منها وال تحيط بها" ‪ .‬إذ تفترض "الماهية" متفّرجا محضا ال وجود له فينا‪ .‬وعلينا أن نقبل إذن بأّن سؤال الماهية‬
‫ليس هو "السؤال النهائي" في الفلسفة‪ ،‬من أجل أّن "السؤال الفلسفي ال يضعه فينا متفرج محض" ‪ .‬ليست الماهية شيئا‪ ،‬بل "كيفية‬
‫ولذلك "ال ماهية وال فكرة إال وهي متعلقة بميدان تاريخي وجغرافي" ‪ ،‬وبهذا تحديدا على الماهية أن تنقلب ‪" (Sosein) ،‬كيان‬
‫معنى وتجربة للمعنى‪ ،‬فإّن "المعنى هو الكائن الوحيد المشروع" ‪ .‬نحن تجارب وليس وقائع‪ .‬ولذلك فالفيلسوف ال ينتظر شيئا‪ ،‬بل ‪،‬‬
‫‪" .‬بضرب من الحول"‪ ،‬هو ذاك الذي يفلح في االنقالب على ذاته وعلى أسئلته‬
‫ب‪ -‬من الجسد‪-‬الموضوع إلى لحم الجسد ‪ :‬اإلّن ية بين المرئي والالمرئي‬
‫ليس اإلنسان غير من يسأل‪ .‬ولّب األسئلة جميعا الذي بدأ به مرلو‪-‬بونتي مغامرة المرئي والالمرئي هو هكذا تساؤل فّج وغامض‪" :‬‬
‫ما هذا الذي هو نحن ؟" ‪ .‬ولكن لنحترس منذ اآلن‪ :‬ليس ثّمة إجابة أو أطروحة جاهزة حول هذا المطلب‪ .‬بل ينّبهنا مرلو‪-‬بونتي إلى ما‬
‫في األطروحات واألجوبة من زيغ وخداع‪ .‬إّن ديدن الفيلسوف هو أّال يدافع عن أّية إجابة جاهزة حول أنفسنا‪ .‬وذلك أّن عليه أن‬
‫ينطلق في البحث عن ذاته من أفقر معطى يعثر عليه في األثناء‪ :‬أّن ه "يرى األشياء" و"أّن العالم هو ما نراه" ‪ .‬ليست الفلسفة إذن‬
‫"معجما" جاهزا لالستعمال‪ ،‬بل هي قدرة على التساؤل عّما نرى‪ ،‬أي عن نمط ولوجنا في العالم المرئي‪ .‬ومثل "اإلنسان النائم الذي‬
‫فقد كل وجهة" ‪ ،‬يبدو الفيلسوف محرجا سلفا من أّي رؤية للعالم المرئي ال يملك القدرة على مساءلتها بشكل مناسب‪.‬ووجه اإلحراج‬
‫هو شعوره القوي بأّن ما يحضر أمامه داخل العالم ليس مجّر د شيء "متكّلد" و إّنما هو "يقيم عالقة فريدة بعينّي وجسدي" ‪ .‬حين أرى‬
‫‪".‬ينتفض كّل محيطي القريب" ويأتي باتجاهي‬
‫وعلى ذلك فإّن قرب العالم المفرط مّن ي هو بنفس القدر سبب قاهر الستغالقه عّن ي ‪ .‬إّن رؤية العالم من حولي ورطة للعالقة معه‬
‫وليس أداة لمعرفته‪ .‬فأنا ليس مجرد "جسد" طبيعي أي مادة عضوية أو حيوانية بال مشروع خاص‪ ،‬بل أنا رؤية ترى‪ .‬ووجه‬
‫الخطورة في هكذا فكرة هو التنبيه المضاعف إلى أّنه كما أّن ه ال وجود لـ"رؤية من الداخل"‪ ،‬كذلك فإّن "اللجوء إلى ’’الخارج’’ لن‬
‫يحمي أبدا في حد ذاته من أوهام االستبطان" ‪ .‬ليس هناك فاصل طبيعي أو مادي أو نظري بين المرئي والالمرئي في رؤيتنا ألنفسنا‬
‫أو للعالم‪ .‬فالرؤية "إيمان إدراكي باألشياء وبالعالم" سابق على كل ادعاء موضوعي حول أجسادنا‪ ،‬وليس نقال بصريا آليا لشيء‬
‫‪.‬غريب عّنا‬
‫بل أكثر من ذلك‪ :‬إّن حياتنا النفسية تشبه شيئا "المرئيا يوجد في مكان ما خلف األجساد الحية" ‪ .‬هو المرئي ألّن ه ليس موضوع تمّلك‬
‫أو تشيئة أبدا‪ .‬فقد ظّن اإلنسان أّن اإلدراك الذي جعله يؤمن بوجود العالم الذي يحيط به يمكن هو أيضا أن ُيحاط به ‪ ،‬أي أن يشّيئ‬
‫اإلدراك نفسه‪ .‬والحال أّنه قبل أن أكّو ن علما عن جسدي‪" ،‬عّلمتني تجربة لحمي بما هي غالُف إدراكي أّن اإلدراك ال يولد أينما كان‬
‫‪.‬بل هو ينبعث من خفايا جسد" ما‪ .‬إّن "اإلنسان كّله هو هنا سلفا" ‪ ،‬وذلك قبل ما سيقوله العلم عن أجسادنا‬
‫ليس جسدي وحده هو الذي يدرك" إذن‪ .‬ليس المرئي وحده هو موضوع اإلدراك‪ .‬بل ثّمة عالم المرئي علينا هو أيضا أن نراه‪".‬‬
‫وعلّي أن أفهم أخيرا أّن "حياتي ‪...‬هي أخرى وهي ذاتها" معا‪ .‬وينّبهنا مرلو‪-‬بونتي هنا إلى أّن غرضه ليس الزعم أّنه "بإمكاننا أن‬
‫ندرك دون جسد" بل فقط "أّن ه يجب إعادة النظر في تعريف الجسد كموضوع محض" ‪ .‬ورأس األمر في إعادة النظر هذه هو التمييز‬
‫بين سؤال الماهية و معنى الواقعة‪ :‬إّن كينونتنا ليست ماهية جاهزة ونهائية‪ ،‬بل هي واقعة مفتوحة على جملة تجربتنا في العالم‬
‫هي هذه الذات أو ذاك العالم‪" .‬أّن " ثمة ذات‪ -‬هذه واقعة )‪" (what‬ثّمة ذاتا أو عالما‪ ،‬وبين "ما )‪" (that‬وللعالم‪ .‬هو الفرق بين "أّن‬
‫أقدم من كّل سؤال عن الماهية‪ .‬و"ما" تكون أّي ذات ليس معطى علميا أبدا ‪ .‬لذلك ليس جسدي أو عالمي ماهية بل هو واقعة‪ .‬ولذلك‬
‫‪" .‬فأنا "أنتمي" إلى العالم قبل كل علم ‪ .‬ولذلك فما أؤسس عليه معنى كينونتي هو "إيمان" وليس "حجة‬
‫لكّن هذا اإليمان ليس مجرد اعتقاد كسول‪ ،‬إّن ه ضرب عنيد من "التفّك ر"‪ :‬فإّنه "يّظ هر كمسيرة نحو ذات مجهولة" ‪ .‬فهذا النوع من‬
‫التفّك ر "يسترّد كّل شيء إّال ذاته" ‪ .‬بل "يمكن لقدرتنا على العودة إلى ذواتنا أن تقاس تدقيقا بقدرة [ما]على الخروج منها" ‪ .‬وعلى ذلك‬
‫ال يخلو التفّك ر من "سذاجة" ما‪ ،‬إذ مازال يشترط إلنشاء العالم أن يمتلك قبُل مفهوم العالم كشيء قائم سلفا ‪ ،‬فيعّو ض العالم بالشيء‬
‫‪" .‬المفّك ر فيه ‪ .‬ومن ثّمة فإّن على الفلسفة أن تبحث عن "انطالقة مغايرة‬
‫علينا أن نقبل بهذا‪ " :‬أّن العودة إلى الذات هي كذلك خروج منها"‪ ،‬وذلك أّن اإلنسان يكون دوما قد بدأ "خارج نفسه" ‪ .‬ولذلك علينا‬
‫الكّف عن أّي طمع "أنانوي" ينتهي دوما بالسقوط في ضرب من "ليل الهوية" الذي ال مخرج منه‪ .‬في الواقع إّن الكينونة "ال تدين‬
‫بشي لحاالت وعيي" ‪ .‬إّن علينا أن نفصل بين "األنانة" و "اإلّنية"‪ :‬أنا لست "أنا" جامدة ‪ ،‬تقف فوق عالمي لتموضعه وتعرفه‪ ،‬كأنني‬
‫"مجال ترنسندنتالي" فوق عالمي‪ ،‬بل أنا "نفسي" التي هي ضرب من "الالشيء" الذي أصنع منه ذاتي‪ .‬أّن األنا هو الشيء معناه أّنه‬
‫"ليس له طبيعة" ‪ .‬ومن ليس له طبيعة ال يوجد في أّي موضع بعينه‪ .‬أنا وضع فقط علي أن أضطلع به‪ .‬ولذلك فإّنني دوما أكثر مّما‬
‫! "أزعم أّنني إياه‪" .‬وما أكونه جملة يفوقه ما أكونه بالنسبة إلّي أنا ذاتي" ‪ .‬أّيها البشر‪" ،‬لسنا العلة المالئمة لكّل ما نحن إياه‬
‫ولذلك ال يوجد "إدراك أّو ل لإلنية والكينونة" علينا أن ننطلق منه أو أن نعود إليه مثلما تريد فلسفة الوعي والتفّك ر‪ .‬في البداية أنا‬
‫الشيء‪ .‬و"ألنني الشي فإّنه علّي أن أكون وضعي" ‪ ،‬أي أن أحتمل عدمي وسلبّيتي بشكل مناسب وصارم‪ ،‬وهي لمهّمة جّد صعبة ‪.‬‬
‫وليس ذلك سوى أن أحتمل "السؤال المركزي الذي هو نحن" ‪ ،‬والذي يفّر عه مرلو‪-‬بونتي إلى األسئلة القصوى حول نفسي من قبيل‪:‬‬
‫" العالم ذاته‪ ،‬أين هو ؟ ولم أنا‪ ،‬أنا ذاتي ؟ وما هو عمري الحقيقي ؟ وهل أنا وحدي حقا من أكون أنا ؟ أليس لي في مكان ما‪ ،‬نظير‬
‫"أو توأم ؟‬
‫لنقل "أنا مجال تجارب حيث ترتسم عائلة األشياء" ‪ ،‬وليس مجّر د "متأّمل عالم" معزول في أنانته‪ .‬لكّن التجربة هنا لها معنى أكثر من‬
‫إمبريقي‪ :‬إّن التجربة هي النسيج الذي يشّد جسدي إلى العالم الذي أعيشه وفق اإليمان اإلدراكي الذي لي عنه‪ .‬التجربة هي "لحم‬
‫الزمن" الذي يجعلني أشعر أّن ني "امتداد للحم" العالم الذي من حولي‪ .‬ال فاصل بين لحم جسدي ولحم العالم‪ ،‬بين "جسدي الموضوعي‬
‫وجسدي الفينوميني" ‪ .‬ليس جسدي "قطيعا تائها من اإلحساسات" بل هو "جزء من اللحم الدائم للعالم" ‪ .‬ولذلك كذبة هو الفاصل‬
‫‪" .‬الحديث بين "الذات" و"الموضوع" ‪" :‬إّن األشياء تمّر إلى داخلنا تماما كما نمّر نحن إلى داخل األشياء‬
‫بذلك نحن مطالبون باالنتقال من السؤال ‪" :‬من أنا ؟" إلى سؤال أكثر عينّية‪ ،‬أال وهو "ماذا ثّمة ؟ أو حتى ما الثّمة ؟" ‪.‬ماذا ثّمة في‬
‫أنفسنا‪ ،‬متى وقفنا على أّننا محض رؤية ترى وال ترى ؟ ‪ -‬إّن ما هو ثّمة في أنفسنا هو ‪" :‬أّن العالم لحم كّلي" ‪ .‬ومن ثّمة أّن جسدي‬
‫يستطيع أن يدرك العالم "دون أن يكون عليه الخروج من ’’ذاته’’ ألّنه ليس كّله داخل ذاته" ‪ .‬وألّن العالم لحم فليس ثمة فاصل بين‬
‫)‪ (entrelacs‬العالم والجسد ‪" :‬إّن جسدي لحم منطبق على لحم ال يحيط به العالم وال العالم محاط به" ‪ .‬ما ثّمة هو "تداخل وانشباك‬
‫هنا ؟ وكيف نفّر ق بين "الجسد" و "اللحم" ؟ )‪"(la chair‬بين الواحد واآلخر" ‪ .‬ولكن ما معنى "اللحم‬
‫في الحقيقة‪ ،‬إّن السّر هنا ال يتعلق بالتفريق بل بفهم االنشباك بين الجسد وعالمه‪ .‬وأّو ل خطوة علينا القيام بها هي تحرير معنى‬
‫"الجسد" من "الشيئية" التي ُتلبسها إياه العلوم الحديثة‪ .‬ليس الجسد شيئا أو واقعة‪ .‬ولذلك هو ليس "في" العالم؛ بل هو تجربة عالم حيث‬
‫‪" .‬يتداخل الرائي والمرئي "بحيث ما عدنا نعرف من َي رى ومن ُيرى‬
‫ولكن متى "أصير لحما" ؟ ‪ -‬ال يكفي أن أالحظ "جسدي" كواقعة في العالم المحسوس حتى أصير "لحما"‪ .‬ولهذا يؤّك د مرلو‪-‬بونتي‬
‫‪:‬بحرص خاص أّن ه "ليس ثمة اسم في الفلسفة التقليدية ليقول ذلك" ‪ .‬وهو يعّرفه كالتالي‬
‫‪ (anonymat‬وهذه العمومية التي هي مرئية وعمومية الحسي في ذاته‪ ،‬هذه الغفلية الفطرية )‪ (Visibilité‬إّنها هذه المرئّية "‬
‫‪" .‬التي هي غفليتي أنا ذاتي هي التي كنا سميناها منذ حين لحما )‪inné‬‬
‫وكما أّن المرئّي ليس "مادة" فإّن اللحم هو أيضا ليس مادة مكّو نة من جسيمات ما‪ ،‬ولذلك هو أيضا ليس "واقعة" أو شيئا أو "جوهرا"‪،‬‬
‫وزيادة على ذلك ليس "تصّو را" يبنيه التفّك ر‪ ،‬بل هو "شيء عام" بين الفردي والفكرة‪ ،‬أو هو أقرب ما يكون‪ ،‬حسب مرلو‪-‬بونتي إلى‬
‫‪ :‬ما سّماه القدماء "األسطقس" بالمعنى الذي ُيطلق فيه على عناصر الماء والهواء والنار والتراب‬
‫يجلب معه أسلوب كيان في كل مكان يوجد فيه جزء صغير منه‪ ،‬فاللحم بهذا المعنى هو )‪ (incarné‬إّنه ضرب من مبدأ مجّسد"‬
‫‪’’" .‬أسطقس’’ الكينونة‬
‫ما يجعل الواقعة واقعة" ‪ .‬وليس أقّل مالمح الطرافة" ‪" (facticité):‬لكن إذا لم يكن اللحم "واقعة" بالمعنى الفيزيائي‪ ،‬فهو "وقائعية‬
‫في هذا المفهوم المثير أّنه يبّين لنا في آخر المطاف "أّنه ال وجود هنا لمشكلة األنا اآلخر ألّن ني لست أنا الذي أرى وليس هو الذي‬
‫يرى‪ ،‬وألّن مرئية مجهولة تسكننا نحن االثنين‪ ،‬تسكننا رؤية بشكل عام بمقتضى هذه الخاصية التي تنتمي إلى اللحم‪ ،‬كونه هنا واآلن‪،‬‬
‫‪" .‬خاصيته أن يشع في كل مكان ودائما‬
‫هنا يسقط "الوهم األنانوي" وتنتبه الذات إلى أّنها رائية ومرئية في آن‪ ،‬تقع "تحت بصر األشياء" كما تراها‪ ،‬في نوع من النرجسية‬
‫الطريفة‪ :‬أن نشعر أّننا ال نمتلك العالم بل هو الذي يمتلكنا‪" .‬وألّو ل مرة ال يتزاوج الجسد مع العالم‪ ،‬إّن ه يحتضن جسدا آخر" ‪ .‬وبدال‬
‫من ضجيج الذات المتعالية الحديثة حول سيادتها على الطبيعة‪ ،‬ينّبهنا مرلو‪-‬بونتي إلى أّن تجربة الرائي المرئّي تعّلمنا أّن اللحم هو‬
‫"التفاف المرئي على الجسد الرائي والتفاف الملموس على الجسد الالمس"‪ ،‬إّنه "كل الحياة اللمسية لجسدي" ‪ .‬وألّن اللقاء مع األشياء‬
‫هو مّما البد منه‪ ،‬فإّن انبثاق اللحم في أفقنا يجعنا نقف على أّن المرئّية التي تلّف أجسادنا‪ ،‬لحم الكينونة هذا‪ ،‬إّنما هو "الوسط" حيث‬
‫‪" .‬تتكون الذوات والموضوعات‪ ،‬فهو ليس "ذرة الكينونة" بل يأتي إلينا "كعنصر أو كرمز عيني لطريقة كيان بعامة‬
‫الترجمة اللحمية ‪ :‬تحرير الالمرئي )‪2‬‬
‫أ‪ -‬الترجمة وآخرّية اآلخر‬
‫حين يتكّلم اآلخر فهو يبدو وكأّنه ينطق دوما من "وراء جسد" وعلى كّل أنا "ال أقدر على منع نفسي من وضع اآلخر واإلدراك الذي‬
‫له‪ ،‬وراء جسده" ‪ .‬فكيف أترجم كالم اآلخر دون أن أراه ؟ حين يتكّلم اآلخر هو يسطو على عالمي الخاص‪ .‬وفجأة أالحظ أّن "عالمي‬
‫‪" .‬الخاص قد كّف عن أن يكون لي وحدي‪ ،‬إّن ه اآلن اآللة التي يعزف عليها آخر‬
‫بين آخرية اآلخر وترجمته صلة غامضة ليس أطرف من تجربة اللحم التي استكشفها مرلو‪-‬بونتي محّك ا للوقوف عليها‪ .‬وعلّي أن‬
‫أعترف بدّي ًا أّن ني لن أترجم اآلخر إّال "ألّن ني أؤمن باآلخر‪ ،‬وهو من جهة أخرى يعنيني أنا ذاتي بما أّنه يوجد فيه ما يشبه رؤية اآلخر‬
‫مسلطة علّي " ‪ .‬علّي أن أقّر سلفا بأّن "اآلخر الذي يجتاحني ليس مجبوال إال من طينتي" ‪ .‬ال يضيف اآلخر إذن إلى إّن يتي شيئا غريبا‬
‫تماما عنها‪ .‬إّنه ليس من عالم آخر بل هو ينتمي إلى عالمي‪ .‬و"اللغز" الوحيد الذي يضيفه هو تنبيهي المخيف إلى أّن "حياتي األكثر‬
‫‪ (autre et la même)" .‬سرّية" يمكن أن "تنتشر في اآلخر"‪ ،‬وبعبارة واحدة أّن "حياتي ‪...‬هي أخرى وهي ذاتها‬
‫ليس اآلخر إذن كائنا يختفي أو ينحبس "وراء" جسده الذي "أراه" ‪ :‬إّن ه مثلي "ال يوجد في أّي موقع" ‪ .‬وال يمكن أن يظهر اآلخر‬
‫‪:‬كشيء من األشياء أبدا‪ .‬من أين ينبع إذن ؟ ‪ -‬إّن إجابة مرلو‪-‬بونتي جّد طريفة‬
‫أو التضاعف مثلما كان اآلخر األول ٌقّد من قطعة من جسد آدم كما يقول )‪ (bouture‬اآلخر يولد من ضلعي بضرب من االفتسال"‬
‫‪" .‬سفر التكوين‬
‫اآلخر "انفتاح ثان على األشياء" وليس موضوعا لمعرفتي‪ .‬بل هو من يذّك رني بأّن "اإلّن ية هي الشيء" ‪ ،‬وأّنه بحضور اآلخر في‬
‫عالمي قد صار "ما أكونه جملة يفوق ما أكونه بالنسبة إلي أنا ذاتي" ‪ .‬من دون اآلخر يسقط األنا في "ظلمة الهوية"‪ ،‬أي يصير‬
‫‪"" .‬شيئا‬
‫بناء على هذا االنشباك الساق مع حضور اآلخر في عالمي فإّن ه‪ ،‬وعلى خالف ما زعمه ساتر وكل فلسفات السلب‪" ،‬فلسفّيا‪ ،‬ال وجود‬
‫لتجربة اآلخر" ‪ ،‬إذا فهمنا بذلك "فلسفة تستقر في الرؤية المحض" وتعامل اآلخر كما شيء من األشياء‪ ،‬من خالل نظر ال يستطيع أن‬
‫‪ .‬يهيمن إّال على أشياء‬
‫لكّن اآلخر ليس كارثة؛ فإّن "بصر اآلخر" فيه دوما جديد ما بالنسبة إلّي ‪ :‬إّن اللقاء معه جزء من "وقائيتي" وهو دوما "يوفر لي‬
‫معنى" ‪ .‬إّن اآلخر هو دوما من يراني‪ ،‬أي من يستطيع أن "يقلب علّي ‪...‬الحزمة الضوئية التي كنت حبسته فيها" ‪ .‬وألّن ني "ال أحيا‬
‫‪" .‬إّال حياتي" فإّن اآلخر يطلب فال يدرك دوما‪ ،‬و "ما أقوله عنه يظل دائما مشتقا مما أعرفه عن ذاتي بذاتي‬
‫كّل مماهاة مع اآلخر في عالم فكري محض تنتهي بالضرورة إلى أن "تقّو ض آخرية اآلخر" وتدافع من جهة أخرى عن "انتصار‬
‫أنانة مستترة" ‪ .‬وعلينا أن نكّف عن التعامل مع اآلخر وكأّن ه "وعي" آخر‪ :‬إّن اآلخر ينبغي أن ُيفهم " كقاطن جسد ومن خالله كقاطن‬
‫‪" .‬في العالم‬
‫وهنا يقّر مرلو‪-‬بونتي بعسر األمر الذي بلغه من استجالء تجربة اآلخر والتي تظل رغم كل شيء بمثابة "تجربة ممنوعة" ‪ .‬كأّنني ال‬
‫أنجح في ضمان "غيرية" اآلخر إّال متى استطعت أن أجعله "المرئّيا" بالنسبة إلّي ! لكّن العمى إزاء اآلخر هو أكبر شكل من التعدي‬
‫علي كيانه‪ .‬كيف لي إذن أن أحترم "األصالة الجذرية للذاته الذي لآلخر " ؟‬
‫وذلك ألّنها تعّو دت من دهرها أن )‪" (autrui‬وحسب مرلو‪-‬بونتي فقد أساءت فلسفات السلب إلى حّد اآلن طرح مسألة "اآلخر‬
‫بعامة ‪ :‬هل الغير سوى ضرب من "الّال‪-‬أنا بعامة" ؟ والحال أّن اآلخر ليس الغير‪ ،‬أي ليس )‪" (l’autre‬تختزلها في مشكل "الـغير‬
‫‪ .‬مجرد "سلب" لألنا الذي يسود على موضوعه‬
‫بدال من ذلك يقترح مرلو‪-‬بونتي أن نكّف عن اعتبار اآلخر "غيرا" أي "بلّية" تسقط على عالم األنا‪ ،‬فإّن "التفّر د" ال يلغي كوننا‬
‫‪" .‬واآلخر في صلب كينونة واحدة‪ ،‬ومن ثّم أّن "على اآلخر أن يكون مرآة لي كما أنا مرآة له" ‪" ،‬ضمن نفس العالم‬
‫ب‪ -‬الترجمة عمل جسدي أو تحرير الالمرئي‬
‫في عدد من المرات‪ ،‬يتمّث ل مرلو‪-‬بونتي في تخريج معنى "المرئي" بفعل الترجمة‪ .‬ومنه أّن "الفهم هو ترجمة معنى سجين بدءًا في‬
‫الشيء وفي العالم ذاته‪ ،‬ترجمة ذلك المعنى إلى دالالت جاهزة‪ ".‬فهل هذا هو ما يحدث عندما نترجم نّصا ؟ هل نحّر ر معنى سجينا أم‬
‫نكّو ن مجموعة من العالمات تقابل مجموعة العالمات التي في النص األجنبي ؟‬
‫إّن رهان الترجمة موقوف على طبيعة عالقتنا باللغة‪ .‬وحسب مرلو‪-‬بونتي فإّن اللغة ليست مجّرد جهاز لساني لمعرفة العالم ‪ ،‬بل هي‬
‫ذاتها "عالم" ‪ .‬ومن يترجم هو‪ ،‬من حيث ال يحتسب‪ ،‬ينقل عالما إلى عالمه‪ .‬ويمكن أن نوازن الترجمة بتعريف هوسرل للفلسفة الذي‬
‫يستعيده مرلو‪-‬بونتي‪ ،‬أال وهو أّن "الفلسفة تتمثل كلها في استعادة القدرة على الَع ْن ي وعلى والدة المعنى" ‪ .‬وإّن فلسفة الترجمة التي‬
‫‪" .‬تعمل في كل ترجمة للنصوص العظيمة هي تلك التي تكون الفلسفة بمقتضاها "قراءة المعنى وقد وصلت إلى تمامها‬
‫أن نترجم هو أن نقطع المسافة بين المعنى السجين والداللة الجاهزة‪ .‬لكّن مرلو‪-‬بونتي سرعان ما ينّبهنا إلى أّن "الداللة تفيض بالمقابل‬
‫على وسائلها" ‪ .‬كيف يجدر بنا أن نأخذ ذلك ؟ يبدو أّن المترجم ال يملك المعنى ألّن ه ال يملك "عالم" النص‪ ،‬بل عليه فقط أن يطلق‬
‫سراحه‪ .‬وكما الموسيقّي هو "يشعر‪ ،‬ويشعر اآلخرون بذلك‪ ،‬أّن ه في خدمة اللحن‪ ،‬إّن اللحن هو الذي يغني عبره" ‪ .‬ليست الترجمة‬
‫لسانية محضة‪ ،‬فإّن "األمثلية المحضة ليست هي ذاتها دون لحم وال هي متحررة من بنيات )‪" (idéalité‬اشتغاال تقنيا على "أمثلية‬
‫‪" .‬األفق‪ :‬إّنها تحيى بها‪ ،‬حتى وإن تعلق األمر بلحم آخر وبآفاق أخرى‬
‫وألّن قراءة المعنى هي عمل جسدي حيث تقع "الرابطة بين اللحم والفكرة" ‪ ،‬فإّن الترجمة هي ضرب من تحرير الرؤية أو‬
‫"المرئّية"‪ ،‬ولكن حيث أّن تجربة المرئي هي هي "استكشاف لالمرئّي ما" ‪ .‬وهذه المرئّية هي ضرب من "الهجرة" "ليس خارج كّل‬
‫جسد‪ ،‬وإنما داخل جسد آخر أقّل ثقال وأكثر شفافية‪ ،‬ولكأّنها تغير لحمها‪ ،‬مهاجرة من لحم الجسد إلى لحم اللغة‪ ،‬وبذلك تكون متحررة‬
‫‪" .‬وليست متحللة من كل شرط" ‪ .‬هنا نكتشف أّن "أفكار" النص ليست "مضمونا" بل "انفتاح لُبعد ما عاد له أن ينغلق‬
‫إّن الترجمة واحدة من "تجارب اللحم" ‪ ،‬وهنا ال يعني ذلك أقّل من "التحام جسدي بالعالم"‪ ،‬عالم النص‪ ،‬النص من حيث هو في نفس‬
‫األمر "المرئّي هذا العالم‪ ،‬الالمرئي الذي يقطنه ويسنده ويجعله مرئيا" ‪ .‬في تجربة اللحم‪ ،‬من حيث هو أسطقس الكينونة الذي يجمع‬
‫على نحو من المفارقة بين المؤلف والمترجم في عالم واحد ووحيد‪ ،‬يحدث ضرب غريب من التصادي بين المتكّلم في النص األجنبي‬
‫والمتكلم في النص المترجم‪ :‬كّل منهما يسمع اآلخر ولكن دون أن يكّلمه‪ .‬وذلك "ألّنه وال متكلم يتحدث إّال وهو يجعل من ذاته مستمعا‬
‫بشكل مسبق (‪ )..‬وفي ذات اآلن يتعين هو أيضا غير متكّلم‪ ،‬يتعين كالما نتكلم عنه" ‪ .‬ال يفعل المترجم غير أن يستمع إلى المؤلف‬
‫‪.‬يستمع لذات نفسه سلفا‪ .‬يستمع إليه متكّلما ثم يستمع إليه صامتا ال يتكلم‪ ،‬في آن‬
‫ولذلك فالترجمة ال يمكن أن تكون "أمينة" إال إذا أفلحت في إطالق "معنى سجين" من سجنه‪ ،‬أي أّو ال من "شيئيته"‪ ،‬ثم خاصة من‬
‫"عالمه"‪ ،‬أي من مرئّيته ‪ .‬ولكن بم عسانا أن نحرر معنى إّال بأنفسنا ؟ ال يمكن للمترجم أن يترجم إّال بقدر ما يبادل عالما بعالم ولحما‬
‫؛)‪ (entendre‬بلحم‪ .‬لذلك "أن نفهم جملة ليس شيئا آخر غير أن نستقبلها تماما في كياننا الصوتي‪ :‬أو كما نقول جّيدا‪ :‬نسمعها‬
‫فالمعنى ليس معطى فوقها كما الزبدة على قطعة الخبز" ‪.‬إّنه إمكان كامن في عالم مرئي كالالمرئي فيه‪ ،‬وليس لي من وسيلة أخرى‬
‫الستفزازه إّال "لحم اللغة" التي أتكلمها بوصفها هي نفسها "لحم العالم" الذي أنتمي إليه‪ .‬كيف أخرج المعنى من "العالم األخرس" الذي‬
‫يسكنه إلى "العالم المنطوق" الذي أتكلمه ؟ ال يكون ذلك إّال من خالل "وجود يكاد يكون لحميا للفكرة" ‪ ،‬أي لم تعد اللغة معه جهازا‬
‫لسانيا أداة‪ ،‬بل‪ ،‬كما يقول مرلو‪-‬بونتي متمثال بقولة لبول فاليري‪ ،‬صارت "كل شيء‪ ،‬طالما أّنها ليست صوتا ألحد وأّنها صوت‬
‫‪" .‬األشياء واألمواج والغابات نفسه‬
‫ذلك يعني أّن المترجم ال ينقل أفكار شخص بعينه بل هو يفتح عالما على أبعاده ويسكنه‪ ،‬ويدعونا عبره إلى المرور عبره‪ .‬فليس هناك‬
‫"وعي" يدير شؤون النص من عل‪ .‬الترجمة تجربة غير مرتبطة بأي ضرب من "مرجعية األنا " ‪ .‬فالمترجم ليس "أنا" كما أّن‬
‫المؤلف ليس "أنا"‪.‬إّنهما ساكنان متجاوران في عالم النص‪ .‬ولذلك نحن لن نفلح في ترجمة نص إّال متى نجحنا في البلوغ إلى "تلك‬
‫‪" .‬نحن اآلخرين ونحن العالم ‪ ( chiasme)،‬النقطة حيث نصبح‪ ،‬بواسطة ضرب من التصالب‬
‫دون "فلسفة اللحم" ستكون ترجمة اآلخر اعتداء سافرا على عالمه‪ ،‬بقدر ما هي إساءة حمقاء إلى أنفسنا‪ .‬وذلك أّنه "ال وجود لمعنى‬
‫آخر غير المعنى الجسدي" ‪ .‬فإّن ه "ال وجود لكالم فلسفي خالص بإطالق" ‪ .‬ونحن ال نستطيع أن نقابل اآلخرين إّال في أجسادنا‪ .‬ولذلك‬
‫‪" .‬فإّن المطلوب "ليس إيجاد مخرج لحل ’’إشكال اآلخر’’‪ -‬بل هو تغيير اإلشكال‬
‫تلك بعض قليلة من مالمح مغامرة المترجم التي خاضها األستاذ عبد العزيز العيادي في نحو من االلتحام النادر مع مرلو‪-‬بونتي‪- ،‬‬
‫‪.‬كاتبا ثّم فيلسوفا‬

You might also like