Professional Documents
Culture Documents
أفلوطين
دراسة معمقة في نظرية
الفيض االلهي
عالء محمدأبوغليون
تقوم فلسفة أفلوطين بشكل عام على أساس أن العالمين األعلى واألدنى (ال ُمثُل
سات) ،تربطهما النفس اإلنسانية ( النفس الكلية) ،وأن الفلسفة هي
سو َ
وال َمح ُ
س ُم َو
الطريق الوحيد للتعرف على الحقائق العُل ِويَة .كما يرى أفالطون أن ُ
النفس وشفافيتها تَ ُكون عن طريق كبح الغرائز والرغبات ِ
الح ِسيَة لتستطيع أن
شفَة لمعرفة ال ِعلم الحق ،وبالتالي معرفة هللا.
تصنع ال ُمكا َ
ورسخ أفلوطين لعلم نفس قائم على تدرج مراتب الحاالت الروحية ،ففي
الدرجات العليا من هذه الحاالت ،يختفي الشعور بالشخصية ،ويزول االنتباه
إلى األشياء الخارجية.
يقول أفلوطين :يوجد (أنا) عليا متعا ٍل بشكل كلي ،وجوده منفصل عن أي
وجود آخر ،وهو األكثر اكتماال ،غير قابل لالنقسام أو التجزئة ،وال
للمضاعفة ثابت ،غير قابل للتغيير والتمييز ،وهو بعيد عن كل تصنيفات
الكائنات وغير الكائنات ،وهو الواحد ال يمكن أن يكون أي شيء موجود،
وهو أيضا ليس مجرد مجموع األشياء ،فهو منفصل عن جميع االشياء.
نالحظ أن افلوطين يأخذ بوجهة نظر الرواقيين حرفيا حيث يقول الرواقيون :
إن درجة وجود موجود من الموجودات ترتهن بدرجة اتحاد أجزائه بدءاً من
كومة الحجارة ،التي ال تعدو أجزاؤها أن تكون مصطفة دون التحام ،ومرورا
بجسم جماعي مثل الجيش ،وانتهاء بالكائن الحي الذي تتماسك أجزاؤه كلها
بتوتر النفس.
حدد هذا الواحد مفهوم الخير ومبدأ الجمال ويشمل عند أفلوطين ثنائية المفكر
والشيء الذي هو فكره ـ المفكر والشيءـ حتى الذكاء الذي يتأمل في ذاته
يحتوي على إزدواج أو ثنائية.
النوس (العقل الفياض) يجب أن يحتوي على الثنائية واالزدواج ،فالواحد
مفهوم يشمل المفكر ،والواحد يجري وراء كل السمات بما في ذلك الوجود
والعدم ،بما أنه كامل واألكثر كماال وكل فيض أو انبعاث أو خلق ينبع من
الواحد يكون أقل كماال.
نستطيع القول بأن العناصر األولى المكونة لفلسفة أفلوطين ترجع بأسسها إلى
كل من :
اوال :نظرية خلود النفس وكونها جوهرا عند أفالطون.
ثانيا :نظرية الفيض عند أرسطو.
ثالثا :مذهب الوحدة عند الرواقيين.
لكن ذلك ال يعني أن أفلوطين لم يقدم جديدا بل على العكس تماما قدم نظرية
متماسكة منطقية ـ قابلة للنقد وربما النقض بكل تأكيد ـ
لماذا ال يبقى الواحد وحيداً؟ لماذا ال يبقى الوجود مندغما فيه أبدا؟
لالجابة على هذا السؤال يجب ان نحلل فكرة افلوطين كتالي :
بتبسيط أكثر يشرح نظرية األقانيم الثالثة على الشكل التالي :
-1االقنيم االول( الواحد) :وهو الواحد أو الموجود األول ،وهو ينعت بعدة
أسماء على نحو متنوع :
المطلق الخير ،الالمتناهى ،اآلب ( ،أول األقانيم الثالثة ) ،وهو الغاية أو
الهدف الذي يطمح إليه الكل ،ومن هذا الواحد يكون الفيض األول ( الفكر أو
العقل اإللهي ).
-2االقنيم الثاني(العقل االلهي) :وهو الفكر اإللهي وهو العقل اإللهي
ويترجم إلى أكثر من معنى :
عقل أو عقل إلهي ،فكر أو مبدأ عقلي الروح ،وهو واسطة بيننا وبين الواحد
الذي معرفته فوق قدرتنا على المعرفة ،وهو عقل كلي يتضمن جميع العقول
الجزئية ،والوحدة الكاملة للعقول اإللهية ،يمثل المعرفة في لغة أفالطون وهو
المثل و المثل هي العلل القديمة أو الصور العقلية لكل ما هو محسوس.
-3االقنيم الثالث(نفس الكلية) :ومن العقل تصدر النفس الكلية أو روح الكل ،
كذلك العقل اإللهي له فعالن:
إلى أعلى تتأمل الواحد وإلى أسفل التكوين أو اإليجاد ،لذلك النفس الكلية
بواسطة جزئها اإللهي تتأمل العقل اإللهي بواسطة جزئها الهابط أو المبدأ
العقلي ،ويتكون الكون أو العالم المدرك المحسوس على غرار النماذج
المعقولة ،وبتالي النفس الكلية تكون كل النفوس بما فيها نفس اإلنسان لذلك
تكون نفس الكل.
لماذا ال يبقى الواحد وحيدا ،ولماذا ال يبقى الوجود مندغما أو مندمجا فيه
أبدا؟
إن كل موجود كامل ينتج ( متى صار إلى النضج ) شبيهه ،شيمته في ذلك
شيمة الكائن الحي؛ ويكون هذا االنتاج عن غير وعي ،عن غير إرادة ،ومرده
إلى ضرب من ضروب الغزارة ،كغزارة الينبوع حينما يطفح ـ يفيض ـ أو
كغزارة النور حين ينتشر ،فالكائن الحي والينبوع والنور ال تخسر شيئا
بانتشارها ،بل تحتفظ في ذاتها بالوجود كله).
كتب فورفوريس ما أماله عليه أستاذه أفلوطين وجمع ما كتبه المعلم بيده وما
سمعه التلميذ وفق ترتيب منهجي محافظا على الترتيب الذي مرت به الفترة
الزمنية الطويلة لتأليف وكتابة التساعيات ،الجدير ذكره أن أفلوطين لم يبدأ
بكتابة أفكاره ومذهبه وصياغة فلسفته إال بعد ما بلغ الخمسين من عمره،
واستغرقت الصياغة الكلية لمقاالته البالغة أربعة وخمسين مقاالً ضمتها ست
تساعيات ،ما يربو على الخمسة عشر عاما ،ما يعطينا فكرة عن مدى وصول
وتأن
ٍ الفيلسوف لقناعات أولية ـ حسب المنطق الفلسفي ـ كانت نتيجة صبر
ومماحكة وترحال بين الشرق والغرب ما يدلنا على رصانة مذهبه وتكامل
فلسفته ،مع العلم بأن دراسة أفلوطين من أعقد المذاهب الفلسفية ،ليس بسبب
كونها غير جلية أو مشوشة أو غير ناضجة ،بل على العكس فهي من أكثر
النظريات الفلسفية عمقا ووضوحا وتماسكا ،تمتلك االجابات والبراهين وتحيط
بتفاصيل موضوعها ،إنها مدرسة فلسفية بلغت سن الرشد ،ويكمن مصدر
شموليتها وصعوبتها بالنظر لتعدد مصادرها وسياقاتها المتناقضة من صلب
العقالنية األرسطية اليونانية ،مرورا بمثالية أفالطون وصوالً إلى الفلسفات
ا لشرقية الهندية والفارسية ،وال يخفى على الباحث الحصيف الميل لتأثر
أفلوطين بالبيئة المصرية التي ولد فيها وقضى ردحا طويال من عمره في
مدرسة االسكندرية الشهيرة.
كتب أفلوطين مذهبه مانحا العالم أطروحة فلسفية تشبثت بالتراث اإلنساني
الفلسفي الممتد من منتصف القرن الثالث الميالدي إلى يومنا الحالي في العقد
الثاني من األلفية الثالثة ،ما زالت تقدم تفسيرات عقالنية وروحية للميتافيزيقية
التي تأبى الزوال أو االندثار .
كتب أفلوطين أربعة وخمسين مقاالً جمعها فورفوريوس بعد موته في ست مجموعات ،تحتوي كل مجموعة منها
تسع مقاالت ومن هنا سميت بالتساعيات فهي ست مجموعات فيها تسع مقاالت.
توقف أفلوطين طويال عند عالقة النفس الكلية ـ باعتبارها األقنوم الثالث ـ
بالطبيعة والمادة واألنفس الجزئية وأعطاها خصائص مزدوجة باعتبارها
صلة الوصل بين عالم المعقوالت (العقل الكلي) وعالم الماديات وأوكل إليها
مهام جسام فهي تهب الحياة للكون وتنظمه يقول أفلوطين:
( أما المادة فهي أخر سلسلة الموجودات وأدناها ،وهي تنشأ عن النفس التي
تود دائما أن تحاكي المبدأ األول في فيضه ،فدفق الواحد وفيضه يظل متدفق
حتى أخر الموجودات متنقلة من موجود إلى األدنى منه ،وبتالي امتداد قوة
الواحد إلى مراحل الوجود)
هذا الكالم المقتبس من كتابه ربما يؤيد إمكانية انتساب مذهبه إلى (وحدة
الوجود) بشرط أن ندرك هذا المعنى الخاص الذي يتخذه منهجه هنا ،معنى
انبعاث قوة األول وفاعليته في كل مراتب الوجود مع بقائه في ذاته دون أدنى
تبدد.
من خالل عالقة الموجودات ببعضها البعض تنقسم تلك الموجودات إلى
قسمين:
األول :علوي بأقانيمه الثالثة.
الثاني :دنيوي ويتألف من الطبيعة والكون واألنفس الجزئية ،وهي عالقة
دينامية أزلية فاألدنى يتطلع دائما نحو النزوع إلى األعلى طلبا للعناية
والرعاية ،وهذا التطلع العلوي مكنون في بذرة الوجود التي صدرت أو
انبعثت من الواحد االول ـ دون اتصال ـ فطبيعة الوجود اقتضت نزوعا دائما
نحو العلو يقل كلما تدنت مراحل الوجود الدنيوي المادي.
ووفقا لشرح أفلوطين فالخير صفة أولية لألقانيم الثالثة في حين أن الشر هو
من صفات المادة ،ووجد كنتيجة لبعد السفلي عن العلوي ،وكلما ارتقى
الدنيوي بسموه وأخالقة ونزاهته كلما كان أقرب إلى العلوي الخير بعيدا من
الشر ،فبالفضيلة والصفاء النفسي والسمو السلوكي ينال الدنيوي شرف
التواصل مع العلوي.
فالرذيلة ووهن النفس وكل ما يبدو هو الشر في ذاته ،ما هو بشر إال ألن
النفس تدخل في اتصال مع المادة ،وتغرق في حمأة التغير بسبب هذا
االتصال؛ ويكون تطهرها منه ال بسيطرتها عليه بل بالهرب منه
هكذا ترتسم مالمح التصوف الشرقي في نظرية االنبثاق األفلوطونية حين
يشب االنبثاق بين الموجودات بانبثاق النور من األعلى دونما انتقاص أو
تغيير في حين يتلقى العالم السفلي النور المتالشي تدريجيا مع ظلمة المادة.
فمنبع النور ثابت ال يعتيريه النقص أو التغيير اللتان هما صفتان مالزمتان
للمادة المتعرضة للفساد بفعل نشأتها الطارئة وقابليتها الدائمة للتبدل.
من المفيد نقل ما أورده فورفوريوس عن أستاذه وإمامه أفلوطين ،أنه بعد
طول تأمل ومجالدة وتصفية روحية حق للمعلم االتصال بالواحد أربع مرات
طيلة عمره المديد ،في حين لم يتحقق االتصال للتلميذ سوى مرة واحدة ،وهو
اتصال عقلي ناجم عن سمو وتعا ٍل للنفس الجزئية التي كان لها شرف
االرتقاء.
(وتلكم أعلى درجة يمكن لإلنسان أن يبلغ إليها :الجذب األعلى من الفكر
والعقل معا)
يقول أفلوطين:
الوجود الالمتمايز في الواحد ينبث (يفيض) في كثرة متسلسلة هرميا من
األجناس واألنواع ،فنراها تتشكل بمقتضى ضرب من الجدل النازل والحركة
الروحية ،بدءا من األجناس العليا؛ على أنه ال يجوز أن يغيب عنا أن هذه
الحركة مكتملة منذ القدم ،وأن التسلسل الهرمي للمعقوالت ثابت منذ القدم وأن
عقلنا هو وحده الذي يتحرك مرورا به.
الوجود الال متمايز يوحي بثقة بانتفاء الزمان والمكان عند المبدأ األول ـ
الواحد الكامل ـ وعند المبدأ الثاني ـ العقل ـ ،لكن الزمان يسري على المبدأ
الثالث ـ النفس ـ التي هي بذاتها متجرده عن الزمان والمكان ألنها علوية
ولكن بحكم موقعها المتوسط بين العقل والمادة كانت ذات ثنائية باعتبار
موقعها وارتباطها بين العلوي والسفلي ،فهي من جهة ( تأملها الدائم للعقل
الذي يعلوها ال تخضع للزمان ،أما النفوس الفردية فتتعرض للتغيير وذلك
ألنها لها صلة بالعالم المتغير بخالف صلتها بالعالم المعقول).
لكن لماذا يصر الباحثون على أن فلسفة أفلوطين توحيدية مع اعتباره أللوهية
العقل والنفس ؟
ألن أفلوطين يعتقد بأن الواحد ،األول ،الكامل ،واحد في كينونته ال يعترية
التغيير أوالتبدل غير قابل لإلحاطة والوصف ال تشابه بينه وبين من دونه،
وهو فوق الوجود فالحديث عنه خارج نطاق االنطلوجيا الميتافيزيقية ،أي أنه
ليس موضوعا للمعرفة.
اما األقنوم الثاني ،هو العقل فهو عالم حقيقي ،تام كامل ،ال محض رسم
مجرد للعالم المحسوس ،وهو أيضا الوجود والماهية ،أي المحتوى العيني
اإليجابي لشيء يجعل منه موضوعا للمعرفة ،بتالي األقنيم األول فهو فوق
الوجود وكان يتعين نفي كل صفة إيجابية عنه غير قابل الن يعرف؛ أما
األقنوم الثاني فهو الموجود بالذات ،أي ما يجعل الموجود ذا صورة تجعله
قابال ألن يعرف.
وعن األقنوم الثاني و عالقته بالواحد يقول أميل برهييه :العقل رؤية للواحد،
ومن ثمة هو معرفة بالذات ومعرفة بالعالم المعقول؛ وال يجوز أن نتصور
العالم المعقول وكأنه موجود هامد ال يكون في الوقت نفسه تعقال ،ولنستذكر
أن الوجود هو تأمل وأعمق تصور يمكننا الوصول إليه للعالم المعقول أو
الوجود هو تصور شراكة من العقول( العقول الجزئية) ،وإذا شئنا من
األرواح ،كل واحد منها يتعقل اآلخر بتعقله نفسه فهي جميعا ال تؤلف إال عقال
واحد أو روحا واحدة).
فرضيات أفلوطين عن العقل (األقنوم الثاني) أشد تعقيدا من رؤيته للواحد
الكامل ويرى باحثون كبار كأمثال فؤاد زكريا واميل برهييه أن أفلوطين
توصل الستخالص نتائج جديدة كلية من تعارض أرسطو وأفالطون وقدم
نظرية متقدمة تحدث فيها عن نقاط علمية (كحديثة عن األعصاب باعتبارها
صلة الوصل بين أعضاء الجسم والعقل ،وهي مسألة لم يسبقه فيها أحد) تمكنه
من اإلجابة على كل األسئلة الناجمة عن إشكاليات العالقة بين المادة والروح
وعالقة اإلله بالكون والطبيعة واإلنسان.
وما زالت نظريته أشد تماسكا من نظريات القرن السادس عشر الذي عاصر
فالسفة كبار كديكارت وهيغل.
(على اقنوم العقل إذن أن يكتشف في ذاته كل غنى العالم المعقول(الوجود)،
وتعقله لذاته ال يعطيه فقط عكس الكوجيتو األوغسطيني أو الديكارتي (الشك)
وهو اليقين القاطع بوجوده ،بل كذلك اليقين بمحتواه؛ فعنده تتوقف معرفته،
ومثلما عنده تبدأ).
فإذا كان الواحد الكامل خارج دائرة المعرفة وفوق الوجود فإن العقل هو
موضوع المعرفة وموضوع الوجود ،بل مبتدأ المعرفة وتعقلها ،وبتوسطه بين
األول والنفس يشكل صلة ثنائية ،كما هو حال النفس ،فهو رؤية للواحد
ومعرفة بالعالم المعقول ومنه تفيض النفس ،فاألول ينتج العقل والثاني ينتج
النفس (األقنوم الثالث) التي تتوسط بطبيعتها بين العالم المعقول والعالم
المحسوس.
يقول أفلوطين عن النفس ( وهي حين تلقي بنظرتها إلى الحقيقة السابقة عليها
تفكر ،وحين تنظر ما يليها تنظم وتدبر وتتحكم)
يمكننا أن نالحظ مستوى الصعوبة والتعقيد في فلسفة أفلوطين عندما نقارن
بين باحثين كبيرين تناوال الموضوع ذاته وأقصد مسألة النفس ،ففي الوقت
الذي يحدد فيه اميل برهييه وظيفة النفس الكلية:
(في الواقع فإن النفس ال تنظم كما سنرى ،إال ألنها تتأمل ،بتأثير يفيض عنها
بغير إرادتها؛ فحالها كحال المهندس الذي يتصور أشكاال هندسية فإذا بها
ترتسم من تلقاء نفسها ،فليس لها وظيفة فعالة ربانية إلى جانب تأملها وإنما
هي تأمل محض وبدون أن تبارح األعالي يكون تأملها هو فعلها).
وبالنظر إلى النقطة ذاتها عند فؤاد زكريا من خالل شرحه وتقديمه لترجمة
التساعية الرابعة ،نجده يحدد وظيفة النفس الكلية ،بصياغات تدفع للقناعة
بتدخل مباشر وفعل ذاتي من قبل النفس تجاه العالم والطبيعة والكون ،يقول
فؤاد زكريا:
(النفس الواحدة ،النفس الكلية ،نفس الكون كما يدعوها أفلوطين ،هي الحد
الثالث من المبادئ العليا وهي الواحد والعقل والنفس ،وهي مبدأ الحياة
والنظام في العالم بأسره ،مثلما هي مصدر كل نفس جزئية ،وإذا كانت هذه
النفس تحمي الكون وتنظمه فهي تتغلغل في كل جزء من أجزائه أي أنها
تحيط بكل ما في هذا الكون).
شبه أفلوطين نفسه وظيفة النفس بالربان الذي يقود سفينة في خضم بحر
متالطم األمواج ،فهو ينسى نفسه ويفكر بنجاة السفينة وخالصها فيترفع عن
التفكير إال بالطريقة التي تتيح إيصال السفينة إلى بر األمان ،فهو في السفينة
وليس جزء منها ،وتأثير النفس باألجسام كتأثير النور في الهواء يمر فيها
ويؤثر بها لكنه ليس جزء منها ،حيث يقول :
( النفس أشبه بجسم منير يشع نورا حتى يخفت تدريجيا ،حتى يتحول في
النهاية إلى ظلمة ،وهذه الظلمة أخر الوجودات المادية التي تخلقها النفس،
تقوم النفس في النهاية بتشكيل هذه الظلمة وإضفاء صور عليها وهي ذات
قدرة مطلقة على هذا التشكيل ،إذ يعجز جسم العالم عن الوقوف في سبيل
تنظيمها ،ومن هنا كان اتصاف الكون في مجموعه بالجمال والنظام ،وأهم من
الجمال والنظام الحياة ،فالنفس الكلية تضفي الحياة على العالم وتنقل إليه
الصور والمبادئ ا لتي تلقتها من العقل األعلى ،فالنفس الكلية إذن رسول من
العالم المعقول إلى المحسوس من المستوى االعلى الى المستوى االدنى ،أي
أن االرتباط الوثيق بين العالمين والوحدة الشاملة التي تجمع بين المراتب
المختلفة للموجودات تتم عن طريق النفس الكلية).
الواقع أن نظرية األقانيم الثالثة ونظرية الفيض هي بالمحصلة نظرية الوحدة
المطلقة ،فكل أقنوم ما هو إال اندغام وتوحيد أرفع فأرفع ألعلى بحسب مبدأ
التناغم الحاكم للموجودات ( كل أقنوم لدى أفلوطين إن هو إال اندغام ،توحيد
أرفع فأرفع للعالم وصوال إلى الوحدة المطلقة) هذه الوحدة مقيدة باستقالل
األول وحريته المطلقة وقدرته على أن يكون ما يريد دون ارتباط بأية ماهية
(نوع من طاقة ال متعينة على التحول من حال إلى حال بدون التوقف عند أي
صورة).
يقدم أفلوطين للعالم رؤية خالقة تمزج بين الوحدة المطلقة وتفرد وال تعيين
الواحد األول ،فهو مستقل عن الروح وعن الوجود ،إنه حرية مطلقة ،غير
ومستغن عما سواه ،ولعلي هنا أستشعر معاني فريدة
ٍ مقيدة بخيارات مستقل
من قولة تعالى ( :يسأله من في السماوات واألرض كل يوم هو في شأن)
سورة الرحمن اآلية 29
فهو الواحد الالمتناهي الذي قال به أفلوطين بحرية مطلقة( وجود كائن على
ما هو كائن عليه بذاته وإضافة إلى ذاته ولذاته).
نحن هنا ال نقحم النص القرآني في خضم فلسفة عقلية روحية لكننا نجد من
المفيد التوقف عند دالالت تنطق بها أيات بعينها ،دون جزم أو إصرار ،بقدر
ما هي قراءة لنص ما زال متاحا للتدبر والتفكر.
سبق وتوقفت عند اآلية السابقة في سياق الحديث عن الواحد ،وهنا أنظر
لمعنى آخر غير المتداول.
إن التعرض لفلسفة إشكالية كفلسفة أفلوطين تحتاج لدراسات بل لكتب
ومجلدات ،ال يفيها عرض موجز أو مبسط ،لكنها محاوالت واجتهادات
معرفية تحرضها الرغبة بالتفلسف وإضافة ولو جزئية عما سلف .
فيلسوف مصري كان من كبار فالسفة العالم القديم ويعتبر أبو االفالطونية الحديثة
عاش في الفترة ما بين 270- 205م
يلقب عند المسلمين بالشيخ اليوناني ويعتبر من منظري الطريقة الصوفية
كتاباته الميتافيزيقية كانت مصدر الهام على مر القرون للكثيرين
من وثنيين و يهود و مسحيين ومسلمين و صوفيين وغنوصيين