You are on page 1of 18

‫سلسلة تعلم الفلسفة‬

‫أفلوطين‬
‫دراسة معمقة في نظرية‬
‫الفيض االلهي‬

‫عالء محمد أبوغليون‬


‫أفلوطين ونظرية الفيض‬

‫عالء محمدأبوغليون‬

‫تقوم فلسفة أفلوطين بشكل عام على أساس أن العالمين األعلى واألدنى (ال ُمثُل‬
‫سات)‪ ،‬تربطهما النفس اإلنسانية ( النفس الكلية) ‪ ،‬وأن الفلسفة هي‬
‫سو َ‬
‫وال َمح ُ‬
‫س ُم َو‬
‫الطريق الوحيد للتعرف على الحقائق العُل ِويَة‪ .‬كما يرى أفالطون أن ُ‬
‫النفس وشفافيتها تَ ُكون عن طريق كبح الغرائز والرغبات ِ‬
‫الح ِسيَة لتستطيع أن‬
‫شفَة لمعرفة ال ِعلم الحق‪ ،‬وبالتالي معرفة هللا‪.‬‬
‫تصنع ال ُمكا َ‬

‫ويرى أفلوطين أن النفس بطبيعتها نقية وطاهرة‪ ،‬ولكن حبسها في الجسد‬


‫المادي يفقدها نقائها‪ ،‬فالجسد سجن‪ ،‬والنفس تعيش بداخله في شقاء وخوف‬
‫وشرور‪ ،‬ولكن وجودها بداخل الجسد ال يفقدها طبيعتها النقية‪ ،‬إذا ما كان‬
‫العقل واعيا ً ليجنبها الشهوات‪.‬‬

‫ورسخ أفلوطين لعلم نفس قائم على تدرج مراتب الحاالت الروحية‪ ،‬ففي‬
‫الدرجات العليا من هذه الحاالت‪ ،‬يختفي الشعور بالشخصية‪ ،‬ويزول االنتباه‬
‫إلى األشياء الخارجية‪.‬‬

‫سو َعة الخامسة‪ ،‬التي‬


‫ويقال إن األفالطونية الحديثة تبدأ عند أفلوطين من التَا ُ‬
‫شرح فيها ِحوار (بارمنيدس) بشكل رأى الكثيرون أنه قد وضع يده على سر‬
‫األفالطونية بِ ُر َمتِه‪.‬‬
‫يتساءل محمد أركون في كتابه (نحو تاريخ مقارن لألديان التوحيدية)‬
‫لماذا نريد العودة إلى الماضي البعيد ودراسة أنظمة الفكر القديمة تلك؟‬
‫ويجيب ‪:‬‬
‫لكي نفرز ممكنات التفكير فيها ومستحيالت التفكير فيها بالقياس إلى ما‬
‫فرضته الحداثة الفكرية منذ القرن السادس عشر من ممكن التفكير فيه‬
‫ومستحيل التفكير فيه سوف ننقد الحداثة والقدامة ونستكشف الحلول الممكنة‬
‫للخروج من المأزق الحالي‪ ،‬نريد أن نستكشف إمكانيات بلورة فكر جديد‬
‫يخص ما دعاه أركون‪( :‬بالتاريخية الجديدة لعقل آخر أو عقالنيات أخرى أو‬
‫ممكنات فكرية جديدة ومستحيالت فكرية جديدة مرتبطة بها)‬
‫هذا مبرر ما نقوم به من اركيولوجيا بحثية تسعى لتسطير أبستمولوجيا‬
‫إضافية تشتغل على محورين‪ :‬األول الحقيقة والثاني الخالص‪.‬‬
‫فنحن في زمن تاهت فيه الحقيقة أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬حيث تزدهر‬
‫األساطير والغيبيات الالمعقولة‪ ،‬لتتدخل بفظاظة بالغة في صناعة وتشكيل‬
‫مظاهر حياتنا سلما وحربا عيشا وموتا‪ ،‬زمن بات الخالص الفردي مرهون‬
‫بموت جماعي وانتحار على محراب الخديعة وارضاء لشهوات سلطوية‬
‫وهيمنة أكليريوسية جديدة على مصائر الشعوب والدول‪ ،‬نريد كسر احتكار‬
‫الحقيقة وترك خيارات الخالص مفتوحة ‪.‬‬
‫)فبيت القصيد في المقام األول االنتقال من دائرة تكون فيها المعرفة والسعادة‬
‫مستحيلتين إلى دائرة تكونان فيها ممكنتين)‪.‬‬
‫نظرية الفيض ( االفلوطونية الجديدة )‬

‫بين الوثنية والتوحيد الخالص تتراوح التفسيرات الميتافيزيقية لألفلوطونية‬


‫الجديدة حسب رؤية أصولية بحته‪ ،‬لكن من الخطأ الفادح انزال النظريات‬
‫الفلسفية في ميزان ومعيار ومقاييس األصولية‪ ،‬فسياقات الفلسفة هي غير‬
‫سياقات البحث الديني وأدوات وعدد البحث الفلسفي مفارقة للبحث الديني‪،‬‬
‫فمن حيث نقطة البداية البحث الديني مضبوط ببداية ونهاية ال حياد عنها‪ ،‬أما‬
‫البحث الفلسفي فينطلق من أوليات سابقة على تاريخية األديان ‪ ،‬تسعى لنتائج‬
‫واستنتاجات وأحكام غير مكترثة بالسابق‪ ،‬وال تعنيها معايير الصواب والحق‬
‫المطلقة‪ ،‬فهي بالرغم من كلياتها وأولياتها تترك الحقيقة نسبية مفتوحة لكل ما‬
‫يعتري العقل الباحث من تغيرات وتبدالت وفق معطيات جديدة ومستجدة‬
‫وإعادة النبش بالحقيقة القديمة ‪.‬‬
‫تتلمذ أفلوطين ( ‪ 205‬ـ ‪270‬م )ـ بمدرسة اإلسكندرية ـ على ساكس أمونيوس‬
‫من ‪ 232‬م إلى ‪243‬م وفارقه ليواكب اإلمبراطور غورديانوس في حملته‬
‫على الفرس‪ ،‬وفي سنة ‪245‬م قدم إلى روما ولبث فيها إلى حين مماته ولقد‬
‫اجتمع له فيها بضعة تالميذ متحمسين‪ ،‬منهم فورفوريوس أمين سره‪.‬‬
‫إذن المصدر الرئيس وربما الوحيد لفلسفة أفلوطين هو ما دونه تلميذه‬
‫فورفوريوس في كتابه عن حياته ضمن الرسائل األربع والخمسون التي‬
‫جمعها بعد وفاة معلمه‪ ،‬في مصنف واحد ووزعها على ستة أقسام داخل كل‬
‫قسم تسع رسائل فسميت بالتاسوعات‪.‬‬

‫لنفهم النظرية األفلوطينية في األقانيم أو (المبادئ) علينا التأمل في مقوالته‬


‫ذاتها ‪:‬‬
‫اوال ‪ :‬الوجود تابع دوما في الواقع للواحد‪ ،‬والواحد مبدأ الوجود‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬وجود الموجود ال يمكن إدراكه إال بإرجاعه إلى اصله االكمل‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬العقل في العلم واحد ألنه يتأمل موضوعا واحدا ؛ وما يضفي وحدة‬
‫على الوجود األدنى هو تأمل المبدأ األعلى‪.‬‬

‫يقول أفلوطين ‪ :‬يوجد (أنا) عليا متعا ٍل بشكل كلي‪ ،‬وجوده منفصل عن أي‬
‫وجود آخر‪ ،‬وهو األكثر اكتماال‪ ،‬غير قابل لالنقسام أو التجزئة‪ ،‬وال‬
‫للمضاعفة ثابت ‪ ،‬غير قابل للتغيير والتمييز‪ ،‬وهو بعيد عن كل تصنيفات‬
‫الكائنات وغير الكائنات‪ ،‬وهو الواحد ال يمكن أن يكون أي شيء موجود‪،‬‬
‫وهو أيضا ليس مجرد مجموع األشياء‪ ،‬فهو منفصل عن جميع االشياء‪.‬‬

‫نالحظ أن افلوطين يأخذ بوجهة نظر الرواقيين حرفيا حيث يقول الرواقيون ‪:‬‬
‫إن درجة وجود موجود من الموجودات ترتهن بدرجة اتحاد أجزائه بدءاً من‬
‫كومة الحجارة‪ ،‬التي ال تعدو أجزاؤها أن تكون مصطفة دون التحام‪ ،‬ومرورا‬
‫بجسم جماعي مثل الجيش‪ ،‬وانتهاء بالكائن الحي الذي تتماسك أجزاؤه كلها‬
‫بتوتر النفس‪.‬‬
‫حدد هذا الواحد مفهوم الخير ومبدأ الجمال ويشمل عند أفلوطين ثنائية المفكر‬
‫والشيء الذي هو فكره ـ المفكر والشيءـ حتى الذكاء الذي يتأمل في ذاته‬
‫يحتوي على إزدواج أو ثنائية‪.‬‬
‫النوس (العقل الفياض) يجب أن يحتوي على الثنائية واالزدواج‪ ،‬فالواحد‬
‫مفهوم يشمل المفكر‪ ،‬والواحد يجري وراء كل السمات بما في ذلك الوجود‬
‫والعدم‪ ،‬بما أنه كامل واألكثر كماال وكل فيض أو انبعاث أو خلق ينبع من‬
‫الواحد يكون أقل كماال‪.‬‬
‫نستطيع القول بأن العناصر األولى المكونة لفلسفة أفلوطين ترجع بأسسها إلى‬
‫كل من ‪:‬‬
‫اوال‪ :‬نظرية خلود النفس وكونها جوهرا عند أفالطون‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬نظرية الفيض عند أرسطو‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مذهب الوحدة عند الرواقيين‪.‬‬
‫لكن ذلك ال يعني أن أفلوطين لم يقدم جديدا بل على العكس تماما قدم نظرية‬
‫متماسكة منطقية ـ قابلة للنقد وربما النقض بكل تأكيد ـ‬
‫لماذا ال يبقى الواحد وحيداً؟ لماذا ال يبقى الوجود مندغما فيه أبدا؟‬
‫لالجابة على هذا السؤال يجب ان نحلل فكرة افلوطين كتالي ‪:‬‬

‫الواحد هو األقنيم األول ‪ :‬الواحد الكامل ‪ ،‬الوحدة المطلقة المجردة عن‬


‫األشكال والصور‪ ،‬أوجد القدرة على الفعل‪ ،‬هو نبع الوجود‪ ،‬وهو أول‬
‫باعتباره سابقا على كل موجود آخر‪ ،‬األول أو الواحد أو الخير صفات موجبة‬
‫أو صور للواحد‪ ،‬واحد باعتباره مبدأ موحدا‪ ،‬وهو خير بصفته غاية وهدف‪،‬‬
‫غير أن التعابير ال تعين ماهيته ألنه بحصر المعنى ليس شيئا وال حتى واحدا‬
‫أو خيرا؛ وإنما هو فقط مترفع عن الماهية‪.‬‬

‫بتبسيط أكثر يشرح نظرية األقانيم الثالثة على الشكل التالي ‪:‬‬
‫‪-1‬االقنيم االول( الواحد) ‪ :‬وهو الواحد أو الموجود األول ‪ ،‬وهو ينعت بعدة‬
‫أسماء على نحو متنوع ‪:‬‬
‫المطلق الخير ‪ ،‬الالمتناهى ‪ ،‬اآلب ‪ ( ،‬أول األقانيم الثالثة ) ‪ ،‬وهو الغاية أو‬
‫الهدف الذي يطمح إليه الكل ‪ ،‬ومن هذا الواحد يكون الفيض األول ( الفكر أو‬
‫العقل اإللهي )‪.‬‬
‫‪ -2‬االقنيم الثاني(العقل االلهي) ‪ :‬وهو الفكر اإللهي وهو العقل اإللهي‬
‫ويترجم إلى أكثر من معنى ‪:‬‬
‫عقل أو عقل إلهي ‪ ،‬فكر أو مبدأ عقلي الروح ‪ ،‬وهو واسطة بيننا وبين الواحد‬
‫الذي معرفته فوق قدرتنا على المعرفة‪ ،‬وهو عقل كلي يتضمن جميع العقول‬
‫الجزئية‪ ،‬والوحدة الكاملة للعقول اإللهية‪ ،‬يمثل المعرفة في لغة أفالطون وهو‬
‫المثل و المثل هي العلل القديمة أو الصور العقلية لكل ما هو محسوس‪.‬‬

‫‪-3‬االقنيم الثالث(نفس الكلية)‪ :‬ومن العقل تصدر النفس الكلية أو روح الكل ‪،‬‬
‫كذلك العقل اإللهي له فعالن‪:‬‬
‫إلى أعلى تتأمل الواحد وإلى أسفل التكوين أو اإليجاد ‪ ،‬لذلك النفس الكلية‬
‫بواسطة جزئها اإللهي تتأمل العقل اإللهي بواسطة جزئها الهابط أو المبدأ‬
‫العقلي‪ ،‬ويتكون الكون أو العالم المدرك المحسوس على غرار النماذج‬
‫المعقولة ‪ ،‬وبتالي النفس الكلية تكون كل النفوس بما فيها نفس اإلنسان لذلك‬
‫تكون نفس الكل‪.‬‬

‫لماذا ال يبقى الواحد وحيدا ‪ ،‬ولماذا ال يبقى الوجود مندغما أو مندمجا فيه‬
‫أبدا؟‬

‫إن كل موجود كامل ينتج ( متى صار إلى النضج ) شبيهه‪ ،‬شيمته في ذلك‬
‫شيمة الكائن الحي؛ ويكون هذا االنتاج عن غير وعي‪ ،‬عن غير إرادة‪ ،‬ومرده‬
‫إلى ضرب من ضروب الغزارة‪ ،‬كغزارة الينبوع حينما يطفح ـ يفيض ـ أو‬
‫كغزارة النور حين ينتشر‪ ،‬فالكائن الحي والينبوع والنور ال تخسر شيئا‬
‫بانتشارها‪ ،‬بل تحتفظ في ذاتها بالوجود كله)‪.‬‬

‫ربما يصح لنا وصف عن ذلك الفيض أو االنبثاق أو االنتشار عن الواحد‬


‫الكامل باألبداع األول‪.‬‬
‫إن الناتج عن الفيض األول يتوق إلى أن يبقى لصيق لمنتِجه‪ ،‬فمنه يتلقى‬
‫وجوده كله( كالماء الفائض عن الينبوع )؛ فما إن ينبثق عنه حتى يلتفت إليه‬
‫ليتأمله‪ ،‬وفي فعل االلتفات أو االرتداد هذا يتولد ـ تولدا قديما ال زمنيا بطبيعة‬
‫الحال ـ األقنوم الثاني الذي هو في آن معا وجود وعقل وعالم معقول‪.‬‬
‫إن كل طور من أطوار الفيض ‪ ،‬أو االنبثاق ‪ ،‬أو التولد ‪ ،‬تكون هبوط أو‬
‫ابتعاد متعاظم عن األعلى إلى الكثرة‪ ،‬عن الطور الذي سبقه‪ ،‬وعلينا إدرك‬
‫هذا التولد باعتباره قديما ال زمنيا‪ ( ،‬ال يجوز أن يغيب عنا أن هذه الحركة‬
‫مكتمله منذ القدم وأن هذا التسلسل الهرمي ثابت منذ القدم‪ ،‬وأن عقلنا هو وحده‬
‫الذي يتحرك في مروره به)‪.‬‬
‫لذألك نالحظ أن كل ما ينتج عن الطور االول يتحرك مبتعدا الى الكثرة لذألك‬
‫اليكون مندمجا في ما قبله من اقنيم‪.‬‬

‫كتب فورفوريس ما أماله عليه أستاذه أفلوطين وجمع ما كتبه المعلم بيده وما‬
‫سمعه التلميذ وفق ترتيب منهجي محافظا على الترتيب الذي مرت به الفترة‬
‫الزمنية الطويلة لتأليف وكتابة التساعيات‪ ،‬الجدير ذكره أن أفلوطين لم يبدأ‬
‫بكتابة أفكاره ومذهبه وصياغة فلسفته إال بعد ما بلغ الخمسين من عمره‪،‬‬
‫واستغرقت الصياغة الكلية لمقاالته البالغة أربعة وخمسين مقاالً ضمتها ست‬
‫تساعيات‪ ،‬ما يربو على الخمسة عشر عاما‪ ،‬ما يعطينا فكرة عن مدى وصول‬
‫وتأن‬
‫ٍ‬ ‫الفيلسوف لقناعات أولية ـ حسب المنطق الفلسفي ـ كانت نتيجة صبر‬
‫ومماحكة وترحال بين الشرق والغرب ما يدلنا على رصانة مذهبه وتكامل‬
‫فلسفته‪ ،‬مع العلم بأن دراسة أفلوطين من أعقد المذاهب الفلسفية‪ ،‬ليس بسبب‬
‫كونها غير جلية أو مشوشة أو غير ناضجة‪ ،‬بل على العكس فهي من أكثر‬
‫النظريات الفلسفية عمقا ووضوحا وتماسكا‪ ،‬تمتلك االجابات والبراهين وتحيط‬
‫بتفاصيل موضوعها‪ ،‬إنها مدرسة فلسفية بلغت سن الرشد‪ ،‬ويكمن مصدر‬
‫شموليتها وصعوبتها بالنظر لتعدد مصادرها وسياقاتها المتناقضة من صلب‬
‫العقالنية األرسطية اليونانية‪ ،‬مرورا بمثالية أفالطون وصوالً إلى الفلسفات‬
‫ا لشرقية الهندية والفارسية‪ ،‬وال يخفى على الباحث الحصيف الميل لتأثر‬
‫أفلوطين بالبيئة المصرية التي ولد فيها وقضى ردحا طويال من عمره في‬
‫مدرسة االسكندرية الشهيرة‪.‬‬
‫كتب أفلوطين مذهبه مانحا العالم أطروحة فلسفية تشبثت بالتراث اإلنساني‬
‫الفلسفي الممتد من منتصف القرن الثالث الميالدي إلى يومنا الحالي في العقد‬
‫الثاني من األلفية الثالثة‪ ،‬ما زالت تقدم تفسيرات عقالنية وروحية للميتافيزيقية‬
‫التي تأبى الزوال أو االندثار ‪.‬‬

‫نالحظ من خالل عناوين التساعيات الست أن الثالث األول كانت تمهيدا‬


‫لتالياتها الرابعة والخامسة والسادسة‪ ،‬حيث كانت الثالث األخيرة شارحة عن‬
‫األقانيم الثالث ونظرية الفيض أو االنبثاق (راعى فورفوريوس أن يجمع في‬
‫التساعية األولى ما يتعلق باإلنسان واألخالق ‪ ،‬وفي الثانية والثالثة يتحدث عن‬
‫العالم المحسوس والعناية‪ ،‬وفي كل واحد من الثالثة‪ ،‬النفس والعقل والواحد أو‬
‫الخير‪ ،‬لكن الواقع أن كل تساعية من هذه ال تقتصر على موضوع بحث واحد‬
‫بعينه بل تتشعب أحاديثه فيها حتى تتناول كل الموضوعات)‪.‬‬

‫كتب أفلوطين أربعة وخمسين مقاالً جمعها فورفوريوس بعد موته في ست مجموعات‪ ،‬تحتوي كل مجموعة منها‬
‫تسع مقاالت ومن هنا سميت بالتساعيات فهي ست مجموعات فيها تسع مقاالت‪.‬‬
‫توقف أفلوطين طويال عند عالقة النفس الكلية ـ باعتبارها األقنوم الثالث ـ‬
‫بالطبيعة والمادة واألنفس الجزئية وأعطاها خصائص مزدوجة باعتبارها‬
‫صلة الوصل بين عالم المعقوالت (العقل الكلي) وعالم الماديات وأوكل إليها‬
‫مهام جسام فهي تهب الحياة للكون وتنظمه يقول أفلوطين‪:‬‬
‫( أما المادة فهي أخر سلسلة الموجودات وأدناها‪ ،‬وهي تنشأ عن النفس التي‬
‫تود دائما أن تحاكي المبدأ األول في فيضه ‪ ،‬فدفق الواحد وفيضه يظل متدفق‬
‫حتى أخر الموجودات متنقلة من موجود إلى األدنى منه‪ ،‬وبتالي امتداد قوة‬
‫الواحد إلى مراحل الوجود)‬
‫هذا الكالم المقتبس من كتابه ربما يؤيد إمكانية انتساب مذهبه إلى (وحدة‬
‫الوجود) بشرط أن ندرك هذا المعنى الخاص الذي يتخذه منهجه هنا‪ ،‬معنى‬
‫انبعاث قوة األول وفاعليته في كل مراتب الوجود مع بقائه في ذاته دون أدنى‬
‫تبدد‪.‬‬
‫من خالل عالقة الموجودات ببعضها البعض تنقسم تلك الموجودات إلى‬
‫قسمين‪:‬‬
‫األول‪ :‬علوي بأقانيمه الثالثة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬دنيوي ويتألف من الطبيعة والكون واألنفس الجزئية‪ ،‬وهي عالقة‬
‫دينامية أزلية فاألدنى يتطلع دائما نحو النزوع إلى األعلى طلبا للعناية‬
‫والرعاية ‪ ،‬وهذا التطلع العلوي مكنون في بذرة الوجود التي صدرت أو‬
‫انبعثت من الواحد االول ـ دون اتصال ـ فطبيعة الوجود اقتضت نزوعا دائما‬
‫نحو العلو يقل كلما تدنت مراحل الوجود الدنيوي المادي‪.‬‬
‫ووفقا لشرح أفلوطين فالخير صفة أولية لألقانيم الثالثة في حين أن الشر هو‬
‫من صفات المادة‪ ،‬ووجد كنتيجة لبعد السفلي عن العلوي‪ ،‬وكلما ارتقى‬
‫الدنيوي بسموه وأخالقة ونزاهته كلما كان أقرب إلى العلوي الخير بعيدا من‬
‫الشر‪ ،‬فبالفضيلة والصفاء النفسي والسمو السلوكي ينال الدنيوي شرف‬
‫التواصل مع العلوي‪.‬‬
‫فالرذيلة ووهن النفس وكل ما يبدو هو الشر في ذاته‪ ،‬ما هو بشر إال ألن‬
‫النفس تدخل في اتصال مع المادة‪ ،‬وتغرق في حمأة التغير بسبب هذا‬
‫االتصال؛ ويكون تطهرها منه ال بسيطرتها عليه بل بالهرب منه‬
‫هكذا ترتسم مالمح التصوف الشرقي في نظرية االنبثاق األفلوطونية حين‬
‫يشب االنبثاق بين الموجودات بانبثاق النور من األعلى دونما انتقاص أو‬
‫تغيير في حين يتلقى العالم السفلي النور المتالشي تدريجيا مع ظلمة المادة‪.‬‬
‫فمنبع النور ثابت ال يعتيريه النقص أو التغيير اللتان هما صفتان مالزمتان‬
‫للمادة المتعرضة للفساد بفعل نشأتها الطارئة وقابليتها الدائمة للتبدل‪.‬‬
‫من المفيد نقل ما أورده فورفوريوس عن أستاذه وإمامه أفلوطين‪ ،‬أنه بعد‬
‫طول تأمل ومجالدة وتصفية روحية حق للمعلم االتصال بالواحد أربع مرات‬
‫طيلة عمره المديد‪ ،‬في حين لم يتحقق االتصال للتلميذ سوى مرة واحدة‪ ،‬وهو‬
‫اتصال عقلي ناجم عن سمو وتعا ٍل للنفس الجزئية التي كان لها شرف‬
‫االرتقاء‪.‬‬
‫(وتلكم أعلى درجة يمكن لإلنسان أن يبلغ إليها‪ :‬الجذب األعلى من الفكر‬
‫والعقل معا)‬
‫يقول أفلوطين‪:‬‬
‫الوجود الالمتمايز في الواحد ينبث (يفيض) في كثرة متسلسلة هرميا من‬
‫األجناس واألنواع‪ ،‬فنراها تتشكل بمقتضى ضرب من الجدل النازل والحركة‬
‫الروحية‪ ،‬بدءا من األجناس العليا؛ على أنه ال يجوز أن يغيب عنا أن هذه‬
‫الحركة مكتملة منذ القدم‪ ،‬وأن التسلسل الهرمي للمعقوالت ثابت منذ القدم وأن‬
‫عقلنا هو وحده الذي يتحرك مرورا به‪.‬‬
‫الوجود الال متمايز يوحي بثقة بانتفاء الزمان والمكان عند المبدأ األول ـ‬
‫الواحد الكامل ـ وعند المبدأ الثاني ـ العقل ـ ‪ ،‬لكن الزمان يسري على المبدأ‬
‫الثالث ـ النفس ـ التي هي بذاتها متجرده عن الزمان والمكان ألنها علوية‬
‫ولكن بحكم موقعها المتوسط بين العقل والمادة كانت ذات ثنائية باعتبار‬
‫موقعها وارتباطها بين العلوي والسفلي‪ ،‬فهي من جهة ( تأملها الدائم للعقل‬
‫الذي يعلوها ال تخضع للزمان‪ ،‬أما النفوس الفردية فتتعرض للتغيير وذلك‬
‫ألنها لها صلة بالعالم المتغير بخالف صلتها بالعالم المعقول)‪.‬‬

‫لكن لماذا يصر الباحثون على أن فلسفة أفلوطين توحيدية مع اعتباره أللوهية‬
‫العقل والنفس ؟‬
‫ألن أفلوطين يعتقد بأن الواحد ‪ ،‬األول ‪ ،‬الكامل ‪ ،‬واحد في كينونته ال يعترية‬
‫التغيير أوالتبدل غير قابل لإلحاطة والوصف ال تشابه بينه وبين من دونه‪،‬‬
‫وهو فوق الوجود فالحديث عنه خارج نطاق االنطلوجيا الميتافيزيقية‪ ،‬أي أنه‬
‫ليس موضوعا للمعرفة‪.‬‬
‫اما األقنوم الثاني‪ ،‬هو العقل فهو عالم حقيقي ‪ ،‬تام كامل ‪ ،‬ال محض رسم‬
‫مجرد للعالم المحسوس‪ ،‬وهو أيضا الوجود والماهية‪ ،‬أي المحتوى العيني‬
‫اإليجابي لشيء يجعل منه موضوعا للمعرفة‪ ،‬بتالي األقنيم األول فهو فوق‬
‫الوجود وكان يتعين نفي كل صفة إيجابية عنه غير قابل الن يعرف؛ أما‬
‫األقنوم الثاني فهو الموجود بالذات‪ ،‬أي ما يجعل الموجود ذا صورة تجعله‬
‫قابال ألن يعرف‪.‬‬

‫يقدم أفلوطين بديال عن األرثوذكسية المسيحية ـ فكرة إنشاء العدم من ال‬


‫شيء‪ -‬التي تعزوها المسيحية لصفات هللا‪ ،‬ولننتبه للفارق األصيل بين‬
‫الرؤيتين‪ ،‬الفيض أو االنبثاق أو الصدور عن الواحد عند أفلوطين يفسر‬
‫انكشاف الوجود أو ظهوره ولكنه ليس خلقا من الواحد المتعال الذي ال يدرك‬
‫وال يوصف‪ ،‬فكينونة قبل العدم وقبل الوجود شيء له وحدانيته الفريدة‬
‫المتمايزة الغير مشبهه ‪.‬‬
‫شهُ على الماء وكتب في الذكر ك َّل‬‫غيره‪ ،‬وكان عر ُ‬
‫(كان هللاُ ولم يكن شىء ُ‬
‫شىء‪ ،‬ثم خلقَ السموات واألرض‪).‬‬

‫يبدو الوصف األولي أو باألصح االفصاح األولي عن هللا حسب معتقد‬


‫المسل مين السنة ( كان هللا ولم يكن شيء غيره )‪ ،‬قريب إلى حد التكامل مع‬
‫فكرة الواحد الكامل‪ ،‬ويبدأ التباين بين المسلمين وافلوطين عند فكرة الخلق‬
‫وموجد الوجود‪ ،‬وعالقة الوجود بالواحد‪ ،‬وال يمكننا في‬
‫ِ‬ ‫ومعقولية الوجود‬
‫عمق البحث إال مالحظة نوع من التماهي للمعتقدات الصوفية اإلسالمية مع‬
‫التفسير األنطلوجي (الميتافيزيقي) للوجود ومع التعالي الترنستندالي للواحد‬
‫كما هو مبثوث في كتب التوحيد لإلشراقيين والقائلين بوحدة الوجود كما‬
‫وردت معنا في سياق سابق من األبحاث‪.‬‬
‫فالفكرة األفلوطونية معقدة ومتكاملة ال تترك تساؤال إال وتجيب عليه في حين‬
‫تميل العقلية السنية على التبسيط وتعلق التفسير باسناده لصفات هللا دون‬
‫سواه‪.‬‬
‫الواحد الكامل هو نور وضياء بل هو مصدر النور والضياء قبل كل نور‬
‫وضياء ووجود ال يعتمد على غيره بل غيره يعتمد عليه ويستمد وجوده منه‪،‬‬
‫وهو ثابت ال يتغير ـ خالفا لمعاني سلفية لقوله تعالى ( كل يوم هو في شأن )‬
‫سورة الرحمن اآلية (‪)29‬‬
‫فشؤون الكون عند أفلوطين تتوالها النفس المنبثقة عن العقل المنبثق عن‬
‫الواحد‪ ،‬ولكن يمكننا استيعاب فكرة تدبير شؤون الكون واألنفس الجزئية‬
‫بردها إلى الواحد باعتبار ما انبثق وفاض فتكون التفسيرات متالحقة تتيح‬
‫قدرا من نسق توحيدي يفرض نفسه في المحصلة حسب فكرة االندغام‬
‫المتمثل بتعلق ما فاض أو انبثق بمصدر الفيض وتأمله نحو األعلى ووفق مبدأ‬
‫اللوغس (العقل) أو مبدأ التناغم‪ ،‬ف ِلك ِل موجود في العالم مكان ودور يضمنان‬
‫له التناغم مع الكل( وهو ينفعل أو يستقبل كل ما هو الئق ومناسب بهذه‬
‫الصفة) فما قد يظنه شر أو خير قد ال يكون كذلك‪.‬‬
‫كتب أفلوطين متحدثا عن الواحد الكامل او األقنوم األول ‪ :‬أننا ال يجب أن‬
‫نقول إنه سوف نراه ولكن سيكون ما يراه بحيث ال يمكن التمييز بين الرائي‬
‫والمرئي بين الشاهد وال ُمشاهد لكن ذلك ال يسمح لنا باعتبار االثنين واحد‪.‬‬

‫وعن األقنوم الثاني و عالقته بالواحد يقول أميل برهييه‪ :‬العقل رؤية للواحد‪،‬‬
‫ومن ثمة هو معرفة بالذات ومعرفة بالعالم المعقول؛ وال يجوز أن نتصور‬
‫العالم المعقول وكأنه موجود هامد ال يكون في الوقت نفسه تعقال‪ ،‬ولنستذكر‬
‫أن الوجود هو تأمل وأعمق تصور يمكننا الوصول إليه للعالم المعقول أو‬
‫الوجود هو تصور شراكة من العقول( العقول الجزئية)‪ ،‬وإذا شئنا من‬
‫األرواح‪ ،‬كل واحد منها يتعقل اآلخر بتعقله نفسه فهي جميعا ال تؤلف إال عقال‬
‫واحد أو روحا واحدة)‪.‬‬
‫فرضيات أفلوطين عن العقل (األقنوم الثاني) أشد تعقيدا من رؤيته للواحد‬
‫الكامل ويرى باحثون كبار كأمثال فؤاد زكريا واميل برهييه أن أفلوطين‬
‫توصل الستخالص نتائج جديدة كلية من تعارض أرسطو وأفالطون وقدم‬
‫نظرية متقدمة تحدث فيها عن نقاط علمية (كحديثة عن األعصاب باعتبارها‬
‫صلة الوصل بين أعضاء الجسم والعقل‪ ،‬وهي مسألة لم يسبقه فيها أحد) تمكنه‬
‫من اإلجابة على كل األسئلة الناجمة عن إشكاليات العالقة بين المادة والروح‬
‫وعالقة اإلله بالكون والطبيعة واإلنسان‪.‬‬
‫وما زالت نظريته أشد تماسكا من نظريات القرن السادس عشر الذي عاصر‬
‫فالسفة كبار كديكارت وهيغل‪.‬‬
‫(على اقنوم العقل إذن أن يكتشف في ذاته كل غنى العالم المعقول(الوجود)‪،‬‬
‫وتعقله لذاته ال يعطيه فقط عكس الكوجيتو األوغسطيني أو الديكارتي (الشك)‬
‫وهو اليقين القاطع بوجوده‪ ،‬بل كذلك اليقين بمحتواه؛ فعنده تتوقف معرفته‪،‬‬
‫ومثلما عنده تبدأ)‪.‬‬
‫فإذا كان الواحد الكامل خارج دائرة المعرفة وفوق الوجود فإن العقل هو‬
‫موضوع المعرفة وموضوع الوجود‪ ،‬بل مبتدأ المعرفة وتعقلها‪ ،‬وبتوسطه بين‬
‫األول والنفس يشكل صلة ثنائية‪ ،‬كما هو حال النفس‪ ،‬فهو رؤية للواحد‬
‫ومعرفة بالعالم المعقول ومنه تفيض النفس‪ ،‬فاألول ينتج العقل والثاني ينتج‬
‫النفس (األقنوم الثالث) التي تتوسط بطبيعتها بين العالم المعقول والعالم‬
‫المحسوس‪.‬‬
‫يقول أفلوطين عن النفس ( وهي حين تلقي بنظرتها إلى الحقيقة السابقة عليها‬
‫تفكر‪ ،‬وحين تنظر ما يليها تنظم وتدبر وتتحكم)‬
‫يمكننا أن نالحظ مستوى الصعوبة والتعقيد في فلسفة أفلوطين عندما نقارن‬
‫بين باحثين كبيرين تناوال الموضوع ذاته وأقصد مسألة النفس‪ ،‬ففي الوقت‬
‫الذي يحدد فيه اميل برهييه وظيفة النفس الكلية‪:‬‬
‫(في الواقع فإن النفس ال تنظم كما سنرى‪ ،‬إال ألنها تتأمل‪ ،‬بتأثير يفيض عنها‬
‫بغير إرادتها؛ فحالها كحال المهندس الذي يتصور أشكاال هندسية فإذا بها‬
‫ترتسم من تلقاء نفسها‪ ،‬فليس لها وظيفة فعالة ربانية إلى جانب تأملها وإنما‬
‫هي تأمل محض وبدون أن تبارح األعالي يكون تأملها هو فعلها)‪.‬‬

‫وبالنظر إلى النقطة ذاتها عند فؤاد زكريا من خالل شرحه وتقديمه لترجمة‬
‫التساعية الرابعة‪ ،‬نجده يحدد وظيفة النفس الكلية‪ ،‬بصياغات تدفع للقناعة‬
‫بتدخل مباشر وفعل ذاتي من قبل النفس تجاه العالم والطبيعة والكون‪ ،‬يقول‬
‫فؤاد زكريا‪:‬‬
‫(النفس الواحدة ‪ ،‬النفس الكلية ‪ ،‬نفس الكون كما يدعوها أفلوطين ‪ ،‬هي الحد‬
‫الثالث من المبادئ العليا وهي الواحد والعقل والنفس‪ ،‬وهي مبدأ الحياة‬
‫والنظام في العالم بأسره‪ ،‬مثلما هي مصدر كل نفس جزئية‪ ،‬وإذا كانت هذه‬
‫النفس تحمي الكون وتنظمه فهي تتغلغل في كل جزء من أجزائه أي أنها‬
‫تحيط بكل ما في هذا الكون)‪.‬‬
‫شبه أفلوطين نفسه وظيفة النفس بالربان الذي يقود سفينة في خضم بحر‬
‫متالطم األمواج‪ ،‬فهو ينسى نفسه ويفكر بنجاة السفينة وخالصها فيترفع عن‬
‫التفكير إال بالطريقة التي تتيح إيصال السفينة إلى بر األمان‪ ،‬فهو في السفينة‬
‫وليس جزء منها‪ ،‬وتأثير النفس باألجسام كتأثير النور في الهواء يمر فيها‬
‫ويؤثر بها لكنه ليس جزء منها ‪ ،‬حيث يقول ‪:‬‬
‫( النفس أشبه بجسم منير يشع نورا حتى يخفت تدريجيا‪ ،‬حتى يتحول في‬
‫النهاية إلى ظلمة‪ ،‬وهذه الظلمة أخر الوجودات المادية التي تخلقها النفس‪،‬‬
‫تقوم النفس في النهاية بتشكيل هذه الظلمة وإضفاء صور عليها وهي ذات‬
‫قدرة مطلقة على هذا التشكيل‪ ،‬إذ يعجز جسم العالم عن الوقوف في سبيل‬
‫تنظيمها‪ ،‬ومن هنا كان اتصاف الكون في مجموعه بالجمال والنظام‪ ،‬وأهم من‬
‫الجمال والنظام الحياة‪ ،‬فالنفس الكلية تضفي الحياة على العالم وتنقل إليه‬
‫الصور والمبادئ ا لتي تلقتها من العقل األعلى‪ ،‬فالنفس الكلية إذن رسول من‬
‫العالم المعقول إلى المحسوس من المستوى االعلى الى المستوى االدنى‪ ،‬أي‬
‫أن االرتباط الوثيق بين العالمين والوحدة الشاملة التي تجمع بين المراتب‬
‫المختلفة للموجودات تتم عن طريق النفس الكلية)‪.‬‬
‫الواقع أن نظرية األقانيم الثالثة ونظرية الفيض هي بالمحصلة نظرية الوحدة‬
‫المطلقة‪ ،‬فكل أقنوم ما هو إال اندغام وتوحيد أرفع فأرفع ألعلى بحسب مبدأ‬
‫التناغم الحاكم للموجودات ( كل أقنوم لدى أفلوطين إن هو إال اندغام‪ ،‬توحيد‬
‫أرفع فأرفع للعالم وصوال إلى الوحدة المطلقة) هذه الوحدة مقيدة باستقالل‬
‫األول وحريته المطلقة وقدرته على أن يكون ما يريد دون ارتباط بأية ماهية‬
‫(نوع من طاقة ال متعينة على التحول من حال إلى حال بدون التوقف عند أي‬
‫صورة)‪.‬‬
‫يقدم أفلوطين للعالم رؤية خالقة تمزج بين الوحدة المطلقة وتفرد وال تعيين‬
‫الواحد األول‪ ،‬فهو مستقل عن الروح وعن الوجود‪ ،‬إنه حرية مطلقة‪ ،‬غير‬
‫ومستغن عما سواه‪ ،‬ولعلي هنا أستشعر معاني فريدة‬
‫ٍ‬ ‫مقيدة بخيارات مستقل‬
‫من قولة تعالى ‪( :‬يسأله من في السماوات واألرض كل يوم هو في شأن)‬
‫سورة الرحمن اآلية ‪29‬‬
‫فهو الواحد الالمتناهي الذي قال به أفلوطين بحرية مطلقة( وجود كائن على‬
‫ما هو كائن عليه بذاته وإضافة إلى ذاته ولذاته)‪.‬‬
‫نحن هنا ال نقحم النص القرآني في خضم فلسفة عقلية روحية لكننا نجد من‬
‫المفيد التوقف عند دالالت تنطق بها أيات بعينها‪ ،‬دون جزم أو إصرار‪ ،‬بقدر‬
‫ما هي قراءة لنص ما زال متاحا للتدبر والتفكر‪.‬‬
‫سبق وتوقفت عند اآلية السابقة في سياق الحديث عن الواحد‪ ،‬وهنا أنظر‬
‫لمعنى آخر غير المتداول‪.‬‬
‫إن التعرض لفلسفة إشكالية كفلسفة أفلوطين تحتاج لدراسات بل لكتب‬
‫ومجلدات‪ ،‬ال يفيها عرض موجز أو مبسط‪ ،‬لكنها محاوالت واجتهادات‬
‫معرفية تحرضها الرغبة بالتفلسف وإضافة ولو جزئية عما سلف ‪.‬‬

‫وهللا من وراء القصد‬


‫أفلوطين‬

‫فيلسوف مصري كان من كبار فالسفة العالم القديم ويعتبر أبو االفالطونية الحديثة‬
‫عاش في الفترة ما بين ‪ 270- 205‬م‬
‫يلقب عند المسلمين بالشيخ اليوناني ويعتبر من منظري الطريقة الصوفية‬
‫كتاباته الميتافيزيقية كانت مصدر الهام على مر القرون للكثيرين‬
‫من وثنيين و يهود و مسحيين ومسلمين و صوفيين وغنوصيين‬

You might also like