‫أكذوبة كليات القمة‬

‫مقدمة‬
‫في هذه األيام التي ترتسم فيها الفرحة مشرقة على وجوه الكثيرين؛ أبارك لمن جنى ثمرة‬
‫تعبه خالل سنة الثانوية العامة بمجموع تمناه‪ ،‬وأبارك ألولياء أمورهم الذين نجحوا معهم‬
‫وتبتسم شفاههم من فرط سعادتهم لجني ثمرة تعبهم مع أبنائهم‪.‬‬
‫ها قد أمسكت الحلَم أيديهم وصعدوا إلى كليات القمة بأنفسهم أو بأبنائهم‪ .‬فمبارك عليهم‬
‫جميعا وألف مبارك‪.‬‬

‫ما هي القمة‬
‫القمة هي أعلى جزء من الشيء الواحد‪ ،‬فقمة الجبل مثال هي أعلى بقعة فيه‪.‬‬
‫ولذلك فنحن نعبر في دارجتنا المصرية المحترمة ‪ -‬وليست تلك البذيئة المنتشرة حاليا على‬
‫ألسنة بعض الشباب ‪ -‬فنقول "فالن قمة في األدب‪ ،‬أو قمة في التواضع" لنعبر عن تمتع‬
‫شخص ما بمقدار من صفة ما؛ أعلى من المحيطين به‪.‬‬
‫أما الكليات ومجاالت الدراسة فهي مختلفة؛ فهل من قمة واحدة ألشياء مختلفة؟!‬

‫كليات القمة‬
‫هذا مصطلح حفره المصريون في عقول المصريين‪ ،‬ليعبروا به عن الكليات الطبية والهندسية‬
‫في المجال العلمي‪ ،‬وكليات القطاع الدبلوماسي واإلعالمي في المجال األدبي‪.‬‬
‫أما كلية الزراعة واآلداب فهي عند المصريبن كليات قاع يوصم من يلتحق بها بالفشل‬
‫والبالدة الدراسية‪ ،‬وهي عند كثير من المصريين من مؤهالت الزواج بمتعلمة ال أكثر‪.‬‬

‫قمةصناعية‬
‫الشك في أهمية كل مجال من مجاالت الحياة ‪ ،‬ومهنة من المهن الحالل‪ ،‬هل تخالفني في‬
‫ذلك الرأي؟!‬
‫ولو تخلينا أن البلدان اكتفت فقط بتخصصات الطب والهندسة‪ ،‬فمن الذي سينظف البيئة‬
‫التي تدل على مرموقية الطبيب والمهندس‪ ،‬ومن ذا الذي سينسق له اإلضاءات الجميلة في‬
 ‫مكتبه ومنزله‪ ،‬ومن هذا الذي سيقود له السيارة وهو ذاهب في سفر طويل إلى المصايف‬
‫والمنتجعات‪ ،‬ومن سيقوم على ورعايته واحتياجاته هناك ومن ومن ‪...‬‬
‫إذا احتقرنا المهن تتالشى‪ ،‬وإذا تالشت تالشت معها رفاهيات القمم‪.‬‬

‫القمة السرابية‬
‫هل زرت األماكن المستصلحة من الظهير الصحراوي؟! ربما نعم وربما أنت من أصحاب‬
‫األراضي هناك أو شاهدت على األقل في التليفزيون‪ ،‬فهل رأيت المساحات الصفراء وقد‬
‫ارتدت الكساء األخضر؟ هل رأيت جنات الفواكه‪ ،‬وهل رقص قلبك فرحا بازدهار المحاصيل‬
‫هناك؟‬

‫بينما كان المهندس الزراعي في كل تخصص من تخصصاته يعمل جاهدا كي يحول الصفار‬
‫إلى خضار‪ ،‬وميَت األرض إلى حي؛ وبينما كان يمهد لنا بلوغ القمة في هذا النجاح؛ كنا نحن‬
‫نعتبر كلية الزراعة في أواخر قائمة الكليات‪.‬‬

‫وبينما ينظم المحاسب المتمكن دفاتر اإلنفاق والموارد ويقدر التكاليف والمكاسب ويفاوض‬
‫على أسعار ما يشتريه لمشروع األرض المستصلحة ويحافظ على قروش المالك وماليين‪،‬‬
‫ويعلي راية الربح الذهبية؛ يصنف األخير كليته في فئة "كلية قاع"‪.‬‬

‫القمة إذن نسبية تصنعها العقول وفق تحضرها أو تخلفها‪ ،‬فكلما زاد التخلف قل إدراك الفائدة‬
‫وبالتالي قل االهتمام بثمار تلك الفائدة ومنبعها‪ .‬وفي كل مجال من المجاالت توجد قمة‬
‫وسفح ودرجات بينهما‪ .‬وإن نحن نظرنا بعقل محتَر م محتِر م لصنفنا الكليات جميعها في فئة‬
‫القمة‪ ،‬أو قل لإلنصاف؛ أللغينا هذا التصنيف العنصري‪.‬‬

‫القمةالسرابية‬
‫ليس كل من أعتلى القمة قمة‪ ،‬فها نحن قد سمعنا هذا العام عن مجموعة من راسبي السنة‬
‫األولى من إحدى كليات الطب‪ ،‬السنة األولى التي فيها طالب القمة ما زال مفعما بالجد‬
‫واالجتهاد واالنبهار بالقمة‪ ،‬ويحصل يوميا على جرعات تفخيمية عالية من كل المحيطين؛‬
‫ملقبينه بألقاب بينه وبين إطالقها رسميا سنوات‪ ،‬وعمليا سنوات وسنوات‪ ،‬ورغم ذلك يسقط‬
‫مترنحا من أعلى القمة‪ .‬فما مصيره في القادم من السنوات‪ ،‬وفي المستقبل حين يضع الناس‬
‫صحتهم وأرواحهم بين يديه؟!‬

‫أما صاحب االمتياز في السنوات األربع من كلية اآلداب؛ فقد يصير معيدا بالكلية ثم أستاذا‬
‫يشار إليه بالبنان في المحافل الرسمية الودية‪ ،‬وقد يبني عقوال جديدة يصبح بعضها مستنيرا‬
‫يعمل في مجاالت كثيرة ويصبح على القمة فيها‪.‬‬

‫إن القمم يا سادة هي في اعتالء أعالي كل مجال‪ ،‬وليست حكرا على مجال بعينه وفكر‬
‫معين؛ ثم من الذي علم ذلك المعتلي لكليات القمة حتى وصل إليها‪ ،‬أليس هو خريخ كلية‬
‫اآلداب والتربية؟ ألم يبحث ذلك الطالب في بداية رحلة الثانوية عن القمة في مادة كذا‬
‫والقمة في مادة كذا حتى يعطيه درسا خصوصيا؟! هل كان في قمة عندما احتجت إليه‪ ،‬ثم‬
‫دفعته من فوقها عندما قضيت حاجتك؟!‬

‫عرض وطلب‬
‫إن القمة لم تصنع في بالدنا إال بسبب العرض والطلب‪ ،‬وهب أن الجميع تكالب على كلية‬
‫اآلداب والتربية لكي يصبح معلما؛ فكم سيكون مجموع الكليتين وأين سيكون ترتيبها وأين‬
‫الطب والهندسة؟‬

‫أسباب تكالب الجميع على كليات الطب والهندسة كثيرة نتيجتها بدون خوض التفاصيل‬
‫سبب واحد تصب فيه؛ وهو الكسب المرتفع‪.‬‬

‫إذا فهذه الكليات تصنيفها باألحرى هو (كليات اإلقبال المرتفع) وهذا هو التصنيف المناسب‬
‫واألصح‪.‬‬

‫مازلت مؤهال للقمة‬

‫أيها الطالب الذي لم يكن من نصيبه كلية من "كليات اإلقبال المرتفع"‪ ،‬فات ما فات ولن يرجع‬
‫بندم أو حزن أو دموع‪ ،‬ولكن األفضل منه قد يأتي‪ .‬فقط اجلس وبمصداقية حلل ما حدث‬
‫في خالل تجربتك في الثانوية‪ ،‬حدد اإليجابيات والسلبيات التي مررت بها ‪ ،‬كيف يمكن‬
‫تصحيح األخطاء‪ ،‬وكيف يمكن تعظيم نتائج الصواب‪ ،‬ابدأ في الكلية الجديدة بروح جديدة‪،‬‬
‫روح الهرولة نحو القمة‪ ،‬ضع عينا عليها ليل نهار‪ ،‬والعين األخرى على الوسائل والمعوقات‪،‬‬
‫ومن مرنا في الطريق‪ ،‬وستصل إن شاء اهلل إذا كنت صادقا في رغبتك‪.‬‬
‫وال تنس أن تلوح لنا من فوق القمة لتكون قدوة نقتدي بها جميعا‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫كما رأيت معي عزيزي القارئ‪ ،‬فإنه تتحكم في معدالت العرض والطلب على الكليات عوامل‬
‫كثيرة‪ ،‬ولكن كثرة الطلب ال تعني األفضلية المطلقة‪ ،‬فكل المجاالت مفضلة ألن مجتمعنا‬
‫يحتاج جميعها‪.‬‬

‫لك فرصة دائما أن تكون على القمة‪ ،‬فقط تحتاج أن تريد بصدق‪ ،‬وأن تبدأ الصعود بجد‪.‬‬
‫مهما بلغت من مكان فأنت تحتاج لمن تعتبره في القاع‪ ،‬وستعرف قيمته إن هو عليك تدلل أو‬
‫عزز نفسه‪ ،‬أو شح عدده‪ ،‬لذال فعامل الجميع بال تمييز وتصنيف فالكل مهم‪.‬‬

‫رأينا أيضا إن القمم نسبية‪ ،‬وأنها تكون في الشيء الواحد‪ ،‬ويصعب تحديد قمة واحدة ألشياء‬
‫متعددة متباينة‪ ،‬ولكن في كل مجال على حده قمم وسفوح‪.‬‬

‫وفي النهاية نتمنى للجميع الوصول إلى األماني وأن يحدث في مجتمعنا توازن في الرغبات‬
‫حتى نزدهر في كل مجال‪ .‬وإلى لقاء قريب إن شاء اهلل‪ ،‬وأنت في الطريق إلى القمة‪.‬‬