Professional Documents
Culture Documents
نظرات فى التربية الايمانية 3
نظرات فى التربية الايمانية 3
مجدي الهاللي
بسم هللا الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
المقدمة
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على المبعوث رحمة للعالمين ،سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين ،أما بعد :
فهب أنك -أخي القارئ -قد عُدت إلى منزلك في يوم من األيام فوجدت رجاًل في انتظارك
وبصحبته زوجته وأوالده ،ومعه رسالة من أحد أصدقائك الذين ال يمكنك أن ترد لهم طلبًا ،
يخبرك فيها بأن حامل رسالته أخ لك في هللا ،قد تعرض لمحن وابتالءات كثيرة ،وهو اآلن بال
مال وال مأوى ،وعليك أن تستضيفه وعائلته في منزلك ،وأن تقتسم معه مالك ،وطعامك ،
فضاًل عن مسكنك ،وليس لهذه االستضافة مدة معلومة ،فقد تمتد شهورً ا أو سنين ...
فماذا تتوقع أن يكون رد فعلك تجاه هذا األمر ؟!
هل ستكون سعي ًدا بهذه الرسالة وما تحتويه ؟ أم سيضيق صدرك ويشتد غمك ،فالراتب ال
يكفي إال بالكاد ،والمسكن يضيق بأفراد األسرة ،فكيف سيكون الحال لو تم اقتسام الراتب
والمسكن بينك وبين أخيك ؟
ُأ
وحتى إن كنت موسرً ا ؛ فمن يتحمل أن يتعايش مع ناس ال يعرفهم وال يعرف طباعهم
وأسلوب حياتهم ؟
..ال أكتمك القول – أخي – بأنني قد تخيلت نفسي في هذا الموقف ،فتوقعت مقدار الحرج
الذي سيصيبني ،ومدى الضيق الذي قد يتولد في صدري والذي قد يزيد بطول مدة االستضافة ،
ومن المتوقع أن تدور أمنيتي وقتها حول إمكانية كون هذا الرجل قد أخطأ في العنوان ،وأن
المقصود شخص آخر غيري ،وقد ُأسارع باالتصال بمن كتب الرسالة محاواًل التملص من هذا
العمل ،وأتعلل بظروف كثيرة تحول بيني وبين استضافة هذه األسرة ،وإن وافقت على
استضافتها فستكون موقوتة بمدة محددة ،وسأجتهد في أن تكون هذه المدة قصيرة قدر اإلمكان
...
..هذا الموقف -الذي نتمنى أال نتعرض له -قد تعرض له األنصار في صدر الدعوة ،فلقد
ً
تنفيذا خرج المهاجرون فارين بدينهم من مكة تاركين فيها ديارهم وأموالهم ،وتوجهوا إلى يثرب
ألمر هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم ..هاجروا إليها دون أن يكون لهم فيها مأوى ،ولم يكن
معهم من األموال ما يُمكنهم من اإلنفاق على أنفسهم ،أو اقتناء مساكن تؤيهم ،وفي المقابل كان
أهل المكان من األنصار فقراء ،فضاًل عن أنهم لم يكن بينهم وبين المهاجرين سابق صلة أو
معرفة ،ومع ذلك كان عليهم أن يستضيفوا إخوانهم المهاجرين استضافة كاملة ..فماذا كان
تصرفهم تجاه هذا األمر ؟!
ُتجيبنا كتب السيرة بأنهم كانوا في سعادة غامرة بتلك االستضافة إلى حد تسابقهم وتنافسهم
شده فيما بينهم للفوز بكل مهاجريّ يصل إلى المدينة ..هذا التسابق والتنافس الذي كان على أ ُ
جعلهم يلجأون إلى إجراء القرعة لتحديد الفائز باستضافة الوافد الجديد ..نعم ،لقد حدث هذا ،
حتى قيل :ما نزل مهاجري على أنصاري إال بقرعة .
ولعلك -أخي القارئ – تعجب من هذا التصرف الذي نعجز عن القيام به ،ولعلك كذلك
تتساءل معي :ما الذي جعلهم يصلون إلى هذا المستوى ،وهذا السلوك الذي يفوق طاقات
احتمال البشر ؟
يُجيب القرآن على تساؤالتنا ،ويبين لنا السبب الذي دفع هؤالء األنصار لهذا اإليثار العظيم
ان ِمنْ َق ْبل ِِه ْم ُي ِحب َ
ُّون مع فقرهم وشدة حاجتهم وذلك في قوله تعالى َ ﴿ :والَّذ َ
ِين َت َبوَّ ءُوا ال َّد َ
ار َواِإْلي َم َ
2
ان ِب ِه ْم اج ًة ِممَّا ُأو ُتوا َويُْؤ ِثر َ
ُون َع َلى َأ ْنفُسِ ِه ْم َو َل ْو َك َ ص ُد ِ
ور ِه ْم َح َ اج َر ِإ َلي ِْه ْم َواَل َي ِج ُد َ
ون فِي ُ َمنْ َه َ
اص ٌة [ ﴾ ...الحشر. ]9/ ص ََخ َ
فاآلية الكريمة تصف هؤالء بأنهم تبوءوا الدار :أي استوطنوا يثرب قبل مجيء المهاجرين ،
وتقول عنهم اآلية كذلك بأنهم استوطنوا اإليمان..
ولكن كيف يُستوطن اإليمان ؟! أليس من المعلوم أن اإليمان هو الذي يدخل القلب ؟!
..نعم هو كذلك ،ولكن من شدة تم ُّكن اإليمان منهم :فكأنهم هم الذين دخلوا فيه واستوطنوه ،
والدليل على ذلك هو هذا الفعل العجيب :اإليثار مع الحاجة ..
األمر إذن واضح ؛ إن أردنا سلو ًكا صحيحً ا ،واستقامة جادة ،وأخال ًقا حسنة ،فعلينا
باإليمان ،فكلما ازداد اإليمان انصلح القلب ،فتحسنت األفعال .
راسخا في القلب ومهيمنا عليه البد من ممارسة أسباب زيادته ،وتعاهد ً ولكي يصبح اإليمان
شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارً ا طيبة بصورة دائمة .
أو بعبارة أخرى :نحتاج ممارسة « التربية اإليمانية » مع أنفسنا ،ومع كل من نتولى أمر
تربيته إن أردنا اإلصالح الحقيقي ألنفسنا وأمتنا .
فإن قلت :وكيف لنا أن نفعل ذلك ؟!
كانت اإلجابة بأن هذه الصفحات التي بين يديك – أخي – ُتعطيك صورة عامة عن ذلك ،
فهي بمثابة مبادئ وإشارات حول التربية اإليمانية من حيث :ثمارها ،وأهدافها ،وحقيقتها ،
وجناحيها ( أعمال القلوب ،وأعمال الجوارح ) وإن شئت قلت :اإليمان ،والعمل الصالح..
نسأل هللا عز وجل أن يتقبل منا بفضله وكرمه كل خير أفاض به علينا في هذه الصفحات ،
وأن يغفر لنا زاَّل تنا ،وأال يحرمنا – بجوده – األجر إن أصبنا أو أخطأنا ( سبحانك ال علم لنا إال
ما علمتنا ) .
3
الفصل األول
*1يتم -بعون هللا – عرض موضوع التكامل التربوي في هذا الفصل باختصار شديد كمدخل للتربية اإليمانية ،فإن أردت – أخي القارئ –
التعرف عليه بشيء من التفصيل فلك -إن شئت -أن تقرأ لكاتب هذه السطور كتاب « التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم » والكتاب – بفضل هللا
– يوجد على موقع اإليمان أواُل .
( ) « أصول التربية اإلسالمية وأساليبها المختلفة » لعبد الرحمن النحالوي ص ( ، )12دار الفكر .
ظم وال تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس واعتقدت إلى جانبه أنه ليس هناك ُن ُ ُ ُ
اعتقدت هذا ، ..
البشرية ،وتهدي الناس إلى الطرق العملية الواضحة لهذه السعادة كتعاليم اإلسالم الحنيف
الفطرية الواضحة العملية ..
ت نفسي منذ نشأت على غاية واحدة ،هي إرشاد الناس على اإلسالم حقيقة وعماًل .. لهذا و َق ْف ُ
حديثا نفسان ًّيا ،ومناجاة روحية ،أتحدث بها في نفسي لنفسي ،وقد ُأ ْفضِ ي ً ظلت هذه الخواطر
بها إلى كثير ممن حولي ،وقد تظهر في شكل دعوة فردية ،أو خطابة وعظية ،أو درس في
حث لبعض األصدقاء من العلماء على بذل الهمة ّ المساجد إذا سنحت فرصة التدريس ،أو
ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في اإلسالم من خير .
ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم اإلسالمي حوادث عدة ألهبت نفسي ،وأهاجت
كوامن الشجن في قلبي ،ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل ،وسلوك طريق التكوين بعد
التنبيه ،والتأسيس بعد التدريس ( . ) 2
و في موضع آخر يقول رحمه هللا :
إن الخطب واألقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء ..
كل ذلك وحده ال ُيجدي نف ًعا ،وال ُيحقق غاية ،وال يصل بالداعين إلى هدف من األهداف ؛
ولكن للدعوات وسائل البد من األخذ بها والعمل لها .والوسائل العاملة للدعوات ال تتغير وال
تتبدل وال تعدو هذه األمور الثالثة :
()3
-3العمل المتواصل . -2التكوين الدقيق -1اإليمان العميق
ثان ًيا :أن تستمر التربية وال تنقطع أو تتوقف عند فترة معينة ،ألن األمر الذي استوجبها
َّك َح َّتى َيْأ ِت َي َك ْال َيقِينُ ﴾ [الحجر. ]99/
دائم ال ينقطع وال يتوقف حتى الموت َ ﴿ :واعْ ب ُْد َرب َ
..تأمل قوله تعالى َ ﴿ :يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ِين َآ َم ُنوا َآ ِم ُنوا ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه [ ﴾...النساء. ]136/
يقول محمد قطب معل ًقا على هذه اآلية :أي حافظوا على إيمانكم ،استمروا فيه ،ال تغفلوا
عن المحافظة عليه ..ال تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه (. )4
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى هللا عليه وسلم « :إن اإليمان يخلق في القلوب كما يخلق
الثوب ،فجددوا إيمانكم » (. )5
فمهما تقدم عمر المرء ،ومهما ارتقى في سلم المسئولية ،فالبد له من االستمرار في
التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية هلل عز وجل .
( إن القلب البشري سريع التقلب ،سريع النسيان ،وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ..فإذا
طال عليه األمل بال تذكير وال تذ ُّكر ،تبلد وقسا ،وانطمست إشراقته ،وأظلم وأعتم ،فال بد من
تذكير هذا القلب ..والبد من اليقظة الدائمة كي ال يصيبه التبلد والقساوة ) (. )6
أسرْ َته فالبد من اليقظة الدائمة معه وأما النفس فهي كاألسير الذي يحاول مقاومة األسر ،فإن َ
حتى ال يفلت منك ويأسرك ويجعلك طوع أمره .
والعقل أيضًا يحتاج باستمرار إلى تزويده بالعلم النافع حتى تتسع مداركه ،و ُتفتح نوافذه ،
فتزداد معرفته بربه ،وما يُقربه إليه ﴿ َوقُ ْل َربِّ ِز ْدنِي عِ ْلمًا ﴾ [طه . ]114 :
ثالثا :ومن الضوابط الحاكمة للعملية التربوية كذلك ضرورة أن تشمل التربية الجوانب
األربعة للشخصية ،فأي إهمال لجانب منها يؤدي إلى عدم ظهور ثمرة التربية الصحيحة (
) (2رسالة المؤتمر الخامس ،من مجموعة رسائل اإلمام الشهيد حسن البنا ص ، 116باختصار .
) (3رسالة بين األمس واليوم ،ص . 108
) (4مكانة التربية في العمل اإلسالمي لمحمد قطب ،ص – 26دار الشروق .
) ( 5حديث حسن :أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد ( )1/52وقال الهيثمي :إسناده حسن .والحاكم ( ، 1/45رقم )5وقال :رواته
مصريون ثقات .وقال المناوي ( : )2/324قال العراقي في أماليه :حديث حسن ،وحسنه الشيخ األلباني في السلسلة الصحيحة ،رقم .1585
) (6في ظالل القرآن لسيد قطب . 6/3489
7
فعندما يحصل اهتمام بتحصيل العلم ،دون االهتمام بزيادة اإليمان ،فستكون النتيجة المتوقعة :
شخص كثير التنظير ،حافظا للنصوص ،كثير الحديث عن القيم والمبادئ ،والمعاني العظيمة ،
لكنك قد تجد في المقابل واقعًا يختلف عن األقوال ،فهو يتحدث عن العدل والمساواة ،بينما ال
يتعامل مع اآلخرين بهذه القيم ،وبخاصة مع من يرأسهم ..يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية
العمل لآلخرة ،في حين تجده يحرص على جمع المال ،وينفق منه بحساب شديد ،ويدقق في
كل شيء مهما كان صغيرً ا .
..كل هذا وغيره بسبب عدم االهتمام باإليمان بنفس درجة االهتمام بالعلم ،فالذي يُقرب
المسافة بين القول والفعل ،ويُترجم العلم إلى سلوك هو « :الطاقة والقوة الروحية المتولدة من
اإليمان » .
أما عندما يتم االهتمام باإليمان دون العلم فستجد أمامك شخصًا جاهاًل ،يتشدد فيما ال ينبغي
التشدد فيه ،ويترخص فيما ال ينبغي الترخص فيه ..ستجد شخصًا ضيق اُألفق ال يستطيع أن
يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر .
وفي حالة االهتمام بالعلم واإليمان مع عدم االنتباه للنفس ،وإهمال تزكيتها ،فسيكون النتاج :
شخصًا كثير العبادة ،كثير المعلومات ،سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد ،لكنه متورم الذات ،يرى
نفسه بعدسة مكبِّرة ،ويرى غيره بعكس ذلك ،ألن عبادته وأوراده وبذله – في الغالب – ستغذي
إيمانه بنفسه وبقدراته ،وأنه أفضل من غيره ،فيتمكن منه – بمرور األيام واستمرار اإلنجازات
و النجاحات – داء العُجْ ب ،ومن وراءه الغرور والكبر والعياذ باهلل ،فيُعرِّ ض نفسه لمقت ربه
وحبوط عمله .
ومع ضرورة االهتمام بالتربية المعرفية واإليمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على
تع ّلمهبذل الجهد في سبيل هللا ،وفي دعوة الناس إليه ،فلو لم يتحرك المسلم ،و ُيع ّلم الناس ما َ
،ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم – بإذن هللا – فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل ،ولن
يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها ،وقبل ذلك فإن الواجب الشرعي والواقع األليم
الذي تحياه أمتنا ُيح ِّتمان عليه فعل ذلك .
وفي المقابل ،فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل هللا إن لم يكن وراءها زاد متجدد ،فإن
عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها ،ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله صلى هللا عليه وسلم « :
مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه ،مثل الفتيلة ُ ،تضيء للناس وتحرق نفسها » (. )7
فالبد من األمرين معًا :البد من الزاد ،والبد من التحرك بهذا الزاد (. )8
()9
بأي الجوانب نبدأ ؟
بعد أن تعرفنا – باختصار – على االحتياجات التربوية األساسية لكل مسلم وأهمية كل جانب
منها ؛ يبقى السؤال :بأي الجوانب نبدأ ؟
ُ ﴾ [محمد ، ]19/فالعلم أساس العمل ،ومع هَّللا اَّل َأ
بال شك أن العلم هو البداية َ ﴿ :فاعْ َل ْم َّن ُه اَل ِإ َل َه ِإ
ً
راسخا ، ذلك فليس المطلوب علمًا نظر ًّيا ،يُعمق الفجوة بين القول والفعل ،بل نريده علمًا نافعًا
يزيد القلب خشية وإيما ًنا .
لذلك فعلينا االجتهاد بتحصيل أصل العلوم وأنفعها ،أال وهو « :العلم باهلل عز وجل » ،
واالجتهاد في تحويل هذه المعرفة إلى إيمان .
) (7حديث صحيح :أخرجه الطبراني ،وصححه األلباني في صحيح الجامع برقم . 5837
) (8هذه الفقرة من كتاب « التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم » ،من ص ، 81 – 78باختصار .
) (9المصدر السابق .
8
وألن التربية اإليمانية بمفهومها الصحيح الشامل – كما سيأتي بيانه – ُتركز على معرفة هللا
معان يرسخ مدلولها في القلب – أي أنها
ٍ عز وجل ،و ُتركز كذلك على ترجمة هذه المعرفة إلى
قد جمعت بين الخيرين – كان من المناسب البدء بجانب « التربية اإليمانية » .
()10
من فوائد البدء بالتربية اإليمانية :
هناك حلقة مفقودة بين األقوال واألفعال ،والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف اإليمان ،فعندما
يُهيمن اإليمان الحي على القلب ،فإنه يُولِّد في قلب صاحبه طاقة عظيمة ،وقوة روحية هائلة تدفعه
للقيام باألفعال التي تناسب المواقف المختلفة من سرَّ اء أو ضرَّ اء ..لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية
اإليمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع وبين العلم والعمل .
فعلى سبيل المثال :
لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنامًا ينبغي أن ُتزال ،وأننا مصابون بداء
العُجْ ب ،واستعظام النفس ،ولكننا لن نستطيع مقاومة هذا المرض ،والوقوف له بالمرصاد ،
لضعف القوة الروحية الالزمة لذلك .
ونفس األمر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل الجهد في سبيل هللا ،فسيتحول
األمر بمرور الوقت إلى أداء شكلي روتيني بال روح ،وسيزحف إلى من يفعل ذلك الشعور
بالفتور والوحشة وضيق الصدر ،وسيفقد تأثيره على اآلخرين شيًئ ا فشيًئ ا .
من هنا تظهر الحاجة إلى البدء بالتربية اإليمانية بمفهومها الصحيح والذي يعمل باستمرار
على توليد القوة الروحية ،وتنمية الدافع الذاتي ،وتقوية الوازع الداخلي ،وبث الروح في
األقوال واألفعال ،ومن َث َّم يسهل على المرء بعد ذلك القيام باألعمال المطلوبة لتحقيق أهداف
ت َرب ِِّه ْمِين ُه ْم ِبَآ َيا ِ ون (َ )57والَّذ َ ِين ُه ْم ِمنْ َخ ْش َي ِة َرب ِِّه ْم ُم ْش ِفقُ َ التربية النفسية والحركية ِ ﴿ :إنَّ الَّذ َ
ون َما َآ َت ْوا َوقُلُو ُب ُه ْم َو ِج َل ٌة َأ َّن ُه ْم ِإ َلى ون (َ )59والَّذ َ
ِين يُْؤ ُت َ ون (َ )58والَّذ َ
ِين ُه ْم ِب َرب ِِّه ْم اَل ُي ْش ِر ُك َ يُْؤ ِم ُن َ
ون ﴾ [المؤمنون. ]61-57/ ت َو ُه ْم َل َها َس ِابقُ َ ُون فِي ْال َخي َْرا ِارع َ ِئك ي َُس ِ ُون (ُ )60أو َل َ َرب ِِّه ْم َرا ِجع َ
ثمــــــــا ُر اإليمـــــــان
10
الفصل الثاني
ثمار اإليمان
الشجرة المباركة :
ب هَّللا ُ َمثَاًل َكلِ َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأصْ لُ َها َث ِاب ٌ
ت َو َفرْ ُع َها فِي ض َر َ يقول تعالى َ ﴿ :أ َل ْم َت َر َكي َ
ْف َ
ِين بِِإ ْذ ِن َر ِّب َها ﴾ [إبراهيم . ]25-24/ ُأ
ال َّس َما ِء (ُ )24تْؤ تِي ُك َل َها ُك َّل ح ٍ
فاإليمان كالشجرة الطيبة المباركة التي إذا ما أحس َّنا غرسها في القلب فإنها ُتثمر -بإذن هللا –
ثمارً ا يانعة وطيبة في كل االتجاهات واألوقات ،واألمثلة العملية التي تؤكد هذه الحقيقة من
الكثرة بمكان ،وسنذكر – بعون هللا وفضله – في الصفحات القادمة بعض تلك الثمار ،مع
مزجها بنماذج تطبيقية من حياة الصحابة ،باعتبار أنهم أفضل أجيال األمة باإلجماع ..
..أخرج أبو ُنعيم عن عبد هللا بن عمر قال :من كان ُمست ًّنا فليستن بمن قد مات ،أولئك
أبرها قلو ًبا ،وأعمقها عل ًما ، أصحاب محمد صلى هللا عليه وسلم ،كانوا خير هذه األمة َّ ،
وأقلها تكلُّ ًفا ..قوم اختارهم هللا لصحبة نبيه صلى هللا عليه وسلم ،ون ْقل دينه ،فتش َّبهوا
بأخالقهم وطرائقهم ،فهم أصحاب محمد صلى هللا عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم وهللا
رب الكعبة (. )11
ويقول أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب حياة الصحابة :
إن السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة اإليمانية والعاطفة الدينية
،التي ال تزال هذه األمة تقتبس منها شعلة اإليمان ،وتشتعل بها مجامر القلوب ،التي يسرع
انطفاؤها وخمودها في مهب الرياح والعواصف المادية ،والتي إذا انطفأت فقدت هذه األمة قوتها
وميزتها وتأثيرها ،وأصبحت جثة هامدة تحملها الحياة على أكتافها .
إنها تاريخ رجال جاءتهم دعوة اإلسالم فآمنوا بها وصدقتها قلوبهم ..وضعوا أيديهم في يد
الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وهانت عليهم نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم ،واستطابوا المرارات
والمكاره في سبيل الدعوة إلى هللا ،وأفضى يقينها إلى قلوبهم ،وسيطر على نفوسهم وعقولهم ،
وصدرت عنهم عجائب اإليمان بالغيب ،والحب هلل والرسول ،والرحمة على المؤمنين والشدة
على الكافرين ،وإيثار اآلخرة على الدنيا ،والحرص على دعوة الناس ،وإخراج خلق هللا من
عبادة العباد إلى عبادة هللا وحده ،ومن َجور األديان إلى عدل اإلسالم ،ومن ضيق الدنيا إلى
َس َعتها ،واالستهانة بزخارف الدنيا وحطامها ،والشوق إلى لقاء هللا ،والحنين إلى الجنة ،وعُلو
الهمة ،وبُعد النظر في نشر ِرفد اإلسالم وخيراته في العالم ،وانتشارهم ألجل ذلك في مشارق
األرض ومغاربها ،ونسوا في ذلك َّلذتهم ،وهجروا راحاتهم ،وغادروا أوطانهم ،وبذلوا ُم َه َجهم
وحرّ أموالهم حتى أقبلت القلوب إلى هللا ،وهبَّت ريح اإليمان قوية عاصفة ،طيبة مباركة ،
وقامت دولة التوحيد واإليمان والعبادة والتقوى ،وانتشرت الهداية في العالم ،ودخل الناس في
دين هللا أفواجً ا (. )12
) (11حلية األولياء ألبي ُنعيم األصبهاني ( ،) 1/305دار الكتاب العربي – بيروت .
) (12حياة الصحابة للكاندهلوي ( )1/15بتصرف يسير .
11
الثمار العشر :
ولقد تم اختيار عشر ثمار ليتم الحديث عنها – بعون هللا – هي بإجمال :
أواًل :المبادرة والمسارعة لفعل الخير .
ثانيًا :تقوية الوازع الداخلي .
ً
ثالثا :الزهد في الدنيا .
رابعًا :التأييد اإللهي .
خامسًا :إيقاظ القوى الخفية .
سادسًا :الرغبة في هللا .
سابعًا :اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكالت بين األفراد .
ثام ًنا :التأثير اإليجابي في الناس .
تاسعًا :اتخاذ القرارات الصعبة .
عاشرً ا :الشعور بالسكينة والطمأنينة .
والجدير بالذكر أن هذه الثمار العشر ما هي إال قطوف يسيرة من شجرة اإليمان المباركة ،
ولقد تم اختيارها كباقة متنوعة ،فمنها ما يتعلق بعالقة المؤمن بربه ،ومنها ما ينعكس على
عالقته بدنياه وآخرته ،ومنها ما يظهر آثاره على تعامالته مع اآلخرين .
وإليك -أخي القارئ – بعضًا من التفاصيل حول هذه الثمار العشر .
12
أواًل :المبادرة والمسارعة لفعل الخير
مبادرا ومسار ًعا لفعل الخير ،يتحرك في الحياة ً من أهم ثمار اإليمان الحي أنك تجد صاحبه
وكأنه قد ُرفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب
وتضحية ..تراه دو ًما يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه
مرددًا بلسان حاله « :لبيك اللهم لبيك ..لبيك وسعديك » .
ون ()57 ِين ُه ْم ِمنْ َخ ْش َي ِة َرب ِِّه ْم ُم ْش ِفقُ َ ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى ِ ﴿ :إنَّ الَّذ َ
ون َما َآ َت ْوا ون (َ )59والَّذ َ
ِين يُْؤ ُت َ ِين ُه ْم ِب َرب ِِّه ْم اَل ُي ْش ِر ُك َ ون (َ )58والَّذ َ ِين ُه ْم ِبَآ َيا ِ
ت َرب ِِّه ْم يُْؤ ِم ُن َ َوالَّذ َ
ون ﴾ ت َو ُه ْم َل َها َس ِابقُ َ ُون فِي ْال َخي َْرا ِ ارع َ ِئك ي َُس ِ ُون (ُ )60أو َل َ َوقُلُو ُب ُه ْم َو ِج َل ٌة َأ َّن ُه ْم ِإ َلى َرب ِِّه ْم َرا ِجع َ
[المؤمنون. ]61-57/
فاآليات ُتعطي دالالت واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر
الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها .
وإليك – أخي القارئ -بعض األمثلة من حياة الصحابة -رضوان هللا عليهم – والتي تؤكد
هذا المعنى :
-خرج جابر بن عبد هللا رضي هللا عنه ذات سنة إلى بالد الروم غازيًا في سبيل هللا ،وكان
الجيش بقيادة مالك بن عبد هللا الخثعمي ،وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على
شد من أزرهم ،ويُولي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية ،فمر بجابر بن عبد أحوالهم ،وي ُ
هللا ،فوجده ماشيًا ومعه َبغل له يمسك بزمامه ويقوده ،فقال له :ما بك يا أبا عبد هللا ،لم ال
تركب ،وقد يسر هللا لك ظهرً ا يحملك عليه ؟ ! فقال :سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
يقول « :من ُأغبرت قدماه في سبيل هللا حرمه هللا على النار» .
فتركه مالك ومضى حتى غدَ ا في مقدمة الجيش ،ثم التفت إليه ،وناداه بأعلى صوته ،وقال
:يا أبا عبد هللا ،مالك ال تركب بغلك ،وهي في حوزتك ؟! فعرف جابر قصده ،وأجابه بصوت
سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول « :من ُأغبرت قدماه في سبيل هللا ُ عال وقال :لقد
ل منهم يريد أن يفوز بهذا األجر ،فما رُِئي حرمه هللا على النار » ،فتواثب الناس عن دوابهم وك ٌ
جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش(. )13
وروى النسائي عن أبي سعيد بن الم َُعلَّى أنه قال :
كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فمررنا يومًا ورسول هللا
صلى هللا عليه وسلم قاعد على المنبر ،فقلت :لقد حدث أمر ،فقرأ رسول هللا صلى هللا عليه
ضا َها َف َو ِّل َوجْ َه َك َش ْط َر ك ِق ْب َل ًة َترْ َك فِي ال َّس َما ِء َف َل ُن َولِّ َي َّن َب َوجْ ِه َوسلم هذه اآلية َ ﴿ :ق ْد َن َرى َت َقلُّ َ
ْال َمسْ ِج ِد ْال َح َر ِام ﴾ [البقرة ، ]144/حتى فرغ من اآلية ،فقلت لصاحبي :تعال نركع ركعتين قبل أن
ينزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فنكون أول من صلى ( في اتجاه الكعبة ) فتوارينا
فصليناهما ،ثم نزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصلى بالناس الظهر يومئذ (. )14
ِمت قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع ، -وفي يوم من األيام َقد ْ
فلما دخلت المدينة ارتجت األرض بها ،فقالت عائشة :ما هذه الرجة ؟ فقيل لها :عير لعبد
الرحمن بن عوف ..سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام ،فقالت عائشة :بارك هللا فيما
أعطاه في الدنيا ،ولثواب اآلخرة أعظم .
ُ ) (13أسد الغابة ( ، ) 1/307وتاريخ اإلسالم للذهبي ( ، )3/143وسيرة ابن هشام ( ، )218 ، 3/217وحديث « من ُأغبرت قدماه » ..
أخرجه البخاري ( ، 1/308رقم ، )865وغيره .
) (14تفسير القرآن العظيم البن كثير – 1/168مكتبة العبيكان ،وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى ( -ج / 6ص ،291برقم
، )11002ومسند أحمد بن حنبل ( -ج / 4ص ، 408برقم . )19677
13
وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف :فذهب إليها مسرعًا ،وقال
:أشهدك يا ُأمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحالسها في سبيل هللا .
التنافس في الخير :
صاحب اإليمان الحي ال يريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية ال ُعظمى ..راية رضا هللا
والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته ،لذلك تراه حزي ًنا حين تتحين أمامه فرصة لالقتراب
من تلك الراية وال يستطيع اغتنامها ألسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر ،ولنا في
قصة ال َب َّكائين خير مثال على ذلك :
فعن ابن عباس رضي هللا عنهما قال :أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الناس أن ينبعثوا
غازين (غزوة تبوك) ،فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد هللا بن معقل المزني ،فقالوا :يا
وع َّز عليهم أن رسول هللا احملنا .فقال « :وهللا ما أجد ما أحملكم عليه » ،فتولوا ولهم بكاء َ ،
يُح َبسوا عن الجهاد ،وال يجدون نفقة وال محماًل .فأنزل هللا عذرهم َ ﴿ :واَل َع َلى الَّذ َ
ِين ِإ َذا َما
ت اَل َأ ِج ُد َما َأحْ ِملُ ُك ْم َع َل ْي ِه َت َولَّ ْوا َوَأعْ ُي ُن ُه ْم َتفِيضُ م َِن الدَّمْ ِع َح َز ًنا َأاَّل َي ِج ُدوا َما
ك لِ َتحْ ِم َل ُه ْم قُ ْل ََأ َت ْو َ
ون ﴾ [التوبة. )15( ]92/ ُي ْن ِفقُ َ
-وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالوا :ذهب أهل
الدثور (األموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم ،فقال صلى هللا عليه وسلم « :وما ذاك
؟ » ،فقالوا :يُصلون كما نصلي ،ويصومون كما نصوم ،ويتصدقون وال نتصدق ،ويعتقون
وال نعتق ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :أفال ُأعلمكم شيًئ ا تدركون به من سبقكم ،
وتسبقون به من بعدكم ،وال يكون أحد أفضل منكم ،إال من صنع مثل ما صنعتم ؟ » ،قالوا :
ثالثا وثالثين مرة بلى يا رسول هللا ،قال « :تسبحون ،وتحمدون ،وتكبرون ،دبر كل صالة ً
» ،فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالوا :سمع إخواننا أهل
األموال بما فعلنا ،ففعلوا مثله .
فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :ذلك فضل هللا يؤتيه من يشاء » (. )16
شدة الحرص على دعوة الخلق إلى هللا :
كلما ازداد اإليمان وشعر المرء بحالوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى هللا ،
وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا واآلخرة ،وكيف ال وهو يرى غيره من الضالين في
سجن كان هو فيه وحرَّ ره هللا منه ،لذلك فهو ال يهدأ وال يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه
الجهد والوقت والمال .
ويدفعه ألداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى هللا من أحب األعمال إليه سبحانه ..
..من هنا ُندرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى هللا .
فهذا أبو بكر الصديق بعد إسالمه يُسارع بالدعوة إلى هللا من َوثق به من قومه فأسلم على
يديه :الزبير بن العوام ،وعثمان بن عفان ،وطلحة بن عبيد هللا ،وسعد بن أبي وقاص ،وعبد
الرحمن بن عوف (. )17
وذكر ابن إسحاق أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لمَّا انصرف عن ثقيف ا َّتبع أثره عروة
بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ،فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه باإلسالم ،
فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :إنهم قاتلوك » ،وعرف رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم أن فيهم نخوة االمتناع للذي كان منهم ،فقال عروة :يا رسول هللا ،أنا َأ َحب إليهم من
أبكارهم ،وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا .
) (18السيرة النبوية البن هشام ( ، ) 2/538وُأسد الغابة ( ، )1/768واالستيعاب البن عبد البر ( ، )1/328واإلصابة البن حجر (
. )4/493
15
ثانيا :تقوية الوازع الداخلي
كلما قوي اإليمان ،ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد االقتراب من الشبهات
ضعُف اإليمان نقصت تلك الحساسية ..يقول عبد هللا بن والمحظورات ،والعكس صحيح ،فكلما َ
مسعود :إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ،وإن الفاجر يرى
ذنوبه كذباب َمرَّ على أنفه ،فقال به هكذا( ( )19أي :نحَّ اه بيده أو دفعه ) .
معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب ،وفي أي
االتجاهين تكون ..
..هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد باالنهيار في أي لحظة ،أم من حال
من تمر ذبابة على أنفه ؟
من هنا نقول بأن اإليمان الحي هو الذي يضبط سلوك اإلنسان ( ،ويترك مع كل نفس رقيبًا
ال يغفل ،وحارسًا ال يسهو ،وشاه ًدا ال يُجامل وال يحابي ،وال يضل وال ينسى ...يصاحبها في
الغدوة والروحة ،والمجتمع والخلوة ،ويرقُبها في كل زمان ،ويلحظها في كل مكان ،ويدفعها
إلى الخيرات دفعًا ،ويدعُّها عن المآثم د ًّعا ،ويجنبها طريق الزلل ،ويبصرها سبيل الخير
والشر) (. )20
..في يوم من األيام ذكر النبي صلى هللا عليه وسلم أنواع الخيل وأنها لرجل أجر ،ولرجل
ستر ،وعلى رجل وزر .
فسئل عن ال ُحمُر ؟ قال « :ما أنزل هللا عليّ فيها إال هذه اآلية الجامعة الفاذة َ ﴿ :ف َمنْ َيعْ َم ْل
م ِْث َقا َل َذرَّ ٍة َخيْرً ا َي َرهُ (َ )7و َمنْ َيعْ َم ْل م ِْث َقا َل َذرَّ ٍة َش ًّرا َي َرهُ ﴾ [الزلزلة.)21( ]8 ،7/
فعندما يزداد اإليمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل – ولو كان مثقال ذرة كما
ُتشير اآليات -فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل
مع جميع األشياء .
..نعم ،هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما ُوضعت القوانين الصارمة في المجتمعات
لضبط سلوك األفراد فلن تؤتي ثمارها إال إذا ُبدئ بإصالح اإليمان في القلوب لتكون من ثمرته
:تقوية الوازع الداخلي ...وصدق من قال :
ال تنتهي األنفس عن غ ّيها ...ما لم يكن لها من نفسها دافع
..جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى هللا عليه وسلم ،فقال :يا رسول هللا إن لي مملوكين
َيكذِبونني ،ويخونونني ،ويعصونني ،وأشتمهم وأضربهم ،فكيف أنا فيهم ؟! ،فقال رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم « :إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك ،وعقابك إياهم
،فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفا ًفا ،ال لك وال عليك ،وإن كان عقابك إياهم دون
ذنوبهم كان فضاًل لك ،وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ..اق ُتص لهم منك الفضل ،فتنحى
الرجل ،وجعل يهتف ويبكي ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم » :أما تقرأ قوله تعالى ﴿ :
ان م ِْث َقا َل َح َّب ٍة ِمنْ َخرْ دَ ٍل َأ َت ْي َنا ِب َها
ين ْال ِقسْ َط لِ َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة َفاَل ُت ْظ َل ُم َن ْفسٌ َش ْيًئ ا َوِإنْ َك َاز َ ض ُع ْال َم َو ِ
َو َن َ
ين ﴾ [األنبياء. ]47/ َو َك َفى ِب َنا َحاسِ ِب َ
فقال الرجل :يا رسول هللا ما أجد لي ولهؤالء شيًئ ا خيرً ا من مفارقتهم ،أشهدك أنهم كلهم
أحرار (.)22
شدة الورع :
) (26طبقات ابن سعد ( ، )3/214وتهذيب التهذيب ( ، )5/20واإلصابة ( )2/229ترجمة ( ، )4266وحلية األولياء ( . )1/7
) (27اإلصابة ج ، 2ترجمة ( ، ) 3270وحلية األولياء ( ، )1/244وتهذيب التهذيب ( ، )4/51وصفة الصفوة ( . ) 1/372
) (28اإلصابة ،ج ، 1ترجمة ( ، )2210وأسد الغابة ( ، ) 1/316وحلية األولياء ( ، )1/143وصفة الصفوة ( . )1/168
) ( 29أخرجه أبو يعلى ( ، 8/80رقم ، )4610والطبراني ( ، 4/77رقم ، )3695والبيهقي في شعب اإليمان ( ، 7/307رقم ، )10400
وأبو نعيم في الحلية (. )1/360
) (30أخرجه ابن حبان ( ، 2/481رقم . )706
19
ومن ثمار اإليمان
راب ًعا :التأييد اإللهي
ض﴾ ت َو َما فِي اَأْلرْ ِ هللا عز وجل هو مالك الكون وربه ومدبر أمره ﴿هَّلِل ِ َما فِي ال َّس َم َاوا ِ
[البقرة. ]284/
ُؤخر ،يقبض ويبسط ،يخفض ويرفع ، ال يوجد له شريك في ملكه ،يفعل ما يشاء ..يُق ِّدم وي ِّ
اس ِمنْ َرحْ َم ٍة َفاَل مُمْ سِ َك َل َها َو َما يُمْ سِ كْ َفاَل مُرْ سِ َل َل ُه ِمنْ َبعْ ِد ِه ﴾ يُعز ويُذل ﴿ َما َي ْف َت ِح هَّللا ُ لِل َّن ِ
[فاطر. ]2/
وإن كان البشر كلهم أمام هللا سواء فال أفضلية لجنس أو قبيلة أو لون إال أنه سبحانه يزيد من
ِين اجْ َت َرحُوا ب الَّذ َ إكرامه وعنايته ورعايته للمؤمنين الذين يحبونه ويؤثرونه على هواهم ﴿ َأ ْم َحسِ َ
ُون ﴾ ت َس َوا ًء َمحْ َيا ُه ْم َو َم َما ُت ُه ْم َسا َء َما َيحْ ُكم َ ِين َآ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ ت َأنْ َنجْ َع َل ُه ْم َكالَّذ َال َّس ِّيَئ ا ِ
[الجاثية. ]21/
فالكرامة على قدر االستقامة ﴿ ِإنَّ َأ ْك َر َم ُك ْم عِ ْندَ هَّللا ِ َأ ْت َقا ُك ْم ﴾ [الحجرات. ]13/
الط ِري َق ِة َأَلسْ َق ْي َنا ُه ْم َما ًء َغدَ ًقا ﴾ [الجن. ]16/
﴿ َوَأنْ َل ِو اسْ َت َقامُوا َع َلى َّ
ِين ﴾ [األعراف]196/ وكلما ارتقى العبد في سلم اإليمان ازدادت والية هللا له ﴿ َوه َُو َي َت َولَّى الصَّالِح َ
.
وفي الحديث القدسي « :وال يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،
ولئن سألني ألعطينه ،ولئن استعاذني ألعيذنه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن
قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته » (. )31
هذه الوالية والكفاية تشمل الفرد المؤمن ،وتشمل المجتمع المؤمن .
..فعلى مستوى الفرد :
يتولى هللا عز وجل أمور عبده المؤمن بما يُحقق له مصلحته الحقيقية ويجلب له السعادة في
الدارين ،وفي بعض األحيان قد تكون من مظاهر تلك الوالية التضييق على العبد في أمور الدنيا
إال أنها تحمل في طياتها خيرً ا كثيرً ا ،وفي هذا المعنى يقول صلى هللا عليه وسلم « :إن هللا
ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحبه ،كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه »
(. )32
األمة واإليمان :
أما في محيط األمة ،فال يكفي إيمان بعض األفراد – هنا وهناك – لكي تتحقق بهم الوالية
والنصرة لألمة ،فاألمة كالجسد الواحد ،ال يكون صحيحً ا إال إذا صحَّ ت جميع أعضائه .بمعنى
أن وجود أفراد صالحين في ذواتهم ال يكفي الستجالب المعية والنصرة اإللهية ،بل البد وأن
يقوموا بالعمل على إصالح غيرهم – بإذن هللا – وأن يبذلوا غاية جهدهم في ذلك من خالل
العمل على تقوية اإليمان في قلوبهم ،وتصحيح التصورات والمفاهيم الخاطئة في عقولهم ،
ودفعهم إلى طريق التواضع ونكران الذات ،وتعويدهم على بذل الجهد في سبيل هللا .
وعندما تشيع معاني الصالح في األمة ويرتفع منسوب اإليمان في القلوب ،ولو بنسبة معقولة
تتيح للمسلم اتخاذ قرارات التضحية ببعض شهواته ومصالحه من أجل نصرة دينه ..عندئذ
يتحقق موعود هللا بنصر األمة – بإذنه سبحانه – مصداقا لقوله تعالى ِ ﴿ :إنَّ هَّللا َ اَل ي َُغ ِّي ُر َما ِب َق ْو ٍم
َح َّتى ي َُغ ِّيرُوا َما ِبَأ ْنفُسِ ِه ْم ﴾ [الرعد. ]11/
21
غير أنه يجب أن نفرق دائمًا بين حقيقة اإليمان ومظهر اإليمان ..إن حقيقة اإليمان قوة
حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية ،ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل .
()33
وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها
.
نماذج للوالية والتأييد اإللهي :
والنماذج العملية للتأييد اإللهي للمؤمنين كثيرة ،سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو
الجماعة المؤمنة .
فعلى مستوى الفرد :
* أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب « مُجابي الدعوة » عن أنس بن مالك ،قال :كان رجل من
بمال له ولغيره ،وكان
ٍ أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يُكنى أبا معلق وكان تاجرً ا ي َّتجر
له ُنسك وورع ،فخرج مرة ،فلقيه لِص ُم َت َق ِّنع في السالح ،فقال :ضع متاعك فإني قاتلك ،قال
:شأنك بالمال ،قال :لست ُأريد إال دمك ،قال :فذرني ُأصلي ،قال :ص ِّل ما بدا لك ،فتوضأ
ثم صلَّى ،فكان من دعائه :يا ودود ،يا ذا العرش المجيد ،يا فعَّااًل لما يُريد ،أسألك بعزتك
التي ال ُترام ( ، )34وملكك الذي ال يُضام ( ، )35وبنورك الذي مأل أركان عرشك ،أن تكفيني شر
ثالثا ،فإذا هو بفارس ،بيده حربة رافعها بين أذني فرسه ، هذا اللص ،يا مغيث أغثني .قالها ً
فطعن اللص فقتله ،ثم أقبل على التاجر ،فقال من أنت ،فقد أغاثني هللا بك ؟ قال :إني م َلك من
َ
دعوت ثانيًا ،فسُمعت ألهل دعوت سمعت ألبواب السماء قعقعة ،ثم َ أهل السماء الرابعة ،لما
()36
ثالثا فقيل :دعاء مكروب ،فسألت هللا أن يُوليني قتله . السماء ضجَّ ة ،ثم ً
* وأخرج الحاكم عن محمد بن المنكدر أن « سفينة » رضي هللا عنه -مولى رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم -قال :ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها ،فركبت لوحً ا من
أج َمة ( )37فيها األسد ،فأقبل إليّ يُريدني ،فقلت يا أبا الحارث :أنا ألواحها فطرحني اللوح في َ
سفينة مولى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فطأطأ رأسه ،واقبل إليّ ،فدفعني بمنكبه حتى
أخرجني من األجمة ووضعني على الطريق ،وهمهم ،فظننت أنه يودعني ،فكان ذلك آخر
عهدي به (. )38
* ولما فتح عمرو بن العاص رضي هللا عنه مصر ،أتى أهلها حين دخل بؤنة ( من أشهُر
القبط ) فقالوا له :أيها األمير ،إن لنيلنا هذا سُنة ال يجري إال بها ،فقال لهم :وما ذاك ؟ قالوا :
إنه كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية ِبكر بين أبويها ،فأرضينا أبويها ،
وجعلنا عليها شيًئ ا من الحُلي والثياب أفضل ما يكون ،ثم ألقيناها في هذا النيل ،فقال لهم عمرو
:إن هذا ال يكون في اإلسالم ،فإن اإلسالم يهدم ما قبله ،فأقاموا أشهُر بؤنة وأبيب و َم َسرى ال
يجري قلياًل وال كثيرً ا حتى همُّوا بالجالء ،فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب
رضي هللا عنه بذلك ،فكتب إليه عمر :قد أصبت ،إن اإلسالم يهدم ما قبله ،وقد بعثت إليك
ببطاقة ،فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي ،فلما قدِم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها:
من عبد هللا عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر :أما بعد :
فإن كنت تجري من قِ َبلِك فال تجر ،وإن كان الواحد القهار ُيجريك ،فنسأل هللا الواحد
القهار أن ُيجريك .
) (39أخرجه أبو الشيخ في العظمة ( ، 4/1424رقم ، )9373وابن عساكر ( ، )44/336انظر حياة الصحابة . 409 ، 3/408
) (40البداية والنهاية البن كثير 72-7/70باختصار .
23
ومن ثمار اإليمان
سا :إيقاظ القوى الخفية
خام ً
عندما يتمكن اإليمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده
يتحدى الصعاب ،ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك .
..اإليمان الحي يوقظ القوى الخفية داخل اإلنسان ويجعله دو ًما يتحدى أوضا ًعا أقوى منه ،
ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته ..
..اجتمع يوما أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في مكة
،وكانوا قلة مستضعفين فقالوا :وهللا ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ،فمن
رجل يُسمعهم إياه ؟ فقال عبد هللا بن مسعود :أنا ُأسمعهم إياه .فقالوا :إنا نخشاهم عليك ،إنما
نريد رجال له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه ِب َشر .فقال :دعوني فإن هللا سيمنعني
ويحميني .
ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ،وقريش جلوس حول الكعبة ،فوقف
عند المقام وقرأ :بسم هللا الرحمن الرحيم – رافعًا بها صوته ﴿ -الرَّ حْ َمنُ (َ )1علَّ َم ْالقُرْ َ
آن ()2
ان (َ )3علَّ َم ُه ْال َب َي َ
ان ﴾ [الرحمن. ]4-1/ َخ َل َق اِإْل ْن َس َ
ومضى يقرؤها ،فتأملته قريش وقالت :ماذا قال ابن أم عبد ؟! ت ًّبا له ،إنه يتلو بعض ما جاء
به محمد ،وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء هللا أن يبلغ ،ثم
انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه ،فقالوا له :هذا الذي خشينا عليك ،فقال :وهللا ما كان
أعداء هللا أهون في عيني منهم اآلن ،وإن شئتم ُأل َغادي َّنهم بمثلها غ ًدا ،قالوا :ال ،حسبك ،لقد
أسمعتهم ما يكرهون (. )41
..وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثالثة يتجهزون للقاء أعداء هللا في ُأحد ،فعزم على
أن يغدو معهم إلى الجهاد ،لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ،فهو شيخ كبير
طاعن في السن ،وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ،وقد عذره هللا فيمن عذرهم ،فقالوا له :يا
أبانا ،إن هللا عذرك ،فعالم ُتكلف نفسك ما أعفاك هللا منه ؟!
فغضب الشيخ من قولهم ،وانطلق إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يشكوهم ،فقال :يا
نبي هللا ،إن أبنائي هؤالء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج ،وهللا
إني ألرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة .
فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ألبنائه « :دعوه ؛ لعل هللا عز وجل أن يرزقه الشهادة
» .فخلوا عنه إذعا ًنا ألمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم .
أزف وقت الخروج ،حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته ،ثم اتجه إلى القبلة ورفع وما إن ِ
كفيه إلى السماء وقال « :اللهم ارزقني الشهادة وال تردني إلى أهلي خائبًا » .ثم انطلق يُحيط به
أبناءه الثالثة ..ولما حمي وطيس المعركة ،وتفرق الناس عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل األول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول :
إني ل َمشتاق إلى الجنة ،إني ل َمشتاق إلى الجنة ،وكان وراءه ابنه « خاَّل د » ومازال الشيخ وفتاه
يجاهدان عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حتى خرَّ ا صريعين شهيدين على أرض المعركة ،
ليس بين االبن وأبيه إال لحظات (. )42
) (41صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين ، 1/314نقاًل عن سير أعالم النبالء للذهبي ،وصفة الصفوة البن الجوزي .
) (42سير أعالم النبالء ( ، )1/54وتاريخ اإلسالم للذهبي ( ، ) 2/216والبداية والنهاية البن كثير ( . ) 4/42
24
فع َجبٌ إصرار عبد هللا بن أم مكتوم على الجهاد وهو أعمى ،وإن تعجب من أثر اإليمان َ
وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لمالقاة الفرس ،وهو البس درعه ،مستكمل
عدته ،فيتقدم ليحمل راية المسلمين ...وهو أعمى !! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهي ًدا ،وهو
يحتضن الراية !! (. )43
) (43صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين ،132 ، 1/131نقاًل عن اإلصابة البن حجر ،والطبقات البن سعد ،وصفة الصفوة البن
الجوزي ،واالستيعاب البن عبد البر .
25
ومن ثمار اإليمان :
سا :الرغبة في هللا
ساد ً
كلما ازداد اإليمان باهلل عز وجل ازدادت ثقة العبد فيه سبحانه وبأنه مالك الملك ،المتصرف
في شؤون كل ذرة فيه ،العليم الخبير الذي ال تغيب عنه أي حركة أو سكنة في هذا الكون ..
القادر المقتدر ،الغفور الرحيم . ...
وبنمو هذه الثقة في القلب تزداد رغبة العبد في ربه فيصبح ذهنه مشغواًل بالتفكير فيه ،وقلبه
حاضرً ا معه ..فيتوجه إليه باألعمال ،ويتزين له باألفعال التي ترضيه ..يُكثر من مناجاته وبث
أشواقه إليه ...يسترضيه كلما قصَّر أو زلَّت قدمه ...يطلب منه المساعدة في كل أموره ،
والشهادة على ما يحدث له .
وفي المقابل :يص ُغر حجم الناس في نظره وتقل الثقة فيهم حتى تنمحي من حيث كونهم ال
ضرا ،فال يتزين لهم في أفعاله ،وال يسعى لعلو منزلته عندهم ،بل يستغني ًّ يملكون له نفعًا أو
عنهم ،وينقطع من قلبه الطمع فيهم ،ومن َّثم ال يرائيهم بأقواله أو أفعاله ..
إن الرياء صورة بغيضة تعكس جهاًل عظي ًما باهلل عز وجل ،وضع ًفا شديدًا في اإليمان به ..
هذه الصورة يمكنها أن تضمحل وتنمحي تلقائ ًّيا بزيادة اإليمان الحقيقي باهلل والثقة فيه .
الراغبون في هللا :
-يقول أنس بن مالك رضي هللا عنه :غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ،فقال :يا
غبت عن أول قتال قاتلته المشركين ،لئن أشهدني هللا قتال المشركين َل َي َر َينَّ هللا مني ُ رسول هللا ..
ما أصنع .
فلما كان يوم حد وانكشف المسلمون ،قال :اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤالء (يعني : ُأ
المسلمين) ،وأبرأ إليك مما صنع هؤالء (يعنى :المشركين) ،ثم تقدم فاستقبل سعد بن معاذ ،
فقال :يا سعد ،الجنة ورب النضر ،إني أجد ريحها دون أحد .قال سعد :فما أستطيع أن أصف
ما صنع (. )44
-ويقول سعد بن أبي وقاص :لما كانت « أحد » لق َيني عبد هللا بن جحش وقال :أال تدعو
هللا ؟ فقلت :بلى .فخلونا في ناحية ،فدعوت ،فقلت :يارب إذا لقيت العدو ف َل ِّقني رجاًل شدي ًدا
بأسه ،شدي ًدا حرده ،أقاتله ويقاتلني ،ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه ،فأمَّن عبد
هللا بن جحش على دعائي ،ثم قال :اللهم ارزقني رجاًل شدي ًدا حرده ،شدي ًدا بأسه ،أقاتله فيك
ويقاتلني ،ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ،فإذا لقيتك غ ًدا قلت :فيم جُدع أنفك وأذنك ؟ فأقول :
فيك وفي رسولك ،فتقول :صدقت .
قال سعد :كانت دعوة عبد هللا بن جحش خيرً ا من دعوتي ،لقد رأيته آخر النهار ،وإن أنفه
وأذنه لمعلقان في خيط ( ) .
45
..وعندما أراد مشركوا مكة قتل خبيب بن عدي رضي هللا عنه طلب منهم أن يتركوه ليركع
ركعتين ،فوافقوا .فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ،ثم أقبل على القوم فقال :أما وهللا ،لوال أن
تظنوا أني إنما طوَّ لت جزعًا من القتل الستكثرت من الصالة .ثم رفعوه على خشبة ،فلما أوثقوه
قال :اللهم إ َّنا قد بلغنا رسالة رسولك ،فبلغه الغداة ما يُصنع بنا ..
وبعد أن صلبوه أنشد شعرً ا قال فيه :
فقد بضعوا لحمي وقد بان مطمعي فذا العرش صبِّرني على ما يُراد بي
ممزع ْ
يبارك على أوصال شِ ل ٍو َّ وذلك في ذات اإلله وإن يشأ
) ( 46سيرة ابن هشام ( ، ) 2/172وسيرة ابن كثير ( ، ) 3/130وحلية األولياء ألبي ُنعيم ( ، ) 1/113وسير أعالم النبالء للذهبي (
.)1/48
27
ومن ثمار اإليمان
ساب ًعا :اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكالت بين األفراد
عندما يضعف اإليمان :يعلو الهوى ويسيطر على اإلرادة .
والهوى هو كل ما تميل إليه النفس ،أي أن غلبة الهوى معناها سيطرة النفس بأطماعها على
إرادة اإلنسان وقلبه ،فيصبح أسيًرا لها .
فالنفس شحيحة تحب االستئثار بكل ما تظن أن فيه نفعها فينشأ عن هذا الهوى -عندما يتمكن
من القلب -الطمع والظلم والبخل والتعدي على حقوق اآلخرين .
والنفس تريد دومًا العلو على اآلخرين وتكره أن يتميز عليها أحد فينتج عن ذلك الحسد
والحقد.
والنفس تكره الظهور بمظهر المخطئ فينشأ عن هذا الهوى عندما يسيطر على القلب :الكذب
والغش والخداع ..
المشاق والتكاليف فينشأ عن ذلك :الفسوق وعدم القيام باألوامر الشرعية ... ّ والنفس تكره
وهكذا تنطلق جميع الظواهر السلبية والمشكالت من ضعف اإليمان وغلبة هوى النفس.
والحل األول واألمثل لعالج المجتمع المسلم من ظواهره السلبية إنما يكون بإصالح اإليمان
،فكلما ازداد اإليمان في القلوب انحسر تأثير الهوى عليها وقويت اإلرادة ودفعت صاحبها
ض ُه ْم َع َلى لمكارم األخالق ومعاليها ..تأمل قول هللا تعالى َ ﴿ :وِإنَّ َك ِثيرً ا م َِن ْال ُخ َل َطا ِء َل َي ْبغِي َبعْ ُ
ت﴾ [ص.]24/ ِين َآ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ ض ِإاَّل الَّذ َ َبعْ ٍ
ليس معنى هذا هو انعدام المشكالت بين األفراد ،فالطبيعة البشرية وما تحمله من ضعف
تأبى ذلك ،ولكنها -إن حدثت – تكون هينة ،عارضة سرعان ما تزول عندما يسمع أصحابها
حادي اإليمان ينادي عليهم أن اتقوا هللا ﴿ ِنعْ َم ْال َع ْب ُد ِإ َّن ُه َأوَّ ابٌ ﴾ [ص.]30/
فعلى سبيل المثال :عندما عزم أبو بكر الصديق على قطع النفقة التي كان ينفقها على مسطح
بن أثاثة ألنه كان ممن تكلم في حادثة اإلفك نزل القرآن ليُذ ّكره وغيره بفضيلة العفو بقوله تعالى
يل هَّللا ِ
ين فِي َس ِب ِِين َو ْال ُم َها ِج ِر ََ ﴿ :واَل َيْأ َت ِل ُأولُو ْال َفضْ ِل ِم ْن ُك ْم َوالس ََّع ِة َأنْ يُْؤ ُتوا ُأولِي ْالقُرْ َبى َو ْال َم َساك َ
ُّون َأنْ َي ْغف َِر هَّللا ُ َل ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َرحِي ٌم ﴾ [النور ]22/فعند ذلك قال َو ْل َيعْ فُوا َو ْل َيصْ َفحُوا َأاَل ُت ِحب َ
الصديق :بلى وهللا إ ّنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا ،ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة ،
وقال :وهللا ال أنزعها منه أب ًدا (. )47
..وعندما اختلف رجالن على ميراث بينهما وذهبا يحتكمان إلى رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،فماذا فعل معهما ؟! .
عن أم سلمة رضي هللا عنها قالت :جاء رجالن من األنصار يختصمان إلى رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم في مواريث بينهما قد ُد ِرست ليس بينهما بينة ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه
ألحن بحُجَّ ته من بعض فإني أقضي وسلم « :إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ،ولعل بعضكم َ
بينكم على نحو ما أسمع ،فمن قضيت له من حق أخيه شيًئ ا فال يأخذه ،فإنما أقطع له قطعة من
النار يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة » فبكى الرجالن وقال كل واحد منهما :حقي ألخي .
توخ َيا الحق ثم استهما ثم فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم َّ
ليتحلل كل واحد منكم صاحبه» (. )48
عمر يستقيل من القضاء :
28
عندما تولى أبو بكر الصديق الخالفة قام بتعيين عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة ،فمكث
عمر سنة لم يفتح جلسة ،ولم يختصم إليه اثنان ،فطلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء ،فقال له
أبو بكر :أمن مشقة القضاء تطلب اإلعفاء يا عمر ؟!
فقال :ال يا خليفة رسول هللا ،ولكن ال حاجة لي عند قوم مؤمنين ،عرف كل منهم ما له من
حق فلم يطلب أكثر منه ،وما عليه من واجب فلم يُقصِّر في أدائه ..أحب كل منهم ألخيه ما يحبه
لنفسه ..إذا غاب أحدهم تفقدوه ،وإذا مرض عادوه ،وإذا افتقر أعانوه ،وإذا احتاج ساعدوه ،
وإذا أصيب واسوه ..دينهم النصيحة ،وخلقهم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ففيم
يختصمون ؟ ففيم يختصمون ؟!
29
ومن ثمار شجرة اإليمان المباركة
ثام ًنا :التأثير اإليجابي في الناس
،بل عليه أن يعمل على إصالح غيره ﴿ َيا ليس على المسلم فقط أن يكون صالحً ا في نفسه
ك ِإنَّ َذل َِك ِمنْ َع ْز ِم َواصْ ِبرْ َع َلى َما َأ َ
صا َب َ صاَل َة َوْأمُرْ ِب ْال َمعْ رُوفِ َوا ْن َه َع ِن ْال ُم ْن َك ِر ُب َنيَّ َأق ِِم ال َّ
ُور﴾ [لقمان. ]17/ ُأْل
ا م ِ
ِين ﴾[فصلت.]33/ صالِحً ا َو َقا َل ِإ َّننِي م َِن ْالمُسْ لِم َ ﴿ َو َمنْ َأحْ َسنُ َق ْواًل ِممَّنْ دَ َعا ِإ َلى هَّللا ِ َو َع ِم َل َ
ِين ﴾ [األعراف.]170/ صاَل َة ِإ َّنا اَل ُنضِ ي ُع َأجْ َر ْالمُصْ لِح َ ب َوَأ َقامُوا ال َّ ون ِب ْال ِك َتا ِ ﴿ َوالَّذ َ
ِين ُي َم ِّس ُك َ
ير ٍة َأ َنا َو َم ِن
فالدعوة إلى هللا هي عمل الرسل وأتباعهم ﴿قُ ْل َه ِذ ِه َس ِبيلِي َأ ْدعُو ِإ َلى هَّللا ِ َع َلى بَصِ َ
ا َّت َب َعنِي﴾[يوسف. ]108/
ونجاح الداعية في دعوته للناس يعني التأثير اإليجابي فيهم ..هذا التأثير يستلزم وجود
ج كالمه محماًل روح حي ،ورغبة جارفة تهيمن على قلبه تستحثه إلنقاذ اآلخرين ،فيخ ُر ُ
بالحرقة والشفقة عليهم ..وال يمكن التلبس بهذه الحالة إال من خالل يقظة اإليمان وتمكنه في
قلبه .
..اإليمان الحي يدفع صاحبه للبدء بنفسه في القيام بالعمل الصالح قبل أن يدعو الناس إليه ،
فيصدق قوله فعله ،ومن َث َّم يزداد تأثيره في اآلخرين .
يقول سيد قطب :الكلمة البسيطة التي يصاحبها االنفعال ،ويؤيدها العمل هي الكلمة المثمرة
،التي ُتحرك اآلخرين إلى العمل .
ويقول :أيما داعية ال يصدق فعله قوله ،فإن كلماته تقف على أبواب اآلذان ال تتعداها إلى
القلوب مهما كانت كلماته بارعة ،وعباراته بليغة (. )49
القلوب بيد هللا :
إن الذي يفتح القلوب لكالم الدعاة هو هللا عز وجل فإن رأى منهم صد ًقا وإخالصًا ،ورغبة
في نفع المدعوين ،وشفقة صادقة عليهم فإنه سبحانه يفتح لهم – بفضله – قلوبهم .
وكلما علت منزلة العبد عند ربه باإليمان أحبه هللا عز وجل ،ومن َث َّم وضع له القبول في
األرض كما في الحديث « :إذا أحب هللا عب ًدا نادى جبريل :إن هللا يحب فال ًنا فأحبه ،فيحبه
جبريل ،فينادي جبريل في أهل السماء :إن هللا يحب فال ًنا فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ثم يوضع
له القبول في األرض » (. )50
أصلح نفسك ُتص َلح لك رعيتك :
..انظر إلى أبي بكر الصديق رضي هللا عنه وهو يمشي بجانب راحلة عمرو بن العاص
رضي هللا عنه وهو يوصيه قبل سفره على رأس الجيش المتوجه إلى الشام قائاًل « :يا عمرو ،
اتق هللا في سرائرك وعالنيتك واستحيه ،فإنه يراك ويرى عملك ..فكن من عمال اآلخرة ،
وَأ ِرد بما تعمل وجه هللا ،وكن وال ًدا لمن معك ،وال تكشفن الناس عن أستارهم ،واكتفِ
بعالنيتهم ..وإذا وعظت أصحابك فأوجز ،وأصلح نفسك ُتص َلح لك رعيتك » (. )51
..ولما حضر أبا بكر الموت أوصى باستخالف عمر بن الخطاب ،ثم بعث إلى عمر فدعاه
فكان مما وصاه به :
إن أول ما أحذرك نفسك ،وأحذرك الناس ..فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت
هللا و َف َر ْقته (. )52
31
ومن ثمار اإليمان :
تاس ًعا :اتخاذ القرارات الصعبة
يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به ،
أو أذى يُصيبه ،أو ضيق اآلخرين منه ،لذلك تجده مترد ًدا قبل اتخاذها ،ويظل يُف ِّكر فيها ،
ويوازن بين الواجب الديني الذي يح ُُّثه على فعل الشيء وبين األضرار التي قد تترتب على فعله
،مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به ،فيُفوِّ ت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته .
ضعف القلب وعدم تمكن اإليمان منه ،وفي المقابل ؛ كلما ازداد اإليمان ..هذا الحال يعكس َ
َق ِوي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي
عليه ..
ومن أمثلة هذه القرارات :الشهادة على النفس أو اآلخرين ،االعتراف بالخطأ ،قبول ال ُنصح
،األمر بالمعروف والنهي عن المنكر لألصدقاء وأصحاب المناصب ،اإلنفاق في وقت العُسرة ،
التضحية بما يحبه المرء ..
نماذج مشرقة :
وإليك أخي القارئ بعض األمثلة العملية من حياة الصحابة ،والتي تؤكد هذا المعنى :
جلس عبد هللا بن عبد هللا بن ُأ َبيّ بن سلول إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ،فشرب -
النبي صلى هللا عليه وسلم ماء ،فقال :باهلل يا رسول هللا ،ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها َأ ِبي
ض َل له ،فأتاه بها ،فقال له أبوه :فهاَّل جئتني ببول أمك فإنه أطهر
،لعل هللا يُطهر بها قلبه .فأ ْف َ
منها ،فغضب وجاء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ،فقال :يا رسول هللا أما أ ِذ ْنت لي في قتل
َأ ِبي ؟
فقال النبي صلى هللا عليه وسلم « :بل ترفق به و ُتحسن إليه » ؟(. )54
-وقال عروة :رأيت عمر بن الخطاب رضي هللا عنه وعلى عاتقه قربة ماء ،فقلت :يا
أمير المؤمنين ال ينبغي لك ذلك ،فقال :لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة
،فأحببت أن أكسرها ،ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من األنصار فأفرغها في إنائها (. )55
-عن أنس أن رجاًل من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ،فقال :يا أمير المؤمنين ،
معاذا ،قال :سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فحمل يضربني ً عائذ بك من الظلم ،قال :عذت
بالسوط ويقول :أنا ابن األكرمين ،فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويُقدم ابنه معه ،فقدما ،فقال
عمر :أين المصري ؟ خذ السوط فاضربه ،فجعل يضربه بالسوط ،وعمر يقول :اضرب ابن
األكرمين .قال أنس :فضرب ،فوهللا ضربه ونحن ُنحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يُرفع عنه
،ثم قال عمر للمصري :ضع السوط على صلعة عمرو ،فقال :يا أمير المؤمنين ،إنما ابنه الذي
ضربني ،وقد استقدت منه ،فقال عمر لعمرو :مُذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم ُأمهاتهم أحرارً ا ؟ قال :
يا أمير المؤمنين ،لم أعلم ولم يأتني (. )56
-وعن ابن عمر قال :اشتريت إباًل وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها ،فدخل
عمر السوق فرأي إباًل سما ًنا فقال :لمن هذه اإلبل ؟ قيل لعبد هللا بن عمر ،فجعل يقول :يا عبد
هللا بن عمر :بخ بخ ،ابن أمير المؤمنين ،فجئت أسعى ،فقلت :مالك يا أمير المؤمنين ؟ قال :
ما هذه اإلبل ؟ قلت :اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون ،فقال :ارعو
رأس مالك ،
ِ إبل ابن أمير المؤمنين ،اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين ،يا عبد هللا بن عمر ،اغ ُد إلى
واجعل الفضل في بيت مال المسلمين (. )57
) (54الجامع ألحكام القرآن للقرطبي ،17/199وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه حديثا بمعناه (ج /3ص 538حديث رقم.)6627 :
) (55صالح األمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني (.) 5/435
) (56إسناده ضعيف :رواه ابن عبد الحكم في (فتوح مصر) ،كنز العمال ( . )36010
) ( 57السنن الكبرى للبيهقي ( ، )12156 ،147 / 6وسنن سعيد بن منصور ،ومصنف ابن أبى شيبة ،وأورده المتقي الهندي في كنز العمال
(. ) 36006
32
إسداء النصيحة :
..بعد انتصارات خالد بن الوليد المتتالية في العراق بعث إليه أبو بكر الصديق برسالة تهنئة
ونصيحة فقال فيها :
« فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ،فأتمم يتم هللا لك ،وال يدخلنك ُعجب فتخسر و ُتخذل
،وإياك أن تدل بعمل فإن هللا له ال َمنّ وهو ولي الجزاء » .
..وعندما أمَّر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على حرب العراق أرسل إليه وأوصاه
فقال :
ال يغر َّنك من هللا أن قِيل خال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصاحب رسول هللا ،فإن هللا
عز وجل ال يمحو السيئ بالسيئ ،ولكنه يمحو السيئ بالحسن ،فإن هللا ليس بينه وبين أحد نسب
إال الطاعة ،فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات هللا سواء ،هللا ربهم وهم عباده ،يتفاضلون
بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة ،فانظر األمر الذي رأيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منذ
بُعث إلى أن فارقنا ،فالزمه فإنه األمر .هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ،
وكنت من الخاسرين (.)58
االنتصاف من النفس :
ُأ
..كان لعثمان بن عفان رضي هللا عنه عبد ،فقال له :إني كنت عركت ذنك فاقتص مني ،
فأخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي هللا عنه :اشدد ،يا حبذا قصاص الدنيا ،ال قصاص اآلخرة (.)59
..وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال :مرَّ عمر بن الخطاب رضي هللا عنه في السوق ومعه
الدرة ،فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي ،فقال :أمط عن الطريق .فلما كان في العام
المُقبل لقيني فقال :يا سلمة ُ ،تريد الحج ؟ فقلت :نعم .فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله
فأعطاني ست مائة درهم وقال :استعن بها على حجِّ ك ،واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك .قلت :
يا أمير المؤمنين ما ذكرتها .قال :وأنا ما نسيتها(.)60
) (58تاريخ الطبري ( ، )4/306البداية والنهاية ( ، )42 / 7الكامل في التاريخ البن األثير ( ، )408 / 1وحياة الصحابة ( . ) 1/548
) (59حياة الصحابة ، 1/537نقاًل عن « الرياض النضرة في مناقب العشرة » للمحب الطبري ( . ) 2/111
) (60تاريخ الطبري ، )578 / 2( -وحياة الصحابة ( . ) 1/536
33
ومن ثمار اإليمان
عاشرا :الشعور بالسكينة والطمأنينة
ً
اإليمان الحق باهلل عز وجل يعني :الثقة به سبحانه ر ًّبا قادرً ا على فعل أي شيء ..قريبًا
مجيبًا ..حاضرً ا غير غائب ..عظيمًا جلياًل ..رؤو ًفا رحيمًا ..
وكلما تمكنت هذه الثقة في قلب العبد تبددت منه المخاوف التي ترهب الناس :كالخوف من
سطوة الظالمين والخوف من المستقبل المجهول وما تخبئه األيام .
وكلما ضعف اإليمان ،وقلت الثقة زادت المخاوف ،وظهرت أمارات الهلع والفزع
ب الَّذ َ
ِين واالضطراب عند التعرض البتالء أو نقص أو تضييق ،ألم يقل سبحانه ﴿ َس ُن ْلقِي فِي قُلُو ِ
ب ِب َما َأ ْش َر ُكوا ِباهَّلل ِ﴾ [آل عمران . ]151 : َك َفرُوا الرُّ عْ َ
فالمشرك باهلل يعاني من ضعف بل انعدام الثقة به سبحانه ،وتظهر الثمرة المُرة لهذا الشرك
عند النقص واالبتالء :رعبًا وفزعًا وهلعًا .
..يقول ابن تيمية :الخوف الذي يحصل في قلوب الناس ( كالخوف على فوات الرزق ،
والخوف من المستقبل المجهول ) هو الشرك الذي في قلوبهم (. )61
وفي المقابل تجد المؤمن هادئ النفس ،رابط الجأش ،مطمئن القلب عند تعرضه للمحن
اخ َش ْو ُه ْم َف َزادَ ُه ْم ِإي َما ًنا
اس َق ْد َج َمعُوا َل ُك ْم َف ْ
ِين َقا َل َل ُه ُم ال َّناسُ ِإنَّ ال َّن َ والباليا واألقدار المؤلمة ﴿ الَّذ َ
ء ﴾ [آل عمران 173 : َو َقالُوا َحسْ ُب َنا هَّللا ُ َو ِنعْ َم ْال َوكِي ُل (َ )173فا ْن َق َلبُوا ِب ِنعْ َم ٍة م َِن هَّللا ِ َو َفضْ ٍل َل ْم َيمْ َسسْ ُه ْم سُو ٌ
. ]174 -
صدَ َق هَّللا ُ َو َرسُولُ ُه َو َما اب َقالُوا َه َذا َما َو َعدَ َنا هَّللا ُ َو َرسُولُ ُه َو َ ون اَأْلحْ َز َ
﴿ َو َلمَّا َرَأى ْالمُْؤ ِم ُن َ
َزادَ ُه ْم ِإاَّل ِإي َما ًنا َو َتسْ لِيمًا ﴾ [األحزاب . ]22 :
من هنا ندرك معنى القول بأن « :حسبنا هللا ونعم الوكيل » هي كلمة المؤمنين عند مواجهة
المواقف الصعبة .
وكلما ازداد اإليمان ازدادت الثقة باهلل حتى تصل لذروتها فتصبح ثقة مطلقة يقينية أشد
رسوخا من الجبال الرواسي ،وتظهر آثارها وقت األحداث المتشابكة والعصيبة ،كمثل ما حدث ً
لموسى عليه السالم عندما خرج مع بني إسرائيل فرارً ا من فرعون لكنه أدركهم بجنوده ليصبح
ون ﴾ [الشعراء ]61 :فيجيب عليهم بهدوء البحر أمامهم وفرعون وراءهم فيقول أتباعه ِ ﴿ :إ َّنا َلم ُْد َر ُك َ
ِين ﴾ [الشعراء . ]62 : ِي َربِّي َس َي ْهد ِ الواثق في ربه َ ﴿ :كاَّل ِإنَّ َمع َ
وفي رحلة الهجرة وبينما كان الرسول صلى هللا عليه وسلم وصاحبه في غار ثور إذ
بالمشركين يصلون إلي فم الغار ،فيخاف أبو بكر خو ًفا شدي ًدا على رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم ،وعلى الدعوة ،ويقول لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم :يا نبي هللا لو أن أحدهم طأطأ
تلت أنت هلكت األمة ،ليفاجأ بأن رسول هللا تلت فإنما أنا رجل واحد ،وإن قُ َ بصره رآنا ..إن قُ ُ
صلى هللا عليه وسلم لم يتأثر بهذه المخاوف ،بل كان هادئ النفس ،رابط الجأش ،على ثقة
مطلقة باهلل عز وجل ،وبدا ذلك واضحً ا من إجابته على ما أثاره أبو بكر من مخاوف :اسكت يا
أبا بكر ،اثنان هللا ثالثهما ..ال تحزن إن هللا معنا (. )62
طمأنينة القلب :
من ثمار اإليمان العظيمة تلك الطمأنينة والسكينة التي يسكبها في القلب ،فتجده ساك ًنا عند جريان
األحداث سكون الواثق باهلل ،المطمئن به – سبحانه – لذلك عندما ذهب عمار بن ياسر إلى رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ليخبره بأنه تحت وطأة التعذيب واإليذاء ُأكره على النيل من رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ،وذكر آلهة الكفار بخير ،فما كان من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إال أنه سأله « :
..هذه – أخي القارئ – عشر ثمار لإليمان الحي عندما يتمكن من القلب ،
تعرفنا عليها وعشنا بعض أمثلتها العملية لها ،وكما ذكرنا – ساب ًقا – بأنقد َّ
الهدف من هذا الطرح هو استثارة مشاعرنا ،وتعميق شعورنا باالحتياج
الشديد للتربية اإليمانية .
ولكي يتأكد لدينا هذا الشعور علينا أن نتعرف على المزيد من األمثلة العملية
لهذه الثمار وغيرها ،وذلك من خالل القراءة في الكتب التي تتحدث عن
المعاني اإليمانية ،وتربطها بالواقع العملي في جيل الصحابة .
ولعل من أنسب الكتب التي تحدثت عن جيل الصحابة بهذه الطريقة كتاب :
« حياة الصحابة » لمحمد يوسف الكاندهلوي رحمه هللا .
) (63أخرجه ابن سعد ( ، )178 / 1 / 3وأبو نعيم في « الحلية » ( ، )140 / 1والطبري ( ، ) 182 / 14وأخرجه الحاكم ( ) 357 / 2
وصححه ،ووافقه الذهبي ،والكاندهلوي في حياة الصحابة ( .) 1/222
) ( 64أسد الغابة البن األثير ( ، ) 212 ، 3/11 ، 1/597معرفة الصحابة ألبي نعيم األصبهاني ( 352 / 11رقم ، )3608تاريخ دمشق -
(.)359 / 27
35
الفصل الثالث
36
يتم – بإذن هللا – الحديث في هذا الفصل عن مراحل النمو اإليماني ،وبعض
المظاهر العملية لهذه المراحل ،والهدف من هذا الحديث هو استشعار الخطر
تجاه ضعف اإليمان في قلوبنا – إال من رحم هللا .
وتذ َّكر – أخي – أنه كلما ازداد الشعور بالخطر ،ازدادت الرغبة في التغيير
والترقي .
نعم ،هذه الصفحات ال ُتقدم لنا حلواًل عملية – وإن كانت تلك الحلول ستأتي
بعد ذلك بعون هللا في الفصول القادمة – ولكنها قد تجعلنا نشعر بأن هناك
مشكلة في إيماننا تحتاج إلى عالج وإصالح ..هذا الشعور له تأثير إيجابي في
استقبال ما سيأتي بيانه من توجيهات وأعمال من شأنها أن تنهض بنا و ُتصلح
إيماننا بإذن هللا .
لذلك أدعو نفسي وأدعوك – أخي القارئ – إلى قراءة هذا الفصل بعقولنا
ومشاعرنا وأن يقوم كل م ّنا بتقييم نفسه وحالته اإليمانية من خالل عرض
اهتماماته وسلوكه وواقعه على المراحل اإليمانية المذكورة في هذه الصفحات ،
فلعله بذلك يعرف أين هو من اإليمان ؟ وأين قلبه من هللا ؟
37
الفصل الثالث
مراحل النمو اإليماني وأهداف التربية اإليمانية
نور القلب :
كما أن للعين نور ُتبصر به وترى ما حولها ؛ فإذا ما غاب عنها عميت ،كذلك فإن للقلب
ان نور يُبصر به ،ويرى حقائق األمور فإذا ما غاب عنه ذلك النور عمِي وتاه وتخبط ﴿ َو َمنْ َك َ
ض ُّل َس ِبياًل ﴾ [اإلسراء . ]72 : فِي َه ِذ ِه َأعْ َمى َفه َُو فِي اآْل خ َِر ِة َأعْ َمى َوَأ َ
ونور القلب هو أهم مظهر لحياته ،فبدونه يصير القلب مُظلما ،قاسيًا ضي ًقا موح ًشا .
فإذا ما دخله بصيص من نور اإليمان تغيرت طبيعته ،وتحسنت حالته ،وظهرت بعض
اآلثار اإليجابية على صاحبه .
وعندما يستمر النور في الدخول ،واإليمان في الزيادة والنمو ؛ يتنوَّ ر القلب أكثر وأكثر ،
وتتحسن صحته ،وينعكس ذلك باإليجاب على اهتمامات وسلوك صاحبه .
أما إذا ما دخل نور اإليمان القلب -بإذن هللا – ثم لم يعمل صاحبه باستمرار على زيادته ؛
فسينقص حجمه ،وقد يضمحل ،وينزوي في القلب ،ومن َث َّم تزحف الظلمة إليه مرة ثانية لتكون
تالنتيجة :اختفاء الكثير من اآلثار اإليجابية والثمار الطيبة لإليمان ﴿ َف َطا َل َع َلي ِْه ُم اَأْل َم ُد َف َق َس ْ
قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [الحديد . ]16 :
ويكفيك لتأكيد هذا المعنى قوله صلى هللا عليه وسلم « :إن اإليمان َي ْخ َلق في القلوب كما
يخلق الثوب فجددوا إيمانكم » (. )65
يقظة القلب هي البداية :
كما أن للبدن مراحل نمو ،كل مرحلة لها سماتها ومظاهرها ،كذلك اإليمان في القلب .
والمرحلة األولى للنمو اإليماني هي مرحلة « بداية اليقظة » ..يقظة القلب بنور اإليمان ،
حيث يمُنُّ هللا عز وجل على العبد بإدخال نور اإليمان إلى قلبه ،لتبدأ الحياة تدب في جنباته ،
وتبدأ معها مرحلة جديدة في مسيرة صاحبه ...وكيف ال ،والقلب – قبل يقظته – مظلم قد
سيطر عليه الهوى وتحكم في مشاعره ..يفرح بما تفرح به نفسه وهواها ،ويغضب لها ،
اس ويحزن على ما يفوتها أو يُضايقها ﴿ َأ َو َمنْ َك َ
ان َم ْي ًتا َفَأحْ َي ْي َناهُ َو َج َع ْل َنا َل ُه ُنورً ا َيمْ شِ ي ِب ِه فِي ال َّن ِ
ار ٍج ِم ْن َها ﴾ [األنعام . ]122 : ت َلي َ َك َمنْ َم َثلُ ُه فِي ُّ
الظلُ َما ِ
ْس ِب َخ ِ
تبدأ اليقظة – في الغالب – ببصيص من النور يجعل القلب يفيق قلياًل من غفلته ويستيقظ
سباته ،ليبدأ معها العقل في التفكير في حقيقة الحياة والموت ،ويزداد شغفه للتعرف على من ُ
تفاصيل ما يحدث بعد الموت ،ومن المتوقع في هذه المرحلة ،سيطرة الشعور بالندم على
القلب كلما استرجع ذكريات الماضي ،واألخطاء التي وقع فيها في حق هللا ،وفي حق اآلخرين
،فيدفعه هذا الشعور إلى الحياء من هللا عز وجل والرجاء في عفوه ومغفرته وتوبته ،ويدفعه
كذلك إلى العمل على رد الحقوق التي استلبها من اآلخرين .
وفي هذه المرحلة األولى من مراحل النمو اإليماني من المتوقع أن َيص ُغر حجم الدنيا – ولو
قليال -في عين العبد ،وينعكس ذلك على تعامله مع مفرداتها ،فبعد أن كان يُسابق ويُنافس عليها
،ويُف ِّكر فيها ليل نهار ،وال يُبالي -في سبيل نيلها – بغيره ،وبالضرر الذي قد يُسببه لآلخرين
...تجد حرصه عليها يتناقص ،ليثمر ذلك تحسنا ملحوظا في المعامالت والعمل على ضبطها
بضوابط الشرع ،وإن بقي الكثير من حب الدنيا في القلب .
38
ومن أهم المظاهر العملية لهذه المرحلة :االتجاه اإليجابي نحو أداء العبادات وفضائل
األعمال ،فتجد العبد حريصًا على أداء الصلوات المكتوبة في أول وقتها ،وإلحاقها بسننها
الراتبة ،وكذلك صيام رمضان وقيامه ،واإلكثار من صيام التطوع ،وتتملكه الرغبة في تعلم
أحكام تالوة القرآن ،وحفظ بعض سوره وأجزائه ،ويزداد حرصه على سماع دروس العلم ،
وااللتزام بما يمكن االلتزام به مما يُرضي هللا عز وجل من عبادات الجوارح ...
إياك واالغترار ببدايات اليقظة :
وصل العديد – بفضل هللا – إلى مرحلة « بداية اليقظة » ،وكانوا منها على قسمين :
القسم األول :قسم فرح بآثار اليقظة ،وبالتغيير المحدود الذي حدث له ،ففترت همته
وعزيمته للعمل على استكمال الترقي اإليماني ،واكتفى بما صار إليه ،ونسي أن اإليمان يزيد
وينقص ،وأن النفس له بالمرصاد ؛ مما يجعل اإليمان يتناقص في قلبه شيًئ ا فشيًئ ا ،فتعود –
بالتدريج – السيطرة للهوى مما يؤثر بالسلب على اهتماماته وسلوكياته .
..نعم ،في الغالب لن يعود لسابق عهده من الغفلة الشديدة والنوم العميق ،والسيطرة التامة
للهوى ،إال أن أحواله اإليجابية ستقل كثيرً ا عن المستوى الذي بدأ به مرحلة « بداية اليقظة » ،
فهو يُصلي لكنه ليس – كالسابق -حريصًا على الصالة في أول وقتها بالمسجد وبخاصة صالة
انضباطا صحيحً ا في معامالته المادية ...وهو ال ً الفجر ..وهو ال يسرق لكنه غير منضبط
صاًل من لوم اآلخرين أو تحقي ًقا لمصلحة . يكذب ،لكنه قد ال يقول الحقيقة كاملة تن ُّ
تم ُّكن اليقظة :
أما القسم الثاني :فهو قد قسم علِم أن ما َمنَّ هللا عليه من دخول نور اإليمان إلى قلبه ما هو
إال « بداية » رحلة سير القلب إلى هللا ،فشمَّر عن ساعد الجد ،واجتهد في تعاهد وإمداد القلب
باإليمان .
هذا القِسم من المتوقع أن يُكرمه هللا عز وجل فينتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو
واالرتقاء اإليماني ،وهي مرحلة « :تم ُّكن واستحكام اليقظة » .
ومن مظاهر هذه المرحلة :
● زيادة الحرص على فعل الخير أكثر وأكثر .
● زيادة الورع .
● انصراف الرغبة – بعض الشيء – عن الدنيا ،وعدم الفرح الشديد بإقبالها وزيادتها ،
أو الحزن العميق على فواتها و ُنقصانها .
● ازدياد التفكير في الموت وإمكانية لقائه في أي وقت ،مما يدفعه إلى زيادة التشمير
والسباق نحو فعل الخير .
ولقد أخبرنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بهذه العالمات ،فعن ابن مسعود رضي هللا عنه
قال :قلنا :يا رسول هللا ،قوله تعالى َ ﴿ :أ َف َمنْ َش َر َح هَّللا ُ َ
ص ْد َرهُ لِِإْل سْ اَل ِم َفه َُو َع َلى ُن ٍ
ور ِمنْ َر ِّب ِه ﴾
[الزمر . ]22 :كيف انشرح الصدر ؟ قال « :إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح » ،قلنا :يا
رسول هللا ،وما عالمة ذلك ؟ قال « :اإلنابة إلى دار الخلود ،والتجافي عن دار الغرور ،
واالستعداد للموت قبل نزوله » (. )66
استمرار النمو الحقيقي لإليمان :
) (66أخرجه الحاكم ( ، 4/346رقم ، )7863والبيهقي في شعب اإليمان ( ، 7/352رقم ، )10552وضعفه الشيخ األلباني في السلسلة
الضعيفة .
39
عندما تتمكن اليقظة من القلب ويستمر اإلمداد ،ومن َث َّم النمو واالرتقاء اإليماني ،فإن ذلك من شأنه
أن ينعكس على معامالت العبد في شتى المجاالت وبخاصة في تعامله مع ربه ،ومع الدنيا ،ومع المال
،ومع الناس ،ومع أحداث الحياة ...
هذا النمو من شأنه كذلك أن ينقل القلب من مرحلة إلى مرحلة في رحلة سيره إلى هللا حتى يصل إلى
أقرب ما يُمكن أن يصل إليه عبد في هذه الرحلة -بعد األنبياء -حيث الحضور القلبي الدائم مع هللا ،أو
بمعنى آخر :القلب السليم األبيض الذي ال تضُرُّ ه فتنة ما دامت السماوات واألرض كما جاء في الحديث
« :تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عو ًدا عو ًدا ،فأي قلب ُأشربها ُنكِتت فيه نكتة سوداء ،
ي قلب أنكرها ُنكِتت فيه ُنكته بيضاء ..حتى تصير القلوب على قلبين :قلب أبيض مثل الصفا ال وأ ُ
تضره فتنة ما دامت السموات واألرض ،ويصير اآلخر مربا ًدا كالكوز مجخيًا ال يعرف معرو ًفا وال
شرب من هواه » (.)67 ُأ
ينكر منكرً ا إال ما ِ
وفي أثناء رحلة القلب إلى هللا يحدث له حدث هام وفارق ومحوريّ أال وهو « الوالدة الثانية
».
وإليك -أخي القارئ – بعضًا من التفصيل حول هذه النقاط التي تتناول انعكاسات النمو
اإليماني على الكثير من العالئق والمعامالت .
التعامل مع الدنيا مقياس النمو الحقيقي لإليمان :
عندما يكون اإليمان مخدرً ا نائمًا منزويًا في القلب تجد صاحبه غافاًل ،ال يستطيع أن يرى
الدنيا على حقيقتها ،بل يراها جميلة مبهرة تذهب باألبصار ،فيشتد حرصه عليها ،ويزداد فكره
فيها وفي كيفية تحصيلها ..
فإن كان هذا الشخص طالبًا في المدرسة أو الجامعة تجده كثير الفكر في مستقبله ،وكيف
سيُدبِّر أمر زواجه ،وعمله ،إلخ .
وإن كان فقيرً ا تجده يحلم بالغنى ،وينظر نظرة الطامع إلى دنيا غيره ..يمُد عينيه إليها
ويتم َّناها لنفسه ...
وإن كان ثر ًّيا تجده دائم الفكر في كيفية إنماء أمواله ،ومسابقة أقرانه ،واغتنام كل فرصة تلوح
أمامه من شأنها أن ُتزيده ثراء .
حالهم جميعًا كحال األطفال وهم يلهون بال ُدمى ..يفرحون إذا ما حصلوا على ُدمية جديدة ،
ويقضون معها الساعات الطوال ،ويحزنون عليها إذا ما انكسرت وتعطلت ،ويحلمون بشراء المزيد
والمزيد منها .فإذا جلس إليهم من يك ُبرُهم قلياًل في العمر وتجاوز مرحلة الطفولة ،تجده غير مبال بهم
وبألعابهم واهتماماتهم .
كذلك حال الناس مع الدنيا ،فهم يلهون بطينها ويتنافسون عليها ،ويفرحون بتحصيل أي شيء منها
،ويظ ُّنون أن هذا هو غاية السعادة ،فإذا ما استيقظ اإليمان في قلوب بعضهم ،واستحكمت اليقظة
منها ،فإنهم – وبصورة تلقائية – ال يجدون في أنفسهم رغبة في مشاركة من حولهم اللهو بهذا
الطين ،وتنصرف رغبتهم -شيًئ ا فشيًئ ا – عنها ..هذا التحول ليس بأيديهم ،بل هو انعكاس لطبيعة
مرحلة « النمو اإليماني » الذي ارتقوا إليه ،كحال من انتقل إلى مرحلة البلوغ من األطفال عندما
يأتيه أبوه بالدُمية التي طالما تاقت نفسه إليها في الصِ َغر ،فإذا به يتعامل معها بدون لهفة وال شغف ،
سرعان ما يتركها وال ُيبالي بها . و ُ
وليس معنى انصراف الرغبة عن الدنيا هو هجرها وتركها وعدم التعامل مع مفرداتها ،بل إن الفرد
ُسخرة له لتساعده في إنجاح مهمةفي هذه المرحلة يتعامل معها على أنها مزرعة لآلخرة ،وأنها م َّ
وجوده عليها ،وال بأس من التمتع بها بالقدر الذي ال يُنسيه تلك المهمة .
) (67أخرجه مسلم ( )1/89رقم ( ، )386واألسود المُرباد :شدة البياض في سواد ،ومُجخيًا :أي منكوسًا .
40
أو بمعنى آخر :تخرج الرغبة في الدنيا ،والشغف بها ،والحرص واللهفة عليها من قلبه ،
فيتعامل معها بعقله قبل مشاعره ،وبما يُحقق له مصلحته الحقيقية في الدارين ،ويم ِّكنه من نفع
نفسه وأمته فيكون ممن يترك فيها أثرً ا صالحً ا ،وبذلك ُتصبح الدنيا في يده ،يتحكم فيها وال
تتحكم فيه .
النمو اإليماني والتعامل مع المال :
المال هو أهم رمز « للدنيا » ،والكثير من الناس يظ ُّنون أنهم يستطيعون من خالل وجوده
معهم أن يُحققوا جميع أمانيهم ويجلبوا ألنفسهم السعادة ،ويتمتعوا بمباهج الحياة كيفما شاءوا ،
لذلك يُش ِّكل المال المادة األساسية للطمع والتنافس والحسد بين الناس .
شحِّ ها به ؛ فإن من وألن الشيطان يعلم ذلك ،ويعلم طبيعة النفس وحبها الشديد للمال ،و ُ
مداخله الرئيسية على الناس :إزكاء هذه الطبيعة فيهم ،وتخويفهم من المستقبل المجهول ،ومن
ْطانُ َي ِع ُد ُك ُم ْال َف ْق َر َو َيْأ ُم ُر ُك ْم ِب ْال َفحْ َشا ِء ﴾ [البقرة . ]268 :
احتمالية حدوث الفقر ﴿ ...ال َّشي َ
فإذا ما استيقظ اإليمان – يقظة حقيقية متمكنة من القلب – كان من أهم عالمات التغيير الذي
يحدث للمرء :اختالف طريقة تعامله مع المال .
ُّون ْال َما َل
..نعم ،في البداية ال يكون التغيير كبيرً ا ،فالمال من أحب األشياء للنفس ﴿ َو ُت ِحب َ
ُح ًّبا َج ًّما ﴾ [الفجر . ]20 :
إال أن النهم والشغف بالمال ستقِل ثائرته -نسب ًّيا -في ذات العبد ،وكلَّما ن َما اإليمان أكثر
انعكس ذلك على طريقة تعامله معه ،فيزداد إنفاقه في أوجه الخير المختلفة ،ويسهل عليه اتخاذ
قرار اإلنفاق السيما في أوقات العُسر واالحتياج ﴿ الَّذ َ
ِين ُي ْن ِفقُ َ
ون فِي السَّرَّ ا ِء َوالضَّرَّ ا ِء ﴾ [آل عمران :
. ]134
وشيًئ ا فشيًئ ا ينقطع تعلق القلب بالمال ،ومن َث َّم يصير ح ًُّرا منه ،ال عبد له .
ومن مظاهر التغيير في هذا الجانب :نقص ملحوظ يشعر به المرء في فرحه عندما ُيفاجأ
بزيادة رصيده من المال ،أو عند الفوز بصفقة رابحة ،وكذلك نقص ملحوظ في حزنه عند
فقده جزء من ماله ،أو عند ضياع مصلحة دنيوية كانت في متناول يده ،وليس معنى هذا أن
مشاعر الفرح والحزن ال تتحرك لديه عند إقبال المال أو إدباره ولكنه انفعال لحظي سرعان ما
يزول .
ومن المظاهر العملية للتغيير في هذا الجانب :السماحة في البيع والشراء ،فتجده ال يُدقق
في سعر الشيء ليشتريه بأرخص األسعار ،أو يُغالي فيه ليبيعه بأعالها .
وكلما نما اإليمان أكثر وأكثر صار اإلنفاق أحب إليه من اإلمساك ،وهو حين يفعل ذلك يفعله
بدافع الثقة العميقة بأن اآلخرة هي خير وأبقى ،وأن الحياة في الجنة هي الحياة الحقيقية الدائمة
التي ينبغي أن يتجهز لها العبد فيؤدي ذلك اإليمان إلى تحيُّن أي فرصة إلرسال ما يُمكن إرساله
من أموال وخالفه إلى داره الباقية « هناك » ،ويجد صعوبة في إبقاء الشيء لداره الدنيوية التي
يشعر أنه سيتركها بين لحظة وأخرى .
ولك أن تتأكد من هذا المعنى أكثر وأكثر إذا ما راجعت سيرة الرسول صلى هللا عليه وسلم ،
وكيف أنه مات ودرعه مرهو ًنا عند يهودي مع أنه صلى هللا عليه وسلم قد جاءته أموال كثيرة من
الغنائم كغنائم خيبر والطائف ،لكنه كان يُنفقها إنفاق من ال يخشى الفقر ،فكما يقول أنس بن
مالك رضي هللا عنه :ما سُئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على اإلسالم شيًئ ا إال أعطاه ،ولقد
جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين ،فرجع إلى قومه فقال :يا قوم أسلموا ،فإن محم ًدا يعطي
عطاء من ال يخشى الفقر (. )68
) ( 69حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، )6/50والترمذي ( ، 4/644رقم )2470وقال :صحيح ،وصححه الشيخ األلباني في السلسلة
الصحيحة برقم ( . )2544
) ( 70أخرجه ابن أبى شيبة ( ، 6/24رقم ، )29184وأبو داود ( ، 4/324رقم ، )5090وأحمد ( ، 5/42رقم ، )20446وقال الشيخ
األلباني صحيح اإلسناد .
42
والهدف العظيم من وجود المخلوقات بهذه الكثرة على اختالف أشكالها وألوانها وأوصافها هو
ار َو ْالفُ ْلكِ الَّتِي َتجْ ِري فِي اخ ِتاَل فِ اللَّي ِْل َوال َّن َه ِض َو ْ ت َواَأْلرْ ِ الداللة على هللا ﴿ ِإنَّ فِي َخ ْل ِق ال َّس َم َاوا ِ
ث فِي َها ِمنْ ض َبعْ دَ َم ْو ِت َها َو َب َّ اس َو َما َأ ْن َز َل هَّللا ُ م َِن ال َّس َما ِء ِمنْ َما ٍء َفَأحْ َيا ِب ِه اَأْلرْ َ ْال َبحْ ِر ِب َما َي ْن َف ُع ال َّن َ
ون ﴾ [البقرة : ت لِ َق ْو ٍم َيعْ ِقلُ َض آَل َيا ٍ ب ْالم َُس َّخ ِر َبي َْن ال َّس َما ِء َواَأْلرْ ِ اح َوالس ََّحا ِ ُك ِّل دَ ا َّب ٍة َو َتصْ ِريفِ الرِّ َي ِ
.]164
والهدف كذلك من تقلبات أحداث الحياة من سرَّ اء وضرَّ اء ،وعطاء ومنع ،وصحة ومرض
،إلخ ؛ هو إظهار قدرته سبحانه وقيُّوميته ،وعزته ،ورحمته ،وحكمته ...وسائر صفاته .
واإلنسان هو المخاطب بهذا كله ،وعليه أن يتعرف على ربه من خالل هذه المشاهد
ُون ﴾ [األنعام ت َل َعلَّ ُه ْم َي ْف َقه َصرِّ فُ اآْل َيا ِ ْف ُن َ ظرْ َكي َ واألحداث التي تحدث أمامه ،ويُشاهدها دومًا ﴿ ا ْن ُ
. ]65 :
لكن ظلمات الهوى واالنكفاء نحو طين األرض قد تحُول بينه وبين الرؤية الصحيحة والتحليل
ون َع َل ْي َها َو ُه ْم َع ْن َهاض َيمُرُّ َ ت َواَأْلرْ ِ الحقيقي لهذه المشاهد واألحداث ﴿ َو َكَأيِّنْ ِمنْ آ َي ٍة فِي ال َّس َم َاوا ِ
ُون ﴾ [يوسف . ]105 : مُعْ ِرض َ
فإذا ما استيقظ اإليمان ؛ فإنه في البداية يكون بمثابة بصيص من النور يظهر في القلب يجعله
ينتبه -بعض الشيء – لِما يجري حوله ،وبخاصة في اآليات الكبيرة التي يرسلها هللا عز وجل .
فإذا ما نما اإليمان أكثر ،قوي نور البصيرة أكثر لتزداد الرؤية العامة وضوحً ا ،ويزداد
ربط األحداث والمشاهد باهلل عز وجل .
..نعم ،من المتوقع أال تكون هذه الرؤية حاضرة في كل األوقات ،بل ستكون نسبتها
محدودة ،ولكنها ستزداد مساحتها – بإذن هللا – بمرور الوقت وازدياد النمو اإليماني ،
لتسيطر على فكر العبد ومشاعره ،فتجعله يعيش بكيانه في حقيقة التوحيد ،ف َي ْع ُبر من
المشاهدة إلى شهود صفات هللا عز وجل وهي تعمل ،فيربط كل ما يحدث أمامه وكل ما يشاهده
ُون ﴾ [الواقعة ، 63 : ارع َ ون (َ )63أَأ ْن ُت ْم َت ْز َرعُو َن ُه َأ ْم َنحْ نُ َّ
الز ِ باهلل عز وجل ﴿ َأ َف َرَأ ْي ُت ْم َما َتحْ ر ُُث َ
. ]64
ْت َو َلكِنَّ هَّللا َ َر َمى ﴾ [األنفال . ]17 : ْت ِإ ْذ َر َمي َ
﴿ َف َل ْم َت ْق ُتلُو ُه ْم َو َلكِنَّ هَّللا َ َق َت َل ُه ْم َو َما َر َمي َ
وكان صلى هللا عليه وسلم يعيش بكيانه كله في هذه الحقيقة ..انظر إليه وهو يقول ألصحابه
« :إن الشمس والقمر ال ينكسفان لموت أحد وال لحياته ،ولكنهما آيتان من آيات هللا ،يخوِّ ف
بهما عباده ،فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم » (. )71
وكان يقول « :إنما أنا مبلغ وهللا يهدي ،وإنما أنا قاسم ،وهللا يُعطي » (. )72
وعندما مات ابن لزينب ابنته قال « :قولوا لها :هلل ما أخذ وهلل ما أعطى . )73( » ...
ولقد كان الصحابة كذلك يعيشون في ظالل هذه الحقيقة ،فهذا عبد هللا بن عتيك بعد أن قتل
أبا رافع اليهودي في حصن خيبر يعود مسرعًا إلى أصحابه يُبشرهم بقتله ويستحثهم على سرعة
مغادرة المكان ،ومع هذا الوضع المتوتر إال أنه لم ينس تلك الحقيقة فقال لهم :النجاء ،فقد قتل
هللا أبا رافع (. )74
وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يقُصّ على من حوله قصة إسالمه فيقول :وأبى هللا إال أن
يُسمعني بعض قوله (..)75
) (71متفق عليه :أخرجه البخاري ( ، 353 / 1برقم ، ) 993ومسلم ( ، 35 / 3برقم . )2153
) ( 72حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ،133 / 28برقم ، )16936و الطبراني في المعجم الكبير ( ، 19/389رقم ، )914وصححه الشيخ
األلباني في السلسلة الصحيحة برقم (. )1628
) (73جزء من حديث أخرجه البخاري ( ، 2435 / 6برقم . )6228
) (74جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ج /4ص 1484حديث رقم ، 3813 :انظر السيرة النبوية لعلي الصاَّل بي . 2/418
) (75معرفة الصحابة ألبي نعيم األصبهاني ،175 / 11( -برقم ، )3500السيرة النبوية البن هشام (. )226 / 2
43
وهذا سعد بن أبي وقاص يُرسل رسالة إلى عمر بن الخطاب يُبشره فيها بنصر القادسية
فيقول فيها :ولقد استشهد « هللا » فال ًنا وفال ًنا (. )76
مع المنع والعطاء :
ومع انعكاس النمو اإليماني على وضوح الرؤية آليات هللا المختلفة ،فإنه أيضًا ينعكس على
طريقة استقبال العبد لها ،وتعامله معها ،فتجده يربط النعم التي َت ِرد عليه باهلل المنعم ،ويفرح
بفضله – سبحانه – ويستكثر على نفسه هذا الفضل ،ومن َث َّم تهيج مشاعر االمتنان هلل عز وجل
في قلبه ليعيش حالة القلب الشاكر .
..وفي أوقات المحن والباليا تجده – وإن تضايق قلياًل في البداية – إاَّل أنه سرعان ما يعود
سخط ،بل ومن المتوقع -مع استمرار النمو اإليماني – به إيمانه إلى الصبر وعدم الجزع أو ال َت ُّ
أن يعيش المرء في حالة الرضا عن هللا ،فيسكن قلبه مهما تقلَّبت به األحداث .
وباستمرار النمو اإليماني يزداد فهم العبد ألحداث الحياة وتقلباتها وبخاصة المؤلمة منها
ب هَّللا ُ َل َنا ﴾ [التوبة ]51 :
لتتحول كلها في نظره إلى عطاء من هللا عز وجل ﴿ قُ ْل َلنْ يُصِ ي َب َنا ِإاَّل َما َك َت َ
.
ومما يلزم التنويه إليه أنه مهما ارتقى اإليمان في قلب العبد إال أن بشريته – وما فيها من
ضعف – لن ُتفارقه ،لذلك فمن المتوقع أن َت ِز ّل األقدام في بعض األمور القليلة والنادرة ،لكن
داعي اإليمان سُرعان ما يدفع صاحبه للعودة السريعة والتوبة النصوح ،واستئناف السير إلى هللا
ُون ﴾ [األعراف . ]201 : ان َت َذ َّكرُوا َفِإ َذا ُه ْم ُم ْبصِ ر َْط ِِين ا َّت َق ْوا ِإ َذا َم َّس ُه ْم َطاِئفٌ م َِن ال َّشي َ
﴿ ِإنَّ الَّذ َ
حقيقــــــــــة
اإليمـــــــــــــــــــــان
49
الهدف الذي ترمي إليه صفحات هذا الفصل هو وضوح الرؤية حول
حقيقة اإليمان ،والفارق بين اإليمان والعمل الصالح ( عبادات القلوب
،وعبادات الجوارح ) ،وكيف نعرف أن إيماننا قد ازداد مع الطاعة أم
لم يزدد ؟
و ُتجيب هذه الصفحات عن السؤال الذي يشغل بال الكثيرين :
آثارا سلوكية إيجابية لألعمال الصالحة التي نؤديها ؟!
لماذا ال نرى ً
..وإن كان الحديث في هذا الفصل يغلب عليه الجانب العقلي إال أن
له أهمية كبيرة في الفهم المتكامل لحقيقة اإليمان ..هذا الفهم سيكون
سا إيجاب ًّيا على طريقة التعامل مع العباداتله – بإذن هللا – انعكا ً
واألعمال الصالحة .
لذلك أطلب من نفسي ومنك – أخي القارئ – أن نقرأ هذه الصفحات
بهدوء وتركيز شديدين ،وأن تكون قراءة متصلة غير منقطعة ألنها
أفكارا وعناصر متسلسلة ينبني كل واحد منها على اآلخر ، ً تتضمن
وهللا المستعان .
50
الفصل الرابع
حقيقة اإليمان
رأينا فيما سبق كيف أن لإليمان آثارً ا عظيمة تنال الفرد واألمة ،كما تم – بفضل هللا –
الحديث عن مراحل النمو اإليماني ،وأهداف التربية اإليمانية ليبقى السؤال :
وكيف لنا أن ُنحقق هذه األهداف ونرى هذه اآلثار ؟
هل المطلوب لكي نتمتع بثمار اإليمان أن نؤدي الصالة على وقتها ،وأن ُنطيل المكث في
المسجد ،و ُنكثر من القيام باألعمال الصالحة المختلفة ؟
..مع األهمية القصوى لهذه األعمال إال أننا ُنشاهد من يقوم بها أو ببعضها ،وال نرى آثارً ا
مثل التي ُذكرت ساب ًقا أو حتى قريبة منها ،بل قد نجد العكس ..قد نجد شخصًا يحافظ على أداء
الصلوات في المسجد ،ويُصلي النوافل ،ويُكثر من ذكر هللا بلسانه ،ومع ذلك تجده شديد
الحرص على ماله ،يحسب كل شيء بأدق تفاصيله ..يُفكر دومًا في تحصيل ح ِّقه أواًل قبل
حقوق اآلخرين ،شديد التركيز مع الدنيا ،إذا ذهب لشراء شيء ما تجده – في الغالب – ينتقل
بين الحوانيت للبحث عن األرخص ثم ًنا ،فإذا ما استقر على حانوت ما ،تجده يدخل في صراع
مع البائع لتخفيض الثمن إلى أقصى ما يُمكن تخفيضه .
وإذا ما كان صاحب عقار تجده يتعامل مع المستأجرين معاملة جافة غليظة ،ويجتهد في
التنصل من حقوقهم عليه .
قد يُعامل زوجته وأوالده معاملة حا َّدة وجافة ،فيُحاسبهم على كل شيء ،ويُدقق معهم في كل
صغيرة وكبيرة .
ُأ
يُصاب بالفزع والهلع إذا ما صيب ماله بخسارة ولو طفيفة ،أو ضاعت من بين يديه صفقة
رابحة ..يحسد اآلخرين على فضل هللا عليهم ،وفي المقابل تجده يخاف من الحسد خو ًفا شدي ًدا ،
فال يكاد يُظهر فضل ربه عليه وإن اضطره ذلك للكذب .
صا باألغنياء فقط ،فالفقراء ومتوسطوا الحال كذلك قد تجد فيهم بعض التناقض وليس هذا خا ًّ
بين عباداتهم الظاهرة وبين سلوكياتهم ومعامالتهم ،ومن ذلك :شدة حرصهم على الدنيا ،
والحزن على فوات شيء يسير منها ،والتلهُّف عليها ،وكثرة التفكير في المستقبل .
وينكشف حجم اإليمان الضعيف أكثر وأكثر عند المساس بمصالحهم الدنيوية ،فال غضاضة
ًّ
ضرا. من الكذب ،وعدم الوفاء بالعهود والوعود إذا كان هذا سيحقق لهم نفعًا أو يصرف عنهم
الدنيا والمال :
مما ال شك فيه أن المحافظة على أداء الصلوات من مظاهر اإليمان ،ولكن عندما ال تتواكب
هذه المظاهر مع هوان الدنيا في عين صاحبها ،وضآلة حجمها في قلبه ،فإن ذلك يُعد بمثابة
مؤشر خطير لعدم تم ُّكن اإليمان من قلبه ،وعدم وصوله لمرحلة « استحكام اليقظة » .
فإن قلت :أليس اإليمان هو الذي دفعه للصالة ؟!
..نعم ،الذي دفعه ألداء الصالة – بجوارحه – هو القدر المحدود من اإليمان في قلبه ،وفي
المقابل فإن الذي يمنعه من التفاعل معها والتأثر بها هو محدودية هذا اإليمان وعدم يقظته ،
والدليل على ذلك هو عدم ظهور آثار أدائه للصالة على سلوكه بصورة ملحوظة .
ونفس الكالم ينطبق على األخالق والمعامالت ،فإن لم يحدث تحسن فيها فإن ذلك يعني أن
اإليمان لم يتحسن وإن قام المرء بأداء الكثير من صور العبادات واألعمال الصالحة .
فأين تكمن المشكلة ؟ ..أين أثر العبادة ؟
..اإلجابة عن هذه األسئلة تدعونا ألن نتعرف أكثر على القلب وعلى اإليمان وحقيقته ...
القلب والمشاعر :
51
ت اَأْلعْ َرابُ آ َم َّنا قُ ْل َل ْم ُتْؤ ِم ُنوا َو َل ِكنْ قُولُوا َأسْ َلمْ َنا َو َلمَّااإليمان مكانه القلب وليس العقل ﴿ َقا َل ِ
وب ُك ْم ﴾ [الحجرات . ]14 : َي ْد ُخ ِل اِإْلي َمانُ فِي قُلُ ِ
ِين َقالُوا آ َم َّنا ِبَأ ْف َواه ِِه ْم َو َل ْم ُتْؤ ِمنْ
ُون فِي ْال ُك ْف ِر م َِن الَّذ َ
ارع َ ِين ي َُس ِ ﴿ َيا َأ ُّي َها الرَّ سُو ُل اَل َيحْ ُز ْن َ
ك الَّذ َ
قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [المائدة . ]41 :
والقلب هو مركز اإلرادة داخل اإلنسان ،وهو الملك على الجسد كله وما من فعل أو سلوك
إرادي نقوم به إال ويأخذ األمر بالتنفيذ من القلب « :أال إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ..أال وهي القلب »(. )84
ومن أهم خصائص القلب أنه َمجمع المشاعر داخل اإلنسان ..مشاعر الحب والشوق ،
والرغبة والرهبة ،والطمأنينة ،واالشمئزاز ،والجزع والهلع ،والرعب ،والغيظ ،والرأفة
والرحمة ،والوجل والسكينة . ...
ب ﴾ [األنفال . ]12 : ِين َك َفرُوا الرُّ عْ َ ب الَّذ َ﴿ َسُأ ْلقِي فِي قُلُو ِ
﴿ َأاَل ِبذ ِْك ِر هَّللا ِ َت ْط َمِئنُّ ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد . ]28 :
ون ِباآْل خ َِر ِة ﴾ [الزمر . ]45 : ت قُلُوبُ الَّذ َ
ِين اَل يُْؤ ِم ُن َ ﴿ َوِإ َذا ُذك َِر هَّللا ُ َوحْ دَ هُ ا ْش َمَأ َّز ْ
ِين ﴾ [الفتح . ]4 : ب ْالمُْؤ ِمن َ ﴿ ه َُو الَّذِي َأ ْن َز َل ال َّسكِي َن َة فِي قُلُو ِ
ِين ا َّت َبعُوهُ َرْأ َف ًة َو َرحْ َم ًة ﴾ [الحديد . ]27 : ب الَّذ َ ﴿ َو َج َع ْل َنا فِي قُلُو ِ
وب ِه ْم ﴾ [آل عمران . ]156 : ﴿ لِ َيجْ َع َل هَّللا ُ َذل َِك َحسْ َر ًة فِي قُلُ ِ
ت قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [األنفال . ]2 :ِين ِإ َذا ُذك َِر هَّللا ُ َو ِج َل ْ
ون الَّذ َ ﴿ ِإ َّن َما ْالمُْؤ ِم ُن َ
وب ِه ْم ﴾ [التوبة . ]15 : ﴿ َوي ُْذهِبْ َغي َ
ْظ قُلُ ِ
معنى ذلك أن الدافع والمُحرك للسلوك اإلرادي هي المشاعر .
اإليمان والمشاعر :
وألن اإليمان محله القلب ،والقلب هو مجمع المشاعر داخل اإلنسان ،فاإليمان -إذن -محله
المشاعر :
ب ْالمُْؤ ِمن َ
ِين لِ َي ْزدَ ا ُدوا ِإي َما ًنا َم َع ِإي َمان ِِه ْم ﴾ [الفتح . ]4 : ● ﴿ ه َُو الَّذِي َأ ْن َز َل ال َّسكِي َن َة فِي قُلُو ِ
ت َل ُه قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [الحج . ]54 : ● ﴿ َفيُْؤ ِم ُنوا ِب ِه َف ُت ْخ ِب َ
وب ُك ْم ﴾ [الحجرات . ]7 : ان َو َز َّي َن ُه فِي قُلُ ِ ● ﴿ َو َلكِنَّ هَّللا َ َحب َ
َّب ِإ َل ْي ُك ُم اِإْلي َم َ
ومن أحاديث الرسول صلى هللا عليه وسلم التي تؤكد هذا المعنى :
« ثالث من ُكنَّ فيه وجد حالوة اإليمان :أن يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وأن يُحب
المرء ال يُحبُّه إال هلل ،وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه هللا منه ،كما يكره أن يُلقى في النار »
(. )85
وقوله « :أوثق عُرى اإليمان :الحب في هللا والبغض في هللا » (. )86
فاإليمان – إذن -هو الذي يوجه المشاعر ،ومن َث َّم السلوك ،مع األخذ في االعتبار أن الهوى أيضًا
له دور بارز في توجيه المشاعر ،ولكن ما هو الهوى ؟
الهوى والمشاعر :
من تعريفات النفس أنها َمجمع الشهوات والغرائز داخل اإلنسان ،والهوى هو ما تميل إليه النفس .
والنفس تهوى الراحة وتكره التكليف ُ ،تحب الظهور والمدح ،وتكره النقد والذم ُ ،تحب االستمتاع
بالشهوات ،وتضيق بمنعها ،ترغب في االنتصار لرأيها ،وتنفر ممن يُخالفها .
) (84جزء من حديث متفق عليه :أخرجه البخاري ( ، 1/28رقم ، )52ومسلم ( ، 3/1219رقم .)1599
) (85متفق عليه ،أخرجه البخاري ( ،14 / 1برقم ، )16ومسلم ( ، 1/67رقم . )43
) (86حديث صحيح :أخرجه الطبراني ( ، 11/215رقم . )11537والبيهقي في شعب اإليمان ( ، 7/70رقم ، )9513وقال الشيخ األلباني
في صحيح الجامع :صحيح ،رقم .)2539( :
52
هذه األهواء ال يُمكن التعبير عنها على أرض الواقع إال من خالل القلب ،ألنه هو مركز اإلرادة ،
لذلك فهي تعمل على السيطرة عليه ،والتم ُّكن من المشاعر لتستطيع من خاللها تنفيذ ما ُتريده وتهواه .
53
فأول وأهم مرحلة لالنقياد للشيء هي اإليمان به ( أو االطمئنان له ،والثقة فيه ) ،فالذي
يأخذ دواء ما البد وأن يكون قد اطمأن له بقلبه ،وأاَّل يكون شا ًّكا وال مُرتابًا فيه .
والذي يجد أمامه عدة طرق ،وال يدري أيهم يوصله إلى مقصوده فإنه يظل يسأل ويتقصى
حتى تزول حيرته ،ويطمئن إلى الطريق الصحيح ،فيتوجه إليه ،فإن لم يترجح لديه طريق ،
وسار في أحدهم من باب التجربة ،تجده شا ًّكا مرتابًا متحيرً ا أثناء سيره ،ويظل كذلك حتى يجد
عالمة أو آية ُتذهب حيرته ،وتبعث اإليمان واالطمئنان إلى قلبه بأن ما يسير فيه هو الطريق
الصحيح ..تأمل قول الحواريين وهم يطلبون من عيسى بن مريم عليه السالم نزول مائدة من
صدَ ْق َت َنا ﴾ [المائدة . ]113 : السماء عليهم ﴿ َقالُوا ُن ِري ُد َأنْ َنْأ ُك َل ِم ْن َها َو َت ْط َمِئنَّ قُلُو ُب َنا َو َنعْ َل َم َأنْ َق ْد َ
من هنا نقول بأن اإليمان هو تصديق القلب واطمئنانه وثقته في الفكرة التي ُتطرح على
العقل .
هذه الثقة تبدأ صغيرة وتنمو إذا ما تم تغذيتها حتى تصل إلى ثقة مطلقة بال أدنى ريب أو
شك .
الفارق بين القناعة العقلية بالفكرة وبين اإليمان بها :
قد ُتناقش شخصًا ما في أمر من األمور فيقتنع أمامك بما تقول لكنه ال يفعل مقتضيات هذا
االقتناع ،كأن ُتناقشه – مثاًل – في ضرورة وأهمية مقاطعة منتجات الدول التي أساءت إلى
الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وتعرفه كيف يُمكن لهذه المقاطعة أن تؤثر على هذه الدول ،
فيُبدي أمامك اقتناعه بما تقول بعد سلسلة من االعتراضات والمناقشات ،وبعد ذلك تجده ال يُقاطع
تلك المنتجات ،فما السبب في ذلك ؟
السبب أنه وإن كان قد اقتنع بعقله إاَّل أن قلبه لم يطمئن اطمئنا ًنا كاماًل لما تقول ،أي أنه لم
ِين َقالُوا آ َم َّنا ِبَأ ْف َواه ِِه ْم َو َل ْم ُتْؤ ِمنْ قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [المائدة . ]41 : يؤمن بما تقول ﴿ م َِن الَّذ َ
ومما ال شك فيه أن بداية اإليمان بالشيء هو اإلقرار العقلي به ،ولكن إن توقف هذا
اإلقرار عند حدود العقل ،ولم يمتزج بالمشاعر ،ولم تحدث الطمأنينة والثقة فيه ،فقد ابتعد
عن مفهوم اإليمان ،ومن َث َّم فلن تظهر له ثمرة في السلوك ،وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذا
المعنى :
فدراسة أبحاث القضاء والقدر من كتب العقيدة وعلم الكالم ،قد تصل بالمرء إلى االقتناع
بحقيقة القضاء والقدر ،إال أنها – في الغالب – ال ُتنشئ إيما ًنا حقيق ًّيا به بحيث تظهر آثاره عند
مواجهة األقدار المؤلمة ،وسبب ذلك أن أغلب هذه الكتب ُتخاطب الفكر فقط ،وال تؤثر في
المشاعر ،وفي المقابل لك أن تقرأ القرآن وتنظر إلى طريقته في إقناع العقل وإلهاب المشاعر
فيمتزج الفكر بالعاطفة وينشأ اإليمان – إن انتفت الموانع ( ، )87ومثال ذلك قوله تعالى َ ﴿ :وِإنْ
ون هَّللا ِ ِإنْ ُك ْن ُت ْم
ش َهدَ ا َء ُك ْم ِمنْ ُد ُِور ٍة ِمنْ م ِْثلِ ِه َو ْادعُوا ُ ب ِممَّا َن َّز ْل َنا َع َلى َع ْب ِد َنا َفْأ ُتوا ِبس َ ُك ْن ُت ْم فِي َر ْي ٍ
ِين ﴾ [البقرة . ]23 : صا ِدق َ َ
فهذا خطاب يُناقش العقل بالحجة ويتح َّداه حتى يُقر بالعجز فيقتنع بصدق الرسالة وأنها من
عند هللا ،لكن األمر ال يتوقف عند ذلك ،بل نجد اآليات التي تتلوها ُتخاطب المشاعر حتى
ار الَّتِي َوقُو ُد َها ال َّناسُ يحدث المزج بين الفكر والعاطفة ﴿ َفِإنْ َل ْم َت ْف َعلُوا َو َلنْ َت ْف َعلُوا َفا َّتقُوا ال َّن َ
ت َتجْ ِري ِمنْ َتحْ ِت َها ت َأنَّ َل ُه ْم َج َّنا ٍ ِين آ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ ين * َو َب ِّش ِر الَّذ َ ارةُ ُأعِ َّد ْ
ت ل ِْل َكاف ِِر َ َو ْالح َِج َ
) (87هناك موانع لإليمان تندرج جميعها تحت سببين اثنين :الجهل والهوى ،فالجهل بالحق وعدم معرفته وعدم وصوله للفرد بطريقة صحيحة
هو السبب األول ،أما السبب الثاني وهو الهوى :فهو إما أن يكون بسبب الكبر واستعظام النفس أن تسمع من غيرها ،أو بسبب حُبّ الدنيا والرغبة في
ُون َأهْ َوا َء ُه ْم ﴾ [القصص ]50 :
االستمتاع بها دون ضوابط أوتكاليف ،أو خو ًفا على النفس من تبعات اإليمان بالحق ﴿ َفِإنْ َل ْم َيسْ َت ِجيبُوا َل َك َفاعْ َل ْم َأ َّن َما َي َّت ِبع َ
.
54
اَأْل ْن َها ُر ُكلَّ َما ر ُِزقُوا ِم ْن َها ِمنْ َث َم َر ٍة ِر ْز ًقا َقالُوا َه َذا الَّذِي ر ُِز ْق َنا ِمنْ َق ْب ُل َوُأ ُتوا ِب ِه ُم َت َش ِابهًا َو َل ُه ْم فِي َها
ون﴾ [البقرة . ]24 : َأ ْز َوا ٌج م َ
ُطه ََّرةٌ َو ُه ْم فِي َها َخالِ ُد َ
وخالصة القول في هذه المسألة بأنه ليست العبرة فقط بتصديق العقل واقتناعه بالشيء
الذي يراه أو يسمع عنه ،بل البد من أن ُيصاحب ذلك تصديق قلبي ،أي :اطمئنان وثقة
ورضا بهذه المعلومة .
انظر إلى هذا التسلسل الواضح للسلوك اإلرادي ( إصغاء من العقل للمعلومة ،ثم تصديق
واقتناع بها ثم طمأنينة ورضى قلبي يدفع للسلوك ) وذلك في قوله تعالى َ ﴿ :و َك َذل َِك َج َع ْل َنا لِ ُك ِّل
ُّك َما ُف ْال َق ْو ِل ُغرُورً ا َو َل ْو َشا َء َرب َ ض ُز ْخر َ ض ُه ْم ِإ َلى َبعْ ٍ س َو ْال ِجنِّ يُوحِي َبعْ ُ َن ِبيٍّ َع ُد ًّوا َشيَاطِ َ
ين اِإْل ْن ِ
ض ْوهُ َولِ َي ْق َت ِرفُوا ون ِباآْل خ َِر ِة َولِ َيرْ َ ِين اَل يُْؤ ِم ُن َ ُون (َ )112ولِ َتصْ َغى ِإ َل ْي ِه َأ ْفِئدَ ةُ الَّذ َ َف َعلُوهُ َف َذرْ ُه ْم َو َما َي ْف َتر َ
ون ﴾ [األنعام .]113 ، 112 : َما ُه ْم ُم ْق َت ِرفُ َ
شمول معنى اإليمان :
والجدير بالذكر أن اإليمان كلمة عامة تشمل كل تصديق واطمئنان وثقة قلبية بأي شيء
ت ون ِب ْال ِج ْب ِ ب يُْؤ ِم ُن َ ِين ُأو ُتوا َنصِ يبًا م َِن ْال ِك َتا ِ يقتنع به العقل وإن كان باطاًل ﴿ َأ َل ْم َت َر ِإ َلى الَّذ َ
ُون ﴾ [النحل . ]72 : ت هَّللا ِ ُه ْم َي ْكفُر َ ت ﴾ [النساء َ ﴿ ، ]51 :أ َف ِب ْالبَاطِ ِل يُْؤ ِم ُن َ
ون َو ِب ِنعْ َم ِ الطا ُغو ِ َو َّ
لذلك نجد تضحيات عظيمة من بعض أصحاب األفكار الباطلة في سبيل نشر دعوتهم وإعالء
رايتهم ،فهم يفعلون ذلك بدافع إيمانهم القوي بهذه األفكار .
بل إن هذا األمر يشمل أمور الدنيا كذلك ،فالذي يذهب لطبيب ما ويُفضّله على غيره ،فإنه
يفعل ذلك بدافع ثقته فيه أو بمعنى آخر :إيمانه به ،وكذلك الذي يقوم بإصالح سيارته عند
شخص ما دو ًنا عن غيره ،و ...إلخ .
مفهوم اإليمان باهلل :
فإن أردنا أن ُنخصص مفهوم اإليمان العام على « اإليمان باهلل عز وجل » ،فيكون اإليمان
باهلل هو الثقة والطمأنينة فيه سبحانه ..في قدرته المطلقة ،وقيُّوميِّته الدائمة ،وقوته غير
المُتناهية ،وعلمه الذي أحاط بكل شيء ،وحكمته العظيمة ،وسعة حلمه ،وكرمه ،و . ...
وكلما ازداد اإليمان بصفاته سبحانه ،أو بمعنى آخر :كلما ازدادت الثقة في هذه األسماء
والصفات ؛ ُكلَّما انعكس ذلك على تعامل العبد معه ،بمعنى أنه كلَّما ازدادت الثقة في هللا «
الحكيم » ازدادت حالة الرضا عند العبد ،وكلَّما ازدادت الثقة في قيُّوميِّة هللا وإحاطته بكل شيء
ازدادت حالة التقوى والتوكل على هللا .
وهكذا يكون انعكاس زيادة الثقة ( اإليمان ) باهلل وبأسمائه وصفاته على القلب هو مزيد
من العبودية له من تقوى ،وحب ،وتوكل ،ورغبة ورهبة ،وإنابة ،وتعظيم ،ومهابة .
ونفس المعنى ينطبق على جميع أركان اإليمان ،فكلَّما ازداد اإليمان بالبعث ( الثقة في
حدوثه ) كلما زاد تشمير العبد في االستعداد له ...وهكذا .
اإليمان محض فضل من هللا عز وجل :
مع كل ما قيل وسيقال – بإذن هللا – في هذه الصفحات عن اإليمان وحقيقته وموانعه إال أنه
البد من التذكير واإلقرار باألمر األساسي في هذه القضية أال وهو :أن اإليمان محض فضل من
هللا عز وجل ،حتى ال ُتنسى هذه الحقيقة في خضم هذا الحديث .
فإن كانت البداية هي اقتناع العقل بالحق ،فإن انتقال هذه القناعة إلى المشاعر واطمئنانها
صدْ َرهُ لِِإْل ْساَل ِم﴾ ش َر ْح َ بها ،وثقتها فيها محض فضل من هللا عز وجل َ ﴿ :ف َمنْ ُي ِر ِد هَّللا ُ َأنْ َي ْه ِد َي ُه َي ْ
[األنعام . ]125 :
ومع ذلك فإن هذا الفضل يمنحه هللا عز وجل لمن يجد لديه رغبة ،واستعدادًا لذلك ،تأمل
ُوق وب ُك ْم َو َكرَّ َه ِإ َل ْي ُك ُم ْال ُك ْف َر َو ْالفُس َ
ان َو َز َّي َن ُه فِي قُلُ ِ قول هللا تعالى َ ﴿ :و َلكِنَّ هَّللا َ َحب َ
َّب ِإ َل ْي ُك ُم اِإْلي َم َ
55
ون (َ )7فضْ اًل م َِن هَّللا ِ َو ِنعْ َم ًة َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َحكِي ٌم ﴾ [الحجرات . ]8 ، 7 :فاآلية ِئك ُه ُم الرَّ اشِ ُد َ ان ُأو َل َ َو ْال ِعصْ َي َ
ون ﴾ أي :الذين استخدموا عقولهم استخدامًا ِئك ُه ُم الرَّ اشِ ُد َ األولى تنتهي بقوله تعالى ُ ﴿ :أو َل َ
صحيحً ا في البحث عن الحق ،واآلية الثانية تنتهي بقوله تعالى َ ﴿ :وهَّللا ُ َعلِي ٌم َحكِي ٌم ﴾ ،أي :يعلم
– سبحانه -من يستحق هذا الفضل ،وحكيم في منحه إياه عندما يجده مهيأ له َ ﴿ :و َل ْواَل َفضْ ُل هَّللا ِ
َع َل ْي ُك ْم َو َرحْ َم ُت ُه َما َز َكى ِم ْن ُك ْم ِمنْ َأ َح ٍد َأ َب ًدا َو َلكِنَّ هَّللا َ ي َُز ِّكي َمنْ َي َشا ُء َوهَّللا ُ َسمِي ٌع َعلِي ٌم ﴾ [النور . ]21 :
فاإليمان محض فضل من هللا ال يمكن ألحد أن يصل إليه بنفسه َ ﴿ :واعْ َلمُوا َأنَّ هَّللا َ َيحُو ُل َبي َْن
س َأنْ ُتْؤ م َِن ِإاَّل بِِإ ْذ ِن هَّللا ِ ﴾ [يونس . ]100 : ْال َمرْ ِء َو َق ْل ِب ِه ﴾ [األنفال َ ﴿ ، ]24 :و َما َك َ
ان لِ َن ْف ٍ
ومع ذلك فلقد جعل هللا عز وجل أهم شرط الستجالبه هو :وجود الرغبة واالستعداد لتلقيه ،
ففي الحديث القدسي « :يا عبادي كلكم ضال إال من هدي ُته فاستهدوني أهدكم» ( ، )88أي :
ارغبوا في الهداية ،واطلبوها مني أمنحكم إياها .
ض ونجد آيات كثيرة في القرآن تؤكد هذا المعنى كقوله تعالى َ ﴿ :و َك َذل َِك َف َت َّنا َبعْ َ
ض ُه ْم ِب َبعْ ٍ
ين ﴾ [األنعام . ]53 : لِ َيقُولُوا َأ َهُؤ اَل ِء َمنَّ هَّللا ُ َع َلي ِْه ْم ِمنْ َب ْي ِن َنا َأ َلي َ
ْس هَّللا ُ ِبَأعْ َل َم ِبال َّشاك ِِر َ
فالقلب « المتواضع » الذي من عادته استقبال العطايا باالمتنان والشكر هو القلب المؤهل
ُعرض الحق على عقله ويقتنع به ،على العكس تمامًا من لتلقي فضل هللا عليه بالهداية عندما ي َ
ض ِب َغي ِْر ْال َح ِّق َوِإنْ َي َر ْوا ُك َّل َأْل ِين َي َت َك َّبر َ
ُون فِي ا رْ ِ القلب الجاحد المتكبر َ ﴿ :سَأصْ ِرفُ َعنْ آ َيات َِي الَّذ َ
آ َي ٍة اَل يُْؤ ِم ُنوا ِب َها َوِإنْ َي َر ْوا َس ِبي َل الرُّ ْش ِد اَل َي َّتخ ُِذوهُ َس ِبياًل َوِإنْ َي َر ْوا َس ِبي َل ْال َغيِّ َي َّتخ ُِذوهُ َس ِبياًل ﴾
[األعراف . ]146 :
56
الحالة اإليمانية ( متى يزداد اإليمان )؟
تسمع في خطب الجمعة ودروس العلم في المساجد ومن خالل وسائل اإلعالم المقروءة
والمسموعة والمرئية إلى كالم كثير يتناول جوانب الدين المختلفة من عقيدة وأخالق وعبادات
ومعامالت من علماء ودعاة أفاضل ،فهل يزداد إيماننا باستماعنا لحديثهم ؟ !
اإلجابة عن هذا السؤال تستدعي تذ ُّكر ما قيل في الصفحات السابقة حول الفارق بين القناعة
العقلية -فقط – بالفكرة ،وبين اإليمان بها ،فاإليمان بالفكرة يعني :قناعة عقلية يُصاحبها انفعال
وجداني .
فعندما أستمع إلى خطيب الجمعة وهو يطرح قضية هامة ،فأنتبه إلى كالمه ،وأقتنع به ،ثم
ال أجد مشاعري تتجاوب معه فإن هذا معناه أن كالمه وقف عند حدود العقل ،ولم يصل إلى
القلب ومن َث َّم لم يُنشئ إيما ًنا ..
فإن انفعلت معه وتأثرت بحديثه عندما قصَّ قصة مؤثرة تؤكد المعنى الذي يطرحه كان وقت
التأثر هو الوقت الذي زاد فيه اإليمان .
والمقصود باالنفعال والتأثر هو حركة المشاعر بأنواعها المختلفة من فرح واستبشار ورغبة
ورهبة وشوق وإجالل وسكينة .
أي أن الخوف تأثر ،والفرح تأثر ،والشوق تأثر ،و ، ...فالتأثر هو عنوان لتفاعل
المشاعر مع ما يُطرح على العقل من أفكار .
معنى ذلك أننا يُمكننا معرفة الوقت الذي يزداد فيه اإليمان في قلوبنا وذلك حين تتجاوب
معان دينية ،أو مع العمل الذي نقوم به .
ٍ مشاعرنا مع ما نسمعه من
فحين يدخل المرء إلى الصالة وال تتجاوب مشاعره فيها ( مشاعر الخضوع والخشوع ) هلل
عز وجل فهذا معناه أن صالته لم تقم بزيادة اإليمان في قلبه ،أما إذا تأثر وانفعل مع دعائه في
سجود الركعة الثانية – مثاًل – فإن هذا هو القدر الذي زاد فيه اإليمان – بإذن هللا .. -وهكذا .
من هنا نقول بأنه ليست العبرة بكثرة األعمال التي يقوم بها المرء ،بل العبرة بمقدار تجاوب
القلب معها وتأثره بها ،وانفعال مشاعره معها ..
فوجود القلب مع العمل ،أو حضوره ،أو جمعه ،أو تجاوبه ،أو مواطأته للسان في الذكر
..كلها معان مترادفة « للتأثر » بصوره المختلفة .
اإليمان والطاعة :
اإليمان يزداد بالطاعة ..نعم ،ولكن شريطة أن يتحرك القلب معها – أي يتأثر – فإن لم
تتحرك المشاعر لن يزداد اإليمان ،ومن َث َّم لن يظهر أثر الطاعة على السلوك ،فالصالة تنهى
عن الفحشاء والمنكر عندما يتحرك القلب ،وتنفعل المشاعر معها ،فيؤدي ذلك إلى زيادة اإليمان
لينتج عنه زيادة الورع والدافع الداخلي لفعل الخيرات وترك المنكرات .
فإن لم يتحرك القلب ويخشع في الصالة ،أصبحت تلك الصالة حركة بالعضالت فقط ،ومن
َث َّم ال يظهر لها أثر إيجابي في السلوك ،وهذا ُيفسر لنا ظاهرة عدم وجود أثر للعبادات الكثيرة
التي نؤديها على سلوكنا ومعامالتنا .
()89
. لذلك كان من دعائه صلى هللا عليه وسلم « :وأعوذ بك من صالة ال تنفع »
وقال ابن عباس « :ركعتان مقتصدتان في تف ُّكر خير من قيام ليلة والقلب ساه » .
فإحسان العمل – إذن – مقدم على اإلكثار منه بالجوارح فقط .
وإحسان العمل يعني االجتهاد في حضور القلب وتوجه مشاعره نحو هللا عز وجل ،
وتستدعي كذلك موافقته للسنة .
) (89أخرجه ابن حبان ( ، 3/293رقم ، )1015والضياء ( ، 6/156رقم ، )2153وقال شعيب األرنؤوط :إسناده صحيح على شرط مسلم
.
57
فالعمل القليل مع حضور المشاعر أفضل من العمل الكثير بدون حضورها ،أو حضورها
بصورة قليلة محدودة .
بل إن الثواب المترتب على العمل يختلف من شخص آلخر حسب حركة مشاعره مع العمل ؛
فلو أن رجلين يسيران في الطريق سو ًّيا وعُرض عليهما عمل خيري يستوجب منهما بذل ما
يُمكنهما بذله من مال ،وكان األول فقيرً ا ،وكل ما يملكه عشرة دراهم وعليه أعباء معيشية ال
تغطيها هذه الدراهم المعدودة ،لكنه تجاوب مع العمل الخيري وشعر بأهميته ،فدفعه حبه هلل
وطمعه في مثوبته إلى إخراج ثمانية دراهم من العشرة َ ..ب َذلها وهو يُدرك قدر العنت الذي قد
يواجهه لتدبير نفقاته ونفقات عياله ،وأما الرجل اآلخر فهو موسر ،عنده بضعة آالف من
الدراهم ،فأخرج ألف درهم طمعًا في المثوبة ،وح ًّبا هلل ،لكنه لم يشعر بما شعر به األول ألن
األلف درهم ال يُشكل إخراجها عنده مشكلة كبيرة ،فهل يستوي االثنان في درجتهما عند هللا ؟
لو كانت العبرة بالعدد والكم ،لكان الثاني أفضل ،ألن ما أخرجه أكثر بكثير من األول ،
ولكن ألن العبرة بحركة المشاعر ،وحضور القلب مع العمل كان األول هو األفضل عند هللا ،
كما قال صلى هللا عليه وسلم « :سبق درهم مائة ألف درهم :رجل له درهمان أخذ أحدهما
فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها » ( ) ،ويؤكد هذا
90
ِينِئك َأعْ َظ ُم دَ َر َج ًة م َِن الَّذ َ المعنى قوله تعالى ﴿ :اَل َيسْ َت ِوي ِم ْن ُك ْم َمنْ َأ ْن َف َق ِمنْ َقب ِْل ْال َف ْت ِح َو َقا َت َل ُأو َل َ
َأ ْن َفقُوا ِمنْ َبعْ ُد َو َقا َتلُوا َو ُكاًّل َو َعدَ هَّللا ُ ْالحُسْ َنى ﴾ [الحديد . ]10 :
فالذي أنفق قبل الفتح – في أوقات الضيق والحصار والمستقبل المجهول وقلة الموارد –
أعظم درجة من الذي أنفق بعد الفتح في أوقات الرخاء واألمان والسعة ،فحركة المشاعر مع
اإلنفاق قبل الفتح أشد منها بعد الفتح .
ونفس األمر ينطبق على الصالة وقراءة القرآن وغيرهما من األعمال َ ﴿ :لنْ َي َنا َل هَّللا َ
لُحُو ُم َها َواَل ِد َماُؤ َها َو َل ِكنْ َي َنالُ ُه ال َّت ْق َوى ِم ْن ُك ْم ﴾ [الحج . ]37 :
وفي هذا المعنى يقول ابن رجب :كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون اإلكثار
منه ،فإن العمل القليل مع التحسين واإلتقان ،أفضل بكثير من الغفلة وعدم االتقان .
قال بعض السلف :إن الرجلين ليقومان في الصف ،وما بين صالتهما كما بين السماء
واألرض ( ) .
91
) (90حديث حسن :أخرجه النسائي ( ،5/59رقم ، )2527وابن حبان ( ،8/135رقم ، )3347والحاكم ( ،1/576رقم ، )1519والبيهقي
( ،4/181رقم ، )7568وحسنه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ،حديث رقم .3606 :
) (91مجموع رسائل ابن رجب . 1/352
58
ولهذا يكون العمالن في الصورة واح ًدا ،وبينهما في الفضل – بل بين قليل أحدهما وكثير
اآلخر -أعظم مما بين السماء واألرض .
وهذا الفضل يكون بحسب رضا الرب سبحانه بالعمل ،وقبوله له ،ومحبته له ،وفرحه به
سبحانه وتعالى ،كما يفرح بتوبة التائب أعظم فرح ،وال ريب أن تلك التوبة الصادقة أفضل
وأحب إلى هللا تعالى من أعمال كثيرة من التطوعات وإن زادت في الكثرة عن التوبة .
ولهذا كان القبول يختلف ويتفاوت بحسب رضا الرب سبحانه وتعالى بالعمل ،فقبول يُو ِجب
رضا هللا سبحانه وتعالى بالعمل ،ومباهاة المالئكة به ،وتقريب عبده منه ،وقبول يترتب عليه
كثرة الثواب والعطاء فقط .
كمن تصدق بألف دينار من جملة ماله -مثاًل – بحيث ال يكترث بها ، ..وآخر عنده رغيف
واحد هو قوته ،ال يملك غيره ،فآثر به على نفسه من هو أحوج إليه منه ،محبة هلل ،وتقربًا إليه
وتود ًدا ،ورغبة في مرضاته ،وإيثارً ا على نفسه .
فياهلل كم بعد ما بين الصدقتين في الفضل ومحبة هللا وقبوله ورضاه !!
واألعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من اإليمان والمحبة ،والتعظيم واإلجالل ،وقصد
وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه ،حتى تكون صورة العملين واحدة ،وبينهما
في الفضل ما ال ُيحصيه إال هللا تعالى .
ضا بتجريد المتابعة ،فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضالن به في وتتفاضل أي ً
المتابعة ،فتتفاضل األعمال بحسب تجريد اإلخالص والمتابعة تفاضاًل ال يحصيه إال هللا
تعالى(. )92
إنما األعمال بالنيات :
فالعبرة بما في القلوب من معاني العبودية هلل ،والعبرة كذلك باستحضارها مع العمل ،وكلما
كان توجه المشاعر هلل – َقبل العمل وفي أثنائه – أشد ،كانت درجته ومثوبته عند هللا أكبر ،
لذلك قال صلى هللا عليه وسلم « :إنما األعمال بالنيات » (. )2
فالنية :هي القصد والتوجه ،وعلى قدر توجه القلب نحو العمل حبًا هلل ،وابتغاء مرضاته ،وطمعًا
ت هَّللا ِ َو َت ْث ِبي ًتا مِنْ ون َأ َ
مْوا َل ُه ُم ا ْبت َِغا َء َمرْ َ
ضا ِ في مثوبته يكون الفضل واألجر منه سبحانه َ ﴿ :و َم َث ُل الَّذ َ
ِين ُي ْن ِفقُ َ
ْن َفِإنْ َل ْم يُصِ ْب َها َو ِاب ٌل َف َط ٌّل َوهَّللا ُ ِب َما َتعْ َملُ َ صا َب َها َواب ٌل َفآ َت ْ ُأ
َأ ْنفُسِ ِه ْم َك َم َث ِل َج َّن ٍة ِب َرب َْو ٍة َأ َ
ون ت ُك َل َها ضِ عْ َفي ِ ِ
والطل :هو الرذاذ الخفيف والفارق بينهما في األثر َّ بَصِ ي ٌر ﴾ [البقرة . ]265 :فالوابل :هو المطر الشديد ،
كبير على الزرع ،كالفارق بين من يشتد إخالصه وتوجهه هلل وابتغاء مرضاته عند اإلنفاق وبين من لم
يشتد ذلك عنده ..
..فالعبرة – إذن – بالنيات ال بصور األعمال .
لذلك نجده صلى هللا عليه وسلم يحث أصحابه على إخالص الدعاء عند صالة الجنازة حتى
يكون هذا أنفع لصاحبه في الفضل والمثوبة « :إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء »
(.)93
وإليك – أخي القارئ – التحديز النبوي الشديد من حضور البدن للعمل مع عدم حضور
القلب فيه ..قال صلى هللا عليه وسلم « :ما بال أقوام ،يُتلى عليهم كتاب هللا فال يدرون ما يُتلى
منه مما ُت ِرك ،هكذا خرجت عظمة هللا من قلوب بني إسرائيل ،فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم ،
وال يقبل هللا من عبد عماًل حتى يشهد بقلبه مع بدنه » (. )94
السباق سباق قلوب :
) ( 95أخرجه الحاكم في المستدرك ( 4/350برقم ) 7880وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ،ووافقه الذهبي ،والبيهقي في
شعب ( 13/184برقم . ) 10152 ال ُ
) (96أخرجه مسلم ( 2/78برقم . ) 560
) (97متفق عليه :البخاري ( ، 1/228رقم ، )609ومسلم ( ، 1/421رقم . )603
) ( 98حديث حسن :أخرجه الديلمي في مسند الفردوس ( ، 1/431رقم ، )1755وحسنه الحافظ ابن حجر في زهر الفردوس ،وكذلك حسنه
الشيخ األلباني في السلسلة الصحيحة ( 3/408برقم . ) 1421
60
ت حقيقة الموت الذي حدث أنه عندما شاهد ما شاهده في الطريق تأثر بما رآه َ ،
وط َف ْ
وإمكانية وقوعه في أي وقت على ساحة فكره ،واستثيرت معها مشاعر الرهبة والخشية ،
فانتعش داخله اإليمان بحتمية الموت ،فأثمر هذا اإليمان :يقظة جعلته ينتبه ألحواله ،ويُفكر في
أموره ،ويُدقق في كالمه وأفعاله ..وشيًئ ا فشيًئ ا ذهبت تلك الحالة ،وهدأت المشاعر ،فعاد مرة
ثانية إلى غفلته ،ليُمارس حياته كما كان يُمارسها من قبل .
آخر سمع خطبة حارَّ ة تحُث على اإلنفاق في سبيل هللا ،أو شاهد مناظر ويتكرر األمر مع َ
مؤثرة في التلفاز ُتبيِّن حال الُم َشرَّ دين والبائسين والمنكوبين في بلدان المسلمين ،فإذا به يُبادر
بإخراج جزء من ماله في سبيل هللا ،بل ويدعو َمن حوله من أهله وجيرانه لذلك ،وبعد بضعة
أيام يعود إلى سابق عهده ،وتف ُتر همته عن اإلنفاق وعن دعوة الناس إليه .
وسبب ذلك أنه قد حدث استثارة واستجاشة قوية ومؤثرة للمشاعر أثمرت هذا اإلنفاق ،وبعد
ذلك هدأت المشاعر فتوقف اإلنفاق .
فإن قلت :وما الحل لكي نستمر في اليقظة والقيام باألعمال الصالحة بدوافع إيمانية ؟
الحل يكمُن في القيام بالتربية اإليمانية الصحيحة التي تجعل القلب في حالة دائمة من اليقظة .
أو بمعنى آخر :ال ينبغي علينا أن نجعل أعمالنا اإليمانية رهن المؤثرات القوية التي تستثير
المشاعر بصورة مؤقتة ،ثم يختفي أثرها بمرور الوقت ،وهذا لن يكون إال إذا أصبح اإليمان
مستقرا في القلب ،وأصبحت المشاعر في حالة من التأهب للتأثر بأدنى مؤثر وبأقل تذكرة . ً
وأدوم ،بعكس اإليمان َ فكلما قوي اإليمان في القلب واستقر فيه كانت استثارته أسرع
الضعيف الذي يحتاج – لكي يُعبر عن نفسه – لمؤثر قوي ،يدفع صاحبه للعمل الصالح بصورة
مؤقتة .
وألن الحياة كثيرة األحداث والتقلبات ،فإنها تحتاج م َّنا إلى إيمان قوي مستقر في القلب يدفعنا
دومًا إلى فعل الخيرات وترك المنكرات في كل وقت وتحت أي ظرف ،وليس إيما ًنا ضعي ًفا
يحتاج لكي يظهر إلى مؤثر ضخم وحدث جلل ؛ وفي الوقت نفسه ،فإن هذا اإليمان الضعيف
سرعان ما يزول أثره اإليجابي على السلوك بزوال المؤثر الذي استثاره ،ومثال ذلك :البيت
الذي ال سقف له فإن أهله يتعرضون بصورة دائمة لحر الشمس ولهيبها ،لذلك فأسعد أوقاتهم تلك
التي تأتي فيها سحابة فتظللهم ،وتحُول بينهم وبين الشمس ،ولكن – من المعتاد – أال يستمر
ظل السحابة طوياًل ،فسرعان ما يزول بتحركها وابتعادها عنهم ،لتعود الشمس بحرارتها
ولهيبها إليهم ..ومن البدهي أنهم إذا رغبوا في ظل دائم ،ووقاية مستمرة من الشمس ،فعليهم
أن يُشيِّدوا سق ًفا للبيت بداًل من أن ينتظروا ظهور السُحب ،فظل السحاب عارض سرعان ما
يزول أثره ،أما ظل السقف فهو دائم ألنه مستقر فوقهم .
كذلك حال اإليمان الناشئ عن أمور عارضة ،وحاله الناشئ عن استقراره في القلب .
لماذا ال يظهر أثر اإليمان في كل األوقات واألحوال ؟
كان ( زيد ) في المسجد يستمع إلى موعظة ،وكانت الموعظة مؤثرة َ ،و ِج َلت منها القلوب ،
وذرفت منها العيون ،وتال الموعظة صالة العشاء وفيها قرأ اإلمام بآيات من سورة ( ق )
تتحدث عن الموت وما بعده من أحداث ،فعال نحيب المصلين ،واشتد بكاؤهم ،وانتهت الصالة
،وانطلق ( زيد ) خارجً ا من المسجد ،وذهب ليأخذ نعله فلم يجده ..بحث عنه في كل مكان فلم
يعثر له على أثر ،انتابته حالة من الجزع والضيق ،وتل َّفظ بألفاظ غير الئقة ،وغادر المسجد
حان ًقا متذمرً ا ..
لقد كان زيد منذ دقائق يبكي من خشية هللا ،فما الذي تغير حتى يظهر بهذه الحالة البعيدة عن
اإليمان ؟ لماذا لم تدفعه الحالة اإليمانية التي كان يعيشها إلى التعامل الهادئ مع المصيبة التي
أصابته ؟
61
فإن قلت :ألن اإليمان غير مستقر في قلبه وأن بكاءه وتأثره بالموعظة والصالة كان عارضًا
،فلما زال أثره انكشف إيمانه ..
هذا التعليل قد يكون صحيحً ا لو كانت المدة الزمنية بين الصالة وبين سرقة نعله طويلة ،أ َما
واألمر لم يتعد بضع دقائق ال تسمح بزوال حالته اإليمانية ،فإن السبب غير ذلك .
ولعل ما يكشف لنا سبب هذا التعارض هو تذ ُّكر ما قيل في الصفحات السابقة بأن اإليمان
يتناول جميع المشاعر ،بمعنى أن الحالة اإليمانية التي كان يعيشها ( زيد ) في الموعظة
والصالة كانت ُتعبِّر عن بعض مشاعر القلب وليس عن كل مشاعره .
لقد كانت ُتعبِّر عن مشاعر الخوف والرهبة ،في حين ظلَّت باقي المشاعر كما هي دون
استثارة ،ومن َث َّم عندما تعرض لموقف السرقة ،لم يتعامل معه تعاماًل إيمان ًّيا مناسبًا ألن اإليمان
في اتجاه مشاعر الطمأنينة والسكينة ضعيف ،ولم يتم استثارته ،وهذا يُفسِّر لنا -إلى حد بعيد –
الج ِزع .
هذا التناقض بين حالته الباكية ،ورد فعله َ
فاإليمان يتناول جميع المشاعر ؛ ولكي نتعامل مع أحداث الحياة المختلفة وتقلباتها تعاماًل إيمان ًّيا
يتناسب مع كل حدث ؛ البد من أن يكون هناك إيمان مستقر في كل شعور من مشاعره ،كالحب
والبغض ،والرغبة والرهبة ،والسكينة والطمأنينة ،والفرح واالستبشار ،والندم ،و. ...
فاإليمان المتكامل هو الذي يدفع صاحبه لحسن التعامل مع األحداث المختلفة كما قال صلى هللا عليه
وسلم « :عجبًا ألمر المؤمن ،إن أمره كله خير ،إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ،وإن أصابته
ضراء صبر وكان خيرً ا له ،وليس ذلك ألحد إال للمؤمن » (.)99
والحد األدنى المطلوب وجوده من اإليمان في جميع المشاعر -ومن َث َّم االنتصار في معركة ردود
األفعال مع األحداث – هو أن تكون نسبة وجوده أعلى من نسبة وجود الهوى حتى تكون له الغلبة عليه.
فعلى سبيل المثال :لو تكلمنا عن شعور الحب كأحد المشاعر الرئيسة ،فمن المتوقع أن يحتوي
على حُب النفس ،والوالدين ،والزوجة واألوالد ،والمال ،و. ...
هَّلِل ً َأ ُ
ِين آ َمنوا َش ُّد ُح ّبا ِ ﴾ َّ
كل ذلك ال بأس من وجوده إذا كان حُب هللا أكبر من ُحبِّهم مجتمعين ﴿ َوالذ َ
[البقرة . ]165 :
وفي الحديث « :ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان أن يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سواهما
. )100( »...
فإذا تعارض حب هللا مع أي منهم تغلَّب حب هللا عز وجل ،ومن َث َّم يكون القرار لصالحه وليس
ير ُت ُك ْم َوَأ َ
مْوا ٌل ا ْق َت َر ْف ُتمُو َها َوت َِج َ
ارةٌ ان آ َباُؤ ُك ْم َوَأ ْب َناُؤ ُك ْم َوِإ ْخ َوا ُن ُك ْم َوَأ ْز َوا ُج ُك ْم َو َعشِ َالعكس ﴿ :قُ ْل ِإنْ َك َ
ض ْو َن َها َأ َحبَّ ِإ َل ْي ُك ْم م َِن هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه َو ِج َها ٍد فِي َس ِبيلِ ِه َف َت َر َّبصُوا َح َّتى َيْأت َِي هَّللا َُت ْخ َش ْو َن َك َسادَ َها َو َم َساكِنُ َترْ َ
ِين ﴾ [التوبة . ]24 : مْر ِه َوهَّللا ُ اَل َي ْهدِي ْال َق ْو َم ْال َفاسِ ق ََأ
ِب ِ
64
ومع أهمية ارتباط اإليمان بالعمل الصالح ،والعمل الصالح باإليمان إال أن األول مقدم على
الثاني ،فاإليمان مقدم على العمل الصالح .
( فعمل القلب مقدم على عمل الجارحة ،وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب وإن اختلفت
مرتبتا الطلب ) (. )101
والمقصد بأعمال القلوب هي حركة المشاعر تجاه هللا عز وجل كخشيته ،وحبه ،وتعظيمه ،
ومهابته ،ورجائه ،واالستعانة به ،واالفتقار إليه ،واالنكسار بين يديه ،والحب فيه ،والغضب
من أجله .
والمقصد بأعمال الجوارح :هي األعمال التي ُتؤ َّدى بالجوارح ودلتنا عليها نصوص القرآن
والسنة كالصالة ،والذكر ،والصدقة ،والسعي في قضاء حوائج الناس ،كما سيأتي بيانه بإذن
هللا .
ولقد مرّ علينا ساب ًقا كيف أن صورة العملين قد تكون واحدة ،وما بينهما في الدرجة والفضل
ما بين السماء واألرض وذلك لتفاضل ما في القلوب ،ومر علينا كذلك كيف أن زيادة أعمال
القلب مع قلة أعمال الجوارح أفضل وأفضل من زيادة أعمال الجوارح وقلة أعمال القلب ،ومما
يؤكد ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم « :سبق درهم مائة ألف درهم :رجل له درهمان أخذ
أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها » (، )102
وقوله « :ما تحاب اثنان في هللا تعالى إال كان أفضلهما أشدهما ح ًّبا لصاحبه » (.)103
ونفس األمر ينطبق على معاصي القلوب ومعاصي الجوارح ،فمعاصي القلوب من كِبر وغرور ،
وإعجاب بالنفس ،ورياء ،ونفاق ،وحسد ،والفرح بمصائب المسلمين ،واستعظام النفس ،واحتقار
اآلخرين وازدرائهم ...أشد وأشد في العقاب من معاصي الجوارح كالكذب ،والسرقة ،والغيبة
والنميمة و. ...
يقول ابن القيم :
َمن تأمَّل الشريعة في مقاصدها ومواردها َعلِم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ،وأنها ال تنفع
بدونها ،وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ،وهل يميَّز المؤمن من المنافق إاَّل
بما في قلب كل واحد منهما ؟!
وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ،فهي واجبة في كل وقت ،ولهذا كان
اإليمان واجب القلب على الدوام ،واإلسالم واجب الجوارح في بعض األحيان (. )104
اإلسالم بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع (:)105
من هنا يتضح لنا أهمية االهتمام ببناء اإليمان الحقيقي الذي يتناول جميع المشاعر ،على
أال ُيهمل العمل الصالح ،بل ُيقرن دائ ًما بأعمال القلب ،ويجتهد المرء في تحسينه وحضور
المشاعر معه ،فمن فعل ذلك فهو السابق ح ًّقا .
فاإليمان أواًل والعمل الصالح ثانيًا ،لتكون النتيجة :تحسُّن ملحوظ في ال ُخلق والسلوك ،
والمتأمل في التربية الربانية للجيل األول يجد أنها كانت ُتركز على أعمال القلوب ،وزيادة
اإليمان في القلب قبل تشريع العبادة ،فكما قيل بأن اإلسالم قد بدأ « مشاعر ،ثم شعائر ،ثم
شرائع » .
) (101من كالم اإلمام حسن البنا في رسالة التعاليم ،من مجموعة رسائل اإلمام الشهيد .
) ( 102حديث حسن :أخرجه النسائي ( ،5/59رقم ، )2527وابن حبان ( ،8/135رقم ، )3347والحاكم ( ،1/576رقم ، )1519
والبيهقي ( ،4/181رقم ، )7568وحسنه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ،حديث رقم .3606 :
) (103حديث صحيح :صححه الشيخ األلباني انظر حديث ( رقم ) 5594 :في صحيح الجامع .
) (104بدائع الفوائد البن القيم ( . ) 4/287
) (105هذه الفقرة تم نقل أغلبها من كتاب « حقيقة العبودية » للمؤلف ببعض التصرف من ص 52إلى ص . 55
65
إنه ألمر عجيب أن ُتفرض الصالة في رحلة اإلسراء والمعراج ،ويُفرض الصيام وسائر
التشريعات في المدينة ،و ُتفرض الحدود في السنوات األخيرة من حياة الرسول صلى هللا عليه
وسلم ..فما الذي كان يفعله المسلمون األوائل في مكة إذن ؟!
ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه وقتها تكاليف يؤديها أو
محظورات يجتنبها ؟
تصوَّ ر وضع امرأة مسلمة في السنوات األولى للبعثة في شهر « رمضان » ،تستيقظ من
النوم في الصباح فتشرب بعضًا من الخمر ،وتخرج لحاجتها وهي مكشوفة الشعر .
ومع ذلك فلم يكن عليها أي حرج شرعي ألن الصيام والحجاب لم يُفرضا ،والخمر لم يُحرَّ م
.
..نعم ،كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون األوائل ..فمع عدم وجود تكاليف إال أنه
كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم ،وهي مرحلة تأسيس القاعدة
اإليمانية ،وتعبيد المشاعر هلل سبحانه ،لتأتي الشعائر بعد ذلك ف ُتحسِ ن التعبير عن هذه المشاعر .
تقول السيدة عائشة رضي هللا عنها :أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل ،فيها ذكر
الجنة والنار ،حتى إذا ثاب الناس إلى اإلسالم نزل الحالل والحرام ،ولو نزل أول األمر :ال
تزنوا ،لقالوا :ال ندع الزنا أب ًدا ،ولو نزل أول األمر :ال تشربوا الخمر ،لقالوا :ال نترك
الخمر أب ًدا ُ ..أنزل على النبي صلى هللا عليه وسلم وأنا جارية ألعب َ ﴿ :ب ِل الس َ
َّاع ُة َم ْوعِ ُد ُه ْم
َّاع ُة َأ ْد َهى َوَأ َمرُّ ﴾ [القمر ، ]46 :وهي من سورة القمر ،وما نزلت البقرة والنساء إال وأنا عنده َوالس َ
()106
. في المدينة
وليس معنى هذا أن نترك العبادة ،أو نقول :البد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة ؛ فلقد
يت َل ُك ُم ت َل ُك ْم دِي َن ُك ْم َوَأ ْت َممْ ُ
ت َع َل ْي ُك ْم ِنعْ َمتِي َو َرضِ ُ اكتمل التشريع كما قال تعالى ْ ﴿ :ال َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُ
اِإْلسْ اَل َم دِي ًنا ﴾ [المائدة . ]3 :
فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه هللا علينا ،ومع ذلك فالبد من التركيز على القلب ،
وعلى زيادة اإليمان وتعبيد المشاعر هلل ،وأن ُنعطي هذا األمر القدر الكافي من االهتمام ،
وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم ل ُتصبح العبادة مؤثرة تزيد اإليمان في القلب ،ومن َث َّم
ُتقرب صاحبها إلى هللا أكثر وأكثر ،ويظهر أثرها في السلوك .
ولعلنا من ذلك أيضًا نستخلص طريقة تربوية نسلكها مع أبنائنا قبل سن التكليف ،فمع
تعويدهم على أداء عبادات الجوارح المختلفة ،إال أن الجهد األكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم
باهلل عز وجل ،وتحبيبهم فيه ،وتعظيم قدره في قلوبهم ،وتعريفهم بأنفسهم ،وأنهم ال شيء
بدون ربهم ..انظر إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو يوجِّ ه عبد هللا بن عباس رضي هللا
عنهما ويغرس فيه هذه المعاني فيقول له :
« يا غالم ،إني ُأعلمك كلمات ؛ احفظ هللا يحفظك ،احفظ هللا تجده تجاهك ،إذا سألت فاسأل
هللا ،وإذا استعنت فاستعن باهلل ،واعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال
بشيء قد كتبه هللا لك ،ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرُّ وك إال بشيء قد كتبه هللا
عليك ،رُفعت األقالم ،وج َّفت الصحف » (. )107
الخالصة :
) (107حديث صحيح .رواه الترمذي ( ، )2516وصححه الشيخ األلباني في مشكاة المصابيح برقم (. )5302
66
وخالصة القول في هذا الفصل أن التربية اإليمانية الصحيحة التي ُتقرب العبد من ربه ،
صحيحا في حياة الفرد لها جناحان :أعمال القلوب وأعمال الجوارح ..اإليمان ً و ُتثمر سلو ًكا
والعمل الصالح .
مع التأكيد على أن أعمال القلوب تسبق أعمال الجوارح في األهمية والترتيب ،شريطة أال
صالِحً ا َفِإ َّن ُه َي ُتوبُ ِإ َلى هَّللا ِ َم َتابًا ﴾ ُيهمل العمل الصالح فهو بمثابة الماء للبذرة ﴿ َو َمنْ َت َ
اب َو َع ِم َل َ
[الفرقان . ]71 :
..وفي الصفحات القادمة – بإذن هللا – سيتم إفراد الحديث عن كيفية بناء القاعدة اإليمانية
باتساعها في القلب ،وحديث آخر عن كيفية االنتفاع بالعمل الصالح في زيادة اإليمان ،وهللا
المُوفق .
67
الفصل الخامس
68
الهدف الذي ترمي هذه الصفحات إلى تحقيقه – بإذن هللا – هو زيادة الثقة
في القرآن ،وتنمية الشعور باالحتياج إليه في تأسيس القاعدة اإليمانية
وتحقيق الربانية .
ضا إلى دفع المرء الكتساب مهارة تدبر القرآن والتأثر بمعانيهوتهدف أي ً
والمداومة على ذلك .
69
الفصل الخامس
تأسيس القاعدة اإليمانية
ما المقصود بالقاعدة اإليمانية ؟
بناء القاعدة اإليمانية يعني تمكين اإليمان باهلل عز وجل في المشاعر المختلفة ،ليُصبح المرء
رقيق القلب ،سريع االستثارة عند تعرُّ ضه ألدنى مؤثر ،فينعكس ذلك على طريقة تعامله مع
أحداث الحياة بتقلباتها المختلفة .
والمقصود بتمكين وبناء اإليمان في المشاعر المختلفة هو بناء الثقة في هللا عز وجل ،وفي
أسمائه وصفاته ،وفي اليوم اآلخر ،وبقية أركان اإليمان .
هذه الثقة والطمأنينة عليها أن تكون لها اليد الطولى في المشاعر المختلفة .
فإن تساءلت :وكيف يُمكن لإليمان أن يصل إلى هذه الدرجة ؟!
اًل
قد يُجيب البعض عن هذا التساؤل إجابة نظرية ؛ فيطرح أعما ووسائل من شأنها – في
نظره – أن تصل بالمرء لهذا المستوى اإليماني ،فمن قائل :بأن علينا اإلكثار من صيام النفل
وقيام الليل ومكابدة ذلك وتحمله سنوات وسنوات ،ومن قائل باإلكثار من األوراد واألذكار
والتسابيح ،إال أن هذه اإلجابة تختلف عن إجابة البعض اآلخر الذي يتبنى – من الناحية النظرية
القيام بأعمال أخرى كاإلكثار من األعمال االجتماعية ذات النفع المُتع ِّدي لآلخرين ..
..مما ال شك فيه أن كل هذه األعمال الصالحة وغيرها لها وظيفة عظيمة في زيادة اإليمان
شريطة أن ُتؤدى بإحسان -كما أسلفنا ، -لكننا هنا نتحدث عن القاعدة اإليمانية باتساعها في
القلب ،والتي تسبق األعمال الصالحة في الترتيب في األهمية .
إن طريقة بناء تلك القاعدة في المشاعر المختلفة يحتاج إلى نوعية خاصة من األعمال التي
ُتخاطب العقل وتقنعه بكل ما ينبغي اإليمان به ،وتستثير في الوقت ذاته المشاعر حتى تتحول
القناعة العقلية إلى حالة إيمانية يعيشها القلب ..على أن تستمر هذه المخاطبة حتى تتحول تلك
الحالة إلى إيمان مستقر في القلب ،وليس ذلك فحسب بل ينبغي أن يتناول ذلك جميع المشاعر
المختلفة التي تظهر ثمار اإليمان في كل األحوال والتقلبات الحياتية التي يتعرض لها المرء .
تعرفهم بسيماهم :
لكي نتفق على الطريقة الصحيحة لتأسيس القاعدة اإليمانية علينا أن نبحث في التاريخ عن
نموذج حقيقي من البشر ظهرت عليه آثار وثمار اإليمان المتنوعة والشاملة والتي ُت َع ّد بمثابة مرآة
تعكس وجود تلك القاعدة في القلب ،فإن وجدناه علينا أن نتحرى عن األسباب التي أ َّدت إلى
تكوينها بإذن هللا .
اًل اَّل
والباحث المنصف في تاريخ األمة لن يجد إ جي واح ًدا ظهرت عليه تلك الثمار الشاملة أال
وهو جيل الصحابة ،ولعل ما قيل في الفصل الثاني ( ثمار اإليمان ) ما يؤكد هذا األمر .
ليبقى السؤال عن سبب وصولهم إلى هذا المستوى اإليماني السامق حتى نحذو حذوهم ،
وبخاصة أنهم كانوا قبل إسالمهم في ذيل األمم ،وكانوا يغرقون في ظلمات الجاهلية ،وكان
حالهم أسوأ بكثير من حالنا اآلن ..كانوا يعبدون الحجارة ،ويأتون الفواحش ،ويقطعون األرحام
،ويئدون البنات ،ويأكل القوي منهم الضعيف ..
فكيف حدث لهم هذا التحول العجيب ؟!
كيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذا المستوى اإليماني ّ
الفذ ؟
فإن قلت :قد يكون وجود الرسول صلى هللا عليه وسلم بينهم هو السبب في ذلك .أجبتك أنه
ما من شك في أن وجود الرسول صلى هللا عليه وسلم بين الصحابة كان له دور كبير في
استقامتهم ،فهو المعلم والمُربِّي ،ولكن لو كان األمر يقف عند هذا الحد ألصبح من المستحيل
70
الوصول إلى هذه الدرجة اإليمانية أو االقتراب منها في ظل غياب شخص الرسول صلى هللا
عليه وسلم .
..هذه واحدة ،واألخرى أنه صلى هللا عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات
إيمانية عالية من ُأناس لم يسبق له أن رآهم أو تعامل معهم من قبل ،فبعد بيعة العقبة أرسل
الرسول صلى هللا عليه وسلم مصعب بن عمير ألهل يثرب – الذين كانوا على شركهم –
ليدعوهم إلى اإلسالم ،وقد كان ،وانشرحت الصدور للدين الجديد ،وامتألت القلوب باإليمان
من قبل مجيء المهاجرين إليهم ومن بعدهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ويكفي لالستدالل
على قوة إيمانهم ما فعلوه مع المهاجرين من إيثار عجيب مع شدة فقرهم ،والذي تم الحديث عنه
ان ِمنْ َق ْبل ِِه ْم ُي ِحب َ
ُّون َمنْ في مقدمة الكتاب ،وذكرته اآلية الكريمة ﴿ َوالَّذ َ
ِين َت َبوَّ ءُوا ال َّد َ
ار َواِإْلي َم َ
ان ِب ِه ْم ُون َع َلى َأ ْنفُسِ ِه ْم َو َل ْو َك َ اج ًة ِممَّا ُأو ُتوا َويُْؤ ِثر َ ص ُد ِ
ور ِه ْم َح َ ون فِي ُاج َر ِإ َلي ِْه ْم َواَل َي ِج ُد َ
َه َ
اص ٌة ﴾ [الحشر . ]9 : ص َ َخ َ
والعجيب أن الكثير من شعائر اإلسالم لم تكن فُ ِرضت في هذه المرحلة حتى نقول بأن
التزامهم بالعبادات واألعمال الصالحة كان السبب في هذا اإليمان الفذ ..
فكيف وصلوا لهذا المستوى ؟!
ماذا فعل معهم ُمصعب بن عمير ؟!
كل ما في األمر أن مصعبًا عندما ذهب إلى يثرب كان معه ما نزل من القرآن ،أو بعبارة
أخرى كانت معه المعجزة التي نزلت من السماء والتي من شأنها أن ُتحدث زلزااًل رهيبًا في
القلوب فال تستقر بعده على حالها السابق ،بل تكون في حالة من االنبهار الشديد ،واالستسالم
لرب هذه المعجزة .
لقد كان مصعب يُدرك أن معه معجزة عظيمة له آثار مزلزلة على من يتعرض لها ،لذلك
كان إذا أراد أن يدعو أح ًدا إلى اإلسالم ؛ يقرأ عليه آيات من القرآن ،فيحدث له الزلزال ومن َث َّم
التسليم واإلذعان الفوري ،لدرجة أن أهل يثرب أطلقوا عليه لقب « :المُقرئ » ،ولك – أخي
القارئ – أن تتأكد من هذا األمر إذا ما قرأت قصة إسالم ُأسيد بن حضير ،وسعد بن معاذ .
فُأسيد بن حضير ،وسعد بن معاذ كانا من سيدي ( األوس ) ،وقد ضاقا ذرعًا بالدعوة
الجديدة التي يحمل لوائها مصعب بن عمير ،فعزما على إخراجه من يثرب بعد أن تزايد عدد
من أسلم من أهلها على يديه ،وذات مره كان مصعب في بستان من بساتين بني ( عبد األشهل )
يدعو الناس إلى اإلسالم ،ويقرأ عليهم القرآن ،فإذا بُأسيد يأخذ حربته ويتوجه نحو البستان ،
فلما رآه أسعد بن زرارة مقباًل قال لمصعب :ويحك يا مصعب ،هذا سيد قومه وأرجحهم عقاًل
خلق كثير ،فاصدق هللا فيه .. :أسيد بن حضير ،فإن يُسلم يتبعه في إسالمه ٌ
وقف أسيد بن حضير على الجمع ،والتفت إلى مصعب وصاحبه أسعد ،وقال :ما جاء بكما
إلى ديارنا ،وأغراكما بضعفائنا ؟! اعتزال هذا الحي إن كانت لكما بنفسيكما حاجة .
فالتفت مصعب إلى أسيد قائاًل :يا سيد قومه ،هل لك في خير من ذلك ؟
قال :وما هو ؟
قبلته ،وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم قال :تجلس إلينا ،وتسمع م َّنا ،فإن رضيت ما قلناه ِ
نعد إليكم .
فقال أسيد :لقد أنصفت ،وركز رمحه في األرض وجلس ،فأقبل عليه مصعب فكلمه عن
اإلسالم ،وقرأ عليه شيًئ ا من آيات القرآن ،فانبسطتت أساريره ،وأشرق وجهه ،وقال :ما
أحسن هذا الذي تقول ،ما أخ َّل ذلك الذي تتلو !! كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في اإلسالم ؟
قال مصعب :تغتسل وتطهر ثيابك ،وتشهد أن إله إال هللا وأن محم ًدا رسول هللا ،وتصلي
ركعتين ففعل ،ثم قال :إن ورائي رجاًل إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ،وسأرشده
71
إليكما اآلن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه .فقال سعد :أحلف
باهلل لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم .
..ثم ذهب سعد إلى مصعب فحدث له ما حدث ألسيد ..حدث له الزلزال فأسلم واستسلم هلل ،
وخرج مسرعًا إلى قومه يقول لهم :إن كالم رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا باهلل
ورسوله (. )108
الجيل الرباني :
من هنا نقول بأن القرآن الكريم هو الوسيلة العظيمة والمتفردة التي قامت بتغيير الصحابة ..
ويؤكد فريد األنصاري على هذا المعنى فيقول :إن القرآن الكريم كان هو الباب المفتوح
والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت هللا ،حيث صُنعوا على عين هللا ..إنه السبب
الوثيق الذي تعلقت به قلوبهم ،فأوصلهم إلى مقام التوحيد ( )109أو كما قال الرسول صلى هللا
عليه وسلم في الحديث الصحيح « :كتاب هللا ،هو حبل هللا الممدود من السماء إلى األرض »
(. )110
ً
ارتباطا عمَّق صلة القلوب بربها ، ( ..لقد َّ
توثق ارتباط الصحابة بالقرآن في العهد النبوي ،
إلى درجة أنهم كانوا يتتبعون الوحي تتبع الملهوف الحريص على التر ِّقي في مدارج المعرفة باهلل
والسلوك إليه سبحانه ،فهذا عمر بن الخطاب عندما كان مكل ًفا ،وصاحبًا له بالمرابطة في ثغر
من ثغور المدينة ،تر ُّقبًا لغزو مُتو َّقع من ملك غسان ) ( )111كان يتناوب النزول مع صاحبه إلى
الرسول صلى هللا عليه وسلم لمعرفة خبر الوحي ،فيقول في ذلك :
كان لي جار من األنصار ؛ فكنا نتناوب النزول إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فينزل
يومًا ،وأنزل يومًا ،فيأتيني بخبر الوحي وغيره ،وآتيه بمثل ذلك ،وكنا نتحدث أن غسان تنعل
()112
الخيول لتغزونا
لقد كان القرآن هو المنبع األول والمنهج المؤثر الذي قام بتربية الصحابة ،ورفعهم إلى أعلى
اآلفاق بعد أن كانوا في أسفل السفوح ،وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم يقوم بوظيفة المعلم
والمربي الذي يتعاهد فعل القرآن فيهم ،ويُعمق معانيه في نفوسهم ،ويشرح لهم ما ُأشكل فهمه
عليهم ..كان صلى هللا عليه وسلم هو المُبلغ عن هللا ،والمُربي والقدوة العملية لتمام وكمال
العبودية هلل عز وجل ..
صنِعوا ها هنا : إنهم ُ
عندما تحدثنا – بفضل هللا – في الفصل الثاني عن ثمار اإليمان ؛ كانت األمثلة من جيل الصحابة
رضوان هللا عليهم ،فقد كانوا جياًل من الربانيين العابدين الزاهدين المجاهدين المتواضعين ،ليكونوا
بمثابة أعظم وأصدق شهادة لقوة تأثير القرآن ،وأكبر دليل إثبات لقدرته – بإذن هللا – على إعادة
صياغة وتشكيل اإلنسان على النحو الذي يُحبه هللا ويرضاه مهما كان انحرافه وضالله ..
وفي هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه هللا :
لقد كنت وأنا ُأراجع سيرة الجماعة المسلمة األولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود هللا –
سبحانه – وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم ،فال أكاد ُأدرك كيف تم هذا ؟!
كنت ُأدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم ،ولكني لم أكن
ُأدرك كيف تم هذا حتى عُدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه األصيل :تجلية حقيقة
األلوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها .
..وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله !
) مقومات التصور اإلسالمي لسيد قطب ،ص 193 ، 192باختصار ،دار الشروق – مصر . (113
) أخرجه مسلم ( 7/144برقم . ) 6472 (114
) رواه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء . (115
) االنتصار للقرآن للباقالني ( ، )1/201ومختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ( .)145 (116
) فضائل القرآن ألبي عبيد ص ،66وابن كثير في فضائل القرآن ،وقال :إسناده جيد. (117
73
اس ب لِل َّن ِ فقال عامر :ال حاجة لي في قطيعتك ،نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا ا ْق َت َر َ
ُون[ األنبياء.)118( ]1 : ح َِسا ُب ُه ْم َو ُه ْم فِي َغ ْف َل ٍة مُّعْ ِرض َ
المصدر المتفرد :
إذن فالقرآن الكريم هو المصدر المتفرد والوسيلة العظيمة التي صنعت الجيل األول ،ومن َث َّم
فهو المؤهل للقيام بهذه الوظيفة معنا إن أحس َّنا التعامل معه .
..هذا من ناحية الواقع العملي ،أما من ناحية الشروط التي تم الحديث عنها في الصفحات
السابقة والخاصة ببناء القاعدة اإليمانية ،فإن جميعها متحقق في القرآن وزيادة وزيادة ،وكيف
ال والذي أنزله هو رب العالمين ،العالم باحتياجاتهم ..الذي يُريد لهم الخير والقرب الدائم منه ﴿
ض ﴾ [الفرقان . ]6 : ت َواَأْلرْ ِ َأ ْن َز َل ُه الَّذِي َيعْ َل ُم السِّرَّ فِي ال َّس َم َاوا ِ
إن طريقة القرآن في زيادة اإليمان ،وبناء قاعدته في جميع المشاعر طريقة فريدة ال يُمكن
للعقل البشري القاصر أن يُحيط بها ،ويكفيك في ذلك أن تتعرف على تأثير آيات القرآن عندما
ِين ُأو ُتوا ْالع ِْل َم ِمنْ َق ْبلِ ِه َذا ُي ْت َلى َع َلي ِْه ْم َيخِرُّ َ َأْل
ان ون لِ ْذ َق ِ ِإ ُتتلى على من يُحسن استقبالها ﴿ ِإنَّ الَّذ َ
ان َوعْ ُد َر ِّب َنا َل َم ْفعُواًل (َ )108و َيخِرُّ َ َأْل
ون ان َي ْب ُك َ ون لِ ْذ َق ِ ان َر ِّب َنا ِإنْ َك َ
ون ُسب َْح َ سُجَّ ًدا (َ )107و َيقُولُ َ
شوعًا ﴾ [اإلسراء . ]109 - 107 : َو َي ِزي ُد ُه ْم ُخ ُ
فهؤالء الذين أشارت إليهم اآليات عندما سمعوا القرآن خرُّ وا إلى األذقان سُج ًدا من تأثيره
عليهم ..اندفعوا نحو األرض بجباههم دون أن يُطلب منهم ذلك ..دفعهم لهذا السجود قوة تأثير
اآليات على قلوبهم ،واستثارتها الفائقة لمشاعر اإلجالل والتعظيم هلل عز وجل ،فلم يملكوا
أنفسهم ،ولم يستطيعوا السيطرة على مشاعرهم ،فاندفعوا ساجدين خاشعين باكين ﴿ ِإ َّن َما يُْؤ مِنُ
ُون ﴾ [السجدة . ]15 : ِين ِإ َذا ُذ ِّكرُوا ِب َها َخرُّ وا سُجَّ ًدا َو َس َّبحُوا ِب َحمْ ِد َرب ِِّه ْم َو ُه ْم اَل َيسْ َت ْك ِبر َ ِبآ َيا ِت َنا الَّذ َ
وكأن هذا هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه كل من يستمع آيات القرآن ؛ لِما فيها من قوة
ون تأثير جبارة ،لذلك ذم هللا عز وجل من ال يؤمن واليخشع عند سماعه للقرآن ﴿ َف َما َل ُه ْم اَل يُْؤ ِم ُن َ
ون ﴾ [االنشقاق . ]21 ، 20 : (َ )20وِإ َذا قُ ِرَئ َع َلي ِْه ُم ْالقُرْ آنُ اَل َيسْ ُج ُد َ
ون ﴾ ث َبعْ دَ هُ يُْؤ ِم ُن َ فمن لم يتأثر بالقرآن ويزداد به إيما ًنا ،فبماذا سيتأثر ويؤمن ؟! ﴿ َف ِبَأيِّ َحدِي ٍ
[المرسالت . ]50 :
المعرفة الشاملة :
القرآن كتاب عظيم به آالف اآليات التي تتضمن الكثير والكثير من المعلومات عن هللا عز
وجل ،وعن أسمائه وصفاته ،وآثارها في الكون ،ويحتوي كذلك على كل ما ينبغي أن يؤمن به
اإلنسان لينجح في مهمته على األرض .
ولئن كان يصعُب على البعض النظر الصحيح ،والتفكر في الكون وآياته المشهودة فإن
ت القرآن العظيم يختصر له الكون ،بل ويرشده إلى طريقة التفكر فيه ﴿ هَّللا ُ الَّذِي َر َف َع ال َّس َم َاوا ِ
ت طِ َبا ًقا َما َت َرى فِي َخ ْل ِق الرَّ حْ َم ِن ِمنْ ِب َغي ِْر َع َم ٍد َت َر ْو َن َها ﴾ [الرعد ﴿ ، ]2 :الَّذِي َخ َل َق َسب َْع َس َم َاوا ٍ
ص ُر َخاسِ ًئ ا ْك ْال َب َ ْن َي ْن َقلِبْ ِإ َلي َ ور (ُ )3ث َّم ارْ ِج ِع ْال َب َ
ص َر َكرَّ َتي ِ ط ٍ ص َر َه ْل َت َرى ِمنْ فُ ُ ت َفارْ ِج ِع ْال َب َ َت َفاوُ ٍ
َوه َُو َحسِ ي ٌر ﴾ [الملك . ]4 ، 3 :
والقرآن العظيم كذلك يحتوي – بإجمال -على أهم األحداث التي مرَّ ت بالبشرية ليأخذ منها
المسلم العبر والعظات التي ُتعينه على القيام بواجبه الصحيح على األرض .
ولك أن تتأمل آيات سورة القمر ،وكيف أنها تذكر العديد من قصص السابقين كقوم نوح
آن ل ِِّلذ ْك ِر َف َه ْل ِمنْ وعاد وثمود ،ثم نجد كل قصة منها تنتهي بقوله تعالى َ ﴿ :و َل َق ْد َيسَّرْ َنا ْالقُرْ َ
ُم َّدك ٍِر ﴾ [القمر ، ]17 :أي أنك إن كنت – أيها القارئ – لم ُتشاهد ما حدث لهؤالء ،وفاتك أخذ
صصِ ِه ْم عِ ب َْرةٌ ان فِي َق َ العبرة منهم ،فإن القرآن يكفيك ،ويُقدم لك خالصة تلك األحداث ﴿ َل َق ْد َك َ
)(118تفسير ابن كثير ( ، )5/332والدر المنثور للسيوطي ( ، )5/615وروح المعاني لأللوسي ( . )17/2
74
ِيق الَّذِي َبي َْن َيدَ ْي ِه َو َت ْفصِ ي َل ُك ِّل َشيْ ٍء َو ُه ًدى َو َرحْ َم ًة ان َحد ً
ِيثا ُي ْف َت َرى َو َل ِكنْ َتصْ د َ ُأِلولِي اَأْل ْل َبا ِ
ب َما َك َ
ون ﴾ [يوسف . ]111 : لِ َق ْو ٍم يُْؤ ِم ُن َ
ويؤكد سيد قطب على شمول المعرفة القرآنية فيقول :
إن القرآن الكريم وهو يتناول الحقائق والمقومات التي يقوم على أساسها التصور اإلسالمي
للوجود ،ويُقدم على أساسها التفسير الصحيح لهذا الوجود أيضًا ..لم يدع جانبًا منها يراود الفكر
البشري عنه سؤال إال وقد أجاب على هذا السؤال ،ولم يدع انحرا ًفا في تصورها يخالط الفكر
البشري إال وصحح هذا االنحراف بحيث يستقيم في القلب والعقل وفي الكينونة البشرية بجملتها
تصور كامل من وراء هذا البيان الشامل ،وتفسير صحيح للوجود كله وللتاريخ اإلسالمي (.)119
المعرفة المؤثرة
..والقرآن الكريم ال يُقدم المعلومة فقط ،بل يُقدمها بطريقة ُتقنع العقل ،وتستثير المشاعر في
آن واحد ،فينشأ اإليمان -بإذن هللا – .
وإذا ما داوم المرء على قراءة القرآن -قراءة صحيحة – ازداد إيما ًنا ..لماذا ؟
ت َع َلي ِْه ْم آ َيا ُت ُه َزادَ ْت ُه ْم ِإي َما ًنا ﴾ [األنفال . ]2 : ألنه ازداد معرفة نافعة ومؤثرة ﴿ َوِإ َذا ُتلِ َي ْ
ويُقارن بديع الزمان النورسي بين المعرفة التي يُقدمها القرآن والمعرفة التي يُقدمها علم
الكالم فيقول :
ح ًّقا ،إن معرفة هللا المستنبطة من علم الكالم ليست هي المعرفة الكاملة ،وال تورث
االطمئنان القلبي.
في حين أن تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز ُ ،تصبح معرفة تامة ،
و ُتسكب االطمئنان الكامل في القلب .
إن المعرفة ال ُمستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم مع هللا .
ويضرب النورسي مثااًل للفرق بين األمرين :
ألجل الحصول على الماء ،هناك من يأتي به بواسطة أنابيب من مكان بعيد يُحفر في أسفل
الجبال ،وآخرون يجدون الماء أينما حفروا ،ويُفجِّ رونه أينما كانوا .
فاألول سير في طريق َوعر وطويل ،والماء مُعرَّ ض فيه لالنقطاع وال ُّشحة ،بينما الذين هم
أهل لحفر اآلبار فإنهم يجدون الماء أينما حلُّو دونما صعوبة ومتاعب .
. ()120
..إن كل آية من آيات القرآن الكريم كعصا موسى ُتفجِّ ر الماء أينما ضربت ..
ويقول :ال حاجة إلى االستضاءة بنور الشموع مادامت هناك شمس ساطعة (.)121
ويقول شيخ اإلسالم ابن تيمية :
إن اللذة والفرحة والسرور ،وطيب الوقت ،والنعيم الذي ال يمكن التعبير عنه ،إنما هو في
()122
معرفة هللا عز وجل ،وتوحيده ،واإليمان به ،وانفتاح الحقائق اإليمانية والمعارف القرآنية
،وكيف ال ( والقرآن يُثير العواطف ،ويوقظ العقول في وقت واحد ،وبعد االقتناع يطمئن العقل
ويهدأ اإلحساس ،ويشعر اإلنسان بنشوة الفرح واالرتياح ) (.)123
القرآن يستثير جميع المشاعر :
الذي يُقبل على القرآن إقبااًل صحيحً ا فيتدبر معانيه ويتأثر بها يجد أنه يُخاطب جميع مشاعره
،فتارة يستثير فيه مشاعر الخوف والرهبة ،وتارة الفرح واالستبشار ،وتارة الرضا والتفويض
،وتارة السكينة والطمأنينة ،وتارة الحب والشوق إلى هللا عز وجل .
) (125التعبير القرآني والداللة النفسية للجيوسي ص ( )226-224باختصار ،دار الغوثاني – دمشق .
76
حث القارئ على اإلجابة تناقش قضية البعث والجزاء ،و ُتثبتها من الناحية العقلية ،من خالل ّ
على أسئلة بدهية مفادها أن الذي جعل لك النوم سُبا ًتا ،والنهار معا ًشا ،وأنزل المطر ،وبسط
األرض ،وثبَّتها بالجبال ،و ، ..هو الذي يُخبرك أن هناك يومًا للجزاء ..
ومع هذا اإلقناع العقلي يأتي الترهيب بذكر هول يوم القيامة وبشاعة النار ،وكذلك ذكر الجنة
،وبعض ما فيها من ألوان النعيم ،ف ُتستثار المشاعر مع تلك القناعة العقلية فينشأ اإليمان بإذن هللا
.
وليس ذلك فحسب ...فمن أهم الوسائل التي يتفرد بها القرآن الستثارة المشاعر هي الطريقة
آن َترْ تِياًل
التي ينبغي أن يُتلى بها ؛ أال وهي الترتيل والتغني به طب ًقا ألحكام التجويد ﴿ َو َر ِّت ِل ْالقُرْ َ
﴾ [المزمل . ]4 :
أهمية الترتيل :
إن تحسين الصوت بالقرآن وترتيله له وظيفة عظيمة في الطرق على المشاعر الستثارتها ،
فيؤدي ذلك إلى امتزاج القناعة العقلية بالعواطف المنفعلة ،لذلك كان الحث على تحسين الصوت
عند قراءة القرآن .
()126
. قال صلى هللا عليه وسلم « :زينوا القرآن بأصواتكم »
وقال « :ليس م َّنا من لم يتغن بالقرآن » (. )127
وقيل البن أبي مُليكة « :يا أبا محمد ،أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال :يحسنه ما
استطاع » (. )128
ويؤكد ابن حجر العسقالني على هذا المعنى فيقول :
والذي يتحصل من األدلة أن حُسن الصوت بالقرآن مطلوب ،فإن لم يكن حس ًنا فليحسنه ما
استطاع(.)129
ويقول الجيوسي في كتابه « التعبير القرآني والداللة النفسية » :
القرآن الكريم كتابٌ ال كأي كتاب ،فهو يُتلى بطريقة مرتبة ،على أصول منظمة ،يجب أن
ُتراعى فيه قواعد القراءة وأصول األداء ،وهذا مما اختص به القرآن الكريم على سائر الكتب ،
آن َترْ تِياًل ﴾ [المزمل : وورود األمر بذلك في اآليات األولى من مرحلة نزول القرآن ﴿ َو َر ِّت ِل ْالقُرْ َ
. ]4
وال شك أن هناك قواعد تتصل باألداء القرآني البد من مراعاتها كأحكام التجويد ،فالتجويد
هو التحسين .
..هذه األحكام التي ينبغي لقارئ القرآن أن يُراعيها هي في حقيقة األمر أحد أسرار ذلك
اإليقاع الذي يش ُّد األسماع إليه ،ال تكاد تخلو آية من حُكم ما بين ُغ ّنة أو م ّد أو إخفاء ،أو غير
ذلك من األحكام التي تفرض على السامع لو ًنا معي ًنا ال يعهده في الكالم االعتيادي ،وإذا ما
علمنا أن قراءة القرآن ينبغي أن تكون بالترتيل وبمراعاة هذه األحكام ،أدركنا أن ذلك سرٌّ كامنٌ
في كتاب هللا ،هذا الذي يجعل النفس تنجذب إليه (. )130
فإذا ما اقترن ذلك بحضور العقل وتفهُّمه للخطاب كان األثر عظيمًا على القلب كحال وفد
ُول َت َرى َأعْ ُي َن ُه ْم َتفِيضُ م َِن ﴿وِإ َذا َس ِمعُوا َما ُأ ْن ِز َل ِإ َلى الرَّ س ِ
نصارى نجران عندما استمعوا للقرآن َ
الدَّمْ ِع ِممَّا َع َرفُوا م َِن ْال َح ِّق ﴾ [المائدة . ]83 :
) ( 126حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، 4/283رقم ،)18517وأبو داود ( ، 2/74رقم ، )1468والنسائي ( ، 2/179رقم ، )1015
وابن ماجه ( ، 1/426رقم )1342وغيرهم ،وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ( . ) 3575 - 3574
) (127أخرجه البخاري ( ، 6/2737رقم . )7089
) (128أخرجه أبو داود ( 1/548برقم ، ) 1473وقال الشيخ األلباني رحمه هللا :حسن صحيح .
) (129فتح الباري ( . )9/72
) (130التعبير القرآني والداللة النفسية ،لعبد هللا الجيوسي ص ( ) 165 ،164باختصار وتصرف يسير ،دار الغوثاني – سوريا .
77
وجدير بالذكر أن ( التغني بالقرآن هو تحسين الصوت بقراءة القرآن ،بخالف الغناء
المعروف في زماننا ،فالقصد من هذا الغناء أن يطرب ويُطرب غيره ال ليتعظ ويعتبر ،فالتغني
مستلمحا مستطي ًبا
ً بالقرآن ًإذا هو :استماع المتكلم لما ُي َتكلم به ،مترن ًما بالنطق ،مستح ًّبا له ،
للكلمات ،ذو ًقا لها ولمعانيها ) (. )131
ويؤكد الحافظ ابن كثير على هذا المعنى فيقول :
والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه ،
والخشوع والخضوع واالنقياد للطاعة ،فأما األصوات بالنغمات المحدثة المركبة على األوزان ،
واألوضاع المُلهية والقانون الموسيقائي ،فالقرآن ي َّ
ُنزه عن ذلك (. )132
) بلى الثوب :من كثرة استعماله حتى صار قديمًا ال قيمة له . (141
) التهافت :التساقط والتتابع . (142
) أخرجه الدارمي في سننه ( 2/531برقم . ) 3346 (143
) البرهان في علوم القرآن للزركشي . (144
80
إذا كان العبد مصغيًا إلى كالم ربه ،مفتقرً ا إلى التفهم ،بدعاء وتضرع ،وابتئاس وتمسكن
،ومنتظرً ا للفتح عليه عند الفتاح العليم ،وأن تكون تالوته على معاني الكالم ؛ فهذا القارئ
اب َي ْتلُو َن ُه َح َّق ِتاَل َو ِت ِهِين آ َت ْي َنا ُه ُم ْال ِك َت َ
أحسن الناس صو ًتا بالقرآن ،وفي مثله يقول هللا تعالى ﴿ :الَّذ َ
.()145
ون ِب ِه ﴾ [البقرة .. ]121 :وهذا هو الراسخ في العلم ُأو َل َ
ِئك يُْؤ ِم ُن َ
فمن هنا نقول -بيقين – بأننا إن استطعنا أن ندخل على القرآن دخول التلميذ ال ُمتشوق
للمعرفة حينما ُيقابل أعظم أستاذ ،وداومنا على ذلك ،فإن القرآن سيفتح لنا أبوابه ،وسيغزو
نوره قلوبنا ،لنكون من بعد مالقاته قو ًما صالحين بإذن هللا ،وأكثر إيما ًنا وبهجة وسكينة .
التحدي الكبير :
ال يُمكن للتربية اإليمانية أن تتم بمراحلها المختلفة دون التعامل الصحيح مع القرآن ،وهذا لن
يحدث إال إذا زادت الثقة فيه ،كمصدر متفرد لتنوير العقول والقلوب ،وتزكية النفوس ﴿ َفآ ِم ُنوا
ور الَّذِي َأ ْن َز ْل َنا ﴾ [التغابن . ]8 : ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوال ُّن ِ
هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا ..
فالحل بين أيدينا ،ومع ذلك لن نقدر على االنتفاع به طالما ضعف إيماننا به وثقتنا فيه .
..من هنا نقول أن نقطة البداية في طريق االنتفاع بالقرآن بعد االستعانة الصادقة والمستمرة
باهلل عز وجل هي تنمية الثقة فيه لتزداد رغبتنا فيه ،وإقبالنا الصحيح عليه .
وتنمية هذه الثقة تحتاج م َّنا إلى القيام ببعض األمور هي :
أولها :التعرف على أوصاف القرآن من القرآن :
فكلما تعَّف المرء على فاعلية الدواء الذي سيستخدمه ؛ كلما ازداد ثقة فيه ،فكما يقول
الحارث المحاسبي :
« لقد عظم هللا عز وجل القرآن وسمَّاه :برها ًنا ،ونورً ا ،ورحمة ،وموعظة ،ومجي ًدا ،
وبصائر وهدى ،وفرقا ًنا ،وشفاء لما في الصدور ،وذلك ليعظم قدره عند المؤمنين ،فيقبلوا
عليه منبهرين وم ِّقدرين ،ومتدبرين ،فينالوا به شفاء قلوبهم » .
وأخبرنا أنه أحسن من كل حديث ومن كل قصص وقال نحن نقص عليك أحسن القصص ﴿
ِين َي ْخ َش ْو َن َر َّب ُه ْم ُث َّم َتلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم هَّللا ُ َن َّز َل َأحْ َس َن ْال َحدِي ِ
ث ِك َتابًا ُم َت َش ِابهًا َم َثان َِي َت ْق َشعِرُّ ِم ْن ُه ُجلُو ُد الَّذ َ
َوقُلُو ُب ُه ْم ِإ َلى ذ ِْك ِر هَّللا ِ ﴾ [الزمر . ]23 :
آن ﴾ [يوسف . ]3 : ْك َه َذا ْالقُرْ َص ِب َما َأ ْو َح ْي َنا ِإ َلي َ ْك َأحْ َس َن ْال َق َ
ص ِ ﴿ َنحْ نُ َنقُصُّ َع َلي َ
ت َربِّي َل َنفِدَ ْال َبحْ ُر َق ْب َل َأنْ َت ْن َفدَ ان ْال َبحْ ُر مِدَ ا ًدا لِ َكلِ َما ِ وأخبرنا أنه ال يفنى وال ينفد ﴿ ْل َل ْو َك َ
. ()146
ات َربِّي َو َل ْو ِجْئ َنا ِبم ِْثلِ ِه َمدَ ًدا ﴾ [الكهف ]109 : َكلِ َم ُ
ثانيها :التعرف على النماذج القرآنية التي صنعها القرآن على مر العصور :
ولعل أهم قدوة في ذلك :رسولنا محمد صلى هللا عليه وسلم ،ثم صحابته الكرام الذي قال
عنهم اإلمام القرافي :
()147
. لو لم يكن لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم معجزة إال أصحابه لكفوه في إثبات نبوته
فعلينا أن نتعرف على عالقة الرسول صلى هللا عليه وسلم بالقرآن ،وكيفية تعامله معه ،
ووصاياه نحوه .
وعلينا كذلك أن نتعرف على أثر القرآن على الصحابة ،وكيفية تناولهم له ،وتوجيهاتهم لمن
بعده .
) (148اقتراح :يُفضَّل – من وجهة نظري -أن نقول :فإن كيد الشيطان واجتهاده في الحيلولة بين وصول القرآن للعقل والقلب -لعلمه بعظم
أثره على دينهم ودنياهم وسلوكهم واخالقهم -من أهم عوائق االنتفاع بالقرآن .
82
ولعلك تجد – أخي القارئ – بعض التفصيل حول هذه العوائق في كتاب « تحقيق الوصال
149
،وفيه كذلك العديد من النماذج العملية لألثر اإليجابي للقرآن العظيم ، بين القلب والقرآن »
فاقرأه -إن شئت -على أن تكون قراءة متأنية من بدايته حتى نهايته ،لعل هذه القراءة ُتسهم -
بإذن هللا – في تحقيق الهدف الذي ترمي إليه هذه الصفحات .
التواص والتعاهد :
من أخطر العوائق التي تحول بيننا وبين الممارسة العملية المستمرة لقراءة القرآن وتدبر
معانيه والتأثر بها ،هو تعودنا على طريقة شكلية لتالوته ؛ تلك التي ُتركز على قراءة أكبر قدر
بحثا عن الثواب المترتب على من آياته دون التفكر في معانيها ،وبخاصة في شهر رمضان ً ،
قراءتها .
لذلك من المتوقع ان يجد المرء صعوبة بالغة في االنتقال إلى الطريقة الصحيحة في قراءة
ك لِ َي َّد َّبرُوا آ َيا ِت ِه َولِ َي َت َذ َّك َر ُأولُو اَأْل ْل َبا ِ
ب ار ٌ القرآن ،والتي ُتحقق قوله تعالى ِ ﴿ :ك َتابٌ َأ ْن َز ْل َناهُ ِإ َلي َ
ْك ُم َب َ
﴾ [ص . ]29 :
نعم ،قد ينجح يومًا او بضعة أيام ولكنه سرعان ما يعود إلى الطريقة القديمة ..
..إن الذي تعوَّ د أن يأكل بيده اليسرى ثالثين عامًا يصعب عليه األكل بيده اليمنى بمجرد أنه
قد عرف أهمية ذلك ،فاألمر يحتاج منه إلى عزم أكيد ،وتوكل عظيم على هللا عز وجل ،
وممارسة طويلة ،ومع ذلك فمن المتوقع أنه سيجد معاناة شديدة حتى يعتاد األكل باليمنى .
ونفس األمر بخصوص القرآن ،فلقد اعتدنا قراءته والتعامل معه بشكل غير صحيح ،
ولكي يتم تعديل ذلك البد من استعانة صادقة باهلل ،وعزم أكيد ،وممارسة ،ومتابعة ،وتعاهد
ممن سبقونا في هذا األمر حتى نتعود على القراءة اليومية للقرآن ،بتدبر وترتيل وصوت
حزين ،وتفاعل مع اآليات التي نتأثر بها .
وسائل عملية لالنتفاع بالقرآن :
ولتمام الفائدة نضع بين يديك أخي القارئ بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن ُتدخلنا –
بإذن هللا – إلى عالم القرآن ،وتفتح لنا أبواب االنتفاع به ،فعلينا أن نستخدمها عند تالوتنا
اليومية للقرآن ،وأن تسير جنبًا إلى جنب مع وسائل تنمية الثقة في القرآن والتي ُذكرت آن ًفا .
أواًل :قبل أن نبدأ بقراءة القرآن علينا باإللحاح على هللا عز وجل أن يفتح قلوبنا ألنوار كتابه
،وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر ،ولنتذكر جميعًا بأن اإللحاح الشديد على هللا هو أهم
مفتاح يفتح القلوب للقرآن ،فليكن – إذن – إلحاح ودعاء وتضرع كتضرع المضطر الذي يخرج
دعاؤه من أعماق قلبه .
الفصل السادس
العمل الصالح
وكيف ننتفع به في زيادة
اإليمان ؟!
85
الهدف الذي ترمي هذه الصفحات إلى تحقيقه – بإذن هللا – هو كيفية
االنتفاع الحقيقي بالعمل الصالح في زيادة اإليمان وتحسين السلوك ،وذلك من
خالل التعرف على الوسائل التي من شأنها تحفيز المشاعر قبل القيام به .
ولكي نكتسب مهارة التحفيز قبل القيام بالعمل علينا أن نتدرب طوياًل على
استخدام الوسائل المختلفة المذكورة في تلك الصفحات وغيرها ،وهللا الموفق .
الفصل السادس
العمل الصالح
وكيف ننتفع به في زيادة اإليمان ؟!
ال يكفي ونحن نسير في طريقنا لبناء صرح اإليمان في القلب التركيز على أعمال القلوب فقط
،بل البد من القيام بأعمال صالحة بالجوارح ُتثبِّت اإليمان وترفع بنيانه .
فلو اكتفينا بعمل القلب ولم نهتم بالعمل الصالح فإن اإليمان سيظل محدو ًدا في القلب ،ولن
يظهر أثره الواضح على صاحبه ،وبمرور الوقت قد ينزوي وينزوي في القلب .
يقول اإلمام الغزالي :
()151
. « والعمل يؤثر في نماء اإليمان وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء األشجار »
صالِحً ا َفِإ َّن ُه فالبد من االثنين معًا حتى يتم البناء الصحيح لصرح اإليمان ﴿ َو َمنْ َت َ
اب َو َع ِم َل َ
َي ُتوبُ ِإ َلى هَّللا ِ َم َتابًا ﴾ [الفرقان . ]71 :
االنتفاع بالعمل الصالح :
ولكي يتم االنتفاع بالعمل الصالح البد من استجاشة المشاعر قبل القيام به ،ليحدث االتصال
بين المشاعر والجوارح ،فيُثمر أداء العمل – بعد ذلك – زيادة اإليمان في هذه المشاعر .
فإن لم يحدث هذا االتصال قبل العمل ،فلن يكون ألداء هذا العمل أثر على المشاعر ،ومن
َث َّم السلوك.
وكلما قوي االتصال بين المشاعر والجوارح قبل وأثناء العمل ،كان األثر أشد وأقوى ،
وكما قيل سل ًفا فإن األعمال تتفاضل بتفاضل حركة القلب والمشاعر معها ،وأكبر مثال لذلك
الصالة :
يقول صلى هللا عليه وسلم « :إن الرجل لينصرف وما كتب له إال عشر صالته ،تسعها ،
ثمنها ،سبعها ،سدسها ،خمسها ،ربعها ،ثلثها ،نصفها » (.)152
أهمية التذكرة قبل العمل :
من هنا تبرز أهمية التذكرة قبل القيام بأداء العمل الصالح حتى يتم االنتفاع الحقيقي به ،ومثال ذلك
ما قاله صلى هللا عليه وسلم « :اذكر الموت في صالتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صالته لحرِّ ي
(.)153
أن يحسن صالته »
والتذكرة النافعة هي التي تستجيش وتستثير المشاعر .
ومن الضرورة بمكان وجود إيمان في القلب -ولو كان ضعي ًفا -والبد من استثارة هذا
اإليمان بالتذكرة حتى يحدث الوصال بن المشاعر والجوارح ﴿ َو َذ ِّكرْ َفِإنَّ ِّ
الذ ْك َرى َت ْن َف ُع ْالمُْؤ ِمن َ
ِين ﴾
[الذاريات . ]55 :
وكلما كانت مساحة اإليمان في القلب كبيرة كان حجم التذكرة المطلوبة الستثارته قليلة ،أما
إذا كان اإليمان محدو ًدا ومنزويًا في القلب ،فإن التذكرة المطلوبة البد وأن تكون شديدة حتى
تتمكن من إحداث هزة في المشاعر القاسية ..
وكذلك فإن التذكرة المطلوبة لألعمال الكبيرة الشاقة على النفوس أعظم من غيرها ،فالقتال
على سبيل المثال من األعمال التي تشق على النفوس لذلك كان التوجيه القرآني للرسول عليه
ال﴾ [األنفال ]65 :ومعنى « حرض» : ض ْالمُْؤ ِمن َ
ِين َع َلى ْال ِق َت ِ الصالة السالم ﴿ َيا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ َحرِّ ِ
أي بالغ في حثهم وتحفيزهم .
) ( 152حديث حسن :أخرجه أبو داود ( ، 1/211رقم ، )796وأحمد ( ، 4/321رقم ، )18914وابن حبان ( ، 5/210رقم ، )1889
والبيهقي ( ، 2/281رقم ، )3342وحسنه الشيخ األلباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم ( .)537
) (153حديث حسن :أخرجه أبو داود ( ، 1/211رقم . )796
وهدف التحفيز والتذكير هو استجاشة المشاعر ..مشاعر الرغبة أو الطمع أو الرهبة أو
الغيرة ..إلخ
وكلما قويت تلك االستجاشة واستمرت أثناء القيام بالعمل كان األثر عظيمًا في زيادة اإليمان
ومن َثم تحسين السلوك .
والمتأمل للخطاب القرآني والخطاب النبوي يجد أنهما يستخدمان هذه الطريقة قبل التوجيه
المطلوب القيام به ،ومن النادر أن يخلو توجيه من تحفيز يسبقه .
من فقه التحفيز :
لئن كان الجناح الثاني للتربية اإليمانية هو العمل الصالح ،فإن االنتفاع به انتفاعًا حقيقيًا في
زيادة اإليمان يحتاج إلى تحفيز واستجاشة المشاعر قبل القيام به .
ولكي تكون هذه الطريقة مالزمة للعمل بصورة دائمة فإنها تحتاج إلى ممارسة ومكابدة مرات
ومرات حتى يتعود المرء عليها ،ويقوم بتنفيذها بصورة تلقائية ..
ومفهوم التحفيز والتذكير قبل القيام بالعمل يشترك – إلى حد كبير – مع مفهوم استحضار
النية قبل العمل ،فالنية :هي القصد والتوجه ،وكلما كان التوجه إلى هللا عز وجل بالعمل كبيرً ا
وعمي ًقا كان العمل أنفع ..
فإن قلت :وكيف أقوم بتحفيز نفسي وتحفيز اآلخرين قبل القيام بالعمل ؟!
هناك وسائل كثيرة للتحفيز والتذكير يمكن للمرء أن يستخدمها مع نفسه ومع اآلخرين ،
وسنذكر العديد منها -بعون هللا تعالى – في األسطر القادمة ،مع العلم بأنه ليس من المطلوب
استخدامها كلها قبل القيام بالعمل ،بل علينا أن نأخذ منها ما يناسب العمل المراد القيام به ،
والوقت المتاح أمامنا لممارسة هذا التحفيز.
فالذي يجد أمامه في الطريق غص ًنا أو حجرً ا فإنه يحتاج إلى تحفيز نفسه سريعًا بوسيلة أو
عجوزا يريد عبور الطريق فإنه يحتاج إلى ً وسيلتين قبل أن يرفعه من الطريق ،والذي يجد أمامه
تحفيز سريع كذلك .
أما الذي يذهب للمسجد ألداء الصالة فعنده من الوقت ما يجعله يستخدم عدة وسائل في
التحفيز ،وكذلك الذي يذهب لمساعدة محتاج أو زيارة مريض أو صلة رحم ..وهكذا .
المهم أن نجتهد غاية اإلمكان في تحفيز أنفسنا وتذكيرها قبل القيام بالعمل ،وأن نستخدم من
الوسائل ما يتناسب مع الوقت والعمل ،وإن كانت هناك وسائل تكاد تكون مشتركة في كل
األعمال :كالتذكير باهلل وابتغاء مرضاته ،وبأهمية العمل وفضله ،ولذلك أنصح نفسي وأنصحك
– أخي القارئ – باقتناء كتاب عن فضائل األعمال(.)154
وسائل التحفيز
أواًل :السؤال
السؤال يستثير مشاعر الرغبة داخل اإلنسان لمعرفة اإلجابة ،والسؤال كذلك يشغل الذهن
بطلب اإلجابة ،ومن ث َّم فهو من الوسائل المهمة لتنبيه العقل ،فإذا ما انتبه العقل كان من السهل
استثارة المشاعر بالوسائل األخرى .
لذلك علينا أن نسأل أنفسنا قبل أداء العمل :
لماذا أقوم بهذا العمل ؟!
ثم نبحث عن اإلجابة من خالل استعراض الوسائل األخرى التي ستأتي الح ًقا – بإذن هللا –
وأهمها :تذ ُّكر أن هللا عز وجل يحب هذا العمل ،وتذكر فضله وأهميته ..
ُوسى ﴾ [طه ]17 : ِك َيا م َ ..تأمل قوله تعالى لموسى عليه السالم َ ﴿:و َما ت ِْل َ
ك ِب َيمِين َ
فاهلل عز وجل يعلم أن ما بيمينه عصا ،ولكن المطلوب هو تركيز انتباه موسى – عليه السالم
– ألقصى درجة .
) (154ومن هذه الكتب :رياض الصالحين للنووي ،والمتجر الرابح للحافظ الدمياطي .
والقرآن مليء بالتوجيهات والمعاني اإليمانية التي تسبقها أسئلة ،كقوله تعالى َ ﴿ :يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ِين
ب َأل ٍِيم ﴾ [الصف . ]10 : ار ٍة ُت ْن ِجي ُك ْم ِمنْ َع َذا ٍ آ َم ُنوا َه ْل َأ ُدلُّ ُك ْم َع َلى ت َِج َ
ين َأعْ َمااًل ﴾ [الكهف . ]103 : وقوله ﴿ :قُ ْل َه ْل ُن َن ِّبُئ ُك ْم ِباَأْل ْخ َس ِر َ
ون (َ )1ع ِن ال َّن َبِإ ْال َعظِ ِيم ﴾ [النبأ . ]2 ، 1 : ﴿ع َّم َي َت َسا َءلُ َ وقوله َ :
ومعان إيمانية تسبقها أسئلة : ٍ والسنة كذلك مليئة بتوجيهات
قال صلى هللا عليه وسلم « :أتدرون من المفلس ؟ قالوا :المفلس فينا من ال درهم له وال
متاع .فقال :إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصالة وصيام وزكاة ،ويأتي قد شتم هذا ،
وقذف هذا ،وأكل مال هذا ،وسفك دم هذا ،وضرب هذا ،فيعطى هذا من حسناته وهذا من
حسناته ،فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عنه ما عليه ُأخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح
في النار» (.)155
وقوله « :أال أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصالة والصدقة ،إصالح ذات البين فإن
فساد ذات البين هي الحالقة » (.)156
وقوله « :أال أدلك على سيد االستغفار ؟! اللهم أنت ربي ال إله إال أنت خلقتني وأنا عبدك ،
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،وأبوء إليك بنعمتك علي ،
وأعترف بذنوبي ،فاغفر لي ذنوبي ،إنه ال يغفر الذنوب إال أنت ،ال يقولها أحدكم حين يُمسي
فيأتي عليه قدر قبل أن يُصبح إال وجبت له الجنة ،وال يقولها حين يُصبح فيأتي عليه قدر قبل أن
يُمسي إال وجبت له الجنة » (.)157
فعندما نذهب للوضوء نسأل أنفسنا :لماذا نتوضأ ؟ .
وعندما نذهب للصالة في المسجد نسأل أنفسنا :لماذا نصلي في المسجد ؟ .
وعندما نذهب لصلة أرحامنا نسأل أنفسنا :لماذا نذهب إليهم ؟ ...
وهكذا في كل أعمالنا ...
ثان ًيا :تذ ُّكر هللا عز وجل
من الوسائل المهمة التي تحفز للعمل ،وتوجه النية توجيهًا صحيحً ا :تذ ُّكر هللا عز وجل في
هذا العمل ،وكيف أنه سبحانه وتعالى يحب من عبده القيام بهذا العمل ،وأنه – سبحانه – يباهي
بنا المالئكة عندما نقوم به ،وأن هذا العمل وسيلة لنيل مرضاته ،وأن العبودية له سبحانه
تستدعي القرب منه باألعمال الصالحة ،فتستثير هذه المعاني – عندما نتذكرها – مشاعر الشوق
والرغبة في هللا عز وجل .
واآليات التي تؤكد هذا المعنى كثيرة .
ين ﴾ [البقرة . ]222 : منها قوله تعالى ِ ﴿:إنَّ هَّللا َ ُيحِبُّ ال َّتوَّ ِاب َ
ين َو ُيحِبُّ ْال ُم َت َطه ِِّر َ
صالِحً ا َواَل ُي ْش ِركْ ِب ِع َبادَ ِة َر ِّب ِه َأ َح ًدا﴾ [الكهف : ان َيرْ جُو لِ َقا َء َر ِّب ِه َف ْل َيعْ َم ْل َع َماًل َ وقولهَ ﴿:ف َمنْ َك َ
. ]110
ت هَّللا ِ َو َت ْث ِبي ًتا ِمنْ َأ ْنفُسِ ِه ْم َك َم َث ِل َج َّن ٍة ِب َرب َْو ٍة ﴾
ضا ِ ون َأمْ َوا َل ُه ُم ا ْبت َِغا َء َمرْ َ ﴿و َم َث ُل الَّذ َ
ِين ُي ْن ِفقُ َ وقوله َ :
[البقرة . ]265 :
ونجد في السنة كذلك أحاديث تبدأ بالتذكير باهلل عز وجل وأنه يحب من عبده القيام بهذا العمل
كقوله صلى هللا عليه وسلم « :إن هللا يحب إذا عمل أحدكم عماًل أن يتقنه » (.)158
) ( 159حديث صحيح :أخرجه الترمذي ( ، 3/609رقم ، )1319والحاكم ( ، 2/64رقم ، )2338وصححه الشيخ األلباني في السلسلة
الصحيحة برقم ( . ) 899
) (160متفق عليه ،أخرجه البخاري ( ، 5/2240رقم ، )5673ومسلم ( ، 1/69رقم . )48
) ( 161حديث صحيح :أخرجه الترمذي ( ، 5/459رقم ، )3377وابن ماجه ( ، 2/1245رقم ، )3790والحاكم ( ، 1/673رقم ، )1825
وأحمد ( ، 5/195رقم ، )21750وصححه الشيخ األلباني في صحيح سنن الترمذي ( ، 3/139برقم . ) 2688
) ( 162متفق عليه :أخرجه البخاري ( ، 2/511رقم ، )1344ومسلم ( ، 2/702رقم . )1014والفلو :بفتح الفاء ،وضم الالم ،وتشديد
الواو ،هو الفرس أول ما يولد .
) (163حديث صحيح :أخرجه الترمذي ( ، 5/552رقم ، )3549والبيهقي ( ، 2/502رقم ، )4425وصححه الشيخ األلباني في صحيح
الجامع حديث رقم ، 4079 :بدون لفظة (ومطردة للداء عن الجسد) فإنها ضعيفة عنده .
روعة وجالل ،وأنه سيتناول الدواء الرباني الذي فيه شفاؤه ،وأنه سيتعرض للنور المبين الذي
يبدد الظلمات في عقله وقلبه ،وأن المالئكة تقترب منه لتسمع قراءته و ، ...فإن ذلك من شأنه
أن يستثير مشاعر الرغبة والشوق نحوه ،فيقبل عليه إقبال الظمآن على الماء .
وإذا ما قام المرء بتذكير نفسه قبل زيارته لمريض أن هذه الزيارة سترفع معنويات المريض
– بإذن هللا – و ُتسرّ ي عنه ،وأنه سوف يجني منها رقة في قلبه ،وامتنا ًنا لربه ألنها ستذكره
بنعمة العافية التي يتقلب فيها ،و ، ...فمن المتوقع أن يُقبل عليها بمشاعر متأججة .
وعند اإلنفاق في سبيل هللا يُذ ِّكر المرء نفسه بأن هذا اإلنفاق قد يكون سببًا في إنقاذ مريض
من الموت ،وسد حاجة فقير معسر ،وشكر لنعمة اليسار والغنى ..
وعند قيام الليل يُذ ِّكر المرء نفسه بأن هذا القيام هو شرفه وعزه ،وأنه من أفضل أوقات
استجابة الدعاء ،وأنه يعطي قوة في البدن وانشراحً ا في الصدر ،وبركة في اليوم .
سا :الترهيب من ترك العمل خام ً
من طبيعة النفس أنها إذا ما ُخوفت خافت ،فإذا ما نجحنا في تذكير أنفسنا بخطورة ترك
العمل الصالح أو التهاون في أدائه وما قد يترتب على ذلك من أضرار في الدنيا واآلخرة ؛ فإنها
ستدفعنا للقيام به .
يقول أحد األصدقاء :توجد لوحة إرشادية على أحد الجدران الخارجية لمسجد يقع على
طريق سريع ،مكتوب عليها :نظرً ا لكثرة حوادث العبور من الطريق السريع عليك باستخدام
نفق المشاة ..
ويستطرد قائاًل :كلما قرأت هذه اللوحة أجد نفسي تدفعني للعبور من النفق .
من هنا نقول :بأن من الوسائل المهمة الستثارة مشاعر الرهبة والشعور بالخطر الدافعة
للعمل :التذكير بخطورة ترك العمل الصالح ،أو بخطورة اإلقدام على فعل المعاصي .
وهنا الكثير من اآليات واألحاديث التي تتحدث في هذا الشأن .
يلومن ذلك قوله تعالى في الترهيب من ترك اإلنفاق َ ﴿ :ها َأ ْن ُت ْم َهُؤ اَل ِء ُت ْد َع ْو َن لِ ُت ْن ِفقُوا فِي َس ِب ِ
هَّللا ِ َف ِم ْن ُك ْم َمنْ َيب َْخ ُل َو َمنْ َيب َْخ ْل َفِإ َّن َما َيب َْخ ُل َعنْ َن ْفسِ ِه َوهَّللا ُ ْال َغنِيُّ َوَأ ْن ُت ُم ْالفُ َق َرا ُء َوِإنْ َت َت َولَّ ْوا َيسْ َت ْب ِد ْل
َق ْومًا َغي َْر ُك ْم ُث َّم اَل َي ُكو ُنوا َأمْ َثا َل ُك ْم ﴾ [محمد . ]38 :
ِين آ َم ُنوا اَل ُت ْل ِه ُك ْم َأمْ َوالُ ُك ْم َواَل َأ ْواَل ُد ُك ْم َعنْ ذ ِْك ِر هَّللا ِ َو َمنْ َي ْف َع ْل َذل َِك وقوله تعالى َ ﴿ :يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ُون ﴾ [المنافقون .]9 : َفُأو َل َ
ِئك ُه ُم ْال َخاسِ ر َ
وقوله صلى هللا عليه وسلم في الترهيب من عدم إتمام الصالة « :أسوأ الناس سرقة الذي
يسرق من صالته » ،قالوا :كيف يسرق من صالته ؟ قال « :ال يتم ركوعها وال سجودها وال
خشوعها » (. )164
وقوله صلى هللا عليه وسلم في الترهيب من الظلم « :اتقوا دعوة المظلوم ؛ فإنها ُتحمل على
ص َر َّنك ولو بعد حين » (. )165 الغمام ،يقول هللا :وعزتي وجاللي َأل ْن َ
سا :التشجيع ساد ً
من الحوافز ذات األثر البالغ على النفس :استشعار المرء تقدير اآلخرين له ،فيؤدي ذلك إلى
فتح منافذ االستماع لهم ،وزيادة الرغبة في القيام بما يطلبونه منه .
هذه الوسيلة ينبغي أن نستخدمها مع أنفسنا أو مع اآلخرين في حدود ضيقة حتى ال تأتي
بنتيجة عكسية وتتحول إلى صورة من صور المدح الذي يؤدي إلى استعظام المرء لنفسه ،
وشعوره باألفضلية الذاتية على غيره .
) (164حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، 5/310رقم ، )22695والحاكم ( ، 1/353رقم ، )835وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع
( رقم .)986 :
) (165حديث صحيح :أخرجه الطبراني ( 4/84رقم ،)3718وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ( رقم .)117 :
والمتأمل في القرآن والسنة يجد مواقف عديدة اس ُتخدمت فيها هذه الوسيلة في التحفيز للقيام
بالعمل .
فعلى سبيل المثال :كثيرً ا ما يتكرر في القرآن قوله تعالى َ ﴿ :يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ِين آ َم ُنوا ﴾ قبل
التوجيه إلى العمل المطلوب ..هذا النداء فيه من التقدير والتشجيع ما يحفز النفس للقيام بالعمل .
وفي الخطاب الموجه لليهود نجد أن القرآن يناديهم بقوله تعالى َ ﴿ :يا َبنِي ِإسْ َراِئي َل ﴾ أي :يا
أبناء النبي إسرائيل ،فيكون هذا النداء بمثابة استدراج لهم لكي يستمعوا لما سيُتلى عليهم .
هللا اصْ َط َفاكِ َو َطه ََّركِ َواصْ َط َفاكِ َع َلى ن َِسا ِء وتأمل قول المالئكة لمريم الصديقة َ ﴿ :يا َمرْ َي ُم ِإنَّ َ
ِين﴾ [آل عمران ]42 :فهذا لون من ألوان التقدير الخاص ،ليأتي التوجيه في اآلية التالية : ْال َعا َلم َ
ِين ﴾ [آل عمران . ]43 : ﴿ َيا َمرْ َي ُم ا ْق ُنتِي ل َِربِّكِ َواسْ ُجدِي َوارْ َكعِي َم َع الرَّ ا ِكع َ
وعندما أراد موسى -عليه السالم – أن يدخل ببني إسرائيل األرض المقدسة ظل يحفزهم
ُوسى لِ َق ْو ِم ِه َيا َق ْو ِم ْاذ ُكرُوا ِنعْ َم َة ِ
هللا ﴿وِإ ْذ َقا َل م َ بهذه الطريقة قبل أن يطلب منهم هذا الطلب َ :
ِين (َ )20يا َق ْو ِم ْاد ُخلُوا ت َأ َح ًدا م َِن ْال َعا َلم َ َع َل ْي ُك ْم ِإ ْذ َج َع َل فِي ُك ْم َأ ْن ِب َيا َء َو َج َع َل ُك ْم ُملُو ًكا َوآ َتا ُك ْم َما َل ْم يُْؤ ِ
ين ﴾ [المائدة ، 20 : ار ُك ْم َف َت ْن َقلِبُوا َخاسِ ِر َ َأ
ب هَّللا ُ َل ُك ْم َواَل َترْ َت ُّدوا َع َلى ْد َب ِ ض ْال ُم َق َّد َس َة الَّتِي َك َت َ اَأْلرْ َ
. ]21
وانظر إليه صلى هللا عليه وسلم وهو يقول لمعاذ بن جبل « :يا معاذ :وهللا إني ألحبك ،
دعنَّ في دبر كل صالة أن تقول :اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن أوصيك يا معاذ ال َت َ
عبادتك » (. )166
ولك أن تتخيل و ْقع كلمة « :يا معاذ :وهللا إني ألحبك » على نفس معاذ ،وكيف سيستقبل
الكالم بعدها ؟!
ساب ًعا :التذكير بالمواقف اإليجابية السابقة
فمن الوسائل التي تثير الهمة ،وتدفع للقيام بالعمل :تذكر المواقف اإليجابية التي مرت
بالمرء في حياته ولها عالقة بالعمل المراد القيام به في الحاضر ،فعندما يجد المرء في نفسه
تكاساًل عن قيام الليل ي َُذ ِّكر نفسه بيوم كذا وكذا عندما قام نصف الليل وكيف كان ذلك ممتعًا
وسهاًل على نفسه ،وعندما يستشعر عدم جدوى القيام بعمل ما نتيجة ضيق الوقت وقلة اإلمكانات
فعليه أن ي َُذ ِّكر نفسه بمواقف إيجابية تعرض لها من قبل وكانت الظروف أشد ،ومع ذلك أكرمه
هللا بالتوفيق والنجاح ..
ُوك َفِإنَّ َحسْ َب َك هَّللا ُ َأ
تأمل قول هللا تعالى لرسوله صلى هللا عليه وسلم َ ﴿ :وِإنْ ي ُِري ُدوا نْ َي ْخدَ ع َ
ت ض َجمِيعًا َما َألَّ ْف َ ت َما فِي اَأْلرْ ِ وب ِه ْم َل ْو َأ ْن َف ْق َ
ف َبي َْن قُلُ ِ ِين (َ )62وَألَّ َ ه َُو الَّذِي َأيَّدَ َك ِب َنصْ ِر ِه َو ِب ْالمُْؤ ِمن َ
ف َب ْي َن ُه ْم ِإ َّن ُه َع ِزي ٌز َحكِي ٌم ﴾ [األنفال . ]63 ، 62 : وب ِه ْم َو َلكِنَّ هَّللا َ َألَّ َ
َبي َْن قُلُ ِ
في هذه اآليات تم التذكير بمواقف سابقة تجلت فيها قدرة هللا وتأييده ليأتي التوجيه بعد هذا
ِينض ْالمُْؤ ِمن َ ِين (َ )64يا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ َحرِّ ِ التذكير ﴿ َيا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ َحسْ ب َ
ُك هَّللا ُ َو َم ِن ا َّت َب َع َك م َِن ْالمُْؤ ِمن َ
ِين ْن َوِإنْ َي ُكنْ ِم ْن ُك ْم ِماَئ ٌة َي ْغلِبُوا َأ ْل ًفا م َِن الَّذ َ ُون َي ْغلِبُوا ِماَئ َتي ِص ِابر َ ُون َ ال ِإنْ َي ُكنْ ِم ْن ُك ْم عِ ْشر َ َع َلى ْال ِق َت ِ
ُون ﴾ [األنفال . ]65 ، 64 : َك َفرُوا ِبَأ َّن ُه ْم َق ْو ٌم اَل َي ْف َقه َ
ثام ًنا :المحاورة واإلقناع والموازنة العقلية ( تخيير النفس ) :
عندما يقتنع المرء بأهمية وقيمة العمل المطلوب قيامه به ومدى نفعه له ،فإن ذلك من شأنه
أن يدفعه ألدائه بمشاعر الرغبة واالحتياج ،وكذلك عندما يقتنع بخطورة وضرر العمل الذي يود
فعله فإنه سيتركه بإرادته ..
من هنا تبرز أهمية الحوار واإلقناع سواء كان بين المرء ونفسه ،أو بينه وبين اآلخرين .
) (166حديث صحيح :أخرجه أبو داود ( ، 2/86رقم ، )1522والنسائي في الكبرى ( ، 6/32رقم ، )9937وصححه الشيخ األلباني في
صحيح الجامع ( رقم .)7969 :
ومن الضروري أن ينطلق الحوار من قاعدة مفادها أن «صالحك لمصلحتك» ،وأنك
المستفيد األول من قيامك بالعمل الصالح ،وأنك – أيضًا – الخاسر من عدم قيامك به .
فالنفس ال تحب أو ترضى بفوات مصلحة تنفعها ،أو الوقوع في ضرر يؤذيها ،لذلك نجد
القرآن يستخدم هذه الطريقة في اإلقناع :
ْأ
﴿ ِإنْ َأحْ َس ْن ُت ْم َأحْ َس ْن ُت ْم َأِل ْنفُسِ ُك ْم َوِإنْ َأ َس ُت ْم َف َل َها ﴾ [اإلسراء . ]7 :
ار َخ ْي ٌر َأ ْم َمنْ َيْأتِي آ ِم ًنا َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة ﴾ ؟! ﴿اعْ َملُوا َما شِ ْئ ُت ْم ﴾ [فصلت : ﴿ َف َمنْ ي ُْل َقى فِي ال َّن ِ
َأ
. ]40
ض َّل َفِإ َّن َما يَضِ ُّل َع َل ْي َها ﴾ [اإلسراء . ]15 : ﴿ َم ِن اهْ َتدَ ى َفِإ َّن َما َي ْه َتدِي لِ َن ْفسِ ِه َو َمنْ َ
ث َو َن َّز ْل َناهُ َت ْن ِزياًل ( )106قُ ْل آ ِم ُنوا ِب ِه َأ ْو اَل ُتْؤ ِم ُنوا اس َع َلى م ُْك ٍ ﴿ َوقُرْ آ ًنا َف َر ْق َناهُ لِ َت ْق َرَأهُ َع َلى ال َّن ِ
﴾ [اإلسراء . ]107 ، 106 :
ِي َف َع َل ْي َها ﴾ [األنعام . ]104 : ْص َر َفلِ َن ْفسِ ِه َو َمنْ َعم َ َأ
صاِئ ُر ِمنْ َر ِّب ُك ْم َف َمنْ ب َ ﴿ َق ْد َجا َء ُك ْم َب َ
فهذه اآليات وغيرها تضع المرء في مواجهة مع نفسه ،و ُتشعره باالحتياج الشخصي للعمل ،
ث اآْل خ َِر ِة َن ِز ْد َل ُه فِي َحرْ ِث ِه َو َمنْ َك َ
ان ان ي ُِري ُد َحرْ َ وأنه الفائز إن عمله ،والخاسر إن تركه ﴿ َمنْ َك َ
ب ﴾ [الشورى . ]20 : ث ال ُّد ْن َيا ُنْؤ ِت ِه ِم ْن َها َو َما َل ُه فِي اآْل خ َِر ِة ِمنْ َنصِ ي ٍ ي ُِري ُد َحرْ َ
وعندما طلبت زوجات النبي صلى هللا عليه وسلم التوسعة في النفقة نزل القرآن يحاورهن :
﴿ َيا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ قُ ْل َأِل ْز َوا ِج َك ِإنْ ُك ْن ُتنَّ ُت ِر ْد َن ْال َح َيا َة ال ُّد ْن َيا َو ِزي َن َت َها َف َت َعا َلي َْن ُأ َم ِّتعْ ُكنَّ َوُأ َسرِّ حْ ُكنَّ َس َراحً ا
ت ِم ْن ُكنَّ َأجْ رً ا َعظِ يمًا ار اآْل خ َِر َة َفِإنَّ هَّللا َ َأ َع َّد ل ِْلمُحْ سِ َنا ِ َجمِياًل (َ )28وِإنْ ُك ْن ُتنَّ ُت ِر ْد َن هَّللا َ َو َرسُو َل ُه َوال َّد َ
﴾ [األحزاب . ]29 ، 28 :
وتأمل الحوار الذي دار بين الرسول صلى هللا عليه وسلم وبين الشاب الذي أتاه يطلب منه أن
يأذن له بالزنا :
فعن أبي أمامة قال :إن فتى شابًا أتى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال :يا رسول هللا ! ائذن
لي بالزنا .فأقبل القوم عليه فزجروه ،وقالوا :مه ،مه ! فقال « :أدنه » .فدنا منه قريبًا .قال
:فجلس .قال « :أتحبه ألمك ؟ » ،قال :ال وهللا ،جعلني هللا فداك .قال « :وال الناس يحبونه
ألمهاتهم » .قال « :أفتحبه البنتك ؟ » ،قال :ال وهللا يا رسول هللا ،جعلني هللا فداك .قال :
« وال الناس يحبونه لبناتهم » .قال « :أتحبه ألختك ؟ » ،قال :ال وهللا ،جعلني هللا فداك .
قال « :وال الناس يحبونه ألخواتهم » .قال « :أتحبه لعمتك ؟ » ،قال :ال وهللا ،جعلني هللا
فداك .قال « :وال الناس يحبونه لعماتهم » .قال « أتحبه لخالتك ؟ » ،قال :ال وهللا ،جعلني
هللا فداك .قال « :وال الناس يحبونه لخاالتهم » .قال :فوضع يده عليه وقال « :اللهم اغفر
ذنبه ،وطهر قلبه ،وحصن فرجه » .فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (. )167
فالرسول صلى هللا عليه وسلم لم ينهره أو ي َُوبخه عندما طلب منه هذا الطلب المحرم ،بل
حاوره ،ووصل به إلى القناعة التامة بأن هذا ال يصلح .
وهذا عبد هللا بن رواحة عندما وجد في نفسه بعض التردد عند في معركة مؤتة ،ظل
يُحاورها ،ويقول لها:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ...طائعة أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ...ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنة ...هل أنت إال نطفة في شنه
يا نفس إال تقتلي تموتي ...هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ...إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
) (167حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، )257 - 256 / 5وصححه الشيخ األلباني رحمه هللا في السلسلة الصحيحة برقم ( . ) 712
فعلينا أن نستخدم هذه الطريقة في التحفيز ،وبخاصة عندما نجد في أنفسنا تكاساًل عن أداء
األعمال ..فعلى سبيل المثال :عندما نسمع آذان الفجر ،ونجد في أنفسنا خمواًل وتكاساًل عن
القيام ،علينا أن ُنحاورها ونتحدث معها بمثل هذه الكلمات :
..ال بأس من النوم والراحة ..ولكن من سيدفع الثمن ؟ من المتضرر ؟
..من الذي سيفقد بركة هذا اليوم ؟
..من الذي سيبتعد عن ذمة هللا في هذا اليوم ؟
ش ًّحا بالمال ،وعدم رغبة في اإلنفاق ،علينا أن ُنحاورها و ُنبيِّن لها ..وعندما نجد في أنفسنا ُ
حجم الخسارة التي ستعود عليها من ترك اإلنفاق ،وحجم المكاسب المترتبة على اإلنفاق .
وعندما نجد أوالدنا يتكاسلون عن أداء الصالة أو أي عمل آخر علينا أن نستخدم معهم هذه
الطريقة.
تاس ًعا :التحفيز من خالل إبراز قدوة :
من طبيعة النفس أنها ال ُتحب أن يسبقها أو يتميز عليها أحد ،لذلك علينا أن نستثير مشاعر
الغيرة ،ونوجهها التوجيه الصحيح نحو القيام بالعمل المطلوب من خالل التذكير بأناس قاموا به
وبغيره على أحسن وجه .
فتقول لنفسك قبل اإلنفاق :تذكري فالن الذي كان يُنفق كذا وكذا ،ولم يترك لنفسه إال القليل
..
تذكري الصحابي عبد هللا ابن أم مكتوم األعمى الذي لم يترك الصالة في المسجد .
تذكري أبا بكر الصديق الذي أتى بماله كله لتجهيز جيش العسرة ..
والقرآن مليء باآليات التي ُتح ِّفز المسلمين للقيام بالعمل الصالح من خالل ذكر نماذج بشرية
ِين ان ُأم ًَّة َقا ِن ًتا هَّلِل ِ َحنِي ًفا َو َل ْم َي ُ
ك م َِن ْال ُم ْش ِرك َ قامت به خير قيام ،كقوله تعالى ِ ﴿ :إنَّ ِإب َْراهِي َم َك َ
(َ )120شا ِكرً ا َأِل ْن ُع ِم ِه ﴾ [النحل . ]121 ، 120 :
ض ُعفُوا َو َما يل هَّللا ِ َو َما َصا َب ُه ْم فِي َس ِب ِ ُّون َكثِي ٌر َف َما َو َه ُنوا لِ َما َأ َ
﴿ َو َكَأيِّنْ ِمنْ َن ِبيٍّ َقا َت َل َم َع ُه ِر ِّبي َ
ين ﴾ [آل عمران . ]146 : اسْ َت َكا ُنوا َوهَّللا ُ ُيحِبُّ الص ِ
َّاب ِر َ
والقدوة الحاضرة أقوى في التأثير في النفس من غيرها ،فكما قيل « :عمل رجل في ألف
رجل ،أفضل من قول ألف رجل لرجل » .
وأيضًا « :إذا أردت أن تكون إمامي ،فكن أمامي » ،و « القدوة إمامة بال إمارة » .
وقوله « :إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ،فحامل
المسك إما أن يُحذ َيك ،وإما أن تبتاع منه ،وإما أن تجد منه ريحً ا طيبة ،ونافخ الكير إما أن
يحرق ثيابك ،وإما أن تجد ريحً ا خبيثة » (. )173
ثاني عشر :الصورة المؤثرة
تأثيرا
ً المشاهد التي تراها العين يصل مدلولها إلي العقل والقلب بصورة سريعة وتكون أشد
على المشاعر مما ُينقل عن طريق السمع ..انظر إلى موسى – عليه السالم – وقد تأثر
وغضب عندما أعلمه هللا عز وجل بما فعله قومه من عبادة العجل ،لكنه لم يلق األلواح التي في
يديه ،ولكن عندما ذهب لقومه ورآهم بعينيه اشتد غضبه واشتد ،وألقى األلواح ،وفي هذا
) (174أخرجه أحمد ( ، 1/215رقم ، )1842والحاكم ( ، 2/351رقم ، )3250وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ( رقم . )5374
) (175أسك :أي صغير األذنين .
) (176أخرجه مسلم ( ، 4/2272رقم. )2957
يزداد إرهاف الحس ،وتأجج المشاعر ،ويقظة العقل عندما تحدث أمام المرء أحداث غير
مألوفة ،ويصبح على درجة عالية من االستعداد للتلقي ،لذلك نجد القرآن الكريم بعد األحداث
الكبيرة التي مرت بالصحابة رضوان هللا عليهم ينزل ليعلمهم ويوجههم ويربيهم حتى يستفيدوا
من هذه األحداث في مزيد من االستقامة هلل عز وجل ،وبخاصة أن النفوس تظل مدة من الزمن
متعلقة بتلك األحداث ،وتكون فيها على استعداد لتلقي التوجيهات المتعلقة بها ،ومثال ذلك :
تعقيب القرآن الطويل على حادثة اإلفك وكيف يستفيدون منها بعد ذلك َ ﴿ :ل ْواَل ِإ ْذ َس ِمعْ ُتمُوهُ َظنَّ
ِظ ُك ُم هَّللا ُ َأنْ َتعُو ُدوا ك م ُِبينٌ ﴾ [النور َ ﴿ ، ]12 :يع ُ ات ِبَأ ْنفُسِ ِه ْم َخيْرً ا َو َقالُوا َه َذا ِإ ْف ٌون َو ْالمُْؤ ِم َن ُ ْالمُْؤ ِم ُن َ
ِين ﴾ [النور ، ]17 :وتعقيبه على ما فعله حاطب بن أبي بلتعة – رضي لِم ِْثلِ ِه َأ َب ًدا ِإنْ ُك ْن ُت ْم مُْؤ ِمن َ
هللا عنه -في محاولته -غير الناجحة – إلخبار أهل مكة بعزم الرسول صلى هللا عليه وسلم
ون ِين آ َم ُنوا اَل َت َّتخ ُِذوا َع ُدوِّ ي َو َع ُدوَّ ُك ْم َأ ْولِ َيا َء ُت ْلقُ َ على السير إليهم ودخول مكة فاتحً ا َ ﴿ :يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ُون الرَّ سُو َل َوِإيَّا ُك ْم َأنْ ُتْؤ ِم ُنوا ِباهَّلل ِ َر ِّب ُك ْم ِإنْ ِإ َلي ِْه ْم ِب ْال َم َو َّد ِة َو َق ْد َك َفرُوا ِب َما َجا َء ُك ْم م َِن ْال َح ِّق ي ُْخ ِرج َ
ون ِإ َلي ِْه ْم ِب ْال َم َو َّد ِة َوَأ َنا َأعْ َل ُم ِب َما َأ ْخ َف ْي ُت ْم َو َما
ضاتِي ُتسِ رُّ َ ُك ْن ُت ْم َخ َرجْ ُت ْم ِج َها ًدا فِي َس ِبيلِي َوا ْبت َِغا َء َمرْ َ
يل ﴾ [الممتحنة . ]1 : َأعْ َل ْن ُت ْم َو َمنْ َي ْف َع ْل ُه ِم ْن ُك ْم َف َق ْد َ
ض َّل َس َوا َء الس َِّب ِ
وكذلك التعقيب القرآني بعد غزوة بدر ،وأحد ،وبني النضير ،واألحزاب ،وما فيها من
دروس وعبر وتوجيهات نحو مزيد من االستقامة .
ولقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يفعل ذلك مع الصحابة رضوان هللا عليهم ويربط
دومًا بين الحدث غير المألوف والمعاني اإليمانية الدالة عليه .
ففي يوم من األيام وبينما كان الرسول صلى هللا عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه َسبْي ،وفي
هذا السبي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة قد ضاع منها رضيعها ،واستمرت على هذا الحال
الشديد حتى وجدته ،فأخذته وضمته إلي صدرها بشدة ثم أرضعته .
هذا المنظر شاهده الصحابة فأثر فيهم غاية التأثير ،فلم يتركه صلى هللا عليه وسلم يذهب
سُدى ،بل وجهه توجيهًا إيمانيًا ،فقال لهم « :أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟!» قالوا :ال
وهللا .قال « :هللا أرحم بعباده من هذه على ولدها» (.)177
..إذن علينا أن نستفيد من األحداث غير المألوفة التي تمر بنا في توجيه أنفسنا واآلخرين
نحو مزيد من االستقامة هلل عز وجل .
هل هناك مزيد من الوسائل ؟
ليست الوسائل السابقة هي فقط التي تستثير المشاعر وتحفزها للقيام بالعمل الصالح ،فهناك
وسائل أخري كالصوت المؤثر ،واإلشارة باليد ،وال َق َسم ،والمسابقات التنافسية ،ولكننا –
بفضل هللا – اخترنا في هذه الصفحات أكثرها تأثيرً ا وأيسرها استخدامًا .
كلمة أخيرة عن وسائل التحفيز
كما ذكرنا من قبل بأن علينا االجتهاد في استثارة مشاعرنا وتحفيز أنفسنا قبل القيام بالعمل
حتى يزداد نفعه في زيادة اإليمان وتحسين السلوك ،ولقد تم ذِكر العديد من وسائل التحفيز ..
نعم ،هناك بعض الصعوبة في استخدام كل هذه الوسائل للمرء مع نفسه ،فبعضها يكون
أكثر نفعًا عند توجيه اآلخرين وتحفيزهم للقيام بعمل ما ،ومع ذلك فمن الممكن استخدام الكثير
منها مع أنفسنا .
فقبل القيام بالعمل أسأل نفسي :لماذا أقوم بهذا العمل ؟ وأبدأ بالجواب من خالل :
● تذكير النفس بأن هذا العمل قربة إلى هللا وابتغاء مرضاته .
● وتذكير النفس بفضل هذا العمل .
● وأذكرها كذلك بأهمية القيام به .
الهزة اإليمانية
وبداية االرتقاء اإليماني
هدف هذه الصفحات هو التعرف على طريق إحداث الشرارة األولى
– بإذن هللا – النطالق رحلة اإليمان ،وسير القلب إلى هللا ،واالجتهاد
في تحقيق ذلك من خالل استثارة وإلهاب مشاعر المحبة والشوق إلى
هللا
الفصل السابع
َّ
الهزة اإليمانية وبداية االرتقاء اإليماني
الحلقة المفقودة :
بعد الحديث عن أهمية اإليمان وثماره ،ومراتب االرتقاء اإليماني ،وجناحي التربية اإليمانية
،يبقى السؤال :هل ما قيل يكفي لبدء الرحلة اإليمانية والسير إلى هللا ؟
بال شك أن حُسن التعامل مع القرآن والتفكر فيه ،ومداومة قراءته بتدبر وترتيل وصوت
حزين ،مع العمل – قدر المستطاع – على االستفادة من القرآن في التفكر في الكون وأحداث
الحياة وربطها باهلل عز وجل ..بال شك أن هذه األعمال القلبية ستقوم – بإذن هللا -بزيادة
احبها أعمال صالحة فإن األثر سيكون أشد وأشد شريطة أن ص َعظيمة وملحوظة لإليمان ،فإن َ
يسبق تلك األعمال تحفيز للمشاعر كما أسلفنا .
ولكن تبقى حلقة مفقودة في هذه المنظومة ،أال وهي الشرارة األولى والشحنة القوية التي
تهز القلب ،وتوقظ اإليمان لتأتي بعد ذلك تلك الوسائل فتعمل عملها .
والشحنة القوية التي نحتاجها في البداية لكي توقظنا من سُباتنا وتجعلنا – بإذن هللا – نبدأ
شحنة شحنة تخويف وترهيب ،وإما ُ رحلة االرتقاء اإليماني والسير إلى هللا لها طريقتان :إما ُ
تشويق وترغيب ،كما قال بعض السلف « :ال ُيخرج الشهوة من القلب إال خوف مزعج أو
شوق مقلق » .
هيا بنا نزداد ُح ًّبا هلل وشو ًقا إليه :
بفضل هللا تم الحديث في موضع سابق عن الخوف من هللا وكيف نستخدمه ونجلب به
الشرارة األولى والشحنة القوية الدافعة للعمل ( ، )181ومع ذلك فهناك عدة أسباب تدفعنا لتفضيل
طريق التشويق والترغيب في هللا عز وجل .
ومن هذه األسباب أن الحديث عن الخوف من هللا وأسباب استجالبه من َتذ ُّكر الموت ،
وعذاب القبر والقيامة والنار ،قد احتل مساحات كبيرة في كتابات وأحاديث العلماء والدعاة
وغيرهم ،ومن َث َّم فإن تأثيره -بسبب هذا التكرار -
-قد ال يأتي باألثر المطلوب كالطبيب الذي يعتاد رؤية اإلصابات والدماء والكسور فيفقد
بمرور الوقت تأثره بها .
وعكس ذلك بخصوص طريق المحبة والتشويق إلى هللا عز وجل ،فالحديث عنها قليل ،وال
يتوازن مع الحديث عن الخوف من هللا عز وجل .
ومن هذه األسباب :أن الشحنة اإليمانية والشرارة األولى الناتجة عن طريق التشويق
والترغيب لها صدى طيب في النفس ،فمن شأنها أن تجعل المرء يستيقظ من سُباته وهو باسم ..
فرح ..يُسارع في القيام بالعبادات المختلفة ،وهو في حالة من الرضا عن هللا يهرع إلى هللا وهو ِ
والشوق إليه والحب له . ...
ومنها كذلك أن الغافل يحتاج إلى َمن يُوقظه بحنان ورفق حتى يستوعب تلك اليقظة ،أما
المُستيقظ فهو يحتاج إلى بعض التخويف حتى ال يُعجب بنفسه ،ويغتر بعلمه ،فالترغيب يُفضل
البدء به مع أمثالي من الغافلين ،أما الترهيب فيكون مع العابدين والصالحين .
وليس معنى هذا هو ترك التخويف والترهيب ،بل المقصد هو التوازن بينهما والبدء منهما
بما يُناسب حالة القلب .
فإن اتفقت معي -أخي القارئ – على البدء بشحنة التشويق والترغيب في هللا عز وجل ،
شحنة قوية حتى تظهر الثمرة وتؤدي إلى اليقظة بإذن هللا . فلتكن إذن ُ
*182من المناسب أن يتم انتقال المرء بهذه المعاني إلى محيط الدعوة بعد خوضه غمار التربية النفسية ،وممارسة
مبادئها في التعرف على النفس وكيفية التعامل معها ،حتى ال يشعر أن عنده شيًئ ا ليس عند غيره ،ف ُيعجب بنفسه ،فيكون
صغيرا " ما ُيعينك – بإذن هللا
ً حطم صنمك وكن عند نفسك ذلك سب ًبا في بعده عن هللا ،ولعلك تجد أخي القارئ في كتاب " ِّ
-على تخطي هذه العقبة التي تقف أمامنا جمي ًعا كحائل يحول بيننا وبين التقدم نحو هللا ،والكتاب موجود بفضل هللا على
موقع اإليمان أواًل .
في هذه األثناء ،وبينما هو في هذه الحالة ،حدث أمر لم يكن في الحسبان ..لقد زار الكفل
ضيف آخر ..لم يكن ذاك الضيف من بني البشر ،لقد زاره ملك الموت ليقبض روحه ،وهو في
أشد لحظات الندم والتوبة .
..جاءه ملك الموت ومعه مالئكة الرحمة ي ُز ُّفون إليه بشرى مغفرة هللا له ورضاه عنه .
قبل هللا ندمه وعفا عنه ،وفوق هذا الجُود لم يتركه ليعيش بعد ذلك فقد يعود إلى سابق لقد ِ
عهده من الظلم والطغيان ،فقبض روحه في هذا الوقت لتكون النهاية السعيدة .
َأ هَّللا
نعم – أخي – حدث هذا ،فربك رؤوف رحيم ،يُريد أن يعفو ع َّنا جميعًا ﴿ َو ُ ي ُِري ُد نْ
وب َع َل ْي ُك ْم﴾ [النساء .. ]27 :يُريد أن يُدخل الجميع الجنة ﴿ َوهَّللا ُ َي ْدعُو ِإ َلى ْال َج َّن ِة َو ْال َم ْغف َِر ِة بِِإ ْذ ِن ِه َي ُت َ
﴾ [البقرة . ]221 :
..ال تتعجب أخي مما حدث مع الكفل ،فاهلل عز وجل ينتظر من جميع عباده أي التفاتة
صادقة إليه ل ُيقبل عليهم ويعفو عنهم و ُيدخلهم الجنة .
ولكن ،هل انتهت قصة الكفل عند ذلك ؟
ال ،فقد حدث أمر عجيب ،قد استيقظ الناس في الصباح وخرجوا من بيوتهم كعادتهم
يلتمسون معايشهم وأرزاقهم ،فمرَّ بعضهم بجوار بيت الكفل ،فلفت نظرهم كال ٌم مكتوب بخط
واضح على بابه ،فاقتربوا منه ليقرأوه ،فعقدت الدهشة ألسنتهم ،وفغروا أفواههم ،ووقفوا
مشدوهين ال يكادون يُصدقون ما يرونه ..
لقد وجدوا عبارة تقول « :إن هللا قد غفر للكفل » .
تجمَّع الناس وقرؤوا العبارة وهم غير مُصدقين ..طرقوا الباب فلم يفتح لهم أحد ،ففتحوه
ُنوة ليجدوا الكفل قد مات ،فازداد عجبهم وحيرتهم ،فهرعوا إلى نبيِّهم ليسألوه عن أمر الكفل ، ع َ
فأوحى هللا إليه بما حدث ،فاشتد بكاء الناس ،وازداد ُحبُّهم هلل ،وتعلقهم برحمته ،وسارعوا إلى
التوبة إليه .
كان من الممكن أن تمر هذه الحادثة وال يعلم بها أحد ،فالناس يموتون وال يدري أحد بماذا
ُختِم لهم ،ولكن الرب الودود الذي يُريد أن يُطمئن الجميع ويدفعهم للفرار إليه أنزل هذه اآلية
لينتفع بها الناس ويتفكروا في مغزاها ،وما تدل عليه من سعة رحمة هللا ،ومدى ُحبِّه لعباده ،
وأنه سبحانه ينتظر منهم أي بادرة صادقة للتوبة ،فيُقبل عليهم ويقبلهم ويمحو كل سيء فعلوه .
وب َع َل ْي ُك ْم ﴾ [النساء . ]27 : نعم – أخي – هذا هو ربنا ﴿ َوهَّللا ُ ي ُِري ُد َأنْ َي ُت َ
ألم تر إلى ربك كيف ُيح ُّبك ؟
إننا جميعًا نتمنى محبة هللا عز وجل لنا ،ولو تف َّكرنا وتأملنا في طريقة معاملة هللا لنا لتأكدنا
أنه سبحانه يُريد لنا وللناس جميعًا الخير ،وأن محبته لنا سبقت وجودنا ،وأن مُراده دخول
ار ال َّساَل ِم ﴾ [يونس . ]25 : الجميع جنته ﴿ َوهَّللا ُ َي ْدعُو ِإ َلى دَ ِ
وكلما تف َّكرنا في جوانب حُب هللا لعباده ازددنا ُح ًّبا له ،وحياء منه سبحانه ،وأصبحت ُأمنيتنا
هي :كيف ُنحب هللا كما يُحبنا ،وكيف نتودد إليه كما يتودد إلينا ؟
خلقنا في أحسن تقويم :
أوجدنا سبحانه هللا عز وجل هو الذي خلقنا من العدم ،ولم نكن قبل ذلك شيًئ ا مذكورً ا ،وقد َ
صوَّ َر ُك ْم َفَأحْ َس َن ص َُو َر ُك ْم ﴾ [غافر . ]64 : في أحسن صورة ﴿ َو َ
كرَّ منا على جميع خلقه ،ونفخ فينا من روحه ،وأسجد ألبينا مالئكته ،وهيأ الكون كله
لخدمتنا بال مقابل ،فاألرض ُتخرج لنا الطعام ،والسماء ُتنزل الماء ،والشمس تمدنا بالدفء
والضياء ،والقمر يُعرفنا األيام والشهور ..الدواب تحملنا ،والنحل يمدنا بالعسل ،واألنعام
ُتخرج لنا اللبن ،واألزهار ُتشعرنا بالبهجة ﴿ ه َُو الَّذِي َأ ْن َز َل م َِن ال َّس َما ِء َما ًء َل ُك ْم ِم ْن ُه َش َرابٌ َو ِم ْن ُه
ت ِإنَّ اب َو ِمنْ ُك ِّل َّ
الث َم َرا ِ ون َوال َّنخِي َل َواَأْلعْ َن َ الز ْي ُت َ
الزرْ َع َو َّ ت َل ُك ْم ِب ِه َّ ُون (ُ )10ي ْن ِب ُ َش َج ٌر فِي ِه ُتسِ يم َ
ات س َو ْال َق َم َر َوال ُّنجُو ُم م َُس َّخ َر ٌ ار َوال َّشمْ َ ُون (َ )11و َس َّخ َر َل ُك ُم اللَّ ْي َل َوال َّن َه َ فِي َذل َِك آَل َي ًة لِ َق ْو ٍم َي َت َف َّكر َ
ض م ُْخ َتلِ ًفا َأ ْل َوا ُن ُه ِإنَّ فِي َذل َِك آَل َي ًة ون (َ )12و َما َذ َرَأ َل ُك ْم فِي اَأْلرْ ِ ِبَأمْ ِر ِه ِإنَّ فِي َذل َِك آَل َيا ٍ
ت لِ َق ْو ٍم َيعْ ِقلُ َ
ُون ﴾ [النحل . ]13 - 10 : لِ َق ْو ٍم َي َّذ َّكر َ
إل ٌه ق ُّيوم :
هللا عز وجل يقوم على شؤون عباده جميعًا ،يرعانا بالليل والنهار ..يقبض أرواحنا فننام
ونرتاح ،ثم يُعيدها لنا فنستيقظ ونستأنف حركتنا في الحياة ..هكذا كل يوم ﴿ َو ِمنْ آ َيا ِت ِه َم َنا ُم ُك ْم
ار َوا ْبت َِغاُؤ ُك ْم ِمنْ َفضْ لِ ِه ﴾ [الروم . ]23 : ِباللَّي ِْل َوال َّن َه ِ
يمدنا بمقوِّ مات الحياة مع كل طرفة عين ..يمد أجهزة الجسم المختلفة بالقدرة على القيام
بوظائفها ..يمد اللسان بالقدرة على الكالم ،والعين بالقدرة على الرؤية ،واألنف بالقدرة على
الشم ،واألذن بالقدرة على السمع ،واليد بالقدرة على الحركة والبطش ،والرجل على المشي
وحمل الجسم ،والقلب بالقدرة على ضخ الدم حوالي سبعين مرة في الدقيقة الواحدة ..يمد كل
خلية في الجسم – كل طرفة عين – بأسباب حياتها ﴿ ه َُو الَّذِي ي َُس ِّي ُر ُك ْم فِي ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ر ﴾ [يونس :
. ]22
فنحن جميعًا من هللا َخل ًقا وإيجا ًدا ،وباهلل رعاية وإمدا ًدا ،فال حول وال قوة إال به سبحانه ﴿
َو َما ِب ُك ْم ِمنْ ِنعْ َم ٍة َفم َِن هَّللا ِ ﴾ [النحل . ]53 :
حليم ستير :
ربنا حليم ستير ،يرانا نعصيه مرات ومرات فال يفضحنا ،وال يهتك سترنا ،بل يسترنا
ك َع َلى َظه ِْر َها ِمنْ دَ ا َّب ٍة ﴾ ويحلم علينا ،ويُمهلنا علَّنا نتوب ﴿ َو َل ْو ُيَؤ اخ ُِذ هَّللا ُ ال َّن َ
اس ِب َما َك َسبُوا َما َت َر َ
[فاطر . ]45 :
رب صبور ..يصبر على أذى عباده وكفرهم وجحودهم مع قدرته المطلقة عليهم ..يقول
صلى هللا عليه وسلم « ليس أحد أصبر على أذى سمعه من هللا تعالى ،إنهم لي َّدعون له ول ًدا ،
ويجعلون له أندا ًدا ،وهو مع ذلك يُعافيهم ويرزقهم » (. )183
رب رحيم : ٌ
رحمته وسعت كل شيء ،حتى العاصين له ،المنكرين لوجوده ،يُطعمهم ويسقيهم وال يمنع
رزقه عنهم .
..أنزل في األرض جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه ،واختزن لنا عنده تسعة
وتسعين جزءًا لوقت سنكون فيه أحوج ما نكون إلى تلك الرحمات .
قال صلى هللا عليه وسلم « :إن ربكم رحيم ؛ من ه َّم بحسنة فلم يعملها ُكتبت له حسنة ،فإن
عملها ُكتبت عشرً ا ،إلى سبعمائة ،إلى أضعاف كثيرة ،ومن ه َّم بسيئة ولم يعملها كتبت له
حسنة ،فإن عملها كتبت واحدة ،أو يمحوها هللا ،وال يهلك على هللا إال هالك » (. )184
إل ٌه رؤوف :
ربنا رب رؤوف ،حنان ..أحن علينا من آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأبنائنا ..إذا ابتالنا
بمرض فإنه ال يحرمنا معه األجر ..قال صلى هللا عليه وسلم « :ما أحد من المسلمين يصاب
ببالء في جسده إال أمر هللا الحفظة الذين يحفظونه فقال :اكتبوا لعبدي هذا في كل يوم وليلة ما
كان يعمله في الصحة من الخير ما دام محبوسًا في وثاقي » (. )185
..نعم – أخي – هذا هو ربنا الرؤوف « إن هللا يُنزل المعونة على قدر المؤنة ،ويُنزل
الصبر على قدر البالء » (.)186
) (183متفق عليه :أخرجه البخاري ( ، 5/2262رقم ، )5748ومسلم ( ، 4/2160رقم . )2804
) (184حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، 1/279رقم ، )2519والطبراني ( ، 12/161رقم ، )12760والبيهقي في شعب اإليمان (1/300
،رقم . )334
) (185حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، 2/194رقم ، )6825ورجاله رجال الصحيح ،وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع رقم
(. ) 5761
) ( 186حديث صحيح :أخرجه البزار ،كما فى كشف األستار ( ، 2/195رقم ، )1506وابن الل في مكارم األخالق ،وصححه الشيخ
األلباني رحمه هللا في صحيح الجامع رقم ( . )1919
ال يُريدنا أن ندخل النار ،فيظل يُخوفنا ويُخوفنا منها ،ويُظهرها لنا بصورة بشعة مؤلمة
ظ َل ٌل م َِن ال َّنار َو ِمنْ َتحْ ت ِِه ْم ُ
ظ َل ٌل َذل َِك ي َُخوِّ فُ قاسية ،حتى نعمل على الهرب منها ﴿ َل ُه ْم ِمنْ َف ْوق ِِه ْم ُ
ِ
ون ﴾ [الزمر . ]16 : هَّللا ُ ِب ِه عِ َبادَ هُ َيا عِ َبا ِد َفا َّتقُ ِ
ً
حثيثا ويعرض – سبحانه – لنا الجنة بصورة جميلة مبهرة تفوق الوصف ،حتى نسعى
ْت َنعِيمًا َوم ُْل ًكا َك ِبيرً ا ﴾ [اإلنسان . ]20 : ْت َث َّم َرَأي َ للوصول إليها ﴿ َوِإ َذا َرَأي َ
لعلهم يرجعون :
مُراده – سبحانه – دخول الجميع الجنة ،لكنه ال يقهر أح ًدا على اإليمان به ،وإال انتفت
الحكمة من خلق اإلنسان وتمتعه بحرية االختيار ،ولصار كسائر المخلوقات .
وألنه سبحانه يُريد لعباده دخول جنته ،وهم في غفلة معرضون لذلك فهو يبتليهم بألوان شتى
من االبتالءات حتى يفيقوا من غفلتهم ويعودوا إليه .
فكل ما َي ِرد على اإلنسان من أشكال المنع كالمرض والنقص في الرزق واألمن فإن الحكمة
األساسية منه هو إخراجه من حالة الغفلة إلى اليقظة ،ورجوعه إلى هللا ..تأمل معي هذه اآليات
التي تؤكد هذا المعنى :
ض الَّذِي َع ِملُوا َل َعلَّ ُه ْم اس لِ ُيذِي َق ُه ْم َبعْ َ ت َأ ْيدِي ال َّن ِ ﴿ َظ َه َر ْال َف َسا ُد فِي ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ِر ِب َما َك َس َب ْ
ُون ﴾ [الروم . ]41 : َيرْ ِجع َ
ُون ﴾ [السجدة . ]21 : ب اَأْل ْك َب ِر َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ ب اَأْل ْد َنى ُد َ
ون ْال َع َذا ِ ﴿ َو َل ُنذِي َق َّن ُه ْم م َِن ْال َع َذا ِ
ُون ﴾ [األعراف . ]168 : ت َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ ت َوال َّس ِّيَئ ا ِ ﴿ َو َب َل ْو َنا ُه ْم ِب ْال َح َس َنا ِ
ُون ﴾ [األعراف . ]174 : ت َو َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ ص ُل اآْل َيا ِ ﴿ َو َك َذل َِك ُن َف ِّ
ُون ﴾ [الزخرف : ب َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ ِي َأ ْك َب ُر ِمنْ ُأ ْخ ِت َها َوَأ َخ ْذ َنا ُه ْم ِب ْال َع َذا ِ
يه ْم ِمنْ آ َي ٍة ِإاَّل ه َ ﴿ َو َما ُن ِر ِ
. ]48
بل إن الهموم التي تهجم على العبد صورة من صور التنبيه وتكفير الذنوب ،يقول صلى هللا
عليه وسلم « :إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتاله هللا بالحزن ليكفرها
عنه» (. )187
رب شكور : ٌ
ربنا ربٌ شكور ..يشكر عمل عبده – مع قلته -ويعظم له به األجر ..
..يقول صلى هللا عليه وسلم « :بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق ،
فأخره فشكر هللا له ،فغفر له » (. )188
ويقول « :كان تاجر يداين الناس ،فإذا رأى معسرً ا قال لفتيانه :تجاوزوا عنه ،لعل هللا أن
يتجاوز عنا ،فتجاوز هللا عنه » (. )189
رب غفور : ٌ
أتدري – أخي – ما هي دعوة هللا التي يدعو عباده إليها ؟
إنها المغفرة ..يدعوهم لكي يستغفروه فيغفر لهم ،ويستسمحوه فيُسامحهم مهما كانت
أخطاؤهم ..
وهو مع غناه المطلق عنهم ينتظرهم ليُلبُّوا دعوته ﴿ َي ْدعُو ُك ْم لِ َي ْغف َِر َل ُك ْم ِمنْ ُذ ُن ِ
وب ُك ْم ﴾ [إبراهيم
. ]10 :
﴿ َوهَّللا ُ َي ْدعُو ِإ َلى ْال َج َّن ِة َو ْال َم ْغف َِر ِة بِِإ ْذ ِن ِه ﴾ [البقرة . ]221 :
) (187أخرجه أحمد ( ، 6/157رقم ، )25275وإسناده ضعيف لضعف ليث -وهو ابن أبي سليم -وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين .
) (188متفق عليه :أخرجه البخاري ( 1/233رقم ، ) 624ومسلم ( 6/51رقم . ) 5049
) (189أخرجه البخاري ( 2/731رقم . ) 1972
﴿ َوهَّللا ُ َي ِع ُد ُك ْم َم ْغف َِر ًة ِم ْن ُه َو َفضْ اًل ﴾ [البقرة . ]268 :
ي غفلة نحن فيها ؟! ..أ ُ
ربنا العظيم ،مالك الملك ،الغني الحميد ،الذي ال تنفعه طاعة الطائعين ،وال تضرُّ ه معصية
العاصين ،يستحثنا لتلبية دعوته ..للعفو والصفح والمغفرة .
َأ َأ ِي الَّذ َ
ِين سْ َرفُوا َع َلى ْنفُسِ ِه ْم اَل ينادي على العاصين الذين بارزوه بالمعاصي ﴿ ق ْل َيا عِ َباد َ
وب َجمِيعًا ِإ َّن ُه ه َُو ْال َغفُو ُر الرَّ حِي ُم ﴾ [الزمر . ]53 :
الذ ُن َ طوا ِمنْ َرحْ َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ َي ْغ ِف ُر َُّت ْق َن ُ
ال يتعاظم لديه ذنب أن يغفره ،بل يغفر وال يُبالي ..
عن أنس بن مالك قال :سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول « :والذي نفسي بيده ،
لو أخطأتم حتى تمأل خطاياكم ما بين السماء واألرض ،ثم استغفرتم هللا لغفر لكم » (. )190
ومن هذا الذي تمأل خطاياه ما بين السماء واألرض ؟!
لكنه خطاب تطمين وتحفيز للمسارعة إلى نيل المغفرة وانتهاز الفرصة قبل فوات األوان ﴿
ات َواَأْلرْ ضُ ﴾ [آل عمران . ]133 : ض َها ال َّس َم َاو ُ ارعُوا ِإ َلى َم ْغف َِر ٍة ِمنْ َر ِّب ُك ْم َو َج َّن ٍة َعرْ ُ َو َس ِ
ض ﴾ [الحديد . ]21 : َأْل
ض ال َّس َما ِء َوا رْ ِ ض َها َك َعرْ ِ ﴿ َس ِابقُوا ِإ َلى َم ْغف َِر ٍة ِمنْ َر ِّب ُك ْم َو َج َّن ٍة َعرْ ُ
) ( 190حديث صحيح :أخرجه أحمد ( ، 3/238رقم ، )13518وأبو يعلى ( ، 7/226رقم ، )4226وصححه الشيخ األلباني رحمه هللا في
السلسلة الصحيحة برقم ( . ) 1951
أكلؤهم ( )191في مضاجعهم ،وأحرسهم على فُرُشهم ،من أق َبل َتل َّقيته من بعيد ،ومن ترك ألجلي
أعطيته فوق المزيد ،ومن تصرَّ ف بحولي وقوتي أ َل ْنت له الحديد ،ومن أراد مُرادي أردت ما
يُريد .أهل ذكري أهل مجالستي ،وأهل شكري أهل زيادتي ،وأهل طاعتي أهل كرامتي ،وأهل
معصيتي ال ُأقنطهم من رحمتي ،فإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ،أبتليهم
بالمصائب ُألطهرهم من المعاصي » (. )192
فماذا تقول بعد ذلك ؟
أال توافقني – أخي – أن باب التشويق والترغيب في هللا باب عظيم يُلهب مشاعر من يدخل
منه ،ويوقظ اإليمان في قلبه ،ويدفعه إلى المسارعة إلى هللا وطلب مغفرته ومحبته ،مع أن ما
ُذكر ال يُساوي قطرة في بحر وُ ُّده .
فإن كان األمر كذلك ؛ فعلينا أن ُنحسن الدخول من هذا الباب ،وبخاصة ونحن في بداية
رحلتنا اإليمانية وسيرنا نحو هللا عز وجل ،وهذا يحتاج منا إلى تف ُّكر في مظاهر أسمائه وصفاته
التي لها عالقة بهذا األمر ،كالوهاب ،والرزاق ،والمُنعم ،والودود ،والرحيم ،والحليم ،
والصبور ،والغفور ،واللطيف ..
هذا التف ُّكر يشمل القرآن والكون ،أما القرآن فالمتفكر فيه يرى مظاهر حب هللا لعباده تقطر
من آياته ،فخطاب الترغيب في هللا والتشويق إليه هو الغالب عليه ،ويكفيك في هذا أن س َُورة تبدأ
بـ « :بسم هللا الرحمن الرحيم » ..وال تبدأ بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه ،وكأن هذه البداية
تحمل رسالة تطمين للجميع ،وتقول له :أقبل وال تخف ،فربك « رحمن رحيم » .
من هنا نقول بأن القرآن هو أعظم وسيلة للتعرف على هللا وتنمية حبِّه والشوق إليه في القلب
،فعلينا لزوم هذا الكتاب والمدوامة على قراءته والبحث من خالله على هذه المعاني .
وأما الكون فالمتفكر فيه يرى الكثير والكثير من آثار حب هللا لعباده كمظاهر حلمه وستره
وطول إمهاله لهم ،وتوالي ن َِعمه عليهم .
ومع التفكر في القرآن والكون تأتي أهمية القيام بأعمال صالحة لها عالقة وثيقة بتثبيت عُرى
المحبة هلل في القلب كإحصاء النعم ،ومُناجاة هللا بها ،وسجود الشكر عند ورود النعم الكبيرة ،
والقيام برحالت االعتبار ورؤية أهل البالء ،والقيام كذلك بتحبيب الناس في هللا عز وجل.
شوقة ل ُحب هللا ،واألعمال التي ُتث ِّبتها في القلوب ت َّم الحديث
هذه المعاني ال ُم ِّ
عنها بشيء من التفصيل في كتاب « كيف ُنحب هللا ونشتاق إليه ؟ » (، )193
فلك أن تقرأه – إن شئت – لعلك تجد فيه ما يستثير مشاعرك ،و ُينمي حب
هللا في قلبك ،ويقدح شرارة االنطالق نحوه سبحانه ،على أن تقرأه من
بدايته لنهايته ،وتقوم بتطبيق ما دل عليه من أعمال حتى تتم الفائدة بإذن هللا
.
والحمد هلل الذي هدانا لهذا وما ُك َّنا لنهتدي لوال أن هدانا هللا .
وصل ِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .