You are on page 1of 5

‫وباء كورونا المستجد وسؤال النموذج التنموي الجديد‬

‫كريم الصنهاجي‪ ،‬باحث في القانون العام والعلوم السياسية‬

‫موقع‪ :‬أنفاس بريس‬

‫قد يبدو سؤال علاقة الوباء المستجد بالنموذج التنموي الجديد غريبا شيئا‬
‫ما أو سابق لأوانه‪ ،‬لأن الدولة ما زالت غارقة في هذه الأزمة الصحية ذات‬
‫الامتداد الدولي‪ ،‬لكن السؤال له مشروعيته إذا ما تمهلنا في التأمل‪ ،‬لأن‬
‫السؤال جاء في مرحلة يتقاطع فيها مسارين مهمين (مسار بناء النموذج‬
‫التنموي الجديد ومسار أزمة كورونا المستجد)‪ ،‬إنها مرحلة كانت تعج‬
‫بأسئلة بناء النموذج التنموي الجديد بعد أن أطفأت هولها الأزمة‬
‫"الكرونية" التي لا محالة لها تأثيرها في هذه الأسئلة بل ولها أجوبة‬
‫مفصلية للإشكاليات الأساسية للتنمية في بلادنا‪.‬‬

‫قبل ش هور‪ ،‬أعلن صاحب الجلالة الملك محمد السادس على أن النموذج‬
‫الحالي للتنمية لم يعد قادرا على الاستجابة للطلبات المتزايدة والملحة‬
‫للمواطنين والمواطنات‪ ،‬ولا شك أن هذه الأزمة جاءت لتضع يدها على‬
‫مكامن الخلل من جديد رغم أنها ستزيد الطينة بلة‪ ،‬لكنها ستلقي دروسا‬
‫مستفيضة في مجال بناء التنمية‪ ،‬وستخضع نموذجنا التنموي لتمرين‬
‫جديد بعد ذاك الذي أملاه التاريخ من قبل‪ .‬حيث ما هي إلا أيام من اجتياح‬
‫هذا الوباء للعالم‪ ،‬وقبل أن تظهر معالمه في الصين‪ ،‬كانت بلادنا مع‬
‫موعد لتشكيل اللجنة المكلفة ببلورة النموذج التنموي الجديد‪ ،‬هدفها‬
‫صياغة المعالم الكبرى للنموذج التنموي المرتقب الذي يشكل قطاع‬
‫التعليم والصحة نواته الأساسية‪ ،‬لكن سرعان ما خفت بريق الأسئلة حول‬
‫النموذج التنموي بعد أن تم تسجيل الحالات الأولى من هذا الوباء في‬
‫بلادنا‪ ،‬حيث انهمك الرأي العام والسلطات العمومية والمجتمع المدني‬
‫في الا هتمام بالآليات والطرق الكفيلة بالتصدي وتدبير هذه الأزمة‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬تشكل هذه الأزمة الصحية ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي‬


‫والسياسي فرصة للتـأمل من طرف جل الفاعلين لإعادة ترتيب الأولويات‬
‫في مجال بناء صرح التنمية‪ ،‬فكيف ستؤثر هذه الأزمة في بلورة النموذج‬
‫التنموي الجديد؟‬

‫‪ 1‬ـ السياق العام لوباء كورونا المستجد وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية‬

‫ظهر هذا الوباء أول ما ظهر في الصين الشعبية‪ ،‬وانقسمت الادعاءات‬


‫حوله‪ ،‬حيث هناك من اعتبره صنع أمريكي تمت صناعته لمواجهة الزحف‬
‫الاقتصادي الصيني‪ ،‬وتعزز هذا الاتجاه بعد أن اجتاح نفس الوباء‬
‫الجمهورية الإيرانية المحاصرة اقتصاديا من طرف الولايات المتحدة‬
‫الأمريكية منذ سنين‪ ،‬إلا أن هذه الدعاية ا تراجعت إلى حد الأفول بعد أن‬
‫امتد هذا الوباء إلى القارة الأوروبية الحليف الاستراتيجي التقليدي‬
‫للولايات المتحدة الأمريكية‪.‬‬

‫وقبل انتقال هذا الوباء لأوروبا بشدة وانخفاض حدته في الصين‪ ،‬ظهر‬
‫اتجاه آخر يدعي أن "فيروس كورونا" مجرد "خدعة صينية" استعملتها‬
‫الصين كمحاولة للتخلص من المستثمرين الأوروبيين والأمريكيين عن‬
‫طريق إرغامهم ببيع أسهمهم في البورصة الصينية للحكومة بأثمنة‬
‫زهيدة‪.‬‬

‫وبعد أن تأكد أن هذا الوباء امتد ليشمل العديد من الدول وأصبح يأتي‬
‫على الأخضر واليابس في القارة العجوز‪ ،‬التي تسجل الوفيات بالآلاف‬
‫يوما بعد يوم اضمحلت هذه الدعاية لتترك المجال لبروز اتجاهين دوليين‬
‫في مواجهة هذا الوباء وما ينتج عنه من تابعات اقتصادية واجتماعية‪.‬‬

‫فالاتجاه الأول الذي تتزعمه الصين‪ ،‬التي تتبنى سياسة يمكن أن تتصف‬
‫"بالأخلاقية" في مواجهتها لهذا الوباء وذلك عن طريق مغامرتها‬
‫باقتصادها مقابل سلامة رعياها من المواطنين في مختلف الأعمار‬
‫والحالات الصحية‪.‬‬

‫مقابل ذلك‪ ،‬تصاعد تيار أوروبي يدعو إلى نهج سياسة "مناعة القطيع"‬
‫بعد أن ظهر أن النسبة الأكبر من الوفيات جراء هذا الوباء هم الأشخاص‬
‫المسنون والمصابون بأمراض مزمنة‪ ،‬وبالتالي (حسب هذا الاتجاه) فإنها‬
‫مناسبة للتخلص من طبقة ظلت تستنزف ميزانية الدولة المخصصة‬
‫لهذه الفئة من تقاعد وتغطية صحية ورعاية اجتماعية‪ ،..‬وهو تيار يضرب‬
‫بعمق النموذج الأخلاقي الغربي الذي تأثر إلى النخاع بالرأسمالية التي‬
‫تكشر عن وحشيتها في أحلك اللحظات‪.‬‬

‫أما بالنسبة للمغرب فقد حذا حذو الصين‪ ،‬وحاول أن يستفيد من أخطاء‬
‫الدول المتضررة بشكل كبير من هذا الوباء من قبله‪ ،‬وصارع منذ تسجيل‬
‫الحالات الأولى من هذا الوباء إلى إغلاق الحدود البحرية والجوية‪ ،‬واتخذ‬
‫مجموعة من الإجراءات الوقائية والاحترازية وأعلن حالة الطوارئ الصحية‬
‫دون أن يضع صحة وسلامة المواطنين والقطاع الاقتصادي في نفس‬
‫الكفة على نحو ما تفعل بعض الدول الغربية كالولايات المتحدة‬
‫الأمريكية التي تباطأت في إعلان حالة الطوارئ الصحية لتشهد أزمة‬
‫صحية غير مسبوقة تفوق جميع الدول‪.‬‬

‫‪2‬ـ النموذج التنموي المغربي في موعد مع تمرين تاريخي‬

‫يشكل هذا الوباء العضال مناسبة لاختبار المنظومة الاقتصادية‬


‫والاجتماعية والسياسية للدول‪ .‬فقد لاحظنا جميعا الكارثة الإنسانية التي‬
‫عرفتها إيطاليا جراء هذا الوباء‪ ،‬حيث أمام ضعف السياسة الاستباقية في‬
‫مواجهة هذه الآفة‪ ،‬انهارت المنظومة الصحية الايطالية بعد الأسابيع‬
‫الأولى من تعرضها لهذا الوباء بسبب الكثافة العددية للمصابين‪.‬‬

‫وإذا كانت المنظومة الصحية الإيطالية التي تعتبر من أحسن الدول في‬
‫العالم من حيث جودة خدماتها الصحية وقيمة مستشفياتها المتميزة‬
‫بتقنياتها الحديثة وكذا تاريخها العريق في مجال الطب‪ ،‬فما بالك لو‬
‫تعرضت منظومتنا الصحية المتداعية والمنهمكة أصلا والتي أصبحت‬
‫تعتمد على القطاع الخاص في سد حاجياتها لمثل هذه الأزمة وبنفس‬
‫الشدة‪ ،‬لكانت العواقب وخيمة لقدر هللا‪.‬‬

‫وقد كان نظامنا الصحي سيمر من لحظة عسيرة أكبر من التي نشاهدها‬
‫اليوم‪ ،‬لولا السياسة الاستباقية الحكيمة التي نهجتها الدولة تحت‬
‫التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس‪.‬‬
‫أما المنظومة التعليمية ليست بعيدة عن هذا التمرين‪ ،‬ويظهر ذلك من‬
‫خلال تأثيرها المحدود في نشر الوعي وثقافة المسؤولية والمواطنة‬
‫المتشبعتان بروح الوطنية‪ ،‬فأيام قليلة بعد إعلان حالة الطوارئ‬
‫تمرد بعض الشباب وخرجوا إلى الشوارع متجاهلين العواقب الوخيمة‬
‫لتلك التجمعات‪ ،‬مما ينم على ضعف الدور الوظيفي للمدرسة المغربية‬
‫ويحتم إعادة النظر في منظومتنا التعليمية عبر الاهتمام أكثر بالعنصر‬
‫البشري ووضع مناهجنا التعليمية والبيداغوجية تحت مجهر التقييم‬
‫والتقويم‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فحسنا فعلت وزارة التعليم عندما لجأت إلى إجراءات‬
‫"الدراسة عن بعد" في إطار الإجراءات الاحترازية لمواجهة هذا الوباء‪ ،‬إلا‬
‫أن هذه الإجراءات سوف لن تؤت أكلها بالشكل المطلوب وقد تؤدي إلى‬
‫سنة دراسية غير محمودة العواقب إذا لم تتخذ وزارة التعليم إجراءات‬
‫أخرى عند نهاية هذه الأزمة‪ ،‬ذلك أن المجتمع المغربي مازال بمنأى عن‬
‫"مجتمعات المعرفة" سواء من حيث الإمكانيات التكنولوجية والتقنية‬
‫الكفيلة بإنجاح هذه التجربة أو من حيث الثقافة الشفوية التلقينية‬
‫السائدة في المجتمع‪.‬‬

‫أما النهج الاقتصادي المبني على التوجه الليبرالي والمتشبع بالعولمة‪،‬‬


‫فقد أظهر محدوديته ليس فقط في المغرب بل في مجموع الدول التي‬
‫تتبنى الفكر الليبرالي في تدبير اقتصادها‪ ،‬حيث أن معظم الشركات في‬
‫هذه الدول تواجه وضعية صعبة اضطرت من خلالها هذه الدول إلى خلق‬
‫صناديق لدعمها كما هو الحال بالنسبة للحكومة المغربية التي أنشأت‬
‫صندوق لدعم الشركات في وضعية صعبة جراء وباء كورونا‪ ،‬كما أظهرت‬
‫هذه الأزمة أن الاتجاه نحو خوصصة بعض القطاعات الاجتماعية كالتعليم‬
‫والصحة ودعم القطاع الخاص على حساب القطاع العام أمر مردود عليه‪،‬‬
‫وبالتالي وجب على الدولة إعادة توجيه استثماراتها بشكل مكثف نحو‬
‫القطاع العمومي خصوصا في قطاعات التعليم والصحة والأمن و إعادة‬
‫النظر في الفكر الليبرالي الذي تعتمده‪.‬‬
‫‪3‬ـ النموذج التنموي الجديد والدروس المستخلصة من أزمة كورونا‬
‫المستجد‬

‫تشكل هذه الأزمة الصحية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية مناسبة‬


‫للتأمل بالنسبة للجنة الوطنية للنموذج التنموي لاستخلاص الدروس‬
‫والعبر‪ ،‬فهي تعكس بوضوح القطاعات الأساسية التي تشكل قوة‬
‫ومناعة الدولة والمجتمع والتي تفرض على الدولة التركيز عليها في‬
‫طريقها نحو بناء مغرب المستقبل‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬هذا لا يدل على أن الدولة معنية بإهمال القطاعات الأخرى‪ ،‬بل الأمر‬
‫يتعلق بإعادة ترتيب الأولويات‪ ،‬وبدون مفاضلة فإن القطاعات التي توجد‬
‫في الخط الأمامي والتي أظهرت هذه الأزمة على أنها تشكل قوة الدولة‬
‫في مواجهة التقلبات هي الصحة والأمن التي تشكل امتدادا صريحا‬
‫ومرآة عاكسة لجودة المنظومة التعليمية التي تعتبر الحجر الأساس في‬
‫تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة‪.‬‬

‫بالإضافة إلى ذلك‪ ،‬تشكل هذه الأزمة مناسبة لإعادة النظر في النموذج‬
‫الاقتصادي المبني على الفكر الليبرالي والتبعية للخارج‪ ،‬وذلك بما يسمح‬
‫لهذا القطاع بتشكيل مناعة ذاتية يواجه بها مثل هذه التقلبات والتراجع‬
‫عن سياسة الانفتاح الكلي على الخارج‪ ،‬وكذا تقوية القطاع‬
‫الاقتصادي لكي يلعب دوره كاملا في دعم القطاع الاجتماعي خصوصا‬
‫في مثل هذه الأزمات‪.‬‬

‫وبالتالي‪ ،‬فاللجنة الوطنية للنموذج التنموي الجديد‪ ،‬معنية أكثر بالتأصيل‬


‫للاختيارات التي فرضتها هذه الأزمة التاريخية وصياغتها وترتيبها حسب‬
‫الأولوية‪.‬‬

You might also like