You are on page 1of 26

‫املعرف الرقمي ‪DOI‬‬ ‫‪74‬‬

‫‪https://doi.org/10.59151/.v7i4.334‬‬

‫‪OPEN ACCESS‬‬
‫تاريخ االستالم‪3-8-2023 :‬‬
‫تاريخ القبول‪3-9-2023 :‬‬

‫(((‬
‫المنعطف التأويلي في نظرية العقل الموضوعي عند كارل بوبر‬
‫)‪(2‬‬
‫عبد الهادي بوالباروض‬

‫‪boulbaroudttt@gmail.com‬‬
‫الملخص‪:‬‬

‫يســعى هــذا البحــث إلــى معالجــة إشــكالية البعــد اإلبســتمولوجي فــي التأويــل مــن خــال نظريــة العقــل املوضوعــي‬
‫عنــد كارل بوبــر‪ ،‬ومــن بواعــث إثــارة هــذا املوضــوع الوقــوف علــى الســيرورة التأويليــة فــي منظومــة العقــل املوضوعــي‬
‫والــدور الوظيفــي للغــة املنضويــة تحتــه‪ ،‬وذلــك عبــر الوقــوف فــي البدايــة علــى الســياق التاريخــي للفعــل التأويلــي‪،‬‬
‫وحضــوره فــي العقــل املوضوعــي بنـ ًـاء علــى مقاربــة بوبــر‪ ،‬وانتقــل البحــث إلــى الحديــث عــن العوالــم الثالثــة باعتبارهــا‬
‫الركائــز املؤطــرة لســيرورة املعرفــة اإلنســانية بمختلــف أنماطهــا‪ ،‬ثــم ناقــش العالقــة التفاعليــة بيــن العوالــم الثالثــة‬
‫وأثرهــا فــي البنــاء املوضوعــي للفهــم‪ ،‬هــذا األخيــر ســيتحول بــدوره إلــى قضيــة إبســتمولوجية كمــا ناقشــتها بعــض الــرؤى‬
‫فــي ثنايــا البحــث قصــد تعزيــز املمارســة النقديــة فــي التأويــل‪ ،‬فــي حيــن تحيلنــا الفكــرة األخيــرة إلــى إب ـراز الخاصيــة‬
‫التطوريــة املميــزة للفهــم والعقــل املوضوعييــن‪ .‬وأهــم مــا يســتنتج مــن البحــث أن دعــوى بوبــر حــول اآلليــات والقيــم‬
‫اإلبســتمولوجية فــي التأويــل‪ ،‬تحــث علــى إثــارة مزايــا التأويــل ودوره الفعــال فــي تعزيــز فهمنــا التاريخــي والحضــاري‪،‬‬
‫األمــر الــذي دفــع إلــى التأكيــد علــى األهميــة اإلبســتمولوجية لتحصيــن الســيرورة التأويليــة‪.‬‬

‫الكلمات المفتاحية‪:‬‬

‫العقل املوضوعي‪ ،‬الهيرمينوطيقا‪ ،‬الفهم‪ ،‬كارل بوبر‪ ،‬املعرفة املوضوعية‪.‬‬

‫(‪)Sir Karl Raimund Popper) (1994-1902( )1‬فيلسوف وأكاديمي نمساوي ‪-‬بريطاني‪.‬‬


‫(‪ )2‬طالب دكتوراه في تخصص فلسفة العلوم وتاريخها‪ .‬جامعة ابن طفيل‪ ،‬كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية ‪ -‬القنيطرة (املغرب)‪.‬‬
‫لالقتبــاس‪ :‬بوالبــاروض‪ ،‬عبــد الهــادي‪ ،‬املنعطــف التأويلــي فــي نظريــة العقــل املوضوعــي عنــد كارل بوبــر‪ ،‬مجلــة نمــاء‪ ،‬مركــز نمــاء‪،‬‬
‫مصــر‪ ،‬مــج‪ ،7‬ع‪99 - 74 ،2023 ،4‬‬
‫ً‬
‫© نشــر هــذا البحــث بموجــب ترخيــص (‪ )CC BY-NC4.0‬املفتــوح‪ ،‬الــذي يســمح ألي شــخص تنزيــل البحــث وقراءتــه والتصــرف بــه مجانــا‪ ،‬مــع‬
‫ُ‬
‫ضــرورة نســبته إلــى صاحبــه بطريقــة مناســبة‪ ،‬مــع بيــان إذا مــا قــد أجــري عليــه أي تعديــات‪ ،‬وال يمكــن اســتخدام هــذا البحــث ألغـراض تجاريــة‪.‬‬
75 Volume 7- Issue 4 / 4 ‫ العدد‬- 7 ‫املجلد‬
December 2023 ‫ديسمرب‬

OPEN ACCESS
Received: 2023-8-3
Accepted: 2023-9-3

The Hermeneutical Turn in the Theory of the Objective Mind of Karl Popper(3)
Abdelhadi Boulbaroud(4)

boulbaroudttt@gmail.com

Abstract:
This research seeks to address the problem of the epistemological dimension of inter-
pretation through Karl Popper’s theory of objective reason. One of the motives for raising this topic
is to examine the interpretive process in the objective reason system and the functional role of the
language that is included under it, by initially examining the historical context of the interpretive
act and its presence. In the objective mind, based on Popper’s approach, the research moved on to
talking about the three worlds as they are the pillars framing the process of human knowledge in its
various types, and then discussed the interactive relationship between the three worlds and their im-
pact on the objective structure of understanding. The latter, in turn, will turn into an epistemological
issue, as discussed in some insights. The research aims to enhance critical practice in interpretation,
while the last idea refers us to highlighting the distinctive evolutionary characteristic of objective
understanding and reason. The most important conclusion from the research is that Popper’s claim
about epistemological mechanisms and values in interpretation calls for raising the advantages of
interpretation and its effective role in enhancing our historical and cultural understanding, which
prompted an emphasis on the epistemological importance of fortifying the interpretive process.
Keywords:
Objective Mind, Hermeneutics, Understanding, Karl Popper, Objective Knowledge

(3)
, Sir Karl Raimund Popper (1902-1994)) An Austrian-British philosopher and academic
(4) PHD student in philosophy and history of science. Ibn Tofail University, Faculty of Humanities and Social Scienc-
es - Kenitra (Morocco).
ite this article as: Boulbaroud, Abdelhadi, The Hermeneutical Turn in the Theory of the Objective Mind of Karl Popper, Journal
of Namaa, Nama Center, Egypt, V 7, issue 4, 2023, 74 - 99
©. This research is published under an open license (CC BY-NC 4.0), which allows anyone to download, read and
use the research for free, provided it is properly acknowledged, indicating if any modification has been made to it.
This research shall not be used for commercial purposes.
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪76‬‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫يشــكل املنعطــف التأويلــي إحــدى الحلقــات األساســية فــي نظــام املعرفــة املوضوعيــة عنــد كارل بوبــر‪،‬‬
‫وذلــك فــي محاولــة منــه لتجــاوز منطــق املعرفــة القائمــة علــى االعتقــادات الذاتيــة‪ ،‬حيــث طاملــا ســعى مــن‬
‫جهــة إلــى تشــييد طريــق نحــو نظريــة عامــة حــول الدافــع اإلنســاني يتخطــى اختـزال الســلوك البشــري‪ ،‬إمــا إلــى‬
‫دوافــع نفســية وبيولوجيــة صرفــة‪ ،‬وإمــا إلــى عوامــل اجتماعيــة وبيئيــة خالصــة‪ .‬وســعى مــن جهــة أخــرى إلــى‬
‫طــرح مشــكلة الفهــم فــي أبعادهــا اإلبســتمولوجية((( بوصفهــا قضيــة فلســفية‪-‬تأويلية تنتمــي إلــى نظريــة العقــل‬
‫املوضوعــي‪.‬‬
‫إذا نظرنــا إلــى مشــروع كارل بوبــر اإلبســتمولوجي فــي كليتــه نــرى أنــه يتميــز باملوســوعية؛ حيــث تجــاوز‬
‫اهتمامــه حــدود فلســفة العلــوم واملنهــج إلــى مجــاالت أخــرى كاللغــة والسياســة واملجتمــع والتاريــخ وغيرهــا مــن‬
‫املوضوعــات‪ .‬لكــن أكثــر مــا اشــتهر بــه فيلســوف العلــم النمســاوي هــو اهتمامــه باملنهجيــن العلمــي والنقــدي‪،‬‬
‫واعتراضــه علــى النزعــات الدوغمائيــة والوضعانيــة املنغلقــة علــى أنســاق ضيقــة‪ ،‬والتــي يضمنهــا فــي نطــاق‬
‫مــا يســميه بأســطورة اإلطــار‪ .‬ففــي الوقــت الــذي حصــرت معظــم الدراســات والبحــوث املنجــزة حــول بوبــر‬
‫مشــروعه فــي نطــاق الســجال مــع الوضعيــة املنطقيــة واملنهجيــن العلمــي واالســتقرائي‪ ،‬وكمــا يبــدو ذلــك‬
‫ً‬
‫واضحــا فــي كتاباتــه «الرئيســة» التــي اشــتهر بهــا بوبــر مــن قبيــل «منطــق البحــث العلمــي»‪ ،‬و«التخمينــات‬
‫والتفنيــدات»‪ ،‬تولــدت عندنــا فكــرة الكشــف عــن أحــد الجوانــب املهمشــة فــي مشــروعه اإلبســتمولوجي‬
‫عامــة‪ ،‬والهيمينوطيقــي علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬ســاعيين إلــى نفــض الغبــار عنهــا‪ ،‬ويتعلــق األمــر باملســألة‬
‫التأويليــة ومشــكلة الفهــم وأبعادهــا اإلبســمولوجية‪ .‬يجــري اليــوم وكمــا هــو معلــوم‪ ،‬أن قضيــة التأويــل حــازت‬
‫مكانــة مهمــة فــي مختلــف مجــاالت الفكــر اإلنســاني الراهــن‪ .‬مــن هــذا املنطلــق نهــدف إلــى البحــث فــي النظريــة‬
‫التأويليــة وامتداداتهــا اإلبتســتمولوجية‪ .‬لذلــك‪ ،‬إن ســعينا فــي هــذه الســطور مدفــوع برغبــة نحــو مقاربــة‬
‫املســتوى الهيرمينوطيقــي ‪ Hermeneutic‬فــي نظريــة العقــل املوضوعــي عنــد كارل بوبــر‪ ،‬كمــا يطرحهــا ضمــن‬
‫القضايــا األساســية فــي مؤلفــه املوســوم بـ«املعرفــة املوضوعيــة»((( ‪ ،Objective Connaissance La‬ونصبــوا‬
‫(‪ )5‬اإلبســتمولوجيا ‪ Épistémologie‬هــي الدراســة النقديــة ملختلــف مبــادئ وفــروض ومناهــج ونتائــج العلــوم‪ ،‬وهــي أحــد الفــروع الرئيســة‬
‫فــي الفلســفة يتوجــه اهتمامهــا نحــو البحــث ً‬
‫أيضــا فــي أصــول املعرفــة العلميــة وتكوينهــا وقيمتهــا املوضوعيــة‪.‬‬
‫(‪ )6‬هــذا املؤلــف فــي الواقــع هــو مقــاالت ومباحــث مختلفــة تتــوزع علــى قضايــا املنهــج واللغــة والفهم‪-‬التأويــل التاريخــي واملعرفــة العلميــة‬
‫ً‬
‫مــن حيــث كونهــا أنشــطة إنســانية تطوريــة‪ .‬ففــي اللغــة عــرض بوبــر تفصيــا ملســتويات اللغــة ووظائفهــا‪ .‬ومــن حيــث الهيرمينوطيقــا قــدم‬
‫ً‬
‫فهمــا للســلوك البشــري واألحــداث فــي العلــوم االجتماعيــة والتاريــخ والعلــوم اإلنســانية‪ .‬بينمــا فيمــا يخــص املنهــج‪ ،‬وإلــى جانــب املشــكلة‬
‫االســتقرائية‪ ،‬وقــف لوصــف مخطــط النشــاط التأويلــي الــذي بإمكانــه ردم الصــدع املفتعــل بيــن العلــوم اإلنســانية والعلــوم الطبيعيــة‪،‬‬
‫وغيرهــا مــن املوضوعــات املعرفيــة التــي شــغلت اهتمــام كارل بوبــر‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫إلــى بســط ومناقشــة هــذه القضيــة (املنعطــف التأويلــي فــي نظريــة العقــل املوضوعــي عنــد بوبــر) ً‬
‫وفقــا ملنهــج‬
‫تحليلــي ونقــدي‪ .‬لعــل ذلــك يجعــل مــن موضــوع هــذا البحــث قضيــة ذات قيمــة موضوعيــة وواقعيــة‪ .‬وال ســيما‬
‫أن هــذه القضيــة اليــوم‪ ،‬وملــا لهــا مــن امتــداد –وال ســيما املوضوعــات املرتبطــة بشــكل مباشــر باإلنســان‪ -‬فــي‬
‫مختلــف املجــاالت‪ ،‬تضــع املهتميــن بهــا مــن مفكريــن والهوتييــن وغيرهــم أمــام صعوبــة وضــع معالــم واضحــة‬
‫للتأويــل وأمــام تحــدي تقعيــد مبــادئ محكمــة يمكــن مــن خاللهــا ممارســة الهرمينوطيقــا بضوابــط معينــة‬
‫وبآليــات مــن شــأنها أن تســهم فــي فهــم القضايــا الوجوديــة واملعرفيــة والقيميــة‪ ،‬وذلــك فــي ظــل الصـراع املعرفــي‬
‫واأليديولوجــي وأشــكال التلقــي لألفــكار والوقائــع‪ ،‬وفــي ســياق تحديــات التعايــش اإلنســاني‪ .‬بينمــا املفارقــة‬
‫األساســية التــي تفتــرض املعالجــة اإلبســتولوجية‪ ،‬تنصــب علــى مــدى إمكانيــة تحقــق املوضوعيــة فــي التأويــل‪،‬‬
‫ومــدى فعاليتهــا لتغــدو حـ ًّـا ً‬
‫ممكنــا لتجــاوز املنطــق العلمــوي الصــارم والكشــف عــن عوائــق نجاحهــا فــي هــذا‬
‫ًّ‬
‫منهجيــا أمــام الهرمينوطيقــا‪ ،‬خاصــة فــي خضــم وجــود أهــداف‬ ‫املســعى املوضوعــي‪ ،‬وهــو مــا يطــرح ً‬
‫تحديــا‬
‫مــن طــرف آخــر التخاذهــا ً‬
‫منهجــا فــي حــد ذاتهــا‪ .‬إن التحــدي املطــروح أمــام الهرمينوطيقــا فــي الوقــت الراهــن‪،‬‬
‫يضعها في منطقة غامضة وغير واضحة املعالم‪ .‬إن األمر نفسه ينطبق على مفهوم كارل بوبر حول العقل‬
‫املوضوعــي‪ ،‬نظـ ًـرا ملــا يعترضــه مــن صعوبــة رســم الحــدود اإلبســتمولوجية وإرهاصاتــه الهرمينوطيقيــة‪ .‬أمــام‬
‫هــذا املعطــى املركــب وعلــى ضــوء مــا ســبق تحضــر العديــد مــن التســاؤالت مــن قبيــل‪ :‬مــا الهرمينوطيقــا؟ مــا‬
‫تجلياتهــا فــي مفهــوم العقــل املوضوعــي البوبــري؟ بــأي معنــى يســتقيم الحديــث عــن األبعــاد اإلبســتمولوجية فــي‬
‫ًّ‬
‫موضوعيــا؟ ومــا رهانــات التأويــل ضمــن‬ ‫املمارســة التأويليــة لــدى كارل بوبــر؟ وإلــى حــد يمكــن أن يغــدو الفهــم‬
‫املمارســة النقديــة فــي العقــل املوضوعــي لــدى كارل بوبــر؟‬

‫أولًا‪ :‬الفعل الهيرمينوطيقي في العقل الموضوعي‬

‫إن الحديــث عــن الهيمينوطيقــا‪ ،‬ســيدفعنا مــن الناحيــة املنهجيــة إلــى إلقــاء نظــرة خاطفــة حــول ســياقها‬
‫الداللــي واالشــتقاقي‪ .‬جــاء مفهــوم هيرمينوطيقــا مــن كلمــة (هرمــس) وهــو لفــظ يرجــع تاريخيــا إلــى اإلغريــق‬
‫ً‬
‫قديمــا كإشــارة إلــى هرمــس الشــارح واملفســر‪ ،‬رســول اآللهــة‪ .‬فالهيرمينوطيقــا تقليــد قديــم يهتــم بالنشــاط‬
‫اإلنســاني ومشــكالته ويســعى إلــى إدراكهــا وحلهــا‪ ،‬عــرف اللفــظ (هيرمينوتيــك) تطــورات مــن حيــث الوظائــف‬
‫واملعانــي التــي اســتخدم مــن أجلهــا كتفســير النصــوص الدينيــة فــي العصــر الوســيط وتحــول ً‬
‫الحقــا إلــى‬
‫مبحــث أو نظريــة التأويــل وفــن الفهــم‪ .‬إن الهيرمينوطيقــا بصيغــة أخــرى‪ ،‬منهج‪/‬فــن للتأويــل والفهــم نشــأ‬
‫عــن محــاوالت تفســير القضايــا واألفعــال والنيــات واملقاصــد البشــرية ملــا تحملــه مــن معـ ٍـان ودالالت خفيــة‪،‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪78‬‬

‫لكنهــا ذات عالمــات لغويــة تتيــح إمكانيــة الق ـراءة والتعبيــر‪ .‬بينمــا اليــوم‪ ،‬وكمــا يذهــب إلــى ذلــك العديــد مــن‬
‫الباحثيــن املهتميــن بالشــأن التأويلــي‪ ،‬تحولــت الهيرمينوطيقــا إلــى مشــروع فلســفي حــول التأويــل وفــن الفهــم‬
‫للتجربــة اإلنســانية كمــا هــي محفوظــة فــي الذاكــرة اإلنســانية والحضاريــة كالتاريــخ واألدب والفنــون واملعرفــة‬
‫العلميــة ومختلــف النظــم البشــرية‪ ،‬ويطلــق عليهــا «فلســفة التفســير» بحيــث تفحــص هــذا األخيــر مــن حيــث‬
‫طبيعتــه ونطاقــه وأسســه وصالحيتــه‪ .‬وتتعامــل الهيرمينوطيقــا مــع التفســير فــي ســياق األســئلة الفلســفية‬
‫األساســية حــول الوجــود واملعرفــة‪ ،‬واللغــة والتاريــخ‪ ،‬والفــن‪ ،‬والحيــاة فــي مختلــف أبعادهــا‪.‬‬
‫كمــا يرتبــط اســم هرمــس بوظيفــة أساســية وهــي فعــل الترجمــة‪ ،‬أي ترجمــة مــا يجــاوز الفهــم اإلنســاني‬
‫إلــى شــكل صــورة يمكــن للعقــل البشــري إدراكهــا مــن خــال تحويــل ال�شــيء أو الفكــرة خــارج نطــاق الفهــم‬
‫إلــى مجــال الفهــم‪ .‬والترجمــة تتصــل بالتفســير ً‬
‫أيضــا‪ ،‬فهــذا األخيــر يمثــل أحــد العناصــر األساســية املالزمــة‬
‫لتكويــن نظريــة هيرمينوطيقيــة متكاملــة‪ .‬والتفســير يمــس جوهــر التفكي ــر اإلنســاني‪ ،‬حتــى أن الوجــود ذاتــه‬
‫ربمــا ال يكــون فــي النهايــة ســوى عمليــة تفســير مســتمرة‪ .‬وســيرورة الوجــود اإلنســاني ال تنفصــل عــن اللغــة‪،‬‬
‫فــأي نظريــة للتفســير والتأويــل ال بــد أن تتصــل بظاهــرة اللغــة؛ ألنهــا تشــكل فكــر اإلنســان ومفهومــه عــن‬
‫ذاتــه‪ ،‬وعــن عاملــه‪ .‬ومــن هــذا املنطلــق‪ ،‬فــإن الهيرمينوطيقــا تــدرس الفهــم بوصفــه ظاهــرة إبســتمولوجية‬
‫وأنطولوجيــة‪ ،‬إنهــا دراســة لفهــم األعمــال اإلنســانية‪ ،‬ممــا يمكنهــا مــن تجــاوز األشــكال اللغويــة للتفســير‪،‬‬
‫تتميــز بمبــادئ تتخطــى اإلبداعــات املكتوبــة لتشــمل ً‬
‫أيضــا األعمــال الفنيــة وغيرهــا‪ .‬وهــو مــا يضعهــا فــي موقعــة‬
‫ً‬
‫أساســية بالنســبة لكل العلوم اإلنســانية التي تهتم بتفســير إبداعات اإلنســان وصواًل إلى فهم أفضل لها(((‪.‬‬
‫وتمثــل موضوعــة التأويــل فــي وقتنــا الحاضــر –كمــا كانــت ً‬
‫قديمــا‪ -‬أهــم القضايــا التــي تطارحهــا الفالســفة‬
‫واملتكلمــون وغيرهــم‪ ،‬ممــا يجعــل منهــا املنحــى الرئيــس الــذي اتجهــت نحــوه كثيــر مــن التيــارات والبحــوث‬
‫انصبــت علــى فهــم قضايــا اإلنســان كلهــا‪ .‬وضمــن هــذا الســياق‪ ،‬جــاءت هــذه‬‫ّ‬ ‫الفلســفية والعلميــة التــي‬
‫االلتفاتــة الكبيــرة مــن قبــل املفكريــن نحــو التأويــل وأهميتــه فــي ســياق تراجــع أنمــاط التفكي ــر الدوغمائــي‪،‬‬
‫وكــذا تراجــع الفلســفات املعياريــة والذاتيــة حيــال الحقيقــة لصالــح التيــار النقــدي والتفكي ــر النســبي‬
‫والحــوار والتــداول املشــترك فــي قيــام املعرفــة ً‬
‫وفقــا للقيــم اإلبســتمولوجية وقواعدهــا‪.‬‬

‫(‪ )7‬صفــاء عبــد الســام علــى جعفــر‪ ،‬هيرمينوطيقــا (تفســير) األصــل فــي العمــل الفنــي دراســة فــي األنطولوجيــا املعاصــرة‪ ،‬اإلســكندرية‪،‬‬
‫منشــأ املعــارف‪ ،2000 ،‬ص ‪.25-24‬‬
‫‪79‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫تعــرض كارل بوبــر لنظريــة الفهــم والتأويــل كنظريــة فعليــة مثــل كل النظريــات األخــرى‪ .‬ومــن املمكــن‬
‫ً‬
‫خصوصــا مــن حيــث دوره وقيمتــه لفهمنــا التاريخــي‪ .‬فهــي علــى‬ ‫‪-‬علــى حــد تعبيــره‪ -‬إثــارة ومناقشــة مزايــا التأويــل‬
‫العموم نظرية ضمن النظريات املصنفة في العالم الثالث(((‪ .‬هذه املسألة املتعلقة بتصنيف التأويل ضمن‬
‫النظريــة العلميــة‪ ،‬كان ال بــد مــن كشــف الســتار عنهــا وقراءتهــا ضمــن الســياقات املعرفيــة الجديــدة وبيــان‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫ـتمولوجيا علــى املعرفــة‬ ‫إســهاماتها فــي مجــال الهيرمينوطيقــا‪ .‬لقــد مــارس بوبــر بمعنــى مــن املعانــي تأويــا إبسـ‬
‫اإلنســانية خاصــة فــي ُبعدهــا التاريخــي والطبيعــي‪ ،‬ونلمــس ذلــك بوضــوح فــي نظريتــه حــول العقــل املوضوعــي‪.‬‬
‫تلــك النظريــة التــي أبطــل فيهــا الثنائيــة الكالســيكية املعروفــة بالــروح والجســد‪ .‬وهــو األمــر الــذي نلمســه فــي‬
‫كتابــه املشــترك مــع البيولوجــي وعالــم الدمــاغ جــون إكلــس((( تحــث عنــوان «النفــس ودماغهــا»‪ .‬فبوبــر أحــدث‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫تحـواًل لتجــاوز مــا بــات يعــرف اليــوم بالعلــوم املعرفيــة وعلــوم الذهــن‪ .‬لقــد أضــاف إليهــا عاملــا ثالثــا وهــو عالــم‬
‫العقــل املوضوعــي الناتــج عــن العامليــن املــادي والعقلــي‪ .‬إن منطلــق الجــدل فــي البنــاء املعرفــي اإلنســاني برمتــه‪،‬‬
‫يتموضــع ضمــن ســياق التفاعــل بيــن الحــاالت اإلدراكية–الواعيــة عنــد اإلنســان والعالــم املــادي وتأثرهمــا فــي‬
‫العالــم الثالــث‪ ،‬عالــم الفكــر والثقافــة واإلبــداع البشــري‪ .‬ففــي وســط هــذا التمفصــل (تفاعــل‪ -‬اســتقالل)‬
‫تكمــن املشــكلة التأويلية‪-‬اإلبســتمولوجية (الهيرمينوطيقيــة) التــي يحــاول البحــث عرضهــا‪.‬‬
‫ًّ‬
‫حقــا إن الفعــل الهيرمينوطيقــي ليــس وليــد العصــر الراهــن‪ ،‬إنمــا هــو نمــط فكــري مارســه الفالســفة منــذ‬
‫زمــن بعيــد‪ .‬والهيرمينوطيقــا اليــوم أعيــد لهــا االعتبــار وتــم إحياؤهــا كأســلوب ممكــن لفهــم القضايــا اإلنســانية‬
‫وال ســيما املركبــة منهــا‪ ،‬فقبــل أن يشــهد التأويــل هــذا االهتمــام مــن قبــل املفكريــن املعاصريــن‪ ،‬كان قــد حظــي‬
‫بعنايــة بالغــة فــي إحــدى أهــم لحظــات الفكــر اإلنســاني والفلســفي مــع فالســفة اليونــان‪ ،‬خاصــة مــع صاحــب‬
‫ُ‬
‫األكاديميــة الفيلســوف اإلغريقــي (أفالطــون) الــذي خصــص محــاورة كاملــة للتأويــل‪ .‬فمحــاورة (أيــون) تعـ ُّـد‬
‫ً‬
‫‪-‬تقريبــا‪ -‬مــن أقــدم النصــوص التــي تــدور حــول الهيرمينوطيقــا‪ ،‬تعلمنــا منهــا أهميــة التأويــل ووظيفتــه‪ ،‬ومــا‬
‫قدمه لنا حول اللغة وعالقة الكلمات باألشــياء‪ ،‬وبعد أفالطون‪ ،‬وضمن تلميذه أرســطو في اإلســهامات التي‬
‫ً‬
‫(‪ )8‬يمثل العالم الثالث عاملا يتضمن كل املحتوى املوضوعي للمعرفة اإلنسانية من فكر ونظم سياسية اجتماعية وفلسفة ونظريات‬
‫علميــة وغيرهــا مــن إنتاجــات العقــل البشــري‪ .‬أمــا العالــم األول‪ ،‬أي فيتحــدد فــي كل مــا يشــمل املوضوعــات املاديــة واألشــياء‪ .‬بينمــا العالــم‬
‫الثانــي مرتبــط بالحــاالت الواعيــة والســيكولوجية ذي صلــة بالــذات‪ .‬ويحيــل العالــم الثالــث هنــا إلــى العالــم أو العقــل املوضوعــي‪ .‬لذلــك‬
‫فــإن توظيفنــا ملفهــوم العالــم الثالــث ال يختلــف عــن توظيفنــا ملفهــوم العقــل املوضوعــي أو املعرفــة املوضوعيــة‪ ،‬وهــي مصطلحــات مقتبســة‬
‫مــن املعجــم الفلســفي لــكارل بوبــر‪ ،‬تعــرض لهــا فــي كتابــه «املعرفــة املوضوعيــة» خاصــة فــي الفصليــن الثالــث (إبســتمولوجيا بــدون ذات‬
‫عارفــة)‪ ،‬والرابــع (حــول نظريــة العقــل املوضوعــي)‪.‬‬
‫(‪ )1997-1903( John Carew Eccles )9‬طبيــب وفيزيولوجــي أســترالي‪ ،‬نــال جائــزة نوبــل للطــب عــام ‪ 1963‬حــول بحوثــه الخاصــة‬
‫بالتشــكيالت العصبيــة‪.‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪80‬‬

‫أضافها في هذا املجال‪ ،‬ظهر التأويل في العصور الوسطى مع محاوالت تفسير النصوص الدينية وفهمها‪ .‬إن‬
‫مبحــث التأويــل بهــذا املعنــى‪ ،‬قديــم وجديــد فــي اآلن نفســه‪ ،‬حيــث شــهد تحــوالت مهمــة ومنعطفــات‪ .‬والحديــث‬
‫عن الهيرمينوطيقا بشكل واضح‪ ،‬لم يتبلور كفن للفهم قائم بذاته إال في أواخر القرن الثامن عشر وبداية‬
‫ً‬
‫انعطافــا ًّ‬
‫نوعيــا فــي‬ ‫القــرن التاســع عشــر مــع فيلســوف الالهــوت األملانــي فريدريــش شــايرماخر الــذي أحــدث‬
‫تاريــخ الهيرمينوطيقــا‪ .‬وبعــد ذلــك بقليــل عمــل تلميــذه دلتــاي علــى تطويــر مــا قدمــه شــايرماخر فــي املجــال‬
‫ذاتــه مــن خــال اإلضافــة اإلبســتمولوجية وأهميــة التأويــات املنهجيــة فــي حقــل العلــوم اإلنســانية‪ .‬كمــا عــرف‬
‫التأويــل صيغــة جديــدة خــال الفتــرة املتأخــرة مــن خــال اإلســهام الفينومنولوجــي مــع مارتــن هايدغــر وثــورة‬
‫ّ‬
‫جــورج غاداميــر فــي كتابــه «الحقيقــة واملنهــج»‪ .‬ثــم جــاءت أعمــال الفيلســوف الفرن�ســي بــول ريكــور التــي شــكلت‬
‫إضافــة مهمــة فــي الحلقــة التأويليــة‪ .‬كل هــذا املســار الطويــل للهيرمينوطيقــا يؤكــد علــى فعاليــة وغنــى التجربــة‬
‫التأويليــة‪« .‬ويالحــظ فاتيمــو(‪ ((1‬أن كل العناويــن الفلســفية الراهنــة تنخــرط تحــت الهيرمينوطيقــا بمــا فــي ذلــك‬
‫إقليمــا ًّ‬
‫تأويليــا فــي غايــة الدقــة والحنكــة‪ .‬والتأويــل‬ ‫(التفكيــك) الــذي يظــل ‪-‬رغــم نظريــات الالشــعور والالمعنــى‪ً -‬‬
‫ّ‬ ‫كمــا يــرى فاتيمــو لــم يعــد محصـ ً‬
‫ـورا فــي الفــروع املعرفيــة التــي وصلــت إلينــا منــذ شــايرماخر ودلتــاي واملتمثلــة‬
‫فــي الالهــوت (التأويــل الدينــي) والحقــوق (التأويــل القانونــي) واألدب (التأويــل الرومان�ســي) والفكــر (التأويــل‬
‫ـص التجربــة اإلنســانية فــي رمتهــا وينحــو صــوب الوصــف الدقيــق‬ ‫الفلســفي)‪ ،‬وإنمــا أصبــح تأويـ ًـا ًّ‬
‫عامليــا يخـ ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫والتنـ ّـوع الخــاق فضــا عــن اختــاف الــدالالت ورؤيــة املوضــوع مــن مراصــد مختلفــة»(‪.((1‬‬
‫إن مســيرة التأويــل مــن الناحيــة الكرونولوجيــة طويلــة وتتضمــن تفاصيــل ال يتســع املجــال الســتحضارها‬
‫ًّ‬
‫كلهــا وعلــى الرغــم مــن أهميــة ذلــك‪ .‬وفــي عالقــة بموضــوع املقــال‪ ،‬ناقــش بوبــر كاًّل مــن الفيلســوف األملانــي واملــؤرخ‬
‫األدبــي فلهــام دلتــاي فــي حــدود التأويــل ومواطنــه إدمونــد هوســرل فــي ذاتيــة الفهــم وأبعــاده الســيكولوجية‪ ،‬كمــا‬
‫ناقــش بوبــر كولينجــود فــي قضيــة الفهــم التاريخــي‪ .‬جادلهــم كلهــم فــي مختلــف أطاريحهــم املرتبطــة بقضيــة الفهــم‬
‫ً‬
‫موضوعــا مباشـ ًـرا فــي الفهــم والتأويــل‬ ‫واإلشــكاالت املرتبطــة بــه‪ .‬إن موضــوع هــذه الســطور هــو فــي الواقــع ليــس‬
‫فقــط بقــدر مــا يمثــل مناقشــة فــي الحــدود واألبعــاد اإلبســتمولوجية للفهــم وموضوعيتــه‪ ،‬كنظريــة علميــة‬
‫يطالهــا الدحــض والتفنيــد بصيغــة كارل بوبــر‪ .‬إن املمارســة التأويليــة بامتدادهــا التاريخــي فــي الوجــود اإلنســاني‬

‫(‪ )10‬جيانــي فاتيمــو ‪ Gianni Vattimo‬فيلســوف وسيا�ســي إيطالــي (‪ )2023-1936‬مــن مؤلفاتــه‪« :‬نهايــة الحداثــة»‪ .‬ويعــد مــن املفكريــن‬
‫املهتميــن بالفلســفة التأويليــة خــال األلفيــة الثالثــة‪.‬‬
‫(‪ )11‬محمــد شــوقي الزيــن‪ ،‬تأويــات وتفكيــكات فصــول فــي الفكــر العربــي املعاصــر‪ ،‬بيــروت‪ ،‬املركــز الثقافــي العربــي‪ ،‬الطبعــة األولــى‪،2002 ،‬‬
‫ص‪.17 ،‬‬
‫‪81‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫لهــا أســس معرفيــة وآليــات إبســتمولوجية تشــتغل بهــا‪ .‬لقــد أخبرنــا كارل بوبــر فــي كتابــه «املعرفــة املوضوعيــة»‬
‫أن كل العلــوم واملعــارف اإلنســانية وجميــع أشــكال اإلبــداع البشــري قائمــة علــى التأويــل والتفهــم وعلــى أنشــطة‬
‫التواصــل البينذاتــي؛ كلهــا أنمــاط وجوديــة ومعرفيــة صيغــت فــي عبــارات لغويــة وقوالــب رمزيــة ومنطقيــة‪.‬‬
‫ً‬
‫مطلبــا أساسـ ًّـيا فــي جميــع الحقــول‬ ‫تلــك بعــض العوامــل التــي ســتجعل مــن الفعــل الهيرمينوطيقــي‬
‫املعرفيــة‪ ،‬ومــع التطــور العلمــي الراهــن وغ ـزارة املعــارف البشــرية وتعاقــب املناهــج وتغيرهــا املســتمر‪ ،‬لــم‬
‫يعــد مــن املمكــن الحديــث عــن الحقيقــة املطلقــة والفهــم النهائــي‪ ،‬فــا مجــال مــن مجــاالت الثقافــة واملعرفــة‬
‫اإلنســانية ينــأى عــن مظاهــر النســبية‪ ،‬كمــا ال يخلــو مــن أفعــال املحــاوالت واألخطــاء‪ .‬إن العلــم الــذي‬
‫كان ُينظــر إليــه علــى أنــه موضــع الحقيقــة املطلقــة‪ ،‬ســيظهر ً‬
‫الحقــا أنــه ال يفتقــر إلــى مظاهــر الذاتيــة مــا‬
‫دامــت مناهجــه ليســت ثابتــة وتتغيــر باســتمرار‪ ،‬ويكشــف ذلــك عــن نســبية املعاييــر العلميــة التــي تنطلــق‬
‫منهــا النزعــات العلميــة‪ً .‬‬
‫ووفقــا لــكل هــذه الظــروف‪ ،‬وأمــام مختلــف التفاعــات بيــن التأويــل وأشــكال املعرفــة‬
‫البشــرية وعوامــل أخــرى‪ ،‬أضحــت أطروحــة التأويــل‪ ،‬تنهــل آلياتهــا مــن صميــم املبحــث اإلبســتمولوجي‬
‫لفيلســوف مرمــوق مــن قبيــل «كارل بوبــر»‪ ،‬ذلــك اإلبســتمولوجي الطامــح إلــى عالــم أفضــل‪ ،‬والــذي أحــدث‬
‫طفــرة نوعيــة داخــل فلســفة العلــوم فــي القــرن العشــرين باجتراحــه ألدوات إبســتمولوجية نقديــة ومنطقيــة‬
‫ولغويــة‪ ،‬وإبداعــه للقيــم اإلبســتمولوجية فــي الفهــم والتأويــل‪.‬‬
‫فــي الواقــع‪ ،‬جــاء التيــار الهيرمينوطيقــي كتقليــد فلســفي كبيــر وقديــم ليحــل مشــكالت الفهــم‪ ،‬لذلــك‬
‫تعــد الهيرمينوطيقــا مــن املباحــث التــي تعرضــت بجديــة ملســألة التأويــل وجعلتــه ضمــن مبادئهــا وغاياتهــا‪.‬‬
‫فــي ســبيل تحقــق هاتــه الغايــة كان ال بــد مــن الوقــوف عنــد إســهام بوبــر مــن خــال الكشــف عــن اآلليــات‬
‫اإلبســتمولوجية فــي التأويــل‪ .‬إن مقاربــة القيــم اإلبســتمولوجية فــي التأويــل‪ ،‬يحيلنــا قبــل كل �شــيء‪ ،‬علــى‬
‫إحــدى القضايــا أساســية فــي طبيعــة املعرفــة العلميــة واإلنســانية وخاصيتهــا التطوريــة‪ .‬فقــد تنــاول بوبــر‬
‫مســألة التأويــل والفهــم كمــا أشــرنا للتــو فــي كتابــه «املعرفــة املوضوعيــة»‪ .‬ونقـرأ لبوبــر فــي هــذا الســياق تعبيـ ًـرا‬
‫يقــول فيــه‪« :‬إن كنــت قــد عرضــت هنــا بعــض األســباب إلقـرار الوجــود املســتقل للعالــم الثالــث املوضوعــي‪،‬‬
‫فذلــك ألننــي آمــل أن أســهم فــي نظريــة الفهــم (فــي الهيرمينوطيقــا ‪ )l’herméneutique‬التــي تطــرق لهــا الكثيــر‬
‫من املهتمين بدراســة اإلنســانيات‪ ،‬والعلوم األخالقية‪ ،‬أو علوم الروح‪ .‬وســأنطلق هنا من الفرضية التالية‪:‬‬
‫إن فهــم األشــياء التــي تنتمــي إلــى العالــم الثالــث الــذي يعــد القضيــة املحوريــة للدراســات اإلنســانية‪ ،‬فرضيــة‬
‫كمــا نراهــا‪ ،‬تنحــرف ًّ‬
‫جذريــا عــن العقيــدة األساســية املقبولــة مــن طــرف جميــع أولئــك الذيــن يدرســون العلــوم‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪82‬‬

‫اإلنســانية‪ ،‬وخاصــة أولئــك املهتميــن بمشــكلة الفهــم‪ .‬أعنــي بذلــك تحديـ ًـدا‪ ،‬العقيــدة القائلــة بــأن موضوعــات‬
‫فهمنــا تنتمــي ً‬
‫أساســا إلــى العالــم الثانــي أو ينبغــي بــأي طريقــة تفســيرها بمصطلحــات نفســية [ذاتيــة]»(‪.((1‬‬

‫ثانيًا‪ :‬فكرة العوالم الثالثة والبناء الموضوعي للفهم‬

‫شــكلت فكــرة العوالــم الثالثــة أو نظريــة العقــل املوضوعــي املنطلــق األســاس فــي ســيرورة املعرفــة‬
‫املوضوعيــة‪ ،‬ومــن أبــرز القضايــا اإلبســتيمولوجية التــي طرحهــا كارل بوبــر فــي متنــه‪ ،‬خاصــة مــا يرتبــط باللغــة‬
‫وصلتهــا بمشــكلة الفهــم كموضــوع احتــل مجـ ًـااًل ً‬
‫مهمــا فــي فلســفة بوبــر الــذي قــال‪« :‬لكــن مــا يشــد اهتمامنــا‬
‫بشــكل أسا�ســي هــي اللغــة باعتبارهــا األداة التحليليــة والتأويليــة فــي العالــم [الثالــث] املوضوعــي»(‪ .((1‬وفــي‬
‫ً‬
‫حديثــه عــن نظريــة العوالــم الثالثــة‪ ،‬والتــي قســمها بوبــر علــى النحــو التالــي‪ :‬أواًل‪ :‬عالــم واقعــي‪ ،‬عالــم األشــياء‬
‫الفيزيقيــة أو حــاالت ماديــة‪ً .‬‬
‫ثانيــا‪ :‬عالــم الــذات والحــاالت العقليــة أو الواعيــة‪ .‬أمــا العالــم الثالــث فهــو عالــم‬
‫موضوعــي‪ ،‬يشــمل محتويــات ومنتوجــات العقــل البشــري مــن اللغــة واملعرفــة والثقافــة والفــن والنظريــات‬
‫العلميــة والتاريــخ‪ ،‬أي‪ :‬كل مــا يتضمــن املواضيــع الفكريــة‪ ،‬خاصــة مواضيــع التفكي ــر العلمــي والسياســة‬
‫والفــن ومــا إلــى ذلــك(‪ .((1‬وفــي العالــم الثالــث املوضوعــي تتبــوأ اللغــة محــوره كونهــا وعــاء ملختلــف قضايــاه‬
‫املطروحــة للمناقشــة النقديــة ‪ Propositions‬واملفتوحــة علــى رهــان التأويــل‪.‬‬
‫وللتوضيــح أكثــر‪ ،‬إن العالــم األول يتكــون مــن أشــياء ماديــة فيزيائيــة‪ ،‬كيميائيــة بيولوجيــة‪ .‬أي‪ :‬أنــه‬
‫يتضمــن كل الوســائل املاديــة التــي نلمســها‪ ،‬مثــل األحجــار‪ ،‬النبــات‪ ،‬الغــازات ومــا يشــبه ذلــك‪ .‬أمــا العالــم‬
‫الثانــي يشــمل كل تجاربنــا الســيكولوجية الواعيــة وغيــر الواعيــة‪ .‬أي‪ :‬التجربــة الشــعورية والالشــعورية ومــن‬
‫حــاالت العقــل إلــى الرغبــات الذاتيــة‪ ،‬ومــن املعتقــدات إلــى الذكريــات‪ .‬فيمــا يتحــدد العالــم الثالــث فــي كل مــا‬
‫يخــص منتوجــات العقــل اإلنســاني‪ ،‬كالكتــب والنظريــات واملشــكالت العلميــة واألعمــال الفنيــة واملؤسســات‬
‫ً‬
‫مسرحا للفهم والتأويل‬ ‫االجتماعية(‪ .((1‬ويشكل العالم الثالث املوضوع الرئيس في هذا املقال‪ ،‬لكونه يمثل‬
‫الناتــج عــن عمليــات ذاتيــة واعيــة (أنشــطة العالــم الثانــي)‪ ،‬وبفضــل هــذه العمليــات النشــيطة للفهــم يقــع‬

‫‪(12) Karl Popper, La Connaissance Objective, une approche évolutionniste, Traduit de l’anglais et préfacé par Jean-Jacques RO-‬‬
‫‪SAT , (France), Flammarion, 1998, PP. 256-257.‬‬
‫‪(13) Karl Popper, Conjectures and Refutations, The Growth of Scientific, Knowledge, London, Routledge and Kegan Paul ,1963 ,‬‬
‫‪Fourth Ed, p, 63.‬‬
‫‪(14) Karl Popper, La Connaissance Objective, op, cit, PP, 181 – 182.‬‬
‫(‪ )15‬لخضر مذبوح‪ ،‬فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2000 ،‬ص‪.180 ،‬‬
‫‪83‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫تأثيرهــا علــى مســتوى العالــم الواقعي‪-‬املــادي (العالــم األول)‪ .‬هكــذا تســتمر األنشــطة والعمليــات فــي حلقــة‬
‫دائريــة ويعمــل العقــل علــى تحويــل العالــم الواقعــي إلــى أفــكار ونظريــات جديــدة ليطرحهــا فــي العالــم الثالــث‬
‫بصياغــات وعبــارات وعالمــات لغويــة‪.‬‬
‫فــي الواقــع‪ ،‬إن نظريــة العالــم الثالــث ليســت جديــدة فــي تاريــخ األفــكار بحيــث كانــت مطروحــة مــن قبــل‬
‫أفالطــون فيمــا يطلــق عليــه بالصــور أو املثــل‪ ،‬وموجــودة فــي نظريــة الــروح املوضوعــي للفيلســوف األملانــي هيجل‪.‬‬
‫لكــن أطروحــة بوبــر هاتــه‪ ،‬تختلــف عــن النظريــة األفالطونيــة والهيجليــة‪ .‬بينمــا تتشــابه إلــى حــد بعيــد مــع عالــم‬
‫حــول محتويــات الفكــر املوضوعــي(‪ .((1‬وفــي كتابــه مــع البيولوجــي جــون إكلــس «النفــس‬ ‫(‪((1‬‬
‫فريجيــه ‪Frege‬‬
‫ودماغهــا» يــرى بوبــر أن مــا يميــز مفهومــه حــول العالــم الثالــث عــن ســابقيه هــو خاصيــة التطــور والتغيــر‬
‫وذلــك ‪-‬فــي اعتقادنــا‪ -‬يتما�شــى انسـ ً‬
‫ـجاما مــع طبيعــة أطروحتــه التطوريــة‪ .‬عالــم متغيــر باســتمرار‪ ،‬عالــم تحملــه‬
‫ّ‬
‫واملحاجــة النقدييــن ألنــه مــن‬ ‫لغــة قابلــة للخطــأ والصــواب‪ .‬كمــا أن العالــم الثالــث بمثابــة موضــوع للنقــاش‬
‫صنــع وبنــاء اإلنســان فــي صيــغ نظريــات ومفاهيــم وحــدوس افتراضيــة‪ .‬فــي حيــن تتصــور نظريــة أفالطــون العالــم‬
‫الثالــث بكونــه يتصــف مــن حيــث مضمونــه وحقائقــه بالثبــات والالزمنيــة‪ ،‬وذي مصــدر إلهــي‪ .‬فهــو يتكــون مــن‬
‫الصــور ‪ forms‬أو األفــكار ‪ ideas‬أو املاهيــات ‪ ،essences‬وهنــا يتبيــن االختــاف الجــذري بيــن أفالطــون وبوبــر‪،‬‬
‫فأفالطــون يؤكــد أن العالــم الثالــث يســتطيع تقديــم التفســيرات فــي صورتهــا املطلقــة والنهائيــة فــي نطــاق مــا‬
‫يســمى «املاهيــات»‪ ،‬فــي حيــن يعتقــد بوبــر أن مثــل هــذا العالــم يقــدم تفســيرات افتراضيــة علــى صــورة حــدوس‬
‫وفرضيــات قابلــة للتجــاوز والتعديــل ً‬
‫أيضــا‪ .‬لقــد وصــف أفالطــون ‪-‬حســب بوبــر‪ -‬عمليــة فهــم الصــور أو األفــكار‬
‫علــى أنهــا نــوع مــن الرؤيــة‪ :‬فعيننــا العقليــة‪ ،‬عيــن الــروح‪ ،‬قــد وهبــت ً‬
‫حدســا ًّ‬
‫فكريــا وبوســعها أن تــرى الفكــرة أو‬
‫املاهيــة أو ال�شــيء الــذي ينتمــي إلــى عالــم املعقــوالت‪ .‬ومــا إن نتمكــن مــن أن نـراه‪ ،‬أو أن نفهمــه‪ ،‬فإننــا نــدرك هــذه‬
‫املاهيــة‪ :‬نســتطيع أن نراهــا فــي ضيــاء الحقيقــة‪ .‬إنــه حــدس فكــري معصــوم مــن الزلــل(‪.((1‬‬
‫ً‬
‫وعلــى الرغــم مــن القطيعــة التــي أحدثهــا بوبــر مــع التصــور األفالطونــي انطالقــا مــن هــذه النظريــة الثالثيــة‬
‫للعالــم إال أن القاســم املشــترك بينهمــا يتمثــل فــي مشــكلة الفهــم‪ .‬ذلــك أن العالــم الثالــث هــو موضــوع فــي‬

‫لغويــا عنــد طرحــه ملشــكالت فلســفة اللغــة‬ ‫ً‬


‫منعطفــا ًّ‬ ‫(‪ )16‬شــكل غوتلــوب فريجــة الفيلســوف وعالــم املنطــق األملانــي (‪)1925-1848‬‬
‫املتمثلــة فــي عالقــة العالمــة باملرجــع‪ ،‬قبــل راســل وفيجنشــتاين‪ ،‬فــي حيــن رأى بوبــر أن اللغــة تصنــف ضمــن العالــم الثالــث‪ ،‬عالــم العبــارات‬
‫والنظريــات ونحوهــا‪.‬‬
‫‪(17) Karl Popper, La Connaissance Objective, op, cit, p, 182.‬‬
‫(‪ )18‬كارل بوبــر وجــون إكلــس‪ ،‬النفــس ودماغهــا‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عــادل مصطفــى‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬رؤيــة للنشــر والتوزيــع‪ ،‬الطبعــة األولــى‪ ،2012 ،‬ص‪،‬‬
‫‪.82 – 81‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪84‬‬

‫التأويــل مــن خــال العالقــات التفاعليــة بيــن العوالــم الثالثــة (الواقعــي والذاتــي واملوضوعــي) ويقــوم العقــل‪/‬‬
‫العالــم الذاتــي بــدور الوســط فــي الفهــم بيــن العالــم الواقعــي والعالــم املوضوعــي‪ .‬ويبــدو أن بوبــر حتــى لــو كان‬
‫يرفــض التصــور األفالطونــي مــن حيــث مضمونــه‪ ،‬فإنــه يقبلــه مــن حيــث الشــكل‪ ،‬ويرفــض التســليم بوجــود‬
‫�شــيء يشــبه الحــدس الفكــري‪ ،‬فــي املقابــل يــرى أنــه بعيــد عــن املعصوميــة وأن خطــأه يفــوق صوابــه‪ .‬لكــن مــن‬
‫االنتقــادات املوجهــة لنظريــة بوبــر حــول العقــل املوضوعــي ومــا يعــاب عنهــا‪ ،‬هــو كونهــا أطروحــة ميتافيزيقيــة‬
‫أكثــر ممــا هــي نظريــة علميــة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اهتمامــا بالغــا؛ وذلــك لكونــه املجــال الحيــوي للنظريــات العلميــة وغيرهــا مــن‬ ‫لقــد أولــى بوبــر للعالــم الثالــث‬
‫إنتاجــات العقــل اإلنســاني‪ ،‬وهــي صيــغ لغويــة ورمــوز منطقيــة وتخمينــات قابلــة للتفنيــد والدحــض واســتبعاد‬
‫األخطــاء‪« .‬ويتمثــل النقــد بــكل تأكيــد فــي البحــث عــن التناقضــات واســتبعادها‪ ،‬والصعوبــة الناجمــة عــن لــزوم‬
‫ً‬
‫وضــرورة اســتبعادها تشــكل مســألة جديــدة‪ .‬إن اســتبعاد األخطــاء يــؤدي إذا إلــى معرفتنــا املوضوعيــة‪ .‬إنــه يــؤدي‬
‫إلــى نمــو رجحــان صــدق حقيقــة موضوعيــة‪ ،‬إنــه يجعــل مــن املمكــن التقــرب مــن الحقيقــة املطلقــة»(‪ .((1‬هكــذا‬
‫يتميــز العقــل املوضوعــي بســيرورة دائمــة ونشــاط متواصــل‪ ،‬وهــو مــا يجعــل الفهــم فــي ســيرورة وتغيــر نحــاول ً‬
‫دومــا‬
‫تحصيلــه واالقت ـراب منــه‪ .‬كل هــذه التحــوالت‪ ،‬والتــي تميــز الفهــم تجعلنــا نســعى ً‬
‫دومــا وراء التأويــل املوضوعــي‪،‬‬
‫ونــروم مــن خاللــه أن نرتقــي بالوجــود اإلنســاني إلــى األفضــل‪ ،‬وبالتالــي تقديــم حلــول للقضايا‪-‬املشــكالت‪.‬‬
‫إن املهمــة الرئيســة للعلــم باملعنــى البوبــري تكمــن فــي تعزيــز فهمنــا لألشــياء وليــس بالضــرورة تفســيرها‪،‬‬
‫فالعمــل العلمــي هــو نشــاط عقلــي إنســاني يتمثــل قــدره فــي مطــاردة القضايــا والتقــرب مــن حقيقتهــا‪ ،‬إنــه نشــاط‬
‫تأويلــي دؤوب‪ .‬لذلــك فــإن تحصيــل الفهــم الكامــل أمــر بعيــد املنــال‪ .‬فــي الواقــع‪« ،‬هــو أمــر يبقــى إلــى األبــد بعيــد‬
‫ً‬ ‫خادعــا‪ :‬لقــد وقــر فــي عقلنــا ً‬
‫قرونــا مــا بــدا لنــا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فهمــا كامــا‬ ‫االحتمــال‪ .‬وفضــا عــن ذلــك فــإن الفهــم قــد يكــون‬
‫بعضــا إلــى األمــام‪ .‬ثــم تبيــن أن هــذا فهــم شــديد‬‫آلليــات عمــل الســاعة حيــث أســنان التــروس يدفــع بعضهــا ً‬

‫الســطحية‪ ،‬وأن دفــع جســم مــادي لجســم آخــر إنمــا يحــدث بواســطة التنافــر فيمــا بيــن أغلفــة اإللكترونــات‬
‫أيضا سطحي»(‪.((2‬‬‫السالبة الشحنة الخاصة بذرات هذين الجسمين‪ .‬على أن هذا التفسير وهذا الفهم هو ً‬

‫وفــي هــذا الســياق‪ ،‬يســتحضر بوبــر أحــد أبــرز رواد الفيزيــاء الكوانطيــة «نيلــز بــور» حيــث اعتقــد بــدوره أنــه فــي‬
‫نظريــة الكوانتــوم علينــا أن نتخلــى عــن األمــل فــي فهــم موضوعنــا‪ .‬فالفهــم الجزئــي هــو مــا يمكــن الوصــول إليــه‪،‬‬

‫(‪ )19‬بوبر‪ ،‬النفس ودماغها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.74 ،‬‬


‫(‪ )20‬بوبر‪ ،‬النفس ودماغها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.73 ،‬‬
‫‪85‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫وعلــى هــذا األســاس‪ ،‬علينــا التخلــي والثنــاء علــى الفهــم الكلــي أو التأويــل فــي حالتــه النهائيــة‪ .‬إن فهمنــا مــن قبيــل‬
‫مــا توهمنــا ً‬
‫يومــا أننــا نحــوزه فــي أمــر الدفــع امليكانيكــي هــو غيــر ممكــن ولــو كان األمــر بصــدد الفيزيــاء(‪ .((2‬وذلــك‬
‫ً‬
‫خالفــا للتصــور الســائد مــع العقــل العلمــي الكالســيكي حيــث ينظــر إلــى املعرفــة فــي صــورة اليقيــن واملطلــق‪.‬‬
‫يقت�ضــي الفهــم فــي فلســفة كارل بوبــر‪ ،‬الوقــوف عنــد العالقــة التفاعليــة بيــن العوالــم الثالثــة‪ ،‬فالتفكي ــر‬
‫فــي موضوعــات العالــم الثالــث هــو نتيجــة للتفاعــل بيــن موضوعــات العالــم األول (الفيزيائــي)‪ ،‬والحــاالت‬
‫النفسية والشعورية أو الذاتية(‪ .((2‬أما نشاط الفهم‪ ،‬ينتج من خالل العالقة السببية بين العوالم الثالثة‪.‬‬
‫إن العمليــة التواصليــة بيــن الحــاالت العقليــة والحــاالت الفيزيائيــة تنتــج عنهــا موضوعــات العالــم الثالــث‪ .‬إنهــا‬
‫زوجيــا‪ :‬العالــم الثانــي يتفاعــل ًّ‬ ‫ً‬
‫ـاداًل ًّ‬ ‫ً‬
‫جدليــا مــع‬ ‫مرتبطــة إذن بعضهــا ببعــض بطريقــة تتفاعــل فيهــا تفاعــا متبـ‬
‫العالــم األول والعالــم الثالــث كليهمــا‪ ،‬فــي حيــن أن العامليــن األخيريــن (األول والثالــث) ال يســتطيعان التفاعــل‬
‫مباشــرة لكــن يمكنهمــا التفاعــل فقــط مــن خــال وســاطة التجــارب الذاتيــة والشــخصية (العالــم الثانــي)‪.‬‬
‫هكــذا يتميــز العالــم الثالــث باســتقالليته الذاتيــة‪ ،‬وأنــه موضوعــي وال يخضــع كليــة للحــاالت الذهنيــة‪،‬‬
‫وبالرغــم مــن ذلــك فهــو مــن إبــداع النشــاط اإلنســاني‪ .‬إن وجهــة نظــر بوبــر حــول قاعــدة هــذا التأثيــر هــي‬
‫أن كل �شــيء يخضــع ملبــدأ «هــات وخــذ» ‪ Give And Take‬أو «أعــط وخــذ» بيــن أنفســنا‪ .‬فمعرفتنــا وعلمنــا‬
‫ينضــوي تحــت املنتــوج الــذي نســهم بــه فــي العقــل املوضوعــي ومــن خــال التغذيــة الدائمــة التــي تســتطيع أن‬
‫تزيــد بواســطة النقــد الذاتــي(‪ .((2‬هــذا التبــادل بيــن الــذوات والعالــم الثالــث هــو مــا يجعلنــا نتطلــع علــى الــدوام‬
‫إلنتــاج الفهــم والتأويــل‪ .‬فاملعرفــة املوضوعيــة باملفهــوم البوبــري ليســت بنيــة ثابتــة‪ ،‬وال تقــف عنــد حــدود‬
‫معرفــة املاهيــات باملعنــى التقليــدي للمعرفــة كمــا هــو الحــال فــي عالــم املعقــوالت األفالطونــي‪ ،‬إنهــا تتخــذ مــع‬
‫ومفتوحــا تكشــف باســتمرار عــن إمكانــات ومحــاوالت جديــدة للفهــم‪ .‬يمكــن أن‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬
‫تطوريــا‬ ‫كارل بوبــر ً‬
‫طابعــا‬
‫نقــول بــأن املعرفــة املوضوعيــة كتأويــل مســتمر تنمــو بــا نضــوب أو دون توقــف‪.‬‬
‫إن األنشــطة أو العمليــات التــي يشــملها املصطلــح العــام (فهــم) هــي أنشــطة ذاتيــة أو شــخصية‬
‫ً‬
‫نجاحــا) لهــذه األنشــطة مــن نتيجتهــا فــي الحالــة‬ ‫أو نفســية‪ ،‬يجــب تمييزهــا عــن النتيجــة (األكثــر أو األقــل‬
‫النهائيــة (وفــي لحظــة معينــة) مــن الفهــم والتأويــل‪ .‬وعلــى الرغــم مــن أن هــذا التأويــل يمكــن أن يصيــر حالــة‬
‫ً‬
‫موضوعــا للعالــم الثالــث‪ ،‬وبالتحديــد يمكــن أن يصبــح نظريــة‪،‬‬ ‫ذاتيــة للفهــم‪ ،‬إال أنــه يمكــن أن يكــون ً‬
‫أيضــا‬

‫(‪ )21‬بوبر‪ ،‬النفس ودماغها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.74 ،‬‬


‫‪(22) Popper, La Connaissance Objective, op, cit, P, 247.‬‬
‫(‪ )23‬مذبوح‪ ،‬فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.195 -194 ،‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪86‬‬

‫دائمــا‬ ‫ً‬
‫موضوعــا للعالــم الثالــث‪ .‬إن التأويــل ســيظل ً‬ ‫وهــذه األخيــرة ‪-‬فــي اعتقــاد بوبــر‪ -‬هــي األهــم؛ نظـ ًـرا لكونهــا‬
‫نوعــا مــن النظريــة‪ ،‬ومثــل كل النظريــات‪ ،‬فهــو راســخ فــي نظريــات أخــرى وفــي أشــياء أخــرى مــن‬ ‫نظريــة أو ً‬
‫العالــم الثالــث‪ ،‬وبالتالــي يمكــن للمــرء مناقشــة مســألة التأويــل ومزاياهــا‪ ،‬وال ســيما مــن حيــث قيمتهــا لفهمنــا‬
‫التاريخــي‪ ،‬كمســألة تنتمــي إلــى العالــم الثالــث‪ .‬وفــي خضــم ذلــك‪ ،‬يقتــرح بوبــر أطروحــة يمكــن تعميمهــا تصلــح‬
‫ألي فعــل شــخ�صي مــن (املعرفــة)‪ ،‬مفادهــا أن كل مــا يمكننــا قولــه عــن أهميــة فعــل املعرفــة هــو ضــرورة‬
‫تســليط الضــوء علــى أشــياء العالــم الثالــث لفعــل محــدد‪ ،‬وعالقتــه بأشــياء العالــم الثالــث األخــرى‪ ،‬ســواء‬
‫ً‬
‫حججــا تمــس املشــكلة أو أشــياء معروفــة(‪.((2‬‬ ‫كانــت‬
‫علــى هــذا األســاس‪ ،‬تقــوم الفكــرة الرئيســة عنــده علــى اعتبــار التفتــح (بيــن العوالــم) ضــرورة منطقيــة‬
‫إبســتمولوجية‪ ،‬فاملعرفــة كجــزء ال يتجـزأ مــن هــذا الكــون ليســت كاملــة ونهائيــة بــل تنمــو وتتطــور‪ ،‬فــي جميــع‬
‫ً‬
‫وأحيانــا قــد نرفضهــا ونســتبدلها بمعرفــة‬ ‫األطــوار يجــب تصورهــا مفتوحــة علــى النقــد والنقــاش لتعديلهــا‬
‫أخــرى أفضــل(‪ .((2‬وفــي تمثيلــه للمقاربــة التطوريــة للمعرفــة‪ ،‬يقــول كارل بوبــر‪« :‬مــن املؤكــد أن األنشــطة أو‬
‫الســيرورات التي تنضوي تحت مفهوم الفهم هي أنشــطة الحاالت العقلية تؤدي في نهاية املطاف إلى عملية‬
‫ناتجــا عــن فهــم ذاتــي كمــا يمكــن أن يكــون ً‬
‫ناتجــا‬ ‫علمــا أن هــذا التأويــل يمكــن أن يكــون ً‬
‫الفهــم أو التأويــل‪ً ،‬‬
‫عــن العالــم الثالــث»(‪ .((2‬فــكل تأويــل عبــارة عــن نظريــة أو باألحــرى هــو ســليل نظريــة‪ ،‬وكل نظريــة لهــا عالقــة‬
‫بنظريــات أخــرى وبموضوعــات العالــم الثالــث‪ ،‬وقيمــة التأويــل مــن منظــور بوبــر هــي فــي محاولــة الوصــول إلــى‬
‫رؤيــة شــبه تقريبيــة للنظريــات التــي تنســج عــن طريــق الحجــج النقديــة(‪ .((2‬هكــذا ال يمكننــا أن نفهــم الفعــل‬
‫الذاتــي الــذي يــؤدي إلــى الفهــم إال بالعــودة إلــى العالقــات الوســيطة بيــن الــذات وموضوعــات العالــم الثالــث‪،‬‬
‫بحيــث إن كل فعــل ذاتــي للفهــم هــو متجســد فــي العالــم الثالــث‪ .‬يمكــن القــول إذن إن النشــاط املــؤدي إلــى‬
‫الفهــم ال يتأتــى إال مــن خــال ســيرورات حســابية معقــدة تحــدث داخــل الــذات علــى موضوعــات العالــم‬
‫الثالــث‪ ،‬وذلــك مــن أجــل الوصــول إلــى قانــون يفســر مضمــون تلــك املوضوعــات(‪.((2‬‬

‫‪(24) Popper, La Connaissance Objective, op, cit, P 258 – 259.‬‬


‫(‪ )25‬مذبوح‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر‪ ،‬ص‪.195 ،‬‬
‫‪(26) Popper, La Connaissance Objective, op, cit, P, 256.‬‬
‫‪(27) Ibid, p, 257.‬‬
‫‪(28) Ibid, p, 260.‬‬
‫‪87‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫ثالثًا‪ :‬أنشطة الفهم الموضوعي وحـل الـمـشكالت‬

‫قيمة المشكلة وأهميتها‪:‬‬

‫حظيــت (املشــكلة) بأهميــة كبيــرة فــي مقاربــة بوبــر للعقــل املوضوعــي‪ ،‬بحيــث إن االصطــدام املســتمر‬
‫واملباشــر باملشــكالت يجعلنــا ً‬
‫دومــا أمــام عمليــات متكــررة مــن التأويــل والفهــم‪ ،‬ومحــاوالت دائمــة للتفكي ــر‬
‫ًّ‬
‫ـتمولوجيا فــي مســيرة تطــور املعرفــة العلميــة‬ ‫إليجــاد حلــول أنجــع لهــا‪ .‬لــذا لــم تعــد املشــكلة ً‬
‫عائقــا إبسـ‬
‫واإلنســانية بقــدر مــا أصبحــت أساســية وجوهريــة فــي هــذا النشــاط البشــري‪ .‬وقــد شــكلت مســألة فهــم‬
‫النظريــات العلميــة وتحســين فهمنــا لهــا باســتمرار هاجــس بوبــر األســاس‪ .‬ويعتقــد أنــه إذا أردنــا أن نحــوز‬
‫أو نحصــل علــى فهــم واقعــي ملشــكل معطــى‪ ،‬فنحــن فــي حاجــة إلــى أكثــر مــن تحليــل لهــذا املشــكل‪ .‬ولفهــم كل‬
‫املشكالت ولو مرة واحدة في حياتنا يجب علينا أن نكون صارمين وجديين في صراع مع مشكلة حية‪ .‬وذلك‬
‫لــن يتحصــل إال مــن خــال محاولــة فهمهــا وحلهــا‪ ،‬بــل الفشــل فــي إيجــاد الحــل‪ .‬لقــد طــرح بوبــر أســئلة بشــكل‬
‫متكــرر وفــي عــدة مواضيــع بــل فــي مؤلفــات مختلفــة‪ ،‬الســؤال األول منهــا مرتبــط بكيفيــة فهــم نظريــة علميــة‬
‫أو مشــكلة معينــة وتحســين فهمنــا لهــا؟ بينمــا الســؤال الثانــي متعلــق بـ«املشــكلة األساســية لفهــم مشــكلة» ‪Le‬‬
‫‪ ،métaproblème de compréhension d’un problème‬وكيــف يمكننــا أن نتعلــم كيــف نفهــم مشــكلة‬
‫ً‬
‫تعقيدا وذو أهمية كبيرة‪ .‬في جميع الحاالت‪ ،‬يعتقد بوبر أن‬ ‫علمية؟ إن الســؤال الثاني ‪-‬حســب بوبر‪ -‬أكثر‬
‫معــا يمثــان جوهــر ســيرورة الفهــم ألن العلــم يبــدأ مــن املشــكالت‪ .‬إن تعلــم فهــم مشــكل مــا‪ ،‬يأتــي‬ ‫الســؤالين ً‬
‫ً‬ ‫مــن خــال محاوالتنــا املســتمرة إليجــاد الحلــول للمشــكلة التــي نفشــل ً‬
‫دومــا فــي إيجــاد حــل لهــا‪ .‬لنفتــرض عاملــا‬
‫شـ ًّـابا واجــه مشــكلة ال يفهمــا‪ ،‬مــا الــذي فــي وســعه فعلــه؟ حتــى إن لــم يتمكــن مــن فهمهــا‪ ،‬يمكنــه فــي نظــري أن‬
‫يحــاول إيجــاد الحــل ويمكنــه كذلــك أن ينتقــد نفســه وينتقــد الحــل الــذي وصــل إليــه بنفســه‪ ،‬فــإذا لــم يتمكــن‬
‫مــن ذلــك‪ ،‬فيعــرض الحــل علــى اآلخريــن لكــي ينتقــدوه‪ .‬بهــذه الطريقــة نكــون قــد اتخذنــا الخطــوة األولــى نحــو‬
‫تحديــد مكمــن الصعوبــة‪ ،‬ونكــون بذلــك ً‬
‫أيضــا قــد اتخذنــا الخطــوة املهمــة نحــو فهــم املشــكلة‪ .‬كمــا أن فهــم‬
‫املشــكلة هــو اكتشــاف صعوبتهــا‪ ،‬وهــو األمــر الــذي ال يمكــن ‪-‬علــى حــد تعبيــر بوبــر‪ -‬القيــام بــه إال باكتشــاف‬
‫ســبب عــدم نجــاح بعــض الحلــول املســبقة‪ .‬لذلــك‪ ،‬فمــن خــال محاولــة حــل مشــكلة وفشــلنا نتعلــم الفهــم‬
‫كســيرورة‪ .‬إن تعلــم فهــم املشــكلة هــو مســألة التعامــل مــع العناصــر الهيكليــة للعالــم الثالــث املوضوعــي‪،‬‬
‫والحصــول علــى فهــم حد�ســي للمشــكلة هــو التعــرف علــى هــذه العناصــر والعالقــات املنطقيــة التــي تحافــظ‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪88‬‬

‫عليهــا فيمــا بينهــا‪ .‬ويؤكــد بوبــر علــى أن هــذا األمــر يشــبه اكتســاب الفهــم البديهــي لنظريــة مــا(‪ .((2‬إننــا هنــا‬
‫بصــدد البنــاء وإعــادة البنــاء‪ ،‬كل شــخص هنــا يمكنــه مواجهــة املشــكلة بنفســه وبإمكانــه فهمهــا للتفكي ــر فــي‬
‫الحــل املناســب‪ .‬وذلــك مــن خــال اإلملــام بشــروطها وســياقها وظروفهــا‪ ،‬لهــذا فعنصــر الخبــرة ذو قيمــة كبيــرة‪.‬‬
‫إن الفهــم العميــق ملحتــوى مــا‪ ،‬يتجلــى بشــكل واضــح مــن خــال حــل مشــكالت متعلقــة بهــذا املحتــوى(‪.((3‬‬
‫فمســألة حلــول املشــكالت يتما�شــى بشــكل مـ ٍ‬
‫ـواز لعمليــة الفهــم وأنشــطة التأويــل وذلــك مــن حيــث كونــه‬
‫ً‬
‫ـاطا ًّ‬
‫نقديــا يســعى ً‬
‫دومــا إلــى بنــاء الحقيقــة‪ ،‬وبالتالــي الوصــول إلــى حلــول مؤقتــة نســبية‪ .‬هــذه الحركــة‬ ‫نشـ‬
‫أو الســيرورة فــي الفهــم وحلــول املشــكالت جــاءت كانعــكاس للتطوريــة التــي أثــرت بشــكل كبيــر فــي منهــج‬
‫وفلســفة بوبــر النقديــة‪ .‬كمــا أن حــل املشــكالت يقــوم علــى دحــض األخطــاء ويعــارض بذلــك النزعــة التبريريــة‬
‫االســتقرائية ومختلــف نظريــات االعتقــاد‪ ،‬فاملعرفــة تنمــو بالتجربــة والخطــأ وباملفهــوم البيداغوجــي‪ ،‬عــن‬
‫طريــق املحاولــة والخطــأ‪ ،‬وإبســتمولوجيا بالتخميــن والدحــض‪ .‬كل األنشــطة املعرفيــة لإلنســان تفاعــات‬
‫تنتــج أفـ ً‬
‫ـكارا ومفاهيــم جديــدة مــن خــال إشـراطات انتقائيــة وأنشــطة تأويليــة مبدعــة‪ ،‬لذلــك تحيــا املعرفــة‬
‫فــي دائــرة مــن املنافســة‪ ،‬وهــذا يحيــل علــى منطــق التطــور الــذي يحكــم املوجــودات‪ ،‬حيــث تواجــه األفــكار‬
‫ّ‬
‫املحاجــة النقديــة‪.‬‬ ‫منافســة ضاريــة فيمــا بينهــا عــن طريــق‬
‫فــي اإلطــار نفســه واملرتبــط بمشــكلة الفهــم وحلــول املشــكالت‪ ،‬يقــدم بوبــر فكــرة أساســية مفادهــا أن‬
‫نشــاط الفهم وســيروراته مشــابه بشــكل تام للطريقة التي تحل بها املشــكالت(‪ .((3‬ويفتحنا هذا التصور على‬
‫أفــق آخــر للتفكي ــر والــذي ليــس ً‬
‫غريبــا عــن فلســفة بوبــر حــول الحيــاة والخبــرة الذاتيــة‪ ،‬ولعــل هــذا مــا جعلــه‬
‫يخصــص للغــرض نفســه ً‬
‫كتابــا بعنــوان «الحيــاة بأســرها حلــول ملشــكالت»‪ ،‬حيــث ينطلــق مــن فكــرة تعزيــز‬
‫اإلبــداع وحــل املشــكالت‪ .‬هكــذا تمــر ســيرورة حلــول املســائل ونشــاط الفهــم علــى املنهــج النقــدي‪ ،‬بحيــث‬
‫إن نمــو املعرفــة مرتبــط بالتفكي ــر النقــدي‪« .‬إن الطريقــة التــي تتقــدم بهــا املعرفــة بصفــة عامــة واملعرفــة‬
‫ً‬
‫وأيضــا عــن طريــق‬ ‫العلميــة علــى وجــه الخصــوص يتــم بواســطة توقعــات وتخمينــات غيــر قابلــة للتبريــر‬
‫حلــول اجتهاديــة مؤقتــة‪ .‬أي‪ :‬غيــر نهائيــة ملشــكالتنا بالحــدوس»(‪ .((3‬فتطــور املعرفــة حســب املفهــوم البوبــري‬
‫يتــم مــن خــال تقدمنــا مــن مشــكالت قديمــة إلــى مشــكالت جديــدة عــن طريــق الحــدوس والتفنيــدات‪ .‬فهــو‬

‫‪(29) Ibid, p,- 280 281.‬‬


‫‪(30) Phillipe Dessus, La théorie de la connaissance de Popper et ses implications pour l’éducation, Paru in Penser l’Education,‬‬
‫‪21, Rouen, 2007, p, 13.‬‬
‫‪(31) Popper, La Connaissance Objective, op, cit, p, 263.‬‬
‫(‪ )32‬محمد محمد قاسم‪ ،‬كارل بوبر‪ :‬نظرية املعرفة في ضوء املنهج العلمي‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار املعرفة الجامعية‪ ،1989 ،‬ص‪.146 ،‬‬
‫‪89‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫يؤســس لفلســفته علــى منطــق االكتشــاف املفتــوح علــى الدحــض والتجــاوز‪ ،‬وذلــك يحيلنــا علــى ســريان‬
‫النزعــة التطوريــة البيولوجيــة علــى أطروحتــه اإلبســتمولوجية‪ .‬هكــذا يحيــا بشــكل أو بآخــر أنمــوذج املعرفــة‬
‫التطوريــة واالنتقــاء الطبيعــي للنظريــات العلميــة ومختلــف أنمــاط املعرفــة البشــرية األخــرى‪.‬‬
‫يضيــف بوبــر بهــذا الخصــوص أن العلــوم الطبيعيــة كالعلــوم االجتماعيــة‪ ،‬تنطلــق مــن مشــكالت‪.‬‬
‫فهنــاك �شــيء يثيــر دهشــتنا ‪-‬كمــا ذهــب فالســفة اليونــان ً‬
‫قديمــا فــي النهــج نفســه‪ -‬لحــل مثــل هــذه املشــكالت‬
‫تلجــأ العلــوم الطبيعيــة إلــى منهــج املحاولــة والخطــأ‪ ،‬وبصيغــة أخــرى‪ ،‬ذلــك املنهــج الــذي يطــرح مجموعــة‬
‫مــن الحلــول للمشــكلة وبعــد ذلــك يعمــل علــى انتقــاء األخطــاء ويســتبعدها(‪ .((3‬ومــن هــذا القبيــل يطــرح بوبــر‬
‫ً‬
‫موقفــا يراهــن فيــه علــى أهميــة النقــد ونشــاط الفهــم فــي حلــول املشــكالت بقولــه‪« :‬إن أطروحتــي هــي أننــا إذا‬
‫لــم نســلم بــأن املشــكالت والنظريــات هــي موضوعــات الدراســة والنقــد‪ ،‬فلــن نفهــم أبـ ًـدا ســلوك العلمــاء»(‪.((3‬‬
‫يمتلك اإلنســان ملكة االســتطالع‪ ،‬مما يعني أن غريزة االستكشــاف أســاس فطري متأصل في اإلنســان‬
‫ً‬
‫ممــا يجعــل هــذا األخيــر نشــيطا فــي اســتقصاء بيئتــه الطبيعيــة واالجتماعيــة‪ .‬إننــا مبدعــون للمشــكالت‬
‫واملحللــون لهــا‪ .‬وفــي مجــال اإلدراك الح�ســي يف�ضــي هــذا إلــى فــك رمــوز بشــكل ال شــعوري ال يخطــئ ً‬
‫تقريبــا‪ .‬وفــي‬
‫املجــال الثقافــي يــؤدي بنــا إلــى أن نتعلــم الــكالم‪ ،‬وفيمــا بعــد نتعلــم القـراءة ونتفهــم العلــم والفــن‪ ...‬إن القــدرة‬
‫جينيــا‪ ،‬وخاصــة باإلنســان وحــده‪ .‬فاألســاس الجينــي هــو‬ ‫علــى تعلــم لغــة وصفيــة وجدليــة هــي قــدرة مؤسســة ًّ‬
‫مركــز التعلــم الثقافــي‪ ،‬أســاس اإلســهام الحضــاري‪ ،‬واإلســهام فــي تقاليــد العالــم الثالــث(‪ .((3‬فالتعلــم (الــذي‬
‫يكــون باملحاولــة والخطــأ وحلــول املشــكالت) ليــس بالرؤيــة والتأمــل املباشــر‪ ،‬بــل يكــون باملمارســة‪ .‬بلغــة بوبــر‪،‬‬
‫باإلســهام النشــيط‪ ،‬نعمــل علــى تعلــم األســلوب الــذي نصنــع بــه املوضوعــات التــي تشــكل فلســفة العقــل‬
‫املوضوعــي‪ ،‬ونتعلــم كيــف نفهمهــا‪.‬‬

‫ب – مشكلة الفهم الموضوعي‬

‫يوجــه بوبــر مجموعــة مــن االعتراضــات لنظريــة الفهــم التــي تؤســس مبادئهــا علــى العالــم الثانــي وحــده‪،‬‬
‫أي تلــك النظريــة التــي تربــط الفهــم بوجهــات نظــر الــذوات الدوغمائيــة‪ ،‬لهــذا فكمــا انتقــد تقعيــد املعرفــة‬
‫أيضــا النظريــات الهيرمينوطيقيــة املهيمنــة فــي مجــال العلــوم‬ ‫العلميــة علــى الســيرورة الذاتيــة‪ ،‬انتقــد ً‬

‫(‪ )33‬كارل بوبر‪ ،‬الحياة بأسرها حلول ملشكالت‪ ،‬ترجمة‪ :‬بهاء درويش‪ ،‬االسكندرية‪ ،‬منشأة املعارف‪ ،1994 ،‬ص‪.27 ،‬‬
‫(‪ )34‬بوبر‪ ،‬النفس ودماغها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.76 ،‬‬
‫(‪ )35‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.85 ،‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪90‬‬

‫اإلنســانية‪ ،‬التــي تتصــور الفهــم والتأويــل وكل العمليــات التأويليــة بمثابــة أنشــطة ذاتيــة محضــة(‪ .((3‬وإن‬
‫كان يعتــرض علــى النزعــة الذاتيــة فــي الفهــم‪ ،‬فــإن ذلــك ال يعنــي أنــه ليــس ثمــة أي نشــاط فــردي أو نف�ســي فــي‬
‫ً‬
‫موضوعــا للعالــم الثالــث‪ ،‬بمعنــى‬ ‫املمارســة التأويليــة‪ ،‬بــل ألن الهــدف مــن النشــاط التأويلــي يمكــن أن يكــون‬
‫أنــه يمكــن أن يكــون نظريــة علميــة‪.‬‬
‫بخصــوص الســيرورة الســيكولوجية للتفكي ــر وأشــياء العالــم الثالــث يقــول بوبــر‪« :‬حتــى بيــن أولئــك‬
‫الذيــن يعترفــون بضــرورة تحليــل الحالــة النهائيــة للفهــم (الذاتــي) فــي صيــغ العالــم الثالــث‪ ،‬هنــاك كمــا أخ�شــى‬
‫َمــن ســيعترضون علــى األطروحــة املوازيــة التــي تتعلــق بالنشــاط الذاتــي أو الفهــم الشــخ�صي‪ :‬يعتقــدون أنــه ال‬
‫يوجــد �شــيء ممكــن بــدون إجـراءات ذاتيــة مثــل الفهــم مــن خــال التعاطــف أو التطابــق ‪par sympathie, ou‬‬
‫‪ empathie‬كنــوع مــن املشــاطرة الوجدانيــة أو إعــادة تفعيــل أو تمثيــل تصرفــات اآلخريــن‪ .‬أو الجهــد املبــذول‬
‫لوضــع أنفســنا فــي مــكان شــخص آخــر مــن خــال جعــل أهدافهــم ومشــكالتهم خاصــة بنــا(‪.((3‬‬
‫يتمثــل نشــاط الفهــم باألســاس فــي تطبيقــه علــى موضوعــات العالــم الثالــث‪ ،‬وفــي هــذا الخصــوص إن‬
‫نشــاط الفهــم يســاير خطاطتــه املشــهورة عــن التخمينــات والتفنيــدات حيــث يقــول‪ :‬إن الفهــم يعنــي حــل‬
‫املشــكالت(‪ .((3‬علــى كل ســيرورة تأويليــة أن تخضــع للخطاطــة العامــة لحــل املشــكالت عــن طريــق التخمينــات‬
‫والتفنيــدات‪ ،‬وهــي علــى الشــكل التالــي‪:‬‬
‫‪P1‬‬ ‫‪TS‬‬ ‫‪EE‬‬ ‫‪P2‬‬
‫‪ :P1‬يقصد به املشكلة التي انطلقنا منها‪.‬‬
‫‪ :TS‬يقصــد بــه مجموعــة مــن املحــاوالت التــي نبذلهــا لحــل املشــكالت (وفــي حالتنــا هــذه محــاوالت التأويــل)‬
‫وهــذه املحــاوالت تقودنــا إلــى تجــاوز األخطــاء التــي عثرنــا عليهــا‪.‬‬
‫‪ :EE‬حل املشكلة‪.‬‬
‫‪ :P2‬بعد حل املشكلة تظهر مشكلة جديدة أو أكثر(‪.((3‬‬
‫تبيــن هــذه الخطاطــة الطابــع املوضوعــي للعمليــة التأويليــة وســيرورتها عنــد بوبــر‪ ،‬ألن كل فــرد قــادر علــى‬
‫أن يناقــش ويحكــم علــى هــذه العمليــة‪ .‬بهــذا املعنــى ال يمكــن فهــم التأويــل إال فــي عالقــة مــع موضوعــات العالــم‬

‫‪(36) Popper, La Connaissance Objective, op, cit, pp , 256- 257.‬‬


‫‪(37) Ibid, p, 259.‬‬
‫‪(38) Dessus, op, cit, PP, 11.‬‬
‫‪(39) Popper, La Connaissance Objective, op, cit, PP, 198.‬‬
‫‪91‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫دائمــا إلــى الــذات‪ ،‬فإنــه يحيــل ً‬


‫أيضــا علــى مجموعــة مــن الحــاالت‬ ‫الثالــث‪ ،‬فبالرغــم مــن أن التأويــل يحيــل ً‬
‫العقليــة التــي تؤســس اختيارهــا وأفعالهــا‪ .‬يمكــن القــول‪ ،‬إن نظريــة الفهــم عنــد بوبــر هــي مــن مكونــات العالــم‬
‫الثالــث (املعرفــة املوضوعيــة) وكل صــور النشــاط العقلــي‪ ،‬وال عالقــة لهــا باالعتقــاد‪ ،‬بمعنــى أن الفهــم ال‬
‫يمكــن أن يــرد إلــى محتــوى الشــعور ألي ذات‪.‬‬

‫ً‬
‫رابعا‪ :‬الفهم الـموضوعي بمـا هــو ســيــرورة نقدية تطورية‬
‫ً‬
‫تماهيا بين الفهم والنقد‪،‬‬ ‫إذا تأملنا ّ‬
‫بتأن مشــكلة الفهم في بنيتها اإلبســتمولوجية نخلص إلى أن هناك‬
‫ٍ‬
‫هــذا األخيــر (أي‪ :‬النقــد العقلــي) هــو الــذي يبعــث الديناميــة لســيرورة الفهــم‪ .‬إن النشــاط العقالنــي أو نشــاط‬
‫الفعــل التأويلــي للــذات (العالــم الثانــي) يتوقــف علــى امتــاك الحــس النقــدي ملوضوعــات ومشــكالت اللغــة‬
‫واملعرفــة (قضايــا العالــم الثالــث)‪ .‬ســنحاول فــي هــذا الصــدد ربــط وتبييــن البعــد العالئقــي بيــن ســؤال الفهــم‬
‫والنقــد عنــد بوبــر وذلــك بحكــم األهميــة التــي يحظــى بهــا املفهومــان فــي فلســفته‪ .‬إن النقــد ال يمكنــه أن‬
‫يتحصــل دون فهــم املشــكالت التــي تطــرح بشــكل دائــم‪ ،‬وفهــم كل املوضوعــات املطروحــة للفهــم والتــي‬
‫يصنفهــا بوبــر فــي دائــرة العقــل املوضوعــي‪ .‬فالتطــور الــذي يميــز هــذه املنتوجــات الصــادرة عــن العقل البشــري‬
‫مطروحــة للفهــم بعــد النقــد والنشــاط الهيرمينوطيقــي‪ .‬إن العالــم املوضوعــي هــو املنطلــق وإليــه تعــود نتائــج‬
‫تأويالتنــا‪ ،‬يؤثــر ويتأثــر وتعمــل الــذات (العالــم الثانــي) دور الوســط وتفهمــه وتؤولــه ثــم نقــده وتطويــره‪ .‬فــي‬
‫مقابــل ذلــك‪ ،‬إن الفهــم يختلــف عــن النقــد‪ ،‬مختلفــان رغــم أن النقــد يتطلــب الفهــم ويفترضــه‪ ،‬غيــر أن‬
‫الفهم يتقدم على النقد‪ ،‬بمعنى أن النقد يعقب نشــاط الفهم‪ .‬هذا ما يدفع إلى شــرط أسا�ســي‪ ،‬مفاده‪ :‬إذا‬
‫كان النقــد يفتــرض الفهــم‪ ،‬فــإن الفهــم ال يفتــرض النقــد ويــؤدي بالضــرورة إليــه‪ .‬أمــا الخاصيــة التــي يشــترك‬
‫فيهــا الفهــم مــع النقــد عنــد بوبــر هــي خاصيــة الســيرورة والصيــرورة‪.‬‬
‫إن العمــل التأويلــي الــذي عرضنــاه للتــو يطــرح مشــكلة أساســية وهــي مســألة املوضوعيــة‪ ،‬نظـ ًـرا‬
‫للمفارقــة التــي تعتــرض نظريــة بوبــر فــي التأويــل‪ .‬فهــي محكومــة مــن جهــة بالتطــور املتواصــل‪ .‬فــي املقابــل‪ ،‬إن‬
‫ًّ‬
‫محوريــا فــي الســيرورة‪ ،‬خاضــع لحتميــة التفاعــل مــع املــادة‪ ،‬ومحكــوم بأطــر لغويــة‬ ‫العقــل الــذي يمثــل عنصـ ًـرا‬
‫مســبقة‪« .‬ولنســتمع إلــى هيــوم نفســه وهــو يجمــع دعــواه األساســية‪« :‬ولكــن علــى الرغــم مــن أن تفكي ــرنا يبــدو‬
‫كأنــه يســتمتع بحريــة ال حــدود لهــا‪ ،‬فحيــن فحصــه عــن كثــب‪[ ،‬يكتشــف املــرء] أن التفكي ــر محصــور داخــل‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪92‬‬

‫حــدود ضيقــة جـ ًّـدا‪ ،‬وأن كل هاتيــك القــوة اإلبداعيــة للعقــل ال تكشــف إال عــن ملكــة الســتحضار املــادة‬
‫املعطــاة لنــا عــن طريــق الحــواس والخبــرة‪ ،‬أو لنقلهــا‪ ،‬أو لإلكثــار أو لإلقــال منهــا»‪ .‬إذن الوظيفــة الوحيــدة‬
‫لعقلنــا هــي اســتثمار الوقائــع»(‪ .((4‬ألنــه معطــى ونتيجــة فــي الوقــت نفســه‪.‬‬
‫الواقــع أن تلــك الســيرورة التناقضية‪-‬التوافقيــة هــي جوهــر فلســفة التأويــل‪« .‬إن الهــدف مــن التأويــل‬
‫‪ interpretation‬هــو التوفيــق بيــن املتقابــات؛ وتوضيــح أنهــا متســاوقة ‪ coherent‬إن أمكــن هــذا‪ ،‬وتأســيس‬
‫أنمــاط مــن التفكي ــر قــادرة علــى الجمــع بينمــا دون تشــويه لهــا‪ .‬ويصعــب تخيــل عمــل ذي طبيعــة فلســفية‬
‫أكثــر مــن ذلــك‪ ،‬ألنــه يتمخــض فــي النهايــة عــن معرفــة طريقــة التفكي ــر بشــأن العالــم»(‪ .((4‬ونقطــة التمفصــل‬
‫التــي تتدخــل فيهــا اإلبســتمولوجيا هــي البحــث عــن املوضوعيــة فــي الحلقــة كلهــا‪ .‬إن التأويــل حركــة وتركيــب‪.‬‬
‫«انســجام جميــع الخاصيــات واألجـزاء مــع الــكل يؤســس معيــار الدقــة فــي الفهــم‪ .‬انعــدام هــذا االنســجام يعنــي‬
‫إخفــاق الفهــم‪ .‬بيــد أن شــايماخر قــد ميــز هــذه الحلقــة التأويليــة للــكل واألجـزاء حســب العتبــة املوضوعيــة‬
‫والعتبــة الذاتيــة‪ .‬مثلمــا أن اللفــظ (الجــزء) يتقيــد بســياق الجملــة‪ ،‬فــإن النــص بــدوره جــزء ال يتجـزأ مــن الــكل‬
‫(الفنــون األدبيــة) أو األدب برمتــه»(‪ .((4‬لذلــك تمثــل حركيــة التأويــل وتمفصالتــه القاعــدة واملبــدأ‪ ،‬والنظــر‬
‫إليــه مــن حيــث الترابطــات القائمــة علــى (الحــوار) بيــن األجـزاء لتســتمر فــي تواصــل ســري وعجيــب بيــن العوالــم‪.‬‬
‫يتبيــن أن التأويــل بنــاء متواصــل ومشــروع ناقــص منفتــح ً‬
‫دومــا علــى املســتقبل‪ .‬فالفهــم الحاصــل والــذي‬
‫ينبغــي أن نعمــل بــه‪ ،‬هــو الــذي يمكــن أن نحــاول تحســينه إلــى أبعــد مــدى(‪ .((4‬إن التأويــل إذن‪ ،‬ســيرورة‬
‫متواليــة تتوافــق مــع طبيعــة القضايــا املوضوعيــة للعالــم الثالــث‪ ،‬وهــذا مــا يقصــده بوبــر حينمــا قــال‪:‬‬
‫«تتســم النظريــات العلميــة بالتغيــر الدائــم‪ ،‬وال يرجــع هــذا ملجــرد الصدفــة‪ ،‬وإنمــا هــو أمــر ال بــد مــن توقعــه‬
‫وفقــا لتصويرنــا للعلــم اإلمبريقــي»(‪ .((4‬هــذه الخاصيــة التطوريــة للنظريــات العلميــة وكل إبداعــات اإلنســان‬ ‫ً‬

‫الفكريــة والثقافيــة تــدل علــى أن املمارســة الهيرمينوطيقيــة غيــر محــدودة‪.‬‬

‫(‪ )40‬روالن أومنيــس‪ ،‬فلســفة الكوانتــم‪ :‬فهــم العلــم املعاصــر وتأويلــه‪ ،‬ترجمــة‪ :‬أحمــد فــؤاد باشــا ويمنــى طريــف الخولــي‪ ،‬الكويــت‪ ،‬املجلــس‬
‫الوطنــي للثقافــة والفنــون واآلداب‪ ،‬عالــم املعرفــة عــدد أبريــل ‪ ،2008‬ص‪.108 ،‬‬
‫(‪ )41‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.199 ،‬‬
‫ل‬
‫(‪ )42‬هانــس غيــورغ غاداميــر‪ ،‬فلســفة التأويــل األصــو ‪ .‬املبــادئ‪ .‬األهــداف‪ ،‬ترجمــة‪ :‬محمــد شــوقي الزيــن‪ ،‬الجزائــر‪ ،‬منشــورات االختــاف‪،‬‬
‫الطبعــة الثانيــة ‪ ،2006‬ص‪.120 ،‬‬
‫ً‬
‫(‪ )43‬كارل بوبر‪ ،‬بحثا عن عالم أفضل‪ ،‬ترجمة‪ :‬أحمد مستجير‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪ ،1999،‬ص‪.202 ،‬‬
‫(‪ )44‬كارل بوبــر‪ ،‬منطــق الكشــف العلمــي‪ ،‬ترجمــة وتقديــم‪ :‬ماهــر عبــد القــادر محمــد‪ ،‬بيــروت‪ ،‬دار النهضــة العربيــة للطباعــة والنشــر‪،‬‬
‫‪ .1986‬ص‪.108 ،‬‬
‫‪93‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫إن تحســين أســاليب تأويلنــا يصاحبــه تطــور فــي املعرفــة واإلبــداع البشــري‪ ،‬وكل مجهوداتنــا –حســب‬
‫بوبــر‪ -‬تقربنــا مــن الحقيقــة ولكننــا لــن نمتلكهــا‪ ،‬علــى عادتــه يكــرر عبــارة منطوقهــا «ال نســتطيع أن نعــرف»‪،‬‬
‫ويقــول ً‬
‫أيضــا إننــا ال نســتطيع أن نعــرف أو أن نفهــم كل مــا تتضمنــه نظريــة مــا‪ ،‬أو مــا يلــزم عنهــا أو نــدرك‬
‫مغزاهــا إدر ًاكا كامـ ًـا‪ .‬إن محاوالتنــا لفهــم جميــع قضايــا العقــل املوضوعــي يظــل ًّ‬
‫جزئيــا‪ ،‬لذلــك يبقــى مطلــب‬
‫مطلبــا يقت�ضــي جهـ ًـدا مسـ ًّ‬
‫ـتمرا (ملطــاردة) كل املشــكالت والبحــث عــن حلــول تلــوى األخــرى‪ .‬فاملهمــة‬ ‫الفهــم ً‬
‫املنوطــة باإلنســان‪ ،‬هــي إدراك الواقــع وتحســين فهمنــا حولــه(‪ .((4‬لكــن هــذا األمــر يدفــع إلــى التشــكيك فــي‬
‫القواعــد الصلبــة للقيــم والحقيقــة والــذوق ويضــع إمكانــات العقــل البشــري فــي وضــع حــرج‪ .‬إن القــول بعجــز‬
‫اإلنسان على بناء حقيقة ما وتأصيل ما‪ ،‬يؤدي في النهاية إلى العدمية‪ ،‬وتفكيك دون بناء للقيم اإليجابية‪.‬‬
‫إن تصــور بوبــر كهــذا‪ ،‬وتظاهــره بالجهــل‪ ،‬ينهــل مــن مرجعيــة يونانيــة؛ حيــث حــاول اقتفــاء نهــج ســقراط‬
‫وعبارتــه الشــهيرة «كل مــا أعرفــه هــو أننــي ال أعــرف شـ ًـيئا»‪ .‬يقــول بوبــر عــن ســقراط‪ ،‬والــذي يعتبــر نفســه‬
‫ً‬
‫تلميــذا لــه‪ ،‬فيمــا يتعلــق بنظريــة املعرفــة‪« :‬كان ســيدي الــذي علمنــي كــم هــو قليــل‪ ..‬قليــل‪ ،‬ذلــك القــدر‬
‫الــذي نعرفــه‪ ،‬وأن أي حكمــة نبتغيهــا ليســت ســوى إدراك –يتعاظــم مــع مــرور الوقــت– بمــا لدينــا مــن جهــل‬
‫ال حــدود لــه»(‪ .((4‬هــذا ً‬
‫طبعــا مــا يضمــن ويدفــع نحــو البحــث املســتمر‪ ،‬كمــا أن هــذه املســألة إيجابيــة مــن‬
‫حيــث كونهــا مصـ ً‬
‫ـدرا للتفتــح الهيرمينوطيقــي ومشــروعيته‪ .‬غيــر أننــا مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬وبحكــم مــا يمكــن‬
‫أن نســميه بالتواضــع الفلســفي واملعرفــي‪ ،‬يضــع بوبــر نفســه فــي ســهم النقــد حيــث ُينعــت ً‬
‫أحيانــا بالشــكاك‬
‫املفــرط فــي شــكه‪ ،‬ونــزوع كهــذا يحيــل علــى عجــز عقــل اإلنســان عــن بنــاء الحقيقــة أو املعرفــة بــأي طريقــة مــن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الطرائــق‪ .‬إن القــول مثــا‪« :‬كل تجربــة فــي الحقيقــة تجربــة تأويليــة»‪ ،‬أو كمــا صــرح نيتشــه ذات يــوم قائــا‪:‬‬
‫ّ‬
‫«ال يوجــد وقائــع وإنمــا فقــط تأويــات» يحفــز بعــض األطروحــات العدميــة كتلــك التــي يعرضهــا فاتيمــو‪ ،‬مــن‬
‫خــال إعادتــه قـراءة الهرمينوطيقــا ووصفهــا بالفكــر العدمــي‪ .‬إنمــا مثــل هــذه القـراءة وتلــك التــي أعلــن عنهــا‬
‫نيتشــه لهــا أبعــاد (نبيلــة) إن صــح هــذا القــول‪ ،‬ترمــي إلــى بنــاء وعــي يقــظ‪ ،‬خاصــة أن الفكــر الغربــي املعاصــر‬
‫يتجــه نحــو تكريــس الســلطة والبعــد األحــادي وإرادة توجيــه الوعــي نحــو الحقيقــة كصناعــة وتشــكيل(‪.((4‬‬
‫وبالتالــي‪ ،‬إن «الســيرورة العدميــة والتأويليــة كمــا يعالجهــا فاتيمــو هــي‪ ،‬قبــل كل �شــيء‪ ،‬انتفــاء التأســيس أو‬

‫(‪ )45‬قاسم‪ ،‬كارل بوبر‪ :‬نظرية املعرفة في ضوء املنهج العلمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.174 ،‬‬
‫(‪ )46‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.21 ،‬‬
‫(‪ )47‬محمد شوقي الزين‪ ،‬تأويالت وتفكيكات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪94‬‬

‫املبــدأ أو األصــل»(‪ .((4‬وهــذه العدميــة ســتؤدي إلــى نــزع القيمــة مــن القيــم وتفكيكهــا إلــى غيــر رجعــة‪ ،‬وتدفــع‬
‫الهرمينوطيقــا فــي منحــدر النزوعــات املتطرفــة والدخــول فــي لعبــة مفتوحــة‪ .‬وعلــى هــذا األســاس‪ ،‬ال بــد مــن‬
‫تدخــل إبســتمولوجي فــي الســيرورة التأويليــة كلهــا‪ .‬ومواجهــة بعــض املحــاوالت الراميــة إلــى إحــداث حواجــز‬
‫متينــة بيــن اإلبســتمولوجيا والهرمينوطيقــا أو الفصــل بيــن الوجــودي واملعرفــي كمــا نــص علــى ذلــك ريتشــارد‬
‫رورتــي وهايدغــر وغاداميــر‪ .‬وســعيهم إلــى تحريــر الهرمينوطيقــا مــن الصرامــة اإلبســتمولوجية حتــى تتخــذ‬
‫صــورة شــاعرية وخطابيــة تصبــح فيهــا اللغــة صاحبــة الكلمــة(‪ .((4‬خاصــة أن اللغــة هــي محــور الوجــود ومركــز‬
‫التفكي ــر‪ .‬بــل إنهــا الطابــع األسا�ســي لوجودنــا‪ ،‬وتمثــل الشــكل الشــمولي لبنيــة العالــم‪ .‬وبالتالــي تغــدو تفوهــات‬
‫العلــوم نصــب أعيننــا باســتمرار(‪.((5‬‬
‫وفــي الســياق ذاتــه‪ ،‬تمثــل اللغــة املجــال الــذي تنكشــف فيــه الحقيقــة‪ ،‬فخبرتنــا للعالــم تؤديهــا اللغــة‬
‫ً‬
‫دائمــا؛ بحيــث «نكــون مؤولــه» مــن خــال كونهــا مالئمــة بشــكل واعــي‪ .‬والخبــرة اللســانية تعــد مطلقــة إذا مــا‬
‫قورنــت بحضــور األشــياء التــي يبحثهــا العلــم ويكتســب (موضوعيتــه) مــن خاللــه‪ ،‬وهــي ً‬
‫أيضــا جــزء مــن تلــك‬
‫الجوانــب النســبية التــي ُتسـ َ‬
‫ـتوعب مــن خــال اإلشــارة أو إحالــة اللغــة إلــى العالــم(‪ .((5‬فنحــن البشــر‪ ،‬نخاطــب‬
‫العالــم الــذي نحيــل عليــه ونشــير إليــه مــن خــال اللغــة‪ ،‬هــي الوســط الــذي يالقينــا‪ ،‬وبعبــارة مارتــن هايدغــر‪:‬‬
‫«اللغــة مــأوى الوجــود»‪ .‬فنشــاط الفلســفة الهرمينوطيقيــة يتضــح فــي ضــوء فهــم اللغــة التــي تخاطبنــا مــن‬
‫داخــل الوجــود‪ .‬وهــي الواســطة التــي مــن خاللهــا يحــدث الحــوار‪ ،‬فيهــا ينكشــف العالــم ونستشــعره‪ ،‬أي‬
‫ً‬
‫‪-‬تقريبــا‪-‬‬ ‫الفضــاء الــذي يطــوق ويوحــد املشــتركين باللعبــة التــي يقامــرون فيهــا بتحيزاتهــم‪ .‬فقضايــا الواقــع كلهــا‬
‫ً‬
‫تدخــل فــي اللغــة‪ ،‬فــا يوجــد عالــم خــارج نطاقهــا(‪ .((5‬وبالتالــي فــإن تلســين الوجــود يعــد مدخــا لفهمــه‪ ،‬ففــي‬
‫اللغــة تلتقــي كثيــر مــن األبعــاد‪ ،‬فهــي مســرح الســيرورات الذهنيــة الفنيــة والعلميــة واألدبيــة وغيرهــا‪ .‬كمــا‬
‫تلتقــي فيهــا أنمــاط وجوديــة ومعرفيــة وقيميــة فــي انســجام عجيــب‪ ،‬وهــو مــا ينقــض مبــدأ الفصــل (املغــرض)‬
‫واملفــرط بيــن نمــط الوجــود ونمــط املعرفــة‪ .‬هــذه الفكــرة تجــدد التســاؤل حيــال إمكانيــة وجــدوى الفصــل بيــن‬
‫اإلبســتمولوجي والهيرمينوطيقــي‪ ،‬بيــن النظــري والواقعــي‪.‬‬

‫(‪ )48‬محمد شوقي الزين‪ ،‬تأويالت وتفكيكات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.20 ،‬‬
‫(‪ )49‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.21 ،‬‬
‫(‪ )50‬خالدة حامد‪ ،‬عصر الهرمينوطيقا‪ :‬أبحاث في التأويل‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2014 ،‬ص‪.101 ،‬‬
‫(‪ )51‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.199 ،‬‬
‫(‪ )52‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.197-196 ،‬‬
‫‪95‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫خــاتمة‬

‫هكــذا تضعنــا مشــكلة الفهــم عنــد بوبــر أمــام مفتــرق الطــرق‪ ،‬طريــق أول يمكــن نعتــه بالســلبي ألنــه يحيلنــا‬
‫علــى نــوع مــن التشــاؤم املعرفــي‪ ،‬بحيــث كل مجهــودات اإلنســان تف�ضــي إلــى اســتحالة تحقــق الفهــم واملعرفــة‬
‫الكاملــة‪ .‬أمــا الطريــق الثانــي واإليجابــي يحيلنــا علــى تحفيــزه للبحــث والســعي الدائــم مــن أجــل بلــوغ الفهــم‬
‫والنقــد املســتمر للمعرفــة اإلنســانية ومحتويــات العالــم الثالــث‪ ،‬إنــه املنحــى الــذي ذهبــت إليــه الهيرمينوطيقا‬
‫ً‬
‫عمومــا‪ .‬إن العالــم الثالــث مفتــوح باســتمرار علــى الفهــم والتأويــل؛ ألن الوجــود البشــري‬ ‫وفلســفات التأويــل‬
‫يتميــز بالتغيــر واإلبــداع والتطــور‪ ،‬وهــو مــا يفتــح إمكانيــات جديــدة للفهــم وتضــارب التأويــات وتدافــع الحجــج‬
‫النقديــة‪ .‬أمــا ادعــاء الفهــم املطلــق وامتــاك املعرفــة واليقيــن‪ ،‬يــؤدي ً‬
‫حتمــا إلــى نزعــة منغلقــة دوغمائيــة‪.‬‬
‫وتبريــر املعرفــة‪ ،‬ال تجاوزهــا‪ ،‬يــؤدي ً‬
‫أيضــا إلــى التســلط ورفــض الـرأي اآلخــر والــدوس علــى املوضوعيــة‪.‬‬
‫يبــدو ممــا ســبق أن أفــق املعرفــة العلميــة ونظرياتهــا بــل ومفاهيمهــا ومناهجهــا ً‬
‫أيضــا‪ ،‬هــو االتجــاه نحــو‬
‫الهيرمينوطيقــا‪ ،‬فنتحــول مــن اإلبســتمولوجيا نحــو الهيرمينوطيقــا‪ .‬يمكننــا أن نتخيــل مصيــر العلــم اليــوم‬
‫وحصيلتــه حيــث اصطــدم بالغمــوض والتعقيــد والالتــوازن والفو�ضــى‪ .‬ازداد حجــم االضط ـراب وتوســعت‬
‫الدائــرة التأويليــة كأفــق مفتــوح علــى إمكانــات جديــدة مــن الفهــم عبــر املحاولــة والخطــأ‪ ،‬إن تصوراتنــا للعالــم‪،‬‬
‫ال تخلــو مــن نــزوع التأويــل‪ ،‬فهــي فــي نهايــة املطــاف تخمينــات متضمــن فــي بنيتهــا دوافــع ال شــعورية باملفهــوم‬
‫وفقــا لقوالــب لغويــة ومنطقيــة وفرضيــات قابلــة للتعديــل‬ ‫الباشــاري‪ ،‬ألن اإلنســان هــو مــن ُيشـ ّـيدها ً‬

‫والتطــور والتفنيــد‪.‬‬
‫ال ينبغــي النظــر إلــى تصوراتنــا للعالــم بوصفهــا حقائــق مطلقــة‪ ،‬بــل إنهــا ً‬
‫دومــا علــى حافــة الخطــأ؛ إن‬
‫الحقيقــة قيمــة مصححــة مفتوحــة علــى إمكانــات وتأويــات جديــدة‪ ،‬ليــس هنــاك إال تخمينــات وافتراضــات‪.‬‬
‫يمثــل يــخ العلــم لحظــات متعاقبــة لــم يعــرف فيهــا الكشــف العلمــي ً‬
‫توقفــا‪ ،‬فاملهمــة الرئيســة للمنهــج العلمــي‬ ‫تار‬
‫هي تعزيز فهمنا لألشياء من أجل تجاوزها نحو األفضل باستمرار وليس تفسيرها فقط أو تبريرها وفرضها‬
‫كيقينيــات‪ .‬يمكــن االقتـراب مــن الصــدق‪ ،‬لكــن يســتبعد امتالكــه ًّ‬
‫كليــا‪ ،‬وغيــر متــاح لنــا‪ .‬كثيـ ًـرا مــا يتربــص بنــا‬
‫الخطــأ ويشــكل مناســبة لنقــل الحقيقــة والتأويــل مــن مجالهــا الضيــق إلــى مجــال أرحــب يســمح بالتــداول‬
‫ًّ‬
‫ـتمولوجيا بمنــأى عــن امليــول الذاتيــة املحضــة‪ ،‬وبمعــزل‬ ‫والنقــاش النقــدي‪ ،‬وبالتالــي يســمح بدراســتها إبسـ‬
‫ًّ‬
‫موضوعيــا‪ ،‬هــو انفتاحــه‬ ‫عــن األحــكام العاطفيــة والقيــم الذاتيــة الصرفــة‪ .‬بالتالــي إن مــا يجعــل التأويــل‬
‫املســتمر علــى النقــد والتعديــل والتفنيــد‪ .‬وهــذا األمــر تــؤدي فيــه اللغــة ً‬
‫دورا حاسـ ًـما‪ ،‬وهــي صــورة مــن صــور‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ ‫‪96‬‬

‫البعــد اإلبســتمولوجي فــي التأويــل‪ ،‬فاللغــة إذن‪( ،‬كمنفــى لســاني فــي التأويــل عنــد بوبــر) شــكلت جسـ ًـرا نعبــره‬
‫فــي اتجــاه املعرفــة وموضوعــات العقــل املوضوعــي وســائر محتوياتــه‪ ،‬إنهــا ‪-‬كمــا أينــا سـ ً‬
‫ـابقا‪ -‬أداة محوريــة فــي‬ ‫ر‬
‫العالــم الثالــث وفــي فهــم مختلــف لألنمــاط اإلبداعيــة لإلنســان وتراثــه التاريخــي‪ .‬إن اللغــة باختصــار‪ ،‬ليســت‬
‫مجــرد تعابيــر صمــاء وقواعــد جامــدة‪ ،‬بــل هــي طاقــة حاملــة للــدالالت ومفعمــة باملعانــي‪.‬‬
‫إن اســتعمالنا وفهمنــا للغــة ووظائفهــا يعــد املدخــل األســاس الــذي سـ ُـيمكننا مــن ولــوج عمــق املشــكالت‬
‫الكوسمولوجية‪ ،‬وبها نفهم العالم‪ ،‬وأنفسنا وذاكرتنا‪ .‬إنها أهم ما ابتكره العقل البشري‪ ،‬فاملهارة اإلبداعية‬
‫التــي يتصــف بهــا العقــل اإلنســاني‪ ،‬شــكلت الركيــزة األســاس الكتشــاف محــاوالت جديــدة للفهــم والتأويــل‬
‫وحلــول جديــدة للمســائل والبحــث عــن حلــول أنجــع لهــا‪ .‬وفهــم الكــون مــن حيــث هــو ســيرورة مفتوحــة‪ .‬ومــن‬
‫هــذا املنطلــق‪ ،‬قــدم لنــا بوبــر مجموعــة مــن األدوات اإلبســتمولوجيا لتطويــر الفعــل الهيرمينوطيقــي وتجــاوز‬
‫املنطــق الذاتــي الدوغمائــي فــي املعرفــة‪ ،‬وبذلــك فتحــت لنــا نظريتــه فــي الفهــم والتأويــل ً‬
‫أبوابــا جديــدة للتــداول‬
‫والنقــاش النقــدي بعيـ ًـدا عــن الســلطة الذاتيــة فــي احتــكار التأويــل وحيازتــه‪ ،‬كمــا وضعتنــا أمــام أبعــاد جديــدة‬
‫للحيــاة الفنيــة واإلبداعيــة‪ .‬ولهــذا تعــد أدوات الفهــم والتأويــل واللغــة عنــد بوبــر كلهــا وســائل لتفكيــك بنيــة‬
‫الوجــود البشــري وتحســينه وحــل املشــكالت والســعي وراء الكشــف عــن عالــم أفضــل‪ ،‬وهــو ً‬
‫أيضــا إبــداع‬
‫إلمكانــات جديــدة للحيــاة االجتماعيــة والثقافيــة‪ ،‬وخلــق لعالــم مفتــوح يتجــاوز كل األنســاق املغلقــة ونبــذ‬
‫مختلــف أشــكال التعصــب‪ .‬وتعميــق وعينــا بالعالــم وفهمنــا لــه مــن أجــل تغييــره وتحســينه باســتمرار‪.‬‬
‫ًّ‬
‫حقــا لــم يشــيد كارل بوبــر نظريــة هيرمينوطيقيــة متكاملــة األركان كمــا نجدهــا عنــد غاداميــر وهايدغــر‬
‫وبــول ريكــور وشــايرماخر ودلتــاي وغيرهــم‪ ،‬ألن بوبــر كان ذا نزعــة منطقيــة اختباريــة أكثــر ممــا هــو ذو اتجــاه‬
‫تأويلــي‪ .‬لكــن ذلــك لــم يكــن ً‬
‫مانعــا فــي مجادلتــه لبعــض القضايــا املتعلقــة بالفهــم والتأويــل‪ ،‬خاصــة فــي مجــال‬
‫اإلنســانيات وفيمــا يرتبــط منهــا ببعــض العوائــق التــي تعتــرض التنبــؤ فيهــا‪ ،‬وتعقدهــا وديناميكيتهــا‪ .‬لكننــا‬
‫أدركنــا معــه ومــن خــال رحلتنــا فــي العقــل املوضوعــي أن الفهــم والتأويــل يحتــل مكانــة مهمــة عنــده‪ .‬إن التأويــل‬
‫دوما على تحسينه‪ .‬بينما البعد‬ ‫كنظرية علمية ‪-‬حسب تعبير بوبر‪ -‬هو مشروع غير مكتمل يفترض العمل ً‬
‫اإلبســتمولوجي فــي التأويــل يكمــن فــي مجمــل اآلليــات التــي أر�ســى بهــا كارل بوبــر نظريــة فــي العقــل املوضوعــي‪،‬‬
‫وهي أدوات إبســتمولوجية تســهم في بناء تأويل وفهم محتويات العالم الثالث بشــكل موضوعي‪ ،‬أو بصيغة‬
‫أخــرى‪ ،‬تمكننــا مــن بنــاء فهــم مؤســس علــى أنشــطة عقليــة واعيــة‪ .‬هــذا مــا يجعــل الفعــل اإلبســتمولوجي‬
‫وآلياتــه النقديــة تحركهــا دافعيــة تأويليــة‪ .‬وبالتالــي‪ ،‬فاإلضافــة األساســية التــي قدمهــا بوبــر مــن األدوات‬
‫‪97‬‬ ‫املجلد ‪ - 7‬العدد ‪Volume 7- Issue 4 / 4‬‬
‫ديسمرب ‪December 2023‬‬

‫اإلبســتمولوجية والعقالنيــة التــي وظفهــا‪ ،‬شــكلت إسـ ً‬


‫ـهاما ًّ‬
‫نوعيــا فــي املجــال الهيرمينوطقــي‪ ،‬لــم تتــم تفاصيلــه‬
‫ممــا ُيبقيــه مشـ ً‬
‫ـروعا غيــر مكتمــل‪.‬‬

‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪1 .‬أومنيــس روالن‪ ،‬فلســفة الكوانتــم‪ :‬فهــم العلــم املعاصــر وتأويلــه‪ ،‬ترجمــة‪ :‬أحمــد فــؤاد باشــا ويمنــى‬
‫طريــف الخولــي‪ ،‬الكويــت‪ ،‬املجلــس الوطنــي للثقافــة والفنــون واآلداب‪ ،‬عالــم املعرفــة عــدد أبريــل‬
‫‪.2008‬‬
‫‪2 .‬بوبــر كارل‪ ،‬الحيــاة بأســرها حلــول ملشــكالت‪ ،‬ترجمــة‪ :‬بهــاء درويــش‪ ،‬اإلســكندرية‪ ،‬منشــأة املعــارف‪،‬‬
‫‪.1994‬‬
‫‪3 .‬بوبــر كارل‪ ،‬النفــس ودماغهــا‪ ،‬ترجمــة‪ :‬عــادل مصطفــى‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬رؤيــة للنشــر والتوزيــع‪ ،‬الطبعــة‬
‫األولــى‪.2012 ،‬‬
‫ً‬
‫‪4 .‬بوبــر كارل‪ ،‬بحثــا عــن عالــم أفضــل‪ ،‬ترجمــة‪ :‬أحمــد مســتجير‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬الهيــأة املصريــة العامــة‬
‫للكتــاب‪.1999 ،‬‬
‫‪5 .‬بوبــر كارل‪ ،‬منطــق الكشــف العلمــي‪ ،‬ترجمــة وتقديــم‪ :‬ماهــر عبــد القــادر محمــد‪ ،‬بيــروت‪ ،‬دار‬
‫النهضــة العربيــة للطباعــة والنشــر‪.1986 ،‬‬
‫‪6 .‬حامــد خالــدة‪ ،‬عصــر الهرمينوطيقــا‪ :‬أبحــاث فــي التأويــل‪ ،‬بيــروت‪ ،‬منشــورات الجمــل‪ ،‬الطبعــة‬
‫األولــى‪.2014 ،‬‬
‫‪7 .‬الزيــن محمــد شــوقي‪ ،‬تأويــات وتفكيــكات فصــول فــي الفكــر العربــي املعاصــر‪ ،‬بيــروت‪ ،‬املركــز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الطبعة األولى‪.2002 ،‬‬
‫‪8 .‬غاداميــر هانــس غيــورغ‪ ،‬فلســفة التأويــل األصــول‪ .‬املبــادئ‪ .‬األهــداف‪ ،‬ترجمــة‪ :‬محمــد شــوقي الزيــن‪،‬‬
‫الجزائــر‪ ،‬منشــورات االختــاف‪ ،‬الطبعــة الثانيــة ‪.2006‬‬
‫‪9 .‬لخضــر مذبــوح‪ ،‬فكــرة التفتــح فــي فلســفة كارل بوبــر‪ ،‬الجزائــر‪ ،‬منشــورات االختــاف‪ ،‬الطبعــة‬
‫األولــى‪.2000 ،‬‬
‫ ‪10.‬محمــد محمــد قاســم‪ ،‬كارل بوبــر‪ :‬نظريــة املعرفــة فــي ضــوء املنهــج العلمــي‪ ،‬اإلســكندرية‪ ،‬دار املعرفــة‬
‫الجامعية‪.1989 ،‬‬
‫ لراك دنع يعوضوملا لقعلا ةيرظن يف يليوأتلا فطعنملا‬ 98

-Arabic reference

1. awmnys Rūlān, Falsafat alkwāntm : fahm al-ʻIlm al-muʻāṣir wtʼwylh, Ed: Aḥmad Fuʼād
Bāshā wymná Ṭarīf al-Khūlī, al-Kuwayt, al-Majlis al-Waṭanī lil-Thaqāfah wa-al-Funūn wa-
al-Ādāb, ʻĀlam al-Maʻrifah ʻadad Abrīl 2008.
2. bwbr Kārl, al-ḥayāh bʼsrhā ḥulūl li-mushkilāt, Ed: Bahāʼ Darwīsh, al-Iskandarīyah,
Munshaʼat al-Maʻārif, 1994.
3. bwbr Kārl, al-nafs wdmāghhā,Ed: ʻĀdil Muṣṭafá, al-Qāhirah, ruʼyah lil-Nashr wa-al-
Tawzīʻ, St: 1, 2012.
4. bwbr Kārl, bḥthan ʻan ʻĀlam afḍal, Ed: Aḥmad Mustajīr, al-Qāhirah, al-hayʼah al-
Miṣrīyah al-ʻĀmmah lil-Kitāb, 1999.
5. bwbr Kārl, Manṭiq al-kashf al-ʻIlmī,Ed: Māhir ʻAbd al-Qādir Muḥammad, Bayrūt, Dār
al-Nahḍah al-ʻArabīyah lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, 1986.
6. Ḥāmid Khālidah, ʻaṣr al-Harmīnūṭīqā : Abḥāth fī al-taʼwīl, Bayrūt, Manshūrāt al-Ja-
mal,St1 , 2014.
7. al-Zayn Muḥammad Shawqī, Taʼwīlāt wa-tafkīkāt fuṣūl fī al-Fikr al-ʻArabī al-muʻāṣir,
Bayrūt, al-Markaz al-Thaqāfī al-ʻArabī, St1 , 2002.
8. Ghādāmīr Hāns ghywrgh, Falsafat al-taʼwīl al-uṣūl. al-mabādiʼ. al-ahdāf, Ed: Muḥam-
mad Shawqī al-Zayn, al-Jazāʼir, Manshūrāt al-Ikhtilāf, St2, 2006.
9. Lakhḍar mdhbwḥ, fikrat altftḥ fī Falsafat Kārl bwbr, al-Jazāʼir, Manshūrāt al-Ikhtilāf,
St1, 2000.
10. Muḥammad Muḥammad Qāsim, Kārl bwbr : Naẓarīyat al-Maʻrifah fī ḍawʼ al-man-
haj al-ʻIlmī, al-Iskandarīyah, Dār al-Maʻrifah al-Jāmiʻīyah, 1989.
99 Volume 7- Issue 4 / 4 ‫ العدد‬- 7 ‫املجلد‬
December 2023 ‫ديسمرب‬

:‫المراجع األجنبية‬

1. Dessus Phillipe, La théorie de la connaissance de Popper et ses implications pour


l’éducation, Paru in Penser l’Education, 21, Rouen, 2007. (pp.19-31).
2. Popper Karl, Conjectures and Refutations ,The Growth of Scientific, Knowledge,
London, Routledge and Kegan Paul, Fourth Ed. 1963.
3. Popper Karl, La Connaissance Objective, Une approche évolutionniste, Traduit de
l’anglais et préfacé par Jean-jacques ROSAT, Paris, Flammarion, 1998.

You might also like