You are on page 1of 2

‫في عام ( ‪1952‬م ) طرحت منظمة اليونسكو مشروع إصدار سلسلة من الكتيبات الرامية إلى دحض‬

‫األفكار العنصرية‪ ،‬ومن بين تلك الكتيبات واحد لكلود ليفي‪ -‬شتراوس ( ‪2009 -1908‬م ) بعنوان (‬
‫العرق والتاريخ )‪ ،‬فقد عانى شخصيا ً من العنصرية ألنه اضطر إلى العيش في المنفى لمجرد أنه يحمل‬
‫اسما ً يهوديا ً‪ ،‬وكان الرجل يتمتع بالمصداقية العلمية الالزمة لتناول هذه المسائل‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك لم‬
‫يكن اهتمامه بالمسألة أكاديميا ً صرفا ً‪ ،‬فاألنتروبولوجيا كما أوضح في كثير من األحيان في مؤلفاته‬
‫ليست بالنسبة إليه مجرد مبحث علمي من بين مباحث علمية أخرى‪ ،‬بل هي نقطة اختتام موقف فكري‬
‫ومعنوي نشأ منذ قرون عديدة يطلق عليه اسم المذهب اإلنساني‪.‬‬
‫وخالفا ً للكتيبات األخرى التي طلبت المنظمة تأليفها للغرض نفسها‪ ،‬حقق كتيب ( العرق والتاريخ )‬
‫نجاحا ً مدويا ً وأثار لغطا ً وجداالً السيما المناظرة بين الكاتب وأحد الذين سيصبحون زمالءه في‬
‫األكاديمية الفرنسية وهو روجيه كايوا ( ‪1978 -1913‬م )‪ ،‬فقد كان شخصية فكرية مرموقة في تلك‬
‫السنوات‪ ،‬وروائيا ً وشاعرا ً وكاتب مقالة وباحثا ً اجتماعيا ً‪ ،‬وعالوة على ذلك يشغل منصب مدير منظمة‬
‫اليونسكو‪ ،‬وكان بوسع المرء االعتقاد أنه سيؤيد األفكار التي أعرب عنها ليفي‪ -‬شتراوس‪ ،‬ولكنه أظهر‬
‫استيا ًء بسبب ما تراءى له تنكيرا ً للغرب‪ ،‬وفي مقالة طويلة تحمل عنوان ( العد العكسي لألوهام )‬
‫صدرت في المجلة الفرنسية الجديدة‪ ،‬سخر من الذين اختاروا اإلتنوغرافيا ألن رغبة في التحدي ال‬
‫تقاوم كانت تدفعهم إلى تفضيل األشكال البدائية كموسيقى الجاز على موزارت‪ ،‬واالختالجات التي‬
‫يسببها استحواذ الجن التي ال يؤمنون بها على عبادة إله ال يؤمنون به كذلك‪ ،‬ولكن خطأه أنه إله‬
‫أجدادهم‪ ،‬وهو إله يخجلون من أنهم آمنوا به‪.‬‬
‫كان كايوا يريد أن يكسب تأييد الساخرين‪ ،‬ولقد نجح في ذلك فر ّد عليه ليفي‪ -‬شتراوس الذي اتهم باالسم‬
‫في مجلة ( األزمنة المعاصرة ) التي كان يشرف عليها جان بول سارتر‪ ،‬ردا ً جامحا ً وبين ‪ :‬أنه كان‬
‫ديوجين يبرهن الحركة وهو يمشي‪ ،‬والسيد كايوا يرقد لكي ال يراها‪ ،‬إنه يرجو على هذا النحو أن يحمي‬
‫من أي تهديد تأمله المغتبط لحضارة –هي حضارته‪ -‬ال يجد ضميره ما يلومها عليه‪.‬‬
‫تصدّرت سجالهما مسألة تاريخية ومعنوية ما زالت مطروحة‪ ،‬ويمكن إيجاز مضمونها كما يلي ‪ :‬في‬
‫أيامنا الراهنة ال جدال في أن هناك حضارة هي حضارة الغرب أصبحت الحضارة المرجعية بامتياز‬
‫للبشرية جمعاء‪ ،‬وفي أن صعودها أدى إلى تهميش جميع الحضارات األخرى‪ ،‬وأحيانا ً إلى إلغائها‪،‬‬
‫يعوضون‬ ‫ويبقى أن نعلم ما إذا كان القيّمون على الحضارات المهزومة قد حصلوا ماديا ً وفكريا ً على ما ّ‬
‫به عما فقدوه من ناحية الهوية وأسلوب العيش‪ ،‬إنه سجال يستمر بتعبير أمين معلوف‪ ،‬ويستمر طويالً‬
‫بأشكا ٍل شتى‪ ،‬السيما بشأن معرفة ما إذا كانت حصيلة االستعمار باألمس أو العولمة حاليا ً‪ ،‬يجب أن‬
‫تعتبر إيجابية أو كارثية بصفة عامة‪.‬‬
‫يرى كايوا أن ما قدّمه الغرب من إسهام لمجمل البشرية كان فريدا ً وشمل ميادين كثيرة‪ ،‬وال بد أن يكون‬
‫المرء نكدا ً أو مدفوعا ً بكراهية الذات لكي ال يسلّم بذلك‪ ،‬فيما اعتبر ليفي‪ -‬شتراوس أن من غير المقبول‬
‫أن تجيز حضارةٌ لنفسها وإن كانت حضارته‪ ،‬وإن كانت أكثر الحضارات إشراقا ً سحق الحضارات‬
‫األخرى على طريقها براحة ضمير‪ ،‬كيف يسعنا أن نبقى هكذا في تأمل مغتبط‪ ،‬ولدينا في قلب أوروبا‬
‫بتفوق الغرب‬
‫ّ‬ ‫الداللة على البربرية التي يعجز الخيال عن تصورها ألولئك الذين ينادون بإصرار شديد‬
‫والعرق األبيض ؟ ولقد كتب يقول ‪ :‬البربري هو اإلنسان الذي يؤمن بالبربرية‪ .‬فر ّد عليه معارضه ‪:‬‬
‫تحول فقط اإلغريق والصينيين إلى برابرة بامتياز‪ ،‬نظرا ً ألنهم حدّدوا أنفسهم بوصفهم‬
‫هذه الجملة إنما ّ‬
‫المتحضرين بالمقارنة مع الهمجية السائدة من حولهم التي يٌعترف لهم رغم كل شيء بالجدارة والعظمة‬
‫الرتقائهم عليها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫استمر السجال بين الرجلين لبضعة أشهر على مرأى ومسمع من المفكرين الفرنسيين المهتمين السيما‬
‫وأن البلد كان يعيش وسط أنواء حقبة إلغاء االستعمار‪ ،‬ثم صمت الجدل ال بسبب مصالحة‪ ،‬وال حتى‬
‫بدافع السأم‪ ،‬بل ألن كتابا ً صدر في تلك الفترة بعنوان ( مدارات حزينة )‪ ،‬وبدّل صورة ليفي‪ -‬شتراوس‬
‫يتعرض للنقد‪.‬‬
‫ومكانته وجعله بين عشية وضحاها أكثر مناعة من أن ّ‬

‫‪2‬‬

You might also like