Professional Documents
Culture Documents
األفكار العنصرية ،ومن بين تلك الكتيبات واحد لكلود ليفي -شتراوس ( 2009 -1908م ) بعنوان (
العرق والتاريخ ) ،فقد عانى شخصيا ً من العنصرية ألنه اضطر إلى العيش في المنفى لمجرد أنه يحمل
اسما ً يهوديا ً ،وكان الرجل يتمتع بالمصداقية العلمية الالزمة لتناول هذه المسائل ،وباإلضافة إلى ذلك لم
يكن اهتمامه بالمسألة أكاديميا ً صرفا ً ،فاألنتروبولوجيا كما أوضح في كثير من األحيان في مؤلفاته
ليست بالنسبة إليه مجرد مبحث علمي من بين مباحث علمية أخرى ،بل هي نقطة اختتام موقف فكري
ومعنوي نشأ منذ قرون عديدة يطلق عليه اسم المذهب اإلنساني.
وخالفا ً للكتيبات األخرى التي طلبت المنظمة تأليفها للغرض نفسها ،حقق كتيب ( العرق والتاريخ )
نجاحا ً مدويا ً وأثار لغطا ً وجداالً السيما المناظرة بين الكاتب وأحد الذين سيصبحون زمالءه في
األكاديمية الفرنسية وهو روجيه كايوا ( 1978 -1913م ) ،فقد كان شخصية فكرية مرموقة في تلك
السنوات ،وروائيا ً وشاعرا ً وكاتب مقالة وباحثا ً اجتماعيا ً ،وعالوة على ذلك يشغل منصب مدير منظمة
اليونسكو ،وكان بوسع المرء االعتقاد أنه سيؤيد األفكار التي أعرب عنها ليفي -شتراوس ،ولكنه أظهر
استيا ًء بسبب ما تراءى له تنكيرا ً للغرب ،وفي مقالة طويلة تحمل عنوان ( العد العكسي لألوهام )
صدرت في المجلة الفرنسية الجديدة ،سخر من الذين اختاروا اإلتنوغرافيا ألن رغبة في التحدي ال
تقاوم كانت تدفعهم إلى تفضيل األشكال البدائية كموسيقى الجاز على موزارت ،واالختالجات التي
يسببها استحواذ الجن التي ال يؤمنون بها على عبادة إله ال يؤمنون به كذلك ،ولكن خطأه أنه إله
أجدادهم ،وهو إله يخجلون من أنهم آمنوا به.
كان كايوا يريد أن يكسب تأييد الساخرين ،ولقد نجح في ذلك فر ّد عليه ليفي -شتراوس الذي اتهم باالسم
في مجلة ( األزمنة المعاصرة ) التي كان يشرف عليها جان بول سارتر ،ردا ً جامحا ً وبين :أنه كان
ديوجين يبرهن الحركة وهو يمشي ،والسيد كايوا يرقد لكي ال يراها ،إنه يرجو على هذا النحو أن يحمي
من أي تهديد تأمله المغتبط لحضارة –هي حضارته -ال يجد ضميره ما يلومها عليه.
تصدّرت سجالهما مسألة تاريخية ومعنوية ما زالت مطروحة ،ويمكن إيجاز مضمونها كما يلي :في
أيامنا الراهنة ال جدال في أن هناك حضارة هي حضارة الغرب أصبحت الحضارة المرجعية بامتياز
للبشرية جمعاء ،وفي أن صعودها أدى إلى تهميش جميع الحضارات األخرى ،وأحيانا ً إلى إلغائها،
يعوضون ويبقى أن نعلم ما إذا كان القيّمون على الحضارات المهزومة قد حصلوا ماديا ً وفكريا ً على ما ّ
به عما فقدوه من ناحية الهوية وأسلوب العيش ،إنه سجال يستمر بتعبير أمين معلوف ،ويستمر طويالً
بأشكا ٍل شتى ،السيما بشأن معرفة ما إذا كانت حصيلة االستعمار باألمس أو العولمة حاليا ً ،يجب أن
تعتبر إيجابية أو كارثية بصفة عامة.
يرى كايوا أن ما قدّمه الغرب من إسهام لمجمل البشرية كان فريدا ً وشمل ميادين كثيرة ،وال بد أن يكون
المرء نكدا ً أو مدفوعا ً بكراهية الذات لكي ال يسلّم بذلك ،فيما اعتبر ليفي -شتراوس أن من غير المقبول
أن تجيز حضارةٌ لنفسها وإن كانت حضارته ،وإن كانت أكثر الحضارات إشراقا ً سحق الحضارات
األخرى على طريقها براحة ضمير ،كيف يسعنا أن نبقى هكذا في تأمل مغتبط ،ولدينا في قلب أوروبا
بتفوق الغرب
ّ الداللة على البربرية التي يعجز الخيال عن تصورها ألولئك الذين ينادون بإصرار شديد
والعرق األبيض ؟ ولقد كتب يقول :البربري هو اإلنسان الذي يؤمن بالبربرية .فر ّد عليه معارضه :
تحول فقط اإلغريق والصينيين إلى برابرة بامتياز ،نظرا ً ألنهم حدّدوا أنفسهم بوصفهم
هذه الجملة إنما ّ
المتحضرين بالمقارنة مع الهمجية السائدة من حولهم التي يٌعترف لهم رغم كل شيء بالجدارة والعظمة
الرتقائهم عليها.
1
استمر السجال بين الرجلين لبضعة أشهر على مرأى ومسمع من المفكرين الفرنسيين المهتمين السيما
وأن البلد كان يعيش وسط أنواء حقبة إلغاء االستعمار ،ثم صمت الجدل ال بسبب مصالحة ،وال حتى
بدافع السأم ،بل ألن كتابا ً صدر في تلك الفترة بعنوان ( مدارات حزينة ) ،وبدّل صورة ليفي -شتراوس
يتعرض للنقد.
ومكانته وجعله بين عشية وضحاها أكثر مناعة من أن ّ
2