Professional Documents
Culture Documents
الغرب وتحديث العالم العربي، م. بنيس
الغرب وتحديث العالم العربي، م. بنيس
ذهل العالم العربي الحديث بالعالم الغربي المتقدم صناعيا وعسكريا وثقافيا في
شرائط لم يعهدها في تاريخه القديم ،واإلسالمي منه خاصة .وأبرز هذه الشرائط الحديثة هو
الغزو العسكري ،بقيادة نابليون ،لمصر سنة .1798والتحليل السائد لهذا الغزو هو أن نابليون
زود العالم العربي ،انطالقا من مصر ،بإمكانية الدخول في الحداثة الثقافية الغربية .إال أن
دراسة الوقائع ،في سياق الثقافة العربية عموما ،قد تؤدي إلى تبني نتائج مخالفة تماما لهذه
الفرضية:
.1كان لقاء الثقافة العربية في القديم بالثقافة األوربية قد تم من خالل الثقافة اليونانية،
وهذا ما يثبت أن اللقاء الثقافتين العربية واألوربية قديم وليس جديدا كله .وما يتميز به اللقاء
القديم هو أنه مشبعا بحرية االختيار العربي في الوقت نفسه الذي لم تفرض فيه أوربا أي
هيمنة على الثقافة العربية في اختياراتها الثقافية .وبذلك االختيار الحر تفاعلت ثقافتان ،وبرزت
معرفة إنسانية مغايرة؛ بمعنى أن اللقاء بين الثقافتين ،العربية واليوناينة القديمة ،تضمن أجوبة
عن قضايا تهم األدب الفكر والعلم والمجتمع ،وتلك األجوبة من بين التي أمدت أوربا مجددا
بإمكانية االستمرار في المغامرة.
. 2وعكس ذلك هو ما طبع اللقاء بين الثقافتين ،العربية األوربية ،في العصر الحديث،
حيث حرية االختيار ملغاة على المستوى الج ماعي .فدخول نابليون إلى مصر ،وهو رمز
الصعود األوربي ورمز الثورة الفرنسية والحداثة الغربية ،استظل باآلالت العسكرية التي
قتلت وهدمت وخربت مشهدا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا .وما جلبه نابليون بصحبته إلى مصر
من آلة للطباعة ومن مؤسسات علمية ومن أطر ثقافية تقدمت كلها على األرض المصرية ،ثم
العربية فيما بعد ،نموذج للهيمنة يختاره الغرب للعالم العربي ،وما يعتقد به بعض الباحثين
العرب أن األوربيين ،في حقل ا لدراسة المتعلقة بتحديث العالم العربي ،من كون دخول نابليون
إلى مصر يمثل مرحلة جديدة النفتاح العرب على أوربا ،ينسى ،أو ال يفكر ،ذلك أن هذا
الدخول كا مترابطا مع توسع السوق التجارية األوربية ،وتنفيذ مشروع الهيمنة األوربية على
العالم العربي ،والعالم الثالث عامة لما تريده أن يكون عليه .من ثم ما فإن ما ظهر في العام
العربي على إثر الغ زو العسكري األوربي ،هو التقليد ال التحديث ،ذلك هو نصف الوجه
الخفي للوقائع ،وحالة يبررها مشهد الهيمنة الذي مايزال مسترسال إلى اآلن ،وال يترك للعالم
العربي فرصة االختيار الذاتي واللقاء الحر مع اآلخر.
.3ولم تنتف محاوالت اللقاء الحر بين الثقافتين العربية والغربية ،في عصرنا
الحديث .بدأ ذلك منذ رفاعة الطهطاوي الذي توجه إلى فرنسا كمرشد ديني للبعثة الطالبية
المصرية ،وعاد إلى مصر مصلحا يبشر بأفكار الحداثة الغربية .هذا المسافر المفتتن بمعرفة
اآلخر ،الغربي ،تنسب إليه مجموعة من المثقفين واألدباء والفنانين العرب ،الذين غادروا
أقطارهم باتجاه أوربا وأمريكا ،منذ القرن التاسع عشر إلى اآلن .ولكن السفر الرمزي تم
أيضا ،عن طريق تعلم اللغات وترجمة األعمال .إن رغبة اللقاء الحر مع الغرب وثقافته كانت
شبه متوازية مع غزو الغرب للعالم العربي ونشر هيمنته عليه ،ولذلك فإن رغبة العرب في
الوصل بين ذاتهم وذاتهم كانت الهيمنة تأتي لتؤكد انكساره ،هيمنة التقليد في العالم العربي
وهيمنة الغرب على العالم العربي.
وهكذا أدت هذه الهيمنة ،في المشرق والمغرب معا ،إلى نتيجتين متكاملتين :أولهما:
ظهور الحركة التقليدية التي ترى إلى االحتماء بنموذج الثقافة العربية القديمة الوسيلة الفاعلة
في مواجهة استمرار الغزو الذي ال ينتهي؛ وثانيتهما :محاصرة كل الحركات التحديثية
بالنموذج األوربي ومحاكمتها في ضوء انفتاحها على الثقافة الحديثة األوربية ،وهي التي
تلتقي فيها الهيمنة األوربية مع المؤسسات التقليدية العربية في منع العرب عن المعطيات
اإليجابية للحداثة األوربية.
محمد بنيس ،الشعر العربي الحديث ،الجزء الرابع ،مساءلة الحداثة ،دار توبقال للنشر.1991 ،