You are on page 1of 560

‫كلمة الناشر‬

‫حوليات نجيب محفوظ‬

‫‪1‬‬
‫ﻣﺤﻔﻮﻅ‪ ،‬ﻧﺠﻴﺐ ﻣﺤﻔﻮﻅ ﻋﺒﺪﺍﻟﻌﺰﻳﺰ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ‪.2006-1911 ،‬‬
‫ﺣﻮﻟﻴﺎﺕ ﻧﺠﻴﺐ ﻣﺤﻔﻮﻅ ‪ /‬ﺇﻋﺪﺍﺩ ﻭﺗﻘﺪﻳﻢ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺒﺎﺩﺓ‪- .‬‬
‫ﻁ‪ -.1‬ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ‪ :‬ﺍﻟﺪﺍﺭ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ ﺍﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻴﺔ‪.2019 ،‬‬
‫ﻣﺞ ‪ ،3‬ﺹ ‪560‬؛ ‪ 21‬ﺳﻢ‪.‬‬
‫ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻳﺎﺕ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﺘﻘﺪﻡ‬
‫ﺗﺪﻣﻚ‪978 - 977 - 795 - 165 - 2 :‬‬
‫‪ -1‬ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‪.‬‬
‫‪ -2‬ﺍﻟﺤﻀﺎﺭﺓ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‬
‫ﺃ ‪ -‬ﻋﺒﺎﺩﺓ‪ ،‬ﻣﺼﻄﻔﻰ )ﻣﻌﺪ ﻭﻣﻘﺪﻡ(‪.‬‬
‫‪301.20953‬‬
‫ﺭﻗﻢ ﺍﻹﻳﺪﺍﻉ‪2018/ 22372 :‬‬

‫©‬

‫‪ 16‬ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺛﺮﻭﺕ ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ‪.‬‬


‫ﺗﻠﻴﻔﻮﻥ‪+ 202 23910250 :‬‬
‫ﻓﺎﻛﺲ‪ - + 202 23909618 :‬ﺹ‪ .‬ﺏ ‪2022‬‬
‫‪E-mail:info@almasriah.com‬‬
‫‪www. almasriah.com‬‬
‫ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻄﺒﻊ ﻭﺍﻟﻨﺸﺮ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‬
‫ﺍﻟﻄﺒﻌﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ‪2019 :‬ﻡ‬

‫ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﻟﻠﺪﺍﺭ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ ﺍﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻴﺔ‪ ،‬ﻭﻻ ﻳﺠﻮﺯ‪،‬‬


‫ﺑﺄﻱ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻮﺭ‪ ،‬ﺍﻟﺘﻮﺻﻴﻞ‪ ،‬ﺍﻟﻤﺒﺎﺷﺮ ﺃﻭ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺒﺎﺷﺮ‪ ،‬ﺍﻟﻜﻠﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ‪ ،‬ﻷﻱ ﻣﻤﺎ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ‬
‫ﺭﻗﻤﻴﺎ‬
‫ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺼﻨﻒ‪ ،‬ﺃﻭ ﻧﺴﺨﻪ‪ ،‬ﺃﻭ ﺗﺼﻮﻳﺮﻩ‪ ،‬ﺃﻭ ﺗﺮﺟﻤﺘﻪ ﺃﻭ ﺗﺤﻮﻳﺮﻩ ﺃﻭ ﺍﻻﻗﺘﺒﺎﺱ ﻣﻨﻪ‪ ،‬ﺃﻭ ﺗﺤﻮﻳﻠﻪ ﹰﹼ‬
‫ﺃﻭ ﺗﺨﺰﻳﻨﻪ ﺃﻭ ﺍﺳﺘﺮﺟﺎﻋﻪ ﺃﻭ ﺇﺗﺎﺣﺘﻪ ﻋﺒﺮ ﺷﺒﻜﺔ ﺍﻹﻧﺘﺮﻧﺖ‪ ،‬ﺇﻻ ﺑﺈﺫﻥ ﻛﺘﺎﺑﻲ ﻣﺴﺒﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺭ‪.‬‬
‫كلمة الناشر‬

‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫العرب والعلم والتقدم‬

‫الجزء الثالث‬

‫تحرير وتقديم‪ :‬مصطفى عبادة‬

‫‪3‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪4‬‬
‫كلمة الناشر‬

‫وقد نشرت الدار المصرية اللبنانية هذه المقاالت التي قد جمعها وأعدها للنشر‬
‫الكاتب والمترجم فتحي العشري‪ ،‬وصدرت متتالية بد ًءا من سنة ‪ 1989‬ميالدية في‬
‫تسعة أجزاء‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫كلمة الناشر‬
‫الشاهد األمين‬

‫ومسرحا‪ ،‬بما‬
‫ً‬ ‫حظي إنتاج «نجيب محفوظ» اإلبداعي؛ رواية وقصة‬
‫يستحقه من اهتمام نقدي وأكاديمي‪ ،‬وعلى مستوى القراءة العامة‪ ،‬لدى‬
‫نهرا يجري في الثقافة‬
‫قطاعات واسعة من الشعب المصري‪ ،‬حتى أصبح ً‬
‫المصرية‪ ،‬والعربية‪ ،‬وهو جدير بذلك وأكثر منه‪ ،‬وسيظل مثار جدل طويل‬
‫وتقديسا له‪ ،‬وتمر ًدا عليه‪ ،‬ومحاولة تجاوزه‪،‬‬
‫ً‬ ‫بهذا اإلنتاج العريض‪ ،‬اعترا ًفا به‪،‬‬
‫وهذا شأن أي أدب عظيم‪ ،‬على مدار التاريخ اإلنساني كله‪.‬‬
‫جانبا آخر‪ ،‬من نجيب محفوظ‪ ،‬لم يجد االهتمام الالئق به‪،‬‬‫لكن هناك ً‬‫َّ‬
‫ولم يوله الدارسون والباحثون ما يستحق من جدارة وتعريف‪ ،‬وهو مقاالته‬
‫في الصحف والمجالت‪ ،‬التي كان يكتبها بانتظام منذ الثالثينيات بدأب‬
‫ومنبها ومتفاعلاً مع ما يجري في الواقع المصري من قضايا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشاركا‬ ‫وإصرار‪،‬‬
‫مركزة‪ ،‬تدخل إلى القضية‬ ‫دائما‪ ،‬قصيرة َّ‬
‫ومشكالت‪ ،‬وكانت مقاالته تأتي ً‬
‫مباشرة‪ ،‬دون مقدمات أو تحفظات‪ ،‬يقول رأيه ببساطة‪ ،‬وتواضع وصدق‪،‬‬
‫وعما يراه في حينه حسب المشكلة المثارة‪.‬‬
‫يعبر عما يعتقده هو‪َّ ،‬‬
‫وتطابقًا مع أدبه‪ ،‬لم يخرج نجيب محفوظ في مقاالته‪ ،‬عن حدود الواقع‬
‫دائما‪ ،‬والعربي في أحيان قليلة‪ ،‬فقضايا الواقع المصري اليومية؛‬
‫المصري ً‬
‫الملحة العاجلة‪ ،‬والمثارة سوا ًء في الصحف‪ ،‬أو اإلذاعة‪ ،‬أو التي يتحدث بها‬
‫‪6‬‬
‫كلمة الناشر‬

‫الناس في المقاهي‪ ،‬أو عبر التواصل المباشر‪ ،‬من خالل رسائل القراء‪ ،‬كانت‬
‫تجد صداها العميق‪ ،‬في هذه المقاالت‪ ،‬فلم يكن نجيب محفوظ‪ ،‬حين يكتب‬
‫هذه المقاالت يعالج قضايا فكرية نظرية‪ ،‬باستثناء كتابه «حول الفلسفة» وقد‬
‫كتبه في بداية حياته‪ ،‬وكان أنهى لتوه دراسة الفلسفة‪ ،‬وحتى في هذا الكتاب‬
‫لم يكن مجادلاً ‪ ،‬أو متفلس ًفا‪ ،‬بقدر ما كان يعرض النظريات الفلسفية السائدة‬
‫حينها بعمق وأمانة‪ ،‬وإحاطة شاملة‪ ،‬تكشف عن عمق شديد في فهمها‪ ،‬كان‬
‫يعرضها للقراء محايدً ا‪ ،‬ويترك لهم حرية اختيار الفلسفة التي يميلون إليها‪،‬‬
‫هر من هذا العرض‪ ،‬إلى أية فلسفة يميل هو‪.‬‬ ‫ولم يكن َي ْظ ُ‬
‫كان اهتمام نجيب محفوظ األساسي في مقاالته‪ ،‬هو المواطن المصري‬
‫وما يواجه من هموم يومية‪ ،‬يطرح المشكلة‪ ،‬ويضع لها الحلول‪ ،‬وكان في‬
‫أغلب خطابه في هذه المقاالت يتوجه بالحل إلى المسئولين والحكومات‪،‬‬
‫ليضع أمامهم ما يراه من حل مناسب للمشكلة المثارة‪ ،‬كما كان دائم االعتراف‬
‫دائما بعدم جمود المسئولين‪ ،‬أو وضع حلول‬
‫بتغيير الواقع وعدم ثباته‪ ،‬وينصح ً‬
‫نظرية‪ ،‬ال تراعي أصحاب المصلحة الحقيقية في الحل‪.‬‬

‫لماذا إعادة نشر مقاالت نجيب محفوظ اآلن؟‬

‫أولاً ‪ :‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬هي صاحبة الحقوق الحصرية في نشر هذه‬
‫المقاالت‪ ،‬وقد بدأت نشرها في كتب متفرقة منذ تسعينيات القرن الماضي‪،‬‬
‫تاريخيا‪ ،‬حسب تواريخ نشرها‪ ،‬مع‬
‫ًّ‬ ‫ترتيبا‬
‫وقد صدرت في تسعة كتب مرتبة ً‬
‫مراعاة تصنيفها حسب الحقول المعرفية التي كان يكتب فيها نجيب محفوظ‪،‬‬
‫وهذا االلتزام التاريخي‪ ،‬صاحبته بعض المشكالت‪ ،‬حيث كان نجيب‬
‫محفوظ ال يزال يكتب بانتظام في جريدة األهرام‪ ،‬فكنا نضع مقاالته الجديدة‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مع الكتاب الذي سيصدر في ذلك العام‪ ،‬وفي هذا السياق أجرينا تعديالت‬
‫جوهرية على هذه الكتب مع تقسيمها إلى ثالثة مجلدات كبيرة‪ ،‬بحيث جمعنا‬
‫المقاالت ذات الحقل المعرفي الواحد‪ ،‬في كل مجلد‪ ،‬مع عدم اإلخالل‬
‫مخص ًصا‬
‫َّ‬ ‫بالترتيب التاريخي‪ ،‬فمثلاً ‪ ،‬كتاب «حول األدب والفلسفة» كان كله‬
‫للمقاالت الفلسفية‪ ،‬ووجدنا فيه سبعة مقاالت تنتمي إلى األدب والثقافة مثل‪:‬‬
‫«أنطون تشكيوف»‪ ،‬و«ثالثة من أدبائنا» و«قراءات ‪ »1‬و«قراءات ‪ ،»2‬و«كتاب‬
‫التصوير الفني في القرآن»‪ ،‬و«للفن والتاريخ» و«المرأة والوظائف العامة»‪،‬‬
‫وهي كلها تنتمي إلى «الثقافة والتعليم» في المجلد نفسه‪ ،‬وبالتالي نقلناها من‬
‫تحريرا جديدً ا‪،‬‬
‫ً‬ ‫مجال الفلسفة إلى مجال الثقافة‪ ،‬بعد تحرير جميع هذه الكتب‬
‫التصور الكامل والوافي الهتمامات نجيب محفوظ على مدى مسيرته‬ ‫ّ‬ ‫لتعطي‬
‫الطويلة حياة وثقافة وتفاعلاً ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تثبت هذه المقاالت‪ ،‬مدى دقة رؤى نجيب محفوظ حول الواقع‬ ‫ً‬
‫المصري‪ ،‬ومدى معرفته بتطورات األوضاع وانعكاسها على الجمهور‪ ،‬وهو‬
‫دائما في رقبة الحكومات المتعاقبة عن أي‬‫في كل ماكتب‪ ،‬يضع المسئولية ً‬
‫تقصير‪ ،‬وأن المواطن العادي والبسيط كان هو ما يبحث عنه الروائي الكبير‪،‬‬
‫وما يدافع عنه‪ ،‬وإن كانت هذه المقاالت‪ ،‬تثبت من جهة أخرى‪ ،‬أن مشكالت‬
‫كثيرا‪ ،‬على مدى قرن كامل عاصره نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫تتغير ً‬
‫الواقع المصري لم ّ‬
‫مثل قضايا الحريات العامة والقمع‪ ،‬وتزوير االنتخابات‪ ،‬وسلبية المواطن‬
‫نتيجة احتكار السلطات في يد فئات معينة ال تخرج عنها‪ ،‬ومثل قضايا التعليم‪،‬‬
‫والنهوض بالشباب‪ ،‬والثقافة العامة وتهافت الخدمات‪ ،‬والببروقراطية‪،‬‬
‫والرشوة‪ ،‬وفي كل ذلك كانت قضية حرية المواطن هي حجر الزاوية في رؤية‬
‫تطور ُم ْرتجى‪ ،‬وعلى مستوى الثقافة ‪-‬‬
‫نجيب محفوظ ألي تغيير منشود‪ ،‬أو ّ‬
‫مثلاً ‪ -‬والحرية التي ينبغي أن يتمتع بها قادة الرأي والفنانون‪ ،‬شغلت قضية‬

‫‪8‬‬
‫كلمة الناشر‬

‫ضخما من اهتمامات نجيب‬ ‫ً‬ ‫كبيرا‪ ،‬بل‬


‫حيزا ً‬‫الرقابة وضررها على الثقافة ً‬
‫محفوظ‪ ،‬حيث تناولها في ذاتها كإدارة‪ ،‬ثم في عالقتها بوسائل اإلعالم‪،‬‬
‫يفوت مناسبة إلاَّ وذكرها‪،‬‬‫والفن التليفزيوني والسينمائي والصحف‪ ،‬ولم ِّ‬
‫دائما‬
‫وذكر ما ينبغي أن يكون عليه الرقيب من وعي وحساسية‪ ،‬وظل يدعو ً‬
‫إلى أن تقام لقاءات دورية بين المبدعين وإدارة الرقابة للتوصل إلى صيغة‬
‫تفاهم مشترك لخدمة قضايا الفن أولاً ‪ ،‬ثم عدم المساس بما يتعارف الناس‬
‫عليه من أنه قيم ثابتة ال يجوز الغض منها‪ ،‬أو الجور عليها‪ ،‬وبنص كالمه‪« :‬إن‬
‫الرقابة ضرورة طوارئ‪ ،‬وعلينا أن نتعامل معها بحذر وحكمة»‪ .‬كما أن مقياس‬
‫أية ديمقراطية في العالم هي المعاملة التي يلقاها الكاتب في وطنه أثناء حياته‪،‬‬
‫وتلقاها كتبه وكتاباته بعد مماته‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬اتسمت مقاالت نجيب محفوظ‪ ،‬بالقصر الشديد‪ ،‬والتكثيف البالغ‪،‬‬
‫دائما‪ ،‬بمثابة الضوء‬
‫المطولة‪ ،‬ألنها كانت تأتي ً‬
‫ّ‬ ‫فلم يكن من هواة المقاالت‬
‫الكاشف والحكيم‪ ،‬لما يثار في زمنه من قضايا جماهيرية‪ ،‬وشعبية‪ ،‬تمس‬
‫قريبا من قاع هذا‬
‫القطاعات العريضة من المجتمع المصري‪ ،‬وقد كان الرجل ً‬
‫المجتمع‪ ،‬ألنه مندمج فيه‪ ،‬سواء بطقس المشي اليومي الذي كان يمارسه‪ ،‬أو‬
‫روادها باستمرار‪ ،‬حيث يلتحم بالجماهير‪،‬‬ ‫بالجلوس على المقاهي‪ ،‬وكان من ّ‬
‫متعاليا أو متأف ًفا‪ ،‬بل كان‬
‫ً‬ ‫ويتفاعل معها‪ ،‬ويستمع إليها‪ ،‬ولم يكن في كل ذلك‬
‫غاية في التواضع‪ ،‬الذي شهد له به الجميع‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬تثبت هذه المجلدات التي تضم إنتاج نجيب محفوظ‪ ،‬في فن‬ ‫ً‬
‫المقال الصحفي‪ ،‬أنه لم يكن يعيش في برج عاجي‪ ،‬أو منفصلاً عن واقعه‬
‫وقضاياه‪ ،‬وهو االنطباع الذي ربما تثيره بعض رواياته‪ ،‬فلم تكن تظهر دراسته‬
‫للفلسفة‪ ،‬إلاَّ في طريقة رسمه لشخصيات رواياته‪ ،‬بعد أن يختارها من الواقع‪،‬‬
‫فهو في هذه المقاالت‪ ،‬وفي كثير من رواياته شاهد على عصر طويل من تاريخ‬
‫‪9‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫التقدم‬
‫داعيا إلى ُّ‬
‫ناصحا أمي ًنا ً‬
‫ً‬ ‫مصر‪ ،‬شاهد أمين لم يكذب أهله ما يرى‪ ،‬بل كان‬
‫تتبوأ مصر ما تستحقه من مكانة بين األمم‪.‬‬
‫والتطور‪ ،‬وداعيا أن َّ‬
‫ّ‬
‫وال يسعني في هذا السياق إلاَّ أن أشكر الكاتب والمترجم األستاذ‪ :‬فتحي‬
‫العشري الذي أشرف على نشر هذه المقاالت‪ ،‬في صيغتها األولى‪ ،‬في كتب‬
‫مفردة‪ ،‬في حياة الراحل نجيب محفوظ وفق الظروف التاريخية وقتها‪ ،‬حين‬
‫كان الراحل يواصل نشر هذه المقاالت في الصحف وهو دور رائد لفتحي‬
‫أقر له به نجيب محفوظ نفسه‪.‬‬ ‫العشري َّ‬
‫أما وقد اكتملت دائرة هذه المقاالت‪ ،‬فارتأت الدار إعادة نشرها بصيغة‬
‫جديدة لكي تعطي فكرة كاملة ومجمعة عن رأي ووجهة نظر نجيب محفوظ‬
‫في كل موضوع على حدة‪ ،‬وبشكل مستقل‪ ،‬وعهدت الدار بهذا العمل إلى‬
‫أيضا ‪ -‬من عشاق نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫الكاتب والشاعر مصطفى عبادة‪ ،‬وهو ‪ً -‬‬
‫الذي أعاد تبويبها وتحريرها بشكل جديد‪ ،‬بعد أن أدت الكتب المفردة دورها‪،‬‬
‫وكان ينبغي أن توضع مقاالت نجيب محفوظ في إطار جديد‪.‬‬
‫الناشــر‬
‫محمد رشاد‬

‫‪10‬‬
‫مقدمـــة‬

‫مقدمة‬
‫نجيب محفوظ بين الرواية والمقال‬

‫)‪(1‬‬
‫كتب نجيب محفوظ أكثر من ألف مقال‪ ،‬على مدى حياته الطويلة‪ .‬وبدايته‬
‫موضوعيا‬
‫ًّ‬ ‫تنوعت هذه المقاالت‬
‫مع فن المقال‪ ،‬أسبق من إبداعه الروائي‪ّ .‬‬
‫بين ثالثة حقول كبيرة‪ ،‬أولها‪ ،‬وأكثرها عناية من نجيب محفوظ‪ :‬حقل الدين‬
‫والفلسفة والثقافة‪ ،‬والتي بدأ يعبر عنها وينشرها في الصحف منذ ثالثينيات القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وهي آراء كانت متأثرة بدراسته لعلم الفلسفة‪ ،‬فاتسمت آراؤه األدبية‬
‫بعمق فلسفي‪ ،‬وظهرت ميوله األدبية السردية بخاصة‪ ،‬على مقاالته األدبية‪ ،‬وهو‬
‫إذ جمع األدب والفلسفة في عنوان واحد‪ ،‬فألنه يرى أن الحقلين متقاربان‪ ،‬بل‬
‫وربما يصدران من منبع واحد‪ ،‬ويخاطبان خيالاً واحدً ا‪ ،‬ويشكالن ً‬
‫معا ذائقة‬
‫واضحا من الحياة والكون‪.‬‬
‫ً‬ ‫متكاملة‪ ،‬يمكنها أن تمتلك رؤية‪ ،‬وموق ًفا‬
‫وتولد معتقدات» يرصد نجيب محفوظ‬
‫ومنذ مقال‪« :‬احتضار معتقدات‪ّ ..‬‬
‫تو ّلد االتجاهات السياسية والفلسفية الجديدة‪ ،‬التي ستهيمن فيما بعد على‬
‫مجمل القرن العشرين كله‪ ،‬وكيف أن المعتقدات القديمة التي قامت عليها‬
‫مدنيات بأسرها‪ ،‬تخضع لل َنقد والتحليل بل والتسفيه أحيانًا‪ ،‬فهي وإن كانت قد‬
‫عمرت قرونًا‪ ،‬فإنها تحتوي في باطنها على خرافات ال يقبلها‬
‫أقامت مدنيات ّ‬
‫ٍ‬
‫بحال من األحوال‪ ،‬وكانت غاية النقد الذي تتعرض له هذه المعتقدات‬ ‫العقل‬

‫‪11‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫معا‪ ،‬ونحن‬
‫أساسا لمدنيته‪ ،‬فقد آن األوان النهيارهما ً‬
‫القديمة‪ :‬أنه إذا كان معتقد ما ً‬
‫نشاهد في عصرنا هذا ‪ -‬ثالثينيات القرن العشرين ‪ -‬أن جميع العقائد القديمة؛‬
‫التي اطمأنت لها النفوس أجيالاً طويلة أخذت تتزعزع رويدً ا رويدً ا‪ ،‬وتتزحزح‬
‫عن مكانتها األولى شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬وذلك بنقد المفسرين الجدد لهذه المذاهب‬
‫والمعتقدات‪ ،‬لما كتبه المفسرون القدامى‪ ،‬ينطبق ذلك على الديانات‪ ،‬ومذاهب‬
‫الفلسفة وعلم االجتماع والعلوم السياسية‪ ،‬وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت بين‬
‫أيدينا مجموعة وافية من الكتب والقصص تبعث قراءتها على الشك في الماضي‬
‫بآرائه ومعتقداته‪ ،‬أو تدعو إلى مذهب جديد كاالشتراكية والعالمية‪.‬‬

‫إنها فلسفة ظهور الجديد‪ ،‬من رحم القديم كما يرصدها نجيب محفوظ‪،‬‬
‫الذي يبادر بجرأة‪ ،‬تصل إلى حد المجازفة‪ ،‬وإن أصبحت حقيقة واقعة فيما‬
‫بعد‪ ،‬يبادر فيتنبأ بالمذهب الجديد الذي سيسود العالم في القرن العشرين وهو‪:‬‬
‫االشتراكية‪ ،‬وذلك ما كان‪ ،‬ومن ضمن نبوءاته في هذا السياق‪ ،‬أن هذه االشتراكية‬
‫سوف تنهار‪ ،‬ولن تعمر طويلاً ‪ ،‬ذلك‪ ،‬كما يقرر‪ ،‬مطمئ ًنا لما ّ‬
‫قرر‪ ،‬غير متردد‪ :‬أن‬
‫سعادة االشتراكية الموعودة دنيوية تُنال في هذه الحياة‪ ،‬ال في حياة أخرى‪ ،‬وإنها‬
‫فينفض من‬
‫ُّ‬ ‫لذلك قد تعجز لسبب من األسباب عن إنجاز وعودها تامة‪ ،‬وعليه‬
‫ً‬
‫ونشاطا‪ ،‬ولكننا ال ننسى كذلك أن الكمال في الدنيا‬ ‫حولها أعظم مؤيديها حماسة‬
‫ضرب من المستحيالت‪.‬‬
‫والحقل الثاني هو السياسة والمجتمع والشباب‪ ،‬وهي تتناول قضايا غاية في‬
‫الخطورة‪ ،‬وال تزال تناقش في حياتنا حتى اليوم‪ ،‬وكأنه ال زمن َم َّر‪ ،‬وال ثورات‬
‫وغيرت مفاهيم البعض‪ ،‬وكأنه ال قرن انتهى‪ ،‬وبدأ آخر‪،‬‬
‫هبت‪ّ ،‬‬
‫وانتفاضات شعبية ّ‬
‫والتطور الحضاري‪ ،‬والقفزات‬
‫ّ‬ ‫بلغت فيه البشرية‪ ،‬ما بلغت من الرقي اإلنساني‬
‫تكنولوجيا‪ ،‬هذه القضايا تمث ّلت في‪ :‬أولاً ‪ :‬عالقة الدين بالمجتمع ودوره‬
‫ًّ‬ ‫المذهلة‬
‫‪12‬‬
‫مقدمـــة‬

‫التحضر أو الثبات‪ ،‬وعالقته بالديمقراطية بشكل خاص والعملية السياسية‬


‫َّ‬ ‫في‬
‫علما من العلوم‪ ،‬وال‬
‫بشكل عام‪ ،‬حيث يرى نجيب محفوظ‪« :‬أن الدين ليس ً‬
‫فرعا من المعرفة‪ ،‬ولكنه تربية روحية يتجلى جوهرها في المعاملة والسلوك‬
‫ً‬
‫والرؤية»‪.‬‬
‫وذلك في‪ :‬قسم «الدين»‪ ،‬والذي يضم مقاالت محفوظ في هذا المجال‪ ،‬وقد‬
‫قسما مستقلاً ‪،‬‬
‫موزعا في العديد من الكتب‪ ،‬وتم جمعه في هذه الطبعة ليصبح ً‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫تصورات وآراء محفوظ في الدين وعالقته‬
‫يمكنه أن يعطي صورة واضحة عن ّ‬
‫بالسياسة‪ ،‬وقد بدأت هذه المقاالت عام ‪1974‬م بمقال «الدين والمدرسة»‪،‬‬
‫وانتهت بمقال «توترات مرضية» عام ‪1994‬م‪ ،‬أي أنه يضم آراء نجيب محفوظ‪،‬‬
‫يتعرض الرجل للطعنة‬
‫على مدى عشرين عا ًما‪ ،‬وقد كتب المقال األخير قبل أن َّ‬
‫يقرب موضوع الدين في مقاالته أبدً ا‪،‬‬
‫الغادرة أمام منزله‪ ،‬ثم صمت بعدها ولم َ‬
‫توحش‪ ،‬قبل أن‬
‫ألن صحته وهنت من ناحية ومن ناحية ثانية ألن اإلرهاب كان قد َ‬
‫يعبر عن وجهة‬
‫تدخل الدولة معه معركة حامية وتقضي عليه مؤقتا‪ .‬وكان الرجل ّ‬
‫نظره ‪ -‬بعد ذلك‪ -‬عبر حواراته سوا ًء مع الكاتب محمد سلماوي‪ ،‬وهي حوارات‬
‫طويلة وممتدة‪ ،‬أو في حواراته للصحف والمجالت‪ ،‬وكان ال يرد طالب حوار‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫صغيرا أو ً‬
‫ً‬ ‫أبدً ا‪ ،‬ما دامت صحته تسمح به‪ ،‬سوا ًء كان هذا الطالب‬

‫متطرف إسالمي‪ ،‬كان يدافع عن حق‬


‫ّ‬ ‫على أن نجيب محفوظ‪ ،‬الذي طعنه‬
‫يعبر عن آرائها ومشروعها‬
‫التيارات اإلسالمية‪ ،‬وأهمية أن يكون لها حزب ِّ‬
‫الحضاري‪ ،‬وأن تكون جز ًءا من المعارضة الرشيدة التي تهدف إلى خدمة الوطن‪،‬‬
‫طبعا قبل أن يختبر الشعب المصري حكم جماعة‬
‫ال أن تستأثر به وحدها‪ ،‬وذلك ً‬
‫اإلخوان المسلمين لمدة عام من يونيو ‪ 2012‬حتى يونيو ‪2013‬م‪ ،‬وألن القدر‬
‫رحيما بنجيب محفوظ‪ ،‬فتوفي قبل أن يرى مأساة حكم التيارات اإلسالمية‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫‪13‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لمصر‪ ،‬وعلى أن ذلك ال ينتقص من آراء نجيب محفوظ‪ ،‬الليبرالي‪ ،‬المؤمن‬


‫بالحرية للجميع‪ ،‬ابن ثورة ‪1919‬م‪ ،‬التي كانت جامعة لكل أطياف الشعب‬
‫المصري بشكل عفوي‪ ،‬وكانت بداية تج ّلي الروح المصرية‪ .‬وفي هذا السياق‬
‫التطرف بلوغ‬
‫ّ‬ ‫يفرق نجيب محفوظ‪ ،‬بين التطرف واالنحراف‪ ،‬حيث‪« :‬يمثّل‬ ‫ِّ‬
‫الغاية القصوى في اإليمان بأية عقيدة‪ ،‬تنتمي إليه الصفوة المجاهدة المؤسسة‬
‫دائما وأبدً ا للبذل والتضحية بالنفس في سبيل‬
‫على العلم واألخالق‪ ،‬والمستعدة ً‬
‫المثل األعلى‪ ،‬أما االنحراف فهو الخروج عن الحدود بضغط من انفصال أهوج‬
‫مس ٍ‬
‫وق بالتضليل مندفع إلى األذى والعدوان»‪.‬‬ ‫قائم على الجهل‪ُ ،‬‬
‫والمتأمل لمقاالت نجيب محفوظ‪ ،‬في هذا المجال‪ ،‬يالحظ أنه يرجع‬
‫االنحراف الديني المسوق بالجهل‪ ،‬إلى تعليم الدين في المدارس‪ ،‬في مقاله‬
‫األول المكتوب عام ‪1974‬م‪ ،‬في مرحلة مبكرة من حياته‪ ،‬وهو المقال الذي‬ ‫َّ‬
‫يدعو فيه إلى «أن يكون درس الدين تربية روحية ُت َت َلقَّى في جو من التعاطف‬
‫واإلرشاد والمحبة‪ ،‬بعيدً ا عن معاناة الحفظ والتسميع والخوف من السقوط‪ ،‬مع‬
‫االقتناع الكامل بأن الدين ليس معرفة تحفظ‪ ،‬ولكنه معاملة وسلوك‪ ،‬تقوم عليها‬
‫الحياة اإلنسانية الكريمة»‪.‬‬
‫ويضع نجيب محفوظ خطة مبدئية لتدريس الدين في المدارس‪ ،‬حين يقول‪:‬‬
‫أتصور أن تكون السيرة هي العماد األول لهذه التربية بما هي حياة وسلوك‬
‫ّ‬ ‫«إنني‬
‫ورؤية ومثل أعلى‪ ،‬فتدرس السيرة النبوية بد ًءا من السنة األولى االبتدائية‪ ،‬حتى‬
‫السنة الثانية الثانوية‪ ،‬تعرض في السنة األولى في صورة مبسطة يسيرة‪ ،‬ثم تتدرج‬
‫في النمو والتفاصيل عا ًما بعد عام‪ ،‬وتتضمن من اآليات ما يناسب المقام‪ ،‬وما‬
‫تتطلبه الحاجة‪ ،‬فآيات الصالة ُت َق ّرر في سن معينة‪ ،‬كذلك آيات الصوم‪ ،‬مع التركيز‬
‫على آيات القيم واألخالق واألهداف اإلنسانية‪ ،‬وعلى أن يتم تقدير التلميذ في‬
‫‪14‬‬
‫مقدمـــة‬

‫الدرس ً‬
‫أيضا من خالل سلوكه بين أقرانه‪ ،‬ومعاملته لمدرسيه‪ ،‬موقفه من‬ ‫هذا َّ‬
‫تحصيل العلم‪ ،‬ورأيه في العدالة االجتماعية والعنصرية والتسامح الديني‪ ،‬وعدم‬
‫التعصب والوحدة القومية»‪.‬‬
‫ثم ال يترك نجيب محفوظ‪ ،‬قضية دينية أثيرت في زمنه دون أن يبدي رأيه‬
‫فيها‪ ،‬مثل حوادث الفتن الطائفية‪ ،‬واإلسالم وصراع المبادئ‪ ،‬والمناظرات‬
‫الدينية المدنية‪ ،‬والتجارب اإلسالمية‪ ،‬حيث يرى أنه‪« :‬تعاصرت تجارب‬
‫الس َلفي والثوري‬
‫شتى ما بين إيران وباكستان والسعودية ومصر وتركيا‪ ،‬منها َّ‬
‫والمعتدل والعلماني‪ ،‬وكل نظام يواجه الحياة بمقوماته الفكرية واجتهاداته‪،‬‬
‫متصدٍّ يا لتحديات الحياة المعاصرة‪ ،‬عاقدً ا العزم على التوفيق والنجاح‪ ،‬وسوف‬
‫يتقرر النجاح لهذا التيار أو ذاك وفقًا لما يحقق من نتائج ويحل من مشكالت‪،‬‬
‫ّ‬
‫لاَّ‬
‫وأعتقد أن الناجح هو الذي سيسود وينتشر‪ ،‬ولن ينجح ويسود إ بشروط منها‪:‬‬
‫أن يثبت أنه كفء للحياة المعاصرة‪ ،‬وأقدر على حل مشكالتها‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫معا‪ ،‬ومنها‪ :‬أن يحترم‬
‫يحقق العدالة االجتماعية والحرية الفردية واالجتماعية ً‬
‫قولاً وفعلاً حقوق اإلنسان»‪ .‬وقضايا أخرى مثل‪ :‬معنى العلم واإليمان‪ ،‬وحرية‬
‫الفكر‪ ،‬ورسالة الدين والشباب‪ ،‬وال عالج لالنحراف إلاَّ بالحضارة‪ ،‬وكيف‬
‫نعالج االنحراف‪ ،‬والصراع والحضارة‪ ،‬وما بين الصحوة واالنحراف‪ ،‬والدين‬
‫في العصر الحديث‪.‬‬

‫والحقل الثالث‪ ،‬هو العرب والعلم والتقدم‪ ،‬وفيه يحمل نجيب محفوظ على‬
‫فكرة «السياسي المستقل»‪ ،‬ويسأل نجيب محفوظ‪ :‬مستقل عن ماذا؟ فالسياسي‬
‫في نظر نجيب محفوظ َّإما يسار أو يمين أو وسط‪« :‬ما جدوى االستقالل اليوم؟‬
‫ما مغزاه‪ ،‬وما هدفه؟ ربما كان الشخص الذي لم يجد ذاته ال في اليمين وال في‬
‫الوسط وال في اليسار‪ ،‬وإنه الستقالل سلبي عجيب ينفي عن صاحبه أية هوية‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫يدعيه‪...‬‬
‫شخصا بال صفات سياسية حتى ليتعذر علينا تصديق ما ّ‬
‫ً‬ ‫ويجعل منه‬
‫وفي جميع األحوال فالترشيح على أساس االستقالل عودة إلى انتخاب‬
‫الشخص بصفته الشخصية ال كممثل لرأي ونحن نريد النتخاب «الرأي» أن يبرز‬
‫والنتخاب الشخص أن يندثر»‪ .‬االنتماء‪ ،‬في رأي نجيب محفوظ‪ ،‬هو أساس‬
‫العمل السياسي‪.‬‬

‫ويرى نجيب محفوظ‪ ،‬أن مهمة الحكومة‪ ،‬أية حكومة‪ ،‬هي التيسير على‬
‫الناس‪ ،‬وقضاء مصالحهم دون عنت أو تجهم‪ ،‬ودون أن يدخل في تفاصيل كثيرة‬
‫مرهقة يورد نص حوار بين موظف إنجليزي ومديره‪.‬‬

‫المدير‪ :‬إنك موظف بد ًءا من هذه الساعة‪ ،‬فهل تعرف ماذا يعني ذلك؟‬

‫الموظف‪ :‬إنه يعني أنني موظف‪.‬‬

‫المدير‪ :‬كلاَّ إنه يعني أنك خادم مدني‪ ،‬فهل تعرف ماذا يعني ذلك؟‬

‫الموظف‪ :‬إنه يعني أنني خادم مدني‪.‬‬

‫المدير‪ :‬كال إنه يعني أن تضع نفسك في خدمة كل من يقصد هذه الحجرة من‬
‫الجمهور‪ .‬وال تعليق‪.‬‬

‫يتبدى من هذه المقاالت بليبرالية‬


‫تتسم آراء نجيب محفوظ السياسية كما َّ‬
‫واضحة بل ناصعة‪ ،‬ومثله األعلى في ذلك سعد زغلول‪ ،‬ومصطفى النحاس‪،‬‬
‫اللذين يخاطبهما قائلاً ‪:‬‬

‫ً‬
‫تاريخا طيب السمعة‪ ،‬وأن‬ ‫زعيمي الراحلين‪ :‬كان المظنون أنكما أصبحتما‬
‫َّ‬ ‫«يا‬
‫رسالتكما قد انتهت بعدما أدت ما عليها‪ ،‬ولكن العالم فاجأنا بأعاجيب جديدة‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫مقدمـــة‬

‫قوة للحرية‬
‫فأصدر أقسى حكم عرفه الزمن على االستبداد والقهر‪ ،‬ودعا بكل ّ‬
‫واحترام حقوق اإلنسان‪ ،‬بما فيها العدالة االجتماعية‪ ،‬هكذا عادت مبادئكما‬
‫هد ًفا وغاية وأملاً لكل من يناضل اليوم أو يتط ّلع إلى غد أفضل»‪.‬‬
‫أخيرا‪ ،‬كيف تضافرت‪ ،‬أو تناقضت‪ ،‬هذه الرؤى في مقاالت نجيب محفوظ‪،‬‬
‫ً‬
‫عنها في رواياته‪ ،‬وهل موقف نجيب محفوظ في المقاالت‪ ،‬هو موقفه في الرواية‪،‬‬
‫وهل هو في الرواية ثوري‪ ،‬أم إصالحي كما في المقاالت لنرى‪.‬‬

‫)‪(2‬‬

‫بدا نجيب محفوظ في هذه المقاالت في دور الواعظ األخالقي‪ ،‬المطالب‬


‫بالديمقراطية على استحياء‪ ،‬والتغيير االجتماعي‪ ،‬بشكل إصالحي وليس‬
‫ثوريا‪ ،‬حتى أنه عندما سئل عن ثورة يوليو قال‪ :‬نعم فرحت بها ولكنها لم ِ‬
‫تأت‬ ‫ًّ‬
‫بالديمقراطية‪ ،‬هذا الجانب االجتماعي رأينا عكسه في روايات مثل اللص‬
‫والكالب عام ‪1962‬م‪ ،‬والسمان والخريف عام ‪1965‬م‪ ،‬وسنعتمدهما كمثالين‬
‫هنا‪ ،‬ألن قضاياهما مشتركة مع أغلب أفكار نجيب محفوظ في مقاالته اتفا ًقا‬
‫وتوضيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫واختال ًفا‬

‫روايتي «اللص والكالب»‪ ،‬و«السمان والخريف» يطرح نجيب محفوظ‬


‫ْ‬ ‫في‬
‫مسألة التغيير الثوري‪ ،‬ويحكم عليها بالفشل‪ .‬من خالل عامل بسيط يساعد الطلبة‬
‫في سكنهم‪ ،‬ويتعلم االشتراكية على يد طالب هو «رءوف علوان»‪ ،‬ويحدث أن‬
‫يسرق العامل‪ ،‬فيتوسط له أستاذه وهو ينصحه بأن السرقة حل فردي‪ ،‬والمطلوب‬
‫هو تغيير ثوري‪ ،‬لصالح الطبقات الفقيرة‪ ،‬ويطرد من منزل الطلبة‪ ،‬ومعه كتب‬
‫‪17‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫االشتراكية‪ ،‬ويسرق مرة أخرى‪ ،‬ولكن مساعده يشي به لدى البوليس‪ ،‬ويسجن‬
‫لمدة عامين‪ ،‬فتخونه زوجته مع مساعده‪.‬‬

‫«عليش ونبوية»هما بداية الثورة الحقيقية في نفس سعيد مهران‪ ،‬وبداية‬


‫خروجه الحقيقي على النمط االجتماعي السائد‪ ،‬فاختلطت رغبة التغيير لديه‬
‫بدافعين مهمين‪ :‬شخصي‪ ،‬واجتماعي‪ ،‬ثار على الخيانة والظروف التي دفعته‬
‫للسرقة‪ ،‬لهذا ستفشل ثورته كما سأشرح لك بعد قليل‪.‬‬

‫يغير الفرد‪ ،‬كما‬


‫يغير المجتمع بمفرده‪ ،‬بل المجتمع هو الذي ِّ‬
‫ألن الفرد ال ِّ‬
‫في رواية «السمان والخريف» فعيسى الدباغ سكرتير وزير الداخلية‪ ،‬يحاكم‬
‫في محاكم ثورة يوليو ألنه من النظام الملكي‪ ،‬ويظل يحلم بفشل ثورة يوليو‬
‫حتى يعود إلى مجده القديم‪ ،‬إلى أن يحدث العدوان الثالثي على مصر في عام‬
‫‪1965‬م‪ ،‬فيجتمع مع أصدقائه ويراهم فرحين في انتظار هزيمة مصر‪ ،‬فيقول لهم‬
‫باستنكار‪« :‬هل تريدون أن يهزمنا اليهود حقًّا»؟ ويبدأ في تغيير موقفه‪ ،‬شي ًئا فشي ًئا‪،‬‬
‫نجاحا يفرح إلى أن يندمج مع المظاهرات التي خرجت‬
‫ً‬ ‫وكلما حققت الثورة‬
‫تندِّ د بعدوان ‪1967‬م مع مصر‪ ،‬فتجرفه الجماهير في طريقها وهو مستسلم لها‪،‬‬
‫يغير الفرد‪ ،‬إذن وذلك عكس مقاالت نجيب محفوظ التي‬
‫المجتمع هو الذي ِّ‬
‫دائما إلى السلطة يطالبها باإلصالح وبالتغيير‪ ،‬ولم يحاول أن يعارض أي‬
‫تتوجه ً‬
‫نظام في مصر‪.‬‬

‫في مقاالته الدينية كما رأينا يدافع نجيب محفوظ عن حق المتدينين في تكوين‬
‫أحزاب خاصة بهم‪ ،‬وبالتالي تمثيلهم في البرلمان‪ ،‬باعتباره ليبراليا من أبناء ثورة‬
‫ملهما استثنائيا‪ ،‬بينما يظهر رجل الدين في‬
‫‪1919‬م‪ ،‬ويرى في الزعيم سعد زغلول ً‬
‫دائما عندما يلجأ إليه‬
‫سلبيا كما في رواية (اللص والكالب)‪ ،‬والذي يردد ً‬
‫رواياته ًّ‬
‫‪18‬‬
‫مقدمـــة‬

‫طالبا مساعدته يقول‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬


‫سعيد‪ ،‬باعتباره كان صديقًا لوالده ً‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾ [آل عمران‪:‬‬
‫توضأ واقرأ‪ ،‬ورجل الدين في رواية‪( :‬الباقي من الزمن ساعة)‪1977 ،‬م‪،‬‬
‫‪ ]31‬أو‪ّ :‬‬
‫ناقم‪ ،‬كاره للمجتمع‪ ،‬رافض له دون مبرر‪ ،‬ودون رؤية شاملة إلصالحه‪ ،‬إلاَّ على‬
‫طريقته‪ ،‬المدهش أن الرجل الذي طعن نجيب محفوظ في عام ‪1994‬م لم يقرأ له‬
‫حر ًفا‪ ،‬ال من مقاالته وال من رواياته‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬وفي‬
‫والخالصة أن موقف نجيب محفوظ من الدين في الرواية سلبي ًّ‬
‫جدا‪.‬‬
‫المقال إيجابي ًّ‬
‫السؤال‪ :‬أي الموقفين يعبر عن شخص نجيب محفوظ؟‬
‫أعتقد أنه موقفه في الرواية‪.‬‬
‫معا موقف نجيب محفوظ من الدين في أحد حواراته مع محاورة‬
‫ولنتأمل ً‬
‫أجنبية هي «تشارلوت الشبراوي» لصالح مجلة باريس ريفيو‪:‬‬
‫ما رأيك في قضية سلمان رشدي‪ ..‬هل تعتقد أن الكاتب ينبغي أن يحظى‬
‫بحرية مطلقة؟ يجيب نجيب محفوظ‪:‬‬
‫«سأقول لك بالضبط ما أعتقد به‪ :‬لكل مجتمع تقاليده‪ ،‬وقوانينه ومعتقداته‬
‫جميعا تحاول وضع الحدود‪ ...‬وأعتقد أن من حق المجتمع أن‬
‫ً‬ ‫الدينية‪ ،‬وهذه‬
‫يحمي نفسه‪ ،‬كما أن للفرد الحق في مهاجمة ما يختلف معه‪ ...‬ثم‪ :‬أنا أدافع عن‬
‫حرية التعبير وعن حق المجتمع في مناهضتها‪.‬‬
‫تسأله الصحفية‪ :‬هل قرأت رواية «آيات شيطانية»؟‬

‫فيجيب لم أقرأها‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إن نجيب محفوظ دارس للفلسفة‪ ،‬وخريج آداب القاهرة‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬وبدأ‬
‫مقاالته بالكتابة في الفلسفة‪ ،‬دون موقف واضح من أية فلسفة ال مع أو ضد‪ ،‬بل‬
‫اقتصرت مقاالته التي شكلت ثلث المجلد األول‪ ،‬على شرح النظريات الفلسفية‬
‫جدا للفلسفة الوجودية‪،‬‬ ‫باستفاضة‪ ،‬وكأنه كان ِّ‬
‫يذكر بها نفسه‪ ،‬فيما هو مخلص ًّ‬
‫روايتي «الشحاذ»‪ ،‬و«الطريق»‪ ،‬فالسؤال األهم فيهما‪ ،‬من أنا؟ وما الله؟‬
‫ْ‬ ‫كما في‬
‫بالتصوف كما في رواية‬
‫ّ‬ ‫وأين هو؟ وما تأثيره في حياتنا‪ ،‬ويحل هذه األسئلة كلها‬
‫«قلب الليل»‪.‬‬

‫موقف نجيب محفوظ من المرأة‪ ،‬وهي قضية اجتماعية غاية في الخطورة‬


‫نادرا‪ ،‬في مقال‬
‫ً‬ ‫في المجتمع الشرقي‪ ،‬في مقاالته‪ ،‬ال يذكر محفوظ المرأة إلاَّ‬
‫أو اثنين‪ ،‬وال يقف طويلاً أمام مشكالتها‪ .‬بينما في رواياته ينتصر للمرأة الحرة‪،‬‬
‫التي تمتلك حياتها‪ ،‬وتتصرف فيها كما تشاء‪ ،‬بل يصل األمر إلى حد اإلعالء‬
‫من شأن «بنت الليل»‪ ،‬كما في رواية «اللص والكالب» فيضع شخصية «نور»‬
‫الحرة‪ ،‬الخالقة‪ ،‬اإليجابية‪ ،‬في مقابل «نبوية» زوجة سعيد مهران‪ ،‬الخائنة‪ ،‬هو‬
‫يكره المرأة النمطية‪ ،‬الخاضعة لقوانين المجتمع الذكوري‪ ،‬وكذلك شخصية‬
‫«ريري» في رواية «السمان والخريف»‪ ،‬يضعها في مقابل البطل «عيسى الدباغ»‬
‫الفاسد المنتهك لحقوق اإلنسان‪ ،‬هي قوية وإيجابية‪ ،‬ومتعاونة هربت من أهلها‬
‫في البحيرة‪ ،‬لكيال تتزوج من رجل كهل‪ ،‬يفرضه أهلها عليها‪ ،‬لتختار حياة الليل‪،‬‬
‫كبيرا‪ ،‬وغارق في القمار‪،‬‬
‫ً‬ ‫وهو فاسد‪ ،‬سكير‪ ،‬يبيع نفسه المرأة عاقر‪ ،‬تملك منزلاً‬
‫يبكي على حياته الضائعة أيام العز‪ ،‬وقت أن كان في السلطة‪ ،‬يتحكم في رقاب‬
‫الناس بإذاللهم‪ .‬حتى إنها عندما حملت منه «ريري» لم تنسب الطفلة إليه‪ ،‬بل‬
‫رفضت حتى أن يراها‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫مقدمـــة‬

‫وفي الحوار الذي أشرت إليه مع «باريس ريفيو» تسأله الصحفية‪:‬‬

‫«ماذا عن النساء الالتي يغطين رءوسهن‪ ،‬بل ووجوههن وأيديهن‪ ،‬هل هذا‬
‫مثال على الدين‪ ،‬إذ يناقض احتياجات الحضارة؟‬

‫يقول نجيب محفوظ‪:‬‬

‫تغطية الرأس باتت موضة‪ ،‬وهي ال تعني أكثر من هذا في الغالب‪ ،‬لكن ما‬
‫هدام معارض تما ًما لإلنسانية)*(‪.‬‬
‫تطور ّ‬
‫التعصب الديني‪ ..‬ذلك ّ‬
‫ُّ‬ ‫أخشاه بحق هو‬

‫ثوريا‪ ،‬فالمجتمعات تكره‬


‫ًّ‬ ‫في النهاية نجيب محفوظ إصالحي وليس‬
‫الثوريين‪ ،‬رغم إنجازاتهم‪ ،‬وتحب اإلصالحين‪.‬‬

‫)‪(3‬‬

‫الثورة عادة الشعب المصري والنسيان عادة الشعب المصري ً‬


‫أيضا‪ .‬ومادام‬
‫هناك عادة ونسيان‪ ،‬فكل شيء ممكن‪.‬‬

‫واحد من هذا الشعب الذي يثور وينسى‪ :‬نجيب محفوظ ‪2006-1911‬م‬


‫االبن المخلص‪ ،‬والكاتب المضروب بالحنين الجارف والممض لثورة‬
‫‪1919‬م‪ ،‬يراها الثورة األكمل والنموذج الذي تقاس به الثورات‪ ،‬فهي في رأيه‪،‬‬
‫خلقت الحرية ورسختها في الوجدان المصري‪ ،‬هي أم الليبرالية الحقة التي‬
‫مرت كسحابة عابرة في تاريخ مصر والمصريين‪ ،‬جاءها ثوار يوليو فافتضوا‬

‫)*( «بيت حافل بالمجانين» ترجمة أحمد شافعي ‪ -‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‬
‫‪2016‬م‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نهارا‪ ،‬وبين‬
‫جهارا ً‬
‫ً‬ ‫بكارتها‪ ،‬وأكملت التيارات اإلسالمية السياسية اغتصابها‬
‫ثورة الجيش واإلسالميين ‪ -‬كما جرى مع ‪ 25‬من يناير ‪2011‬م بالضبط ‪ -‬تأتي‬
‫تأمالت نجيب محفوظ المبدع كاشفة مريرة كالقمع والتضييق واألحادية‪ ،‬حادة‬
‫كتوثب الطموح إلى الحرية‪ ،‬عنيفة كالتوق إلى االستقالل والتحرر والعيش‬
‫بكرامة‪ ،‬والمحصلة خطها نجيب بنفسه في (السمان والخريف)‪« :‬التعاسة‪.‬‬
‫التعاسة قاسم مشترك أعظم بين الجميع»‪ ،‬فما أحقر المظاهر‪ ،‬في معارك التغيير‬
‫يكثر المتخاصمون‪ ،‬وتتطاحن التيارات حد اإلقصاء لكن نجيب يخبر الجميع‪:‬‬
‫جميعا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫«التاريخ واسع الصدر‪ ،‬وسيدافع عن نفسه‪ ،‬بعد انقراض المتخاصمين‬
‫جليا‬
‫ًّ‬ ‫فكرة التغيير بالثورة‪ ،‬تأخذ لدى محفوظ شكلين محددين متناقضين‪ ،‬تمثلاً‬
‫في روايتيه «اللص والكالب» و«السمان والخريف» وقد نشرتا متتاليتين في عامي‬
‫‪1962-1961‬م في األولى «سعيد مهران»‪ :‬النيتشوي (نسبة إلى الفيلسوف األلماني‬
‫نيتشه) المؤمن بدور الفرد في التغيير‪ ،‬وفى الثانية‪« :‬عيسى الدباغ»؛ المهزوم‬
‫المنسحق الذي توارى حزبه في الظالم‪ ،‬فضاع طموح الصعود‪ ،‬يقف في وجه ثورة‬
‫يوليو بقسوة‪ ،‬وفى الحالتين نتعرف رأي نجيب في فكرة الثورة‪ ،‬هو الذي يقول على‬
‫لسان عيسى الدباغ‪« :‬إن المصريين زواحف ال طيور»‪ ،‬فهل ينجح الفرد في التغيير‬
‫منفر ًدا‪ ،‬حتى لو كان على حق؟ أم أن الجماعة وحدها حين تتوحد‪ ،‬تستطيع فعل‬
‫ذلك التغيير‪ ،‬نجيب محفوظ‪ ،‬ال يثق في الفرد الوحيد‪ ،‬إنه يؤمن بالجماعة متحدة‪.‬‬
‫سعيد مهران‪ .‬اللص المثقف‪ ،‬المؤمن باألفكار االشتراكية‪ ،‬وقد تشربها على‬
‫يدي رءوف علوان‪ ،‬تصدمه الخيانة من َصبِ ِّيه «عليش»‪ ،‬فيدخل السجن ثم تتفاقم‬
‫الخيانة‪ ،‬بأن يتزوج عليش زوجة سعيد مهران‪« :‬نبوية»‪ ،‬وهو واحد خسر الكثير‪،‬‬
‫غدرا‪ ،‬وسيقف عما قريب أمام الجميع‬
‫حتى األعوام الغالية خسر منها أربعة ً‬
‫متحديا‪ ،‬وتستبد به الرغبة في االنتقام فيواجه كل خائنيه‪« :‬آن للغضب أن ينفجر‬
‫ًّ‬
‫‪22‬‬
‫مقدمـــة‬

‫وأن يحرق‪ ،‬وللخونة أن ييأسوا حتى الموت‪ ،‬وللخيانة أن تك ِّفر عن سحنتها‬


‫اسما واحدً ا؟ أنتما تعمالن لهذا‬
‫الشائهة‪ ،‬نبوبة عليش‪ ،‬كيف انقلب االسمان ً‬
‫وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح‪ ،‬ولعلكما تترقبان في‬
‫ً‬ ‫اليوم ألف حساب‬
‫حذر‪ ،‬ولن أقع في الفخ‪ ،‬ولكنني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر»‪.‬‬
‫وقبل االنتقام المباشر من نبوية وعليش يلوذ سعيد مهران بأستاذه‪:‬‬
‫أيضا‪ ،‬وتطبق القبضة على روح سعيد‪ ،‬فيهذي‬ ‫«رءوف علوان» فيخذله ً‬
‫اللص‪ ،‬محمو ًما تحت رغبة االنتقام وتغيير مصيره‪ ،‬حتى رءوف علوان‬
‫أستاذه‪« :‬هذا هو رءوف علوان‪ .‬الحقيقة العارية‪ .‬جثة عفنة ال يواريها تراب‪.‬‬
‫أنت ال تنخدع بالمظاهر‪ ،‬فالكالم الطيب َم ْكر‪ ،‬واالبتسامة شفة تتقلص‪،‬‬
‫الجود حركة دفاع من أنامل اليد‪ ،‬ولوال الحياء ما أذن لك بتجاوز العتبة»‪.‬‬
‫يطوح نجيب محفوظ‪ ،‬بطله بين اليأس والرجاء‪ ،‬يتعاطف معه‪ ،‬يغرقه في حفر‬ ‫ِّ‬
‫الظالم‪ ،‬وهو على حق‪ ،‬وكل المزيفين ينعمون بالنجومية والعيش الرغيد‪،‬‬
‫يغير‬
‫يتقوقع سعيد مهران على أحزانه الذاتية‪ ،‬ال يفكر في جمع أنصار يؤمنون به ِّ‬
‫بهم‪ ،‬يرغب وحده في االنتقام‪ ،‬واالنتقام ال يأتي بحق‪ ،‬بينما أعداؤه يتخندقون‬
‫وسط األنصار‪ ،‬فيكون النجاح حليفهم‪ ،‬عليش بين أنصاره‪ ،‬ورءوف يتحالف مع‬
‫البوليس في مواجهة الفرد‪ ،‬رءوف علوان‪« :‬تخلقني ثم ترتد‪ ،‬تغير بكل بساطة‬
‫ضائعا بال أصل وبال قيمة‪،‬‬
‫ً‬ ‫تجسد في شخصي كي أجد نفسي‬ ‫فكرك بعد أن َّ‬
‫وبال أمل‪ .‬خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكا ما شفيت نفسي»‪.‬‬

‫يوغل سعيد مهران في الدم‪ ،‬محاولاً تغيير الواقع‪ ،‬سعيد مهران مثالي‬
‫نيتشوي‪ ،‬يؤمن بدور الفرد في التغيير على طريقة الفيلسوف األلماني نيتشه‪« ،‬قمة‬
‫النجاح أن يقتال معا‪ ،‬نبوية وعليش‪ ،‬وما فوق ذلك يصفى الحساب مع رءوف‬
‫علوان‪ ،‬ثم الهرب‪ ،‬الهرب إلى الخارج إن أمكن»‪ .‬نجاة فردية ذاتية‪ ،‬لن يكتب‬

‫‪23‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لها النجاح أبدً ا‪ ،‬تطيش الرصاصات ويموت أبرياء‪ ،‬وينجو رءوف علوان بحنكة‪،‬‬
‫ويغير عليش مسكنه فيفتديه آخرون‪ ،‬حكم على االنتقام بالفشل‪« :‬أال يغفرون‬
‫للمسدس خطأه وهو ربهم األعلى‪ ،‬إن من يقتلني إنما يقتل الماليين‪ ،‬أنا الحلم‬
‫واألمل وفدية الجبناء‪ ،‬أنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه»‪.‬‬

‫لم يبق أمام سعيد إلاَّ الحل الديني‪ ،‬وهو فردى ً‬


‫أيضا‪ ،‬يذهب إلى الشيخ‬
‫«علي الجنيدي» فيواجه بالحكمة واالستقرار والسكون واالستسالم للغيب‬
‫دورا للدين في الحياة‬
‫والسلبية‪ ،‬على عكس المقاالت التي يرى فيها محفوظ ً‬
‫العامة ويطالب بأحزاب للتيارات الدينية‪ ،‬وهنا لن يساعده الدين في مسعاه‪:‬‬
‫«هرب األوغاد كيف بعد ذلك استقر؟ يقول سعيد‪ .‬ويسأل الشيخ‪ :‬كم عددهم؟‬
‫يرد‪ :‬ثالثة‪ .‬يناجيه الشيخ‪« :‬طوبى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثالثة» عالمان‬
‫ال يلتقيان عالم الغيب والتصوف‪ ،‬وعالم األحياء الراغبين في العيش واالنتقام‬
‫وينتهي األمر‪« :‬بل المجرمون ينجون ويسقط األبرياء»‪.‬‬

‫وتأتي الخاتمة الطبيعية‪ ،‬يفشل الفرد‪ ،‬وينتصر المجموع عليه‪ ،‬ويموت سعيد‬
‫موضوعا‬
‫ً‬ ‫وضعا وال‬
‫مهران بعد مقاومة باسلة‪ ،‬لكن الوضع ال يتغير‪« :‬لم يعرف لنفسه ً‬
‫وال غاية‪ ،‬وجاهد بكل قوة ليسيطر على شيء ما‪ ،‬ليبذل مقاومة أخيرة‪ ،‬ليظفر‬
‫وأخيرا لم يجد ُب ًّدا من االستسالم فاستسلم بال مباالة‪.‬‬
‫ً‬ ‫عبثًا بذكرى مستعصية‪.‬‬
‫بال مباالة»‪.‬‬
‫على عكس سعيد مهران في «اللص والكالب» يأتي عيسى الدباغ بعده بعام‬
‫واحد في «السمان والخريف» يبدأ عيسى من الذروة‪ ،‬ذروة المجد‪ ،‬وعسل‬
‫الطموح‪ ،‬وسكرة المستقبل المشرق‪ ،‬في وضع فاسد‪ ،‬يستنيم له عيسى الدباغ‪،‬‬
‫وال يحاول تغييره‪ ،‬هو المستفيد من وضعه مدير مكتب وزير الداخلية‪ ،‬في‬
‫‪24‬‬
‫مقدمـــة‬

‫حكومة الوفد‪ ،‬قبل ثورة يوليو‪ ،‬وقد أطاحت الثورة بالجميع‪ ،‬باألحزاب والملك‪،‬‬
‫واألعيان والباشاوات‪ ،‬موقفا سعيد مهران وعيسى الدباغ يعبران عن موقف ورؤية‬
‫نجيب محفوظ من التغيير‪ ،‬كان نجيب قد بدأ نقده يتدفق مع غياب الديمقراطية‬
‫التي وعدت الثورة بها‪ ،‬ولم تتحقق‪ ،‬بعد أن ظل صام ًتا منذ عام ‪ 1949‬حتى عام‬
‫الثوار بديمقراطية ثورة‬
‫‪1956‬م‪ ،‬وعندما عاد إلى عالمه‪ ،‬رجع إلى الوراء‪ ،‬ليذكر ّ‬
‫‪1919‬م في الثالثية‪ ،‬وبعدها مباشرة َّبين الوجه اآلخر لديكتاتورية ثورة يوليو في‬
‫«اللص والكالب» وواصل بتعاطف في «السمان والخريف» قبل أن يغرق في‬
‫الرمزية في‪« :‬دنيا الله» و«الطريق» و«بيت سيء السمعة» و«الشحاذ» ليضرب‬
‫ضربته الكبرى قبل نكسة ‪1967‬م في «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» و«أوالد‬
‫حارتنا»‪.‬‬

‫مندمجا في ثورة‬
‫ً‬ ‫كيف إذن تغير عيسى الدباغ على وهن وببطء؟ متعاط ًفا ثم‬
‫يوليو‪ ،‬وهو موقف نجيب نفسه‪ ،‬في التعاطف واإليمان‪ ،‬هذا التغيير مر بعدة‬
‫محطات‪ ،‬الرفض المطلق للثورة ألنها غيرت ما لم يستطع حزبه تغييره‪« :‬أم أن‬
‫تحقيق هدف من أهدافنا الكبرى‪ ،‬يعنى في الوقت ذاته زوال سبب من أسباب‬
‫حماسنا للوجود؟» أم أنه عز عليه أن يتحقق هذا النصر الكبير ـ مغادرة الملك‬
‫للبالد ـ من غير أن يكون لحزبه الفضل األول فيه؟»‪.‬‬

‫تستمر المقاومة العنيفة للثورة‪ ،‬التي تشتعل في كل األنحاء‪ ،‬فالجماهير‬


‫تسير مع الثورة بقوة‪ ،‬وعيسى ينطوي على نفسه‪ ،‬ويغرق في إحباطه‪ ،‬وقد فصلته‬
‫محكمة التطهير من عمله‪«:‬هذا الوجه الذي كان َّ‬
‫مرش ًحا للصفحات األولى من‬
‫الصحف‪ ،‬ما باله يندثر كالديناصور عمالق األساطير البائدة‪ ،‬وكالشاي الذي‬
‫تحتسيه؛ المقتلع من أرضه الطيبة في سيالن‪ ،‬ليستقر آخر األمر في مجاري‬
‫القاهرة‪ ،‬وإذا علوت بضعة آالف من األقدام في الفضاء فلن ترى فوق سطح‬
‫‪25‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حيا‪ ،‬ولن تسمع صوتا‪ ،‬إذ يذوب كل شيء في حقارة رهيبة كونية»‪.‬‬
‫األرض ًّ‬
‫ومحطة أخرى‪ ،‬تقر بنهاية عيسى الدباغ المنفصل عن شعبه‪« :‬وأغمض عيسى‬
‫عينيه ليرى الماضي فترة حية من نبض القلب‪ ،‬هدير المجد يخلد في األسماع‬
‫وهراوات الجنود كالصواريخ والحماس المهلك لألنفس ثم اإلغراء الموهن‬
‫للهم‪ ،‬وزحف الفتور كالمرض‪ ،‬ثم الزلزال دون نذير كلب‪ ،‬ونشدان العزاء عند‬
‫قلب أجوف»‪.‬‬

‫ويكتمل العدم‪« :‬كيف يكون للحجر دور في المسرحية؟ وللحشرة دور؟‬


‫وللمحكوم عليه في الجبل دور؟ وأنا ال دور لي»‪ .‬لكن الثورة المدعومة‬
‫بالجماهير‪ ،‬تحقق النجاح تلو النجاح‪ ،‬ويبدأ التغيير يدخل على قلب عيسى‪،‬‬
‫تعاطف معها بحذر في البداية‪« :‬الحقيقة أن عقلي يقتنع أحيانًا بالثورة‪ ،‬ولكن‬
‫دائما مع الماضي‪ ،‬والمسألة هل يمكن التوفيق بين عقلي وقلبي؟» ويهيئ‬
‫قلبي ً‬
‫نجيب محفوظ بطله للتغيير‪ ،‬فتقع حرب العدوان الثالثي على مصر‪ ،‬يفرح بقايا‬
‫الباشاوات‪ ،‬بأن نهاية العسكر على وشك الوقوع‪ ،‬وسيعودون إلى سيرتهم‬
‫األولى‪ ،‬وقد خلصتهم الثورة من الملك‪ ،‬سيحكمون دون كدر من معارضة‪،‬‬
‫سيعود المجد واألطيان والقصور والعروش‪ ،‬لكن العدوان يسفر عن نصر تحققه‬
‫«أتودون حقا أن يهزمنا اليهود؟»‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫دولة صغيرة‪ :‬فيهتف عيسى الدباغ في رفاقه‪:‬‬
‫«أجل تأرجح مصير الثورة في الميزان‪ ،‬ولكن انفجر شعوره الوطني فطغى على‬
‫كل شيء‪ ،‬غضب الغضبة الجديرة بالوطني القديم الذي كاد يدركه الموت‪،‬‬
‫الوطني القديم الذي تعذب‪ ،‬بالرغم من تلوثه من أجل مصر»‪.‬‬

‫ومع كل نجاح للثورة‪ ،‬وكل زحف للجماهير تتبدل مشاعر عيسى‪ ،‬يشعر بقلق‬
‫من انفصاله عن شعبه‪« :‬أي مصيدة وقعنا فيها! إنه التخبط والتمزق والعذاب‪ ،‬إما‬
‫‪26‬‬
‫مقدمـــة‬

‫أن نخون الوطن أو نخون أنفسنا‪ ،‬ولكن الهزيمة في هذه المعركة تعنى بالنسبة لي‬
‫شي ًئا هو أفظع من الموت»‪ .‬الجماهير أقوى من الفرد‪ ،‬الجماهير تصنع التغيير‪،‬‬
‫والفرد البد ملتحق بها‪ ،‬ال العكس‪ ،‬فشل سعيد مهران‪ ،‬وتغير عيسى الدباغ ناحية‬
‫الجماهير‪« :‬أحيانا أقول لنفسي إن الموت أهون من الرجوع إلى الوراء‪ ،‬وأحيانا‬
‫أقول لنفسي لئن نبقى بال دور في بلد له دور‪ ،‬خير من أن يكون لنا دور في بلد‬
‫ال دور له»‪.‬‬

‫الرجوع إلى الوراء‪ ،‬غير ممكن‪ ،‬استعادة المجد الذاتي والثراء الفردي‪ ،‬في‬
‫وطن يضرب بالقنابل من كل صوب‪ ،‬هي المستحيل عينه‪ ،‬وتحت وقع القنابل‬
‫التي تقذفها جيوش العدوان الثالثي‪ :‬أمسى كالغريق ال يفكر إلاَّ في النجاة‪ ،‬وخيل‬
‫إليه أن الحاجز القائم بينه وبين الثورة يذوب بسرعة لم تخطر له ببال من قبل‪.‬‬
‫نجحت الثورة نجاحها النهائي واستقر لها األمر‪ ،‬وهو جالس تحت تمثال‬
‫سعد زغلول وحيدً ا‪ ،‬يجتر ذكريات الماضي‪ ،‬ذكرى الثراء والمجد‪ ،‬في الظالم‬
‫تحت التمثال‪ ،‬لكن ً‬
‫نقاشا جاء مصادفة مع شاب من المتحمسين للثورة يقضي‬
‫على بقية المقاومة‪ ،‬ويدخل عيسى في قلب الجماهير التي غيرته على رغمه‪،‬‬
‫قائما في نشوة حماسة مفاجئة‪ ،‬ومضى في طريق‬
‫ليصير واحدً ا منهم‪« :‬انتفض ً‬
‫الشاب بخطى واسعة تاركا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظالم»‪.‬‬
‫هذا درس الكبير نجيب محفوظ للمنتفعين وتجار األوطان‪ ،‬كما عالجه‬
‫صراحة في مقاالته السياسية‪« :‬أيها اإلخوة‪ .‬الفرد ال يغير الوطن‪ ،‬الوطن يغير‬
‫الجميع‪ ،‬التيار الواحد ال يخطف الوطن‪ ،‬الوطن يخطف كل التيارات»‪ .‬يقول‬
‫محفوظ‪« :‬التاريخ واسع الصدر وسيدافع عن نفسه بعد انقراض المتخاصمين‬
‫جميعا»‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وكما بدا من مقاالت نجيب محفوظ السياسية‪ ،‬موقفه الواضح من السياسي‬


‫يدعي االستقالل‪ ،‬بتعبير ّ‬
‫مهذب‪ ،‬وهو في الحقيقة متلون مع كل تيار‪،‬‬ ‫الذي ّ‬
‫ومتحول مع كل اتجاه فالوطن وليمة‪ ،‬والثورة وليمة‪ ،‬واآلخرون في رأي‬
‫ّ‬
‫المتحول‪ ،‬مجرد آخرين طامعين‪ ،‬ينافسون على قطعة من الوليمة‪ ،‬إذن فليأت‬
‫فرحا بانتصار األعداء على الوطن‪ ،‬وهذا‬
‫الغرباء ليساعدوه في القضم والصعود‪ً ،‬‬
‫هو الحوار األخير للمتحول مع البطل‪ ،‬تحية من نجيب محفوظ‪« :‬وزاره إبراهيم‬
‫جادا‬
‫خيرت عصر يوم في طريقه إلى مكتبه في المدينة‪ ،‬بدا شديد الثقة بنفسه ًّ‬
‫وقال‪ :‬إن هي إلاَّ ساعات ثم تنتهي المأساة (أي تفشل ثورة يوليو) ثم‪ :‬بعض‬
‫رجالنا‪« :‬مبثوثون في الوزارات»‪.‬‬
‫المتحول‪ :‬انتهازي أصيل‬
‫الوطن بالنسبة له سفينة‪ ،‬مجرد ناقل‪ ،‬يركبه لينتقل من ظرف اجتماعي يحياه‬
‫ومتطورا‬
‫ً‬ ‫جيدا‪ ،‬كان الوطن متقد ًما‬
‫إلى آخر يتمناه‪ ،‬فإذا كان ظرفه االجتماعي ِّ‬
‫وديمقراطيا‪ ،‬وينبغي الحفاظ عليه‪ ،‬ولباس الوطنية سهل ارتداؤه‪ ،‬والحرب ضد‬
‫ًّ‬
‫أعداء الوطن فريضة واجبة‪ ،‬سواء كانوا معارضين في الداخل‪ ،‬يرون ما ال يراه‪ ،‬أم‬
‫متدنيا‪ ،‬فالوطن كله‬
‫ًّ‬ ‫كانوا أعداء خارجيين متوهمين‪ .‬أما إذا كان ظرفه االجتماعي‬
‫يعيش هذا الوضع‪ ،‬إنه يماهي بين وضعه وبين وضع الوطن‪ ،‬وهنا تكون الثورة‬
‫لباسا يصعب ارتداؤه‪ ،‬لكن ال مفر منه‪ ،‬فليذهب الجميع إلى الجحيم‪ ،‬وأنا لست‬
‫ً‬
‫معهم‪ ،‬سيناضلون من أجل التغيير‪ ،‬وإن نجحوا فأنا الساخط األول‪« :‬وسنزداد‬
‫ً‬
‫ضحكا كلما رأينا التاريخ‪ ،‬وهو يصنع لنا دون أن نشارك فيه كأننا األغوات»‪ .‬وإذا‬
‫نجحوا فأنا الثائر األول‪ ،‬أنا دمعة الساخط‪ ،‬وقلب اليائس‪ ،‬وأنا إقدام الشهيد‪،‬‬
‫ولوعة المصاب‪ ،‬وحزن الثكلى‪ ،‬وليس المعزي كالثاكل»‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫مقدمـــة‬

‫الوطن بالنسبة للمتحول سفينة‪ ،‬تق ِّله إلى الرفاه االجتماعي‪ ،‬واألنانية أقبح‬
‫رذيلة في األرض‪ ،‬وأسمى انتهازية عرفتها البشرية‪« ،‬إن نجحنا فبها ونعمت‪ ،‬وإن‬
‫هلكنا فليطبق اليأس‪ ،‬ويفنى الكون ولتترحم البشرية على طموح قاتل‪ ،‬وطامح‬
‫مقتول»‪ .‬لكن التاريخ كما يقول نجيب محفوظ‪« :‬واسع الصدر»‪.‬‬

‫نجيب محفوظ‪ ،‬أبرع من رسم شخصية المتحول‪ ،‬في الرواية وفي مقاالته ألن‬
‫نجيب نفسه‪ ،‬شخصية حدية‪ ،‬ظل ثاب ًتا على موقفه القديم‪ ،‬عاشقًا لثورة ‪1919‬م‪،‬‬
‫وتشريحا‪ ،‬وهو كان يرى شخصيات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متشككا في ثورة يوليو‪ ،‬أشبعها نقدً ا‬ ‫متخو ًفا‬
‫المتحولين ويحتقرهم‪ ،‬حتى إنه رسم صورة جسدية ونفسية للمتحول غاية في‬
‫الحقارة في رواية «السمان والخريف»‪« .‬وهو لضآلة جسمه‪ ،‬وقصر قامته‪ ،‬يقعد‬
‫قريبا من حافة الكرسي ليتمكن من إيصال قدميه إلى األرض‪ ،‬ويعقد جبينه في‬
‫ً‬
‫مقدمة رأسه الضخم ليضفي على شخصيته جدية تصد عنها الهازلين»‪.‬‬

‫لكن البطل عيسى الدباغ‪ ،‬ال تغيب عنه تحوالته الفكرية والسياسية‪ ،‬األصل‬
‫االجتماعي ضاغط وحاكم‪ ،‬يصفه عيسى‪ ،‬وكأنما يحاكم في شخصه شريحة‬
‫اجتماعية‪ ،‬اعتادت القفز من أية سفينة‪ ،‬وركبت كل مركب‪« :‬ها هو إبراهيم‬
‫خيرت‪ ،‬المحامى وعضو مجلس النواب السابق‪ ،‬يتحمس للثورة بقلمه في أكثر‬
‫طبعا‪،‬‬
‫من صحيفة كأنه ضابط من رجالها‪ ،‬ويهاجم األحزاب‪ ،‬وحزبه ضمنها ً‬
‫والعهد البائد كأنما لم يكن أحد رجاله»‪.‬‬

‫دائما في عودة الماضي‪ ،‬يريد أن يحافظ على مكاسبه مع القادة‬


‫المتحول يأمل ً‬
‫الجدد‪ ،‬ويريد االحتفاظ بوضعه السياسي السابق‪ ،‬والوضع الجديد ال يقضي على‬
‫فدائما هناك بقايا منتشرون في الهيئات والشركات‪ ،‬يقدمون الخدمات‬
‫القديم تما ًما‪ً ،‬‬
‫لرفاق األمس‪ ،‬فإبراهيم خيرت‪ ،‬كما جسده نجيب محفوظ وبرغم محاباته لثوار‬
‫‪29‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫يوليو العسكريين‪ ،‬ونفاقه لهم بقلمه‪ ،‬ال يزال يأمل في عودة حزبه‪ ،‬أو على األقل أن‬
‫مخاطبا رفيقه «سمير‬
‫ً‬ ‫يقوم له زمالء األمس المبثوثون في الشركات بواجبهم‪ ،‬فيقول‬
‫عبد الباقي» الذي تحول بدوره تحت وقع الثورة إلى التصوف‪ ،‬يقول إبراهيم‪:‬‬
‫«ال تنس أن رجالنا منتشرون في الشركات»‪« .‬ها هو يتكلم عنهم فيقول «رجالنا»‬
‫ويحمل في الوقت نفسه بقلمه على األحزاب والحزبية‪ ،‬ويطالب بمحو الماضي‬
‫َم ْح ًوا «وما أكثر القرف الذي يدعو إلى التقزز‪ .‬وهو نفسه عنصر مهم من عناصر‬
‫القرف‪ ،‬واالستثناء المثير للحيرة حقًّا هو ماضيه‪ .‬وماضيهم المضيء باإليثار‬
‫وشرف النفس»‪.‬‬

‫«خبرني‬
‫ويسأله سمير عبد الباقي‪ ،‬وسمير هذا انتهازي بطريقة أخرى هروبية‪ِّ :‬‬
‫عن شعورك وأنت تقرأ مقاالتك في الصحف؟»‪ .‬فقال إبراهيم خيرت في رزانة‬
‫غير عابيء بابتسام اآلخرين‪ :‬أنا أتساءل لِ َم أراد الله آلدم أن يهبط إلى األرض؟‬
‫(السمان والخريف ص ‪.)53‬‬

‫هيهات للماضي أن يعود‪ ،‬وهيهات أن تهزم ثورة مطلبها العدل والحرية‪،‬‬


‫فالشيء إذا بدأ البد واصل إلى منتهاه‪ ،‬قانون التاريخ وقانون الطبيعة‪ ،‬وقانون‬
‫السماء‪ ،‬إذن يسعفنا ثائر من ثوار نجيب نفسه‪ :‬سعيد مهران «آن للغضب أن‬
‫ينفجر وأن يحرق‪ ،‬وللخونة أن ييأسوا حتى الموت‪ ،‬وللخيانة أن تكفر عن‬
‫سحنتها الشائهة»‪ .‬ويطبق اليأس على المتحول‪ ،‬فليجأ للخمر أو للتصوف أو‬
‫للنفاق واالنسحاق‪ ،‬ووسط طوفان األحزان والحسرة يكشف الضمير عن زيفه‪،‬‬
‫جدا لشيء من البراندي» ويلقي‬
‫عبثيا‪« :‬الليلة مناسبة ًّ‬
‫ويكون رد المتحول إبراهيم ًّ‬
‫مبررا موقفه المتحول بصفة عامة‪« :‬أقول إن علينا أن‬
‫بما في جوفه دفعة واحدة ً‬
‫نلحق بالركب»‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫مقدمـــة‬

‫نلحق بالركب‪ ،‬حجة كل انتهازي وعميل‪ ،‬ومتحول على طول التاريخ‬


‫وعرضه‪ ،‬النجاة الفردية‪ ،‬أنا ومن بعدي الطوفان‪ ،‬األصل االجتماعي المتواضع‪،‬‬
‫يغذي نوازع الهروب‪ ،‬نوازع الصعود لإلمساك بتالبيب المستقبل‪ ،‬بالحق أو‬
‫بالباطل‪ ،‬دون وعى بوضعه الطبقي‪ ،‬دون وعى بحركة التاريخ‪ ،‬ودون وعي‬
‫بإمكانات الذات‪ ،‬يقول المتحول لنفسه‪« :‬إنه لوال إحساسنا المرضي بالمستقبل‪،‬‬
‫لما أزعجنا شيء»‪ .‬سوف نندفع تاركين وراءنا وضعنا‪ ،‬نجتر مرارة أمراضنا‪،‬‬
‫نتخفى تحت قناع الثوري‪ ،‬غير «خاضعين إلنسان أو لعادة نطيع مطالب‬
‫شخصنا الطبيعية في حرية مطلقة»‪ .‬ومادام هناك نسيان وعادة فكل شيء ممكن‪.‬‬
‫إبراهيم خيرت في «السمان والخريف» نموذج مثالي للمتحول أداء وقولاً ‪،‬‬
‫يداري حقيقة وضعه‪ ،‬مثلما نرى اآلن في كل متحول بالمبالغة في مدح النظام‬
‫الجديد‪ ،‬والمزايدة على كل ثوري‪ ،‬والصعود بالمطالب إلى ذروة غير مأمولة‪،‬‬
‫والتطرف في المزايدة الثورية‪ ،‬الجملة التي أوردها الماكر نجيب محفوظ على‬
‫لسان إبراهيم خيرت‪ ،‬ضوء كاشف لنفسية وضيعة ال يعنيها نجاح الثورة‪ ،‬إذ‬
‫سرعان ما سينقلب عليها‪ ،‬مع ظهور أول بادرة لفشل الوضع الجديد‪ ،‬يقول‬
‫إبراهيم خيرت‪« :‬الحقيقة أن جميع ثوراتنا القديمة ثورات بال نتائج حاسمة‪،‬‬
‫ثم جاءت هذه الثورة لتحقق رساالت الثورات القديمة‪ ،‬باإلضافة إلى أهدافها‬
‫الذاتية»‪.‬‬

‫ال تنخدع بهذا الكالم الجميل‪ ،‬فالمتحول يراوح بين نقطتين‪ ،‬ركوب‬
‫موجة الجديد‪ ،‬واألمل في عودة الوضع القديم‪ ،‬المحامي وعضو مجلس‬
‫النواب السابق يصرح في لحظة صفاء‪« :‬الحقيقة أنه ال قيمة إلنسان اليوم‬
‫وقياسا‬
‫ً‬ ‫قياسا على نفسه‪،‬‬
‫مهما عال شأنه‪ ،‬نحن بلد الفقاقيع» إنه يرى وطنه‪ً ،‬‬

‫‪31‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بنفسه‪ ،‬عندما هجم اليهود على مصر في العدوان الثالثي يقلل من حجم بلده‪،‬‬
‫ال تستحق أن يطمع فيها قوي أكبر منها‪ ،‬خطاب إبراهيم خيرت سيد المتحولين‬
‫يحتاج إلى محلل نفسي‪ ،‬كما نحتاج نحن اآلن إلى منهج نفسي‪ ،‬أو إلى‬
‫«فرويد» جديد‪ ،‬ليشرح لنا خطاب جحافل من ركبوا الثورة‪ ،‬ومن صعدوا‬
‫صغيرا‪« :‬أيوجد مجنون يفكر‬
‫ً‬ ‫فوق موجها‪ ،‬يرى إبراهيم خيرت بلده شي ًئا‬
‫جادا في إشعال حرب عالمية من أجل نقطة ال تكاد ترى فوق خريطة العالم»‪.‬‬
‫ًّ‬
‫يصعد األعداء هجومهم على مصر‪ ،‬وتبدو في‬
‫وتبلغ المراوغة ذورتها‪ ،‬عندما ِّ‬
‫األفق بوادر انتصارهم على مصر‪ ،‬يعود األمل القديم لعضو مجلس النواب‪،‬‬
‫يحن إلى سلطته المفقودة التي لم يحققها له نفاقه للثورة الجديدة‪ ،‬فهو مهما عال‪،‬‬
‫ال يستطيع أن ينسى أنه غير أصيل في موقفه الجديد‪ ،‬وأنه كان ينبغي أن يسقط‬
‫مع من سقط‪ ،‬والحل أن يعود الماضي ولو حتى على يد األعداء‪ ،‬يتمنى الهزيمة‬
‫لوطنه‪« :‬سوف تكون هزيمة سطحية‪ ،‬تخلصنا من جيش االحتالل الجديد‪،‬‬
‫ثم تجبر إسرائيل على التراجع‪ ،‬وربما االكتفاء باالستيالء على سيناء‪ ،‬وعقد‬
‫صلح مع العرب‪ ،‬ثم تتدخل إنجلترا وفرنسا لتسوية المسائل المعلقة بالشرق‬
‫األوسط‪ ،‬وإعادة الحالة في مصر إلى طبيعتها»‪ .‬ال يظهر زيف هذا الموقف‪،‬‬
‫وال تظهر وضاعته إلاَّ في ضوء موقف نقيض‪ ،‬يظهر من بطل حقيقي‪ ،‬ثابت على‬
‫موقفه مع أو ضد الثورة‪ ،‬حيث الوطنية مبدأ يساوي الحياة وهنا يسأل عيسى‬
‫الدباغ‪ ،‬البطل الحقيقي للعمل‪ ،‬وهو على كل حال نقيض فكري للمتحول‪:‬‬
‫َألاَ يعني هذا الرجوع إلى النفوذ الغربي؟ فيرد المتحول‪ :‬هو على َّأية حال خير‬
‫مما نحن فيه‪ .‬الوطنية عند المتحول وجهة نظر‪ ،‬والخيانة وجهة نظر ً‬
‫أيضا‪ ،‬العالم‬
‫كله مسخر لخدمة ما أرى وما يحقق مصلحتي‪ ،‬لكن صوت الضمير الشعبي‬

‫‪32‬‬
‫مقدمـــة‬

‫الحي يأتي على لسان عيسى الدباغ‪« :‬أي مصيدة وقعنا فيها‪ ،‬إنه التخبط والتمزق‬
‫والعذاب‪ ،‬إما أن نخون الوطن‪ ،‬أو نخون أنفسنا‪ ،‬ولكن الهزيمة في هذه المعركة‬
‫تعنى بالنسبة لي شي ًئا هو أفظع من الموت»‪.‬‬

‫دائما يكون المتحول في موقع الرجل الثاني‪ ،‬يملك نفسية الرجل الثاني‪ ،‬المتردد‬
‫ً‬
‫المترقب لسكنات وحركات أسياده الثوار‪ ،‬ليحدد أين تتجه خطواتهم ليسبقهم‪:‬‬
‫«ينبغي أن نعيش إذ إن أسعار حياتنا آخذة في الصعود»‪ .‬وخيل إليه أنه يرى موكب‬
‫المندوب السامي‪ ،‬كما كان يراه في الماضي‪ ،‬إذ نحن في حال تهون معها الهزيمة‪.‬‬
‫دائما تنجح‪ ،‬ويذهب المتحولون إلى سياقهم الطبيعي‪ ،‬أفرا ًدا من‬
‫لكن الثورة ً‬
‫الشعب‪ ،‬يأكلون ويشربون ويسقطون من الرواية‪ ،‬كما يسقطون من الحياة‪.‬‬
‫مصطفى عبادة‬
‫ديسمبر ‪2016‬م‬

‫‪33‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪34‬‬
‫العرب‬

‫العــرب‬

‫‪35‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪36‬‬
‫العرب‬

‫العرب والحضارة‬

‫في مجلة «آفاق عربية» نص مترجم عن تقرير سري كتبه «كامبل بينزمان»((( رئيس‬
‫وزراء بريطانيا عام ‪ 1902‬يقول فيه عن شرقنا العربي‪« :‬إن هناك قو ًما يسيطرون على‬
‫أرض واسعة تزخر بالخيرات الظاهرة والمغمورة‪ ،‬وتسيطر على ملتقى طرق العالم‪،‬‬
‫وهي موطن الحضارات اإلنسانية واألديان‪ ،‬وتجمع هؤالء القوم ديانة واحدة‪ ،‬ولغة‬
‫واحدة‪ ،‬وتاريخ واحد‪ ،‬وآمال واحدة‪ .‬وليس هناك أي حاجز طبيعي يعزل القوم عن‬
‫االتص�ال ببعضه�م البعض‪ ،‬ولو حدث واتحدت هذه األمة ف�ي دولة واحدة في يوم‬
‫من األيام لتحكمت في مصير العالم‪ ،‬ولعزلت أوروبا عنه؛ ولذلك يجب زرع جسم‬
‫غريب في قلب هذه األمة يكون عاز ً‬
‫ال من التقاء جناحيها‪ ،‬ويشتت قواها في حروب‬
‫مستمرة‪ ،‬ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مطامعه»‪.‬‬

‫((( كامب�ل بينزم�ان‪ :‬هك�ذا ف�ي األصل وصحته�ا «كامب�ل بانرمان» وهو هن�ري كامبل‬
‫بانرم�ان‪ -‬ول�م يكن رئي�س وزراء بريطانيا عام ‪ ،1902‬بل الصحيح أنه تولى رئاس�ة‬
‫ال�وزراء من�ذ ‪ 5‬ديس�مبر ‪ 1905‬حت�ى ‪ 3‬إبريل ‪ 1908‬وه�و من مواليد س�بتمبر ‪1836‬‬
‫وتوفي في ‪ 22‬إبريل ‪ 1908‬بعد أيام قليلة من تركه الوزارة‪ .‬والكلمة التي يستشهد بها‬
‫األس�تاذ نجيب محفوظ له قالها بانرمان في مؤتمر ش�هير هو مؤتمر كامبل بانرمان‪،‬‬
‫والذي ُع ِقد في لندن عام ‪ 1905‬واس�تمرت جلس�اته حتى عام ‪- 1907‬بدعوة س�رية‬
‫م�ن ح�زب المحافظي�ن‪ -‬به�دف إيجاد آلي�ة تحافظ عل�ى تفوق ومكاس�ب الدول‬
‫االس�تعمارية إل�ى أطول وقت ممكن‪ ،‬ض�م المؤتمر كل الدول االس�تعمارية مثل‪:‬‬
‫بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا (المحرر)‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ونحن لسنا في حاجة إلى تقرير سري ليذكرنا بمغزى الوحدة العربية‪ ،‬أو نتيجتها‬
‫الحتمي�ة ف�ي خلق أم�ة قوية أو قوة عالمي�ة‪ .‬لذلك يهتف بها الماليي�ن من العرب ال‬
‫ليعزل�وا أوروب�ا عن العال�م أو يتحكموا في مصي�ر العالم‪ ،‬وإنما ليحقق�وا ذاتهم في‬
‫الوجود اإلنس�اني‪ ،‬وليس�هموا في العطاء الحضاري بما هو خليق بماضيهم المجيد‬
‫وجهاده�م الدام�ي المعاص�ر‪ .‬ولكنن�ا في حاجة إلى م�ن يذكرنا كل ي�وم بأن عدونا‬
‫يروم تشتيت قوانا في حروب مستمرة‪ .‬والغريب أننا ال نكتفي بما رسم العدو ودبر‪،‬‬
‫ولكنن�ا نعاون�ه على تحقيق هدف�ه بخالفاتنا المتواصلة واس�تنزاف قوانا في نزاعات‬
‫إقليمية حتى أوشك الفرد منا أن يكفر بهذه الوحدة وييأس منها‪.‬‬

‫وإن�ي ألتس�اءل‪ :‬متى تصفو النف�وس وتتحد القلوب‪ ،‬إن ل�م تحرص على ذلك‬
‫ضروسا غادرة؟ وهل هذا هو الوقت‬
‫ً‬ ‫متحفزا‪ ،‬وتتوقع حر ًبا‬
‫ً‬ ‫شرسا‬
‫عدوا ً‬
‫وهي تواجه ً‬
‫المناس�ب لتتبادل الجزائر والمغرب النيران‪ ،‬ويتقات�ل أبناء الوطن الواحد في لبنان‪،‬‬
‫وتتنابذ مصر وسوريا وليبيا؟!‬
‫وأعج�ب ش�يء أن لن�ا الجامعة العربي�ة‪ .‬وهي مؤسس�ة أصبحت بحك�م العمر‬
‫والعم�ل ذات تاري�خ وتقالي�د‪ .‬وكان ينبغ�ي أن ُي َح�ل فيها أي خلاف‪ ،‬أو أن تحصر‬
‫الخالفات المس�تعصية في أضيق الحدود؛ حتى تج�د لها الحلول في األمد القريب‬
‫أو البعي�د‪ ،‬وفي نط�اق آداب رفيعة ال يمكن تجاوزها أو االس�تهتار بها‪ .‬ولكننا نترك‬
‫الجامعة تتهاوى وتتفتت‪ ،‬وهي الرمز األول لوحدتنا‪ ،‬واألمل المرصود لمس�تقبلنا‪.‬‬
‫الوح�دة ال تزال بعي�دة ولكن الجامعة قائم�ة‪ .‬وعلينا أن نجعل منها حجر األس�اس‬
‫ال بتقويته�ا ومنحها القدرة على الحركة والعمل‪،‬‬‫للبنيان المنش�ود‪ ،‬ولن يتأتَّى ذلك إ َّ‬
‫المقدس‪ ،‬الذي يتالقى فيه العرب فيما يتفقون فيه أو ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫علينا أن نجعل منها المكان‬
‫أخيرا‪ .‬وما يتفقون فيه أو م�ا يمكن أن يتفقوا فيه مهم‬
‫وفيم�ا يعالجون م�ن خالفاتهم ً‬
‫وخطير وكبير األثر في الحاضر والمستقبل‪ .‬أذكر من ذلك على سبيل المثال التكامل‬
‫االقتصادي والثقافي‪ .‬ولعله الدعامة الحقيقية للوحدة السياسية فيما بعد‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫العرب‬

‫ولعلنا في أشد الحاجة إلى عقد مؤتمر قمة لرسم صورة حضارية لمستقبل األمة‬
‫العربية‪ ،‬يبحث‪ ،‬فيما يبحث‪ ،‬وسائل تقوية الجامعة العربية‪ ،‬ومنحها القوة والفعالية‪،‬‬
‫ووض�ع خط�ة عربية مهم�ة للتنمي�ة االقتصادية والثقافية‪ ،‬يس�تهدف خل�ق أمة عربية‬
‫روحية علمية معاصرة‪ ،‬وعلى أن ت َّ‬
‫ُشكل في الجامعة هيئة متابعة للتخطيط والتنفيذ‪.‬‬
‫وحضاريا‪ ،‬وعندنا من إمكانات النجاح‪ :‬ثروات بش�رية‬
‫ًّ‬ ‫تاريخيا‬
‫ًّ‬ ‫اجب�ا‬
‫إن علين�ا و ً‬
‫ومادية وروحية‪ .‬والتهاون بعد ذلك خيانة ال غفران لها‪.‬‬

‫‪ 7‬حال العرب اليوم‪:‬‬


‫موقعا ممتازً ا من األرض‪ ،‬ويبلغون أكثر من ‪ 140‬مليون نسمة‪،‬‬
‫العرب يش�غلون ً‬
‫ولك�ن إنتاجهم الصناعي ال يزيد على نصف في المائ�ة من اإلنتاج العالمي‪ ،‬كما أن‬
‫إنتاجه�م الزراع�ي ال يتج�اوز الواحد والنصف ف�ي المائة‪ ،‬وثالث�ة أرباعهم أميون‪،‬‬
‫ومس�توياتهم العلمي�ة ل�م تبلغ بع�دُ الدرجة التي تس�مح لهم باإلس�هام ف�ي اإلبداع‬
‫العالم�ي‪ .‬وهذه حال ال يمكن الس�كوت عليه�ا وال الصبر على البق�اء فيها أكثر من‬
‫ذل�ك‪ ،‬وال االكتفاء في الخ�روج منها بالمجهودات الفردية تب�ذل هنا أو هناك‪ .‬وفي‬
‫تقدير الخبراء أن األمم النامية إذا َّ‬
‫اطرد س�يرها في طريق التنمية االقتصادية والثقافية‬
‫ف�ي نطاق إمكاناته�ا‪ ،‬ودون توقف فلن تصل إلى مقام األم�م الراقية قبل مائتي عام‪،‬‬
‫سيق َ‬
‫ْضى بتلك‬ ‫ولكن أي تقدم جديد ستحرزه األمم الراقية خالل المائتي عام؟! وهل ُ‬
‫التفرقة المفزعة بين ش�عوب اإلنس�انية إلى األبد؟! إن أخشى ما يجب أن نخشاه أن‬
‫تتغير نوعية اإلنس�ان المتقدم في أثناء ذلك‪ ،‬فيكتسب خواص متفوقة جديدة‪ ،‬يمكن‬
‫أن يتوارثه�ا‪ ،‬فيتمخض ذلك عن إنس�ان جديد‪ ،‬ال يختلف هنا في الدرجة فحس�ب‪،‬‬
‫ولكن في النوع؛ مما يهددنا باألسر األبدي أو االنقراض‪.‬‬
‫ولكن ثمة هدية أهداها الحظ الس�عيد إلى العرب؛ وهي البترول فخصهم بمزية‬
‫علما‪ ،‬ولكنها‬
‫غالية لم تتح لغيرهم من األمم النامية‪ .‬حقًّا إنها ال تخلق حضارة أو تبدع ً‬
‫توفر س�يولة مالية تس�تطيع‪ ،‬مع الفطنة والحكمة‪ ،‬أن تصن�ع المعجزات‪ ،‬وتدفع بهم‬
‫‪39‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بقوة اس�تثنائية للحاق بالركب اإلنس�اني المتقدم‪ .‬لذلك فالبترول ليس ثروة‪ ،‬ولكنه‬
‫وقديم�ا خرج العرب من البداوة إلى إنش�اء حضارة عالمية بفضل‬
‫ً‬ ‫امتحان ورس�الة‪.‬‬
‫اإلسلام‪ ،‬واليوم فهم مدعوون إلى بعث تلك الحضارة على مس�توى العصر بفضل‬
‫البترول‪ ،‬والنكوص عن ذلك خيانة للتاريخ والدين والعصر‪ .‬وال سبيل إلى نكران ما‬
‫بذل من مساعدات واستثمارات ولكن األمر يحتاج إلى أساسين جوهريين‪:‬‬
‫‪ -1‬خط�ة ش�املة لجميع األوطان العربية‪ ،‬يش�ترك ف�ي إعدادها جمي�ع الخبراء‬
‫الع�رب وبع�ض بيوت الخبرة العالمية‪ ،‬تس�تهدف اس�تصالح كل ش�بر من األرض‪،‬‬
‫والنه�وض بالصناعة في جمي�ع مجاالتها‪ ،‬وإعداد مراكز البح�ث العلمي والثقافي‪.‬‬
‫بذل�ك تُبع�ث الحضارة ف�ي الوطن العرب�ي‪ ،‬وتضمن بلاد البترول تجدي�د ثرواتها‬
‫ومضاعفتها قبل نضوب الطاقة المخزونة‪.‬‬
‫‪ -2‬إيمان راس�خ كقوة دافعة للعمل‪ ،‬يعتمد على قيمنا الروحية الخالدة‪ ،‬إسلامية‬
‫طعم بتجارب األمم الحديثة في التقدم‪ ،‬وإقامة ميزان العدالة االجتماعية‪.‬‬
‫ومسيحية‪ ،‬و ُي َّ‬
‫وليتناف�س زعماء العرب في تحقيق هذا الهدف بد ً‬
‫ال من التخاصم والتنافس في‬
‫األباطيل‪.‬‬
‫‪ 7‬هل ننقرض كالديناصور؟‬
‫سيئ يستمر أربعين عا ًما‪ ،‬يهدد المحاصيل الزراعية‬
‫وثمة أنباء عالمية عن طقس ّ‬
‫الضرورية لحياة اإلنس�ان بِ ٍّ‬
‫ش�ر وبيل‪ .‬وثمة تخمينات واقعية عن أن البعض قد يلوذ‬
‫آخ�ر اآلم�ر بالقنبل�ة الذرية كوس�يلة ال مفر منها للحص�ول على الغ�ذاء‪ .‬وحتى قبل‬
‫تحقق ذلك الطقس‪ ،‬فماليين من البشر يعانون الجوع بصفة دائمة‪ ،‬والمجاعة أحيانًا‪.‬‬
‫ومش�كلة تفاقم تكاثر السكان في استفحال مستمر‪ ،‬سينتهي بالبشر إلى المأزق نفسه‬
‫س�اء الطقس أو لم يس�ؤ‪ ،‬فإذا لم ينقذ العالم الموقف بمعجزة من معجزاته‪ ،‬فستجد‬
‫اإلنس�انية نفسها كس�فينة موش�كة على الغرق‪ ،‬وليس بيد الربان إ َّ‬
‫ال عدد محدود من‬

‫‪40‬‬
‫العرب‬

‫ق�وارب النجاة‪ ،‬وال تتصور أن ذلك خي�ال‪ ،‬فكم من أنواع زالت وانقرضت‪ ،‬وكأنها‬
‫ل�م تك�ن‪ ،‬أو كأنها كانت مج�رد نزوة‪ .‬كذلك اختف�ى الديناصور بعد قوة وس�يطرة‪،‬‬
‫ب�ل لقد اختفى أكثر من نوع من اإلنس�ان‪ ،‬كإنس�ان «ج�اوه»(((‪ ،‬وإنس�ان «بيكين»‬
‫(((‬

‫ال في حجم المخ‪ ،‬وبعض‬ ‫وغيرهما‪ ،‬ولم يكن أحدهما يختلف عن اإلنسان الحالي إ َّ‬
‫القس�مات‪ .‬وعن�د االختيار الدقي�ق‪ ،‬وبدافع الخوف من الفن�اء‪ ،‬ال يبقى إ َّ‬
‫ال األصلح‬
‫واألقوى‪ ،‬وهو المتقدم بالمعنى العصري لهذه الكلمة‪.‬‬
‫فإم�ا أن تتأص�ل الحض�ارة وتزدهر ف�ي بالدنا قب�ل أن ينضب البت�رول‪ .‬وإما أن‬
‫ُعرض أنفسنا للفناء‪.‬‬
‫ن ِّ‬
‫‪ 7‬الضمير العالمي‪:‬‬
‫لع�ل البع�ض ال يتصور أن تحدث أمور بتلك الفظاع�ة‪ ،‬ولكن ممكن أن يحدث‬
‫أي ش�يء‪ .‬إن ما يس�مى بالضمير العالي مولود حديث‪ ،‬لم يقم له معبد على األرض‬
‫قبل عصبة األمم‪ ،‬وما زال معبده واهي األركان‪ ،‬بخاصة إذا قورن بالضمير القومي‪.‬‬
‫ضميرنا القومي اليزال يندب حتى اليوم ش�هداء «دنش�واي»((( و«البدرشين» و«دير‬

‫((( إنسان جاوة‪ :‬هو اسم ُأطلق على بقايا إنسان اكتشفت عام ‪ 1891‬م في موقع «ترينيل»‬
‫في مقاطعة «نجادي» على ضفاف نهر «سولو» بجاوة في إندونيسيا‪ ،‬وهي من أوائل‬
‫العينات المعروفة لإلنسان المنتصب القامة (المحرر)‪.‬‬
‫((( إنس�ان بكين‪ :‬هو أحد أش�هر أمثلة جنس اإلنس�ان المنتصب القام�ة‪ ،‬وجدت بقاياه‬
‫خلال فت�رة ‪ 1927 - 1923‬خلال تنقيبات عن�د «زوكوديان» ق�رب بكين العاصمة‬
‫قدر أنها تعود إلى حوالي ‪ 250‬ألفا إلى ‪ 400‬ألف عام مضت‬‫الصينية‪ ،‬والمكتشفات ّ‬
‫في العصر «البليستوسيني»‪.‬‬
‫((( حادثة ش�هيرة جرت وقائعها في قرية دنش�واي في الريف المصري في عام ‪،1906‬‬
‫حي�ث كان بعض جنود االحتالل يصطادون الحمام وقت�ل أحدهم مواطنة من أهل‬
‫فتصور جنود االحتالل أنهم يهجمون عليهم وجرت‬‫ّ‬ ‫القرية‪ ،‬فاجتمع عليهم األهالي‬
‫‪41‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ياس�ين»(((‪ ،‬أم�ا الضمي�ر العالمي َّ‬


‫فقل أن يتغي�ر له لون أمام مفج�ع الحادثات‪ .‬ولقد‬
‫أثرا يذكر في نفوس الناس‪.‬‬
‫تابعت أخبار زلزال إيطاليا‪ ،‬فعجبت أنه لم يكد يترك ً‬

‫جدا‪ ،‬حيث‬ ‫قاسيا ًّ‬


‫بينهم معركة مات فيها ضابط إنجليزي‪ .‬فكان رد الفعل البريطاني ً‬
‫�دم ‪ 92‬مواط ًن�ا للمحاكمة بتهمة القتل العمد‪ ،‬وتم إثبات التهمة على ‪ 36‬منهم في‬‫ُق َّ‬
‫‪ 17‬يونيو ‪ ،1908‬وتفاوتت األحكام بين الجلد واألش�غال الش�اقة واإلعدام ألربعة‬
‫مواطنين من دنش�واي‪ .‬رأس المحكمة القاض�ي بطرس غالي الذي اغتيل بعد ذلك‬
‫مدعى النيابة إبراهيم‬
‫على يد إبراهيم الورداني والقاضي أحمد فتحي زغلول‪ ،‬وكان ّ‬
‫الهلباوي (المحرر)‪.‬‬
‫((( مذبح�ة دير ياس�ين ج�رت وقائعها في ‪ 9‬إبري�ل ‪ 1948‬على يد المس�توطنين اليهود‬
‫عصابت�ي «األرجو» و«ش�تيرن» حي�ث قتل من الفلس�طينين ‪ 360‬ش�هيدً ا‪ .‬حين‬
‫ْ‬ ‫م�ن‬
‫منظمتي (األرجون وش�تيرن) اإلرهابيتين بش�ن هجوم على قرية‬‫ْ‬ ‫قام�ت عناصر من‬
‫فجرا‪ ،‬وتوق�ع المهاجم�ون أن يف�زع األهالي من‬‫دي�ر ياس�ين قرابة الس�اعة الثالث�ة ً‬
‫الهجوم ويبادروا إلى الفرار من القرية‪ .‬وهو السبب الرئيس من الهجوم‪ ،‬كي يتسنى‬
‫لليهود االس�تيالء عل�ى القرية‪ .‬انقض المهاجمون اليهود تس�بقهم س�يارة مصفحة‬
‫علي القرية وفوجئ المهاجمون بنيران القرويين التي لم تكن في الحس�بان وس�قط‬
‫م�ن اليه�ود ‪ 4‬من القتل�ى و‪ 32‬جرحى‪ .‬طلب بع�د ذلك المهاجمون المس�اعدة من‬
‫قي�ادة «الهاجاناه» في القدس وجاءت التعزيزات‪ ،‬وتمكن المهاجمون من اس�تعادة‬
‫جرحاه�م وفت�ح األعي�رة النارية عل�ى القرويي�ن دون تميي�ز بين رج�ل أو طفل أو‬
‫ام�رأة‪ .‬ول�م تكتف العناص�ر اليهودية المس�لحة بإراقة الدماء في القري�ة‪ ،‬بل أخذوا‬
‫عد ًدا من القرويين األحياء بالس�يارات‪ .‬واس�تعرضوهم في شوارع األحياء اليهودية‬
‫وس�ط هتافات اليه�ود‪ ،‬ثم العودة بالضحايا إلى قرية دير ياس�ين وت�م انتهاك جميع‬
‫المواثيق واألعراف الدولية حيث جرت أبش�ع أنواع التعذيب‪ ،‬فكما روى مراس�ل‬
‫صحفي عاصر المذبحة‪« :‬إنه شيء تأنف الوحوش نفسها من ارتكابه‪ ،‬لقد أتوا بفتاة‬
‫واغتصبوها بحضور أهلها‪ ،‬ثم انتهوا منها وبدأوا تعذيبها فقطعوا نهديها ثم ألقوا بها‬
‫في النار»‪ .‬ذلك لنعرف أعداء اإلنسانية والوطن الفلسطيني (المحرر)‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫العرب‬

‫فنح�ن نقرأ ونس�مع وال نكترث‪ .‬وكأنما فقدنا الش�عور والخيال‪ .‬وتفس�ير ذلك‬
‫ف�ي نظري‪ ،‬يرجع إلى نش�اط وس�ائل اإلعلام وتغطيتها المتتابعة ألح�داث العالم‪.‬‬
‫والجري�دة اليومي�ة‪ ،‬من الصفح�ة األولى حتى صفح�ة الوفيات‪ ،‬تكت�ظ بالمصائب‬
‫الطبيعي�ة والسياس�ية واالقتصادي�ة‪ ،‬ين�در أن يدعو فيه�ا خبر إلى االبتس�ام والتفاؤل‬
‫ال اإلعالن�ات‪ .‬وبحكم العادة اليومية تهون علين�ا المصائب‪ ،‬وتصبح وكأنها أخبار‬ ‫إ َّ‬
‫عادي�ة‪ ،‬هكذا مرت بن�ا مذابح الحرب العظمى وحرب فيتنام‪ ،‬واغتصاب فلس�طين‪،‬‬
‫وزالزل يوغسلافيا وإيطالي�ا‪ ،‬بل هكذا هان�ت أكبر جريمة في تاريخ البش�رية وهي‬
‫إلق�اء القنبلتين الذريتين على هيروش�يما ونجازاكي‪ ،‬فنحن نعرف الفواجع وال نكاد‬
‫نتأثر بها‪ ،‬وقد جعل منها اإلعالم الحديث عادة يومية‪ ،‬وش�ي ًئا مألو ًفا؛ ولذلك فإن أية‬
‫كارث�ة يمكن أن تقع دون مباالة بالضمير العالمي‪ ،‬ولن يمنع وقوعها إلاَّ الخوف من‬
‫قوة مضادة مماثلة أو من انتقام الحق‪ .‬ولقد دافعنا عن حقنا بالمنطق ومناش�دة القيم‬
‫فل�م يصغ لنا أح�د‪ ،‬ثم خضنا حرب�ي أكتوبر والبت�رول‪ ،‬فوجدنا ُأ ُذنً�ا صاغية في كل‬
‫كيلومتر مربع‪ .‬وأختم بما س�بق أن قلت‪« :‬إما أن تتأصل وتزدهر الحضارة في بالدنا‬
‫قبل أن ينضب البترول‪ ،‬وإما أن نعرض أنفسنا للفناء»‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫اقتل أخاك ظالمً ا أو مظلومًا‬

‫أنْ تقع في َش ٍ‬
‫�رك وأنت تجهل أنه َش َ‬
‫�رك فهو س�وء حظ ال يخلو من س�وء تدبير‬ ‫َ‬
‫وفطنة‪ ،‬إذ أن الحكيم مسئول عن كل شيء‪ ،‬وحتى عن المجهول فهو مسئول‪ .‬ولكن‬
‫م�اذا نس�مي من يقع في الش�رك وه�و يعلم أنه ش�رك ويرى بعينيه م�ن نصبه له؟ هذا‬
‫ه�و ح�ال األمم العربية بال مبالغ�ة وال ٍ‬
‫تجن‪ .‬إنهم يعلمون عل�م اليقين أن قوتهم في‬
‫اتحادهم‪ ،‬ويعلمون علم اليقين أن عدوهم دائب على اإليقاع بينهم لتفريق كلمتهم‪،‬‬
‫وأنه يرمي من وراء ذلك إلى مد فترة الالسلم والالحرب إلى أقصى حد‪ ،‬وإلى شحن‬
‫نفوس�نا بالي�أس لنرضى ب�أي صلح يفرض علين�ا‪ ،‬ويرمي أكثر من ذل�ك إلى تصفية‬
‫نصرن�ا التاريخ�ي م�ن مضمونه‪ .‬وقد قرأنا خلال العامين الماضيي�ن عن خططه في‬
‫ذلك وأحالمه‪ ،‬وها نحن أوالء نحققها له بما خلق تصوره‪ ،‬هانحن نتقاتل بال رحمة‪،‬‬
‫ونتمزق بال مباالة‪ ،‬ويس�قط ضحايانا بالعش�رات والمئات واأللوف‪ ،‬ويمضون فدية‬
‫للتعصب والعناد وقصر النظر‪.‬‬

‫ال تقول�وا‪ :‬إن أعداءن�ا كثي�ر‪ .‬ال تقول�وا‪ :‬إنن�ا لعب�ة بيد أكب�ر ال�دول وأقواها‪ .‬ال‬
‫تتحدث�وا عن الدس والدساس�ين‪ ،‬والكي�د والكائدين‪ ،‬ولكن فك�روا وفكروا طوي ً‬
‫ال‬
‫فيم�ا ينقصكم من الداخل‪ ،‬في نقاط ضعفكم الذاتي التي جعلت منكم صيدً ا س�ه ً‬
‫ال‬
‫لكل رامٍ‪ ،‬ولعبة لكل كائد‪ ،‬فكروا في هذا الموضع من نفوس�كم الذي كان يجب أن‬
‫يضيء بالحكمة والبصيرة‪ ،‬وليس فيه في الواقع إ َّ‬
‫ال النزق والعصبية واألنانية‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫العرب‬

‫ويقع ذلك كله ونحن في حالة حرب‪ ،‬وأراضينا محتلة وحضارتنا تغالب التخلف‬
‫والفق�ر والجه�ل‪ ،‬وعدونا يعبث بمصيرن�ا بيد‪ ،‬ويتلقى اإلم�دادات والمعونات بيد‪.‬‬
‫الش َرك ونرى بالعين‬ ‫ومن المؤس�ف حقًا‪ ،‬والمخجل ً‬
‫أيضا‪ ،‬أننا نعرف كل ش�يء عن َّ‬
‫تبصر مدفوعين بقوى الغضب العمياء‪.‬‬
‫َمن نصبه لنا‪ ،‬ثم نتردى في أعماقه بال ُّ‬

‫وصراح�ة م�ا كنت أحب لمصر أن تك�ون طر ًفا في أي نزاع عرب�ي‪ .‬أود ً‬
‫دائما أن‬
‫تص�ون مكانته�ا باعتباره�ا الش�قيقة الكبرى‪ ،‬وأن تقص�ر مهمتها على الوس�اطة بين‬
‫المتنازعين والس�عي بالخير بين المتخاصمين‪ .‬وفي سبيل ذلك أطالبها بالحكمة بال‬
‫ح�دود‪ ،‬وضب�ط النفس بال نهاي�ة‪ ،‬عليها أن تتحل�ى بالحلم حيال الس�فيه‪ ،‬وباألدب‬
‫حي�ال األحمق‪ ،‬وبالصبر على المكاره واالتهامات كافة‪ .‬عليها أ َّ‬
‫ال تحول عينيها عن‬
‫الع�دو ومكائده‪ ،‬أن تفس�د تدبيراته‪ ،‬وتفش�ل حيله‪ ،‬وتفوت علي�ه أغراضه‪ .‬عليها أن‬
‫تتجن�ب الغضب حت�ى إذا حق الغضب‪ .‬وأن ترفض االنفعال ول�و كان عد ً‬
‫ال وحقًا‪،‬‬
‫عليه�ا قب�ل أن تتفوه بكلم�ة أو تحدث فع ً‬
‫ال أن تك�ون على بينة كامل�ة بعواقب ذلك‬
‫على الوطن‪ ،‬على القومية العربية‪ ،‬على القضية المعلقة‪ ،‬على العالم الثالث‪ ،‬بل على‬
‫العالم كله‪ .‬هذا هو واجب السياسي في هذا العالم الذي صار قرية كبيرة واحدة‪.‬‬

‫‪ 7‬عندما تفقد الكلمات معانيها‪:‬‬

‫الكلم�ات تفقد معانيه�ا بالمبالغة المقص�ودة أو غير المقصودة‪ :‬فه�ذه المعركة‬


‫معركة إبادة‪ ،‬آالف القنابل وآالف الضحايا‪ .‬وهذا الرجل عميل‪ .‬وهذه الدولة تعمل‬
‫ضمن مخطط صهيوني استعماري‪.‬‬

‫وبالمبالغة تفقد الكلمة مضمونها‪ ،‬وتفقد ً‬


‫أيضا الثقة واالحترام‪ ،‬وتهون الجريمة‬
‫نفس�ها وتتالش�ى خطورتها‪ ،‬حتى إذا ارتكبت حقيقة ذات ي�وم مضت وكأنها حدث‬
‫من أحداث الحياة اليومية‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ل�و صدقن�ا ما يق�ال عن الح�رب ف�ي لبنان لوج�ب علين�ا أن نؤمن بفن�اء جميع‬
‫الفلس�طينيين فيها‪ ،‬ولو صدقنا أن س�وريا تعمل متضامنة مع الصهيونية واالستعمار‪،‬‬
‫عضوا ف�ي الجامعة العربية؟ وكي�ف نجتمع برئيس‬
‫ً‬ ‫فكي�ف نس�مح ببقائها بع�د ذلك‬
‫وزرائها في الجزيرة العربية؟‬

‫بل أليس من حق سوريا ‪ -‬زميلتنا في السالح‪ -‬أن نسمع رأيها في الموضوع بلسان‬
‫أحد المسئولين فيها؟ أين تقاليد الجامعة العربية؟ أين حق القومية العربية علينا؟‬

‫وليك�ن مفهو ًما أنني ال أدافع عن س�وريا‪ ،‬ولكنني م�ن ناحية أخرى إذا لم أعرف‬
‫رأي الخصم فال أجدني ذا حق في تأييده أو معارضته‪.‬‬

‫ال يكفي أبدً ا أن نقرأ آراء صحفنا وتعليقاتها‪ ،‬فسوريا ليست بإسرائيل‪ ،‬هي عضو‬
‫الجامعة‪ ،‬وزميلتنا في التضحية والسالم‪ ،‬وهي من أعالم العروبة على مدى التاريخ‪،‬‬
‫مخاصما منذ اتفاقية فصل الق�وات‪ ،‬ولعل الحق قد جانبها‪،‬‬
‫ً‬ ‫وق�د اتخذت منا موق ًف�ا‬
‫ولعله�ا تمادت في الخط�أ‪ ،‬ولكنها لن تفقد بذلك تاريخه�ا وجهادها‪ .‬وال يجوز أن‬
‫تحرم من إس�ماعنا رأيها لنحكم لها أو عليها‪ ،‬ولكن بعد البينة والدليل‪ ،‬وليكن ذلك‬
‫يهيئ لمصر أن‬
‫موقفن�ا الوحي�د من جميع البالد العربية؛ ألنه الموق�ف الوحيد الذي ّ‬
‫تلع�ب دوره�ا التاريخي في بناء القومية العربية‪ ،‬والس�ير بباخرتها في سلام وس�ط‬
‫يهي�ئ لها ما هو أهم م�ن ذلك‪ ،‬وهو العم�ل على تكاملها‬
‫العواص�ف والزواب�ع‪ ،‬بل ّ‬
‫االقتص�ادي والثقافي‪ ،‬وبع�ث حضارتها من جديد على أس�اس روحي مادي متين‪،‬‬
‫لعل فيه الخالص لنا وللعالم أجمع‪.‬‬

‫‪ 7‬أين الجامعة العربية؟‬

‫من المؤسف أن الجامعة العربية ال تحتل من نفوس الناس المكانة التي كان يجب‬
‫أن تك�ون له�ا‪ .‬عملها روتيني ال قيادي‪ ،‬وهي ال تتحرك حتى تضطرها األحداث إلى‬

‫‪46‬‬
‫العرب‬

‫شكليا ال وزن حقيقًّا له‪ .‬وهي لكي تكون جامعة‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫تحركا‬ ‫وغالبا ال تتحرك إ َّ‬
‫ال‬ ‫ً‬ ‫التحرك‪،‬‬
‫ال فعليها أن تس�بق األحداث ال أن تبادرها فحس�ب‪ .‬كان يجب أن‬ ‫الع�رب حقً�ا وفع ً‬
‫تعي�ش أزمة لبن�ان منذ عام ‪ ،1958‬وأن تقوم بأبحاث ميدانية‪ ،‬وأن تعقد المؤتمرات‪،‬‬
‫وأن تقت�رح الحل�ول أو تدعو المس�ئولين إلى اقتراحها‪ ،‬فمهمته�ا الحقيقية في لبنان‬
‫كان�ت ف�ي التفادي م�ن الصدام((( ومعالجته قبل اس�تفحاله‪ ،‬ال ف�ي التفرج عليه مع‬
‫المتفرجين‪ ،‬أو بذل مسا ٍع شكلية من باب أداء الواجب من أي سبيل‪.‬‬

‫كذلك مشكلة الصحراء في المغرب((( لم تكن مجهولة‪ ،‬وطالما أنذرت بالخطر‪،‬‬

‫((( الح�رب األهلي�ة اللبناني�ة هي حرب دموي�ة وصراع معقد دام أكثر م�ن ‪ 15‬عا ًما و‪7‬‬
‫أش�هر في لبنان‪ ،‬ب�دأت في ‪ 13‬أبري�ل ‪ 1975‬حتى أكتوبر ‪ 1990‬ش�اركت فيها كل‬
‫الطوائ�ف واإلثني�ات باإلضاف�ة إلى العنصر الفلس�طيني والس�وري واإلس�رائيلي‪.‬‬
‫اعتبرت أنها حرب اآلخرين على أرض لبنان‪.‬‬
‫ُدع�ى عام ‪ 1976‬النعقاد القمة العربية‪ ،‬ثم عاد الصراع األهلي ليس�تكمل وتركز‬
‫القت�ال ف�ي جن�وب لبنان بش�كل أساس�ي‪ ،‬وال�ذي س�يطرت عليه بداي�ة منظمة‬
‫التحري�ر الفلس�طينية ثم قام�ت إس�رائيل باحتالل�ه‪ .‬وانتهت األحداث بانتش�ار‬
‫الجيش السوري بموافقة لبنانية عربية ودولية وذلك بحسب اتفاق الطائف‪ .‬وقد‬
‫أدت الحرب إلى مقتل ما يزيد على ‪ 150‬ألف شخص وتشريد ‪ 40‬أل ًفا و‪ 17‬ألف‬
‫قسرا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مفقود ومخفي ً‬
‫((( ب�دأت أزمة الصحراء الغربية قبل انس�حاب االس�تعمار اإلس�باني منها عام ‪،1975‬‬
‫معتبرا أن‬
‫ً‬ ‫إذ طال�ب المغ�رب باس�ترجاع الصحراء الغربية م�ن االحتالل اإلس�باني‬
‫الصحراء الغربية جزء من أراضيه‪ ،‬وأثناء المفاوضات اإلسبانية مع المغرب طالبت‬
‫موريتانيا بجزء من الصحراء بدعوى أن للس�كان تقاليد شبيهة بالتقاليد الموريتانية‪،‬‬
‫بينم�ا أعلن�ت جبه�ة البوليس�اريو إقامة دول�ة جديدة منفصل�ة في منطق�ة الصحراء‬
‫الغربية‪ ،‬وذلك يعرف الجمهورية العربية الصحراوية‪.‬‬
‫تبلغ مس�احة الصحراء الغربية (‪ )266‬ألف كم‪ ،2‬وتنقسم إلى قسمين هما‪ :‬الساقية‬
‫الحمراء شمالاً ‪ ،‬ووادي الذهب جنو ًبا‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وكان عل�ى الجامع�ة لكي تكون جامعة حقًا أن تعايش�ها من قدي�م‪ ،‬وأن تدرس آراء‬
‫المختلفين‪ ،‬وأن تقوم بين األطراف بالس�عي الجدي المسئول‪ .‬ولألسف الشديد لم‬
‫يكن لها فضل السبق وال فضل المبادرة‪.‬‬

‫لِ َم ال تمس�ك الجامعة جدولاً بالمش�كالت العربية ش�ر ًقا وغر ًبا؟ ولِ َم ال تعمل‬
‫على حلها بكل ما تملك من نش�اط ونفوذ؟ وحتى إذا لم توفق في حلها فبوس�عها أن‬
‫تجع�ل منه�ا حقائق ماثلة في الضمي�ر العربي تد عو كل مفكر إل�ى االجتهاد‪ ،‬بل في‬
‫س�بيل ذلك يجب عليها عقد المؤتمرات على جميع المس�تويات‪ .‬بمثل هذا النشاط‬
‫يش�عر العرب بجامعتهم ويولونها الثقة الجديرة بها‪ ،‬وتس�تطيع هي من ناحية أخرى‬
‫أن تلع�ب دورها التاريخي في الش�رق العربي‪ .‬ولع ِّلي أطمح إلى أن يجاوز نش�اطها‬
‫هذا المستوى العالي من السياسة إلى االهتمام ً‬
‫أيضا بالفرد العربي العادي‪ :‬بمستوى‬
‫معيش�ته‪ ،‬بدخل�ه‪ ،‬بصحته‪ ،‬بعمله‪ ،‬بثقافته‪ ،‬وتقترح ما تش�اء في ه�ذا المجال‪ ،‬أي أن‬
‫تكون الوس�يط الفعال بين البالد العربية في مجاالت الخبرة والعمالة واالس�تثمار؛‬
‫ليلتحم بها وجدان رجل الشارع وأمله‪ ،‬وأن تضاعف اهتمامها بالدعاية لعملها‪ ،‬فما‬
‫هو في الواقع إلاَّ دعاية للفكر العربي‪ ،‬والحلم العربي‪ ،‬والحضارة العربية‪ ،‬وبرسوخه‬
‫في الضمير العربي يصبح قوة محركة للشعوب‪ ،‬وبالتالي للحكومات‪.‬‬

‫‪ 7‬الثورة والواقع‪:‬‬

‫يتحدى‬ ‫الثورة ٍ‬
‫تحد للواقع لتجاوزه‪ ،‬ولكن ليس كل واقع بقابل للتحدِّ ي‪ .‬فالثائر َّ‬
‫طبيعيا كالجاذبية‬
‫ً‬ ‫القوة حتى إذا فاقته بما ال يقاس‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يتجاهل قانونًا‬
‫مثًل�اً ‪ .‬أقول ذل�ك وأنا أفكر في مح�ور النزاع القائ�م‪ ،‬أعني المقاومة الفلس�طينية أو‬
‫الثورة الفلسطينية‪.‬‬

‫وهي ثورة حقيقية انبثقت من تيار األحداث الصاخب كرد فعل باهر للصهيونية‪،‬‬
‫ودلت فيما دلت على نفاسة المعدن العربي‪ ،‬وعلى أنه مازال يجود بالبطولة بأسمى‬
‫‪48‬‬
‫العرب‬

‫معانيها وبالتضحية والفداء بال حس�اب‪ .‬ومهما قلت ف�ي المقاومة فلن يوفيها قولي‬
‫حقه�ا‪ ،‬وال بع�ض حقه�ا‪ ،‬ولكني أعتق�د أن�ه آن األوان لكي يعيد األبط�ال النظر في‬
‫موقفهم على ضوء الواقع الصارم‪.‬‬

‫لك�م م�ن الثائرين البطول�ة والف�داء والعزيمة‪ ،‬ولكن مع األس�ف الش�ديد ‪ -‬ال‬
‫وط�ن لك�م مثلما لجميع الثائرين وطن‪ .‬ولقد ا س�تبدلتم بالوطن الفقيد وط ًنا ش�قيقًا‬
‫مضي ًف�ا كمنطل�ق لثورتكم‪ ،‬فماذا كانت العاقبة؟! كان�ت العاقبة ما حدث في األردن‬
‫أم�س‪ ،‬وما يحدث بلبنان اليوم‪ .‬ضاق بك�م العربي كما يضيق بكم الماروني‪ ،‬وليس‬
‫التعصب بالدافع المحرك للماروني في موقفه منكم‪ ،‬وإلاَّ فكيف نفسر سلوك العربي‬
‫الهاش�مي؟! الحقيقة أن وجود دولة داخل دول�ة أمر غير مقبول‪ .‬وإنه لعزيز علينا أن‬
‫بأيد عربية‪ ،‬وأن يكون ضحايا العرب منكم أضعاف أضعاف ضحايا‬ ‫تسفك دماؤكم ٍ‬
‫اإلسرائيليين؛ لذلك فعليكم أن تعيدوا النظر في الموقف كله‪.‬‬

‫ماذا تريدون؟ ما هو الممكن؟ وما هو المستحيل اليوم والذي قد ينقلب ممكن ًنا‬
‫في الغد القريب أو البعيد؟ واإلنسان ينتصر بالحكمة كما ينتصر بالثورة‪.‬‬

‫األهرام ‪1976/6/21‬‬

‫‪49‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عرب وعروبة‬

‫ننتظر ونتريث‪ ،‬نس�اير الشعارات‪ ،‬نستمر بالمبادرة ونخاطب الشعوب‪ .‬هذه هي‬
‫االختي�ارات المعروض�ة لتحديد موقفنا من الع�رب والعروبة‪ .‬وعلين�ا أن نفرق بين‬
‫العرب والعروبة كما نفرق بين فترة من التاريخ والتاريخ كله‪ ،‬ما بين أصله ومصيره‪.‬‬
‫وخاصمناهم‪ ،‬وتالحمنا وكالنا يهتف باسم العروبة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫عرب هذه الفترة‬
‫خاصمنا ُ‬
‫َ‬ ‫وقد‬
‫فال يجوز أن ينسينا خصام عارض األصل والجوهر‪ ،‬لذلك فال محيد عن‪:‬‬

‫‪ - 1‬االستمرار في المبادرة دون تردد أو نكوص‪.‬‬

‫‪ - 2‬الكف من جانبنا عن الخصومة مع الحكومات العربية واإلغضاء عما ُي ْل َقى‬


‫علينا من ناحيتها‪ ،‬وإذاعة أخبارها بالموضوعية‪.‬‬

‫‪ - 3‬استقبال أي مسعى جدِّ ي لحل المشكلة من ناحيتهم بما يستحقه من التأييد‪.‬‬

‫‪ - 4‬التركي�ز عل�ى مخاطبة الش�عوب العربية فيم�ا يجمعنا من قدي�م الزمان إلى‬
‫األبد‪ ،‬كالتاريخ والتراث والثقافة والفن والهموم المش�تركة‪ ،‬ولدينا في ذلك وس�يلة‬
‫ال تق�ف في وجهها مقاطعة ه�ي صوت العرب‪ ،‬فليكن صوت الع�رب حقًا وصد ًقا‬
‫وس�ط ه�ذا الضجي�ج األغبر‪ ،‬وليرفع ص�وت العقل وح�واره‪ ،‬وليدع إلى المناقش�ة‬
‫األكْ فاء خارج نطاق السياس�ة‪،‬وليعقد الندوات الثقافية والفكرية‪ ،‬وليوقف في سبيل‬
‫ذلك مسلس�له الش�هري على ك ّتاب البلاد العربية‪ ،‬في جو علم وعروب�ة وبعيدً ا عن‬
‫اإليقاع والتحريض‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫العرب‬

‫وعلينا بعد ذلك أن نصافح أي يد تمتد إلينا‪ ،‬من دول االعتدال جاءت أم من دول‬
‫الرفض‪ .‬بذلك نعي مسئوليتنا كاملة‪.‬‬

‫‪1980/5/1‬‬

‫‪51‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أنفسنا أول‪ ..‬في تشخيص المصائب‬

‫من عاداتنا الس�يئة أن�ه إذا دهمتنا مصيبة بادرنا إلى تش�خيصها دون رؤية‪ ،‬فنتهم‬
‫الحظ أو القدر أو الخصم أو اإلمبريالية العالمية‪ ،‬متجاهلين أنفسنا تما ًما‪ ،‬كأنما نحن‬
‫عالجا لهذه‬
‫ً‬ ‫مجرد ضحية بريئة ألحد تلك األس�باب‪ ،‬أو كله�ا مجتمعة‪ .‬وإني أقترح‬
‫العادة المزمنة أن نبدأ عند تشخيص المصائب بأنفسنا أولاً ‪ ،‬لعلنا نعثر في أفكارنا أو‬
‫س�لوكنا أو خططنا على ما يمكن أن يكون مس�ئولاً عما حل بنا‪ ،‬باإلضافة إلى الحظ‬
‫أو الق�در أو الخص�م أو اإلمبريالي�ة العالمي�ة‪ .‬وطبيع�ي أني ال أقت�رح ذلك لمحض‬
‫المعرف�ة‪ ،‬ولك�ن للعمل عل�ى تغيير مصيرن�ا بتغيير أنفس�نا‪ .‬وإليك مثلاً عم�ا أعنيه‪:‬‬
‫هو الموقف العربي المش�هور المعروف بالالحرب والالس�لم‪ .‬وما أقول جديدً ا إذا‬
‫قل�ت‪ :‬إن أية قضية متنازع عليها بين األمم إنما تحل بإحدى وس�يلتين‪ ،‬فإما الحرب‬
‫وإما المفاوضة‪ ،‬ولكننا خلقنا حلاً ثالثًا‪ ،‬وما هو بالحل‪ ،‬اس�مه الالحرب والالسلم‪.‬‬
‫إن دع�وت إلى الحرب قالوا‪ :‬لم يأن أوانه�ا بعد‪ ،‬وإن دعوت إلى المفاوضة صاحوا‬
‫هي الخيانة والتس�ليم والهزيمة‪ ،‬فلم يبق إلاَّ موقف الالحرب والالس�لم‪ ،‬أو ما يعني‬
‫االس�تعداد حتى تس�نح الفرصة وتمكنن�ا القوة من القضاء عل�ى الخصم‪ ،‬ولكن أي‬
‫خص�م ينتظر مكتوف اليدين حت�ى يلقى ذلك المصير؟ ول�ذا فالنتيجة المحتومة أن‬
‫مدعيا أنها حرب دفاعية‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫يشن الخصم حر ًبا وقائية ألوهى األسباب أو لغير ما سبب‬
‫دائم�ا من يصدقه ويقره على رأي�ه‪ .‬وهكذا تنهال علينا الح�روب ثم تعقبها‬
‫وس�يجد ً‬
‫الخس�ائر‪ ،‬ونمض�ي ف�ي صراخنا العنين الح�ظ أو الق�در أو الخص�م أو اإلمبريالية‬

‫‪52‬‬
‫العرب‬

‫العالمي�ة‪ .‬وما يس�تحق اللعن ف�ي الحقيقة إلاَّ س�وء رأينا وفعلنا‪ ،‬وما يس�تحق اللعن‬
‫أيضا إلاَّ تجار السالح في العالم المستفيدون األول من عنادنا العقيم‪.‬‬‫ً‬

‫‪1981/2/1‬‬

‫‪53‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الحقيقة المرة‬

‫الحقيقة المرة أن مسئولية ما حاق بالفلسطينيين وقضيتهم إنما يقع‪ ،‬أول ما يقع‪،‬‬
‫على العرب أنفس�هم‪ ،‬وأي قضية تحل ع�ادة لصالح أحد الطرفين المتنازعين بالقوة‬
‫جرت عليهم خسائر فادحة‬
‫معا بالمفاوضة‪ ،‬وقد خاض العرب حرو ًبا ّ‬
‫أو لصالحهما ً‬
‫وأثبت�ت لكل ذي عق�ل ‪ -‬ولظروف دولي�ة ومحلية‪ -‬عقم الح�رب‪ ،‬ولكنهم أصروا‬
‫باس�م الصمود والتصدي على موقف ال هو حرب‪ ،‬وال هو سلام‪ ،‬ولكنه اس�تنزاف‬
‫دائ�م لقواه�م وأموالهم‪ .‬وبفضل الس�ادات خرج�ت مصر من ذلك الم�أزق ضاربة‬
‫لآلخرين مثالاً لإلدراك الواقعي الشديد‪ ،‬فانهالوا عليها بالتهم دون أن يقدموا طريقًا‬
‫بديًل�اً ‪ .‬ولم يكتفوا بذلك‪ ،‬فأضافوا إلى موقفهم العقيم خالفات جانبية مزقتهم إر ًبا‪،‬‬
‫وأخي�را ُف ِّجرت الحرب‬
‫ً‬ ‫بي�ن المغرب والجزائ�ر‪ ،‬وتونس وليبيا‪ ،‬وس�وريا والعراق‪،‬‬
‫رمزا للتفس�خ‬
‫بي�ن الع�راق وإيران‪ ،‬لتقضي على البقي�ة الباقية‪ ،‬حتى صارت العروبة ً‬
‫والضي�اع‪ ،‬بع�د أن كانت أمًل�اً لالتحاد أو الوح�دة‪ .‬بذلك وهب�وا خصمهم الفرصة‬
‫وتبعا لرؤيته‪ ،‬وتتس�ابق األقالم العربية كش ًفا عن المؤامرات‬
‫ليحل القضية بوس�يلته‪ً ،‬‬
‫اإلسرائيلية واألمريكية‪ ،‬وينسى كثير منها موقف دول الصمود والتصدي التي تخلت‬
‫ع�ن الفلس�طينيين‪ .‬والحقيقة المرة أنه ال توجد إلاَّ مؤام�رة عربية‪ ،‬دبرها العرب ضد‬
‫أنفسهم‪ .‬ولم يبق إلاَّ أمل واحد‪ ،‬وهو أن يكونوا أهلاً لتحمل نتائجها‪.‬‬

‫‪1982/6/24‬‬

‫‪54‬‬
‫العرب‬

‫محنة راهنة‪ ..‬وفجر جديد‬

‫إنها محنة بالغة القس�وة‪ ،‬باعثة على أش�د الحزن واألس�ى‪ ،‬ولكن العبرة األخيرة‬
‫فيه�ا ره�ن بالخواتيم وبما تس�فر عن�ه التجربة‪ .‬وقد كش�فت عن ع�ورات كثيرة في‬
‫البن�اء العرب�ي لم تكن في الحقيقة خافية‪ ،‬ولكنها كش�فت ً‬
‫أيضا ع�ن صالبة المقاتل‬
‫الفلس�طيني وروحه العالية وإصراره على التمس�ك بحقه حتى الموت‪ .‬كما كشفت‬
‫ع�ن حكم�ة السياس�ة المصرية فيم�ا التزمت به من مرون�ة لمواجهة الواقع وإرس�اء‬
‫األس�اس األول لسلام عادل على عهد السادات‪ ،‬وال نريد لهذه المحنة أن تمر دون‬
‫أن تثم�ر بع�ض النتائج الطيبة؛ لننتفع بها في مس�تقبل محفوف باألخطار‪ ،‬وقد نقلب‬
‫الهزيمة إلى نوع من النصر‪:‬‬

‫‪ - 1‬ل�و أعلن المترددون من العرب إيمانهم بسياس�ة مصر وأنش�ئوا معها وحدة‬
‫أساسا لتجمع عربي جديد‪ ،‬ولو لم يكن شاملاً ‪.‬‬
‫ً‬ ‫فكرية أخوية تكون‬

‫‪ - 2‬لو اتفق هذا التجمع مع الفلسطينيين على الوصول إلى تصور واقعي معقول‬
‫لحل قضيتهم‪.‬‬

‫‪ - 3‬لو يعاد النظر في اس�تثمار األموال العربية فيتجه بصفة حاسمة نحو األرض‬
‫العربي�ة‪ ،‬والتكامل االقتصادي العربي‪ ،‬وهو كفيل بتعويض العرب عما خس�روه في‬
‫السياسة والحرب‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ - 4‬ل�و تتح�رر الش�عوب العربي�ة م�ن األكاذيب واالس�تبداد لكي تس�يطر على‬
‫مصائرها بوعيها وأصالتها‪.‬‬

‫ل�و تحقق�ت ه�ذه النتائ�ج فقد نتذك�ر محنة الع�رب الي�وم فنقول في المس�تقبل‬
‫القريب‪:‬‬

‫«كان�ت محن�ة دامية باعثة عل�ى الحزن واألس�ى‪ ،‬ولكن تو ّلد م�ن ظلماتها فجر‬
‫جديد»‪.‬‬

‫‪1982/7/8‬‬

‫‪56‬‬
‫العرب‬

‫الطريق العربي‬

‫الع�رب يمرون بمحنة‪ ،‬ويواجهون تحد ًي�ا ضار ًيا‪ ،‬وهو موقف حرج أليم‪ ،‬ولكنه‬
‫لي�س أس�وأ المواقف إذا قيس بم�ا امتحنوا به في ماضيهم البعيد والقريب‪ .‬وحس�بنا‬
‫أن نتذك�ر محن�ة التتار في الماضي البعيد‪ ،‬أو محنة االس�تعمار في الماضي القريب‪،‬‬
‫وأن نتذك�ر ً‬
‫أيضا كي�ف صمدوا للمحنتين وتجاوزوهما‪ ،‬ث�م توثبوا في كل حال إلى‬
‫نهضة جديدة‪ .‬غير أنهم مطالبون بإعادة النظر في أنفس�هم ورؤيتهم للحياة لمواصلة‬
‫مسيرتهم‪ ،‬وتحقيق ذواتهم‪.‬‬

‫‪ - 1‬عليه�م أن يتح�رروا م�ن األوصي�اء الوطنيي�ن كم�ا تح�رروا م�ن األوصياء‬


‫األجانب‪ ،‬وأن يحملوا مس�ئولية مصيرهم بأنفس�هم‪ ،‬ولك أن تسمى ذلك رجعة إلى‬
‫مبدأ الشورى‪ ،‬أو ً‬
‫أخذا بمبدأ الديمقراطية‪ ،‬فما يهمني هو المضمون ال االسم‪.‬‬

‫‪ - 2‬وعليهم أن يؤمنوا بأن خيرات بالدهم حق للجميع‪ ،‬فمن ٍّ‬


‫كل على قدر همته‪،‬‬
‫إسلاميا‬
‫ًّ‬ ‫ٍّ‬
‫ولكل على قدر اجتهاده‪ ،‬والرحمة للعاجزين‪ ،‬ولك أن ت َُس ِّ�مي ذلك تضام ًنا‬
‫أو عدالة اجتماعية‪ ،‬أو اشتراكية‪ ،‬فما يهمني هو المضمون ال االسم‪.‬‬

‫‪ - 3‬وعليه�م أن يج�ددوا ذك�ر المج�د الغاب�ر حي�ن كان�ت داره�م دار العق�ل‬
‫والمعارف‪ ،‬وفتح النوافذ‪ ،‬وحقوق اإلنس�ان‪ ،‬يأوي إليه�ا أهل األديان‪ ،‬وينعم بأمنها‬
‫األقليات‪ ،‬ولك أن ت َُس ِّ�مي ذلك بالتس�امح اإلسالمي أو روح الحضارة الحديثة‪ ،‬فما‬
‫يهمني هو المضمون ال االسم‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ - 4‬وعليه�م أن يس�تثمروا فائ�ض أمواله�م ف�ي بالده�م‪ ،‬ليخلقوا من أش�تاتها‬


‫المتهافت�ة وح�دة اقتصادي�ة حضاري�ة متكامل�ة‪ ،‬تق�در عل�ى المش�اركة ف�ي العصر‬
‫�مي ذلك أخوة إسلامية عربية‪ ،‬أو فطنة سياسية اقتصادية‪ ،‬فما‬
‫الحديث‪ ،‬ولك أن ت َُس ِّ‬
‫يهمني هو المضمون ال االسم‪.‬‬

‫فليفعلوا ذلك‪ ،‬وليفعلوه بال تردد أو إبطاء‪ ،‬أو فليذهبوا بغير سالم ليستخلف الله‬
‫على أرضه من هم خير منهم‬

‫‪1982/9/19‬‬

‫‪58‬‬
‫العرب‬

‫متى نعرف قيمة الوقت؟‬

‫يب�دو أن الع�رب ال يرغبون في اتخاذ خطوة جديدة قبل أن يتم الجالء عن لبنان‪،‬‬
‫أو عل�ى األقل قبل أن يتم االتفاق على ذلك‪ .‬ولهذه السياس�ة ما يبررها‪ ،‬فهي تتس�م‬
‫بالحكمة والمنطق‪ ،‬إذ أن الجالء عن لبنان هو دليل ما من ناحية إسرائيل على الرغبة‬
‫توس�عية‪ ،‬فضلاً عن أنه من ناحيتنا ّ‬
‫يمهد‬ ‫في حل المش�كلة ونفي الش�بهة عن أطماع ُّ‬
‫وس�لبا‬
‫ً‬ ‫الجدي إلى االس�تقرار في وطن ش�قيق ينعكس ما يجري فيه إيجا ًبا‬
‫الس�بيل ّ‬
‫عل�ى المنطقة العربية ككل‪ .‬ولكن الوقوف عند ذل�ك دون االنتباه إلى عامل الوقت‬
‫ينذر بضياع فرصة قد ال تعود في الزمن القريب‪ ،‬ويعرض المنطقة لتوتر يسير بها من‬
‫سيئ إلى أسوأ‪.‬‬
‫ّ‬
‫واالعتم�اد الكلي عل�ى الواليات المتحدة قد يصيب وق�د يخيب وأظن أن أكثر‬
‫المتفائلي�ن من المعتدلين يعانون وال ش�ك ش�ي ًئا م�ن خيبة األمل في ه�ذا المجال‪،‬‬
‫فلا مف�ر من االعتم�اد على النف�س مع انتظ�ار التح�رك األمريكي‪ ،‬وكوس�يلة ً‬
‫أيضا‬
‫لتحريك�ه‪ .‬ف�إن يكن في نية الع�رب الدخول في مفاوضات مع إس�رائيل فال أقل من‬
‫أن يمهدوا الطريق إلى ذلك باالعتراف بها‪ ،‬ولعل ذلك يكون من األسباب اإليجابية‬
‫في إنجاح المفاوضات الجارية في لبنان لتحقيق الجالء المنش�ود‪ ،‬بل لعل الدخول‬
‫ف�ي المفاوضات المنتظرة أمامه عقبات من طري�ق المفاوضات الجارية‪ ،‬وهي تلك‬
‫أساس�ا من موقف الالحرب والالس�لم بين العرب وإسرائيل‪ ،‬مثل‬
‫ً‬ ‫العقبات الناش�ئة‬

‫‪59‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫التطبيع واألمن‪ .‬البد من حركة حاس�مة لمواجهة الموقف‪ ،‬وكفانا ما ضاع من عمر‬
‫وأموال تحت شعارات غير واقعية حتى تكشفت الحقيقة المرة عن موقف المتطرفين‬
‫المخ�زي في الحرب بين الجيش اإلس�رائيلي العرمرم وقلة م�ن الفدائيين األبطال‪،‬‬
‫وال يكف�ي أن نتعلم من األح�داث‪ ،‬وال أن نعرف في النهاية الطريق الصحيح‪ ،‬وإنما‬
‫علينا أن نسير فيه دون تردد‬

‫‪1983/2/10‬‬

‫‪60‬‬
‫العرب‬

‫ماذا تَ ْعني إسرائيل؟‬

‫يؤم�ن كثي�ر م�ن الع�رب ب�أن إس�رائيل عصاب�ة م�ن االس�تعماريين العنصريين‬
‫المتعصبي�ن‪ ،‬ال أم�ل ف�ي أن يجنحوا بإخالص إلى الس�لم والتفاهم أب�دً ا‪ ،‬وأنهم إذا‬
‫اضطروا إلى الس�لم في وقت ما تعاملوا معه كهدنة عابرة أو خطة موضوعية ينفذون‬
‫منها بوس�ائل شتى إلى تحقيق حلمهم في اس�تغالل المنطقة واستعبادها‪ ،‬وإجبارها‬
‫على البقاء في هاوية التخلف إلى ما ش�اء الله‪ ،‬فإذا هبت في إس�رائيل معارضة ضد‬
‫وتوزيعا للعمل الذي‬
‫ً‬ ‫ولوح رجالها بالسالم‪ ،‬اعتبروها تمثيلية ساخرة‬
‫سياس�ة العنف ّ‬
‫يستهدف في النهاية غاية واحدة ال يختلف فيها اثنان‪ ،‬حتى لجنة التحقيق وما أجرته‬
‫من تحقيقات ووجهته من إدانات‪ ،‬فما هي بالدليل على ديمقراطية حقيقية‪ ،‬وال تعبير‬
‫ع�ن ضمير أخالقي مس�تقيم‪ ،‬ولكنها فص�ل جديد من فص�ول التمثيلية‪ ،‬وحركة من‬
‫حركات اللعبة‪ ،‬غير أنه من مالحظة السياس�ة العربية الجارية ومتابعة بعض مفكريها‬
‫يمك�ن الق�ول بأن ذلك ال�رأي غير مس�لم به من الجمي�ع‪ ،‬فعلى األق�ل ال يمكن أن‬
‫يؤمن به الذين يس�عون إلى إقامة سلام عادل في المنطقة‪ ،‬والذين هم على استعداد‬
‫لالنضمام إليهم في الوقت المناسب‪ ،‬بل إن زعيم المجاهدين الفلسطينيين ال يسلم‬
‫حوارا مع بعض زعماء المعارضة اإلس�رائيلية‪ ،‬ووجد فيهم‬
‫ً‬ ‫ب�ه فيما أرى م�ا دام َقبِ َل‬
‫أهلي�ة للح�وار والتفاهم‪ ،‬ولعله رأي س�ليم يقتضيه التالحم البش�ري ويقره التاريخ‪،‬‬
‫مرارا‬
‫وأق�ل ما يمكن أن يقال فيه إنه يس�تحق أن يجرب ول�و مرة كما جربت الحرب ً‬
‫وتكرارا‪ ،‬وواجب علينا في هذه الحال تش�جيع الفريق المعارض وتصديقه بد ً‬
‫ال من‬ ‫ً‬

‫‪61‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إظهاره بمظهر الماكر المناور‪ ،‬ولعل التجربة تس�فر عن سلام عادل شامل في نهاية‬
‫المطاف‪ .‬ونحن الذين غامرنا بسلسلة من الحروب‪ ،‬ونحن دون المستوى الالئق لها‬
‫ال يجوز أن نخاف حمل أمانة السالم وتبعاته وتحدياته‪.‬‬

‫‪1983/3/3‬‬

‫‪62‬‬
‫العرب‬

‫درس البترول‬

‫جاءت أزمة البترول ِّ‬


‫لتذكر العرب بأن عصر البترول إلى زوال‪ ،‬شأنه شأن جميع‬
‫العص�ور‪ ،‬ولعله�ا فرصة إلع�ادة النظر في موقفهم كله حيال فترة س�عيدة س�خية ال‬
‫محس�ورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫غانما أو ملو ًما‬
‫س�الما ً‬
‫ً‬ ‫تتكرر‪ ،‬كانها امتحان لإلنس�ان‪ ،‬فإما أن يخرج منها‬
‫ومن قديم عرف أن ثراء البترول ال دوام له‪ ،‬ولكنه إذا حس�ن اس�تغالله برؤية شاملة‪،‬‬
‫وبصيرة نافذة‪ ،‬وعقيدة مخلصة‪ -‬فقد يكون المخرج للعرب من ظلمات التأخر إلى‬
‫نور الحضارة‪ ،‬ولكأن العقل يطالبهم بحل مشكالتهم والفراغ للبناء علي ظل التكامل‬
‫االقتصادي والثقافي‪ ،‬ولكنهم لألس�ف وقعوا تحت مظلة الشعارات في شرك دولي‬
‫مخيف اس�تنفد الباليين من أموالهم في شراء سالح ال يستعمل‪ ،‬واستهالك ترفي ال‬
‫ض�رورة له‪ ،‬ومزقهم بالخالفات الجانبية‪ ،‬فأه�درت باليين أخرى في حروب غبية‪،‬‬
‫ومؤام�رات عالمية‪ ،‬وصارت المنطقة مثالاً في التمزق والفوضى واالنهزامية‪ ،‬وهي‬
‫التي تعتبر بحكم التاريخ والثقافة واللغة والجوار أسرة كبيرة واحدة‪ ،‬فهل ثمة أمل في‬
‫إعادة النظر برؤية صافية تتجاوز األنانية‪ ،‬واألحقاد؟ وهل ثمة أمل في إنقاذ ما يمكن‬
‫إنق�اذه باإليمان الواجب‪ ،‬باالعتم�اد على النفس‪ ،‬واالهتداء إل�ى الهدف الصحيح‪،‬‬
‫واالندفاع القوي المكين نحو سياسة التكامل االقتصادي والثقافي‪ ،‬باعتبارها السبيل‬
‫المف ِ‬
‫ْضي إلى الحضارة والتقدم والقوة والكرامة؟ كأنهم نسوا الخالفات التي‬ ‫الوحيد ُ‬
‫قديما والتتار يحدقون ويدقون أبوابهم‪ ،‬واليوم تمزقهم خالفات أدهى وأمر‪،‬‬
‫مزقتهم ً‬

‫‪63‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بينما عدو أش�د شراسة من التتار يتهددهم هو التخلف‪ ،‬التخلف في عصر ينطلق فيه‬
‫التقدم بسرعة الصاروخ‪ ،‬والله ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‪.‬‬

‫‪1983/3/31‬‬

‫‪64‬‬
‫العرب‬

‫الحكمة المنشودة‬

‫عالمنا العربي‪ ،‬وغالبية الدول النامية‪ ،‬تتخبط في تيه ال تدري كيف تخرج منه أو‬
‫جميعا تس�عى إلى التغلب على التخلف بالتنمية الش�املة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال تريد أن تخرج منه‪ .‬إنها‬
‫وف�ي س�بيل ذلك تس�تدين من األم�م المتطورة التي عاش�ت طويلاً تح�ت وصايتها‬
‫ووطأة اس�تغاللها‪ ،‬وفي الوقت نفسه تبدد أموالاً فوق طاقتها للتسليح واالستهالك‪،‬‬
‫ويتضم�ن األخي�ر ج�ز ًءا ال يس�تهان به من الب�ذخ والت�رف‪ .‬والنتيجة أنه�ا تغرق في‬
‫الديون دون أن تحقق التنمية المنشودة‪ ،‬أو دون أن تحققها على الوجه السديد‪ ،‬فهي‬
‫ف�ي حاجة إلى االنضب�اط والحكمة‪ ،‬ولن يتأتَّى لها ذلك إن لم تعد النظر في موقفها‬
‫م�ن الحي�اة ككل‪ ،‬بمعنى أن تعزم عزيمة صادقة على حل مش�كالتها الخارجية ولو‬
‫ٍ‬
‫بشيء من التنازالت‪ ،‬وأن تواجه مطالب الحياة بحزم يحفظ لها الضروريات ويفطم‬
‫تطلعاتها لإلس�راف الس�فيه ولو ببعض التقش�ف‪ .‬عند ذاك ينزاح ع�ن كاهلها عبء‬
‫التس�لح الجنوني الذي تزهق به أرواحها‪ ،‬وتدخر األموال التي تتالش�ى هباء‪ ،‬فتنقذ‬
‫مس�تقبلها من التدهور واالنهيار‪ ،‬وتحقق القدر الضروري من الحضارة التي ال غنى‬
‫عنها في هذا العالم المندفع بس�رعة الصارخ في مجاالت التقدم واإلبداع ساعة بعد‬
‫أخرى‪ .‬وها هي مراكز إحصاء التسلح العالمي تعلن من حين آلخر أن منطقة الشرق‬
‫األوسط من أكثر المناطق شراء للسالح‪ ،‬وتذيع عن ذلك أرقا ًما خيالية‪ ،‬لو أن العرب‬
‫أنفقوها على تكاملهم االقتصادي والثقافي لجعل منهم أمة زراعية صناعية متطورة‪،‬‬
‫مصدرا من مصادر الغذاء في العالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫تحقق لنفسها االكتفاء الذاتي‪ ،‬وتكرس نفسها‬

‫كل ذل�ك يمكن حس�ابه باألرقام‪ ،‬فلا هو من األحالم وال األس�اطير‪ .‬وبمقارنة‬
‫بس�يطة بي�ن م�ا يمك�ن أن يك�ون وبين ما ه�و كائ�ن‪ ،‬يتبين ل�ك الفرق بي�ن الحكمة‬
‫‪65‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫والضالل‪ .‬وقد قلنا لهم هذا الكالم يو ًما في إحدى صحفهم السيارة فكان جزاؤنا أو‬
‫وضعن�ا في القائمة الس�وداء‪ ،‬قائمة الخونة للقضية العربية‪ .‬في�ا أيتها القضية العربية‪،‬‬
‫كم من الجرائم ترتكب باسمك‪.‬‬

‫‪1983/6/3‬‬

‫‪66‬‬
‫العرب‬

‫الحرب الالمعقولة‬

‫ًّأيا كانت نتيجة الحرب العراقية ‪ -‬اإليرانية فلن يهون شيء من عواقبها الوخيمة‪،‬‬
‫هالكا لألنفس والم�ال‪ ،‬واغتيالاً ضار ًي�ا للتنمية الحضارية‪،‬‬
‫س�تظل بالنس�بة للعراق ً‬
‫باإلضاف�ة لكونها تخلخلاً مزلزلاً في البناء العربي الع�ام الذي تنهال عليه الضربات‬
‫من جميع الجهات‪ ،‬وتبحث عن س�بب لذلك كله فلن تظفر بمنطق يس�وغ المغامرة‬
‫أو يعتذر عن الضاللة‪ ،‬فما هو إلاَّ أن تخطر برأس الحاكم بأمره فكرة حتى يجيش بها‬
‫تياها وقد‬
‫صدره‪ ،‬وتملك عليه زمامه كأنما هي وحي من السماء‪ ،‬وينطلق في تنفيذها ً‬
‫امتألت شراع زعامته بالهواء‪ ،‬وانتشر ظلها فوق األرض‪ ،‬ثم تنقض العاقبة كالوحش‪،‬‬
‫فتهلك الرجال‪ ،‬وتبدد الثروات‪ ،‬فتتالش�ى الزعام�ة جارفة معها الكرامة واألمل‪ .‬إنه‬
‫داء وبيل ذو رأس�ين‪ :‬رأس يسمى الزعامة النهمة‪ .‬واآلخر يسمى االستبداد األعمى‪،‬‬
‫ول�و كان زلة فردية يخطئ فيها إنس�ان ثم يدفع ثم�ن خطئه لهان األمر‪ ،‬ولكنه يخطئ‬
‫تاركا لش�عبه ميرا ًثا ثقيلاً من الهزيمة والخراب يكابده جيلاً بعد‬
‫ويمضي إلى س�بيله ً‬
‫جي�ل‪ .‬وقد تبدو الش�عوب ضحي�ة بريئة‪ ،‬ولكن عل�ى المتأمل أن يمع�ن البصر أكثر‬
‫لعله يرى معي أن مسئولية الشعب ال تقل عن مسئولية الجالد‪ ،‬فإنه يشارك في صنع‬
‫حكام�ه ويذع�ن ألهوائهم وي َّتقي غضبه�م‪ ،‬ولعله يرى معي ً‬
‫أيض�ا أن الصبر في غير‬
‫موضع�ه‪ ،‬والالمباالة وإيثار السلامة ‪-‬بأي ثم�ن ‪ -‬قد تورث الن�دم الطويل في ليل‬
‫الحسرة الطويل‪.‬‬

‫‪1983/8/5‬‬

‫‪67‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نحن والكوارث‬

‫تع�رض الع�رب في تاريخه�م الطويل إل�ى ك�وارث متنوعة‪ ،‬أوش�ك بعضها أن‬
‫يقذف بهم في هاوية الفناء أو يرديهم في فراغ النس�يان‪ .‬واس�ترجاع هذه الحقيقة ال‬
‫يخل�و من فائ�دة في أيامنا الراهن�ة التي يجد العرب أنفس�هم فيها ممزقين بين ش�تى‬
‫المواق�ف واآلراء‪ ،‬تحدق بهم أخطار كثيرة‪ ،‬وتهددهم ع�داوات متنمرة‪ ،‬وتطحنهم‬
‫وغالبا ما ترجع أس�باب الك�وارث إما إلى خالفات داخلية بين العرب‬
‫ً‬ ‫هزائم مريرة‪.‬‬
‫وأنفس�هم‪ ،‬أو إل�ى أعداء من الخارج يروم�ون اغتيالهم أو إبادتهم أو الس�يطرة على‬
‫مصيره�م‪ .‬فف�ي أوج عزته�م وذروة انتصاره�م ش�جر أول خالف بينه�م على عهد‬
‫خليفته�م الثالث‪ ،‬فش�ردهم أحزا ًبا‪ ،‬وردهم إل�ى عصبية الجاهلية أو أش�د‪ ،‬وأجرى‬
‫أنهارا حتى ش�غلوا حي ًنا عن رس�التهم بخصوماته�م التي امتدت بعض‬
‫بينهم الدماء ً‬
‫بواعثه�ا حت�ى يومنا ه�ذا‪ ،‬ونال ذلك من قوته�م‪ ،‬ولكنه لم يمنع قافلتهم من الس�ير‪،‬‬
‫فأنشئوا إمبراطورية وحضارة‪.‬‬

‫وفي زمن آخر جمع الغرب جموعه بغية القضاء عليهم في سلسلة من الحروب‬
‫االس�تعمارية المتخفي�ة وراء قن�اع الدين‪ ،‬تواصل�ت أعوا ًما طويل�ة‪ ،‬وتوجت بنصر‬
‫ُأقيمت لهم به ممالك في شرقنا‪ ،‬ت ُُوورثت عروشها جيلاً بعد جيل‪ ،‬واتخذت كقاعدة‬
‫عريضة للمزيد من الوثوب في المس�تقبل‪ ،‬وظن كل متشائم أن تلك هي النهاية التي‬
‫ل�ن تعقبه�ا نهاي�ة أخرى‪ ،‬ولك�ن خاب ف�أل العدو والش�امت والمتش�ائم‪ ،‬فاقتلعت‬
‫الممال�ك مملك�ة وراء أخرى حتى تطهرت األرض من الغ�زاة وعادت ترفرف فوق‬
‫قالعها أعالم أصحابها المجاهدين الصابرين‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫العرب‬

‫وفي حقبة تالية اجتاح األرض هول أس�ود مدمر اس�مه التت�ار(((‪ ،‬اقتحم الحصون‪،‬‬
‫ناش�را الرعب بين يديه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ودوخ الم�دن‪ ،‬وأب�اد الناس‪ ،‬وداس باألق�دام جواهر الحضارة‬
‫حتى تحول في األفئدة أسطورة للخوف والموت‪ .‬ولكنه على حدودنا وجد من يتصدى‬
‫ل�ه ويتح�داه‪ ،‬فيوقف تياره المتدفق‪ ،‬ويكس�ر س�يفه الدامي‪ ،‬ويقلب نص�ره إلى هزيمة‪،‬‬
‫فيقلص ظله‪ ،‬وينقذ العالم من شره المهلك‪.‬‬

‫وف�ي مرة رابعة غ�زا العالم العربي س�لطان قاهر‪ .‬أخضعه إلرادت�ه حوالي أربعة‬
‫ق�رون‪ ،‬أطف�أ فيها كل ش�معة ف�ي أرجائ�ه‪ ،‬وأذل أبناءه‪ ،‬واس�تصفى أموال�ه وخيراته‬
‫س�ياجا م�ن حديد منع عنه النور من حوله‪ ،‬فس�بح في ظالم‬
‫ً‬ ‫وعقول�ه‪ ،‬وضرب حوله‬
‫دام�س‪ ،‬حتى صح�ا صحوة أهل الكهف أمام رس�ل عصر جدي�د‪ ،‬وإذا به يبعث من‬
‫جديد‪ ،‬وفي حيرة شديدة‪ ،‬فيواصل مد جسوره إلى العالم من حوله‪ ،‬ويشرئب بحب‬
‫اس�تطالعه إلى استيعاب ما فاته في نومه الطويل‪ ،‬محد ًثا نهضة مباركة بعد أن ظن به‬
‫الموت والفناء‪.‬‬

‫وفي عصرنا الحديث‪ ،‬وفي أعقاب الحرب العظمى األولى على وجه التحديد‪،‬‬
‫س�قطت البالد العربية في قبضة االس�تعمار األوربي باتفاق عالمي‪ ،‬بعد أن ضم إليه‬
‫ع�د ًدا منها قبل ذلك بمختلف العلل‪ ،‬وران الظالم على القلوب‪ ،‬وأس�فر المس�تقبل‬
‫عن يأس كئيب‪ .‬ووقف القائد المنتصر على قبر صالح الدين يتحداه أن يقوم إلنقاذ‬
‫قومه‪ ،‬وإذا بأول ثورة على االس�تعمار تندلع في مصر‪ ،‬فتتبعها سلس�لة من الثورات‪،‬‬
‫وإذا بصفوف الشهداء تتساقط ص ًفا بعد صف‪ ،‬وفي أقل من نصف قرن فازت جميع‬
‫البالد باس�تقاللها‪ ،‬ومارست س�يادتها فوق أراضيها‪ ،‬وواصلت رسالتها الخالدة في‬
‫تنمية ذواتها‪ ،‬واستكمال حضارتها‪.‬‬

‫((( مجموع�ة قبائ�ل مغولية اجتاحت الش�رق العربي ف�ي القرنين الثاني عش�ر والثالث‬
‫عشر الميالديين‪( .‬المحرر)‬
‫‪69‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بأس�ى وقنوط‪ ،‬ال‬


‫ً‬ ‫أس�وق حديث�ي ه�ذا للذين ينظ�رون إلى موقف الع�رب اليوم‬
‫لأِ‬
‫ُ ِّ‬
‫هون منه‪ ،‬فهو موقف عس�ير حقًا‪ ،‬وال ألعزيهم بأمجاد ماضية‪ ،‬فاألمجاد الماضية‬
‫ال تج�دي في تغيي�ر الواقع‪ ،‬ولكن ألقول لهم‪ :‬إن الكوارث ليس�ت بالجديدة علينا‪،‬‬
‫فك�م تعاملنا معها‪ ،‬وكم احتويناها وتجاوزناها إل�ى الخير والعافية‪ ،‬فال داعي مطلقًا‬
‫للقنوط أو التشاؤم وال داعي لتصور أن شي ًئا يمكن أن يدوم‪ :‬فال شر يدوم‪ ،‬وال خير‬
‫يدوم‪ ،‬وال داعي إلى أن نخاف الحرب إذا وجبت الحرب‪ ،‬وال أن نخاف الس�لم إذا‬
‫وج�ب الس�لم‪ ،‬وال أن نجفل من تجربة‪ ،‬أو نجزع من منافس�ة خصم‪ ،‬ولنعد أنفس�نا‬
‫دائما بالعزيمة والحضارة والنزاهة لمواجهة الحياة بجميع تقلباتها من شر وخير‪.‬‬
‫ً‬
‫‪1984/2/24‬‬

‫‪70‬‬
‫العرب‬

‫تأمالت عربية‬
‫ل�كل أم�ة همومها الروحية والمادية‪ ،‬ولكن مما يدعو للتأمل واألس�ى أن تتس�ع‬
‫هوة الخالف في العصر الواحد بين بعض األمم والبعض‪ ،‬بحيث ينشغل فريق بكيفية‬
‫إنش�اء قرية دائمة في الفضاء‪ ،‬على حين يحش�د فريق آخر قواه لتحقيق مطالب أولية‬
‫للحياة والحضارة‪ ،‬مثل توفير الغذاء‪ ،‬ومحو األمية‪ ،‬وإصالح الهياكل األساسية‪.‬‬
‫وقد يكون لكل جانب ظروفه ومالبساته التي تفسر تقدمه أو توقفه‪ ،‬ولكن كيف‬
‫يجد المتأخرون مذا ًقا للراحة ووق ًتا للنوم وهم يعون هذا الفارق المخيف الذي يهدد‬
‫وجودهم ذاته وصالحيتهم للبقاء ومعنى إنس�انيتهم؟ ثم كيف يكون الحال عندما ال‬
‫يكفيهم تأخرهم المتردي فيضاعفوا من عثراتهم بأيديهم‪ ،‬يتناحرون حول ثأر مضى‬
‫عليه آالف الس�نين‪ ،‬أو يتخاصموا في أطماع فردية ضعف الطالب فيها والمطلوب‪،‬‬
‫أو يستبقون في تجاهل الواقع والفرار أمام الحقيقة‪ ،‬ثم تمضي األيام وتبعثر األحوال‬
‫بال خطة حقيقية لمواجهة التخلف الذي ينذرهم بالفناء‪.‬‬
‫وق�د أعطين�ا من اإلمكاني�ات ماال يس�تهان به‪ ،‬وال يتهي�أ لقوم إلاَّ ف�ي النادر من‬
‫الظ�روف‪ ،‬أعطينا العدل الغزير‪ ،‬والمال الكثير‪ ،‬والتجانس الفريد في اللغة والثقافة‪،‬‬
‫والمش�اركة ف�ي التاري�خ والهدف‪ ،‬ووراءن�ا تركة م�ن التجارب التاريخية المش�رفة‬
‫فم�اذا ينقصن�ا لكي نبدأ؟ بل م�اذا ننتظر حتى ننه�ي خالفاتنا الجانبي�ة وننتنادى كما‬
‫يتن�ادى الطي�ر عند جثوم الخط�ر؟ أهو فقدان للوعي أم فقدان للإرادة أم رغبة خفية‬
‫ف�ي الم�وت؟ ترى متى تحدث المعجزة؟ وأي رجل أو أي ش�عب س�يكتب له فخر‬
‫إحداث المعجزة في مستقبل األيام؟‬

‫‪1983/11/17‬‬

‫‪71‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫األمل الباقي‬

‫ترى ما رأي الش�عوب العربية فيما يجري فوق الساحة العربية من مهازل مفجعة‬
‫دامية؟ لعله السؤال الذي لن تظفر له بجواب حاسم على اإلطالق‪.‬‬

‫من جمي�ع األركان ترتفع أصوات قادة وزعماء‪،‬وته�در تصريحات ومأثورات‪،‬‬


‫وتتخ�ذ قرارات في الس�ر والعالني�ة‪ ،‬وتتدفق أنه�ار من الدم�اء والفوضى‪ ،‬وترهف‬
‫الس�مع كيف ش�ئت فال تس�مع لصاحب الح�ق األول فيما يكون م�ا ينبغي أن يكون‬
‫صوتًا‪ ،‬كأنما هو فريضة غائبة وضحية أبدية لهواة الحكم واالستبداد‪ .‬ولذلك تتعدد‬
‫التأويالت‪ :‬فمن قائل بأنها سياسة هذا الحاكم أو ذاك‪ ،‬ومن قائل بأنها مؤامرة أمريكية‬
‫أو سوفيتية أو دولية‪ ،‬ولكنك لن تسمع أبدً ا بأنها خطة عربية طالما أن العرب لم يتهيأ‬
‫لهم الوجود بعد‪ ،‬ولم تتح لهم فرصة القول بل الفعل‪ .‬فحتى متى ننتظر وقطار الحياة‬
‫ينطلق بأقصى سرعة غير حافل المترددين والمنتظرين؟ ال أمل لنا اليوم إلاَّ في الدول‬
‫العربية الغنية‪ ،‬لقد أدت واجبات س�تذكر لها في دعم الدفاع وفي استثمارات متفرقة‬
‫ف�ي بالد عربي�ة وإفريقية‪ ،‬ولكن عليها أن تتذكر أن األق�دار قد وضعت بيدها القدرة‬
‫على انتش�ال البلاد العربية من وهدة التخل�ف‪ ،‬ودفعها لمواجه�ة العصر الحديث‪.‬‬
‫أج�ل إن واجبه�ا الدائم ه�و وضع خطة ش�املة للتكام�ل االقتص�ادي والمضي في‬
‫ٍ‬
‫ت�وان أو انتظار‪ .‬ولن يكلفها ذلك نصف ما تكلفته في ش�راء السلاح‬ ‫تنفيذه�ا دون‬
‫الذي ينتحر به العرب اليوم‪ ،‬كما أنه لن يضيع بال ثمرة‪ ،‬ولكنه سيعود عليها بالفوائد‬

‫‪72‬‬
‫العرب‬

‫صفحا عن الخالفات‬
‫ً‬ ‫والحض�ارة واألمان‪ .‬عليها أن تمضي في هذا الطري�ق ضاربة‬
‫السياس�ية‪ ،‬ب�ل عليها أن تبدأ ‪ -‬إذا ش�اءت‪ -‬بالبالد المتوافقة معه�ا‪ ،‬ومن يدري فقد‬
‫يكون إلعالن الخطة واألخذ في تنفيذها من األثر ما ال يقدره الحاس�بون في تصفية‬
‫الخالف�ات‪ ،‬وإحالل أفكار التقدم واإلصالح‪ ،‬مكان أف�كار الجنون واالنتحار‪ .‬هذا‬
‫هو األمل الباقي لنا في هذه الظلمات الملطخة بدماء األبرياء‪.‬‬

‫‪1983/12/15‬‬

‫‪73‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بين القضية والهدف‬

‫قي�ل ف�ي الموقف العرب�ي الراهن كل ما يمك�ن أن يقال‪ .‬وكل يوم يمر يحس�ب‬
‫علين�ا ال لن�ا‪ ،‬فعلينا أن نتذكر أش�ياء قبل أن نفق�د الذاكرة بعد أن كدن�ا نفقد اإلدراك‬
‫والبصيرة‪ .‬علينا أن نتذكر أننا أصحاب هدف ال أصحاب قضية فحسب‪ ،‬وإذا اقتضى‬
‫الواج�ب ألاَّ نهم�ل القضية من أجل الهدف‪ ،‬فالحكمة تطالبنا بالاَّ َن ْن َس�ى الهدف في‬
‫حوم�ة البح�ث عن حل للقضي�ة‪ .‬أما القضي�ة فجميعنا يعرفها وفي س�بيلها خاضت‬
‫مصر حرو ًبا متالحقة‪ ،‬ومن أجلها جنحت إلى السلام كخطوة أولى إلرس�اء قواعد‬
‫وأما الهدف فهو الحض�ارة أو التقدم أو التكامل الش�امل‪،‬‬
‫عدل ش�امل في المنطق�ة َّ‬
‫أو إن ش�ئت‪ :‬أن نك�ون بع�د أن أوش�كنا على ألاَّ نك�ون‪ .‬والطبيعي أن يك�ون الرأي‬
‫يتحرى رغبات ش�عبه في جميع‬
‫األول ف�ي القضي�ة للفلس�طينيين‪ ،‬فعلى زعيمهم أن َّ‬
‫مواقعه عن مطالبهم المش�روعة‪ ،‬والوس�يلة التي يقترحونه�ا لتحقيقها‪ .‬وعلى جميع‬
‫البلاد الت�ي تتفق معهم في الرؤية أن تؤيده وتس�عى من فورها إل�ى العمل غير ملقية‬
‫انتظ�ارا لتوحي�د كلمة ال تري�د أن تتوحد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ب�الاً إل�ى المعارضي�ن‪ ،‬أو مؤجلة س�عيها‬
‫وطبيعي ً‬
‫أيضا أال يوجد خالف حول الهدف‪ ،‬فحتى المختلفون في القضية يجب أن‬
‫فورا في‬ ‫يكونوا متفقين عليه‪ ،‬وهو ً‬
‫أيضا غير قابل لمزيد من التأجيل‪ ،‬فعلينا أن نسرع ً‬
‫تعصبا‬
‫ً‬ ‫تنفيذه على أساس علمي ومن خالل خطة محكمة‪ .‬وحتى إذا نكص قوم عنه‬
‫لموقفهم من القضية‪ ،‬فعلى اآلخرين أن يمضوا في س�بيلهم بال تردد‪ ،‬وسوف يلحق‬
‫َّ‬
‫ولعل دور مصر في هذه اآلون�ة هو التوثب إلنجاز‬ ‫به�م الناكصون عاجًل�اً أو آجلاً ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫العرب‬

‫القضي�ة واله�دف على النحو المذكور‪ ،‬أو على مثال أفض�ل‪ ،‬ولعله أخطر من الدور‬
‫ال�ذي قامت به ي�وم تصدت للمغول‪ ،‬فص�دت موجة من الفن�اء كادت تلتهم عالمنا‬
‫كله‪ .‬والله ال يضيع أجر من أحسن عملاً ‪.‬‬

‫‪1984/1/26‬‬

‫‪75‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫صاحب القضية‬

‫كان ينبغي أن يكون لدينا تصور واضح عن حل القضية الفلسطينية‪ ،‬وكان ينبغي‬
‫أن يحظ�ى بالموافق�ة الش�املة بين العرب؛ لنطمئ�ن إلى أننا خطون�ا الخطوة األولى‬
‫الحاس�مة في طري�ق الهدف المرجو‪ .‬ولك�ن الواقع أنه يوجد أكثر من مش�روع حل‬
‫غي�ر معل�ن‪ ،‬وأنه مضى زم�ن طويل فلم يتحقق فع�ل أو رأي أو اتفاق يمهد الس�بيل‬
‫إل�ى رفع المقت ع�ن المعذبين ف�ي األرض‪ .‬مضى زمن طويل دون مب�االة‪ ،‬مضي ًفا‬
‫واقعا قد يش�ق تغييره‪ .‬حتى ش�رعية المنظمة‬
‫أمرا ً‬
‫ومكرس�ا ً‬
‫ً‬ ‫كل يوم خس�ائر جديدة‪،‬‬
‫وأخيرا جاء النبأ‬
‫ً‬ ‫في تمثيل الش�عب الفلس�طيني مس�ت بتنكر دولة عربية أو أكثر لها‪.‬‬
‫باالتف�اق بي�ن المنظمة واألردن‪ ،‬فكان بارقة أمل في س�ماء ملبدة بالغيوم‪ .‬وأخش�ى‬
‫ما أخش�اه أن يتعرض لبطش المزايدات‪ ،‬فيمس�ي هد ًفا للطع�ن واالتهام‪ ،‬فيغرق في‬
‫البحر الميت‪ ،‬بحر الصمت والتجمد والالمباالة‪ .‬وأتساءل‪ :‬أين الشعب الفلسطيني‬
‫ف�ي ه�ذه المحن�ة المزمن�ة‪ ،‬وهو صاح�ب القضية وصاح�ب ال�رأي األول واألخير‬
‫فيه�ا؟ لماذا ال نرج�ع إليه لعله ينتش�ل األوصياء من الظلمات الت�ي يتخطبون فيها؟‬
‫إن يك�ن ثم�ة خالف حول من يمثله فليحس�م األمر بإعالن رأيه ف�ي ذلك‪ ،‬وإن يكن‬
‫هناك أكثر من تصور لحل القضية فلتطرح جميع التصورات عليه‪ ،‬وليجر على ذلك‬
‫اس�تفتاء داخل أرضه وخارجها‪ ،‬تحت إش�راف هيئة األمم‪ ،‬وعلى الجميع بعد ذلك‬
‫أن يلتزموا برأيه‪ ،‬ويمضوا راش�دين في تنفيذه دون تردد أو انتظار‪ ،‬هو الش�عب الذي‬

‫‪76‬‬
‫العرب‬

‫يعان�ي تحت وط�أة االحتالل أو في غياب�ات المهاجر‪ ،‬وهو ال�ذي تكتنفه الكوارث‬
‫وته�دد أمنه يو ًما بعد يوم‪ ،‬وهو في النهاي�ة صاحب القضية‪ ،‬وصاحب الرأي النهائي‬
‫في تقرير المصير‪.‬‬

‫‪1985/2/28‬‬

‫‪77‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بين الواقع والحلم‬

‫ف�ي حياتنا واقع‪ ،‬وفي حياتنا ً‬


‫أيضا حلم‪َّ .‬أما الواقع فهو جملة الحقائق التي تنظم‬
‫مس�يرتنا ف�ي الداخل والخ�ارج‪ .‬وأما الحل�م فهو ما ن�ود أن نكونه غ�دً ا أو بعد غد‪.‬‬
‫وشعوب كثيرة تماثلنا في ذلك‪ ،‬ولكن لعلنا وحدنا الذين يتصرفون أحيانًا بوحي من‬
‫حلمه�م ال من واقعه�م‪ ،‬فيتعرضون بذلك لمتاعب ما كان أغناهم عنها‪ .‬فما واقعنا؟‬
‫وما حلمنا؟‬

‫واقعنا في الداخل أننا نُجاهد بصبر وعزم تحديات محفوظة‪ ،‬مثل تهلهل هياكلنا‬
‫األساسية‪ ،‬واالختالل المفزع بين إنتاجنا واستهالكنا‪ ،‬وديوننا‪ ،‬وتكاثرنا المتصاعد‪،‬‬
‫وآفاتن�ا االجتماعية المهلك�ة‪ .‬وواقعنا في الخارج أنن�ا ذوو عالقة خاصة بالواليات‬
‫المتحدة‪ ،‬ومعاهدة سلام مع إس�رائيل‪ ،‬ومقاطعة ش�به ش�املة مع البالد العربية‪ .‬أما‬
‫حلمنا فهو أن نحقق نهضتنا من ناحية‪ ،‬وأن نستعيد دورنا العربي التاريخي من ناحية‬
‫أخرى‪ .‬وكما قلت‪ :‬فطبيعي أن يكون لألمة واقع وحلم‪ ،‬وطبيعي ً‬
‫أيضا أن تسعى إلى‬
‫تحويل الحلم إلى واقع‪ ،‬مع الحرص على إيجابيات واقعها األول‪ ،‬أما غير الطبيعي‬
‫فهو أن تعمل بوحي من الحلم كأنه واقع‪ ،‬أو تتجاهل الواقع الحقيقي‪.‬‬

‫م�ن حقن�ا وواجبنا أن نحت�ج على كل ع�دوان‪ ،‬وأن نغضب ألي خ�رق للقانون‬
‫الدولي‪ .‬ومن حقنا وواجبنا أن نهدي عواطفنا الطيبة‪ ،‬وأن نسدي نصائحنا الخاصة‪،‬‬
‫بل وأن نس�عى في الخير ما وجدنا إلى ذلك س�بيلاً ‪ ،‬ولكن ليكن ذلك ً‬
‫دائما في نطاق‬

‫‪78‬‬
‫العرب‬

‫الواقع ودون تجاوز للحقائق‪ ،‬ومع الحرص الكامل على المصلحة العامة‪ ،‬واستقرار‬
‫الوطن وأمنه وسالمته وكرامته‪ .‬ودون تورط في فعل أو موقف من شأنه التفريط في‬
‫صديق مؤكد لمصلحة صديق محتمل‪ ،‬أو زلزلة واقع راهن لحساب حلم لم يتحقق‬
‫ٍ‬
‫بحال من‬ ‫بعد‪ .‬وال يعني هذا أنني مع الواقع دون قيد أو ش�رط‪ ،‬وال أنني ضد الحلم‬
‫األحوال‪ ،‬ولكن األمانة واإلخالص والصدق تقتضي أن أعلن ما كتبت‪.‬‬

‫‪1986/1/2‬‬

‫‪79‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫القومية العربية بين الواقع والحلم‬

‫العربي�ة حل�م كل عرب�ي أمين‪َ .‬أ َّما واق�ع العرب فهو ما ترى وما تس�مع‬
‫ُ‬ ‫القومي�ة‬
‫مما ال حاجة بي إلى عرضه‪ .‬وللقومية العربية أعداء في الخارج ال يمكن االس�تهانة‬
‫بقوته�م‪ ،‬كما أن لها معارضين داخل كل بلد عربي ألس�باب ش�تى‪ ،‬وفضلاً عن هذا‬
‫وذاك فهي تحتاج إلى خطوات تمهيدية حتى َي ْص ُلب عودها وتنضج فكرتها وتس�تقر‬
‫في القلوب واإلرادات‪.‬‬

‫من س�وء الحظ أن العرب تصرفوا في ظ�روف تاريخية خطيرة بوحي من الحلم‬
‫كأن�ه واق�ع‪ ،‬متجاهلي�ن الواقع الحقيق�ي‪ ،‬فباءوا ف�ي كل مرة بخس�ران عظيم‪ .‬فعلوا‬
‫دفاعا عن فلس�طين‪ ،‬معتمدين على‬
‫ذل�ك عام ‪ (1) 1984‬عندما قرروا خوض الحرب ً‬
‫وهم وحدتهم‪ ،‬متجاهلين أنهم في واقعهم بلدان متفرقة خاضعة ألكثر من اس�تعمار‬
‫ْ‬
‫جميعا اليوم في فلس�طين‬
‫ً‬ ‫غرب�ي‪ ،‬ول�و وقفوا عند حدود واقعهم لكان الفلس�طينيون‬
‫تح�ت أي صيغة يتم االتفاق عليها بينهم وبين اليهود‪ ،‬ودولة االنتداب‪،‬وهيئة األمم‪،‬‬
‫ِ‬
‫�ي عليهم بظلم قلي�ل أو كثير فالظلم ال يدوم‪ ،‬وحس�بك أن تذكر‬ ‫وحت�ى ل�و كان ُقض َ‬

‫((( حرب ‪ :1948‬هي حرب نشبت في فلسطين بين كل من المملكة المصرية ومملكة‬
‫األردن ومملك�ة الع�راق وس�وريا ولبن�ان والمملكة العربية الس�عودية م�ن ناحية؛‬
‫والميليش�يات الصهيوني�ة المس�لحة ف�ي فلس�طين والت�ي تش�كلت م�ن «البلماخ»‬
‫و«األرج�ون» و«الهاجان�اه» و«الش�تيرن» والمتطوعين اليهود من خ�ارج االنتداب‬
‫البريطاني على فلسطين من ناحية أخرى‪( .‬المحرر)‬
‫‪80‬‬
‫العرب‬

‫وش�ر َد‬
‫َّ‬ ‫م�ا يجري اليوم في جنوب إفريقيا‪ ،‬ولكن التعامل مع الحلم ضيع فلس�طين‪،‬‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬وأنزل الهزيمة بالدول العربية مجتمعة‪ .‬وفعلوا ذلك تحت مظلة زعامة‬
‫وغطى على‬‫عب�د الناصر‪ ،‬فارتفع ص�وت الوحدة‪ ،‬حتى خال األعداء أنها قريبة حقًّا‪َّ ،‬‬
‫أصوات كثيرة كانت تغمغم هنا وهناك‪ ،‬مكرسة التفرقة‪ ،‬بل مضمرة العداء‪ ،‬وجاءت‬
‫النتيجة مفجعة مخزية يوم ‪ 5‬يونيو األسود‪.‬‬

‫خي�ر ما يق�ال للعرب في حاضره�م المحزن ما نا َدى به الش�يخ النبيل س�قراط‪:‬‬


‫«اع�رف نفس�ك»‪ .‬وخير ما ُي َذ َّك ُرون ب�ه قول القدير المتع�ال‪ ﴿ :‬ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﴾(((‪ ،‬وليذك�روا بع�د ذل�ك وقب�ل ذل�ك أن وحدتهم هي‬
‫الحلم المنش�ود ال الواقع القائم‪ ،‬وأن دورهم اليوم أن يحققوا السلام على أس�اس‬
‫ُ‬
‫الواق�ع‪ ،‬وأن يبحثوا َع َّما ال يختلفون فيه ليعمل�وا فيه بهدوء وإخالص ومثابرة‪ ،‬ولن‬
‫يتهيأ ذلك مثلما يتهيأ في مجالي الثقافة والتكامل االقتصادي‪ ،‬وليتركوا الباقي للزمن‪،‬‬
‫وهو طبيب حكيم في جبر الكسور وتضميد الجراح واسترداد الحقوق الضائعة‪.‬‬

‫‪1986/1/9‬‬

‫((( سورة الرعد‪ ،‬اآلية‪)11( :‬‬


‫‪81‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نحو وحدة عربية جديدة‬

‫تاريخن�ا الطويل يش�هد بأن موقعنا المتوس�ط بي�ن جناحي العال�م العربي جعلنا‬
‫دورا نؤديه لضم الجناحين‪،‬‬‫الملتق�ى والمنطلق لتيارات�ه المتضاربة‪ ،‬كما فرض علينا ً‬
‫أو َمدِّ ِهم�ا بالقوة التي تمكنهما من التحلي�ق‪ ،‬أو في األقل َد ْفعِ األذى عنهما‪ ،‬وكأنما‬
‫ندفعه عن أنفسنا‪ .‬وإنْ أردت شواهد على ذلك فارجع إلى العهد الفاطمي‪ ،‬أو «عهد‬
‫صالح الدين»(((‪ ،‬أو «محمد علي»‪ ،‬أو «جمال عبد الناصر»‪ .‬بل ارجع إذا شئت إلى‬
‫العصر الفرعوني نفسه‪.‬‬
‫َ‬
‫فكاك منه‪.‬‬ ‫م�ن أج�ل ذلك حق لنا أن نق�ول عن دورنا العربي‪ :‬إنه قدرن�ا الذي ال‬
‫صالحا للي�وم‪ .‬اليوم تقوم على‬
‫ً‬ ‫صالحا لألمس ل�م يعد‬
‫ً‬ ‫ولك�ن الزمن تغي�ر‪ ،‬فما كان‬
‫س�احة العال�م دول عمالق�ة تغطي اس�تراتيجيتها خطوط الطول والع�رض‪ ،‬وتتدفق‬
‫مس�ئولياتها ومصالحه�ا بغير حدود‪ .‬وتهيأ المس�رح لرواية جدي�دة‪ ،‬وبالتالي يجب‬
‫أن تتغير األدوار‪ ،‬وأن تتساءل األمم الصغيرة َع َّما بقي لها في العالم الجديد من دور‬
‫معا‪.‬‬
‫يناسب حجمها ويليق بمجدها ً‬

‫((( صلاح الدين األيوبي‪ :‬يوس�ف بن أيوب بن ش�اذي بن مروان ب�ن يعقوب الرويني‬
‫التكريت�ي (م�ن تكريت ف�ي الع�راق) ‪1193-1138‬م‪ .‬قائد عس�كري أس�س الدولة‬
‫األيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية‪.‬‬
‫(المحرر)‬
‫‪82‬‬
‫العرب‬

‫وألن هذا الس�ؤال لم يستوعبه «محمد علي» وال «جمال عبد الناصر» فقد انتهى‬
‫كل منهما بنكسة َأ ْو َد ْت به وأوشكت أن تودي بوطنه‪ .‬فهيهات أن نلقي اليوم ما يليق‬
‫ولك�ن أمامنا مجالاً آخر في الحضارة‬
‫َّ‬ ‫بنا في مجاالت الزعامة أو القوة أو السياس�ة‪،‬‬
‫بم�ا تحوي من ت�راث ومعاصرة‪ ،‬وهو القيم�ة الحقيقية التي تعتز اإلنس�انية بإبداعها‬
‫ف�وق األرض‪ .‬وفي ه�ذا المجال تُقاس الهم�م ال بالحجم وال بالكثاف�ة وال بالقوة‪،‬‬
‫وحسن َ‬
‫األ َثر‪.‬‬ ‫ولكن بالقيمة والفائدة ُ ْ‬
‫إن دورن�ا الحقيقي أن نتعل�م ونتثقف ونبدع‪ ،‬وأن نعطي العال�م مثلما نأخذ منه‪.‬‬
‫وح�ذا ِر أن تظ�ن أنني أدعو إلى االنعزال عن األم�م العربية‪ ،‬ولكنني أدعو إلى وحدة‬
‫َ‬
‫تنه�ض أساس�ا عل�ى التكامل االقتص�ادي والثقاف�ي والعلم�ي‪ ،‬بعيدً ا ع�ن التحدي‬
‫َّ‬
‫ولنتخل عن‬ ‫واالس�تفزاز وتبديد المال فيما ال يفيد‪ .‬فلنع�رف دورنا‪ ،‬ولنتهيأ إلتقانه‪،‬‬
‫أحلا ٍم َم َض�ى عهدها وانقضى‪ ،‬ولنؤمن بكل قوة بأن دورنا الجديد أعظم من س�ابقه‬
‫وأبقى‪.‬‬

‫‪1986/1/16‬‬

‫‪83‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫هذا العيد‬

‫مازلن�ا نعتبر ي�وم ‪ 22‬فبراير عيدً ا للوح�دة(((‪ ،‬وقد يبعث ذلك ف�ي حالتنا الراهنة‬
‫ولكن اإلصرار على تكريسه‬
‫َّ‬ ‫األ َسى‪ ،‬أو إنْ شئت على السخرية‪.‬‬ ‫الدامية المتردية على َ‬
‫تذكي�ر ال بأس به بطم�وح قديم إل�ى تحقيق ُحلم للق�وة والمجد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عي�دً ا برغ�م ذلك‬
‫ٍ‬
‫وماض عريق‬ ‫ومواجه�ة التحديات بقلب واحد عامر بالثقة‪ ،‬مس�تند إلى نُبل ٍ‬
‫أثيل(((‪،‬‬
‫متطلع إلى ٍ‬
‫غد حافل بالرغبة الصادقة في التحرر والنهوض وتحقيق الذات‪.‬‬

‫وق�د خرجن�ا م�ن تل�ك التجربة الم�رة بيقين ب�أن السياس�ة بحر يم�وج باإلغراء‬
‫والش�قاق‪ ،‬وتصطخ�ب أمواج�ه باألحق�اد واألنانية‪ ،‬وأنَّ عل�ى العرب إذا التمس�وا‬
‫جانبا ما يختلفون فيه‪ ،‬وأن يتوجهوا‬ ‫ً‬
‫ألنفس�هم مرفأ في هذا البحر‪ ،‬فعليهم أن ُي َن ُّح�وا ً‬
‫ٍ‬
‫خالف َف ْل ُي َما رس�وه ما ش�اء لهم‬ ‫بكليته�م إل�ى م�ا يتفقون عليه‪ ،‬ف�إن يكن ال مفر من‬
‫ال يجور على ما يتفقون في�ه‪ ،‬أو يعطله‪ ،‬أو يؤجله‪ ،‬أو يضعفه‪.‬‬ ‫اله�وى‪ ،‬تحت ش�رط أ َّ‬
‫وثم�ة تجارب تؤك�د إمكان ذل�ك‪ ،‬مثل نج�اح بعض المؤتم�رات العلمي�ة والفنية‪،‬‬
‫والتعاونيات االقتصادية‪ ،‬تمت جميعها في حمأة الخالفات السياسة‪.‬‬

‫وال خلاف بيننا وال تناقضات فيم�ا يتعلق بالثقافة واالقتص�اد‪ .‬لنا أصول ثقافية‬

‫((( الوحدة المصرية الس�ورية «الجمهورية العربية المتحدة» أعلنت بين مصر وس�وريا‬
‫في ‪ 22‬فبراير ‪ ،1958‬وانتهت بعد انقالب عسكري في دمشق في ‪.1961/9/28‬‬
‫((( أثي�ل‪ :‬أصي�ل وف�ي لس�ان العرب أث�ل وتأثل تأص�ل‪َ ،‬‬
‫وأ ْثل مال�ه أصل�ه‪ ،‬وتأثل مالاً‬
‫اكتسبه‪ ...‬وكل شيء قديم مؤصل أثيل‪( .‬المحرر)‬
‫‪84‬‬
‫العرب‬

‫مش�تركة‪ ،‬وش�غف واح�د بأش�كالها المختلف�ة‪ ،‬ووجداننا وعقولن�ا متفتحة َح َس� َن ُة‬
‫االستقبال لما يلقى فيها من إبداعات العقول والقلوب‪ .‬كذلك فإن اقتصادنا متكامل‬
‫في جملته‪ ،‬بين شعوب تعج بالسكان‪ ،‬وأخرى يتوافر لها المال‪ ،‬ولدينا أرض شاسعة‬
‫يمك�ن أن تهي�ئ لن�ا الغذاء والكس�اء‪ ،‬وأن تحررنا م�ن ربقة الحاجة إل�ى الغير‪ .‬وإذا‬
‫اقتصر السعي على الثقافة واالقتصاد تحققت لنا وحدة الروح والمادة‪ ،‬وأحرزنا قوة‬
‫وارتفاعا على جميع مستويات الحياة‪ .‬ولعل الهدف األخير الذي ضللنا السبيل إليه‬
‫ً‬
‫سعيا بغير جهد وال عقبات‪.‬‬
‫يأتينا بعد ذلك ً‬
‫يق�ال‪ :‬إن ِ‬
‫الم َحن ت َُع ِّل ُم اإلنس�ان‪ ،‬وأظ�ن أنه قد أصابنا منها م�ا يكفي لتعليم أهل‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫األرض‬

‫‪1987/2/26‬‬

‫‪85‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وحدة األساس‬

‫رس�ميا‬
‫ً‬ ‫ُأعلن�ت العالقات الرس�مية بين مص�ر وبالد عربي�ة كثيرة‪ ،‬وقد اعترفت‬
‫بروابط حميمة لم تنقطع يو ًما على مس�توى الواق�ع‪َّ .‬أما مغزاها فذو تأثير مبين‪ ،‬وذو‬
‫صدى طيب في نفوس ماليين تعتبر ش�عوبها أمة واحدة‪ ،‬وعلينا نحن أن نجعل منها‬
‫حقيق�ة موضوعي�ة‪ ،‬ومنطلقًا لحي�اة جديدة طيب�ة‪ ،‬ولكن قبل الخطو علينا أن نرس�م‬
‫خريطة بالحدود واإلمكانات‪ ،‬نقرأ فيها بوضوح ما هو الممكن وما هو المس�تحيل‪،‬‬
‫وم�ا المت�اح وما هو غي�ر المتاح‪ ،‬لنع�رف مواقع األق�دام على ضوء الوض�ع الواقع‬
‫والسياسة العالمية‪ ،‬وبهدي من دروس التاريخ القريبة والبعيدة‪.‬‬

‫نتصدى للمشكالت الراهنة واألخطار المحدقة‪ ،‬بما يحقق‬ ‫َّ‬ ‫وأول ما نبدأ به هو أن‬
‫في النهاية السالم الدائم العادل للمنطقة كلها‪ُ .‬‬
‫وأمتنا أشد ما تكون حاج ًة إلى السالم‬
‫واالس�تقرار‪ ،‬لترك�ز قواها في بناء وحدته�ا االقتصادية والثقافي�ة‪ ،‬وهي وحدة تعود‬
‫عل�ى جمي�ع األطراف بالخير والتق�دم‪ ،‬وتضعها في موقف موح�د حيال التحديات‬
‫الغليظة‪ ،‬مثل رفع مس�توى المعيش�ة‪ ،‬واالندماج في العصر العلمي‪ ،‬والتحصن بقوة‬
‫دف�اع تحق�ق لها وزنًا وكرامة‪ ،‬وأي نج�اح نُحرزه في هذا المضم�ار جدير بأن يدعو‬
‫المترددين إلى تجاوز الخالفات‪ ،‬وتغيير النظرة إلى الحاضر والمستقبل‪.‬‬

‫والتوفيق في إقامة الوحدة االقتصادية الثقافية يمهد الطريق لما هو أخطر وأهم‪،‬‬
‫تعرض لمشكالت داخلية أو خارجية‪ ،‬بخالف البدء بالتطلعات السياسية الذي‬ ‫ٍ‬ ‫دون‬
‫يتعث�ر عادة ‪-‬كم�ا َع َّل َم َنا الماضي‪ -‬في غم�ار المؤامرات الداخلي�ة والخارجية‪ .‬وما‬
‫‪86‬‬
‫العرب‬

‫ينبغي أن ننسى أن تلك ال َّت َط ُّلعات قد ُأجهضت‪ ،‬وما أكثر الدروس والمحاذير‪ .‬ولكن‬
‫حم�دً ا لله‪ ،‬فإن ُخ َّط َتنا في ه�ذا العهد الرابع من ثورة يوليو تتس�م بالحكمة واليقظة‪،‬‬
‫َّ‬
‫ولنتوكل‬ ‫وتخل�و من االنفع�االت واالندفاعات‪ ،‬فلنأمل خي�را‪ ،‬ولنعمل بغير ت ٍ‬
‫َ�وان‪،‬‬ ‫ً‬
‫على الله‪.‬‬

‫‪1987/12/3‬‬

‫‪87‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫(((‬
‫دم الثوار‬

‫ث�ار الفلس�طينيون ب�األرض المحتل�ة‪ .‬ث�اروا عل�ى قوى الفن�اء الت�ي تتهددهم‪،‬‬
‫وتزح�ف عليهم تبغي طردهم من وطنهم‪ ،‬أو محوهم م�ن الوجود‪ .‬تحدوا ومازالوا‬
‫يتحدون الطغيان المسلح بغضبهم الشريف األعزل من السالح‪ .‬لهم في السابقين من‬
‫المتحررين قدوة ممن ثاروا بغير سالح‪ ،‬فانتصروا بالصبر والمعاناة واإلصرار‪ ،‬وقوة‬
‫الحق التي ال ُي ْع َلى عليها‪ .‬فليكن ً‬
‫أيضا لإلسرائيليين عظة في الطغاة من المستعمرين‬
‫الذي�ن غرته�م قوتهم ثم انهزموا أمام قوة الحق والعدل‪ .‬ك�م أملنا يوم عقدنا الصلح‬
‫مع إس�رائيل أن يكون ُفرقانًا بين عهد وعهد‪ ،‬بين تفكير وتفكير‪ ،‬بين أس�ود وأبيض‪،‬‬
‫يغير من حاض�ر المنطقة‬
‫وأن يك�ون حجر األس�اس في صرح سلام ش�امل ع�ادل ِّ‬
‫ومس�تقبلها‪ .‬وس�رعان ما انصبت علينا خيبات األمل في سلس�لة من االس�تفزازات‬
‫ومرورا بالهج�وم على لبنان‪،‬‬
‫ً‬ ‫العدواني�ة‪ ،‬ب�د ًءا من ضرب المفاعل ال�ذري العراقي‪،‬‬
‫ونفيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الع َّزل ضر ًبا وقتلاً واعتقالاً‬
‫وأخيرا بالتصدي للمناضلين ُ‬
‫ً‬
‫لق�د اهت�ز ضمير العال�م يو ًم�ا لالضطهاد ال�ذي حاق بك�م أيها اإلس�رائيليون‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وغا َل�ى ف�ي إنصافكم بِ َخ ْل ِ‬
‫�ق وطن لكم‪َ ،‬و َلك ْن على حس�اب أهله الذين ُش ِّ‬
‫�ر ُدوا في‬ ‫َ‬

‫((( كتب هذا المقال تضام ًنا مع االنتفاضة الفلسطينية األولى «انتفاضة الحجارة» التي‬
‫نهائيا عام ‪ 1993‬بعد اتفاق‬
‫ب�دأت عام ‪1987‬م‪ ،‬وه�دأت في عام ‪1991‬م‪ ،‬وتوقفت ً‬
‫أوسلو (المحرر)‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫العرب‬

‫األرض‪ ،‬وق�د آذي ُتم هذا الضمير العالمي بفعالكم وأصممت�م آذانكم عن تلبية ندائه‬
‫بالرجوع إلى شيء من الحق‪ .‬كان َأ ْو َلى بكم أن تلبوا نداء الحق دون دعوة‪ ،‬إلاَّ دعوة‬
‫ضمائركم التي عانت االضطهاد والظلم‪ ،‬وكابدت الطغاة والظالمين‪ .‬كيف تتطلعون‬
‫إلى االستعمار بعد أن تحول عنه رجاله؟ وكيف لم تفوا بما وعدتم به بأن تكونوا ُأ َّمة‬
‫عدل وحرية وأخالق؟‬

‫إنها مأساة بكل معنى الكلمة‪ ،‬بالنسبة للواقع الدامي‪ ،‬وبالنسبة للذين َم َّن ْوا أنفسهم‬
‫بالسلام العادل الش�امل‪ .‬وبرغم كل ش�يء فنحن ال نريد أن نفقد األمل‪ ،‬وننتظر بين‬
‫ساعة وأخرى أن يعلو صوت الحق‪ ،‬وأن تنتصر مشيئة الخير‪.‬‬

‫‪1988/1/21‬‬

‫‪89‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الحرب‬

‫حام�ت أحالم صبانا وش�بابنا ح�ول االس�تقالل والديمقراطي�ة والنهضة بصفة‬


‫عامة‪َ .‬أ َّما الحرب فلم تخطر لنا على بال‪ ،‬أو تجري لنا في خاطر‪ ،‬كأنها َقدَ ٌر ال يجوز‬
‫شهدت وطني يخوض حرو ًبا متالحقة لم يتهيأ لفرد‬
‫ُ‬ ‫علينا‪ .‬من عجب بعد ذلك أنني‬
‫شهدت حرب ‪ ،1948‬و‪ ،1956‬و‪،1967‬‬
‫ُ‬ ‫في جيل واحد أن يشهد نظيرها في كثرتها‪.‬‬
‫كابدت عواقبها الوخيمة مع الماليين فيما‬
‫ُ‬ ‫و‪ ،1973‬باإلضاف�ة إلى حرب اليمن‪ .‬كما‬
‫أهلك�ت من أنفس وأم�وال‪ ،‬وخربت من هياكل أساس�ية وزراعي�ة وصناعية‪ ،‬وفيما‬
‫ٍ‬
‫وفس�اد وتس�يب‪ ،‬وتحلل م�ن التقالي�د العريقة‬ ‫ٍ‬
‫انحلال‬ ‫�ر ْت عل�ى المواط�ن من‬
‫َج َّ‬
‫والس�لوكيات الحمي�دة‪ ،‬ب�ل إننا م�ا زلنا نعيش بص�ورة َّما في جو الح�رب‪ ،‬فم َّنا من‬
‫يتط�وع للقتال م�ع العراق الش�قيق‪ ،‬ومنا َم ْن ت�راوده أفكار عن االش�تراك في حرب‬
‫الد ُاء»‪.‬‬ ‫«و َدا ِونِي بِا َّلتِي َكان ْ‬
‫َت ِه َي َّ‬ ‫الخليج ‪ ،‬وكأنهم يرددون مع القائل‪َ :‬‬
‫(((‬

‫فرضا في ح�ال الدفاع ع�ن النفس‪،‬‬ ‫ْ�ر ُ‬


‫ض علين�ا ً‬ ‫والح�رب كريه�ة‪ ،‬ولك�ن قد ُتف َ‬
‫مس�تعدا لها‪ ،‬أو ُك ْف ًئا للعدو‬
‫ًّ‬ ‫فهذه حرب مقدس�ة‪ ،‬يخوضها اإلنس�ان حتى لو لم يكن‬
‫المهاجم‪ .‬وقد تقتضي ظروف ُملحة قاس�ية أن نخوض حر ًبا في غير دفاع مباشر عن‬
‫وطننا‪ ،‬ولكن في تلك الحال البد من توافر شروط ضرورية‪:‬‬

‫((( ح�رب الخليج‪ :‬الحرب العراقية اإليرانية‪ ،‬أو حرب الخليج األولى س�بتمبر ‪1980‬‬
‫‪ -‬أغسطس ‪1988‬م (المحرر)‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫العرب‬

‫ومقنعا للجندي والمواطن‪ ،‬بحيث‬


‫ً‬ ‫واضحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أولاً ‪ -‬أن يكون الهدف من الحرب‬
‫تهون عليهما التضحية مهما غلت‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬أن يكون لنا جيش قوي قادر على تحقيق النصر‪ ،‬وت ََح ُّم ِل أهوالها حتى لو‬
‫ً‬
‫طال زمانها َع َّما ُقدِّ َر لها‪.‬‬

‫ثالثً�ا‪ -‬أن يكون الوطن مؤهلاً للحرب من جميع النواحي االقتصادية والنفس�ية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬

‫الحرب ليس�ت فروسية وال عاطفية‪ ،‬ولكنها مس�ئولية تاريخية‪ ،‬ومصير قد يتقرر‬
‫لمئات السنين أو إلى األبد‪.‬‬

‫‪1988/3/10‬‬

‫‪91‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الهوية والهدف‬

‫كثيرا ما يتس�اءلون‪َ :‬م ْن نحن؟ يقولون‪ :‬علينا أن نعرف هويتنا لنحدد هدفنا‪ ،‬لكن‬
‫ً‬
‫الواقع هو الذي يحدد الهدف‪ .‬هدفنا في الحياة في زمن َّما ينبثق من واقعنا ال هويتنا‪،‬‬
‫لذل�ك قد تنش�ب حرب بي�ن دولتين م�ن هوية واح�دة‪ ،‬أو يقوم تآلف بي�ن دول من‬
‫هوي�ات متعددة‪ .‬بل إن الهدف إذا اتضح واجتمع�ت حوله القلوب َجاز له أن يختار‬
‫الهوية المناس�بة كعامل مس�اعد على تثبيت ذاته‪ ،‬وترس�يخها في النفوس‪ ،‬ونحن لنا‬
‫هويات متعددة‪ ،‬وجميعها صادق‪ ،‬فنحن مصريون‪ ،‬ونحن عرب‪ ،‬ونحن من حوض‬
‫البحر المتوسط‪ ،‬وأخيرا وليس ِ‬
‫آخ ًرا‪ ،‬فنحن ناس من ُصلب آدم وحواء‪.‬‬ ‫ً‬
‫ف�ي ع�ام ‪ 1919‬أعل َّن�ا الكفاح لتحقيق االس�تقالل‪ ،‬فنادى س�عد زغل�ول بهويتنا‬
‫المصري�ة كصيغة يمك�ن أن تجمعنا في النض�ال‪ .‬وفي الثالثينيات اش�تد تطلعنا إلى‬
‫الحضارة الغربية فأعلن طه حسين((( انتماءنا إلى حوض البحر المتوسط‪.‬‬

‫وف�ي عام ‪ 1952‬حاقت األخطار باألمة العربي�ة من كل جانب‪ ،‬فدعا جمال عبد‬
‫الناص�ر إل�ى القومي�ة العربية‪ .‬وفي الس�بعينيات وجد الس�ادات أننا غرقن�ا في مأزق‬
‫�ر َك نعرتها في القلوب‪ ،‬فكان‬ ‫َوج�ل((( ال تنتش�لنا منه إلاّ مصريتنا‪َ ،‬ف َر َج َع َنا إليها‪َ ،‬‬
‫وح َّ‬
‫العبور وتحرير س�يناء والسالم‪ .‬ولعل هدفنا اليوم هو التنمية الشاملة‪ ،‬أو بذل الجهد‬

‫((( طه حسين‪ 15 :‬نوفمبر ‪ 28 - 1889‬أكتوبر ‪1973‬م‪ ،‬أديب مصري لقب بعميد األدب‬
‫العربي‪ ،‬وصاحب كتاب األيام ‪ 1929‬من أبرز دعاة التنوير في العالم العربي‪.‬‬
‫((( َوجل‪ :‬بمعنى مخيف هنا‪ ،‬وفي قاموس المعاني‪ :‬الوجل‪ :‬الخوف والفزع (المحرر)‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫العرب‬

‫للح�اق بالعصر الحديث‪ ،‬وهو هدف حيوي ال بديل له إال التحلل والفناء‪ ،‬ويقتضي‬
‫ضمن ما يقتضي االستقرار والسالم‪ .‬ولن يتهيأ لنا ذلك على أكمل وجه إلاَّ في نطاق‬
‫تكام�ل اقتص�ادي ثقافي عربي‪ .‬من هنا وجب تجمع الع�رب في وحدة روحية مادية‬
‫بتجمعنا على تحقيق السالم العادل في شرقنا الدامي الممزق‪ ،‬ثم‬
‫راس�خة‪ ،‬لنستعين ُّ‬
‫السير الثابت بكل ما فينا من أصالة إلى العصر الحديث‪.‬‬

‫‪1988/3/17‬‬

‫‪93‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫كنز للزمن الطويل‬

‫م�ن األح�داث المبه�رة لألبص�ار‪ ،‬والمثي�رة لإلعج�اب واإلكب�ار‪ ،‬م�ا أعلنت�ه‬


‫الفط�رة العربية م�ن صالبة وقوة وعزم وصب�ر وإيمان‪ ،‬في الح�رب العراقية والثورة‬
‫عدا‪،‬‬
‫ضروسا طويلة جاوزت ثمانية أعوام ًّ‬
‫ً‬ ‫الفلس�طينية‪ .‬خاض الشعب العراقي حر ًبا‬
‫يناض�ل بش�جاعة وإص�رار‪ ،‬ويقدم الش�هداء فريقًا بع�د فريق‪ ،‬ويتع�رض للصواريخ‬
‫ونهارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫والقناب�ل‪َ ،‬ف ُت ْخ َل�ى ُمدُ ٌن من س�كانها‪ ،‬وتعيش مدن تحت رحمة الم�وت ليلاً‬
‫وتنحن�ي الهام�ات تحت وطأة طوارئ ح�ال الحرب وما تفرضه عل�ى المواطن من‬
‫التزامات وانضباطات وتقشف وتنازالت‪ .‬حقًّا‪ ،‬إنها َل َصالبة جديرة بكل فخر وثناء‪،‬‬
‫باهر!‬ ‫ٍ‬
‫لمستقبل َ‬ ‫ُ‬
‫وذ ْخر ُي َّد َخ ُر‬

‫َأ َّم�ا الث�ورة الفلس�طينية فق�د اس�تمرت عا ًما‪ ،‬واس�تقبلت عا ًم�ا جدي�دً ا‪ ،‬ال تهن‬
‫وال تتوقف وال تتراجع‪ ،‬وال تبالي بالوحش�ية والعذاب والحقد األعمى‪ .‬وقد عهدنا‬
‫الثورات تحس�ب أعمارها باألشهر‪ ،‬وال تتواصل المقاومة الفعالة إلاَّ إذا تهيأ لها من‬
‫ظ�روف الطبيع�ة حصون كالجبال والغاب�ات‪ .‬أما الثورة الفلس�طينية فال حصون لها‬
‫تحتمي بها إلاَّ إيمانها بحقها المقدس‪ ،‬وبس�التها الفائق�ة‪ ،‬وبطولتها الخارقة النبيلة‪،‬‬
‫حقًّا إنها َلصالبة جديرة بكل فخر وثناء‪ُ ،‬‬
‫وذخر ُي َّد َخر لمستقبل باهر‪.‬‬

‫ونح�ن ال نح�ب الح�روب إلاَّ أن تك�ون ً‬


‫دفاعا ع�ن النفس‪ ،‬وال ندع�و للثورات‬
‫إلاَّ أن تكون ً‬
‫تطلعا للتحرير والحرية والكرامة‪ ،‬ولكن يس�عدنا وال ش�ك أن تكش�ف‬
‫الحوادث في طبيعة شعبنا العريق عن عناصر قوة البد أن تتحول مع الموجة الصاعدة‬
‫‪94‬‬
‫العرب‬

‫إل�ى البناء والتعمير‪ ،‬واإلبداع والحضارة في ظل السلام الع�ادل‪ .‬ترى هل آن لليلنا‬


‫الطويل أن يسفر عن فجر مضيء؟‬

‫‪1989/1/26‬‬

‫‪95‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نحو التكامل والحضارة‬

‫م�ن إنجازاتنا القومي�ة الرائعة االتفاقي�ة االقتصادية بين مص�ر واألردن والعراق‬
‫واليم�ن الش�مالية‪ ،‬وعندما تُحق�ق أهدافها س�يضمها التاريخ إلى س�جل انتصاراتنا‬
‫التي نعتز بها‪ ،‬مثل تحرير س�يناء‪ ،‬والعودة إل�ى الديمقراطية‪ .‬أرجو أن تكون الخطوة‬
‫األول�ى في طريق التكامل االقتصادي العربي‪ ،‬أو األس�اس المتي�ن للبعث التنموي‬
‫العرب�ي الحديث‪ .‬وم�ن المعروف أن قوانين الجامعة العربي�ة تحوي مبادئ نهضتها‬
‫وتقدمه�ا‪ ،‬ولك�ن الش�ئون السياس�ية اس�تأثرت باالهتم�ام‪ ،‬ولما نش�بت الخالفات‬
‫أصبح�ت من دواعي التمزق والتفرق‪ ،‬وصار مجرد اإلش�ارة إلى الهموم الحضارية‬
‫مثارا للتهكم والسخرية‪ ،‬وتناسينا في حومة الغضب أنَّ عدونا األول هو التخلف في‬
‫ً‬
‫سباق العصر‪.‬‬

‫والبدء بالتعاون االقتصادي بين الدول األربع‪ ،‬يدل داللة قاطعة على أن التأجيل‬
‫خير م�ن انتظا ٍر قد‬
‫انتظ�ارا للتكام�ل الكام�ل‪ -‬لم يعد محتمًل�اً ‪ ،‬وأن البدء بالجزء ٌ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫يط�ول‪ ،‬وس�يكون نجاحه دعوة عملية مفتوحة لكل مت�ردد أو غافل‪ .‬وهو ً‬
‫أيضا دليل‬
‫متأخرا‪ ،‬ألهمية القاع�دة االقتصادية‪ ،‬وقيمة الحضارة في زمن‬ ‫ً‬ ‫عل�ى اليقظة وإنْ جاء‬
‫يمة ت ََح ُّض ِر ِه وعطائه ومش�اركته في النمو اإلنساني‬
‫أصبح يقاس تقدم اإلنس�ان فيه بِ ِق ِ‬
‫ُ‬
‫العام‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫العرب‬

‫ب�ل إنه زمن التجمعات والتكتالت الحضارية بديًل�اً عن التجمعات والتكتالت‬


‫السياسية والعسكرية‪ ،‬التي ُع ِر َف بها التعامل بين الدول في الماضي القريب والبعيد‪،‬‬
‫ً‬
‫ش�روطا أكثر من مجرد القوة وحدها‪ ،‬تقتضي تفو ًقا في العمل‬ ‫وهي تكتالت تقتضي‬
‫وتوس�عا ف�ي الثقاف�ة واحت�رام حقوق اإلنس�ان‪ .‬حقًّ�ا إنَّ كل دول�ة عربية‬
‫ً‬ ‫واإلنت�اج‪،‬‬
‫تم�ارس تنمي�ة إقليمية بدرج�ات متفاوتة من النج�اح‪ ،‬ولكن التعاون يفت�ح لها آفا ًقا‬
‫جديدة للعمل‪ ،‬وحلولاً جديدة للمش�كالت‪ ،‬ويمدها بقوة متجددة على المس�تويين‬
‫حضاريا مقبلاً ‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫نورا‬
‫المعنوي والمادي‪ .‬أتمنى أن أرى مع كل طلوع شمس ً‬
‫‪1989/3/9‬‬

‫‪97‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الوحدة الثقافية‬

‫مهما تفرق العرب أو اختلفوا فثمة وحدة بينهم ال تغيب‪ ،‬هي الثقافة‪ ،‬قد تتعرض‬
‫عالقاتها للضعف‪ ،‬أو التوقف المؤقت‪ ،‬أو المقاطعة‪ ،‬ولكنها ال تغيب مطلقًا‪ ،‬وتظل‬
‫روحيا ُم ِل ًّحا‪ ،‬يقيم لنفس�ه دولة فوق الدول‪ ،‬وصداق�ة بين العداوات‪ ،‬وملتقى‬
‫ًّ‬ ‫مطلب�ا‬
‫ً‬
‫طاه�را تضحك فيه الش�عوب من ن�زوات حكوماتها‪ .‬من أج�ل ذلك حافظت‬ ‫ً‬ ‫بري ًئ�ا‬
‫عل�ى درجات متفاوتة من التواصل والتفاعل‪ ،‬حتى في عهود االس�تعمار والش�قاق‬
‫والمنافس�ات الخرق�اء‪ ،‬ث�م َه ْي َم َن�ت قوتها مخترقة الس�دود بفضل وس�ائل اإلعالم‬
‫آن لن�ا َألاَّ نت�رك س�ريانها للرحلات والمع�ارض والمهرجان�ات‬ ‫الحديث�ة‪ .‬ولك�ن َ‬
‫والتهري�ب‪ .‬الب�د من إع�داد وتنظيم‪ ،‬وتحويل االقتراحات المكدس�ة في س�جالت‬
‫الجامعة العربية إلى حقائق فكرية وسلوكية‪.‬‬

‫نحن على أبواب ثورة تربوية لالنتقال من عصر إلى عصر‪ ،‬وتعد عقولنا وتقاليدنا‬
‫لمس�تقبل جديد حافل بالصعوبات والمغامرات‪ ،‬فعلين�ا أن نتبادل الخبرات واآلراء‬
‫لنهتدي إلى ُأسس جديدة لبعث العقول واألرواح‪ ،‬وعلينا أن نتفق على سياسة طويلة‬
‫للتبادل الثقافي‪ ،‬والتعاون المثمر في مجال اإلذاعة المسموعة والمرئية‪ ،‬ومثل ذلك‬
‫في األهمية أن ينعقد مؤتمر من وزراء الثقافة واالقتصاد إلزالة العوائق التي تعترض‬
‫تدفق الكتاب في السوق العربية‪ ،‬ولتحمي الفكر من المزورين وقطاع الطرق‪.‬‬

‫بل لعله قد آن األوان إلنش�اء شركة توزيع على المس�توى العربي لتتيح للكتاب‬
‫اقتراحا‬
‫ً‬ ‫�رى‪ .‬وأضيف إلى ذلك‬
‫واألش�رطة الوصول إلى كل مكان ُيق َْرأ و ُيس�مع أو ُي َ‬
‫‪98‬‬
‫العرب‬

‫بإنشاء مؤسسة على المستوى العربي للترجمة من وإلى العربية‪ ،‬منتفعة بكل الوسائل‬
‫الحديثة لخلق نهضة تربطنا بركاب العالم المنطلق بسرعة الصاروخ‪.‬‬
‫الوحدة الثقافية باإلضافة إلى الوحدة االقتصادية هما مما ن ِ‬
‫ُنادي به منذ س�نوات‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وهم�ا األس�اس المكين لبعث ه�ذه المنطقة من جدي�د لتمارس دوره�ا الحضاري‬
‫المأمول‪.‬‬

‫‪1989/3/16‬‬

‫‪99‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫دار الحكمة‬

‫على جامعة الدول العربية أن تعيد النظر في نشاطها على ضوء العصر‪ ،‬ال أبغي من‬
‫إضافيا في ميثاقها‪ ،‬ولكن لتتصدى‬
‫ًّ‬ ‫تغييرا في رس�التها التقليدية‪ ،‬أو تعديلاً‬
‫وراء ذلك ً‬
‫بكل ِه َّمة القتحام التحديات‪ ،‬وحل المشكالت‪ ،‬ومحو الخالفات‪ ،‬وتوثيق التعاون‬
‫ً‬
‫نش�اطا مضاع ًف�ا فيما يتعلق بحاض�ر حضارتنا‬ ‫والتآخ�ي والسلام‪ .‬وعليه�ا أن تبذل‬
‫ومستقبلها‪:‬‬

‫‪ - 1‬عليها أن تنسق بين دولها فيما يحقق ثورة شاملة في التربية والتعليم‪ ،‬وإعادة‬
‫َخ ْلق العقل العربي ليواجه المستقبل بجدارة إنسانية الئقة‪.‬‬

‫‪ - 2‬عليها أن تقترح خطة ثقافية عامة لتعريف الفرد بذاته وعصره‪ ،‬وإعادة الروح‬
‫إلى وعيه‪ ،‬متعاونة في ذلك مع مراكز التعليم واإلعالم‪.‬‬

‫‪ - 3‬عليها أن تقترح التش�ريعات الواجبة لحف�ظ حقوق الفكر واإلبداع‪ ،‬وإيجاد‬


‫السوق المشتركة للكتاب العربي‪ ،‬والقضاء على المزورين واللصوص‪.‬‬

‫‪ -4‬عليها أن تعيد النظر في الخطة المتكاملة لالقتصاد العربي‪ ،‬مستهدفة االعتماد‬


‫على الذات‪ ،‬وتوفير الغذاء‪ ،‬وتشغيل األجيال الجديدة‪.‬‬

‫‪ - 5‬عليها أن تعمل على إقامة جهاز ضخم للبحث العلمي‪ ،‬وتوفر له احتياجاته‬
‫من المال والنظام والكوادر البشرية‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫العرب‬

‫ه�ذه إش�ارة إلى تَوج ٍ‬


‫�ه ضروري غير قاب�ل للتأجيل‪ ،‬يجعل م�ن الجامعة العربية‬ ‫َ ُّ‬
‫مركز إشعاع للعلم والثقافة والرخاء‪ ،‬ودار الحكمة التي ينتمي إليها كل عربي متطلع‬
‫إلى الحياة والنور‪.‬‬

‫‪1989/7/6‬‬

‫‪101‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫النجوى بين األشقاء‬


‫للحكم ُقوى سحرية لحل المشكالت وتحقيق العدل والتقدم‬
‫أي نظا ٍم ُ‬
‫ال يملك ُّ‬
‫والرخاء‪ .‬العبرة في النهاية بالرجال‪ ،‬والكفاءة والنزاهة واالستنارة‪ ،‬وال يعني ذلك أن‬
‫جميع األنظمة تتس�اوى كإمكانيات مطروحة للعمل واالختيار‪ .‬ستظل الديمقراطية‬
‫متفوقة بما تهيئه من حرية وكرامة ورقابة واحترام لحقوق اإلنسان‪ ،‬وبما َ‬
‫يحظى فيها‬
‫الفرد والش�عب بالمش�اركة في العمل‪ ،‬والتعاون في حمل المس�ئولية‪ .‬فال وجه ألن‬
‫الحكم العسكري السوداني((( هزيمة للديمقراطية‪ ،‬فكم من ُحكم عسكري قد‬ ‫نعتبر ُ‬
‫ُمنِ َي بالفشل‪ ،‬وكم من حكم شمولي قد َأ ْو َدى ببالده إلى الخراب والوحشية‪.‬‬
‫الحكم الديمقراطي الس�وداني ليهدي إلى العرب مثالاً‬
‫وكان المأمول أن ينجح ُ‬
‫كريم�ا بثورته على الظلم واالس�تبداد‪،‬‬
‫ً‬ ‫طيب�ا في الممارس�ة‪ ،‬كما أهدى إليه�م مثالاً‬
‫ً‬
‫ولكن س�اءت األح�وال برغم أنه تهيأ له�ا أطيب مناخ صحي للعمل‪ .‬غلب الفس�اد‬
‫والعج�ز والحزبية العمي�اء والقبلية‪ ،‬وتده�ورت األمور في الداخ�ل والخارج‪ .‬وما‬
‫زمن آخر‬ ‫نمل�ك الي�وم إلاَّ أن نتمن�ى ُ‬
‫للحكام الجدد التوفي�ق والفالح حتى ال ُي ْه�دَ ر ٌ‬
‫م�ن عمر الس�ودان الغالي‪ .‬كما نرجو لهم النجاة م�ن مزالق ُحكم الفرد‪ ،‬وأن يعتبروا‬
‫األمر‬
‫َ‬ ‫أنفسهم حقًّا فر َقة إنقاذ تستهدف العالج الحاسم لكل داء مستفحل‪ ،‬كي ت َُس ِّل َم‬
‫في النهاية إلى الشعب صاحب الحق الشرعي األول في حكم نفسه‪.‬‬

‫‪.1989/7/12‬‬

‫((( المقصود الحكومة التي أعلنت في ‪ 30‬يونيو ‪1989‬م بعد االنقالب الذي نفذه بعض‬
‫ضباط الجيش الس�وداني بقيادة العميد ‪-‬وقتها‪ -‬عمر حسن البشير‪ ،‬رئيس السودان‬
‫حتى اآلن‪( .‬المحرر)‬
‫‪102‬‬
‫العرب‬

‫‪ 6‬أكتوبر‬

‫نصرا‬
‫نصرا على َعدُ ٍّو بقدر ما كان ً‬
‫نصرا‪ ،‬ولكنه لم يكن ً‬
‫عيد البعث والسالم‪ .‬كان ً‬
‫عل�ى اليأس والكآبة والعبث والعدمية‪ .‬انبعث�ت فيه الروح العربية متألقة متفتحة كما‬
‫عهده�ا التاري�خ في الزم�ان األول‪ ،‬فتوجهت من منطلق تخطي�ط حكيم نحو واقعية‬
‫رصين�ة تتصدى للمش�كالت وتنش�د السلام‪ ،‬وقد اعتم�دت تلك الوثب�ة التاريخية‬
‫معا ألية وثبة حقيقية في ش�عبنا‪ ،‬هما‪ :‬اإليمان‬ ‫الكبرى على أساس�ين ال غ َن�ى عنهما ً‬
‫ار َك ُخ َطى جنودنا في‬
‫والعل�م‪ :‬إيمان بالله ت ََخ َّطى بنا عقبات مادية ونفس�ية عنيدة‪ ،‬و َب َ‬
‫ميادي�ن القت�ال ومواجهة الم�وت‪ ،‬وتنظيم دقي�ق‪ ،‬وتدريب رائع‪ ،‬واس�تيعاب كامل‬
‫ألح�دث وس�ائل القتال وأش�دها تعقيدً ا واقتض�ا ًء للمهارة والذكاء‪ .‬وهك�ذا تهيأ لنا‬
‫ف�ي لحظة تاريخية قي�ادة جمعت بين الحكمة والش�جاعة والوطنية‪ ،‬وجن�ود ت ََح َّل ْوا‬
‫باإليمان والبس�الة والفدائية‪ ،‬فانتش�لوا مصر من مس�تنقع الع�ار والهزيمة والقنوط‪،‬‬
‫وأنزلوها بدار العزة والكرامة‪ ،‬وفتحوا لها أبواب السالم واالستقرار والحضارة‪.‬‬
‫جديرا بأن يمهد للوطن سبيلاً لنهضة شاملة‪ ،‬روحية ومادية‪ ،‬وكم فرح‬
‫ً‬ ‫كان ذلك‬
‫بهي‪.‬‬
‫خيرا‪ ،‬فآمنوا بأن ليل األحزان سيسفر عن ُصبح مشرق ّ‬ ‫المخلصون واستبشروا ً‬
‫َ‬
‫ولكن االنتهازيين أثبتوا أنهم أش�د وطأة وقس�وة على هذا الوطن من أ ْعدَ ى أعدائه‪.‬‬
‫َّ‬
‫تربص�وا كالغرب�ان‪ ،‬ثم ا ْن َق ُّضوا م�ن منافذ االنفت�اح(((‪ ،‬هازئين بتضحيات الش�هداء‪،‬‬

‫((( االنفت�اح االقتصادي‪ :‬سياس�ة اقتصادية اتبعتها الس�لطات أي�ام الرئيس محمد أنور‬
‫الس�ادات (‪ )1981-1918‬بعد حرب أكتوبر تم بموجبها تغيير التوجه المالي للدولة‬
‫من االشتراكية إلى الرأسمالية واالقتصاد الحر‪( .‬المحرر)‬
‫‪103‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وثكل األمهات‪ ،‬يجمعون المال الحرام ويهربونه ويعيثون في األرض الفساد‪ ،‬حتى‬
‫أغرقوا البالد في الديون والمخدرات واالنحالل والتطرف والعنف‪.‬‬

‫تذكر يوم السادس من أكتوبر و ُقل‪ :‬إننا َس ُن َص ِّفي األوغا َد كما َص َّف ْي َنا يوم الخامس‬
‫من يونيو‪ ،‬وسنطهر البالد من السم واألنانية والجشع‪ .‬حسبنا أن نتمسك باألساسين‬
‫اللذين قام عليهما النصر‪ ،‬وأي نصر‪ ،‬وهما‪ :‬اإليمان و العلم‪.‬‬

‫‪1989/10/5‬‬

‫‪104‬‬
‫العرب‬

‫في الطريق الذهبي‬

‫�دنَا بنصر الس�ادس من أكتوبر‬ ‫ليك�ن أكتوب�ر ش�هر الذكريات الظاف�رة‪ ،‬وكما َ‬
‫أش ْ‬
‫في ميدان الحرب والسلام ن ُِش�يدُ الي�وم بنص ٍر ٍ‬
‫ثان في ميدان يعتب�ر في عصرنا أخطر‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫للس ْ�ب ِق الحضاري‪ ،‬أال وهو العلم‪ .‬نُش�يد بما نُش َ‬
‫�ر في صفحة األهرام العلمية‬ ‫ميدان َّ‬
‫من اختيار العالم المصري المهاجر لطفي بس�طا ‪ -‬ضمن أربعة علماء على مس�توى‬
‫أمريكا‪ -‬لينخرط في س�لك ‪ 25‬ش�خصية بارزة م�ن القيادات السياس�ية واإلعالمية‬
‫واالقتصادية‪ .‬وهو معدود من مستش�اري الرئيس األمريكي‪ ،‬لنشاطه كأستاذ ورئيس‬
‫قسم أمراض القلب بجامعة أوكالهوما‪.‬‬

‫وفي فرنس�ا قرر المؤتمر األوروبي الحادي عش�ر ألم�راض القلب قبول بحثين‬
‫مهمي�ن م�ن عالمين مصريي�ن بطب القاه�رة‪ ،‬هما الدكت�ور يحيى س�عد‪ ،‬والدكتور‬
‫محسن إبراهيم‪.‬‬

‫وم�ن ألماني�ا الغربي�ة وجه�ت األكاديمي�ة األوروبي�ة للمناع�ة والحساس�ية في‬


‫مؤتمره�ا الدولي الرابع عش�ر الدع�وة إلى العالم المصري س�مير خض�ر‪ ،‬ود‪ .‬منير‬
‫المهيري ليقوما بأبحاثهما المتخصصة‪.‬‬

‫وف�ي بريطاني�ا قام العالم المص�ري د‪ .,‬أبو بكر فراج بإج�راء بحوث على مرضى‬
‫العظام أثارت أشد االهتمام في مجال اختصاصها‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫تلك انتصارات علمية‪ ،‬وهي ليس�ت األولى من نوعها‪ ،‬وهي مقدمات لعصر من‬
‫النور واالبتكار واالكتش�اف‪ ،‬نرجو أن تتوالى أنباؤه م�ن القاهرة والعواصم العربية‪،‬‬
‫بالع َّز ِة والتفوق‪.‬‬
‫تهل علينا من الخارج م َك َّل َلة ِ‬
‫ُ‬ ‫كما ّ‬

‫دائما نحو اإلنس�انية‬


‫والبحث العلمي ال يعرف الحدود‪ ،‬وال يطيق القيود‪ ،‬وينزع ً‬
‫الش�املة‪ ،‬ولك�ن الظ�روف الحرجة التي يمر به�ا العالم الثالث توج�ب التركيز على‬
‫مشكالته اإلنتاجية والعمرانية‪ ،‬فال بأس أن نركز البحث على حل ما يعترض نهضتنا‬
‫م�ن عقب�ات‪ ،‬وأن يس�هم بكل قوته في التنمية الش�املة‪ .‬كان يج�ب أن نكون المركز‬
‫األول لتخري�ج الباحثين في الزراعة والري وغزو الصحراء‪ ،‬وأمراضنا المس�توطنة‪،‬‬
‫ولكن حسبنا اآلن أن البحث العلمي أصبح ُي َع ُّد في مقدمة همومنا الذهنية‪ ،‬وأهدافنا‬
‫الحضارية‪ ،‬وموضع الرعاية والعناية‪.‬‬

‫‪1989/10/12‬‬

‫‪106‬‬
‫العرب‬

‫زوبعة في فنجان العرب‬

‫م�ا ه�ذا ال�ذي يحدث ف�وق أرض العرب؟ مرة نس�مع م�ن بع�ض العائدين من‬
‫ٍ‬
‫س�وء ف�ي المعاملة‪ ،‬ورداءة‬ ‫العم�ل في البالد العربية الش�قيقة َع َّما ُيلاَ قونَه أحيانًا من‬
‫ف�ي المش�اعر‪ ،‬ومرة يباغتنا ٌ‬
‫عنف غير متوقع‪ ،‬كما ج�رى في الجزائر ومصر في أثناء‬
‫ُحم ُل إلينا من العراق بالعش�رات‬
‫وأخيرا ُر ّو ْعنا بجثث المصريين ت َ‬
‫ً‬ ‫المباراة الكروية‪،‬‬
‫والمئات‪.‬‬

‫واألخوة‪ ،‬فتأخذه‬
‫َّ‬ ‫يتذكر األ َم َل المتجدد ف�ي التعاون والتكامل‬
‫ُ‬ ‫الم َتأ ِّم ُل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ويتأم�ل ُ‬
‫رعدة‪ :‬هل نحلم أحالم يقظة ال ترتكز على أساس من الواقع؟!‬
‫هي نبني قصورا من الرمال على َشفا ُج ٍ‬
‫رف َها ٍر؟‬ ‫ً‬
‫الح�ق ف�ي نظري أنه ال يجوز أن نته�اون‪ ،‬كما ال يحق لن�ا أنْ نُغَ الي‪ ،‬ال يجوز أن‬
‫ٍ‬
‫تجاوزات في الخارج‪،‬‬ ‫نتهاون في األخطاء‪ ،‬سواء صدرت عن إهمال في الداخل أن‬
‫ودفاعا عن المصالح العربية‬
‫ً‬ ‫ِح َف ً‬
‫اظ�ا على الكرامة‪ ،‬ومحافظة على أرواح أبنائنا‪ ،‬ب�ل‬
‫العليا‪.‬‬

‫وال يحق لنا أن نُغالي فنجاوز القصد‪ ،‬أو نهز أركان سياستنا العامة‪ ،‬أو نحيد عن‬
‫أهدافنا الثابتة‪.‬‬

‫وم�ن الخي�ر والعقل أن نقي�م عالقاتنا م�ع إخواننا على أرض الواق�ع‪ ،‬بعيدً ا عن‬
‫المثالي�ات الش�اعرية‪ ،‬أرض الواقع بما يحمل من متناقضات ونقائص وس�لبيات ال‬
‫‪107‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بالتوجه‬
‫ُّ‬ ‫تخلو منها طبيعة بش�رية‪ .‬عندما تقضي المصالح العليا وإِرادة الحياة الواعية‬
‫جميعا ‪-‬كعرب‪ -‬أن نتوجه نحو تلك الحياة‬
‫ً‬ ‫واألخوة‪ ،‬فعلينا‬
‫َّ‬ ‫نحو التكامل والتعاون‬
‫المنش�ودة دون أن نتوقع أن ُيغَ ِّي َر ذلك من الطبيعة البش�رية‪ ،‬فنمحو بضربة واحدة من‬
‫النف�وس ما ُجبِ َل ْت عليه من أنانية‪ ،‬وس�وء ظن‪ ،‬ومنافس�ة‪،‬وجميع ما ينتج عن العمل‬
‫في ميدان واحد‪.‬‬

‫وم�ا ح�دث للمصريين في الخارج يحدث مثله أحيانًا ف�ي مصر فيما بين األفراد‬
‫والطبق�ات واالنتماءات من غير أن يطعن ذلك َو ْح�دَ َة األمة ومصيرها العام‪ ،‬بل هو‬
‫ما قد يحدث بين أبناء األسرة الواحدة من إخوة وأخوات‪.‬‬

‫لنقومه‪ ،‬ولك�ن يجب أن يتم‬


‫جميعا ِّ‬
‫ً‬ ‫إنَّ م�ا حدث من انح�راف يجب أن نتع�اون‬
‫ذلك في نطاق التكامل والتعاون واألخوة‪.‬‬

‫‪1989/12/7‬‬

‫‪108‬‬
‫العرب‬

‫ُ‬
‫آمالنا في العام الجديد‬

‫ه�ا نحن ن�ودع عا ًم�ا ونس�تقبل عا ًما‪ ،‬وف�وق الخط الفاص�ل بي�ن العامين تحلو‬
‫المراجعة والذكر للتأمل واالعتبار‪ .‬ولس�نا لألس�ف ممن يس�جلون األحداث ح َال‬
‫وقوعه�ا‪ ،‬فيعتمدون على اإلحصاء والتقص�ي‪ ،‬ولكن يبقى لهم االنطباع العفوي بما‬
‫ومثيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫كريما‬
‫يحمل من داللة‪ .‬وما من شك في أن العام المنطوي كان عا ًما ً‬
‫فعلى المستوى العالمي َش ِهدَ التقارب والتفاهم بين ِ‬
‫الق َمم‪َ ،‬ف َب َّش َر بالسالم بدرجة‬
‫غير مس�بوقة من قبل‪ ،‬كما شهد ثورة عارمة في س�بيل الحرية َف َّج َر ْت َها شعوب ُ‬
‫الكتلة‬
‫التي كرس�ت الحكم الش�مولي وقدس�ته(((‪ ،‬بل إنها انبثقت بصورة مذهلة بيد القيادة‬
‫الحاكم�ة ف�ي رأس الكتلة ومرك�ز قيادتها‪ ،‬مؤكدة ف�ي النهاية أن�ه ال عدالة بال حرية‬
‫وكرامة‪ ،‬فضلاً عن توجهها نحو البناء من جديد على أس�س عصرية حديثة ال يمكن‬
‫تجاهله�ا‪ .‬كذلك ش�هد العال�م انتص�ارات لحقوق اإلنس�ان تمثلت في اس�تمرارية‬
‫االنتفاضة‪ ،‬وفي استقالل ناميبيا‪ ،‬وفي تولي الزنوج لمراكز قيادية مهمة في الواليات‬

‫((( يقصد نجيب محفوظ هنا ثورات الدول التي كانت تخضع للحكم الش�يوعي بقيادة‬
‫االتحاد الس�وفيتي في أوروبا الش�رقية‪ ،‬وبدأت الثورات من بولندا وانتهت بسقوط‬
‫بتغير شامل في‬
‫النظام السوفيتي على يد جورباتشوف عام ‪1990‬م‪ ،‬وانتهت األمور ُّ‬
‫النظم السياس�ية واالقتصادية واالجتماعية لهذه الدول‪ ،‬وتغيير جذري في سياستها‬
‫الخارجي�ة لتصبح أوروبا الش�رقية جز ًءا م�ن االتحاد األوروب�ي وحلف األطلنطي‬
‫(المحرر)‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫المتح�دة‪ .‬وثمة تقدم في غزو الفضاء‪ ،‬واحتش�اد علمي لحماي�ة البيئة‪ ،‬وتغير النظرة‬
‫معا‪.‬‬
‫نحو الديون‪ ،‬ووجوب إيجاد حل عادل لها لصالح األغنياء والفقراء ً‬
‫وعل�ى المس�توى المحلي يبرز التوج�ه العربي نحو التع�اون والتكامل‪ ،‬ونجاح‬
‫السياس�ة المصرية الخارجية في المجاالت العربية واإلقريقية والعالمية‪ ،‬والسياس�ة‬
‫الحكيم�ة الت�ي اس�تقر عليه�ا ال�رأي العرب�ي لح�ل القضي�ة الفلس�طينية‪ ،‬باإلضافة‬
‫إل�ى اهتمامن�ا الخاص بث�ورة التعلي�م والثقاف�ة والزراعة‪ ،‬وإع�ادة النظر ف�ي حياتنا‬
‫االقتصادية‪.‬‬

‫وفيرا‪ ،‬فما حدث في لبنان هو ِر َّد ٌة إلى عصور‬


‫أجل‪ ،‬مازال رصيدنا من السلبيات ً‬
‫الظلام‪ ،‬كذل�ك االنقالب العس�كري في الس�ودان الذي يس�بح ضد موج�ة الحرية‬
‫العالمية‪.‬‬

‫وأملن�ا ف�ي العالم الجديد أن ُيت�م إيجابيات العام الماضي بالتأكيد على السلام‬
‫وحق�وق اإلنس�ان‪ ،‬واالعت�راف بح�ق الفلس�طينيين‪ ،‬والتق�دم في البح�ث العلمي‪،‬‬
‫نصرا كاملاً للديمقراطية‪ ،‬وحقوق‬
‫والدفاع عن البيئة‪ .‬كما نرجو أن يش�هد في وطننا ً‬
‫اإلنس�ان‪ ،‬وس�يادة القانون إلى ما نامل من إنجازات صادقة في المجال االقتصادي‪،‬‬
‫وفتحا مبي ًنا‪.‬‬
‫والتصدي للمشكالت‪ .‬فاللهم اجعله عا ًما سعيدً ا ً‬
‫‪1990/1/4‬‬

‫‪110‬‬
‫العرب‬

‫أمثلة يضربها العصر‬

‫ش�هد ش�هر نوفمبر من العام الماض�ي حد ًثا ُم ِه ًّما في تاري�خ الواليات المتحدة‪،‬‬
‫وثالث ُمدُ ٍن أخرى‪،‬‬
‫َ‬ ‫أو ُق ْل في تاريخ البشرية‪ .‬شهد السود يتزعمون ُع ُم ِد َّي َة نيويورك‬
‫ناف ِسه األبيض‬
‫بحكم والية فرجينيا‪ .‬وقد فاز حاكم الوالية بعد تفوقه على م ِ‬
‫ُ‬ ‫ويفوزون ُ‬
‫أحدَ معاقل العنصري�ة في الماضي‪،‬‬ ‫�د َ‬ ‫الم َّدع�ي العام الس�ابق للوالي�ة التي كانت ت َُع ُّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫وإبان فترة الحرب األهلية‪ .‬كما َحظي‬ ‫والمؤي�دة للعبودية والرق في القرن الماضي‪َّ ،‬‬
‫ُعم�دة نيوي�ورك بتأييد ثلث أصوات البي�ض‪ ،‬باإلضافة إلى أصوات الس�ود في أكبر‬
‫المدن األمريكية‪.‬‬
‫إنه نصر للس�ود‪ ،‬نصر للواليات المتحدة‪ ،‬نصر للبشرية‪ ،‬نصر للحضارة نجد فيه‬
‫بعض العزاء‪ ،‬والكثير من التش�جيع في موقفنا إزاء ما يحدث في جنوب إفريقيا‪ ،‬وما‬
‫يح�دث في لبنان بين الطوائف والعائلات‪ ،‬وما يقع ليل نهار في األراضي المحتلة‪،‬‬
‫بين التعصب من ناحية‪ ،‬وإرادة التحرر من ناحية أخرى‪ ،‬بل إنه يعزينا ويشجعنا حيال‬
‫ما يقع لألحرار في كل مكان‪ ،‬وما ُيمارس في السجون والمعتقالت من جرائم تردنا‬
‫إلى العصور الهمجية الدامية من تاريخ البشرية‪.‬‬
‫لق�د ش�هد ه�ذا القرن مب�ادئ ولس�ون(((‪ ،‬وث�ورات المس�تعمرات‪ ،‬واس�تقالل‬
‫الش�عوب‪ ،‬وثورة العدال�ة االجتماعية الكبرى‪ ،‬وإعالن حقوق اإلنس�ان‪ .‬وعلى كل‬

‫((( مبادئ ويلسون هي ‪ 14‬مبدأ قدمت من قبل رئيس الواليات المتحدة وود رو ويلسون‬
‫للكونجرس األمريكي في ‪ 8‬يناير ‪ ،1918‬ركز فيها على ‪ 14‬مبدأ للس�لم وإلعادة بناء‬
‫أوروبا من جديد بعد الحرب العالمية األولى‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ِ‬
‫هدف مس�يرته ليتوافق معه‬ ‫حام�ل أمانة بش�رية في العالم أن يع�ي عصره‪ ،‬ويرنو إلى‬
‫وال يس�بح ضد تياره في عناد وغباء‪ .‬ونحن ال نتجاهل األزمات الخانقة التي تقبض‬
‫على أرواحنا‪ ،‬وال نستسلم لألحالم الوردية‪ ،‬ولكن علينا أن نستمد من روح عصرنا‬
‫االتجاه والقوة‪ ،‬واألمل والعزم والتصميم‪ ،‬وأن ننتظر إلى الغد مستشهدين بكل نصر‬
‫طيب‪ .‬إنها َل َم ْع َر َك ٌة ال تتوقف‪ُ ،‬‬
‫والعق َْبى فيها للصامدين الصابرين‪.‬‬

‫‪1990/1/25‬‬

‫‪112‬‬
‫العرب‬

‫األمة العربية تواجه الزمن‬

‫ت َّلقى العالم العربي في تاريخه الطويل تحديدات شرسة‪ ،‬من أوبئة‪ ،‬ومجاعات‪،‬‬
‫وغزوات همجية‪ ،‬واس�تعمار ش�امل ألراضيه‪ ،‬واكتش�افات جغرافية اقتلعت جذور‬
‫اقتص�اده‪ .‬وبرغم الخس�ائر الفادحة ف�ي األرواح والحضارة فقد صم�د للتحديات‪،‬‬
‫واستمسك بوجوده‪ ،‬وها هو ذا اليوم يمارس صحوة جديدة‪ ،‬ويتقدم بين شقي العناء‬
‫واألمل‪ .‬وها هي ذي التغيرات العالمية على المس�تويين الطبيعي والسياس�ي تُشَ ِّك ُل‬
‫ف�ي طريق�ه تحدي�ات جديدة‪ ،‬علي�ه أن يفكر ويتدبر ليكتش�ف موقعه منه�ا‪ ،‬وأفضل‬
‫الس ُ�بل للتعامل معها‪ .‬أجل إنه لم يحل مش�كالته الداخلية كما ينبغي له‪ ،‬ولم يحسم‬
‫ُّ‬
‫بع�ض الخالف�ات بين بلدانه‪ ،‬ولكن ثمة عالمات ال تخطئه�ا عين‪ ،‬تدل على توجهه‬
‫نح�و االت�زان والواقعية في متابع�ة ما يدور حول�ه‪ ،‬وت ََو ُّثبه نحو اإلصالح السياس�ي‬
‫واالجتماعي‪ ،‬وعزمه على القيام بدوره الالئق ضمن األسرة البشرية‪.‬‬

‫الع�رب اليوم يتالقون من خلال تكتالت تعاونية‪ ،‬ويصدرون قرارات س�يكون‬


‫الخ َطب‬
‫لها ش�أن في التعمير والبن�اء والتقدم الحضاري‪ .‬لم يعد األم�ر يقتصر على ُ‬
‫وم ِدي ِريهم ُيقبلون على‬
‫ولكن علماءهم يدرس�ون ويخططون‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫وإطالق الش�عارات‪،‬‬
‫همة‪ .‬إنها بش�ائر الوحدة االقتصادية والثقافية واألمنية‪ ،‬وال حياة حقيقية‬ ‫التنفيذ بكل َّ‬
‫لهذه األمة العريقة إلاَّ بالوحدة االقتصادية الثقافية األمنية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أموال لالستثمار في بالد العرب من خالل نظرة شاملة‪ ،‬ومن منطلق‬ ‫اليوم ت ُْر َصدُ‬
‫قومي‪ ،‬مس�تهدفة الدفاع عن النفس في المجال الحضاري اإلنساني‪ ،‬وترسيخ أسس‬

‫‪113‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نهضة ش�املة تق�وم على اإليمان والعل�م‪ .‬وقد امتدت اآلمال إلى األمة اإلسلامية‪،‬‬
‫فت�رددت في اجتماعاته�ا أصوات حكيمة داعية إلى التع�اون والتكامل االقتصادي‪،‬‬
‫�مى أن نس�تمر‪ ،‬أن نستمر دون تردد‬ ‫مما يبش�ر بخير أكبر‪ ،‬وتقدم أعظم‪ .‬واجبنا َ‬
‫األ ْس َ‬
‫وقلبا‪ ،‬وأن‬
‫أو وه�ن‪ ،‬وأن نُضاع�ف البذل والعم�ل‪ ،‬وأن نجود بما نملك يدً ا ولس�انًا ً‬
‫نوف�ر لألجي�ال اإليمان المض�يء‪ِ ،‬‬
‫والع ْل�م َ‬
‫الخَّل�اَّ ق‪ ،‬والثقافة األصيل�ة‪ ،‬والحضارة‬
‫الزاه�رة‪ .‬علينا أن نقدم الوفاء للماضي بأن نجعل المس�تقبل أفضل منه‪ ،‬برغم ما ُأثِ َر‬
‫عن الماضي من ٍ‬
‫مجد ِ‬
‫وذكْ ٍر جميل‪.‬‬

‫‪1990/4/12‬‬

‫‪114‬‬
‫العرب‬

‫قمة اآلمال‬

‫ال يخلو وطن عربي من أزمة داخلية‪ ،‬سياسية أو اقتصادية‪ .‬وكما أن الحل يوجد‬
‫في الداخل فإن َك َماله ال يتهيأ إلاَّ باالستعانة بالخارج‪ ،‬ذلك أننا نعيش زم ًنا اختلط فيه‬
‫خصوصا بين أوطان تش�ابكت جذورها وفروعها منذ قديمٍ ‪ ،‬شأن‬
‫ً‬ ‫الداخل بالخارج‪،‬‬
‫الوطن الواحد كاألوطان العربية‪ .‬وفي هذه اللحظة التاريخية التي تموج باالضطراب‬
‫وال ُّن ُذر َت َت َّ‬
‫بدى القمة العربية كشعا ٍع لألمل‪ ،‬ومنارة للمستقبل‪.‬‬

‫نرجو ‪-‬أول ما نرجو‪ -‬أن تُن ِّقى القمة الصدور من االنفعاالت‪ ،‬وأن تُشعل مصباح‬
‫العقل‪ ،‬فهو خير مرشد في العواصف الهوجاء‪.‬‬

‫نرجو أن ت َُو َّفقَ إلى تصفية المتبقي من الخالفات بين بعض األشقاء‪ ،‬حتى تنجلي‬
‫ٍ‬
‫وفكرا وسياسة‪.‬‬
‫ً‬ ‫جميعا عن ُأ َّمة واحدة ُّ‬
‫توج ًها‬ ‫ً‬ ‫الدول‬

‫نرجو أن تؤكد رغبتها في السلام العادل الش�امل‪ ،‬سالم يشمل قضايا فلسطين‪،‬‬
‫والج�والن‪ ،‬والنزاع العراق�ي‪ -‬اإليراني‪ ،‬وأن تعرض في ذلك اقتراحاتها‪ ،‬والس�بيل‬
‫السوى لتحقيقها‪.‬‬

‫نرجو أن تتبنى اقتراح تطهير الشرق األوسط من أسلحة الدمار الشامل بمختلف‬
‫وتجنيب�ا للمنطقة ِم َّم�ا يهددها من خ�راب ال يعلم‬
‫ً‬ ‫أنواعه�ا‪ ،‬تأيي�دً ا لدع�وة السلام‪،‬‬
‫م�داه إال الل�ه‪ ،‬وأن تطالب العالم بتحمل مس�ئوليته في هذا الش�أن بالقوة والوضوح‬
‫الكافيين‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نرجو أن تعلن ً‬
‫أيضا أن ال بديل لتطهير الشرق األوسط من أسلحة الدمار الشامل‪،‬‬
‫إلاَّ السباق الطبيعي إلحرازها ً‬
‫دفاعا عن النفس‪ ،‬ألننا بقدر ما نتطلع إلى سالم شامل‬
‫فإننا نأبى أن نعيش تحت رحمة اآلخرين‪.‬‬

‫نرجو أن تؤمن القمة ‪-‬وهو ما ال شك فيه‪ -‬بأن تماسكنا في هذه الفترة من الزمن‬
‫ه�و ضرورة حياة وبقاء‪ ،‬وأنَّ الزمن ال يس�مح بِغَ ِّ‬
‫ض الط�رف عن العواقب المتربصة‬
‫بنا‪ ،‬وأنَّ أي تهاون في ذلك ينذر بخاتمة تجل عن الوصف والعزاء‪.‬‬

‫نسأل الله الهداية ونسأله التوفيق‪.‬‬

‫‪1990/5/24‬‬

‫‪116‬‬
‫العرب‬

‫الجريمة والرسالة‬

‫ف�ي اعتق�ادي أنه ال يوج�د تردد عن إدانة غ�زو الكويت((( لدى فرد من ش�عوب‬
‫األم�ة العربي�ة‪ ،‬حتى ش�عب الع�راق ال أس�تثنيه من ذل�ك اإلجماع‪ ،‬فالغ�زو جريمة‬
‫ف‬‫جاهلية تقطع بأن التربية اإلسالمية على مدى ما يقرب من خمسة عشر قرنًا لم ت َْك ِ‬
‫لتطهير بعض النفوس من أدران العنجهية ال َق َبلية‪ ،‬باإلضافة إلى تناقضها الصارخ مع‬
‫روح العصر وتوجهه‪.‬‬

‫ولك�ن هن�اك نغمة غريبة بدأت تعزف ‪-‬نتيجة لذلك‪ -‬عل�ى أوتار اليأس‪ ،‬اليأس‬
‫م�ن العروب�ة والوح�دة والتع�اون‪ ،‬واعتباره�ا َأ ْضغَ اث أحلام‪ ،‬وس�حابات أوهام‪،‬‬
‫وأش�باح ليل بهيم‪ .‬ه�ذه خطيئة أخرى ال تقل في ضاللها وس�وء عاقبتها عن جريمة‬
‫الغزو نفسها‪.‬‬

‫انظروا إلى الوحدة األوروبية وكيف تتم في صبر وأناة‪ ،‬وخطوة بعد خطوة‪ ،‬بعد‬
‫ق�رون من التم�زق واألحقاد والحروب‪ ،‬وماليين الضحايا م�ن األنفس‪ ،‬وجبال من‬
‫أطالل المدن والقرى!‬

‫((( غ�زو الكوي�ت‪ :‬هوم ش� َّنه الجي�ش العراقي عل�ى الكويت في ‪ 2‬أغس�طس ‪1990‬م‪،‬‬
‫واس�تولى على كامل األراضي الكويتية وفي ‪ 9‬أغس�طس أعلنت الحكومة العراقية‬
‫ض�م الكوي�ت للع�راق واعتبارها المحافظ�ة رقم ‪ ،19‬واس�تمر االحتلال العراقي‬
‫للكوي�ت س�بعة أش�هر وانته�ى بتحرير الكوي�ت ف�ي ‪ 26‬فبراي�ر ‪1991‬م‪ ،‬فيما عرف‬
‫بحرب الخليج الثانية (المحرر)‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الوح�دة العربي�ة رس�الة مس�توحاة م�ن الواق�ع‪ ،‬تحتمه�ا المطال�ب‪ ،‬ويقتضيها‬


‫الوجود‪ ،‬ويكرس�ها تحقيق ال�ذات في العالم الحديث‪ ،‬وما يش�ترطه من تضامن في‬
‫الفكر والعقول واألموال لتحقيق أهداف اليوم والغد‪.‬‬

‫�ب جريمة أخرى‪ ،‬ولكننا لن‬ ‫لق�د ارتُكب�ت جريمة نكراء برغم إرادتنا‪ ،‬وقد ت ُْرت ََك ُ‬
‫نتخلى عن هدفنا األس�مى‪ ،‬ولن نتهاون في تحقيقه بكل وس�يلة ومن أي سبيل‪ ،‬وإِ ِن‬
‫اقتصرت البداية على نواة مؤمنة‪ ،‬ال ِ‬
‫كح ْل ٍ‬
‫ف ضد أحد‪ ،‬ولكن كدعوة مفتوحة ودائمة‬
‫لكل من يلبي النداء عن صدق وإيمان‪.‬‬

‫ش�ائكا‪ ،‬كثير العث�رات‪ ،‬وقد ت َُك�دِّ ُر َج َّو ُه بي�ن الحين‬


‫ً‬ ‫ق�د يك�ون الطريق طويًل�اً ‪،‬‬
‫نع�رات جاهلي�ة‪ ،‬أو ن�وازع جنونية‪ ،‬ولك�ن علينا أن نتص�دى ألي انحراف‬
‫ٌ‬ ‫والحي�ن‬
‫بالتضام�ن والعقل والحكم�ة والحزم‪ .‬علينا أن نصحح األخط�اء‪ ،‬ونضمد الجراح‪،‬‬
‫ونؤيد الحق والعدل‪ ،‬ولكن ال سبيل إلى التراجع أو اليأس أو الهزيمة‪.‬‬

‫‪1990/8/16‬‬

‫‪118‬‬
‫العرب‬

‫أماني عربية‬
‫ُّ‬

‫في ه�ذا الكابوس الخانق‪ ،‬وبين أطالل الخس�ائر المادية الباهظة التي لم يس�لم‬
‫منه�ا وط�ن عرب�ي‪ ،‬وعلى مرمى م�ن المصائب الت�ي نزلت باآلمنين م�ن المصريين‬
‫واألجان�ب‪ ،‬ف�ي ذلك الظالم ال يكف العق�ل عن التفكير‪ ،‬وال القلب عن الحس�رة‪،‬‬
‫األماني‬
‫ّ‬ ‫األماني‪ ،‬ت َُرى ما‬
‫ّ‬ ‫ولكن الخيال يلتقط لحظات من الراحة يهيم فيها في وادي‬
‫التي يحوم حولها الخيال؟‬

‫ظافرا إلى‬
‫‪ - 1‬أن ينتص�ر الرئي�س العراقي على جبروته االس�تبدادي ويرج�ع ً‬
‫(((‬

‫تراج ِع ِه أمام إي�ران‪ ،‬وفيه إنقاذ ُأل َّمته العربية‪ ،‬وتاريخه‬


‫الحق‪ ،‬وهو رجوع أش�رف من ُ‬
‫الوطني‪.‬‬

‫‪ - 2‬أن تعود الكويت إلى وجودها الشرعي‪ ،‬وتسترد سيادتها وحقوقها وما ُن ِه َب‬
‫من أموالها‪ ،‬فتضمد جراحها وتستأنف مسيرتها الكريمة‪.‬‬

‫س�ليما بغير س�وء‪ ،‬آم ًنا على ُس�كانه وهياكله‬


‫ً‬ ‫‪ - 3‬أن يخ�رج الع�راق م�ن األزمة‬
‫ومؤسس�اته‪ ،‬فهو ق�وة عربية‪ ،‬وعزة قومية‪،‬ونحن نحرص على سلامته حرصنا على‬
‫سالمتنا‪.‬‬

‫((( الرئيس العراقي‪ :‬المقصود «صدام حس�ين» ‪ 28‬إبريل ‪1937‬م ‪ 30 -‬ديسمبر ‪2006‬م‪،‬‬
‫خام�س حاك�م جمه�وري للجمهورية العراقي�ة‪ ،‬منذ ع�ام ‪ 1979‬حت�ى إعدامه عام‬
‫‪2006‬م (المحرر)‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ - 4‬أن تسلم القضية الفلسطينية من األذى‪ ،‬وأن ترجع إلى احتالل بؤرة االهتمام‬
‫والرعاية في قلوب األمة العربية‪ ،‬بوصفها قضية العرب األولى‪.‬‬

‫حقًّ�ا إنه�ا أ َمانِ ُّي كالحلم‪ ،‬ولكن بتحقيقها يطمئن العال�م على مصالحه‪ ،‬ويلتفت‬
‫مصيرا ال يعلم مدى شدته إلاَّ الله‪.‬‬
‫ً‬ ‫العرب إلى تعويض خسائرهم‪ ،‬ويتجنبون‬
‫إنه ُحلم غير مستحيل إذا استمع حاكم العراق إلى صوت العقل‪َ ،‬‬
‫وتذ َّك َر الدروس‬
‫القريبة والبعيدة‪ ،‬وفكر كما ينبغي للرجال المسئولين حقًّا عن أوطانهم‪ ،‬والمتطلعين‬
‫إلى منزلة في التاريخ ت ُْذ َك ُر لهم في صفحاته البيضاء‪.‬‬

‫‪1990/8/23‬‬

‫‪120‬‬
‫العرب‬

‫الطريق العربي‬

‫ارتفع الرئيس حسني مبارك في غمار األزمة العربية الراهنة إلى ذروة من الحكمة‬
‫الحضاري�ة‪ ،‬خليق�ة حقًّا بالحاكم المصري األصيل‪ ،‬المؤيد م�ن الله بالعقل الحكيم‬
‫في الجس�م الس�ليم‪ ،‬كان خير ُم َع ِّب ٍر عن صوت مصر‪ ،‬وحضارة مصر‪ ،‬وعراقة مصر‪،‬‬
‫�د َد الجزاء‬
‫الخ ْي َر من الش�ر‪ ،‬وت ََح َّ‬ ‫َ‬
‫أش�رق فجر الضمي�ر بأرضها المبارك�ة‪ ،‬و َب َّي َن َ‬ ‫من�ذ‬
‫ِ‬
‫واآلخرة‪.‬‬ ‫العادل في الدنيا‬

‫وقد أس�عدنا إص�راره على الس�عي إلى السلام‪ ،‬وتجنيب األم�ة العربية ويالت‬
‫الح�رب‪ ،‬ونحن ندعو ل�ه بالتوفيق‪ ،‬كما ندعو لكل َم ْن ُي�ؤازره في دعوته من العرب‬
‫واألجانب‪ ،‬ولكنا لن نس�عد بالسلام إذا جاء ‪-‬ال س�مح الله‪ -‬على حس�اب القيم‪،‬‬
‫لذل�ك يج�ب أن يك�ون هدفن�ا األول هو إزالة آث�ار الع�دوان‪ ،‬وع�ودة الكويت إلى‬
‫وجوده�ا الش�رعي ودورها العرب�ي‪ ،‬ورجوع العراق إلى الحق و الش�رعية وس�يادة‬
‫القانون‪ ،‬واحترام حقوق اإلنسان في ظل الجامعة العربية وهيئة األمم‪.‬‬

‫خالصا‪ ،‬فقد كش�فت عن‬


‫ً‬ ‫ولعله من الصواب أن نعترف بأن األزمة لم تكن َش ًّ�را‬
‫حقائق عن أش�قائنا العرب كان البد أن ت ُْع َر َف لتس�تقيم العالق�ات بينهم في وضوح‬
‫وجالء‪ ..‬كش�فت عن فلس�فاتهم في الحياة‪ ،‬فإنهم وإن اتفقوا في الغايات البعيدة من‬
‫التح�رر والنهض�ة فإنهم يختلفون ف�ي المنهج‪ ،‬منهم من يحرص على نقاء الوس�يلة‬
‫والغاية‪ ،‬ومنهم من يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫فعلين�ا أن نتكتل م�ع الفريق األول لنقيم معه األس�اس األخالق�ي للعروبة‪ ،‬وأن‬
‫نحاول بمختلف الوس�ائل المشروعة تطهير الفريق اآلخر من رواسب قرون مضت‬
‫وانقضت إلى غير رجعة بإذن الله‪.‬‬

‫ولنتس�اءل بلهفة‪ :‬متى نخرج من ُظلمات األزمة؟ متى نواصل السير؟ متى نتفرغ‬
‫لهدفنا الحقيقي‪ ،‬وهو القيام بدور جدير بنا في هذا العصر؟‬

‫‪1990/8/30‬‬

‫‪122‬‬
‫العرب‬

‫حرب الرهائن‬

‫قرر الرئيس صدام حس�ين أن يحول األجانب العاملين في العراق والكويت إلى‬
‫رهائ�ن يحتمي بها م�ن الضربات التي يتوقعها‪ .‬من العب�ث أن نقول إنه إجراء خارج‬
‫عل�ى جمي�ع القوانين الدولية والش�رائع اإلنس�انية‪ ،‬فما جدوى الكالم ع�ن القانون‬
‫والشرعية لدى رجل يتصرف في سياسته وكأنه في دنيا بال قانون وال شرائع؟!‬

‫ولكن كيف يكون التعامل مع ذلك الموقف الشاذ؟!‬

‫لق�د ذهب�ت القوات األمريكي�ة والعربية إلى الس�عودية للدف�اع ال للهجوم‪ ،‬فلن‬
‫تنش�ب حرب إلاَّ إذا غامر الرئيس العراق�ي بهجوم‪ ،‬وعند ذلك فال خيار ألحد‪ ،‬وإذا‬
‫ينصب على‬
‫ّ‬ ‫لم يمكن إنقاذ الرهائن فس�يحل بالعراق انتقام رهيب‪َ ،‬س َ�ي ْن َص ُّب َ‬
‫أول ما‬
‫األبرياء لألسف الشديد‪.‬‬

‫علما بأن‬ ‫وإذا ل�م تقم حرب فالمقاطعة االقتصادية كافية‪ ،‬حتى وإنْ َ‬
‫طال أمدها‪ً ،‬‬
‫مجل�س األمن ل�م يقرر حتى كتابة هذه األس�طر الحصار‪ ،‬وفضلاً ع�ن أن المقاطعة‬
‫يمك�ن َألاَّ تش�مل الغ�ذاء وال�دواء ألس�باب إنس�انية‪ ،‬وفي فت�رة المقاطعة ق�د ت َُح ُّل‬
‫راض عن‬ ‫داخلي�ا اس�تجابة لضغط الش�عب العراقي ال�ذي ال أتصور أن�ه ٍ‬
‫ًّ‬ ‫المش�كلة‬
‫سياسة حاكمه‪ ،‬كما أن القوات الم ِ‬
‫داف َعة ستجد المزيد من الوقت الستكمال َعدَ ِد َها‬ ‫ُ‬
‫وع َّدتِ َها‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪123‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إن الرئيس العراقي يفعل ما يفعل المجرمون في الس�ينما من تعريض ضحاياهم‬


‫طمعا في الهروب بأمان‪ .‬غير أن الش�رطة عادة تصنع المس�تحيل‬
‫لرصاص الش�رطة ً‬
‫كي تحقق أهدافها دون التضحية باألبرياء‪.‬‬

‫‪1990/9/6‬‬

‫‪124‬‬
‫العرب‬

‫(((‬ ‫َ‬
‫ش ٌّر يلد شرورًا‬

‫ق�رار مجلس األمن بفرض الحصار حول العراق فيه الكفاية لتحقيق ما نريد وما‬
‫يري�ده العالم معنا‪ ،‬وهو انس�حاب الجيش العراقي من الكويت‪ ،‬واس�ترداد الكويت‬
‫حتما‬
‫لوجودها الش�رعي‪ .‬قد تجيء النتائج بالس�رعة التي نتمناها‪ ،‬ولكنها س�تجيء ً‬
‫ف�ي وقتها‪ ،‬فما علين�ا إلاَّ َأنْ نس�توصى بالصبر ون ُْح ِك َم الحص�ار‪ ،‬ووقت االنتظار ال‬
‫تاحة للساعين إلى حل المشكلة بالمبادرات والمفاوضات‪،‬‬ ‫يضيع عبثًا‪ ،‬فهو فرصة ُم َ‬
‫المهم عندنا أن يرجع الحق إلى أصحابه‪ ،‬وأن تنتصر المبادئ‪ ،‬وأن يعي الدرس كل‬
‫من يفكر في العدوان‪ ،‬ويعلم في الوقت نفسه أنه يعيش في عالم جديد‪ ،‬وأن عليه أن‬
‫يعمل في ظل مبادئه‪.‬‬

‫ش�رورا‪ ،‬ولن ينج�و من عواقبها المباش�رة‬


‫ً‬ ‫أم�ا الحرب فهي ش�ر‪ ،‬وهي ش�ر يلد‬
‫وغير المباش�رة وطن عربي أو غير عربي‪ ،‬وس�تكون وطأتها أشد على العالم الثالث‬
‫فتضاعف معاناته‪.‬‬

‫يج�ب ألاَّ نفك�ر في الح�رب إلاَّ إذا ُف ِر َض ْت علين�ا ً‬


‫فرضا‪ ،‬وهي ل�ن ُتف َْر َ‬
‫ض علينا‬
‫إلاَّ إذا غام�ر الرئيس العراقي بح�رب جديدة‪ .‬وجميع القوات التي تتجمع في منطقة‬
‫تابع لما جرى في مجلس‬
‫والم ُ‬
‫الخلي�ج تتجمع لتنفيذ قرار مجلس األم�ن أو للدفاع‪ُ .‬‬

‫)‪ (1‬كان عن�وان المقال في األصل «الحرب» وهو عنوان س�ابق لمقال ص ‪ 90‬من نفس‬
‫الكتاب‪ ،‬فقمنا بتغييره إلى العنوان الحالي (المحرر)‬
‫‪125‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الح َ�ظ كيف ترددت بعض الدول طويلاً قبل أن توافق على مزيد من التش�دد‬ ‫األم�ن َ‬
‫ف�ي ق�رار العقوب�ات‪ِ ،‬م َّم�ا يقط�ع بالتالي بأنه�ا ال ترغب ف�ي الح�رب وال تحبذها‪،‬‬
‫والس�عي إلى الحرب دون ضرورة ال يقل في ال إنس�انيته عن الغزو اإلجرامي نفسه‪،‬‬
‫ُّ‬
‫أو استغالل الناس كرهائن‪.‬‬

‫وجملة القول‪ :‬إننا حريصون كل الحرص على الحق والعدل والش�رعية‪ ،‬ولكننا‬
‫ال نريد الحرب إال إذا ُف ِر َض ْت علينا ً‬
‫فرضا‪.‬‬

‫‪1990/9/10‬‬

‫‪126‬‬
‫العرب‬

‫الحرب والسالم‬

‫من العرب؟‬

‫إنه�م عملاء اإلمبريالي�ة والصهيونية العالمي�ة‪ .‬ال أقول أنا ذلك‪ ،‬ول�م َأ ُق ْل ُه قط‪،‬‬
‫الخالف والش�قاق‪ .‬وقد يحدثونك عن‬ ‫ولكن تردده ألس�نة الع�رب أو أقالمهم لدى ِ‬
‫مؤامرات يقع قادتهم في شباكها كأنما هم صيد سهل لكل صائد ماكر‪.‬‬

‫إن�ه ُحك�م جائ�ر زائ�ف‪ ،‬وال يؤيده دلي�ل أو يقين أو وثيق�ة‪ .‬ينطلق وينتش�ر بقوة‬
‫االنفع�ال الجام�ح والعاطفة الهوجاء‪ ،‬وف�ي غيبة كاملة من العق�ل‪ .‬الحق َأنَّ العرب‬
‫جميع�ا يتبن�ون أهدا ًف�ا واحدة‪ .‬إنه�م يحلمون بالوح�دة دون دخول ف�ي تفاصيلها‪،‬‬
‫ً‬
‫ويحلمون بصحوة ش�املة يدخلون بها العصر الذي نعايش�ه باعتبارنا قوة قادرة على‬
‫االس�تيعاب والعط�اء‪ .‬وهم يتمنون أن تس�ندهم ف�ي كفاحهم أم�وال النفط‪ ،‬ال على‬
‫سبيل المعونات‪ ،‬ولكن عن طريق االستثمار الذي يعود بالخير على الجميع‪.‬‬

‫وإذن فمن أين يجيء الخالف؟‬

‫يجيء الخالف عند اختيار الوس�يلة المؤهلة لتحقيق هذا الحلم‪ .‬منهم من يؤمن‬
‫بالعنف واإلرهاب والحرب‪ ،‬ومنهم من يلتزم بالقانون والشرعية والحوار العقالني‪،‬‬
‫ويرغب في تحقيق أحالمه تحت مظلة المواثيق العربية والقوانين الدولية‪.‬‬

‫والحق أننا ال َن ْلقى على أيدي المؤمنين بالعنف سوى المآسي والهزائم‪ ،‬أما أهل‬
‫الحوار والعقل فقد حرروا س�يناء‪ ،‬ومهدوا الس�بيل لحوار ش�امل ت َُح ُّ‬
‫�ل فيه القضايا‬
‫‪127‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وجها لوجه‪ ،‬يس�عى أحدهما إلى حل عربي س�لمي‪،‬‬


‫المعلق�ة‪ .‬الي�وم يقف الفريقان ً‬
‫مزهوا بقوته وحماسته‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ويصر اآلخر على الرفض‬
‫ُّ‬
‫والحق أن الحرب تطرح عواقب وخيمة‪ ،‬وهيهات أن ينجو منها أحد‪.‬‬

‫‪1990/9/13‬‬

‫‪128‬‬
‫العرب‬

‫الدروس القاسية‬

‫دروس�ا لمن يريد أن يتعل�م‪ ،‬فمتى نتعلم؟ دار‬


‫ً‬ ‫ف�ي حياتنا تجارب قاس�ية‪ ،‬تصلح‬
‫آمنة يقتحمها قرار من داخلها‪ .‬يقذف به أحد أبنائها في س�اعة ت ََج ٍّل أو س�اعة نحس‪،‬‬
‫ل�م تناقش�ه أو ت ِ‬
‫ُدل فيه ب�رأي‪ ،‬وإذا به يجرها إل�ى حافة الهاوية‪ :‬وقد يهدم في س�اعة‬
‫والعرق واألمل‪ .‬والبلوى تكمن عادة في زعيم ُم ْس� َتبِدٍّ‬
‫ما ش�يدته في س�نين بالجهد َ‬
‫يترا َءى لنفسه وقومه كأنه فوق‬
‫يفرض ذاته بالقوة‪ ،‬و ُيهيمن على أجهزة اإلعالم حتى َ‬
‫البش�ر‪ ،‬ينطق عن الوح�ي‪ ،‬ويتصرف باإللهام‪ ،‬وال يثوب إلى رش�ده َّاَإل وهو في قاع‬
‫الهاوية‪.‬‬

‫مت�ى تبرأ األوط�ان العربية من ذلك ال�داء القاتل؟ متى تعد بيته�ا للحياة في هذا‬
‫العصر؟ متى تؤمن بالحرية واحترام حقوق اإلنسان؟‬

‫كثيرا ما يبدون وحدة متماسكة تباركها األحضان والقُ بالت‪ ،‬على حين‬
‫والعرب ً‬
‫أن قلوبهم ش�تى‪ ،‬وأحالمهم متنافرة‪ ،‬بل منهم من يود الفتك بأخيه قبل خصمه‪ ،‬من‬
‫أج�ل ذلك يج�ب أن تطرح خالفاته�م في ضوء النه�ار‪ ،‬ما تعلق منه�ا بالحدود وما‬
‫تعل�ق بالتاري�خ‪ .‬عليه�م أن يعملوا على تس�ويتها بصفة نهائية مهم�ا كلفهم ذلك من‬
‫يصفوا َج َّو ُهم ِم ْن كدر الكراهية والحقد‪ ،‬وكي ال نفاجئ العالم‬ ‫جه�د وتضحية‪ ،‬ك�ي ُّ‬
‫باإلزع�اج والضرر كل بضع س�نين‪َ ،‬ف ْل ُن َق ِّل ْل من األحض�ان والقُ َبل‪ ،‬ولنوثق عالقات‬
‫الترابط والتضامن‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وع َّر َف ْت كل وطن عربي بمن‬


‫وال ش�ك أن األزمة الراهنة كش�فت حقائق مهمة‪َ ،‬‬
‫يتوافق معه دون قيد أو ش�رط‪ ،‬وبمن يميل إليه بتحفظ وبمن يختلف معه اختال ًفا ال‬
‫تعاونيا من األوطان‬
‫ًّ‬ ‫مجلسا‬
‫ً‬ ‫ُيرجى معالجته في الزمن القصير‪ ،‬وعليه فيجب أن ننشئ‬
‫الت�ي يجمعنا بها الهدف والوس�يلة تحت مظلة ميثاق الجامع�ة العربية‪ ،‬وميثاق هيئة‬
‫األمم‪ ،‬لنبدأ تلك الخطوة دون تردد‪ ،‬ال كحلف ضد أحد‪ ،‬ولكن كأس�اس تقوم عليه‬
‫تنميتنا الش�املة‪ ،‬واقتصادنا المتكامل‪ ،‬وس�وقنا المش�تركة‪ ،‬ووحدتنا الثقافية‪ .‬سوف‬
‫يك�ون نظا ًم�ا يدعو إلى االنضمام إليه ال بالقوة وال بالدعاي�ة ولكن بالعمل الصالح‪،‬‬
‫واإلنجاز المفيد‪ ،‬ومبادئ الحرية واإلنسانية‪.‬‬

‫‪1990/9/27‬‬

‫‪130‬‬
‫العرب‬

‫من الجاني؟‬

‫يقولون ‪-‬اعتما ًدا على ش�واهد وأدلة‪ -‬إن الواليات المتحدة علمت باالستعداد‬
‫لغ�زو الكويت قبل وقوعه بمدة كانت كافية للتحذير والتنبيه والحيلولة دون وقوعه‪،‬‬
‫وإنه�ا تركت األمور تجري في مجراها حتى وقع الغزو‪ ،‬فوجدت فرصة نادرة لتنفيذ‬
‫سياس�ة جديدة هي جزء مهم في تصورها للعالم الجديد الذي يتش�كل بعد الوفاق‪،‬‬
‫وهي نقل خطوط دفاعية إلى منطقة الشرق األوسط‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنيا أصبح‬ ‫َق َّد َم الغزو لها خدمة كبرى‪ ،‬فقد هدد مخزنًا ًّ‬
‫مهما للطاقة‪ ،‬وخرق مبدأ ًّ‬
‫العال�م يحرص علي�ه بدقة بعد توجهات�ه الجديدة‪ ،‬واتفق العرب أنفس�هم مع العالم‬
‫الم َه َّد َد ُة في أمنها تطلب‬ ‫ُ‬
‫الدول ُ‬ ‫فهبوا ُيطالبون بانس�حاب العراق‪ ،‬وراحت‬
‫في ذلك‪ُّ ،‬‬
‫الع�ون من جميع األصدقاء‪ ،‬هكذا انطبقت المبادئ على المصالح‪ ،‬والمصالح على‬
‫المب�ادئ ‪ ،‬ووج�د الغرب الفرصة لتنفيذ سياس�ته دون متاعب‪ ،‬بل ف�ي اتفاق تام مع‬
‫أهل المنطقة‪ ،‬وبدعوة من بعضهم‪ ،‬في ظل قرار عالمي استهدف الدفاع عن القانون‬
‫واألمن والشرعية‪.‬‬

‫وب�ادر ُأناس إلى االتهام‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن العالم ل�ن يتغير‪ ،‬ومازال وجهه القبيح على‬
‫قبحه‪ ،‬غاية ما في األمر أن العدو يجيء هذه المرة في ثياب صديق!‬

‫مهًل�اً ال تلوم�وا دولة إذا خططت لمس�تقبلها بما يتفق مع تصوره�ا لعالم جديد‬
‫�د جديد‪ ،‬ولكن اللوم يقع على َم ْن يس�ىء الفهم والتقدي�ر‪ ،‬وال يعرف لِ َقدَ ِم ِه قبل‬
‫وغ ٍ‬
‫َ‬

‫‪131‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫يجر به نفس�ه وقومه إلى مأزق وعر‪ .‬اللوم‬ ‫الخ ْط� ِو موضعه�ا‪ ،‬فيقدم على فعل أخرق ُّ‬
‫َ‬
‫عل�ى المخط�ئ‪ ،‬وال أق�ول العميل أو المتآمر‪ ،‬فإن�ي ُأن َِّزه أي زعيم ع�ن ذلك‪ ،‬ولكنه‬
‫االستبداد وقصر النظر والغرور الذي يخلق من أعاجيب األفعال ماال يتصور حدوثه‬
‫إِلاَّ مع الخيانة والتآمر‪.‬‬

‫الحك�م الصال�ح يحت�اج إلى ثقافة سياس�ية ش�املة‪ ،‬ومعلومات وفي�رة وحكمة‬
‫ُ‬
‫رش�يدة‪ ،‬وحذر محيط‪ ،‬وق�د يتوافر ذلك في جو الديمقراطي�ة واالنفتاح على جميع‬
‫دائما في مس�تنقع الكوارث‪،‬‬
‫فيصب ً‬
‫ّ‬ ‫الم ْل َهم‪،‬‬
‫اآلراء‪ ،‬أما حكم الفرد‪ ،‬وبخاصة الفرد ُ‬
‫وقد نجد أنفسنا غدً ا في موقف دقيق يقتضينا جميع ما نملك من حكمة ومقدرة‪.‬‬

‫‪1990/10/25‬‬

‫‪132‬‬
‫العرب‬

‫الخط بين السالم والحرب‬

‫إننا من دعاة الحل السلمي ألزمة الخليج‪ ،‬ال كراهية في الحرب وآثارها المدمرة‬
‫تحسبا لما‬
‫ً‬ ‫حفاظا على ش�عب العراق ودوره العربي فقط‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا‬ ‫ً‬ ‫فحس�ب‪ ،‬وال‬
‫س�يعقب ح�ل األزمة من حوار بينن�ا وبين األمم التي تصدت إلعادة الش�رعية‪ .‬فلئن‬
‫نجلس للحوار بعد حل سلمي َخ ْي ٌر من أن نُحاور قو ًما قد فقدوا عشرات األلوف من‬
‫دفاعا عن ش�رعية المنطقة‪ .‬فهناك باإلضافة إلى ذلك مصالح تقوم‬
‫القتلى والجرحى ً‬
‫عليه�ا حضارة‪ ،‬وهناك التفكير ف�ي نظام أمني يمنع العواصف الدورية التي تهب من‬
‫المنطقة كل بضع سنين‪.‬‬

‫وإذا كن�ا م�ن ُدعاة الحل الس�لمي فإننا في الوقت نفس�ه ُدعاة الش�رعية والقانون‬
‫والمب�ادئ‪ ،‬فلا نقب�ل بحال أي ته�اون مع الع�دوان‪ ،‬أو مس�اس بح�ق الكويت في‬
‫الوج�ود وح�ق حكومتها في الع�ودة‪ ،‬والحق الع�ادل في التعويضات عن الخس�ائر‬
‫الباغية التي حاقت بالوطن الكويتي‪.‬‬

‫مبر ًأ من العيوب‪،‬‬
‫طاهرا من الشوائب‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫نريد السالم تحت شرط أن يجيء سال ًما‬
‫سال ًما تعتز به الكرامة ال أن ت ُْخ َزى به‪ ،‬سال ًما يفرح به األبرياء وال يتيه به المجرمون‪.‬‬
‫ولن تضيرنا المبادرات التي تمهد الطريق وتيس�ره‪ ،‬كأن تتيح للرئيس العراقي فرصة‬
‫لحف�ظ ماء الوجه‪ ،‬بل لن يضيرن�ا أن ينال تعهدً ا بتأمين وطنه إذا َن َّف َذ القرار في الحال‬
‫وبال تردد‪ .‬المهم عندنا أن يسترد الشعب الكويتي جميع حقوقه المسلوبة‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وإذا خاب�ت الحي�ل وفش�لت المس�اعي‪ ،‬وأثب�ت الحص�ار عقمه وع�دم جداوه‬
‫فنحن نفضل الحرب ‪-‬على بش�اعتها‪ -‬على الهزيمة‪ ،‬هزيمة الحق والعدل والقانون‬
‫والشرعية والمبادئ‪.‬‬

‫إن اإلنسان قادر على إصالح الدمار‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يعايش حياة خالية من‬
‫القانون والمبادئ‪.‬‬

‫‪1990/11/2‬‬

‫‪134‬‬
‫العرب‬

‫خطوة منشودة للسالم‬

‫ق�رار مجل�س األمن فيم�ا يتعل�ق بغ�زو الكويت واضح وحاس�م‪ ،‬وه�و يقضي‬
‫بانس�حاب الجيش العراقي وعودة الكويت إلي وجودها الشرعي‪ ،‬وعودة حكومتها‬
‫ً‬
‫وتنفي�ذا لذلك اتخذت ق�رارات بالمقاطعة‪ ،‬وتصاع�دت في حدتها‬ ‫الش�رعية إليها‪،‬‬
‫حتى انتهت بضرب حصار شامل حول العراق‪.‬‬

‫والقرارات بتلك الصورة وتلك الوسيلة قرارات عالمية‪ ،‬تعبر عن موقف مجلس‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫األمن ورغبة أمم العالم‬

‫أما القتال فالقرارات ال تتضمنه‪ ،‬وجميع الدول والشعوب ترفضه وال تغيب عنها‬
‫تبعا لذلك‪ :‬إنَّ نش�وب القتال ‪-‬إذا لم تبدأه العراق‬
‫عواقبه الوخيمة‪ ،‬فنس�تطيع القول ً‬
‫تحديا للضمير العالمي‪ ،‬مثل التراجع عن القرارات السابقة‪ .‬فليس‬
‫ًّ‬ ‫نفس�ها‪ -‬سيكون‬
‫أمام القوات المحتش�دة في الخليج إال االنتظار‪ ،‬وس�وف تجيء الس�اعة المنش�ودة‬
‫عاجلاً أو آجال‪.‬‬

‫ولكن يخاف البعض‪ -‬ولهم الحق‪ -‬أن يؤدي احتشاد الجيوش بالصورة التي هي‬
‫عليه�ا إلى اندالع ش�رارة القتال بس�بب أو آخر‪ ،‬حتى دون تخطي�ط أو تدابير‪ ،‬فلماذا‬
‫ال يخط�و مجل�س األمن خطوة جدي�دة‪ ،‬يفتح بها با ًب�ا جديدً ا لألمل دون المس�اس‬
‫بقراراته السابقة؟‬

‫‪135‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫قرارا جديدً ا يتعهد فيه ‪-‬فور تنفيذ قراره األول‪-‬‬


‫أعتقد أنه يفعل الكثير إذا أصدر ً‬
‫بطرح جميع مشكالت المنطقة للمفاوضة‪ ،‬ومتابعتها حتى الحسم‪ ،‬وهي تشمل‪:‬‬

‫‪ -1‬المشكلة العربية اإلسرائيلية‪.‬‬

‫‪ -2‬المشكالت العربية العربية‪.‬‬

‫‪ - 3‬إقام�ة نظ�ام أمني للمنطق�ة يتضمن فيما يتضمن تطهيرها من أس�لحة الدمار‬
‫الشامل‪.‬‬

‫لعل ذلك يقربنا من الحل‪ ،‬ويس�تأصل األسباب التي تدفع المنطقة إلى أن تكون‬
‫مصدر إزعاج دوري لنفسها وللعالم كل بضع سنين‪.‬‬

‫‪1990/11/5‬‬

‫‪136‬‬
‫العرب‬

‫صراع الخير والشر‬

‫ف�ي لحظات التاريخ المتوترة تتوثب اإلرادات البش�رية ف�ي عنفوانها‪ ،‬وتتعاقب‬
‫الحوادث المذهلة‪ ،‬وتتقرر المصائر بين الخير والشر‪.‬‬

‫يتم غزو الكويت ونهبها وتشريد أهلها‪.‬‬

‫يتكتل العالم ضد العدوان ويطالب بالعودة للقانون والشرعية‪.‬‬

‫وتنبهر قلة من العرب بالقوة فتس�اند العدوان‪ ،‬وتقف أغلبيتهم مع الحق والعدل‬
‫والقانون‪.‬‬

‫تتعرض أوطان كثيرة لخسائر فادحة لدفاعها عن المبادئ الشرعية‪.‬‬

‫ويق�در موقفنا حق قدره‪ ،‬فنتح�رر من قروض باهظة ما كنا نتحرر منها إلاَّ بالعناء‬
‫الطويل في الزمن المديد‪.‬‬

‫وتس�توعب دول النفط الدرس فتهتدي ‪-‬وبصورة حاسمة‪ -‬إلى طريق السالمة‪،‬‬
‫والتوج�ه االقتصادي الرش�يد‪ ،‬واألم�ن القومي العرب�ي الحقيقي القائ�م على الحق‬
‫واإلخالص‪.‬‬

‫ويتردد الحديث هنا وفي العالم عن المشكالت التي تهدد المنطقة باالنفجار كل‬
‫بضع س�نين‪ ،‬وتنعقد العزائم على حلها بما يحقق السلام الشامل‪ ،‬والعدل الشامل‪،‬‬
‫سواء ما تعلق منها بما بين العرب وإسرائيل‪ ،‬أو بما بين العرب والعرب أنفسهم‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ويت�ردد الحدي�ث ً‬
‫أيضا ع�ن تطهير المنطق�ة من أس�لحة الدمار الش�امل تحقيقًا‬
‫لألمن واألمان‪.‬‬

‫هكذا بدأت الحوادث باندالع شرارة شريرة‪ ،‬ما لبثت أن طوقتها األفكار الرشيدة‪،‬‬
‫والني�ات الطيبة‪ ،‬فجعلت منها مدخلاً لحياة جدي�دة تعد على المدى الطويل بالخير‬
‫والنماء‪.‬‬

‫ويمكن تلخيصها على المستوى العربي في سطرين‪ ،‬وهي أنها جاءت ثمرة‪:‬‬

‫‪ - 1‬لتهور رئيس مستبد‪.‬‬

‫‪ -2‬حكمة رئيس ديمقراطي‪.‬‬

‫وقد كنا نش�فق من أن نرحل عن الدنيا ووطننا العربي مختنق في كابوس�ه‪ ،‬ولكن‬
‫موس�عا‬
‫ً‬ ‫ش�اءت العناي�ة اإللهية أن تمد في عمرنا حتى نرى الكابوس وهو يتالش�ى‪،‬‬
‫ليقظة مشرقة‪.‬‬

‫‪1990/11/8‬‬

‫‪138‬‬
‫العرب‬

‫الح َّليْن‬
‫مقارنة بين َ‬

‫وضوحا‬
‫ً‬ ‫بم�رور األي�ام واألس�ابيع تتض�ح حقائ�ق ف�ي أزم�ة الخلي�ج‪ ،‬وت�زداد‬
‫لخصت الموقف‬
‫ُ‬ ‫بالتصريحات التي يدلي بها مسئولون‪ ،‬و َل َع ِّلي ال أتجاوز الواقع إذا‬
‫على الوجه اآلتي‪:‬‬

‫‪ - 1‬الكث�رة الغالب�ة ترغ�ب ف�ي الح�ل الس�لمي‪ ،‬أي تنفي�ذ قرار مجل�س األمن‬
‫دون قت�ال‪ ،‬وت�رى في الحص�ار المفروض حول الع�راق الكفاية‪ ،‬مع األخذ بش�يء‬
‫م�ن الصبر‪ .‬إنه�ا تحترم المب�ادئ وتدين الع�دوان‪ ،‬وتحرص في الوقت نفس�ه على‬
‫مصالحه�ا‪ ،‬ولكنها تس�تفظع الحرب وويالته�ا‪ ،‬وتريد أن تتجن�ب عواقبها الوخيمة‬
‫على اقتصاد العالم وعالقاته الدولية‪.‬‬

‫‪ - 2‬لكن بعض السياسات ال تقنع بالحل السلمي ولو أدى إلى تنفيذ قرار مجلس‬
‫األم�ن‪ ،‬فهي ال تس�مح للع�راق بأن يحوز قوة تخ�ل بالتوازن في المنطق�ة‪ ،‬وما يزيد‬
‫األمر صعوبة أنها ً‬
‫أيضا ال ترضى عن إبادة قوة العراق إبادة شاملة فتخل بالتوازن من‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬فكيف يمكن أن تحقق تلك السياسات أغراضها المتضاربة‪ ،‬بمعنى أن‬
‫ُت َن ِّف َذ قرار مجلس األمن‪ ،‬وت َُح ِّج َم قوة العراق دون إبادتها؟‬
‫ف�ي اعتق�ادي أن القتال ل�ن يحل هذه المش�كلة‪ ،‬فإن�ه إذا اندلع فل�ن يتوقف إلاَّ‬
‫بالقض�اء عل�ى أح�د الطرفي�ن‪ ،‬والنتيج�ة المتوقعة ف�ي تلك الح�ال هي إب�ادة القوة‬
‫العراقية‪ ،‬وانتشار الدمار في المنطقة‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أما الحل الس�لمي فلن َي ْعدَ َم وس�يلة للموازنة بين القوى في المنطقة عند البحث‬
‫عن سياسة أمنية في المنطقة‪ ،‬وتقدير حجم القوة الرادعة والكافية للدفاع عن األمن‬
‫واالستقرار‪ ،‬وبخاصة إذا اقترن ذلك بحل مشكالت المنطقة التي تهدد باالنفجارات‬
‫الدورية مثل‪:‬‬

‫‪ - 1‬المشكلة الفلسطينية‪.‬‬

‫‪ - 2‬مشكلة الحدود العربية‪.‬‬

‫‪ - 3‬مشكلة حيازة أسلحة الدمار الشامل‪.‬‬

‫‪1990/11/15‬‬

‫‪140‬‬
‫العرب‬

‫دعوة إلى الجهاد األكبر‬

‫متى يس�تقر العرب في عصر العقل؟ متى يهيمنون على عواطفهم وانفعاالتهم؟‬
‫متى يوظفون العواطف في حياتهم العامة كقوة كامنة‪ ،‬على حين ُي َب ِّوئ َ‬
‫ُون العقل مكان‬
‫القيادة لعربتهم في هذا الزمن الضاري الذي ال يرحم؟‬

‫تراه�م بي�ن اثنتي�ن‪ :‬إما َغ َزلاً ال يك�ون إلاَّ بين العاش�قين‪ ،‬وإما ِس َ�بابا ال يليق إلاَّ‬
‫المتنابِذين‪.‬‬
‫باألعداء ُ‬
‫وم�ا نُطال�ب أح�دً ا بالتفريط ف�ي مصالح�ه‪ ،‬وال نص�ادر َر ْأ َي ذي َر ْاي مختلف‪،‬‬
‫ولكنن�ا بلغن�ا درج�ة عالية م�ن االقتناع بض�رورة التآل�ف والتعاون‪ ،‬ووح�دة الرؤية‬
‫والهدف‪ ،‬وتوجهت قلوبنا نحو طريق واحدة تقوم على التكامل االقتصادي والثقافي‬
‫والروحي‪ ،‬وتستهدف بصدق وعزم اقتحام العصر الستيعاب مكوناته‪ ،‬واإلسهام في‬
‫معطيات�ه‪ ،‬مع طرح قيمنا الروحية الباقية‪ ،‬والخالد م�ن تراثنا المجيد‪ ،‬تحقيقًا للذات‬
‫على نحو جدير بأصالتنا‪ ،‬وسابقة إنجازاتنا الحضارية واإلنسانية‪.‬‬

‫بالمو َّد ِة واألمل والطموح يجب أن نرس�م سياس�ات‬


‫َ‬ ‫في ظل هذا الجو المش�بع‬
‫للتعاون والنضال‪ ،‬وعند الخالف علينا أن نلتزم بحدود وضوابط‪ .‬إنَّ دواعي الوفاق‬
‫ُّ‬
‫وأج�ل من تضارب‬ ‫وأج ُّ‬
‫�ل م�ن أي أعراض للخالف‪ ،‬وأس�باب التق�ارب أهم‬ ‫�م َ‬‫أه ُّ‬
‫َ‬
‫المصالح‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ف فاس�تعينوا‬ ‫وإذا ط�رأ خلاف ِجدِّ ّي فاحتكموا إلى العقل والحوار‪ ،‬وإذا لم َي ْك ِ‬
‫بوس�يط من األش�قاء‪ ،‬وإذا لم يج ِ‬
‫�د َف ْل َي ُكن االحت�كام إلى الجامعة العربي�ة‪ ،‬ال نهاية‬ ‫ُ ْ‬
‫لمس�اعي الخي�ر إذا تواف�رت الرغب�ة ف�ي الخي�ر‪ ،‬وإذا تذكرن�ا اآلمال الت�ي تجمعنا‬
‫واألهداف الكبرى التي تلح علينا‪.‬‬

‫َح�ذا ِر من الغضب األهوج‪ ،‬والكبرياء الطائش�ة‪ ،‬واالنفع�ال األعمى‪ ،‬إنها دعوة‬


‫األمارة بالسوء‪.‬‬
‫إلى الجهاد األكبر‪ ،‬جهاد النفس َّ‬
‫‪1990/11/22‬‬

‫‪142‬‬
‫العرب‬

‫رحلة إلى المستقبل‬

‫ثم�ة أحادي�ث وأفكار تدور َع َّما َس� َت ُئ ُ‬


‫ول إليه الحياة في المنطق�ة العربية بعد حل‬
‫وطبعا هذا ال يعني أن علينا أن ننتظر حتى يهل أوان التغيير فنش�رع في‬
‫ً‬ ‫أزمة الخليج‪،‬‬
‫التفكي�ر أو التنفي�ذ‪ ،‬كما أنه ال يعن�ي أن نقنع بموقف المنتظر لما يج�ري به القدر أو‬
‫ترسمه مشيئة اآلخرين‪.‬‬

‫علين�ا أن نرس�م ونخط�ط لذل�ك الغ�د الممل�وء باالحتم�االت‪ ،‬علين�ا أن نعتبر‬


‫وأخي�را‪ ،‬وأن نعم�ل الحس�اب لمختلف المالبس�ات‬
‫ً‬ ‫أن المهم�ة ه�ي مهمتن�ا أولاً‬
‫واالحتم�االت ومطال�ب العال�م الجديد ال�ذي يتكون س�اعة بعد أخ�رى في عصر‬
‫الوفاق بين الغرب والش�رق‪ ،‬وذوبان األيديولوجيات في رؤية جديدة واحدة تتوثب‬
‫لفرض شرعيتها على العالم أجمع‪.‬‬

‫في نطاق ذلك نعتبر رحلة الس�يد الرئيس حس�ني مبارك إل�ى دول الخليج رحلة‬
‫إلى المستقبل‪ ،‬بل إنها بادرة إلى االتفاق على أمرين مهمين‪:‬‬

‫األول‪ -‬نظ�ام أم�ن عربي للدفاع عن المنطقة‪ ،‬واإلس�هام بقوته الذاتية في توازن‬
‫القوى العالمية‪.‬‬

‫الثاني‪ -‬االتفاق على بداية طيبة للتكامل االقتصادي الذي هو أس�اس كل نهضة‬
‫حقيقية لتحقيق التقدم والرخاء للشعوب‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الحكم تتوافق مع‬


‫وأرج�و أن يكون الحوار ق�د تطرق لخلق رؤية جديدة ألنظمة ُ‬
‫العصر‪ ،‬وتتجاوب مع رؤاه‪.‬‬

‫لم تكن رحلة استكش�اف للمس�تقبل فقط‪ ،‬ولكنها اقترنت بالع�زم على تنفيذ ما‬
‫يمك�ن تنفي�ذه في الح�ال‪ ،‬والحق أن جميع ما اتفق عليه لم يك�ن وليد اللحظة أو رد‬
‫فعل لألزمة‪ ،‬ولكنه يعكس هواتف الضمائر العربية على مدى نصف قرن‪ ،‬ولعله لم‬
‫يعطل�ه إلاَّ الج�و العربي بما حمل م�ن خالفات وأزمات وأخطاء جعلت�ه ً‬
‫دائما يقدم‬
‫كثيرا من القوى فيما ال طائل وراءه‪.‬‬
‫المهم على األهم‪ ،‬ويهدر ً‬
‫الح�ق أنه آن لن�ا أن نعمل‪ ،‬وال نؤخر عمل اليوم إلى غ�د‪َ ،‬‬
‫وأ َّ‬
‫ال نحيد عن الطريق‬
‫المستقيم الذي ال محيد عنه وال تردد فيه وال طريق غيره للحياة الكريمة‪.‬‬

‫‪1990/11/26‬‬

‫‪144‬‬
‫العرب‬

‫حلم ساعة‬

‫كلم�ا م�ر يوم الح�ت في األف�ق نُ�ذر الح�رب‪ ،‬ولكن بش�ائر الحل الس�لمي ال‬
‫تتالش�ى‪ ،‬ال ت�زال تهدي إلين�ا األمل ف�ي تجنيب المنطق�ة ويالت الح�رب‪ ،‬آخر ما‬
‫عرفن�اه منها مبادرة الرئيس الفرنس�ي ميتران‪ ،‬ولعلها ذات مزايا ال يمكن أن ُيس�تهان‬
‫بها‪ ،‬فهي ُمحققة لقرار مجلس األمن‪ ،‬مع تجاوز بسيط في الشروط‪ ،‬وواعدة بتحقيق‬
‫السالم الشامل العادل في الشرق األوسط‪.‬‬

‫ولع�ل ذلك ما س�مح لنا بأن نرك�ن إلى الحلم س�اعة من الزمان‪ ،‬برغ�م معاناتنا‬
‫للواق�ع المتوتر المتجه�م‪ ،‬فلنحلم بما ينبغي أن يتم في عالمن�ا الصغير الذي أنهكته‬
‫الحروب ومزقته الخالفات‪.‬‬

‫َفأ َّولاً ‪ -‬يجب أن يعود الكويت إلى استقالله وتعود إليه سيادته‪.‬‬

‫وثاني�ا‪ -‬يجب أن نمضي بنفس العزم في حل المش�كالت الراكدة في فلس�طين‬


‫ً‬
‫والجوالن ولبنان‪.‬‬

‫وثالثً�ا‪ -‬يجب أن نحل الخالف�ات العربية‪ ،‬ما تعلق منها بالح�دود أو األقليات‪،‬‬
‫وفي مقدمتها الخالفات القديمة بين العراق والكويت‪.‬‬

‫ورابع�ا‪ -‬يج�ب المبادرة إل�ى تنفيذ التكام�ل االقتصادي على ُأس�س عادلة بين‬
‫ً‬
‫األغنياء وغيرهم‪ ،‬فعلى غير األغنياء أن يمهدوا أرضهم لتكون موضع الثقة واألمان‬

‫‪145‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لالس�تثمار‪ ،‬وعل�ى األغنياء أن يتوجهوا بق�رار نهائي إلى اس�تثمار أموالهم وتحقيق‬
‫أرباحهم في تطوير وطنهم العربي الكبير‪ ،‬والوثوب به إلى العصر‪.‬‬

‫وخامس�ا‪ -‬يج�ب عل�ى كل وطن عربي أن يس�د الفج�وة التي تفص�ل بينه وبين‬
‫ً‬
‫العص�ر الحديث في نظام الحكم‪ ،‬واحترام حقوق اإلنس�ان‪ ،‬واالعتماد في التصدي‬
‫لمش�كالته على العلم‪ ،‬مؤيدً ا ذلك كله بإيمانه العريق ومبادئه الس�امية‪ ،‬و َم ْن يدري‪،‬‬
‫فلع�ل ذلك االنفجار لم يقع إلاَّ ليش�دنا إلى التص�دي ألمراضنا‪ ،‬ويبلغ بنا الفرج بعد‬
‫الشدة!‬

‫‪1990/11/29‬‬

‫‪146‬‬
‫العرب‬

‫حوار مع الرؤية‬

‫إنن�ا بإزاء رؤية جديدة تصلح للمش�اركة في عالم جدي�د‪ ،‬وأعتقد أن هذه الرؤية‬
‫تقتضي إحداث حركتين‪ :‬إحداهما في الداخل‪ ،‬واألخرى في الخارج‪.‬‬
‫فبالنسبة للداخل يجب التركيز على ما يأتي‪:‬‬
‫أولاً ‪ -‬أن نس�تكمل أبع�اد ديمقراطيتن�ا بكل م�ا تتطلبه من عمل دائب وش�جاعة‬
‫مصباحا لالس�تنارة‪ ،‬ومظلة لحقوق‬
‫ً‬ ‫فائق�ة‪ ،‬يجب أن نعيد النظر في الدس�تور ليكون‬
‫ودرعا للعدالة والقضاء‪ ،‬وقوة للشعب من أجل الشعب‪ ،‬وضمانًا للوحدة‬
‫ً‬ ‫اإلنس�ان‪،‬‬
‫الوطني�ة‪ ،‬ووع�ا ًء للمب�ادئ اإلنس�انية والقي�م الدينية‪ ،‬م�ع تطهير جونا م�ن مختلف‬
‫خصوصا ما يتعلق منها بالتقاضي والصحافة‪ ،‬وس�يكون ذلك‬
‫ً‬ ‫القواني�ن االس�تثنائية‪،‬‬
‫أساسا لالستقرار المنشود‪ ،‬يطمئن به المواطن والمستثمر في ٍ‬
‫آن واحد‪.‬‬ ‫ً‬
‫ثاني�ا‪ -‬أن نُولي البحث العلمي ما يس�تحقه من إيم�ان ورعاية‪ ،‬وأن نضع العلماء‬
‫ً‬
‫حيث يضعهم العصر ليتولوا القيادة العلمية في جميع األنش�طة‪ ،‬وأن نذكر أن ألمانيا‬
‫نصرا ما كان ليتحقق إلاَّ‬
‫واليابان ‪ -‬المهزومتين‪ -‬استردتا مكانتهما بالعلم‪ ،‬فحققتا به ً‬
‫بحرب ثالثة ُيكتب لهما فيها النصر‪ .‬فللعلم الكلمة األولى في كل ميدان‪ ،‬وهو وحده‬
‫الذي يكفل المساواة بين ُأ َّمة صغيرة وأخرى عمالقة‪.‬‬
‫ثالثًا‪ -‬أن نس�تكمل ثورة التعليم‪ ،‬باعتباره المهد الذي تتربى فيه البذور الصالحة‬
‫الزده�ار الديمقراطي�ة والبح�ث العلمي‪ ،‬باإلضاف�ة إلى بناء الفرد على أس�س دينية‬
‫وقومية وثقافية‪َ ،‬لخ ْل ِق المواطن المنتمي الذي يعد العمل والمعرفة والتفكير عبادة‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وأنا لم أتعرض للمشكالت المتحدية‪ ،‬فهي محفوظة متداولة في الخطة الشاملة‪،‬‬


‫ولكني أتحدث عن الخطوط العريضة لرؤية جديدة‪.‬‬

‫وبالنس�بة للخ�ارج فأعتقد أن األمر لم يعد كما كان ف�ي الماضي بحثًا عن مجال‬
‫حي�وي‪ ،‬أو تط ُّل ًع�ا لزعام�ة‪ ،‬فقد يكون ذلك ًّ‬
‫مهم�ا‪ ،‬ولكن األهم منه الي�وم أن نعرف‬
‫أي�ة نغمة يمكن أن نعزفها في الس�يمفونية العالمية‪ ،‬بحيث يحدث اش�تراكنا طر ًبا ال‬
‫نشازً ا قد يجر علينا المتاعب‪ .‬يجب أن نعرف قيمة السالم مع العالم لتتهيأ لنا فرص‬
‫االزدهار في الداخل‪.‬‬

‫إن�ه عالم جديد ال يطالبنا بالقوة بمعناها المعهود فحس�ب‪ ،‬ولكنه يطالبنا بما هو‬
‫أشد وأبقى‪ ..‬يطالبنا بالعلم والحكمة والعمل الدائب‪.‬‬

‫‪1990/12/3‬‬

‫‪148‬‬
‫العرب‬

‫رئيس لكل العصور‬

‫كيف يتحدى الرئيس صدام حسين إرادة العالم بهذه الصورة المستفزة؟‬

‫لعل هذا ما أغرى البعض بتصور تمثيلية مرسومة‪ ،‬وأنه يلعب الدور المتفق عليه‬
‫وهو على أتم ما يكون من الطمأنينة‪.‬‬

‫وه�ذا التصور إنْ ج�از أن ُيق َْب َل بين دولتين فمن الصعب قيامه بين دولة والعالم‪،‬‬
‫فضلاً عن ذلك فإن التمثيلية المزعومة اقتضت تحريك جيوش ومعدات لم يعهدها‬
‫العال�م إلاَّ في حروبه الكب�رى‪ ،‬وانفجرت فيها براكين الغضب م�ن الجانبين لدرجة‬
‫تفوق أي اتفاق أو تآمر‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك فإن التراجع دون تحقيق القرار العالمي‬
‫ينق�ض كالصاعقة على كرامة األمم العظم�ى وبقية األمم‪ ،‬وعلى اآلمال التي عقدها‬
‫ُّ‬
‫البشر حول قيام عالم جديد في نياته وأسلوبه وأهدافه‪.‬‬

‫وإذن فالن�زاع ج�د ال ه�زل وال تمثيلية‪ ،‬ولنس�أل م�ن جديد عن موق�ف الرئيس‬
‫أيضا فروض الجنون وما يلحق به من أعراض‬ ‫الم َتحدِّ ي لإلرادة العالمية‪ ،‬ولنستبعد ً‬‫ُ‬
‫االس�تبداد‪ ،‬فالرج�ل ُيحا ِور و ُي�دا ِور‪ ،‬ويحتم�ي بمه�ارة بقضايا المنطق�ة وثرواتها‪،‬‬
‫وال يرف�ض السلام‪ ،‬ويطال�ب بالمفاوض�ة‪ ،‬و ُي َح ِّم�ل خصوم�ه مس�ئولية العواق�ب‬
‫الوخيمة المتوقعة‪.‬‬

‫ال�ذي أتص�وره ‪ -‬والله أعل�م‪ -‬أن الرجل مازال يتعامل مع العالم الذي نش�أ فيه‬
‫وتم�رس بأس�اليبه‪ ،‬وحفظ قاموس�ه وحيل�ه‪ ،‬ولم ُيصدِّ ْق بع�د أن الدني�ا تتغير‪ ،‬وأنها‬
‫تتطلع إلى حياة جديدة‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لقد كان العالم القديم غابة مملوءة بالشعارات الجميلة والنيات الخبيثة واألفعال‬
‫اإلجرامي�ة‪ .‬وكان�ت ُع ْص َب ُ‬
‫�ة األمم بعد الح�رب العظمى األولى عصاب�ة من األقوياء‬
‫الس�تغالل الضعف�اء‪ ،‬وظل�ت هيئة األم�م بعد الح�رب العظمى الثاني�ة تتأرجح بين‬
‫الخير والش�ر‪ُ ،‬م َّد ِخ َر ًة «الفيت�و» لحماية القوة في المواق�ف الحرجة‪ ،‬ثم جاء الوفاق‬
‫بين الشرق والغرب َفآ َذن بمولد عالم جديد‪.‬‬

‫وش�اء حظ الرئيس العراقي أن يكون س�لوكه «التقليدي» أول اختبار لهذا العالم‬
‫في توجهاته الحديثة‪ .‬ونس�تطيع أن نقول‪ :‬إن العالم قد نجح حتى اآلن في االختبار‪،‬‬
‫وأنه لن يرضى بالهزيمة‪.‬‬

‫فعل�ى الرئي�س العراقي أن يدرك ذلك‪ ،‬وأن يذعن للمش�يئة العالمية‪ ،‬فينقذ وطنه‬
‫العراق�ي وأمته العربية‪ ،‬ويقدم أول مثل طيب ف�ي احترام القانون والتوافق مع العالم‬
‫الجديد‪.‬‬

‫‪1991/1/10‬‬

‫‪150‬‬
‫العرب‬

‫اعترافات نصف الليل‬

‫تحت راية األمل الخفاقة تمر ُس ُحب معتمة من القلق والهواجس‪ ،‬ولكن المستند‬
‫إل�ى صخرة المبادئ ال يجوز عليه الخوف‪ ،‬فهو يعرف طريقه‪ ،‬ويرضى عن مصيره‪،‬‬
‫وقد تمخض الموقف عن صورة مأساوية غريبة‪ ،‬صورة العالم ُيحاصر مخزنًا للبارود‬
‫يقوده رجل شرير‪ ،‬لم أستطع أن أقول إنه رجل مجنون‪ ،‬إ ْذ أنَّ المجنون ال يعي شي ًئا‪،‬‬
‫جحيما‬
‫ً‬ ‫وال يبالي بش�يء‪ ،‬على حين أن رجلنا م�ازال يعي بأنانيته‪ ،‬وقد أدرك أنه فجر‬
‫في أركان وطنه الطيب‪َ ،‬ف َهر َب من نيرانه أس�رته وابنا َء ُه‪ ،‬غير ٍ‬
‫مبال بشعبه الذي يعاني‬ ‫َّ‬
‫صباح مساء‪ ،‬والذي نشاركه آالمه وأحزانه‪.‬‬

‫ذلكم هو صدام حس�ين الذي يحارب‪ ،‬ال أملاً في انتصار‪ ،‬ولكن ً‬


‫طمعا في نش�ر‬
‫الدم�ار والخ�راب والفوضى‪ ،‬ك�ي تبلغ أقصى ما يمك�ن أن تبلغه م�ن البالد اآلمنة‪،‬‬
‫وتهل�ك أقص�ى ما يمك�ن أن تهلكه من األنفس البريئة‪ ،‬ما أش�به عمل�ه بعمل إبليس‬
‫ال�ذي يفع�ل ما يس�تطيع وفوق ما يس�تطيع من ش�ر‪ ،‬دونما أدنى أمل ف�ي الخالص‪.‬‬
‫فإذا لم يضطر إلى إصدار قرار االنس�حاب ليقي ش�عبه نيران الجحيم‪ ،‬فاألمل الباقي‬
‫س�ريعا لحصر خس�ائرنا‬
‫ً‬ ‫ه�و القضاء عليه في أقصر وقت ممكن‪ ،‬يجب القضاء عليه‬
‫وآالمنا في أضيق دائرة من سوء الحظ والتعاسة‪.‬‬

‫ولنذك�ر ف�ي مأس�اتنا أننا نكاب�د ما نكابد ج�زاء ضعفن�ا وتدهورن�ا وتفريطنا في‬
‫كرامتنا‪ ،‬دون حاجة إلى مكيدة أو سيناريو من األشباح العالمية‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نحن الذين نخلق األصنام ونعبدها ون َُم ِّك ُنها من العبث بمصائرنا‪.‬‬

‫إنَّ فينا من تفتنه القوة ولو حادت عن الحق والشرف‪.‬‬

‫خيرا لنفسه‪.‬‬
‫آنس منه ً‬
‫وفينا من يرحب بالغزو إنْ َ‬
‫وفينا من يفرح للسرقة إذا أمل أن ينال ً‬
‫حظا منها‪.‬‬

‫مس�تودعا للخراف�ات‪ ،‬واالنتهازي�ة‪ ،‬واألمراض‬


‫ً‬ ‫وفين�ا وفين�ا وفين�ا‪ ،‬مما جعلن�ا‬
‫العقلية‪.‬‬

‫فليك�ن لنا م�ن هذا الزل�زال صحوة‪ ،‬وفرص�ة نرى فيها أنفس�نا عل�ى حقيقتها‪..‬‬

‫ﯗ‬
‫﴿ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﴾(((‪.‬‬

‫‪1991/1/24‬‬

‫((( سورة الرعد‪ :‬اآلية (‪.)11‬‬


‫‪152‬‬
‫العرب‬

‫المصالح والمبادئ‬

‫يقول�ون‪ :‬إن السياس�ة مصالح وال عالقة له�ا بالمبادئ واألخالق‪ ،‬وقد س�اءت‬
‫سمعة المصالح من مصدرين‪:‬‬

‫األول‪ -‬التاري�خ‪ ،‬فه�و حافل بالمكائد والدس�ائس والمؤامرات والحروب التي‬


‫أهلكت الماليين من البشر‪َ ،‬‬
‫وأ َذ َّلت المئات من الدول في سبيل مصالح األقوياء‪.‬‬

‫الثاني‪ -‬الحياة اليومية التي تقسم فيها الناس بين رجال مبادئ‪ ،‬ورجال مصلحة‪،‬‬
‫ال يتورعون عن أي انحراف تحقيقًا لمصلحتهم‪.‬‬

‫َف َص َّح في األذهان سوء سمعة المصالح مع خطورة الدور الذي تلعبه فوق مسرح‬
‫صح في األذهان‪ ،‬وأن أتفحص معنى المصالح‬
‫السياس�ة‪ .‬أحاول اليوم أن أتناسى ما َّ‬
‫من جديد‪ ،‬فكيف ينبغي لنا أن نفهم المصالح؟‬

‫مصلح�ة أية أمة هي المقومات واألس�باب التي تقوم عليه�ا حياتها وحضارتها‪،‬‬
‫مث�ل الني�ل لمصر وبالد وادي النيل‪ ،‬والبترول لبالد الحض�ارة الحديثة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫خير ُم ْط َلق‪ ،‬وواجب كل دولة وكل مسئول فيها المحافظة عليها‪.‬‬
‫وهي بهذا المعنى ٌ‬
‫ولكن كيف تتحقق المصالح؟‬

‫تبعا للظروف واألحوال‪.‬‬


‫هنا تتعدد الطرق والوسائل ً‬

‫‪153‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫فقد تهيمن على العالم روح القوة والمنافس�ة فتحقق المصالح بأية وس�يلة دون‬
‫نظر إلى المبادئ أو األخالق‪ ،‬فتكون الدسائس والمؤامرات والحروب واالستعمار‬
‫بكافة أقنعته‪.‬‬

‫دروسا‪ ،‬فيميل إلى التعاون والشرعية‪ ،‬ونبذ‬


‫ً‬ ‫وقد يتعلم العالم من تاريخه القاسي‬
‫المؤامرات والحروب‪ ،‬كما نش�هد اليوم ِم ْن ت ََو ُّج ِه أوروبا نحو الوحدة‪ ،‬والوفاق بين‬
‫الش�رق والغرب‪ .‬وإذن فأس�تطيع أن أقول ‪-‬وأرجو ألاَّ يخيب رجائي‪ :‬إن المصالح‬
‫خير ُم ْط َلق‪ .‬وإن السياس�ة الرش�يدة وثيق�ة الصلة بالمبادئ واألخلاق‪ ،‬وال غنى لها‬ ‫ٌ‬
‫عنهما‪.‬‬

‫ولعلن�ا ال نختل�ف مع صدام حس�ين ومؤيديه في المصال�ح‪ ،‬ولكننا نختلف في‬


‫الطري�ق‪ ،‬فهم ُي َك ِّر ُم َ‬
‫ون الغزو والنهب والس�رقة‪ ،‬ونحن نتمس�ك بالقان�ون والتعاون‬
‫والشرعية والسالم‪.‬‬

‫‪1991/1/31‬‬

‫‪154‬‬
‫العرب‬

‫اعرف نفسك‬

‫َم ْن ِم َن العرب يرفض الرئيس صدام حسين؟ و َم ْن يؤيده أو يتعاطف معه؟‬


‫في محاولة اإلجابة عن هذا السؤال اختبار ألنفسنا وخباياها‪ ،‬ودراسة لمجتمعنا‬
‫وقديما دع�ا الحكيم كل إنس�ان بقوله المأث�ور‪« :‬اعرف‬
‫ً‬ ‫وم�ا يم�وج به من تي�ارات‪،‬‬
‫نفسك»(((‪.‬‬
‫لق�د رفضه بش�دة جمي�ع الذين يتمس�كون بالمب�ادئ والعهود ويؤمن�ون باألمن‬
‫العرب�ي‪ ،‬ويتطلع�ون إل�ى غ�د يجتم�ع فيه الع�رب في وح�دة تقوم عل�ى اإلخالص‬
‫والتعاون والرغبة المشتركة في التقدم وفي ظل سالم وتوافق مع الشرعية الدولية‪.‬‬
‫وأي�ده من تبهرهم الق�وة دون اهتم�ام بمبادئها‪ ،‬ويؤثرون المنفع�ة من أي طريق‬
‫عالما جديدً ا يتشكل‪ ،‬فمازال‬
‫ً‬ ‫جاءت‪ ،‬وال يبالون بالمبادئ والعهود‪ ،‬وال يصدقون أنَّ‬
‫المرة وسلوكياته الغادرة‪.‬‬
‫الماضي السيئ يشدهم إليه بذكرياته ُ‬
‫وقد نش�أ الفريقان نش�أة طبيعية تتناغم مع رؤيتهم للحياة وم�دى توافقهم معها‪،‬‬
‫ولعله من ُحس�ن الحظ أن الفريق الرافض هو الغالب إذا اعتمدنا في تقديرنا على ما‬
‫يجري في مصر‪ ،‬وما يموج به الشارع المصري‪ ،‬وتشير إليه اإلحصائيات‪.‬‬
‫ولكن ليس جميع مؤيدي صدام من تلك النوعية التي ال تخلو من منطق خاص‪،‬‬
‫وإن يك�ن منحر ًف�ا‪ ،‬فقد انضم إليه�م فريق أدمن العداوة للغ�رب‪ ،‬وتما َدى فيها حتى‬

‫(المحرر)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫((( كلمة الفيلسوف اليوناني سقراط (‪ 469‬ق‪ .‬م ‪ 399 -‬ق‪ .‬م)‬
‫‪155‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫قديما‪،‬‬‫صارت من مقومات حياته وأس�س توجهاته‪ ،‬ربما ألسباب كان لها ما يبررها ً‬
‫َ‬
‫ولكنه�م عكفوا عليها‪َ ،‬ف َتغَ َّي َر العالم وأ َب ْ‬
‫�وا أن يتغيروا‪ ،‬أيد هذا الفريق َص َّدا ًما‪ ،‬ال ُح ًّبا‬
‫ف�ي ص�دام‪ ،‬وال إيمانً�ا بم�ا َف َعل‪ ،‬ولك�ن كراهية في الغ�رب‪ ،‬حتى إذا اتف�ق معنا في‬
‫المصالح والمبادئ‪.‬‬

‫وهناك فريق آخر من المؤيدين‪ ،‬هم خصوم الحكومة‪ ،‬ألس�باب داخلية سياس�ية‬
‫�ن ترفضه الحكومة َو َرف ِ‬
‫ْ�ض َم ْن تؤيده‬ ‫أو اجتماعي�ة‪ ،‬فجرفت�م الخصومة إلى تأييد َم ْ‬
‫مج�اراة لعواطفهم‪ ،‬ودون محاولة التخاذ موقف قوم�ي يتفق مع العقل والمصلحة‬
‫القومية كما فعل خصوم آخرون‪.‬‬

‫هذه صورة تعكس لدرجة ما واقعنا‪ ،‬والحق أنه ليس كل واقعنا‪ ،‬فثمة فئات قليلة‬
‫ال َوزْ َن لها‪ ،‬منها َم ْن ُي َصدِّ ُر َم ْن تلعب به األحداث‪ ،‬فيكون في الصباح على رأي وفي‬
‫المساء على رأي‪ ،‬لكنني ركزت على التيارات الثابتة‪ ،‬والصورة في عمومها ال تخلو‬
‫م�ن ُقب�ح‪ ،‬ولكنها أبعد ما تكون ع�ن اليأس‪ ،‬وأختم بما بدأت به م�ن القول المأثور‪:‬‬
‫«اعرف نفسك» لعلنا نُحسن التعامل معها ومع اآلخرين‪.‬‬

‫‪1991/2/7‬‬

‫‪156‬‬
‫العرب‬

‫بطل الترسو‬

‫من المالحظات المثيرة التي ال تخفى على عش�اق السينما تحيز جمهور الترسو‬
‫�ر َأة وقوة الحيلة والمهارة في الكر والفر‪ ،‬مما‬
‫الج ْ‬
‫وإعجابه بالش�رير‪ ،‬إذا توافرت فيه ُ‬
‫وكثيرا ما‬
‫ً‬ ‫يهي�ئ ل�ه انتصارات وقتي�ة على رجال الش�رطة قبل أن يق�ع في قبضته�م‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫انتحلنا األعذار لذلك الجمهور لحداثة سنه‪ ،‬وسوء تربيته‪ ،‬واستعداده الذي ال حيلة‬
‫له فيه لالنحراف‪ ،‬وكراهيته للقانون وأهله‪.‬‬

‫وقد «عش�نا وش�فنا العجب» كما تقول األغنية القديمة‪ ،‬عش�نا لنس�مع عن تحيز‬
‫جمه�ور عربي لش�رير عربي حقيقي ال م�ن خيال األفالم‪ ،‬يتح�دى العالم بانحرافه‪،‬‬
‫حتى مرغ ُس ْم َع َة العرب في التراب‪ .‬وتخطت ظاهرة اإلعجاب هذه المرة ْ‬
‫األحدَ اث‬
‫إلى رجال ُيعدون من صفوة المجتمع وأبنائه الراش�دين‪ ،‬هم الذين يش�جعون اليوم‬
‫َص َّدا ًما‪ ،‬ويدافعون عن انحرافاته غير مبالين بضحاياه من الدول والبشر والمبادئ‪.‬‬

‫ال أنك�ر أن صمود العراق تحت المطر المنهمر عليه من القنابل يس�تحق التقدير‬
‫ويثي�ر األحزان‪ ،‬وال أنكر أنني أتجرع الحس�رة كل يوم م�رات أن هذه القوة لم ت َُّد َخ ْر‬
‫األ َّم�ة العربي�ة وحل مش�كالتها وتحقيق السلام القائ�م على الع�دل‪ ،‬ولكن‬ ‫لدع�م ُ‬
‫وطن إسلامي‪،‬‬ ‫«ص�دام حس�ين» أهدرها برعونة وجن�ون‪ ،‬مرة في االنقضاض على ٍ‬
‫الم َر ِض ّي ش�ق العرب‬ ‫واخ�رى ف�ي ابتالع وطن عربي‪ ،‬وأنه بس�وء تقدي�ره واندفاعه َ‬
‫نصفي�ن‪ ،‬وزلزل أمته�م‪ ،‬ودعا العالم كله إل�ى إدانته وتأديبه‪ ،‬وك�رس ذاته عاملاً من‬
‫عوامل الدمار كالزالزل والبراكين‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إن ص�ورة قبيح�ة تعم�ل خارج نط�اق العالم الحدي�ث وآماله وتطلعات�ه الطيبة‪،‬‬
‫إن�ه يصر على رفض الحلول الس�لمية‪ ،‬ويه�دد بالرهائن‪ ،‬وينكل باألس�رى‪ ،‬ويطلق‬
‫صواريخ�ه عل�ى المدنيين‪ ،‬ويتباهى بأس�لحة الدمار الش�امل‪،‬ويلوث البيئة‪ ،‬وينش�ر‬
‫الدمار في منطقته القومية دون مباالة بأية مسئولية أو قيمة بشرية‪.‬‬

‫رمزا للعرب‬
‫وبفضل إعجاب جمهور «الترسو» الحديث صارت الصورة القبيحة ً‬
‫والمس�لمين‪ ،‬وغير ٍ‬
‫خاف ما يالقونه في بالد الحضارة من س�وء المعاملة واالزدراء‪.‬‬
‫التزال الجهود تُبذل إلنقاذ المجرم‪ ،‬وتبرير الجريمة على حساب األبرياء المظلومين‬
‫والقي�م الش�ريفة‪ ،‬عل�ى حين أنه لم يبق لنا من عزاء وس�ط األحزان والمآس�ي إلاَّ أن‬
‫تنتهي الكارثة بِ ُن ْص َر ِة الحق والعدل والقيم البشرية الشريفة‪.‬‬

‫‪1991/2/14‬‬

‫‪158‬‬
‫العرب‬

‫باب األمل‬

‫جة المنتصر الذي ُيملي شروطه‪ ،‬لذلك رفضه الجانب‬‫في بيان العراق األخير َل َْه ُ‬
‫ولكن ثمة ظاهرتين تدعوان لألمل‪ُ :‬أوالهما‪ -‬تس�ليم‬
‫ّ‬ ‫المحارب واس�تمر في حربه‪،‬‬
‫الرئيس العراقي ألول مرة بمبدأ االنس�حاب من الكويت‪ .‬وثانيتهما‪ -‬فرحة الش�عب‬
‫العراقي بما ظنه نهاية عذابه وبدء استئنافه لحياته اإلنسانية الطبيعية‪.‬‬

‫بالنس�بة للرئيس العراقي الذي َس� َّل َم بمبدأ االنس�حاب من الكويت ال يجرؤ أن‬
‫يتجاهل فرحة ش�عبه بإنهاء عذاب الحرب‪ .‬لقد جاء إعالن الفرحة كاس�تفتاء تلقائي‬
‫تراجعا عن‬
‫ً‬ ‫تغيي�را في الخط�اب أو‬
‫ً‬ ‫يج�ب احترام�ه‪ ،‬والرك�ون إلي�ه إذا اقتضى األمر‬
‫زعيما أو يقلل من ش�أنه أن يصغى إلى صوت ش�عبه وينفذ رغبات‬ ‫العناد‪ ،‬ولن يضير ً‬
‫ضميره‪ ،‬بل العار ‪-‬كل العار‪ -‬أن تأخذه ِ‬
‫الع َّز ُة باإلثم أمام شعبه‪.‬‬

‫أما الش�روط التي وصفها الس�يد رئيس جمهورية مصر بأنه�ا تعجيزية فيجب أن‬
‫تك�ون اآلن موض�وع مفاوضة بي�ن المتعاطفين مع الع�راق والمس�ئولين العراقيين‪،‬‬
‫ويجب أن يتم ذلك دون إبطاء‪.‬‬

‫واضحا فيجب حذفه‪.‬‬


‫ً‬ ‫تعجيزا‬
‫ً‬ ‫من هذه الشروط ما ُي َع ُّد‬

‫�د من مطالب األم�ة العربية التي ال تك�ف عن التفكي�ر فيها وإعداد‬


‫ومنه�ا م�ا ُي َع ُّ‬
‫�دة لها‪ ،‬مثل القضية الفلس�طينية‪ ،‬والجوالن‪ ،‬وجنوب لبن�ان‪ ،‬وخالفات الحدود‬
‫الع َّ‬
‫ُ‬
‫بين البالد العربية‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫على المتعاطفين أن ُيقنعوا الرئيس العراقي باالنسحاب دون قيد أو شرط ً‬


‫تنفيذا‬
‫لقرارات مجلس األمن‪ ،‬ورغبة الشعب العراقي‪.‬‬

‫وعليهم‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬أن ُيطالبوا مجلس األمن واألمم المعنية بإعالن تعهدها‬
‫بحل المشكالت الباقية بعد إتمام االنسحاب‪ ،‬وعودة الشرعية إلى المنطقة‪.‬‬

‫يجب ألاَّ تضيع دقيقة دون عمل‪ ،‬فكل دقيقة تمر تهلك فيها أرواح وعمران‪.‬‬

‫‪1991/2/18‬‬

‫‪160‬‬
‫العرب‬

‫حائط المبكى العربي‬

‫علين�ا أن نس�لم بأن لكل خطأ ثمنه‪ .‬الحياة البش�رية جهاد مس�تمر يطالبنا في كل‬
‫قاس ال يع�رف الرحمة‪ ،‬وال‬ ‫جهاد ٍ‬
‫ٌ‬ ‫لحظ�ة بب�ذل ما نملك من ق�درات ِ‬
‫وح ْكمة‪ ،‬وهو‬
‫ب أو ٍ‬ ‫يتس�امح م�ع ضع�ف‪ ،‬وال ُيغْ ِضي عن هف�وة‪ ،‬ال‬
‫اله‬ ‫همل أو ُم َت َس ِّ�ي ٍ ْ‬ ‫لم ٍ‬ ‫َ‬
‫مكان في�ه ُ‬
‫المخطئ أن يدفع ثمن خطئه‪ ،‬وعلى جميع م�ن َها َدن َُه أو ُخ ِد َع به أو‬ ‫ٍ‬
‫أو عاب�ث‪ .‬عل�ى ُ‬
‫سكت عنه أن ُيقاسمه العقوبة ويشاركه المصير‪.‬‬

‫قد يس�تبد طاغية بالس�لطة‪ ،‬ويجر بطغيانه الويالت على أمته‪ ،‬ونتساءل في رثاء‪:‬‬
‫وما ذنب أمته؟ ألم يكبلها باألغالل؟ ألم ُيس�قط عليها الحديد والنار؟ وال ُأ َه ِّونُ ِم ْن‬
‫ش�أن األغلال‪ ،‬وال أس�تهين بالحديد والنار‪ ،‬ولك�ن الحياة في تقدمه�ا ال تقيم وزنًا‬
‫لتلك األعذار‪ ،‬وتدمغ الش�عوب التعيسة بالذنب‪ ،‬وتحملها المسئولية وال تعفيها من‬
‫العق�اب‪ .‬ال يمكن القضاء على طاغية دون المس�اس بش�عبه‪ ،‬وال مكان في قاموس‬
‫الجه�اد إليثار السلامة والصبر والتواكل‪ .‬لقد تعاقبت علين�ا الدروس‪ ،‬وفي أعقاب‬
‫كل درس نعاهد أنفس�نا على اس�تيعاب الدرس وتغيير الواقع الس�يئ‪ ،‬ثم سرعان ما‬
‫ننسى‪ ،‬وتتكرر الجريمة‪ ،‬ويتكرر االستسالم‪ ،‬ويقع الخطأ‪ ،‬ويجيء العقاب‪ ،‬ويجرفنا‬
‫فيما يجرف‪ ،‬ويتصاعد األنين‪ ،‬ونبدو كأننا حمالن بريئة‪ ،‬وما نحن إلاَّ مذنبون‪.‬‬

‫بسبب ذلك الكسل الحضاري تتفجر أزماتنا كالبراكين‪ ،‬وتتطاير منها الكوارث‪،‬‬
‫ث�م نكون أحس�ن ما نك�ون‪ ،‬ونفكر في البناء والتعمير‪ ،‬ونكتس�ب ُس�معة طيبة‪ ،‬وإذا‬
‫بهيميا‪ ،‬فإذا بنا‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫س�لوكا‬ ‫إثما خبيثًا‪ ،‬أو يس�لك‬
‫بطاغي�ة يطل�ق كلمة هوجاء‪ ،‬أو يرتكب ً‬
‫‪161‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نتخبط في الش�قاق والعداوة‪ ،‬وإذا بالعال�م يتكتل ضدنا كعصابة من الخارجين على‬
‫القانون‪ ،‬وتنهار ُسمعتنا وتتردى‪ ،‬ونصبح عنوانًا للهمجية والفساد‪.‬‬

‫الظ ُلم�ات‪ ،‬ويس�لطون أنوار‬


‫ويتص�دى فالس�فة السياس�ة وق�راء الغي�ب لهت�ك ُّ‬
‫بصائرهم على المكائد والسيناريوهات واإلمبريالية العالمية‪ ،‬وقد يصح الخيال أو ال‬
‫يصح‪ .‬ولكن لماذا نهرب من وضع أنفس�نا على المشرحة؟ لماذا ال نحدد مسئوليتنا‬
‫وج َب الكالم‪ ،‬وتراجعنا حين وجب الفعل‪،‬‬
‫ونحن المؤثر المباشر؟ لقد سكتنا حين َ‬
‫والد َّجالين وأش�باه الرج�ال‪ ،‬وتخلينا عن مس�ئوليتنا وتراثنا‬
‫تركن�ا أعناقن�ا لألفَّاكين ّ‬
‫الحقيقي من العزة والجهاد‪.‬‬

‫وتق�ع الواقع�ة‪ ،‬فنلتف ح�ول حائ�ط المبكى العرب�ي‪ ،‬لِ َن ْس� َف َح الدم�وع‪ ،‬ونلعن‬
‫اإلمبريالية العالمية‪.‬‬

‫‪1991/2/21‬‬

‫‪162‬‬
‫العرب‬

‫المأساة بين الواقع والخيال‬

‫عربيا غزا الكويت ونهبها ثم ضمها إلى وطنه‪.‬‬


‫زعيما ًّ‬
‫ً‬ ‫الوقائع التي تزلزلنا هي أن‬
‫�ه تم�زق العرب ما بي�ن مؤيد للش�رعية والمبادئ والمصلح�ة العربية‬‫لص ْن ِع ِ‬
‫ونتيج�ة ُ‬
‫القائم�ة عل�ى الحري�ة و العدل‪ ،‬ومنح�از للقوى بأي ثم�ن‪ .‬ووجد العال�م في الغزو‬
‫م�ا يتحدى مصالح�ه ومبادئه الجديدة‪ ،‬فأصدر قراراته المعروفة‪ ،‬و ُب ِذ َلت المس�اعي‬
‫س�لميا‪ ،‬ولكن المس�اعى تطايرت‬ ‫ًّ‬ ‫العديدة من الش�رق والغرب لحل المش�كلة َحلاًّ‬
‫على صخرة عناد الزعيم‪ ،‬فكانت الحرب‪ ،‬وناور الزعيم بكل وس�يلة غير مش�روعة‪،‬‬
‫فس�اوم بالرهائن‪ ،‬ون ََّك َل باألس�رى‪ ،‬وأطلق صواريخه عل�ى المدنيين‪ ،‬ولوث البيئة‪،‬‬
‫َ‬
‫وم�ازال يهدد بالمزيد من المنكرات حتى مرغ ُس�معة العرب ف�ي التراب‪ ،‬وجعلهم‬
‫رمزا للهمجية والشر‪.‬‬
‫ً‬
‫هذا هو الواقع‪ ،‬أما تفسيره فقد اختلفت فيه اآلراء‪:‬‬

‫البعض وجد في تسلسل األحداث‪ ،‬وطبيعة الزعيم‪ ،‬والخلفية التاريخية التفسير‬


‫الكاف�ي‪ ،‬فالح�دث في النهاية ثم�رة رجل دموي طاغية‪ ،‬له س�ابقة ف�ي االندفاع إلى‬
‫الحرب‪ ،‬وعليه شهادة دامغة بقصر النظر‪ ،‬وسوء تقدير العواقب‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتخطى األح�داث والمش�اهدات إلى ما وراءه�ا‪ ،‬فيزعم‬ ‫ولك�ن البع�ض اآلخر‬
‫أن التراجيدي�ا الت�ي نكابده�ا نتيجة مكيدة ِح َ‬
‫يك ْت للس�يطرة على الع�رب وثرواتهم‬
‫ومستقبلهم‪ ،‬وأن الزعيم العربي يلعب دوره في التراجيديا بوعي أو بغير وعي‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫االختلاف كما ترى في التفس�ير فق�ط‪ ،‬وفي الحكم ً‬


‫أيضا على «صدام حس�ين»‬
‫فنح�ن نقول‪ :‬إنه عربي طاغية‪ ،‬س�يئ التقدير والس�لوك‪ .‬أما هم فيقول�ون‪ :‬إنه عميل‬
‫أو مغفل‪.‬‬
‫الغريب في األمر أننا في حدود تصورنا نطالب بعودة الش�رعية‪ ،‬باالنسحاب من‬
‫أص َّر على الرفض‪.‬‬
‫بأسا من تأديب الطاغية إذا َ‬
‫الكويت‪ ،‬وال نرى ً‬
‫َّأما اآلخرون فينادون بإيقاف الحرب بال شروط‪ ،‬مما يعني التستر على الجريمة‪،‬‬
‫وإنقاذ الرجل الذي كشف خيالهم المبدع عن كونه عميلاً أو مغفال‪.‬‬
‫كان األج�در به�م أن يتفحص�وا واقعه�م‪ ،‬وأن يتس�اءلوا َع َّم�ا يجنب�ه الوقوع في‬
‫وع َّما يؤهله للتصدِّ ي لعالم يموج بالمكائد والدس�ائس‪ ،‬عن نظام الحكم‬
‫المكائ�د‪َ ،‬‬
‫ونوعية الرجال التي تقود الس�فينة دون انزالق إلى الغفلة أو الخيانة‪ ،‬ولكنهم ال َه َّم‬
‫لهم إلاَّ إنقاذ المجرم والتغطية على الجريمة‪.‬‬
‫أيها السادة‪:‬‬
‫نحن برغم اآلالم واألحزان متفائلون بالعواقب‪ ،‬نأمل في عودة الش�رعية‪ ،‬وحل‬
‫مشكالت المنطقة في ظل مبادئ دولية جديدة وطيبة‪.‬‬
‫تك�رارا للماضي بمآس�يه‬
‫ً‬ ‫وأنت�م متش�ائمون‪ ،‬ال ت�رون فيما يجري وم�ا ُيقال إلاَّ‬
‫القهرية االس�تعمارية‪ ،‬وال أزعم أننا في تفاؤلنا على يقين مائة في المائة‪ ،‬فال تكونوا‬
‫ِ‬
‫تشاؤم ُكم على يقين مائة في المائة‪.‬‬ ‫في‬
‫خيرا فخير‪،‬‬
‫ش�هرا أو بضعة أشهر وسوف َت ْن َجلي الحقيقة ناصعة‪ ،‬إنْ تكن ً‬ ‫ً‬ ‫لننتظر‬
‫ش�را فقد تعلمنا من ماضينا َأنْ نتعامل مع الخير بما يناس�به‪ ،‬ومع الش�ر بما‬
‫وإن تكن ًّ‬
‫يناسبه‪.‬‬

‫‪1991/2/28‬‬

‫‪164‬‬
‫العرب‬

‫المأساة‬

‫في هذه الفترة من التاريخ تعبر الجو العربي ثالث موجات من اإلحباط‪:‬‬

‫األول�ى‪ -‬موجة فق� ٍر ومعاناة في بع�ض أو طانه وطبقاته‪ ،‬جعل�ت الحياة عب ًئا ال‬
‫قناعا أسود‪ ،‬داعية الناس للرفض والتمرد‪.‬‬
‫ُيحتمل‪ ،‬وألقت على وجه المستقبل ً‬
‫الثانية‪ -‬هي قضية فلسطين‪ ،‬وتمادي إسرائيل في التشدد واستعمال العنف‪ ،‬كما‬
‫نش�اهد كل يوم ف�ي األرض المحتلة وجن�وب لبنان‪ ،‬وقد تركت تلك الممارس�ات‬
‫جرح�ا عميقً�ا في كبري�اء كل عربي‪ ،‬وأغرت�ه بالتلهف على القوة ب�أي ثمن ومن أي‬
‫ً‬
‫سبيل‪.‬‬

‫‪-‬تبعا‬
‫الثالثة‪ -‬موجة دينية متطرفة أوقفت الزمن عند نقطة ال يتجاوزها‪ ،‬واعتقدت ً‬
‫لذل�ك‪ -‬أن الحروب الصليبية التزال قائمة‪ ،‬وأن اإلسلام مازال َ‬
‫هدف المتربصين‪،‬‬
‫وأنهم مازالوا يكيدون له بالسالح والرأي والثقافة‪.‬‬

‫م�ن أجل ذلك وجد رجل مثل «صدام حس�ين» قطاعات عربي�ة غير قليلة تُبايعه‬
‫على الزعامة‪ ،‬وتعلن استعدادها الفتدائه بالروح والدم‪.‬‬

‫و َم ْن هو صدام حسين؟‬

‫إنه رجل ال يخلو من قوة ذاتية‪ ،‬ولمس�ات من س�حر الزعامة‪ ،‬ولكنه جاهل على‬
‫المس�تويين‪ :‬المدني والعس�كري‪ ،‬طموح‪ ،‬أناني‪ ،‬دموي كف�رد‪ ،‬طاغية‪ ،‬ال يطيق رأ ًيا‬
‫بخ ًطى‬ ‫ش�خصا ذا اس�تقالل وقوة‪ ،‬وقد تولى ش�ئون العراق وه�ي تتقدم ُ‬
‫ً‬ ‫ُمخال ًفا‪ ،‬أو‬
‫‪165‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ثابت�ة‪ ،،‬فزاده�ا تقد ًما‪ ،‬حت�ى تنبأ له كثيرون بمس�تقبل عظي�م‪ ،‬وإذا بالطاغية يدفع بها‬
‫مس�تهترا بكل المبادئ اإلسلامية‪ ،‬ويحيلها إلى أم�ة َم ِدينة مثخنة‬
‫ً‬ ‫إل�ى حرب إيران‪،‬‬
‫بالج�راح‪ ،‬ث�م يدفعه�ا مرة أخ�رى إلى الته�ام الكوي�ت‪ ،‬مس�تهي ًنا بالمب�ادئ العربية‬
‫والشرعية الدولية‪.‬‬

‫جميعا‪ ،‬وفي أثنائه�ا وضحت للعين بقايا‬


‫ً‬ ‫وتتابعت فصول المأس�اة كم�ا نذكرها‬
‫الخاف�ي من ش�خصيته‪ ،‬وضح أن�ه «جعجاع» قليل األدب‪ ،‬س�يئ الرأي والس�لوك‪،‬‬
‫ل�ص‪ ،‬غادر‪ ،‬يعبث بالرهائن واألس�رى‪ ،‬يعتدي على المدنيي�ن‪ ،‬يلوث البيئة‪ ،‬يحرق‬
‫�ر َمث ٍَل‪ ..‬كيف ُو ِجدَ‬ ‫آب�ار البت�رول‪ ..‬إنه بإيجاز‪ :‬أقبح وجه عربي‪ ،‬وأس�وأ عنوان‪َ ،‬‬
‫وش ُّ‬
‫هذا الكائن المرذول؟ َم ْن ُيشايعه؟ أو يتبعه‪ ،‬أو يتعاطف معه؟‬

‫تفس�يرا‪ ،‬ولكنه لي�س بالعذر‪،‬‬


‫ً‬ ‫ارج�ع إلى موج�ات اإلحباط الثلاث لعلك تجد‬
‫وبحسبه أن يجعلنا نتأمل مأساتنا األخالقية ونتلمس جذورها‪.‬‬

‫علين�ا أن نقه�ر الفقر‪ ،‬وأن نحل القضية‪ ،‬وأن نعال�ج التطرف‪ .‬وهو طريق طويل‪،‬‬
‫ولكنه يبدأ بالديمقراطية الكاملة‪.‬‬

‫‪1991/3/4‬‬

‫‪166‬‬
‫العرب‬

‫معركة السالم‬

‫لق�د انتصرت القوات المتحالف�ة في معركة الخليج‪ ،‬وعليه�ا اآلن أن تنتصر في‬
‫معركة السالم‪ .‬لقد انتصرت تحت مظلة قرارات عالمية‪ ،‬أدانت العدوان‪ ،‬وتمسكت‬
‫بالشرعية والقوانين الدولية‪ ،‬فالمنتظر والمأمول أن تقيم دعائم السالم على المبادئ‬
‫نفسها‪ ،‬فتؤكد صدقها وعدالتها‪ ،‬وتجهض رأي خصومها الذين دعوا إلى الحذر من‬
‫ش�عاراتها‪ ،‬واعتبروها غطا ًء لنوايا شريرة تس�تهدف السيطرة على المنطقة وثرواتها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وإذالل له‪،‬‬ ‫وكم من معاهدات ُصلح هيأت للمنتصر ما يش�تهي من انتقا ٍم من عدوه‪،‬‬
‫وقضاء على قوته وكرامته‪ ،‬فحققت سال ًما مؤق ًتا‪ ،‬ومهدت لحرب تالية راح ضحيتها‬
‫الماليين من البشر‪ ،‬والمليارات من األموال‪.‬‬

‫إن ح�رب الخليج هي أول تجربة يصادفها العالم وهو يعمل على تغيير سياس�ته‬
‫إلى سياس�ة جدي�دة‪ ،‬تقوم على التعاون والعدل والنظرة اإلنس�انية الش�املة‪ ،‬فنجاح‬
‫العال�م ف�ي عالجه�ا ه�و بمثابة وضع حجر األس�اس ف�ي بن�اء عالم جديد لبش�رية‬
‫جدي�دة‪ .‬وطالم�ا دار الحدي�ث ح�ول نظام أمن�ي جدي�د للمنطقة يحقق االس�تقرار‬
‫والنم�و‪ ،‬ويضمن لألمم مصالحها فيها‪ ،‬وال يواجهه�ا باألزمات على فترات دورية‪.‬‬
‫وه�ذا النظ�ام األمني ال يقتصر عل�ى تنظيم القوات العس�كرية‪ ،‬ولكن�ه يقتضي قبل‬
‫ذلك ‪-‬أو مع ذلك‪ -‬حل المشكالت التي تتسبب في خلق األزمات واالضطرابات‪،‬‬
‫وتصدير الضرر إلى جميع أنحاء العالم‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫علينا أن نتصدى لحل القضية الفلس�طينية بما يحقق السلام الشامل القائم على‬
‫الع�دل‪ ،‬كذل�ك الجوالن‪ ،‬وجن�وب لبنان‪ ،‬وعلين�ا أن نحل مش�كالت الحدود حلاّ‬
‫ونهائيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫حاسما‬
‫ً‬
‫علين�ا أن نف�رغ من جميع أوزار الماضي ليتس�نى لنا بدء حي�اة جديدة تتناول كل‬
‫م�ا ينقصنا ف�ي أنظمة الحكم والتكامل االقتصادي‪ ،‬والتوج�ه الحضاري نحو العالم‬
‫والحضارة‪ ،‬في ظل السالم واإليمان واألخوة البشرية‪.‬‬

‫‪1991/3/7‬‬

‫‪168‬‬
‫العرب‬

‫العودة إلى البيت‬

‫َغدَ اة إيقاف القتال َو َّجه السيد رئيس الجمهورية ندا ًء ً‬


‫عربيا‪ ،‬من أبرز نقاطه‪:‬‬

‫‪ -1‬استعادة الثقة بين األوطان العربية‪.‬‬

‫‪ -2‬تسوية النزاع العربي اإلسرائيلي‪.‬‬

‫‪ -3‬إخالء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل‪.‬‬

‫‪ -4‬تسوية الخالفات بين البالد العربية‪.‬‬

‫‪ -5‬التركيز على األمن والتنمية‪.‬‬

‫‪ -6‬تعزيز مسيرة الديمقراطية‪.‬‬

‫وبالنس�بة لمصر يجب أن تعود إلى جدولة أهدافه�ا‪ ،‬وتوجيه الهمة إلى تحقيقها‬
‫بِ َّن ٍ‬
‫ية صادقة‪ ،‬وعزيمة صلبة‪ ،‬ومثابرة ال تتوقف‪.‬‬

‫في مقدمة هذه األهداف ‪ -‬ونحن ن ُْج ِم ُل وال ُن َف ِّصل‪:‬‬

‫‪ -1‬تعزي�ز مس�يرة الديمقراطي�ة بإع�ادة النظ�ر ف�ي الدس�تور‪ ،‬وإلغ�اء القواني�ن‬


‫االستثنائية‪ ،‬والتركيز على احترام حقوق اإلنسان‪ ،‬والوحدة الوطنية‪.‬‬

‫‪ -2‬التركيز على المشكلة االقتصادية‪ ،‬وتهيئة األرض للعمل واالستثمار‪ ،‬وإزالة‬


‫العواق�ب البيروقراطي�ة والقانونية كافة‪ ،‬والتصدِّ ي للمش�كالت بالحزم والش�جاعة‬
‫المطلوبين‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -3‬االس�تمرار في ث�ورة التعليم به�دف َر ْب ِطه بالتنمية والمجتم�ع‪ ،‬وإقامته على‬


‫أس�س ديمقراطية تش�جع التفكير واإلبداع‪ ،‬والعناية الفائقة المستنيرة بالتربية الدينية‬
‫والقومية الثقافية‪.‬‬

‫‪ -4‬االهتمام الواجب بالعلم والبحث العلمي‪ ،‬وتمكين العلماء من أداء واجبهم‬


‫في التخطيط واإلرشاد في كل ما يتعلق بشئون المجتمع‪ ،‬ويتضمن ذلك شئون البيئة‬
‫وتنظيم األسرة‪.‬‬

‫‪ -5‬س�يادة القانون س�يادة جامعة مانعة‪ ،‬وتنظيم القواني�ن وغربلتها‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك استقالل القضاء وتحقيق مطالب القضاة‪.‬‬

‫‪ -6‬ش�ن الحرب على الفس�اد والمخ�درات والتطرف بش�تى الوس�ائل العلمية‬


‫والوعظية واألمنية‪.‬‬

‫نري�د أن نتاب�ع أنباء التقدم كما كن�ا نتابع أنباء الحرب‪ ،‬فلا يمضي يوم دون قرار‬
‫َب َّن ٍ‬
‫اء أو َع َم ٍل صالح‪.‬‬

‫‪1991/3/14‬‬

‫‪170‬‬
‫العرب‬

‫غ ًدا يوم جديد‬

‫المس�يرة الداخلي�ة يجب أن تنطل�ق دون انتظار أو إبطاء‪ .‬علين�ا أن نضع قرارات‬
‫وزراء خارجي�ة ال�دول الثماني موضع التنفيذ في كل ما يتعل�ق بالتعاون االقتصادي‬
‫واالجتماع�ي والثقافي‪ ،‬ليمضي ترتيب البيت بكل قوة وإخالص‪ ،‬برغم أن الش�ئون‬
‫الخارجية تطرح نفسها في نطاق اهتمام عالمي غير قابل للتأجيل كذلك‪.‬‬

‫ف�ي مقدم�ة ه�ذه الش�ئون الخارجية النظ�ام األمن�ي للمنطق�ة‪ ،‬وهو نظ�ام ‪-‬في‬
‫تصوري‪ -‬ذو ش�قين‪ :‬أحدهما سياس�ي‪ ،‬يتعلق بالمشكالت شبه المزمنة التي تنفجر‬
‫كل عشر سنين في صور أزمات حادة‪ ،‬وقالقل وحروب‪ .‬وثانيهما عسكري‪ ،‬يتضمن‬
‫وسائل الدفاع ونوعيته وكثافته‪.‬‬

‫ولوال أن الش�ق السياس�ي يقتضي زم ًنا يناس�به القترحت أن نف�رغ منه أولاً ‪ ،‬ألن‬
‫التفكير في إقامة نظام دفاع لمنطقة مستقرة خالية من المشكالت ُيخالف التفكير في‬
‫إقامة نظام للدفاع من منطقة مرهقة بالخالفات و الذكريات األليمة‪ .‬فال بأس إذن من‬
‫معا وفي وقت واحد‪.‬‬
‫أن نعالج األمرين ً‬
‫علين�ا أن نب�دأ بالمش�كلة العربية اإلس�رائيلية‪ ،‬وهي تتضمن إخلاء المنطقة من‬
‫أس�لحة الدمار الش�امل‪ ،‬وأرجو أن نهتم بالموضوع أكثر من الشكل‪ ،‬وأن نركز على‬
‫المفاوضة بين المتنازعين التي تُسفر عن السالم العادل الشامل‪.‬‬

‫وعلين�ا أن نطرح مش�كلة الحدود العربية‪ ،‬ولن نعجز ع�ن إيجاد حل عادل يفتح‬
‫األبواب للتعاون الشامل الصدق‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وعن�د نظر النظام األمني العس�كري يج�ب أن ننظر إليه بعين عربي�ة دولية‪ ،‬إذ ال‬
‫يجوز أن ننس�ى أن الكويت تحررت بفضل التحالف بي�ن العرب والقوات الدولية‪،‬‬
‫فال مناص من أن نعتبر مس�ألة األمن عربية دولية‪ ،‬كذلك تتم في مناخ تعاون ورعاية‬
‫للمصالح والمبادئ‪ ،‬وهو أدعى لألمن واالستقرار بالمنطقة‪ ،‬وأضمن لتهيئة مستقبل‬
‫ٍ‬
‫خال من المفاجآت المزعجة‪.‬‬

‫لعله عالم جديد‪ ،‬يقتضي رؤية جديدة‪ ،‬وعقلية جديدة‪.‬‬

‫‪1991/3/21‬‬

‫‪172‬‬
‫العرب‬

‫الهدف األعلى‬

‫يج�ب أن نؤمن بأن اله�دف األعلى للعرب في هذه الفترة م�ن الزمن هو التنمية‬
‫الحكم والزراعة‬
‫الش�املة‪.‬إنه يمثل نقلة حضارية من التخلف إلى العص�ر في أنظمة ُ‬
‫والصناع�ة والبيئ�ة والتعليم والثقاف�ة والصحة ومختلف األنش�طة التي تؤهل الناس‬
‫لحياة إنسانية كريمة‪.‬‬

‫ه�ذا ه�و الهدف األعلى‪ ،‬وما ع�داه من أه�داف فذرائع تهيئ ل�ه‪ ،‬وتمهد وتزيل‬
‫العقبات من س�بيله‪ ،‬ال أس�تثنى من ذل�ك إلاَّ قضايا تحري�ر األرض وتقرير المصير‪،‬‬
‫فه�ي أهداف في ذاتها ال ذرائع وغايات لوس�ائل‪ .‬أما النظام األمني فليس بهدف في‬
‫ذات�ه‪ ،‬وال مش�كلة الح�دود العربية‪ ،‬وال تطهير المنطقة من أس�لحة الدمار الش�امل‪،‬‬
‫وإنم�ا تكتس�ب هذه القضاي�ا أهميتها لما تحقق من اس�تقرار‪ ،‬وال أهمية لالس�تقرار‬
‫إال باعتب�اره المناخ المناس�ب للعم�ل والتطور‪ ،‬وإلاَّ فما جدوى اس�تقرار يقوم على‬
‫الجهل والفقر والتأخر والتهاون في احترام حقوق اإلنسان؟‬

‫إذن فالتنمية الش�املة هي الهدف‪ ،‬وماال يجوز تأجيل�ه بحال من األحوال‪ .‬علينا‬
‫أن نؤم�ن بأن أي نش�اط ُيبذل في السياس�ة الخارجية فإنما نتعام�ل معه من أجل هذا‬
‫الهدف الذي يعني لنا الحياة الحقة‪ ،‬كما أن التهاون فيه يعني االنقراض والموت‪.‬‬

‫وقد تقتضي تصفية القضايا الخارجية وق ًتا‪ ،‬وقد تتعرض لخالفات في الرأي بين‬
‫العرب أنفس�هم‪ ،‬أو بينهم وبين اآلخرين‪ ،‬فال يجوز أن نس�مح بأن يؤخرنا ذلك عن‬
‫البدء في التنمية‪ ،‬أو ما ُيتاح منها على األقل‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ربما تعذر إلى حين البدء في تنمية في نطاق تكامل عربي ش�امل‪ ،‬فيجب أن تبدأ‬
‫في نطاق الدول الثماني المتفقة‪.‬‬

‫وعلين�ا أن نتعاهد عل�ى ألاَّ تتأثر التنمية بالخالفات السياس�ية التي قد تعرض لنا‬
‫بين حين وحين‪ .‬جمي�ع الدول تتفق وتختلف‪ ،‬أما التعاون االقتصادي واالجتماعي‬
‫والثقافي فيجب أن يمضي في س�بيله دون توقف‪ ،‬باعتباره الينبوع الذي تس�تمد منه‬
‫حياة الجميع متفقين ومختلفين‪.‬‬

‫معذرة‪ ،‬لقد أصبح االنتظار ثقيلاً بعد أن عودتنا الحرب على إيقاع س�ريع تتوالد‬
‫فيه األحداث مع كل ساعة‪ ،‬بل مع كل دقيقة‪.‬‬

‫‪1991/3/28‬‬

‫‪174‬‬
‫العرب‬

‫التشاؤم والتفاؤل‬

‫ال يصح أن نس�ارع إلى التش�اؤم إذا لم يحقق عالم ما بعد الحرب ما كنا نحلم به‬
‫باألسلوب والسرعة اللذين تصورناهما‪ .‬لنتأمل األمور بالعقل والموضوعية‪.‬‬
‫فيم�ا يتعل�ق بالكويت نتلهف على ُح ْس ِ‬
‫�ن الجزاء‪ ،‬ومقابلة الوف�اء بالوفاء‪ ،‬وكان‬
‫أول واجب�ات الش�عب الكويت�ي بع�د التحرير ه�و أن يرد إلين�ا اس�تحقاقاتنا‪ ،‬ويفتح‬
‫لننس الذات قليلاً ‪ ،‬ولنضبط ال ِّلس�ان ً‬
‫كثيرا‪ ،‬ولنفكر فيما حاق‬ ‫أب�واب العمل ألبنائنا‪َ .‬‬
‫بالكوي�ت وأهله�ا من كوارث ل�م يتعرض لمثلها ش�عب من قبل‪ .‬لنفك�ر في القتلى‬
‫والمغتصبي�ن‪ ،‬في خراب المؤسس�ات‪ ،‬في الحرائق التي تلته�م الثروة وتلوث الجو‬
‫وتهدد الحياة البش�رية‪ ،‬ف�ي انعدام الم�اء والكهرباء والمرافق الصحي�ة والغذاء‪َ ،‬ألاَ‬
‫يحق لهذا الشعب أن يغضب ويحزن؟ َألاَ يحق له أن يؤدب من خانوه وقت الشدة؟‬
‫َألاَ يح�ق له أن ُي َؤ ِّمن نفس�ه وهو أقلية ضائعة بين وافدي�ن لم يرعوا له ُح ْرمة؟ مهلاً يا‬
‫سادة‪ ،‬إنهم بشر‪ ،‬وينبغي أن نتعامل معهم كما يليق بالبشر‪.‬‬

‫وفيما يتعلق بمشكالت المنطقة ربما حلمنا أن يجتمع مجلس األمن غداة انتهاء‬
‫ت‪ .‬إنما الحل المنش�ود‬‫أي ُم َت َع ِّن ٍ‬
‫ولي َو ِّج ْه إنذاراته إلى ِّ‬
‫الحرب بتنفيذ قراراته القديمة‪ُ ،‬‬
‫لجميع تلك المش�كالت هو الحل العادل الذي يحقق السلام واالستقرار‪ .‬ولن يتم‬
‫ه�ذا إلاَّ بالمفاوضات وتصفية الخالف�ات‪ .‬وتنقية الصدور من الضغائن والذكريات‬
‫األليم�ة‪ .‬إن الح�ال هن�ا ال تنطبق تما ًم�ا على أزمة الخلي�ج‪ .‬لقد ب�دأت األزمة بغز ٍو‬
‫وتحد‪ ،‬فجاء رد الفعل مثلها في ُع ْن ِف ِه وحسمه‪ .‬أما مشكالت منطقتنا فقديمة‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ب‬‫ون َْه ٍ‬

‫‪175‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫خابت في حلها مساع كثيرة‪َ ،‬‬


‫وآن األوان القتحامها وتصفيتها‪ ،‬وعلينا أن نمهد لذلك‬
‫بما لدينا من اقتراحات وتصورات‪ ،‬وألاَّ نسمح للوقت بأن يضيع منا أو يسبقنا‪.‬‬
‫حقًّا‪ ،‬إن قضية الفلسطينيين بالذات هي االمتحان النهائي ِ‬
‫لص ْد ِق العالم الجديد‪،‬‬
‫الحكم على صدقه قبل أن يتبين لن�ا موقفه النهائي‪ .‬وجميع الدالئل‬
‫ولك�ن ال يج�وز ُ‬
‫حتى اآلن ال تدعو للتشاؤم‪.‬‬

‫‪1991/4/4‬‬

‫‪176‬‬
‫العرب‬

‫انتحار زعامة‬

‫قامت في العراق ثورة شعبية شاملة‪ ،‬ولكن الطاغية قضى عليها من خالل معركة‬
‫غير متكافئة‪ ،‬وغير إنس�انية‪ .‬وقد برزت في أثناء الحوادث حقائق جديرة بالتسجيل‪،‬‬
‫كثيرا إلى الصورة البشعة التي استقرت في األذهان‪.‬‬
‫وإنْ كانت ال تضيف ً‬
‫أولاً ‪ -‬ش�ملت الث�ورة العراق ‪-‬ش�ماله وجنوبه‪ -‬مم�ا يقطع بأن أغلبية الش�عب‬
‫العراقي ترفض الطاغية ونظامه‪ .‬ففي مقابل انتصار النظام نجحت الثورة في اإلطاحة‬
‫ٍ‬
‫طاغية يقوم حكمه على دعائم السالح‬ ‫حطام‬
‫َ‬ ‫بزعامة صدام حسين التاريخية‪ ،‬وتركته‬
‫والدم والقهر والكراهية‪ ،‬تالشى صدام وأسماؤه الحسنى‪ ،‬وأساطيره وأوهامه‪ ،‬ولم‬
‫يبق منه إلاَّ الحقيقة البشعة العارية‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬ثبت أن الطاغية يملك قوة مجهزة بأحدث األس�لحة البرية والجوية‪ ،‬وأنه‬ ‫ً‬
‫س�ريعا مذهلاً بال خس�ائر تُذكر‪،‬‬
‫ً‬ ‫ضن بها على الدفاع عن وطنه‪َ ،‬ف َي َّس َ�ر ألعدائه ً‬
‫نصرا‬
‫معرض�ا جيش�ه الرس�مي لهزيم�ة منكرة في أس�وأ الظروف‪ ،‬أم�ا قوت�ه الحقيقية فلم‬
‫ً‬
‫يخرجه�ا م�ن قماقمها إلاَّ لالنقضاض على ش�عبه المعذب في معرك�ة غير عادلة لم‬
‫ُيراعِ فيها رحمة وال وطنية وال إنسانية‪ ،‬ليقيم في النهاية ً‬
‫عرشا على تالل من جماجم‬
‫الشهداء‪.‬‬

‫ثالثً�ا‪ -‬وكم�ا دلت ح�وادث الحرب عل�ى غبائه أبان�ت تحري�ات خصومه على‬
‫خيانت�ه للذمة واألخالق‪ ،‬ففي ظل س�يطرته ُهتِ َك ْت أعراض‪ ،‬ونُهبت أموال‪ُ ،‬‬
‫وهربت‬
‫مليارات إلى الخارج باسمه وباسم أسرته‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ٍ‬
‫ش�عب باإلبادة بعد أن س�لط عليه مدافعه‬ ‫رابعا‪ -‬أن الطاغية لم يتورع عن تهديد‬
‫ً‬
‫وطياراته وأس�لحته المش�روعة وغير المش�روعة‪ ،‬فكانت ذروة جرائم�ه التي بدأت‬
‫بدم�ار الكويت والعراق‪ ،‬والخس�ائر في األرواح واألم�وال‪ ،‬مما ال يحدث جزء منه‬
‫إلاَّ نتيجة للكوارث الطبيعية الكبرى‪ ،‬كالزالزل التاريخية والبراكين‪.‬‬

‫ح ًّقً�ا إذا لم ُي َق َّ‬


‫�د ْم الطاغية ومعاون�وه إلى محاكمة دولية فلا معنى للحديث عن‬
‫القيم في هذه الحياة‪.‬‬

‫‪1991/4/8‬‬

‫‪178‬‬
‫العرب‬

‫وقفة مع الذكريات‬

‫انفج�رت أزمة الخليج في ‪ 2‬أغس�طس‪ ،‬وبلغت ذروته�ا بحرب مدمرة‪ ،‬وانتهت‬


‫الح�رب بتحقي�ق أهدافها األولى ‪-‬تحري�ر الكويت‪ -‬وتتفاع�ل اآلن عوامل تاريخية‬
‫معقدة للتمخض عن مستقبل جديد‪.‬‬

‫فماذا فعلت بنا في مصر؟ وبماذا تعد؟‬

‫سلبيات‪:‬‬

‫‪ -1‬في عالم االقتصاد بلغت خسائرنا المالية ‪ 20‬ألف مليون دوالر‪.‬‬

‫‪ -2‬س�اءت عالقاتنا ببعض البالد العربية على نحو لم يحدث من قبل‪ ،‬بل خرج‬
‫مصريون على اإلجماع الشعبي الكاسح في مصر نفسها‪.‬‬

‫‪ -3‬ل�م يس�لم قلب من األل�م على ما ح�ل بالكويت من دم�ار‪ ،‬وال على ما حل‬
‫بالعراق وشعبه‪.‬‬

‫إيجابيات‪:‬‬

‫‪ -1‬موقفن�ا م�ن األزم�ة القائ�م عل�ى المب�ادئ الس�امية‪ ،‬والدفاع ع�ن المصالح‬
‫المشروعة‪.‬‬

‫‪ -2‬مبادرتنا إلى َح ْمل المسئولية في تحالف مع إخواننا العرب والقوات الدولية‪،‬‬


‫المشَ ِّرف في الحرب مما شهد له الجميع‪.‬‬
‫وأداؤنا ُ‬

‫‪179‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -3‬ب�دء تع�اون عربي جديد مك�ون من ال�دول الثماني للتفكير ف�ي وضع نظام‬
‫مفتوحا لمن يشاء أن ينضم‬
‫ً‬ ‫أمني‪ ،‬وتكامل اقتصادي اجتماعي ثقافي‪ ،‬مع ترك الباب‬
‫إليه‪.‬‬

‫�د ِر ال ُيس�تهان به من‬


‫‪ -4‬تن�ازل دول عربي�ة صديق�ة والوالي�ات المتحدة عن َق ْ‬
‫ديوننا‪.‬‬

‫‪ -5‬التحرك شر ًقا وغر ًبا لحل مشكالت المنطقة ً‬


‫تطلعا إلى استقرار راسخ وعدل‬
‫شامل‪.‬‬

‫‪ -6‬اش�تراك جمي�ع البالد العربية في اجتماع مجل�س الجامعة (‪)1991/3/30‬‬


‫مما يبشر بتصفية الخالفات ولو بعد حين‪.‬‬

‫‪ -7‬تكثيف العناية بالتنمية الشاملة‪ ،‬كما وضح ذلك في حديث السيد الرئيس مع‬
‫رئيس تحرير األهرام‪.‬‬

‫الفريضة الغائبة‪:‬‬

‫ش�د ما وددن�ا أن تحظ�ى الديمقراطية بدفعة جديدة تناس�ب أهميته�ا في البعث‬


‫الش�عبي والنهضة المنشودة‪ ،‬وبخاصة أن الدرس األول لكارثة الخليج هو أنها ثمرة‬
‫مرة لرجل مس�تبد‪ ،‬ونظام اس�تبدادي‪ ،‬ولكن باب األمل لن يغلق في هذا الش�أن إال‬
‫ببلوغ المرام‪.‬‬

‫‪1991/4/11‬‬

‫‪180‬‬
‫العرب‬

‫مبادرة بوش‬

‫أخيرا جاءت مبادرة الرئيس «بوش»(((‪ ،‬كانت مفاجأة بكل معنى الكلمة‪ ،‬ولكنها‬
‫ً‬
‫مفاجأة سعيدة ألنصار القانون والشرعية والحل السلمي‪ ،‬جاءت تبشر بعودة الحق‪،‬‬
‫مع تجنيب المنطقة ويالت الخراب والدمار وإزهاق األرواح بغير حساب‪.‬‬

‫والح�ق أن�ه ال أحد يؤي�د العدوان‪ ،‬وم�ا من دول�ة إلاَّ وطالبت بع�ودة الحق إلى‬
‫أصحاب�ه‪ ،‬والكث�رة الغالب�ة ترفض الحرب وترغ�ب في الحل الس�لمي‪ ،‬وفي مقدمة‬

‫((( ول�د ج�ورج بوش في ‪ 12‬يونيو ‪ 1924‬لـ «برس�كوت بوش‪ ،‬ودورث�ي والكر» درس‬
‫ف�ي فيليبس أكاديمي ف�ي والية ماساتشوس�تس حيث لعب البيس�بول وكان متفو ًقا‬
‫في دراس�اته‪ .‬وبعد التخرج التحق بوش بالجيش األمريكي بسبب الحرب العالمية‬
‫الثاني�ة ث�م درس بجامع�ة ييل حيث حصل عل�ى البكالوريوس ف�ي التاريخ في عام‬
‫‪ ،1945‬ت�زوج بارب�را بي�رس ولهما س�تة أوالد ومنهم جورج وج�ب ونيل ومارفن‬
‫ودورثي‪.‬‬
‫رئيس�ا للواليات المتحدة من (‪ ،)1989-1981‬وخالل مس�يرته الرئيسية كان‬ ‫أصبح ً‬
‫يركز على الش�رق األوسط‪ .‬وحين غزا صدام حسين الكويت في أوائل التسعينيات‬
‫أعل�ن ب�وش أنه س�يحرر الكويت وهكذا بدأت ح�رب الخليج التي فاز بها بس�رعة‬
‫في تحالف عالمي بقيادتين أمريكية وس�عودية‪ .‬وقد انهى التحالف الدولي الحرب‬
‫وأع�اد الكويت ألهلها‪ .‬وبس�بب ه�ذا النجاح العس�كري كان األمريكي�ون يحبون‬
‫رئيس�هم ولكن المش�كالت االقتصادية س�ببت فش�له ف�ي االنتخاب الرئيس�ي عام‬
‫‪1992‬م الذي غلبه فيه الرئيس بيل كلينتون (المحرر)‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الجميع الش�عب األمريكي نفس�ه‪ ،‬حتى لقد بدا حي ًنا من الوقت أنه ال يريد الحرب‪،‬‬
‫مس�تبدا أو س�يدَ قراره َل َهان‬
‫ًّ‬ ‫حاكما‬
‫ً‬ ‫إلاَّ الرئيس األمريكي وقلة معه‪ ،‬ولو كان «بوش»‬
‫األم�ر ونف�ذ المقدور‪ ،‬ولكن ما العمل وهو رم�ز الديمقراطية في العصر الحديث؟!‬
‫وس�ارت األمور خطوة بع�د أخرى‪ ،‬فكانت زيارة الرئيس األمريكي لدول ش�تى في‬
‫الغرب والشرق‪ ،‬فالقرار األخير لمجلس األمن‪ ،‬ثم المبادرة‪.‬‬

‫ُ�رى أكانت المب�ادرة مفاجأة لنا ‪-‬نح�ن القراء‪-‬‬


‫وهن�ا يثور في الخاطر س�ؤال‪ :‬ت َ‬
‫فحس�ب‪ ،‬أم لن�ا ولل�دول التي زارها؟ أرجو أن يكون كل ش�يء قد ت�م االتفاق عليه‬
‫ف�ي الزيارة‪ ،‬أو في األقل ألاَّ تس�فر المبادرة عن تراجع عن مب�ادئ ال يجوز التراجع‬
‫عنها‪.‬‬

‫إني من ُدعاة السلم‪ ،‬ومن ُدعاة التفاوض‪ ،‬ومن ُدعاة حل جميع مشكالت المنطقة‬
‫الت�ي تزع�زع أمنها كل بضعة أع�وام‪ ،‬ومن دعاة االتفاق على نظ�ام أمني جامع مانع‪،‬‬
‫ات التي ال يجوز المساس‬‫ولكن إدانة العدوان وإعادة الحق والش�رعية من المس� َّلم ِ‬
‫ُ َ َ‬
‫بها أو التساهل فيها‪.‬‬

‫إن مبادرة بوش مفاجأة س�عيدة لنا‪ ،‬نرجو أن تؤدي إلى الحل الس�لمي المنشود‪،‬‬
‫وتحقق الحق والعدل والسالم الشامل في المنطقة‪.‬‬

‫‪1991/4/18‬‬

‫‪182‬‬
‫العرب‬

‫نحو رؤية جديدة‬

‫نش�أنا ف�ي عال�م تمزقه الصراع�ات‪ ،‬موزع بي�ن إمبراطوري�ات متنافس�ة‪ ،‬تهدده‬
‫القوى على الضعيف‬
‫ِّ‬ ‫الحروب العالمية والمحلية‪ ،‬وتقوم العالقات فيه على تس�لط‬
‫واس�تغالله‪ ،‬ف�كان هدفنا االس�تقالل‪ ،‬ثم المحافظ�ة عليه‪ ،‬والحذر مم�ا هو أجنبي‪،‬‬
‫وتوجس الشر من ناحيته‪.‬‬

‫الي�وم نحن نس�تقبل مطالع عال�م جديد‪ ،‬عال�م االتصال الس�ريع‪ ،‬والمعلومات‬
‫الوفي�رة‪ ،‬عالم تتق�ارب أطرافه‪ ،‬وتتداخل أبع�اده‪ ،‬وتتذاوب آراؤه وتقاليده‪ ،‬ويبش�ر‬
‫بقيام وحدة جغرافية وحضارية‪.‬‬

‫َحدَ َث ْت في هذا العالم معجزة التالحم بين أيديولوجياته حتى لتوشك أن تتزاوج‬
‫ليول�د منه�ا كائ�ن جديد‪ ،‬وقضى عل�ى الحرب الب�اردة ليحل محلها تع�اون عالمي‬
‫يستهدف التعاون والحوار‪.‬‬

‫ومم�ا يدعو أكثر إلى التالحم والتآزر أنه عالم مهدد بكوارث طبيعية‪ ،‬كالتلوث‪،‬‬
‫والتغيرات الجوية‪ ،‬واألمراض المستعصية‪ ،‬والمخدرات‪ ،‬مما يستحيل التصدي لها‬
‫إلاَّ على مستوى العالم‪ ،‬وبجهد البشرية جمعاء‪.‬‬

‫علينا أن نفكر بأناة وموضوعية في اختيار األس�لوب المناس�ب لإلسهام في هذا‬


‫العال�م الجديد‪ ،‬واالهتداء إلى دور يناس�به ويناس�بنا‪ ،‬علينا أن نض�ع رؤيتنا القديمة‬
‫تحت مجهر النقد والبحث‪ .,‬علينا أن نرحب باألخذ والعطاء‪ ،‬وأن نتخلص من عقدة‬
‫الخوف واالنطواء‪ ،‬وعلينا أن نجد ألنفسنا مكانًا في النشاط الدولي‪ ،‬يتسق مع مبادئه‬
‫‪183‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وتوج َهات�ه‪ ،‬وألاَّ نجع�ل من أصالتنا عائقًا لالنطالق‪ ،‬أو س�ندً ا لصرا ٍع يمكن أن ُي َحل‬
‫ُّ‬
‫بوسائل أخرى‪ ،‬ولنجعل من جوهر أصالتنا هدية نسهم بها في إقامة البناء الجديد‪.‬‬ ‫ُ‬

‫إن هدفن�ا الي�وم أن نتخلص م�ن عقد الماض�ي المعوقة‪ ،‬وأن نس�تمد من مبادئه‬
‫الخالدة الطاقة الدافعة للحاضر والمستقبل‪.‬‬

‫‪1991/4/25‬‬

‫‪184‬‬
‫العرب‬

‫ً‬
‫دفاعا عن الحرية والكرامة‬

‫تعرضت ثورة العراق الش�عبية لقمع وحش�ي َأ ْو َدى ب�اآلالف إلى الهالك‪ ،‬ودفع‬
‫بشعب بكامله إلى الفناء‪ ،‬واقتصرت ردة الفعل في أول األمر على الذهول والسخط‪،‬‬
‫وأخيرا أرس�لت بعض‬
‫ً‬ ‫ثم بدأت حركة لِ َمدِّ الضحايا بالمس�اعدات الغذائية والطبية‪،‬‬
‫القوات لجمع شمل المشردين وحمايتهم‪.‬‬

‫وق�د طالب كثيرون الق�وات المتحالفة بالتدخل إلنق�اذ أرواح األبرياء‪ ،‬وتحفظ‬
‫تدخًل�اً في الش�ئون الداخلية لدول�ة‪ ،‬قد يمثل س�ابقة خطيرة‬
‫معتب�را ذلك ُّ‬
‫ً‬ ‫البع�ض‪،‬‬
‫يصعب التحكم فيها مستقبلاً ‪.‬‬

‫ونح�ن نعت�رف بحق كل دول�ة في االس�تقالل بش�ئونها الداخلي�ة‪ ،‬والدفاع عن‬


‫جميعا‪ ،‬ولكننا نرى ً‬
‫أيضا‬ ‫ً‬ ‫نظامها المش�روع‪ ،‬مما يمكنها من القيام بالتزاماتها الوطنية‬
‫أن حق الدولة في ذلك يجب أن يتم في حدود وقيود‪.‬‬

‫ألية دولة حقوق بال شك‪ ،‬ولكن عليها واجبات ً‬


‫أيضا‪.‬‬

‫من حقوقها الهيمنة وتنفيذ القوانين‪ ،‬وتحقيق األمن واألمان‪ ،‬والدفاع عن نظامها‬
‫وحدود وطنها‪.‬‬

‫أم�ا واجبها فهو أن يتم ذلك في نطاق حضاري‪ ،‬وإطار إنس�اني‪ ،‬والتزام باحترام‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬وغير ذلك مما تلتزم به بحكم عضويتها في هيئة األمم المتحدة‪ ،‬فال‬
‫يحق لها أن تكرس العنصرية‪ ،‬وال أن تضطهد أقلية سياسية أو دينية‪ ،‬وال أن تستعمل‬
‫‪185‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أس�لحتها الثقيل�ة المعدة أصلاً للح�رب والدفاع في قمع الحركات الش�عبية ‪ ،‬وقتل‬
‫النساء واألطفال‪ ،‬وتخريب المدن‪.‬‬

‫نح�ن في زمن األس�لحة الف َّتاكة القادرة على محو المدن ف�ي أيام‪ ،‬وال يجوز أن‬
‫الناس تحت رحمة الطغيان وجنون العظمة وهذيان االستبداد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُي ْت َر َك‬

‫لتقصي‬
‫وإذا انحرف�ت دول�ة عن األصول فم�ن حق هيئة األمم أن ترس�ل بعثات ِّ‬
‫الحقائق‪ ،‬فإذا ثبت لها االنحراف‪ ،‬فالبد من اتخاذ اإلجراءات المناس�بة‪ ،‬كالمقاطعة‬
‫االقتصادي�ة وغيره�ا من الوس�ائل الرادع�ة‪ ،‬وما ذاك ف�ي النهاية إلاَّ دف�اع عن حرية‬
‫اإلنسان وكرامته‪.‬‬

‫‪1991/5/2‬‬

‫‪186‬‬
‫العرب‬

‫األصل والصورة‬

‫تمخض�ت حرب الخليج عن الكش�ف عن صورة عربي�ة‪ ،‬وإنْ لم تعكس حقيقة‬


‫فريق ال ُيس�تهان به منهم‪َ .‬ف ْل ُي ْم ِع ُنوا النظر في هذه‬
‫جميعا‪ ،‬فهي تعكس حقيقة ٍ‬
‫ً‬ ‫العرب‬
‫الصورة بصدق وموضوعية إذا أرادوا حقًا أن يأملوا في مستقبل أفضل‪.‬‬

‫تلك الصورة تقول‪ :‬إن بعضهم عندما َم َل َك القوة والبأس اندفع إلى حل مشكالته‬
‫متخطيا كل وسيلة تفاهم سلمية‪.‬‬
‫ً‬ ‫مع إخوانه العرب بالغزو‪،‬‬

‫لألخ َّوة ُحرم�ة‪ ،‬وال لضعف الخصم وعجزه‬‫يرع ُ‬ ‫�ز ِو ِه لم َ‬


‫أيضا‪ :‬إنه في َغ ْ‬
‫وتق�ول ً‬
‫ونهب‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وهت�ك األعراض‪،‬‬ ‫ع�ن الدف�اع‪ ،‬وال لمبادئ الح�رب الدولية‪ ،‬فق َت َل األبرياء‪،‬‬
‫وخرب مصادر الحياة والعمران‪ ،‬حقًّا قد أثارت الجريمة غضب جماعات‬
‫األموال‪َّ ،‬‬
‫منه�م‪ ،‬ولك�ن مظاهرات كثي�رة خرجت تتعاطف م�ع المجرم‪ ،‬حت�ى أفزعت العالم‬
‫واحتقارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫المتحضر دهشة‬

‫وتحك�ي الصورة‪ :‬أن�ه عندما اندلعت الح�رب ُمنذرة بصراع بين ق�وات حقيقية‬
‫وجبن وعج ٍز‪ً ،‬‬
‫تاركا قواته في‬ ‫ٍ‬
‫جهل ُ‬ ‫الجانب اآلثِم‪ ،‬وانحس�رت عنجهيت�ه عن‬
‫ُ‬ ‫ت ََخا َذ َل‬
‫أسوأ الظروف لتل َقى الموت أو ْ‬
‫األسر‪.‬‬

‫اس�ترد أنفاس�ه‬
‫َّ‬ ‫وتق�ول الصورة‪ :‬إن الجبان المهزوم حين واجه ش�عبه الغاضب‬
‫ضن به�ا عن الدفاع ع�ن وطنه لتقتل الش�عب األعزل‬
‫واستأس�دَ ‪ ،‬وأب�رز قوات�ه التي َّ‬
‫َ‬
‫والنس�اء واألطفال‪ ،‬ولترمي بالجميع في هاوية الفن�اء وغضب العالم المتحضر لما‬

‫‪187‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وه ّب إلغاثته وحمايته‪ ،‬على حين لم تقم مظاهرة واحدة في بلد‬‫َح َّل بشعب العراق‪َ ،‬‬
‫وك َأنَّ األعين قد اس�تصفت دموعها من قبل تعاط ًفا‬
‫احتجاجا عل�ى المذبحة‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫عرب�ي‬
‫مع المجرم‪ ،‬فلم تبق دمعة تذرفها على ضحاياه‪.‬‬

‫ْأم ِع ُن�وا النظر في الصورة كما كش�فت عنها الحوادث‪ ،‬وال ترجعوا بش�اعتها إلى‬
‫س�جايا أصيلة ف�ي الفطرة العربية‪ ،‬فما ه�ي إلاَّ النتيجة الحتمي�ة للتخلف الحضاري‬
‫الحكم‪ .‬الحقيقة أنَّ أعدا ًدا وفي�رة من العرب تعيش تحت وطأة‬
‫وس�وء بع�ض أنظمة ُ‬
‫الجه�ل والخراف�ة والقهر‪ ،‬تحي�ا وتموت بال أدنى مش�اركة في تقري�ر مصيرها‪ ،‬وال‬
‫تحظى بِ َذ َّر ٍة من حقوق اإلنسان‪ ،‬كرامتها بال وزن‪ ،‬وحياتها نفسها بال قيمة‪.‬‬

‫َألاَ فلينظ�ر العربي إلى صورته بصدق وموضوعي�ة‪ ،‬وليعقد العزم على اإلطاحة‬
‫بكل ما يعرقل مسيرته نحو الحياة السامية‪.‬‬

‫‪1991/5/3‬‬

‫‪188‬‬
‫العرب‬

‫الواقع والحلم‬

‫عجلة الحوادث من حولنا تدور‪ ،‬ونحن نتابعها بش�غف المتطلع إلى غد أفضل‪،‬‬
‫ال نري�د لها أن تتوقف ‪ ،‬ويجب أن نش�ارك فيها ب�كل ما نملك من عقل وإرادة‪ ،‬وزير‬
‫خارجي�ة الوالي�ات المتح�دة في نش�اط دائب لدفع إجراءات السلام‪ ،‬المس�ئولون‬
‫يبحثون وسائل األمن في الخليج‪ ،‬وتتطاير في الجو آراء متضاربة‪.‬‬

‫نتاب�ع ذل�ك باهتمام ويقظ�ة‪ ،‬ولكن ما يهمنا أكث�ر هو ما يحدث ف�ي الداخل‪ ،‬أو‬
‫م�ا نتوق�ع حدوثه‪ .‬فموضوع أي ش�يء ُي َع ُّد ف�ي الدرج�ة الثانية بالقياس إل�ى تنميتنا‬
‫الشاملة‪ ،‬أو نهضتنا الحديثة‪ ،‬أو الحياة التي نشيد أركانها بعقولنا وسواعدنا وأصالتنا‬
‫أج ِري الهثً�ا وراء أخبار صن�دوق النقد‪ ،‬ون�ادي باريس‪،‬‬‫وانتمائن�ا‪ ،‬م�ن أج�ل ذلك ْ‬
‫�رى األخب�ار َع َّما يتم بيننا وبين ليبي�ا في مجالي التع�اون االقتصادي والثقافي‬
‫وأت ََح َّ‬
‫واإلعالمي‪ ،‬وهزني بعمق ما ن ُِش َ�ر عن إعداد مش�روع الهيئة العربية لإلنتاج الزراعي‬
‫بين مصر وسوريا وليبيا والسودان‪.‬‬

‫باإلضافة إلى ذلك قد وعدنا بوثبة إدارية‪ ،‬ومزيد من االنسجام في الفكر والعمل‬
‫دفع�ا لإلنتاج‪ ،‬وذلك بإجراء حركة واعية هادفة في قيادات العمل‪ .‬إن الش�عور العام‬
‫ً‬
‫معا‪ ،‬ولكنه ليس الحرج الذي يفضي إلى‬
‫ُيوحي بأننا مقبلون على فترة نشيطة وحرجة ً‬
‫التر ِّدي‪ ،‬ولكنه الحرج الذي يمر فيه اإلنس�ان من الش�دة إل�ى الفرج‪ ،‬وذلك باإلرادة‬
‫والفكر واإلبداع‪ ،‬والنصر الحقيقي الذي يحققه اإلنس�ان على نفس�ه بقهر سلبياتها‪،‬‬
‫و َم ْحق عوائق السوء التي تتحدى مسيرته‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ول�م أعثر حت�ى اآلن على كلم�ة بخصوص اإلصالح السياس�ي وتجدي�د البناء‬
‫الديمقراطي‪ ،‬فأرجو ألاَّ ننسى أن رسالتنا األولى في المنطقة هي طرح نموج للحياة‬
‫ٍ‬
‫السياس�ية يصلح أن ُي ْح َت َذى كمثال لمن ينشد مثالاً ً‬
‫طيبا للحرية والعدالة االجتماعية‬
‫واحترام حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫‪1991/5/9‬‬

‫‪190‬‬
‫العرب‬

‫من حال إلى حال‬

‫ُس�ئِ َل الس�يد رئي�س الجمهورية ع�ن وضع مجلس التع�اون بين مص�ر والعراق‬
‫واألردن واليمن(((‪ ،‬فأجاب بأنه ُم َج َّمدٌ اآلن‪ ،‬وقد أوحت اإلجابة لي بأن الجمود قد‬
‫يكون مؤق ًتا‪ ،‬وأنه قد يزول بزوال أسبابه‪.‬‬

‫تحس�ن محتمل ف�ي العالقات بينن�ا وبين اليمن‬ ‫ٍ‬


‫وق�رأت ف�ي يوم ت�ال عن أخبار ُّ‬
‫واألردن والسودان‪.‬‬

‫وس�معت م�ن يعلق عل�ى ه�ذا وذاك بامتع�اض قائلاً ‪ :‬إنن�ا ال نثبت عل�ى حال‪،‬‬
‫وإنن�ا نتناس�ى األخط�اء‪ ،‬بل الخطاي�ا‪ ،‬لنتالقى بعد ذل�ك باألحضان والقُ َب�ل‪ ،‬وكأننا‬
‫ل�م نُفرغ على وجوهنا جميع ما تموج به قواميس الغضب من س�ب وقذف وهجاء‪.‬‬
‫ويتساءلون‪ :‬كيف نصدق بعد ذلك ما يقال؟ وكيف نميز بين الصواب والخطأ؟‬

‫وال�رأي عندي أن الحياة السياس�ية حي�اة ذات طابع خاص َي َت َأ َّب�ى على الجمود‪،‬‬
‫ِ‬
‫وال يلتزم بالدوام‪ ،‬ال يوجد في ساحتها قرار َأ َبد ٌي‪ ،‬ولكن الدول الرشيدة تنظر ً‬
‫دائما‬
‫إل�ى بعيد‪ ،‬وتركز على الهدف األكبر‪ ،‬وفي س�بيل ذلك تحت�وي الخالفات إذا زالت‬
‫ودائما وأبدً ا توجد مصلحة عليا يجب أن تؤثر بالرعاية‬
‫ً‬ ‫أسبابها‪ ،‬أو تغيرت مالبساتها‪.‬‬
‫مهما تكن التضحيات‪ ،‬ومهما اقتضت من مرونة وضبط للنفس وتجاوز لإلساءة‪.‬‬

‫((( تحال�ف أنش�ئ بين هذه الدول األربع عام ‪1990‬م وانته�ى بغزو العراق للكويت في‬
‫أغسطس ‪1990‬م‪( .‬المحرر)‬
‫‪191‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لم يكن ما بيننا وبين أي دولة عربية بأفظع مما كان بين ألمانيا وفرنس�ا‪ ،‬أو فرنس�ا‬
‫وإنجلترا‪ ،‬أو الواليات المتحدة واليابان‪ .‬وها هم األوروبيون يخرجون من تاريخهم‬
‫الدامي متوجهين نحو تعاون وثيق ووحدة راسخة‪.‬‬
‫َّ‬
‫لنتعلم من السياس�ة كيف نغضب حين يجب الغضب‪ ،‬وكيف ننسى حين يتحتم‬
‫النس�يان‪ ،‬وليس األم�ر أمر عواطف وأخوة وأحلام تاريخية‪ ،‬ولكن�ه العمل الدائب‬
‫الواع�ي لبن�اء مس�تقبل أفضل يق�وم على التكام�ل االقتص�ادي‪ ،‬والتوح�د الثقافي‪،‬‬
‫والمش�اركة في العصر‪ ،‬و تقديس العلم والعمل في ظل ِق َيمٍ س�امية‪ ،‬واحترام شامل‬
‫لحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫أي تغيير‪ ،‬ونرحب بأي تفكير‪ ،‬ونص ِّفي أنفس�نا من أوشاب‬


‫في س�بيل ذلك نتقبل َّ‬
‫التجارب القاسية‪ ،‬لنتجه إلى المستقبل بقلوب شغوفة بالتقدم وبالمثل العليا‪.‬‬

‫‪1991/6/6‬‬

‫‪192‬‬
‫العرب‬

‫الوطن الكبير‬

‫األرض الي�وم تموج بالمتناقضات‪ ،‬يقودها العلم إلى آفاق مذهلة من المعارف‪،‬‬
‫واإلنج�ازات تتج�ه بها إلى آف�اق من التقدم واالس�تنارة والقوة‪ ،‬ما بي�ن باطن الكرة‬
‫مرورا باإلنس�ان والنب�ات والجماد‪ .‬وتتكالب عليها أخط�ار مروعة‪ ،‬مثل‬
‫ً‬ ‫والفض�اء‪،‬‬
‫التل�وث‪ ،‬والجفاف‪ ،‬واألم�راض‪ ،‬والمخدرات‪ ،‬واإلرهاب‪ ،‬توش�ك أن تنهرها من‬
‫األعم�اق‪ ،‬أو تصيبه�ا بالبالء‪ .‬ولكل وطن نصيبه من التقدم والخطر بحس�ب موقعه‬
‫من الحضارة‪ ،‬وهو ُم َطا َلب بالتصدِّ ي لمش�كالته بش�تى الوس�ائل ف�ي حدود طاقاته‬
‫ومواهبه‪.‬‬

‫ولكن عصرنا يتميز بوضع جديد‪ ،‬هو أنه ينحو نحو التقارب والتوحد‪ ،‬فأصبحت‬
‫ٍ‬
‫واحد غير معترفة بح�دود‪ ،‬إنه عصر التبادل بين‬ ‫إيجابياته وس�لبياته تس�ري فيه َك ُك ّل‬
‫األطراف‪ ،‬واالندماج في تجمعات‪ ،‬وتقاس�م الخير والش�ر‪ ،‬بل الش�ر قبل الخير في‬
‫�را إلاَّ إلى‬
‫كثي�ر م�ن األحايي�ن‪ ،‬لم يعد به من أس�رار إلاَّ ما ندر‪ ،‬وربما ال يبقى هذا َس ًّ‬
‫حي�ن‪ ،‬ثم ينتش�ر‪ .‬ونحن ف�ي زمن المع�ارف العامة‪ ،‬والتج�ارة الدولي�ة‪ ،‬واالقتصاد‬
‫األممي‪ ،‬تجمعه قيم مثل حقوق اإلنس�ان‪ .‬ونلتقي في مؤسس�ات‬ ‫الدول�ي‪ ،‬والحوار ُ‬
‫ومؤتم�رات‪ ،‬وتتحدان�ا أخط�ار واح�دة تعمق ش�عورنا بالتوح�د وض�رورة التعاون‬
‫الش�امل‪ .‬هيهات أن تحل مش�كلة مهما بدت لدى أهلها محلية إلاَّ من منطلق النظرة‬
‫الجامعة‪ ،‬والتعاون الحق‪ ،‬واالنتماء البش�ري الع�ام‪ ،‬وت ََخ ِّطى حدود األنانية القديمة‬
‫التي نمت بين الناس بالحدود التقليدية‪ ،‬والمصالح اآلنية‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫غرب�اء م�ن يعيش�ون في ه�ذا العال�م بعقول متحج�رة‪ ،‬أو رؤي�ة ذاتي�ة‪ ،‬أو أهواء‬
‫عنصرية‪ ،‬أو ميول تعصبية‪ ،‬أو أس�رى للصغائر واألحقاد العابرة‪ .‬وحس�بنا ما ارتكبنا‬
‫ورجاؤنا إلى الله َألاَّ تفلت من‬
‫من أخطاء في أيام العزلة‪ ،‬وما سفكنا من دماء غزيرة‪َ ،‬‬
‫أيدينا فرص النجاة‪ ،‬وألاَّ يتعثر في ضميرنا الشعور بالواجب اإلنساني‪.‬‬

‫‪1991/11/7‬‬

‫‪194‬‬
‫العرب‬

‫تجربة الجزائر‬

‫عن�د الجولة األولى م�ن االنتخابات الجزائرية طرحت الدولة الجزائرية نفس�ها‬
‫مثلاً وقدوة في الديمقراطية والنزاهة‪ ،‬فاز الخصم بأغلبية س�احقة‪ ،‬وأصبح على ُب ْعد‬
‫ً‬
‫سقوطا ال يسمح به عادة‬ ‫ش�بر من األغلبية المطلقة النهائية‪ ،‬وس�قط الحزب الحاكم‬
‫إلاَّ ف�ي البلاد الغربية التي تتمتع بالحضارة والحرية‪ ،‬وقلنا إنه َل ٌ‬
‫خير و ُبشْ َ�رى لجميع‬
‫األوطان العربية المتطلعة للحرية والكرامة اإلنسانية‪ .‬وإذا بنكسة مزلزلة َت ْن َق ُّ‬
‫ض على‬
‫الديمقراطي�ة الولي�دة في مهده�ا‪ ،‬فتغرق الفرحة ف�ي خيبة وكآبة‪ ،‬ويعود االس�تبداد‬
‫ليط�ل بقرنيه ونظراته الوحش�ية‪ ،‬وكأنما لم يكفه ما فعل بالبالد حتى َد َف َعها إلى ش�فا‬
‫اإلفالس‪ ،‬وسفك من دماء أبنائها ما سفك‪.‬‬

‫وقد كش�فت هذه النكس�ة عن حقيقة غريبة‪ ،‬وهي أن بعض المس�تبدين يتجهون‬
‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫نح�و الديمقراطي�ة أملاً في إضفاء ش�رعية ش�عبية على اس�تبدادهم‪ ،‬ال إيمانًا‬
‫وع َص ُفوا بها‪ ،‬وأزاحوا‬
‫بالديمقراطي�ة‪ ،‬فإذا خذلتهم الديمقراطية كش�روا عن أنيابه�م َ‬
‫النق�اب عن وجهه�م القبيح‪ .‬وما الديمقراطي�ة إلاَّ الحوار الص�ادق‪ ،‬واحترام الرأي‬
‫اآلخر‪ ،‬والتس�ليم برأي الش�عب واختياره الحر‪ ،‬ال ننكر أن الحزب المهزوم يتصور‬
‫كثيرا ما يفس�ر ذلك‬
‫أن ف�ي انتص�ار خصمه نهاية العالم وخراب الوطن‪ ،‬وال ننكر أنه ً‬
‫بجهل الشعب أو سذاجته‪ ،‬ولكن كل شعب هو َأ ْد َرى بما يصلح له‪ ،‬وأبسط الشعوب‬
‫تدري ما يصلح لها‪ ،‬وما أكثر المستبدين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على شعوبهم‬
‫ث�م ظه�ر أنهم ه�م الذين كانوا ف�ي حاجة إل�ى الوصاي�ة‪ ،‬ولعلنا لم ننس بع�د هتلر‪،‬‬

‫‪195‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وموس�وليني‪ ،‬وإمبراط�ور اليابان‪ ،‬عل�ى حين أننا ال نذكر مبايعة ش�عبية حرة خاطئة‪،‬‬
‫ولنفرض أن شعب الجزائر قد أخطأ‪ ،‬فلماذا ال نتركه يتحمل مسئولية خطئه ونمنحه‬
‫الفرصة لتصحيحها؟‬

‫ولو كانت التجربة الس�ابقة لالنتخابات ناجحة لوجدنا لمن يريد العودة إليها أو‬
‫لمثلها شبه ُعذر‪ ،‬ولكنها كانت تربة فاشلة فاسدة‪ ،‬متنكرة لحقوق اإلنسان وكرامته‪.‬‬

‫وإذا ُقدِّ َر للجزائر أن يحكمها مستبد جديد فقد يبرر سياسته بأسباب كثيرة‪ ،‬ولكنه‬
‫لن يزعم أبدً ا أنه يمثل الشعب‪ ،‬بعد أن أعلن الشعب كلمته صريحة عالية‪.‬‬

‫‪1992/1/16‬‬

‫‪196‬‬
‫العرب‬

‫أهمية السالم‬

‫مؤتمر السلام فرصة متاحة لتغيير وجه الحياة في ش�رقنا العربي‪ ،‬فهو َي ِعدُ بحل‬
‫مشكالت كاد يصيبها الزمان‪ ،‬ويهيئ الجو لتطور أسرع نحو حياة أفضل للجميع‪.‬‬

‫وقد ذهب إليه الجانبان ‪-‬العربي واإلس�رائيلي‪ -‬على هيئة غير محمودة‪ ،‬وبعيدة‬
‫عن الكمال المنش�ود‪ .‬إس�رائيل تبدو متأففة‪ ،‬وكأنما ت َُس ُ‬
‫�اق إلى السالم وهي كارهة‪،‬‬
‫س�تارا‪ ،‬فهي ال ترى إلاَّ ما بين يديها‪ ،‬وال تنظر إلى بعيد‪.‬‬
‫ً‬ ‫أس�دلت ُق َّوت َُها على عينيها‬
‫والعرب لغة واحدة وقلوب شتى‪ ،‬لم يتطهروا بعد من مأساة الخليج‪ ،‬ومازال بعضهم‬
‫يعيش في غيابات الماضي وال يعترف بحركة الزمن‪ ،‬والحقيقة التي يجب ألاَّ يعتريها‬
‫الشك هي أن السالم هبة طيبة لمصلحة الطرفين‪ ،‬وال أظن أن هذه الحقيقة تغيب عن‬
‫َ‬
‫إسرائيل‪ ،‬حتى ل ُي َخ َّي ُل َّ‬
‫إلي أحيانًا أنها تصطنع النفور منه لتداري رغبتها الشديدة فيه‪.‬‬

‫�ن يذكره ب�أن أي مفاوضات إنما‬


‫أم�ا الجان�ب العربي فال أظن�ه في حاجة إلى َم ْ‬
‫تبحث عن حل وس�ط‪ ،‬وأنه ال مفر من المرونة عبر الدفاع عن حقوقهم المش�روعة‪،‬‬
‫وأن المس�تقبل قد يحم�ل احتماالت كثيرة يض�ن بها الحاض�ر‪ ،‬وال يغيبن عنكم أن‬
‫ذوي اإلرادة ربما حققوا في السلم ما تعجز أي حرب عن تحقيقه‪ ،‬وال تنسوا في هذا‬
‫المجال َم َث َل ْى ألمانيا واليابان‪.‬‬

‫والعرب َك ُك ٍّل في حاجة إلى السالم‪ ،‬ال تقل عن حاجة دول المواجهة إليه‪ .‬يجب‬
‫أن تزول ِ‬
‫الع َّل ُة التي ُّ‬
‫يعتل بها كل طاغية أو متخلف في المنطقة‪ .‬نريد ش�ر ًقا َّ‬
‫عربيا بال‬
‫قضية معلقة تس�تنفد أمواله‪ ،‬وتهلك أرواح أبنائه‪ ،‬وتهب العذر تلو العذر الستبعاده‪.‬‬
‫‪197‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عربيا ال يغطي ص�وت المعركة على أص�وات بنيه ف�ي المطالبة بحقوق‬ ‫نري�د ش�ر ًقا ًّ‬
‫الح ْكم ِ‬
‫والع ْلمِ والثقافة‪ ،‬كما نطالب بمس�توى الحياة التي تس�تحق هذا‬ ‫اإلنس�ان في ُ‬
‫االسم‪.‬‬

‫في عقب السالم لن توجد معركة إلاَّ المعركة بين الطغيان والحرية‪ ،‬بين التخلف‬
‫والحضارة‪.‬‬

‫في أعقاب السالم تبدأ ملحمة البطوالت العربية الحديثة(((‪.‬‬

‫‪1992/1/23‬‬

‫((( يشير نجيب محفوظ هنا إلى اتفاق أوسلو‪( .‬المحرر)‬


‫‪198‬‬
‫العرب‬

‫طريق العدل‬

‫نحن نرفض اإلرهاب وندينه‪ .‬ال نُبرره ألي س�بب من األس�باب‪ .‬هذا هو موقفنا‬
‫من�ه أ ًيا كان مصدره‪ :‬جماعات سياس�ية‪ ،‬أو دينية‪ ،‬أو دولاً عربية‪ ،‬أو غير عربية‪ .‬وهو‬
‫كفيل بطرد من يثبت اتهامه به من الجماعة البشرية‪ ،‬واستحقاقه الجزاء العادل الذي‬
‫مناسبا إلزهاق أرواح األبرياء من النساء واألطفال والرجال‪.‬‬
‫ً‬ ‫يراه العالم‬

‫اط َل ْع َنا على نبأ االتهام الذي وجهته الواليات المتحدة إلى ليبيا‪ ،‬ومطالبتها‬
‫وكلنا َّ‬
‫بتسليم اثنين من المواطنين الليبيين لمحاكمتهما بتهمة إسقاط طائرة أمريكية بركابها‬
‫األبرياء في و «إسكتلندا»‪.‬‬

‫وم�ن ح�ق الوالي�ات المتحدة أن تتهم أي ف�رد أو هيئة إذا وج�دت من األدلة أو‬
‫الش�بهات م�ا يبرر االتهام‪ .‬أم�ا المطالبة بتس�ليم المتهمين إليه�ا لتحاكمهما فأمر لم‬
‫نسمع بمثله من قبل‪ ،‬فالمواطنون في كل دولة تحدد قوانين بالدهم ُطرق محاكمتهم‬
‫إذا ُو ِّج َه�ت إليه�م تهمة من التهم‪ ،‬وليس من بين تلك القوانين ما يس�مح بتس�ليمهم‬
‫إلى دولة أجنبية لتحاكمهم بنفسها‪.‬‬

‫من أجل ذلك دهش�نا لمطالبة الواليات المتحدة بما طالبت به‪ ،‬كما دهش�نا أكثر‬
‫إلصرارها عليه‪ ،‬وكما دهش�نا أكثر وأكثر لقرار مجلس األمن في ذلك الش�أن‪ ،‬حتى‬
‫المتابع لألنباء‪.‬‬ ‫َ‬
‫تفاصيل غائبة عن ُ‬ ‫ُخ ِّي َل إلينا أن هناك‬

‫‪199‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وف�ي مقاب�ل ذلك نج�د موقف ليبي�ا غاية في الوض�وح‪ ،‬والرغبة ف�ي إيجاد حل‬
‫للمش�كلة بعيدً ا عن االس�تفزاز‪ ،‬وفي إطار الش�رعية الدولية والع�دل‪ .‬إنها لم تُمانع‬
‫في المحاكمة وال في تسليم المتهمين‪ ،‬على أن يتم ذلك في رحاب محققين وقضاة‬
‫محايدين‪ ،‬كيال يكون الخصم هو الحكم‪.‬‬
‫ِ‬
‫معرف�ة الحقيق�ة وت ََح ُّم ِل‬ ‫جدا‪ ،‬تن�م عن رغب�ة حقيقية في‬
‫وتل�ك اس�تجابة مرن�ة ًّ‬
‫المسئولية‪ ،‬ولعلها ً‬
‫أيضا ال تخلو من ثقة بالنفس وشعور بالبراءة‪.‬‬

‫وحت�ى كتابة هذه الس�طور نحن ال ندري َع َّم س�ينجلي الموقف‪ ،‬وكل ما نرجوه‬
‫الم َبشِّ َ�رة بعالم‬
‫أن يغلب صوت العقل والعدل‪ ،‬وأن يتوافق الحل النهائي مع اآلمال ُ‬
‫معا‪.‬‬
‫جديد حقًّا‪ ،‬حتى ال نخسر العدل واألمل ً‬
‫‪1992/2/6‬‬

‫‪200‬‬
‫العرب‬

‫كيف نحافظ على هويتنا؟‬

‫س�ألني س�ائل‪ :‬كيف نحافظ على هويتنا؟ وهو س�ؤال يجيء ف�ي وقته ألكثر من‬
‫س�بب‪ .‬من هذه األس�باب‪ ،‬ما يدور ف�ي وطننا من َجدَ ل ح�ول األصالة والمعاصرة‪،‬‬
‫ومنه�ا اتجاه العالم نحو التواصل بش�تى الوس�ائل التي ألغت الزم�ن والحدود‪ ،‬مما‬
‫جعل الفرد ريشة في مهب رياح من اآلراء والمعتقدات والثقافات‪.‬‬
‫ونح�ن نُولد فتنش�أ معنا هويتن�ا‪ ،‬وتأخذ في النمو من خالل األس�رة والمدرس�ة‬
‫س�دا لخلصت لنا‬‫والمجتمع والثقافة‪ ،‬ولو تخيلنا أنه يمكن أن نقيم بيننا وبين العالم ًّ‬
‫وخ َّل َف َنا وراءه َأ ًثرا من اآلثار هوية منه‪ ،‬فيها‬ ‫تل�ك الهوية في راحة بال‪ ،‬و َل َ‬
‫جرى الزمن َ‬
‫القليل مما يصلح لكل زمن‪ ،‬والكثير مما تجاوزه الزمن‪.‬‬
‫ولذل�ك فإن الس�ؤال الحق لي�س هو‪« :‬كيف نحاف�ظ على هويتن�ا؟» ولكنه هو‪:‬‬
‫«كي�ف نُث�ري هويتن�ا ببدائع الزم�ن دون أن نفقد م�ن هويتنا األصلية م�ا يصلح لكل‬
‫زم�ن؟ وكي�ف ندمجه ف�ي ذاتنا بحي�ث َي ْن ُتج ع�ن الزواج بي�ن االثني�ن ٌّ‬
‫كل ُم َو َّحدٌ ال‬
‫تناق�ض فيه وال اضطراب‪ ،‬بحيث يمكن أن نطلق عليه بحق اس�م هويتنا الجديدة؟»‬
‫وال عي�ب أن تك�ون لنا هوية جديدة في النطاق المش�ار إليه‪ ،‬بل ال عيب أن يكون لنا‬
‫في كل عصر هوية تناسبه‪ ،‬وما العيب إلاَّ أنْ نتخلف عن العصر فنصبح من ذكريات‬
‫التاريخ التي ال َي َه ُب لها مكانًا إلاَّ في متاحفه‪.‬‬
‫وطري�ق ذل�ك أن نجعل من التفكير فريضة‪ ،‬ومن الكس�ل معصية‪ ،‬فمن َ‬
‫الك َس ِ‬
‫�ل‬
‫َأنْ تبقى على عادة أو تقليد أو فكرة َ‬
‫آن لها أن تتطور أو تتغير‪ ،‬ومن الكس�ل أنْ تضن‬

‫‪201‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بتفكي�رك واختي�ارك ونقدك لما يع�رض لك من آراء ونظريات وس�لوكيات قد تجد‬


‫فيها الخير كل الخير‪ ،‬أو التقدم كل التقدم‪ ،‬والحضارة الحقيقية ما هي إلاَّ اس�تيعاب‬
‫وأ ْخ�ذ واختي�ار وعطاء‪ .‬ويت�م ذلك في حركة دائمة‪ ،‬وفي ش�جاعة فائق�ة‪ ،‬وفي لقاء‬ ‫َ‬
‫إنساني شامل‪ ،‬والويل كل الويل لمن يتوقف عن الحركة‪.‬‬

‫‪1992/2/11‬‬

‫‪202‬‬
‫العرب‬

‫رؤية للطريق العربي الجديد‬


‫(((‬

‫أرجو أن يتفرغ العرب في أقرب وقت ممكن لتقرير مصيرهم في الحياة بما تعنيه‬
‫م�ن رؤي�ة حديثة في الفكر والعمل‪ ،‬يجب أن يعيش�وا عصرهم كم�ا يجدر بأمة ذات‬
‫م�اض مجيد‪ُ ،‬أ َّمة مصممة على أن يكون مس�تقبلها مثل ماضيه�ا عزة وتقد ًما؛ لذلك‬
‫ٍ‬
‫يج�ب أن ننج�ح أولاً في تخط�ي همومنا الراهنة بعد تس�ويتها بما يضم�ن لنا التفرغ‬
‫سريعا‪ ،‬وبالدرجة‬
‫ً‬ ‫للقضايا األهم‪ ،‬القضايا المصيرية المستقبلية‪ ،‬ويجب أن يتم ذلك‬
‫التي تهم قو ًما يؤرقهم التآخي‪ ،‬ويشغلهم حقل التقدم والحضارة‪ ،‬فال يجوز أن تطول‬
‫أو تتعقد المش�كلة الليبية‪ ،‬وال أن يتأخر تاريخ استئناف العراق لمسيرة البناء‪ ،‬وال أن‬
‫تظ�ل مش�كالت الحدود معلق�ة ومثيرة للفتن‪ .‬ق�د يعد أناس حل تلك المش�كالت‬
‫خطيرا‪ ،‬على حين أنه في نظري ليس إلاَّ تنقية المناخ‬
‫ً‬ ‫هد ًف�ا ً‬
‫كبيرا‪ ،‬وإنجازً ا ‪-‬إذا ت�م‪-‬‬
‫لخ ْلق نهضة ش�املة‪ ،‬ولكن ما أبعاد‬
‫العربي من الش�وائب‪ ،‬تمهيدً ا للتعاون المخطط َ‬
‫تلك النهضة الشاملة؟‬
‫هن�اك ُبعدٌ ثقافي يجب أن يب�دأ بإحدَ ِ‬
‫اث ثورة في التربي�ة والتعليم‪ ،‬يكون هدفها‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫خلق مواطن يجمع بين قيمه الخالدة والتوجه العصري في العلم وتطبيقاته‪ ،‬والتأهب‬
‫للعمل في الحياة المعاصرة بكل متطلباتها‪ ،‬مع تربية العقول تربية حرة تنشد األصالة‬
‫والتحرر واالستقالل واإلبداع‪.‬‬

‫)‪ (1‬عنوان هذا المقال األصلي هو «الطريق العربي» وهو تكرار لعنوان س�ابق وتم تغيير‬
‫إلى ما هو عليه اآلن (المحرر)‬
‫‪203‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وهناك ُبعد اقتصادي لتحقيق التكامل بين البالد العربية من المحيط إلى الخليج‪،‬‬
‫به�دف تحقي�ق ثورة زراعي�ة‪ ،‬وخلق قاع�دة صناعي�ة‪ ،‬والتعايش م�ع العصر بروحه‬
‫وأس�اليبه‪ ،‬والتع�اون مع العالم باعتبارنا ُأ َّمة كبيرة ق�ادرة على العطاء مقابل ما تأخذ‪،‬‬
‫وأنه ال ُي ْس َتغْ نى عنها كعضو نافع في األسرة البشرية‪.‬‬

‫الب ْعدَ ْي ِن يتش�كل نوع من الوحدة السياسية التي تُناسب البالد‪،‬‬


‫وعن طريق هذين ُ‬
‫بعيدً ا عن أية حساسية‪ ،‬أو ا ِّدعاء للزعامة‪ ،‬أو إثارة ُ‬
‫للفرقة والمنافسة‪.‬‬

‫إنَّ َأ َّي ي�وم َم َّ�ر دون تحقيق جزئية من ذلك الحل�م يجب أنْ ُيعد مفقو ًدا من حياة‬
‫العرب‪.‬‬

‫‪1992/4/30‬‬

‫‪204‬‬
‫العرب‬

‫حركة مباركة‬

‫االنتخابات الكويتية َحدَ ٌث تاريخي كبير‪ ،‬وهو يكتسب خطورته وأهميته لوقوعه‬
‫ف�ي المنطقة العربي�ة‪ ،‬وكأنه ثورة على تقاليدها السياس�ية‪ .‬الحديث بكل بس�اطة أنه‬
‫جرت انتخاب�ات بين المعارضة وأنصار الحكومة‪ ،‬ففازت المعارضة فوزً ا س�احقًا‪،‬‬
‫ت الوزارة الجديدة‬ ‫وش ِّك َل ِ‬
‫وانهزمت الحكومة هزيمة ساحقة‪ ،‬واعترف بهذه النتيجة‪ُ ،‬‬
‫عل�ى أساس�ها‪ ،‬بذلك بدأت الكوي�ت مس�يرتها الديمقراطية الجديدة بكل ش�جاعة‬
‫وتفاع�ل م�ع العص�ر والعالم الجدي�د‪ ،‬ولم تتردد ف�ي االعتراف بالواق�ع برغم غلبة‬
‫التيار اإلسالمي عليه‪ ،‬مقررة أن تمضي إلى مصيرها من خالل واقعها‪ ،‬ودون خوف‬
‫م�ن متطلبات الحياة‪ ،‬وقد ذكرني ذلك بأول انتخابات لنا عام ‪ ،1924‬والتي خاضها‬
‫الش�عب في أعقاب ثورة ‪ ،1919‬وقبل أن ُيوجد من بين َبنِيه َم ْن تس�ول له نفسه تزوير‬
‫أجرى تلك االنتخابات قد‬ ‫اآلراء‪ ،‬واختلاس الثقة الكاذبة‪ ،‬أن رئيس ال�وزراء الذي ْ‬
‫سقط فيها أمام فرد من الشعب‪ ،‬وتذكرت ‪-‬والحسرة تملؤني‪ -‬أننا لم نظفر بعد ذلك‬
‫بانتخابات حرة إلاَّ لحظات عابرة من حياتنا المملوءة بالطغيان‪.‬‬

‫وذل�ك الموقف الكويتي يوجب علينا أن نوجه الش�كر والثناء إلى دولة الكويت‬
‫على سلوكها الحضاري وسبقها إلى تلبية نداء العصر‪.‬‬

‫ونثني بكل حرارة على شعب الكويت الذي هرعت أغلبيته الساحقة إلى صناديق‬
‫االنتخاب معلنة بذلك عن إيجابيتها وانتمائها والتزامها بالواجب الوطني‪ ،‬كما نحيي‬
‫ُّ‬
‫والترشح‪ .‬وبعد‪،‬‬ ‫ظاهرات من نساء الكويت الالتي طالبن بحقهن في التصويت‬ ‫الم َت ِ‬
‫ُ‬
‫‪205‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نجاحا‬
‫ً‬ ‫فإننا سنتابع حكومة الكويت ومجلسها النيابي بالثقة واالهتمام‪ ،‬ونرجو لهما‬
‫مثمرا في خدمة الكويت والقضايا العربية‪ ،‬فإن نجاح هذه التجربة يتطلع إليه‬
‫وتعاونًا ً‬
‫جميع األحرار في العالم العربي‪.‬‬

‫‪1992/10/22‬‬

‫‪206‬‬
‫العرب‬

‫الحرب والشرعية الدولية‬

‫الضرب�ة التأديبي�ة األخي�رة للعراق تثير جملة م�ن األفكار المتضارب�ة‪ ،‬ولم يكن‬
‫األم�ر كذل�ك حيال الح�رب األولى الخاصة بتحري�ر الكويت‪ .‬ف�ي الحرب األولى‬
‫انقس�م الع�رب إلى فريقي�ن‪ :‬فريق يدي�ن الغزو ويؤيد ق�رار مجلس األم�ن‪ ،‬ويتطلع‬
‫إل�ى مول�د عال�م جديد‪ .‬وفري�ق يؤيد الق�رار العراقي ويس�تنكر ويتهم ق�رار مجلس‬
‫عربي ُم ْس َ�ت َق ًّرا في موقفه من األح�داث‪ .‬حقًّا إنه ضد االعتداء‬
‫األم�ن‪ .‬اليوم ال يوجد ٌ‬
‫عل�ى ا لكويت‪ ،‬وضد العبث بش�روط الهدنة‪ ،‬ولعله يقر الضرب�ة التأديبية‪ ،‬ولكن مع‬
‫تحفظات وتس�اؤالت‪ .‬فمجل�س األمن ال يحافظ عل�ى كرامة قرارات�ه الدولية بقوة‬
‫تقريبا‪،‬‬
‫واحدة‪ ،‬وال بحزم واحد‪ ،‬وقد اس�تهانت بقراراته ثلاث دول في وقت واحد ً‬
‫َف َعا َم َل ِّ‬
‫الص ْر َب وإسرائيل باللطف‪ ،‬ولم يتجاوز معهما العتاب‪ ،‬ولكنه مع العراق كان‬
‫مثلاً من أمثلة َ‬
‫الحزم‪ ،‬والعمل في ناحية الحفاظ على الشرعية الدولية‪ ،‬وفي األخرى‬
‫موق�ف يذكرن�ا بالعالم القديم وسياس�اته القائمة على المصال�ح والتآمر‪ .‬ال نريد أن‬
‫تتالش�ى آمالنا في انتظار العالم الجديد‪ .‬ال نريد أن يتبدد حلم الش�رعية الدولية بعد‬
‫أن أفعم ماليين القلوب بالتفاؤل‪.‬‬

‫وثم�ة اختب�ارات أمام الش�رعية الدولية‪ ،‬يتوق�ف بقاؤها على النج�اح في حلها‪،‬‬
‫هي‪:‬‬

‫الم ْب َعدُ ون الفلسطينيون‪.‬‬


‫‪ُ -1‬‬

‫‪207‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -2‬البوسنة‪.‬‬

‫‪ -3‬تطهير العالم من أسلحة الدمار الشامل دون استثناء أو تهاون‪.‬‬

‫وعل�ى أية حال س�ندرك حقيق�ة نيات مجلس األمن‪ ،‬س�واء وافقن�اه عليها أم لم‬
‫نوافقه‪.‬‬

‫ار الناس‬
‫مستعصيا على الفهم فهو «صدام حسين»‪ ،‬لقد َح َ‬
‫ً‬ ‫أما اللغز الذي سيبقى‬
‫ف�ي فهم تصرفاته‪ ،‬وذه�ب بهم الظن كل مذهب‪ .‬والحق أن مرجع تلك الحيرة يقوم‬
‫عل�ى ف�رض أنه حاكم وط�ن‪ ،‬وأنه يحوز عل�ى األقل الحد األدنى م�ن ُقدرة الحاكم‬
‫وخبرت�ه‪ .‬ولكن�ي ل�م أعد أؤم�ن بذل�ك‪ ،‬فصدام حس�ين و َم ْن ه�م على ش�اكلته قد‬
‫يملك�ون المهارة لالس�تيالء على الس�لطة إذا ملك�وا القوة الالزم�ة‪ ،‬ويتربعون على‬
‫وح ْم�ل األمان�ة‪ ،‬من أجل‬
‫كرس�ي الس�لطان بال مؤهلات حقيقي�ة تؤهله�م للعمل َ‬
‫ذل�ك تصدر منهم ألوان من الس�لوك غي�ر المعقول الذي ال يص�در إلاَّ عن الحمقى‬
‫والمجانين‪ .‬ويحار الناس في التفس�ير ألنهم يتصورون فيهم الحنكة والحكمة‪ ،‬وما‬
‫ه�ي في الحقيقة إلاَّ أفعال منحرفة تدفعها حس�ابات خاطئة‪ ،‬تصدر عن ٍ‬
‫عقل أجوف‬
‫ومستبد‪.‬‬

‫‪1993/1/19‬‬

‫‪208‬‬
‫العرب‬

‫مصر والسودان‬

‫إني من جيل ْاع َتبر مصر والس�ودان وط ًنا ِ‬


‫واحدً ا‪ ،‬فمصر هي الس�ودان الشمالي‪،‬‬ ‫َ‬
‫والسودان هو مصر الجنوبية‪ .‬وكلمتا مصر والسودان استقرتا في وجداني ككلمة أو‬
‫كلمتي�ن متكاملتي�ن‪ ،‬كما نقول الليل والنهار‪ ،‬أو خط�وط الطول والعرض‪ .‬من أجل‬
‫ذلك جاء الخالف على الحدود صدمة واحدة قاسية‪ ،‬ثم كانت شكوى السودان إلى‬
‫مجلس األمن أقسى وأفظع‪.‬‬

‫ولعل أول س�ؤال طرأ على ذهني هو‪ :‬كيف لم تختم المفاوضات بين الشقيقتين‬
‫بالتوفيق؟‪ .‬أما الس�ؤال الثاني فهو‪ :‬إذا خان التوفيق الشقيقتين فأين الجامعة العربية؟‬
‫أليس المعقول أن تكون الجامعة أول من يحتكم إليها أعضاؤها؟‪ .‬على األستاذ أمين‬
‫وحب للعرب والعروبة‪.‬‬ ‫الجامع�ة أن يدرس تلك الحال بما ُع� ِر َف عنه من مقدرة ُ‬
‫(((‬

‫دائما أن يكون للجامعة وزن في نظر العالمي�ن‪ ،‬ولكن البد أن يكون لها‬
‫نح�ن نأم�ل ً‬
‫أضع�اف ذل�ك الوزن في نظ�ر أبنائها‪ .‬ولعل ذل�ك يجعلنا نفكر من جديد في إنش�اء‬

‫((( أمي�ن ع�ام الجامعة العربية ف�ي ذلك الوقت هو‪ :‬د‪ .‬أحمد عصم�ت عبد المجيد هو‬
‫خامس من تولوا منصب أمين عام جامعة الدول العربية‪ .‬وهو سياس�ي ودبلوماس�ي‬
‫كبير تم تكريمه في أكثر من محفل بس�بب مشاركته في عمليات التفاوض بين مصر‬
‫وأكث�ر من دولة كبرى عقب الح�روب المختلفة التي خاضته�ا مصر‪ .‬ولد عصمت‬
‫عبدالمجي�د ع�ام ‪1923‬م‪ ،‬وتوفاه الله عام ‪2013‬م‪ ،‬حيث تول�ى منصب األمين العام‬
‫للجامعة عام ‪1991‬م وحتى عام ‪( .2001‬المحرر)‬
‫‪209‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫محكم�ة ع�دل عربية ليكون له�ا الرأي الفاصل فيما ينش�ب من خلاف بين دولتين‬
‫عربيتين أو أكثر‪.‬‬

‫عالما جديدً ا‪ ،‬ومن أتعس الفروض أن نواجهه كدول منفصلة‪،‬‬ ‫نحن اليوم نواجه ً‬
‫أو ‪-‬وه�و الأَ ْد َه�ى واأل َم ُّر‪ -‬كدول متنازعة بس�بب الحدود أو غيره�ا‪ .‬وأعتقد أنَّ ما‬
‫نتفق فيه من تعاون اقتصادي وثقافي وسياس�ي أهم وأكثر مما نختلف بش�أنه‪ ،‬فلماذا‬
‫ال نعتمد على ما نتفق فيه‪ ،‬ونؤجل الخالفات لتبادل الرأي بين اإلخوة وللزمن؟‬

‫وفي كلمة أخيرة‪ :‬إِنَّ التاريخ لن يغفر ألي مواطن ‪-‬من مواطني مصر والسودان‪-‬‬
‫بوسعه أن يصلح بين الطرفين ويتهاون في ذلك‪.‬‬

‫‪1993/1/26‬‬

‫‪210‬‬
‫العرب‬

‫العرب في عالم الغد‬

‫عالم جديد يتش�كل س�اعة بعد أخرى‪ ،‬وقد ُيس�فر في الغد القريب عن تكتالت‬
‫اقتصادي�ة عمالق�ة‪ ،‬كم�ا يح�دث بين األم�م األوربية‪ ،‬وكم�ا يحدث بي�ن الواليات‬
‫المتح�دة وكندا والمكس�يك‪ .‬وقد تنش�أ تكتلات جديدة‪ ،‬بل حتى األم�م التي تنزع‬
‫الي�وم نحو التحرر واالنفصال قد ترى من الحكمة ف�ي القريب العاجل أن تعود إلى‬
‫تكتالتها بأس�لوب جدي�د‪ ،‬أو تنضم إلى تكتل من التكتلات القائمة‪ ،‬إذا ما وجدت‬
‫ذلك محققًا لمصلحتها على وجه أفضل‪.‬‬

‫أعتق�د أن ذل�ك ال يغيب عن الفكر العربي‪ ،‬وال يغيب عن الجامعة العربية‪ .‬وثمة‬
‫صورتان يمكن تخيلهما لحياة األمم العربية‪:‬‬

‫األول�ى‪ -‬وه�ي الحلم‪ -‬أن تترابط جمي�ع األوطان العربية ف�ي تكامل اقتصادي‬
‫أساس�ا لنهضة تعاونية في‬
‫ً‬ ‫كبير يجعل منها وحدة اقتصادية ذات ش�أن‪ ،‬ويكون ذلك‬
‫الثقاف�ة والبح�ث العلمي‪ ،‬وإيذانً�ا بدخول العروب�ة العصر الحدي�ث‪ ،‬حاملة جميع‬
‫أساس�ا عل�ى االقتصاد والعلم‪ ،‬باإلضافة إلى القيم الس�امية التي‬
‫ً‬ ‫مؤهالته التي تقوم‬
‫تستمدها من تراثها المجيد‪.‬‬

‫دفاعا ع�ن وجودنا وحياتنا‬


‫ه�ذه هي الصورة التي يج�ب أن نعمل على تحقيقها ً‬
‫وكرامتن�ا‪ ،‬والتي يجب أن نزيل من س�بيلها جميع المعوقات والس�لبيات التي تؤخر‬
‫تحققها أو تؤجله‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الثاني�ة ‪-‬أعن�ي الص�ورة الثاني�ة‪ -‬الواق�ع المؤس�ف ال�ذي يق�وم عل�ى التم�زق‬
‫والخالف�ات وم�رارة الذكريات المؤلمة‪ .‬إنها صورة ش�ديدة االنفع�ال‪ ،‬وانفعاالتها‬
‫تدعو للخصومة والنفور والتمزق‪.‬‬

‫ومصيرن�ا س�يتقرر نتيجة للصراع بي�ن العقل وما ينادي ب�ه‪ ،‬واالنفعال وما يدعو‬
‫إليه‪.‬‬

‫وق�د يكون م�ن الحكمة أن نب�دأ التعاون والتكام�ل بين األوط�ان التي ال يوجد‬
‫تناق�ض بينه�ا‪ ،‬أو الت�ي تس�تطيع أن تمح�ق تناقضاته�ا وتحل مش�كالتها وتتناس�ى‬
‫ذكرياتها المرة‪.‬‬

‫داعيا‬
‫يجب أن نبدأ ولو بوطنين أو ثالثة أو أربعة‪ .‬إن نجاح التعاون بينها سيكون ً‬
‫لآلخرين لالنضمام واالقتناع بصوت العقل وحكمته‪.‬‬

‫‪1993/3/19‬‬

‫‪212‬‬
‫العرب‬

‫مراجعة شاملة‬

‫راضيا عن يومه ومؤملاً‬


‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫قلبا مطمئ ًنا هذه األيام‪ .‬يندر أن تجد‬
‫يندر أن تجد ً‬
‫خيرا في غده‪ .‬وقد صدمنا اإلرهاب وال شك‪ ،‬ولكنه ليس مشكلتنا الوحيدة‪ .‬وهناك‬
‫ً‬
‫رغبة صادقة في إعادة النظر في كل ش�يء‪ ،‬وهي ناش�ئة عن إحساس بأن أشياء كثيرة‬
‫قد تجاوزها الزمن وأفرغها من أي مضمون‪ ،‬نعم ليس اإلرهاب بمشكلتنا الوحيدة‪،‬‬
‫قائما ح�ول اإلصالح السياس�ي‪،‬‬
‫فعل�ى س�بيل المث�ال ال الحصر‪ :‬م�ازال الخلاف ً‬
‫واإلصلاح االقتصادي‪ ،‬ومازال كثيرون يفس�رون تعثر اإلصالح االقتصادي بنقص‬
‫في الجوانب السياسية‪.‬‬
‫هل نستطيع أن نحرر االقتصاد ٍ‬
‫بأيد تربت ونمت وازهرت في الشمولية؟ ونطالب‬
‫باالس�تثمار وتش�جيعه في الوقت الذي ترتفع فيه الش�كوى من عراقيل التزال قائمة‬
‫ٍ‬
‫لزمن َم َضى‪َّ ،‬أما زماننا الحاضر‬ ‫في سبيل االستثمار‪ ،‬باإلضافة إلى أن دستورنا ُو ِض َع‬
‫فال دستور له‪.‬‬

‫وعالمن�ا الخارجي لم يعد بالصفاء الذي كانه‪ ،‬الوف�اق العربي يحتاج إلى ترميم‬
‫طوي�ل أو إع�ادة بن�اء‪ .‬وما حصل من توتر ف�ي العالقات بين مصر والس�ودان‪ ،‬وبين‬
‫مصر وإيران يحتاج إلى حكمة ثاقبة ومسا ٍع حميدة‪.‬‬

‫نحن في حاجة إلى إعادة نظر في كل شيء‪ :‬إلى قراءة الواقع قراءة صحيحة‪ ،‬إلى‬
‫مواجهة الحقائق بشجاعة‪ ،‬إلى بناء سفينة تصلح لمواجهة أي طوفان‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وثم�ة ب�وادر تدع�و لألمل‪ ،‬فأقلام رصين�ة تحبذ التغيي�ر‪ ،‬وأخ�رى تتحدث عن‬
‫ائتالف‪ ،‬وثالثة عن حوار ووس�اطة رش�يدة‪ ،‬هذه بشائر تس�ر‪ ،‬نرجو لها التوفيق‪ ،‬وأن‬
‫تتس�ع لتش�مل كل ش�يء‪ ،‬وأن تفس�ح المجال أم�ام المخلصين من أبن�اء هذه األمة‬
‫أس َمى المبادئ الخالدة‪ ،‬وأحدث أساليب العصر‪.‬‬
‫ليبدءوا نهضة حقيقية تجمع بين ْ‬
‫‪1993/4/29‬‬

‫‪214‬‬
‫العرب‬

‫ثمن السالم‬

‫عندم�ا يرد ذك�ر منطقتن�ا العربية على مس�توى العالم يرد في حال�ة من األحكام‬
‫المتناقض�ة‪ :‬فه�ي منطقة م�ن العالم الثالث‪ ،‬متأخ�رة حقًّا‪ ،‬ولكنها مس�تودع لثروات‬
‫ضخم�ة‪ ،‬وتجمع ش�عوبها بين قومية واح�دة‪ ،‬وخالفات كثيرة تثير م�ن العداوة ماال‬
‫يكون إلاَّ بين القوميات المتناحرة‪ .‬وهي تاريخ يجمع في غضونه بين أكبر فلس�فات‬
‫السلام واإلخاء البش�ري‪ ،‬وبين س�عيه الحثيث ليكون اليوم مخزنًا للرءوس النووية‬
‫عالميا فهي في‬
‫ًّ‬ ‫والمبيدات البيولوجية‪ .‬وبرغم أن نسبة األمية بها ت َُعد من أكبر النسب‬
‫مقدمة مناطق العالم إنفا ًقا على التسلح واقتناء أجهزة الهالك‪.‬‬

‫غريب�ا أن تكون منطقتن�ا أول هدف استكش�افي لوزي�ر خارجية‬


‫لذل�ك ل�م يكن ً‬
‫الوالي�ات المتح�دة‪ ،‬وأن ُيق�ال ع�ن رحلت�ه إنها كانت من أجل السلام واس�تطالع‬
‫الم ْب َع ِدين باعتبارها أكبر عائق يعترض‬
‫مواقف األطراف المتنازعة منه‪ ،‬وبحث قضية ُ‬
‫مجرى المفاوضات اليوم‪.‬‬
‫وإن�ه لمن ُح ْس ِ‬
‫�ن الطال�ع أن تواص�ل اإلدارة األمريكية اهتمامها بقضية السلام‬
‫الم ْع َلن على الش�ئون الداخلية‪ّ ،‬أما من ناحيتنا فالسالم يجب أن يكون‬
‫برغم تركيزها ُ‬
‫في مقدمة اهتماماتنا الخارجية‪ ،‬ولن يقل عن ذلك بالنسبة الهتماماتنا الداخلية‪ ،‬فهو‬
‫ض�رورة للتنمية التي هي ش�غلنا الش�اغل‪ ،‬وال يختلف األمر بالنس�بة لتنمية المنطقة‬
‫ككل‪ .‬يج�ب أن نتفرغ للتنمية اإلقليمية‪ ،‬وتس�وية الخالف�ات العربية‪ ،‬واالندفاع في‬
‫تحقيق التكامل االقتصادي الذي يمثل التنمية الشاملة للمنطقة كلها‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الم ْب َع ِدين ال�ذي يرضيهم بصفة‬


‫لذل�ك نرج�و أن يوجد الحل المناس�ب لقضي�ة ُ‬
‫خاص�ة‪ ،‬ويرض�ي الع�رب بصفة عام�ة‪ .‬يجب أن يوجد ه�ذا الحل لنب�دأ مفاوضات‬
‫السلام في أقرب فرصة‪ .‬السلام ضرورة ال بديل لها وال تأجيل‪ .‬وقوانين الحياة ال‬
‫ترحم المترددين‪.‬‬

‫‪1993/5/12‬‬

‫‪216‬‬
‫العرب‬

‫ما يليق وما ال يليق‬

‫م�اذا تقول في أمة تملك جميع وس�ائل نش�ر النور‪ ،‬في حي�ن تتخبط أغلبيتها في‬
‫الظالم؟ أول ما يتبادر إلى الذهن أنها تسيء أو تهمل استعمال وسائل النشر‪ ،‬أو على‬
‫الم ْث َل�ى للتعامل معها‪ .‬وقد تس�يء الظن فترمي‬
‫أبس�ط الف�روض أنها تجه�ل الكيفية ُ‬
‫المس�ئولين عن تلك الوسائل بالجهل‪ ،‬وربما زادت فرصتهم بسوء النية‪ ،‬وقد تغالي‬
‫فال تعفيهم من التآمر‪.‬‬

‫وإلاَّ فعليك أن تفس�ر لي كيف نملك ذلك العدد الوفير من المدارس والمعاهد‪،‬‬
‫والجامع�ات‪ ،‬والمس�اجد‪ ،‬والكنائ�س‪ ،‬والصح�ف‪ ،‬والمجالت‪ ،‬وقص�ور الثقافة‪،‬‬
‫والمكتب�ات‪ ،‬كي�ف نمل�ك ذلك كله ويخل�و ضمير واح�د من ماء اإليم�ان الصافي‬
‫ذوق من اإلحساس بالجمال‬ ‫النقي؟ أو يخلو عقل من نور العلم والتفكير؟ أو يخلو ٌ‬
‫في أروع أش�كاله وأنواعه؟ بل فسر لي كيف نملك ذلك الثراء كله في وسائل التربية‬
‫والتعليم والتهذيب‪ ،‬ويش�يع في أغلبيتن�ا الخرافات والترهات والجهل‪ ،‬واالنحراف‬
‫والعكوف على السفاسف واألكاذيب؟!‬

‫ال أخ�وض ف�ي التفاصيل والش�واهد‪ ،‬فقد س�معت وال ش�ك عن الكثي�ر منها‪،‬‬
‫الر َوا ُة ببعض غرائبها‪ .‬لن أخوض في ذلك‪ ،‬ولكني‬
‫وق�رأت بعض مضحكاتها‪ ،‬ون ََّو َه ُّ‬
‫س�ألخص موقفنا الذي يدعو لألس�ف في كلمات‪ ،‬وهي‪ :‬أننا نمر بفترة عسيرة‪ ،‬حتى‬
‫بالبلاَ دة‪.‬‬
‫لتبدو أرواحنا مهددة بالكدر‪ ،‬وعقولنا غارقة في العتمة‪ ،‬وأذواقنا مخدرة َ‬

‫‪217‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ِ‬
‫الئ�ق ونحن نملك ذل�ك الكم الوفير من وس�ائل نش�ر‬ ‫إن ذل�ك غي�ر جائ�ز وال‬
‫النور‪.‬‬
‫‪1993/9/9‬‬

‫‪218‬‬
‫العرب‬

‫نحو حياة جديدة‬

‫ال مغ�االة ف�ي التفاؤل لمن يص�دق اليوم أننا مقبلون على دخول مرحلة السلام‬
‫الش�امل العادل‪ ،‬وهي مرحلة طالما تاق إليها كثيرون من أهل هذه المنطقة‪ ،‬كثيرون‬
‫مم�ن أدركوا أبعاد المأس�اة التي تخبطت فيها‪ ،‬وهالهم ما عان�اه أهلها من تضحيات‬
‫مادية وأدبية وحضارية بذلوها وهم يشقون َم ِس َير ًة عسيرة في سبيل عقيم‪.‬‬

‫اليوم يعلو صوت العقل‪ ،‬وتحترم مقتضيات الواقع‪ ،‬فيتم االعتراف المتبادل بين‬
‫الفلسطينيين واإلسرائيليين‪ ،‬وتتوالى الدفعات نحو تحقيق السالم الحقيقي‪.‬‬

‫رضا ش�املاً ‪ ،‬ف�إن َت َن ُ‬


‫اح َر ما يقرب من‬ ‫وال أقول إن ذلك َس َ�ي ْل َقى موافقة كاملة أو ً‬
‫نصف قرن من الزمان ال يمكن أن ينتهي بمثل تلك النهاية السعيدة‪.‬‬

‫في الجانبين العربي واإلس�رائيلي خليط م�ن المعتدلين والمتطرفين‪ ،‬واليمينيين‬


‫واليس�اريين‪ ،‬فلا مف�ر من االختلاف‪ ،‬وال مه�رب من التناق�ض‪ ،‬ولك�ن المهم أن‬
‫رك للزمن‪ ،‬فهو الكفيل بالكش�ف عن حس�نات‬ ‫والبقي�ة ُت َت ُ‬
‫ُ‬ ‫ت َْرض�ى األغلبي�ة وتوافق‪،‬‬
‫االتف�اق ومميزاته‪ ،‬مم�ا قد يقنع المخالفي�ن ويجذبهم إلى صفه‪ .‬وإن�ي أعتبر الزمن‬
‫ه�و المف�اوض األخير ال�ذي س�يقول الكلمة التاريخي�ة الفاصلة‪ .‬ويج�ب أن يكون‬
‫مفهو ًما أن السالم الحقيقي يبدأ مع المعاملة‪ ،‬كما يتمثل في حوار الحضارتين ولقاء‬
‫الثقافتين‪ ،‬والتعاون االقتصادي والعلمي‪ ،‬وقد يهيئ ذلك للمنطقة من النمو والتقدم‬
‫ما هي جديرة به‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وعلى جميع الدول العربية ‪-‬مهما تكن مواقفها من االتفاقات الجديدة‪ -‬أن تعيد‬
‫النظ�ر في حياته�ا بنفس العقل والواقعية‪ ،‬وأن تجدد سياس�تها عل�ى ضوء متطلبات‬
‫المنطقة الجديدة‪ ،‬ومبادئ العالم الجديد‪.‬‬

‫‪1993/10/14‬‬

‫‪220‬‬
‫العرب‬

‫من الفدائية إلى العقلية‬

‫تم�ر النهض�ة العربي�ة الحديث�ة بمرحلتي�ن‪ :‬مرحل�ة التحري�ر ومرحل�ة ا لبن�اء‪،‬‬


‫والمرحلت�ان متداخلت�ان غي�ر منفصلتي�ن‪ ،‬فقد ب�دأ البناء ف�ي مرحل�ة التحرير‪ ،‬كما‬
‫أن مرحل�ة البن�اء ال تخلو من رواس�ب من مرحل�ة التحرير لم تتم تصفيته�ا‪ .‬و ُن ْل ِقي‬
‫ش�ي ًئا من الضوء فنقول‪ :‬إن فترة التحرير تش�مل التحرير من االس�تعمار واالستعباد‬
‫الداخلي‪ ،‬واألفكار والتقاليد التي تجاوزَ ها الزمن‪.‬‬

‫وفترة البناء تش�مل اإلبداع الحضاري في ش�تى ألوانه‪ ،‬من صناعة وزراعة وعلم‬
‫وثقاف�ة‪ ،‬وبصف�ة عامة أثب�ت العربي أن�ه على المس�توى المطلوب إلنج�از المهمة‬
‫األول�ى‪ .‬قام بثورات كثيرة سياس�ية واجتماعي�ة وفكرية‪ ،‬وقدم الش�هداء والضحايا‬
‫وتح َّم َل القهر والعس�ف‪ ،‬وصار الفدائي العربي عنوانًا لتلك المرحلة‬
‫بغير حس�اب‪َ ،‬‬
‫وح َم َل لواء تل�ك الصفة النبيلة‬
‫البطولية‪ ،‬وتجس�دت في�ه التضحية بأجلى معانيه�ا‪َ ،‬‬
‫وعشرات القادة والزعماء‪ ،‬فكانت مرحلة التحرير بمعناه الشامل‪ ،‬كما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫آالف الشبان‬
‫كانت مرحلة الفدائي بمعناه السامي‪.‬‬

‫ولك�ن مرحلة البناء تتطلب نوعية أخرى من البش�ر‪ ،‬وربما اس�تقت من الفدائية‬
‫أساس�ا على معاهد‬
‫ً‬ ‫الم َض ِح َّي�ة أب�دً ا في س�بيل القيم الس�امية‪ ،‬ولكنه�ا ت ُْب َنى‬
‫روحه�ا ُ‬
‫التعلي�م الس�ليم‪ ،‬وم�ن االجته�اد والمثاب�رة والصبر‪ ،‬وف�ي رحاب عش�ق الحقيقة‪،‬‬
‫والش�غف بالكش�ف ع�ن المجهول‪ ،‬إل�ى نوعية العل�م والبحث العلم�ي‪ ،‬وتقديس‬
‫اإلنتاج والعمل‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الي�وم يجب أن يحتل العربي المفكر الباحث المنتج مكان العربي الفدائي الذي‬
‫يقوم بعملية التحرير وتمهيد الطريق‪.‬‬

‫إنه زمن العقل‪ ،‬وسبحان الذي َك َّر َما بالعقل و َم َّي َزنَا به‪.‬‬

‫‪1993/12/23‬‬

‫‪222‬‬
‫العرب‬

‫والدة عسيرة!‬

‫ٍ‬
‫ألس�باب بسيطة أو معقدة‪ ،‬أم أن‬ ‫أي عربي‪ :‬أيهما خير للعرب‪ :‬أن يختلفوا‬ ‫َس ْ‬
‫�ل َّ‬
‫تزول من بينهم جميع أسباب الخالف؟‪.‬‬

‫س�ل أي عربي‪ :‬أيهما أفضل للع�رب‪ :‬أن ُيواجهوا العالم متفرقي�ن ُمتنازعين‪ ،‬أم‬
‫يواجهوه ُكتلة متوافقة على األقل في الدوافع واألهداف؟‬

‫س�ل أي عربي‪ :‬أيهم�ا أنفع للعرب‪ :‬أن ُي َن ُّم�وا بالدهم‪ُ ،‬ك ٌّل باجتهاده وس�عيه‪ ،‬أم‬
‫ينموها باستثمار فوائض أموالهم في تكاملهم االقتصادي؟‬
‫ُّ‬
‫ال أعتقد أنك َس َت ْلقى إجابة واحدة سالبة‪.‬‬

‫َس� ْل ُه بعد ذلك‪ :‬لماذا ال يتحقق ذلك برغم غزارة دواعيه المعاصرة والتاريخية؟‬
‫س�وف يحدثك عن الحدود‪ ،‬وبعض الرواسب التاريخية‪ ،‬وذكريات الغزو العدواني‬
‫األليم�ة‪ .‬ونح�ن ال نتجاه�ل الطبيع�ة البش�رية ونس�تطيع أن نج�د لِ ُ ِ‬
‫�كل ع َّل�ة ً‬
‫عذرا‪،‬‬
‫وال نريد أن نبالغ في المثالية ونش�دان الكمال‪ ،‬ولكننا نطالب باالس�تماع إلى صوت‬
‫العقل‪ ،‬كما نستمع إلى نداء الغريزة‪ .‬يجب أن نعترف بأننا في حاجة إلى جرعات من‬
‫الموضوعية الصادقة‪.‬‬

‫يج�ب أن نراج�ع أنفس�نا مرات وم�رات‪ .‬يج�ب أن نرفع مس�تقبلنا ف�وق دوامة‬
‫الخالف�ات واألحقاد‪ ،‬وأن نؤم�ن تما ًما بأنه ال حياة لنا دون التكتل والتعاون‪ ،‬التكتل‬
‫والتع�اون االقتص�ادي والعلم�ي والثقاف�ي قب�ل السياس�ي‪ ،‬ال لقل�ة أهمي�ة الجانب‬

‫‪223‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫السياس�ي‪ ،‬ولكن ليكون البدء بما يمكن أن نتفق فيه دون مش�قة‪ .‬وحتى إذا لم يمكن‬
‫البدء بالتعاون الشامل‪ ،‬فلنبدأ بالتعاون الممكن في حدوده المتاحة‪.‬‬

‫عل�ى أي حال يج�ب أن نبدأ‪ ،‬ولعل واجب الجامعة العربية األول في هذه الفترة‬
‫التاريخية هو العمل على حل المش�كالت وإزالة أس�باب الخالف إلفساح المجال‬
‫للتكتل المنشود‪ ،‬يجب أن تكون الجامعة هي السبيل إلى التجمع الحق‪.‬‬

‫‪1994/5/19‬‬

‫‪224‬‬
‫العلم‬

‫العلـم‬

‫‪225‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪226‬‬
‫العلم‬

‫ثروتنا الحقيقية‬
‫قي�ل‪ :‬إن مص�ر ُأم العجائب‪ ،‬ومن عجائبها أنها تنوء بكثرة الس�كان‪ ،‬وفي الوقت‬
‫نفس�ه تعاني قلة اليد العاملة‪ ،‬وش�بيه بذلك ما جرى على مصدر رزقها‪ ،‬وهو األرض‬
‫الزراعية‪ ،‬فهي ضيقة محصورة ال تفي بتغذية نصف أبنائها‪ ،‬ولكنها في الوقت نفس�ه‬
‫أه�درت منها ف�ي البناء والتجريف مليونًا من األفدنة‪ ،‬ح�وادث ال يقبلها العقل‪ ،‬وال‬
‫تصدر عن عقل‪ ،‬فماذا نقول في هذه األمة؟‬

‫ولنخ�ص بحديثن�ا اليوم تناقض الكثرة والقلة‪ ،‬كثرة الس�كان وقل�ة اليد العاملة‪،‬‬
‫جذريا اَّإل بغ�زوة علمية خارقة‬
‫ًّ‬ ‫تغيرا‬
‫نح�ن أم�ة محدودة الموارد‪ ،‬ولن يتغي�ر وضعنا ً‬
‫للصحراء أو لباطن األرض‪َّ ،‬أما اآلن فالقوة البشرية هي الثروة الحقيقية التي نملكها‪،‬‬
‫وه ٌّم وفقر‬
‫ولكن البشر من ناحية العدد و الكم‪ ،‬ليسوا قوة وال ثروة‪ ،‬بل لعلهم عبء َ‬
‫وتأخر‪َ ،‬أ َّما بِ ُحس�ن اإلع�داد والتربية والتعليم والثقافة فيصبح�ون قوة وثروة‪ .‬تعتمد‬
‫عليهم التنمية الشاملة في الداخل‪ ،‬ويصلحون للتصدير‪ ،‬فينفعون وينتفعون‪ .‬وما من‬
‫صاح�ب حرف�ة أو مهنة اَّإل يجد مكانًا يرحب به فوق س�طح األرض‪ ،‬أو ال يضيق به‬
‫كما يضيق بغيره ممن لم ُيؤتوا ًّ‬
‫حظا من علمٍ أو تدريب‪.‬‬

‫فلنوجه إلى ثروتنا الحقيقية العناية التي تس�تحقها‪ ،‬والتي لن تتهيأ لنا حياة كريمة‬
‫اَّإل بها‪ ،‬يجب أن تس�توعب مدارس�نا االبتدائية كل طفل‪ ،‬يجب أن يقتصر االلتحاق‬
‫بالجامع�ات عل�ى ذوي االس�تعداد للتخصص�ات الرفيع�ة والقيادات العلي�ا‪ ،‬وبين‬
‫الطرفين نستوفي احتياجاتنا من ِ‬
‫الح َر َف والمهارات الزراعية والصناعية والفنية‪ ،‬هذا‬
‫‪227‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وجامع�ا وعلى أحدث المناه�ج المعاصرة لتخريج‬


‫ً‬ ‫اً‬
‫ش�امل‬ ‫اإلع�داد يجب أن يكون‬
‫خير العقول واأليدي‪ ،‬هذه هي ثروتنا الحقيقية‪ ،‬وهي أملنا الباقي اليوم وغدً ا‪.‬‬

‫‪1986/9/4‬‬

‫‪228‬‬
‫العلم‬

‫دواء ألكثر من داء‬

‫في الظاهر األمية وتنظيم األسرة مشكلتان‪ .‬وفي الحقيقة هما مشكلة واحدة‪ ،‬أو‬
‫مشكلتان متداخلتان متشابكتان لدرجة تجعل منهما مشكلة واحدة‪ ،‬األمية ثمرة ُمرة‬
‫حتمية للجهل‪ ،‬والتس�يب في اإلنج�اب دون مراعاة للظروف‪ ،‬ثم�رة حتمية للجهل‬
‫أيضا في أن الدولة أعلنت عليهما حر ًبا من قديم‪ ،‬وأنفقت في‬ ‫كذلك‪ .‬وهما يتشابهان ً‬
‫س�بيل ذلك أموالاً طائلة‪ ،‬ولم تزد النتيجة على الصفر اَّإل اً‬
‫قليل‪ ،‬بل إن األمية تتزايد‪،‬‬
‫وأخيرا فهما يتماثالن في أنَّ عالجهما الحقيقي واحد‪ ،‬وإنْ‬
‫ً‬ ‫والنمو السكاني يتفاقم‪،‬‬
‫لم نس�تثمره كما ينبغ�ي‪ ،‬عالجهما التعليم والثقافة‪ ،‬تعليم يس�توعب كل طفل‪ ،‬وبال‬
‫استثناء‪ ،‬مع المحافظة على استمراريته لكل فرد حتى النهاية‪ ،‬وثقافة يجب أن تشكل‬
‫سياسيا في كل مرحلة تعليمية‪ ،‬مع تكثيفها في الوقت نفسه في أجهزة اإلعالم‬
‫ًّ‬ ‫عنصرا‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫المختلف�ة‪ .‬هذا هو العلاج الحقيقي المجدي‪ ،‬وقد أثبت فعاليت�ه َلدَ ى َم ْن أتيح لهم‬
‫ح�ظ منه ‪-‬أي من التعليم والثقافة‪ -‬بلا حاجة إلى تنبيه أو تحذير أو دعاية‪ ،‬فتنمحي‬
‫األمي�ة بطبيع�ة الحال‪ ،‬هجائي�ة وفكرية‪ ،‬وتنظيم األس�رة في عدد مح�دود‪ ،‬ويجري‬
‫جنبا إلى جنب مع التفكير في الحاضر والماضي‪.‬‬
‫التفكير في المستقبل ً‬
‫التعليم والثقافة هما األس�اس الذي يجب أن نقي�م عليه بنيان الفرد‪ًّ ،‬أيا ما يكون‬
‫َمي َز بين العصور باالستنارة‬
‫تخصصه بعد ذلك‪ ،‬وهو أوجب من الواجب‪ ،‬في عصر ت َّ‬
‫والمعلومات‪ ،‬وأصبح الجهل فيه التمهيد العاجل للعدم‪ .‬فلنوفر ما نُنفقه على تنظيم‬
‫العامة‬
‫األس�رة ومحو األمية لندع�م به التعليم والثقافة‪ ،‬وليتكف�ل التليفزيون بالثقافة َّ‬

‫‪229‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نهائيا من األمية‪ ،‬ومن‬ ‫ِ ِ‬


‫والتوعية ل َم ْن فاتهم قطار التعليم‪ ،‬ولن يمر جيل حتى نتخلص ًّ‬
‫ٍ‬
‫بسبب من الجهل والتقاليد العمياء‪.‬‬ ‫كثير من األدواء التي نتورط فيها‬

‫‪1986/10/30‬‬

‫‪230‬‬
‫العلم‬

‫وزارة جديدة‬

‫نتمن�ى لل�وزارة الجدي�دة التوفي�ق في حم�ل أمانته�ا الثقيل�ة‪ ،‬وأن تب�ذل همتها‬
‫ووطنيته�ا ف�ي تحقي�ق األه�داف التي ن�ص عليها خط�اب التكليف‪ ،‬وه�ي أهداف‬
‫متصبرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫صابرا‬
‫ً‬ ‫قديم�ة متجددة يرنو إليها الش�عب من قديم‪ ،‬ويتلهف على تحقيقه�ا‬
‫س�ببا لرحيل‬
‫مكاب�دً ا م�ن األل�م والمعاناة ما الله وح�ده عالم ب�ه‪ .‬وإذا كنا لم نعرف ً‬
‫الوزارة الس�ابقة‪ ،‬وخاصة أنها ُش ِّ�ي َع ْت بالثن�اء والتقدير‪ ،‬فإننا نس�تطيع أن ن َْحدُ َ‬
‫س أن‬
‫ممن ُي ْر َك ُن إليهم عند الش�دة‪ ،‬و ُي َق َّد ُم لدى الحس�م في مواجهة‬
‫الرئيس الجديد رجل ْ‬
‫التحديات‪ ،‬ومن أجل ذلك يحدونا األمل في أن نلمس تجد ًدا في النش�اط‪ ،‬وس�دا ًدا‬
‫وح ْز ًما في المتابعة والمراقبة والمحاس�بة في ظل‬
‫ف�ي التفكير‪ ،‬وس�رعة في التنفي�ذ‪َ ،‬‬
‫ديمقراطية حقيقية‪ ،‬واحترام كامل لحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫ومما يفتح صدورنا لألمل ويمأل قلوبنا بالثقة ما ن ُِش َر عن تاريخ الرئيس الجديد‪،‬‬
‫وه�و تاريخ حافل بالعل�م والعمل‪ ،‬وما قيل عنه من أنه عدو لدود للفس�اد‪ ،‬ال يهادن‬
‫فيه وال يس�امح‪ ،‬ونحن أش�د ما نكون حاجة إلى العلم والعمل والطهارة‪ ،‬وأش�د ما‬
‫نك�ون ضيقًا بالتصريحات والوع�ود والمظاهر الكاذبة‪ .‬وأعتق�د أن الرئيس الجديد‬
‫وفعل بأن ُيصارحه بالحقائق دون تزييف‪،‬‬ ‫عاهدَ الله على أن يحترم الش�عب حقًّا اً‬
‫إذا َ‬
‫ويعلنه بالدواء بدون تخفيف‪ ،‬ويضرب له المثل هو ومن تبعه من المسئولين بالقُ ْد ِ‬
‫وة‬ ‫ُ‬
‫الصالحة في المعيشة والسلوك والطهارة؛ أعتقد لو فعل ذلك فإنه سيجد من الشعب‬

‫‪231‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫المزيد من الصبر‪ ،‬بل والحماس�ة في التصدي للتحديات‪ ،‬بل والتضحية التي تمليها‬
‫الظروف ويقتضيها إنقاذ الوطن‪.‬‬

‫الحكم حتى يتم إنجاز الوعود‪،‬‬ ‫وبعد‪ ،‬فأكرر تمنياتي بالتوفيق‪ً ،‬‬
‫وأيضا بالبقاء في ُ‬
‫ف�إن التغيي�ر المطرد قد يس�لي المتفرجي�ن في مس�رح‪ ،‬ولكنه يقلق المش�اركين في‬
‫الهموم‪ ،‬المتلهفين على اإلصالح‪ ،‬الطامحين إلى االستقرار‪.‬‬

‫‪1986/11/20‬‬

‫‪232‬‬
‫العلم‬

‫العلوم في مدارس اللغات‬

‫تلقيت رس�الة من الدكتور المهندس كارمن عبد الوهاب‪ ،‬تضمنت ش�كوى من‬
‫قرا ٍر صدر ً‬
‫أخيرا بش�أن دراس�ة العلوم في مدارس اللغات االبتدائية‪ ،‬وقد َص َّد َر ُه بما‬
‫يتكلف�ه اآلباء م�ن مصروفات باهظة‪ ،‬باإلضاف�ة إلى مدة فترة الدراس�ة االبتدائية في‬
‫مدارس اللغات إلى ثماني س�نوات‪ ،‬بزيادة عامين ع�ن مدارس الحكومة‪ .‬أما القرار‬
‫‪ -‬وهو محور الش�كوى‪ -‬فيقضي بدارس�ة العلوم‪ ،‬بد ًءا من الس�نة الخامس�ة‪ ،‬بعد أن‬
‫كانت تدرس من الس�نة األولى‪ ،‬وقد مضت الدراس�ة على النظام األول‪ ،‬فلم تصدر‬
‫راجيا‬
‫ش�كوى من أحد‪ ،‬وتتابعت االمتحانات محققة أفضل النتائج‪ .‬و ختم رس�الته ً‬
‫إع�ادة النظ�ر في القرار‪ ،‬تفاد ًيا من س�وء العواق�ب‪ ،‬وقبل أن يكثر ع�دد ضحاياه بعد‬
‫فوات الفرصة في إصالحه‪.‬‬
‫لس�ت على َب ِّي َن ٍة من الموضوع في مقدمة المعارف التي على الناشئة‬
‫ُ‬ ‫والحق أنني‬
‫تحصيلها وإتقانها في هذا العصر‪ ،‬والتي يقوم عليها االعتماد األول في تطوير حياتنا‬
‫إلى األفضل‪ ،‬وفي تناغمنا مع العصر الحديث‪ .‬ولعل ِ‬
‫الع ْل َم هو النشاط األوحد الذي‬
‫يتفق عليه العلمانيون والس�لفيون‪ .‬وكان يج�ب أن يصحب قرارا خطيرا كهذا القرار‬
‫ما يبرره ويفسره‪ ،‬احترا ًما للرأي العام‪ ،‬ورحمة بأولياء األمور‪ .‬ولو تم ذلك َل َما أرسل‬
‫صاحب الش�كوى رس�الته الش�اكية التي تفصح في ثناياها عن قلق بالغ وألمٍ شديد‪،‬‬
‫خصوصا أن س�يادته من ا لصفوة العلمية‪ ،‬و ُيقدر وال شك مسئولية كلمته فيما يتعلق‬
‫ً‬
‫بأبنائه وفيما يخص الوطن‪.‬‬

‫‪1987/1/1‬‬
‫‪233‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫طريق آخر للمجد‬

‫مميزا بي�ن القارات‪ ،‬يدفعها حين الش�عور بالقوة‬


‫اس�تراتيجيا ً‬
‫ًّ‬ ‫موقعا‬
‫تحت�ل مصر ً‬
‫قديما‬
‫وامتلاك أس�بابها إلى االمت�داد‪ ،‬ويجعلها حي�ن الضعف فريس�ة للطامعي�ن‪ً .‬‬
‫الحك�م األجنب�ي ف�ي ليل‬ ‫َأ َّس َس ْ�ت َ‬
‫أول إمبراطوري�ة ف�ي التاري�خ‪ ،‬ث�م تتاب�ع عليه�ا ُ‬
‫طوي�ل‪ .‬وم�ازال ه�ذا الموق�ع الفري�د يدير ال�رءوس في عصرن�ا الحدي�ث‪ ،‬فيغري‬
‫تغير الظ�روف واألحوال‪ ،‬فمصر لم تعد م�ن مراكز القوى‬
‫بالعظم�ة والتس�لط برغم ُّ‬
‫المع�دودة ف�ي العال�م‪ ،‬وظهر ف�ي الدني�ا عمالقة ُج�دد تُق�اس قوتهم إل�ى قوتنا بما‬
‫تُقاس به النجوم إلى الكواكب‪.‬‬

‫ونتناس�ى ه�ذه الحقيق�ة أحيانًا في نش�وة من نش�وات النجاح‪ ،‬تناس�اها «محمد‬


‫َ‬
‫اً‬
‫متجاهل تربص اإلمبراطوريات من حوله‪ ،‬فعرض نفس�ه‬ ‫علي»‪ ،‬فأنش�أ إمبراطوري� ًة‬
‫وبالده إلى قضاء شبه محتوم‪ ،‬فصفيت إمبراطوريته‪ ،‬بل صفي هو ما بناه في الداخل‬
‫بنفس�ه‪ ،‬ورجعنا إلى نقطة الصفر‪ .‬تناس�اها «جمال عبد الناصر»‪ ،‬فشرع ينشر جناحي‬
‫وطن�ه ش�ر ًقا وغر ًب�ا متحد ًيا إمبراطوريات األم�س والغد‪َ ،‬ف َج َّر بالده إلى قضاء ش�به‬
‫ور َج َعنا إلى الصفر‪.‬‬
‫محتوم‪ ،‬فتوقف عمله البنائي‪َ ،‬‬
‫عل�ى مص�ر َأنْ تُقي�م سياس�تها الخارجية ‪-‬أول م�ا تقيمها‪ -‬على تج ُّن�ب ت ََحدِّ ي‬
‫�ب ذلك المصير المش�ئوم‪ .‬نحن مثل الكواك�ب التي تدور‬ ‫القُ َ‬
‫�وى العمالق�ة‪ ،‬لتتج َّن َ‬
‫قريبا هلكت‬
‫ف�ي مداراتها حول النجوم‪ ،‬إذا انحرفت بعيدً ا ماتت بر ًدا‪ ،‬وإذا انحرفت ً‬
‫احترا ًقا‪ ،‬فعلينا أن نهتدي إلى سواء سبيلنا المرسوم بحكم الزمان والمكان‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫العلم‬

‫وهي دعوة إلى النجاة ال إلى االستسالم‪ ،‬وال تمس طموحنا الشريف إلى المجد‪،‬‬
‫حجما وس�كانًا وقوة ولكنها تحت�ل منزلة في الحضارة‬
‫ً‬ ‫فثم�ة دول م�ن أصغر الدول‬
‫مقصورا على‬
‫ً‬ ‫ترفعها إلى القمم‪ ،‬كالس�ويد‪ ،‬والدانمارك‪ ،‬وسويس�را‪ .‬فليس التف�وق‬
‫الق�وة وحده�ا‪ ،‬ولكن يوجد مجال آخ�ر أصعب وأنبل إلثبات ال�ذات في الحضارة‬
‫والعلم والثقافة‪ ،‬علينا أن نس�تفيد من تاريخنا‪ ،‬وأن نفهم واقعنا‪ ،‬وأن نبني مش�روعنا‬
‫على أرض السالم والعلم واإليمان‪.‬‬

‫‪1987/1/29‬‬

‫‪235‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مؤتمر الثروة البشرية‬

‫مؤتم�ر مهم لبحث مش�روع حضاري تربوي لمصر أقامت�ه رابطة التربية الحديثة‬
‫بتربية جامعة عين شمس في الفترة من ‪ 11‬إلى ‪ 13‬من شهر أبريل‪ .‬وللمجلس القومي‬
‫ف�ي ذلك بحوث تزخر باآلراء الس�ديدة والتوجيهات البن�اءة‪ .‬وواضح أنه ال تنقصنا‬
‫الخ ْل ُق من‬
‫اآلراء‪ ،‬ولكنن�ا في أش�د الحاجة إلى التنفيذ الحاس�م إلصالح نظ�ام ضج َ‬
‫نقد وشكوى‪.‬‬‫كثرة ما و ِّج َه إليه من ٍ‬
‫ُ‬
‫والتربي�ة تس�تحق من�ا كل عناي�ة ورعاي�ة‪ ،‬فه�ي التي تهيم�ن على مصي�ر ثروتنا‬
‫األول�ى‪ ،‬أعني ثروتنا البش�رية‪ ،‬التي يتوقف عليها بالتالي مس�تقبل الوطن وحظه من‬
‫الخ اَّلق لمش�كالت الحاضر والمس�تقبل‪ .‬وال أن�وي العودة إلى‬
‫الوج�ود‪ ،‬وتصدِّ يه َ‬
‫وه ٌّم ثقيل يعانيه أولي�اء األمور والمصلحون‪،‬‬
‫إحص�اء العيوب‪ ،‬فهي حديث ُم َع�اد‪َ ،‬‬
‫موم الش�باب في جميع مراحله�ا المتعثرة‪ .‬حس�بي أن األمر كله قد‬
‫�ن يتابع�ون ُه َ‬
‫و َم ْ‬
‫ُو ِض َ‬
‫�ع بين أيدي أهل الخبرة فيه‪ ،‬وس�أكتفي بالتذكير بمب�ادئ عامة يجيش بها صدر‬
‫كل ُم ِح ٍّب لهذا الوطن وكل غيو ٍر على مستقبله‪.‬‬

‫حوارا َب َّنا ًء بين تراثنا من القيم وبين العصر‬


‫ً‬ ‫دائما إلى أن يقيم التعليم‬
‫نح�ن نتطلع ً‬
‫وقيم�ه‪ ،‬عل�ى أس�اس متين م�ن تربية ديني�ة مس�تنيرة‪ ،‬باإلضافة إل�ى التربي�ة الثقافية‬
‫والذوقية والرياضية‪ .‬ونتطلع إلى أن يعد الفرد لحياته العملية إعدا ًدا يهيئ له النجاح‬
‫جدا‪ -‬أن‬
‫والتف�وق بم�ا يتطلبه من دراس�ة علمية وخب�رة عملية‪ .‬ونأمل ‪-‬وه�ذا مهم ًّ‬
‫‪236‬‬
‫العلم‬

‫تتغير مناهجه وأس�اليبه من االعتماد على الذاكرة إلى االعتماد على الذكاء والتفكير‬
‫واإلبداع‪ ،‬والقدرة على مواجهة المشكالت وحلها‪ .‬إن التربية السليمة تبدأ كجواب‬
‫معا‪ ،‬وهو‪ :‬كيف نريد للفرد أن يكون؟ وكيف نريد للمجتمع‬
‫عن سؤال بسيط وخطير ً‬
‫تربويا َف ًّذا‪ .‬المهم أن نؤمن‪ ،‬وأن‬
‫ًّ‬ ‫دائما وراء كل أمة ناهضة نظا ًما‬
‫أن يكون؟ وس�تجد ً‬
‫نقرر‪ ،‬وأن نبدأ‪.‬‬

‫‪1987/4/30‬‬

‫‪237‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الطوفان والسفينة‬

‫قال الش�اب‪« :‬إنك تحثني على تس�جيل اس�مي في جدول االنتخابات باعتباره‬
‫آن‪ ،‬فما معنى االنتخابات؟ وما معنى الحقوق؟ وما معنى‬ ‫حقًّ�ا لي‪ ،‬وواجب�ا َع َلي في ٍ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫الواجب�ات؟ إنه�ا كالم في كالم ف�ي كالم‪ ،‬إني يائس تما ًما‪ ،‬متش�ائم حتى النهاية‪ ،‬ال‬
‫وألحقت‬ ‫ناقصا‪ُ ،‬‬
‫تعليما ً‬
‫ً‬ ‫تعلمت‬
‫ُ‬ ‫قول أو فعل أو رجل أو حاضر أو تاريخ‪،‬‬ ‫ثقة لي في ٍ‬
‫ٍ‬
‫بعم�ل ال خي�ر فيه لنفس�ي وال للناس‪ ،‬أو ه�و بطالة مقنعة كما تقول�ون بصدق‪ ،‬ولي‬
‫�بع وال ُيغْ نِ�ي‪ ،‬وال يحق�ق لي االس�تقالل عن أس�رتي المطحون�ة‪ ،‬وأنا‬
‫رات�ب ال ُيشْ ُ‬
‫مح�روم من مطالب الحياة األساس�ية كالحب والزواج والمس�كن‪ ،‬وأعيش بال أمل‬
‫اص ًرا بالق�ذارة والضجيج و االنتهازيي�ن واللصوص من جهة‪،‬‬ ‫ف�ي عالم كئي�ب‪ُ ،‬م َح َ‬
‫ٍ‬
‫بلس�ان‬ ‫وبأصح�اب الماليي�ن العابثي�ن من جهة أخرى‪ ،‬ف�ي مجتمع ظالم با ٍغ ُينادي‬
‫كاذب بسيادة القانون والعدل‪ ،‬ويمارس التفرقة بين أبنائه بالمحسوبية واالمتيازات‪،‬‬
‫ه�ذا ه�و حالنا نحن الش�بان‪ ،‬وال ُيس�تثنى منه اَّإل َم ْن س�انده الحظ ٍ‬
‫ب�أب غني‪ ،‬أو أم‬
‫غنية‪ ،‬أو َم ْن َو َجدَ في الخارج فرصة عمل تغير موازينه‪ ،‬فال تحدثني عن االنتخابات‬
‫والحقوق والواجبات والغد الموعود باألمل والفالح»‪.‬‬

‫رضيت‬
‫ُ‬ ‫والحق أنه لوال كثرة س�ماعي له�ذه اآلراء أو هذه األنَّات المس�تعرة َل َما‬
‫ولكن إخفاءها ليس من األمانة في شيء‪ ،‬وال هو من الحكمة‬
‫َّ‬ ‫أن أس�جلها وأنشرها‪،‬‬
‫ً‬
‫أيض�ا‪ .‬لعله ص�وت جيل ال صوت فرد‪ ،‬ولعله تعليق تلقائ�ي على فترة من الحضارة‬

‫‪238‬‬
‫العلم‬

‫أيضا أنَّ الشاب‪ ،‬النغماسه في أزمته قد فقد النظرة الشاملة‪،‬‬


‫أنهكتها المآسي‪ .‬والحق ً‬
‫كثيرا من العمل البناء واالجتهاد الصادق‪ ،‬وطمس بوارق ٍ‬
‫أمل تلوح في األفق‪،‬‬ ‫وظلم ً‬
‫شابا خسر أهم مقومات الحياة والسعادة؟!‬
‫ولكن َم ْن ذا الذي ال يعذر ًّ‬
‫ولنتساءل مخلصين‪ :‬كيف تطمئن ُأمة وفي جوفها هذا ال َق ْد ُر من اليأس والغضب‬
‫والتجهم؟ كيف تتقاعد ساعة واحدة عن إصالح شأنها وتقويم سلوكها والتفاني في‬
‫العمل واإلنتاج واإلصالح؟ إنه سباق بين طوفان وسفينة ال ت ُْب َنى اَّإل بسواعد اإليمان‬
‫والعلم والعمل‪.‬‬

‫‪1987/5/14‬‬

‫‪239‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مشكلة المشكالت‬

‫تحدي�ات كثيرة حقًّ�ا‪ ،‬و َل ِك ْ‬


‫�ن َث َّمة تحدٍّ ش�رس يقف وح�ده كالصخرة‬ ‫َّ‬ ‫تواجهن�ا‬
‫الصلبة وكأنه َقدر‪ .‬فتحدي�ات مثل األزمة االقتصادية‪ ،‬والقروض‪ ،‬وضعف اإلنتاج‪،‬‬
‫وسلبية الكثيرين‪ ،‬ومش�كالت الديمقراطية‪ ،‬والسياسة الخارجية‪ ،‬كل هذه تحديات‬
‫قابلة للحل‪ ،‬وس�وف نتغلب عليها بالفكر والعمل والزمن‪ ،‬ولكن وراء ذلك مش�كلة‬
‫يب�دو اَّأل َح َّ�ل لها‪ ،‬أو أنه�ا تحتاج في حلها إل�ى معجزة‪ ،‬تلك هي مش�كلة االنفجار‬
‫الس�كاني‪ ،‬وهي تكمن في الواقع في أعماق المشكالت األخرى‪ ،‬إِ َّما كسبب وحيد‬
‫ٍ‬
‫غالب حي ًنا آخر‪ ،‬أو في األقل كس�ب مش�ارك‪ .‬هي في الحقيقة َه ُّم‬ ‫ٍ‬
‫كس�بب‬ ‫حي ًنا‪ ،‬أو‬
‫النها ِر والليل‪،‬وهي تعني أن السفينة تنوء بحمولتها‪ ،‬وأنها تتحمل يو ًما بعد يوم زيادة‬
‫متصاعدة فوق طاقتها المفترضة‪ ،‬وأنها في النهاية مهددة بالغرق‪ ،‬حتى لو سلمت من‬
‫وح ِظ َى ركابها بأسباب الصحة والعافية‪.‬‬
‫جميع اآلفات‪َ ،‬‬
‫فقديم�ا كان الغزو‬
‫ً‬ ‫والحل�ول التقليدية للمش�كلة لم تع�د بالصالحة ف�ي زماننا‪،‬‬
‫متنفس�ا ومج�الاً ‪ ،‬كذلك الهجرة الجماعية‪ ،‬الي�وم ال مجال للغزو‪،‬‬
‫ً‬ ‫الخارجي يخلق‬
‫وال ُم َّت َس َ�ع للهجرة الجماعية اَّإل في ظروف طارئة وعابرة‪ ،‬كما أن تنظيم األسرة كما‬
‫عرفناه ال أثر له‪ ،‬لم يبق لنا اَّإل الوسائل الجديدة المبتكرة‪ ،‬كأن نتغلب على الصحراء‬
‫بالعلم‪ ،‬أو أن نلجأ في تنظيم األس�رة إلى ُطرق صارمة لم نعهدها من قبل‪ ،‬تفاد ًيا من‬
‫المجاعة‪ ،‬أو مما هو َش ٌّر منها‪ ،‬كالفوضى‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫العلم‬

‫وليكن في علمنا أن حالنا ال تس�مح بإهمال فرد واحد من أفراد ش�عبنا‪ ،‬فأقل ما‬
‫وأخالقيا ليصلح لمواجهة حياة عس�يرة‬
‫ًّ‬ ‫وعمليا‬
‫ًّ‬ ‫علميا‬
‫ُيطل�ب منا أن نُزوده بما يلزمه ًّ‬
‫قاس�ية ف�ي وطن�ه أو في م�كان آخر إذا ض�اق عنه وطن�ه‪ ،‬وعلينا أن نف�رغ من جميع‬
‫وأخيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫التحديات لنتفرغ لذلك التحدي أولاً‬

‫‪1987/6/4‬‬

‫‪241‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الداء يصل إلى البذور‬

‫ف�ي غمرة الظلمات تتوجه القلوب عادة إلى المدرس�ة باعتبارها مصدر إش�عاع‬
‫اً‬
‫ومعمل لتفريخ أنماط بشرية جديدة أصلح للبقاء‪ ،‬والنهوض‬ ‫دائم لمس�تقبل أفضل‪،‬‬
‫بأعب�اء الحياة في جميع فروعها المعاصرة‪ .‬وتجيء ظاه�رة الغش الجماعي فتهوى‬
‫عل�ى ال�رءوس كالصاعقة‪ ،‬وتعت�م ضياء اآلمال بغبارها األس�ود بال رحم�ة‪ ،‬معناها‬
‫والمثل‪ ،‬معناها‬
‫بكل بس�اطة أنها تنت�زع من و جودنا فترة البراءة والطه�ارة والمبادئ ُ‬
‫المزرية بتحصيل العلم والمعرفة والثقافة والتأهيل للعمل‪ ،‬معناها الركض‬
‫االستهانة ُ‬
‫وراء الثم�رة‪ ،‬وهي الش�هادة‪ ،‬ولو بالتزوير والتضليل‪ ،‬لتجعل من الحياة سلس�لة من‬
‫الفساد والجهل والبطالة المقنعة‪.‬‬

‫إنه شر يجب أن نحشد جميع القوى للتصدي له والقضاء عليه‪ ،‬مستعينين بالحزم‬
‫والبتر والقانون‪ ،‬ولو أعدنا التفكير في نظام التعليم كله من أساس�ه‪ ،‬بحيث نس�تغني‬
‫ع�ن االمتح�ان‪ ،‬فندع�و أهل الخبرة إل�ى إحالل بديل له يكش�ف عن كف�اءة التلميذ‬
‫وتحصيله‪ .‬كما ينبغي العناية بالتربية والس�لوك‪ ،‬والتش�دد في ذلك لحد القسوة َلدَ ى‬
‫أي انحراف‪.‬‬

‫ها نحن نجني العواقب الوخيمة للطغيان وفس�اده‪ ،‬والس�لب والنهب‪ ،‬ومعايشة‬
‫التس�يب واإلهم�ال‪ ،‬والعب�ث بالقان�ون‪ ،‬وم�داراة المنحرفي�ن الكب�ار‪ ،‬واإلغ�داق‬
‫باالمتي�ازات عل�ى أهل الثق�ة والقُ ربى‪ .‬ها نحن نجن�ي العواقب الوخيمة الس�تهتار‬

‫‪242‬‬
‫العلم‬

‫الكب�ار من ناحية‪ ،‬وس�كوت الش�عب وصب�ره من ناحي�ة أخ�رى‪ .‬إن الجميع ‪-‬وفي‬
‫مقدمته�م وزي�ر التربي�ة والتعليم‪ -‬مدع�وون لعالج ه�ذه المصيبة بأي ثم�ن‪ ،‬وبأية‬
‫تضحية‪ ،‬وبكل حزم وسرعة‪ ،‬قبل أن نقول بصوت محشرج‪ :‬على الدنيا السالم‪.‬‬

‫‪1987/6/11‬‬

‫‪243‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫خطة جديدة‬

‫بدأنا في تنفيذ الخطة الخمس�ية الثانية‪ ،‬وهي كما تعلمون خطة ش�املة تستهدف‬
‫التنمية ف�ي الجوانب االقتصادية واالجتماعية والثقافي�ة كافة؛ ولذلك فإنني أعجب‬
‫قوميا نلت�ف حوله و َي ِج ُّد في البحث عنه‪ ،‬فأي مش�روع أهم من‬
‫مش�روعا ًّ‬
‫ً‬ ‫لم�ن يفتقد‬
‫التق�دم في س�باق العصر؟ وأية معركة أخط�ر من محاربة التخلف؟ الخطة مش�روع‬
‫ح�ي متج�دد‪ ،‬ال ينقص�ه اَّإل دعاي�ة واعية مؤث�رة تزرع�ه في أعم�اق القلوب‬
‫جاه�ز ّ‬
‫واإلرادات‪.‬‬

‫وأتس�اءل‪ :‬لم�اذا ل�م نمهد في تقديم الخط�ة الجديدة ببيان ما ت�م وما لم يتم من‬
‫جدا للدراس�ة والعب�رة‪ ،‬ولنقف على مدى تصميمينا على‬
‫الخطة المنتهية؟ هذا مهم ًّ‬
‫الحظ أن مناقش�ة الميزانية‬
‫الخ�روج م�ن أزمتن�ا واالنطالق في مس�يرتنا‪ .‬وأول م�ا ُي َ‬
‫والخطة مرت في مجلس الش�عب في عجلة ولهوجة ال تناس�بان المقام‪ ،‬والحق أن‬
‫ِم ْن حقوق ممثل الشعب أن يقول ما لديه من قول مفيد ولو احتدت المناقشة شهرين‬
‫أو ثالثة‪.‬‬

‫حس�بنا اآلن أن نرج�و أن نواص�ل مس�يرتنا بجدي�ة مضاعف�ة تتمثل ف�ي التزامنا‬
‫بالتقش�ف في اإلنفاق‪ ،‬والجد في تحصيل األموال المس�تحقة‪ ،‬ومطاردة االنحراف‬
‫في ظل سيادة القانون‪ .‬حسبنا أن نحث على متابعة اإلنتاج ومضاعفته‪ ،‬وإعادة النظر‬
‫الم ْهدَ ر‪ ،‬ووضع القواعد الثابتة للحوافز والزواجر‪ ،‬باعتبار أن‬
‫في اإلجازات والوقت ُ‬
‫اإلنتاج هو أساس الحياة والنهضة واألمل‪.‬‬
‫‪244‬‬
‫العلم‬

‫وحسبنا أن نشير إلى وجوب االهتمام بالتعليم وتجديده وإصالحه‪ ،‬حتى ألكاد‬
‫أطال�ب بإدخ�ال التعليم في بالدنا م�ن جديد بعد أعوا ٍم ُأهدرت ف�ي ضياع وجهالة‪،‬‬
‫وس�ا َء ِخ َت ُامها بالغش الجماع�ي‪ .‬وتلحق الثقافة بالتعليم في ذلك بجميع أش�كالها‪:‬‬
‫�ع للته�اون في بناء الفرد‬
‫المقروءة‪ ،‬والمس�موعة‪ ،‬والمرئية‪ ،‬فما عاد في الوقت ُم َّت َس ٌ‬
‫ومطالعة المستقبل في هذا العصر الذي ينطلق فيه التقدم بسرعة الضوء‪.‬‬

‫ال أدري ك�م خطة ُت َن َّفذ حتى نس�تعيد توازننا‪ ،‬ويتخايل ألعيننا مس�تقبل مش�رق‪،‬‬
‫ولكني مؤمن بأنه ال وسيلة لنا اَّإل العمل‪ ،‬والعمل‪ ،‬والعمل‪.‬‬

‫‪1987/7/9‬‬

‫‪245‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫توحيد القطرين‬

‫مص�ر الفقي�رة تعان�ي ُم َّر المعان�اة‪ .‬تخطف لقمتها م�ن بين أني�اب وحش الغالء‬
‫الض�اري‪ .‬يش�غلها الص�راع ع�ن المس�رات والقي�م‪ ،‬عن كل ش�يء‪ ،‬حت�ى المأوى‬
‫العمر فال يهنأ لها قلب‪ ،‬أو يتغذى لها عقل‪ .‬اآلباء كادحون‪ ،‬واألبناء‬
‫والدواء‪ .‬يمضي ُ‬
‫ضائعون‪ ،‬حياتها حاضر ُمحزن بال ذكريات وال وعود‪.‬‬

‫ومصر الغنية تتخبط في نسيج حضارة أخرى‪ ،‬تلهو بثمار الحضارات المتقدمة‪،‬‬
‫أموالها ُم َج َّمدَ ة أو مهربة أو مبعثرة‪ ،‬سكرى بالترف‪ .‬سلوكها استفزازي‪ ،‬نسيت تما ًما‬
‫أنه�ا منبثقة من مص�ر الفقيرة‪ ،‬حتى التحية ال تردها‪ ،‬وال ُّلغ�ة ال تتكلمها‪ .‬لها مالهيها‬
‫وفنها‪ ،‬وأحالمها من صنع يديها‪.‬‬

‫والحكوم�ة قلق�ة بين الجانبين‪ ،‬تتكلم بلغة الفقراء م�رة‪ ،‬وبلغة األغنياء مرة‪ ،‬تود‬
‫أن ت َُو ِّح َ�د القطرين وتُزاوج بين النقيضين‪ ،‬وفي س�بيل ذل�ك ُت َن ِّفذ الخطة بعد الخطة‪،‬‬
‫وتخاطب بلغة ديمقراطية‪ ،‬وتلوح برايات القانون‪ ،‬وتدعو إلى العمل واإلنتاج‪.‬‬

‫في هذا الجو تتكاثر الجراثيم‪ ،‬ويثب المحبطون فوق القانون‪ ،‬وتتكاثف ُس�حب‬
‫االحتماالت المخيفة في ُأفق الغيب‪.‬‬

‫م�اذا ُي ْط َل ُب م�ن الحكوم�ة‪ ،‬باإلضافة إلى جهده�ا المبذول؟ إنَّ عليه�ا أنْ تُن ِّقي‬
‫س�احتها من ش�وائب االس�تثناءات وس�وء الس�معة‪ ،‬وأن تق�دس القان�ون وحقوق‬
‫اإلنسان‪ ،‬مع المزيد من العزم والحزم‪.‬‬
‫‪246‬‬
‫العلم‬

‫وماذا ُيطلب من مصر الغنية؟‬

‫عليه�ا أن تصحو من غيبوبة األنانية‪ ،‬وس�كرة اللحظة الراهنة‪ ،‬وأن يؤدي أبناؤها‬
‫دفاعا عن أنفسهم قبل‬
‫للدولةحقوقها‪ ،‬ويس�تثمروا فائض أموالهم في الخطة‪ ،‬فذلك ً‬
‫دفاعا عن الوطن‪.‬‬
‫أن يكون ً‬

‫وماذا ُيطلب من مصر الفقيرة؟‬

‫لقد تحملت فوق ما يتحمل البش�ر‪ ،‬فلم ْيبقَ إلاّ أن تشحذ وعيها لتعرف طريقها‪،‬‬
‫وأن تك�رر الحكم�ة التي تعلمتها م�ن تاريخها الطويل‪ ،‬وه�ي‪« :‬أنَّ المحنة ال تقضي‬
‫ليتحدى التحديات»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫على اإلنسان‪ ،‬ولكنها تكشف عن جوهره َف َي ُس َّل إرادته‬

‫‪1987/9/10‬‬

‫‪247‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الوعي المنشود‬

‫مش�كالتنا المتحدية من نوع يمكن أن نسميه بمشكالت الوالدة‪ ،‬فالقوانين التي‬


‫تثق�ل تقدمن�ا الديمقراط�ي‪ ،‬وعجزنا عن توفير الغ�ذاء والمأوى للس�كان‪ ،‬وما يهدد‬
‫ش�بابنا من ضع�ف التعلي�م والتربية‪ ،‬وإيجاد ُف�رص العمل المب�دع واألجر الكافي‪،‬‬
‫وتلوث أجوائنا‪ ،‬وقذارة مدننا‪ ،‬وفس�اد اإلدارة والذمم‪ ،‬وعدم سيادة القانون‪ ،‬ووهن‬
‫االنتماء‪ ،‬كل أولئك وغيره أعراض لمرض والدة غير سليمة‪ ،‬والدتنا من العدم أو ما‬
‫يشبهه إلى الوجود‪ ،‬مجرد الوجود‪.‬‬

‫أما مش�كلتنا األساسية فهي مش�كلة حضارية‪ ،‬هي التخلف عن العصر في جملة‬
‫نواحيه االقتصادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬هذا التخلف الذي يقضي علينا بأن نكون‬
‫دائما‬
‫تابعين لألمم المتطورة في كل شيء من اللقمة وحتى الذوق برغم خصوصيته‪ً .‬‬
‫يرعبن�ا القه�ر والجوع‪ ،‬ويرين علينا اله�وان واالغتراب‪ .‬ولعله يلزمن�ا أول ما يلزمنا‬
‫شعورا يجب أن يؤرق ضمائرنا‪ ،‬ويتعس وجداننا‪،‬‬
‫ً‬ ‫شعورا عميقًا بمأس�اتنا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أن نش�عر‬
‫كبيرا‬
‫وينفذ باألمة إلى نخاع عظامنا‪ .‬وعلى ذلك الشعور أن ينتشر فال يعفي من آثاره ً‬
‫صغي�را‪ ،‬رجًل�اً أو امرأة‪ ،‬حتى نأمل في ثورة على الواقع والوثوب إلى تغييره بكل‬
‫ً‬ ‫أو‬
‫م�ا نمل�ك من إرادة وعق�ل‪ ،‬ورغبة في الحياة الس�امية‪ .‬ال يهم الوق�ت الذي ينقضي‬
‫لنبل�غ م�ا نري�د‪ ،‬وال طول الطري�ق التي علين�ا أن نطويه�ا‪ ،‬المهم أن نعاي�ش النضال‬
‫والعمل س�اعة بعد أخرى‪ ،‬ويو ًما بعد يوم‪ ،‬ومهما يكن من أم ٍر‪ ،‬فاإلنس�ان المناضل‬
‫أفضل من المستسلم اليائس‪ ،‬والعامل خير من فاقد الوعي‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫العلم‬

‫علين�ا أن نمتل�ئ بالوع�ي‪ ،‬وأن نتش�رب طاق�ة العم�ل‪ ،‬وأن نتحرر م�ن األنظمة‬
‫المكبل�ة للعقول واألرواح‪ ،‬وأن نتحدى الزمن الذي س�قطنا في قعره نتيجة للس�هو‬
‫أو الخمول‪ ،‬وليكن في علمنا أننا إذا لم ننطلق بقوة ونتحرر من الس�هو أو الخمول‪،‬‬
‫أحدٌ يده‪ ،‬وإذا لم ندفع الموت بِ ِه َّمتِ َنا فلن‬
‫وإذا ل�م ننطل�ق بقوة من داخلنا فلن َي ُم َّد لنا َ‬
‫يبكينا إنس�ان‪ ،‬ولن ننال في النهاية اَّإل ما نس�تحق‪ .‬وما ال َقدَ ُر ‪ -‬في كثير من أحواله‪-‬‬
‫اَّإل المصير الذي نكتبه بأيدينا‪.‬‬

‫‪1987/10/29‬‬

‫‪249‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫آمال نترقبها‬

‫عما تأمله ف�ي الفت�رة المقبلة َل َم�ا أمكن أن يخ�رج عن حدود‬


‫ل�و س�ألت نفس�ي َّ‬
‫ه�ذا العنوان الجامع‪« :‬التنمية الش�املة»‪ .‬فهو من ناحية جامع لجميع األنش�طة‪ :‬من‬
‫زراعة‪ ،‬وصناعة‪ ،‬وتعليم‪ ،‬وعلم‪ ،‬وصحة‪ ،‬وثقافة‪ ،‬وإدارة‪ ،‬وأمن عام‪ ،‬ودفاع‪ ،‬وبحث‬
‫علم�ي‪ ،‬ومواصلات‪ ،‬ونظافة‪ ،‬وسياس�ة خارجية‪ ،‬إلخ‪ ،‬وهو من ناحي�ة أخرى واقع‬
‫ت ُْحشَ �دُ القوى لتنفيذه تطبيقًا لتخطيط علمي‪ ،‬ويقظة رقابية‪ ،‬ومتابعة تنفيذية‪ ،‬ال حلم‬
‫وتمنيات طيبة فحسب‪ .‬وأخيرا ‪-‬وليس ِ‬
‫آخ ًرا‪ -‬فهو ضرورة تقتضيها حياتنا‪ ،‬ويتطلبها‬ ‫ً‬
‫وجودنا في هذا العصر الذي يؤرقنا التخلف فيه‪.‬‬

‫غير أن بعض األنش�طة تس�تحوذ على نفسي بدرجة أشد‪ ،‬ال ألنها أهم‪ ،‬فجميعها‬
‫في األهمية سواء‪،‬ولكن ألنها تسهم مباشرة في بناء اإلنسان‪ ،‬واإلنسان هو المحور‪،‬‬
‫وه�و الق�وة الدافع�ة‪ ،‬وه�و اله�دف؛ لذل�ك يهمن�ي دع�م الديمقراطي�ة وإحاطته�ا‬
‫بالضمانات الكافية وتحريرها من كل قيد‪ .‬وقد يرى تأجيل إعادة النظر في الدس�تور‬
‫ً‬
‫حفظا على االستقرار في هذه الفترة الحرجة‪ ،‬ولكن ال ضرر البتة من إلغاء الكثير من‬
‫القوانين الس�يئة الس�معة على سبيل المثال‪ ،‬وما يحملني على االهتمام بهذا الجانب‬
‫ه�و أنه خي�ر ضمان ممكن للعم�ل الصالح الطاه�ر‪ ،‬كما أنه دعوة مفتوحة للش�عب‬
‫لإليجابية‪ ،‬واالشتراك في البناء من موقع المسئولية والوطنية والكرامة‪.‬‬

‫ويهمن�ي ً‬
‫أيضا التعلي�م‪ ،‬باعتباره المخت�ص بأثمن ما نملك‪،‬وهو قوتنا البش�رية‪،‬‬
‫وال يخف�ى دوره في إعداد المواط�ن للوعي بوطنه وعصره‪ ،‬وتثقيف�ه وتربيته الدينية‬
‫‪250‬‬
‫العلم‬

‫ٍ‬
‫لعمل مناس�ب في هذا العصر العس�ير‪ .‬كما تهمني اإلدارة لتكون‬ ‫والوطنية‪ ،‬وإعداده‬
‫عقيما متخل ًف�ا يتفنن في تعذيبهم‬
‫حقًّ�ا إدارة نظام وإنجاز ف�ي خدمة الناس ال جهازً ا ً‬
‫بجه�ل وجم�ود‪ ،‬وال أقول بس�وء ني�ة‪ .‬إن كل يوم يم�ر دون عمل مثم�ر يؤخرنا يو ًما‬
‫مقداره ألف سنة‪.‬‬

‫‪1987/11/5‬‬

‫‪251‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عهد الحقيقة والواقع‬

‫ما من سلبية من سلبيات حياتنا اَّإل وقد عرفناها كما نعرف صورتنا في المرآة‪ .‬بل‬
‫درس�نا أبعادها وأسبابها وعواقبها في العديد من المؤتمرات‪ .‬وما المجالس القومية‬
‫ِ‬
‫ووصفت الدواء‪ ،‬ولو أخذنا‬ ‫الدا َء‬
‫ت َّ‬‫المتخصصة اَّإل مؤتمرات دائمة‪،‬وطالما َش َّخ َص ِ‬
‫اإلقدام على‬
‫ُ‬ ‫التوصي�ات مأخذ الجد لكان�ت الحال غير الحال‪ ،‬فما ينقصن�ا حقًّا هو‬
‫التنفيذ‪.‬‬

‫والتنفي�ذ ال يؤخ�ره نق�ص االعتم�ادات المالي�ة وحده�ا‪ ،‬ويش�هد عل�ى ذل�ك‬


‫فداح�ة الدي�ون‪ ،‬ولكن تعترض�ه في كثير م�ن األحايين تقاليد بالي�ة‪ ،‬ومصالح ذاتية‪،‬‬
‫وبيروقراطي�ة عمي�اء‪ ،‬ولكن ُأالحظ في العه�د األخير أن المؤتم�رات يتغير مجراها‬
‫وأهدافه�ا والنظرة إليها‪ ،‬وتكتس�ب توصياتها اهتما ًما وجدي�ة وعناية لم تكن تحظى‬
‫بمثلها من قبل‪ .‬وأقرب مثال على ذلك مؤتمر التعليم‪ .‬لم يعد الكالم صناعة يراد بها‬
‫الكالم‪ ،‬وال شيء سوى الكالم‪ ،‬ولو على سبيل الترويح عن ٍ‬
‫أنفس ضاقت بمعاناتها‬
‫وعذاباتها‪.‬‬

‫وكم�ا دب�ت في حياتنا التعليمي�ة حياة جديدة فنحن نرجو بع�د مؤتمر اإلنتاج أن‬
‫تتدف�ق في ش�رايينه دم�اء جديدة‪ ،‬تخرج بنا م�ن وهدة الخذالن إل�ى نهضة حضارية‬
‫ٍ‬
‫لمتكاس�ل‪ ،‬لقد أثقلت المش�كالت الكواهل حتى‬ ‫جديدة‪ .‬لم يعد في الوقت متس�ع‬
‫ناءت بها‪ ،‬والبد من حشد القوى لتعبئة عامة الختراق التحديات بالحلول الحاسمة‬
‫مهم�ا ب�دت غير تقليدية‪ ،‬ومهما بدت قاس�ية‪ ،‬كان يجب أن نبدأ م�ن قديم‪ ،‬وال ُع ْذ َر‬
‫‪252‬‬
‫العلم‬

‫لن�ا على تفريطنا في الواجبات والحقوق‪ .‬وعلينا اليوم أن نتصدى للحقائق‪،‬ونتجرع‬


‫النتائ�ج بع�د أن طال بنا النوم والتواكل‪،‬وألهتنا األحلام واألماني‪ ،‬نحن نعيش اليوم‬
‫في عهد الحقيقة والواقع‪ ،‬واأللم والمجد‪.‬‬
‫‪1987/12/24‬‬

‫‪253‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عام جديد‬

‫ثم�ة عالم�ات طيبة تش�ير إلى التق�دم وتدعو إل�ى التفاؤل‪ .‬مع�رض الصادرات‬
‫وم�ا َحوى من س�لع ُم ْت َق َنة وجميلة‪ ،‬ومعرض الدفاع وما كش�ف عنه من عمل وتحدٍّ‬
‫وإبداع‪ ،‬اً‬
‫فضل َع َّما َب َّش َرنَا به المبشر من إنشاء ُمدن صناعية جديدة‪ ،‬نحن نتقدم خطوة‬
‫بعد خطوة‪ ،‬نتقدم حتى لو لم يكن بالس�رعة المنش�ودة‪ ،‬بل نحن نس�جل هذا التقدم‬
‫ونح�ن على أس�وأ م�ا يكون من الفس�اد واالنحلال والضي�اع‪ .‬تصور م�ا يمكن أن‬
‫ننجزه لو أننا طهرنا أنفسنا من اآلفات‪ ،‬وقهرنا الضعف واإلهمال والتراخي‪ ،‬وأزحنا‬
‫السدود عن طريق شبابنا‪.‬‬

‫تص�ور كيف تكون الق�وة والعزيمة! وكيف يكون البن�اء والتعمير! وكيف يكون‬
‫االنطلاق إلى مراقي نهضة حقيقية؟ التعليم يتجدد‪ ،‬وغدً ا نجني ثمرة س�ليمة لجيل‬
‫جادا‬
‫عمل ًّ‬ ‫ٍ‬
‫واعد ب�كل خير‪،‬واإلنتاج يحت�ل بؤرة العناي�ة واالهتمام‪ ،‬فانتظ�ر اً‬ ‫جدي�د‬
‫حقيقيا‪ .‬وس�يجيء يوم ‪-‬ولعله أقرب مما نتخيل‪ -‬فنجدد دس�تورنا‪ ،‬ونطهر‬
‫ًّ‬ ‫وإبداعا‬
‫ً‬
‫ديمقراطيتنا من كل ش�ائبة‪ ،‬وسوف تحدث المعجزة‪ ،‬فيسود القانون اً‬
‫فعل كما يسود‬
‫ق�ولاً ‪ ،‬ويرفع عن عامتنا عذاب المعاملة في المصالح الحكومية والس�جون‪،‬ويتمتع‬
‫كل مواطن بحقوقه فيؤدي واجبه دون تمييز طبقي أو عائلي أو ديني‪ .‬ربما ال يسعفنا‬
‫العمر حتى نش�هد ذلك الوقت الس�عيد‪ ،‬ولكننا نرضى بأن نشهد عالمة تشير إليه‪ ،‬أو‬
‫ُخطوة ُت َق ِّرب منه‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫العلم‬

‫ال يخلو الميدان من صادقين طاهرين مؤمنين منتمين‪ ،‬يواصلون العمل في النهار‬
‫واللي�ل‪ .‬لعلهم ِق َّلة‪،‬ولعله من العس�ير رؤيتهم بالعين المج�ردة‪ ،‬ولكنهم موجودون‬
‫حتم�ا‪ ،‬والدلي�ل على ذلك أننا لم نهلك ولم يدركنا الفن�اء‪ .‬إنهم القلة التي َأ َو ْت إلى‬
‫ً‬
‫س�فينة ن�وح فنجت من طوفان االنحالل والفس�اد والرجعية واالنتهازي�ة‪ .‬إنهم ِم ْل ُح‬
‫األرض‪ ،‬بهم تتجدد الحياة‪،‬وتطلع الش�مس‪،‬ويضيء الغد‪ ،‬ال تَقُ ْل إنِّي أحلم‪ ،‬فليس‬
‫بين الحلم والواقع اَّإل خيط رفيع‪ ،‬وطاقة إنسانية تُسمى بإرادة البقاء‪.‬‬

‫‪1988/1/7‬‬

‫‪255‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حول اإلنتاج‬

‫عج�ب ً‬
‫أيضا أن‬ ‫َ‬ ‫اإلنت�اج حياتن�ا‪ ،‬فال عجب أن ينعقد م�ن أجله مؤتمر قومي‪ .‬ال‬
‫يركز المؤتمر على دراس�ة مراكز اإلنتاج وعالقات اإلنتاج وتجويده واس�تهالكه في‬
‫الداخ�ل والخارج‪ ،‬وغير ذل�ك مما يقع في صميم الموضوع‪ ،‬ولكن يظل األس�اس‬
‫ق�وام حياته‬
‫َ‬ ‫األول ه�و‪ :‬كي�ف نخلق اإلنس�ان المنتج‪ ،‬اإلنس�ان الذي يعتب�ر اإلنتاج‬
‫وكرامته وقيمته وسعادته في الحياة؟‬
‫أول�ي في التربية الدينية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ف�أول ما يجب أن نس�لم ب�ه أن اإلنتاج فريضة دينية‪ ،‬وأنه درس‬
‫لينش�أ الطفل على تقديس�ه مث�ل الصالة والصي�ام وال�زكاة والتفكير‪ .‬وثاني م�ا ن ُْع َنى به‬
‫وتطبيقيا‪ ،‬وما الح�رف والمهن والتخصصات العليا‬ ‫ًّ‬ ‫نظريا‬
‫التأهي�ل العلمي الجيد للفرد ًّ‬
‫اَّإل درجات في هرم و احد متكامل‪ ،‬يحل كل مواطن فيه حيث تضعه استعداداته وميوله‬
‫بعيدً ا عن أي تأثير لخير الفرد و المجتمع‪.‬‬

‫الم ْلك‪ ،‬وهو يجيء‬ ‫ويجيء دور العدل بجالله‪ ،‬فهو أساس العمل كما هو أساس ُ‬
‫ع�ادة وف�ي ركابه الثواب والعقاب‪َ ،‬ف ِم ْن ُك ٍّل على َق ْد ِر همت�ه‪ ،‬ولِ ُك ٍّل َعلى قدر همته‪،‬‬
‫يعقب ذلك الرعاية التي يجب أن تشمل الرزق والصحة والثقافة والترفيه‪ .‬وال ننسى‬
‫معالجة مش�كلة ِ‬
‫العمالة الزائدة باعتبارها من معوقات العمل ومثبطات الروح‪،‬وهي‬
‫تُعالج بإعادة التوزيع‪ ،‬أو بتأهيل جديد لعمل جديد‪ .‬وتيسير الهجرة‪ ،‬أما الفائض بعد‬
‫ذل�ك فيجب أن ُيبعد ع�ن مواقع العمل ليتبع وزارة العمل‪ ،‬م�ع حفظ الحقوق كقوة‬
‫احتياطية تحت الطلب أو للخدمة العامة‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫العلم‬

‫أيض�ا أن نعيد النظر ف�ي اإلجازات األس�بوعية والموس�مية‪ ،‬فنحن نعاني‬ ‫علين�ا ً‬
‫اختصاصا ووق ًفا‬
‫ً‬ ‫معان�اة الفقراء ونلهو َل ْه َ‬
‫�و ا ألعيان‪ ،‬من ذلك نرى أن اإلنتاج لي�س‬
‫عل�ى رجال االقتصاد‪ ،‬ولكن الدور األول فيه ‪-‬عل�ى المدى البعيد‪ -‬من اختصاص‬
‫الدين واإلعالم والثقافة‪.‬‬

‫‪1988/1/28‬‬

‫‪257‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عصر العلم والعلماء‬

‫اطلعت في األهرام على نبأ اإلنج�از العلمي الذي حققه العالم المصري‬
‫ُ‬ ‫عندم�ا‬
‫علم�ت بالنجاح العالمي ال�ذي فاز به المهندس «حس�ن‬ ‫ُ‬ ‫«أح�د زوي�ل»(((‪ ،‬وعندم�ا‬
‫فتحي»(((‪ ،‬انتعش�ت روحي انتعاش�ة مش�رقة لم تحظ بمثلها اَّإل في القليل النادر من‬
‫أحداث السعادة‪ ،‬ذلك أنني أعتبر العلم ومنجزاته في مقدمة ما يقود األمم إلى التقدم‬
‫والقوة والرخاء‪ ،‬أجل‪ ،‬إن األمم ال تعيش بالعلم وحده‪ ،‬بل إن العلم نفس�ه ال يزدهر‬

‫((( أحمد حس�ن زويل (‪ )2016-1946‬عالم كيميائي مصري وأمريكي الجنسية حاصل‬
‫عل�ى نوب�ل في الكيمياء لس�نة ‪ 1999‬ألبحاثه ف�ي كيمياء الفيمتو حيث ق�ام باختراع‬
‫ميكروس�كوب يقوم بتصوير أش�عة الليزر في زمن مقداره فيمتو ثانية وهكذا يمكن‬
‫رؤية الجزيئات أثناء التفاعالت الكيميائية وهو أس�تاذ الكيمياء واس�تاذ الفيزياء في‬
‫معهد كاليفورنيا للتقنية‪.‬‬
‫((( حس�ن فتحي مهن�دس عم�ارة الفق�راء (‪ )1989-1900‬ولد باإلس�كندرية وتخرج‬
‫حالي�ا) جامع�ة ف�ؤاد األول (جامع�ة القاهرة‬
‫ف�ي المهن�دس خان�ة (كلية الهندس�ة ً‬
‫حالي�ا) اش�تهر بطرازه المعم�اري الفريد الذي اس�تمد مصادره من العم�ارة الريفية‬ ‫ً‬
‫النوبي�ة المبنية بالطوب اللبن ومن البيوت والقص�ور بالقاهرة القديمة في العصرين‬
‫المملوكي والعثماني تعد القرية التي بناها لتقطنها ‪ 3200‬أسرة جز ًءا من تاريخ البناء‬
‫الشعبي الذي أسسه بما يعرف بعمارة الفقراء‪.‬‬
‫بدأ فتحي أولى خطواته المعمارية عام ‪ 1928‬وكان أول مشروع له هو مدرسة طلخا‬
‫االبتدائية غلب عليها الطابع الكالسيكي الذي درسه بكلية الفنون الجميلة‪.‬‬
‫‪258‬‬
‫العلم‬

‫ويثم�ر إلاّ ف�ي أحضان حضارة متكاملة تقوم على أس�س متينة من النظم السياس�ية‪،‬‬
‫والمثُل العليا‪ .‬ولك�ن يظل العلم جوهرة‬
‫والمب�ادئ األخالقية‪ ،‬والعقائد الراس�خة‪ُ ،‬‬
‫فريدة في هذا التاج‪ ،‬ويظل للعلماء كرسي الصدارة ومنصة القيادة‪.‬‬

‫ونحن نملك اليوم كوادر علمية متنوعة‪ ،‬ومؤسس�ات للبحث والدراسة‪ ،‬ولكنها‬
‫ال ُيت�اح له�ا أن تؤدي دورها كما ينبغي لها‪ ،‬أو تتوارى في الظل‪ ،‬فال يدري الجمهور‬
‫عنها شي ًئا ُيذكر‪ .‬وواجبنا نحو الحضارة ونحو أنفسنا في هذا العالم ‪-‬الذي أصبح فيه‬
‫التأخ�ر صنو الفناء‪ -‬أن نُمكنها من العمل واإلش�راف والتوجيه‪ ،‬وأن ن َُب ِّؤئ ََها المنازل‬
‫التي تستحقها بكل جدارة‪ ،‬وأن نُسلط عليها األضواء باعتبار ذلك تربية علمية وتنمية‬
‫حضارية‪ ،‬ودعوة لنشر الحقيقة وعشقها بين الناس‪.‬‬

‫علينا أن نراعي ذلك في تربيتنا الدينية والقومية وقصص أطفالنا‪ ،‬وعلينا أن نعني‬
‫بنش�ر سلس�لة مبس�طة للثقافة العلمية‪ ،‬وعلى التليفزيون أن يقوم بجوالت دورية في‬
‫يهيئ لنا لقاءات مع العلماء بالهمة المش�كورة نفسها التي يبذلها‬
‫مراكز البحث‪ ،‬وأن ّ‬
‫للتعريف بأبطال الرياضة والفن‪.‬‬

‫تحية لكل عالم مصري برز بسبب وجوده في الخارج‪.‬‬

‫وتحية للباحثين المصريين الذين تأتي أخبارهم على استحياء بين السطور بسبب‬
‫بقائهم في الداخل‪.‬‬

‫‪1988/2/4‬‬

‫‪259‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مفتاح اإلصالح‬

‫ف�ي خطاب الس�يد الرئيس في عيد العمال وردت أم�ور غاية في األهمية‪ ،‬الكثير‬
‫منها يس�تحق التنويه والتقدير‪ ،‬وال تخلو من نقاط تثير المناقش�ة‪ ،‬ولكني أختار منها‬
‫للحدي�ث مس�ألة أجور العاملي�ن‪ ،‬أختارها بالرغم م�ن أنها من بين م�ا أضطر لتركه‬
‫أم�ورا مهمة‪ ،‬مث�ل اإلنتاج‪ ،‬وما‬
‫ً‬ ‫لضي�ق المجال ولس�بق معالجته ف�ي ظروف ماضية‬
‫أدراك م�ا اإلنت�اج‪ ،‬وما تم إنج�ازه من أعمال ضخم�ة تنعش ال�روح وتبعث األمل‪.‬‬
‫وما قيل من تمس�ك وإيمان بالديمقراطية‪ ،‬وتنبيه الشعب إلى واجبه حيال نقص مياه‬
‫الني�ل‪ ،‬بالرغم من ذلك كله أختار مش�كلة األجور؛ ألنه�ا في نظري تكمن وراء أكثر‬
‫م�ا نعاني منه في حياتنا من س�لبيات حاق�ت باإلنتاج والخدمات والحياة السياس�ية‬
‫واألخالق واالنتماء‪ ..‬إلخ‪.‬‬

‫فق�د كان م�ن المفارقات المثيرة للش�جن أن سياس�ة الثورة على م�دى أطوارها‬
‫المتعاقب�ة رفعت مس�تويات فئات كثيرة من الش�عب‪َ :‬ف اَّلحيه وعمال�ه وحرفييه‪ ،‬بل‬
‫ومغامري�ه وانتهازييه‪ ،‬وكأنها حاصرت موظفيها في نط�اق رواتب محدودة عجزت‬
‫من�ذ زمن طوي�ل عن مواجهة أعب�اء الحياة‪ ،‬إن إنص�اف هذه الفئة الت�ي تمثل صفوة‬
‫األمة ال يعد مجرد عمل إنس�اني نبيل‪ ،‬ولكنه ً‬
‫أيضا إعادة التوازن واالستقرار النفسي‬
‫للعق�ول واألي�دي التي تق�وم بالتنمية الش�املة أو النهض�ة المرتقب�ة‪ ،‬والتي ينعكس‬
‫إحباطها في تعاملها مع الش�عب في شتى المصالح والمراكز‪ ،‬فإنصافها ليس إنصا ًفا‬
‫لفئة‪ ،‬ولكنه بعث للقوة الدافعة للعمل والخدمات العامة‪ ،‬بل إن إنصافها هو الخطوة‬

‫‪260‬‬
‫العلم‬

‫األولى الحاس�مة نحو تطهير حياتنا من ألوان الفس�اد المعروفة‪،‬كالتسيب واإلهمال‬


‫والرشوة واالستغالل والتقهقر الثقافي‪.‬‬

‫حذا ِر أن تعتبروا مشكلة األجور مشكلة هامشية أو حتى مجرد عاطفية أمنية‪ ،‬إنها‬
‫ذلك كله‪ ،‬باإلضافة إلى أنها أساس العمل وطاقته وضابطه وأمله‪.‬‬

‫‪1988/5/12‬‬

‫‪261‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫تساؤل غير خبير‬

‫أراقب ما يدور حول ش�ركات توظيف األموال بتعجب‪ ،‬وأتابع ما يتخذ بش�أنها‬
‫من خطوات بتس�اؤل ودهش�ة‪ ،‬ولو كنت من أهل الخبرة في الموضوع ‪-‬أو حتى من‬
‫ضمن المتعاملين ألمكن أن أدلي ْ‬
‫برأي‪ ،‬ولكني أكتفي بالتس�اؤل‪ .‬إن تكن ش�ركات‬
‫توظي�ف األم�وال بالحال التي توصف به�ا‪ ،‬فال ضمان لها وال ضاب�ط لمغامراتهم‪،‬‬
‫فكي�ف وث�ق الناس فيها وس�لموها مال العمر كله دون قيد أو ش�رط؟وإن تكن على‬
‫تلك الحال التي تُوصف بها فكيف بدأت عملها في ضوء الش�مس‪ ،‬وكيف مارس�ته‬
‫حتى تعملقت وتمادت في الطول والعرض؟ أين كانت الدولة؟ ولِ َم استيقظت فجأة‬
‫لتطبق مبادئ ما كان يجوز أن تؤجل تطبيقها ساعة واحدة؟ وما معنى هذا التردد بين‬
‫العنف وال ِّلين‪ ،‬وبين اإلقدام والتعقل؟‬

‫وبع�د فما يج�وز أن نناقش حق الحكومة ف�ي حماية المال الع�ام والخاص‪ ،‬بل‬
‫ه�و واجب من أوجب واجباتها نحو األفراد والجماعات واالقتصاد القومي‪ ،‬ولكن‬
‫دائما عند ُحس�ن الظن بها‪ ،‬وأن يتنزه س�لوكها عن المناورة‬
‫على الحكومة أن تكون ً‬
‫والغ�رض‪ ،‬وأن تن ِّفذ رعايته�ا االقتصادية في نطاق الحكمة والعدل‪ ،‬ودون مس�اس‬
‫بمصال�ح المودعين أو حساس�ية المس�تثمرين الذين ندعوهم إل�ى العمل في بالدنا‬
‫عج�ب أن الموضوع ق�د ُب ِح َث في‬
‫ٍ‬ ‫تح�ت مظل�ة االس�تقرار وس�يادة القانون‪ .‬وم�ن‬

‫‪262‬‬
‫العلم‬

‫مجلس الوزراء‪ ،‬وتقرر بحثه في الحزب‪ ،‬ولكن لم يفكر مس�ئول في دعوة القائمين‬
‫على الشركات أو نخبة من المودعين لالستماع إلى رأيهم ومناقشتهم‪.‬‬

‫أتمنى أن نصل إلى اإلصالح المنشود ألية مشكلة دون أن نضطر إلى العبور إليه‬
‫على جسر من األخطاء‪.‬‬

‫‪1988/6/2‬‬

‫‪263‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بين الفناء والبقاء‬

‫نحن على درجة من التخلف ال يجوز أن يقبلها ش�عب كريم‪ .‬هذه حقيقة تتجلى‬
‫مثل نور الش�مس المحرقة في يوم قائظ لدى أية مقارنة مع العالم المتقدم في ش�تى‬
‫الم ِ‬
‫ين تتس�ع بنفس المعدل فال يبعد أن‬ ‫جوانب الحضارة‪ ،‬ولو َم َضت الفجوة بين َ‬
‫الع َ‬
‫يقض�ى علين�ا بالفناء أو بأن نعمل في خدمة المتفوقي�ن كما يعمل الحيوان في خدمة‬
‫اإلنسان‪ .‬إنهم يقتحمون الفضاء ويتغلغلون في جوف َّ‬
‫الذ َّرة‪ ،‬ويتطلعون إلى التحكم‬
‫في الوراثة‪ ،‬ومازلنا نتعثر في بناء هياكلنا األساسية‪،‬ونجاهد بشق النفس لنيل حقوق‬
‫كثيرا من أحالمنا الذهبي�ة لم يعد بالقياس‬
‫اإلنس�ان ومقاومة التهرؤ واالنحلال‪ .‬إن ً‬
‫أشباح أساطير لعصور مظلمة مضت وانقضت‪.‬‬
‫َ‬ ‫إليهم اَّإل‬

‫والش�عوب قد تغفو‪ ،‬وقد تخنع‪ ،‬وقد تهادن‪ ،‬وقد تتصبر‪ ،‬ولكن الحياة ال ترحم‪،‬‬
‫والزمن ال ُيجامل‪،‬وحفريات الكائنات المنقرضة خير شاهد على ذلك‪َ ،‬ف ِم ْن منطلق‬
‫الدف�اع ع�ن النفس والتش�بث بأهداب الع�زة والكرام�ة أدعو األح�زاب أن تواصل‬
‫لقاءاته�ا‪ ،‬وأن توس�ع م�ن دائراتها بضم األح�زاب غير القانوني�ة‪ ،‬باإلضافة إلى أهل‬
‫الخبرة من أس�اتذة الجامعات وقادة الرأي ورؤس�اء النقابات‪ ،‬أدعوهم إلى تفحص‬
‫ح�ال وطنهم ونقد واقعهم‪ ،‬والنظر إلى مس�تقبلهم على ض�وء ماضيهم وعلى ضوء‬
‫مستقبلهم‪ ،‬لعلنا نخرج من ذلك كله بمقترحات وتوصيات تكون ُهدً ى لنا نستضيء‬
‫ب�ه ف�ي جميع ما يتعلق بش�ئون الحك�م والحي�اة‪ .‬ويحضرني كمثال لذل�ك المؤتمر‬

‫‪264‬‬
‫العلم‬

‫الوف�دي ال�ذي انعقد أيا ًما متتابعة في أعقاب ُحكم إس�ماعيل صدقي(((‪ ،‬وتش�كلت‬
‫داخل�ه لجان للسياس�ة واالقتصاد والتعلي�م والثقافة إلخ‪ ،‬وتكش�ف ذلك عن كتاب‬
‫إصالحي يتفق وآمال ذلك الزمان المتواضعة‪.‬‬

‫يج�ب أن نفع�ل ش�ي ًَئا‪ ،‬فنحن هذه الم�رة مه�ددون بالفناء‪ ،‬أو بما هو أش�نع منه‪،‬‬
‫والعدل في هذه الحياة يتحقق‪ ،‬سواء بنا أو علينا‪ .‬فلنلحق بركب التقدم قبل أن نصير‬
‫اً‬
‫مثل من أمثلة التاريخ المأساوية‪.‬‬

‫‪1988/6/23‬‬

‫((( ولد عام (‪ )1950 - 1875‬هو سياس�ي مصري تولى رئاس�ة الوزراء في عام ‪ 1930‬في‬
‫عه�د الملك فؤاد حيث قام بوضع دس�تور عام ‪ 1933‬ال�ذي زاد فيه من نفوذ الملك‬
‫مما أثار ضجة فاضطر إلى إلغائه وأعاد دستور ‪ 1923‬وتولى رئاسة الوزراء فترة ثانية‬
‫من ‪ 17‬فبراير ‪ 9 -‬ديسمبر ‪.1946‬‬
‫رئاس�ة الوزراء األولى‪ :‬في عام ‪ 1923‬تم إصدار الدستور المصري‪ ،‬وفي عام ‪1924‬‬
‫أعلن عن انتخابات لمجلس النواب‪ ،‬رش�ح إس�ماعيل صدقي نفسه‪ ،‬لكنه لم ينجح‬
‫ف�ي تل�ك االنتخابات‪ ،‬تول�ى وزارة الداخلية في حكومة زيور باش�ا ع�ام ‪ ،1924‬ثم‬
‫اس�تقالت الوزارة عام ‪ 1926‬م‪ ،‬وقام إس�ماعيل باش�ا بتش�كيل ال�وزارة األولى عام‬
‫‪ 1930‬وتس�لم فيها‪ ،‬إضافة لرئاس�ة الوزراء‪ ،‬حقيبتي المالي�ة والداخلية‪ ،‬وقام بتغيير‬
‫الدستور المصري واستمرت حكومته حتى ‪.1933‬‬
‫رئاسة الوزراء الثانية‪ :‬قام بإنشاء حزب الشعب في عام ‪ ،1930‬وذلك في محاولة منه‬
‫لول�وج المي�دان الجماهيري‪ ،‬إال أن هذا الحزب لم يحظ بأي رصيد ش�عبي‪ ،‬وكان‬
‫دور ضئيل جدً ا في الميدان السياس�ي‬
‫حزب س�لطوي‪ ،‬وبهذا فقد كان له ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يعرف بأنه‬
‫وتأثيرا‪ ،‬ومع أنه كان من مؤسس�ي حزب الش�عب‪ ،‬إال أنه ما لبث أن انفصل عنه‬
‫ً‬ ‫أثرا‬
‫ً‬
‫واستقال من رئاسة الحزب‪ ،‬ولكن هذا االنفصال لم يطل أمده ألكثر من عا ٍم واحد‪ٍ،‬‬
‫فقد عاد ثانية لصفوف الحزب في أواخر عام ‪.1934‬‬
‫‪265‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫دعوة للحياة‬

‫فقدن�ا الدهش�ة‪ ،‬فقدن�ا االنزعاج‪ ،‬فقدن�ا االهتمام‪ .‬تالش�ت صفات نبيل�ة كثيرة‬
‫ف�ي حصار الخ�وف والقلق على لقم�ة العيش‪ ،‬نحن نعيش في عص�ر اللقمة‪ ،‬يرتعد‬
‫ُأ ٌ‬
‫ناس خو ًفا من العجز عنها‪ ،‬ويش�ك آخرون في دوام القدرة عليها‪ ،‬وحتى أصحاب‬
‫الماليين يتلفتون في توجس‪ ،‬ويتفق الجميع في االغتراب عن عالم اإلنس�ان وقيمه‬
‫السامية ومسراته الهادئة‪.‬‬
‫وم�ن حولنا تتحق�ق منجزات كبيرة وإصالحات أساس�ية‪ ،‬وتواصل قلة مخلصة‬
‫صادق�ة العمل ليل نه�ار‪ ،‬ولكن العمل الطيب كالعمل الخبيث‪ ،‬يمضيان والناس في‬
‫شغل شاغل بهمومهم الذاتية‪ .‬تمر بنا األحداث أو نمر بها دون رد فعل أو صدى في‬
‫الوج�دان‪ ،‬أو رجع في التأمل والتفكير‪ .‬وتهددنا ك�وارث كونية ومصائب اجتماعية‬
‫فنردده�ا لحظ�ة ثم نتحول عنها غي�ر عابئين‪ ،‬ال نفك�ر فيها بجدي�ة وال نطالب غيرنا‬
‫بالتفكير‪ ،‬وكأنما تلوح على مسرح في ملهى‪ ،‬أو تومض في ذاكرة تاريخ قديم‪.‬‬
‫متى تجيء اليقظة؟ متى تتفجر ينابيع الحياة؟ متى تُستأصل جذور الخمود والسلبية؟‬
‫وأخيرا إلى الذات‪،‬‬
‫ً‬ ‫متى تشتعل الجمرات تحت الرماد؟ إنها دعوة للحياة‪ ،‬موجهة أولاً‬
‫ال تطلب عونًا من قوة خارج الذات‪ .‬إنَّ ما تقوم به الدولة بطبعه طويل المدى‪ .‬أطلب‬
‫العون من ذاتك‪ .‬لديك إرادة تقول للش�يء كن فيكون‪ .‬ال س�بيل إلى تجاوز واقعنا إال‬
‫بإرادتنا الحرة‪ .‬والتحديات قد تقتل الضعفاء ولكنها تخلق الخالدين‪.‬‬

‫‪1988/8/4‬‬

‫‪266‬‬
‫العلم‬

‫األمانة التي حملها اإلنسان‬

‫كي�ف تح�ل اليقظة مح�ل االس�ترخاء؟ كيف ينه�ض ش�عب ليغير دني�اه ويقرر‬
‫مصي�ره؟ تحدثن�ا علوم اإلنس�ان ف�ي ذلك ع�ن دور االقتص�اد والسياس�ة‪ ،‬عن دور‬
‫األح�زاب والزعام�ات الق�ادرة‪ ،‬عن تأثير التربي�ة واإلعالم والفن�ون واألدب‪ ،‬وكل‬
‫أولئك عوامل ضرورية ال غنى عنها‪ ،‬ولكن أليس للفرد دور في هذا المجال المبدع‬
‫الخطي�ر؟ بل�ى‪ ،‬إن له َل�دَ ْو ًرا‪ ،‬اَّ‬
‫وإل تعي�ن عليه أن ينتظ�ر كما ينتظر الجائ�ع أن تمطر‬
‫ذهبا وفضة‪.‬‬
‫السماء ً‬
‫يس�تطيع الفرد أن يقتلع جذور الس�لبية من ذاته‪ ،‬وأن يوطن نفس�ه على االعتماد‬
‫على النفس‪ ،‬إنه برغم الظاهر ممكن إذا اختاره اإلنس�ان الحر وفتح به طريقًا جديدة‬
‫علي أن أفعل؟ قبل أن يلوذ بالسؤال التقليدي‪:‬‬
‫لحياته‪ ،‬عليه أن يبدأ بسؤال نفسه‪ :‬ماذا َّ‬
‫حتما‬
‫ماذا س�تفعل الحكومة؟ ال أعنى أنه بوس�عه أن يحل المشكالت بنفسه‪ ،‬ولكنه ً‬
‫س�يألف التفكي�ر في إيجاد الحل�ول لها‪ ،‬وإذا لم يجده ذلك ف�ي أغلب األحوال فإنه‬
‫يشده إلى التفكير العام‪ ،‬ويهيئه للمشاركة واالنتماء‪.‬‬

‫وعلى الفرد أن يعلم أنه يملك قوة هائلة يوهنها الكس�ل‪ ،‬ويبددها اإلهمال‪ ،‬هي‬
‫إرادت�ه الحرة‪ ،‬هي الباعث لقوى خفية تزخر بها نفس�ه على غير ش�عور منه‪ ،‬ويمكنه‬
‫بحس�ن اس�تعمالها أن يحقق أفعالاً قد يعتبرها المتواكلون م�ن المعجزات‪ ،‬وما بين‬
‫غمض�ة عي�ن وانتباهتها تتغير أحوال وتنقش�ع ظلمات‪ ،‬وتتالش�ى أوه�ام‪ ،‬ولكن ال‬
‫جدا ونضالاً ‪.‬‬
‫جدوى من ذلك كله إذا لم نعتبر الحياة ًّ‬
‫‪267‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وح�ب السلامة واللهفة عل�ى اقتناص‬


‫�ر الحي�اة وتخاي�ل ش�بح الموت ُ‬ ‫ِ‬
‫إن ق َص َ‬
‫ولعب�ا وانتهازية‪ ،‬حتى جعلوها مال ًذا للجبناء‬
‫لهوا ً‬
‫الل�ذة تغري كثيرين بتصور الحياة ً‬
‫جدا ونضالاً ‪.‬‬
‫والكسالى‪ ،‬ولكنها ال تكون حياة جديرة باسمها المبارك إذا لم نعتبرها ًّ‬
‫فلنح�رك عوام�ل االقتص�اد والسياس�ة والتاري�خ‪ ،‬وال َن ْق َن�ع منه�ا بموق�ف الصاب�ر‬
‫المنتظر‪.‬‬

‫‪1988/8/11‬‬

‫‪268‬‬
‫العلم‬

‫السلوك في وقت الشدة‬

‫إذا تراكمت المش�كالت‪ ،‬واس�تعصت على الحلول القريبة‪ ،‬إذا شق على العمل‬
‫الص�ادق وح�ده تنقية الجو من ك�در اإلحباط‪ ،‬وجب عل�ى الناس أن يعي�دوا النظر‬
‫ف�ي موقفهم‪ .‬ليس�ت هذه دعوة إلى ائتالف يمس جوه�ر الديمقراطية‪ ،‬ولكنها دعوة‬
‫إل�ى تب�ادل الرأي بمعزل عن الخصومة الحزبية المش�روعة‪ ،‬وفي مناخ وطني علمي‬
‫موضوعي تقتضيه الشدة ويحتمه التطلع إلى الفرج‪.‬‬
‫خيرا من وراء‬
‫ومن حقي أن أسأل في هذا الموضع عن مؤتمر اإلنتاج الذي أملنا ً‬
‫انعق�اده‪ :‬فأين هو؟ ليس اإلنت�اج بالمطلب القابل للنس�يان أو التأجيل‪ ،‬ولعله األمل‬
‫مس�تمرا ‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫توترا‬
‫األول لن�ا عن�د مواجهة التحديات واألزمات التي جعلت من الحياة ً‬
‫مؤتمرا يجمع بي�ن أهل الخبرة والعلم يكون‬
‫ً‬ ‫إذا تع�ذر قيام جبهة وطنية ش�املة َّ‬
‫فلعل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫البدي�ل والع�وض‪ ،‬وبخاص�ة إذا انطل�ق في َب ْحث�ه من البح�وث القيمة الت�ي قدمتها‬
‫المجال�س القومي�ة‪ .‬وما علينا بعد ذلك اَّإل أن نكرر التجربة مع س�ائر المش�كالت‪،‬‬
‫مثل االنفجار السكاني‪ ،‬والديون‪ ،‬والبطالة‪ ،‬والغالء‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ليك�ن ل�كل مش�كلة مؤتمر‪ ،‬وليكن ل�كل مؤتم�ر توصيات‪ ،‬وليك�ن للتوصيات‬
‫ج�دول زمن�ي للتنفيذ‪ ،‬وحت�ى إذا لم تقتنع حكوم�ة األغلبية بجمي�ع التوصيات فقد‬
‫تقتن�ع ببعضه�ا‪ ،‬وتستش�ف م�ن ورائها رغب�ات صادقة ربم�ا غابت عنه�ا في زحمة‬
‫ممثل ِ‬
‫للع ْلمِ وش�تى االتجاهات‪ ،‬وأن تمثل به‬ ‫العمل‪ .‬وما أجدر أن يجيء كل مؤتمر اً‬
‫معا‪.‬‬
‫األجيال المتعاقبة‪ ،‬ليعبر في النهاية عن الحاضر والمستقبل ً‬
‫‪1988/9/1‬‬

‫‪269‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫االنفجار‬

‫الع ْو ِد إليه‪ ،‬فكيف نواجهه؟ لنطرح‬ ‫ِ‬


‫قيل في عواقب االنفجار السكاني ما ُيغ ْني عن َ‬
‫س�ؤالاً آخر‪ :‬لماذا يحرص أناس على كثرة الذرية؟ والجواب‪ :‬إنهم يحرصون على‬
‫ذلك كوس�يلة طبيعية لمقاومة الفناء الذي يهدده�م باألوبئة‪ ،‬وموت األطفال‪ ،‬وغير‬
‫اس�تكثارا لأليدي العاملة التي يحتاجون‬
‫ً‬ ‫ذلك‪ ،‬أو احترا ًما لتقاليد التاريخ والبيئة‪ ،‬أو‬
‫إليه�ا ف�ي معيش�تهم‪ ،‬أو لضيق ُأفق المس�رات في حياته�م‪ ،‬فال يبقى له�م اَّإل العزاء‬
‫الجنسي‪.‬‬

‫ولعلاج ذلك توجد وس�ائل متعددة‪ ،‬منه�ا‪ :‬الدعاية المباش�رة‪ ،‬ولعلها أضعفها‬
‫بأس�ا من مواصلتها واإللحاح عليها‪َّ ،‬أما العالج الحقيقي فلعله‬
‫أثرا‪ ،‬وإنْ كنا ال نرى ً‬
‫ً‬
‫يتيسر باالهتمام بما يأتي‪.‬‬

‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫أولاً ‪ -‬التركي�ز عل�ى رفع مس�توى المعيش�ة ونش�ر الخدمات العام�ة‪،‬‬
‫الصحية‪ ،‬واستغالل إمكانات العمل في أرضنا بكل سبيل‪ ،‬وهو ما تُعقد عليه اآلمال‬
‫من خالل تنفيذ الخطة الشاملة‪.‬‬

‫ثاني�ا‪ -‬نش�ر التعلي�م والثقافة على أوس�ع نط�اق‪ .‬ومم�ا ُيذكر هن�ا أن المتعلمين‬
‫ً‬
‫المثقفين اتجهوا نحو تنظيم األس�رة من قديم‪ ،‬وحتى من قبل تبلور مش�كلة السكان‬
‫في حياتنا‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫العلم‬

‫تبعا‬
‫وحرفي�ا‪ً ،‬‬
‫ًّ‬ ‫مهني�ا‬
‫ثالثً�ا‪ -‬علين�ا أن نع�د الفائ�ض م�ن ش�بابنا للهج�رة بتأهيله ًّ‬
‫الحتياجات البلدان الخارجية‪ ،‬وأنْ تُرس�م لذلك سياس�ة واعي�ة لتنظيم العملية بين‬
‫الداخل و الخارج‪.‬‬

‫وهناك وس�ائل صارم�ة لجأت إليها بعض الدول‪ ،‬نرجو أن نعالج مش�كلتنا دون‬
‫االضطرار إلى اللجوء إليها‪ ،‬على أن الدفاع عن النفس قد يقتضي اإلنسان تضحيات‬
‫غالية‪.‬‬

‫‪1988/9/22‬‬

‫‪271‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫العمل أمانة‬

‫نحن مطالبون بالعمل في كل حين‪ ،‬كأنما هو األمانة التي حملناها في هذه الدنيا‬
‫لتعميره�ا‪ .‬وفي هذه الفترة بالذات من حياتنا يصبح العمل فريضة ال يجوز أن تغيب‬
‫عنا لحظة واحدة‪.‬‬

‫ولعل�ه ال َي ْكف�ي أن نلت�زم بالعم�ل‪ ،‬بل علين�ا أن نحب�ه‪ ،‬فليس مث�ل الحب طاقة‬
‫ودافعا‪ ،‬بل ال يكفي أن نحبه‪ ،‬فمن ُح ْس�ن الطالع أن نحبه أكثر ولو درجة واحدة من‬
‫ً‬
‫الثمرة المرجوة منه‪ .‬حقًّا‪ ،‬إن الثمرة حق مش�روع لكل عامل‪ ،‬ولكن ش�د ما يتعرض‬
‫اإلنسان للمحن إذا أحبها أكثر من العمل نفسه‪ ،‬عند ذاك ُي َ ِم ْسي العمل مجرد وسيلة‪،‬‬
‫وربما ‪-‬عند اإلحباط أو الضيق‪ -‬استبدل اإلنسان وسيلة بأخرى‪ ،‬فينزلق للتشتت أو‬
‫يتهاوى في الضياع‪.‬‬

‫الع ْبدَ لله في س�نوات طويلة من‬‫ولعل حب العمل أكثر من ثمرته هو الذي َس�نَدَ َ‬
‫َلح له فيها بارقة أمل‪ ،‬لكنني وجدت في العمل غاية تُغْ نِي عن أية غاية‪،‬‬
‫اإلحب�اط لم ت ْ‬
‫وبرغ�م الم�رارة أحيانًا فلم تخ�ل الحياة من بهجة وتطلع ونش�اط‪ .‬من هنا يكتس�ب‬
‫الصبر معنى جديدً ا‪ ،‬فال َي ْعني َ‬
‫الرضا بالواقع دون قيد أو شرط‪ ،‬ولكنه يعني العكوف‬
‫عل�ى العم�ل‪ ،‬والعمل وحده‪ ،‬مع اإليمان المطلق به وبالقيم الس�امية في الحياة‪ .‬هو‬
‫صب�ر إيجابي ال س�لبي‪ ،‬متح�رك غير جامد‪ ،‬مت�وكل ال متواكل‪ ،‬ال َ‬
‫يضع في حس�ابه‬
‫الح�ظ أو الخرا َف�ة‪ .‬هو صبر ديمقراطي ً‬
‫أيض�ا إنْ َص َّح هذا التعبي�ر‪ ،‬ينظر حوله بعين‬

‫‪272‬‬
‫العلم‬

‫فاحص�ة‪ ،‬ينق�د ويع�ارض بال حقد‪ ،‬يقول للمحس�ن‪ :‬أحس�نت! كما يقول للمس�ئ‪:‬‬
‫أس�أت‪ ،‬ينك�ر االنتهازي�ة‪ ،‬ويحتقر الوس�ائل غير المش�روعة‪ ،‬ويترفع ع�ن الصغائر‪،‬‬
‫ويتحمل العناء‪ ،‬ولكنه يرفض الهزيمة والضياع‪ ،‬فال تعب إ َذا َق َّي َ‬
‫ض له الله أن يكتسح‬
‫في طريقه االنتصارات الرخيصة‪ ،‬والنفايات والبهارج الكاذبة‪.‬‬

‫‪1989/2/2‬‬

‫‪273‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫العقل في الحياة اليومية‬

‫كثي�را بعواطفن�ا ونحن ال ن�دري ومما‬


‫ً‬ ‫م�ن أمراضن�ا العقلي�ة الش�ائعة أنن�ا نفكر‬
‫يضاعف من خطورة الظاهرة تفشيها بين المتعلمين‪ ،‬بل والمثقفين‪ .‬وإليك اً‬
‫مثل‪:‬‬

‫تدبر واختبار‪ ،‬ودون‬


‫الحكم واالنطالق فيه من مس�لمات واهية بلا ُّ‬
‫التس�رع في ُ‬
‫روي�ة أو فح�ص‪ ،‬وبلا أي دلي�ل‪ ،‬ثم نس�تخدم العقل في تأيي�د مس�لماتنا العاطفية‪،‬‬
‫وانفعاالتنا وأهوائنا‪ ،‬فنخلق من ال شيء حقائق وهمية‪ ،‬وال نكتفي بذلك‪ ،‬فنستخرج‬
‫وأشباحا‪ ،‬ونعيش في النهاية في عالم زائف من‬
‫ً‬ ‫منها اس�تنتاجات‪ ،‬ونتخيل مؤامرات‬
‫ُصنع أوهامنا‪ ،‬ال يمت بسبب للحقيقة‪ ،‬ونكون نحن ّأول ضحاياه‪.‬‬

‫ما أكثر صيغ التأكيد واليقين في مناقشاتنا‪ ،‬يبدأ القائل بقول‪« :‬مما ال شك فيه»‪ ،‬أو‬
‫«على وجه اليقين»‪ ،‬أو «مما ال يختلف فيه اثنان»‪ ،‬ثم يمضي في بناء خطابه طوبة فوق‬
‫تدبر لألساس الذي يقوم عليه‪ ،‬وقد يرجع األمر كله إلى مجرد شائعة‪ ،‬أو‬
‫طوبة دون ُّ‬
‫رأي مت�داول أماله الخصام‪ ،‬أو التمني‪ ،‬أو الكبرياء‪ .‬وعالج هذا الداء ال ينجح بداي ًة‬
‫اَّإل إذا بدأنا من التربية األولى التي تقوم على إيقاظ التفكير ال الحفظ‪ ،‬ولكن لإلعالم‬
‫دوره في ذلك وال ش�ك‪ .‬ومثلما يعالج أمراضنا المتوطنة وغيرها بوس�ائله المتنوعة‬
‫المباش�رة والدرامية‪ ،‬فعليه أن يتصدى ألمراضنا العقلية ليدعو الجمهور إلى احترام‬
‫العقل والموضوعية‪ ،‬والحذر من قوة االنفعاالت والعواطف الذاتية‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫العلم‬

‫ولع�ل ذل�ك يكون منطلقه إلى ب�ث روح المنهج العلمي برفق وه�وادة‪ ،‬وتعويد‬
‫الجماهير على إشراك العقل في حياتها اليومية‪ .‬إنْ يكن للقلب مجاله فللعقل مجاله‬
‫أيضا‪ ،‬وال ينتج من الخلط بينهما اَّإل الفوضى‪.‬‬
‫ً‬

‫‪1989/2/23‬‬

‫‪275‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫جهد بشري‬
‫(((‬

‫لعلك تذكر ما ينشر بين حين وآخر عن نصيب اإلنتاج من جهدنا البشري‪ ،‬وأرقامه‬
‫وال ش�ك تدعو إلى األسى الشديد‪ ،‬وبخاصة عند المقارنة باآلخرين‪ .‬ويضاعف من‬
‫جميعا من أن اإلنتاج ه�و أملنا األول للخروج من قبضة‬
‫ً‬ ‫األس�ى م�ا أصبحنا نؤمن به‬
‫المعاناة‪ ،‬وزحزحة التحديات الثقيلة الرازحة فوق صدورنا‪ .‬وقد وعدنا أكثر من مرة‬
‫بعقد مؤتمر لإلنتاج‪ ،‬وتمر األيام‪ ،‬وتتكاثر المؤتمرات‪ ،‬وال ينعقد المؤتمر المنشود‪.‬‬
‫والحق أنني ال أسلم بنسبة اإلنتاج المنشورة باعتبارها مقياس همة العاملين في أمتنا‪،‬‬
‫وج َلد‪.‬‬
‫األمر الذي ُيناقض الواقع والتاريخ‪ ،‬وما ُع ِر َف عن شعبنا من َصبر َ‬
‫اطن محدود الدخل ال يبذل في عمله‬ ‫ولعلنا نعثر على تفس�ير حين نتذك�ر أن المو ِ‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫محتفظا بالباقي لعمل جانبي يس�د به رمقه‪ ،‬فجماع ما يبذله‬ ‫األصلي اَّإل بعض جهده‪،‬‬
‫لتحصيل رزقه ال يقل في حجمه وقوته عن إنتاج اآلخرين‪ ،‬ولكنه مشتت بين عملين‪.‬‬

‫والدول�ة تُغْ ِضي عن س�لوك العاملين‪ ،‬ألنه ال يس�عها أن تمن�ح رجالها الرواتب‬
‫العادل�ة الكافي�ة لتفرغه�م لواجبه�م األول‪ ،‬ولكنها تس�تطيع أن تحت�م عليهم األداء‬
‫الكام�ل لعملها نظير اإلغضاء عن القي�ام بعمل إضافي للضرورة التي ال يجادل فيها‬
‫إنسان‪.‬‬

‫((( ه�ذا المق�ال كان عنوانه كم�ا كتبه نجيب محف�وظ «حول اإلنتاج» وهو س�بق له أن‬
‫أعطى العنوان نفسه لمقال كتبه في يناير عام ‪ 1988‬م‪ ،‬لذا غيرنا عنوانه كما هو اآلن‬
‫(المحرر)‪.‬‬
‫‪276‬‬
‫العلم‬

‫والب�د م�ن المراقبة الج�ادة والمتابعة‪ ،‬وإقامة نظ�ام الحوافز على أس�س جادة‪،‬‬
‫والبد أن تجعل الدولة من نفسها قدوة حسنة في الطهارة واالنضباط والتقشف‪.‬‬

‫أم�ا على الم�دى الطويل فلعل الذين يخططون لتجدي�د التعليم يركزون على ما‬
‫مقدس�ا للعلم والعمل والقيم الس�ابقة‬
‫ً‬ ‫منتميا لوطنه‪،‬‬
‫ً‬ ‫جادا‪،‬‬
‫يخل�ق من المواطن فر ًدا ًّ‬
‫وه�و واج�ب اإلعالم والدع�اة ً‬
‫أيضا‪ .‬وس�نجد في الدي�ن والتاريخ ما يؤي�د مطالبنا‬
‫ويحقق أهدافنا‪ ،‬ولن تعوقنا سوى الظروف‪ ،‬فسوء الظروف مدعاة لمضاعفة الجهد‬
‫والهمة‪.‬‬

‫‪1989/3/23‬‬

‫‪277‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الشهرة‬

‫ه�ل تحب الش�هرة؟ ولكن ينبغ�ي أن تفهم معنى الش�هرة؟ الش�هرة الحقيقية أن‬
‫ُيع�رف المرء لدى من يفهم عمله ويقدره‪ ،‬وهي بهذا المعنى تعني التوفيق في العمل‬
‫والف�وز بتقدي�ر عارفيه‪ ،‬فال يمكن أن يزه�د فيها اَّإل من يزهد ف�ي التوفيق والنجاح‪.‬‬
‫وه�ي كم�ا ترى نس�بية وال يمك�ن أن تك�ون مطلقة‪ ،‬فمجال ُش�هرة العال�مِ محدودة‬
‫بالعلماء الذين يشاركونه تخصصه والعلماء المتصلين بتخصصه ُ‬
‫وط اَّلبه‪ ،‬على حين‬
‫أن ش�هرة «المونولوجست» اً‬
‫مثل تمتد لتشمل الماليين من البشر‪ ،‬لذلك ال يصح أن‬
‫نأس�ى لضيق مجال شهرة العالم‪ ،‬بالقياس إلى «المونولوجست» مادام كل منهما قد‬
‫بل�غ القم�ة في مجاله‪ ،‬وال مالمة عل�ى الجمهور العريض إذا ع�رف أحدهما وجهل‬
‫اآلخر‪ ،‬فكل فريق يهوى من يعرفه ويتعامل مع إنتاجه‪.‬‬

‫وال وج�ه التهام الجمه�ور الكثيف في تلك الحال بالجهل أو الجحود‪ ،‬فالهوى‬
‫هن�ا دلي�ل عل�ى الوف�اء لِ َم ْن تُح�ب أو لمن تس�ع قدرات�ك أن تحبه‪ ،‬وعل�ى أية حال‬
‫فالش�هرة ال تنطب�ق في جميع األحوال عل�ى القيمة‪ ،‬ويظل العلم فوق قمة األنش�طة‬
‫وفضل عن ذلك فالعدل‬‫اً‬ ‫اإلنس�انية وإنْ َح ِظ َى رجاله بأقل مساحة من الشهرة العامة‪،‬‬
‫يتحق�ق بطريقته‪ ،‬فقد تدوم الش�هرة المحدودة أجيالاً وأجيالاً لق�وة إبداعها‪ ،‬وأثرها‬
‫األخرى في الجيل الواحد نفسه‪.‬‬ ‫المتجدد في المعرفة والحياة‪ ،‬وقد تتالشى ُ‬

‫‪278‬‬
‫العلم‬

‫أقول ذلك لمناس�بة ما قيل عن تكريم بعض الرياضيي�ن األفذاذ المحبوبين‪ ،‬فما‬
‫أغ�دق الجمهور عليهم اَّإل م�ن منطلق ُحبه وحريته ووفائه‪ ،‬دون أن يضمر أي َب ْخ ٍ‬
‫س‬
‫لِ َق ْد ِر العلم والعلماء‪.‬‬

‫‪1989/3/30‬‬

‫‪279‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الروح الرياضية‬

‫ال مغ�االة َث َّم َ�ة إذا ألحقن�ا الرياض�ة بالفنون الجميل�ة‪ .‬هي تربية صحية للجس�م‬
‫اإلنس�اني‪ ،‬وبالتال�ي للعق�ل وال�روح‪ ،‬وتفصح بطريقته�ا عن بعض م�ا يملك الفرد‬
‫م�ن مه�ارة ورش�اقة‪ ،‬كم�ا تكش�ف ع�ن مضم�ون ش�خصيته الفردي�ة واالجتماعية‬
‫واألخالقية‪.‬‬

‫ولكنه�ا ‪-‬بخلاف الفنون‪ -‬واجب ش�امل‪ ،‬يجب أن ينال كل ف�رد منها حظه في‬
‫الوق�ت المناس�ب‪ ،‬خدم ًة ألجهزته الجس�دية‪ ،‬ورعاي�ة لصحته‪ ،‬ومتعة نقية لنفس�ه‪.‬‬
‫وه�ي تحظى بجمهور واس�ع في جمي�ع األمم‪ ،‬يحبونه�ا ُح ًّبا َج ًّم�ا‪ ،‬ويغدقون على‬
‫أبطاله�ا اإلعجاب والحب بحماس�ة س�ليمة‪ ،‬وتع ُّلق هو في صميمه تعل�ق بالمهارة‬
‫والتف�وق والجمال‪ .‬وليس من العدل في ش�يء أن نس�خر من اإلقب�ال عليها‪ ،‬ونحن‬
‫بصدد التأس�ف على فتور االهتمام بأنش�طة أخرى‪ ،‬فاللوم هنا ال يقع على الرياضة‪،‬‬
‫ولك�ن على نق�ص التربية وس�وء المناخ‪ ،‬الذي يص�د الكثيرين ع�ن التعلق الصادق‬
‫بالثقافة والسياسة والمعرفة العلمية‪.‬‬

‫ولكنن�ا بق�در ما نحب الرياض�ة بقدر ما نفتقر إل�ى الروح الرياضي�ة‪ .‬وما الروح‬
‫الرياضية؟ هي أن تحب الرياضة وأبطالها دون تعصب أو غضب أو شماتة أو حقد‪.‬‬
‫أن تك�ون الرياض�ة هدفك‪ ،‬وف�ي مهارتها إش�باعك‪ ،‬وفي متابعته�ا متعتك‪ ،‬بصرف‬
‫النظر عن المكاسب والخسائر‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫العلم‬

‫وق�د يس�تحق ِك اَل الفائ�ز والخاس�ر اإلعج�اب‪ ،‬وال يثي�ر النف�ور اَّإل المهم�ل‬
‫وقديم�ا كنا نق�ول لمن يتعرض‬
‫ً‬ ‫والكسلان والمتخ�اذل والمتحاي�ل عل�ى القانون‪.‬‬
‫لهزيمة أو خس�ران‪« :‬تعا َم ْل مع حظك بروح رياضية»‪ ،‬ونعني بذلك المحافظة على‬
‫الخ ُلق الطيب في وقت الخسارة كما نحافظ عليه في ساعة الفوز‪.‬‬
‫ُ‬

‫بتل�ك الروح يجب أن نتابع المباريات في الداخل والخارج‪ ،‬وعلى المس�تويين‬


‫المحلي والعالمي‪ ،‬لكي نكون عشاق رياضة ال مضاربين على النصر‪ .‬ولعلنا نحتاج‬
‫إلى هذه الروح في الرياضة وغيرها‪.‬‬

‫‪1989/4/27‬‬

‫‪281‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫هدايا األفراح‬

‫للرياض�ة فض�ل ثابت في تربية الجس�د وال�روح‪ ،‬ولكنها في تاريخن�ا الحديث ذات‬
‫أفض�ال جديرة بأن تُس�جل بين مفاخرنا القومية وما الفرحة الت�ي أهداها فريق الكرة إلى‬
‫شعبنا في نوفمبر باألولى وال باألخيرة بإذن الله‪ .‬هي حلقة مضيئة في سلسلة من الآللئ‬
‫المتألقة التي تح َّلى بها ُعنق الوطن‪ ،‬فعن رياضة رفع األثقال أحرزنا ثالث بطوالت عالمية‬
‫في سنوات متقاربة على يد «سيد نصير»‪ ،‬و«مختار حسين»‪ ،‬و«خضر التوني»‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى بطولة عبور المانش ألول مرة على يد «إسحاق حلمي»‪ ،‬كما لمعت لنا نجوم كروية‬
‫أث�ارت اهتم�ام الصح�ف العالمي�ة‪ ،‬وهزت األفئ�دة‪ ،‬منهم على س�بيل المث�ال الالعب‬
‫األسطوري «حسين حجازي»‪ ،‬و«مرعي» والحسني‪ ،‬والسوالم‪ ،‬ومحمود مختار‪.‬‬

‫ف�ي تلك األي�ام كنا ُأ َّم�ة صغيرة مطوي�ة تحت جناح األس�د البريطان�ي‪ ،‬يطوقها‬
‫ملك مستبد ُم َمالِئ لالحتالل‪ ،‬ويكافح شعبها‬
‫جيش االحتالل‪ ،‬ويرزح فوق صدرها ٌ‬
‫األعزل قوي عاتية في معركة مس�تمرة غير عادلة‪ ،‬وال تبش�ر بخير‪ ،‬فألقيت علينا من‬
‫الس�ماء رحم�ة في ص�ورة انتص�ارات رياضية تنفخ فين�ا روحًا من البس�الة واألمل‪،‬‬
‫وترين�ا علمنا األخضر وهو يخفق في س�احات العالم بين جماعات النصر‪،‬ووس�ط‬
‫وح َّلقَ بنا فوق رءوس السادة المتكبرين الذين ينظرون‬
‫الهتاف والحماس‪َ ،‬‬ ‫هدير من ُ‬
‫ِ‬
‫الهوان بين المغلوبين على أمرهم‪.‬‬ ‫َ‬
‫منازل‬ ‫إلينا من َع ٍل‪ ،‬و ُينزلوننا‬

‫أج�ل‪ :‬ف�ي تل�ك األي�ام عرفن�ا النص�ر العالم�ي أول م�ا عرفن�اه على ي�د أبطالنا‬

‫‪282‬‬
‫العلم‬

‫جميعا من أبناء الش�عب ال�ذي يأبى الظالمون‬


‫ً‬ ‫س�رورا أنهم كانوا‬
‫ً‬ ‫الرياضيين‪ ،‬وزادنا‬
‫أن يعترفوا له بحقٍّ في الداخل أو الخارج‪.‬‬

‫أبطال الرياضة هم رواد النصر العالمي‪ ،‬س�بقوا إليه قبل أن يلمع في س�احته طالئع‬
‫ِ‬
‫الع ْلم‪ ،‬من أمثال ُمشَ َّرفة‪ ،‬وخليل عبد الخالق‪ ،‬وعلي إبراهيم‪ ،‬ونجيب محفوظ (باشا)‪.‬‬
‫أهًل�اً بالرياضة والرياضيين(((‪ ،‬ولتكن هداياكم مس�تمرة متنامية ُت َف ّرج ُ‬
‫الكروب‪،‬‬
‫وتفتح أبواب األمل‪.‬‬

‫‪1989/12/28‬‬

‫(‪ )1‬كتب المقال بمناس�بة تأهل مصر لنهائيات كأس العالم في إيطاليا ‪-‬بعد الفوز على‬
‫الجزائر واحد لصفر‬
‫سيد نصير‪ :‬سيد محمد نصير الشهير بـ سيد نصير‪ ،‬أول مصري وعربي يفوز بميدالية‬
‫ذهبية في الدورات األوليمبية‬
‫ولد س�يد نصير في ‪ 31‬أغسطس ‪ 1905‬وشارك في بطولة أمستردام وفاز بذهبية وزن‬
‫خفيف الثقيل بمجموعة ‪ 355.5‬كجم (ضغط ‪ 100‬كم ‪ -‬خطف ‪ 110‬كم‪ -‬نطر ‪147.5‬‬
‫كجم) ليصبح أول مصري وعربي يفوز بميدالية ذهبية في الدورات األوليمبية‪.‬‬
‫ذاعت ش�هرة س�يد نصير في مصر والعالم بعد عودته من أمستردام‪ .‬وفي مصر لفت‬
‫انجاز س�يد نصير الدولة إلى تش�جيع هذه الرياضة وتوفير األندية التي تمارس هذه‬
‫اللعبة‪ ،‬كما أسهمت إنجازات سيد نصير في انتشار رياضة رفع األثقال في مصر‪.‬‬
‫مخت�ار حس�ين‪ )1966-1904( :‬ممث�ل س�ينما كان بطلا رياضيا مش�هورا في رفع‬
‫األثقال حصل على بطولة لوكس�مبورج عام ‪ 1931‬ثم أس�س ناديا باس�مه شارك في‬
‫أوليمبي�اد ‪ 1936‬تزوج من الفنانة نبوية مصطفى وأنجب ثالثة أبناء منهم الصحفية‬
‫بهيرة مختار‪.‬‬
‫خضر التوني (‪ :)1956-1916‬من أعظم أبطال رفع األثقال في مصر وتصدر اس�مه‬
‫س�جالت أبطال العال�م الخالدين في قائمة أعظم ‪ 50‬بطال ف�ي تاريخ رفع األثقال=‬
‫‪283‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫=لمدة ‪ 48‬س�نة‪ ،‬وه�ي القائمة التي يصدره�ا االتحاد الدولي لرف�ع األثقال‪ ،‬خضر‬
‫التون�ي حاز ميدالية ذهبية في رفع أثقال للوزن المتوس�ط ف�ي دورة ألعاب أوليمبية‬
‫صيفية ‪ 1936‬التي ُلعبت من ‪ 1‬إلى ‪ 16‬أغسطس ‪ 1936‬في ألمانيا وبرلين‪.‬‬
‫إس�حاق حلمي (تمساح النيل)‪ :‬من مواليد يوليو ‪ 1901‬بكفر العلو بمحافظة الجيزة‬
‫أول س�باح مصري يعبر المانش نال نوط الجدارة من الملك فؤاد األول ونال وسام‬
‫االستحقاق من الرئيس محمد أنور السادات‪ ،‬أول مصري يرأس بعثة مصر في سباق‬
‫كابري نابولي عام ‪ .1966‬لقب برائد الس�باحة الطويلة وعميد الس�باحين المصريين‬
‫وأطلق عليه اإلنجليز لقب فرعون النيل وتوفي عام ‪.1980‬‬
‫حس�ين حج�ازي‪ :‬ولد ف�ي حي الحس�ين بالقاهرة‪ ،‬أنش�أ فريقًا لكرة القدم وأس�ماه‬
‫(حجازي الفن) على اس�مه‪ ،‬لعب لن�ادي دلويتش هاملي�ت اإلنجليزي عام ‪،1911‬‬
‫ولعب في نفس العام كذلك لنادي فولهام اإلنجليزي‪ ،‬عاد مرة أخرى لنادي دلويتش‬
‫هامليت وقضى فيه ‪ 4‬مواسم‪ ،‬عادم لمصر ولعب لنادي السكة الحديد عامي ‪1914‬‬
‫و‪ ،1915‬ث�م انتق�ل للنادي األهلي عام ‪ 1915‬وقضى ثماني�ة أعوام مع الفريق‪ ،‬لينتقل‬
‫بعدها لنادي الزمالك عام ‪ ،1923‬عاد الالعب مرة أخرى لألهلى عام ‪ ،1928‬وقضى‬
‫موس�مين قبل أن يعود مج�د ًدا لنادي الزمالك وظل يلعب بي�ن صفوفه حتى اعتزل‬
‫ممارسة كرة القدم‪.‬‬
‫مصطفى مش�رفة‪ :‬علي مصطفى مش�رفة باش�ا كان عالم فيزياء مصريا ولد في مدينة‬
‫دمياط ‪1898‬م‪ ،‬وتخرج في مدرسة المعلمين العليا وحصل على درجة البكالوريوس‬
‫ف�ي الرياضي�ات من جامعة نوتنجهام وكان أول مص�ري يحصل على الدكتوراه من‬
‫جامع�ة لن�دن بإنجلترا ‪1923‬م‪ ،‬وعين بجامعة القاهرة ومنح لقب أس�تاذ دكتور وهو‬
‫أقل من الثالثين وقد وصفه أينش�تاين بأنه واحد من أعظم علماء الفيزياء وفي س�نة‬
‫‪ ،1936‬ان ُتخ�ب عمي�دً ا لكلية العلوم فكان بذلك أول عمي�د مصري لها‪ ،‬تتلمذ على‬
‫يديه مجموعة من أشهر علماء مصر ومنهم سميرة موسى‪.‬‬
‫‪ -1‬أول من قام ببحث إليجاد مقياس للفراغ‪.‬‬
‫‪ -2‬وضع نظرية تفسير اإلشعاع الناتج عن الشمس‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫العلم‬

‫‪ -3‬وضع نظرية اإلشعاع والسرعة (سبب شهرته العالمية وسبب اغتياله)‪.‬‬


‫‪ -4‬ه�و م�ن وض�ع نظري�ة تفت�ت ذرة اإليدروجي�ن الت�ي صن�ع منه�ا القنبل�ة‬
‫اإليدروجينية‪.‬‬
‫‪ -5‬أضاف بعض التعديالت في نظرية الكم‪.‬‬
‫‪ -6‬تم جمع أبحاث الدكتور مش�رفة ومس�ودات األبح�اث ليحصل بها على جائزة‬
‫نوبل في العلوم الرياضية إال أن الوفاة ألغت ذلك‪.‬‬
‫محمود مختار التتش‪ :‬محمود مختار رفاعي الش�هير بـ مختار التتش كابتن منتخب‬
‫مص�ر لكرة القدم والعب النادي األهلي‪ .‬ولد في ‪ 29‬س�بتمبر ‪ 1905‬بالس�يدة زينب‬
‫ش�ارك وه�و ف�ي الثامنة عش�رة من عم�ره مع فري�ق مدرس�ة محمد عل�ي االبتدائية‬
‫جس�ما وس� ًنا ولكن�ه كان أكثره�م مه�ارة‪ ،‬انتق�ل بعده�ا إلى‬
‫ً‬ ‫وكان أصغ�ر العبيه�ا‬
‫مدرس�ة السعيدية وبعد أن أنهى دراس�ته الثانوية التحق بكلية الحقوق وحصل على‬
‫البكالوريا اكتش�فه الن�ادي األهلي وضمه إلى فريقه األول ع�ام ‪ 1922‬وكانت أولى‬
‫مباراياته مع األهلي ضد فريق الطيران اإلنجليزي في الكأس الس�لطانية‪ ،‬وفاز فيها‬
‫األهل�ي بهدفي�ن مقابل هدف أحرز التتش فيها هدف الف�وز‪ ،‬يرجع تلقيب مختار بـ‬
‫«التت�ش» إلى اللورد لويد المندوب الس�امي البريطاني آن�ذاك‪ ،‬وكلمة التتش تطلق‬
‫على العب السيرك الصغير الحجم السريع الحركة الذي يبهر المشاهدين بحركاته‬
‫قديما ولذلك كان يحرص على‬ ‫وقفزات�ه ومرونته‪ ،‬كان اللورد لوي�د العب كرة قدم ً‬
‫متابع�ة مباريات كرة القدم في مصر‪ ،‬وعندما ش�اهد مخت�ار يلعب أعجب به إعجا ًبا‬
‫ش�ديدً ا حتى أنه كان يخبر جلس�اءه ب�أن تحكم قدم التتش بالك�رة أفضل من تحكم‬
‫يدي اللورد بالبرتقالة‪ ،‬وكان كلما يقابله يبادره بقوله هاللو تتش‪.‬‬
‫خلي�ل عب�د الخال�ق (‪ 23‬ماي�و ‪ :)1950-1895‬ه�و طبي�ب مص�ري متخص�ص في‬
‫الطفيلي�ات وط�ب المناطق الحارة وحفظ الصحة‪ ،‬اكتش�ف عق�ار الفؤادين لعالج‬
‫البلهارسيا‪.‬‬
‫نش�ر عب�د الخال�ق أكثر من مائتي ورق�ة بحثية في الف�روع المختلفة لط�ب المناطق‬
‫الح�ارة والطفيلي�ات‪ ،‬وكان�ت له مؤلفات مرجعية في البلهارس�يا واإلنكلس�توما =‬

‫‪285‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫=وداء الفي�ل واللش�مانيا‪ ،‬واكتش�ف نحو ‪ 30‬اً‬


‫طفيل‪ ،‬أطلق اس�مه على نحو عش�رة‬
‫منه�ا‪ ،‬كما ق�ام بأبحاث عن عالج البلهارس�يا بمرك�ب الفؤادي�ن أدت إلى اعتراف‬
‫أطباء المناطق الحارة به في عالج البلهارسيا‪.‬‬
‫نجيب باش�ا محفوظ (‪ :)1974-1882‬الشهير بنجيب باشا محفوظ هو أستاذ النساء‬
‫وال�والدة بمدرس�ة الطب بقصر العيني وه�و رائد علم أمراض النس�اء والوالدة في‬
‫مصر والعالم العربي والعالم الغربي‪ ،‬تخرج نجيب محفوظ في مدرسة قصر العيني‬
‫الطبية في عام ‪ ،1902‬لينهي فترة تكليفه في أحد مستش�فيات الس�ويس عام ‪1904‬م‪،‬‬
‫ويت�م تعيين�ه ف�ي قص�ر العيني لك�ن نجيب محف�وظ يقوم بتدش�ين عي�ادة خارجية‬
‫نجاحا مذهًل�اً فيتم إضافة‬
‫ً‬ ‫ألم�راض النس�اء والوالدة‪ ،‬وس�رعان ما تحق�ق العي�ادة‬
‫عنبري�ن كاملين إليها ويش�رف نجي�ب محفوظ على إجراء الوالدات المتعس�رة في‬
‫العي�ادة وف�ي منازل المواطنين‪ .‬وص�ل عدد حاالت الوالدة المتعس�رة التي أجراها‬
‫ف�ي منازل المواطنين إلى ما يفوق األلفي حالة‪ ،‬والجدير بالذكر أن نجيب محفوظ‬
‫خالل فترة الدراس�ة بالكلية لم يحضر س�وى عملية والدة واح�دة انتهت بوفاة األم‬
‫أيضا بالذكر هو أن إحدى الوالدات المتعس�رة التي أجراها‬ ‫معا‪ ،‬والجدير ً‬‫والجني�ن ً‬
‫نجي�ب محف�وظ في عام ‪1911‬م أس�فرت ع�ن والدة طفل حمل نفس اس�م الطبيب‬
‫وهو أديبنا العالمي الراحل نجيب محفوظ‪.‬‬
‫عل�ي إبراهيم‪ :‬ولد في اإلس�كندرية ع�ام ‪ 1880‬وكان والده إبراهي�م عطا ً‬
‫فالحا من‬
‫إحدى قرى مدينة مطوبس بمحافظة كفر الش�يخ وأمه هي الس�يدة مبروكة خفاجي‪،‬‬
‫أيضا فالحة‪ .‬م�ن أوائل الجراحي�ن المصريين‪ ،‬وأول عمي�د مصري لكلية‬ ‫وكان�ت ً‬
‫ط�ب قص�ر العيني ووزير للصحة ف�ي عام ‪ 1940‬إلى ‪ .1941‬كان�ت الخطوة الكبرى‬
‫في مسيرة علي إبراهيم الطبية هي نجاحه في عالج السلطان حسين كامل من مرض‬
‫عض�ال بإج�راء عملية جراحي�ة ناجحة له‪ ،‬أنعم الس�لطان عليه بعده�ا بلقب جراح‬
‫استشاري الحضرة العلية السلطانية‪ .‬انتخب لعضوية مجلس النواب‪ ،‬واختير عميدً ا‬
‫لكلية الطب عام ‪( 1929‬المحرر)‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫العلم‬

‫مواجهة المشكالت‬

‫س�ينعقد المؤتم�ر الع�ام للحزب الوطن�ي في أوائ�ل يولية‪ ،‬وقرأن�ا في الصحف‬


‫س�يخصص ه�ذا الع�ام لمناقش�ة موض�وع واح�د‪ ،‬ه�و قضي�ة «البطال�ة‪ :‬أبعادها‬
‫أن ُ‬
‫وأس�اليب عالجها»‪ ،‬ونحن من ناحية المبدأ نرحب بذلك‪ ،‬ونتمنى للمؤتمر الس�داد‬
‫والتوفيق‪ .‬غير أننا نرى المشكالت مشتبكة متداخلة ال تستقل إحداها عن األخرى‪،‬‬
‫فاالس�تقرار‪ ،‬والديمقراطي�ة‪ ،‬والدي�ون‪ ،‬واإلنت�اج‪ ،‬ونزاه�ة اإلدارة‪ ،‬والمخ�درات‪،‬‬
‫واإلس�راف‪ ،‬والتزاي�د الس�كاني‪ ،‬كل أولئك وح�دات في بناء واح�د‪ ،‬وربما ال تزيد‬
‫البطال�ة عل�ى أن تكون ثمرة م�رة لخلل في وح�دة أو أكثر‪ ،‬لذلك كن�ا نأمل أن ُيعنى‬
‫جميعا‪ ،‬وأن تجيء عنايته بها كمراجعة شاملة للخطة الخمسية‬
‫ً‬ ‫المؤتمر بالمشكالت‬
‫األولى وبداية الخطة الثانية‪.‬‬

‫ق�د يق�ال‪ :‬إن المش�كلة المطروحة خطي�رة ويتعلق بها مس�تقبل الش�باب‪ ،‬وهو‬
‫عم�اد الحاضر وأمل المس�تقبل‪ ،‬فالتركيز عليها واج�ب ال يقبل التأجيل وال يحتمل‬
‫المش�اركة‪ ،‬ولكن مشكالتنا ليس�ت بالجديدة‪ ،‬بل هي محور كل خطة وكل موازنة‪،‬‬
‫ودراستها ال تتوقف مذ فرغنا لهمومنا الداخلية‪ ،‬وإذن فمناقشتها لن تبدأ من الصفر‪،‬‬
‫ولكنه�ا س�تكون م�ن قبي�ل المراجعة الش�املة والنق�د الذات�ي‪ ،‬واقتراح م�ا يعن من‬
‫تعديالت أو إضافات‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وآم�ل أن تنهض أحزاب المعارض�ة لعقد مؤتمرات مماثل�ة للمراجعة والبحث‬


‫واقت�راح الحل�ول‪ .‬إن مصر في هذه الفترة من الزمن في حاجة إلى كل عقل ينش�غل‬
‫بمشكالتها‪ ،‬أو قلب يخفق بهمومها‪ ،‬وال عذر للتردد أو األنانية‪ ،‬أو الالمباالة‪.‬‬
‫‪1989/5/11‬‬

‫‪288‬‬
‫العلم‬

‫بين الكهف والعلم‬

‫حمل�ت إلين�ا جريدة األهرام أنباء ثورة علمية في مج�ال الطاقة عن نجاح تجربة‬
‫لالندم�اج الن�ووي إلنتاج طاقة رخيصة دون تلوث إش�عاعي‪ ،‬وال تأثير على طبقات‬
‫ُ‬
‫األوزون‪ ،‬تجيء الثورة في الوقت الذي يحتشد فيه علماء كثيرون للتصدي لألخطار‬
‫المحدق�ة بكوكبن�ا األرضي‪ ،‬فيصدرون وصاي�ا مهمة للمقاومة والوقاية‪ .‬ولمناس�بة‬
‫األخطار أخذ قوم يعلنون س�وء ظنهم بالعل�م والتكنولوجيا ويحذرون من العواقب‬
‫المهلك�ة‪ .‬وال يمك�ن إن�كار العواق�ب الس�يئة‪ ،‬مث�ل مخلف�ات الصناع�ة‪ ،‬ونفايات‬
‫المفاعالت الذرية‪ ،‬والقنابل النووية‪ ،‬واألس�لحة الكيماوية‪ ،‬وإنْ َر َجع أغلبها لس�وء‬
‫اس�تغالل العلم ومكتش�فاته ال إلى العلم نفسه‪ .‬ونذكر هنا ما سيتاح لوسائل اإلعالم‬
‫الحديثة من اقتحام بيوتنا بال اس�تئذان من ُس�لطة أو رقابة مزلزلة لتقاليد وحضارات‬
‫راسخة‪.‬‬

‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فال سبيل إلى مصادرة التطلع البشري إلى المعرفة‪ ،‬أو إيقاف‬
‫االكتش�اف عن�د ح�د معين‪ ،‬أو في نط�اق وصاية مح�ددة‪ ،‬ولن َي ْعني هذا استسلا ًما‬
‫لمصي�ر مظل�م‪ ،‬فمما ال ش�ك فيه أن العلم يصحح نفس�ه بنفس�ه‪ ،‬وينق�ي نتائجه من‬
‫الش�وائب‪ .‬غير أننا في عصر العلم مطالبون بالتح َّلي بالرؤية العلمية والثقة بالنفس‪،‬‬
‫وأخالقيا‪ .‬نحن مطالبون بتربية عقولنا على‬
‫ًّ‬ ‫عقليا‬
‫كما أنا مطالبون بالتربية الصحيحة ًّ‬
‫االستقالل والنقد‪ ،‬مستندين إلى مبادئ سامية‪ ،‬لنستطيع أن نالقي حضارة تتجه نحو‬

‫‪289‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫التوح�د والش�مول‪ ،‬ال تجدي معه�ا رقابة وال تقوقع‪ ،‬وال االختب�اء في كهف‪ .‬طوق‬
‫ؤيد بالمبادئ الس�امية‪ ،‬وهما الس�بيل‬ ‫والخ ُلق ُ‬
‫الم َّ‬ ‫النجاة هو العقل المس�تقل الناقد‪ُ ،‬‬
‫إلى الحياة الكريمة فوق هذا الكوكب في هذا العصر‪.‬‬

‫‪1989/5/18‬‬

‫‪290‬‬
‫العلم‬

‫نحو حياة علمية أفضل‬

‫لس�نا خ�ارج عصر العل�م‪ ،‬ولكننا لم ندخله بع�د كما ينبغي لنا‪ ،‬يجب أن يش�غل‬
‫م�ن االهتمام والعناية م�ا هو أهل له‪ ،‬باعتباره محور الحي�اة الحديثة‪ .‬األمر ال يجوز‬
‫تأجيله أو التس�اهل فيه‪ ،‬فنحن في عصر العلم‪ ،‬وال س�بيل لنا إلى نهضة حقيقية نحل‬
‫بها مشكالتنا ونطور وجودنا ونقهر تخلفنا اَّإل بالعلم‪ .‬طالما قلنا‪ :‬إن حضارتنا يجب‬
‫الخ َط�ى في مجال‬
‫أن تق�وم عل�ى اإليم�ان والعلم‪ ،‬والصحوة الدينية تبش�ر بتس�ديد ُ‬
‫اإليم�ان من خلال ثورة التعليم والح�وار المحتدم في مجتمعن�ا‪ ،‬ولكن على العلم‬
‫أن يحظى بالحماس والرعاية نفسيهما‪ .‬ونحن بحمد الله لدينا كليات للعلوم كثيرة‪،‬‬
‫ولدين�ا كوادر علمية متخصصة متوافرة‪ ،‬وعندن�ا وزارة للبحث العلمي‪ ،‬والكثير من‬
‫المشكالت ُي َك َّل ُف الباحثون ببحثها وإيجاد الحلول لها‪ ،‬ولكن برغم ذلك كله قلت‪:‬‬
‫إنن�ا لس�نا خارج عصر العلم‪ ،‬ولكننا لم ندخله بعد كم�ا ينبغي لنا‪ .‬من أجل ذلك أود‬
‫أن يتحقق لنا ما يأتي‪:‬‬

‫ومتدرج�ا‪ ،‬ب�د ًءا م�ن المرحلة‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫مبس�طا‬ ‫تدريس�ا‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬أن نُ�درس المنه�ج العلم�ي‬
‫اإلعدادية وحتى ختام المرحلة الثانوية‪.‬‬

‫العلوم إل�ى أرفع المس�تويات من حيث األس�اتذة‬


‫‪ -2‬علين�ا أن ن َْرق�ى بكلي�ات ُ‬
‫واألجهزة والمناهج‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -3‬يج�ب أن توض�ع خطط ثابتة للبحث العلمي تقوم عل�ى الفرق المتعاونة مع‬
‫التركيز في هذه الفترة على ما يتعلق باإلنتاج‪.‬‬

‫‪ -4‬يج�ب أن نوف�ر له التقني�ات الالزمة‪ ،‬وأن نُعنى بالجان�ب االقتصادي له‪ ،‬ويا‬
‫حبذا لو أشركنا معنا البالد العربية‪.‬‬

‫‪ -5‬يج�ب أن نوف�ر للباحثين ما هم َأ ْه ٌل له من التش�جيع والتكريم‪ ،‬والمس�توى‬


‫الالئ�ق من المعيش�ة‪ ،‬ليس�تقروا في التف�رغ لعملهم الخطي�ر‪ ،‬باعتباره�م مصابيحنا‬
‫الهادية في طريق التقدم والعصر‪.‬‬

‫‪1989/7/22‬‬

‫‪292‬‬
‫العلم‬

‫العمل حياة‬

‫كيف نوفر العمل لكل مواطن قادر على العمل؟ أولاً ‪ -‬بإعداد المواطنين لش�تى‬
‫األعمال واألنشطة‪ .‬وهذا هدف يجب أن ُي َ‬
‫وضع في الحسبان منذ الخطوات األولى‬
‫للتربية والتعليم‪ ،‬ويجب أن ُيخطط له بدقة وحساب وأمانة‪ ،‬وعلى أساس من مصلحة‬
‫توزيعا‬
‫ً‬ ‫وأخيرا‪ ،‬فبعد فترة التعليم العام يبدأ بحزم عادل توزيع التالميذ‬
‫ً‬ ‫المجتمع أولاً‬
‫وتبعا لالس�تعدادات الفردية‪،‬‬
‫ش�امل لخدمة الخطة الش�املة واالحتياجات الفعلية‪ً ،‬‬ ‫اً‬
‫بحي�ث ال يبقى للتخصصات العالية اَّإل األكف�اء القادرون‪ ،‬وأن يتم انتخابهم بطريقة‬
‫عام�ة ال ش�بهة فيها وال مظنة وال ثغرة‪ ،‬وبحيث ال يزيد ع�دد الطالب في أية كلية أو‬
‫اً‬
‫وكامل يبش�ر باكتش�اف المبدعين‬ ‫صالحا‬
‫ً‬ ‫عاليا‬
‫تعليما ً‬
‫ً‬ ‫معه�د على الح�د الذي يهيئ‬
‫والقادة‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬التوسع المستمر في إنشاء األعمال الجديدة‪ ،‬ونحن نملك عوامل مشجعة‬
‫ً‬
‫ف�ي ه�ذا المجال‪ ،‬كاالس�تقرار‪ ،‬والسلام‪ ،‬والعالق�ات الطيبة مع بلاد العالم‪ ،‬وفي‬
‫مقدمتها البالد العربية‪ .‬اً‬
‫فضل عن ذلك فنحن بصدد َس ِّن قانون جديد لالستثمار نرجو‬
‫أن يطهر طريقه من العقبات‪ ،‬و ُييسر له التسهيالت المطلوبة‪ ،‬ويطرد عن جوه أشباح‬
‫البيروقراطي�ة القاتلة‪ ،‬لنش�جع رأس المال الوطني واألجنبي عل�ى العمل واإلنتاج‪،‬‬
‫باإلضافة إلى العناية الجادة بالقطاع العام ليقوم بالدور الوطني المأمول فيه‪.‬‬

‫ثالثً�ا‪ -‬إعداد الفائض للهجرة المنظمة‪ .‬ولن يت�م ذلك على الوجه المطلوب اَّإل‬
‫إذا قامت وزارة القوى العاملة بمهمتين خطيرتين‪ :‬أن تنشط للتحري عن احتياجات‬
‫‪293‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫البلاد األجنبية إلى األيدي العاملة‪ ،‬وأن تُدرب الق�وى االحتياطية على العمل‪ ،‬بعد‬
‫الفراغ من تشغيل الصالحين بالفعل‪.‬‬

‫رابعا‪ -‬نش�ر الوعي الثقافي في المدارس وفي أجه�زة اإلعالم‪ .‬والثقافة ضرورة‬
‫ً‬
‫دائما ذات صلة فعالة‬
‫لكل فرد وحق لكل إنس�ان‪ ،‬ولكن ما يهمنا منها هنا أنها كانت ً‬
‫بتنظيم األسرة بتلقائية حرة من قبل أن يصبح التزايد السكاني مشكلة قومية‪.‬‬
‫‪1989/7/29‬‬

‫‪294‬‬
‫العلم‬

‫العمال‬

‫في اعتصام العمال((( بمصنع الحديد والصلب دعوة للتأمل‪ .‬ومن منطلق التأمل‬
‫تتراءى لنا حقائق نرجو اَّأل تغيب عن ذوي األلباب‪.‬‬

‫‪ -1‬أنه إذا كان الحكم يقوم في البقاء واالستمرار على تمثيله لألغلبية فإن العمال‬
‫يقفون ص ًّفا في مقدمة هذه األغلبية‪ ،‬وهم الذين أعادوا ثورة يوليو إلى مركز الس�لطة‬
‫بعد أن زحزحتها عنه الحوادث‪ .‬وهم الذين انتفعوا بقوانينها الثورية ومؤسساتها كما‬
‫انتفع�ت بهم‪ .‬وإذن فقد التح�م الطرفان من بادئ األمر‪ ،‬ويجب أن يس�تمر االلتحام‬
‫ويقوى للتصدي للحاضر وبناء المستقبل‪.‬‬

‫وجسرا ملي ًئا بالمتاعب‪ ،‬وال نجاة لنا اَّإل بالعمل واإلنتاج‪،‬‬
‫ً‬ ‫نعبر فترة عسيرة‬
‫‪ -2‬أننا ُ‬
‫ذل�ك واج�ب كل مواطن في موقعه‪ ،‬ولكنه واجب العام�ل بصفة خاصة مؤكدة‪ .‬هو‬
‫المرش�ح ألن يكون صاحب الفضل األول عند النجاح‪ ،‬وهو المس�ئول عن أي تراخٍ‬
‫ٍ‬
‫إهمال عند الفشل‪ ،‬وأي سهو أو خطأ في هذا الجانب ال يغتفر‪.‬‬ ‫أو‬

‫ديمقراطيا معتر ًفا ب�ه اَّإل أنه في محنة كالتي نمر‬


‫ًّ‬ ‫‪ -3‬أنَّ اإلض�راب وإنْ يك�ن حقًّا‬
‫به�ا يجب التغاضي عن�ه‪ ،‬واعتباره ‪-‬إلى حين‪ -‬من الكبائ�ر‪ ،‬فعلينا أن نجرب جميع‬

‫((( اعتصام عمال الحديد والصلب في حلوان للمطالبة بزيادة الحوافز‪ ،‬ولكي يتراجع وزير‬
‫الصناع�ة وقتها عن وقف عضوي مجل�س اإلدارة المنتخبين وهما محمد مصطفى‪،‬‬
‫وعبد الرحمن هريدي؛ النتمائهما اليساري لمدة ستة أشهر والتحقيق معهما‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫السبل اَّإل اً‬


‫سبيل يهددنا بالخراب‪ ،‬وفي مقدمتنا العمال أنفسهم‪.‬‬

‫‪ -4‬أن الظل�م ً‬
‫أيض�ا م�ن الكبائر مث�ل اإلضراب‪ ،‬ويه�دد بالخراب مثل�ه‪ ،‬فعلينا‬
‫جميعا أن نعالج مشكالتنا بعيدً ا عن البالدة والتكبر والبيروقراطية‪ ،‬وبعيدً ا عن القهر‬
‫ً‬
‫والرصاص‪ .‬على كل عامل أن يعرف س�بيله المش�روع‪ ،‬وعلى كل مس�ئول أن يؤدي‬
‫واجب�ه الوطني‪ ،‬كذل�ك النقابات واللجان الحزبية‪ ،‬يجب أن يعود لألس�رة ترابطها‪،‬‬
‫وأن تتفاه�م بالحوار والش�ورى‪ ،‬وتتب�ادل االحترام في ظل س�يادة القانون وتقديس‬
‫العدل‪.‬‬

‫إن السفينة مثقلة باألعباء وال تحتمل العواصف المباغتة‪.‬‬

‫‪1989/9/7‬‬

‫‪296‬‬
‫العلم‬

‫صحتك‬

‫تس�عدني مبادرة المس�ئولين بال�رد على ما يثار م�ن ٍ‬


‫نقد ألمور تج�ري في نطاق‬ ‫ُ‬
‫امتداد للحوار الذي يدور في مجلس الشعب بين األعضاء والوزراء‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مسئولياتهم‪ .‬إنه‬
‫ولكنه يدور هذه المرة بين الشعب والمسئولين مباشرة‪ ،‬وليس أشق على النفس من‬
‫أن ينش�ر خبر خطير فيقابل بالصمت من ناحية الدولة‪ ،‬والالمباالة من ناحية الناس‪،‬‬
‫مما ينبئ عن حال استسلام لألخطاء‪ ،‬ويأس من اإلصالح‪ ،‬وينذر بموت اجتماعي‬
‫شامل‪.‬‬

‫م�ن األمثل�ة الطيبة ما نُش�ر عن لبن فاس�د لألطف�ال زعم أنه تس�بب في حوادث‬
‫�ر به�ا‪ ،‬معتر ًفا‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫مس�ئول الخبر في صورته التي نُش َ‬ ‫مؤس�فة‪ ،‬فل�م يم�ض يوم حتى نفى‬
‫في الوقت نفس�ه بوقوع خطأ سارعت الجهة المس�ئولة إلى احتوائه قبل أن يستفحل‬
‫شره‪ .‬هذا َح َس ٌن‪ ،‬واألحسن أنه ما كان ينبغي للبن أن يوزع على الناس قبل التأكد من‬
‫ً‬
‫حفاظا على الصحة العامة‪.‬‬ ‫صالحيته‪ ،‬وأن يخضع للفحص في دورات محددة‬

‫�ر عن منع إنتاج المي�اه المعدنية «مينرال» بنا ًء‬ ‫ِ‬


‫أم�ا الذي لم أفهم مغزاه فهو ما نُش َ‬
‫عل�ى نتائ�ج التحليل‪ ،‬لم أفه�م مغزاه؛ ألن تل�ك المياه متداولة في الس�وق منذ زمن‬
‫بعي�د ورائج�ة على نطاق واس�ع‪ ،‬وهي وأمثالها من المش�روبات تكتس�ب الثقة بناء‬
‫على ثقة الناس في وزارة الصحة وقيامها بواجبها في ذلك المجال‪ .‬هذا ما نتصوره‪،‬‬

‫‪297‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نهبا للجشع والطمع والربح‬ ‫وال يمكن أن نتصور س�واه‪ ،‬اَّ‬


‫وإل أصبحت صحة الناس ً‬
‫الحرام‪ .‬فكيف لم يكتشف التحليل حقيقة المياه اَّإل في أواخر صيف ‪1989‬؟‬

‫دائما عند ُحسن‬


‫إن صحة شعبنا أمانة في عنق وزارة الصحة التي نرجو أن تكون ً‬
‫الظن بها‪.‬‬

‫‪1989/10/26‬‬

‫‪298‬‬
‫العلم‬

‫الشكوى ألهل البصيرة‬

‫علق�ت منذ فترة في مقال ‪1989/10/26‬م‪ ،‬على بي�ان صدر من مياه «مينرال»‪،‬‬
‫وتس�اءلنا‪ :‬كيف تُركت المياه للناس يش�ربونها س�نين بغير حس�اب‪ ،‬ثم يصدر ذلك‬
‫البيان ليحذر الناس من ش�ربها؟ وتوقعنا أن يس�عفنا تفس�ير أو تحقيق‪ ،‬ولكن طغت‬
‫موج�ة الالمباالة م�رة أخرى‪ .‬ثم ضاعف من دهش�تنا أن الش�ركة المنتجة للمياه في‬
‫حي�رة من األمر مثلن�ا‪ ،‬وأنها تتلهف على تحقيق عادل يقطع الش�ك باليقين و ُي َط ُ‬
‫مئن‬
‫الناس على صحتهم‪ ،‬ونزاهة اإلدارة في وطنهم‪.‬‬

‫تلقيت من الشركة خطا ًبا يتحدث عن نشأتها ونجاحها في الداخل والخارج‪،‬‬


‫ُ‬ ‫فقد‬
‫َدخل اإلدارة حتى‬
‫وكيف تعرضت لحرب غير عادلة من الش�ركات المنافسة‪ ،‬ومن ت ُّ‬
‫احتكم�ت إلى القضاء أكثر من مرة فأنصفها بالب�راءة‪ ،‬وفوجئت في صيف هذا العام‬
‫بقطع الكهرباء عن المصنع‪ ،‬فكابدت خس�ائر فادحة‪ ،‬وتش�ردت حوالي ‪ 250‬أسرة‪،‬‬
‫الصيفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باإلضافة إلى المساس بسمعة البالد في الموسم السياحي‬

‫ونح�ن ال ننش�ر ه�ذه الكلمة إيمانً�ا منا بصدق ما ج�اء في الخط�اب‪ ،‬كما أننا ال‬
‫نملك تكذيبه‪ ،‬فعلم ذلك ال يكشفه اَّإل تحقيق عادل وعاجل ال يستهدف اَّإل الحقيقة‬
‫والعدل‪،‬والش�ركة تطال�ب به‪ ،‬وقد وجهت ش�كواها إلى كل موقع يرجى أن تس�مع‬
‫عنده الش�كاوى‪ .‬ونحن في النهاية نعيش في دولة يحكمها دس�تور وقوانين‪ ،‬وتقاليد‬
‫حضارية عمرها آالف السنين‪ ،‬وال نعيش في غابة من قطاع الطرق والوحوش‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وال�ذي يهمنا أكثر من الش�ركة ومن المياه هو س�معة البلاد‪ ،‬ومعاناة المعذبين‬
‫ف�ي األرض‪ ،‬كما تهمنا الثقة التي تش�جع على االس�تثمار‪،‬وتفتح أب�واب األمل أمام‬
‫ٍ‬
‫مكان َّما أ َثارة من ضمير لم يفسدها َب ْعدُ الزمن‬ ‫الشباب المكتئب‪ .‬والبد أنه يوجد في‬
‫األغبر‪.‬‬

‫‪1989/12/14‬‬

‫‪300‬‬
‫العلم‬

‫مجلس الشعب‬

‫في أوائل هذا الش�هر يعود مجلس الش�عب لعقد جلس�اته‪ ،‬يعود بعد عطلة ركن‬
‫فيها إلى شيء من الراحة في أعقاب عام حافل بالنشاط توج بإصدار قوانين التركات‬
‫والمخدرات واالستثمار‪ .‬وإني من الذين يشعرون بوحشة في غيبته‪ ،‬والذين يحبون‬
‫عاليا بجمي�ع أنغام�ه المؤي�دة والمعارضة‪ .‬وهو‬
‫دائم�ا أن يس�معوا صوت الش�عب ً‬
‫ً‬
‫يعود وقد رس�خ في ضمير كل متابع ألخبار العالم أن الش�عوب لم تعد ترضى اً‬
‫بديل‬
‫عن الديمقراطية أس�لو ًبا لحياتها السياس�ية‪ ،‬يس�توي في ذلك الش�عوب الرأس�مالية‬
‫التوح�د والتكتل واألنظمة‬
‫ُّ‬ ‫واالش�تراكية‪ ،‬وأن العال�م كله يس�تقبل حياة جدي�دة من‬
‫االقتصادي�ة المس�تحدثة‪ ،‬وأن�ه يخوض فت�رة انتق�ال عالمية تقتضي من كل ش�عوبه‬
‫‪-‬بخاص�ة ش�عوب عالمه الثالث‪ -‬مض�اء العزيمة‪،‬ومرون�ة الحركة‪،‬واليقظة الدائبة‪،‬‬
‫والتطل�ع إل�ى الغ�د‪ ،‬وما يضمر ف�ي جوفه من عالق�ات اجتماعي�ة ثورية‪،‬وظاهرات‬
‫طبيعية خطيرة‪ ،‬وكفاح للذات والعيب‪.‬‬

‫دائما أن نسمع صوت الشعب‪ ،‬ولمس تَصدِّ يه للمشكالت‬


‫في مثل هذا الجو نحب ً‬
‫الراهنة والمس�تجدة‪ ،‬ونأنس إلى مواقفه المعبرة ع�ن آمالنا وآالمنا وأحالمنا‪ .‬وأملنا‬
‫اتس�اعا مطر ًدا في صدور األغلبية‪ ،‬والتزا ًما متصاعدً ا‬
‫ً‬ ‫دائما‬
‫الثابت أن نجد من نوابنا ً‬
‫من المعارضة بالموضوعية والجدية‪ ،‬والخصومة النزيهة الوطنية‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫كلن�ا أمل أن يس�فر الع�ام الجديد عن إرس�اء تقاليد ديمقراطي�ة مثالية‪ ،‬وتقديس‬
‫حقيقي لس�يادة القانون‪ ،‬واحترام ش�امل لحقوق اإلنس�ان وكرام�ة المواطن‪ ،‬وتقدم‬
‫يناس�ب العص�ر في تنقي�ة ديمقراطيتنا من الش�وائب الت�ي تعرقل مس�يرتها‪ ،‬والقيود‬
‫الحكم الش�مولي‪ .‬ونحن عل�ى لهفة في انتظار ص�دور قوانين‬
‫الموروث�ة م�ن عصر ُ‬
‫جديدة إلنقاذ اقتصادنا‪،‬وتجديد إدارتنا‪ ،‬وتطهير حياتنا من الفساد والسلبية‪.‬‬

‫فأهل به مال ًذا لكل مواطن‪ ،‬وموط ًنا لكل إصالح‪ ،‬ومشر ًقا‬
‫يعود مجلس الشعب اً‬
‫لكل أمل منير‪.‬‬

‫‪1989/11/2‬‬

‫‪302‬‬
‫العلم‬

‫جدولة المشكالت‬

‫خطب الرئيس في مجلس الشعب فعرض المشكالت وأشار إلى الحلول‪َ ،‬وبِقي‬
‫أن ننتظر العمل في إطار الصبر واألمل‪.‬‬
‫ً‬
‫وتنفيذا موفقًا‪ ،‬مثل‬ ‫س�ليما‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتخطيطا‬ ‫تفكيرا عميقًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫من المش�كالت ما يقتضي‬
‫وض�ع برنامج لتضييق الفجوة بي�ن الصادرات والواردات‪ ،‬وتصني�ع أدوات اإلنتاج‬
‫محلي�ا‪ ،‬واس�تيعاب التكنولوجي�ا الحديث�ة‪ ،‬وتطوي�ر األداء االقتص�ادي‪ ،‬ومعالج�ة‬
‫ًّ‬
‫مش�كلة الديون‪،‬وكل أولئك يحتاج لوقت‪ ،‬وال أتصور أننا لم نش�رع فيه على نحو أو‬
‫آخر‪ ،‬ولكن َ‬
‫آن لنا أنْ نُضاعف الهمة ونشحذ العزيمة‪.‬‬

‫وثم�ة مش�كالت أخ�رى يمك�ن اقتحامها دون ت�ردد‪ ،‬وكان يج�ب ألاًّ تكون في‬
‫حاج�ة إلى تنبيه‪ ،‬مث�ل أداء الواجب قب�ل المطالبة بالحق‪ ،‬وتحقيق معدل أس�رع في‬
‫اإلنجاز واإلنتاج‪ ،‬والس�عي إل�ى اإلتقان واالبتكار‪ ،‬وتطبيق مب�دأ الثواب والعقاب‪،‬‬
‫وتشجيع الكفاءات الخاصة‪ ،‬ومشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات‪.‬‬

‫ومن ذلك النوع األخير ما يتعلق بدور مجلس الش�عب‪ ،‬مثل االتصال المس�تمر‬
‫بالقواعد الشعبية‪ ،‬والمتابعة اليقظة في تنفيذ القرارات‪ ،‬وتنشيط لجان تقصي الحقائق‬
‫في القضايا المهمة‪ ،‬وتعاون األحزاب إزاء األهداف القومية‪.‬‬

‫وعن السياسة الخارجية فالجديد فيها ‪-‬باإلضافة إلى اإلنجازات العربية السابقة‬
‫واإلفريقي�ة ‪-‬ه�و ما جاء ع�ن تالحم مصر وليبي�ا‪ ،‬وتأييدنا لمق�ررات مؤتمر الحوار‬

‫‪303‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الوطن�ي بالس�ودان((( الذي اتس�م بالمرونة واتس�اع ُ‬


‫األف�ق والتأهب الحتواء ش�تى‬
‫الخالفات‪.‬‬

‫الح�ق أن كل ش�يء يدع�و للعم�ل دون ه�وادة‪ .‬الهموم كثي�رة‪ ،‬والمعان�ة ثقيلة‪،‬‬
‫باإلضافة إلى مشكالت ال نعرف لها حلولاً سريعة‪ ،‬مثل البطالة‪ ،‬والتكاثر السكاني‪،‬‬
‫وما ينشأ عن ذلك من مخدرات وجرائم وانحالل خلقي‪.‬‬
‫يجب أن نقاتل ونقاتل ونقاتل‪ ،‬اَّ‬
‫وأل نكف عن القتال حتى يتيسر لنا النصر‪.‬‬

‫‪1989/12/21‬‬

‫((( مؤتمر دعت إليه ثورة اإلنقاذ الوطني الس�ودانية بقيادة عمر البش�ير عام ‪1989‬م‪ ،‬بعد‬
‫ش�هور م�ن االنقالب الذي قام ب�ه بهدف التفاهم م�ع األحزاب والقوى الس�ودانية‬
‫األخرى‪( .‬المحرر)‬
‫‪304‬‬
‫العلم‬

‫طريق الحكومة‬

‫ليس لدينا من أمنية أغلى من أن تنجز الحكومة ما تعد‪ .‬أن توفق في تنفيذ خطتها‬
‫ْس بع�د بيانها أمام‬ ‫َ‬
‫الش�املة‪ ،‬وتس�ير بالبلاد خطوات حاس�مة نحو الخالص‪ .‬ل�م أن َ‬
‫مجل�س الش�عب‪ .‬والحق أنه انت�زع النفس من همومه�ا إلى حين‪،‬وب�ث فيها الراحة‬
‫واألمل‪ .‬وقد أعلنت في الوقت نفس�ه بيانًا عن إنجازات عام ‪ ،1988‬وهو بيان حافل‬
‫بالعمل الصالح في شتى األنشطة الحيوية‪ ،‬من إنتاج وخدمات‪ ،‬ولكن ذلك كله مثل‬
‫ولما تبلغ‬
‫جهد خارق ُيبذل إلنقاذ س�فينة مازالت تغالب األمواج في وس�ط المحيط َّ‬
‫مرفأ األمان‪ ،‬فالخطر المحدق بمن فيها يشغلهم عن تقدير الجهد المبذول حق َقدره‬
‫ومنح القائمين به ما يستحقون من ثناء وتشجيع‪.‬‬

‫ولك�ن م�ا الحيلة والس�لطة القائمة قد ورثت َتًّل�اًّ من الخرائب قض�ى عليها بأن‬
‫تحمل وزر َم ْن أحدثوه‪ ،‬وأن تعمل وتقترض لتوفر للناس خدمات اعتادوا أن يحظوا‬
‫به�ا دون ش�كر‪ ،‬خدمات إذا توفرت َم ُّروا بها مرور الك�رام‪ ،‬وإذا غابت أو تخلخلت‬
‫وفجرت المواجع‪ .‬م�ن منطلق ذلك الموقف العس�ير نتعاطف معكم‬
‫أث�ارت الف�زع ّ‬
‫ونتمن�ى لك�م التوفيق‪ .‬وم�ن منطلق ذلك التعاط�ف نذكركم أنَّ ش�عو ًبا قد نالت من‬
‫أس�باب الحياة أضعاف ما نتمناه لش�عبنا قد ثارت على أوضاعها‪ ،‬وتوثبت بكل حزم‬
‫إلعادة البناء‪ ،‬وهذا يعني أن اإلنسان ال يحيا بالخبز وحده (وحتى الخبز ال يخلو من‬

‫‪305‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫رضى عنها اً‬


‫بديل‪.‬‬ ‫مشكلة) وأن الحرية وحقوق اإلنسان َ‬
‫مطالب عزيزة ال َي ْ‬

‫من هنا نطالب بأن ُيس�اير اإلصالح السياس�ي اإلصالح الش�امل‪ ،‬بل ليته يس�بقه‬
‫ً‬
‫أيض�ا‪ ،‬فم�ا أحوجن�ا إلى مش�اركة الش�عب وفعاليت�ه‪ ،‬بل إل�ى قيادت�ه للمعركة ضد‬
‫التخلف والفس�اد و االنح�راف‪ .‬طهروا الديمقراطية من ش�وائبها‪ ،‬وارفعوا الوصاية‬
‫ومخلصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫جامعا‬
‫ً‬ ‫تس�ليما‬
‫ً‬ ‫ع�ن الطامحين للعمل السياسي‪،‬وس�لموا بس�يادة القانون‬
‫لع�ل الروح تعود إلى الش�عب وتحفزه عل�ى اإلنتاج والعمل واإلب�داع‪ .‬وفي زحمة‬
‫األحزاب (القائم منها ومن سيقوم) فإنكم تمثلون الوسط المعتدل‪،‬ولكن عليكم أن‬
‫تضموا إلى ساحتكم جميع المنتمين إلى الوسط‪ ،‬وال ينقصكم إلاّ اإلقدام وتخليص‬
‫شجرتكم الباسقة من األوراق الصفراء الجافة‪.‬‬

‫‪1990/2/1‬‬

‫‪306‬‬
‫العلم‬

‫خطة واجبة‬

‫تقريرا مقد ًما لمجلس الشعب حول خطة الحكومة في‬


‫ً‬ ‫نش�رت األهرام في ‪ 7‬يناير‬
‫المرحلة الحالية‪ ،‬أكدت فيه الحكومة اتخاذ اإلجراءات الالزمة لتطوير اإلنتاج وزيادته‬
‫وتجويده في مختلف القطاعات لتحقيق االكتفاء الذاتي من الس�لع األساسية‪ ،‬وتوفير‬
‫َق ْد ٍر للتصدير اً‬
‫تقليل للفجوة بين الواردات والصادرات‪ ،‬وتعتمد اإلجراءات على‪:‬‬

‫‪ -1‬رقابة فعالة على أعمال موظفي الدولة وإنتاجهم‪.‬‬

‫‪ -2‬أسس موضوعية للحوافز ترتبط بإنجاز كل عامل‪.‬‬

‫‪ -3‬التركيز على التعليم الفني وتحديد المقبولين بالجامعات‪.‬‬

‫‪ -4‬حرية القطاع العام وضوابط لصون المال المستثمر‪.‬‬

‫‪ -5‬توفير الضمانات والحرية للقيادات في اتخاذ القرار‪.‬‬

‫أفكار س�ديدة تُبش�ر بالخير‪ ،‬ونحن نقرؤها َف ُت ْح ِدث في نفوس�نا ما تحدثه‪ ،‬نسمة‬
‫ب�اردة نقي�ة لقوم مختنقين‪ .‬ونتله�ف حقًّا وبكل ما نملك من ح�ب للوطن وأمل في‬
‫إنقاذه مما يعانيه على أن تتحول األفكار إلى أعمال دون تأجيل أو تراخ‪ ،‬وأن نلمس‬
‫ذلك فيما يصدر من قرارات تنفيذية أن نلمس�ه ‪-‬وهو األهم‪ -‬في النتائج المنش�ودة‬
‫م�ن وراء التنفي�ذ‪ ،‬أعن�ي في زي�ادة اإلنت�اج‪ ،‬واالكتف�اء الذاتي‪ ،‬وزي�ادة الصادرات‪،‬‬
‫وانضب�اط اإلدارة‪ ،‬وزوال ق�در من المعاناة ع�ن المعذبين ف�ي األرض‪ .‬نحن ن َُح ِّيي‬
‫التفكير ونتلهف على التنفيذ الجاد‪ ،‬ونحلم بِ َج ْني الثمار والتخفيف عن الشعب‪.‬‬
‫‪307‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وأص�ارح الدكت�ور عاط�ف عبي�د((( بأن�ي قل�ق بعض الش�يء؛ ألن ه�ذا الكالم‬
‫الجميل أس�عدني مرات من قبل‪ ،‬وربما في أكثر من عهد‪ ،‬بل أصارحه ً‬
‫أيضا بأن هذه‬
‫اإلجراءات هي التي كان يجب أن يقوم عليها صرح العمل منذ وضع حجر األساس‬
‫في الستينيات‪ ،‬إذ ال يعقل أن نبدأ العمل كيفما اتفق ثم نفكر في خطة حازمة لتقويمه‬
‫بعد مرور ثالثين عا ًما‪ ،‬ولكن ما الحيلة؟‬

‫ليكن األمر هذه المرة حقًّا وصد ًقا‪ ،‬وليكن كالم عاطف عبيد غير كالم السابقين‪،‬‬
‫جميعا بالجدية والعمل‪،‬‬
‫ً‬ ‫إنَّ مصر والش�رق والغرب والعالم وثقب ُ‬
‫األوزون لتطالبنا‬
‫والله ال يضيع أجر من أحسن اً‬
‫عمل‪.‬‬

‫‪1990/3/15‬‬

‫((( عاط�ف محمد عبيد‪ ،‬الش�هير بعاط�ف عبي�د (‪1932/4/14‬م ‪ )2014/9/12 -‬كان‬
‫وزيرا للتنمية‬
‫رئيس�ا لوزراء مصر في الفترة من أكتوب�ر ‪1999‬م ‪2002 -‬م وكان قبلها ً‬
‫ً‬
‫اإلدارية‪ ،‬ووزير قطاع األعمال العام‪( .‬المحرر)‬
‫‪308‬‬
‫العلم‬

‫تشخيص وعالج‬

‫وعود جميلة‪ ،‬وبي�ان عن إنجازات قيمة‬


‫ٌ‬ ‫ف�ي بيان الحكومة أمام مجلس الش�عب‬
‫تمت‪ ،‬وقد أشرنا إلى ذلك في األسبوع الماضي‪ ،‬وأعربنا َع َّما تُحدثه تلك المعلومات‬
‫نفوس اشتدت معاناتها‪ ،‬وأ َل َّحت عليها هموم الحوادث‪ .‬ولكن يبدو‬
‫ٍ‬ ‫من أثر طيب في‬
‫أن الحكومة ال تفشي جميع أسرارها‪ ،‬وأنها تخفي منها ما يسيء أو يضاعف الهموم‪.‬‬
‫وق�د نعتبر ذل�ك من اللطف ف�ي التعامل مع المش�اعر‪ ،‬ولكنه ال ُيج�دي في مكابرة‬
‫الواق�ع‪ .‬فالواق�ع يج�ب أن ُي ْع َرف عل�ى أية حال‪ ،‬لنع�رف الحقيقة م�ن ناحية ولكي‬
‫نستجيب للعالج إذا وجب من ناحية أخرى‪.‬‬

‫فف�ي مق�ال للدكتور خالد فؤاد ش�ريف((( ف�ي األهرام االقتص�ادي يتحدث عن‬
‫ع�ام ‪ 1989‬فيق�ول‪ :‬إن مؤش�رات األداء ال تدع�و لالرتي�اح‪ ،‬وإن إحصائيات البنك‬
‫المركزي تؤكد أن الصادرات قد انخفضت من ‪ 3274‬مليون دوالر في عام ‪88-87‬‬
‫إلى ‪ 2545.9‬في عام ‪ ،89-88‬على حين أن الواردات زادت من ‪ 1941‬في ‪88/87‬‬
‫إل�ى ‪ 9.10078‬في عام ‪ ،89-88‬وعليه فقد ارتفع العجز التجاري من ‪ 6567‬مليونًا‬
‫ليص�ل إل�ى ى‪ ،7533‬كذلك ف�إن العجز الجاري ف�ي ميزان المدفوعات ‪-‬باس�تثناء‬

‫((( د‪ .‬خالد فؤاد ش�ريف‪ ،‬خبير اقتصادي مصري‪ ،‬ورئيس قطاع الخصخصة س�ابقًا في‬
‫البنك الدولي‪،‬حاصل على الدكتوراه في اإلدارة والسياس�ة من جامعة بوس�طن عام‬
‫‪1986‬م‪.‬‬
‫‪309‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫التحويلات‪ -‬ق�د ارتفع من ‪ 4626‬ف�ي ‪ 88/87‬إلى ‪ 5696‬في ‪ ،89/88‬ويتس�اءل‬


‫الدكت�ور ونتس�اءل مع�ه‪ :‬إلى متى تس�تطيع مصر االس�تمرار في إنفاق م�ا يزيد على‬
‫دخلها من العمالت األجنبية؟‬

‫ٍ‬
‫م�اض ال يج�وز أن يمر دون‬ ‫الح�ق أن اس�تعراض الوض�ع االقتص�ادي في عام‬
‫محاسبة وتحقيق وإعادة نظر‪ ،‬كما ال يجوز أن يمر دون تفسير للشعب الذي يتحمل‬
‫الدي�ون ويلتزم بتس�ديدها اً‬
‫جيل بعد جي�ل‪ .‬وماذا تكون الحال ل�و امتنعت القروض‬
‫والمعون�ات؟ واضح أنه يجب أن نزيد اإلنت�اج ألقصى حد‪ ،‬ونخفض المصروفات‬
‫ألدن�ى ح�د‪ ،‬وأنْ ُن َق ِّ‬
‫�و َم األداء ونراق�ب اإلدارة‪ .‬واضح أننا في حاجة ماس�ة لألفكار‬
‫أخيرا أن الزمن يجري بسرعة البرق‪ ،‬وانه ال‬
‫المبدعة واإلجراءات الحازمة‪ .‬وواضح ً‬
‫يرحم المتهاونين والمترددين‪.‬‬

‫‪1990/2/22‬‬

‫‪310‬‬
‫العلم‬

‫مصر المحروسة‬

‫مرعبا عن مس�تقبل الدلتا المصرية‪ .‬الخبر يقول‪ :‬إن‬


‫ً‬ ‫خبرا‬
‫فج�رت األهرام الغراء ً‬
‫بعض العلماء في اجتماعهم بروما أعلنوا أن بحيرة البرلس س�وف تتس�ع‪ ،‬وأن الدلتا‬
‫سنتيمترا عام ‪ .2100‬وثمة عوامل عدة تتعاون على إحداث‬
‫ً‬ ‫س�وف تهبط بمعدل ‪70‬‬
‫الكارثة المتوقعة‪ ،‬مثل بطء تدفق المياه‪ ،‬وحرمان التربة من الطمي‪ ،‬وسحب الغازات‬
‫والمياه الجوفية‪ ،‬باإلضافة إلى جرف التربة الزراعية في بعض المواقع‪.‬‬

‫وق�د س�معنا قب�ل ذلك ع�ن الدلتا الت�ي تتكون جنوب الس�د العالي م�ن الطمي‬
‫المترسب‪ ،‬وهذا وذاك يعني أن مصر أصبحت مهددة في صميم وجودها‪.‬‬

‫كيف تمر بنا تلك األنباء وال ُّنذر؟‪.‬‬

‫هل نتلقاها بالالمباالة والصمت كأنها خبر من أخبار التاريخ‪ ،‬أو نبوءة طريفة عن‬
‫مس�تقبل بعيد لن نش�هده؟ هل ُيخدرنا التواكل والسلبية ونقنع باالنغماس في هموم‬
‫الحاضر ومشكالته؟‬

‫لمس�ت م�ن أث ٍر ع�ن ضريبة‬


‫ُ‬ ‫مناس�با للخب�ر ف�ي النف�وس مثلما‬
‫ً‬ ‫أث�را‬
‫ل�م ألم�س ً‬
‫المبيعات‪ ،‬أو حتى التغيير الوزاري المحدود‪ ،‬أو أخبار الدوري والمسلسلات‪ ،‬وال‬
‫يمكن تفس�ير ذلك بأن وجود مصر نفس�ها أهون على الناس من تلك األمور‪،‬ولكن‬
‫الظاهر أننا لم نعد نُولي ما يصدر عن العلم والعلماء ما يس�تحقه من تقدير وتصديق‬

‫‪311‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫واهتم�ام‪ .‬إن عقولنا تس�بح منذ فترة غي�ر قصيرة في بحر من الخراف�ات والترهات‪،‬‬
‫فاهتز في أعماقها اإليمان بالعلم والعلماء‪.‬‬

‫مصيبا في ش�كوكي‪ ،‬وأرجو أن تكون األخبار المزعجة‬


‫ً‬ ‫مع ذلك أرجو اَّأل أكون‬
‫قد أثارت ما تستحقه من اهتمام‪ ،‬وشحذت الهمم للتفكير والعمل‪.‬‬

‫طالبت الدولة بأن تش�كل لجنة من العلم�اء المختصين‬


‫ُ‬ ‫وم�ا أطالب بالكثي�ر إذا‬
‫واجبا لنش�رع‬
‫ً‬ ‫لبح�ث الموض�وع بحذافي�ره وبي�ان وجه الحق في�ه‪ ،‬واقتراح م�ا تراه‬
‫ف�ي تنفي�ذه م�ن اآلن باالعتم�اد على إمكاناتن�ا‪ ،‬وباالس�تعانة باآلخري�ن إذا قصرت‬
‫إمكاناتنا‪.‬‬

‫إنَّ وجود مصر ومس�تقبلها قد أصبح مهد ًدا بين دلتا تتكون في الجنوب وأخرى‬
‫مهددة بالغرق في الشمال‪ .‬ولن تطيب الحياة في هذه الدنيا اَّإل لِ َم ْن يستحق الحياة‪.‬‬

‫‪1991/7/4‬‬

‫‪312‬‬
‫العلم‬

‫قدوة العصر‬

‫جميع األنش�طة الحضارية مهمة وضرورية‪ ،‬ال غنى لإلنس�انية عنها في مسيرتها‬
‫الش�اقة المكللة بالكف�اح والتصميم والتضحية‪ .‬وقد تبوأ كل نش�اط في زمانه عرش‬
‫يتخل عن أهميته‪ ،‬ظل ُم ِه ًّما‬
‫َّ‬ ‫الس�يادة‪ ،‬وتخلى عن عرشه في مجرى الزمن‪ ،‬ولكنه لم‬
‫معا‪ .‬هكذا كانت وتك�ون الفروس�ية واألدب والفن والزراعة‬
‫للحاض�ر والمس�تقبل ً‬
‫والصناع�ة وغيره�ا وغيرها‪ .‬كل نش�اط مهم وض�روري ًّأيا كان ترتيب�ه في الجدول‬
‫الحضاري‪،‬ولك�ن ينبغ�ي اَّأل يغيب عن بالن�ا مركز االهتمام ف�ي عصرنا‪ ،‬ذلك الذي‬
‫دانت له القيادة والتوجيه‪ ،‬وتوافرت له أسباب التفوق والتقدم‪ ،‬فاعتمد عليه الحاضر‬
‫وتطلع إليه المستقبل‪ :‬إنه ِ‬
‫الع ْلم‪.‬‬

‫عصرن�ا عص�ر العل�م والعلم�اء ‪-‬كما قل�ت‪ -‬باعتب�ار ذل�ك النش�اط المركزي‬
‫العلم نفسه‬
‫ُ‬ ‫واألساس�ي دون اإلقالل من أهمية األنش�طة األخرى‪ ،‬التي دونها ُيمسي‬
‫وعاجزا عن تحقيق الكمال والسعادة للبشر‪.‬‬
‫ً‬ ‫وإنجازاته بال جدوى حقيقية‪،‬‬

‫يج�ب أن تضع التربية هذا المعنى ف�ي اعتبارها وهي تخطط لبناء األبناء وتقديم‬
‫القدوة لهم‪ ،‬وحفزهم على التوجه نحو الطريق الصحيح‪.‬‬

‫يج�ب أن تش�حن أخيلة األبن�اء بأحالم العل�م والعلماء‪ ،‬واطلاع الممكن على‬
‫إنجازاته�م‪ ،‬وعلى ما قدموه لإلنس�انية م�ن خدمات ومآثر‪ ،‬وكي�ف كافحوا جيوش‬
‫الظالم بأنوار العقل والفكر‪.‬‬
‫‪313‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ويتبع ذلك ويؤازره إلقاء األضواء باستمرار وسخاء على بحوثنا العلمية المحلية‬
‫والباحثي�ن‪ ،‬وتقدي�م النابهين منهم‪ ،‬في أجهزة اإلعالم في ه�االت البطولة الحقيقية‬
‫والق�دوة المس�تنيرة‪ ،‬لينالوا حقهم بنس�بة أقداره�م وخطورة أعمالهم بي�ن َم ْن تُقدم‬
‫م�ن نجوم الفن والرياضة‪ .‬وليس ذلك بالتقدير الواجب فحس�ب‪ ،‬ولكنه في الوقت‬
‫نفسه أسلوب ٍ‬
‫راق للتربية‪ ،‬وبث القيمة األولى في عصرنا في أرواح األبناء‪ ،‬وتوجيه‬
‫األجي�ال الصاع�دة نحو الطريق الس�وي القائ�م على العقل والعم�ل وحب المعرفة‬
‫واإليمان بالبشرية وسعادتها‪.‬‬

‫‪1991/9/19‬‬

‫‪314‬‬
‫العلم‬

‫البحث عن الزمن الضائع‬

‫ج�دا بالمؤتمرات واللقاءات التي تجمع بين أه�ل العلم والخبرة في‬
‫مص�ر غنية ًّ‬
‫دائم ٌ‬
‫غاية في النش�اط‬ ‫مؤتمر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ش�تى االختصاصات واألنش�طة‪ ،‬ولديها ً‬
‫أيضا من قديمٍ‬
‫والمثابرة من أهل الخبرة والعلم‪ ،‬هو مجمع المجالس القومية‪ ،‬وهناك وزارة البحث‬
‫العلمي‪ ،‬ومئات الرسائل العلمية الجامعية‪.‬‬

‫نشاط علمي بحثي مترامي األبعاد‪ ،‬قد ينتهي حيث يبدأ بخطاب االفتتاح وتالوة‬
‫البح�وث وتب�ادل اآلراء ومنح الدرج�ات‪ ،‬وقد يبدأ بذلك ثم يمت�د في صورة تطبيق‬
‫مباش�ر أو تخطي�ط للمس�تقبل‪ ،‬وعند ذل�ك يتحول ونتح�ول معه من ُأمة م�ن العالم‬
‫وتفكي�را وتصد ًيا للمش�كالت‪ ،‬وتقد ًما‬
‫ً‬ ‫إنتاجا‬
‫الثال�ث إل�ى أمة من العص�ر الحديث ً‬
‫على جميع المستويات‪.‬‬

‫ال أدري كي�ف نتعام�ل مع ذلك العطاء المتاح؟ قد يك�ون تعاملنا معه على غير ما‬
‫لخ َطى تقدمنا البطيئة‬
‫يرجو اإلنسان المحب لوطنه‪ ،‬الغيور على مستقبله‪ ،‬ولكن المتابع ُ‬
‫يشك ‪-‬أو من حقه أن يشك‪ -‬في مدى استفادتنا ِم َّما ُيتاح لنا من رأي وبحث‪.‬‬

‫إن األم�ر يحت�اج إلى تنس�يق ودراس�ة ومتابعة‪ ،‬وق�د يوجد ف�ي كل مجال مركز‬
‫لتجميع ما يخصه‪ ،‬ودراس�ته‪ ،‬والعمل عى تطبيقه‪ ،‬ولكن التنس�يق الشامل لن يتحقق‬
‫إال إذا انطل�ق م�ن مركز واحد‪ ،‬ولعله ال يوجد م�كان أصلح لذلك من وزارة البحث‬
‫العلمي‪ ،‬مركز تكون مهمته‪:‬‬

‫‪315‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -1‬تجميع البحوث من مصادرها في المجالس القومية والمؤتمرات والرسائل‬


‫الجامعية‪ ،‬بحيث ال تفوته كبيرة وال صغيرة‪.‬‬

‫‪ -2‬االتصال بجهات االختصاص للتشاور فيما يمكن تنفيذه منها‪.‬‬

‫‪ -3‬العمل على البدء في التطبيق فيما ال تعترضه عوائق مالية أو إنشائية‪.‬‬

‫‪ -4‬وض�ع خطة باالتفاق مع جهاز التخطيط لم�ا يحتاج تنفيذه العتمادات مالية‬
‫أو إجراءات‪.‬‬

‫دفاعا عن أنفسنا في هذا العصر‪.‬‬


‫هذا أقل ما يمكن أن نتبعه ً‬

‫‪1991/10/10‬‬

‫‪316‬‬
‫العلم‬

‫تكريم من يستحقون التكريم‬

‫الم ْك َر ِمين‪ ،‬ولخير األجيال الصاعدة‪ ،‬ولخير‬


‫ليك�ن التكريم صاد ًقا‪ ،‬وليكن لخير ُ‬
‫القيم السامية‪.‬‬

‫في حياة العظيم يجب تسليط األضواء على إنجازاته وتشجيعه بالجوائز المالية‪،‬‬
‫َأ َّما بعد وفاته فيجب المحافظة على الخالد من تُراثه ً‬
‫درسا وعبرة لألجيال المتعاقبة‪،‬‬
‫فتحيات‬
‫ُ‬ ‫وما عدا ذلك من حفالت وأوس�مة وتماثيل وأس�ماء تُطلق على الش�وارع‪،‬‬
‫عابر ٌة ال قيمة حقيقية لها‪ ،‬وس�رعان ما تتالش�ى في مجرى الزمن‪ ،‬وال يبقى منها إلاًّ‬
‫أسماء وصور ال مضمون لها‪.‬‬

‫التكري�م الحقيق�ي يحقق هدفي�ن‪ :‬أولاً ‪ -‬يبث القوة والحياة ف�ي الرجل العامل‪.‬‬
‫وثانيا‪ -‬ير ِّبي الش�باب ويقدم لهم ق�دوة صالحة ويحثهم على العمل واإلبداع خدمة‬
‫ً‬
‫للوط�ن واإلنس�انية‪ .‬وتس�تطيع أجهزة اإلعلام أن تقوم به�ذه المهمة الش�ريفة خير‬
‫قيام‪ ،‬وأن تنش�ر بريقها ح�ول األعمال النافعة والجميلة في مج�االت العلم والعمل‬
‫والفنون‪ ،‬كما تؤ ِّدي ذلك الدور بكل جدارة في مجال الرياضة‪.‬‬

‫والجوائز المالية يجب أن تكون س�خية ومناسبة للزمن ا لذي ت ُْم َنح فيه‪ ،‬ليتمكن‬
‫المبدعون من التفرغ لإلبداع واالس�تمرار فيه‪ ،‬والتعويض عن الجهود الخارقة التي‬
‫تُبذل في أعمال عظيمة األثر في الحياة البشرية‪ ،‬برغم تفاهة ثمرتها المادية التي ُي َكا َف ُأ‬
‫بها صحابها عن عمله‪.‬‬
‫‪317‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ه�ذا ما ُي�راد من التكريم في حياة العظيم وبعد وفات�ه‪ .‬وليس المقصود أن يكون‬
‫الم َك َّرم وحده‪ ،‬ولكن األهم من ذلك أن يمتد أثره في صورة موجات‬
‫مقص�ورا على ُ‬
‫ً‬
‫تربوي�ة وثقافي�ة لألجي�ال المتعاقبة‪ ،‬وأن ُيس�هم بقوة في تش�كيل حض�ارة المجتمع‬
‫وتجديد قواه وانتماءاته‪.‬‬

‫العظم�اء ما هو في النهاية اَّإل تكريم للعلم‬


‫والح�ق أنه يمكن أن يقال‪ :‬إن تكريم ُ‬
‫والسياسة واالقتصاد واألدب والفن وجميع القيم السامية‪.‬‬

‫‪1991/10/17‬‬

‫‪318‬‬
‫العلم‬

‫فترة انتقال‬

‫الطرق‪ ،‬بل أصبح ه�ذا القول يصح‬ ‫ٍ‬


‫مفترق م�ن ُّ‬ ‫نح�ن نعي�ش فترة انتق�ال‪ ،‬وعلى‬
‫عل�ى العال�م أجمع‪ ،‬على تفاوت درجاته من التقدم‪ .‬حس�بك أن تتذكر ما يجري في‬
‫العالم االش�تراكي وفي أوربا وفي آس�يا‪ ،‬اً‬
‫فضل عن العال�م الثالث‪ ،‬وفترات االنتقال‬
‫الحرج‪ ،‬مفعمة باآلالم مثلما تكون ف�ي حياة األفراد عند االنتقال من‬
‫فترات ش�ديدة َ‬
‫الطفولة إلى الصبا‪ ،‬أو من الصبا إلى المراهقة‪ ،‬أو عند التردي في الش�يخوخة‪ ،‬فعلى‬
‫مس�توى المجتمعات يضطرب الناس عادة بين التطرف من ناحية كوسيلة للمواجهة‬
‫ويس�ارا‪ ،‬والسلبية من ناحية أخرى كهروب من أعباء المواجهة ومتاعبها‪ ،‬وبين‬
‫ً‬ ‫يمي ًنا‬
‫هؤالء وأولئك يسقط أناس في الجريمة أو المخدرات‪ ،‬أو االنحالل واألنانية‪.‬‬

‫وما هو بالس�هل الميس�ور أن نخ�رج من عالمنا الثالث إل�ى العالم المتطور‪ ،‬وال‬
‫هو بالس�هل الميس�ور أن نجد اً‬
‫حل موفقًا بين السلفية المطلقة والواقعية المطلقة‪ ،‬أو‬
‫ميزانًا عادلاً بين ُسلطة الدولة وسلطة الشعب‪ ،‬أو بين زهو القوة وحكمة القانون‪ ،‬أو‬
‫بي�ن األهواء الجامحة والمنه�ج العقالني العلمي‪ ،‬أو بين االنطوائي�ة والعالمية التي‬
‫توش�ك أن تغزونا في مجالس�نا العائلية‪ ،‬ث�م إننا ال ُن ْت َر ُك لمج�رى الزمن وحده‪ ،‬وال‬
‫لتط�ور التاري�خ‪ ،‬فها نحن نحمل أعبا ًء إضافية من مش�كالت كالجب�ال‪ ،‬مثل التكاثر‬
‫السكاني‪ ،‬والديون‪ ،‬والبطالة‪ ،‬وقلة الموارد‪.‬‬

‫وهكذا إذا َح ُس َن َو ْع ُي الفرد وقع فريسة للحيرة والكآبة‪ ،‬وإذا َسا َء وعيه غرق في‬
‫ذاته‪ ،‬فمات وهو حي‪ ،‬أو َحيِ َي وهو ميت‪.‬‬
‫‪319‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إنه�ا فت�رة االنتق�ال‪ ،‬فترة الع�ذاب‪ ،‬ولكنها ً‬


‫أيضا فت�رة العمل والجه�اد‪ ،‬ومبعث‬
‫ل�ق واإلبداع‪ ،‬ومولد القادة واألبطال‪ .‬هي االمتح�ان التاريخي للهمم والعزائم‪،‬‬ ‫َ‬
‫الخ ْ‬
‫وال محيد فيها عن النجاح؛ ألن البديل هو الموت‪ ،‬ونحن لم ن ُْخ َلق لننتحر‪.‬‬

‫‪1991/10/24‬‬

‫‪320‬‬
‫العلم‬

‫البد من معركة‬

‫َم ْن يخالط الناس تنهمر عليه ش�كواهم كش�واظ النار‪ ،‬ال يس�عه بعد ذلك اَّإل أن‬
‫الخ ْلق تعيش في قبضة كابوس يجب أن ينقش�ع لتس�فر‬ ‫يؤم�ن بأن جمهرة غفيرة من َ‬
‫�ر به من‬ ‫ُِ‬
‫الحي�اة ع�ن وجه جديد‪ ،‬أس�تمع إلى ذل�ك بقلب مثقل بالغ�م‪ ،‬وبرغم ما أق ُّ‬
‫اجته�اد الصادقي�ن وما أنج�زوا من إصالحات كثيرة وش�املة‪ ،‬فإنن�ي ال أتوقف عن‬
‫التفكير في أمور مهمة وعاجلة مثل‪:‬‬

‫معتزا بكرامته‪،‬‬
‫‪ -1‬استكمال حرية الشعب واحترام حقوقه ليخوض معركة حياته ًّ‬
‫اً‬
‫متحمل لمسئوليته‪ ،‬وكخطوة أولى علينا أن نبدأ بإلغاء قيود تكوين‬ ‫معتمدً ا على ذاته‪،‬‬
‫األحزاب لنرفع الوصاية عن أهم حق سياسي للجماعات‪ ،‬فالبد أن ُيساند اإلصالح‬
‫السياسي اإلصالح االقتصادي؛ ألن الطائر ال يستطيع أن يطير بجناح واحد‪.‬‬

‫‪ -2‬تحصيل المال العام‪ ،‬وبخاصة الضرائب‪ ،‬وإجراء إحصاء ش�امل للممولين‪،‬‬


‫ومط�اردة المتهربي�ن‪ ،‬وهن�ا يج�ب أن نعترف بما تب�ذل مصلحة الضرائ�ب من ِه َّمة‬
‫محسوسة‪ ،‬كما يجب أن ننوه باتخاذها أسلو ًبا جديدً ا في المعاملة يجمع بين احترام‬
‫الناس والحرص على المصلحة العامة‪.‬‬

‫‪ -3‬تقدي�س العم�ل واحترام الوقت والنظام‪ ،‬والتركيز على اإلنتاج‪ ،‬مع تش�جيع‬
‫المجتهدين‪ ،‬والضرب على أيدي المهملين والكسالى‪ ،‬والتسامح اليوم ُي َع ُّد ا متدا ًدا‬
‫للتسيب ومشاركة في التخريب‪.‬‬
‫‪321‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -4‬الدعوة لسياس�ة عامة للتقش�ف تناس�ب حال دولة مثقلة بالديون‪ ،‬متعثرة في‬
‫الس�داد‪ ،‬عل�ى أن يبدأ التقش�ف بالدولة ثم ينتش�ر بي�ن القادرين‪ ،‬وأن يش�مل الغذاء‬
‫واللباس والحفالت والمهرجانات ومظاهر البذخ كافة‪.‬‬

‫‪ -5‬العناية الفائقة بالتصدير‪ ،‬ولو على أساس الحرمان من طيبات كثيرة‪ ،‬فهو في‬
‫النهاية س�بيلنا الكريم إلى تس�ديد ديوننا‪ ،‬كما أنه العام�ل األول في االرتقاء باإلنتاج‬
‫باألساليب العلمية الحديثة‪.‬‬

‫وثمة أمور كثيرة يمكن أن نفكر فيها‪ ،‬ولكننا يجب أن نبدأ وبعزم جديد‪.‬‬

‫‪1991/11/14‬‬

‫‪322‬‬
‫العلم‬

‫الحياة دون قهر‬

‫من القرارات ما تبدو في ظاهرها بسيطة عادية‪ ،‬ولكنها تنطوي على أسرار يتعذر‬
‫تأويلها‪ ،‬وقد تتسم بسجايا ال تتسم بها غيرها‪ ،‬تتسم بأنها موحية بالعديد من األفكار‬
‫والخواط�ر وال�رؤى‪ ،‬مثل الرم�وز الغنية التي تتجاوز تفس�يراتها حجمه�ا الطبيعي‪.‬‬
‫اً‬
‫طويل للس�لبية‪ ،‬فتشرق فجأة باألشواق‬ ‫وقد يتردد صداها في قلوب كثيرة اس�تنامت‬
‫واآلم�ال‪ .‬ح�دث ذلك على غير توقع‪ ،‬وفي حومة التفاؤل تس�اءل صوت عن‪ :‬كيف‬
‫واجب ُه‬
‫َ‬ ‫نبدأ باإلصالح؟ وأجاب بأن على كل فرد أن يبدأ بنفسه‪ ،‬وأن يؤدي في مجاله‬
‫صوت ٍ‬
‫ثان ب�أن االعتماد عل�ى الفرد ال يكف�ي‪ ،‬وضرب لنا‬ ‫ٌ‬ ‫كم�ا ينبغ�ي له‪ .‬وقاطع�ه‬
‫مثًل�اً بنفس�ه‪ ،‬كيف عزم عل�ى أن يحقق حلمه في موقعه‪ ،‬وكيف اعترضته ش�بكة من‬
‫العالقات المعقدة‪ ،‬والتقاليد البالية‪ ،‬وعفن نظام متجمد‪ ،‬وأنه ال مفر من تغيير أشمل‬
‫من الفرد وأكبر‪ .‬عند ذلك تس�اءل ثالث‪ :‬هل يعني هذا أن نستس�لم للواقع وينصرف‬
‫ُك ٌل إلى ماال خير منه؟ لماذا ال يبذل كل فرد ما في وسعه؟ ولماذا ال يخرج بعد ذلك‬
‫من قوقعته لينضم إلى أي تجمع وطني يناسبه فيزيده قوة ويزداد به قوة؟‬

‫وأتاب�ع الح�وار في س�رور ال مزيد عليه‪ .‬ه�ا هي ذي أول موج�ة تصادفني معلنة‬
‫التمرد على الس�لبية‪ ،‬وال يوجد ما هو ش�ر من الس�لبية في ش�عب‪ ،‬وقد ظن البعض‬
‫أنها الموت الذي ال بعث منه‪ .‬ولكن اإلنس�ان قد يس�قط فيفقد ميزاته الباهرة‪ ،‬ولكن‬
‫جنبا إلى‬
‫ذلك ال يدوم‪ ،‬وال يمكن أن يدوم‪ .‬في أعماقنا تعيش غريزتا الحياة والموت ً‬

‫‪323‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫جنب‪ ،‬والبد أن يس�تعيد اإلنس�ان توازنه في لحظة ّما‪ ،‬كرد فعل لقرار حكيم أو ٍ‬
‫عمل‬
‫صالحٍ أو كلمة مؤثرة‪ .‬وقد بلغ العناء حالته‪ ،‬فلم يبق اَّإل العمل واألمل‪.‬‬

‫‪1991/11/28‬‬

‫‪324‬‬
‫العلم‬

‫الوجه اآلخر للصورة‬

‫في وس�ط الظلام تلوح ب�وارق تتألق بالنور‪ ،‬يج�ب أن نتخذ منه�ا مصابيح تنير‬
‫الطريق المفضي إلى الخالص والنجاة‪ .‬ليس�ت حياتنا ديونًا وغال ًء وفس�ا ًدا ومعاناة‬
‫أيضا «بانوراما» تضم رموز النصر‪ ،‬وتجس�د التفوق والعزم‪ ،‬وتسجل‬ ‫فحس�ب‪ ،‬فيها ً‬
‫أسماء الشهداء من الجنود والضباط من مختلف الرتب‪ .‬ما أكْ ث ََر ُشهدا َء ِك يا مصر! إذا‬
‫أضفنا إليهم ش�هداء ‪ 5‬يونية‪ ،‬والعدوان الثالثي‪ ،‬واليمن‪ ،‬وثوار ‪ ،1919‬والمناضلين‬
‫كونُوا ُأ َّمة من األبرار‬
‫في س�بيل الدس�تور والديمقراطية‪ ،‬إذا أضفنا هؤالء إلى أولئك َّ‬
‫وددت ل�و جمعتهم صورة واحدة لتغرس ف�ي كل قلب لتؤيد نبضه‪ ،‬وتفعمه بالحب‬
‫ُ‬
‫وروح الفداء والبسالة والقوة والعمل‪.‬‬

‫وفيه�ا تج َّلى معرض اإلنت�اج الخاص بالصادرات‪ ،‬وهو م�ا يضعنا على الطريق‬
‫الصحي�ح نح�و الت�وازن االقتص�ادي وتس�ديد الديون‪ ،‬ويمث�ل الوحدة ف�ي اإلنتاج‬
‫المت َقن‪ ،‬من أجل الخالص والتطور قبل االستهالك واالستمتاع‪.‬‬

‫وفيه�ا ً‬
‫أيض�ا سياس�تنا الخارجية الحكيم�ة المتوجه�ة نحو الع�رب واإلفريقيين‬
‫والعالم‪ ،‬عي ًنا على الخارج بهدف المش�اركة اإلنس�انية الرفيع�ة‪ ،‬وعي ًنا على الداخل‬
‫ِ‬
‫األواصر المنشودة‪ ،‬واإلنجاز الشامل العادل‪ ،‬المستند‬ ‫لِ َج ْني الثمار المشروعة‪ ،‬وشد‬
‫واألخوة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إلى التعاون‬

‫‪325‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وفيها إنجازات صادقة في ش�تى فروع اإلنتاج والخدم�ات‪ ،‬وفيها َت َف ُّو ُق علمائنا‬
‫ورديا بماء‬ ‫ِ‬
‫في الخارج والداخل الذي يمأل القلوب ثقة‪ ،‬و ُي ْضفي على مس�تقبلنا لونًا ًّ‬
‫الحياة والعلم‪.‬‬

‫ف باإلنجازات َلتِ ْهدي إلينا‬


‫لنذكر الش�دائد لتثير فينا روح التحدي والبأس‪ ،‬و ْل َن ُط ْ‬
‫مصابيح األمل‪ ،‬ولن تذهب دماء شهدائك ُسدً ى يا مصر‪.‬‬

‫‪1991/12/12‬‬

‫‪326‬‬
‫العلم‬

‫سنة الحياة‬

‫الحي�اة ال تتوقف‪ ،‬تيارها يجري في تدفق دائم‪ ،‬تجيء كل يوم بجديد‪ ،‬ثم يصبح‬
‫قديما‪ ،‬ويهل جديد ٍ‬
‫تال‪ ،‬فعلى من يريد أن يحيا في تيارها المتدفق أن يتحلى‬ ‫الجديد ً‬
‫بصحوة ش�املة مس�تمرة‪ ،‬صحوة تش�مل الروح والعق�ل واإلرادة‪ ،‬وتكرس الحرية‬
‫كوسيلة ناجحة‪ ،‬وغاية إنسانية سامية‪.‬‬

‫نعني بالحرية انطالق الفكر والخيال والسلوك واالختيار واالختبار‪ .‬وفي الوقت‬
‫نفس�ه نعل�م أن ذلك كل�ه ُيمارس في مجتمع بش�ري‪ ،‬وف�ي ظل قانون ع�ام ومبادئ‬
‫أيضا أن القان�ون والمب�ادئ والتقاليد يج�ب اَّأل تتخلف عن‬
‫وتقالي�د‪ ،‬ولكنن�ا نعل�م ً‬
‫التيار المتدفق‪ .‬يجب أن تتجدد وتُثري رؤيتها وأسلوبها ولغتها‪ ،‬وأن تكون معاملتها‬
‫متفاعل�ة م�ع حركة الحياة‪ ،‬ومتطلعة معه�ا إلى غد أفضل‪ .‬يجب أن تس�قط األوراق‬
‫الصفراء الجافة لتنبت محلها أوراق ناضرة خضراء ُم ْت َر َعة بماء الحياة‪.‬‬

‫ويتدرع بشجاعته‪ ،‬ويستضيء بعقله‬


‫ّ‬ ‫في سبيل ذلك يجب أن يبذل اإلنسان جهده‪،‬‬
‫وروحه‪ ،‬ولو َض َّحى من أجل ذلك براحته وأمنه وحياته‪ .‬يجب أن يثور ضد الخوف‪،‬‬
‫ويعل�و فوق الرغبة المنبعث�ة‪ ،‬ويعتبر الموت جز ًءا من الحياة‪ ،‬ويقبل األمانة بوصفها‬
‫ِ‬
‫الجدِّ ًّي�ة الت�ي ال تتحمل الج�دل‪ .‬إنَّ َّأية قوة تعترض س�بيل اإلنس�ان ُم َحا ِو َل ًة اعتقال‬
‫تطلعه الش�ريف نح�و المعرفة والعلم واإلبداع والتجدي�د‪َ ،‬ل ِه َي قوة من قوى الظالم‬
‫ٌ‬
‫وحليف من ُحلفاء الش�يطان واالندثار‪ .‬وما من جماعة بش�رية تس�تحق‬ ‫والتخريب‪،‬‬

‫‪327‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ه�ذا الوص�ف يمكن أن تتراجع أو تتس�اهل مع تحديات الظلام‪ ،‬أو ترضى بأن تقع‬
‫فريس�ة لمخالب الشيطان‪ .‬وكنا نود أن تحش�د الطاقة كلها للبناء والتعمير واإلبداع‪،‬‬
‫ولكن يعزينا بعض الشيء أن التصدي لعوامل الهدم نوع من البناء‪.‬‬

‫‪1991/12/29‬‬

‫‪328‬‬
‫العلم‬

‫زورق النجاة‬

‫يتحدث�ون هنا وهناك ع�ن ركود يهدد االقتصاد العالم�ي بصفة عامة‪ ،‬واالقتصاد‬
‫األمريك�ي بصف�ة خاص�ة‪ .‬ونتيجة لذل�ك ارتفعت أص�وات في الوالي�ات المتحدة‬
‫تدعو الرئيس األمريكي لتحويل اهتمامه من الخارج إلى الداخل‪ ،‬والتصدي لألزمة‬
‫عام االنتخابات‪ ،‬وها هو ذا الرئيس قد قام برحلة إلى‬
‫االقتصادية‪ ،‬بخاصة أنه يستقبل َ‬
‫آسيا وأستراليا لفتح أسواق جديدة للتجارة األمريكية‪.‬‬

‫ه�ذه األزمة وما قد يعقبها من نتائج ه�زت آمالنا حول ما نرجوه للعالم ولمصر‪،‬‬
‫فنح�ن من الذي�ن يتابعون مولد العالم الجديد بكل اهتمام‪ ،‬راجين أن يصدق في كل‬
‫ما وعد به البش�رية من احترام للعدل وحقوق اإلنس�ان‪ .‬وبرغم كثرة الس�اخرين من‬
‫تل�ك الوعود فإننا تجنبنا أن نبادر إلى الش�ك وس�وء الظن‪ ،‬وآثرن�ا أن نلوذ بالتفاؤل‪،‬‬
‫وأن نتمس�ك به حتى يثبت لنا نقيضه ال قبل ذلك‪ ،‬ولم نش�هد في السياسة األمريكية‬
‫حتى اليوم ما يحملنا على تغيير موقفنا‪ ،‬وقد تآخت فيها المصالح مع المبادئ بصورة‬
‫تبشر بالخير‪.‬‬

‫اليوم نخش�ى أن تصيب األزمة االقتصادية ذلك الحلم بنكس�ة ترجع العالم إلى‬
‫ُح َّمى المنافسة والتحديات والحروب الباردة والساخنة‪.‬‬

‫أم�ا ع�ن مصر فق�د وجدتن�ي َُأذكّ �ر نفس�ي بالق�ول الحكي�م‪« :‬دوام الح�ال من‬
‫المح�ال»‪ ،‬فنح�ن من البلاد التي َ‬
‫تحظى بمعونة أمريكية ال ُيس�تهان به�ا‪ .‬األكثر من‬

‫‪329‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الم َنح والقروض والموارد السيادية‪ ،‬كالبترول‪،‬وقناة‬‫ذلك فإننا نعتمد في حياتنا على ِ‬
‫حذرا حيال المستقبل‪ .‬إنَّ أية ِه َّزة اقتصادية‬
‫السويس‪ .‬أقول‪ :‬إننا يجب أن نكون أشد ً‬
‫َ‬
‫أم�ان لها‪،‬‬ ‫ق�د تُطي�ح بالمعون�ات وتغلق ب�اب القروض‪ ،‬حت�ى الموارد الس�يادية ال‬
‫فمخ�زون البت�رول ل�ه نهاية‪ ،‬ولم نن�س بعد ما حاق بإي�راد القناة والس�ياحة في أثناء‬
‫حرب الخليج‪ ،‬إن األساس الوحيد الذي يجب أن نركن إليه ونعتمد عليه هو العمل‪،‬‬
‫والعمل يعني اإلنتاج واإلتقان واإلبداع‪ .‬ال يجوز أن نطمئن إلى التسهيالت الحالية‪،‬‬
‫دائما بأنها مؤقتة‪ .‬أما اله�دف الذي يجب أن نتطلع إليه‬ ‫وم�ن المفيد أن ن ِّ‬
‫ُذك َر أنفس�نا ً‬
‫فه�و االعتماد على النف�س وما يقتضيه ذلك من ثورة في التعلي�م والتدريب والتربية‬
‫الوطنية‪ .‬أملنا الحقيقي يتركز في قوانا البشرية واالعتماد على النفس‪.‬‬

‫أرجو اَّأل ن َْخ ُلدَ إلى طمأنينة وهمية‪ ،‬وأن نستعد للمستقبل قبل أن تقع الواقعة‪.‬‬

‫‪1992/1/30‬‬

‫‪330‬‬
‫العلم‬

‫الحماية‬

‫ش�هدت في صباي ش�عبنا الثائر وه�و يهتف بس�قوط الحماي�ة البريطانية‪ ،‬وأراه‬
‫ُ‬
‫الي�وم وهو في حاجة ُملحة إلى حماية وطنية‪ ،‬أج�ل‪ ،‬لدينا جهاز قوي لحماية األمن‬
‫العام‪ ،‬وجيش ُكفء لحماية االستقالل‪ ،‬وأجهزة للمحاسبة المالية والرقابة اإلدارية‪،‬‬
‫ولكن المواطن يمضي مرفوع الذراعين بال معين في الطريق ووس�ائل المواصالت‬
‫ومكات�ب البيروقراطي�ة‪ ،‬يمض�ي معذ ًبا مغلو ًب�ا على أم�ره أمام تعقي�دات الدواوين‬
‫والس�ادة الموظفي�ن‪ ،‬ف�ي غم�ار الضجي�ج والتلوث والعدوان والجش�ع والعس�ف‬
‫والتعصب‪.‬‬

‫والس�لوك الطيب والتقاليد الحس�نة ال تستقر في َو ْعي ُأ َّمة اَّإل كثمرة لتربية طويلة‬
‫تُصاحب الفرد منذ َمدارجه األولى‪ ،‬ويشارك في ترسيخها البيت والمدرسة وأجهزة‬
‫اإلعلام‪ ،‬ولنا م�ن ذلك نصيب‪ ،‬ولكنه دون الكفاية وأقل بكثي�ر مما يقتضيه تاريخنا‬
‫العري�ق ودورن�ا المأم�ول‪ ،‬فعلين�ا إِ َذنْ أن ننتظ�ر زم ًنا طويًل�اً قبل أن يصي�ر التهذيب‬
‫والضمي�ر والواج�ب م�ن مف�ردات حياتن�ا المقدس�ة‪ .‬ولك�ن ال يج�وز أن يمر زمن‬
‫االنتظ�ار في استسلام وعذاب واجترار لألح�زان‪ ،‬ال مفر من االس�تنجاد بالقوانين‬
‫والمراقب�ة اليقظ�ة والعقوب�ات الزاجرة‪ ،‬ال ُب َّد من إنش�اء دي�وان للش�كاوى ت ُْع َطى له‬
‫الصالحيات الفعالة‪ ،‬البد من إيقاظ كل قانون نائم‪ ،‬وتحريك كل مهمل أو كسالن‪،‬‬
‫وتأديب كل متهاون في حقوق الناس‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫تابعت مسيرة السيد رئيس الجمهورية إلى مواقع اإلنتاج والبلدان الجديدة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫وقرأت توجيهاته للمس�ئولين الس�تكمال أوجه النقص التي لمسها بنفسه أو تناهت‬
‫حاسبة الكسالى المتسيبين والمهملين‪ ،‬لو‬
‫أعقب كل زيارة ُبم َ‬
‫َ‬ ‫�م ِع ِه‪َ ،‬و ِد ْد ُت لو‬
‫إلى َس ْ‬
‫ولخ َّف ْت‬
‫حدث ذلك المتد األثر الطيب للزيارة الواحدة ليشمل جميع مواقع العمل‪َ ،‬‬
‫معاناة المعذبين في أرض مصر‪ .‬حقًّا نحن في حاجة إلى حماية وطنية‪.‬‬

‫‪1992/5/7‬‬

‫‪332‬‬
‫العلم‬

‫اللعب بالنار‬

‫السالح النووي في مقدمة األخطار التي تهدد البشرية‪ ،‬كالتلوث وثقب ُ‬


‫األوزون‪،‬‬
‫باإلضاف�ة إل�ى تكاليفه الباهظة التي تُس�تثمر في الش�ر‪ ،‬وتحرم منها التنمية في ش�تى‬
‫بالد األرض؛ لذلك فقد أس�عد البش�ر ما ت�م من اتفاق بين الدولتي�ن الكبيرتين على‬
‫تدمير ما يمكن تدميره من تلك األسلحة(((‪ ،‬كما يسعدهم ما يسمعون عنه أحيانًا من‬
‫اقتراحات بناءة في ذلك المجال تستهدف تحجيم ُصنعه‪ ،‬أو مزيدً ا من التخلص منه‪.‬‬
‫وق�د تبع ذلك خلق جو صالح للتفاه�م والتعاون بين عمالقة الدول‪ ،‬نرجو أن يكون‬
‫مث�اال ُي َ‬
‫حتذى بين جميع الدول عند التصدي للمش�كالت‪ ،‬ومحاولة إيجاد الحلول‬
‫العادلة لها‪.‬‬

‫َأ َّم�ا ما يفس�د تلك اآلمال الطيبة ‪-‬وربما َه َّد َد بإفش�الها ‪-‬فهو م�ا ُيذاع عن توثب‬
‫دول صغي�رة القتناء األس�لحة النووي�ة أو لصنعها‪ .‬إقول ذلك لمناس�بة ما ُعرف من‬
‫حتما من س�باق‬
‫يجر إليه ً‬
‫تعاون بين جنوب إفريقيا وإس�رائيل في ذلك المجال‪ ،‬وما ُّ‬
‫بين الدول المهددة إلى اقتناء ذلك السلاح أو ُصنعه أو التسلح بما ُيضاهيه في القوة‬

‫((( «تدمير ما يمكن تدميره» من إضافة المحرر ألن الجملة في األصل كانت مضطربة‪،‬‬
‫وق�د فات على المش�رف على الطبع�ة األولى أن يضبطها أو يراج�ع الكاتب الكبير‬
‫نجيب محفوظ في صياغتها‪ ,‬وقد قمت بتعديلها‪ ،‬ليس�تقيم المعنى‪ .‬وقد فعلت األمر‬
‫نفسه في الفقرة األخيرة التي كان يشوبها بعض االضطراب‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫والفتك‪.‬‬

‫إن حصول أية دولة صغيرة على هذا السالح ‪-‬في الوقت الذي ينبض فيه ضمير‬
‫وهزا لألمن البش�ري‪،‬‬
‫الدول الكبرى بالتخلص منه‪ -‬يعني إخالال بالتوازن الدولي‪ًّ ،‬‬
‫عليا بخراب يتعذر حصره في موضع محدود من األرض فعلى هيئة األمم‬ ‫ِ‬
‫وتهديدً ا ف ًّ‬
‫أن تنظر إلى أي مس�عى من ه�ذا النوع باعتباره تهديدً ا ألمن وت�وازن العالم‪ ،‬وعليها‬
‫أن تض�ع الضواب�ط الحاس�مة للدفاع عن البش�رية‪ .‬وليس في وس�ع دول�ة أن تخرج‬
‫ع�ن المصلحة البش�رية العام�ة إذا ُو ِ‬
‫وج َه ْت حقًّ�ا بالعقوبات الدولي�ة الصارمة‪ ،‬مثل‬
‫وثقافيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫واجتماعيا‬
‫ًّ‬ ‫اقتصاديا‬
‫ًّ‬ ‫المقاطعة الشاملة‬

‫إن ه�ذا الخطر أفظع من خطر اإلرهاب والمخدرات‪ ،‬وأعلى من خطر التلوث‪،‬‬
‫وال يتصور التهاون فيه أو التسامح معه إلاًّ ممن هو ضالع فيه على نحو ما‪ .‬إنه امتحان‬
‫تسابق إلى الجحيم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وإما‬
‫فإما التزام باالنتماء البشري‪َّ ،‬‬
‫وأي امتحان‪َّ ،‬‬

‫‪334‬‬
‫العلم‬

‫تجربة شبابية قيمة‬

‫�را لمنظمة األمم المتحدة‬


‫نموذجا ُم َصغَّ ً‬
‫ً‬ ‫دأب�ت الجامعة األمريكية عل�ى أن تقيم‬
‫ُيش�ارك في�ه طلبة من جامع�ات أمم متعددة‪ ،‬بهدف اس�تثارة اهتم�ام الطلبة بالقضايا‬
‫العالمية‪ ،‬وتهيئة الفرصة لدراستها واقتراح الحلول لها‪.‬‬

‫وق�د دعاني ذلك إلى مزيد من التفكير في أنش�طة التجمع الش�بابي الكبير التابع‬
‫للمجلس األعلى للشباب‪ .‬والحق أنه مما َي ُس ُّر أنْ َ‬
‫يحظى الشباب من خالل السياسة‬
‫المرسومة لتربيته بما يقيم له قاعدة ت َْج َم ُع بين استنارة العقل وسالمة الجسم‪ ،‬وإضافة‬
‫إلى ذلك نرجو أن يستفيد من ذلك األسلوب الذكي الذي ابتدعته الجامعة األمريكية‬
‫في فتح مجال جديد للتربية الوطنية واإلنسانية‪.‬‬

‫وأتص�ور أن تب�دأ التجرب�ة ب�أن تطرح عل�ى مؤتمر من الش�باب الممثل لش�باب‬
‫الجمهوري�ة فقضي�ة أو أكث�ر م�ن قضايان�ا الداخلي�ة‪ ،‬وقضي�ة أو أكث�ر مم�ن قضاي�ا‬
‫العال�م‪ ،‬مث�ل البطالة‪ ،‬والمخدرات‪ ،‬والعنصرية‪ ،‬واإلره�اب‪ ،‬على أن تقدم له بعض‬
‫المس�اعدات‪ ،‬مث�ل دع�وة بع�ض المتخصصي�ن إللقاء محاض�رات عام�ة‪ ،‬أو إدارة‬
‫ندوات متخصصة‪ ،‬أو لفت األنظار إلى بعض المراجع المهمة‪ ،‬كي يدلوا بآرائهم في‬
‫النهاية‪ ،‬وأن يعرض ذلك عند المناقش�ة العامة تحت إشراف األساتذة المتخصصين‬
‫في شتى القضايا‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫و َل َع ِّل�ي في غ ًنى عن ذكر الفوائد التي يجنيها الش�باب من تل�ك التجربة‪ ،‬ولكني‬
‫أذكر منها على سبيل المثال‪:‬‬

‫‪ -1‬حث الش�باب على االهتمام بالقضايا الداخلية والعالمية في مختلف وسائل‬


‫اإلعالم‪.‬‬

‫الش�اب م�ن‬
‫َّ‬ ‫‪ -2‬االرتب�اط الوجدان�ي والعقل�ي بالوط�ن والعال�م‪ ،‬مم�ا ُيخ�رج‬
‫الالمباالة والسلبية‪.‬‬

‫‪ -3‬تكوي�ن نواة عاطفي�ة لالنتماء الوطني والعالمي‪ ،‬وفي ذلك ما فيه من تدريب‬
‫لخ ْلق المواطن الصالح والمواطن العالمي‪.‬‬
‫َ‬

‫باإلضافة إلى تزويد الش�اب بقدر ال ُيستهان به من الثقافة االجتماعية والسياسية‬


‫والفنية‪ ،‬وتعويده على التفكير المستقل‪ ،‬والتحلي بآداب المناقشة‪.‬‬

‫‪1992/6/4‬‬

‫‪336‬‬
‫العلم‬

‫تحية لواهبي السعادة‬

‫الحكماء‪ ،‬خالص�ة قضيته أنه‬


‫وأغض�ب ُ‬
‫َ‬ ‫الش�باب‬
‫َ‬ ‫«بتش�ان»((( الممث�ل الذي َف َت َن‬
‫بالحب واإلعجاب وإقبال الش�باب حيثما ُو ِج�دَ ‪ .‬ورأت نخبة من قادة الفكر‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يحظى‬
‫في ذلك الس�لوك س�خ ًفا وتفاهة ال يليق بالش�باب الناضج المثقف‪ ،‬وأن الفن الذي‬
‫يمثله الفنان الهندي فن بس�يط وساذج‪ ،‬يس�تمد جاذبيته من التسلية الخالصة الخالية‬
‫من أية قيمة‪ .‬وتساءل اآلخرون‪ :‬إذا كان لدى فئة من الشباب هذا القدر من اإليجابية‪،‬‬
‫فما تفسير الالمباالة حيال الخطير من األمور والحوادث؟‬

‫ومغن ومقدم برامج تلفزيونية‪ ،‬حصل‬‫ٍ‬ ‫((( أميتاب باتشان (‪ 11‬أكتوبر ‪ :)1942‬ممثل هندي‬
‫على ش�عبية واسعة في بداية السبعينيات من القرن العشرين‪ ،‬وظهر منذ ذلك الحين‬
‫فيلما ف�ي حياته المهنية التي امتدت ألكثر م�ن أربعة عقود ويعتبر‬
‫ف�ي أكث�ر من ‪ً 180‬‬
‫تأثيرا في تاريخ السينما الهندية وبسبب تأثيره‬
‫«باتش�ان» أحد أعظم الممثلين األكثر ً‬
‫وهيمنته على المش�هد الس�يمائي في الس�بعينيات والثمانينيات من القرن العش�رين‬
‫دع�اه المخرج الفرنس�ي بـ «رجل صناعة الس�ينما الوحيد» فاز باتش�ان بالعديد من‬
‫الجوائ�ز الكب�رى في حيات�ه المهنية» م�ن ضمنها ثالث م�ن جوائز الفيل�م الوطني‬
‫ألفض�ل ممث�ل و‪ 14‬جائزة فيلم في�ر والعديد من الجوائز األخ�رى في المهرجانات‬
‫السينمائية الدولية‪ ،‬وهو أكثر ممثل ترشح لجوائز فيلم فير في الفئات الرئيسية حيث‬
‫يمتلك ‪ 29‬ترشيحا باإلضافة للتمثيل‪ .‬قامت الحكومة الهندية بتكريمه بجائزة «بادما‬
‫شرى»‪.‬‬
‫‪337‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫المسألة بكل بساطة أن ذلك رجل قد ُو ِّفقَ بعمله وموهبته في إهداء السعادة إلى‬
‫ٍ‬
‫ش�يء‬ ‫قلوب كثيرة‪ ،‬فاحت َفى به َم ْن فازوا بالس�عادة على يديه‪ ،‬ودفعهم الوفاء إلى رد‬
‫ٍ‬
‫اإلحسان اَّإل اإلحسانُ ‪.‬‬ ‫جزاء‬
‫ُ‬ ‫من الجميل إليه‪ ،‬فما‬

‫إنها ظاهرة صحية وأخالقية‪ ،‬ولن يهون من ش�أنها س�ذاجة التسلية التي يقدمها‪،‬‬
‫أج َّل وأخطر في حياتنا‪.‬‬
‫أمورا َ‬
‫وال الالمباالة التي يلقون بها ً‬
‫َّأما من ناحية التس�لية فهي درجات‪ ،‬وهي تبدأ بالتس�لية الس�اذجة الخالية من أية‬
‫جميعا بذلك الطور من‬
‫ً‬ ‫قيمة ثقافية‪ ،‬ولكن لها حظها من البهجة والسرور‪ .‬وقد مررنا‬
‫التسلية وعشقنا رموزه‪ ،‬وحفظنا ذكرياته في أعز مكان من قلوبنا‪ .‬وبتقدم العمر يجيء‬
‫طور النضج والقيم‪ ،‬وت َُط َّع ُم التسلية باالستنارة والفكر‪ ،‬فلماذا يتعجل األساتذة النقاد‬
‫األمور؟ لماذا يريدون أن يفرضوا أذواقهم على أبنائهم دون مراعاة للس�ن والعصر؟‬
‫قصرنا في حق الش�باب فيما يتعلق بتعليمه وثقافته وعمله ورزقه‪ ،‬ثم نضن‬
‫الحق أننا َّ‬
‫عليه بشيء من السعادة البريئة واالحتفاء بمن وهبوها له بغير حساب‪.‬‬

‫وم�ن ناحية المباالة والالمباالة‪ ،‬فلقد نادى «بتش�ان» إيجابيته�م فلبت‪ ،‬ووجدوه‬
‫أهله�ا‪ .‬ولع�ل إيجابيته�م أن تتحرك على المس�توى نفس�ه ف�ي مجتمعهم ل�و صاد َق ْت ُهم‬
‫الش�خصية المؤثرة المقنعة التي تتصدى لحل مش�كالتهم بالقوة والع�زم‪ ،‬والتي تطرح‬
‫كريما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ورمزا ومثالاً‬
‫ً‬ ‫نفسها قدوة‬

‫تحية لواهبي السعادة للناس في هذه الحياة المملوءة بالمحن والكوارث‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫العلم‬

‫غ ًدا يوم آخر‬

‫كيف نعايش العالم الجديد؟‬

‫إن�ه عالم جدي�د حقًّا مهما يكن مضمونه‪ .‬بعد زوال االتحاد الس�وفيتي تالش�ت‬
‫ص�ورة قديمة لتحل محله�ا صورة جديدة‪ .‬يقول قادة العال�م الجديد‪ :‬إنه يقوم على‬
‫الش�رعية الدولية واحترام حقوق اإلنس�ان‪ ،‬على حين يعتق�د بعض المخضرمين أن‬
‫قائما في أهدافه‪ ،‬ولكنه يفصح عنها بأسلوب إنساني جديد‪.‬‬
‫العالم القديم اليزال ً‬
‫ُ‬
‫وأعاود السؤال‪ :‬كيف ن ُ‬
‫ُعايش هذا العالم؟‬
‫علين�ا أن نصدق كلم�ات الخير‪ ،‬فهي عهد والتزام‪ ،‬اَّ‬
‫وأل نتخلى عنها حتى تس�فر‬
‫ع�ن حقيقته�ا أن تكون لها حقيقة أخرى‪ ،‬هذا خير من المبادرة بس�وء الظن الذي لن‬
‫َي ُج َّر علينا اَّإل التورط في األخطاء والمش�كالت‪ .‬ومن ُحسن الحظ أن سياسة العالم‬
‫الجدي�د ال تُطالب األم�م النامية اَّإل بالديمقراطية والسلام والتنمية واحترام حقوق‬
‫اإلنس�ان‪ ،‬وجميعها أهداف طالما ت ََط َّل ْع َنا إليها دون توجيه أو إمالء‪ ،‬وإنه َل ِم ْن ُح ْس ِ�ن‬
‫الح�ظ حقًّ�ا اَّأل تتناقض مع مصلح�ة األقوياء في العالم الجدي�د‪ ،‬وقد يحد ذلك من‬
‫دورن�ا السياس�ي والعس�كري‪ ،‬ولكن ال عقبة يمك�ن أن تعرقل تقدمن�ا في مجاالت‬
‫الحضارة األخرى‪ ،‬مثل العلم والثقافة‪ ،‬وهي األهم واألبقى‪.‬‬
‫أيضا أن نوس�ع م�ن نظرتنا إلى العالم‪ ،‬اَّ‬
‫وأل يغيب ع�ن بالنا أنه يجمع بين‬ ‫وعلينا ً‬
‫كبار وصغار‪ .‬وأن مسئولية كل فريق يجب أن تتناسب مع حجمه وعطائه‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ولكن كيف تكون الحال لو تمخض الكالم الجميل عن وجه قبيح؟‬

‫حقًّ�ا نح�ن ال نمل�ك الق�وة الرادع�ة‪ ،‬ولكنن�ا نمل�ك اإلرادة والعزيم�ة والرغبة‬
‫ف�ي الحي�اة الكريمة واحت�رام المبادئ اإلنس�انية‪ .‬ونس�تطيع أن نتكت�ل فنكون قوة‪،‬‬
‫جميعا مس�تعمرات ‪-‬أو في ُحكم‬
‫ً‬ ‫ونم�ارس مقاومة س�لبية ال ُيس�تهان بها‪ .‬وقد كن�ا‬
‫والح ْول‪،‬‬
‫المس�تعمرات‪ -‬وكنا بال ق�وة مادية‪ ،‬ولكنن�ا انتصرنا على أصحاب الق�وة َ‬
‫و ُف ْزنَا بالحرية واالستقالل‪.‬‬

‫خيرا‪.‬‬ ‫اً‬
‫ومؤمل ً‬ ‫اً‬
‫متفائل‬ ‫غير أني اعترف بأنني مازلت‬

‫‪1992/7/9‬‬

‫‪340‬‬
‫العلم‬

‫الحلم في حاجة إلى عمل‬

‫نفكر في العالم الجديد فنتفق ونختلف‪ ،‬نتش�اءم أو نتفاءل‪ ،‬ونكتفي باالنتظار حتى‬
‫تكش�ف لن�ا األيام عن حقيقت�ه‪ ،‬وذاك موقف س�لبي‪ ،‬بخاصة لمن يرجون غ�دً ا أفضل‪،‬‬
‫وعالم�ا أع�دل وأرحم‪ ،‬والحق أنه العال�م المأمول لن تقوم ل�ه قائمة‪ ،‬لن يصبح حقيقة‬ ‫ً‬
‫واقعة‪ ،‬لن يدرج في األخالقيات العامة الثابتة والقيم السامية إنْ لم َيثِ ْب ُك ُّل مسئول ُ‬
‫وكل‬
‫ُأ َّم ٍة للمشاركة في َخ ْل ِق ِه‪ ،‬والدعوة إلى فلسفته‪ ،‬والعمل على َف ْر ِضه‪ ،‬واإليمان بمبادئه‪.‬‬
‫ولن َي َت َأتَّى ذلك اَّإل بتصديق كل كلمة طيبة عنه تصدر من زعيم عالمي‪ ،‬أو دولة كبرى‪،‬‬
‫والتنويه بها‪ ،‬والثناء على قائلها‪ ،‬وإشعاره بحمل أمانتها أمام العالم وأمام التاريخ‪.‬‬
‫ولن يتأتى ذلك حتى تنشط الدول المكونة لهيئة األمم إلى تقوية هيئتها‪،‬وإكسابها‬
‫َ‬
‫برلمان العالم حقًّا المهتم‬ ‫م�ن الحقوق والصالحيات ما يجعلها تصلح يو ًم�ا لتكون‬
‫بحل مش�كالته وتقرير مصيره‪ ،‬وأن يتبع ذلك ما يناس�به من زيادة األعضاء الدائمين‬
‫في مجلس األمن‪ ،‬وتقوية محكمة العدل الدولية وزيادة اختصاصاتها‪.‬‬
‫وم�ن ه�ذا المنطق م�ن التفكير رحبنا بما نش�رته الصح�ف عن اقت�راح الدكتور‬
‫«بطرس غالي»((( إلنشاء قوة السالم التي نرجو أن تكون ممثلة ألمم العالم على َق ْد ِر‬
‫الطاقة‪ ،‬وأن يشترك فيها العالم الثالث بنسبة معقولة‪.‬‬

‫((( د‪ .‬بطرس غالي (‪ 14‬نوفمبر ‪ 16 -1922‬فبراير ‪ :)2016‬دبلوماسي مصري كان األمين‬


‫العام السادس لألمم المتحدة لألعوام ‪ 1996-1992‬وهو حفيد يوسف نيروز غالي‬
‫رئي�س وزراء مص�ر في أوائل القرن العش�رين ال�ذي اغتاله إبراهي�م الورداني وعم‬
‫وزيرا للمالية‪( .‬المحرر)‬
‫يوسف بطرس غالي الذي كان ً‬
‫‪341‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ووج�ود ه�ذه القوة ضرورة‪ ،‬حتى إذا لم يلجأ إليه�ا اَّإل في الحاالت النادرة التي‬
‫تفشل فيها التحذيرات ومختلف العقوبات السياسية واالقتصادية‪.‬‬

‫يجب أن نأخذ ذلك األمر مأخذ الجد‪ ،‬وبخاصة أننا ُمقبلون على مواجهة قضايا‬
‫عالما‬
‫مهمة‪ ،‬مثل قضية السالم‪ ،‬والقضاء على أسلحة الدمار الشامل‪ .‬وعلى َم ْن يريد ً‬
‫جديدً ا أفضل َأنْ يقرن النية بالعمل‪.‬‬

‫‪1992/7/16‬‬

‫‪342‬‬
‫العلم‬

‫دار بقاء أم دار فناء؟‬

‫تذكرون وال ش�ك مؤتمر قمة األرض «بريودي جانيرو»‪ .‬تذكرون مطالب الفقراء‬
‫واالستجابة المحدودة لألغنياء‪ ،‬والخيبة العامة التي أصابت كل من يهتم بالغد القريب‬
‫والغد البعيد لألرض وسكانها‪ .‬ال أنوي تقديم قول معاد‪ ،‬فقد قيل كل ما يمكن أن ُيقال‪،‬‬
‫ولكن أريد أن أتحدث عن انطباعات ال يجوز أن نمر بها دون تسجيل‪.‬‬

‫فق�د أصبح�ت األرض بين يوم وليل�ة قضية مهمة من قضايا البش�رية‪ ،‬بل لعلها أهم‬
‫�ي الرجل العادي‬
‫جميع�ا‪ ،‬فرضت االهتمام به�ا على المثقفي�ن‪ ،‬وطرقت َو ْع َ‬
‫ً‬ ‫قضاياه�ا‬
‫المتابع للنشاط اإلعالمي اليومي‪ ،‬وقد يكفي هذا كبداية إلنجاح ما عزت المساعي عن‬
‫إنجاح�ه ف�ي المؤتم�ر‪ .‬أرج�و أن يكون قد وق�ر في الضمائ�ر أننا إذا لم نُ�ول األرض ما‬
‫تستحقه من احترام فلن ت ََه َب لنا ما نستحقه من حياة وازدهار‪.‬‬

‫أيض�ا كان البع�ض يتس�اءل ع�ن عدو جدي�د بعد زوال الش�يوعية وتف�كك االتحاد‬ ‫ً‬
‫الس�وفيتي‪ .‬قالوا‪ :‬إن األقوياء ال يعيش�ون دون عدو‪ ،‬البد ِم ْن ت ََح ٍّ�د ليقيموا في مواجهته‬
‫مش�روعا للقوة واإلبداع والحضارة‪ .‬ها هو ذا عدو يطل علينا من رحاب الطبيعة‪ ،‬يهدد‬
‫ً‬
‫يحل أولاً بالضعف�اء والفقراء‪ .‬وهو يه�دد بالجفاف‪ ،‬والحر‪،‬‬
‫الجمي�ع‪ ،‬وإن كان خط�ره ُّ‬
‫والج�دب‪ ،‬والتلوث‪ ،‬والفيضانات‪ ،‬والزالزل‪ ،‬ويدع�و الجميع إلى التحالف‪ ،‬وإلى نبذ‬
‫الع َر ِضية‪ ،‬وإلى تغيير المعاملة مع الطبيعة‪ ،‬من معاملة تقوم على االس�تغالل‬‫الخالفات َ‬
‫والتسلط والس َفه إلى معاملة تقوم على التعاون ِ‬
‫والح ْكمة والنظرة المستقبلية البعيدة‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪343‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ذريعا كما تصور البعض‪ .‬لقد‬


‫فشل ً‬‫من أجل ذلك كله ال أتصور أن المؤتمر قد فشل اً‬
‫تقررت إعانات ‪-‬وإنْ تكن أقل مما يجب‪ -‬وسوف تنعقد مؤتمرات أخرى؛ ألن القضية‬
‫أهم وأخطر من أن ُت ْت َت َ‬
‫رك بال متابعة‪.‬‬

‫وربما أدرك اإلنس�ان يو ًما أن اكتش�افه الحديث للفضاء لم يكن مجرد توفيق علمي‬
‫سعيد الحظ‪ ،‬ولكنه جاء في وقت تمس الحاجة إليه!‬

‫‪1992/7/30‬‬

‫‪344‬‬
‫العلم‬

‫الجامعة األهلية‬

‫اختلف القول حول الجامعة األهلية‪ ،‬ولكني ال أدري كيف ُاع ُت ِر َ‬


‫ض على إنش�اء‬
‫مليما في إنش�ائها‪ .‬إنَّ القادرين يس�تطيعون‬
‫دار للعلم‪ ،‬وبخاصة أن الدولة لن تتكلف ً‬
‫أن ُينش�ئوا المالهي الليلية إذا ش�اءوا‪ ،‬فكيف ن َُح ِّر ُم عليهم إنشاء دور العلم ‪-‬حتى لو‬
‫كان اله�دف األول لذلك هو تهيئة الفرصة لتعليم أبنائهم الذين فش�لوا في االلتحاق‬
‫بالجامعات الرس�مية؟ إن التعليم على أي حال حق لكل مواطن‪ ،‬ولم تُفرض القيود‬
‫عليه اَّإل لكثرة األعداد وقلة األماكن‪ ،‬والعبرة في النهاية بالنجاح‪.‬‬

‫إن للمشروع إيجابيات يجب أن تُذكر‪ ،‬منها‪ :‬أنه سيوفر لتعليمنا العالي تخصصات‬
‫حديث�ة لم ت َْح َظ بالتعامل معها جامعاتنا الرس�مية لألس�ف الش�ديد‪ .‬ومنه�ا ً‬
‫أيضا أنه‬
‫سيخصص للمتفوقين ‪ %25‬من المقبولين بالمجان‪ ،‬فهو نصر للتقدم العلمي‪ ،‬ونصر‬
‫للمتفوقي�ن من أبن�اء األمة‪ ،‬وال بأس من أن�ه يهيئ فرصة لمن خانه�م التوفيق‪ ،‬وهم‬
‫عل�ى أي حال كان�وا يحصلون على تل�ك الفرصة بااللتحاق بالجامع�ات األجنبية‪،‬‬
‫وإنف�اق المصروفات الباهظة‪ ،‬ومعاناة االغتراب‪ ،‬والتعرض لمخاطر ش�تى‪َ ،‬ف ِل َم ال‬
‫ت َُحل المش�كلة بأموال ذويهم؟ ولِ َم ال ُيس�تثمر المال في مجال العلم كما ُيستثمر في‬
‫الزراعة والصناعة؟ وإذا كان الفاش�لون من الفقراء ال يجدون الفرصة نفس�ها فاللوم‬
‫يجب أن يقع على الدولة ال على القادرين‪.‬‬

‫وهذا يس�وقنا إلى س�ؤال آخر ُم َحير‪ :‬كيف مضت األعوام في إ ْث ِر األعوام ونحن‬
‫راضون أو ساكتون على حال جامعاتنا المتردية‪ ،‬التي تعيش متأخرة عن العصر؟‬
‫‪345‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لقد أنش�أنا من الجامعات المتأخرة ثالث عش�رة‪ ،‬وأعتق�د أن دعم جامعة قائمة‬
‫�م أكثر من الكيف‪،‬‬ ‫كان أفض�ل من إنش�اء جامعة جديدة متأخ�رة‪ ،‬ولكننا تحيزنا َ‬
‫للك ِّ‬
‫وعجزن�ا ع�ن االرتق�اء بجامعاتنا‪ ،‬لدرجة أن بعض المس�ئولين راح�وا يدافعون عن‬
‫فكرة الجامعة األهلية استنا ًدا للحالة المتردية لجامعاتنا الرسمية‪.‬‬

‫نح�ن نعاصر زم ًنا ال يحتمل هذا التهاون أبدً ا‪ ،‬فليكن في إنش�اء الجامعة األهلية‬
‫�د لثغ�رة قبيحة‪ ،‬وحاف�ز على االرتقاء بجامعاتنا الرس�مية‪ ،‬وس�يذكر التاريخ ذلك‬
‫َس ٌّ‬
‫الفضل لمنشئ الجامعة األهلية‪.‬‬

‫‪1992/8/27‬‬

‫‪346‬‬
‫العلم‬

‫البطولة بين الواقع والحلم‬

‫هكذا ذهبنا إلى برشلونة‪ ،‬هكذا عدنا من برشلونة‪.‬‬

‫تقريبا‪ -‬من ال جدوى الس�باق‪ .‬فعلى‬


‫لن أحدثك عن أس�باب ذهابنا مع تأكدنا ‪ً -‬‬
‫أي�ة ح�ال يج�ب أن يكون لنا وج�ود في عالم الرياض�ة‪ ،‬ويجب أن يرف�رف لنا علم‪،‬‬
‫والرياضة ليست رهانًا على الفوز فحسب‪ ،‬ولكنها مشاركة في نشاط جميل‪ ،‬والروح‬
‫توهجها‬
‫الرياضية الحقة ال يغرها الفوز‪ ،‬وال يهزمها الخس�ران‪ ،‬ولكنها تحافظ على ُّ‬
‫في جميع الظروف واألحوال‪.‬‬

‫لك�ن ال مفر من الس�ؤال عن أس�باب فش�لنا الش�امل‪ :‬كي�ف لم يتأل�ق ولو بطال‬
‫واح�دا؟ ال تَقُ ْ‬
‫�ل إنَّ المنافس�ة على مس�توى العالم مطلب ش�اق أو ش�به مس�تحيل‪،‬‬
‫وأي تاري�خ‪ ،‬والرياضة ال‬
‫فنح�ن ال نخوضه�ا ألول مرة‪ ،‬ولنا فيها م�ع الفوز تاريخ‪ّ ،‬‬
‫تف�رق بين جنس وجن�س‪ ،‬وال بين لون ولون‪ ،‬وال بين ش�مال وجنوب‪ ،‬وقد أحرزنا‬
‫فيه�ا انتص�ارات بطولي�ة خارقة ف�ي الكرة‪ ،‬ورف�ع األثق�ال‪ ،‬والس�باحة والمالكمة‪،‬‬
‫والمصارعة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬برغم انتمائنا إلى ما ُيس�مى اليوم بالعالم الثالث‪ ،‬بل حتى قبل‬
‫كريما على مستوى العالم‪ ،‬نثبت من‬
‫متنفس�ا ً‬
‫ً‬ ‫تحررنا من االس�تعمار‪ ،‬كانت الرياضة‬
‫خالل�ه جدارتنا‪ ،‬ونعلن ع�ن إمكاناتنا الكامنة‪ ،‬فكيف تدهورنا ف�ي زمننا األخير بعد‬
‫التحرر والتقدم في كثير من األبعاد الحضارية؟‬

‫‪347‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫األم�ر ‪-‬ف�ي نظري‪ -‬ال يحتاج ألكث�ر من الحب والطم�وح والتدريب‪ ،‬أن تحب‬
‫رياضت�ك‪ .‬وأن تطم�ح إلى التفوق‪ ،‬وأن تتدرب على ذلك‪ ،‬هكذا فعل الس�يد نصير‪،‬‬
‫ومختار حسين‪ ،‬والتوني‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وعمرو‪ ،‬وحسين حجازي‪ ،‬والسوالم‪ ،‬وغيرهم‬
‫وغيره�م‪ .‬فم�ن أين جاءن�ا ذاك اإلجماع على الخيبة؟ ال ش�ك ف�ي أن كل العب ال‬
‫ينقصه الحب للعبته‪ ،‬وال يعوزه الطموح للتفوق‪ ،‬ولكن النقص ‪-‬وال ش�ك‪ -‬يكمن‬
‫في التدريب في العمل‪ ،‬وفي االستمرار في الممارسة‪.‬‬

‫إن الح�ب مطلوب لمختل�ف العلوم والفنون والوظائ�ف والطموح لبلوغ أعلى‬
‫الدرج�ات‪ ،‬ولك�ن ال يوج�د صب�ر عل�ى العم�ل والمثاب�رة‪ ،‬لم تع�د توج�د اإلرادة‬
‫دائما على االهتداء ألقصر‬
‫الصلبة‪ ،‬والعزيمة الحديدية‪ ،‬والطاقة التي ال تنفد‪ .‬اللهفة ً‬
‫والس ُ�بل غير المشروعة‪،‬‬
‫طريق‪ ،‬وأقل زمن‪ ،‬وأتفه مجهود‪ .‬إنه زمن الوس�ائط والقفز ُّ‬
‫واالعتماد على أي شيء‪ ،‬اَّإل النفس والعمل‪.‬‬

‫وق�د تصادفن�ا المصاع�ب عن�د تجديد أنفس�نا ف�ي مجال العم�ل‪ ،‬أم�ا الرياضة‬
‫فمصاعبه�ا أه�ون‪ ،‬ومغالبة الس�لبيات ف�ي مجالها أق�رب إلى التحقي�ق‪ .‬فلنعزم من‬
‫جديد‪ ،‬ولنشحن عزيمتنا بالقوة والتصميم والعاقبة للمجتهدين‪.‬‬

‫‪1992/9/2‬‬

‫‪348‬‬
‫العلم‬

‫الماضي والحاضر في عالم متغير‬

‫اطلعت في ُصحفنا على عنوان َْي ِن مهمين‪:‬‬


‫ُ‬ ‫في يوم االثنين ‪8/3‬‬

‫األول‪ -‬عن أحياء مصر اإلسالمية وما تعانيه هياكلها وآثارها من أحوال متردية‪،‬‬
‫وكيف تحولت إحدى بوابات مجدها التاريخية إلى مقلب قمامة‪.‬‬

‫والثان�ي‪ -‬عن انعقاد مؤتم�ر ثقافي لبحث الثقافة العربية ف�ي عالم الغد المتغير‪،‬‬
‫واالتفاق على ميثاق يلتزم به المثقفون‪ ،‬هكذا اجتمع البكاء على األطالل مع التطلع‬
‫إل�ى المس�تقبل في وقت واحد‪ .‬وبالح�ق والصدق‪ ،‬فإنني لم َأ ْح َظ م�ن العنوانين اَّإل‬
‫بالكآبة‪.‬‬

‫ال أدري كي�ف أداف�ع عن أحيائنا األثرية‪ ،‬فقد قيل في ذلك كل ما يمكن أن ُيقال‪.‬‬
‫�م بمالعبها في ربوعها الطيبة في زمن كانت‬ ‫ِ‬ ‫فضًل�اً عن ذلك فإني ٌ‬
‫ابن من أبنائها‪ ،‬نَع َ‬
‫تكن�س فيه في النهار الواح�د مرتين‪ ،‬وت َُر ُّش مرتين‪ ،‬وتنض�ح جوانبها بعبق الماضي‬
‫المجيد‪ ،‬ماذا يحدث لها اليوم؟ ماذا أصابها في العصر الذهبي للسياحة؟ وهل تُغْ نِي‬
‫في الدفاع عنها لغة المال واالقتصاد؟ َأو حسبنا حنين الذكريات؟!‬

‫وألقيت كلمات طيبة كالع�ادة‪ ،‬وأعلن الميثاق‪،‬‬‫أم�ا المؤتمر الثقافي فق�د انعقد‪ُ ،‬‬
‫وأ ْس ِد َل الستار‪ .‬أية ثقافة؟ وأي عالم متغير؟‪ .‬الثقافة هي الثقافة‪ ،‬هي‬ ‫ِ‬
‫امر‪ُ ،‬‬
‫الس ُ‬
‫وانفض َّ‬
‫َّ‬
‫وأخي�را‪ ،‬والعالم ال يكف ع�ن التغيير‪ ،‬وال الثقافة تك�ف‪ .‬وأما الميثاق‬
‫ً‬ ‫اإلنت�اج أولاً‬
‫فهل كان ينتج المبدعون ويفكر المفكرون دون ميثاق‪ ،‬وإِنْ لم ُي ْع َلن في مؤتمر؟ هل‬

‫‪349‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ون في الضاللة حتى َه َّل عليهم الميثاق بنوره؟ وأية قوة تحمل ُم ً‬
‫بدعا على‬ ‫كانوا َي ِه ُ‬
‫يم َ‬
‫وحي إليه به ضميره؟‬ ‫االلتزام بغير ما ي ِ‬
‫ُ‬
‫أفه�م أن يجتمع المثقف�ون لعرض مطالبهم‪،‬وأم�ا أكثر المطال�ب المعلقة فهي‪:‬‬
‫إع�ادة النظر في القوانين الخاص�ة بحرية الفكر‪ ،‬وإزالة العقب�ات المالية والجمركية‬
‫الت�ي تُعرق�ل التب�ادل الثقافي‪ ،‬وتش�ديد عقوبة التزوي�ر‪ ،‬والتب�ادل الثقافي من خالل‬
‫المعارض والزيارات‪ ،‬وإنش�اء مؤسس�ة على مس�توى الجامع�ة العربية للترجمة من‬
‫وإل�ى اللغة العربية‪ ،‬وتقوية س�اعات البث اإلذاعي والتليفزيوني ف�ي مجال الثقافة‪،‬‬
‫وإنش�اء لجن�ة دائمة م�ن وزراء الثقاف�ة واإلعالم والتربي�ة في البلاد العربية لمواالة‬
‫الثقافة بالرعاية والعناية‪.‬‬

‫واعتقد أنه توجد مطالب ثقافية أكثر من ذلك‪ ،‬وهي جديرة بالندوات والمؤتمرات‬
‫حقًّا‪.‬‬

‫‪1992/9/17‬‬

‫‪350‬‬
‫العلم‬

‫الرجال القدوة‬

‫خانتنا الذاكرة‪ ،‬بل قد خانتنا عن عمد وإصرار‪ ،‬فأصبح من ضمن ما نعاني نسيان‬
‫التراب على مناجم‬
‫ُ‬ ‫المج�د‪ .‬ثم قطيعة غريبة َف َص َل ْت ما بين ماضين�ا وحاضرنا‪ُ ،‬أ ِه َ‬
‫يل‬
‫وك َأن ال أصل لنا‪ .‬ونشأت أجيال وأجيال ال تعرف لنفسها ُج ً‬
‫ذورا‪،‬‬ ‫من الذهب‪ ،‬وبتنا َ‬
‫وال ت َْه َت�دي ف�ي س�بلها بق�دوة‪ .‬لعل ذل�ك كان ضمن أس�باب كثيرة انزلق�ت بنا إلى‬
‫اإلرهاب‪ ،‬أو على األقل إلى الضياع‪.‬‬

‫كان�ت لن�ا عق�ول َف َّذة ف�ي كل مج�ال‪ ،‬وكانت لهم إنج�ازات رائع�ة ال يجوز أن‬
‫ُت ْن َس�ى‪ .‬كان لنا زعماء في الوطنية والسياس�ة‪ ،‬ورواد في االقتص�اد والعلوم الطبيعية‬
‫والهندس�ية والطب والزراعة‪ ،‬ومجددون في الفكر الديني واألدب والحرية‪ .‬أسماء‬
‫كبي�رة‪ ،‬ل�كل منه�ا عبقريت�ه و َد ِو ُّي�ه‪ ،‬وأث�ره العميق في عص�ره وما تاله م�ن عصور‪،‬‬
‫وجميعه�م يس�تحقون أن يكونوا مادة خصبة في التربية الوطني�ة في مراحل التعليم‪،‬‬
‫كما يصلحون نجو ًما لبرامج في اإلذاعة والتليفزيون‪ ،‬وما يمنعني من تعداد األسماء‬
‫اَّإل أن أس�هو ع�ن بعضها فأرتكب إس�اءة بغير قص�د كما ارتكبها الغي�ر بقصد‪ً .‬‬
‫أيضا‬
‫فإنني ال أدعو إلى إحياء ذكراهم إكرا ًما لهم وعرفانًا بفضلهم فحسب‪ ،‬ولكن ألن في‬
‫وتقديما لخير القدوات في األنشطة‬
‫ً‬ ‫للمثُل العليا‪،‬‬
‫ونشرا ُ‬
‫ً‬ ‫ذلك تربية أخالقية وعلمية‪،‬‬
‫وتكريما لمصر وسيرتها وتاريخها‪.‬‬
‫ً‬ ‫اإلنسانية كافة‪ ،‬وإعزازً ا‬

‫‪351‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إنَّ العناي�ة بأهل الف�ن موفورة‪،‬وهي عناية جميلة ومش�كورة‪ ،‬ولكن ال يجوز أن‬
‫تقل عنايتنا باآلخرين من ُبناة الوطن عن ذلك‪.‬‬

‫‪1993/6/22‬‬

‫‪352‬‬
‫العلم‬

‫فلنصنع العالم الجديد‬

‫النظ�رة العام�ة تدعو لالكتئاب‪ ،‬ما يحدث في البوس�نة‪ ،‬وما وق�ع في الصومال‪،‬‬
‫والضربة األخيرة التي تلقاها العراق‪ ،‬كل هذا يدعو إلى االكتئاب‪ .‬ويتهم المسلمون‬
‫ميزان العدل الدولي‪ ،‬ويكش�فون عن نية سوء ُم َب َّي َتة ضد اإلسالم والمسلمين‪ ،‬ويثور‬
‫الغض�ب ويحت�دم‪ ،‬ولك�ن تنحس�ر موجات�ه الفائرة ع�ن تبرع�ات من هن�ا أو هناك‪،‬‬
‫وسخرية مريرة ِم َّما بشروا به يو ًما وسموه بالعالم الجديد‪.‬‬

‫دوليا جديدً ا إلاًّ لدى التجاوب مع مصلحة األقوياء‪.‬‬ ‫ً‬


‫سلوكا ًّ‬ ‫والحق أننا لم نعرف‬
‫خيرا‬
‫نهائيا‪ ،‬ولع�ل غده يكون ً‬
‫ولك�ن لع�ل النظام الجديد لم تس�تقر معالمه الجديدة ًّ‬
‫م�ن يومه‪ ،‬ولك�ن هل يقتصر دورن�ا على االنتظ�ار؟ إني أتصور أن العالم س�يرحب‬
‫بم�ن ين�وي المش�اركة الصادق�ة فيه‪ .‬من يعتبر نفس�ه خلي�ة في جس�ده‪ ،‬ووظيفة من‬
‫وظائفه مهما يكن حجمها‪ .‬من يحترم مبادئه العامة ويس�هم ‪-‬برغم خصوصيته‪ -‬في‬
‫سيمفونيته الكلية‪ ،‬الذي يحاول اإلعطاء بقدر ما يأخذ‪ ،‬أو نظير ما يأخذ‪ ،‬الذي يثبت‬
‫أنه جزء حضاري ال يستغني عنه‪ ،‬أو في االستغناء عنه خسارة يؤسف بها‪.‬‬

‫لتكن لنا خصوصيتنا‪،‬ولكن هذا ال يعني أن نناقض المجموع أو نضاده أو نس�ير‬


‫عك�س اتجاهه‪ .‬إنَّ الخصوصية نغمة ُم َّم َ‬
‫ي�ز ٌة تزيد من جمال األنغام المتقابلة‪ ،‬ولكن‬
‫البد من التوجه نحو روح العصر‪:‬‬

‫‪ -1‬نحو الديمقراطية كأسلوب حكم وأسلوب حياة‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -2‬نحو العلم كمنهج ووسيلة للكشف عن الحقائق والتعايش معها‪.‬‬

‫‪ -3‬نحو احترام حقوق اإلنسان كمناخ صالح للتعارف والتعايش‪.‬‬

‫علينا أن نفعل ذلك وأكثر منه ل ُنسهم في َخ ْل ِق العالم الجديد ال َأنْ َن ْق َن َع باالنتظار‬
‫تحت مظلة الحسرات‪.‬‬

‫‪1993/8/26‬‬

‫‪354‬‬
‫العلم‬

‫عندما نعزم على صنع المستقبل‬

‫أس�باب المعان�اة كثي�رة‪ ،‬إنه�ا تحت�ل مواقعها ف�ي ميادي�ن السياس�ة واالجتماع‬
‫واالقتص�اد‪ ،‬هم�وم متش�ابكة ف�ي الداخ�ل والخارج‪ ،‬تش�غل بالن�ا باللي�ل والنهار‪،‬‬
‫وتفترس استقرار النفوس والعقول‪.‬‬
‫ً‬
‫نش�اطا‬ ‫لك�ن دعنا ‪-‬ول�و على س�بيل الراحة‪ -‬نلتم�س أس�با ًبا لألمل‪،‬وهو ليس‬
‫م�ن قبيل أحالم اليقظ�ة‪ ،‬فجذوره ممتدة ف�ي الواقع‪ ،‬كامنة فيه‪ ،‬تنتظ�ر من ينفخ فيها‬
‫الحياة‪.‬‬

‫خذ على سبيل المثال تزايد عدد السكان في مصر‪ .‬إننا نعده اليوم مشكلة شريرة‬
‫تهدد اإلنتاج والتنمية‪ ،‬ولكن كيف يصير األمر إذا تفرغنا يو ًما لتنمية البشر وإعدادهم‬
‫اإلعداد المثالي للعصر والتقدم والبناء والتنوير؟‬

‫سنجني ثروة لم تكن متوقعة‪ .‬ننتفع بها في حدود المتاح‪ ،‬وقد ينتفع بها اآلخرون‬
‫من ذوي القربى والجيرة‪.‬‬
‫وخذ اً‬
‫مثل آخر‪ ،‬فالصحاري المحيطة بنا شاسعة مترامية متجهمة‪ ،‬والماء محدود‪،‬‬
‫والطل�ب عليه يش�تد‪ ،‬ولك�ن العلم ذو حيل ومهارات‪ ،‬وقد يخل�ق من الحبة قبة كما‬
‫يقولون‪ ،‬وربما أسفر المستقبل عن وجود مزدهر في سيناء والغرب والشرق‪.‬‬

‫مثل ثالثًا‪ :‬القوة العربية العاطلة عن العمل‪ ،‬إنها اليوم مبعثرة ال يجمعها اَّإل‬
‫وخذ اً‬
‫ال�كالم المنمق والقليل من التعاون‪ ،‬البد أن تبرأ يو ًما من أعراض المرض‪ ،‬و ُيزايلها‬
‫‪355‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫جميع�ا نحو ِقب َلة‬


‫ً‬ ‫س�وء الظن واالمتعاض ك�ي تدب الحياة ف�ي أوصالها‪ ،‬ويتوجهوا‬
‫التكامل االقتصادي‪ ،‬فينقلب العمالق باالس�م إلى عمالق بالفعل‪ .‬وثمة أحالم عن‬
‫إفريقيا والبالد اإلسالمية‪.‬‬

‫حقًّ�ا إن�ه مس�تقبل ث�ري‪ ،‬يختف�ي وراء حاض�ر عس�ير‪ ،‬وم�ا علين�ا اَّإل أن نعرف‬
‫قيم�ة الزم�ن‪ ،‬إنه نع�م النصير لم�ن يحترم�ه‪ ،‬ولكن ال يجام�ل وال يرحم الكس�الى‬
‫المتواكلين‪.‬‬

‫‪1993/9/22‬‬

‫‪356‬‬
‫العلم‬

‫األولويات‬

‫الح�ق أن البح�ث في األولوي�ات ال معنى له‪ ،‬يك�ون له معنى لو أمك�ن أن نقدم‬


‫مطلبا ونؤخر آخر حتى نفرغ من األول‪ ،‬ولكن أي نش�اط في حياتنا يمكن أن نؤجله‬
‫ً‬
‫ولو ساعة واحدة؟ من أجل ذلك فال محيد عن التنمية الشاملة‪ .‬غير أن ذلك ال يمنع‬
‫من إمكان المفاضلة بين األنش�طة المختلفة من ناحية األهمية أو القيمة‪ ،‬على ضوء‬
‫المثل األعلى الحضاري الذي نستهدفه‪ .‬وعلى هذا األساس أستطيع أن أتحدث عن‬
‫عارضا وجهة نظر خاصة‪.‬‬
‫ً‬ ‫األولويات‬

‫ف�أول ما أض�ع في القائم�ة هو التعلي�م‪ ،‬أو حلم المدرس�ة الكامل�ة‪ ،‬والمدرس‬


‫الكام�ل‪ ،‬والمنهج الح�ر المبدع‪ ،‬والتربي�ة بأنواعها كافة‪ :‬الديني�ة والقومية والثقافية‬
‫والفنية والرياضية‪ ،‬وذلك المصنع الذي يقدم لنا النموذج الطيب لإلنس�ان المصري‬
‫عاصرة الحية‪.‬‬
‫والم َ‬
‫العربي‪ ،‬اإلنسان الجامع بين القيم الخالدة ُ‬
‫وثان�ي ما أضع في القائمة البحث العلمي‪ ،‬بتهيئة المناخ الصالح له‪ ،‬وإعداده بما‬
‫يحتاجه من أجهزة‪ ،‬وتوفير أسباب التقدير والتشجيع للباحثين‪ ،‬وذلك باعتبار العلم‬
‫هو األساس لكل نشاط‪ ،‬بد ًءا من االقتصاد وحتى الرياضة البدنية‪.‬‬

‫وثالث ما أضع في القائمة «اإلدارة»‪ ،‬باعتبار اإلدارة الصالحة هي األس�اس لنجاح‬


‫أي نشاط حكومي أو أهلي‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وال أح�ب أن أق�دم المزيد من المفاضلة حول األنش�طة الباقية‪ .‬ال بأس من أن ننظر‬
‫إليها نظرة واحدة‪ ،‬ونقدرها بميزان واحد‪.‬‬
‫أخيرا أحب أن أقول‪ :‬إنه ال جدوى من إصالح التعليم والبحث العلمي واإلدارة إذا‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫لم َيقُ ْم التخطيط على أساس من ديمقراطية ت َُؤ ِّصل الحرية واحترام حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫‪1993/12/9‬‬

‫‪358‬‬
‫العلم‬

‫الكوارث في الميزان‬

‫ف�ي بع�ض الك�وارث‪ ،‬وعقب وقوعه�ا‪ ،‬تبين لنا م�ن متابعة األخب�ار أن الحادثة‬
‫كان�ت متوقع�ة‪ ،‬وأن الجهات الرس�مية س�بق أن أنذرت الن�اس بها‪ ،‬وأنه�ا طالبتهم‬
‫الم َه َّدد‪ ،‬ولك�ن أحدً ا لم يس�تجب‪ ،‬كما أن‬
‫بإخلاء البي�وت أو االبتع�اد عن الم�كان ُ‬
‫الجهة الرسمية لم تتخذ أي إجراء لتنفيذ ما يقتضيه الصالح العام‪.‬‬

‫ما تعليل ذلك؟‬

‫اً‬
‫مس�تقبل‪،‬‬ ‫تقصي األس�باب‪ ،‬لعل ذلك يس�اعد على تغيير المواقف‬
‫نحن نحاول ِّ‬
‫وعلى تجنب الكوارث والتخفيف من عواقبها المؤسفة‪.‬‬

‫فمن أهم أسباب السلبية هنا أن استبدال مسكن بآخر‪ ،‬أو االرتحال من مكان إلى‬
‫غي�ره‪ ،‬ليس ِم َّما ُيتاح لألغلبية الكبرى من الناس‪ ،‬فمس�اكن اإليواء غير كافية‪ ،‬وأزمة‬
‫المس�اكن معروف�ة ومحفوظة‪ ،‬لذلك يفضل�ون البقاء في مأوى مهدد بالس�قوط عن‬
‫التشرد في الطرق بال مأوى‪.‬‬

‫ومن أس�باب ذل�ك ً‬


‫أيضا ميلن�ا الطبيعي إل�ى الت�واكل وارتياحنا إليه‪ ،‬وتس�ليمنا‬
‫المطلق للمقادير‪ ،‬وعندنا أن المكتوب أقوى من تحذير المحذرين‪ ،‬وتنبؤ المتنبئين‪،‬‬
‫ولع�ل المس�ئولين المختصين ال يخل�ون من ذلك الميل‪ ،‬فهم يلق�ون بأوامرهم وال‬
‫يبالون أن تتبخر في الهواء‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ثم إن جميع التحذيرات تجيء نتيجة لتقديرات علمية‪،‬ونحن لم نتعود بعد على‬
‫أن نعط�ي العلم تقديس�ه الواج�ب‪ ،‬قليلون من ُي َصدِّ ُق َون ذل�ك‪ ،‬واألكثرية ال توليه ما‬
‫يستحقه من جدية واهتمام‪.‬‬

‫وأن�ا ال أش�ك في أن الجهة الرس�مية المختصة ل�م تكن لتتعامل م�ع األمر بكل‬
‫وطنيا صاد ًقا‪،‬‬
‫وح ًّبا ًّ‬
‫حقيقيا ُ‬
‫ًّ‬ ‫تكن لآلدميين من المواطنين احترا ًما‬
‫االس�تهتار لو كانت ُّ‬
‫وأخيرا عن مشكلة المساكن وحماية األرواح‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولن ننسى أن الحكومة مسئولة أولاً‬

‫‪1994/1/6‬‬

‫‪360‬‬
‫العلم‬

‫المهمة المطلوبة‬

‫كيف نرتفع بقدرتنا اإلنتاجية إلى أرفع مستوى في الكيف والكم؟‬

‫اإلجابة يجب أن تكون صادقة وواضحة‪ .‬ولن يتم ذلك اَّإل إذا غيرنا الواقع‪ ،‬فلم‬
‫ونحن مقبلون على مرحلتي س�وق شرق أوسطية‬ ‫ُ‬ ‫يعد هناك وقت ألنصاف الحلول‪،‬‬
‫و«الجات»‪ ،‬ولن تتوافر لنا الهمة المطلوبة اَّإل بالشروط اآلتية‪:‬‬

‫‪ -1‬تحقيق االستقرار واألمان مهما كلفنا ذلك من مرونة وتضحيات‪.‬‬

‫‪ -2‬رفع األجور إلى الحد المناس�ب ولو في حده األدنى‪ ،‬بحيث يستغني العامل أو‬
‫الموظف عن أي عمل إضافي‪ ،‬ويتمكن من مقاومة االنحراف بأنواعه‪ ،‬والتمسك بمبدأ‬
‫الثواب والعقاب بكل دقة وأمانة‪.‬‬

‫‪ -3‬االس�تفادة الكامل�ة من العل�م وتطبيقاته وبحوثه‪ ،‬واس�تثمار الخب�رات العلمية‬


‫الوطنية‪ ،‬واالستعانة عند اللزوم بالخبرة األجنبية‪.‬‬

‫‪ -4‬تحري�ر اإلدارة وتجديدها‪ ،‬والحرص على تنفيذ توصيات أجهزة الرقابة المالية‬
‫واإلدارية‪ ،‬عودة إلى هيمنة القانون واحترامه وسيادته‪.‬‬

‫‪ -5‬تأس�يس المعاملة على العدل المطلق‪ ،‬وتجريم االس�تثناء والواس�طة‪ ،‬وتجريم‬


‫كل ما يمس حقوق اإلنسان أو يدفعه لليأس واإلحباط‪.‬‬

‫‪ -6‬مراعاة التفوق الحقيقي عند توزيع األرباح والحوافز‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -7‬تش�جيع االس�تثمار بإزالة العراقيل كافة من س�بيله‪ ،‬وإتاحة الجو الذي ال يوجد‬
‫اَّإل في ظل الديمقراطية الكاملة‪.‬‬
‫‪1994/3/6‬‬

‫‪362‬‬
‫العلم‬

‫الغد القريب‬

‫ق�د يتع�ذر على المتابع للنش�اط العلن�ي ‪-‬ولو من موقف غي�ر المتخصص‪ -‬قد‬
‫يتعذر عليه تصور عالم الغد من الناحية العلمية‪ ،‬فذاك يقتضي إلقاء نظرة شاملة على‬
‫العل�وم‪ ،‬تجم�ع بين اإلنج�ازات التي تمت ف�ي كل عام‪ ،‬وبي�ن الموضوعات تحت‬
‫البح�ث‪ ،‬ليقي�م تصوره على أس�اس موضوعي‪ .‬ولكن من المس�لم به أنه س�يتحقق‬
‫تقدم يفوق كل خيال على المستويين النظري والتطبيقي‪ ،‬وأن ذلك التقدم سيؤثر في‬
‫مرورا بالجماد والنبات‬
‫ً‬ ‫كل شيء ٍ‬
‫كائن‪ ،‬بد ًءا من باطن األرض وحتى أعالي الفضاء‪،‬‬
‫والحيوان واإلنسان‪.‬‬

‫س�وف تتراكم المع�ارف لحد العجز عن اإلحاطة بها‪ ،‬وس�وف تتعقد الحياة في‬
‫الس�لوك والعالقات والتعامل مع األش�ياء‪ ،‬س�واء في المصانع أو المرافق أو الحياة‬
‫اليومي�ة‪ ،‬من أجل ذلك قال وزير العمل األمريكي‪ :‬إنَّ القرن الحادي والعش�رين هو‬
‫ق�رن المواط�ن المتميز‪ ،‬القادر عل�ى التفاعل اإليجابي مع التق�دم العلمي في جميع‬
‫المج�االت‪ ،‬وال بدي�ل عن ذل�ك اَّإل االرتباك والضياع والتعثر ف�ي الحياة‪ .‬إنه عصر‬
‫العلم‪ ،‬وفي كل يوم يكسب العلم مواقع جديدة فيزيد الحياة عظمة وصعوبة‪.‬‬

‫الح َّمام إلى المعمل‪ ،‬في المواصالت‪،‬‬


‫العلم يمد ذراعيه ليحيط بكل ش�يء‪ ،‬من َ‬
‫والمؤسس�ات‪ ،‬والمالهي‪ .‬هو عصر العلم والعلم�اء والجمهور المتميز الحائز ولو‬
‫عل�ى الح�د األدنى من القُ درة على التعامل مع دني�ا علمية‪ .‬وقد قرأنا ً‬
‫أخيرا أن بعض‬
‫الخبراء يحذرون إنجلترا من الوقوع في هاوية العالم الثالث‪ ،‬وفي مقدمة األس�باب‬
‫‪363‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫جوا‬
‫الت�ي ينبهون إليه�ا هجرة العقول العلمي�ة المبدعة إلى الخارج‪ ،‬حي�ث يجدون ًّ‬
‫أفض�ل للعم�ل والتقدير‪،‬وهذا يحذرنا نحن ً‬
‫أيضا من مغب�ة هجرة العقول‪ ،‬كما يلفتنا‬
‫إلى أهمية اإلبداع العلمي إذا أردنا أن نفلت من قبضة العالم الثالث‪.‬‬

‫وعل�ى َم ْن يفكرون ف�ي تجديد التربية والتعليم في بالدنا أن يضعوا في اعتبارهم‬


‫تلك النقطة‪ ،‬أعني الدراس�ات العلمية والمنهج العلمي‪ ،‬وتكوين العقل الحر القادر‬
‫أساسا هو‬
‫ً‬ ‫طبعا أهداف التعليم أوسع من ذلك‪ ،‬ولكن العلم‬
‫على التفكير واالبتكار‪ً ،‬‬
‫ما يربطها بالعصر‪ .‬وقد نشهد اإلنسان غدً ا وقد انقسم إلى نوعين‪ :‬علمي وبدائي‪.‬‬

‫‪1994/6/5‬‬

‫‪364‬‬
‫العلم‬

‫الحب في الوطن‬

‫ح�ب الوطن وأهله عاطفة ش�ائعة ومعروفة‪ ،‬حتى ليظن البع�ض أنها فطرية مثل‬
‫الغرائز‪ ،‬لكنها ربما ال توجد‪ ،‬وقد يضعف االنتماء الوطني لدرجة العدم‪ .‬الحقيقة أن‬
‫ه�ذه العاطفة تنمو وتزدهر بالتربية‪ ،‬كم�ا تنمو وتزدهر في المناخ الصالح والمجتمع‬
‫السليم الصحي‪.‬‬

‫أما التربية الوطنية فهي التي تس�كب في قلوبنا الحب للوطن والحماسة لتاريخه‬
‫وأمجاده‪ ،‬و ُيعاونها في ذلك دراس�ة التاريخ وبعض األنش�طة الثقافية‪ .‬وتواصل تلك‬
‫المهمة أجهزة اإلعالم بش�تى أش�كالها المقروءة والمسموعة والمرئية‪ .‬غير أن تلك‬
‫التربي�ة الش�املة ال تُج�دي وحدها إذا ل�م يؤيدها الفع�ل‪ .‬الفعل ال�ذي يهب الحب‬
‫فيكون جزاؤه ُح ًّبا بحب‪ ،‬ووال ًء بوالء‪ ،‬وانتما ًء بانتماء‪.‬‬

‫فالمجتم�ع ال�ذي يق�دم ألبنائه الخدم�ات الضرورية م�ن تعلي�م ورعاية صحية‬
‫ومواصالت مريحة‪ ،‬وأماكن نظيفة ومساكن مناسبة غير المجتمع الذي يقدم البعض‬
‫جميعا على حال تس�يء وال تس�ر‪ .‬وطبيعي أن الحب‬
‫ً‬ ‫دون البعض‪ ،‬أو الذي يقدمها‬
‫يختلف من ٍ‬
‫حال إلى حال‪.‬‬

‫والمجتم�ع ال�ذي يوفر ف�رص العمل‪ ،‬ويش�ملها بالحق والعدل‪ ،‬غي�ر المجتمع‬
‫العاجز‪ ،‬أو الذي يتنكر لمبدأ تكافؤ الفرص‪ ،‬ويتأثر في اختياراته بالقرابة أو الصداقة‬
‫يحظ�ى بالحب والتقدير‪ ،‬أم�ا اآلخر فيبوء‬‫أو السياس�ة أو الدي�ن‪ .‬والمجتم�ع األول َ‬
‫بالغضب والتمرد‪.‬‬
‫‪365‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫والمجتمع الذي ت ُْح َت َر ُم فيه حقوق اإلنسان والقيم السامية ‪-‬يحظى أبناؤه بسالمة‬
‫ال�روح والعق�ل‪ ،‬أما المجتمع الذي َي ْس� َت ِغ ُّل أبنا َء ُه و ُينكل بهم ويس�تهتر بقوانينه‪ ،‬فال‬
‫يلقى اَّإل جزا ًء من جنس العمل‪.‬‬

‫وموضعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اللهم عونك على َخ ْل ِق ٍ‬
‫وطن صالح يكون للحب مال ًذا‬

‫‪1994/6/12‬‬

‫‪366‬‬
‫العلم‬

‫الصفات الضرورية‬

‫الذي�ن يتول�ون المناص�ب القيادية ف�ي األمة تلزمه�م صفات ثلاث على األقل‬
‫هي‪ :‬الوطنية‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والعلم والخبرة‪ .‬يس�تمدون من الوطنية الحب والحماس‬
‫واإلخلاص‪ ،‬ومن األخالق المبادئ والقيم التي تحكم العمل وتوجهه‪ ،‬ومن العلم‬
‫والخبرة الفكر والتخطيط والوسيلة والهدف‪ .‬وليس من النادر أن تجد هذه الصفات‬
‫مجتمعة في أفراد كثيرين‪ ،‬بخاصة عند ُحسن االختيار والتنزه عن الغرض‪.‬‬

‫بل قد يتحقق التوفيق باثنتين منها‪ ،‬ولكن ال أمل في التوفيق بما هو أقل من ذلك‪،‬‬
‫إ ْذ ما فائدة الوطنية وحدها إذا ُح ِر َم اإلنسان من نعمتي األخالق والعلم؟ وما جدوى‬
‫األخلاق وحدها دون أن تس�ندها الوطنية أو العلم؟ وأي خي�ر نرجوه من العلم إذا‬
‫خال ضمير الفرد من الوطنية واألخالق؟‬

‫ه�ذا على حين أن المس�ئول إذا ق�ل أو انعدم حظه من العلم والخبرة واس�توفى‬
‫نصيبه من الوطنية واألخالق يمكنه أن يعوض نقصه بالشورى‪ ،‬واالستعانة بالعلماء‬
‫والخبراء‪.‬‬

‫ب�ل إذا ضع�ف االنتماء الوطني في مس�توى وبقى له العل�م واألخالق أمكن أن‬
‫تدفع�ه األخلاق إل�ى أداء واجبه‪ ،‬وأس�عفه العلم والخب�رة بالرأي والرؤي�ة‪ ،‬وهناك‬
‫مس�ئولون انتهازي�ون ال ضمير وال أخالق لهم‪ ،‬ولكن حت�ى هؤالء‪ ،‬إذا توافرت لهم‬
‫الوطني�ة والعلم والخبرة فإنه�م يفيدون ويقدمون خدمات ال ُيس�تهان بها‪ ،‬وإنْ خال‬
‫‪367‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫س�لوكهم من النزاهة واألمان�ة‪ ،‬ولكنهم يملئون مراكزهم حتى ينكش�ف انحرافهم‪،‬‬


‫ويتم التخلص منهم‪.‬‬

‫من أجل ذلك فإن اختيار األكفاء أمر ذو أهمية مصيرية‪ ،‬فقد يخلق نهضة أو يقود‬
‫الحكم‬
‫إل�ى نكس�ة وانهيار‪ ،‬ومن أجل ذل�ك تفوقت الديمقراطية على جمي�ع أنظمة ُ‬
‫لوفرة فرص االختيار فيها‪،‬وقوة جهات المتابعة والمراقبة والمحاسبة والمناقشة‪.‬‬

‫‪1994/6/3‬‬

‫‪368‬‬
‫العلم‬

‫قيمة العمل‬

‫اإليم�ان بالعم�ل هو ال�ذي يجعل منه قيمة اجتماعية وإنس�انية رفيع�ة‪ .‬هو الذي‬
‫جعل العاملين م�ن أبناء األمم المتقدمة أمثلة عالية للمثابرة وغزارة العطاء‪ .‬ويتكون‬
‫اإليم�ان بالعمل بفض�ل عاملين هم�ا‪ :‬التربية للناش�ئين‪ ،‬والمعاملة م�ع الناضجين‪.‬‬
‫فالتربي�ة تمدن�ا بخب�رة المربين‪ ،‬وذخائر الت�راث‪ ،‬والقوة المؤثرة‪ .‬أم�ا المعاملة فهي‬
‫تربط بين العمل واالجتهاد عند االختيار وعند الترقي ولدى توزيع الحوافز‪.‬‬

‫اً‬
‫طويل‬ ‫ولق�د تعرض�ت قيمة العمل في بالدنا لآلفات والعلل‪ ،‬إ ْذ جرت السياس�ة‬
‫عل�ى تعيي�ن الخريجين‪ ،‬بصرف النظ�ر عن حاجة العم�ل إليهم‪ ،‬ووزع�ت الحوافز‬
‫والعلاوات بطريق�ة روتيني�ة‪ ،‬ال بناء على عط�اء العامل وهمته‪ ،‬واخت�ارت للمراكز‬
‫المرموق�ة والدرج�ات الممت�ازة المقربي�ن‪ ،‬مفضل�ة أه�ل الثق�ة على أه�ل الخبرة‪.‬‬
‫يتحدد ألسباب ال عالقة لها بالجد‬
‫وهكذا وجد الش�باب أن مصيره يتقرر ومس�تقبله َّ‬
‫واالجتهاد واإلنتاج الحقيقي‪ ،‬فأخذ إيمانه بالعمل يِ ُ‬
‫هن وي َت َ‬
‫الش�ى‪ ،‬وثقته في الس�عي‬
‫واالنتهازية تقوى وتش�تد‪ ،‬حتى َت َف َّش�ى المرض في الطالب منذ عهد البراءة‪ ،‬فتركز‬
‫االهتم�ام بالش�هادة و َق َّ‬
‫�ل االهتم�ام بتحصيل العل�م‪ ،‬ودخلنا في عصور س�قيمة من‬
‫الغش الجماعي واالعتداء على المراقبين‪ .‬لم تعد هناك أهمية لغير الش�هادة كجواز‬
‫مرور إلى الوظيفة‪ ،‬وال حاجة إلى علم أو خبرة‪ ،‬فالوس�ائل الصفراء األخرى تتكفل‬
‫بكل مأمول‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ٍ‬
‫عامل إل�ى انتهازي‪ ،‬ويهدر قوى اإلنتاج‪،‬‬ ‫يحول الفرد من‬
‫إن فق�دان قيمة العمل ِّ‬
‫ويوفر أسبا ًبا كثيرة للتعاسة‪.‬‬

‫يج�ب أن نعيد إلى العم�ل قيمته‪ ،‬والطري�ق واضحة‪ ،‬فالتربي�ة الصالحة ممكنة‪،‬‬
‫وحسن األداء ليست‬
‫والمعاملة التي تقيم اختيارها على أس�اس من الجد واالجتهاد ُ‬
‫مستحيلة‪ ،‬وهي ضرورة الزمة للدخول في العالم الجديد‪.‬‬

‫‪1994/7/28‬‬

‫‪370‬‬
‫العلم‬

‫روح العمل‬

‫علينا أن نعمل بكل تصميم وجدية على إطالق روح العمل ألقصى درجة ممكنة‪.‬‬
‫يجب أن نوظف جميع قوانا الظاهرة والكامنة من أجل إثبات وجودنا في العالم الجديد‪،‬‬
‫ال تردد‪ ،‬وال كسل‪ ،‬وال تهاون‪ ،‬ونحن نملك الكثير من أسباب النجاح‪ ،‬فلدينا التعليم‬
‫والتربية‪،‬ومراك�ز البح�وث والتدريب‪ ،‬وأهل العلم والخبرة‪ .‬والعالم على اس�تعداد‬
‫ألن يمدنا بما ينقصنا من تكنولوجيا وخبرة‪ .‬المطلوب منا أن نستغل هذه الثروة خير‬
‫اس�تغالل‪،‬وأن نس�تخرج منها خير إمكاناتها‪ ،‬وأن نجعل م�ن الدين والعلم والوطنية‬
‫قوى دافعة ومصابيح هادية‪.‬‬

‫وعلينا في الوقت نفسه أن نستفيد من أخطاء الماضي التي كانت وبالاً على ُحب‬
‫العمل وتقديس�ه‪ ،‬واحترام الجد واالجتهاد‪ ،‬والتعلق الرشيد باالنتماء الوطني‪ .‬علينا‬
‫أن نس�تفيد من األخطاء التي أهدرت قيمة الهمل واالجتهاد‪ ،‬وأضعفت االنتماء إلى‬
‫الوطن‪.‬‬

‫من أجل ذلك فالبد أن نحقق ما يأتي‪:‬‬

‫أولاً ‪ -‬المس�اواة أمام القانون في الحقوق والواجبات‪ ،‬والقضاء على أي استثناء‬


‫في ذلك المجال‪ ،‬وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم الوطني‪.‬‬

‫وخ ُلقه‪.‬‬
‫ثانيا‪ -‬تكافؤ الفرص‪ ،‬وأن ُي ْج َزى الفرد بمقدار كفاءته واجتهاده ُ‬
‫ً‬

‫‪371‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ثالثً�ا‪ -‬ربط التعيين�ات والترقيات والمكافآت والجوائ�ز والحوافز باإلنتاج أولاً‬


‫وأخيرا‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ -‬أن نعتمد في إدارتنا وإنتاجنا على مراكز البحوث والتدريب‪ ،‬واالستفادة‬
‫ً‬
‫المتجددة من عصر المعلومات‪.‬‬

‫وف�ي كلم�ة‪ :‬علينا أن نقيم مجتمعنا على العلم والعدل والحرية‪،‬وأن نس�تمد من‬
‫تراثنا جميع ما يؤيد ذلك ويقويه ويرشده‪.‬‬

‫‪1994/8/11‬‬

‫‪372‬‬
‫العلم‬

‫دفاع كوني‬

‫م�ن أعجب ما اطلعت عليه ما نُش�ر عن إعداد خطة للدف�اع عن كوكب األرض‬
‫الم َذنَّ�ب «هالي» الذي‬
‫ض�د األخط�ار الكونية التي ته�دده‪ .‬هناك على س�بيل المثال ُ‬
‫يقت�رب م�ن األرض كل ‪ 76‬س�نة ف�ي دورته‪ ،‬ويثي�ر المخ�اوف من احتم�ال اصطدامه‬
‫باألرض‪،‬وعواق�ب ذل�ك الوخيمة عل�ى األرض واألحي�اء‪ ،‬وهناك النيازك التي تس�ير‬
‫نحون�ا بس�رعة يتع�ذر معه�ا رؤيته�ا‪ ،‬ولكنه�ا تحترق وتتالش�ى عن�د الغلاف الجوي‬
‫لألرض‪،‬وله�ذه النيازك آثار مروعة اكتش�فت فوق س�طح القمر‪ ،‬ويمك�ن أن يقع مثلها‬
‫فوق سطح األرض‪.‬‬

‫ه�ذا يعن�ي أن كوكبنا يس�بح في الفضاء وس�ط أخط�ار كثيرة تحدق ب�ه‪ ،‬كما تحدق‬
‫بالحي�اة الت�ي تزده�ر فوقه‪ .‬واإلنس�ان الذي اعتاد التعام�ل مع العل�م وتطبيقاته ال يقف‬
‫مكتوف األيدي أمام تلك األخطار‪ .‬وهو ينشط لوضع خطة شاملة للدفاع عن األرض‪،‬‬
‫خطة يشترك في وضعها أمم متقدمة مثل الواليات المتحدة‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬وروسيا‪ ،‬واليابان‪،‬‬
‫تفكيرا في تفجير األجسام‬
‫ً‬ ‫تشمل بناء محطات فضاء للرقابة واإلنذار المبكر‪ ،‬كما تحوي‬
‫الحاملة للخطر أو تغيير اتجاهها‪ ،‬وذلك باالستعانة بالتفجيرات النووية‪.‬‬

‫تل�ك روح علمي�ة و َّثابة تس�تحق التحية واإلكب�ار‪ ،‬وتضاعف من آمال البش�رية في‬
‫العل�م وخدمات�ه‪ ،‬وكل ما نتمناه إضافة إلى ذلك أن ينش�ط اإلنس�ان بالقوة نفس�ها لدفع‬
‫أ َذى اإلنس�ان عن اإلنسان فوق األرض نفس�ها‪ ،‬حتى يصدق علينا القول‪« :‬ارحموا َم ْن‬
‫في األرض يرحمكم من في السماء»‬

‫‪1994/10/6‬‬
‫‪373‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪374‬‬
‫التقدم‬

‫التقدم‬

‫‪375‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪376‬‬
‫التقدم‬

‫ذكرى ثورة ‪1919‬‬

‫ذك�رى س�عد زغل�ول ومصطفى النح�اس‪ ،‬ذكرى الجه�اد والفداء والش�جاعة‪،‬‬


‫ذك�رى الوطنية المصرية المتحدة المتحدية‪ ،‬ذكرى أيام أحمى من الس�عير‪ ،‬وأجمل‬
‫م�ن األس�اطير‪،‬وأعذب م�ن األحلام واألغاني‪ ،‬ذكرى ث�ورة ‪ ،1919‬ثورة الش�عب‬
‫ٍ‬
‫ض�ارب يض�م الفالحين والعم�ال والمثقفي�ن والنس�اء‪ ،‬المرأة‬ ‫المنتظ�م ف�ي جيش‬
‫خرج�ت من مي�دان جهادها األصغر في البي�ت إلى ميدان الجهاد األكبر في س�احة‬
‫المعارك‪ ،‬يجب أن نتذكرها مقرونة بالنجاح والفالح‪ ،‬أجل قد خاضت شدائد ِ‬
‫‪-‬ش َّدة‬
‫بعد شدة‪ -‬ولكن لم تعطل مسيرتها نكسة‪ ،‬وهدفها األول ‪-‬وهو االستقالل‪ -‬تحقق‬
‫عل�ى دركات متصاع�دة‪ ،‬م�ن ‪ ،1922‬إل�ى ‪ ،1936‬إلى ‪ ،1954‬ولكن ذلك يناس�ب‬
‫صراعا قام بين ُأ َّمة صغيرة عزالء وأكبر إمبراطورية عرفها تاريخ االستعمار‪.‬‬
‫ً‬
‫إنه�ا لم تكن ث�ورة ذات هدف واحد‪ ،‬فكم من أهداف تول�دت عن ذاك الهدف‪،‬‬
‫مثل إيجابية الش�عب وتضامنه وإصراره‪ ،‬تلك اإليجابية التي دفعته إلى إش�عال ثورة‬
‫بلا تدبير وال تآمر وال تحري�ض‪ ،‬ونفخت فيه روح اإلبداع فأنش�أ اقتصاده الوطني‪،‬‬
‫وفنه الرفيع في األدب‪ ،‬والتش�كيل‪ ،‬والموس�يقى‪ ،‬وحرر نصف�ه اللطيف من عبودية‬
‫الجم�ود ليطلقه في س�ماوات العل�م والعمل‪ ،‬ومثل إصرار الش�عب على ممارس�ة‬
‫حقوق�ه وواجابت�ه السياس�ية‪ ،‬وتمزيق قي�ود الوصاية الملكي�ة‪ ،‬ودفاع�ه الدامي عن‬
‫أساسا‬
‫ً‬ ‫دستوره ضد الطغاة والمستبدين‪ ،‬ومثل وحدته الوطنية المقدسة التي استوت‬
‫وأخوته‪ُ ،‬مطلقة صيحتها المدوية‪ :‬الدين لله والوطن للجميع‪.‬‬
‫لوطنيته‪ ،‬وجهاده َّ‬

‫‪377‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫اإليجابية والديمقراطية والوحدة الوطنية هي مضمون ثورة ‪ ،1919‬كاالستقالل‬


‫التام س�واء بس�واء‪ ،‬ه�ي تراثه�ا الخال�د‪ ،‬ووصيتها الباهرة المس�جلة بصوتي س�عد‬
‫ومصطفى في القلوب والضمائر‪ ،‬وبفضلها تصبح ثورة باقية متجددة‪.‬‬

‫تحية لجالل الزعماء‪ ،‬وفداء الشهداء‪ ،‬وذكريات األيام المجيدة الطيبة‪.‬‬

‫‪ 21‬أغسطس ‪1986‬‬

‫‪378‬‬
‫التقدم‬

‫ثورة ‪ 23‬يوليو‬

‫الث�ورة أعظم تجربة إنس�انية ُي ْم َت َح ُن بها ش�عب يريد الحياة‪ ،‬إنه�ا امتحان لروحه‬
‫الخ ْلق واإلبداع وتحدي الصعاب‪ ،‬والتعامل الحكيم‬
‫وعقله وإرادته‪ ،‬وقدراته عل�ى َ‬
‫م�ع النص�ر والهزيم�ة‪ ،‬واألمل واليأس‪ ،‬وعلى الش�عب ال�ذي يريد الحي�اة ألاَّ يهدر‬
‫تجربة ضخمة ال ُيس�تهان بها في مجرى الزمن‪ ،‬أو يتركها تتالشى في غمار األخطاء‬
‫والعقبات‪.‬‬

‫إنها لم توجد عبثًا‪ ،‬فالعبث ال يخلق ثورات‪ ،‬وال نتيجة مؤامرة داخلية أو خارجية‪،‬‬
‫فالمؤام�رة قد تس�تغل م�ا يتهيأ لها م�ن فرص وظ�روف‪ ،‬ولكنها ال تخلق األس�باب‬
‫الحقيقية التي تجعل من الثورة ثمرة محتومة‪ ،‬كذلك فالثورة ال ترفع الش�عارات من‬
‫منطلق اللهو أو التضليل‪ ،‬ولكنها وإنْ تضاربت نيات بعض رجالها تقيس ش�عاراتها‬
‫تلقائيا من هواتف األنفس ونبضات القلوب‪.‬‬
‫ً‬
‫وق�د ترتك�ب أخطاء فادح�ة‪ ،‬أو ت ِ‬
‫َض ُّل س�بيلها أحيانًا فتتراكم س�لبياتها‪ ،‬بل حتى‬
‫إيجابياتها قد تتردى بس�وء التصرف في العجز والخس�ران‪ ،‬ولكن ش�ي ًئا من ذلك ال‬
‫يدع�و ‪-‬وال يمك�ن أن يدع�و‪ -‬إلى تصفيته�ا‪ ،‬وال يج�وز أن تمتد الرغبة ف�ي عقابها‬
‫إلى عقاب الش�عب وتعتيم مس�تقبله‪ ،‬وإنما يجب أن يحفزنا إلى معالجة الس�لبيات‬
‫واس�تيعاب الدروس وتصحيح المس�ار‪ ،‬واستنقاذ المكاس�ب من براثن سوء الحظ‬
‫والتقدي�ر‪ ،‬ثم دف�ع العجلة بكل قوة لخلق مجتمع معاصر ع�ادل يقوم على التضامن‬

‫‪379‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫والوحدة الوطني�ة والحرية العلم واإليمان‪ ،‬في كنف المظلة الوارفة الحترام حقوق‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫رمزا يشير إلى تطلعه إلى‬


‫فليعترف كل مصري بتلك الثورة كوثبة تاريخية ستظل ً‬
‫التحرر من االستعمار والقهر والظلم‪ ،‬والرغبة األصيلة في معايشة العصر في أنواره‬
‫ومعجزاته‪.‬‬

‫ولنؤي�د من قلوبن�ا من يندبه�م التاري�خ لتصفية األخط�اء‪ ،‬وبع�ث اإليجابيات‪،‬‬


‫وتجديد الهمم‪ ،‬ورد االعتبار والحقوق لشعب مصر الخالد‪.‬‬

‫‪ 23‬يوليو ‪1987‬‬

‫‪380‬‬
‫التقدم‬

‫َع ْو ٌد إلى ذكرى ثورة ‪1919‬‬

‫ذكرى وفاة س�عد زغل�ول ومصطفى النح�اس‪ ،‬ذكرى متجددة حية لالس�تقالل‬
‫والحرية والوحدة الوطنية والديمقراطية ونزاهة الحكم‪ ،‬والرجالن الكبيران يمثالن‬
‫مدرس�ة عريق�ة في تاريخنا العريق‪ ،‬في تلك المدرس�ة تربينا وتخرجن�ا بعد أن تلقينا‬
‫مبادئ تثري القلب وتنير العقل‪ ،‬ولعلها مناسبة تدعو للتنويه بذلك التراث الذي نحبه‬
‫ونعت�ز به‪ ،‬ونرجو أن يكون بعض مكونات كل مواطن صالح‪ .‬كانت تلك المدرس�ة‬
‫تعل�م بالق�ول البليغ والفعل الش�جاع النبي�ل‪ ،‬والقدوة الصالحة في رحابها أش�ربت‬
‫قلوبن�ا بحب مصر‪ ،‬ف�كان محور الحي�اة وهدفها‪ ،‬ينتمي إليه أي جدي�د من المبادئ‬
‫باعتباره األصل والمنبع‪ ،‬وال يتهاون هو في ذاته ألي جديد‪َ ،‬ف ُفتِ َّنا مع الزمن بنزعات‬
‫إنسانية‪ ،‬وأخرى اشتراكية‪ ،‬ولكن ظلت الوطنية المصرية هي المنطلق والكمال‪.‬‬
‫ِ‬
‫وم ْن ذلك الحب نبع حب قريب اسمه الوحدة الوطنية‪ ،‬امتدت جذوره‪ ،‬ورسخت‬
‫قوائم�ه‪ ،‬وترنمت الحناجر بأغنيت�ه العذبة‪ ،‬الدين لله والوط�ن للجميع‪ ،‬فصمد معنا‬
‫وبنا حيال الفتن والمحن‪ ،‬فاحتواها وسما بها‪ ،‬وسما عليها‪ ،‬وارتوت أنفسنا باإليمان‬
‫بالشعب مصدر كل سلطة‪ ،‬وصاحب كل دولة‪ ،‬وعماد كل نهضة‪ ،‬وتكرسنا خصو ًما‬
‫ل�كل اس�تبداد رجيم‪ ،‬وآمن�ا بالجهاد والصب�ر وتحمل الم�كاره‪ ،‬وإن تعذرت الثمرة‬
‫أو بع�د مناله�ا أو اقتضت المش�يئة أن تكون م�ن نصيب غيرنا‪ .‬وآمن�ا ً‬
‫أيضا بالطهارة‬
‫والنزاهة‪ ،‬وأعرضنا عن مغريات الحياة‪ ،‬ولكن عشقنا الحق والخير والجمال‪،‬وامتد‬

‫‪381‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أثر مدرس�تنا معنا حتى ُأ ِّه ْل َنا للترحيب بث�ورة يوليو واالندماج في ثوريتها‪ ،‬كما ُأهلنا‬
‫في الوقت نفسه لالحتجاج الدائم على أسلوبها الملكي في الحكم‪.‬‬

‫يا س�عد‪ ،‬كم هتفت باسمك بصوتي «المسرسع» وأنا صبي‪ ،‬ويا «مصطفى»‪ ،‬كم‬
‫هتفت باس�مك بصوتي الجهير وأنا ش�اب‪ ،‬واليوم في ش�يخوختي الت�زال ِذكْ َر ُاكما‬
‫تمدني بالنور إذا احتاج النهار إلى دليل‪.‬‬

‫‪ 30‬أغسطس ‪1987‬‬

‫‪382‬‬
‫التقدم‬

‫َع ْو ٌد إلى ثورة ‪ 23‬يوليو‬

‫وجدتن�ي أعود إلى ذكريات األيام التي واكبت مولد ث�ورة يوليو ونموها الباهر‪،‬‬
‫أي�ام تحفل بس�اعات من العمر لم أش�هد لها مثيلاً في حالوته�ا وبهجتها وأفراحها‪،‬‬
‫وثرائه�ا العجيب بأجمل اآلمال وأعذب األماني‪ .‬كانت حياتنا تنتهي إلى س�د غليظ‬
‫تتراكم خلفه الفوضى والفساد والطغيان والعبث بالقيم والقوانين‪ ،‬فانهار السد بضربة‬
‫صادقة‪ ،‬وتطاير المفسدون في الجو مثل ذرات الغبار‪ ،‬وتالشى الطغاة والمستبدون‬
‫كما تتالشى الخرافة في ضوء العلم‪ ،‬وتزعزعت أركان الطبقية واالمتيازات الداخلية‪،‬‬
‫فأشرقت في األفق شمس العدالة‪.‬‬

‫وتتابع�ت االنتص�ارات كاألحلام الوردي�ة‪ ،‬فقام�ت الجمهوري�ة ف�وق أنقاض‬


‫مبش�را بع�ودة األرض إلى أصحابها‪ ،‬وتم الجالء‪،‬‬
‫ً‬ ‫وه َّل اإلصالح الزراعي‬
‫الملكية‪َ ،‬‬
‫وتح�رر الوطن‪ ،‬وبش�ر المبش�رون بدس�تور يلي�ق بأم األم�م‪ ،‬ووثب أبن�اء مصر إلى‬
‫الحكم فيه�ا‪ ،‬وانعقدت العزائم على خلق نهضة ش�املة‪ ،‬تعتمد على غزارة‬
‫كراس�ي ُ‬
‫اإلنت�اج وعدال�ة التوزي�ع‪ ،‬وتس�تهدف الش�عب الصغير المع�ذب المح�روم‪ ،‬يومها‬
‫هم َم‬
‫قلت وأنا من الس�عادة في غاية‪ :‬ها هي ذي مصر تهتدي إلى طريقها‪ ،‬وتس�تنفر َ‬
‫أبنائها‪ ،‬وترس�م خطط التقدم بال عائق‪ ،‬ال عرش معاند‪ ،‬وال احتالل مس�يطر‪ ،‬فاللهم‬
‫مس�تقرا‪ ،‬يضيئه العلم وتنوره‬
‫ًّ‬ ‫قويا‬
‫�د عمري حت�ى تنضج الثمرة فأرى وطني العزيز ًّ‬
‫ُم َّ‬
‫الثقاف�ة‪ ،‬ال م�رض في�ه وال فقر‪ ،‬وال جوع وال هم‪ ،‬وال فس�اد وال نفاق‪ ،‬وال ظلم وال‬

‫‪383‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫قهر‪ ،‬أمة الحرية وأس�رة الحب‪ ،‬تعتز بتراث مجيد‪ ،‬وتتطلع إلى مس�تقبل باهر‪ ،‬وتهنأ‬
‫بمكانة مرموقة بين األمم‪.‬‬
‫يومها كنت قد جاوزت األربعين‪ ،‬ولكن فورة الحماس�ة ردتني إلى زهرة العمر‪،‬‬
‫فرحت أردد الهتاف و أنشد األناشيد‪.‬‬
‫‪ 31‬يوليو ‪1988‬‬

‫‪384‬‬
‫التقدم‬

‫ذكرى الرحيل‬

‫‪ 23‬أغسطس ذكرى الرحيل المليء بالدموع والشجن‪ ،‬رحيل الزعيمين الجليلين‬


‫رمزي الثورة الش�عبية الكبرى في تاريخنا‪ .‬علينا أن‬
‫ْ‬ ‫س�عد زغلول ومصطفى النحاس‬
‫خصوصا ه�ذه األيام الت�ي نكافح فيها الس�لبية والصمت‪،‬‬
‫ً‬ ‫نذك�ر ثورتن�ا وزعيميها‪،‬‬
‫ونس�تنفر الهمم والعزائم‪ ،‬ليذكر الش�عب أنه كان ذات يوم قوة ضاربة‪ ،‬وإرادة صلبة‪،‬‬
‫وعزيمة متوثبة‪ ،‬ومواهب خالقة مبدعة‪.‬‬

‫وتحدى اإلنجليز والملك بشجاعته‪،‬‬


‫َّ‬ ‫غضبا لكرامته‪،‬‬
‫استيقظ الشعب حين اليقظة ً‬
‫وك�رس وحدت�ه الوطنية بإيمانه‪ ،‬وم�زق الحماية المفروضة علي�ه بدمائه وخلق نواة‬
‫اقتص�اده بحكمته‪ ،‬وأب�دع فنونه بروحه‪ ،‬واس�تنقذ نصفه اآلخر ‪-‬الم�رأة‪ -‬من وهدة‬
‫وج َّم َل‬
‫دافعا بها إلى ميدان العلم والعمل بتحرره‪ ،‬ثم َّنو َر ساحته بالجامعة‪َ ،‬‬
‫الخنوع‪ً ،‬‬
‫أركانه بالمسارح والتماثيل والفكر واألغاني‪.‬‬

‫كان عصر الشعب‪ ،‬وعصر الزعماء‪ ،‬وعصر العلماء‪ ،‬وعصر الفنانين والمفكرين‪.‬‬
‫عص�ر مص�ر الثائ�رة المبدع�ة‪ ،‬المحارب�ة المناضل�ة‪ .‬عص�ر االس�تقالل والحضارة‬
‫والديمقراطية‪.‬‬

‫رمزي التضحية‬
‫ْ‬ ‫فلنذكر تلك الحياة العامرة بكل جليل وجميل‪ ،‬ولنذكر زعيميها‬
‫مجاهدين في المنفى‬
‫ْ‬ ‫والفداء‪ ،‬والوالء للش�عب والمث�ل العليا‪ ،‬ولنذكر كيف عاش�ا‬
‫دائما وأبدً ا لِ ُح ِّب الناس‪ ،‬وهد ًفا‬
‫حائزي�ن ً‬
‫ْ‬ ‫أو في الش�ارع‪ ،‬في الحكم أو في المعتقل‪،‬‬

‫‪385‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لغضب االس�تعمار والديكتاتورية‪ .‬عاش�ا ما عاش�ا كريمين‪ ،‬وماتا فقيرين‪ ،‬مخلفين‬


‫شعبا يضطرم بغنى النفس‪ ،‬وعذوبة األمل‪،‬والتطلع الدائم إلى سماوات الحضارة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 25‬أغسطس ‪1988‬‬

‫‪386‬‬
‫التقدم‬

‫أهداف ثورة يوليو والواقع‬

‫الث�ورة يمكن أن تتبلور عند المراجعة في خطين‪ :‬خط النيات واألهداف‪ ،‬وخط‬
‫الممارسة والواقع‪ .‬ونحن نذكر وال شك نيات ثورة يوليو وأهدافها‪ ،‬كما أننا عايشنا‬
‫ممارس�اتها وواقعه�ا‪ ،‬وقد وجدنا أنفس�نا في فت�رة من تاريخها في مأزق من الش�دة‬
‫والمعان�اة دف�ع البعض إل�ى اعتبارها نكبة من نكب�ات الدهر تمنى معه�ا لو لم تكن‬
‫حدث�ت أصلاً ‪ ،‬وتلك رؤية متعجلة وخاطئ�ة‪ ،‬ومما يحز في النفس أن بدايتها الرائعة‬
‫كان يمك�ن أن تمض�ي إل�ى غاي�ة أروع‪ ،‬ولك�ن ال جدوى م�ن «لو» ف�ي التعامل مع‬
‫التاري�خ‪ ،‬فم�ا ح�دث قد حدث‪ ،‬غير أن الس�تارة لم تس�دل بعد‪ ،‬وما ه�ي إلاَّ مرحلة‬
‫مش�حونة بالمعاناة‪ ،‬وثمرة ُم َّرة ألخطاء ُمرة‪ ،‬وباس�تيعاب الدرس القاسي الذي نُعتبر‬
‫جميعا مسئولين عنه نستطيع أن نتحدى التحديات‪ ،‬ونقهر العثرات‪ ،‬ونجدد األجساد‬
‫ً‬
‫واألرواح‪ ،‬وال شك أننا تعلمنا اليوم‪:‬‬

‫‪ -1‬أن العدالة االجتماعية روح أي مجتمع يستحق الحياة‪.‬‬

‫‪ -2‬أن الديمقراطية هي األساس الصالح ألي ُحكم صالح‪.‬‬

‫‪ -3‬أن الوحدة الوطنية هي قاعدة النهضة‪.‬‬

‫‪ -4‬أنه ال بديل من التوجه نحو العصر على أساس من العلم والثقافة‪.‬‬

‫‪ -5‬أن�ه الب�د من نهض�ة ديني�ة تنقي العقي�دة من الخراف�ات والجم�ود‪ ،‬وتج ِّلي‬
‫جوهرها كمصدر إشعاع للقيم الرفيعة ُ‬
‫واألخوة اإلنسانية‪.‬‬
‫‪387‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -6‬أن�ه ال غنى عن ُ‬
‫األخوة العربية‪ ،‬باعتبارها ُأخ�وة حضارية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬اقتصادية‪،‬‬
‫منطلقها النهوض‪ ،‬وغايتها العطاء‪.‬‬

‫�د ْت مع األيام من مقومات حظه‬


‫�ن يس�توعب كارثة حلت به كما ينبغي له‪ُ ،‬ع َّ‬
‫و َم ْ‬
‫السعيد‪.‬‬

‫‪ 30‬يوليو ‪1989‬‬

‫‪388‬‬
‫التقدم‬

‫سعد زغلول وعودة الروح‬

‫س�عد زغلول ومصطفى النحاس هما رمزا ث�ورة ‪ .1919‬وثورة ‪ 1919‬هي الرمز‬
‫الخالد لعودة الروح إلى شعب مصر العريق‪ .‬وقد قامت ثورة الشعب إللغاء الحماية‪،‬‬
‫والسعي إلى االستقالل‪ ،‬ولكنها في خضم نضالها الطويل تبلورت في معالم أساسية‬
‫ال تقل عن االستقالل أهمية وجاللاً ‪:‬‬

‫أولاً ‪ -‬فهي ُولدت في الشارع بتلقائية روحية رائعة‪ ،‬وتفجرت بين الجماهير بدافع‬
‫م�ن روح ش�عبية غامرة‪ ،‬فلم يعرف ش�عب مص�ر إيجابية فعالة ‪-‬وقوة ف�ي المبادرة‪،‬‬
‫فتوجه بكل قواه نحو الحياة‬
‫واعتم�ا ًدا على الذات‪ -‬كما عرفها ف�ي رحابها الخالق‪َّ ،‬‬
‫العامة واالنتماء الوطني واالنغماس في النضال السياسي‪ ،‬وأبدع في أحضانها نهض ًة‬
‫وخ ْلقًا في ميادين العلم‪ ،‬واألدب والمسرح‪ ،‬والموسيقى‪،‬‬
‫اقتصادية‪ ،‬ويقظ ًة نس�ائية‪َ ،‬‬
‫والفن التش�كيلي‪ ،‬والرياضة البدنية‪ ،‬ولمعت له نجوم في جميع تلك الميادين تمثل‬
‫النخبة الرائدة في السياسة واالقتصاد واألدب والعلم والفن والفكر‪.‬‬

‫ثاني�ا‪ -‬وهي ق�د َح َّق َق ْت الوحدة الوطنية بين الجموع‪ ،‬فمضى الش�عب المصري‬
‫ً‬
‫كالبني�ان المرص�وص يتص�دى لتحدي�ات االس�تعمار في الخ�ارج واالس�تبداد في‬
‫الداخل‪ ،‬ويصمد لكل سا ٍع بالشر والوقيعة فيتخطاه في عظمة وكبرياء‪.‬‬

‫ثالثًا‪ -‬وهي سعت سعيها الدائب لخلق نظام ديمقراطي يقوم على أكتاف الشعب‬
‫م�ن أج�ل الش�عب‪ ،‬وتُصان في�ه حرية اإلنس�ان وحقوق�ه‪ ،‬ومن أج�ل ذلك خاضت‬
‫‪389‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫َّ‬
‫تتخ�ل عن هدفها‬ ‫مع�ارك متواصلة م�ع الملك تارة‪ ،‬ومع اإلنجلي�ز تارة أخرىن ولم‬
‫حتى اللحظة األخيرة من العمل المتاح‪.‬‬

‫وق�د ج�اءت ث�ورة يولي�و لتكمل المش�وار‪ ،‬وه�ا نحن الي�وم ننعم باالس�تقالل‬
‫والديمقراطي�ة‪ ،‬ونناض�ل ف�ي س�بيل السلام والرخاء‪ ،‬فلتك�ن ث�ورة ‪ 1919‬مرجعنا‬
‫كلما أردنا لديمقراطيتنا الكمال‪َ ،‬ولِ َو َح ْدتِ َنا الوطنية السلامة واألمان‪ ،‬ولروح شعبنا‬
‫اإليجابية واالنتماء والنضال‪.‬‬

‫‪ 24‬أغسطس ‪1989‬‬

‫‪390‬‬
‫التقدم‬

‫وصف مصر‬

‫تعال�وا ُن ْل ِق نظرة موجزة على واقعنا‪ ،‬لتكن ً‬


‫نوعا من الحس�اب الختامي المؤقت‬
‫ع�ن الفت�رة التي تبدأ بالصفر ال�ذي هبطت بنا إليه األح�داث‪ ،‬ولنتجاهل التاريخ‪ ،‬ال‬
‫لع�دم أهميت�ه‪ ،‬ولكن ألن�ه قد قيل فيه كل م�ا يمكن أن يقال‪ ،‬فكيف ن�رى وجهنا في‬
‫مرآة الزمن؟‬

‫‪ -1‬سياسة خارجية تتسم بالنشاط والحكمة و ُبعد النظر والتخطيط السليم‪.‬‬

‫‪ -2‬نهض�ة تبش�ر باألم�ل ‪-‬وإنْ تفاوت�ت ف�ي الدرجة‪ -‬ف�ي التعمي�ر‪ ،‬والزراعة‪،‬‬
‫والمواصلات‪ ،‬والكهرباء‪ ،‬والتعلي�م‪ ،‬والري‪،‬واألمن‪ ،‬والثقاف�ة‪ ،‬والبحث العلمي‪،‬‬
‫فضًل�اً عن اإلنجازات الت�ي تمت في الجيش والهياكل األساس�ية‪ ،‬ويجب ألاَّ نغفل‬
‫عما يحدث حولنا‪ ،‬وال أن نتهاون في شئون الصيانة والتجديد‪.‬‬
‫هنا َّ‬
‫‪ -3‬نظ�ام حك�م ديمقراطي تش�وبه رواس�ب حكم ش�مولي س�ابق‪ ،‬فتختلط فيه‬
‫الحرية بالطوارئ واالنطالق بالقيود‪.‬‬

‫‪ -4‬نظ�ام اقتص�ادي يتلمس طريق�ه إلى اإلصالح بحذر وبطء‪،‬ول�م يثبت قدرته‬
‫بعد أمام الغالء والمعاناة العامة‪.‬‬

‫‪ -5‬إدارة هابط�ة تعاني قلة الكفاءة وش�حوب النزاه�ة والعجز عن تحقيق العدل‬
‫واحترام القانون‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -6‬وهناك مش�كالت الش�باب م�ن بطالة س�افرة ومقنعة‪ ،‬وطرق مس�دودة أمام‬
‫االحتياجات األساسية لإلنسان‪.‬‬

‫‪ -7‬التزال المخدرات مشكلة‪ ،‬والتزال هجماتها الشرسة مستمرة‪.‬‬

‫أخيرا وليس آخرا «الفيروسات» الفتاكة التي تتسلل إلى األخالق‪ ،‬والعالقات‬
‫‪ً -8‬‬
‫البشرية‪.‬‬

‫وما أعرض هذا الحس�اب الختامي إلاَّ للتذكير‪ ،‬وهو يحوي الكثير مما ال يس�ر‪،‬‬
‫ولكن�ه ال يدع�و لليأس أو الالمباالة‪ ،‬وقد مرت األمم العظيمة بمثله أو بما هو أس�وأ‬
‫منه‪ ،‬ولكنها لم تخرج من ظلماته إلاَّ بالعمل والعلم واإليمان‪.‬‬

‫‪ 15‬مارس ‪1990‬‬

‫‪392‬‬
‫التقدم‬

‫تطوير إنجازات ثورة يوليو‬

‫االحتف�ال الحقيق�ي بح�دث تاريخي مثل ث�ورة يوليو يجب أن يتج�ه نحو إعادة‬
‫النظ�ر في�ه بغية تجديده بما يقتضيه جري�ان الزمان الذي ال يتوق�ف‪ .‬كفانا حديثًا عن‬
‫إيجابياتها في تحقيق العدالة االجتماعية‪ ،‬والنهوض بالمجتمع في شتى مرافقه‪ ،‬فقد‬
‫وتكرارا‪ ،‬وس�عدنا بتوفيقه كما ش�قينا بانحرافات�ه‪ .‬وكفانا حديثًا عن‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫قي�ل ذلك ً‬
‫س�لبياتها‪ ،‬فقد اس�تخرجنا منها الدروس والعبر لكل ذي بصي�رة وبصر‪ .‬ما يجب أن‬
‫نرك�ز علي�ه اليوم هو‪ :‬كيف نطور رؤاه�ا وتوجهاتها في عالم يس�ير بخطى ثابتة نحو‬
‫الديمقراطية السياس�ية‪ ،‬والحرية االقتصادية‪ ،‬والتوحد الثقافي تحت مظلة من القيم‬
‫اإلنسانية الشاملة‪.‬‬

‫حقًّ�ا لقد كرس�ت الث�ورة قيمة إنس�انية ال غن�ى عنها‪ ،‬ه�ي العدال�ة االجتماعية‪،‬‬
‫ولك�ن جاء ذل�ك على حس�اب الحرية الفردي�ة وحقوق اإلنس�ان السياس�ية‪ ،‬فعلينا‬
‫معا‪ ،‬العدالة االجتماعية‪ ،‬والحرية السياسية‬
‫اليوم أن نؤس�س مس�يرتنا على القيمتين ً‬
‫واالقتصادي�ة والفكري�ة‪ ،‬وه�و موقف قال ُأن�اس ً‬
‫قديما‪ :‬إنه مس�تحيل‪ ،‬وإنه البد من‬
‫اختي�ار أحد الطرفي�ن‪ ،‬واتُّهمنا من أجل ذل�ك بالتلفيقية والمثالي�ة والخيالية‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ولكن أكدته اليوم ثورة إعادة البناء في البالد الشرقية‪ ،‬بل في العالم الثالث كله‪.‬‬

‫الموقف الجديد يتطلب النش�اط الدائم‪ ،‬وتنحي�ة التعصب‪،‬واإلفالت من قبضة‬


‫الشعارات‪ ،‬كما يتطلب إعادة النظر بشجاعة وإخالص في كل شيء‪ ،‬تحقيقًا للعدالة‬

‫‪393‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وس�عيا وراء الكمال من أجل إقامة مجتمع أفضل لخير‬


‫ً‬ ‫والحرية دون قيد أو ش�رط‪،‬‬
‫جميعا‪ ،‬دون تفرقة بين طبقة وطبقة‪ ،‬أو حاكم ومحكوم‪.‬‬
‫ً‬ ‫الناس‬

‫جميع�ا يج�ب أن نعيد النظ�ر ف�ي الحي�اة السياس�ية واالقتصادية‬


‫ً‬ ‫لخي�ر الن�اس‬
‫والخدم�ات والمراك�ز القيادي�ة‪ ،‬الت�ي يج�ب أن يتبوأه�ا القض�اة ورج�ال البح�ث‬
‫العلمي‪،‬ولنعل�م أن التمس�ك بإنجازات ثورة يوليو كما خرج�ت للوجود‪ ،‬هو حكم‬
‫بإعدامه�ا لتخلفها ع�ن الزمن‪ ،‬وأن تطويرها للحاق بقط�ار الزمن‪ ،‬هو بعثها وتجنب‬
‫إهدار ما بذل فيها من جهد ودماء وعذاب‪.‬‬

‫‪ 19‬يوليو ‪1990‬‬

‫‪394‬‬
‫التقدم‬

‫من وحي الواقع‬

‫م�ن متابع�ة األحداث ‪-‬وبخاص�ة بعد خطاب الرئي�س في احتفال ث�ورة يوليو‪-‬‬
‫تتجلى لنا حقائق مهمة حيوية‪.‬‬

‫نح�ن الي�وم على عالق�ة طيبة بناءة م�ع العالم كل�ه‪ ،‬نحن اليوم في نط�اق تعاون‬
‫عربي ش�امل مثمر يبش�ر بآمال واس�عة‪ ،‬نحن اليوم نس�ير بأقدام ثابتة نحو ديمقراطية‬
‫حقيقي�ة تجمع بي�ن الحرية والعدالة االجتماعية‪ ،‬س�بقنا بها ثورة الدول االش�تراكية‬
‫على الحكم الشمولي والشعارات الجامدة‪.‬‬

‫أنفقن�ا ‪ 93‬ملي�ار جني�ه في الط�ور األخير م�ن الثورة اس�تثمارات لتجدي�د البنية‬
‫األساسية لمشروعات قومية كبرى‪ ،‬نهضة ملموسة في الزراعة والصناعة والكهرباء‬
‫والنقل واإلسكان والمدن الجديدة‪ ،‬وبداية ثورة في التربية والتعليم‪.‬‬

‫أهدافن�ا المس�تقبلية تتبلور عل�ى ضوء ذلك كل�ه مؤكدة دورنا بي�ن دول العالم‪،‬‬
‫ومنطلقن�ا م�ع األمة العربية‪ ،‬وتطوي�ر مجتمعنا نحو درجة م�ن الحداثة تؤهله للعمل‬
‫واإلنتاج وممارسة الحرية والتمتع بحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫هذا هو مشروعنا القومي لمن يبحثون عن مشروع قومي‪ ،‬وهذا هو االنتماء لمن‬
‫يعانون السلبية‪ ،‬وهذا هو الجهاد لمن يستنيمون للكسل أو يتعللون باألعذار‪.‬‬

‫غريبا بع�د ذلك الجه�د المبذول والم�ال المنف�ق أن نظل ضحايا‬


‫ولك�ن ألي�س ً‬
‫للمعاناة واألس�ى‪ ،‬والعديد من الس�لبيات‪ ،‬وس�وء ظن البنك الدولي؟ قد يعني هذا‬

‫‪395‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أنن�ا كنا قد َه َو ْي َنا إلى أس�وأ درجات الفناء‪ ،‬وقد يعن�ي أن الجهد المبذول مازال دون‬
‫المطلوب‪ ،‬وأن األخالق مازالت دون المس�توى المنش�ود‪ ،‬ولكنه يحدد في النهاية‬
‫خط�ة العم�ل وهدفها‪ ،‬وهي أن نزيد م�ن عالقاتنا الطيبة مع العال�م‪ ،‬ونؤكد التحامنا‬
‫الخ َط�ى نح�و الديمقراطي�ة الكامل�ة واحت�رام حق�وق اإلنس�ان‪،‬‬ ‫العرب�ي‪ ،‬ونوس�ع ُ‬
‫ونهيئ له المناخ الصالح العادل‪.‬‬
‫ونضاعف قوة العمل‪ّ ،‬‬
‫وفي كلمة‪ :‬أن نقضي على كل عقبة‪ ،‬ونشجع كل انطالقة‪ ،‬غير مبالين بأي شعار‪،‬‬
‫سوى شعار التقدم والنجاح في صحبة قيمنا السامية‪.‬‬

‫‪ 3‬أغسطس ‪1990‬‬

‫‪396‬‬
‫التقدم‬

‫جهاز األمن‬

‫جهاز األمن في مصر مؤسسة جديرة بالثقة واالحترام‪ ،‬جديرة بالثقة حقًّا وفعلاً ‪،‬‬
‫وأنَّ قبضها على القتلة في تلك المدة الوجيزة لِ َم َّما يش�هد لها باليقظة والبراعة وقوة‬
‫التصميم وحس�ن التنظيم‪ ،‬والش�جاعة مع االستعداد للتضحية‪ ،‬وبين كل حين وآخر‬
‫تنق�ض عل�ى تنظيم في وكره وهو يش�حذ سلاحه ويمكر مكره‪ ،‬فتقي المؤسس�ات‬
‫ُّ‬
‫والمواقع ما يراد بها من ش�ر‪ ،‬وتصون دعائم االس�تقرار‪ ،‬مما يس�تهدفه أعداء البالد‬
‫في الداخل والخارج‪.‬‬

‫وه�ي جدي�رة باالحت�رام‪ ،‬ألنها تتلق�ى النقد بصدر رح�ب‪ ،‬وتؤم�ن بالحوار إذا‬
‫وج�ب الح�وار‪ ،‬وال يعز عليها أن تعترف بالخطأ إذا عرض‪ ،‬وتعمل بكل همة وحزم‬
‫على تصحيحه وتالفيه‪.‬‬

‫أجل قد ُيذكر تدخلها في االنتخابات أحيانًا‪ ،‬أو خش�ونتها مع الش�عب في بعض‬


‫مواقفه التاريخية‪ ،‬ولكن علينا أن نعرف المسئول الحقيقي عن ذلك‪ ،‬وهو نظام حكم‬
‫لمختل�ف العهود‪ ،‬أما جهاز األمن فال يس�عه إلاَّ أن يؤدي واجبه متحملاً أمام الناس‬
‫سوءات غيره‪.‬‬

‫ونعود إلى االغتيال فنقول‪ :‬إن مقاومته من أش�ق المهام‪ ،‬وأنه ال يخلو منه وطن‪،‬‬
‫َحت�ى َل ُي َع ّ‬
‫�د اإلرهاب الي�وم ظاهرة عالمي�ة ش�ريرة‪ ،‬كالتلوث‪ ،‬ولكن كف�اءة الجهاز‬
‫األمن�ي تُقاس بنش�اطه الع�ام‪ ،‬وسياس�ته المدروس�ة‪ ،‬وإنجازاته اليومي�ة‪ .‬ولعله مما‬
‫‪397‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ُيذكر أن أحدثكم عن جمعية االغتياالت الكبرى التي نشأت في خضم ثورة ‪،1919‬‬
‫وكي�ف عملت خمس س�نوات متتابع�ة دون أن يهتدي أحد إلى خي�ط يوصل إليها‪،‬‬
‫بالرغ�م من إش�راف اإلنجلي�ز على الش�رطة‪ ،‬وبالرغم من أنهم كان�وا الهدف األول‬
‫للجمعية‪ ،‬وسقطت خلية واحدة عام ‪ 1924‬بفعل الخيانة ال بمجهود الشرطة‪.‬‬

‫أك�رر‪ :‬إن جه�از األم�ن في مصر مؤسس�ة جديرة بالثق�ة واالحت�رام‪ .‬وأتمنى أن‬
‫تحصل على جميع احتياجاتها من الموازنة لتبلغ درجة الكمال‪.‬‬
‫وأترحم على ش�هدائها األب�رار‪ُ ،‬‬
‫وأ َحيي العاملين من رجالها في خدمة الش�عب‬
‫واالستقرار‪.‬‬

‫‪ 1‬نوفمبر ‪1990‬‬

‫‪398‬‬
‫التقدم‬

‫مولد عالم جديد‬

‫عالما جديدً ا‪ ،‬وأصروا على أنه كالم معسول يضمر مؤامرة قديمة‬
‫أملنا أن يكون ً‬
‫مكررة‪ ،‬وكانوا في سوء ظنهم على يقين‪ ،‬ولم نكن في حسن ظننا على يقين‪ ،‬ولكننا‬
‫ٍ‬
‫صاف‪ ،‬وانتظرنا ظه�ور الحقيقة عند االمتحان والتجربة‪،‬‬ ‫تابعنا تباش�ير الخير بخيال‬
‫وها هي ذي الحوادث تتتابع مؤكدة ُحسن ظننا وسالمة حكمنا‪.‬‬

‫فالرئيس األمريكي يس�عى بدأب ال يعرف الكلل نحو عقد مؤتمر السالم‪ ،‬إيمانًا‬
‫منه بما ينبغي لمنطقتنا من اس�تقرار وسلام وتنمية‪ ،‬وهو في س�بيل ذلك وقف حيال‬
‫إس�رائيل وقفة متش�ددة لم يعرف لها مثيل من قبل‪ ،‬غير ٍ‬
‫مبال بالمصلحة االنتخابية‪،‬‬
‫أو العالقة الخاصة التي تربط بالده بإس�رائيل‪ ،‬ثم إنه س�بق إلى دعم السالم العالمي‬
‫بخطوة صادقة عندما اتخذ قراره بتخفيض الترسانة النووية األمريكية‪.‬‬

‫مبش�را بروح جدي�دة ومبادئ جديدة‬


‫ً‬ ‫عالما جديدً ا يولد‪،‬‬
‫أال ي�دل ذلك عل�ى أن ً‬
‫ونظرة بشرية جديدة؟‬

‫حقًّا لقد تش�اءم قوم من انفراد دولة واحدة بالقوة في العالم‪ .‬وهو تش�اؤم جدير‬
‫باالعتبار‪ ،‬لو ظل العالم على طبيعته التقليدية‪ ،‬العالم الذي يقوم على القوة والبأس‪،‬‬
‫ويس�تغل فيه األقوياء ضعف الضعفاء لتحقيق مصالحهم‪ ،‬العالم الذي أفرز العبودية‬
‫َربى على أيدي العديد‬
‫واالس�تعمار‪ ،‬ولكن دولة اليوم القوية تنفرد بالقوة ف�ي عالم ت َّ‬
‫م�ن الثورات السياس�ية واالجتماعي�ة والثقافية‪ ،‬عالم هيئة األم�م المتحدة ومجلس‬

‫‪399‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫األمن وحقوق اإلنس�ان‪ ،‬فهي دولة س�وف تتس�م بالزعامة ال بالس�يادة‪ ،‬سوف تقوم‬
‫لتحمل األمانة ال لتستغل الضعفاء‪ ،‬وسوف تمارس مع الزمن األبوة ال القهر‪.‬‬

‫يجب أن نرحب بمثل هذه الزعامة الرشيدة‪ ،‬فبها ت َُحل مشكالت األمم‪ ،‬وتواجه‬
‫الكوارث الطبيعية‪ ،‬ويمك�ن التصدي حقًّا للتلوث والمخدرات واألمراض والتأخر‬
‫والجهل والتعصب وسائر اآلفات البشرية‪.‬‬

‫‪ 3‬يناير ‪1991‬‬

‫‪400‬‬
‫التقدم‬

‫سن الرشد‬

‫تحل�و العودة إلى ذكريات الماضي كلما أحدقت بالمرء متاعب الحاضر‪ ،‬لذلك‬
‫نسترده من غياهب الزمن مغ َّل ًفا بالحنين والسعادة‪ ،‬متناسين معاناته ومتاعبه‪ ،‬ما أكثر‬
‫الذين يتحدثون عن الماضي بهذه الرومانس�ية بكل صدق وإخالص‪ ،‬ولكن دون أن‬
‫يفطن�وا إلى خ�داع الزمن‪ ،‬يحدثونك عن األس�عار الخيالية ف�ي رخصها‪ ،‬والرواتب‬
‫الصغيرة التي وفت باحتياجات أس�ر كبيرة‪ ،‬يحدثونك عن القاهرة النظيفة‪ ،‬الناعمة‪،‬‬
‫نهارا وليلاً من رجال األمن‪ .‬يحدثونك‬
‫الجميلة‪ ،‬الهادئة‪ ،‬النقية‪ ،‬وحراسها الساهرين ً‬
‫عن روابط األسرة المتينة‪ ،‬وتقاليدها الراسخة‪ ،‬وآدابها العتيدة‪ ،‬والمدرسة المتكاملة‪،‬‬
‫ومدرس�يها الوقورين‪ ،‬وتالميذها المؤدبين المجتهدين‪ ،‬يحدثونك عن حرية الفكر‪،‬‬
‫وازدهار األدب‪ ،‬وانطالق الصحافة‪ ،‬وتعدد األحزاب‪ ،‬وحماسة العمال‪ ،‬وما أحالها‬
‫عيشة الفالح!‬

‫إنهم صادقون وال ش�ك‪ ،‬ويمكن أن نضيف إلى أمثالهم الكثير‪ ،‬ولكنهم ينس�ون‬
‫حيال تجهم الحاضر وشدته‪ ،‬أنَّ مجتمع الماضي كان مجتمع القلة المنعمة‪ ،‬والكثرة‬
‫متأخرا إذا قيس بعمره الحضاري‪ ،‬يس�تبد به‬
‫ً‬ ‫مجتمعا‬
‫ً‬ ‫المحروم�ة الكادح�ة‪ ،‬وأنه كان‬
‫ملك‪ ،‬ويحتله جيش أجنبي‪ ،‬ويعبث به طغاة لحساب الملك تارة‪ ،‬ولجيش االحتالل‬
‫ش�رعا‪ ،‬تنميته محدودة‪ ،‬وآماله متواضعة‪،‬‬
‫ً‬ ‫أخرى‪ ،‬ويحكم فيه من ال يس�تحق الحكم‬
‫ومشكالته بالتالي صغيرة ُم ْن َز ِوية‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وبرغ�م متاعبن�ا الراهن�ة الت�ي ال تُحص�ى‪ ،‬ومعاناتن�ا الت�ي أش�فقت علين�ا منها‬
‫الش�ياطين‪ ،‬برغم الفس�اد و الديون ومشكلة الس�كان والغالء‪ ،‬فمصر اليوم تخوض‬
‫فت�رة انتقال‪،‬وتكابد آالم المخاض‪ ،‬وتتطلع إلى اآلمال الكبار‪ ،‬ما أكثر مدارس�ها‪ ،‬ما‬
‫أكثر طالبها‪ ،‬ما أكثر جامعاتها‪ ،‬ومؤسساتها الثقافية والعلمية‪ ،‬ومصانعها‪ ،‬وشركاتها‪،‬‬
‫ما أجمل تعاملها مع الدول‪ ،‬وغزوها للصحراء‪ ،‬وانفعالها بش�تى تيارات الفكر يمي ًنا‬
‫ويس�ارا! ولعمري‪ ،‬إن عذاب الجهاد َل َخ ٌير من نعيم البالدة‪ ،‬فإلى األمام ً‬
‫دائما وأبدً ا‪،‬‬ ‫ً‬
‫نتلقى اآلالم والمعاناة من خالل بركات الحياة والتقدم‪.‬‬

‫‪ 16‬مايو ‪1991‬‬

‫‪402‬‬
‫التقدم‬

‫اإلثارة والقيمة‬

‫ع َّلمن�ا تاريخن�ا المعاص�ر أن نهتم‪ ،‬أول م�ا نهتم‪ ،‬بالح�وادث المثي�رة‪ ،‬ووجدنا‬
‫ضالتن�ا في األحالم الكبيرة والمغام�رات البراقة‪ ،‬وكأننا نلوذ فيها بمهرب من واقعنا‬
‫المتجه�م‪ ،‬وتطورنا البطيء‪ ،‬ومش�كالتنا المتفاقم�ة‪ ،‬فإذا افتقدنا اإلث�ارة والمغامرة‬
‫والخ�وارق توهمنا أن دنيانا خلت من هدف نلتف حوله يوفر لها االنتماء والعزيمة‪.‬‬
‫وإن�ي لأَ ْع َج ُب لقو ٍم يعانون مش�كالت مثل االنفجار الس�كاني‪ ،‬والتلوث‪ ،‬والغالء‪،‬‬
‫والفس�اد‪ ،‬والبطالة‪ ،‬والقهر‪ ،‬والقوانين االس�تثنائية‪ ،‬واإلرهاب‪ ،‬أعجب لقوم يعانون‬
‫ذلك كله ويبحثون في الوقت نفس�ه عن هدف لمجتمعهم في التاريخ‪ ،‬أو الهواء‪ ،‬أو‬
‫الش�عارات الخاوية‪ ،‬من أجل ذلك أرجو أن نولي اإلصالح االقتصادي ما يس�تحقه‬
‫من اهتمام وتضحيات‪ ،‬وأن نتابع وعود اإلصالح اإلداري بيقظة وأمل ومراقبة حية‪،‬‬
‫وأن نش�جع كل حركة ترمي إلى اإلصالح السياس�ي المنش�ود‪ ،‬فذلك وما يماثله هو‬
‫ثانويا‬
‫نسيج حياتنا الحقيقية‪ ،‬وهو هدف هذا الجيل األول الذي يعتبر أي هدف آخر ًّ‬
‫بالقياس إليه‪.‬‬

‫ولعله من الخير أن أدعوكم إلى المشاركة في االحتفال باألخبار اآلتية‪:‬‬

‫األول يق�ول‪ :‬إن مص�ر وليبي�ا خطتا خطوة جدي�دة على طريق التكام�ل بينهما‪،‬‬
‫وإنهم�ا بصدد وض�ع خطوات تنفيذ االتفاق على إقامة تجمع�ات زراعية‪ ،‬هذا عمل‬
‫حقيق�ي من أج�ل وحدة حقيقية تج�يء عندما تنضج وتقوم عل�ى العمل والمصالح‬
‫المشتركة والنهوض بالشعوب‪.‬‬
‫‪403‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫تابعا لش�ركة أمريكي�ة عمالقة َت َفقَّدَ إمكانيات الهيئة العربية‬


‫الثاني يقول‪ :‬إن وفدً ا ً‬
‫للتصنيع‪ ،‬وش�هد إلمكانياتها بالتفوق‪ ،‬بل اعتبرها ش�ي ًئا مذهًل�اً ‪ ،‬وقد حصلت الهيئة‬
‫على عقدين لتصنيع قطع غيار مهمة للشركة األمريكية‪ ،‬فما أحوجنا إلى خبر أو اثنين‬
‫من هذا النوع كل عام ليعيد إلينا الروح‪ ،‬ويحيى فينا األمل‪.‬‬

‫والثال�ث يق�ول‪ :‬إن الدكتور محمد حلمي مراد وجه رس�الة إل�ى الكاتب الكبير‬
‫مصطف�ى أمين يخب�ره فيها أن لجن�ة قومية فرغت من صياغة دس�تور جدي�د تمهيدً ا‬
‫لعرضه على الشعب‪ .‬وهذا عمل مبتكر للمعارضة تتحول به إلى «وزارة ظل»‪ ،‬مادام‬
‫متعذرا في الظروف الراهنة‪.‬‬
‫ً‬ ‫تداول الحكم‬

‫وبع�د‪ ،‬أال تس�تحق ه�ذه األخب�ار أن نحتفل به�ا ونوليها ما تس�تحقه م�ن تقدير‬
‫وإعجاب؟‬

‫‪ 13‬يونيو ‪1991‬‬

‫‪404‬‬
‫التقدم‬

‫الوضوح‬

‫تباعا فتثير من‬


‫م�اذا يقول المش�اهد المحايد ع�ن القرارات الخطيرة التي تص�در ً‬
‫الخالفات ما تثير‪ ،‬وتتس�بب في ّأ ً‬
‫ذى جس�يم بغير قصد‪ ،‬وتنذر أحيانًا بنتائج تتناقض‬
‫مع سياسة الدولة المعلنة؟‬

‫يجب أن تكون السياس�ة واضح�ة للجميع‪ ،‬وأهدافها مح�ددة‪ ،‬وألاَّ يتناقض أي‬
‫قرار مع السياس�ة وأهدافها‪ ،‬بل يكون مؤيدً ا لمسيرتها‪ ،‬عاملاً على تثبيتها وترسيخها‬
‫كثيرا الدعوة تتردد إلى االس�تثمار وتشجيعه‪ ،‬وكان يجب أن يتبع‬
‫ونجاحها‪ ،‬س�معنا ً‬
‫ذل�ك تهيئ�ة المناخ الصالح لالس�تثمار‪ ،‬والتفاه�م مع مطالب رج�ال األعمال‪ ،‬وقد‬
‫ُع�رف م�ا قيل عن أم�وال المصريي�ن في الخ�ارج وعن اس�تعدادهم للعم�ل‪ ،‬وعن‬
‫مطالبه�م‪ ،‬علين�ا أن نتحقق م�ن صحة ما قيل‪ ،‬وأن نمضي ف�ي التفاهم على ما يحقق‬
‫لن�ا تنمي�ة اقتصادية حقيقي�ة بغير حاجة إل�ى القروض‪ ،‬وفت�ح مجال العم�ل ألبنائنا‬
‫المخلصين في الداخل‪.‬‬

‫يج�ب أن تك�ون األهداف واضح�ة‪ ،‬والعزيم�ة صادقة‪ ،‬والمش�ورة ش�املة‪ .‬لم‬


‫يح�دث ذل�ك فيما أعتقد ف�ي قانون ضريبة المبيعات‪ .‬حس�بك أنه ُط ِّب�قَ قبل صدور‬
‫الئحته التنفيذية‪ ،‬وحسبك ما ارتُكب باسمه من أخطاء قرأنا أنباءها في الصحف في‬
‫وأخيرا مواطنون محترمون‬
‫ً‬ ‫ص�ورة احتجاجات وصرخات وعذابات‪ ،‬والن�اس أولاً‬
‫ال فئران تجارب للقرارات المتسرعة‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وهن�اك ً‬
‫أيضا ق�رار االئتمان الخاص بالبنوك‪ ،‬وقد عارض�ه رجال البنوك ورجال‬
‫األعمال‪ ،‬معارضة تجعل المش�اهد المحايد يعتقد أن�ه اتخذ بمعزل عنهم‪ ،‬وهم من‬
‫أصح�اب الرأي األول فيه‪ .‬ألم تكن الحكمة تقتضي التش�اور قب�ل صدور القرار ال‬
‫بعد صدوره؟‬

‫نريد سياسة واضحة‪ ،‬وأهدا ًفا واضحة‪ ،‬ومشورة وقرارات سليمة‪.‬‬

‫‪ 27‬يونيو ‪1991‬‬

‫‪406‬‬
‫التقدم‬

‫عند االمتحان‬

‫بش�رنا تطور الحوادث بين الكتلة االشتراكية والكتلة الغربية بمولد عالم جديد‪،‬‬
‫َّ‬
‫عالم يقوم على تجنب العنف في حل مش�كالته‪ ،‬ويستند في رؤيته على دعم الحرية‬
‫والعدل‪ ،‬ولنا في هذا الس�بيل تجارب س�ابقة‪ ،‬مثل عصبة األمم التي ُمنيت بالفش�ل‪،‬‬
‫نجاحا مقبولاً ‪ ،‬حقًّا لم تقض على صراع العمالقة وال على‬
‫ً‬ ‫وهيئة األمم التي حققت‬
‫العبث أحيانًا بمصائر األمم الصغيرة‪ ،‬ولكن في ظل رعايتها استقلت شعوب كثيرة‪،‬‬
‫وفرض�ت العقوب�ات على جن�وب إفريقيا‪ ،‬كم�ا انبثقت منها هيئات ت�ؤدي خدمات‬
‫حقيقية في التعلم والصحة والثقافة والتنمية‪ ،‬وفي ظلها ً‬
‫أيضا أصبح للعالم رأي عام‬
‫ملموس‪ ،‬وضمير عالمي ال يمكن تجاهله‪.‬‬

‫خي�را فيما ُبشِّ ْ‬


‫�رنَا به من مول�د عالم جديد‪ ،‬وأبينا أن نس�بق‬ ‫م�ن أج�ل ذلك ّأملنا ً‬
‫تأثرا بتاريخ طويل حفل باألحزان وخيبة اآلمال‪ ،‬وشاء القدر أن‬
‫بالريبة وسوء الظن‪ً ،‬‬
‫يكون شرقنا األوسط هو االمتحان األول لهذا العالم الجديد‪ ،‬فقد حدث فيه عدوان‬
‫ش�رير‪ ،‬تحدى أس�مى المبادئ‪ ،‬وهدد أخطر المصالح‪ ،‬وأدانه العالم‪ ،‬وطالب بحله‬
‫وأمن المصالح العالمية‪،‬‬
‫س�لميا‪ ،‬فلما أعيته الحيل‪ ،‬حله بالقوة‪ ،‬فح�رر المقهورين‪َّ ،‬‬
‫ًّ‬
‫وأنزل العقاب بالمعتدين‪.‬‬

‫لكن العمل لم يتم بعد‪ ،‬ومازال الش�رق األوسط يحتفظ للعالم الجديد بامتحان‬
‫فكثيرا ما يكون السلم أصعب في إقامة أركانه من الحرب‬
‫ً‬ ‫جاد‪ ،‬لعله أهم من األول‪،‬‬
‫نفسها‪.‬‬
‫‪407‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الي�وم يتص�دى العال�م لمش�كالت المنطقة‪ ،‬وعلى رأس�ها القضية الفلس�طينية‪،‬‬


‫والعالقات العربية اإلسرائيلية‪ ،‬واألسلحة غير التقليدية‪ ،‬وقضايا األمن والتنمية‪.‬‬

‫ال ننك�ر م�ا ُبذل و ُيبذل من جهد متصل‪ ،‬وال ما نلم�س من تصميم عام على حل‬
‫المش�كالت‪ .‬وال أتص�ور‪ ،‬أو ال أريد أن أتصور‪ ،‬أن يق�ف الجهد العالمي أو يتراجع‬
‫إذا اعترضه خندق مليء بالعناد واألنانية‪ ،‬ال أتصور أن يرضى بالسقوط في االمتحان‬
‫والتضحية بحلم «العالم الجديد»‪.‬‬
‫المرء أو ُيهان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إنه امتحان حقيقي‪ ،‬وعند االمتحان ُيكرم‬
‫‪ 11‬يوليو ‪1991‬‬

‫‪408‬‬
‫التقدم‬

‫‪ 23‬أغسطس‬

‫وغ�دً ا ذكرى وفاة الزعيمين الجليلين س�عد زغل�ول ومصطفى النحاس‪ .‬حقًّا إن‬
‫هم�وم الحاض�ر وتحديات�ه لم تترك لن�ا وق ًتا لالحتف�ال بالذكري�ات الجميلة‪ ،‬ولكن‬
‫ذك�رى الزعيمي�ن لم تعد مج�رد ذكرى تاريخية نق�ف أمامها لل�درس واالعتبار‪ ،‬أو‬
‫التيه والفخار‪ ،‬هي ذكرى خالدة بحكم التاريخ المعاصر‪ ،‬تحولت مع أحداث العالم‬
‫الجدي�دة الت�ي يتولد م�ن خاللها عالم جدي�د‪ ،‬إلى رس�الة اليوم‪ ،‬ورؤية مس�تقبلية‪،‬‬
‫وأساس متين لبناء حياتنا العصرية‪.‬‬

‫إن ثورة ‪ 1919‬هي ثورة االستقالل‪ ،‬وقد تم ذلك والحمد لله‪.‬‬

‫ولكنه�ا ً‬
‫أيضا ث�ورة الوطنية المصري�ة‪ ،‬والوح�دة الوطنية‪ ،‬وث�ورة الديمقراطية‪،‬‬
‫واحترام حقوق اإلنس�ان‪ ،‬وثورة الرأس�مالية الوطنية واالقتص�اد الحر‪،‬وثورة المرأة‬
‫والفكر والفن‪.‬‬

‫بحرا م�ن التحديات لنحقق ذاتنا ون�ؤدي دورنا الالئق في‬


‫ونح�ن اليوم نخوض ً‬
‫نموذج�ا فريدً ا ف�ي الديمقراطية واحترام حقوق اإلنس�ان‪،‬‬
‫ً‬ ‫المنطق�ة العربي�ة‪ ،‬ونقدم‬
‫وأخيرا لنثبت قدرتنا على المشاركة في بناء العالم الجديد وفهمه والتعامل معه‪.‬‬
‫ً‬
‫ه�ذا التوجه المعاص�ر هو الذي بعث الحياة مرة أخرى ف�ي تراثنا العظيم‪ ،‬تراث‬
‫ثورتنا الش�عبية في البناء الوطني‪ ،‬وأس�لوب الحكم والنهض�ة االقتصادية‪ ،‬والتناغم‬
‫الواجب مع قوميتنا العربية والعالم الحديث ِم ْن حولنا‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫علينا أن نجعل من الوطنية المصرية دعامة للقومية العربية بال تنا ُق ٍ‬


‫ض معها‪ ،‬وعلينا‬
‫أن نوفق بين وحدتنا الوطنية وصحوتنا الدينية لتكون صحوة شاملة وإنسانية‪.‬‬

‫وعلين�ا أن نوف�ق بي�ن انطالقن�ا نح�و االقتص�اد الح�ر والمحافظة عل�ى العدالة‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫وعلين�ا أن نعق�د الع�زم على حل مش�كالت المنطق�ة مهما كلفنا ذل�ك من صبر‬
‫وجهد‪.‬‬

‫إن أكبر تجربة شعبية في حياتنا لم يطوها التاريخ ولم يضمها إلى متحف ذكرياته‬
‫الجميلة‪ ،‬ولكن تطور العالم وضعها حيث يجب أن تكون في المقدمة‪ ،‬وسوف تظل‬
‫مرجعا نستند إليه في تجديد حياتنا وانطالقها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 22‬أغسطس ‪1991‬‬

‫‪410‬‬
‫التقدم‬

‫جورباتشوف‬

‫رئيسا‬
‫خفقت قلوب األحرار بالحزن في كل مكان لعزل جورباتش�وف‪ ،‬لم يكن ً‬
‫ورمزا من رم�وز الحرية‬
‫ً‬ ‫عالمي�ا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫زعيما‬
‫س�وفيتيا فحس�ب‪ ،‬ولكن�ه كان ‪-‬وس�يظل‪ً -‬‬
‫ًّ‬
‫والسلام والشجاعة‪ ،‬كما سيكون اسمه أول اس�م يذكر ضمن عنوان العالم الجديد‬
‫‪-‬إذا ُقدِّ َر لذلك العالم أن يوجد‪ -‬كما يحلم به البشر‪.‬‬

‫أسس�ا جديدة إلقامة‬


‫كبيرا إلع�ادة البناء في وطن�ه‪ ،‬تضمن ً‬
‫مش�روعا ً‬
‫ً‬ ‫وق�د طرح‬
‫عالق�ات جدي�دة م�ع العال�م‪ ،‬ولكن سياس�ته ف�ي تنفيذ مش�روعه لم تس�لم من نقد‬
‫ف�ي داخ�ل روس�يا وخارجه�ا‪ ،‬وتنب�أ كثيرون بأنه س�يكون ضحي�ة نبيلة م�ن ضحايا‬
‫المعركة الهائلة التي فجرها في محاولة خارقة لخلق إنس�انية أفضل في عالم أس�عد‬
‫وأفضل‪،‬وق�د صدقت النبوءة‪َ ،‬فا ْن َق َّض ْت عليه القوى الرجعية بوس�ائلها التقليدية في‬
‫صراع عنيف لن ينتهي اليوم أو غدً ا‪.‬‬

‫صراعا بين رجال‪ ،‬قد تعلو كلمة الرجعية إلى حين‪ ،‬وقد تتراجع‬
‫ً‬ ‫والمسألة ليست‬
‫موج�ة الحري�ة إلى حين‪ ،‬ولكن المس�ألة ف�ي النهاية صراع بين قي�م في رحاب زمن‬
‫معين ‪ ،‬وقد ينهزم الرجل فتكون هزيمته إيذانًا بانتصار قيمه‪ .‬وليس الموضوع سياسة‬
‫جورباتش�وف التطبيقية‪ ،‬فللحرية ثمن ال ُيس�تها به‪ ،‬وللتحول االقتصادي ثمن فادح‬
‫كذلك‪ ،‬والرجعية تس�تغل معاناة الناس لالنقضاض في اللحظة المناسبة‪ ،‬ولكن كل‬
‫أولئك أمور عارضة بالنس�بة للمطروح حقًّ�ا على الناس والزمن‪ .‬المطروح يتلخص‬
‫في س�ؤال صغير كبي�ر‪ ،‬وهو‪ :‬هل يصلح العص�ر لديكتاتورية ف�ي الحكم‪ ،‬ومركزية‬
‫‪411‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫بيروقراطي�ة ف�ي االقتص�اد‪ ،‬وع�دوان باغ عل�ى حقوق اإلنس�ان‪ ،‬أم أن�ه عصر حرية‬
‫وديمقراطية واحترام حقوق اإلنسان والشرعية الدولية؟‬

‫جورباتش�وف رجل عظيم‪ ،‬ولكن قيمه أعظم‪ ،‬وهو رجل ال ُينسى‪ ،‬ولكن مبادئه‬
‫خي�ر وأبق�ى‪ ،‬ولن تس�تطيع ق�وة أن تقيله من زعامت�ه أو تنال حقًّا م�ن دعوته للحرية‬
‫والسلام واحترام حقوق اإلنس�ان‪ .‬إن الدبابة تنتصر على هدف‪ ،‬ولكنها تنهزم أمام‬
‫إرادة اإلنسان والزمن‪.‬‬

‫‪ 29‬أغسطس ‪1991‬‬

‫‪412‬‬
‫التقدم‬

‫أمانة الديمقراطية‬

‫كثي�را م�ا يوص�ف التي�ار الديمقراطي ف�ي الوط�ن بالضع�ف مقارن�ة بالتيارات‬
‫ً‬
‫األخ�رى‪ ،‬وه�ذا حكم في اعتق�ادي خاطئ‪ ،‬ونتيجة لس�لبية الجماهي�ر الديمقراطية‬
‫المرهقة باألزمة ومطالب العيش‪.‬‬

‫وأك�د هذا الخطا الخالف الذي ق�ام بين جهاز الحكم والمعارضة حول مطالب‬
‫المعارضة الدس�تورية‪ ،‬مما أوحى بأن المعارضة ه�ي الممثل الوحيد للديمقراطية‪،‬‬
‫وأن جهاز الحكم ممثل لنظام آخر‪.‬‬

‫ولكي تتضح الحقيقة بكل أبعادها علينا أن نذكر‪:‬‬

‫أولاً ‪ -‬أن�ه توج�د ببالدنا ديمقراطية حقيقية محترمة تتمث�ل في التعددية الحزبية‪،‬‬
‫ونش�اط المعارض�ة‪ ،‬وحرية الصحافة‪ ،‬ومجلس�ي الش�عب والش�ورى‪ ،‬واس�تقالل‬
‫القضاء‪.‬‬

‫ثاني�ا‪ -‬إن م�ا تحقق م�ن ديمقراطية لم يجئ ثمرة لثورة ش�عبية‪ ،‬ولكن اس�تجابة‬
‫ً‬
‫من جهاز الحكم لمطالب الش�عب‪ ،‬وقراءة رش�يدة لنبض قلبه‪ ،‬واستفادة حكيمة من‬
‫أخطاء الحكم الشمولي‪.‬‬

‫نستنتج من ذلك أن الجهاز الحكومي ممثل للديمقراطية مثلما تمثلها المعارضة‪،‬‬


‫وأن الخلاف ح�ول المطال�ب الدس�تورية إنم�ا ق�ام بين فريقي�ن ينتميان إلى أس�رة‬
‫ديمقراطية واحدة‪ ،‬يتفقان في الرأي والهدف ويختلفان على خطوات التطبيق‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫وعل�ى ذلك نس�تطيع أن نقول‪ :‬إن التيار الديمقراطي أغلبية س�ائدة برغم س�لبية‬
‫جماهيرها واختالفاتها التي ستتالشى مع الزمن‪.‬‬

‫وقد تكون المعارضة قد س�بقت الزمن بعض الش�يء بمطالبها‪ ،‬ولكن ألم يتأخر‬
‫حزب األغلبية عن الزمن ببطء حركته وشدة حذره؟‬

‫على حزب األغلبية أن يدرك رسالته الديمقراطية‪ ،‬وأن يتابعها باليقظة والحزم‪.‬‬

‫لقد س�بقت قراراته السياسية األخيرة بعض مواد الدستور‪ ،‬وجعلت من القوانين‬
‫االستثنائية تقاليد بالية ال تصلح لمعاصرة أفكاره الحديثة‪ ،‬فعليه أن يعيد قراءة الواقع‬
‫ليمه�د األرض لالس�تقرار الدائ�م‪ ،‬والش�رعية الدولية‪ ،‬والمش�اركة ف�ي ميالد عالم‬
‫جديد‪.‬‬

‫لق�د بدأتم بالتوجه نحو الديمقراطية‪ ،‬وعليكم أن تس�يروا في الطريق حتى ذروة‬
‫الكمال‪.‬‬

‫‪ 12‬سبتمبر ‪1991‬‬

‫‪414‬‬
‫التقدم‬

‫الشعب الروسي‬

‫ً‬
‫تاريخا مضي ًئا في تجربة الحضارة البشرية‪.‬‬ ‫كتب الشعب الروسي لنفسه‬

‫باألم�س ت ََب َّنى ثورة خطيرة لم تُس�بق بمثي�ل في عنفها وتطرفها‪ .‬ث�ورة أرادت أن‬
‫عالما‬
‫تصف�ي العال�م القديم م�ن كل معطيات�ه وتقاليده وأبنيته لتنش�ئ على أنقاض�ه ً‬
‫جديدً ا بكل معنى الكلمة‪ .‬قاد الش�عب الروس�ي تلك الثورة‪ ،‬وتصدى لتحقيق حلم‬
‫الماليين من البش�ر في خلق الفردوس المنش�ود في هذه الحياة‪ ،‬ولم يكن بد من أن‬
‫يعاني المعاناة المريرة‪ ،‬وأن يقدم التضحيات الجس�يمة‪ ،‬وأن يقنع من الحياة بحدها‬
‫األدنى‪ ،‬متنازلاً في الوقت نفس�ه عن حرياته البش�رية وحقوقه اإلنس�انية‪ ،‬والس�عادة‬
‫التي يحظى بها كثيرون ممن هم دونه في الحضارة واآلمال‪.‬‬

‫ول�و أن النجاح ُأتيح له بعد ذلك‪ ،‬لكان رائد اإلنس�انية إل�ى حياتها الجديدة‪ ،‬أما‬
‫وقد تمخضت التجربة عن فش�ل َذ ِريعٍ فقد أصبح ‪-‬الشعب الروسي‪ -‬النذير لجميع‬
‫البش�ر لتجنب االنزالق إلى حلم َب َّراق ال جدوى منه‪ ،‬ووقاهم من ش�ر تجربة فاش�لة‬
‫�ر لها‪ ،‬فإذا فاته أن يكون الرائد فل�م يفته أن يكون النذير‪ ،‬والنذير ال‬
‫وخس�ائر ال َح ْص َ‬
‫أثرا في خضم التجربة الحضارية‪.‬‬
‫يقل عن الرائد ً‬
‫ولو أن التجربة الشيوعية قامت على نظام ديمقراطي لنشأت في جو من الحرية‪،‬‬
‫تطورا‬
‫ً‬ ‫واس�تفادت من النق�د المتالحق ألنظمته�ا االقتصادية والفلس�فية‪ ،‬وتطورت‬
‫حميدً ا ينقيها من جميع السلبيات التي قضت عليها‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ويمكن أن تكون الش�يوعية آخر تجربة فاش�لة في حياة البشر‪ ،‬إذا حرصت األمم‬
‫على اتباع الحرية والديمقراطية واحترام حقوق اإلنسان‪ ،‬وخاضت تجاربها في ذلك‬
‫الجو اإلنساني الحر‪ ،‬حيث ال ُيفرض َر ْأي‪ ،‬أو تُملى سياسة‪ ،‬أو يزكى انحراف بالقوة‬
‫و القهر‪ ،‬وعلينا ألاَّ ننس�ى في هذه اللحظة الس�عيدة من حياة البش�رية‪ ،‬التي انتصرت‬
‫اندحارا‪ ،‬نرجو‬
‫ً‬ ‫أبديا‪ ،‬واندحر حكم القهر‬
‫حاسما‪ ،‬نأمل أن يكون ًّ‬
‫ً‬ ‫انتصارا‬
‫ً‬ ‫فيها الحرية‬
‫أبديا كذلك‪ .‬علينا ألاَّ ننسى الدور البطولي الذي قام به الشعب الروسي في‬
‫أن يكون ًّ‬
‫دائم�ا تضحياته في مجال الحضارة‬
‫التجرب�ة بطرفيها الس�لبي واإليجابي‪ ،‬وأن نذكر ً‬
‫البشرية‪.‬‬

‫‪ 26‬سبتمبر ‪1991‬‬

‫‪416‬‬
‫التقدم‬

‫التقدم بين القوة والحرية‬

‫أل َح ٍد بها‪،‬‬ ‫لقد س�قطت الش�يوعية في وطنها‪ ،‬س�قطت وهي مالك�ة لقوة ال ِق َب َ‬
‫�ل َ‬
‫س�قطت بال حرب ودون هجوم من عدو‪ .‬س�قطت من ذاتها؛ بما يعني أنها ال تحوز‬
‫أسباب البقاء‪،‬وما ال يحوز أسباب البقاء َمق ِ‬
‫ْض ٌّي عليه بالفناء من ذاته وبذاته‪.‬‬

‫وقد س�قطت ألن فلسفتها تتعارض مع الطبيعة البشرية‪ ،‬وألن اقتصادها يتجاهل‬
‫كبيرا‪ ،‬ولكن الفضل‬
‫نجاحا ً‬
‫ً‬ ‫قوانين العمل والمجتمع‪ .‬وال أنكر أنها حققت في بدئها‬
‫ف�ي ذل�ك يرجع إلى حماس�ة الث�وار وتضحياته�م‪ ،‬فلما اس�تقرت األم�ور وهدأت‬
‫النفوس ظهرت العيوب والسلبيات‪.‬‬

‫وتاري�خ البش�ر ع�رف مش�روعات مثالي�ة غي�ر قليل�ة‪ ،‬انبعثت من أحلام رجال‬
‫�ي الناس إلى اعتناقها‬ ‫عظ�ام ذوي نيات جميلة‪ ،‬ولكنها ُطرحت كمش�روعات‪ِ ُ ،‬‬
‫ودع َ‬
‫دون قه�ر‪ ،‬كان�ت تخاط�ب القل�وب والضمائر‪ ،‬وتحترم حرية اإلنس�ان‪ ،‬فمارس�تها‬
‫صف�وة قادرة‪ ،‬وتطلعت إليه�ا الكثرة كمصابيح هدى لالس�تنارة العزاء‪ ،‬هكذا كانت‬
‫اليوتوبي�ا‪ ،‬وهك�ذا كان التصوف‪،‬ول�و ُأتيح لدعاة تل�ك المذاهب الق�وة ليفرضوها‬
‫عل�ى الن�اس بالحديد والنار متجاهلين طبائع البش�ر وطبائع األش�ياء لتقرر لها نفس‬
‫حلما‬
‫المصي�ر المحزن الذي تقرر للش�يوعية في روس�يا‪ .‬وقد عرف تاريخن�ا القديم ً‬
‫جليلاً جميلاً َّ‬
‫بشر به «إخناتون»‪ ،‬ولكنه اعتمد في نشره على القوة والعرش‪ ،‬وتجرع‬
‫خاتمة أسيفة دامية‪.‬‬

‫‪417‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أجل‪ ،‬البد من األحالم والمش�روعات لتسير اإلنسانية في طريق الكمال‪ ،‬ولكن‬


‫ال نج�اح لألحلام إلاَّ إذا احترم�ت الطبيع�ة البش�رية وأدركت س�ر حرك�ة القوانين‬
‫االجتماعية‪ .‬وهذه مهمة ال تُتاح لرجل وال لجماعة‪ ،‬ولكن البد من ديمقراطية شاملة‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُينتفع فيها بكل رأي‪ ،‬و ُيستمع لكل صوت‪ ،‬وتُحترم فيها حقوق اإلنسان‬

‫الديمقراطية الشاملة خير جو للتقدم‪ ،‬وأكبر ضمان للنجاح‪.‬‬


‫‪ 3‬أكتوبر ‪1991‬‬

‫‪418‬‬
‫التقدم‬

‫ما تعدنا به األعوام‬

‫كانت مناس�بة ب�دء عام جديد ف�ي والية الرئيس حس�ني مب�ارك فرصة إلحصاء‬
‫اإلنج�ازات في عهده‪ ،‬وهي إنج�ازات حقيقية كثيرة ومتنوعة ف�ي الداخل والخارج‬
‫ملموسا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بشريا فائقًا لو تم في أية أمة بادئة نهضتها َلغَ َّي َر من حالها ً‬
‫تغييرا‬ ‫تجسد جهدً ا ًّ‬
‫ودفع بها إلى مشارف التقدم والتطور‪ ،‬لكنها لألسف الشديد انطلقت من الصفر‪ ،‬أو‬
‫فتردت هياكلها‬
‫مم�ا هو تحت الصفر‪ ،‬انطلقت في أمة أنهكتها الح�روب المتالحقة َّ‬
‫األساس�ية إلى الحضيض‪ ،‬وتوقفت تنميتها وهي في أش�د الحاجة إليها‪ ،‬وران عليها‬
‫الي�أس والس�لبية والتضخ�م‪ ،‬وآف�ات التعص�ب‪ ،‬والمخ�درات‪ ،‬والبطال�ة‪ ،‬وأناني�ة‬
‫االنتهازيي�ن‪ُ ،‬‬
‫وطوق�ت بالطرق المس�دودة‪ ،‬ماذا فعلنا بأنفس�نا؟ وكي�ف هانت علينا‬
‫الحي�اة إل�ى تلك الدرجة؟ ولكن م�ا جدوى العودة إلى أحادي�ث الماضي وأحزانه‪.‬‬
‫وخطاياه؟‬

‫حس�بنا أننا عرفن�ا الداء ال�ذي نعاني من عواقب�ه ومضاعفاته‪ .‬وأنن�ا عرفنا طريق‬
‫الخالص مهما يكن من طوله ووعورته‪ .‬عرفنا وآمنا بقيمة العمل‪ ،‬حتى ولو لم نبذل‬
‫ف�ي س�بيله ما ينبغ�ي أن يبذل‪ ،‬عرفنا معن�ى اإلنتاج وضرورته‪ ،‬بالرغم م�ن أننا مازلنا‬
‫نتردد في تقويم قطاعنا العام وتش�جيع قطاعنا الخ�اص‪ ،‬عرفنا الديمقراطية واحترام‬
‫حق�وق اإلنس�ان‪ ،‬وحكم�ة الركون إلى الش�عب وبع�ث فاعليته حت�ى ونحن نتهيب‬
‫اإلقدام على الخطوات الحاسمة لكسر القيود وإطالق الحريات‪.‬‬

‫‪419‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عرفنا معنى العدل وس�يادة القانون‪ ،‬وإن لم نس�تجب بعد لمطالب رجال العدالة‬
‫المشروعة‪ ،‬ولم نتخل بعدُ عن تقاليدنا الذميمة في الوساطة والتحيز للقادرين‪ .‬نأمل‬
‫عند اس�تقبال العام الجديد القادم لوالية الرئيس‪ ،‬أن يثري جانب الخير باإلنجازات‬
‫الرائعة‪ ،‬وأن يتقهقر جانب الشر برجاله وتقاليده وأساليبه البائدة‪.‬‬

‫‪ 21‬نوفمبر ‪1991‬‬

‫‪420‬‬
‫التقدم‬

‫نحو نظام أفضل‬

‫شهدنا في حياتنا المعاصرة استهانة غريبة بالقوانين‪ ،‬استهانة تبلغ مرحلة التجاهل‬
‫في أحايين كثيرة‪ ،‬مما يش�يع الفوضى ويهز هيبة الدولة من جذورها‪ .‬بعض القوانين‬
‫ال تنفذ عل ًنا‪ ،‬وال يعني أحد بتنفيذها ويلمس ذلك كل ذي عين أو ُأذن‪ ،‬وهي وضعت‬
‫أصلاً لتنظيم العالقات وضبط الطريق‪ ،‬وتقويم النظام وآداب السلوك‪ ،‬وجرت العادة‬
‫ٍ‬
‫موجة عالية من الحماس�ة تناس�ب‬ ‫�ن أي قانون جديد يهل على الناس في‬ ‫أنه عند َس ِّ‬
‫الظ�روف التي أدت إلى إصداره‪ ،‬فيتابع الناس ذل�ك بتحفظ‪ ،‬وفي يقينهم أنها موجة‬
‫عاب�رة ال تلب�ث أن تهدأ وتتراخى ثم تتالش�ى‪ ،‬ويعود كل ش�يء إل�ى أصله‪ ،‬وبمرور‬
‫قوم ّما قانونًا‬
‫األيام ننس�ى التمثيلية‪،‬ويلح الداء من جديد‪ ،‬وتتردد الشكاوى‪ ،‬فيقترح ٌ‬
‫للعالج‪ ،‬وهم ال يعلمون أنه مسنون قائم‪ ،‬ولكنه غارق في النوم واإلهمال‪.‬‬

‫كيف نبعث الحياة في القوانين؟ وكيف نضمن لها الدوام؟‬

‫لعل�ه من الضروري إنش�اء جهاز خاص لمراقب�ة تنفيذ القوانين‪ ،‬وه�و لن ينقذنا‬
‫بأعباء جديدة‪ ،‬فما أكثر الموظفين العاطلين‪ ،‬وتنشأ على مثاله فروع في المحافظات‪،‬‬
‫وتك�ون مهمت�ه مراقبة تنفي�ذ القوانين التي ُس� َّن ْت أصلاً لخدم�ة الجماهير وتخفيف‬
‫معاناته�ا‪ ،‬مثل قواني�ن المرور والنظافة والتلوث والتموي�ن والضوضاء‪ ،‬ويكون من‬
‫سلطانه تنبيه الجهات المسئولة أو رفع األمر إلى من بيده محاسبتها‪.‬‬

‫حقًّ�ا إن الضمان األساس�ي الحترام القان�ون ينبع من داخل الف�رد‪ ،‬لكنه ال ينبع‬
‫تلقائي�ا كأفعال الغرائز‪ ،‬ولكنه يحتاج إلى تربية متواصلة‪ ،‬وقدوة ش�ائعة‪ ،‬وتوجيه في‬
‫ًّ‬
‫‪421‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫البيت والمدرسة‪ ،‬ولكن حتى يتحقق لنا ذلك ويصبح من عادتنا اليومية‪ ،‬فال مفر من‬
‫دفاعا ع عن كرامة الشعب وهيبة الدولة‪.‬‬
‫الرقابة الساهرة والحزم اليقظ‪ً ،‬‬
‫‪ 19‬مارس ‪1992‬‬

‫‪422‬‬
‫التقدم‬

‫نشارككم األحزان‬

‫وقعت حادثة العتبة الخضراء فتناولتها األقالم‪ ،‬ودارت حولها األحاديث‪ ،‬فعرف‬
‫عما يجري في مجتمعنا‪ .‬إنها ليست من حوادث‬
‫من لم يكن يعرف معلومات جديدة َّ‬
‫كثيرا في هذه األيام‪ ،‬ولكنها من حوادث هتك‬
‫االغتصاب التي نطالعها في الصحف ً‬
‫األع�راض الت�ي تقع كل ي�وم في األماك�ن المزدحمة واألوتوبيس�ات المكتظة‪ ،‬وال‬
‫ويغض�ون الطرف عنها وهم غاية في األس�ى‬
‫ُّ‬ ‫يعل�م بها أحد س�وى من يش�اهدونها‪،‬‬
‫والم�رارة‪ ،‬وم�ا عرفت حادث�ة العتبة الخض�راء إلاَّ لما طرأ عليها م�ن مضاعفات لم‬
‫تكن في الحس�بان‪ ،‬كس�قوط الفتاة عل�ى األرض وصراخها‪ ،‬ومبادرة أمين الش�رطة‬
‫إل�ى نجدته�ا بإطالق النار والقب�ض على اثنين من المتهمين‪ ،‬وق�د دل ذلك على أن‬
‫غائبا‪ ،‬كم�ا دلت معاونة الجمه�ور في القبض عل�ى المتهمين‪ ،‬على‬
‫األم�ن ل�م يكن ً‬
‫خاليا من اإليجابية‪ ،‬وال أنس�ى هنا مروءة الس�يدة الش�عبية التي‬
‫أن الجمهور لم يكن ً‬
‫خلعت جلبابها لتستر به الفتاة الملقاة على األرض شبه عارية‪.‬‬

‫كثيرا‬
‫ل�وال تل�ك المضاعفات لم�رت الحادثة دون أن ي�دري بها أحد‪ ،‬كم�ا يقع ً‬
‫داخ�ل األتوبيس�ات‪ ،‬وعلى المحط�ات المزدحمة‪ ،‬حيث يوجد الش�بان المكبوتون‬
‫والمرضى لالحتكاك بالنس�اء وهتك األعراض بكل حيلة وبكل س�بيل‪ .‬إنها مشكلة‬
‫يمكن تتبع جذورها في مش�كالت أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية‪ ،‬كما يمكن‬
‫التركي�ز عل�ى صورته�ا األخيرة‪ ،‬كم�ا تتجلى في أزمة الش�باب المترنح بي�ن البطالة‬

‫‪423‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الس�افرة والمقنعة‪ ،‬والرواتب العاجزة عن تحقيق ذات�ه في حياة معقولة‪ ،‬ها هو يهيم‬
‫على وجهه في األماكن المزدحمة ليش�بع غرائزه بالطرق غير المش�روعة‪ ،‬والتي قد‬
‫تؤدي به إلى السجن أو المشنقة‪.‬‬

‫إن الخالص منه لن يكون إلاَّ باإلصالح الشامل ونجاح التنمية الشاملة‪ ،‬ولن يتم‬
‫ذلك إلاَّ على مدى طويل‪.‬‬

‫ولكن يوجد ً‬
‫أيضا ما يمكن عمله على المدى القصير السريع‪ ،‬مثل وضع األماكن‬
‫المزدحمة تحت رقابة أمنية مس�تمرة‪ ،‬وتخصيص أماكن للنس�اء في األوتوبيس�ات‪،‬‬
‫دفاعا عن النفس‪ ،‬ودعوة الرجال ‪-‬رجال‬
‫وتشديد العقوبات ال تحقيقًا للعدل ولكن ً‬
‫الدين وعلم النفس واالجتماع‪ -‬إليجاد حلول مناسبة لعالج الكبت الجنسي لشباب‬
‫قضت ظروفه السيئة بتأجيل زواجه إلى مشارف الكهولة‪.‬‬

‫وختا ًما أقدم عزائي للجميع‪ ،‬فكلهم ضحايا زمن وظروف قاسية‪.‬‬

‫‪ 9‬أبريل ‪1992‬‬

‫‪424‬‬
‫التقدم‬

‫وليد جديد في حضن الديمقراطية‬

‫أي�دت محكمة األحزاب بمجلس الدولة تأس�يس الحزب العرب�ي الديمقراطي‬


‫الناصري‪ ،‬وجاء في حيثيات الحكم أن الحزب اس�تهل برنامجه بأنَّ هدفه الرئيس�ي‬
‫هو إنشاء الدولة العربية الموحدة‪ ،‬وأن ذلك لن يتحقق إلاَّ بالطريق الديمقراطي‪ ،‬كما‬
‫أنه يرفض العنف والصراع الدموي‪.‬‬
‫�ر له المؤمنون بالديمقراطية والمتطلعون‬
‫إن تأس�يس أي حزب جديد َحدَ ٌث ُي َس ُّ‬
‫إل�ى اس�تكمال أبعاده�ا وتحقي�ق مثله�ا‪ ،‬ولك�ن لعل�ه يوج�د لديهم أكثر من س�بب‬
‫للترحي�ب بهذا الحزب الجديد خاصة‪ ،‬فهو بغير ش�ك يوس�ع القاع�دة الديمقراطية‬
‫والتعددية الحزبية‪ ،‬وهو حزب حقيقي‪ ،‬بمعنى أنه لم يدخل الحياة السياس�ية بمجرد‬
‫مجموع�ة من المبادئ النظرية‪ ،‬ولكنه يدخلها بقاعدة ش�عبية ربما ال يبلغ حجمها ما‬
‫يتصوره الناصريون عنها‪ ،‬ولكنها ال تتالش�ى في العدم كما يتصور أعداؤها‪ ،‬والحق‬
‫متحمس�ا برغم كل ما يمكن أن ُيقال‪ ،‬باإلضافة‬
‫ً‬ ‫أننا نصادف هنا وهناك ش�با ًبا ناصريا‬
‫اعوجاجا في الحياة الحزبي�ة‪ ،‬إ ْذ لم يكن من‬
‫ً‬ ‫إل�ى ذل�ك فقد صحح الحزب الجدي�د‬
‫المنط�ق أن تُمثَّ�ل جميع األجنحة بأح�زاب و ُيحرم من ذلك من ينتس�بون إلى رجل‬
‫الثورة األول‪ ،‬الذي انبعثت من انتصاراته وهزائمه‪ ،‬وإيجابياته وسلبياته‪ ،‬أكثر الرؤى‬
‫السياسية التي جاءت بعده‪.‬‬
‫وق�د قام برنامج الحزب المعل�ن على ُمروءة وتطور محمودي�ن‪ ،‬فاعتماده على‬
‫الديمقراطي�ة نص�ر له ولها‪ ،‬وآية على تفاعله مع العص�ر‪ ،‬ويقال مثل ذلك على إدانته‬
‫للعنف والصراع الدموي‪.‬‬
‫‪425‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حقًّ�ا إننا نرح�ب بالحزب الجدي�د‪ ،‬ونرجو أن يس�هم في إطار النش�اط الحزبي‬
‫المش�روع ف�ي بعث صحوة سياس�ية وب�ث روح إيجابي�ة تدفع بالوطن إل�ى الصراع‬
‫السياسي المشروع‪ ،‬وتعاون على حل مشكالته‪.‬‬

‫‪ 28‬مايو ‪1992‬‬

‫‪426‬‬
‫التقدم‬

‫حُ لم‬

‫م�ن حق�ي أن أحلم‪ ،‬وقد يكون حلم اليوم واقع الغ�د‪ ،‬وهذا الحلم ليس جديدً ا‪،‬‬
‫فقد سبق أن أعلنته كرأي في حوار بمجلة «المصور» الغراء عام ‪ 1988‬على ما أذكر‪،‬‬
‫ولع ِّلي لم أعد أتذكر الترتيب الذي عرضته به‪ ،‬ولكن المضمون أهم من الشكل‪ ،‬مع‬
‫َ‬
‫االعتذار مقد ًما عن أية خيانة للذاكرة‪.‬‬

‫اآلن إليكم عناصر الحلم أو الرأي‪:‬‬

‫أولاً ‪ -‬تلغى جميع القوانين االس�تثنائية‪ ،‬وتُطلق حرية تكوين األحزاب دون قيد‬
‫أو شرط‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬تؤلف لجنة ممثلة لجميع األحزاب والهيئات لوضع مشروع دستور جديد‬
‫ً‬
‫يجري عليه االستفتاء في حينه‪.‬‬

‫ثالثً�ا‪ -‬يكلف الجيش‪ -‬إضافة إل�ى واجبه في الدفاع عن الوطن‪ -‬بوظيفة ال تقل‬
‫خطورة عن ذلك‪ ،‬وهي حماية الدستور من العبث‪ ،‬ضمانًا للحرية الداخلية‪ ،‬وتداول‬
‫تبعا لمشيئة الشعب الحرة‪.‬‬
‫السلطة ً‬

‫رابعا‪ -‬يستقل رئيس الجمهورية عن جميع األحزاب‪ ،‬ويكون من أهم صالحياته‬


‫ً‬
‫حماية الدستور‪ ،‬باعتباره رمز االلتقاء بين الشعب والجيش‪.‬‬

‫‪427‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫خامس�ا‪ -‬يك�ون االنتخاب بالقائمة النس�بية‪ ،‬بمعن�ى أن تعتب�ر الجمهورية دائرة‬


‫ً‬
‫واح�دة‪ ،‬وتح�دد المقاعد لكل حزب بحس�ب األص�وات التي حص�ل عليها‪ .‬وهي‬
‫أسلم طريقة ال يهدر فيها صوت واحد‪ ،‬كما أنها أصلح وسيلة لحماية األقليات‪.‬‬

‫سادس�ا‪ -‬تعط�ى األح�زاب فرصة للدفاع ع�ن مبادئه�ا‪ ،‬وتُمنح فرصة متس�اوية‬
‫ً‬
‫بالتليفزيون‪.‬‬

‫سابعا‪ -‬في أثناء ذلك تستمر اإلدارة المصرية في تنفيذ التنمية الشاملة‪ ،‬ويتحمل‬
‫ً‬
‫مسئولية ذلك من يعينه رئيس الجمهورية لتلك المهمة‪.‬‬
‫‪ 20‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪428‬‬
‫التقدم‬

‫إلى الحكماء‬

‫الوس�اطة ال يصح أن تتوقف‪ ،‬وإذا أباها أحد الطرفين ألس�باب تتعلق بمسئوليته‬
‫العام�ة فيج�ب أن تس�تمر م�ع الط�رف اآلخر‪ ،‬والس�عي للخي�ر ال يقب�ل التجميد أو‬
‫التأجي�ل‪ ،‬وال يحت�اج الس�تئذان‪ ،‬فه�و واج�ب الفضالء نح�و دينه�م ودنياهم‪ ،‬وما‬
‫حفزهم إلى الس�عي الطيب إلاَّ ما يش�غل المخلصين من أبن�اء هذا الوطن من هموم‬
‫محزنة‪ ،‬كس�فك الدماء‪،‬وخراب العمران‪ ،‬وهز االستقرار‪،‬وال عذر لمن يتراجع عن‬
‫فعل الخير وهو قادر عليه لمكر سيئ أو إغراق في خصومة ال ُت َقدِّ ُر العواقب‪.‬‬

‫فلجنة الحكماء التي تجمع بين نخبة من رموز اإلسلام الحقيقي تحمل في هذا‬
‫الظرف الذي نعيش�ه مس�ئولية كبيرة‪،‬وهم أقدر الناس عل�ى مخاطبة الطرف اآلخر‪،‬‬
‫وأبعد عن الشبهات وسوء الظن‪ ،‬وأعلمهم بمضمون الخالفات منذ القدم‪ ،‬ما يعقل‬
‫منه�ا وم�ا ال يعقل‪ ،‬وأول ما يجب االتفاق عليه ه�و الكف عن العنف‪ ،‬وإعالن ذلك‬
‫كي تتخذ اللجنة الموقرة من هذا اإلعالن وسيلة مقنعة للتوجه إلى الطرف األول‪.‬‬

‫إن المجتم�ع الس�ليم يتس�ع لجمي�ع اآلراء بش�تى درجاته�ا م�ن االعت�دال‬
‫والتطرف‪،‬ولكن الجدل فيه يقوم على الحوار والعقل‪ ،‬واحترام حقوق اإلنسان‪ ،‬وال‬
‫يه�دم بنيان�ه الس�ليم إلاَّ العن�ف أو اإلرهاب‪ ،‬وهو ملع�ون من أية جهة أتى‪ ،‬رس�مية‬
‫كانت أو أهلية‪.‬‬

‫‪429‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫إذن يجب أن يستمر رموز اإلسالم الحقيقي في سعيهم‪ ،‬وألاَّ يعدلوا عن هدفهم‬
‫مهم�ا يعترضه�م م�ن عقب�ات‪ ،‬ولن يكون س�عيهم موضع س�ؤال مخل�ص‪ ،‬بل لعل‬
‫السؤال هو‪ :‬لماذا تأخر المسعى كل ذلك الوقت؟‬

‫‪ 17‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪430‬‬
‫التقدم‬

‫أيام الوحدة الوطنية الصامدة‬

‫ش�د م�ا تغيرت الظ�روف واألحوال‪،‬وه�ي تتحول كل ي�وم من ح�ال إلى حال‪،‬‬
‫لعل�ه لم يبق م�ن جيلنا إلاَّ اآلحاد‪ ،‬أو على األكثر عش�رات‪ .‬تراجع�ت قيم وتقدمت‬
‫قيم‪ ،‬تالش�ت أحالم وترعرعت آمال‪ .‬حق لنا أن نراق�ب الدنيا من بعيد‪ ،‬وأن نتابعها‬
‫في هدوء مس�تعينين بضب�ط النفس واإليواء في مالذ الحكم�ة‪ ،‬ولكن عندما يطالعنا‬
‫يوم ‪ 23‬أغس�طس في األي�ام فنذكر بعمق وحن�ان الزعيمين الخالدين س�عد زغلول‬
‫ومصطف�ى النحاس‪ ،‬نرجع في نزه�ة عارضة إلى الزم�ان األول‪ ،‬ويقتحمنا الماضي‬
‫ُقاوم ورغبة ال تُنازَ ع‪.‬‬
‫فينتزعنا من هموم الحاضر بقوة ال ت َ‬
‫نرج�ع إل�ى ذكرى الرجلي�ن اللذين عرفنا ف�ي رحابهما حقًّا وصد ًق�ا بأننا مصدر‬
‫الس�لطات‪ ،‬وأننا فوق الحكومة‪ ،‬وأننا نجيء بالحكام من الش�ارع لنوليهم الس�لطة‪.‬‬
‫نرجع إلى أيام الوح�دة الوطنية الصلبة الصامدة المتحدية لمكر الماكرين وضربات‬
‫الحانقي�ن‪ .‬نرجع إلى أيام كنا ندعى فيه�ا إلى االجتماع بالزعيم وهو رئيس للوزراء‪،‬‬
‫ليسمع رأي الطلبة في أزمة نشبت بينه وبين الملك‪ ،‬أو بينه وبين اإلنجليز‪ .‬نرجع إلى‬
‫زمن الهتاف وهو ينتش�ر كاألغاني مش�يدً ا بحياة الوطن والحرية والدستور‪ ،‬وسقوط‬
‫االحتلال واالس�تبداد‪.‬نرجع إل�ى ذكري�ات الخلاف ف�ي ال�رأي َّإب�ان احتدامه في‬
‫البرلمان والصحف مشتعلة بالصدق والبالغة والتربية الوطنية‪ .‬نرجع إلى متابعة آثار‬
‫ذلك كله في نفس العامل والفالح والطالب والموظف‪ ،‬فما منهم إلاَّ ُم ْن َتم متحمس‪،‬‬

‫‪431‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ولي�س بينهم صامت‪ ،‬والكل يعمل في ظل دس�تور مرم�وق‪ ،‬وقضاء مقدس‪ ،‬ودولة‬
‫ذات مهابة‪ ،‬وشعب حريص على النضال‪.‬‬

‫ً‬
‫تاريخا طيب الس�معة‪ ،‬وأن‬ ‫ي�ا زعيم�ي الر ِ‬
‫اح َل ْين‪ :‬كان المظن�ون أنكما أصبحتما‬ ‫َّ َّ‬
‫رس�التكما ق�د انتهت بعد أن أدت م�ا عليها‪ ،‬ولكن العالم فاجأن�ا بأعاجيب جديدة‪،‬‬
‫فأص�در أقس�ى حك�م عرفه الزم�ن على االس�تبداد والقه�ر‪ ،‬ودعا بكل ق�وة للحرية‬
‫واحترام حقوق اإلنس�ان ‪-‬بما فيها العدال�ة االجتماعية‪ .‬هكذا عادت َم ِ‬
‫بادئ ُُكما هد ًفا‬
‫وغاية‪ ،‬وأملاً لكل من يناضل اليوم أو يتط ّلع إلى غد أفضل‪.‬‬

‫الجليلين‪ :‬قد يلتقي الشتيتان بعدما يظنان كل الظن ألاَّ تالقيا‪.‬‬


‫ْ‬ ‫زعيمي‬
‫ّ‬ ‫يا‬

‫‪ 2‬أغسطس ‪1992‬‬

‫‪432‬‬
‫التقدم‬

‫اللص الشريف‬

‫هو أس�طورة ش�عبية تدور حول بطل ش�عبي تخلقه الحقيقة والخيال‪ ،‬مثل روبن‬
‫هود‪،‬وأدهم الش�رقاوي‪ ،‬وهو على مس�توى الواقع لص وقاطع طري�ق وقاتل ً‬
‫أيضا‪،‬‬
‫غير أنه يختار ضحاياه من بين األغنياء والمنتمين إلى الجاه والس�لطان‪ ،‬ويش�رك في‬
‫مغانمه وأسلابه الفقراء والمس�اكين‪ ،‬وقد ُوجد عادة في عهود الظالم والقهر‪ ،‬حين‬
‫الحكام بالناس ويستهينون باألرواح‪ ،‬وينهبون بشتى الوسائل المشروعة وغير‬
‫يستبد ُ‬
‫المشروعة األموال واألمالك‪ ،‬من أجل ذلك يغفر الناس له خطاياه‪ ،‬و ُيؤثرونه بالحب‬
‫لصا فهو يس�رق الذين يسرقونهم‪ ،‬وإنْ‬
‫والوالء‪ ،‬ويتس�ترون عليه أينما كان‪ ،‬فإن يكن ًّ‬
‫يك�ن قاتلاً فه�و يقتل من يعبثون بأرواحه�م‪ ،‬وفي النهاية فهو ال يض�ن عليهم بخير‪،‬‬
‫وإذا انته�ى إل�ى مصيره المحتوم فقُ ب�ض عليه ُ‬
‫وأعدم بكاه الباك�ون وحزنوا عليه من‬
‫أعماق قلوبهم‪ ،‬ورثوه بالمواويل التي يرددونها جيلاً بعد جيل‪ ،‬وهذا بخالف اللص‬
‫الع�ادي والقاتل العادي وقاطع الطريق العادي‪ ،‬فإنهم يبوءون باالحتقار والكراهية‪،‬‬
‫ويعاون األهالي الشرطة في القبض عليهم أو محاصرتهم‪.‬‬

‫ث�م يج�يء مع الزم�ن أبطال الش�عب الحقيقي�ون ممثلين ف�ي زعمائ�ه الوطنيين‬
‫واالجتماعيين‪ ،‬فيقودونه بالقدوة الصالحة‪ ،‬والشجاعة النادرة‪ ،‬والقيم السامية‪ ،‬نحو‬
‫األفضل من السلوك والحياة‪ .‬وحتى في تلك الحال فإن عامة الشعب ال تنسى بطلها‬
‫القديم‪ ،‬اللص الشريف‪ ،‬بطل الزمن الردئ والقهر المرير‪.‬‬

‫‪ 16‬يونيو ‪1994‬‬
‫‪433‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫التغيير المراد‬

‫الحياة تتغير‪ ،‬هي انتشار ونمو‪ ،‬وانتقال من حال إلى حال‪ ،‬نقيض ذلك هو الموت‪،‬‬
‫فهو الجمود المطلق‪ ،‬غير أن التغيير ليس من قبيل عشق الوجوه الجديدة‪ ،‬وقد يكون‬
‫في تبديل الوجوه أو بعضها خسارة ال شك فيها‪ ،‬أو جحود للجد واالجتهاد والسلوك‬
‫تغييرا متواصلاً في الرؤية والهدف‬
‫الطيب‪ ،‬ولكن الحياة الجديرة بهذا االسم تتطلب ً‬
‫والوس�يلة‪ ،‬كم�ا تقتضي مرونة ف�ي األداء والتكيف والتجربة‪ ،‬بمعن�ى آخر يجب ألاَّ‬
‫نجري وراء تغيير الوزراء‪ ،‬إذ أن الذي يهمنا هو تغيير الحياة‪.‬‬

‫أصبحن�ا نتله�ف على أن تصل ثم�رة اإلصالح االقتصادي إل�ى الرجل العادي‪،‬‬
‫الى المواطن المطحون‪ ،‬إلى س�كان المناطق العش�وائية‪ ،‬كي يسترد مجتمعنا صحته‬
‫وعافيته وبسمته التاريخية‪.‬‬

‫وي�رى كثي�رون ‪-‬ون�رى معه�م‪ -‬أن اإلصالح السياس�ي ط�ال توقف�ه‪ ،‬واكتنفته‬
‫دس�تورا جديدً ا‪،‬‬
‫ً‬ ‫االس�تثناءات م�ن كل جان�ب‪ ،‬وأن مص�ر العريق�ة الطيب�ة تس�تحق‬
‫وحقو ًقا جديدة‪ ،‬وسلطات شعبية هي جديرة بها كل الجدارة‪.‬‬

‫أشد الحاجة إلى وثبة في اإلنتاج نقضي بها على البطالة‪ ،‬ونبعث اآلمال‬
‫وإننا في ّ‬
‫في حياة الشباب‪.‬‬

‫كما نحتاج إلى همة مضاعفة لتطويق الفس�اد والمفس�دين‪ ،‬وإع�ادة القانون إلى‬
‫عرشه‪.‬‬

‫‪434‬‬
‫التقدم‬

‫كثي�را إلى سياس�ة رش�يدة تعال�ج بنظرتها الش�املة اإلره�اب‪ ،‬وترجع‬


‫ً‬ ‫ونتله�ف‬
‫الضالين إلى حظيرة الرشاد والدين الحق‪.‬‬

‫حقًّا نحن نتطلع إلى التغيير‪،‬ولكنه تغيير الحياة ال تغيير الوجوه‬

‫‪ 2‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪435‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫تحت مستوى الفقر‬

‫عند مناقش�ة الموازنة العامة والخطة الخمس�ية استش�هد األس�تاذ «خالد محيي‬
‫الدي�ن» رئي�س حزب التجم�ع بتقرير هيئ�ة عالمي�ة ورد فيه أن ‪ %40‬م�ن المصريين‬
‫يعيش�ون تحت مس�توى الفقر‪ ،‬وهي حال يتعذر تصور تعاستها في نواحي المسكن‪،‬‬
‫والمأكل‪ ،‬والملبس‪ ،‬والحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية‪ ،‬بل عدم‬
‫وج�ود الص�رف الصح�ي أو توافر الم�اء النقي‪ ،‬هي حال تعيس�ة حقًّا‪ ،‬تفس�ر ما نقرأ‬
‫أحيانًا من إحصائيات صحية عن األنيميا وانتشارها بين األطفال‪.‬‬

‫م�ا كان يج�ب أن توجد مثل تل�ك اإلحصائية بعد قي�ام ثورة اجتماعي�ة بأربعين‬
‫احتجاجا على الفق�ر والجهل والمرض‪ ،‬وبعد م�ا ُن ِّف َذ من‬
‫ً‬ ‫عا ًم�ا‪ ،‬ث�ورة ما قام�ت إلاَّ‬
‫مش�روعات زراعي�ة وصناعية‪ ،‬ومن إصالح زراعي‪ ،‬وتأمي�م صناعي وتجاري‪ ،‬كان‬
‫المتوق�ع أن تتق�ارب الدخول‪،‬وت�ذوب الطبقات‪ ،‬وأن يتوافر حد أدنى من المعيش�ة‬
‫حاص َر الفقر بمعناه التقليدي‪ ،‬و ُي ْم َحى من الوجود ما يسمى‬
‫لجماهير الشعب‪ ،‬وأن ُي َ‬
‫«تحت مستوى الفقر»‪.‬‬

‫ماذا جرى فوق أرض مصر حتى وصلنا إلى هذه النهاية غير المتوقعة؟‬

‫ال مفر من الرجوع إلى ذكريات أسيفة‪:‬‬

‫ذك�رى تذكرن�ا للديمقراطي�ة‪ ،‬وتكريس�نا للدكتاتوري�ة وتوابعها من س�لوكيات‬


‫العسف والقهر واالستهتار بحقوق اإلنسان‪.‬‬

‫‪436‬‬
‫التقدم‬

‫وذكرى الحروب التي اس�تدعيناها أو انس�قنا إليها بالقرارات المتسرعة الفردية‪،‬‬


‫وما جلبت علينا من نكس�ات وخراب في األموال واألخالق‪ ،‬وذكرى الفس�اد الذي‬
‫جحيما ومعاناة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ثريا‪ ،‬وللشعب‬
‫عالما ًّ‬
‫عشش في إداراتنا وخططنا‪ ،‬فخلق لالنتهازية ً‬
‫وذكرى أخطاء االنفت�اح التي زادت االنتهازية ثرا ًء وعد ًدا‪ ،‬وضاعفت من معاناة‬
‫الفقر‪.‬‬

‫إحصائي�ة أليمة وذكريات أليمة‪ ،‬ولكن يبقى لنا اجتهاد المخلصين وإرادة أنصار‬
‫الحضارة والحرية‪ ،‬ومهما يكن من أمر فال يجوز أن ينضب لنا أمل‪.‬‬

‫‪ 24‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪437‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حول حرية الرأي‬

‫الحري�ة ثمرة جهاد األحرار‪ ،‬ال تج�يء نتيجة لوجود المجتمع الحر‪ ،‬ولكنها هي‬
‫قديما‬ ‫�ر َدامٍ‪ ،‬لم َي ُك َّ‬ ‫ٍ‬
‫�ف ً‬ ‫الت�ي تخل�ق المجتم�ع الحر‪ ،‬وهي تخلق�ه من خالل جهاد ُم ٍّ‬
‫وحديثًا عن تقديم الش�هداء والضحايا‪ ،‬وهل أطلت على الحضارة األفكار الجديدة‬
‫المتحدي�ة ّاّإل في عصور الظالم ومحاك�م التفتيش؟ وهل كان التفكير الحر إلاَّ صنو‬
‫التع�رض للهالك المبين؟ فال خ�وف على الحرية ما ُوجد المفك�رون األحرار‪ ،‬وال‬
‫خ�وف عل�ى الحري�ة طالما حم�ل المفك�رون أمانته�م وأدوا واجبهم ول�م يرهبهم‬
‫المصير‪.‬‬

‫وال ع�ذر لصامت أو متراجع أو متردد اعتاللاً بفس�اد المناخ‪ ،‬وس�طوة التقاليد‪،‬‬
‫وتش�دد القوانين‪ ،‬وتمادي اإلرهاب‪ ،‬فقد يوجد هذا وأكثر منه‪ ،‬وقد يؤيد بالخرافات‬
‫م�ن كل ن�وع‪ ،‬وال بأس من النقد لكل انحراف‪ ،‬والحملة على كل س�لبية‪ ،‬ومهاجمة‬
‫جميعا‪ ،‬ال بأس من ذلك‪ ،‬بل يجب ألاَّ نس�كت عنه وال نتهاون‬
‫ً‬ ‫الرجعي�ة في مظانه�ا‬
‫في�ه‪ ،‬ونعتب�ره من أهدافنا الت�ي ال نحيد عنها‪ ،‬ه�ذا مطلوب‪ ،‬بل ه�ذا واجب‪ ،‬ولكنه‬
‫ال يعن�ي أن نؤج�ل التفكي�ر الحر‪ ،‬أو نتراخى عن�ه أو نضن علي�ه بالتضحية الواجبة‪،‬‬
‫المجتم�ع يتح�رر ال بتغيير قوانين�ه وتقاليده‪ ،‬ولك�ن قوانينه وتقاليده تتغي�ر بالتفكير‬
‫الحر‪ ،‬وبفضل مفكريه األحرار‪.‬‬

‫وال تق�دم ف�ي العل�م أو الفلس�فة أو الفن بغي�ر الفكر الح�ر‪ ،‬الفكر الح�ر بمعناه‬
‫الصادق‪ ،‬أي الذي يس�عى بكل سبيل نحو الحقيقة لخير البشرية وتقدمها‪ ،‬ولن نقف‬
‫‪438‬‬
‫التقدم‬

‫أم�ام األفكار المنحرفة التي تفتعل اإلثارة أو التج�ارة أو لفت النظر‪،‬وهذه ال تحتاج‬
‫إلى قوانين ت َْر َد ُع َها‪ ،‬بل إلى أفكار صحيحة ترد عليها وتكشف زيفها‪.‬‬

‫خالص�ة القول‪ :‬إن مجتمعن�ا في حاجة إلى الحرية‪ ،‬وتحقي�ق مطالبه بيدنا برغم‬
‫كل شيء‪.‬‬

‫‪ 1‬يوليو ‪1992‬‬

‫‪439‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫المواطن قادم‬

‫كيف نتصور المواطن العادي كما ينبغي له أن يكون؟ كيف نتصوره دون إغراق‬
‫عاديا يمك�ن أن يتكرر في‬
‫ف�ي المثالي�ة أو إف�راط في الحل�م؟ كيف نتصوره مواط ًن�ا ًّ‬
‫الماليين من شباب األمة؟‬

‫لع�ل تكوينه يبدأ في األس�رة‪ ،‬أو هذا ما يجب‪ ،‬ولكني س�أتخطى تلك المرحلة‪،‬‬
‫التي يؤدي فيها الحظ والمصادفة أكبر دور‪ ،‬لنتخطاها لنبدأ بالمدرس�ة وبمرحلة من‬
‫أخطر مراحلها‪ ،‬وهي مرحلة التعليم العام‪.‬‬

‫ف�ي تل�ك المرحلة يتلقى المواط�ن الصغير أول معارفه الحديث�ة‪ ،‬وهذا أمر مهم‬
‫وأس�اس من أس�س تكوين�ه العقل�ي‪ ،‬ولك�ن التربية في تل�ك المرحلة تتس�اوى في‬
‫أهميتها مع التعليم‪ ،‬وتزيد هنا تشكيل عناصر الشخصية من مبادئ الدين الصحيحة‪،‬‬
‫والمب�ادئ الوطني�ة‪ ،‬وهنا يكتس�ب المواطن الصغير ال�ذوق الفني‪،‬وعش�ق الثقافة‪،‬‬
‫وتكش�ف مواهبه الكامن�ة‪ .‬هنا ُيعاي�ش المثل العلي�ا والقدوات العظيم�ة‪ ،‬ويصادق‬
‫أعظم الرجال والنساء في تاريخه وعصره‪ ،‬وبذلك يتم البناء من جميع أبعاده الدينية‬
‫والسياس�ية واألخالقي�ة والفنية والفكرية‪ ،‬ويصب�ح لحياته معنى وه�دف ومثال في‬
‫صحبة أعظم األفكار وأنبل العواطف‪.‬‬

‫إن رج�ال التربي�ة يعرف�ون معنى م�ا أقول خي�ر المعرفة‪ ،‬ويعلمون وال ش�ك أن‬
‫مدارس�نا كانت تيس�ره ألبنائنا في الماض�ي لدرجة محمودة‪ ،‬وأنها تس�تطيع أن تعيد‬
‫التجربة بأسلوب أفضل مستفيدة من تجارب السابقين في هذا المجال‪.‬‬
‫‪440‬‬
‫التقدم‬

‫ولكيال تتوقف عملية التكوين والبناء عند التعليم العام‪ ،‬لكي تس�تمر طيلة العمر‬
‫وتنمو مع الزمن‪ ،‬فيجب أن تكملها اإلذاعة (المس�موعة والمرئية) وأن تتناغم معها‬
‫في وحدة ثقافية متكاملة‪.‬‬

‫نري�د ُأم�ة من األصح�اء بدنًا وعقلاً وذو ًق�ا ُ‬


‫وخ ُلقًا وعقيدةً‪ ،‬كي تُت�اح لنا حضارة‬
‫تحظى بتلك الصفات اإلنسانية الرفيعة‪.‬‬
‫‪ 8‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪441‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مدرسة الوفد‬

‫في دنيا السياس�ة نعاص�ر القادة ونتعلم منه�م‪ ،‬وقد عاصرت ً‬


‫رهط�ا من الزعماء‬
‫وهبن�ي كل منهم م�ن فيضه َنفْحة أو أكث�ر‪ ،‬وليس اليوم بالفرصة المناس�بة للحديث‬
‫جميع�ا‪ ،‬ولكنه مناس�بة تاريخية للحديث ع�ن اثنين جليلين منهم هما‪ :‬س�عد‬
‫ً‬ ‫عنه�م‬
‫زغل�ول ومصطفى النح�اس‪ .‬والرجالن يتالقي�ان بمزايا ويتفردان بمزاي�ا‪ ،‬ولكنهما‬
‫ترعرت‬
‫ُ‬ ‫معا مدرس�ة وطنية سياسية واحدة‪ ،‬فيها نَشَ ْ�أ ُت‪ ،‬وفي تاريخ كفاحها‬
‫يكونان ً‬
‫عرفت القدوة في كل نبيل وطيب في الحياة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ونضجت‪ ،‬ومن رمزيها‬
‫ُ‬
‫ولعل�ه م�ن المفيد أن أفضي إليك ببعض ما تعلمته في تلك المدرس�ة ‪-‬مدرس�ة‬
‫الوفد الخالدة‪:‬‬

‫‪ -1‬فيه�ا تش�رب قلبي بح�ب مصر وأهله�ا وأرضها وجوها وتراثه�ا وحاضرها‬
‫ومستقبلها‪.‬‬

‫آمنت من األعماق بوحدتها الوطنية‪ ،‬وبأن أقباطها ومس�لميها ش�عب‬


‫‪ -2‬وفيه�ا ُ‬
‫وماض واحد‪ ،‬وحاضر واحد‪ ،‬ومصدر واحد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫واحد‪ ،‬وعنصر واحد‪،‬‬
‫‪ -3‬وفيها عش�قنا االس�تقالل وجعلناه ُج َّ‬
‫�ل أمانينا‪ ،‬ولم نتردد ف�ي التضحية بأي‬
‫ٍ‬
‫غال في سبيله‪.‬‬

‫‪ -4‬وفيها آمنا بالش�عب وبحقه كمصدر للسلطات يو ِّلي الحكام ويعزلهم‪ ،‬وبين‬
‫هذا وذاك يرقبهم ويحاسبهم‪ ،‬وال كرامة لشعب إنْ مس حقه ذاك‪.‬‬
‫‪442‬‬
‫التقدم‬

‫‪ -5‬وفيها تألفت قيم الفكر الحر‪ ،‬وتدفقت منه ينابيع األدب والفن‪.‬‬

‫‪ -6‬وفيها تحمسنا لنشاط الرأسمالية الوطنية ونشاطها الشريف المشروع‪.‬‬

‫ازده�ارا يقوم عل�ى حب الله والن�اس والتفتح‬


‫ً‬ ‫‪ -7‬وفيه�ا ازده�ر إيمانن�ا الديني‬
‫لحضارات البشر‪.‬‬

‫‪ -8‬وفيها شاهدنا أول ممارسة للعدالة االجتماعية في معاملة الفالحين والعمال‬


‫وذوي الدخل المحدود‪.‬‬

‫‪ -9‬وفيها تولد ذلك الحب الصافي العميق بين الش�عب وزعيميه‪ ،‬وهو حب لم‬
‫ُيعرف إلاَّ في سير العشاق والصوفية‪.‬‬

‫وأخيرا‪..‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫�ن ن ََز َحا‬
‫قرب�ت َم ْ‬
‫ُر َّب ذك�رى ّ‬ ‫اذك����روا ذكْ َ‬
‫���رنَ���ا عهدكم‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫دحا‬ ‫وعاف ال َق َ‬ ‫َشر َب الدمع َ‬ ‫صب�ا إذا غ َّن�ى بك�م‬
‫واذك�روا ًّ‬
‫(‪)1‬‬

‫‪ 19‬أغسطس ‪1992‬‬

‫((( البيتان للشاعر «مهيار الديلمي» من شعراء العصر العباسي‪ ،‬توفي ‪ 428‬هـ ‪1037 -‬م‪.‬‬
‫(المحرر)‪.‬‬
‫‪443‬‬
‫الطوفان من جديد‬

‫إن�ه عالم واح�د برغم خالفات�ه وتناقضاته واختلاف درجاته‪ .‬فه�و عالم واحد‬
‫عن طريق وس�ائل االتص�ال‪ ،‬تتحاور أجناس�ه ُ‬
‫وأممه‪ ،‬ومش�كالته وآماله وآالمه‪ ،‬ال‬
‫َي ْخ َف�ى عل�ى أحد من أبنائه َت َق ُّد ُم المواق�ع المتقدمة منه بقوة تثي�ر الذهول‪ ،‬وال ت ََأ ُّخر‬
‫األ َس�ى؛ لذلك يحق للمتفائ�ل أن يتفا َءل‪ ،‬كما قد‬ ‫المواق�ع المتأخ�رة منه بدرجة تثير َ‬
‫ُي ْع َذ ُر المتشائم إذا تشاءم‪ ،‬أما الحياة فتمضي في طريقها ال تحول بصرها عن أهداف‬
‫الفوز والنصر‪.‬‬

‫كثيرا الظلم والبغ�ي والعدوان واألناني�ة‪ ،‬وكان علينا أن نذكر ً‬


‫أيضا‬ ‫ونح�ن نذكر ً‬
‫المعون�ات والق�روض‪ ،‬وإهداء الخب�رات والمعارف‪ ،‬والدفاع عن حقوق اإلنس�ان‬
‫بالقلب واللسان واليد أحيانًا‪.‬‬

‫ولك�ن على العال�م الثالث أن يؤمن ب�أن دوره أكبر من مج�رد االنتظار ومد اليد‬
‫واستجداء أهل العلم والخبرة‪.‬‬

‫إن�ه يمل�ك أكث�ر من األعداد البش�رية والم�واد األولي�ة‪ .‬لقد أثبت أن�ه قادر على‬
‫التضحي�ة والفداء‪ ،‬فه�و يملك اإلرادة والمثل األعلى‪ ،‬ويس�نده ت�راث يقدس القيم‬
‫والعل�م والعمل‪ .‬عليه أن يؤجج في روحه أس�مى ما يمتلك لينطلق بعدها في طريق‬
‫الحياة الالنهائي‪.‬‬

‫‪444‬‬
‫التقدم‬

‫وعلي�ه أن يعل�م أن�ه يعيش ف�ي عصر طوف�ان جديد‪ ،‬وأنه ل�ن ينجو في الس�فينة‬
‫الم َ�ز ّود باإليم�ان والعل�م والعم�ل‪ ،‬المصم�م عل�ى تعمي�ر الوج�دود‪ .‬والوي�ل‬
‫إال ُ‬
‫للمتخلفين‪.‬‬

‫‪ 11‬ديسمبر ‪1993‬‬

‫‪445‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫عهد جديد‬

‫إن حك�م المحكم�ة الدس�تورية لي�س إدان�ة ألس�لوب انتخابي معين فحس�ب‪،‬‬
‫ولكنه في الواقع إدانة تاريخية لالنتهازية السياس�ية‪ ،‬ودعوة صريحة حاسمة الحترام‬
‫الدستور‪ ،‬وإرساء لدعامة االستقرار وسيادة القانون وهيبة الدولة‪ ،‬وقد هيأ فرصة نادرة‬
‫لكل ذي بصيرة إلعادة النظر في حياتنا السياس�ية وتنقيتها من الس�لبيات والشوائب‪،‬‬
‫وبناء أس�اس جديد للديمقراطية والش�رعية‪ ،‬والتالحم الفعال مع الواقع‪ ،‬والتصدي‬
‫للمشكالت االقتصادية واالجتماعية بالشجاعة الواجبة والعزيمة الصادقة‪.‬‬

‫ح�ذار أن نقن�ع بتصحيح قانون االنتخاب لنعود مرة أخرى إلى نظام جامد يعمل‬
‫قليلاً ويتكلم ً‬
‫كثيرا‪ ،‬في غمار أغلبية ال مبالية من الصامتين‪ ،‬وجماعة من المتربصين‬
‫المستهترين بالقانون‪.‬‬

‫اآلن الفرصة ُم َه َّي َأة للرئيس ليعتصم بالرياسة وحدها ويتخلى عن َو ْض ِعه الحزبي‪،‬‬
‫ليض�ع صالحياته في خدم�ة من يفوز بثق�ة الجماهير‪ ،‬ويكون الرم�ز الثالث لإلرادة‬
‫الشعبية‪ ،‬والحامي للدستور‪.‬‬

‫اآلن الفرصة مناس�بة إللغاء القوانين االس�تثنائية‪ ،‬واحترام حقوق اإلنس�ان فيما‬
‫يتعلق بقانون األحزاب دون وصاية أحد‪.‬‬

‫اآلن يجب أن نقدس حرية االنتخاب‪ ،‬وأن نوفر لها مختلف الضمانات الضرورية‬
‫لنسمع صوت الشعب الذي ُح ِر َم من إعالنه ً‬
‫دهرا طويلاً ‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫التقدم‬

‫س�حريا لحل المشكالت وتخطي العقبات‪ ،‬ولكنه‬


‫ًّ‬ ‫مفتاحا‬
‫ً‬ ‫ال أقول إن ذلك يهبنا‬
‫وح ْمل األمانة الرقابة والمشاركة الشعبية‪.‬‬
‫يهيئ أفضل جو للعمل َ‬
‫ِّ‬
‫يجب أن نتغير‪ ،‬وأن ننفض عن أن ُْفس�نا الخوف والكس�ل‪ ،‬يجب أن نواجه الشدة‬
‫‪-‬ال بتواكل الشدة وال بتواكل العبيد‪ -‬ولكن بشجاعة الرجال‪.‬‬

‫‪ 14‬يونيو ‪1990‬‬

‫‪447‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مطاردة األشباح‬

‫نتابع مبادرة رئيس�نا حس�ني مبارك عن أس�لحة الدمار الش�امل بما تس�تحقه من‬
‫اهتم�ام كبير‪ ،‬هي مبادرة وطنية عربية وإنس�انية ف�ي ٍ‬
‫آن‪ ،‬ولذلك فهي تحظى بالتأييد‪،‬‬
‫ولم يبق إلاَّ أن تسفر عن نتيجة تضاهيها في األهمية لتطرد عن منطقة مهمة من العالم‬
‫جوا أفضل للتفاهم والتصالح‪.‬‬
‫أشباح الخوف والتوتر‪،‬وتهيئ لها ًّ‬
‫إن ما يهدد العالم َك ُك ٍّل يجب أن يتصدى له العالم ككل‪ ،‬إنه التزام عالمي‪ ،‬وعلى‬
‫كل دولة أن تؤدي واجبها فيه في حدود طاقتها دون تردد أو ُم َر َاو َغة‪ .‬يجب أن يكون‬
‫للعال�م موقف موحد متعاون إزاء التلوث‪ ،‬والمخدرات‪ ،‬وأس�لحة الدمار الش�امل‪،‬‬
‫ِم َّم�ا يتج�اوز ضرره الوطن الواحد أو البيئة الواح�دة‪ ،‬وحتى ال تخضع القرارات في‬
‫هذا الشأن لألهواء السياسية يجب أن تُدرس في هيئة األمم‪ ،‬وتصدر بشأنها القرارات‬
‫ماديا‪ ،‬وأن‬
‫تأديبا ًّ‬
‫الجماعية التي تلتزم األمم بتنفيذها‪ ،‬س�واء كانت مقاطعة شاملة‪ ،‬أو ً‬
‫يتم ذلك في استقامة ووضوح ينفي عنه شبهة الغرض‪،‬ونزعة الهوى‪.‬‬

‫ال نريد أن يتكرر ما حدث عند قيام ش�بهة سلاح دمار ش�امل‪ ،‬فيلقى مرة ضرية‬
‫وتسامحا‪ .‬الواجب أن يكون للعالم موقف واحدٌ إزاء أية‬
‫ً‬ ‫وقائية‪ ،‬ويلقي أخرى إعفا ًء‬
‫ورادعا وأن يتم‬
‫ً‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫دولة تش�رع في امتالك ذلك السلاح‪ .‬يجب أن يكون األمر‬
‫في نطاق إنساني عادل‪ ،‬وإلاَّ كان ً‬
‫وجها جديدً ا لالستعمار والقهر‪ ،‬بعيدً ا عن أية جدية‬
‫ِلل َّت َصدِّ ي للشرور الشاملة التي تهدد اإلنسان حضارة ووجو ًدا‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫التقدم‬

‫اندفاعا مخز ًيا‬


‫ً‬ ‫مندفع�ا‬
‫ً‬ ‫بالحس�م‪ ،‬فس�وف يجد العالم نفس�ه‬
‫إذا لم تُعالج القضية َ‬
‫نحو دمار ش�امل‪ .‬هيهات أن تتهاون أمة في الدفاع عن نفس�ها‪ ،‬أو ترضى بأن تعيش‬
‫تحت رحمة غيرها‪.‬‬

‫‪ 5‬يوليو ‪1990‬‬

‫‪449‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫االنتخاب‬

‫نرجو أن يس�فر البحث عن قانون لالنتخاب محكم الش�رعية والبناء‪ ،‬ونأمل في‬
‫صالح�ا للحرية‬
‫ً‬ ‫مناخا‬
‫الوق�ت نفس�ه أن يجيء ضمن إصالح سياس�ي ش�امل يهي�ئ ً‬
‫والعم�ل‪ .‬لعله من المناس�ب اآلن أن أعود إلى إعالن رأي قدي�م أبديته أكثر من مرة‬
‫ع�ن االنتخاب بالقائمة الش�عبية‪ ،‬وكنت أتص�وره غاية في البس�اطة والفاعلية‪ ،‬على‬
‫أس�اس أن يج�ري اإلدالء باألص�وات في الدوائ�ر المختلفة لألح�زاب المتناقضة‪،‬‬
‫ث�م تُجمع األصوات الت�ي يفوز بها كل حزب‪ ،‬وبنس�بتها تُح�دد مقاعده في مجلس‬
‫الش�عب دون قي�ود‪ ،‬وعلى كل حزب بعد ذلك أن يخت�ار نوابه باالنتخاب الداخلي‪،‬‬
‫أو بأية وسيلة يتفق عليها‪.‬‬

‫هذا األسلوب االنتخابي يحقق اآلتي‪:‬‬

‫أولاً ‪ -‬ألاَّ يه�در ص�وت ناخب واحد‪ ،‬فيج�يء المجلس ممثًل�اً للناخبين تمثيلاً‬
‫عادلاً دقيقًا‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬أنه يربي الشعب على االختيار على أساس المبادئ ال األفراد أو األسر أو‬
‫ً‬
‫القبائل‪ ،‬فيمثل المجلس المصالح العامة‪.‬‬

‫ثالثًا‪ -‬أنه بانتخاب الش�عب لألح�زاب‪ ،‬واختيار األحزاب للنواب نضمن أفضل‬
‫نوعية للعمل‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫التقدم‬

‫رابع�ا‪ -‬أن االنتخ�اب بهذا األس�لوب يحت�رم األقليات ويق�وي مركزها‪ ،‬ونحن‬ ‫ً‬
‫نعي�ش زم ًن�ا يطالبنا بق�د ٍر ملموس من الوع�ي السياس�ي‪ ،‬ربما ال يتواف�ر ً‬
‫دائما على‬
‫المس�توى المنش�ود‪ ،‬ولكن لنذكر أن الحري�ة جهاد وتربي�ة ودروس ال تتوقف‪ ،‬وال‬
‫بأس من تقبل بعض العثرات في طريق الصعود الشاق‪.‬‬

‫‪ 12‬يوليو ‪1990‬‬

‫‪451‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أسلوب االنتخاب‬

‫حس�ن أن يتقرر إجراء االنتخابات لمجلس الش�ورى باألس�لوب الفردي‪ ،‬فهي‬


‫خط�وة تقدمي�ة يجب أن تتبع في أي انتخابات‪ ،‬ولكن ذلك ال يمنعني من المصارحة‬
‫بأنن�ي من أنصار االنتخابات النس�بية‪ ،‬وأنني كنت أول من ن�ادى بها في عهد الزعيم‬
‫الرح�ل الس�ادات‪ .‬ومم�ا يجب أن ُيذك�ر أن القائم�ة المطلقة لم تخطر ل�ي على بال‬
‫وقت�ذاك‪ ،‬وال الح�د األدنى المتعس�ف‪ ،‬كان ما دار بخاطري هو اعتب�ار الوطن دائرة‬
‫تبعا لما يحرزه‬
‫واح�دة‪ ،‬فيدلي الناخب بصوته لحزب ّما‪ ،‬ثم يختار كل حزب ممثليه ً‬
‫من أصوات‪ ،‬ولهذا األسلوب ميزات أوجزها فيما يأتي‪:‬‬

‫‪ -1‬أنه يستبعد المستقلين‪ ،‬فإني ال أتصور وجود مواطن مستقل في زحمة اآلراء‬
‫والمذاهب المطروحة‪ ،‬وإِنْ َر َأى َف ْر ٌد بعد ذلك المحافظة على اس�تقالله لس�بب من‬
‫األس�باب فعليه أن يبتعد عن الحياة السياس�ية العملية وتركه�ا للقادرين على تحمل‬
‫تبعاتها بوضوح‪ ،‬بعيدً ا عن أي تحفظ أو انتهازية‪.‬‬

‫‪ -2‬أن�ه ال ُي ْه�دَ ُر صوت مواط�ن وال ُي َض َّي ُع مهما صغر حجم ال�رأي الذي ينتمي‬
‫معبرا عن واقع الشعب أقوى تعبير وأكمله‪.‬‬
‫إليه‪ ،‬فيجيء أي مجلس ً‬
‫‪ -3‬أن�ه يرب�ي المواطن تربي�ة وطنية ديمقراطي�ة على المدى القصي�ر والطويل‪،‬‬
‫علما بأن الفرد ال يختفي فيه تما ًما‪،‬‬
‫ويوق�ظ فيه نوازع االنتماء إلى المبدأ قبل الف�رد‪ً ،‬‬
‫فهو الذي يقوم بالدعاية لحزبه في دائرته أو أي دائرة‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫التقدم‬

‫‪ -4‬أن�ه يضم�ن اختي�ار خي�ر العناصر بواس�طة كل ح�زب‪ ،‬فكأن�ه انتخاب على‬
‫درجتين‪ :‬األولى للمبادئ‪ ،‬ويفصل فيها الش�عب‪ .‬والثاني�ة للكفاءة والجدية‪ ،‬ويقوم‬
‫بها الحزب بالطريقة التي يرتئيها‪.‬‬

‫ولع�ل أه�م م�ا ُيؤخ�ذ على ه�ذا األس�لوب أنه ق�د يدفع بأكث�ر من حزبي�ن إلى‬
‫المجلس‪ ،‬أو أنه ال ُي َم ِّكن حز ًبا من األغلبية الساحقة‪ ،‬ولكن علينا أن نقبل أية صورة‬
‫للمجلس مادام الش�عب هو مصدرها ومصورها‪ ،‬والش�عب أدرى بما يصلحه ويلبي‬
‫احتياجاته‪.‬‬

‫‪ 19‬يوليو ‪1990‬‬

‫‪453‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ذكريات انتخابية‬

‫لالنتخابات ذكريات في تاريخنا‪ ،‬أية ذكريات‪ ،‬وهي تشهد للشعب بعمق الوطنية‬
‫غرائز تهتدي بنورها‪ ،‬حتى وإن‬
‫َ‬ ‫وقوة االنتماء ويقظة الوعي‪ ،‬وتدل على أن للشعوب‬
‫اس�تغرقتها األمية‪ ،‬وق�د حدثوك عن رئيس ال�وزراء الذي أج�رى أول انتخابات في‬
‫عصرن�ا الحديث فس�قط فيها وف�از عليه رجل من عامة الش�عب‪ ،‬وف�ي دائرة أخرى‬
‫قبطيا لم يكن من أبناء‬
‫مرش�حا ًّ‬
‫ً‬ ‫اختارت الجماهير ذات األغلبية المس�لمة الس�احقة‬
‫زكاه و َق َّدمه مبدؤه وحزبه وسيرته‬
‫الدائرة‪ ،‬وال صلة له خاصة بأحد من أبنائها‪ ،‬ولكن َّ‬
‫الوطنية العامة‪.‬‬

‫وكان ف�ي دائرتنا بالعباس�ية يتناف�س رجالن أما أحدهما فهو «باش�ا» عادي ممن‬
‫حصل�وا عل�ى الرتبة بحكم األقدمية والترقية دون ميزة ش�خصية م�ن ِع ْلم أو كفاءة‪،‬‬
‫ولكن�ه ُع ِر َف بوطنيته وش�عبيته وجهاده‪ .‬وأما اآلخر فمن باش�وات مصر المعدودين‬
‫علم�ا وخب�رة وسياس�ة‪،‬ولكنه ُع�رف باالنتم�اء إلى المل�ك والترفع على الش�عب‪،‬‬
‫ً‬
‫وتس�اوى االثن�ان ف�ي بنوتهما للعباس�ية‪ ،‬واختار الش�عب الرجل ال�ذي ينتمي إليه‪،‬‬
‫وتخطى الجهبذ اآلخر حتى خسر تأمينه‪ .‬ونؤكد بذلك أن الشعب يعرف كيف يختار‬
‫َم ْن يمثله مع بساطته ال من يمثل الملك على مزاياه الكبيرة‪.‬‬

‫عاديا على عال�م‪ ،‬ولكن‬


‫ًّ‬ ‫وق�د كان مم�ا يأخ�ذه األعداء علين�ا أننا فضلن�ا رجًل�اً‬
‫يج�ب أن نف�رق بين انتخاب�ات للمجم�ع أو األكاديمية‪ ،‬وأخرى سياس�ية تدور أولاً‬
‫وأخي�را حول المبادئ ال األش�خاص‪ .‬وك�م من معارك خاضها الش�عب في أوقات‬
‫ً‬
‫‪454‬‬
‫التقدم‬

‫�ر حاق به إلصراره على احت�رام مبدئه‪ .‬وقد‬ ‫وع َن ٍ‬


‫وض ٍّ‬
‫ت ُ‬ ‫أذى َ‬
‫االنتخاب�ات‪ ،‬وك�م من ً‬
‫حف�ظ م�ن ش�هداء االس�تقالل‪ ،‬وال ش�ك أن أرواحهم تح�وم حولنا في ه�ذه األيام‬
‫لتطمئن إلى أن تضحياتها لم تضع ُسدً ى‪ ،‬أو تتالشى في العبث‪ ،‬هدى الله شعبنا إلى‬
‫اختيار األجدر بالثقة واألصلح للبقاء‪.‬‬

‫‪ 26‬يوليو ‪1990‬‬

‫‪455‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫من السلبية إلى اإليجابية‬

‫مما يدل على اهتمام المواطن بحياته االجتماعية حرصه على بطاقته االنتخابية‪،‬‬
‫وهي آية على إدراكه لدوره في اختيار ُحكمه وانتمائه إلى المبادئ التي يرغب في أن‬
‫تسود مجتمعه‪ ،‬فكيف نفسر ظاهرة اإلعراض عن التسجيل في الجداول االنتخابية‪،‬‬
‫أو امتناع كثرة من المسجلين عن أداء واجبهم االنتخابي؟‬

‫مش�جعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫قد يفس�ر ذلك بضع�ف الوعي‪ ،‬وربما وجدنا في انتش�ار األمية تعليلاً‬
‫ولكن هذا التفس�ير غير مقبول‪ ،‬بدليل أن المتعلمين في مقدمة الالمبالين‪ ،‬فضلاً عن‬
‫وكثيرا ما مارس�تها بصدق‬
‫ً‬ ‫أن تجربتن�ا الديمقراطي�ة قد انفعلت بها طبقاتنا الش�عبية‪،‬‬
‫محمود‪.‬‬

‫وق�د تُفس�ر باإلحب�اط ال�ذي تختنق ب�ه أع�داد وفيرة م�ن الش�باب‪ ،‬ولكن ذلك‬
‫اإلحباط نفس�ه عادة ما يكون من أس�باب النش�اط السياس�ي‪ ،‬والتوجه نحو المبادئ‬
‫الواعدة بحل المشكالت‪.‬‬

‫صالحا للنش�اط السياس�ي والمش�اركة اإليجابية‪،‬‬


‫ً‬ ‫مناخا‬
‫إذن فلنبحث َع َّما يخلق ً‬
‫فماذا في وسع الدولة أن تقدمه في هذا الشأن؟‬

‫أولاً ‪ -‬يج�ب أن يؤم�ن المواطن ب�أن لصوته وزنًا ال يهدر‪ ،‬وأنه يس�تطيع حقًّا أن‬
‫يسهم في اختيار نوابه وحكومته‪ ،‬فنزاهة االنتخابات وضمان هذه النزاهة وتحصينها‬
‫ضد جميع الشبهات هو الشرط األول لجدية العمل‪.‬‬

‫‪456‬‬
‫التقدم‬

‫ثاني�ا‪ -‬إطلاق حرية تكوين األحزاب دون قيد أو ش�رط‪ ،‬ك�ي تتبلور ميع الرؤى‬
‫ً‬
‫أمام المواطنين‪ ،‬فيتجه ُك ٌّل إلى حيث توجهه مصالحه ومبادئه‪.‬‬

‫ثالثًا‪ -‬أن يؤدي «التليفزيون» دوره القومي في َخ ْلق اإليجابية السياسية‪ ،‬فهو قادر‬
‫على إحالل أي موضوع في بؤرة االهتمام وغرسه في الوجدان ‪-‬كما يفعل ذلك في‬
‫كبيرا‬
‫يوميا للنش�اط السياس�ي الحزبي ليثير اهتما ًما ً‬
‫برنامجا ًّ‬
‫ً‬ ‫دعواته الصحية‪ -‬فيضع‬
‫باألحزاب والمبادئ‪ ،‬وليجعل من رجال السياسة نجو ًما‪ ،‬ال من أجل ذواتهم‪ ،‬ولكن‬
‫باعتبار ذلك المدخل لالهتمام بأهدافهم‪ ،‬وبث الوعي السياسي‪.‬‬
‫صالحا للعمل‪ .‬وال أشك في أن شعبنا يحوز االستعداد الكامن‬
‫ً‬ ‫مناخا‬
‫بذلك نهيئ ً‬
‫للتجاوب مع السياسة الصالحة‪.‬‬
‫‪ 6‬ديسمبر ‪1990‬‬

‫‪457‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حول االنتخابات األخيرة‬

‫ماذا يمكن أن يقال عن آخر انتخابات جرت في بالدنا؟‬

‫أولاً ‪ -‬ش�هد جميع المش�تركين فيه�ا بموقف األم�ن المحايد النزي�ه‪ ،‬وإذن فقد‬
‫أنج�زت الدول�ة ما وع�دت به‪ ،‬ونرج�و أن تكون تلك بداية ش�ريفة حاس�مة لحياتنا‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫النيابية تصبح بها الدولة قدوة لرجالها وللمواطنين‬

‫ثاني�ا‪ -‬دارت المعرك�ة بي�ن الح�زب الوطن�ي من ناحي�ة‪ ،‬والتجم�ع واألحزاب‬


‫ً‬
‫الجديدة والمستقلين من ناحية أخرى‪ ،‬على حين قد قاطعها الوفد والعمل واألحرار‬
‫من األحزاب القانونية‪ ،‬ولم تشترك فيها التيارات التي لم ُيعترف بها بعد‪ ،‬وذاك يجعل‬
‫خريطتن�ا السياس�ية موزع�ة بين المجل�س الجدي�د والش�ارع واألوكار الخفية؛ مما‬
‫يدعو إلى إعادة النظر والتأمل إلتاحة الفرص الش�تراك الجميع في العمل السياس�ي‬
‫توفيرا للمزيد من التماسك واالستقرار‪.‬‬
‫ً‬ ‫المشروع‪،‬‬

‫ثالثً�ا‪ -‬لم يكن جميع المس�تقلين بالمس�تقلين تما ًما‪ ،‬فمنه�م وطنيون ووفديون‬
‫وعم�ال وأحرار منش�قون‪،‬وهؤالء إذا انش�قوا عل�ى أحزابهم الختلاف في رأي ال‬
‫يس�تطيعون الخروج على مبادئها‪ .‬المنتظر أن يعود الوطنيون إلى حزبهم‪ ،‬وأن يكون‬
‫اآلخرون معارضة ال بأس بها‪.‬‬

‫رابع�ا‪ -‬ج�رت المعرك�ة على النظ�ام الفردي‪ ،‬والنظ�ام الف�ردي ال يتعارض مع‬
‫ً‬
‫الحزبي�ة‪ ،‬ففي الماض�ي كان يدخل الفرد المعركة مدعو ًما بحزبه‪ ،‬ومتحد ًثا باس�مه‪،‬‬

‫‪458‬‬
‫التقدم‬

‫ومس�تظلاً بمبادئ�ه‪ ،‬فكانت حزبي�ة فردية‪ .‬أما ه�ذه المعركة فقد غلب�ت فيها الفردية‬
‫وأدت الجدارة العائلية‬
‫عل�ى الحزبية‪ ،‬والوعود الش�خصية على المبادئ السياس�ية‪َّ ،‬‬
‫دورا ب�ارزً ا س�اق إلى العن�ف‪ ،‬وتحدى النزاه�ة أحيانً�ا‪ ،‬وكل أولئك ُي َع ُّد‬
‫والعصبي�ة ً‬
‫خطوة إلى الوراء في تاريخنا الديمقراطي‪.‬‬

‫خامس�ا‪ -‬كان م�ن المالح�ظ والمؤلم ندرة المرش�حين م�ن األقباط والنس�اء‪،‬‬
‫ً‬
‫والحق أننا ال يمكن أن نعفى حزب األغلبية من مس�ئوليته عن ذلك‪ ،‬وقد أسفر ذلك‬
‫عن جرح لن يندمل حتى بعد تعيين األعضاء العشرة‪.‬‬

‫سادس�ا‪ -‬وض�ح أن ع�دد الناخبي�ن كان أقل م�ن المأم�ول بكثير‪ ،‬وق�د تصورنا‬
‫ً‬
‫عالجا ش�رحناه في وجهة نظر مس�تقلة‪ ،‬فال نعود إليه‪ ،‬وعلى أي حال يستطيع‬
‫ً‬ ‫لذلك‬
‫أي نائ�ب ف�ي المجلس الجديد أن ي�ؤدي واجبه على أكمل و ج�ه‪ ،‬فيحقق آمال من‬
‫انتخبوه‪ ،‬ويقنع السلبيين بالخروج من سلبيتهم‪.‬‬

‫وإن شاء الله نخوض في المرة المقبلة معركة ال تشوبها شائبة‪.‬‬

‫‪ 13‬ديسمبر ‪1990‬‬

‫‪459‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫المستقلون‬

‫الحق أنني سيئ الظن بوصف «المستقل» ألي عامل في الحقل السياسي‪ ،‬ولعل‬
‫ترفعا‬
‫ذلك قد رس�ب في نفس�ي من موروثات ماضينا السياس�ي‪ ،‬فقد احتمى به قوم ً‬
‫عن الجهاد وما يقتضيه من تضحيات أو تعرض للهجمات الجدلية الدائمة‪ ،‬والمادية‬
‫في أحيان كثيرة‪ ،‬والذ به آخرون عن طمع‪ُ ،‬ليؤ ِّم ُنوا مصالحهم لدى جميع من يتولى‬
‫الس�لطة‪ ،‬واصطنع�ه فري�ق ثالث ع�ن انتهازي�ة ماكرة‪ ،‬وهم الذين رش�حوا أنفس�هم‬
‫لل�وزارات اإلداري�ة الت�ي كان�ت تتولى الحك�م إلج�راء انتخابات ح�رة إذا اقتضت‬
‫الظروف النادرة إجراء انتخابات حرة‪.‬‬

‫واالس�تقالل ع�ن األح�زاب بمعنى ع�دم االلت�زام بأوامره�ا ونواهيه�ا ممكن‪،‬‬


‫خصوص�ا إذا أراد المس�تقل أن يحتف�ظ بقدر من حريته بعيدً ا ع�ن العمل الفعلي في‬
‫ً‬
‫الحياة السياس�ية العملي�ة‪ ،‬وهو بهذا المعنى ضرورة للمفكري�ن والمؤرخين‪ ،‬ولكن‬
‫هذا ال يعني بحال االس�تقالل عن المبادئ والرؤى السياس�ية‪ ،‬إذ أنه من العس�ير أن‬
‫يجد اإلنس�ان نفس�ه بين تعددية حزبية جامعة‪ ،‬وال يعرف لنفس�ه ميلاً إلى حزب من‬
‫األحزاب ‪-‬ولو على س�بيل الترجيح‪ -‬وال يش�ذ عن ذلك إلاَّ م�ن حرم نعمة التفكير‬
‫واإلحساس بالواجب االجتماعي العام‪.‬‬

‫لذل�ك فعلى المس�تقلين الذين فازوا في مجلس الش�عب األخي�ر أن يختاروا ما‬
‫يناسب مبادئهم إذا سمح القانون بذلك‪ ،‬وال أظن الناخبين اختاروهم إلاَّ ً‬
‫تأثرا بوعود‬
‫ال تتحق�ق كامل�ة إلاَّ تحت جناح ح�زب من األحزاب‪ ،‬ولديهم حزب�ان قائمان‪ ،‬هما‬
‫‪460‬‬
‫التقدم‬

‫الوطن�ي والتجمع‪ ،‬ويمكنهم بقرار من أنفس�هم أن يعلنوا انتماءه�م للوفد أو العمل‬


‫أو األحرار دون اعتراف من أحزابهم األصلية‪ ،‬أو أن ينش�ئوا حز ًبا جديدً ا‪ ،‬وهو ماال‬
‫يتناق�ض مع الطبيعة البش�رية م�ادام منطلقه الصدق واإلخالص‪ ،‬فه�م خرجوا على‬
‫االلت�زام الحزب�ي‪ ،‬ولكنه�م ال يملك�ون العم�ل بال مب�ادئ وال رؤية سياس�ية كيفما‬
‫تكون‪.‬‬

‫ه�ذا خي�ر من أن يبقوا بؤرة ال طع�م لها وال رائحة‪ ،‬أو أن ينس�اقوا مع الزمن إلى‬
‫االتجار باستقاللهم في بورصة الصراع الحزبي‪.‬‬

‫‪ 20‬ديسمبر ‪1990‬‬

‫‪461‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫معركة مصر‬

‫أل�ف يوم لتحرير االقتص�اد‪ ،‬لعل األصح أن نقول‪ :‬إنها آخر مهلة ت َُك َّر ُ‬
‫س لتحرير‬
‫االقتصاد‪ ،‬وإلاَّ فماذا كانت تس�تهدف الخطط الخمسية السابقة؟ بل األصح من هذا‬
‫وذاك أن نعتبره�ا دعوة للتحرير الش�امل‪ ،‬التحرير من جمي�ع القيود والمعوقات في‬
‫الحياة السياسية‪ ،‬وأسلوب العمل‪ ،‬ورؤية األخالق‪ ،‬ومنهج الثقافة‪ ،‬والتفكير‪ ،‬أجل‪،‬‬
‫تحريرا من الفس�اد و الس�لبية‪ ،‬والبيروقراطية‪،‬‬
‫ً‬ ‫تحريرا كاملاً ‪ ،‬ش�د ما نتوق إليه‪،‬‬
‫ً‬ ‫نريد‬
‫تحريرا من كل سوء‪،‬‬
‫ً‬ ‫والقوانين االس�تثنائية‪ ،‬واألوثان الكاذبة‪ ،‬والشعارات الخاوية‪،‬‬
‫وانطال ًقا ثاب ًتا نحو إعادة البناء وتحدي الزمن‪.‬‬

‫مناخا أفضل‪.‬‬
‫وقد جدت ظروف تهيئ للعمل ً‬

‫بعضه�ا نتيجة لتطورات عالمي�ة وجهت العالم ‪-‬برغم التوت�رات الطارئة‪ -‬نحو‬
‫الحرية والتعاون‪.‬‬

‫وبعضه�ا ثمرة لسياس�تنا الحكيم�ة ومواقفنا النبيل�ة‪ ،‬فتخففنا لدرجة ال ُيس�تهان‬


‫بها من وطأة الديون وأعبائها‪ ،‬كما أصبحنا في مركز أفضل الس�تقبال االس�تثمارات‬
‫العربية و األجنبية‪.‬‬

‫ولك�ن تقلص الضغوط يجب أن يكون الدافع لحش�د الجهود‪ ،‬وش�حذ العزائم‬
‫للعمل الجاد والشعور بالمسئولية واالنضباط الكامل والتخطيط المستنير‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫التقدم‬

‫يجب أن نمهد األرض لالستثمار‪ ،‬وأن نمحق العوائق‪ ،‬وأن ننشر األمن واألمان‬
‫و الثقة في ظل سيادة القانون‪.‬‬

‫ونهيئ له الرقابة الس�اهرة والمراجعة الدائمة‪ ،‬وأن نكافئ‬


‫يج�ب أن ننظم العمل ّ‬
‫المحسن ونعاقب المسيء‪.‬‬

‫يجب ألاَّ نتهاون في مطاردة الفس�اد‪ ،‬وألاّ تأخذنا الرحمة بالمفس�دين‪ ،‬فالوطن‬
‫أولى برحمة الراحمين‪.‬‬

‫معا‪ ،‬فهما وجهان لعلمة‬


‫يجب أن تش�مل الوثبة اإلصالحية السياس�ة واالقتصاد ً‬
‫واحدة‪.‬‬

‫يج�ب أن نعي�د النظر ف�ي قوانيننا التي ران عليه�ا التعقيد والتضخ�م‪ ،‬وأن يمنح‬
‫القضاء كامل االستقالل‪.‬‬

‫يجب أن نختار أفضل المتاح لنا من الرجال‪ ،‬على أس�اس الكفاءة والنزاهة‪ ،‬فهو‬
‫المقياس الحقيقي‪ ،‬وما عداه ال أهمية له‪.‬‬

‫يجب أن ننشئ جهازً ا للمتابعة وتقييم األداء‪.‬‬

‫جميع�ا إلع�ادة البن�اء‪ ،‬إنه�ا معرك�ة مصر م�ن أج�ل النهضة‬


‫ً‬ ‫يج�ب أن نحتش�د‬
‫الشاملة‪.‬‬

‫‪ 10‬يناير ‪1991‬‬

‫‪463‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫األحزاب‬

‫تدل الحياة اليومية على وجود التيارات السياسية اآلتية‪:‬‬

‫‪ -1‬تي�ار يجم�ع بي�ن الديمقراطي�ة واالش�تراكية‪ ،‬ويمثل�ه الح�زب الوطن�ي‬


‫الديمقراطي‪.‬‬

‫بأس�ا من تب ِّني بعض اإلنجازات‬


‫أساس�ا على الديمقراطية وال يرى ً‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬تيار يقوم‬
‫االشتراكية‪ ،‬ويمثله الوفد‪.‬‬

‫‪ -3‬تيار يساري‪ ،‬ويمثله التجمع والناصريون وجناح من حزب العمل‪.‬‬

‫‪ -4‬تي�ار إسلامي معت�دل‪ ،‬ويمثله اإلخ�وان ونخبة م�ن المفكرين اإلسلاميين‬


‫المستنيرين‪.‬‬

‫‪ -5‬تيار الجماعات المتطرفة المتسم بالتطرف والعنف‪.‬‬

‫المطبوعات‬
‫ُ‬ ‫هذه هي التيارات التي يصادفها اإلنسان في تجوله‪ ،‬أو تتناقل أنباءها‬
‫وال�رواة‪ ،‬وهي بالتالي التي يمكن أن تك�ون أحزا ًبا إذا أطلقت حرية تكون األحزاب‬
‫واحترم�ت حقوق اإلنس�ان السياس�ية‪ ،‬ويمكن في الوقت نفس�ه أن تج�د لها قواعد‬
‫شعبية متفاوتة في قوتها واتساعها‪.‬‬

‫والواق�ع يتطل�ب ‪ -‬والمصلحة العامة تقتضي ً‬


‫أيض�ا‪ -‬أن يندمج الحزب الوطني‬
‫الديمقراط�ي‪ ،‬والوفد‪ ،‬واألحرار في حزب واحد‪ ،‬كم�ا يندمج التجمع والناصريون‬
‫وجناح العمل في حزب واحد‪ ،‬فتصبح األحزاب الحقيقية كاآلتي‪:‬‬
‫‪464‬‬
‫التقدم‬

‫‪ -1‬حزب يجمع الوفد والوطني واألحرار‪.‬‬

‫‪ -2‬حزب يجمع التجمع والناصريين وجناح العمل‪.‬‬

‫‪ -3‬اإلخوان‪.‬‬

‫‪ -4‬الجماعات‪.‬‬

‫وال يعن�ي قيام حزب ديني نفي التدين عن األحزاب األخرى‪ ،‬فالحكومة القائمة‬
‫تؤسس تشريعها على الشريعة‪ ،‬وتخصص وزارة للشئون الدينية‪ ،‬وتعني عناية كبرى‬
‫بالتربي�ة الديني�ة ف�ي مدارس�ها وأجهزة إعالمه�ا‪ ،‬فضلاً ع�ن أنها الح�ارس للوحدة‬
‫الوطنية والعدالة االجتماعية‪.‬‬

‫ولن يتهيأ لنا االستقرار الكامل الدائم حتى تقوم تلك األحزاب وتمارس نشاطها‬
‫المشروع من خالل الشعب تحت مظلة الحرية والقانون واحترام حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫وكل شيء ممكن إذا تخطينا ذكريات التاريخ والكبرياء الشخصية‪ ،‬ورفعنا ألوية‬
‫المصلحة العامة‪.‬‬

‫المعركة آتية‪ ،‬ومن الخير أن تقع في نطاق الحرية والقانون‪ ،‬ولنقبل إرادة الشعب‬
‫كيفما تكون‪.‬‬

‫‪ 25‬أبريل ‪1991‬‬

‫‪465‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ثورة يولية وعام ‪91‬‬

‫ف�ي ع�ام ‪ 1952‬قامت ثورة يولية‪ .‬أقبل�ت مجلجلة في كبري�اء وطني‪ ،‬وهالة من‬
‫وعود العدالة والعزة والنزاهة والقوة والديمقراطية‪ ،‬واس�تقبلها الشعب استقبال من‬
‫ط�ال انتظ�اره للعدالة والعزة والنزاهة والق�وة و الديمقراطية‪ .‬وفي ظلها عاش يحلم‬
‫بالمدين�ة الفاضل�ة والمجد والرخاء‪ ،‬وش�هد إنج�ازات ضخمة في حيات�ه المعنوية‬
‫والمادية‪ ،‬وطموحاته السياسية على المستويين المحلي والعالمي‪.‬‬

‫وف�ي عام ‪ 1991‬كان المتوقع أن تكون المدينة الفاضلة قد اس�توت حقيقة رائعة‬
‫ف�وق األرض‪ ،‬والمج�د قد رس�خت قوائم�ه‪ ،‬والرخاء ق�د جرى كالنس�يم في اليوم‬
‫الرطيب‪ ،‬والحرية تضيء كشعاع الشمس‪ ،‬والعدالة تستقر كالهرم األكبر‪.‬‬

‫كي�ف ال وقد خلصت مص�ر ألبنائها‪ ،‬فال احتالل أجنبيا‪ ،‬وال َع ُ�د ّو متربصا‪ ،‬وال‬
‫امتي�از لطبق�ة‪ ،‬إنه حكم مص�ري خال�ص‪ ،‬وطني نق�ي‪ ،‬والعقول متيقظ�ة‪ ،‬واأليدي‬
‫متوثبة‪ ،‬والقلوب خفاقة‪ ،‬والنوايا طيبة‪ ،‬ووراء ذلك كله طاقة من التخطيط والعمل‪.‬‬

‫ولكن الواقع أن عام ‪ 1991‬هو العام الذي يش�هد جها ًدا عني ًفا من قادتنا لتخفيف‬
‫وط�أة الدي�ون الت�ي أغرقتن�ا‪ ،‬كما يش�هد أولى خط�وات نبدأ بها الس�ير ف�ي الطريق‬
‫الصحيح للخروج من أزمة شاملة خانقة‪.‬‬

‫لن أعيد رواية المأس�اة‪ ،‬ولن أعدد األخطاء‪ ،‬ول�ن أذكر الكوارث والهزائم‪ ،‬وال‬
‫التسيب والفساد‪ ،‬فكل أولئك محفوظ محفور في حنايا القلوب األسيفة‪.‬‬

‫‪466‬‬
‫التقدم‬

‫أود أن أركز على مضمون واحد‪.‬‬

‫لق�د قامت هذه األرض بثورتي�ن‪ :‬ثورة الحرية‪ ،‬وثورة العدال�ة االجتماعية‪ .‬وما‬
‫حص�ل قد حص�ل‪ .‬ولكن علين�ا ألاَّ نهدر رس�الة الثورتين‪ .‬فلنبدأ م�ن جديد بعزيمة‬
‫جديدة‪ ،‬على هدى دروس ومواعظ‪ ،‬ولنعمل بدون ٍ‬
‫توان‪.‬‬

‫لق�د خاننا لصوص ومجانين وس�فلة‪ ،‬ولكن فينا بقية م�ن األمناء والعقالء وأهل‬
‫النبل‪.‬‬
‫لنعمل ِ‬
‫ونبن حتى نحقق وطن الثورتين‪ ،‬وطن الحرية والعدالة‪.‬‬

‫‪ 18‬يوليو ‪1991‬‬

‫‪467‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫للكابوس نهاية‬

‫نرج�و أن نك�ون ق�د اهتدينا حقًّ�ا إل�ى الطريق الصحي�ح‪ .‬نرجو أن نس�تيقظ من‬
‫الكابوس لنستقبل صحوة سليمة مبشرة بالخير‪.‬‬

‫كابوسا ثقيلاً ‪.‬‬


‫ً‬ ‫وقد كان ومازال‬

‫س�ل من تش�اء من أفراد الش�عب عن أي ش�يء‪ ،‬فلن تجد إلاَّ جوا ًبا واحدً ا‪ ،‬كلما‬
‫عرض حادث ِم َّما يعرض في أي مجتمع كش�ف عن داء مس�تأصل‪ ،‬أو قيمة منهارة‪،‬‬
‫يندل�ع حريق في عم�ارة فيفضح سلس�لة من المخالف�ات تزري بالقانون وتس�تهين‬
‫باألمن والرواح‪.‬‬

‫يجري التحقيق في قضية فتكش�ف بعض مس�تنداتها عن فساد بشع يطوق األئمة‬
‫من رجال المسئولية والحكم الذين يتاجرون بمصالح الشعب‪.‬‬

‫وتج�يء حادثة ف�ي مجال التربية فتهتك أس�اليب للغش غير معقولة في أش�رف‬
‫بقاع الدولة‪ ،‬وهي الجامعة‪.‬‬

‫مر‪.‬‬ ‫َ‬
‫التقصي فأ ْد َهى وأ ُّ‬
‫ِّ‬ ‫هذه أمثلة‪ ،‬أما‬

‫ماذا جرى لمصر؟ لم تكن قط بهذا ال َق ْدر من الس�وء‪ .‬حقًّا لم نكن قو ًما مثاليين‪،‬‬
‫عصرا‬
‫ً‬ ‫ولكنن�ا ل�م نكن كذلك عصب�ة من األوغ�اد إلاَّ من رح�م ربك‪ ،‬كيف نواج�ه‬
‫يطالب أهله بالكمال في العلم والعمل والقيم؟‬

‫‪468‬‬
‫التقدم‬

‫وم�ا هذه بفطرتن�ا األصيلة‪ ،‬ولكن تعاقب الحروب واألزم�ة االقتصادية والتردد‬
‫بين التجارب الش�رقية والغربية‪ ،‬وتضافر المح�ن على الذين ندعوهم بذوي الدخل‬
‫حمله�م ما ال يطيق�ون‪ ،‬وانتزعهم من مبادئهم وانتمائه�م‪ ،‬إنهم وغيرهم‬
‫المح�دود‪ّ ،‬‬
‫ضحايا الحكم الشمولي الذي يعني بالمجتمع ويهمل الفرد‪ ،‬الحكم الشمولي الذي‬
‫ال يذكر الفرد إلاَّ وهو يطالبه بالتضحية دون أن يقدم له قدوة هادية‪ ،‬على حين يتمتع‬
‫هو بجميع طيبات الحياة بصورة مستفزة ال ضمير لها‪.‬‬

‫ف�ي وس�ط هذه الظلمات نرجو أن نك�ون قد اهتدينا حقًّا إل�ى الطريق الصحيح‪،‬‬
‫نرجو أن نستعيد توازننا ولو بعد حين‪ ،‬نرجو أن تسترد مصر صحتها وعافيتها وترجع‬
‫إلى اإليمان بالعلم والعمل والقيم‪ ،‬وأن تستمس�ك بوحدتها الوطنية لتواصل دورها‬
‫في بناء الحضارة‪.‬‬

‫‪ 25‬يوليو ‪1991‬‬

‫‪469‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نحو تربية حديثة‬

‫التربي�ة مس�ئولية عام�ة خطيرة بم�ا تمثل من عناصر أساس�ية في بناء الش�خصية‬
‫اإلنس�انية؛ لذل�ك يجب أن نهت�م بها االهتم�ام الواجب ف�ي جميع مراح�ل التعليم‬
‫أساس�ا متي ًنا للف�رد‪ ،‬وقاعدة بش�رية جديرة بالحي�اة في هذا‬
‫ً‬ ‫وأجه�زة اإلعلام لنقيم‬
‫العص�ر‪ .‬ونح�ن نولي التربي�ة الدينية والقومية ما تس�تحق من عناي�ة‪ ،‬ولكن البد من‬
‫إضافات أخرى‪ ،‬تنضم كدراس�ات حرة‪ ،‬أو في كتب القراءة‪ ،‬وغير ذلك من وس�ائل‬
‫اإليصال الحديثة‪.‬‬

‫ف�ي مقدمة ذل�ك التربية الثقافية التي تس�تهدف خلق المواط�ن المحب للمعرفة‬
‫والتف�وق‪ ،‬والجم�ال في جميع صوره الفني�ة والطبيعية‪ ،‬مما يقتضي نش�ر المكتبات‬
‫في المدارس‪ ،‬والمجالت‪ ،‬وفرق التمثيل‪ ،‬والموس�يقى‪ ،‬والش�عر‪ ،‬والخطابة‪ .‬ومن‬
‫األهمية بمكان عرض تاريخ الحضارات إليضاح ما قدمه كل ش�عب لإلنس�انية من‬
‫إنجازات روحية ومادية‪ ،‬وليك�ون تنوع الحضارات مدخلاً للتفاهم‪ ،‬وتبادل التقدير‬
‫بديلاً من الجفوة وسوء الظن‪.‬‬

‫كذل�ك يجب أن يلم أبناؤنا بما يتيس�ر م�ن مبادئ المنهج العلم�ي‪ ،‬ال باعتبارها‬
‫باب النجاح للعلم وإنجازاته فحسب‪،‬ولكن ً‬
‫أيضا بوصفها المنهج الصحيح للتفكير‬ ‫َ‬
‫الس�ليم‪ ،‬والضم�ان لسلامة العقل وصونه م�ن االنحرافات واآلف�ات التي تخضعه‬
‫لتس�لط االنفعاالت والتعصب‪ ،‬وتحرره من قبضة الخراف�ات والترهات التي تزيف‬
‫الحقائق وتوقف التقدم‪.‬‬
‫‪470‬‬
‫التقدم‬

‫خاصا بحقوق اإلنس�ان في فكره‬


‫آخرا يجب االهتم�ام اهتما ًم�ا ًّ‬
‫وأخي�را ولي�س ً‬
‫ً‬
‫وعقيدت�ه وس�لوكه والتعام�ل معه‪ ،‬لينش�أ األبن�اء على احت�رام أنفس�هم ومواطنيهم‬
‫جميعا‪ ،‬وليحظى الفرد عندهم بما يستحق من احترام وتقديس‪.‬‬
‫ً‬ ‫والناس‬

‫إن االهتمام بتلك القيم هو اهتمام باإلنس�ان واإلنس�انية‪ ،‬اهتمام بالعقل والفكر‬
‫والديمقراطي�ة الحقة كما ت�ري في الحياة اليومية‪ ،‬وفي النهاي�ة الحضارة التي يجب‬
‫أن نتحض�ر به�ا في العالم الحديث للتكيف معه‪ ،‬واكتس�اب الق�درة على العيش فيه‬
‫بنجاح وسعادة وكرامة‪.‬‬

‫‪ 1‬أغسطس ‪1991‬‬

‫‪471‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫اليمين واليسار‬

‫اليمي�ن ُيطلق عل�ى الجماعات التي تحاف�ظ على ما هو قائم ف�ي المجتمع‪ ،‬مما‬
‫يس�تند في قوته إلى تقالي�د ماضية‪ ،‬أو ثورات تجاوزها الزمن في مجاالت السياس�ة‬
‫والفكر والفن وأساليب الحياة المختلفة‪.‬‬

‫أما اليس�ار فيطلق على الجماعات التي تتطلع إل�ى التقدم‪ ،‬وتتابع حركة التاريخ‬
‫إلى الجديد الذي يحلمون به‪.‬‬

‫وقد حدثت تغيرات جذرية على مسرح العالم في السنوات القريبة الماضية قلبت‬
‫رأس�ا على عقب‪ ،‬وأجرت حركة إحالل وإبدال بين الجهات األصلية كما‬
‫األوضاع ً‬
‫حاسما في األسماء والمسميات‪.‬‬
‫ً‬ ‫تغييرا‬
‫عهدها الناس‪ ،‬مما يقتضي ً‬
‫فبعد الزالزل التي اجتاحت عالم اليس�ار واألنظمة الش�مولية‪ ،‬وبعد التوجه شبه‬
‫الع�ام نح�و الديمقراطية السياس�ية واالقتصادي�ة والحرية الفردية‪ ،‬بع�د أن أصبحت‬
‫حرك�ة التاريخ تس�ير في اتجاه جدي�د‪ ،‬بعد ذلك كله يطالبنا الواق�ع بإعادة النظر فيما‬
‫نعتبرهم يمينيين ويساريين‪.‬‬
‫أصبح�ت حركة التاريخ تس�ير نح�و َغ ٍد ِ‬
‫واع ٍ‬
‫�د بالديمقراطية والحري�ة‪ ،‬واحترام‬
‫حقوق اإلنسان التي تتضمن حقه في العدالة االجتماعية‪.‬‬

‫كذل�ك أصبح الحكم الش�مولي والش�يوعية من الثورات الت�ي تجاوزها الزمن‪،‬‬


‫وأثبتت التجربة فشلها فتمخض حلمها الوردي عن كابوس‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫التقدم‬

‫عل�ى ذل�ك األس�اس يص�ح لن�ا أن نطل�ق صف�ة اليس�ار عل�ى الديمقراطيي�ن‪،‬‬
‫والديمقراطيين االش�تراكيين‪ ،‬واإلسلاميين‪ ،‬والمعتدلين‪ ،‬كما يصح أن نطلق صفة‬
‫اليمين على الشيوعيين القدامى‪ ،‬والناصريين‪ ،‬والجماعات المتطرفة‪.‬‬

‫لعبا باألسماء والصفات‪ ،‬وكأنها تصحيح الرؤية ومتابعة أمينة‬


‫والمس�ألة ال تعني ً‬
‫علما بأننا لم نقصد بذلك الدعاية لجانب‪ ،‬أو التهوين من شأن جانب‪ ،‬فنحن‬
‫للواقع‪ً ،‬‬
‫معا في‬
‫نحت�رم كل صاح�ب رأي‪ ،‬ون�رى أن المجتمع ال غنى له عن اليمين واليس�ار ً‬
‫مسيرته نحو الغد المأمول‪.‬‬

‫‪ 1‬فبراير ‪1992‬‬

‫‪473‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫لصوص ولصوص‬

‫من األخبار التي اطلعت عليها في صحفنا خبر يقول‪ :‬إن ‪ %90‬من قروض العالم‬
‫الثالث يرجع إلى البالد الغنية ليودع في الحس�ابات السرية للشخصيات البارزة التي‬
‫تهيم�ن على البلاد الفقيرة المدينة التعيس�ة‪ ،‬ولعل ذلك الخبر قد ت�ردد أمام ناظري‬
‫أكثر من مرة في أكثر من صحيفة أو مجلة ‪-‬وعلى فترات متباعدة‪ -‬ومنسو ًبا لمراجع‬
‫يحلو لها الحديث في تلك الش�ئون‪ ،‬وهو خب�ر يدير الرأس من غرابته‪ ،‬ويهز الناس‪،‬‬
‫ويفجر الرثاء واألسى‪ .‬وكأنَّ تلك األوطان لم يكفها ما فعله االستعمار بها‪ ،‬وما َح َّل‬
‫بها من فقر وتأخر‪ ،‬فابتالها بشراذم من أبنائها ممن ال خالق لهم وال ضمائر لينهبوها‬
‫وتأخرا‪ ،‬باإلضافة‬
‫ً‬ ‫فقرا‬
‫بال رحمة‪ ،‬ويس�تغلوها أسوأ استغالل‪ ،‬ثم يتركوها كما كانت ً‬
‫إلى قيود الديون وذ ّلها‪.‬‬

‫كيف تولى أولئك األوغاد السلطة في بالدهم؟ هل خدعوا شعوبهم َف َأ ْو َل ْت ُه ْم ثقة‬


‫ال يس�تحقونها؟ ه�ل ُف ِر ُضوا عليه�ا بالقوة واإلرهاب؟ وكيف خل�ت قلوبهم من أي‬
‫ش�عور وطني أو إنساني؟ كيف غلظت وتحجرت حتى تحالفوا مع سوء الحظ على‬
‫أوطانهم التعيسة؟‬

‫أعا َدا أطعمة‬


‫ويج�يء أه�رام ‪ 20‬يناير يطالعنا بخبر مؤاده أن لصي�ن بريطانيين قد َ‬
‫اها من مخزن في مقاطعة «يوركشير» بعد أن علما أنها سوف ت ُْر َسل إلى‬ ‫ومالبس َس َر َق َ‬
‫تبرعا بعش�رة جنيهات‬‫بعض األيتام في رومانيا‪ .‬وذكرت مصادر الش�رطة أن ال ِّل َّص ْين َ‬
‫واعتذرا َع َّما قاما به من عمل مشين‪.‬‬
‫‪474‬‬
‫التقدم‬

‫إنه خبر غريب ً‬


‫أيضا بالمقارنة بالخبر األول‪ ،‬ينقض علينا بدهشة ال حدود لها‪.‬‬

‫حقًّ�ا أن الجميع لصوص‪ ،‬ولكن ش�تان بين لص ولص‪ .‬منه�م من فقد مع الذمة‬
‫كل شعور إنساني‪ ،‬وطفح قلبه باألنانية والنذالة برغم موقعه من السلطة والمسئولية‪،‬‬
‫ومنه�م من لم يمنعهم فقدان الذم�ة من بعض الرحمة والمروءة والش�عور باالنتماء‬
‫إلى اإلنسانية‪.‬‬

‫ف�إذا ضن الزمان عل�ى بعض بالد العال�م الثالث بحكام أمناء‪ ،‬فلا يضن عليهم‬
‫بِ ُلصوص من طينة هذين اللصين البريطانيين‪.‬‬

‫ولنتذك�ر ف�ي النهاية فض�ل الديمقراطية في اختي�ار الحكام ورقابته�م وعزلهم‪.‬‬


‫جميعا في عصور كلها اس�تبداد‬
‫ً‬ ‫ولنتذك�ر ً‬
‫أيضا أن مآس�ي النهب والس�لب قد تم�ت‬
‫وظلم‪.‬‬

‫‪ 13‬فبراير ‪1992‬‬

‫‪475‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حوار الكوارث‬

‫يجب ألاَّ ننسى الكوارث‪ :‬الطوفان‪ ،‬والحريق‪ ،‬وغرق السفينة‪ .‬يجب ألاَّ ننساها‪،‬‬
‫ً‬
‫تمسكا بالحزن واستزادة من الدموع‪ ،‬ولكن حتى نعرف الحقيقة الكاملة‪.‬‬ ‫ال‬

‫وترحيبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ما أكثر الكالم‪ ،‬وما أكثر الحكايات‪ ،‬وجميعها وجدت في حينها إقبالاً‬
‫وفجرت في قلب�ه ينابيع الحزن‬
‫َّإما اس�تجابة من ش�عب هزته الكوارث م�ن أعماقه‪َّ ،‬‬
‫وإما إعرا ًبا عن الس�خط السياس�ي‪ ،‬والموقف الرافض م�ن نظام الحكم‪،‬‬
‫واألس�ى‪َّ ،‬‬
‫َ‬
‫ولكنن�ا نري�د أن نع�رف الحقيق�ة الكاملة‪ ،‬وجمي�ع الك�وارث ُم َحالة إل�ى التحقيق‪،‬‬
‫وحذار أن تجف الدموع‪ ،‬وتتالش�ى ذكريات الس�وء‪ ،‬وتتوارى التحقيقات في زوايا‬
‫التاري�خ‪ ،‬نري�د االطالع عل�ى نتائج التحقيقات ب�كل تفاصيلها‪ ،‬نري�د أن نعرف دور‬
‫القضاء والقدر فيما حدث‪ ،‬وأن نحدد في الوقت نفسه المسئولية البشرية إنْ كان ثمة‬
‫صغيرا ‪-‬ولكننا ً‬
‫أيضا‬ ‫ً‬ ‫‪-‬كبيرا كان أو‬
‫ً‬ ‫مسئولية بشرية‪ ،‬ال نرغب بتاتًا في أن نظلم أحدً ا‬
‫ال نرغب في أن نظلم أنفس�نا ونهدر حقوق الناس في الحياة والعدل والكرامة‪ ،‬وأن‬
‫يتبع ذلك المحاسبة العادلة‪ ،‬أو إصالح اللوائح واإلجراءات‪.‬‬

‫وم�ا ينبغي أن تهدأ النفوس وتطمئن القلوب قبل أن تعلن نتائج التحقيقات على‬
‫المأل‪ ،‬وتتحدد المسئوليات‪ ،‬وتتحقق العدالة‪ ،‬وأن نسيان الكوارث قبل ذلك لكارثة‬
‫أي من الكوارث الثالث‪ .‬أما الس�ير في الموضوع‬
‫أخ�رى ال تق�ل في ضخامتها ع�ن ٍّ‬
‫حتى نهايته العادلة فلن يخلو من دروس نافعة‪ ،‬ربما خففت من آالمنا‪ ،‬وس�وغت لنا‬

‫‪476‬‬
‫التقدم‬

‫أن ن�ردد م�ع القول المأثور‪« :‬رب ضارة نافعة»‪ ،‬وقد ورد في بيان رئيس الوزراء أمام‬
‫مجلس الشعب ما يقوي أملنا في معرفة الحقيقة‪ ،‬وتحقيق العدل واإلصالح‪.‬‬

‫بعد ذلك ‪-‬ال قبله‪ -‬يجوز أن ننسى الكوارث في مجرى الحياة الزاخر بالحوادث‪،‬‬
‫بل يجب أن ننس�اها‪ ،‬وألاَّ نسمح للتش�اؤم بأن ُيلقى ظله الثقيل على أرواحنا‪ .‬الحياة‬
‫ال تخلو من كوارث مثل كوارثنا‪ ،‬بل أش�د منها بما ال يقاس‪ .‬يجب أن نوطن أنفس�نا‬
‫على التصدي لكل مكروه دون أن نيأس من إصالح أنفسنا وأحوالنا‪ ،‬ومحق سلبياتنا‬
‫جميع�ا في البر والبحر واإلرادة‪ .‬إن المصائب ال تقضي إلاَّ على الضعفاء من أنصار‬
‫ً‬
‫والمقدرين لنعمة الحياة المباركة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الهزيمة‪ ،‬ولكنها تشحذ ه َمم القادرين ُ‬
‫‪ 20‬فبراير ‪1992‬‬

‫‪477‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الحضارة الغربية‬

‫الذي�ن يس�يئون الظن بالحضارة الغربية كثيرون‪،‬ويقوم س�وء الظن على أس�باب‬
‫يعلنونها لدى كل مناس�بة‪ ،‬فهي في نظرهم حضارة أجنبية‪ ،‬وهي في تعاملها معنا لم‬
‫تتورع عن ارتكاب الكبائر من الحروب واالستعمار ونهب الموارد وإزهاق األرواح‬
‫بغير حساب‪ ،‬باإلضافة إلى الكثير من تقاليدها وعاداتها التي تتناقض مع قيمنا الثابتة‪.‬‬
‫وأود أن أناقش هذه الرؤية بنزاهة وموضوعية‪.‬‬

‫وأب�دأ فأق�ول‪ :‬إن الحضارة الغربية ليس�ت حض�ارة أجنبية‪ ،‬أجل قد نش�أت في‬
‫مواق�ع غريب�ة وبين قوم غرب�اء‪ ،‬ولكنها من الناحيتي�ن التاريخي�ة‪ ،‬والواقعية حضارة‬
‫إنس�انية قبل كل ش�يء‪ ،‬إنس�انية المنش�أ‪ ،‬وإنس�انية الهدف‪ ،‬إنها الثم�رة األخيرة في‬
‫ش�جرة الحضارات الس�ابقة عليها‪ ،‬مثل الحضارة المصرية‪ ،‬واآلش�ورية‪ ،‬والبابلية‪،‬‬
‫جميعا وكأنها‬
‫ً‬ ‫والفارس�ية‪ ،‬واإلغريقية‪ ،‬والرومانية‪ ،‬واإلسلامية‪ ،‬وقد استفادت منها‬
‫ش�ركة مس�اهمة لكل ُأمة س�ابقة َأ ْس ُ‬
‫�ه ٌم فيها‪ .‬ال أنكر أنه توجد عناصر محلية في كل‬
‫َ‬
‫ُس�تنكر وتُر َفض م�ن بقية البش�ر‪،‬ولكنها فيما عدا ذلك‬ ‫حض�ارة ترتب�ط بالبيئة‪ ،‬وقد ت‬
‫جميعا‪ ،‬وأهم َمثَل على ذلك العلم‬
‫ً‬ ‫إنسانية الهدف‪ ،‬ومشروع موجه للعقول والقلوب‬
‫وتطبيقاته‪ ،‬وجانب ال يس�تهان به من الفكر والفن والسياسة والعالقات االجتماعية‪،‬‬
‫وكل أولئ�ك مع�روض عل�ى البش�ر للدراس�ة واالقتباس‪ ،‬ث�م تجاوز ذل�ك للهضم‬
‫والعطاء واإلبداع‪ ،‬مع التمسك بقيمنا الثابتة‪ ،‬ورفض ماال يندمج فيها‪.‬‬

‫‪478‬‬
‫التقدم‬

‫حقًّا ال يمكن إنكار التاريخ األس�ود الذي س�جله أصحاب تلك الحضارة معنا‪:‬‬
‫كم س�فكوا من دماء‪ ،‬وعرقلوا من نهضات‪ ،‬ونهبوا من ثروات‪ ،‬وأذلوا من كرامات‪،‬‬
‫ولك�ن علين�ا أن نصفي الماضي من س�يئاته‪ ،‬فقد جاهدنا الظالمي�ن حتى تحررنا من‬
‫قبضته�م‪ ،‬وبفض�ل علومهم‪ ،‬أنش�أنا حياتنا على أس�س جديدة‪ ،‬وبفض�ل إنجازاتهم‬
‫الطبية ُأنقذت ماليين األرواح التي كانت تفتك بها األوبئة كل عام‪ .‬ولنذكر ما أفدناه‬
‫من تجاربهم في زراعتنا وصناعتنا ون ُُظم الحكم و المعاملة‪ ،‬لنذكر ذلك‪ ،‬فلعله يعيننا‬
‫على فتح صفحة جديدة مع حضارتهم وتبديد سوء الظن بها‪.‬‬

‫آن لن�ا أن نتقب�ل المصالحة من أج�ل الحياة الالئقة بهذا العص�ر‪ .‬إن حاجتنا إلى‬
‫الحضارة الحديثة ال تقل عن حاجتنا للتمسك بقيمنا التراثية الخالدة‪.‬‬

‫‪ 16‬أبريل ‪1992‬‬

‫‪479‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫والدة عسيرة‬

‫هل التزال صورة عالم ما بعد الحرب الباردة محتفظة ببهائها؟ هل ال تزال ُم ِصرة‬
‫على الوفاء بوعودها من إقامة عالم على أسس شرعية دولية والعدل والسالم؟ الحق‬
‫أنه لم تقع تحوالت من شأنها أن تقضي صراحة على اآلمال التي عقدت بقيام ذلك‬
‫العالم الجديد‪ ،‬بل لعل الجهود المبذولة إلنجاح مؤتمر السالم برهان على أن مراكز‬
‫القوى في عالمنا التزال ملتزمة بالسير في الطريق الصحيح‪.‬‬

‫ولكن ثمة ن ُُذر تتطاير هنا وهناك تدل ‪-‬على األقل‪ -‬على أن والدة العالم الجديد‬
‫ْ‬
‫ستكون عسيرة وتتطلب المزيد من اإلخالص والتضحيات‪.‬‬

‫فنتيج�ة لألزمة االقتصادية التي تعاني منها الواليات المتحدة نش�طت دعوة بين‬
‫األمريكيي�ن تدع�و إلى االهتمام بأمريكا قبل كل ش�يء‪ ،‬ولو على حس�اب التوس�ع‬
‫في السياس�ة الخارجية‪ ،‬وال ُيس�تبعد أن تكون تلك النقطة هي أهم ما س�تدور حوله‬
‫المعركة االنتخابية للرياسة‪ .‬وواضح أن نجاح تلك الدعوة قد يصيب الوليد الجديد‬
‫بتشوهات تعود بالعالم إلى عصور المعاناة والمنافسة والحروب الباردة والساخنة‪.‬‬

‫وهبت عاصفة من العداوة لألجانب‪،‬‬


‫وامت�دت األزمة إلى المجموعة األوربي�ة‪َّ ،‬‬
‫عل�ى حي�ن احتلت اليابان ب�ؤرة العداء‪ ،‬فأصبح�ت تمثل العدو الش�رير‪ .‬هناك ً‬
‫أيضا‬
‫العواقب الوخيمة التي قد تنش�أ نتيجة اختفاء االتحاد الس�وفيتي وتكون الكومنولث‬
‫الجدي�د‪ ،‬وم�ا صاح�ب ذلك من مجاع�ة تهدد ش�عوب الكومنول�ث‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫تمخ َ‬
‫ض ذل�ك كله عن وجود أس�لحة خطيرة‬ ‫الخالف�ات الت�ي تفرق بي�ن دوله‪،‬وقد َّ‬
‫‪480‬‬
‫التقدم‬

‫وخبراء خطرين ال حاجة للكومنولث إليهم‪ ،‬ويخشى أن تتسرب األسلحة والخبراء‬


‫إل�ى كثي�ر م�ن دول األرض فتكون منطلقًا إل�ى تطلعات عدواني�ة جديدة قد تعرض‬
‫العال�م إلى أخطار لم يتعرض لمثلها من قبل‪ ،‬حتى إذا وضعنا في الحس�بان الحرب‬
‫العظم�ى الثانية‪ ،‬ويمك�ن أن نضع بين تلك النذر موقف الغرب من ليبيا‪ ،‬الذي نرجو‬
‫أن ينتهي إلى ٍ‬
‫حل ُي َج ِّنب َنا خيبة األمل ويحقق العدل‪.‬‬

‫كل ذل�ك يعن�ي أن�ه كي يول�د العال�م الجديد ‪-‬كما ن�ود‪ -‬فالبد من ب�ذل جهود‬
‫مضنية وتضحيات جس�يمة‪ .‬البد أن ترتفع دول العالم وشعوبه إلى ذروة تسمو على‬
‫األنانية والمنافع العاجلة‪ ،‬وأن ننظر إلى هذه الفترة من تاريخ اإلنسانية برؤية إنسانية‬
‫شاملة‪.‬‬

‫‪ 18‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪481‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫ثورة يوليو والعصر الذهبي‬

‫نعود إلى ثورة يوليو من جديد‪ .‬الحق أنه ما من خير أو شر يعرض لنا إلاَّ ويذكرنا‬
‫به�ا‪ ،‬وقد كان له�ا عصر ذهبي ال يغيب ع�ن ذاكرة َم ْن عاص�ره‪ ،‬عصر حفل بجالئل‬
‫اإلنج�ازات‪ ،‬وما حقق من أحالم‪ ،‬بل وما خلق م�ن أحالم جديدة تجاوزت األماني‬
‫الوطنية إلى خلق قومية جديدة‪ ،‬هي القومية العربية‪ ،‬والمشاركة في تحرير كل وطن‬
‫ُمستعبد‪.‬‬

‫وج�اء الخامس من يونية ليصفي العصر الذهبي‪ ،‬فتهاوت اإلنجازات‪ ،‬وتبخرت‬


‫األحلام‪ ،‬والتفتنا‪ ،‬فلم نجد حولنا إلاَّ أطاللاً هي البقايا لهياكل ُش ِ�غ ْل َنا عن خدماتها‬
‫وصيانتها وتنميتها بس�بب سلس�لة من الحروب دمرت االقتصاد‪ ،‬وأزهقت األرواح‬
‫وأدمت الكرامة‪.‬‬

‫كيف تبدو اليوم تلك الملحمة الحزينة؟‬

‫من بادئ األمر سارت الثورة في طريقين متناقضين‪ ،‬طريق اإلصالح االجتماعي‬
‫ُمتبني�ة آمال الش�عب وهواتف ضميره‪ ،‬وطريق االس�تبداد‪ ،‬وكأنها اس�تمرار للحكم‬
‫الملكي المطلق‪ ،‬بل تجاوزته صرامة وش�مولاً ‪ ،‬إضافة إلى جرائم جهازها اإلرهابي‬
‫ال�ذي فاق ما فعل�ه المماليك والعثمانيون بنا‪ .‬ووضح ً‬
‫أيضا أن طموحاتها السياس�ية‬
‫كانت أكبر بكثير من قوتها وإمكانياتها‪ ،‬لذلك ‪-‬وبرغم أنها ودت أن تجعل منا يابان‬
‫الشرق األوسط‪ -‬فقد انتكس عصرها الذهبي وتركنا تلاًّ من الخرائب واألحزان‪.‬‬

‫‪482‬‬
‫التقدم‬

‫ولم يكن أمام من يخلف الزعيم الراحل اَّّإل أن ينقذ ما يمكن إنقاذه‪ ،‬وأن يقيم من‬
‫جدارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حجرا أو‬
‫ً‬ ‫البناء المتهالك‬

‫وكان من عمل «السادات» أن رد إلينا الروح في أكتوبر‪ ،‬واسترد األرض‪ ،‬وحقق‬


‫السلام‪ ،‬وفتح ب�اب الديمقراطية‪ ،‬وخطا خطوات في س�بيل تحري�ر االقتصاد‪ ،‬وقد‬
‫صاحب ذلك لألس�ف خلل في االنفتاح‪ ،‬وت ََس ُّي ٌب في األخالق‪ .‬وجاء حسني مبارك‬
‫ليض�ع خط�ة جذرية في إع�ادة البناء والتنمية الش�املة‪ ،‬وفي عه�ده تتحقق إنجازات‬
‫ضخمة إضافة إلى رسوخ الديمقراطية وحرية الصحافة واإلصالح االقتصادي‪ ،‬وإذا‬
‫كان�ت ماليين من أبناء الش�عب لم تتخفف بعد م�ن معاناتها‪ ،‬فال يرجع ذلك إلى قلة‬
‫اإلنجازات‪ ،‬ولكن إلى شدة الخراب األول‪.‬‬

‫وعل�ى أي ح�ال فإن الي�وم ذكرى مهم�ة ف�ي تاريخنا‪،‬وفرصة نج�دد الدعاء بأن‬
‫يتغل�ب وطنن�ا على جمي�ع متناقضات�ه‪ ،‬وأن يحظ�ى بالمكانة الالئقة ب�ه تحت مظلة‬
‫الحرية والتقدم‪.‬‬

‫‪ 23‬يونيو ‪1992‬‬

‫‪483‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أحالم اليقظة‬

‫ال ب�أس أن نحل�م قليًل�اً لكيال ننس�ى ف�ي غمار ما ه�و كائن ما ينبغ�ي أن يكون‪،‬‬
‫وكيلا ننس�ى ً‬
‫أيضا حق�وق الش�عب المؤجلة لظ�روف قهري�ة‪ .‬والحل�م ترويح عن‬
‫النف�س‪ ،‬ولكن�ه ال يخلو من مغ�زى‪ ،‬فليس من قبي�ل التهويمات فق�ط أن أتصور أن‬
‫جمي�ع القوانين االس�تثنائية ق�د ُألغيت‪ ،‬وأننا أعدنا النظر في دس�تورنا ليتمخض عن‬
‫متماش�يا أكثر‬
‫ً‬ ‫دس�تور جديد يكون مرآة لديمقراطية غير مش�وبة‪ ،‬ولواقع حي متغير‪،‬‬
‫مع ما يحدث في العالم‪.‬‬

‫وأن االس�تثمارات المصري�ة والعربي�ة واألجنبي�ة تتكاث�ر بإيق�اع متالح�ق فوق‬


‫اس�تقرار راس�خ‪ ،‬واثبة بالصناعة والزراعة إلى مس�تويات جديدة‪ ،‬وقاضية على كثير‬
‫من المشكالت‪ ،‬في مقدمتها البطالة المقنعة والسافرة‪.‬‬

‫وأن مش�كلة التعليم قد ُسويت على أحسن حال ببناء المدارس الالزمة‪ ،‬وإعداد‬
‫المدرسين‪ ،‬وتغيير المناهج وأسلوب الدراسة تلبية لحاجات العصر‪ ،‬ولتربية الشباب‬
‫خير تربية عقلية ووجدانية وثقافية وبدنية‪،‬وتحقيق النصر الكامل على األمية‪.‬‬

‫وأن حق�وق اإلنس�ان أصبحت حقيقة ال مجرد ش�عار‪ ،‬تُمارس في الش�ارع كما‬
‫تمارس في السجون‪ ،‬وفي البيوت والمدارس والمصالح والمستشفيات‪ ،‬تحظى بها‬
‫األقليات كما تحظى بها األغلبية والنساء والرجال‪،‬والفكر واإلبداع‪.‬‬

‫‪484‬‬
‫التقدم‬

‫وأن يتم مشروع السد العالي بمعالجة سلبياته‪ ،‬ويتم النصر لنا في حروب التلوث‬
‫والمخدرات واألمراض المستوطنة‪.‬‬

‫وأن مص�ر أصبح�ت منارة ورائدة ف�ي مجاالت البح�ث العلم�ي والثقافة وقوة‬
‫اإلرادة‪ ،‬وصف�اء العقي�دة الدينية الحقيقي�ة‪ ،‬والنزاهة واالس�تقامة‪ ،‬وبإيجاز قد صرنا‬
‫وطن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه‪.‬‬
‫َ‬
‫حقًّا يا أخي إنه ُحلم‪،‬ولكن حلم اليوم هو واقع الغد‪.‬‬

‫‪ 10‬أكتوبر ‪1992‬‬

‫‪485‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الثورة بين الحرب والحضارة‬

‫الح�رب تكل�ف البش�رية ماال طاق�ة لها ب�ه‪ ،‬و َد ْع َنا من لغ�ة األرقام حت�ى ال نُصاب‬
‫بالذه�ول واإلحب�اط‪ ،‬ويس�توي في ذلك أن تك�ون الحرب فعلاً ُيم�ارس‪ ،‬أو أن يقتصر‬
‫األم�ر عل�ى االس�تعداد واالحتي�اط في س�باق ال نهاية له‪ .‬يض�اف إلى ذلك م�ا تقتضيه‬
‫الح�رب الفعلية أو االس�تعداد لها‪ ،‬م�ن تلوث الجو والبيئة‪ ،‬ونش�ر الخراب‪ ،‬موظفة في‬
‫ذل�ك ماليين األيدي العامل�ة والعقول المبدعة لتحقيق هدف أخي�ر واحد‪ ،‬هو إحداث‬
‫الم�وت والخراب‪ .‬و ُيقدر الحاس�بون ‪-‬كم�ا ورد في «األهرام»‪ -‬أن نس�بة ما ينفق في‬
‫ذل�ك الغرض يكفي لتطهير العالم من التلوث والفقر وكثير من األمراض‪ ،‬مما يهيئ‬
‫للبشرية سعادة ال تحلم بها في وضعها التعيس الراهن‪.‬‬

‫وم�ن العجي�ب أن يق�ال‪ :‬إن م�ا تنفق�ه ال�دول الفقي�رة عل�ى التس�ليح يف�وق ما‬
‫تنفق�ه ال�دول الغنية‪ ،‬وهي آخ�ذة في االزدياد‪ ،‬عل�ى حين تميل ميزاني�ة األغنياء إلى‬
‫االنضباط‪ .‬ويزول العجب إذا ُعرف الس�بب‪ ،‬وه�و أن األمم الصناعية الكبرى تتجه‬
‫نح�و التقارب‪ ،‬على حين أن دول الفقر والتأخر تمع�ن في الفرقة والتصادم‪ ،‬وهكذا‬
‫تجري األمور في العالم الثالث بصفة عامة‪ ،‬وفي دول الشرق األوسط بصفة خاصة‪،‬‬
‫وكأن البق�اء ق�د ُقدِّ َر أن يكون من نصي�ب األقوياء المتقدمي�ن‪ ،‬والضياع من نصيب‬
‫الفقراء المتأخرين‪.‬‬

‫هذه معلومات على دول العالم الثالث أن تدرس�ها وتستوعب مغزاها‪ ،‬وأن تقرأ‬
‫مس�تقبلها على ضوء ه�ذه ال ُّن ُذر‪ ،‬وتعيد النظر في سياس�تها‪ ،‬وأن تس�وي ما بينها من‬
‫‪486‬‬
‫التقدم‬

‫خالفات‪،‬وأن تتجه نحو التعاون والسالم‪ ،‬فهو خير وأبقى‪.‬‬

‫المطا َلبة باستيعاب هذا الدرس‪ ،‬لقد أنفقت على‬


‫وبالدنا العربية في مقدمة البالد ُ‬
‫جميعا‪ ،‬وإخراجها من‬
‫ً‬ ‫الحرب في نصف القرن الماضي ما كان يكفي لتطوير أوطانها‬
‫ظلم�ات العالم الثالث إلى نور العالم المتطور‪،‬وها هي ذي تتجه نحو إقرار السلام‬
‫مع إسرائيل‪ ،‬فدعنا نأمل أن تتجه بعد ذلك نحو السالم والتعاون مع بعضها البعض‪،‬‬
‫كي تُبعث من جديد في حياة التقدم والحضارة‪.‬‬

‫‪ 5‬نوفمبر ‪1992‬‬

‫‪487‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الجهاد‬

‫معا‬
‫مش�كالتنا مترابط�ة وال ج�دوى م�ن محاول�ة إصلاح جزئ�ي‪ ،‬فهي تعي�ش ً‬
‫مع�ا في الوقت المناس�ب ال�ذي تح�دده عزيمتن�ا وقدرتنا على‬
‫متس�اندة‪ ،‬وتذه�ب ً‬
‫التصدي للتحديات‪ ،‬ال نس�تطيع أن نفصل بين األزمة االقتصادية والفساد‪ ،‬أو بينهما‬
‫وبي�ن التط�رف وس�وء اإلدارة‪ ،‬أو بين كل تلك وبي�ن التوعك األخالق�ي والثقافي‪،‬‬
‫فاألم�ل‪ ،‬معقود بالتنمية الش�املة‪ ،‬تنمية جميع األنش�طة الروحية والمادية من خالل‬
‫الخطط الخمس�ية المتتابع�ة‪ ،‬مع صدق العزم على العمل الصادق في اس�تمرارية ال‬
‫تتوقف وال تهن‪ ،‬وقد آن لنا أن نضاعف من سرعة اإليقاع‪،‬وأن نتعجل النتائج وجني‬
‫الثمار قبل أن ينفد الصبر أو يدركنا اليأس‪.‬‬

‫ولعلنا ال نملك في هذه اآلونة إلاَّ أمرين‪:‬‬

‫‪ -1‬أن نعمل بكل ما نس�تطيع من جهد على تشجيع االستثمار الخاص‪ ،‬وجذب‬
‫المس�تثمرين من جميع المل�ل وال ِّن َحل‪ ،‬ونهيئ المناخ الطيب الذي يوفر االس�تقرار‬
‫يس�ر اإلجراءات‪ ،‬وأن نصدر من أجل ذلك ما تدعو إليه الضرورة‬
‫ويزيل العقبات و ُي َ‬
‫من إصالحات سياسية وتشريعات‪ ،‬وتحقيق لألمن الكامل‪ ،‬وأننا لنعترف بما تم في‬
‫ذلك المجال‪ ،‬ولكننا نود ألاَّ نقف عند حد‪ ،‬ونحن أدرى بما ينقصنا‪.‬‬

‫‪ -2‬أن نحق�ق األداء الكامل في الحكومة والقط�اع العام‪.‬حقًّا إن دعوى الرحمة‬


‫وإدراك الواقع ومصاعبه‪ ،‬تدعو للتساهل في سلوكيات كثيرة‪ ،‬واإلغضاء عن أخطاء‬

‫‪488‬‬
‫التقدم‬

‫م�ا كان يمك�ن الس�كوت عليها في زمن س�ابق‪ ،‬فلنس�لم بما جرت ب�ه المقادير‪،‬وما‬
‫قضى به علينا من س�لبيات‪ ،‬ولكن في مقابل ذلك يجب أن يؤدي العاملون واجبهم‬
‫كاملاً غير منقوص مهما كلفهم ذلك من عناء‪،‬ومهما كلفنا من رقابة ومتابعة وإصرار‬
‫وحزم‪.‬‬

‫يج�ب أن نثب�ت أنن�ا أه�ل للحي�اة‪ ،‬وأننا جدي�رون بنعمته�ا‪ ،‬وأننا ق�ادرون على‬
‫التص�دي للتحديات وتحدي الش�دائد‪ ،‬ك�ي نصلح عالمنا الصغير الذي يوش�ك أن‬
‫يتهاوى بنا‪ ،‬ونعيد إليه توازنه األصيل‪ ،‬فتسري الدماء في العروق الجافة‪ ،‬وتعود إلى‬
‫حياتنا بهجة الثراء الروحي والثقافي والمادي‪.‬‬

‫‪ 12‬نوفمبر ‪1992‬‬

‫‪489‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫أصل الحكاية‬

‫كان الزل�زال فرص�ة يلتقي فيه�ا قانون طبيعي أو ظاهرة كونية بقوانين إنس�انية أو‬
‫سلوك بشري‪ ،‬وكان فرصة للمقارنة بين االثنين من نواحي الدقة والتطبيق والنتائج‪،‬‬
‫ولس�ت أزعم أن نتيجة التأمل في ظاهرة الزلزال تصدق على س�ائر القوانين الكونية‬
‫لدى التقائها بالقوانين اإلنس�انية والسلوك البش�ري‪ ،‬فالحكم الشامل يقتضي دراسة‬
‫شاملة ومقارنات شاملة‪ ،‬فلنقنع بتأمل ما كان من عواقب لدى التقاء الزلزال بقوانيننا‬
‫وسلوكنا‪.‬‬

‫كان الزلزال ‪-‬كثمرة لتفاعالت في باطن األرض‪ -‬ذا نتائج محددة‪ ،‬آية في الدقة‬
‫والكم�ال‪ ،‬وال أظن�ه زاد درج�ة أو نق�ص درجة عن المرس�وم له‪ ،‬كذل�ك من ناحية‬
‫مدت�ه وتوابع�ه من الهزات المقدرة‪ ،‬وقد هز ‪-‬كما هو محتوم‪ -‬مس�اكن‪ ،‬ومنش�آت‪،‬‬
‫وآث�ارا‪ ،‬فضلاً ع�ن قلوب األحي�اء وعقولهم‪ ،‬وهي أش�ياء تخضع في‬
‫ً‬ ‫ومؤسس�ات‪،‬‬
‫وجوده�ا لقواني�ن علمي�ة‪ ،‬كما تخضع ف�ي التعامل معه�ا إلى قيم وقواني�ن أخالقية‬
‫وإنس�انية‪ ،‬والعق�ول نفس�ها والقل�وب تترب�ى في رح�اب تعالي�م إلهي�ة واجتماعية‬
‫وإنس�انية‪،‬وال نغالي إذا قلنا‪ :‬إن الزلزال لم يجد األش�ياء واألحي�اء كما ينبغي لها أن‬
‫تكون‪ ،‬وجد أن الغش قد تسلل للبناء وصميم األشياء‪ ،‬كما تسلل للعقول والقلوب‪،‬‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فكان�ت العواق�ب الت�ي امتحنا بها‪ ،‬فب�دا أن الزل�زال ُيعاقبنا على م�ا كان منا‬
‫واآلن دعنا نتذكر ونتأمل ما يلي‪:‬‬

‫‪490‬‬
‫التقدم‬

‫‪ -1‬اف�رض أنن�ا اهتممنا بكل إن�ذار تلقيناه عن الزالزل‪ ،‬والت�ي يقال إنها وردت‬
‫إلين�ا م�ن هيئة األم�م وإنجلت�را وألماني�ا‪ ،‬وأننا بذلن�ا المعق�ول من الجه�د للحيطة‬
‫واالستعداد؟‬

‫‪ -2‬ولنفرض أننا لم نتسامح مع مخالفة واحدة في البناء‪.‬‬

‫‪ -3‬ولنف�رض أننا أخلصنا لعملنا في البناء وتنفيذ القانون‪،‬وقنعنا بالرزق الحالل‬


‫وهو كثير‪.‬‬

‫‪ -4‬ولنفرض أنه كانت لنا سياسة حضارية إنسانية مع المساكن القديمة المنسية‪،‬‬
‫لنف�رض ذلك كله‪ ،‬وهو يس�ير وواجب‪ ،‬وال نس�تحق ه�ذا الوصف إلاَّ مع أساس�ه‪،‬‬
‫لنفرض أننا فعلنا ذلك‪ ،‬ألم يكن يمر الزلزال بسالم‪ ،‬أو بخسارة ال تُذكر؟‬

‫فألية درجة يا سيدي نُعتبر ضحايا للزلزال؟‬

‫وألية درجة نصير ضحايا ألنفسنا؟‬

‫‪ 19‬نوفمبر ‪1992‬‬

‫‪491‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الوجه اآلخر‬

‫الزل�زال كم�ا س�بق القول يب�دو وكأنه عق�اب‪ ،‬فكش�ف الكثير م�ن عيوبنا‪ ،‬مثل‬
‫س�وء اإلدارة‪ ،‬وعدم احت�رام القانون‪ ،‬والغش وخ�راب الذمم‪،‬والتهاون المزري مع‬
‫المخالفين‪ ،‬وضعف الرقابة والمحاس�بة والمتابع�ة‪ ،‬وجاءت العاقبة في صورة قتلى‬
‫وجرحى‪،‬وخس�ائر في الممتلكات‪ ،‬وانهيا ٍر في المساكن والمؤسسات والمدارس‪،‬‬
‫وتأث�ر ف�ي اآلث�ار‪ ،‬باإلضافة إلى الهل�ع الرهيب والح�زن العمي�ق‪ ،‬واالكتئاب الذي‬
‫غشينا كالضباب‪.‬‬

‫ه�ذا معن�ى للح�دث ال يج�وز أن يغيب‪،‬ولكنه لي�س الوحيد‪ ،‬فثمة وج�ه للخير‬
‫واألمل‪،‬ونح�ن كأحي�اء ال يص�ح أن نف�رط ف�ي األم�ل أو نس�تهين ب�إرادة الحي�اة‪،‬‬
‫والك�وارث م�ا هي إلاَّ تجارب وألوان من الخطر‪ ،‬علين�ا في النهاية أن نحتويها‪ ،‬وأن‬
‫فرصا الستثارة الهمم وبعث مكامن القوة‪.‬‬
‫نجعل منها ً‬
‫وم�ا ه�ي بكلمات تش�جيع وأحلام يقظ�ة‪ ،‬وال ش�يء وراء ذلك‪ ،‬فالب�د للذين‬
‫ذاقوا مرارة التجربة‪ ،‬وتش�ربوا هزات األرض في أفئدتهم‪ ،‬وش�عروا بأنفاس الموت‬
‫تت�ردد ف�وق وجوههم‪ ،‬البد له�ؤالء من أن يعي�دوا النظر بقوة وصالبة ف�ي اإلدارة‪،‬‬
‫وفي التعامل مع الفس�اد والمفسدين والمخالفين‪ ،‬وأن يغيروا سياستهم مع اإلهمال‬
‫والتسيب والرقابة والمحاسبة‪.‬‬

‫ولك�ن م�ا العم�ل في توفي�ر المال اللازم لتعمي�ر جميع م�ا خربت�ه الحوادث؟‬
‫التبرع�ات ال تكف�ي‪ ،‬والمس�اعدات ال تغني‪ ،‬وغي�ر بعيد أن تتعط�ل الخطة في نواح‬
‫‪492‬‬
‫التقدم‬

‫منها‪ ،‬حقًّا إن ذلك َقدَ ٌر مؤسف ولكنه ال يدعو لليأس‪ ،‬فالمسألة في جملتها ال تخرج‬
‫عن توجيه بعض المال من أهدافه األصلية إلى أهداف جديدة ال تقل عنه أهمية‪.‬‬

‫س�نبني مدارس جديدة‪ ،‬ونرمم مدارس كثيرة‪ ،‬س� ُنرمم اآلثار‪ ،‬س�نعتمد سياس�ة‬
‫جدي�دة ف�ي التعام�ل م�ع المس�اكن القديم�ة اآليل�ة للس�قوط أو التي ف�ات عمرها‬
‫المفترض‪.‬‬

‫فإننا لو لم نفعل ش�ي ًئا س�وى تنظيم اإلدارة وتطهيرها من الفس�اد‪ ،‬وفرض سيادة‬
‫القانون لكان لنا العزاء كل العزاء‪،‬ولكان لنا نصر مبين‪.‬‬

‫‪ 26‬نوفمبر ‪1992‬‬

‫‪493‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫مركز التحديات‬

‫مض�ى زمن طويل ونحن ال نع�رف من التحديات إلاَّ النوع البش�ري منها‪ ،‬أعني‬
‫ذلك النوع الذي ُيعد اإلنس�ان مس�ئوال عنه‪ ،‬مثل الغزو‪ ،‬واالس�تعمار‪ ،‬واالس�تبداد‪،‬‬
‫والتأخ�ر الحض�اري‪ .‬حقًّ�ا نعل�م م�ن التاري�خ أن التحدي�ات األولى الت�ي صادفت‬
‫تغير األج�واء والعواصف والوحوش وما ش�ابه ذلك‪،‬‬
‫اإلنس�ان كان�ت طبيعية‪،‬مث�ل ّ‬
‫ولكن اإلنس�ان عرف كيف يتواف�ق مع أغلبها من خالل تقدم�ه الحضاري‪ ،‬فلم يعد‬
‫يش�غله ويس�تقطب اهتمامه إلاَّ التحديات التي أس�ميتها بالبش�رية‪ ،‬ولكن الحضارة‬
‫الحديثة نفسها أصبحت تحذرنا من التحديات الطبيعية‪ ،‬وتنبهنا إلى خطورة عواقبها‪،‬‬
‫فقد تقضي على الحضارة أو توقف تطورها‪ ،‬وقد تهلك البش�رية نفس�ها ف ُت ْم ِس�ي في‬
‫خبر كان‪.‬‬

‫لم ْنشَ �ئِ َها قلن�ا‪ :‬منها ما ه�و طبيعي بحت‬


‫تبع�ا ِ‬
‫وإذا أردن�ا أن نصن�ف التحدي�ات ً َ‬
‫كالزل�زال‪ ،‬والبراكين‪ ،‬واألعاصير‪ ،‬والفيضان�ات‪ ،‬وبعض األمراض الخطيرة‪ ،‬ومنها‬
‫تحديات طبيعية ً‬
‫أيضا‪،‬ولكنها من أصل بش�ري‪ ،‬أي نتيجة للحضارة نفسها‪ ،‬النهماك‬
‫ً‬
‫انهماكا أنس�اه عواق�ب الكثير م�ن تصرفات�ه‪ ،‬مثل فتحة‬ ‫اإلنس�ان ف�ي صراع الحي�اة‬
‫األوزون‪ ،‬والتلوث‪ ،‬والجفاف‪ ،‬وما يعقب ذلك من أوبئة ومجاعات‪.‬‬

‫هذه وتلك ذات عواقب ش�ديدة الخطورة على اإلنس�ان‪ ،‬بل عل�ى الحياة بصفة‬
‫عامة‪ ،‬مما يحدثونك عن نتائجها من كوارث مخيفة‪ ،‬منها الهالك الش�امل للنباتات‪،‬‬

‫‪494‬‬
‫التقدم‬

‫جميع�ا‪ ،‬من نب�ات‪ ،‬وحيوان‪،‬وإنس�ان‪ ،‬وق�د تغرق مدن‬


‫ً‬ ‫وق�د يمت�د الهلاك لألحياء‬
‫وسواحل‪ ،‬وقد تختفي أجزاء ال ُيستهان بها من القارات‪.‬‬

‫اإلضرار‬
‫وطبعا نحن مطالبون ‪-‬كس�ائر البش�ر‪ -‬باتخاذ جميع اإلج�راءات لمنع ْ‬
‫ً‬
‫بالبيئة وإفس�ادها‪ ،‬ودفعها لمقابلة الش�ر بمثله‪ ،‬بل لعلنا نتخ�ذ الخطوات األولى في‬
‫ذلك السبيل الذي ال مفر من السير فيه بقوة وثبات‪.‬‬

‫ولك�ن إل�ى جانب ذلك يجب أن نس�تعد لمواجهة أية كارث�ة حتى ال نؤخذ على‬
‫غ�رة‪ ،‬كم�ا حدث لنا مع الزل�زال األخير ذي التواب�ع‪ ،‬يجب أن يكون لن�ا مركز دائم‬
‫للمقاومة لدراس�ة جميع احتماالت وقوع الكوارث‪،‬وأن يكون لدينا تخطيط شامل‪،‬‬
‫واستعدادات احتياطية‪ ،‬وقوى من األجهزة والبشر‪.‬‬

‫إنه قدر اإلنس�ان أن يعيش ف�ي مواجهة التحديات‪ ،‬وأن يخل�ق ثقافته وحضارته‬
‫من خالل ذلك‪.‬‬

‫‪ 2‬ديسمبر ‪1992‬‬

‫‪495‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫طريق الحياة‬

‫البد من نهضة حضارية ش�املة‪ ،‬وإنْ طال الطريق وامتأل بالعقبات والمصاعب‪،‬‬
‫البد من نهضة حضارية شاملة‪ ،‬والبد من إرادة صلبة تتناسب قوتها مع ثقل العقبات‬
‫والمصاعب‪.‬‬

‫ولعله مما يشحذ الهمم ويقوي العزائم‪ ،‬أن نجدول العقبات والمصاعب لنحسن‬
‫تقدير الطاقة التي تلزمنا لتحقيق الهدف وبلوغ الغاية‪.‬‬

‫فما العقبات؟ وما المصاعب؟‬

‫كوني‪ ،‬مثل‬
‫ّ‬ ‫منه�ا م�ا هو ليس م�ن صنعنا المباش�ر أو غير المباش�ر‪ ،‬فهو طبيع�ي‬
‫الزالزل‪ ،‬وهذه نواجهها بالصبر واإليمان والتس�لح بم�ا يمكن أن يمدنا به العلم من‬
‫أجهزة رصد وتنبؤ‪ ،‬وما يمكن أن ننش�ئه من مراكز لالس�تعداد للكوارث‪ ،‬وعلى كل‬
‫إنسان بعد ذلك أن يحمل َقدَ َر ُه ويرضى به‪.‬‬

‫ومنها كوارث طبيعية‪ ،‬ولكنها من صنعنا بطريق غير مباش�ر‪ ،‬كالتلوث‪،‬وسلبيات‬


‫السد العالي‪ ،‬وهذا النوع يمكن مقاومته بالوسائل العلمية الحديثة في نطاق التعاون‬
‫الدولي‪ ،‬ومنها عقبات اجتماعية وطبيعية في آن واحد‪ ،‬كالمشكلة السكانية وتفاقمها‬
‫عا ًما بعد عام‪ .‬وفيها جانب ال حيلة لنا فيه‪ ،‬وآخر يمكن عالجه بالوعي‪ ،‬ولعل أنجح‬
‫وسيلة إلحراز نجاحٍ فيه هي نشر التعليم والثقافة‪.‬‬

‫‪496‬‬
‫التقدم‬

‫أساس�ا من ُصنعنا بال شريك‪ ،‬ونحن مسئولون عنها‬


‫ً‬ ‫بقية العقبات والصعاب هي‬
‫شعبا ودولة‪ ،‬مثل النظام السياسي‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والتعليم‪ ،‬واألخالق العامة‪ ،‬والمستوى‬
‫ً‬
‫الثقافي‪ ،‬والتربية الدينية الصحيحة‪ ،‬والبطالة‪ ،‬والمخدرات‪ ،‬وسيادة القانون‪ ،‬واحترام‬
‫وإخالصا‪،‬ومرونة وصد ًقا‬
‫ً‬ ‫حقوق اإلنس�ان‪ ،‬وإصالح ذلك يتطلب من الدولة حكمة‬
‫وفهما للعالم الجدي�د‪َ ،‬و ِع َظات التاريخ‪ ،‬كما يتطلب من‬
‫ً‬ ‫واعتبارا‬
‫ً‬ ‫وعمًل�اً متواصلاً ‪،‬‬
‫وتجريب جميع السبل المشروعة في الدفاع عن حقه‬
‫َ‬ ‫الش�عب يقظة وانتما ًء وجدية‪،‬‬
‫قبل أن يدفعه اليأس إلى التمرد أو الثورة‪ ،‬والله معنا في جميع األحوال‪.‬‬

‫‪ 24‬ديسمبر ‪1992‬‬

‫‪497‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫القوة في خدمة المبادئ‬

‫أخيرا قرر مجلس األمن التدخل العسكري في الصومال إلنقاذ أهله من المجاعة‬
‫ً‬
‫جوعا‪ .‬وقد رئيت جموعه وهي تتساقط أمام مراكز اإلعانة الخالية‪ ،‬والموت‬
‫والموت ً‬
‫يخترم رجالهم ونساءهم وأطفالهم‪.‬‬

‫متأخرا‪ ،‬وبعد أن هلك مئ�ات األلوف من الضحايا‬


‫ً‬ ‫ُأن�اس ي�رون أن القرار ص�در‬
‫قرارا مماثلاً لحماية البوسنة والهرسك‪ ،‬وتأديب قوى الصرب‬
‫األبرياء‪،‬وهم يتمنون ً‬
‫الباغية‪.‬‬

‫ولك�ن يوج�د آخرون ينظ�رون إلى الق�رار بعي�ن التوجس‪ ،‬ويخش�ون أن يكون‬
‫فاتحة لتس�لط ال�دول الكبرى عل�ى الدول الصغي�رة‪ ،‬وعودة إلى االس�تعمار تحت‬
‫أقنعة جديدة وحجج مبتكرة‪.‬‬

‫والحق أقول‪ :‬إن هذا القرار إنْ لم َي ْصر قاعدة تتبعها هيئة األمم ومجلس األمن‪،‬‬
‫خاليا من أي مضمون حقيقي‪ ،‬وتظل فكرة العالم‬
‫رمزا ً‬
‫فسوف تظل الهيئة ومجلسها ً‬
‫حلما ال أمل في تحقيقه‪.‬‬
‫الجديد ً‬
‫جادا حقًّا في الدفاع عن المبادئ البش�رية التي تتبناها هيئة األمم‪،‬‬
‫إذا كان العالم ًّ‬
‫من�اص من أن يقف موق ًفا حاز ًما من أي مس�تهتر بتلك المبادئ أو خارج عليها‪.‬‬
‫َ‬ ‫فلا‬
‫ولذلك تمنينا أن يكون لمجلس األمن قوته المستقلة التي تشارك في تكوينها جميع‬
‫األمم الموقعة على ميثاق الهيئة‪.‬‬

‫‪498‬‬
‫التقدم‬

‫وضمانً�ا لعدم االنحراف والتورط في المكائد يمكن التوس�ع في عدد األعضاء‬


‫األساس�يين لمجل�س األم�ن‪ ،‬وأن يمث�ل في�ه العال�م الثال�ث‪ ،‬وألاَّ يلجأ إل�ى الحل‬
‫العسكري إلاَّ إذا استفتى أعضاء الهيئة العامة‪ ،‬باإلضافة إلى مجلس األمن‪.‬‬

‫لي�س من المتعث�ر أن نقترح الضمانات الواقية من االنح�راف‪ ،‬ومن اإلجراءات‬


‫المتعس�فة الت�ي ق�د تلجأ إليها ال�دول القوي�ة في خالفها م�ع الدول الصغي�رة‪ ،‬كما‬
‫حكما عادلاً بين‬
‫ً‬ ‫يمكن إضافة صالحيات جديدة إلى محكمة العدل الدولية لتكون‬
‫األمم‪.‬‬

‫وخالص�ة الق�ول‪ :‬إننا نقبل أي حق إلاَّ أن تبقى هيئة األم�م ومبادئها ً‬


‫رمزا جميلاً‬
‫بال حول وال قوة‪.‬‬

‫‪ 28‬يناير ‪1993‬‬

‫‪499‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫َع ْو ٌد إلى العالم الجديد‬

‫يج�ب ألاَّ نس�تهين بم�ا قيل وما يق�ال عن العال�م الجديد‪ ،‬عالم م�ا بعد الحرب‬
‫�ر به‪ ،‬وأن‬
‫الب�اردة‪ ،‬ومم�ا يوحي بالثقة والطمأنينة أن الرئيس «بوش» كان أول من َب َّش َ‬
‫الرئيس «كلينتون» قد أيد ذلك في تصريحات صريحة‪.‬‬

‫ال أنك�ر أن كثيرين ال يصدقون ما قي�ل وما يقال‪ ،‬ويعتبرون أن العالم القائم على‬
‫الحرية والسلام والعدل ما هو إلاَّ ش�عار سياس�ي ماكر‪ ،‬ولديهم من األمثلة ما يؤيد‬
‫رأيهم‪ ،‬وحقًّا ال أنكر ‪-‬على س�بيل المثال‪ -‬أن األداء في أزمة البوس�نة والهرسك لم‬
‫يقترب لنظيره في أزمة الخليج‪ ،‬فقد اتسم في أزمة الخليج بالحزم والحسم والتنفيذ‬
‫والبطش‪ ،‬على حين َبدَ ا في أزمة البوسنة والهرسك ضعي ًفا متخاذلاً بطي ًئا‪ ،‬يتكلم وال‬
‫يفعل‪ ،‬أو يفعل بعد حين من الدهر ال يحتمل‪.‬‬

‫هك�ذا كان عندم�ا انطبقت المصال�ح على المب�ادئ دون مصالح تس�ندها‪ ،‬فقد‬
‫تداع�ى الموق�ف وخيب اآلمال‪ .‬ال أنكر ش�ي ًئا من ذلك‪ ،‬ولك�ن يجب االعتراف بما‬
‫َ‬
‫أيضا‪ ،‬من تعبئة للرأي العالمي‪ ،‬وإرس�ال اإلغاثات المتتابعة‪ ،‬وفرض‬ ‫كس�بته القضية ً‬
‫عقوب�ات الحص�ار‪ ،‬والمقاطع�ة‪ .‬ويج�ب ألاَّ نتوقع أن يول�د العالم الجدي�د كاملاً ‪،‬‬
‫وحس�بنا ألاَّ يحيد ع�ن هدفه حتى يحققه على أتم ما يك�ون من الكمال‪ ،‬ومن خالل‬
‫هيئة األمم في يوم غير بعيد‪.‬‬

‫واضحا في أقواله عن‪:‬‬


‫ً‬ ‫وقد كان الرئيس كلينتون‬

‫‪500‬‬
‫التقدم‬

‫‪ -1‬أن يكون له دور رئيسي في بدء السالم ودعمه‪.‬‬

‫‪ -2‬أن يعيد النظر في اتفاقات بيع السالح السابقة حتى ال يسلح أمة عدوانية‪.‬‬

‫‪ -3‬منع أسلحة الدمار الشامل بجميع أنواعها‪.‬‬

‫‪ -4‬التعاون مع الديمقراطية‪.‬‬

‫‪ -5‬احترام حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫أتمن�ى أن تصير هيئة األمم قوة حقيقية لضمان المبادئ البش�رية الس�امية‪ ،‬وردع‬
‫االنحراف والمنحرفين‪.‬‬

‫‪ 8‬أبريل ‪1993‬‬

‫‪501‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫شهادة بحسن السير والسلوك‬

‫اجتم�ع الرئي�س األمريك�ي الجدي�د باألطف�ال في حديق�ة البيت األبي�ض‪ .‬دار‬


‫قديم�ا عندما كان التدخين والخمر‬
‫قديما وحديثًا‪ً ،‬‬
‫الحوار حول مش�كالت الطفولة ً‬
‫وما يجري مجراهما هو المحظور‪ ،‬وحديثًا عندما ُأضيفت إليها المخدرات ومرض‬
‫اإلي�دز‪ .‬واعترف الرئيس بأن أرقامه في الس�لوك كانت ضعيفة‪ ،‬وهو اعتراف مفزع‪،‬‬
‫ولكن خفف من وقعه ذكره بأن س�بب ذلك كان كث�رة كالمه في الفصل‪،‬وذاك عيب‬
‫أخف من غيره‪ ،‬ولعله يفسر كثرة وعوده في حملته االنتخابية‪.‬‬

‫ويس�وقنا ذلك إلى موضوع عالقة األخالق بالسياس�ة‪ ،‬ويذكرن�ا بالرأي الغالب‬
‫القائ�ل ب�أن األخالق فردية‪ ،‬يطالب الف�رد بااللتزام بها في الحي�اة الخاصة والعامة‪،‬‬
‫أما السياس�ة فال تخضع لقوانين األخالق‪ ،‬وأن القول الفصل فيها يرجع إلى مقياس‬
‫تأسيس�ا على المصلحة‪ ،‬والمصلحة وحده�ا‪ .‬وعلى مدى التاريخ‬
‫ً‬ ‫النجاح والفش�ل‬
‫�زل‪ ،‬أو من هم ف�ي ُحكم الع�زل إذا قورن‬
‫بالع َّ‬
‫اش�تهر االس�تعمار بمذابح�ه وغ�دره ُ‬
‫سلاحهم بسلاحه‪ ،‬كما اتضحت قس�وته في التج�ارة بالعبي�د‪ ،‬وذاع صيت الوعود‬
‫البريطاني�ة الت�ي ال وف�اء لها‪ ،‬وع�رف «فريدري�ك بروس�يا» بالنكث بالعه�ود‪ ،‬حتى‬
‫أطلقوا عليه «الوعد الجميل»‪ ،‬أما «بس�مارك» فقد جر فرنس�ا إلى الحرب الس�بعينية‬
‫الع ْظ َميان‬
‫بكذب�ة متقنة‪ .‬أما التاريخ المعاصر فأمثلته لم تبرح األذهان بعد‪ ،‬والحربان ُ‬
‫أكبر ش�اهدين على ذلك‪ ،‬إن كان الحكم يجري على الفرد بِ ُخ ُل ِقه‪ ،‬وعلى السياس�ي‬
‫بنجاحه‪.‬‬

‫‪502‬‬
‫التقدم‬

‫ترى هل تغيرت تلك الرؤية أم التزال على ما كانت عليه؟‬

‫م�ا أكث�ر الذين يس�يئون الظ�ن‪ ،‬الذين يقرأون خل�ف كل قول أو فع�ل مؤامرة أو‬
‫مكيدة‪ ،‬الذين ال يثقون بأية سياسة حتى لو انطبقت عليها الشرعية الدولية والمبادئ‪،‬‬
‫ولكن الحال تغيرت عن ذي قبل‪ .‬ال شك أنه يوجد اليوم رأي عام عالمي‪ ،‬كما يوجد‬
‫ضمي�ر عالم�ي‪ ،‬وأي حاكم مهما َج َّ‬
‫�ل قدره يس�عى لالحتماء بهيئ�ة األمم ومجلس‬
‫األم�ن‪ ،‬وقد تختلف القرارات بي�ن موقف تتفق فيه المب�ادئ والمصالح عن موقف‬
‫ال يتفقان فيه‪ ،‬ولكن األمر ال يخلو من ضغط أو حصار أو إرسال اإلغاثة الضرورية‪،‬‬
‫فضلاً عن ذلك فلم يعد أحد يباهي بالغدر أو القسوة أو تحدي اإلرادة الدولية‪ ،‬بل إن‬
‫المحاكمات تهدد رؤساء الدول النحرافهم‪ ،‬وقد فقد رئيس أكبر دولة منصبه بسبب‬
‫تهمة أدانت سلوكه السياسي قبل أن يلي الحكم‪.‬‬

‫دعونا نأمل أن يكون الحال قد تغير‪،‬وأن الغد سيكون أفضل‪.‬‬

‫‪ 20‬مايو ‪1993‬‬

‫‪503‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫حسن الرجاء‬

‫بداية الفترة الثالثة في حكم الرئيس حسني مبارك‪.‬‬

‫نهنئ�ه عل�ى الف�وز‪ ،‬ولعله ال يوجد خالف على ش�خصه‪ ،‬وال عل�ى المنزلة التي‬
‫يحتله�ا ف�ي القلوب‪ ،‬وما موقف المعارضة إلاَّ موقف سياس�ي يعرب عن الرغبة في‬
‫التغيير والحث على اإلصالح‪ ،‬ومضاعفة الحزم في مواجهة الواقع‪.‬‬

‫ولكنن�ا ال ندف�ع بالتهنئ�ة وال نقف عند حدوده�ا‪ ،‬وال ندع الفرص�ة تمر دون أن‬
‫وأماني وآمال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نعاود التعبير بما يجيش في صدورنا من رغبات‬

‫إن الرئيس يبدأ خطاه الجديدة بعد ممارسته فترتين مليئتين باألحداث والتجارب‪،‬‬
‫حدثت إنجازات كثيرة وال ش�ك‪ ،‬واعترضت عثرات خطيرة‪ ،‬وتراوحنا بين مواقف‬
‫النبل والشجاعة‪ ،‬ومواقف الكوارث الطبيعية والبشرية‪ ،‬فيجب أن نكون اليوم أقرب‬
‫واألماني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إلى الحكمة والسداد‪ ،‬وتحقيق اآلمال‬
‫ولو أنني استرس�لت في تس�جيل المطالب لمألت صفحات وصفحات‪ ،‬فضلاً‬
‫ِ‬
‫فألكتف بذكر‬ ‫ع�ن أنها أصبح�ت محفوظة من ط�ول ترددها ومعان�اة الناس معه�ا‪،‬‬
‫أمهات المسائل التي أعتقد أنها ستعرض نفسها في الفترة المقبلة‪.‬‬

‫أولى هذه المسائل هي الديمقراطية باعتبارها المدخل لكل إصالح‪.‬‬

‫وثانيتها المش�كلة االقتصادية التي يجب أن يقترن حلها الحقيقي بتحس�ين حال‬
‫الفقراء وأشباه الفقراء‪.‬‬
‫‪504‬‬
‫التقدم‬

‫وثالثتها تحديد الموقف من التيار اإلسالمي وكيفية التعامل معه‪،‬وهو أمر شديد‬
‫االرتباط بالمسألة األولى‪.‬‬

‫موضوعا يكاد يغي�ب عن البال برغم ارتب�اط وجودنا به‪ ،‬أعني‬


‫ً‬ ‫ورابعته�ا تخ�ص‬
‫اس�تكمال مش�روع الس�د العال�ي‪ ،‬فلا يمك�ن أن نمضي معه ف�ي نط�اق الفعل ورد‬
‫الفعل‪.‬‬

‫جميعا‬
‫ً‬ ‫أمورا ملحة مثل الفساد‪ ،‬والبطالة‪ ،‬واإلرهاب‪ ،‬ولكنها‬
‫وحقًّا أنني لم أنس ً‬
‫أعراض ونتائج‪.‬‬

‫‪ 7‬أكتوبر ‪1993‬‬

‫‪505‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫غ ًدا تشرق الشمس‬

‫انعق�اد أية دورة لهيئة األمم‪ ،‬فرصة لس�ماع ص�وت العالم ونبض ضميره‪ ،‬عندما‬
‫تتردد اآلمال والمطالب البشرية‪ ،‬وترتفع نداءات العدل من جنبات القاعة‪ ،‬وتتسابق‬
‫االقتراح�ات البن�اءة عن جن�وب إفريقيا والصومال والبوس�نة ودي�ون العالم الثالث‬
‫وغالبا ال يج�اوز الكالم الطيب القلب واللس�ان‪ .‬أما القرارات فال‬
‫ً‬ ‫وأم�راض البيئ�ة‪،‬‬
‫تصدر إلاَّ من مجلس األمن‪ ،‬ونحن ً‬
‫دائما مع التفاؤل مهما تعددت األخطاء‪ ،‬أو ران‬
‫الكس�ل على الني�ات الطيبة‪ ،‬حقًّا ال نغالي ف�ي التفاؤل لدرجة أن نتخي�ل الهيئة وقد‬
‫تحولت إلى برلمان عالمي له كل صالحيات البرلمانات‪ ،‬ولكننا نحلم بالبدء بخطى‬
‫غير مس�تحيلة‪ ،‬كأن تتس�ع عضوية مجل�س األمن لبعض رموز العال�م الثالث‪،‬وكأن‬
‫تجنبا‬
‫يس�تند المجلس على جيش قوي يس�اعده في تنفيذ قراراته العادلة واإلنسانية‪ً ،‬‬
‫لتكرار الموقف المتخاذل الذي حدث في البوسنة‪.‬‬

‫إن حاج�ة العال�م إلى دور الهيئة والمجلس تزداد يو ًم�ا بعد يوم‪ ،‬فالعالم يتداخل‬
‫ويتفاعل ويتصل‪ ،‬وهو يتكشف كل يوم كذلك عن تعقيد لمشكالته القديمة واستقبال‬
‫ُأخ�رى جدي�دة‪ ،‬حقًّا فهذا زمان هيئته الدولية ومجل�س أمنها للعمل المتواصل على‬
‫االنضباط والتوازن واالستقرار‪.‬‬

‫إني وأنا أكتب هذه الكلمات أكاد أرى َب َس َمات السخرية على شفاه المتشائمين‪،‬‬
‫ولكنن�ي أطالبه�م بالمقارن�ة بين ما يحدث الي�وم وما كان يحدث باألم�س بين هيئة‬
‫‪506‬‬
‫التقدم‬

‫األم�م وعصب�ة األمم مثًل�اً ‪ ،‬أو بين تحري�ر األمم من االس�تعمار وسياس�ات النهب‬
‫والسلب والغدر‪.‬‬

‫حقًّ�ا نحن مقبل�ون على عال�م كثير المتاع�ب‪ ،‬ثقيل المس�ئوليات‪ ،‬ولكن تحت‬
‫مظلة من اآلمال والتفاؤل‪.‬‬

‫‪ 4‬نوفمبر ‪1993‬‬

‫‪507‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الواقع الجديد‬

‫واقعا جديدً ا يتشكل في منطقتنا‪ ،‬ويوجد بيننا ُأناس يلقون كل جديد بسوء الظن‬
‫إن ً‬
‫عما ُيراد بنا من عزلة واس�تغالل‬
‫وتخي�ل المؤام�رات والمكائد‪ .‬أس�معهم يتحدثون َّ‬
‫وهامش�ية‪ ،‬ونحن ق�وم لنا تاريخ طويل ف�ي السياس�ة واإلدارة‪ ،‬والتعامل مع الدول‪،‬‬
‫لدينا من الخبرات والكوادر ما يصلح أن يكون سندً ا لنا عند أية مواجهة‪ ،‬نستطيع أن‬
‫نف�رق بين ما ينفع وم�ا يضر‪ ،‬وأن نوازن بين مصالحن�ا ومصالح اآلخرين‪ ،‬يمكن أن‬
‫نتعامل في السياسة دون أن نخسر‪ ،‬وفي االقتصاد دون أن نؤكل‪ ،‬وفي الثقافة دون أن‬
‫نفقد أصالتنا‪ .‬لقد كنا نسعى إلى حل المشكالت وتحقيق السالم‪ ،‬وها هو ذا السالم‬
‫يتحقق يو ًما بعد يوم‪ ،‬وها هو ذا يبش�ر بعالم جديد من الفعل والتفاعل‪ ،‬فلنتقدم بكل‬
‫شجاعة وثقة في النفس متطلعين إلى عالم أفضل‪.‬‬

‫ولكنن�ا ال يج�وز أن نتقدم بغير اس�تعداد كامل‪ ،‬بعض هذا االس�تعداد يتعلق بنا‪،‬‬
‫وبعضه يتعلق بإخواننا العرب‪.‬‬

‫فيم�ا يتعل�ق بنا يج�ب أن نكون على أت�م ما يمك�ن أن نكون م�ن الديمقراطية‪،‬‬
‫واحترام حقوق اإلنس�ان‪ ،‬وس�يادة القانون‪ ،‬والتطهر من الفس�اد‪ ،‬مم�ا نرجو معه أن‬
‫نقضي على اإلرهاب وقانون الطوارئ‪ ،‬وسائر القوانين سيئة السمعة‪ ،‬أجل ال يجوز‬
‫حضاريا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ووجها‬
‫ً‬ ‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫استقرارا‬
‫ً‬ ‫نهيئ ألرضنا العريقة‬
‫أن نتقدم قبل أن ّ‬

‫‪508‬‬
‫التقدم‬

‫وأما ما يتعلق بإخواننا العرب فقد آن لهم أن يرتفعوا فوق الخالفات مهما كلفهم‬
‫ذلك من تضحيات‪ ،‬حتى تُتاح لهم فرصة المشاركة وهم قوة وإرادة‪.‬‬

‫واقعا جديدً ا يتش�كل وه�و يدعونا للخوف‪،‬والدخول في�ه يطالبنا بأن نغير ما‬
‫إن ً‬
‫بأنفسنا ونجددها‪.‬‬

‫‪ 11‬نوفمبر ‪1993‬‬

‫‪509‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫نشيد العام الجديد‬

‫م�اذا نق�ول عن الع�ام المنقض�ي إذا التزمن�ا بتصديق م�ا قيل وما ح�دث؟ أعني‬
‫أن�ي أريد ألخصه مس�تندً ا إل�ى األقوال الرس�مية‪ ،‬باعتبارها صادرة عن المس�ئولين‪،‬‬
‫المفت�رض فيه�م الص�دق‪ ،‬والواج�ب علينا تصديقه�م‪ ،‬ومس�تندً ا ً‬
‫أيضا إل�ى الواقع‬
‫والمشاهد‪ ،‬باعتبارها حقائق ال يمكن إنكارها أو تجاهلها‪.‬‬
‫َ‬
‫فنح�ن نؤمن بالنيات الطيبة الت�ي تكنها الدولة نح�و الديمقراطية‪ ،‬ونصدق بأنها‬
‫تتلهف على الوقت المناسب لتبلغ بها غاية الكمال‪.‬‬

‫ونصدق أن اقتصادنا قد تقدم‪ ،‬وأن خطوات إصالحه قد استحقت تقدير العالم‪،‬‬


‫وأن عام ‪ 95‬سيكون عام الحصاد والرخاء‪.‬‬

‫وال نش�ك ف�ي أن حرك�ة ثورية تقوم في مي�دان التعلي�م نتمنى له�ا النجاح بكل‬
‫قلوبن�ا‪ ،‬ونصدق أن الحكومة قد أحكمت قبضتها على اإلرهاب‪،‬وأنه س�يتم القضاء‬
‫عليه بعد أن هتكت جميع أسراره‪.‬‬

‫ونص�دق جمي�ع ما قيل ع�ن إنجازاتنا ف�ي كل المجاالت من إنت�اج وخدمات‪،‬‬


‫ولكن ال مفر ً‬
‫أيضا من التسليم بما تنبئ عنه الوقائع‪.‬‬

‫�ر المعان�اة من الحي�اة‪ ،‬وما تلق�اه فيها من‬


‫فكث�رة كبي�رة م�ن المصريين تعاني ُم َّ‬
‫أل�وان الش�دة‪ ،‬مثل الغلاء‪ ،‬والتل�وث للم�اء والهواء‪ ،‬وبع�ض ما ي�ؤكل‪ ،‬والزحام‪،‬‬
‫والمواصلات‪ ،‬وس�وء المعاملة ف�ي المستش�فيات والمصالح الحكومي�ة‪ ،‬وافتقاد‬
‫‪510‬‬
‫التقدم‬

‫األمن‪ ،‬وتتابع حوادث اإلرهاب‪،‬وصدمات أنباء الفس�اد والبطالة‪ ،‬وما يرويه ضحايا‬
‫المحسوبية من ظلم منكر‪.‬‬

‫فيال�ه من عام! أو ياله من عصر َج َمع بين أجم�ل النيات واإلنجازات من ناحية‪،‬‬
‫وأنكر الجرائم البشرية من جهة أخرى!‬

‫ومهم�ا يك�ن من أمر فلنس�تقبل الع�ام الجديد برجاء ف�ي الخير ل�ن يخيب بإذن‬
‫الرحمن الرحيم‪.‬‬
‫‪ 13‬يناير ‪1994‬‬

‫‪511‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫البريد والوزراء‬

‫هل تقرأ بريد األهرام؟ هل تتابع رس�ائل القراء في الصحف؟ إني أعتقد أنه باب‬
‫جدا‪ ،‬ال يكاد يتخطاه قارئ من القراء‪ ،‬لصدقه وبس�اطته‪ ،‬وعمق الرس�ائل التي‬
‫ناجح ًّ‬
‫يحمله�ا إلى القل�وب والعقول‪ ،‬وأنه م�رآة تعكس حياتنا في ش�مولها‪ ،‬وتركز بصفة‬
‫خاصة على ما يلقى المواطن من مش�اق وصعاب‪،‬وإهمال وتس�يب‪ ،‬وقهر وقس�وة‪،‬‬
‫وال مب�االة في أماكن عمله وراحته‪ ،‬في الطريق‪ ،‬في المدرس�ة‪ ،‬في المستش�فى‪ ،‬في‬
‫المواصلات‪ ،‬ف�ي المصالح الحكومية‪ ،‬في قس�م الش�رطة‪ ،‬مم�ا ال يحيط به حصر‪،‬‬
‫وال يصدقه عقل‪ ،‬وال يستسيغه ذوق‪ ،‬وال ُيق َْبل بأي مقياس حضاري‪ ،‬وأنه من أعجب‬
‫األم�ور أن تت�ردى المعاملة والس�لوك إلى ذلك المس�توى في بلد يفاخر بمعاش�رته‬
‫للحضارة على مدى سبعة آالف سنة‪ ،‬وما يملك القارئ فيما يقرأ إلاًّ الحزن واألسى‬
‫واألس�ف‪ ،‬ال ي�كاد يتجاوزها إلى فع�ل طيب إلاَّ في القليل النادر‪ .‬بل قد أخش�ى أن‬
‫مرورا دون‬
‫ً‬ ‫يه�ون الخطب بالتكرار اليومي‪ ،‬وأن تصبح مآس�ينا أحدا ًثا عادية نمر بها‬
‫َر ِّد فعل يذكر‪.‬‬

‫ت�رى هل يق�رأ الوزراء المختصون ذل�ك الباب اليوم؟ لم يعد لدين�ا اليوم ديوان‬
‫للمظالم‪ ،‬فلم يبق إلاَ أن يفتتح الوزراء عملهم اليوم باالطالع على بريد القراء خاصة‪،‬‬
‫فربم�ا يكون مدخًل�اً لإلصالح في جميع المجاالت وترس�م ُ‬
‫الخطى األولى لتقويم‬
‫كل معوج‪ ،‬وتيسير كل تعقيد‪ ،‬وتنفيذ القوانين بدقة تعيد للدولة هيبتها واحترامها‪.‬‬

‫‪512‬‬
‫التقدم‬

‫خصوصا‪ -‬باختفاء‬
‫ً‬ ‫ونس�تطيع نحن أن نقيس نجاح ال�وزراء ‪-‬وزراء الخدم�ات‬
‫الشكاوى وندرة الشاكين‪.‬‬

‫‪ 20‬يناير ‪1994‬‬

‫‪513‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫العالم بين يديك‬

‫سوف تستطيع أن تدعو العالم بكل ما فيه إلى حجرة جلوسك‪ ،‬ولن يكلفك ذلك‬
‫أكثر من الضغط على زر في التليفزيون‪ ،‬ما كان يمكن تخيل ذلك إلاَّ في عالم السحر‬
‫قائما على مرأى ومس�مع منك‪ ،‬س�يجيئك دون عناء‬
‫والعفاريت‪ ،‬س�تجد العالم كله ً‬
‫الخبر‪ ،‬والمنظر‪ ،‬والعادات والتقاليد‪ ،‬واآلفكار واآلراء‪ ،‬جميع ألوان الفن وأشكاله‪.‬‬
‫سيمتزج العالم في بوتقة واحدة‪ ،‬ال يصده عن ذلك رقيب أو قانون أو نظام أو إجراء‪.‬‬
‫وم�ن النتائ�ج المحتومة لذلك االنفت�اح المطلق‪ ،‬أن نعرف الحقائ�ق دون تزييف أو‬
‫تحري�ف‪ ،‬وأن نطلع على وجهات النظر المختلفة للفكر الواحد‪ ،‬ونرى تآلف الناس‬
‫واختالفاتهم وتناقضاتهم‪ ،‬فيكون اإليذان ببزوغ نجم البشرية الواحدة‪.‬‬

‫أه ْلنا أنفس�نا الستقبال هذه الثورة المستقبلية فسنجني من ورائها ً‬


‫خيرا‬ ‫ونحن إذا َّ‬
‫مطلقًا‪ ،‬أما إذا اس�تقبلناها دون تأصيل ودون اس�تعداد فس�نجد فيها من الشر بقدر ما‬
‫نجد من الخير‪.‬‬

‫فعلينا أن ننشِّ ئ األبناء على حرية الفكر واستقاللية الحكم‪ ،‬وإِ ْع َمال التفكير قبل‬
‫القب�ول أو الرف�ض‪ ،‬بذلك نس�تطيع أن نتص�دى ألي جديد في ال�رأي أو الفكر دون‬
‫خوف من التأثر السلبي لضعف التفكير وسحر االنبهار‪.‬‬
‫وعلين�ا أن نربيهم في أحضان القيم الس�امية‪ ،‬حتى ال تس�تخ َّفهم ِ‬
‫الف َت ُن الرخيصة‬
‫والمسرات المبتذلة‪.‬‬

‫‪514‬‬
‫التقدم‬

‫فكرا وف ًّنا‪ ،‬فإن�ه لن يتقرر‬


‫وعلين�ا ف�ي النهاي�ة أن نرتفع بمس�توى إنتاجنا الثقاف�ي ً‬
‫الف�وز في العالم الق�ادم إلاَّ لألصدق واألجمل واألبقى‪ ،‬ل�م يعد الخوف من الحياة‬
‫بالموقف المجدي‪ ،‬وال محيد عن التصدي والشجاعة والثقة بالنفس‪.‬‬

‫‪ 10‬فبراير ‪1994‬‬

‫‪515‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫السالم الشامل‬

‫علين�ا إذا أردن�ا التف�رغ للبن�اء والتعمي�ر والتق�دم أن نتحرك ف�وق األرض تنعم‬
‫باالس�تقرار والسلام‪ ،‬فليك�ن ع�ام ‪ 1994‬ع�ام السلام الش�امل‪ ،‬السلام العرب�ي‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬والعربي العربي‪ ،‬والمصري المصري‪.‬‬
‫َّأم�ا ع�ن السلام العربي اإلس�رائيلي ف�إن مناخ�ه يوحي بالتف�اؤل برغ�م البطء‬
‫حي ًنا‪،‬والتعث�ر حي ًنا آخر‪ ،‬فالب�ادي أن الطرفين يلتزمان بالهدف كنهاية ال مفر منها وال‬
‫أيضا قد أصبحا يؤمنان بضرورة السالم وفوائده‪.‬‬ ‫تراجع عنها‪ ،‬وهما ً‬
‫وأما عن السالم العربي العربي فال يجوز أن نتصور أنه أصعب من السالم العربي‬
‫اإلسرائيلي‪ .‬فأي رواسب قديمة يمكن أن تذوب في مجرى الزمن‪ ،‬والحدود يمكن‬
‫التفاه�م حوله�ا‪ ،‬وح�رب الخليج يمك�ن أن تتجاوز إل�ى تفاهم تطمئن ب�ه القلوب‬
‫�ونُ من األمور الخطي�رة‪ ،‬ولكن أي خالف يب�دو ً‬
‫تافها على‬ ‫وترت�اح الضمائ�ر‪،‬ال ُأ َه ِّ‬
‫ضوء متطلبات المستقبل وما يجب علينا نحو أنفسنا لنلحق بقطار العصر‪.‬‬
‫وعن السلام المصري المصري فأقل ما نطالب به أنفس�نا أن نعني بسلامنا كما‬
‫نعني بسلام اآلخري�ن‪ ،‬وقد بذلنا ‪-‬ومازلن�ا نبذل‪ -‬الجهود المتواصلة للتوس�ط في‬
‫الخير وتقريب وجهات النظر‪ ،‬فال أقل من أن نحافظ على تلك الحماسة المحمودة‬
‫ونحن نصلح خالفاتنا وخصوماتنا‪ ،‬لنتبادل اآلراء بدلاً من أن نتبادل إطالق النار‪.‬‬
‫ليك�ن عام ‪ 1994‬عام السلام الش�امل ك�ي نتفرغ للجه�اد األكبر ‪-‬أعن�ي البناء‬
‫والتعمير والتقدم‪.‬‬
‫‪ 3‬مارس ‪1994‬‬
‫‪516‬‬
‫التقدم‬

‫من أسرار الحياة‬

‫الش�كوى ال توجد بال س�بب‪ ،‬فوراءها عادة علة في الجس�م أو العقل أو الروح‪،‬‬
‫أو في عالقة اإلنس�ان باآلخرين‪ ،‬أو بالمجتمع ككل‪ ،‬أو حتى بالكون نفسه‪ ،‬فأسباب‬
‫الش�كوى ال حصر له�ا‪ ،‬وهيهات أن يبرأ منها فرد أو جماع�ة أو وطن‪ ،‬وإِ ِن اختلفت‬
‫تبعا للظ�روف واألحوال‪ ،‬من التفاوت في القي�م والحضارة والعلم‪،‬وهي‬
‫وتنوع�ت ً‬
‫وحس�ن التقدير‪ ،‬بل لعلها‬
‫خصوصا إذا اتس�مت بالموضوعية ُ‬
‫ً‬ ‫ليس�ت س�جية س�يئة‪،‬‬
‫أول محرك لإلنس�ان يدفعه للبحث عن حياة أفضل‪ ،‬سواء على المستوى الفردي أو‬
‫االجتماعي أو اإلنس�اني‪ ،‬وإِنَّ ما نتصوره أحيانًا من خلو فترة من العمر من الشكوى‬
‫�م‪ ،‬كم�ا أن ما نتصوره من وجود عوالم راقية خالية منها َو ْه ٌم ً‬
‫أيضا‪ ،‬ال توجد فترة‬ ‫َو ْه ٌ‬
‫خالي�ة منه�ا‪ ،‬حتى الطفولة الس�عيدة‪ ،‬نحن نهرب إلى طفولتنا م�ن واقع غليظ ٍ‬
‫قاس‪،‬‬
‫ناس�ين ماعانيناه في الطفولة من آالم ومخاوف ومتاعب‪ ،‬كذلك نظن أحيانًا أن هذه‬
‫األمة المتقدمة أو تلك قد بلغت الكمال وخلت من أي سبب للشكوى‪ ،‬ولكن لماذا‬
‫يتم�رد ش�بابها؟ ولماذا تكثر نس�بة االنتحار؟ ولم�اذا توجد االنفع�االت العنيفة‪ ،‬بل‬
‫والثورات ً‬
‫أيضا؟‬

‫تفس�يرا لذلك في حقيق�ة أبدية‪ ،‬هي أن اإلنس�ان ال يكف عن‬


‫ً‬ ‫ونس�تطيع أن نجد‬
‫واقع�ا‪ ،‬ويتعامل في�ه مع خيره وش�ره‪ ،‬ويحل�م بما هو‬
‫الخي�ال والحل�م‪ ،‬إن�ه يعي�ش ً‬
‫أفض�ل ويتطل�ع إلي�ه‪ ،‬وفيم�ا بي�ن الواقع والحل�م تتفجر الش�كوى وأس�باب التمرد‬
‫والثورة‪،‬ويحقق اإلنسان تقد ًما جديدً ا في طريق ال نهاية له‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫فحي�اة اإلنس�ان َج�دَ ٌل متواص�ل بين الرضا والس�خط‪ ،‬وه�و جدل ينته�ي عادة‬
‫بالتقدم‪ ،‬ولكن التقدم ليس ثمرة حتمية إنْ لم يؤيد باإلرادة الحرة والكفاح الصلب‪،‬‬
‫نصيب على َق ْدر ِه َّمتِه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لذلك عرف التاريخ البقاء كما عرف الفناء‪ ،‬ولِ ُك ٍّل‬

‫‪ 9‬يونيو ‪1994‬‬

‫‪518‬‬
‫التقدم‬

‫مستقبل األمة‬

‫انظر إلى الش�باب ت ََر األمة في مس�تقبلها القريب والبعيد‪ ،‬فمن وجدانه وس�لوكه‬
‫وفك�ره يتش�كل وجدانه�ا وس�لوكها وفكره�ا‪ .‬وثمة مؤسس�ات كثيرة تتع�اون على‬
‫تربية الش�باب وإعداده للحياة‪ ،‬مثل األس�رة‪ ،‬والمدرس�ة‪ ،‬وأجهزة اإلعالم والثقافة‪،‬‬
‫ويتخصص في هذا المجال المجلس األعلى للش�باب‪ ،‬كما ت َُع ُّد الدولة مس�ئولة من‬
‫خالل سياس�تها العامة عن تهيئة فرص العمل له‪ ،‬وتنظيم الوس�ائل العادلة لاللتحاق‬
‫بالعمل‪ ،‬وتحقيق الذات‪.‬‬
‫واألس�رة‪ ،‬والمدرس�ة‪ ،‬وأجه�زة اإلعلام والثقاف�ة‪ ،‬والمجل�س األعل�ى‪ ،‬تقدم‬
‫ُ‬
‫‪-‬ك ٌّل ف�ي اختصاصها وقدرتها‪ -‬التربية بجميع أنواعه�ا‪ :‬الدينية والقومية‪ ،‬والثقافية‪،‬‬
‫والفني�ة‪ ،‬كم�ا تعده وتؤهله للحياة العملي�ة المعاصرة‪ ،‬ويج�ب ألاَّ تُقصر في تزويده‬
‫بم�ا يحت�اج إليه لبناء ش�خصيته بجميع أبعادها اإلنس�انية والوطني�ة‪ ،‬وتأهيله للحياة‬
‫العملي�ة المعاص�رة‪ ،‬وأن أي تقصي�ر في هذا الش�أن س�يعود عليه باإلحب�اط‪ ،‬وعلى‬
‫وطنه بالخس�ران والتأخر‪ .‬ويجب أن تتس�اوى العناية بالبنت مع الولد‪ ،‬ودور البنت‬
‫في إنش�اء الحض�ارة ال يقل في خطورته ع�ن دور الولد‪ ،‬بل يزي�د بالنظر إلى تبعات‬
‫األمومة والحياة األسرية‪.‬‬
‫ويجيء واجب الدولة بعد ذلك في تهيئة فرص العمل لألجيال الجديدة‪ ،‬وتنظيم‬
‫دائما احترام حقوق اإلنسان‪ ،‬وفي نجاح الدولة‬
‫توزيعها على أسس نزيهة عادلة تراعي ً‬
‫في ذلك يكون الحد بين الالمباالة واالنتماء‪،‬بين التمرد والوالء‪ ،‬بين العنف والسالم‪.‬‬
‫‪ 23‬يونيو ‪1994‬‬

‫‪519‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الخوف من الحرية‬

‫جميع�ا من منطل�ق اإلخالص‬


‫ً‬ ‫م�ا أكث�ر األص�وات المتناقض�ة برغ�م صدورها‬
‫والصدق‪ ،‬فالذين يستبش�رون بعصر «الجات» والس�وق الش�رق أوسطية مخلصون‬
‫صادقون‪ ،‬والذين يخافون ذلك العصر ويتوقعون لمجيئه الشر والخسارة مخلصون‬
‫صادقون‪ ،‬والذين يرحبون بالتطبيع ويدعون له مخلصون صادقون‪ ،‬والذين يتنكرون‬
‫له وينادون بمقاطعته مخلصون صادقون‪.‬‬
‫تُرى ما سر هذا التناقض وما تفسيره؟‬
‫لعله الخوف من الحرية وانعدام الثقة بالنفس‪.‬‬
‫دهرا طويلاً تحت س�طوة الحكم الشمولي‪،‬ولم نتحرر بعد من هيمنته‬ ‫لقد عش�نا ً‬
‫س�را في ظل‬‫كما ينبغي لنا‪ ،‬والحاكم الش�مولي يلغي الفكر واإلرادة‪ ،‬ويأس�ر الفرد َق ً‬
‫السلطة ليؤدي عنه جميع الواجبات العامة‪ ،‬فال يمكنه التصرف إلاَّ في خاص شئونه‪،‬‬
‫وحت�ى ه�ذه يمارس�ها في حدود وبِ َح َذ ٍر‪ ،‬فال يش�عر ه�ذا الفرد بأنه مس�ئول‪ ،‬أو بأنه‬
‫يمكن أن يكون مس�ئوال‪ ،‬وهو عاجز عن الثقة بنفس�ه بعد أن وضع كل ثقته في جهاز‬
‫السلطة‪.‬‬
‫فج�أة تجد ه�ذه الطائفة من رعايا الحكم الش�مولي نفس�ها على مش�ارف عالم‬
‫جديد يقوم على نقيض عالمهم الش�مولي‪،‬على الحرية والمنافس�ة‪ ،‬واالعتماد على‬
‫النف�س‪ ،‬ال م�كان فيه ألهل الثق�ة‪ ،‬ولكن المكان أله�ل الكفاءة واإلب�داع واإلتقان‬
‫والعدل واإلنتاج‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫التقدم‬

‫م�ن أج�ل ذلك يخافون ويتش�اءمون‪ ،‬ويتوقعون كل س�وء‪ ،‬كيف يعمل�ون بعيدً ا‬
‫ع�ن الحماية واالحتكار والبيروقراطية؟! وتتردد على ألس�نتهم كلمات التحذير من‬
‫الهزيمة و الضياع والخسارة‪.‬‬

‫لقد أثبتنا كفاءتنا في الماضي غير البعيد‪ ،‬ويثبت المهاجرون منا كفاءتهم كل يوم‬
‫في مهاجرهم‪ ،‬فلدينا من التراث والحاضر‪ ،‬ما يبرر التفاؤل‪،‬ويدعو إلى األمل‪ ،‬ويهزأ‬
‫بروح التردد والهزيمة‪.‬‬

‫‪ 18‬أغسطس ‪1994‬‬

‫‪521‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫من أقوال الصحف‬

‫منه�ا ما ُذكر عن وج�ود ‪ 160‬مليار جنيه في البن�وك المصرية‪ ،‬وكما قدر البعض‬
‫بحق‪ ،‬فإن استثمار ذلك الكم الهائل من النقود يكفي لتحقيق الرخاء المنشود للوطن‬
‫وأهله‪ .‬لماذا تتكدس األموال دون استثمار؟ يجب أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال‬
‫وأن نتأمل�ه لنع�رف العوائق والمثبط�ات‪ ،‬لنمهد الطريق حقًّا وفعًل�اً لالنطالق‪ ،‬وإلاَّ‬
‫فإنن�ا نرتكب حماقة لم يعرف له�ا التاريخ مثيال من قبل‪ ،‬نحن نملك المال واأليدي‬
‫بأسا عند الضرورة من االستعانة بالخبرة‬
‫العاملة‪ ،‬وال يعوزنا العلم والخبرة‪ ،‬وال نرى ً‬
‫األجنبية‪ ،‬فمتى نقدم على العمل الجاد ونتوكل على الله؟‬

‫ومنها ما يثار من حين آلخر عن حاجتنا إلى مشروع قومي ليجمع شتاتنا‪ ،‬ويوحد‬
‫هدفنا‪ ،‬ويمأل بروح العزم أرواحنا‪ ،‬نحن نس�تغيث بالمشروع القومي لنقضي به على‬
‫الس�لبية والالمباالة والكس�ل والفس�اد وس�ائر العيوب التي تعرقل مسيرتنا‪ ،‬وطالما‬
‫قلت‪ :‬إن المش�روع القومي موجود‪ ،‬واس�مه التنمية الش�املة‪ ،‬نح�ن ننفذه خطة بعد‬
‫خطة‪ ،‬ولكن معدل سرعتنا ال يرضي أحدً ا‪ ،‬والحق أن الذي ينقصنا ليس هو المشروع‬
‫القومي‪ ،‬ولكن التخلص من العيوب والنقائص‪ ،‬فلنبحث لذلك عن دواء آخر لنشعر‬
‫بمش�روعنا القوم�ي المطروح‪ ،‬ونخدمه بما يس�تحق من العناي�ة والرعاية‪ ،‬وقد نجد‬
‫ال�دواء المطلوب في الديمقراطي�ة‪ ،‬وتجديد اإلدارة‪ ،‬والمعامل�ة الحازمة التي تقوم‬
‫على الثواب والعقاب والحزم في مطاردة الفس�اد‪ ،‬وس�يادة القانون‪ ،‬واحترام حقوق‬
‫‪522‬‬
‫التقدم‬

‫اإلنسان‪ ،‬وتطبيق مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين‪ ،‬إذا فعلنا ذلك‬
‫عاودتنا روح الحماس�ة والعمل والجهاد‪ ،‬وأقبلنا على التعامل مع مش�روعنا القومي‬
‫قوميا‪ ،‬وهد ًفا للنصر والسمو‪.‬‬
‫مشروعا ًّ‬
‫ً‬ ‫بكل قوة‪ ،‬بل قد نعتبر أي عمل شريف‬

‫‪ 12‬مايو ‪1994‬‬

‫‪523‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الهوية‬

‫إن الح�رص عل�ى الهوية ينبع من حب الذات والوطن والتاريخ وذكريات العمر‬
‫واألجي�ال‪ .‬فلا مالمة عل�ى التعلق بالهوية‪ ،‬ولك�ن ال يصح أن يتم�ادى هذا التعلق‬
‫إل�ى ح�د إضف�اء التقدي�س عليها‪،‬ولعله ‪-‬باس�تثناء الدي�ن‪ -‬ال يوجد م�ا هو مقدس‬
‫ف�ي الهوية‪ ،‬فهي في الجمل�ة مكونة من عناصر قابلة للتط�ور والتغيير والتجديد‪ ،‬بل‬
‫الح�ذف واإلضافة‪ .‬كيفم�ا تقتضيه حكمة الرقي والتقدم في طريق اإلنس�ان الطويل‬
‫نحو الحياة الكاملة‪.‬‬

‫إن الدف�اع عن الهوية ‪-‬ال لس�بب إلاَّ أنها هويتنا‪ -‬باط�ل‪ ،‬كما في التنكر للهوية‪-‬‬
‫انبه�ارا بهوية حضارة أخرى‪ -‬باطل ً‬
‫أيض�ا‪ .‬كال الموقفين غير معقول‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال لس�بب إلاَّ‬

‫وال أصالة فيه‪،‬وال ينتج عنه إلاَّ االختالل والخطأ‪ ،‬وهو ال يعني إلاَّ التمسك بما ّ‬
‫يضر‬
‫وال ينفع‪ ،‬أو بما ضرره أكبر من َنف ِْعه‪.‬‬

‫ويؤك�د ه�ذا المعن�ى عرض العناص�ر التي تتكون منه�ا الهوية‪ ،‬فه�ي تتكون من‬
‫العادات والتقاليد واألفكار واألذواق‪ ،‬والحكم على تلك العناصر ‪-‬س�واء في ذاتها‬
‫أو عند مقارنتها بأمثالها في الحضارات األخرى‪ -‬يجب أن ُيبنى على ما تتضمن من‬
‫خي�ر أو ش�ر‪ ،‬أو ما تُحقق من نفع أو ضرر‪ ،‬أو ما يس�ندها من ص�دق أو جمال‪ ،‬وبناء‬
‫عل�ى ذل�ك المناظرة المتواصلة‪ ،‬لينتهي بنا األمر إل�ى المحافظة على هويتنا‪ ،‬بِرفْض‬
‫كل غريب‪ ،‬أو إلى التأثر بالغير‪ ،‬وال ضرر إذا انتهى بنا إلى تفضيل عناصر برمتها على‬

‫‪524‬‬
‫التقدم‬

‫نظائرها عندنا‪ ،‬المهم أن نعمل باستقاللية في التفكير‪ ،‬وحرية في االختيار‪ ،‬وسيسفر‬


‫التفاعل عن هوية جديدة لن تلبث أن تصير ترا ًثا وهوية آباء وأجداد‪.‬‬
‫علينا أن نواجه عصر القرية الكبيرة الواحدة بكل شجاعة وثقة بالنفس‬

‫‪ 17‬فبراير ‪1994‬‬

‫‪525‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫(((‬
‫ال تيأس‬

‫ال تيأس‪ .‬أقولها من وحي المعرفة واإليمان وليس على سبيل الوعظ‪ .‬وال يغيب‬
‫ع ِّن�ي مال�م يغب عنك‪،‬ويؤرقن�ي الذي يؤرق�ك‪ ،‬برغم ذلك أقول ل�ك‪ :‬ال تيأس‪ .‬ال‬
‫ت َِغ ُ‬
‫يب عني أنباء الفساد‪ ،‬والديون‪ ،‬وسوء اإلنتاج‪ ،‬والزيادة السكانية‪ ،‬وتردي اإلدارة‪،‬‬
‫واإلره�اب‪ ،‬والرجعي�ة‪ ،‬وال تغيب ع ِّني أنب�اء التلوث‪،‬وفتح�ة األوزون‪ ،‬والجفاف‪،‬‬
‫والزالزل‪ ،‬والمجاعات‪ ،‬والخالفات القبلية‪ ،‬واضطهاد األقليات‪ ،‬ومذبحة البوسنة‪،‬‬
‫وأس�لحة الدمار الش�امل‪ ،‬وتفكك العرب‪ .‬يجيش صدري بذل�ك كله‪،‬ولكني أقول‬
‫لك‪ :‬ال تيأس‪.‬‬

‫أذكر في الوقت ذاته أن اإلنسانية بلغت ذروة من الحضارة لم تحلم بها من قبل‪،‬‬
‫المع�ارف تتراكم‪ ،‬واالكتش�افات تتزاحم‪ ،‬والقيم تتكاثر وتتن�وع‪ ،‬ورحالت الفضاء‬
‫تتعدد وتبشر بكل عجيب‪ .‬والعالقات البشرية تتهذب‪ ،‬والضمير العائلي يولد‪ ،‬وينشر‬
‫تنس التقدم المذهل في‬
‫م�ن دفقاته معونات ورحمة واحترا ًما لحقوق اإلنس�ان‪ ،‬وال َ‬

‫((( ه�ذا المقال يأتي في غير ترتيب�ه التاريخي‪ ،‬وآثرت أن أجعله آخر مقال في مجموعة‬
‫مق�االت نجي�ب محفوظ ف�ي طبعته�ا الجديدة؛ ألن رس�الته إنس�انية عام�ة‪ ،‬تدعو‬
‫إل�ى التف�اؤل واإلقب�ال على الحي�اة‪ ،‬ليكون بذلك رس�الة نجيب محف�وظ األخيرة‬
‫للمصريي�ن والعرب‪ ،‬وللش�باب بخاص�ة‪ ،‬والمدهش أن نجيب محف�وظ كتب هذا‬
‫المق�ال قبل أن يتم طعنه أمام منزله من أحد المهووس�ين في رقبته في ش�هر نوفمبر‬
‫‪1994‬م‪( .‬المحرر)‬
‫‪526‬‬
‫التقدم‬

‫تنس جمال اإلبداع ومتعته وما يهب من تأمل وحكمة‪ ،‬وانظر إلى‬
‫مجال الصحة‪ ،‬وال َ‬
‫تلك الحركة الدائمة نحو التقدم‪ ،‬إنها تس�ير‪ ،‬وتؤكد مس�يرتها بالتصدي لما يعترض‬
‫وقديما واجه‬
‫ً‬ ‫مجرى الحياة من س�لبيات‪ ،‬ولعله ل�وال ذلك النقص لتوقفت الحركة‪.‬‬
‫أجدادن�ا الجفاف وتهددهم الم�وت‪ ،‬فأقبلوا على النيل‪ ،‬واكتش�فوا الزراعة‪،‬وأقاموا‬
‫أول صرح للحضارة في تاريخنا المعروف‪.‬‬

‫فلا تيأس‪ .‬الش�ر ل�م يوج�د ليدفعك إل�ى اليأس‪،‬ولك�ن ليدعوك لش�حذ الفكر‬
‫واإلرادة والتأهب للثورة الدائمة‪.‬‬

‫‪1994/4/2‬‬

‫‪527‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪528‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫حياته‬

‫نجي�ب محف�وظ عبد العزي�ز إبراهيم أحمد باش�ا‪ ..‬هذا هو اس�مه بالكامل‪ ..‬أما‬
‫اسمه األول فهو نجيب محفوظ على اسم طبيب الوالدة الشهير في ذلك الوقت‪.‬‬

‫ول�د في الحادي عش�ر من ديس�مبر ع�ام ‪ 1911‬بحي الجمالي�ة ألب موظف ثم‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تاجر‪ ..‬وهو أخ ألربع أخوات وأخوين‪ ،‬ولدوا وماتوا بالترتيب‬

‫التح�ق ُ‬
‫بالك َّت�اب‪ ،‬ثم بالمدرس�ة االبتدائية‪ ،‬ثم بمدرس�ة ف�ؤاد األول الثانوية‪ ،‬ثم‬
‫بكلية اآلداب‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬جامعة القاهرة التي تخرج فيها عام ‪.1934‬‬

‫بع�د أن س�جل رس�الة الماجس�تير تحت إش�راف الش�يخ مصطفى عب�د الرازق‬
‫بعنوان «مفهوم الجمال في الفلس�فة اإلسلامية» اتجه إلى األدب تما ًما وانفصل عن‬
‫الدراسات األكاديمية‪.‬‬

‫تزوج عام ‪ 1954‬وأنجب بنتين‪.‬‬

‫كاتبا عام ‪ 1934‬بإدارة الجامعة حتى عام ‪،1938‬‬


‫تدرج في الوظائف‪ :‬فعين ً‬
‫ولقد ّ‬
‫سكرتيرا للشيخ مصطفى عبد الرازق وزير األوقاف حتى سنة ‪ 1945‬فنقل‬
‫ً‬ ‫حين عمل‬
‫مديرا لمكتب‬
‫مديرا لمؤسس�ة القرض الحس�ن‪ ،‬بعدها عمل ً‬
‫إلى مكتبة الغوري‪ ،‬ثم ً‬
‫عاما‬
‫فمديرا ًّ‬
‫ً‬ ‫فمديرا للرقاب�ة على المصنفات الفني�ة‪،‬‬
‫ً‬ ‫فتح�ي رضوان وزير اإلرش�اد‪،‬‬

‫‪529‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫فمستشارا للمؤسسة العامة للس�ينما واإلذاعة والتليفزيون‪،‬‬


‫ً‬ ‫لمؤسس�ة دعم الس�ينما‪،‬‬
‫فمستشارا لوزير الثقافة حتى أحيل إلى المعاش في نوفمبر‬
‫ً‬ ‫فرئيس�ا لمجلس اإلدارة‪،‬‬
‫ً‬
‫‪ 1971‬بعدها‪ ،‬وفي ديسمبر انضم إلى أسرة ك َّتاب جريدة األهرام‪ ،‬وحتى اآلن‪.‬‬

‫وق�د حص�ل على العدي�د من الجوائز واألوس�مة قبل ف�وزه بجائ�زة نوبل‪ ،‬ففاز‬
‫بجائ�زة ق�وت القلوب الدمرداش�ية عن رواي�ة «رادوبيس» ع�ام ‪ ،1943‬وفاز بجائزة‬
‫وزارة المعارف عن رواية «كفاح طيبة» عام ‪ ،1944‬وفاز بجائزة مجمع اللغة العربية‬
‫عن رواية «خان الخليلي» عام ‪ ،1946‬وفاز بجائزة الدولة التش�جيعية في األدب عن‬
‫رواية «قصر الش�وق» عام ‪ ،1957‬وحصل على وسام االستحقاق من الطبقة األولى‬
‫عام ‪ ،1962‬وفاز بجائزة الدولة التقديرية في األدب عام ‪ ،1970‬وحصل على جائزة‬
‫رابط�ة التضامن الفرنس�ية العربية عن «الثالثية» ومنح الدكت�وراه الفخرية من جامعة‬
‫المني�ا عام ‪ 1984‬وحص�ل على قالدة النيل عام ‪ 1988‬ومن�ح الدكتوراه الفخرية من‬
‫جامعة القاهرة عام ‪.1989‬‬

‫وق�د كان للمقاه�ي دور مهم في حيات�ه وأعماله‪ ،‬فهي تمثل بالنس�بة إليه النادي‬
‫االجتماع�ي والصال�ون األدب�ي‪ ،‬فهو لم ينضم إل�ى ٍ‬
‫ناد‪ ،‬ولم يرتد أو ينش�ئ صالونًا‪،‬‬
‫خصوصا بعد أن انقطع ع�ن ارتيادهما نتيجة‬
‫ً‬ ‫وهي تمثل كذلك المس�رح والس�ينما‪،‬‬
‫معا‬
‫أخي�را الرحل�ة اليومية والموس�مية ً‬
‫ً‬ ‫جميع�ا‪ ،‬وهي تمثل‬
‫ً‬ ‫لضع�ف بصره وس�معه‬
‫خصوصا أنه ال يميل بطبعه إلى الس�فر‪ ،‬باس�تثناء س�فره الصيفي إلى اإلس�كندرية‪..‬‬
‫ً‬
‫ومن أهم هذه المقاهي التي اشتهرت بتردده عليها‪ :‬مقهى «عرابي» بالعباسية‪ ،‬مقهي‬
‫«الفيش�اوي» بالحسين‪« ،‬كازينو األوبرا»‪ ،‬مقهى «لونابارك» و«كازينو بترو» و«فندق‬
‫وأخيرا مقهى‬
‫ً‬ ‫س�ان اس�تيفانو» باإلس�كندرية‪« ،‬كازينو قصر النيل»‪« ،‬مقهى ري�ش»‪،‬‬
‫«علي بابا» بميدان التحرير بالقاهرة‪.‬‬

‫‪530‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫أعمال الكاتب‬

‫أعماله بالعربية‪:‬‬

‫‪ -‬الرواية‪:‬‬

‫‪1939‬‬ ‫‪ -1‬عبث األقدار ‬

‫‪1943‬‬ ‫ ‬
‫‪ -2‬رادوبيس‬

‫‪1944‬‬ ‫ ‬
‫‪ -3‬كفاح طيبة‬

‫‪1945‬‬ ‫ ‬
‫‪ -4‬القاهرة الجديدة‬

‫‪1946‬‬ ‫‪ -5‬خان الخليلي ‬

‫‪1947‬‬ ‫‪ -6‬زقاق المدق ‬

‫‪1948‬‬ ‫ ‬
‫‪ -7‬السراب‬

‫‪1949‬‬ ‫ ‬
‫‪ -8‬بداية ونهاية‬

‫‪1956‬‬ ‫‪ -9‬بين القصرين ‬

‫‪1057‬‬ ‫ ‬‫‪ -10‬قصر الشوق‬

‫‪1957‬‬ ‫ ‬
‫‪ -11‬السكرية‬

‫‪531‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪1960‬‬ ‫ ‬‫‪ -12‬أوالد حارتنا‬

‫‪1961‬‬ ‫ ‬
‫‪ -13‬اللص والكالب‬

‫‪1962‬‬ ‫ ‬
‫‪ -14‬السمان والخريف‬

‫‪1964‬‬ ‫ ‬
‫‪ -15‬الطريق‬

‫‪1965‬‬ ‫ ‬
‫‪ -16‬الشحاذ‬

‫‪1966‬‬ ‫ ‬
‫‪ -17‬ثرثرة فوق النيل‬

‫‪1967‬‬ ‫ ‬
‫‪ -18‬ميرامار‬

‫‪1972‬‬ ‫ ‬
‫‪ -19‬المرايا‬

‫‪1973‬‬ ‫ ‬
‫‪ -20‬الحب تحت المطر‬

‫‪1974‬‬ ‫ ‬
‫‪ -21‬الكرنك‬

‫‪1975‬‬ ‫ ‬
‫‪ -22‬حكايات حارتنا‬

‫‪1975‬‬ ‫ ‬
‫‪ -23‬قلب الليل‬

‫‪1975‬‬ ‫ ‬
‫‪ -24‬حضرة المحترم‬

‫‪1977‬‬ ‫ ‬
‫‪ -25‬ملحمة الحرافيش‬

‫‪1980‬‬ ‫ ‬‫‪ -26‬عصر الحب‬

‫‪1981‬‬ ‫‪ -27‬أفراح القبة ‬

‫‪1982‬‬ ‫ ‬
‫‪ -28‬ليالي ألف ليلة‬

‫‪532‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫‪1982‬‬ ‫ ‬‫‪ -29‬الباقي من الزمن ساعة‬

‫‪1983‬‬ ‫ ‬
‫‪ -30‬رحلة ابن فطومة‬

‫‪1985‬‬ ‫ ‬
‫‪ -31‬العائش في الحقيقة‬

‫‪1987‬‬ ‫ ‬
‫‪ -32‬يوم قتل الزعيم‬

‫‪1988‬‬ ‫ ‬
‫‪ -33‬حديث الصباح والمساء‬

‫‪ -‬القصص القصيرة‪:‬‬

‫‪1938‬‬ ‫ ‬
‫‪ -35‬همس الجنون‬

‫‪1963‬‬ ‫ ‬
‫‪ -36‬دنيا الله‬

‫‪1965‬‬ ‫ ‬
‫‪ -37‬بيت سيئ السمعة‬

‫‪1969‬‬ ‫ ‬
‫‪ -38‬خمارة القط األسود‬

‫‪1969‬‬ ‫ ‬‫‪ -39‬تحت المظلة‬

‫‪1971‬‬ ‫ ‬
‫‪ -40‬حكاية بال بداية وال نهاية‬

‫‪1971‬‬ ‫‪ -41‬شهر العسل ‬

‫‪1973‬‬ ‫ ‬
‫‪ -42‬الجريمة‬

‫‪1979‬‬ ‫ ‬
‫‪ -43‬الحب فوق هضبة الهرم‬

‫‪1979‬‬ ‫ ‬‫‪ -44‬الشيطان يعظ‬

‫‪1982‬‬ ‫‪ -45‬رأيت فيما يرى النائم ‬

‫‪533‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪1984‬‬ ‫ ‬
‫‪ -46‬التنظيم السري‬

‫‪1987‬‬ ‫ ‬‫‪ -47‬صباح الورد‬

‫‪1989‬‬ ‫ ‬
‫‪ -48‬الفجر الكاذب‬

‫‪ -49‬القرار األخير‬

‫‪ -‬الترجمات والحوارات‪:‬‬

‫‪1932‬‬ ‫ ‬‫‪ -50‬مصر القديمة‬

‫‪1983‬‬ ‫‪ -51‬أمام العرش ‬

‫(سيرة ذاتية)‪:‬‬

‫‪1995‬‬ ‫ ‬
‫‪ -52‬أصداء السيرة الذاتية‬

‫‪1995‬‬ ‫ ‬
‫‪ -53‬عجائب األقدار‬

‫ ‬
‫‪2005‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬أحالم فترة النقاهة‬

‫المسرحيات‪:‬‬

‫س�بع مس�رحيات م�ن ذات الفصل الواح�د‪ ،‬خمس منه�ا في مجموع�ة «تحت‬
‫المظلة» وهي‪:‬‬

‫‪ -62‬يميت و ُي ْحيي‬

‫‪ -63‬التركة‬

‫‪ -64‬النجاة‬

‫‪534‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫‪ -65‬مشروع للمناقشة‬

‫‪ -66‬المهمة‬

‫ومسرحيتان في مجموعة «الشيطان يعظ» هما‪:‬‬

‫‪ -67‬الجبل‬

‫‪ -68‬الشيطان يعظ‬

‫وحولها إلى‬
‫* أع�د مصطف�ى بهج�ت مصطف�ى المس�رحيات الثلاث األول�ى ّ‬
‫العامي�ة‪ ،‬وأخرجها أحمد عبد الحليم على مس�رح الجيب عام ‪ 1969‬بعنوان «تحت‬
‫المظلة»‪.‬‬

‫الروايات والقصص التي أعدت للمسرح‪:‬‬

‫‪ -1‬زقاق المدق‪ :‬إعداد أمينة الصاوي‪ ،‬إخراج كمال يس ‪.1958‬‬

‫‪ -2‬بداية ونهاية‪ :‬إعداد أنور فتح الله‪ ،‬إخراج عبد الرحيم الزرقاني ‪.1960‬‬

‫بداية ونهاية‪ :‬إعداد أحمد عبد المعطي‪ ،‬إخراج فتحي الحكيم ‪.1976‬‬

‫بداية ونهاية‪ :‬إعداد أنور فتح الله‪ ،‬إخراج عبد الغفار عودة ‪.1986‬‬

‫‪ -3‬بين القصرين‪ :‬إعداد أمينة الصاوي‪ ،‬إخراج صالح منصور ‪.1960‬‬

‫‪ -4‬قصر الشوق‪ :‬إعداد أمينة الصاوي‪ ،‬إخراج كمال يس ‪.1961‬‬

‫‪ -5‬اللص والكالب‪ :‬إعداد أمينة الصاوي‪ ،‬إخراج حمدي غيث ‪.1962‬‬

‫‪ -6‬الجوع‪ :‬إعداد فايز حالوة وإخراجه (قهوة التوتة) ‪.1962‬‬

‫‪535‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -7‬خان الخليلي‪ :‬إعداد صالح طنطاوي‪ ،‬إخراج حسين كمال ‪.1863‬‬

‫‪ -8‬روض الفرج‪ :‬إعداد صالح طنطاوي‪ ،‬إخراج حسين كمال ‪.1964‬‬

‫‪ -9‬ميرامار‪ :‬إعداد نجيب سرور وإخراجه ‪.1969‬‬

‫‪ -10‬القاهرة ‪ :80‬إعداد سمير العصفوري وإخراجه ‪.1989‬‬

‫‪ -11‬حارة العشاق إعداد أحمد عبد المعطي‪ ،‬وإخراج أحمد هاني ‪.1989‬‬

‫السيناريوهات‪:‬‬

‫‪ -1‬المنتقم‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1947‬‬

‫‪ -2‬عنتر وعبلة‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1948‬‬

‫‪ -3‬لك يوم يا ظالم‪ :‬إخراج صالح أبو س�يف‪ ،‬عن قصة إميل زوال «تريز راكان»‬
‫‪.1951‬‬

‫‪ -4‬ريا وسكينة‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1953‬‬

‫‪ -5‬الوحش‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1954‬‬

‫‪ -6‬جعلوني مجر ًما‪ :‬إخراج عاطف سالم ‪.1954‬‬

‫‪ -7‬فتوات الحسينية‪ :‬إخراج نيازي مصطفى ‪.1954‬‬

‫‪ -8‬شباب امرأة‪ :‬إخراج صالح أبو سيف‪ ،‬عن قصة أمين يوسف غراب ‪.1955‬‬

‫‪ -9‬درب المهابيل‪ :‬إخراج توفيق صالح ‪.1955‬‬

‫‪ -10‬الفتوة‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1957‬‬

‫‪536‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫‪ -11‬الطريق المسدود‪ :‬إخراج صالح أبو سيف‪ ،‬عن قصة إحسان عبد القدوس‬
‫‪.1958‬‬

‫‪ -12‬الهاربة‪ :‬إخراج حسن رمزي ‪.1958‬‬

‫‪ -13‬أنا حرة‪ :‬إخراج صالح أبو سيف‪ ،‬عن قصة إحسان عبد القدوس ‪.1959‬‬

‫‪ -14‬إحنا التالمذة‪ :‬إخراج عاطف سالم ‪.1959‬‬

‫‪ -15‬بين السما واألرض‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1959‬‬

‫‪ -16‬جميلة‪ :‬إخراج يوسف شاهين‪ ،‬عن قصة يوسف السباعي ‪.1959‬‬

‫‪ -17‬الناصر صالح الدين‪ :‬إخراج يوس�ف ش�اهين‪ ،‬عن قصة يوس�ف السباعي‬
‫‪.1963‬‬

‫‪ -18‬ثمن الحرية‪ :‬إخراج نور الدمرداش ‪.1965‬‬

‫‪ -19‬االختيار‪ :‬إخراج يوسف شاهين ‪.1971‬‬

‫‪ -20‬دالل المصرية‪ :‬إخراج حسن اإلمام ‪.1971‬‬

‫‪ -21‬ذات الوجهين‪ :‬إخراج حسام الدين مصطفى ‪.1973‬‬

‫‪ -22‬المجرم‪ :‬إخراج صالح أبو سيف (لك يوم يا ظالم) ‪.1978‬‬

‫‪ -23‬وكالة البلح‪ :‬إخراج حسام الدين مصطفى ‪.1983‬‬

‫‪537‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫الروايات والقصص التي أعدت للسينما‪:‬‬

‫‪ -1‬بداية ونهاية‪ :‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1960‬‬

‫‪ -2‬زقاق المدق‪ :‬إخراج حسن اإلمام ‪.1963‬‬

‫‪ -3‬اللص والكالب‪ :‬إخراج كمال الشيخ ‪.1963‬‬

‫‪ -4‬بين القصرين‪ :‬إخراج حسن اإلمام ‪.1964‬‬

‫‪ -5‬الطريق‪ :‬إخراج حسام الدين مصطفى ‪.1964‬‬

‫‪ -6‬خان الخليلي‪ :‬إخراج عاطف سالم ‪.1966‬‬

‫‪ -7‬القاهرة ‪ :30‬إخراج صالح أبو سيف ‪.1966‬‬

‫‪ -8‬قصر الشوق‪ :‬إخراج حسن اإلمام ‪.1967‬‬

‫‪ -9‬السمان والخريف‪ :‬إخراج حسام الدين مصطفى ‪.1968‬‬

‫‪ -10‬ميرامار‪ :‬إخراج كمال الشيخ ‪.1969‬‬

‫‪ -11‬السراب‪ :‬إخراج أنور الشناوي ‪.1970‬‬

‫‪ -12‬ثرثرة فوق النيل‪ :‬إخراج حسين كمال ‪.1971‬‬

‫‪ -13‬صور ممنوعة‪ :‬إخراج مدكور ثابت‪( ،‬من خمارة القط األسود) ‪.1972‬‬

‫‪ -14‬السكرية‪ :‬إخراج حسن اإلمام ‪.1973‬‬

‫‪ -15‬الشحات‪ :‬إخراج حسام الدين مصطفى ‪.1973‬‬

‫‪ -16‬أميرة حبي أنا‪ :‬إخراج حسن اإلمام‪( ،‬من المرايا) ‪.1974‬‬


‫‪538‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫‪ -17‬الكرنك‪ :‬إخراج علي بدرخان ‪.1975‬‬

‫‪ -18‬الحب تحت المطر‪ :‬إخراج حسين كمال ‪.1975‬‬

‫‪ -19‬الشريدة‪ :‬إخراج أشرف فهمي‪( ،‬من همس الجنون) ‪.1980‬‬

‫‪ -20‬فتوات بوالق‪ :‬إخراج يحيى العلمي‪( ،‬من حكايات حارتنا) ‪.1981‬‬

‫المقاهي‪ ..‬في حياته‪:‬‬

‫‪ -1‬مقهى عرابي بالعباسية‪.‬‬

‫‪ -2‬مقهى قشتمر بشارع الجيش‪.‬‬

‫‪ -3‬مقهى الفيشاوي بالحسين‪.‬‬

‫‪ -4‬مقهى زقاق المدق‪.‬‬

‫‪ -5‬مقهى الفردوس‪.‬‬

‫‪ -6‬مقهى روكسي‪.‬‬

‫‪ -7‬مقهى لونابارك‪.‬‬

‫‪ -8‬مقهى أحمد عبده بالحسين‪.‬‬

‫‪ -9‬مقهى علي بابا بالتحرير‪.‬‬

‫‪ -10‬مقهى ريش بالتحرير‪.‬‬

‫‪ -11‬كازينو قصر النيل‪.‬‬

‫‪ -12‬كازينو كليوباترا‪.‬‬

‫‪539‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪ -13‬مقهى ديليسبس باإلسكندرية‪.‬‬

‫‪ -14‬كازينو بترو بسيدي بشر‪.‬‬

‫‪ -15‬كازينو ميرامار باإلسكندرية‪.‬‬

‫‪ -16‬كازينو سان استيفانو‪.‬‬

‫‪540‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫كتبه‪ ..‬مترجمة إلى اللغات األخرى‬


‫‪.1960‬‬ ‫ ‬
‫بيروت‬ ‫ق‪ .‬المنصور‬ ‫ ‬
‫‪ -1‬همس الجنون‬

‫‪.1962‬‬ ‫جامعة القاهرة‬ ‫ ‬


‫صفية ربيع‬ ‫ ‬
‫‪ -2‬الزعبالوي‬

‫‪.1964‬‬ ‫دورية أمريكية‬ ‫ ‬


‫روجر ألسن‬ ‫ ‬
‫‪ -3‬دنيا الله‬

‫‪.1966‬‬ ‫جامعة ميتشجان‬ ‫تريفور لوجاسيك‬ ‫ ‬


‫‪ -4‬زقاق المدق‬

‫‪.1967‬‬ ‫دورية بريطانية‬ ‫نسيم رجوان‬ ‫ ‬


‫‪ -5‬الزعبالوي‬

‫‪.1967‬‬ ‫جامعة أكسفورد‬ ‫دنيس جونسون‬ ‫ ‬


‫‪ -6‬الزعبالوي‬

‫‪.1968‬‬ ‫جامعة اإلسكندرية‬ ‫محمود المنزالوي‬ ‫ ‬


‫‪ -7‬قصص قصيرة‬

‫دار المعارف (القاهرة) ‪.1968‬‬ ‫محمود المنزالوي‬ ‫ ‬


‫‪ -8‬دنيا الله‬

‫‪.1973‬‬ ‫ ‬
‫دار أمريكية‬ ‫ ‬
‫روجر ألسن‬ ‫ ‬
‫‪ -9‬دنيا الله‬

‫‪.1973‬‬ ‫جامعة بيروت‬ ‫جوزيف أولين‬ ‫‪ -10‬القصص القصيرة‬

‫‪.1976‬‬ ‫ ‬
‫لندن‬ ‫تريفور لوجاسيك‬ ‫ ‬
‫‪ -11‬زقاق المدق‬

‫‪.1976‬‬ ‫ ‬
‫لندن‬ ‫دينيس جونسون‬ ‫ ‬
‫‪ -12‬تحت المظلة‬

‫‪.1977‬‬ ‫ ‬
‫دار أمريكية‬ ‫ ‬
‫روجر ألسن‬ ‫ ‬
‫‪ -13‬المرايا‬

‫‪.1978‬‬ ‫ ‬
‫لندن‬ ‫سعد الجبالوي‬ ‫‪ -14‬خمارة القط األسود‬

‫‪.1978‬‬ ‫ ‬
‫لندن‬ ‫فاطمة مرسي‬ ‫ ‬
‫‪ -15‬ميرامار‬

‫‪.1984‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫تريفور لوجاسيك‬ ‫‪ -16‬اللص والكالب‬

‫‪.1984‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫أوليف كينسي‬ ‫ ‬


‫‪ -17‬أفراح القبة‬

‫‪.1985‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫ ‬


‫روجر ألسن‬ ‫‪ -18‬السمان والخريف‬

‫‪.1985‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫رمسيس عوض‬ ‫ ‬


‫‪ -19‬بداية ونهاية‬

‫‪.1986‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫كريستين وكرهنري‬ ‫ ‬


‫‪ -20‬الشحات‬

‫‪.1986‬‬ ‫لندن ونيويورك‬ ‫رشيد العناني‬ ‫‪ -21‬حضرة المحترم‬

‫‪541‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪.1987‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫رشيد العناني‬ ‫‪ -22‬حضرة المحترم‬

‫‪.1987‬‬ ‫الجامعة األمريكية‬ ‫محمد إسالم‬ ‫ ‬


‫‪ -23‬الطريق‬
‫‪.1987‬‬ ‫ ‬
‫جدة‬ ‫ ‬
‫عادل إلياس‬ ‫‪ -24‬اللص والكالب‬
‫‪.1988‬‬ ‫ ‬
‫واشنطن‬ ‫سعاد صبحي‬ ‫‪ -25‬حكايات حارتنا‬

‫كتب عربية‪ ..‬عن حياته وأعماله‬

‫‪.1967‬‬ ‫هيئة الكتاب (القاهرة)‬ ‫د‪ .‬نبيل راغب‬ ‫‪ -1‬قضية الشكل الفني‬
‫‪.1967‬‬ ‫دار المعارف (القاهرة)‬ ‫د‪ .‬غالي شكري‬ ‫‪ -2‬المنتمي‬
‫‪.1970‬‬ ‫دار المعارف (القاهرة)‬ ‫محمود أمين العالم‬ ‫‪ -3‬تأمالت في عالم محفوظ‬
‫‪.1971‬‬ ‫دمشق‬ ‫أحمد محمد عطية‬ ‫‪ -4‬مع نجيب محفوظ‬
‫‪.1972‬‬ ‫د‪ .‬محمد حسن عبد الله الكويت‬ ‫‪ -5‬اإلسالمية في أدب محفوظ‬
‫‪.1973‬‬ ‫بيروت‬ ‫جورج طرابيشي‬ ‫‪ -6‬الله في رحلة محفوظ‬
‫‪.1974‬‬ ‫دار المعارف (القاهرة)‬ ‫‪ -7‬قراءة الرواية في عالم محفوظ د‪ .‬محمود الربيعي‬
‫‪.1974‬‬ ‫د‪ .‬رجاء عيد‬ ‫‪ -8‬دراسة في أدب محفوظ‬
‫‪.1975‬‬ ‫هيئة الكتاب (القاهرة)‬ ‫د‪ .‬هاشم النحاس‬ ‫‪ -9‬محفوظ على الشاشة‬
‫‪.1978‬‬ ‫د‪ .‬عبد المحسن طه بدر دار المعارف (القاهرة)‬ ‫‪ -10‬الرؤية واألداة‬
‫دار الفكر المعاصر (القاهرة) ‪.1978‬‬ ‫إبراهيم فتحي‬ ‫‪ -11‬العالم الروائي عند محفوظ‬
‫‪.1979‬‬ ‫بيروت‬ ‫د‪ .‬علي شلش‬ ‫‪ -12‬نجيب محفوظ‬
‫‪.1980‬‬ ‫هيئة الكتاب (القاهرة)‬ ‫يوسف الشاروني‬ ‫‪ -13‬الروائيون الثالثة‬
‫‪.1980‬‬ ‫بيروت‬ ‫جاك جومييه‬ ‫‪ -14‬ثالثية نجيب محفوظ‬
‫‪.1981‬‬ ‫بيروت‬ ‫د‪ .‬فاطمة الزهراء سعيد‬ ‫‪ -15‬الرمزية في أدب محفوظ‬
‫‪.1982‬‬ ‫تل أبيب‬ ‫ساسون سوميخ‬ ‫‪ -16‬دنيا نجيب محفوظ‬

‫‪542‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫‪.1982‬‬ ‫المكتبة الثقافة (القاهرة)‬ ‫د‪ .‬ناجي نجيب‬ ‫‪ -17‬قصة األجيال‬


‫‪.1982‬‬ ‫عكا‬ ‫ساسون سوميخ‬ ‫‪ -18‬أدب نجيب محفوظ‬
‫‪.1984‬‬ ‫هيئة الكتاب (القاهرة)‬ ‫د‪ .‬سيزا قاسم‬ ‫‪ -19‬بناء الرواية‬
‫‪.1986‬‬ ‫هيئة الكتاب (القاهرة)‬ ‫نبيل فرج‬ ‫‪ -20‬محفوظ حياته وأعماله‬
‫‪.1987‬‬ ‫أخبار اليوم (القاهرة)‬ ‫جمال الغيطاني‬ ‫‪ -21‬محفوظ يتذكر‬
‫‪.1988‬‬ ‫هيئة الكتاب (القاهرة)‬ ‫يوسف نوفل‬ ‫‪ -22‬الفن القصصي‬
‫‪.1988‬‬ ‫الهالل (القاهرة)‬ ‫د‪ .‬رشيد العناني‬ ‫‪ -23‬عالم نجيب محفوظ‬

‫اً‬
‫فصول عنه‬ ‫كتب‪ ..‬تضمنت‬
‫لطه حسين ‪ -‬عباس خضر ‪ -‬فؤاد دوارة ‪ -‬علي الراعي ‪ -‬جالل العشري ‪ -‬رشاد‬
‫رشدي ‪ -‬يوسف الشاروني ‪ -‬غالي شكري ‪ -‬صالح عبد الصبور ‪ -‬لويس عوض ‪-‬‬
‫شكري عياد ‪ -‬سيد قطب ‪ -‬أنور المعداوي ‪ -‬محمد مندور ‪ -‬فاروق منيب ‪ -‬رجاء‬
‫النقاش ‪ -‬حسن البنداري ‪ -‬فتحي العشري‪.‬‬

‫كتب أجنبية‪ ..‬عن أعماله‬


‫‪.1966‬‬ ‫بيروت‬ ‫تريفور لوجاسيك‬ ‫‪ -1‬زقاق المدق‬
‫‪.1972‬‬ ‫األنجلو (القاهرة)‬ ‫عادل إلياس‬ ‫‪ -2‬عالم محفوظ‬
‫‪.1972‬‬ ‫تل أبيب‬ ‫ساسون سوميخ‬ ‫‪ -3‬دنيا محفوظ‬
‫‪.1972‬‬ ‫أمريكا‬ ‫روجر ألسن‬ ‫‪ -4‬المرايا‬
‫‪.1973‬‬ ‫هولندا‬ ‫ساسون سوميخ‬ ‫‪ -5‬روايات محفوظ‬
‫‪.1974‬‬ ‫لندن‬ ‫هيالري كيلبا تريك‬ ‫‪ -6‬الرواية المصرية‬
‫‪.1979‬‬ ‫كندا‬ ‫سعد الجبالوي‬ ‫‪ -7‬الكرنك‬

‫‪543‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪.1980‬‬ ‫تل أبيب‬ ‫ساسون سوميخ‬ ‫‪ -8‬حكايات حارتنا‬


‫‪.1981‬‬ ‫لندن‬ ‫فيليب ستيوارت‬ ‫‪ -9‬أوالد حارتنا‬
‫‪.1983‬‬ ‫لندن‬ ‫علي جاد‬ ‫‪ -10‬الرواية المصرية‬
‫‪.1983‬‬ ‫نيوجرسي‬ ‫بيليد ماتينياهو‬ ‫‪ -11‬أعمال محفوظ‬

‫رسائل جامعية‪ ..‬عنه‬


‫‪.1963‬‬ ‫أكسفورد‬ ‫فيليب ستيوارت‬ ‫أوالد حارتنا‬ ‫‪ -1‬ماجستير‬
‫‪.1971‬‬ ‫كاليفورنيا‬ ‫بيليد ماتينياهو‬ ‫األعمال األدبية‬ ‫‪ -2‬دكتوراه‬
‫‪.1972‬‬ ‫كولومبيا‬ ‫اكسفير فرانسيس‬ ‫الروايات‬ ‫‪ -3‬دكتوراه‬
‫‪.1972‬‬ ‫متشجان‬ ‫منى نجيب ميخائيل‬ ‫أدبه‬ ‫‪ -4‬دكتوراه‬
‫‪.1974‬‬ ‫أكسفورد‬ ‫علي جاد‬ ‫الرواية المصرية‬ ‫‪ -5‬دكتوراه‬
‫‪.1975‬‬ ‫لندن‬ ‫ر‪ .‬س‪ .‬أوستيل‬ ‫األدب العربي‬ ‫‪ -6‬دكتوراه‬
‫‪.1979‬‬ ‫أوكالهوما‬ ‫عادل إلياس‬ ‫اللص والكالب‬ ‫‪ -7‬دكتوراه‬
‫‪.1979‬‬ ‫آلستر‬ ‫عبد الوهاب الحاكمي‬ ‫التجديد والتقليد‬ ‫‪ -8‬دكتوراه‬
‫‪.1980‬‬ ‫ألينويز‬ ‫سمير مصطفى‬ ‫أهل القاهرة‬ ‫‪ -9‬دكتوراه‬
‫‪.1981‬‬ ‫أدنبرة‬ ‫عدنان الوزان‬ ‫الواقعية‬ ‫‪ -10‬دكتوراه‬
‫‪.1982‬‬ ‫متشجان‬ ‫أحمد الروبي‬ ‫الموت‬ ‫‪ -11‬دكتوراه‬
‫‪.1982‬‬ ‫أكسفورد‬ ‫محمد محمود‬ ‫أدبه‬ ‫‪ -12‬دكتوراه‬
‫‪.1984‬‬ ‫أريزونا‬ ‫ريتشارد كينيث‬ ‫السلطة‬ ‫‪ -13‬ماجستير‬
‫‪.1984‬‬ ‫أدنبرة‬ ‫حسين يوسف حسين‬ ‫الروايات التاريخية‬ ‫‪ -14‬دكتوراه‬
‫‪.1984‬‬ ‫آلستر‬ ‫أ‪ .‬البسام‬ ‫دراسة مقارنة‬ ‫‪ -15‬دكتوراه‬
‫‪.1984‬‬ ‫آلستر‬ ‫رشيد الغساني‬ ‫دراسة مقارنة‬ ‫‪ -16‬دكتوراه‬

‫‪544‬‬
‫مؤلفاتـه‬

‫‪.1984‬‬ ‫ألينويز‬ ‫منى شفيق فايد‬ ‫العبثية‬ ‫‪ -17‬دكتوراه‬


‫‪.1987‬‬ ‫آلستر‬ ‫سعاد فطيم‬ ‫بين القصرين‬ ‫‪ -18‬دكتوراه‬
‫‪.1988‬‬ ‫كونيتيكيت‬ ‫سميحة صليب‬ ‫زقاق المدق‬ ‫‪ -19‬ماجستير‬

‫‪545‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪546‬‬
‫احملتويات‬

‫محتويات‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪5‬‬ ‫كلمة الناشر‪ :‬الشاهد األمين‪ ..‬محمد رشاد ‪....................................‬‬

‫‪11‬‬ ‫مقدمة‪ :‬نجيب محفوظ بين الرواية والمقال‪ ..‬مصطفى عبادة ‪............‬‬

‫‪ -1‬العرب‬

‫‪37‬‬ ‫العرب والحضارة ‪......................................................................‬‬

‫‪44‬‬ ‫ظالما أو مظلو ًما ‪.........................................................‬‬


‫اقتل أخاك ً‬
‫‪50‬‬ ‫عرب وعروبة ‪............................................................................‬‬

‫‪52‬‬ ‫أنفسنا اً‬


‫أول‪ ..‬في تشخيص المصائب ‪............................................‬‬

‫‪54‬‬ ‫الحقيقة المرة ‪............................................................................‬‬

‫‪55‬‬ ‫محنة راهنة‪ ...‬وفجر جديد ‪..........................................................‬‬

‫‪57‬‬ ‫الطريق العربي ‪...........................................................................‬‬

‫‪59‬‬ ‫متى نعرف قيمة الوقت؟ ‪..............................................................‬‬

‫‪61‬‬ ‫ماذا تعني إسرائيل ‪.......................................................................‬‬

‫‪63‬‬ ‫درس البترول ‪.............................................................................‬‬

‫‪547‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪65‬‬ ‫الحكمة المنشودة ‪.......................................................................‬‬

‫‪67‬‬ ‫‪.....................................................................‬‬ ‫الحرب الالمعقولة‬


‫‪68‬‬ ‫‪........................................................................‬‬ ‫نحن والكوارث‬
‫‪71‬‬ ‫تأمالت عربية ‪............................................................................‬‬

‫‪72‬‬ ‫األمل الباقي ‪..............................................................................‬‬

‫‪74‬‬ ‫بين القضية والهدف ‪....................................................................‬‬

‫‪76‬‬ ‫صاحب القضية ‪..........................................................................‬‬

‫‪78‬‬ ‫بين الواقع والحلم ‪......................................................................‬‬

‫‪80‬‬ ‫القومية العربية بين الواقع و الحلم ‪................................................‬‬

‫‪82‬‬ ‫نحو وحدة عربية جديدة ‪..............................................................‬‬

‫‪84‬‬ ‫هذا العيد ‪..................................................................................‬‬

‫‪86‬‬ ‫‪..........................................................................‬‬ ‫وحدة األساس‬


‫‪88‬‬ ‫‪...................................................................................‬‬ ‫دم الثوار‬
‫‪90‬‬ ‫الحرب ‪.....................................................................................‬‬

‫‪92‬‬ ‫الهوية والهدف ‪..........................................................................‬‬

‫‪94‬‬ ‫كنز للزمن الطويل ‪.......................................................................‬‬

‫‪96‬‬ ‫نحو التكامل والحضارة ‪..............................................................‬‬

‫‪98‬‬ ‫الوحدة الثقافية ‪..........................................................................‬‬

‫‪100‬‬ ‫دار الحكمة ‪...............................................................................‬‬

‫‪102‬‬ ‫النجوى بين األشقاء ‪...................................................................‬‬

‫‪548‬‬
‫احملتويات‬

‫‪ 6‬أكتوبر ‪103 ....................................................................................‬‬

‫‪105‬‬ ‫في الطريق الذهبي ‪......................................................................‬‬

‫‪107‬‬ ‫زوبعة في فنجان العرب ‪..............................................................‬‬

‫‪109‬‬ ‫آمالنا في العام الجديد ‪.................................................................‬‬

‫‪111‬‬ ‫أمثلة يضربها العصر ‪....................................................................‬‬

‫‪113‬‬ ‫‪...........................................................‬‬ ‫األمة العربية تواجه الزمن‬


‫‪115‬‬ ‫‪................................................................................‬‬ ‫قمة اآلمال‬
‫‪117‬‬ ‫الجريمة والرسالة ‪.......................................................................‬‬

‫‪119‬‬ ‫أماني عربية‪................................................................................‬‬


‫ّ‬
‫‪121‬‬ ‫الطريق العربي ‪...........................................................................‬‬

‫‪123‬‬ ‫حرب الرهائن ‪...........................................................................‬‬

‫‪125‬‬ ‫شرورا ‪............................................................................‬‬


‫ً‬ ‫شر يلد‬
‫‪127‬‬ ‫الحرب والسالم ‪........................................................................‬‬

‫‪129‬‬ ‫الدروس القاسية ‪........................................................................‬‬

‫‪131‬‬ ‫من الجاني؟ ‪..............................................................................‬‬

‫‪133‬‬ ‫الخط بين السالم والحرب ‪..........................................................‬‬

‫‪135‬‬ ‫خطوة منشودة للسالم‪..................................................................‬‬

‫‪137‬‬ ‫‪....................................................................‬‬ ‫صراع الخير والشر‬


‫‪139‬‬ ‫الح َّل ْين‪.......................................................................‬‬
‫مقارنة بين َ‬
‫‪141‬‬ ‫دعوة إلى الجهاد األكبر ‪...............................................................‬‬

‫‪549‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪143‬‬ ‫رحلة إلى المستقبل ‪....................................................................‬‬

‫‪145‬‬ ‫حلم ساعة ‪.................................................................................‬‬

‫‪147‬‬ ‫حوار مع الرؤية ‪..........................................................................‬‬

‫‪149‬‬ ‫رئيس لكل العصور ‪....................................................................‬‬

‫‪151‬‬ ‫اعترافات نصف الليل ‪.................................................................‬‬

‫‪153‬‬ ‫المصالح والمبادئ‪.....................................................................‬‬

‫‪155‬‬ ‫ْ‬
‫اعرف نفسك ‪.............................................................................‬‬

‫‪157‬‬ ‫بطل الترسو ‪...............................................................................‬‬

‫‪159‬‬ ‫باب األمل ‪.................................................................................‬‬

‫‪161‬‬ ‫حائط المبكى العربي ‪..................................................................‬‬

‫‪163‬‬ ‫المأساة بين الواقع والخيال ‪..........................................................‬‬

‫‪165‬‬ ‫المأساة ‪.....................................................................................‬‬

‫‪167‬‬ ‫معركة السالم ‪............................................................................‬‬

‫‪169‬‬ ‫العودة إلى البيت ‪........................................................................‬‬

‫‪171‬‬ ‫غدً ا يوم جديد ‪..........................................................................‬‬

‫‪173‬‬ ‫‪..........................................................................‬‬ ‫الهدف األعلى‬


‫‪175‬‬ ‫التشاؤم والتفاؤل ‪........................................................................‬‬

‫‪177‬‬ ‫انتحار زعامة ‪.............................................................................‬‬

‫‪179‬‬ ‫وقفة مع الذكريات ‪.....................................................................‬‬

‫‪181‬‬ ‫مبادرة بوش ‪...............................................................................‬‬

‫‪550‬‬
‫احملتويات‬

‫‪183‬‬ ‫نحو رؤية جديدة ‪........................................................................‬‬

‫‪185‬‬ ‫دفاعا عن الحرية والكرامة ‪...........................................................‬‬


‫ً‬
‫‪187‬‬ ‫األصل والصورة ‪........................................................................‬‬

‫‪189‬‬ ‫الواقع والحلم ‪...........................................................................‬‬

‫‪191‬‬ ‫من ٍ‬
‫حال إلى حال ‪.......................................................................‬‬

‫‪193‬‬ ‫الوطن الكبير ‪.............................................................................‬‬

‫‪195‬‬ ‫تجربة الجزائر ‪............................................................................‬‬

‫‪197‬‬ ‫أهمية السالم ‪.............................................................................‬‬

‫‪199‬‬ ‫طريق العدل ‪..............................................................................‬‬

‫‪201‬‬ ‫كيف نحافظ على هويتنا؟ ‪............................................................‬‬

‫‪203‬‬ ‫رؤية للطريق العربي الجديد ‪........................................................‬‬

‫‪205‬‬ ‫حركة مباركة ‪.............................................................................‬‬

‫‪207‬‬ ‫الحرب والشرعية الدولية ‪............................................................‬‬

‫‪209‬‬ ‫مصر والسودان ‪..........................................................................‬‬

‫‪211‬‬ ‫العرب في عالم الغد ‪...................................................................‬‬

‫‪213‬‬ ‫مراجعة شاملة ‪...........................................................................‬‬

‫‪215‬‬ ‫ثمن السالم ‪...............................................................................‬‬

‫‪217‬‬ ‫ما يليق وما ال يليق ‪......................................................................‬‬

‫‪219‬‬ ‫نحو حياة جديدة ‪........................................................................‬‬

‫‪221‬‬ ‫من الفدائية إلى العقلية ‪................................................................‬‬

‫‪551‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪223‬‬ ‫والدة عسيرة ‪..............................................................................‬‬

‫‪ -2‬العلم‬
‫‪227‬‬ ‫ثروتنا الحقيقية ‪..........................................................................‬‬

‫‪229‬‬ ‫دواء ألكثر من داء ‪.......................................................................‬‬

‫‪231‬‬ ‫وزارة جديدة ‪.............................................................................‬‬

‫‪223‬‬ ‫‪..........................................................‬‬ ‫العلوم في مدارس اللغات‬


‫‪234‬‬ ‫طريق آخر للمجد ‪.......................................................................‬‬

‫‪236‬‬ ‫مؤتمر الثروة البشرية ‪...................................................................‬‬

‫‪238‬‬ ‫الطوفان السفينة ‪.........................................................................‬‬

‫‪240‬‬ ‫مشكلة المشكالت ‪.....................................................................‬‬

‫‪242‬‬ ‫الداء يصل إلى البذور ‪.................................................................‬‬

‫‪244‬‬ ‫‪..............................................................................‬‬ ‫خطة جديدة‬


‫‪246‬‬ ‫توحيد القطرين ‪..........................................................................‬‬

‫‪248‬‬ ‫الوعي المنشود ‪..........................................................................‬‬

‫‪250‬‬ ‫‪..............................................................................‬‬ ‫آمال نترقبها‬


‫‪252‬‬ ‫عهد الحقيقة والواقع ‪..................................................................‬‬

‫‪254‬‬ ‫عام جديد ‪..................................................................................‬‬

‫‪256‬‬ ‫حول اإلنتاج ‪..............................................................................‬‬

‫‪258‬‬ ‫عصر العلم والعلماء ‪...................................................................‬‬

‫‪552‬‬
‫احملتويات‬

‫‪260‬‬ ‫مفتاح اإلصالح ‪.........................................................................‬‬

‫‪262‬‬ ‫تساؤل غير خبير‪.........................................................................‬‬

‫‪264‬‬ ‫بين الفناء والبقاء‪.........................................................................‬‬

‫‪266‬‬ ‫دعوة للحياة ‪..............................................................................‬‬

‫‪267‬‬ ‫األمانة التي حملها اإلنسان ‪..........................................................‬‬

‫‪269‬‬ ‫السلوك في وقت الشدِّ ة ‪...............................................................‬‬

‫‪270‬‬ ‫االنفجار ‪...................................................................................‬‬

‫‪272‬‬ ‫العمل أمانة‪................................................................................‬‬

‫‪274‬‬ ‫العقل في الحياة اليومية ‪...............................................................‬‬

‫‪276‬‬ ‫جهد بشري ‪...............................................................................‬‬

‫‪278‬‬ ‫الشهرة ‪......................................................................................‬‬

‫‪280‬‬ ‫الروح الرياضية ‪..........................................................................‬‬

‫‪282‬‬ ‫هدايا األفراح ‪.............................................................................‬‬

‫‪287‬‬ ‫مواجهة المشكالت ‪....................................................................‬‬

‫‪289‬‬ ‫بين الكهف والعلم‪......................................................................‬‬

‫‪291‬‬ ‫نحو حياة علمية أفضل ‪................................................................‬‬

‫‪293‬‬ ‫العمل حياة ‪................................................................................‬‬

‫‪295‬‬ ‫العمل ‪.......................................................................................‬‬

‫‪297‬‬ ‫صحتك ‪....................................................................................‬‬

‫‪299‬‬ ‫الشكوى ألهل البصيرة ‪...............................................................‬‬

‫‪553‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪301‬‬ ‫مجلس الشعب ‪..........................................................................‬‬

‫‪303‬‬ ‫جدولة المشكالت ‪.....................................................................‬‬

‫‪305‬‬ ‫طريق الحكومة ‪.........................................................................‬‬

‫‪307‬‬ ‫ُخطة واجبة ‪...............................................................................‬‬

‫‪309‬‬ ‫تشخيص وعالج ‪........................................................................‬‬

‫‪311‬‬ ‫مصر المحروسة ‪........................................................................‬‬

‫‪313‬‬ ‫قدوة العصر ‪..............................................................................‬‬

‫‪315‬‬ ‫البحث عن الزمن الضائع ‪............................................................‬‬

‫‪317‬‬ ‫تكريم من يستحقون التكريم ‪........................................................‬‬

‫‪319‬‬ ‫فترة انتقال ‪..............................................................................‬‬

‫‪321‬‬ ‫البد من معركة ‪...........................................................................‬‬

‫‪323‬‬ ‫الحياة دون قهر ‪..........................................................................‬‬

‫‪325‬‬ ‫الوجه اآلخر للصورة ‪..................................................................‬‬

‫‪327‬‬ ‫ُس َّنة الحياة ‪.................................................................................‬‬

‫‪329‬‬ ‫زورق النجاة ‪.............................................................................‬‬

‫‪331‬‬ ‫الحماية ‪....................................................................................‬‬

‫‪333‬‬ ‫اللعب بالنار ‪..............................................................................‬‬

‫‪335‬‬ ‫تجربة شبابية قيمة ‪.......................................................................‬‬

‫‪337‬‬ ‫تحية لواهبي السعادة ‪..................................................................‬‬

‫‪339‬‬ ‫غدً ا يوم آخر ‪..............................................................................‬‬

‫‪554‬‬
‫احملتويات‬

‫‪341‬‬ ‫الحلم في حاجة إلى عمل ‪...........................................................‬‬

‫‪343‬‬ ‫دار بقاء أم دار فناء؟ ‪....................................................................‬‬

‫‪345‬‬ ‫الجامعة األهلية ‪.........................................................................‬‬

‫‪347‬‬ ‫البطولة بين الواقع والحلم ‪...........................................................‬‬

‫‪349‬‬ ‫الماضي والحاضر في عالم متغير ‪.................................................‬‬

‫‪351‬‬ ‫الرجال القدوة ‪...........................................................................‬‬

‫‪353‬‬ ‫فلنصنع العالم الجديد ‪................................................................‬‬

‫‪355‬‬ ‫صنع المستقبل ‪...................................................‬‬


‫عندما نعزم على ُ‬
‫‪357‬‬ ‫األولويات ‪.................................................................................‬‬

‫‪359‬‬ ‫الكوارث في الميزان ‪..................................................................‬‬

‫‪361‬‬ ‫المهمة المطلوبة ‪........................................................................‬‬

‫‪363‬‬ ‫الغد القريب ‪..............................................................................‬‬

‫‪365‬‬ ‫الحب في الوطن ‪........................................................................‬‬

‫‪367‬‬ ‫الصفات الضرورية ‪.....................................................................‬‬

‫‪369‬‬ ‫قيمة العمل ‪................................................................................‬‬

‫‪371‬‬ ‫روح العمل ‪...............................................................................‬‬

‫‪373‬‬ ‫دفاع كوني ‪.................................................................................‬‬

‫التقدم‬
‫‪ُّ -3‬‬
‫‪377‬‬ ‫ذكرى ثورة ‪..................................................................... 1919‬‬

‫‪555‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪379‬‬ ‫ثورة ‪ 23‬يوليو ‪...........................................................................‬‬

‫‪381‬‬ ‫َع ْود إلي ذكرى ثورة ‪......................................................... 1919‬‬

‫‪383‬‬ ‫عود إلى ثورة ‪ 23‬يوليو ‪...............................................................‬‬

‫‪385‬‬ ‫ذكرى الرحيل ‪............................................................................‬‬

‫‪387‬‬ ‫أهداف ثورة يوليو والواقع ‪..........................................................‬‬

‫‪389‬‬ ‫سعد زغلول وعودة الروح ‪...........................................................‬‬

‫‪391‬‬ ‫‪.............................................................................‬‬ ‫وصف مصر‬


‫‪393‬‬ ‫تطوير إنجازات ثورة يوليو ‪...........................................................‬‬

‫‪395‬‬ ‫من وحي الواقع ‪.........................................................................‬‬

‫‪397‬‬ ‫جهاز األمن ‪...............................................................................‬‬

‫‪399‬‬ ‫مولد عالم جديد ‪........................................................................‬‬

‫‪401‬‬ ‫سن الرشد ‪...............................................................................,..‬‬

‫‪403‬‬ ‫اإلثارة والقيمة ‪...........................................................................‬‬

‫‪405‬‬ ‫الوضوح ‪...................................................................................‬‬

‫‪407‬‬ ‫عند االمتحان ‪............................................................................‬‬

‫‪409‬‬ ‫‪ 23‬أغسطس ‪.............................................................................‬‬

‫‪411‬‬ ‫جورباتشوف ‪.............................................................................‬‬

‫‪413‬‬ ‫أمانة الديمقراطية ‪.......................................................................‬‬

‫‪415‬‬ ‫الشعب الروسي ‪.........................................................................‬‬

‫‪417‬‬ ‫التقدم بين القوة والحرية ‪.............................................................‬‬

‫‪556‬‬
‫احملتويات‬

‫‪419‬‬ ‫ما تعدنا به األعوام ‪......................................................................‬‬

‫‪421‬‬ ‫نحو نظام أفضل ‪.........................................................................‬‬

‫‪423‬‬ ‫نشارككم األحزان ‪......................................................................‬‬

‫‪425‬‬ ‫وليد جديد في حضن الديمقراطية ‪................................................‬‬

‫‪427‬‬ ‫حلم ‪.........................................................................................‬‬

‫‪429‬‬ ‫إلى الحكماء ‪.............................................................................‬‬

‫‪431‬‬ ‫أيام الوحدة الوطنية الصامدة ‪........................................................‬‬

‫‪433‬‬ ‫اللص الشريف ‪...........................................................................‬‬

‫‪434‬‬ ‫التغيير المراد ‪.............................................................................‬‬

‫‪436‬‬ ‫تحت مستوى الفقر ‪....................................................................‬‬

‫‪438‬‬ ‫حول حرية الرأي ‪.......................................................................‬‬

‫‪440‬‬ ‫‪............................................................................‬‬ ‫المواطن قادم‬


‫‪442‬‬ ‫مدرسة الوفد ‪.............................................................................‬‬

‫‪444‬‬ ‫الطوفان من جديد ‪......................................................................‬‬

‫‪446‬‬ ‫عهد جديد ‪................................................................................‬‬

‫‪448‬‬ ‫مطاردة األشباح ‪........................................................................‬‬

‫‪450‬‬ ‫االنتخاب ‪..................................................................................‬‬

‫‪452‬‬ ‫أسلوب االنتخاب ‪......................................................................‬‬

‫‪454‬‬ ‫ذكريات انتخابية ‪........................................................................‬‬

‫‪456‬‬ ‫من السلبية إلى اإليجابية ‪.............................................................‬‬

‫‪557‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪458‬‬ ‫حول االنتخابات األخيرة ‪............................................................‬‬

‫‪460‬‬ ‫المستقلون ‪................................................................................‬‬

‫‪462‬‬ ‫معركة مصر ‪...............................................................................‬‬

‫‪464‬‬ ‫األحزاب ‪..................................................................................‬‬

‫‪446‬‬ ‫ثورة يوليو وعام ‪....................................................................91‬‬

‫‪468‬‬ ‫للكابوس نهاية ‪...........................................................................‬‬

‫‪470‬‬ ‫نحو تربية حديثة ‪.........................................................................‬‬

‫‪472‬‬ ‫اليمين واليسار ‪...........................................................................‬‬

‫‪474‬‬ ‫لصوص ولصوص ‪.....................................................................‬‬

‫‪476‬‬ ‫حوار الكوارث ‪..........................................................................‬‬

‫‪478‬‬ ‫الحضارة الغربية ‪........................................................................‬‬

‫‪480‬‬ ‫والدة عسيرة ‪..............................................................................‬‬

‫‪482‬‬ ‫ثورة يوليو والعصر الذهبي ‪..........................................................‬‬

‫‪484‬‬ ‫أحالم اليقظة ‪.............................................................................‬‬

‫‪486‬‬ ‫الثروة بين الحرب والحضارة ‪.......................................................‬‬

‫‪488‬‬ ‫الجهاد ‪......................................................................................‬‬

‫‪490‬‬ ‫أصل الحكاية ‪............................................................................‬‬

‫‪492‬‬ ‫الوجه اآلخر ‪..............................................................................‬‬

‫‪494‬‬ ‫مركز التحديات ‪.........................................................................‬‬

‫‪496‬‬ ‫طريق الحياة ‪..............................................................................‬‬

‫‪558‬‬
‫احملتويات‬

‫‪498‬‬ ‫القوة في خدمة المبادئ ‪...............................................................‬‬

‫‪500‬‬ ‫َع ْود إلى العالم الجديد ‪................................................................‬‬

‫‪502‬‬ ‫شهادة بحسن السير والسلوك ‪.......................................................‬‬

‫‪504‬‬ ‫ُحس الرجاء ‪............................................................................‬‬

‫‪506‬‬ ‫غدً ا تشرق الشمس ‪.....................................................................‬‬

‫‪508‬‬ ‫الواقع الجديد ‪............................................................................‬‬

‫‪510‬‬ ‫نشيد العام الجديد ‪......................................................................‬‬

‫‪512‬‬ ‫البريد والوزراء ‪..........................................................................‬‬

‫‪514‬‬ ‫العالم بين يديك ‪.........................................................................‬‬

‫‪516‬‬ ‫السالم الشامل ‪...........................................................................‬‬

‫‪517‬‬ ‫من أسرار الحياة ‪.........................................................................‬‬

‫‪519‬‬ ‫مستقبل األمة ‪.............................................................................‬‬

‫‪520‬‬ ‫الخوف من الحرية ‪.....................................................................‬‬

‫‪522‬‬ ‫من أقوال الصحف ‪.....................................................................‬‬

‫‪524‬‬ ‫الهوية ‪.......................................................................................‬‬

‫‪526‬‬ ‫‪...................................................................................‬‬ ‫ال تيأس‬


‫‪529‬‬ ‫حياته ‪........................................................................................‬‬

‫‪531‬‬ ‫أعمال الكاتب ‪...........................................................................‬‬

‫‪541‬‬ ‫‪...............................................‬‬ ‫كتب مترجمة إلى اللغات اآلخرى‬


‫‪547‬‬ ‫المحتويات ‪...............................................................................‬‬

‫‪559‬‬
‫حوليات جنيب حمفوظ‬

‫‪560‬‬

You might also like