You are on page 1of 32

‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬

‫نائب عميد كلية التربية‪ -‬سقطرة‬

‫جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا‬

‫‪AUTHORIZED BY AL-NASSER UNIVERSITY'S RESEARCH OFFICE‬‬


‫جميع حقوق النشر محفوظة لمكتب البحوث والنشر بجامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫بالغية‬
‫دراسةبالغية‬
‫الهجائي( (دراسة‬ ‫جريرالهجائي‬
‫شعرجرير‬
‫البالغيفيفيشعر‬
‫البعدالبالغي‬
‫البعد‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫نقدية) )‬
‫نقدية‬
‫نائب عميد كلية التربية‪ -‬سقطرة‬

‫جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا‬

‫تفرد هجاء جرير عن غيره بميزتين عامة وخاصة‪ :‬أما العامة فهي الرعاية الرسمية‬
‫الملخص‬
‫من قبل الخلفاء واألمراء لفن الهجاء المعروف بفن النقائض عمومًا‪ ،‬وأما الخاصة فإن‬
‫جريرا كان يقف لوحده أمام جيش كبير من الشعراء الخصوم المهاجمين وهو في موقف‬
‫الدفاع والرد‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ولقد حار النقاد في الحكم على شعر جرير وتفضيله‪ ،‬فبعضهم يرى أن شعر جرير هو‬
‫ذلك الشعر السهل في ألفاظه الميسور في معانيه ودالالته وهو ما جعله سائرًا متمكنًا في‬
‫وجدان العامة‪ ،‬لكن هذا الرأي إذا سلمنا بصوابه ال يمنع اهتمام الخاصة به ومتابعتهم له‬
‫تماما كما هو حظ غيره من الشعراء األقران‪.‬‬

‫والقارئ لشعر جرير والذي غلب عليه موضوع الهجاء والمهاجاة يجده ذا لغة متينة‬
‫وقوية بعيدة عن اإلغراب إلى حد كبير‪ ،‬وتميز أسلوب جرير بتوجيهالخطاب مباشرة‬
‫نحو المخاطب المهجو وحفل شعره بصور بالغية قائمة على التشبيهات واالستعارات‬
‫وبعض الكنايات‪ ،‬كماعتمد على مصطلحات ومسميات مكروهة وظفها في هجائه تجاه‬
‫الخصوم‪ ،‬حتى إنه وصل في بعض األحيان إلى حالة الفحش واإلقذاع واإليالم‪.‬‬

‫ورغم ذلك يبقى الهجاء في تلك الفترة ومنه هجاء جرير نوعًا من العمل الفني المحترف‬
‫ال يثير الخصومات كتلك التي كان يثيرها الهجاء في العصر الجاهلي‪.‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪36‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫مقدمة‬
‫الهجاء مصطلح مخيف ‪ -‬كان ‪ -‬بالنسبة لمن عاشوا في أزمان األدب العربي القديم‪ ،‬أما نحن اليوم‬
‫فهو ‪ -‬لدينا ‪ -‬غرض من أغراض الشعر التقليدية‪ ،‬ندرسه ضمن فنيات وأطر بحثية نقدية وتأريخية وغيرها‪.‬‬
‫فقد كان الهجاء ‪ -‬في وعي من أنتجه وتلقاه ‪ -‬واحدًا من أدوات الصراع الفتاكة في المجتمعات العربية‬
‫وخاصة في العصر الجاهلي‪ ،‬وامتد إلى العصر اإلسالمي وُاستخدم في المواجهات الدائرة بين المسلمين‬
‫والمشركين إبان إنطالق الدعوة اإلسالمية من قبل الطرفين‪ ،‬وقد ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم قوله‬
‫لحسان بن ثابت في غزوة أحد‪" :‬أهجهم فوهللا لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام‪ ،‬في غلس الظالم‪ ،‬أهجهم‬
‫ومعك جبريل روح القدس‪ ،‬والَف أبا بكر يعلمك تلك الهَّنات"(‪ .)1‬والهَّنات هي العيوب والمثالب التي كان‬
‫يعرفها أبو بكر في أنساب قريش وأخبارهم‪.‬‬
‫ولعل شعر الهجاء أقدر من غيره من موضوعات وأغراض الشعر األخرى في امتالكه مقومات حفظه‬
‫وروايته ومن ثم تدوينه‪ ،‬إذ يمتلك عنصر السخرية والتندر فيجعل المتلقي مشدودًا ومنجذبًا لمتابعة ما يحويه‬
‫من النقد الفردي أو االجتماعي الالذع‪.‬‬
‫وهذه الدراسة تقف ‪ -‬بصورة معمقة – على جزئية ربما غابت عن الكثير وهي البعد البالغي في مهاجاة‬
‫جرير‪ ،‬وبيان األثر الذي جعل جرير يتفوق على أقرانه في فن الهجاء‪ ،‬وما أحدثه من دوي وفاعليه في التأثير‬
‫النفسي واالجتماعي فاق كل تصور‪.‬‬
‫فيذكر النقاد القدماء أن شعر جرير كان ذا سيرورة وانتشار بين العامة أكثر منه بين الخاصة‪ ،‬وهو ما‬
‫جعلهم يفضلون الفرزدق لسيرورة شعره بين الخاصة‪ ،‬إال أن هذا الحكم غير دقيق‪ ،‬فالواقع يؤكد أن أشعار‬
‫جرير والفرزدق ومعهما األخطل ‪ -‬وخاصة في تلك النقائض التي دارت رحاها بينهم ‪ -‬كان الخلفاء وعْلَية‬
‫القوم وخاصتهم يتلقونها لحظة بلحظة‪ ،‬ولم يغب عنهم منها شيء‪ ،‬وما يفتأون يسألون عن كل بيت قاله كل‬
‫من هؤالء الشعراء الثالثة‪ ،‬ويبدون عليه مالحظاتهم‪ ،‬حتى إنه"لما بلغ عبد الملك بن مروان قول جرير‪:‬‬
‫لو شئُت ساقُك م إلّي َقطينا‬ ‫هذا ابن عِّم ي في ِد َم ْشق خليفًة‬

‫قال ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطيا أما إنه لو قال‪:‬‬
‫(لو شاء ساقكم إلّي قطينا) لسقتهم إليه كما قال"(‪ .)2‬وأخبار كثيرة مماثلة في هذا الصدد‪.‬‬
‫بيد أن جريرًا ‪ -‬في تقديري – كان أكثر حظوة من صاحبيه في اهتمام العامة بشعره وتناقله وحفظه أكثر من‬
‫اهتمامهم بشعر صاحبيه‪ ،‬ويتضح بذلك قولهم(‪ )3‬بأن أهجى بيت قالته العرب في اإلسالم من غير فحش هو‬
‫قول جرير‪:‬‬
‫َل‬
‫ال َك عبًا َب غَت َو ال ِك البا‬‫َف‬ ‫َفُغَّض ال رَف ِإ َك ِم ن َم يٍر‬
‫ُن‬ ‫َّن‬ ‫َط‬

‫(‬
‫‪ )1‬سنن الترمذي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر وآخرون‪ ،‬دار إحياء التراث العربي – بيروت‪،‬ج‪ ،8‬ص‪ .63‬وسنن أبي داود‪ ،‬رقم الحديث(‬
‫‪.)5015‬‬
‫(‬
‫‪ )2‬األغاني‪ ،‬ألبي فرج األصفهاني‪ ،‬تحقيق‪ :‬سمير جابر‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،‬ج‪ ،8‬ص‪.65 ،64‬‬
‫(‬
‫‪ )3‬ينظر‪ :‬تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم‪ .‬للذهبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عمر عبد السالم تدمري‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬لبنان ‪-‬‬
‫بيروت‪،‬الطبعة األولى ‪1407‬هـ ‪1987 -‬م‪ .‬ج‪ ،7‬ص‪.41‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪37‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫ثم إن سيرورة شعر جرير بين العامة تأكيد على قوته الهجائية‪ ،‬فتراهم يحفظونه ويتشافهون به تندرًا بالمهجو‪،‬‬
‫وإعجابا بما فيه من تشنيع ومعايب‪.‬‬
‫وعلى أية حال سيناقش هذا البحث في البداية على جرير وحياته الشعرية والظروف التي دفعت به إلى زمن‬
‫أفناه في الصراع والمهاجاة‪ ،‬ثم يمر الحديث على المفهوم األدبي للهجاء بصورة عجلى‪ ،‬ليتوقف النقاش بشيء‬
‫من التأمل في لغة الهجاء لدى جرير وأسلوبه البالغي‪ ،‬وأثر الهجاء وفاعليته‪ ،‬والتوقف مع نصين طويلين من‬
‫نقائض الهجاء بالتحليل السريع‪.‬‬
‫وقد اعتمدت في إيراد معظم النصوص واالستشهادات الشعرية وضبطها على ديوان جرير الصادر عن دار‬
‫صادر دون اإلشارة إليها في الهامش نظرًا لوفرتها وما عدا ذلك تمت اإلشارة إليه في موضعه‪.‬‬
‫المفهوم األدبي للهجاء‬
‫ينصرف الهجاء في مبناه اللفظي إلى السب والشتم والذم‪ ،‬وقد جاء في اللسان‪َ" :‬هجاه َيْهُجوه َهْج وًا وِه جاء‬
‫وَتْهجاء‪ ،‬مدود‪ :‬شتمه بالِّش عر‪ ،‬وهو خالف الَم ْد ح‪ .‬قال الليث‪ :‬هو الَوِقيعُة في اَألْش عار"(‪.)4‬‬
‫والهجاء واحد من األغراض والموضوعات الشعرية األكثر جذبًا للمتلقي بالمقارنة مع األغراض األخرى‪،‬‬
‫ويأتي الهجاء مصاحبًا للفخر‪ ،‬وقد يأتي مستقًال عنه في القصائد والمقطوعات القصيرة‪ .‬والهجاء هو "فصل‬
‫المرء عن مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قومية الجماعة‪ ،‬وتركه عضوًا ميتًا يتواصفون ازدراءه"(‪ .)5‬فهو‬
‫ُيبنى ‪ -‬أي الهجاء‪ -‬على ذكر المعايب والقبائح لألفراد أو القبيلة‪ ،‬بالطعن في األنساب وإلصاق تهمة الجبن‬
‫والبخل والتشنيع بالمهجو‪ .‬وقد يكون ذلك اختالقًا وأكاذيب‪.‬‬
‫وتوليد معاني الهجاء واختيار مفرداته قد ال تكون مستعصية على الشعراء "وقد قيل لشاعر‪ :‬أنت ال تحسن‬
‫الهجاء‪ ،‬فقال‪ :‬بلى وهللا أتراني ال أحسن أن أجعل مكان عافاك هللا أخزاك هللا"(‪.)6‬‬
‫وفي كل العصور األدبية وإلى اليوم مارس الشعراء فن الهجاء‪ .‬فالعصر الجاهلي هو الفترة الذهبية للهجاء‪،‬‬
‫حيث فاعليته النافذة وأثره االجتماعي والنفسي‪ ،‬ويمكن أن نطلق عليه في تلك الفترة "بالهجاء المبكي"‪.‬‬
‫فأعراف المجتمع الجاهلي القائمة على الصرامة في العادات والصفات اللصيقة بالشخصية‪ ،‬ال تقبل الجرح أو‬
‫التعرض والمس خاصة في جانب العرض والنسب والشجاعة والكرم‪ ،‬ولذلك كان للهجاء أثره البالغ المؤلم‬
‫"وألمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء‪ ،‬وهذا من أول كرمها‪ ،‬كما بكى مخارق بن شهاب‪،‬‬
‫وكما بكى علقمة بن عالثة‪ ،‬وكما بكى عبد هللا بن جدعان" (‪.)7‬‬
‫ونرى قيس بن الحدادية يقول واصفًا اندفاع القوم في الحرب خوف مسبة الهجاء‪:‬‬
‫َو َيبروَن َأعداَء ُهم ِبالَح َر ب ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫ُيَلّبوَن في الَح رِب َخ وَف الِهجاِء‬

‫وللهجاء طقوس خاصة‪ ،‬في النظم واألداء "فالشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة خاصة‪ ،‬ولعلها كحلل‬
‫الكهان‪ ،‬وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقي رأسه‪ ،‬وانتعل نعاًل واحدة‪ ،‬ونحن نعرف أن حلق‬
‫الرأس كان من سننهم في الحج‪ ،‬وكأن شاعر الهجاء كان يتخذ نفس الشعائر التي يصنعها في حجه وأثناء‬

‫(‬
‫‪ )4‬لسان العرب‪،‬البن منظور‪ ،‬دار صادر ‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ .‬مادة (هجا)‪.‬‬
‫(‬
‫‪ )5‬تاريخ آداب العرب‪ ،‬للرافعي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة األولى ‪2000‬م‪ .‬ج ‪ ،3‬ص‪.81‬‬
‫(‬
‫‪ )6‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.330‬‬
‫(‬
‫‪ )7‬الحيوان‪ ،‬الجاحظ‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم محمد هارون‪ ،‬دار الجيل ‪ -1416‬بيروت لبنان‪،‬هـ ‪1996 -‬م‪ .‬ج‪ ،1‬ص‪.200‬‬
‫(‬
‫‪ )8‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،14‬ص‪.148‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪38‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫دعائه لربه أو ألربابه‪ ،‬حتى تصيب لعناُت هجائه خصومه بكل ما يمكن من ألوان األذى وضروب النحس‬
‫المستمر"(‪.)9‬‬
‫وقصائد الهجاء تمتاز عن غيرها بسرعة الذيوع والسيرورة‪ ،‬يلقيها الشاعر شفاهية فيتلقفها الرواة ومنهم إلى‬
‫الناس‪ ،‬وال يمكن أن ُيحال بينها وبين االنتشـار‪ ،‬حيث يتحول المتلقي إلى ملٍق من جديد‪ ،‬وقــد روي‪ :‬أن‬
‫عمير بن جعبل حين هجا قومه ندم علـى هجائه لهم ولكن بعد فـوات األوان‪ ،‬فقد انتشرت القصيدة في اآلفاق‬
‫وسمع بها القاصي والداني‪ ،‬يقول(‪:)10‬‬
‫مضت واستتبت للـرواة مذاهبه‬ ‫ندمت علـى شتم العشيرة بعدمــا‬
‫كما ال يرد الدّر في الضرع حالبه‬ ‫فأصبحت ال أستطع دفعًا لما مضى‬

‫(‪1‬‬
‫ونتيجة لسرعة انتشار الهجاء " تجَّنب األشراف ُم َم ازحة الشاعر‪ ،‬خوف لفظة ُتْسمع منه مزحًا فتعود جدًا"‬
‫‪.)1‬‬
‫يقول شوقي ضيف‪" :‬فالهجاء في الجاهلية كان ال يزال ُيْقَر ن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية األولى من‬
‫شعائر‪ ،‬ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتطيرون منه ويتشاءمون ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى‬
‫ذلك سبياًل ‪ .‬ونحن نعرف أن الغزو والنهب كان دائًرا بينهم؛ غير أن المغيرين إن أغاروا ونهبوا إباًل بينها‬
‫إبل لشاعر‪ ،‬وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطروا اضطراًرا إلى ردها أو على األقل يردون ماله هو‬
‫وإبله‪ .‬يروي الرواة أن الحارث بن ورقاء األسدي أغار على عشيرة زهير‪ ،‬واستاق فيما استاق إباًل له‬
‫وغالًم ا‪ ،‬فنظم زهير أبياًتا يتوعده بالهجاء المقذع‪ ،‬يقول فيها‪:‬‬
‫باق كما دنس القبطية الودك َف‬ ‫ليأتينك مني منطق قذع‬

‫ففزع الحارث ورد عليه ما سلبه منه"(‪.)12‬‬


‫وفي العصر األسالمي تواصل الهجاء وإن كان بقدر أقل مما كان عليه في الجاهلية‪ ،‬وقد ورد على لسان‬
‫حسان بن ثابت شاعر النبي صلى هللا عليه وسلم في معرض حديثه عن دفاعه عن الدعوة اإلسالمية‪:‬‬
‫ِس باب أو ِقتال أو ِهَج اء‬ ‫لنا في ُك ل يوم مــن َم عــٍّد‬
‫(‪)13‬‬
‫وَبْح ري ال ُتكِّدره الِّدالء‬ ‫لساني صارٌم ال عيَب فيه‬

‫أما الهجاء بمفهومه العام السابق فقد َخ َفَت صوته في صدر اإلسالم‪ ،‬وخَّفت لهجته لنهي اإلسالم عن التعرض‬
‫لألعراض والقدح واإلفتراء بغير الحق‪ ،‬فقد نقل عن الرسول هللا صلى هللا عليه و سلم قوله‪" :‬إن أعظم الناس‬
‫جرما إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها ورجل تنفى من أبيه"(‪.)14‬‬

‫( ‪ )9‬العصر الجاهلي‪ ،‬شوقي ضيف‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬الطبعة الثامنة ص ‪.197‬‬


‫( ‪ )10‬الشعر والشعراء‪ ،‬البن قتيبة‪ ،‬دار إحياء العلوم بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪1404‬هـ‪1984 /‬م ص‪.438‬‬
‫( ‪ )11‬العمدة البن رشيق‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد قرقزان‪ ،‬دار المعرفة بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة األولى ‪1408‬هـ‪1988/‬م ج‪ ،1‬ص‪.174‬‬
‫( ‪ )12‬العصر الجاهلي‪ ،‬شوقي ضيف‪ .‬ص‪197‬‬
‫( ‪ )13‬ديوان حسان بن ثابت‪ ،‬شرح وضبط د‪.‬عمر فاروق الطباع‪ ،‬دار القلم‪ .‬بيروت لبنان‪ .‬ص‪.13‬‬
‫( ‪ )14‬األدب المفرد‪ ،‬للبخاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبدالباقي ‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية ‪ -‬بيروت‬
‫الطبعة الثالثة ‪1989 – 1409 ،‬م‪ .‬ص‪.302‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪39‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫ولهذا رأينا عمر بن الخطاب يلزم الشعراء بعدم التعرض للمسلمين بالهجاء والتشبيب‪ ،‬وقد سجن الحطيئة‬
‫رائد الهجاء أنذاك‪ ،‬واشترى منه أعراض المسلمين‪ ،‬وفي ذلك يقول الحطيئة يشكو عدم فاعلية هجائه للقيود‬
‫المفروضه عليه(‪:)15‬‬
‫َشتمًا َيُضُّر َو ال َم ديحًا َينَفُع‬ ‫َو َأَخ ذَت َأطراَر الَك الِم َفَلــم َتَدع‬
‫َشتمي َفَأصَبَح آِم نًا ال َيفَز ُع‬ ‫َو َم َنعَتني َشتَم الَبخيِل َفَلم َيَخ ف‬

‫وفي العصر األموي عادت العصبيات السياسية والقبلية كما كانت في العصر الجاهلي أو أشد‪ ،‬ونما مع هذه‬
‫العصبيات الهجاء الشعري‪.‬‬
‫وتطور إلى مفاخرات منظمة كانت تجري بين الشعراء الثالثة جرير والفرزدق واألخطل في المربد حتى‬
‫اصطلح على تلك المفاخرات بفن النقائض فيما بعد‪.‬‬
‫فالنقائض هي تحول الهجاء من غايته الجادة إلى غاية المتعة‪ ،‬وسد حاجات الجماعة‪ ،‬وإضفاء المرح على‬
‫مجالس األمراء وما إلى ذلك‪ ،‬حيث يقوم شاعر قبيلة بنظم قصيدة يفخر فيها بأمجاد قومه‪ ،‬ويتعرض‬
‫لخصومها من القبائل األخرى بالهجاء‪ ،‬فينبري له شاعر من شعراء تلك القبائل يرد عليه بقصيدة مماثلة في‬
‫الوزن والقافية(‪.)16‬‬
‫وكان لهذه النقائض عوامل تعين على نموها وانتشارها‪ ،‬منها عوامل اجتماعية‪ ،‬تتمثل في إشغال فراغ الناس‬
‫بضرب من المالهي إلى جانب الدرس العلمي الجاد في البصرة وغيرها من المدن‪.‬‬
‫فإذا صاغ الفرزدق قصيدة يفخر فيها بأمجاد قومه ومآثرهم‪ ،‬رد عليه جرير ينفي عليه ادعاءه بقصيدة على‬
‫وزن وروي القصيدة األولى‪ ،‬وهكذا يفعل جرير مع األخطل وغيره من الشعراء الذين يتعرضون له‪ ،‬فينبري‬
‫لهم جرير مظهرًا البراعة األدبية والتفوق عليهم‪.‬‬
‫ومما زاد من قوة شعر النقائض أن شعراءها لم يسعوا إليها بدافع نيل العطاء من قبل المهجو أو من له‬
‫مصلحة في تلك المهاجاة‪ ،‬كما هو الغالب على كثير من شعراء الهجاء مثل الحطيئة وغيره‪ ،‬فأدى إلى استقالل‬
‫قصيدة الهجاء عن التصنع وجعل الدافع العاطفي منها قويًا‪.‬‬
‫ومما شَّجع على نمو هذا النوع الشعري تفتح العقل العربي على علوم أخرى تسربت من غير العرب وقادت‬
‫إلى معترك من الجدل والمناظرة‪ ،‬فانعكست على شعر النقائض‪.‬‬
‫ويأتي عامل آخر وهو دور الخلفاء في تأجيج نار العداوة بين الشعراء بتشجيعهم وتفضيل شاعر على آخر‪،‬‬
‫بغرض الترفيه والتسلية أحيانًا‪ ،‬ولصرف الشعراء والقبائل عن السلطة وإشغالهم بأنفسهم أحيانًا‪ .‬كما كان‬
‫الناس يشجعون هذه المفاخرات الشعرية‪ ،‬ويجتمعون ويهتفون ويصفقون تعصبًا لهذا أو لذاك‪ ،‬واستمرت هذه‬
‫النقائض دائرة بين هوالء الشعراء قرابة نصف قرن من الزمن(‪ ،)17‬تغذيها تلك العوامل‪ ،‬حتى أصبحت‬
‫النقائض ضربًا من اللهو ألنها ال تجُّر إلى الحروب والمنازعات كما كانت في الزمن الجاهلي‪.‬‬
‫وال بد من اإلشارة إلى أن تلك النقائض لم تكن مقصورة على قصائد طوال‪ ،‬فهي تدور أحيانًا على‬
‫مساجالت شعرية ببيت أو بيتين‪ ،‬ومن ذلك ما رواه األصفهاني "أن جريرا والفرزدق اجتمعا عند بشر بن‬

‫(‬
‫‪ )15‬ينظر‪ :‬خزانة األدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد نبيل طريفي‪ ،‬وإميل بديع اليعقوب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1998‬م‪ .‬ج‪ ،3‬ص‪.278‬‬
‫(‬
‫‪ )16‬ينظر‪ :‬العصر اإلسالمي شوقي ضيف‪ ،‬ص‪.242 ،241‬‬
‫(‬
‫‪ )17‬ينظر‪ :‬طبقات فحول الشعراء ‪ ,‬البن سآلم الجمحي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محّم د شاكر ‪ ,‬دار المدني ‪ ,‬جدة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.389‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪40‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫مروان فقال لهما بشر‪ :‬إنكما قد تقارضتما األشعار وتطالبتما اآلثار وتقاولتما الفخر وتهاجيتما فأما الهجاء‬
‫فليست بي إليه حاجة فجددا بين يدي فخرا ودعاني مما مضى فقال الفرزدق‬
‫فَم ْن ذا ُيساِو ي بالَّس َناِم المناسَم ا‬ ‫نحن الَّس َناُم والَم َناِس ــــُم غيُر نا‬

‫فقال جرير‬
‫وكـــــُّل َس َنـــــــاٍم تابٌع للَغَالِص ِم‬ ‫َأل‬
‫على موضع ا ْس تاِه أنتم زعمُتُم‬

‫فقال الفرزدق‬
‫أَال إَّن فوق الَغْلَص مات الَج َم اِج َم ا‬ ‫ُم‬‫زعمُت‬ ‫م‬‫ـ‬‫أنت‬ ‫ث‬ ‫ْر‬‫َف‬ ‫لل‬ ‫ْح‬
‫َم َر ٍث‬ ‫على‬

‫فقال جرير‬
‫وال هـــــــاَم إال تابــــــٌع للَخ َر اطم‬ ‫وأنبأُتمونا أنكم هاُم قوِم ـــــــكم‬

‫فقال الفرزدق‬
‫من الناس ما ِز لنا ولسنا َلَهاِزَم ا‬ ‫فنحن الِّز ماُم القائُد المقتَدى به‬

‫فقال جرير‬
‫فتاهت كساٍر طاِئش الرأِس عاِرِم‬ ‫فنحن َبِني زيد قطعنا ِز ماِم ـــها‬

‫فقال بشر غلبته يا جرير بقطعك الزمام وذهابك بالناقة وأحسن الجائزة لهما وفضل جريرا"(‪.)18‬‬
‫جرير حياته وثقافته الهجائية‬
‫جرير بن عطية بن الَخ َطفي اليربوعي التميمي‪ ،‬ولقبه أبو حرزة من كبار شعراء العصر األموي‪ ،‬ولد‬
‫ومات باليمامة‪ ،‬وكان شاعرًا هجاء‪ ،‬وأحد رواد شعر النقائض الذي شغل الناس قديما وحديثًا‪.‬‬
‫نشأ جرير فقيرًا يرعى إبل قومه‪ ،‬وبدأ نظم الشعر في مطلع حياته رجزًا منذ المهاجاة بين غّسان السليطي‬
‫وبين الخطفي جده في أيام معاوية‪ ،‬ثم إن جريرًا مدح يزيد بن معاوية وأخذ منه جائزة هي أول جائزة من‬
‫خليفة(‪.)19‬‬
‫ولما أشتد النزاع بين بني أمية وبين عبد هللا بن الزبير وقف جرير في صفوف القيسيين من أنصار ابن‬
‫الزبير ُيهاجي القحطانية أنصار بين أمية‪.‬‬
‫انحدر جرير من اليمامة إلى البصرة مركز الحركة السياسية‪ ،‬وميدان شعراء المناقضات‪ ،‬واتصل بالحكم‬
‫بن أيوب ابن عم الحجاج وعامله على البصرة حوالي سنة ‪75‬هـ‪ ،‬فوجهه الحكم إلى الحجاج فمدحه ونال‬
‫جوائزه‪ ،‬ولكن الحجاج أراد أن يحبو الخليفة عبد الملك بهذا الشاعر الموهوب‪ ،‬فوجهه إليه‪ ،‬ومع أن عبد‬
‫الملك ال يحب االستماع إلى شعراء القيسية لكن توصية الحجاج بجرير أقنعت الخليفة باالستماع إليه‪ ،‬فمدحه‬
‫بالقصيدة المشهورة ومطلعها‪:‬‬
‫ِح‬‫وا‬ ‫َر‬‫ـ‬ ‫ال‬‫ِب‬ ‫َك‬‫ُب‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫َص‬ ‫َّم‬ ‫َه‬ ‫َة‬‫َّي‬ ‫ِش‬ ‫َع‬ ‫ِح‬‫صا‬ ‫ُر‬‫ي‬ ‫َأَتصحو أْم ُفؤاُدَك َغ‬

‫(‬
‫‪ )18‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.40‬‬
‫(‬
‫‪ )19‬ينظر في ترجمته‪ :‬األغاني‪،‬ج‪ ،8‬ص‪ .5‬والشعر والشعراء‪ ،‬ص‪.96‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪41‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وال يكاد التاريخ يذكر جرير إال ويقترن معه الفرزدق وهما شاعران كبيران يلتقيان في قبيلة تميم‪ ،‬األول من‬
‫عشيرة كليب اليربوعية‪ ،‬والثاني من عشيرة مجاشع الدارمية‪.‬‬
‫يكاد االجماع بين النقاد قديما يتم على أن جرير في مقدمة الشعراء العرب‪ ،‬بل قال بعضهم‪" :‬جرير أشعر‬
‫العرب كلها"(‪.)20‬‬
‫بل وصل األعجاب بجرير وشاعريته لدى بعضهم إلى التنبؤ بقيادة جرير لموكب الشعراء والفصل بينهم يوم‬
‫القيامة حيث قال‪" :‬ال يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجيء جرير فيحكم بينهم"(‪.)21‬‬
‫ثم إن الرواة ينظرون إلى شعر جرير بعين أوثق من شعر الفرزدق في حقيقة نسبته‪ ،‬وبعده عن السرقات‬
‫الشعرية‪ ،‬وقد روي أن األصمعي قال‪ " :‬تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة‪ ،‬وكان يكابر‪ .‬وأّم ا جرير فما‬
‫علمته سرق إال نصف بيت؛ قال‪ :‬وال أدري؛ ولّعله وافق شيء شيئًا‪ .‬قلت‪ :‬وما هو؟ فقال‪ :‬هجاء‪ ،‬ولم يخبرنا‬
‫به"(‪.)22‬‬
‫لم يكن هجاء جرير بالقدر اليسير بالنسبة إلى جملة شعره بل يجد القارئ لديوانه الشعري أن الهجاء قد امتد‬
‫على مساحة واسعة وخاصة في قصائده الطوال‪.‬‬
‫ويرد العلماء السر في تفوق جرير ونبوغه في فن الهجاء إلى معرفته أعراف وأنساب القبائل وما فيها من‬
‫مثالب‪ ،‬حيث ورث ذلك عن جده الخطفي(‪.)23‬‬
‫ونستطيع أن نتبين قدرة جرير الهجائية حيث تمكن من هجاء ثالثة شعراء في بيت شعري واحد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫َو َع َلى اْلَبِع يِث َج َدْعُت َأْنَف اَألْخ َطِل‬ ‫َلَّم ا َو َض ْعُت َع َلى اْلَفَر ْز َد ِق ِم يَسِم ي‬

‫وذكروا(‪ )24‬أن جريرًا قال بيتا هجا فيه أربعة‬


‫وأبا الَبعيث لَشُّر ما إْس تاِر‬ ‫إن الفرزدق والَبعيث وأَّم ه‬

‫وقال جرير‪ :‬لقد هجوت التيم في ثالث كلمات ما هجا فيهن شاعر شاعرا قبلي قلت‬
‫وفي األرحام ُيخلق والَم شيِم‬ ‫من األصالب َيْنِز ل لؤُم َتْيٍم‬

‫والمتتبع لديوان جرير الشعري وحياته يجد أن الهجاء قد امتزج بفكره وثقافته‪ ،‬وال تكاد تجد موقفًا شعريًا‬
‫يخلو من الهجاء‪ ،‬فيروى أن‪" :‬عطية بن جعال الغداني كان صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن رجال‬
‫من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفح‬
‫له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال‪:‬‬
‫َة‬
‫فـوهبتكم لعطي بِن ُج عال‬ ‫أبني ُغ دانة إنني َح ــــّر رتكم‬
‫من بين أألم أعين وسبال‬ ‫لوال عطيُة الجَتدْعُت أنوفكم‬

‫فبلغ ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها هللا من هبة ممنونة مرتجعة"(‪.)25‬‬
‫(‬
‫‪ )20‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.78‬‬
‫(‬
‫‪ )21‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.78‬‬
‫(‬
‫‪ )22‬الموشح للمرزباني‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫(‬
‫‪ )23‬ينظر‪ :‬البيان والتبيين‪ :‬لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬تحقيق ‪ :‬المحامي فوزي عطوي‪ ،‬دار صعب – بيروت الطبعة األولى‬
‫‪1968‬م‪ ،.‬ص‪.192‬‬
‫(‬
‫‪ )24‬األغاني ج‪ ،8‬ص‪.8‬‬
‫(‬
‫‪ )25‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،21‬ص‪.403‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪42‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وال بد من اإلشارة إلى أن جرير أظهر مقدرة شعرية في األغراض الشعرية األخرى غير الهجاء‪ ،‬وقد تحدث‬
‫هو نفسه عن إنشغاله بمهاجاة أقرانه عن النسيب فقال‪ " :‬لوال ما شغلني من هذه الكالب لشببت تشبيبا تحن منه‬
‫العجوز إلى شبابها حنين الناقة إلى سقبها"(‪.)26‬‬
‫ولعلنا ننقل المالحظة النقدية التي شاعت بين العامة خاصة والتي تعزز من حيازة جرير للتفوق في أغراض‬
‫الشعر الرئيسة‪ ،‬فيروى ‪:‬أن أعرابيًا من بني عذرة دخل على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده‬
‫الشعراء الثالثة‪ ،‬جرير والفرزدق واالخطل‪ ،‬فلم يعرفهم االعرابي‪ ،‬فقال عبد الملك لالعرابي‪ :‬هل تعرف‬
‫اهجى بيت قالته العرب في االسالم ؟ قال‪ :‬نعم ! قول جرير‪:‬‬
‫َفــــال َك عبًا َبَلغَت َو ال ِك ـــالبا‬ ‫َفُغَّض الَطرَف ِإَّنَك ِم ن ُنَم يٍر‬

‫فقال‪ :‬أحسنت‪ ،‬فهل تعرف أمدح بيت قيل في االسالم ؟ قال نعم ! قول جرير‪:‬‬
‫َو َأندى العاَلميَن ُبطوَن ِح‬
‫را‬ ‫َأَلسُتم َخ يَر َم ن َرِكَب الَم طايا‬

‫فقال‪ :‬أصبت واحسنت‪ ،‬فهل تعرف أرق بيت قيل في االسالم ؟ قال‪ :‬نعم ! قول جرير‪:‬‬
‫َقَتلَننا ُثَّم َلــم ُيحيــِيَن َقتــــالنا‬ ‫ِإَّن الُعيوَن اَّلتي في َطرِفها َح ــَو ٌر‬
‫َو ُهَّن َأضَعُف َخ لِق ِهَللا َأركانا‬ ‫َيصَر عَن ذا الُلَّب َح ّتى ال ِح راَك ِبِه‬

‫فقال‪ :‬أحسنت‪ ،‬فهل تعرف جريرا ؟ قال‪ :‬ال وهللا‪ ،‬وإني إلى رؤيته لمشتاق‪ ،‬قال‪ :‬فهذا جرير وهذا الفرزدق‬
‫وهذا االخطل"(‪.)27‬‬
‫ونرى الفرزدق نفسه يرى في شعر جرير الرقة ويشهد له بذلك‪ ،‬فعندما سمع قول جرير‪:‬‬
‫أِح ُّب لحــِّب فــــاطمَة الديارا‬ ‫أَال حِّي الديار بَسْع ــَد إّني‬
‫فهاُج وا َص ْدَع قلبَي فاستطارا‬ ‫أراَد الظاعنون ليحزُنوني‬

‫"فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها‪ ،‬قال‪ :‬أو ما تدري لمن هذا الشعر؟ فقال ال وهللا‪ ،‬قال‬
‫هو لجرير يهجوك به‪ ،‬فقال‪ :‬ويل ابن المراغة ما كان أحوجه مع عفافه إلى صالبة شعري وأحوجني مع‬
‫شهواتي إلى رقة شعره"(‪ ،)28‬ويعجب المرء حين يسمع بأن النوار زوجة الفرزدق عندما ماتت قاموا ينوحون‬
‫عليها بشعر جرير(‪ )29‬ويقصدون قصيدته التي يقول في مطلعها‪:‬‬
‫َو َلُز رُت َقبَر ِك َو الَح بيُب ُيزاُر‬ ‫َلوال الَح ياُء َلعاَدني ِاسِتعباُر‬

‫ويتواتر الرأي النقدي لدى القدماء على تقدم جرير وتفضيله على أقرانه حتى في جملة شعره‪ ،‬يقول بن‬
‫األثير‪" :‬ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا رب تغزل ومديح وهجاء وافتخار وقد كسا كل معنى من‬
‫هذه المعاني ألفاظا الئقة به ويكفيه من ذلك قوله‬
‫ُط‬ ‫ْق‬ ‫ُذ‬ ‫ْنَف‬‫َأ‬
‫ِبقاِفــــــَيٍة ا َها َت ُر الَّد َم ا‬ ‫َو َعاٍو َع َو ى ِم ْن َغ ْيِر َش ْي ٍء َر َم ْيُتُه‬

‫(‬
‫‪ )26‬خزانة األدب‪ .‬ج‪ ،1‬ص‪.92‬‬
‫(‬
‫‪ )27‬البداية والنهاية‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ج‪ ،9‬ص‪.288‬‬
‫(‬
‫‪ )28‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،15‬ص‪.132‬‬
‫(‬
‫‪ )29‬ينظر‪ :‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.12‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪43‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫َو ُر وٍد ِإذا الَّس اِر ي ِبَلْيٍل َتَر َّنَم ا‬ ‫وِإِّنــي َلَقـَّو اُل ِلُك ــــــــِّل َغ ــِر يبـــٍَة‬
‫َش َبا ُهْنُدوانٍّي إَذ ا ُهَّز َص ّم ـــََم ا‬ ‫َخ ُر وٌج ِبأْفَو اِه الــــــُّر َو اِة َك ــــأَّنها‬
‫أَخ ْذ َن َطِر يقًا ِلْلَقصاِئِد ُم ْع َلـــَم ا‬ ‫َغ ـــَر اِئُب آَالُف إَذ ا َح ـــــاَن ِو ْر ُدَها‬

‫ولو لم يكن لجرير سوى هذه األبيات لتقدم بها الشعراء"(‪.)30‬‬


‫وجملة ما قيل في شاعرية جرير وشعره عمومًا بأنه شاعر وجداني مطبوع‪ ،‬يجمع في شعره وضوح المعاني‬
‫مع سهولة األلفاظ‪ ،‬ومتانة التركيب‪ ،‬وعذوبة السبك‪ ،‬وشعره كثير التداول على األلسن‪ ،‬شديد العلوق بالذاكرة‪،‬‬
‫وهو ما دعى النقاد إلى القول‪" :‬جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر"(‪.)31‬‬
‫ومن النقاد من يرى أن شعر جرير دون شعر الفرزدق‪ ،‬في نواح‪ ،‬فقد نقل أن "المبرد كان يفّضل الفرزدق‬
‫على جرير ويقول‪ :‬الفرزدق يجيء بالبيت واخيه وجرير يأتي بالبيت وابن عمه"(‪ .)32‬وهذه الرؤية النقدية‬
‫تشير إلى الترابط الداللي وقوة العالقة المعنوية في صياغة الشعر عند الفرزدق‪ ،‬وضعف في العالقة المعنوية‬
‫والترابط في أبيات القصيدة لدى جرير‪ .‬غير أن هذه الرؤية ال تنطبق على جملة شعر الشاعرين‪.‬‬
‫ورؤية نقدية أخرى للقدماء ترى سعة داللية وتنوعًا في هجاء الفرزق أكثر من هجاء جرير‪ ،‬فقد "سئل أبو‬
‫عبيدة عن جرير والفرزدق‪ :‬أّيهما أشعر؟ فقال ويحك هل قال جرير للفرزدق إال في ثالثة أنواع‪ :‬الزّبير‪،‬‬
‫وجعثن والقين؛ وللفرزدق فيه مائة نوع"(‪ .)33‬ويعني ذلك التكرار في هجاء جرير حول القضايا تلك نفسها‪.‬‬
‫وهذا صحيح‪ ،‬غير أن جرير أستطاع أن يشغل الدنيا بتلك القضايا في قصائده‪ ،‬واستخدمها جرير من خالل‬
‫سياقات مختلفة‪ ،‬وكانت مؤلمة في وقعها على الفرزق رغم تكرارها‪.‬‬
‫لقد اعتد جرير بشعره وفخر بقصائده التي قالها باألخص في الهجاء‪ ،‬وذكر فاعليتها ومسيرها في األفاق‪،‬‬
‫كما في قوله‪:‬‬
‫َأل‬
‫ما َبيَن ِم صَر ِإلى ا جزاِع ِم ن َعَد ِن‬ ‫َغ‬ ‫جاَز‬ ‫َق‬ ‫َق‬
‫ِإَّن ال صاِئَد د ت راِئُبها‬

‫ويقول مصورًا لقصائده بالرحال يجهزها فتنطلق في اآلفاق‪:‬‬


‫َتَشَّيعُت ِإذ َلم َيحــِم ِإاّل الُم شـاِيُع‬ ‫َو َلّم ا َر َأيُت الناَس َهَّر ت ِكالُبُهم‬
‫َشروٍد َو روٍد ُك َّل َر كــــٍب ُتناِز ُع‬ ‫َو َج َّهزُت في اآلفاِق ُك َّل َقصيَد ٍة‬
‫َو َيظَهرَن في َنجٍد َو ُهَّن َص واِد ُع‬ ‫َيُج زَن ِإلى َنجراَن َم ن كاَن دوَنُه‬
‫َف‬
‫جاِئُب َتعلـو ِم ــرَبدًا ُتطـــال ِــُع‬ ‫َن‬ ‫َتَعَّرَض َأمثاُل الَقـوافي َك ــَأَّنها‬

‫ويبالغ في إعجابه بقصائده حتى أنه يفاخر الشعراء األقدمين ومن جاء بعده بشعره‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ِلَم ن كاَن َبعدي في الَقصاِئِد َم صَنعا‬ ‫َو َأدَر كُت َم ن َقد كاَن َقبلي َو َلم َأَدع‬
‫َو مــا َيمَنُع اَألصـــداَء َأاّل َتَفَّج ــعــا‬ ‫َتَفَّج ـــَع ِبسطـاٌم َو َخ َّبَرُه الَص ــدى‬

‫ويبالغ في تصوير قوة قوافيه حتى جعلها مثل لهيب النار‪:‬‬

‫(‬
‫‪ )30‬المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬لأبي الفتح ضياء الدين ابن األثير‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين عبدالحميد المكتبة العصرية ‪-‬‬
‫بيروت ‪1995 ،‬م‪ .‬ج‪ ،2‬ص‪.379‬‬
‫(‬
‫‪ )31‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.86‬‬
‫(‬
‫‪ )32‬الموشح للمرزباني‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫(‬
‫‪ )33‬الموشح للمرزباني‪ ،‬ص‪.40‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪44‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫على الِك ْندِّي تلتهُب التهابا‬ ‫سَتْطُلُع من ُذ َر ا ُش َعَبي قواٍف‬

‫وقبل أن نختم الحديث عن هذا الشاعر نقول بأن جريرًا امتلك إلى جانب الموهبة الشعرية الفطنة والذكاء‬
‫وسرعة البديهة‪ ،‬كما عرف بالعفة والتقوى التي تفّوق بها عن صاحبه الفرزدق‪ ،‬فقد "حدث أبو عبيدة قال‪:‬‬
‫التقى جرير والفرزدق منى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير‪:‬‬
‫فخارا فخبرني بمن أنت فاخر‬ ‫فإنك الق بالمنازل من منى‬

‫قال له جرير‪ :‬لبيك اللهم لبيك‪ .‬قال‪ :‬فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويتعجبون منه"(‪.)34‬‬
‫وتشير الروايات أن الخليفة عمر بن عبد العزيز لما ولي الخالفة وفد إليه الشعراء فردهم عدا جرير(‪ ،)35‬وهذ‬
‫يؤكد ما ذكر من تقوى جرير والتزامه وعفته‪.‬‬
‫لغة الهجاء في شعر جرير‬
‫استخدم جرير في الهجاء لغة في غاية القوة والمتانة والجزالة‪ ،‬إذ اختار ألفاظًا ذات بنية صارمة في‬
‫أصواتها وصفاتها ومخارجها‪ ،‬واعتمد على المسميات الحيوانية والدواب والمهن المنبوذة ومسميات القبح‬
‫والرذيلة وحشد مفردات المكروهات في الدين وعرف المجتمع والقبيلة والنسب وما شاكلها‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫وصفه للفرزدق بأنه قيٌن أي حداد‪ ،‬والصناعة كانت من مثالب القوم‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫لَفْطِح الَم َس اِح ى َأو لَج ْد ِل ا َداهم‬
‫َأل‬ ‫ُهَو الَقْيُن واْبُن الَقيِن ال َقْيَن ِم ْثُلُه‬

‫ويصفه بالقرد في قصائد كثيرة‪ ،‬مثل قوله‪:‬‬


‫َأصاَبتُه الَص واِع ُق َفِاسَتدارا‬ ‫َو َهل كاَن الَفَر زَدُق َغ يَر ِقرٍد‬

‫وقال‪:‬‬
‫ِقرٌد َيُح ُّث َعلى الِز ناِء ُقرودا‬ ‫َأمسى الَفَر زَدُق يا َنواُر َك َأَّنُه‬

‫ويقول في نقيضة أخرى‪:‬‬


‫َعلى ديِن َنصراِنَّيٍة َلَتَنَّص را‬ ‫َفِإَّنَك َلو ُتعطي الَفَر زَدَق ِد رَهمًا‬

‫وقوله يلمزه في دينه وعالقته باليهود‪:‬‬


‫َو َيوَم الَس بِت شيَعُتَك الَيهوُد‬ ‫ُتِح ُّبَك َيوَم عيِدِهُم الَنصارى‬

‫ويعرض بأبي الفرزدق ولهوه عن المكارم واشتغاله بسفاسف األمور‪:‬‬


‫ِل‬ ‫َج‬ ‫ِمْر‬ ‫ال‬ ‫اُع‬‫َف‬‫ِت‬ ‫ْر‬ ‫وا‬ ‫َلُّي الكتاِئِف‬ ‫أْلَهى أَباَك عن الَم َك اِرِم والُعال‬

‫ويرد جرير متهكما وساخرا على الفرزدق وقد ذكر فحشًا‪:‬‬


‫وقصرت عن باع العال والمكارم‬ ‫تدليت تزني من ثمانين قامة‬

‫(‬
‫‪ )34‬معاهد التنصيص على شواهد التلخيص‪ ،‬للعباسي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين عبد الحميد‬
‫عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪1367 ،‬هـ ‪1947‬م‪.‬ج‪ ،2‬ص‪.266‬‬
‫(‬
‫‪ )35‬ينظر‪ :‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.51‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪45‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫ولقد كثرت المفردات في هجاء جرير حول موضوع األعراض‪ ،‬كوصف النساء بالفاحشة والخبث وتكلم عن‬
‫أعضاء المرأة والرجل وذكر أفعال الفاحشة والزنا وما يتعلق بذلك من ممارسات‪ .‬فتراه يقول‪:‬‬
‫خوٌر َبناُت ُمَو َّقٍع َخ ّو اِر‬ ‫َأبِلغ َبني َو قباَن َأَّن ِنساُؤُهم‬
‫َو اَألخَبثوَن َم َح َّل ُك ِّل ِإزاِر‬ ‫ِإَّن الِلئاَم َبني الِلئاِم ُم جاِش ٌع‬

‫ونراه يصف نساء بني عقال بالخبث ويشبههن بالحمير‪:‬‬


‫َأ‬ ‫ُذ‬
‫ِبداِر ال ِّل غراَض الُر ماِة‬ ‫َو َج دنا ِنسَو ًة ِلَبني ِع قـــاٍل‬
‫كا‬ ‫ش‬ ‫سا‬ ‫ن‬ ‫ُن‬
‫َو َج ِم ِن ٍء ُم ِر ِت‬ ‫م‬ ‫َأ‬ ‫َغ واٍن ُهَّن َأخَبُث ِم ن َح ميٍر‬

‫ويقول‪:‬‬
‫َح َّك ِاسَتُه َو َتَم َّثَل اَألمثاال‬ ‫َو الَتغِلِبُّي ِإذا َتَنحَنَح ِللِقرى‬

‫ويقول‪:‬‬
‫َأِخ اّل َء الَفواِس ِق َو الَزواني‬ ‫َأِخ اّل َء الَفَر زَد ِق َفِانُص روُه‬

‫ونرى في لغة هجاء جرير استخدامًا للمفردات الفاضحة المكشوفة‪ ،‬وكان بإمكان جرير أن يتخذ من الكناية‬
‫اللفظية بديًال لتلك المفردات‪ ،‬لكن لعل الغرض منها اإلضحاك والسخرية‪ ،‬وهذا ما نراه في قوله للفرزدق‬
‫يعير مقاتل بن طلبة وقد زوج ابنته خولة لشاعر وضيع(‪:)36‬‬
‫فروج بناته كـــمر المــوالي‬ ‫رأيت مقاتل الطلبات حّلى‬
‫من الّص هب المشّو هة السبال‬ ‫لقد أنكحتم عبــدًا لعـبــــٍد‬
‫خرئتم فوق أعظميه البوالي‬ ‫فال تفخـــر بقيٍس إّن قيسًا‬

‫ويبدو أن مفردات الفحش كانت فاعلة أكثر من غيرها‪ ،‬وهذا ما دفع جرير إلى توظيفها في هجائه‪ ،‬وقد قال‪:‬‬
‫"هجوت بني طهية أنواع الهجاء فلم يحفلوا بقولي حتى قلت في قصيدة الراعي‪:‬‬
‫حجارُة خارىٍء َيرِم ي كالَبا‬ ‫كأّن بني ُطَهَّيَة رهَط َس ْلَم ى‬

‫فجزعوا حينئذ والذوا بي"(‪.)37‬‬


‫ويمكن القول إن لغة الهجاء لدى جرير لم تكن كلها بتلك القوة فقد داخلها الضعف في بعض مهاجاته‪،‬‬
‫وشابتها ركاكة ليست بخافية على المنطق الشعري‪ ،‬وال ترقى إلى اللغة الشعرية التي رأينها في األمثلة‬
‫السابقة‪ .‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫َق‬
‫فجــاَء ت بوْز َو اٍز صيِر الَقَو اِئـم‬ ‫َلَقْد وَلـَدْت ُأُّم ال َر ْز َد ِق فاجــِرًا‬
‫َف‬
‫لَيْأَم َن ِقــْر دًا َلْيلـُُه َغ ْيــــــُر نائـِم‬ ‫وما كـان جـاٌر للَفَر ْز ِد َق ُم ْس لٌم‬
‫وشْبَت فما َيْنهاَك َش ْيُب الَّلـهاِز م‬ ‫َأَتْيَت ُح دـُوَد هللا ُم ْذ أنَت يافـٌع‬

‫(‬
‫‪ )36‬ينظر‪ :‬الكامل في اللغة واألدب‪ ،‬للمبرد‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار الفكر العربي – القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ 1417‬هـ ‪-‬‬
‫‪ 1997‬م‪ .‬ج‪ ،2‬ص‪.57‬‬
‫(‬
‫‪ )37‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.79 ،78‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪46‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وريُش الُّذ نابـّي تابـــٌع للقـواِد م‬ ‫لقْد كنَت فيها يا فرزدُق تابـعـًا‬
‫ضربَت ولم تضرْب بسيِف ابن ظالِم‬ ‫بسيِف أبي رغواَن سيِف مجاشٍع‬
‫يداَك وقالوا محَد ٌث غيُر صارِم‬ ‫ضربَت به عنَد اإلمام ِ فأرعَش ـْت‬

‫وكما في قوله يعير الفرزدق بحرفته التي ورثها عن جده‪:‬‬


‫َو َأصِلــح َم تاَعَك ال ُتفِس د‬ ‫َفَر ِّقـع ِلَج ِّدَك َأكيـــــــاَرُه‬
‫َوَو ِّس ع ِلكيِر َك في الَم قَعِد‬ ‫َو َأدِن الَعالَة َو َأدِن الَقدوَم‬

‫األسلوب البالغي لدى جرير‬


‫سار جرير في هجائه على أساليب متنوعة‪ ،‬منها أسلوب الوصف السردي وتعداد صفات المهجو‪ ،‬ويتناول‬
‫أعمق الخفايا‪.‬‬
‫ويستخدم أحيانا كثيرة أسلوب الحوار والمساءلة للمهجو‪ ،‬فتراه يسوق الحوادث بطريق اإلستفهام المتوالي‬
‫بغرض التعجب أحيانًا من المهجو‪ ،‬وبغرض االستنكار والتوبيخ للمهجو الذي ال يستطيع الرد أو النفي لما‬
‫جاء في صيغة السؤال كما في قوله‪:‬‬
‫َث‬ ‫َز‬ ‫ًا‬
‫ال ُشكر َج ــــ يَن َو ال وابــــا‬ ‫َف‬ ‫َأَلم ُنعِتق ِنساَء َبنـــــي ُنَم يٍر‬
‫َو َقد فاَر ت َأباِج ُلُه َو شـــــــــــابا‬ ‫َأَلم َتَر ني ُص ِببُت َعلـى ُع َبيٍد‬
‫َل‬
‫َيشفي َح ُّر ُشع ِتها الِج ــــــرابا‬ ‫َف‬ ‫ُأِع َّد َلُه َم واِس َم حاِم يــــــــاٍت‬
‫َفال َك عبًا َبَلـــغـــَت َو ال ِك ــــــالبا‬ ‫َفُغَّض الَطرَف ِإَّنَك ِم ن ُنَم يٍر‬
‫ِإلى َفرَعيِن َقد َك ُثرا َو طـــــــابا‬ ‫َأَتعِد ُل ِد مَنًة َخ ُبَثت َو َقـــّلـــَت‬

‫ويكاد شعره يتوزع بين األسلوب الخبري واإلنشائي ولربما نجد ميًال في القصائد الطوال إلى األسلوب‬
‫الخبري فقد كان جرير يعدد صات المهجو وقبائحه‪ ،‬كما كان جرير يوجه الخطاب مباشرة إلى المخاطب‬
‫ويسمي اأشخاص والقبائل دون حرج‪.‬‬
‫(‪)38‬‬
‫وقد يبدأ جرير أحيانا بالتحذير للمهجو‪ ،‬كما في تحذيره لبني حنيفة‪ ،‬وكان ميلهم مع الفرزدق عليه ‪:‬‬
‫إني أخاف عليكم أن أغضبا‬ ‫أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم‬
‫أدع اليمامة ال تواري أرنبا‬ ‫أبني حنيـفة إنني إن أهجـكم‬

‫وقد وصل الهجاء لدى جرير إلى درجة الفحش وهتك األعراض حيث يصف جعثن اخت الفرزدق بأوصاف‬
‫مقذعة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ِل‬‫المعم‬ ‫كالطريق‬ ‫جعثَن‬ ‫جاُن‬ ‫ِع‬ ‫و‬ ‫لنفسه‬ ‫يستجير‬ ‫الفرزدُق‬ ‫بات‬
‫والمنقرُّي يدوســـها بالمنـشل‬ ‫أسلمَت جعثَن إذ يجّر برجلها‬

‫(‬
‫‪ )38‬العمدة في محاسن الشعر‪ ،‬البن رشيق‪ ،‬ج‪،1‬ص‪.168‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪47‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وخاصية أخرى تميز بها أسلوب جرير في هجائه ومناقضاته‪ ،‬وهي أنه كان يبني شعره على ماجاء في هجوم‬
‫الشعراء الذين تعرضوا له‪ ،‬ويقف موقف الدفاع المفند لما جاء في شعر الخصم‪ ،‬وهذا ما ذكره جرير عندما‬
‫دخل على الحجاج‪" ،‬فقال له‪ :‬إيه يا عدو هللا عالم تشتم الناس وتظلمهم فقلت جعلني هللا فداء األمير وهللا إني ما‬
‫أظلمهم ولكنهم يظلمونني فأنتصر"(‪.)39‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ذكره األصفهاني(‪ ،)40‬في حوار جرير مع الحجاج بقوله‪ :‬أما غسان بن ذهيل فإنه‬
‫رجل من قومي هجاني وهجا عشيرتي بقوله‪:‬‬
‫َأ‬
‫َج ريٌر لقد ْخ َزى ُك َلْيبًا َج ـِر يُر ها‬ ‫لَعْمِري لئن كانت َبِج يـلُة زاَنــها‬
‫َم َر اِم يَك حتى عاد ِص ْفرًا َج ِفيُر ها‬ ‫رميَت ِنَض اًال عن ُك َليٍب فَقَّص رْت‬
‫طـويٌل َتَناِج يها ِص غــاٌر ُقـُدوُر ها‬ ‫وال َيْذ َبحــون الشــاَة إال بَم ْيس ِــٍر‬

‫قال الحجاج لجرير‪ :‬فما قلَت له؟ قال قلُت ‪:‬‬


‫َسِليٌط ِسَو ى َغ َّساَن جـارًا ُيِج يُر ها‬ ‫أَال ليت ِشْع ري عن سليٍط ألم َتِج ْد‬
‫ــــ‬
‫ُيناِج ــي بها نفسًا خبيثًا ضمـيُر ها‬ ‫فقد ضَّم نوا األحساَب صاحَب َسْو ءة‬
‫إذا َح ــّل بين ْاَألْم َلَح ــْين َو ِقيـــُر ها‬ ‫كأَّن َسِليطًا فــي َح ــوَاِش ِنها الُخ َص ى‬
‫سُتْك َفْو َن َر ْك َض الخيِل َتْد َم ى نحوُر ها‬ ‫َأِضّج ـــُوا الَّر َو اَيا بالَم ــــَز اِد فإَّنكـــم‬
‫َألَّوِل جـــاٍن بالَعصا َيْس تــثيرهـــا‬ ‫كــــأن الَّس ليِط َّياِت َم ْج َنــاُة َك ــــْم ـــَأٍة‬
‫إذا ما الَّسَر ايا َح َّث َر ْك ضًا ُم ِغ يرها‬ ‫َغ َض اِر يُط َيْش ُو ون الَفَر اِس َن بالُّض َح ى‬
‫وَم ْعِقُلها يوَم الِه ياِج ُج ُعــــورهــا‬ ‫فما في َسِليـــٍط فارٌس ذو َح فيظـــٍة‬
‫وَعْيساُء يسَعى بالِع ـــَالب َنِفيُر ها‬ ‫عِج بُت من الَّداِع ي ُج َح يشًا وصائدًا‬

‫غير أن موقف جرير في الدفاع والرد ال يبدو أنه متكئ على شعر المهاجم‪ ،‬أو أنه يتنصص على نص‬
‫الخصم‪ ،‬فتراه يترك الخصم جانبًا‪ ،‬ويخترع شعره جديدًا تبرز فيه قدرته التي تظهره متفوقًا في معانيه وصوغ‬
‫أفكاره‪ ،‬متضمنًا الرد والتفنيد لما يحتاجه متجاهًال ما قاله الخصم‪.‬‬
‫ويسعى جرير إلى توظيف الفخر في قصائده لدعم الهجاء وقهر خصمه في إطار المقارنة بين مكارم‬
‫ومورث أبائه وانحطاط المهجو وقبح ماضيه وأمجاده‪ ،‬فيقول يفخر بقومه على الفرزدق‪:‬‬
‫ُيِع ّدوَن الَم كـــاِرَم ِللِس باِب‬ ‫َلَقد َع ِلَم الَفَر زَدُق َأَّن َقومي‬
‫َأباَن الُم قِر فاُت ِم َن الِع راِب‬ ‫ِإذا َأباؤنا َو َأبوَك ُع ــــّدوا‬
‫َة‬ ‫َأ‬ ‫َط‬
‫ِر با الَخ يِل فِنَي الِقــباِب‬ ‫َفَأوَر َثَك الَعـــالَة َو َأوَر ثونا‬

‫ويستند جرير في فخره على تقصي أيام كانت لقيس ووقائع أخزي فيها الفرزق ورهطه‪ ،‬فيقول(‪:)41‬‬
‫ِلَقوِم ـــَك َيومـــــــًا ِم ثَل َيوِم اَألراِقِم‬ ‫ُتَح ِّض ُض يا ِابَن الَقيِن َقيسًا ِلَيجَعلوا‬
‫َل‬
‫َو َعمرَو بَن َعمرٍو ِإذ َدعوا يا داِرِم‬ ‫َك َأَّنَك َلم َتشَهد َلقيــطًا َو حاِج ـــــــــبًا‬
‫َو َشّداِت َقيــٍس َيوَم َديِر الَج مــــاِجِم‬ ‫َو َلم َتشَهِد الَج وَنيِن َو الِش عَب ذا الَص فا‬

‫(‬
‫‪ )39‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.19‬‬
‫(‬
‫‪ )40‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.20 ،19‬‬
‫(‬
‫‪ )41‬الكامل في اللغة واألدب‪ ،‬للمبرد‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.60‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪48‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫َو ِبالَح زِن َأصَبحــُتم َعبـيـــَد الَلهاِزِم‬ ‫َو َيوَم الَص ــفا ُك نُتم َعبـــيدًا ِلعـاِم ـــٍر‬
‫َو ُتخـــزيَك يا ِابَن الَقـــيِن َأّياُم داِرِم‬ ‫ِإذا ُع ــَّد ِت اَألّياُم َأخــــَز يَت داِر مــــًا‬

‫ويعتد جرير بذاته ويصل إلى أعلى درجات المبالغة‪ ،‬في فخره على خصمه‪ ،‬فيشبه نفسه بالدهر الذي ال‬
‫يطاوله شيء ليلغي خصمه وال يبقي له ما يفخر به‪ ،‬فيقول في عنفوان وغضب‪:‬‬
‫َفِج ئني ِبِم ثِل الَدهِر َشيئًا ُيطاِو ُله‬ ‫َأنا الَدهُر ُيفني الَم وَت َو الَدهُر خاِلٌد‬

‫أما الصور الشعرية فقد ابتكر جرير صورًا شعرية موحية في مهاجاته‪ ،‬وهذا الصور تجعل خيال القارئ‬
‫واسعًا يجول في أعماق النص يتأمل لوقت غير قصير‪ ،‬وتسعى تلك الصور لتحقق غايتين هما‪ :‬اإلضحاك‬
‫والسخرية‪ ،‬كما أن معظم الصور الشعرية في مهاجاة جرير تأتي مستندة على الوصف والتعداد للسوءات‪،‬‬
‫ومستندة كذلك على حشد من التشبيهات بالحيوانات كالقرود والخنازير والحمير وغيرها‪ ،‬ومن تلك‬
‫األوصاف قول جرير في قصيدة يصف فيها أخت الفرزدق "جعثن" بأقبح الصفات‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫َأال َتّبًا ِلَفــخـــــِر َك ِبالُح بــاِت‬ ‫َنسيُتم ُعقَر ِج عِثَن َو ِاحَتَبيُتم‬
‫َل‬
‫ِم َن الِتبراِك يَس ِم َن الَص الِة‬ ‫َو َقد َد ِمَيت َم واِقـُع ُر كَبَتـيها‬
‫كدأِب الترِك تلعـُب باكـــراِت‬ ‫تبيُت الليَل تسلُق إسكــتاها‬
‫علــــى أِّم القفا والّليُل عـــاِت‬ ‫وحـّط المنقرَّي بها فخَّر ْت‬
‫َّن‬
‫لقْد أخزيَت قومَك في ال داِت‬ ‫تنادي غالبًا وبنـِي عقـــاٍل‬

‫وقد تضمن النص أيضًا كنايات واستعارات وتشبيهات قوية تصور هذه الفتاة غارقة في الفاحشة‪ ،‬وتبيت الليل‬
‫تمارس المجون في هيئة قبيحة‪.‬‬
‫وفي هذه األوصاف مبالغات تصل إلى حد القذف واإلسفاف‪ ،‬وخروج بالهجاء إلى الفحش الذي كان عليه في‬
‫الشعر الجاهلي‪.‬‬
‫وأما التشبيهات فتأتي في صور ساخرة مضحكة وهو يصور من يهجوهم مرة بالحشرات وأخرى بالقرود‪،‬‬
‫وثالثة بالخنازير‪ ،‬يقول في بني وقبان‪:‬‬
‫َط‬ ‫َغ‬ ‫َف‬
‫ِم ثُل ال راِش شيَن ناَر الُم ص لي‬ ‫َأزرى ِبِح لِم ُك ُم الِفياُش َفَأنُتُم‬

‫ويقول في آخرين مشبها الرجال بالجعالن والنساء بالقنافذ‪:‬‬


‫ِم ثُل الَقناِفِذ ال ُح سٌن َو ال طيُب‬ ‫َأّم ا الِر جاُل َفِج عالٌن َو ِنسَو ُتُهم‬

‫وشبه الشعراء الذين تعرضوا له بالثعالب العاوية التي أصابها فزع وقد كر عليها أسد هصور‪:‬‬
‫َع َلـــــَّي َفَقد َأصــاَبُهُم ِانِتقــاُم‬ ‫َعوى الُش َعراُء َبعُضُهُم ِلَبعٍض‬
‫ِه َزبرًا في الَعريِن َلُه ِانِتحاُم‬ ‫َك َأُّنُهُم الَثعاِلُب حيــَن َتلـــقــى‬

‫والتشبيهات في هجاء جرير لم تكن جامدة بل تراها تجسد هيئة مزرية نتيجة حسن الصياغة التي تدار فيها‬
‫المفردات‪ ،‬فلم يقتصر جرير بتشبيه الفزدق بالقرد الذي يمارس الفاحشة بل تراه يبذل أقصى جهد في حث‬
‫غيره من القرود لفعل الزناء‪:‬‬
‫ِقرٌد َيُح ُّث َعلى الِز ناِء ُقرودا‬ ‫َأمسى الَفَر زَدُق يا َنواُر َك َأَّنُه‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪49‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وتراه يتخذ من الخنزير رمزًا لنصرانية األخطل التغلبي إذ يحلو للفزدق أن يجعل الخنزير له مثًال‪:‬‬
‫ِإحدى الَدواهي اَّلتي ُتخشى َو ُتنَتَظُر‬ ‫ِإَّن اُألَخ يِط َل ِخ نزيٌر َأطاَف ِبِه‬

‫ونرى لجرير ابتكارات تصويرية في هجائه يتسع فيها الخيال إلى ماضي بعيد وهو يتحدث عن لؤم بني تيم‪،‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫شي‬
‫َم ِم‬ ‫وال‬ ‫خلق‬‫ُي‬ ‫األرحام‬ ‫وفي‬ ‫ٍم‬ ‫ْي‬‫َت‬ ‫لؤ‬
‫ِز ُم‬‫ل‬ ‫ْن‬‫َي‬ ‫األصالب‬ ‫من‬

‫وهذه صورة عجيبة فعًال لها تأثير مؤلم في نفس المهجو‪ ،‬وهو يصور رسوخ اللؤم في األصل اإلنساني‬
‫لهؤالء جميعا واستقراره في اإلرحام‪.‬‬
‫وفي صورة أخرى للؤم بني نمير يصور جرير هذا اللؤم اللصيق بكبار القوم وفقهائهم لكنهم يحاولون‬
‫تغطيته بمظهرهم الزائف‪ ،‬فهم يلبسون العمائم ليظهروا بمظهر الوقار والرفعة بينما هم يخفون اللؤم تحتها‪،‬‬
‫فيقول على طريقة االستعارة المكنية‪:‬‬
‫ما‬ ‫ال‬ ‫َط‬
‫َم ُّي َع ِئِم‬‫ؤ‬‫ُل‬ ‫ال‬ ‫ي‬‫ّط‬ ‫َغ‬‫ُي‬ ‫يَف‬ ‫َك‬ ‫َو‬ ‫ُتَغّطي ُنَم يٌر ِبالَعماِئِم ُلؤَم ها‬

‫إن هذه األلفاظ التي ترسم تلك الصور جعلت لشعر جرير أثرًا بالغًا وهذا ما أدركه جرير ليؤكد أن شعره‬
‫كأس مرة يسيقها الشعراء‪ ،‬ويذيقهم مرارتها على طريق االستعارة التصريحية فيقول‪:‬‬
‫ِع ندي ُم خاِلُطها الِس ماُم الُم نَقُع‬ ‫َأعَددُت ِللُش َعراِء َك أسًا ُم َّر ًة‬

‫ومن الصور البديعة واالبتكارات المعنوية التي يخص فيها الخيال قول جرير في بني نمير‪:‬‬
‫عـلــــــى َخ َبِث الحديد إذًا َلَذ اَبا‬ ‫فلو وضعت ِفَقاُح بني ُنمير‬

‫والحديد ال يذوب إال بنار مستعرة‪ ،‬فهذه صورة قبيحة وكأن فقاحهم أكيار تنفخ نارًا تذيب خبث الحديد‪،‬‬
‫والتركيب يحمل كناية تعريض تشير إلى امتالء بطونهم بالهواء‪ ،‬ومن ثم إخراج الروائح النتنة‪.‬‬
‫فاعلية هجاء جرير‬
‫يرى بعض النقاد أن الهجاء الذي عرف به جرير في شعره لم يكن ذلك الهجاء الفاحش ويجعلونه هجاء‬
‫مشوبًا بالعفة وأقرب إلى الهزل‪ .‬وهذه الرؤية قد تكون صائبة من حيث نتائج الهجاء االجتماعية فهو ال يؤدي‬
‫إلى حروب ومنازعات وصراعات‪ ،‬لكن من حيث اآلثار النفسية يعتبر هجاًء فاحشًا وفيه تهكم وسخرية‬
‫بالمهجو‪.‬‬
‫ورغم أن هناك بعض األخبار تنقل أن قبائل تركت مرابضها نتيجة لهجاء جرير إال أن مثل هذه الروايات‬
‫لربما خالطها شيء من المبالغة وتبقى في دائرة الممكن وال تقلل من شأن هجاء جرير‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات أنه‪" :‬لما هجا جرير بني نمير بقوله‪:‬‬
‫فال كعًبا بلغَت وال ِك البا‬ ‫فغَّض الَّطْر َف إنك من نمير‬

‫أخذ بنو نمير ينتسبون إلى عامر بن َص ْع َصَع ة‪ ،‬ويتجاوزون أباهم نميًرا إلى أبيه‪ ،‬هرًبا من ذكر نمير وفراًرا‬
‫مما وسم به من الفضيحة والوصمة‪ .‬مع أنهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومد صوته‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪50‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وقال‪ :‬من بني نمير‪ ،‬وكانوا جمرة من جمرات العرب‪ .‬وكان أحدهم إذا رأى نميرًّيا وأراد نبزه واإلساءة إليه‬
‫قال له‪ :‬غِّم ض وإال جاءك ما تكره‪ ،‬وهو إنشاد هذا البيت‪ ،‬وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له‪ :‬ممن‬
‫الرجل؟ قال‪ :‬من بني عامر"(‪.)42‬‬
‫قال الجاحظ‪" :‬وفي نمير شرف كثير‪ .‬وهل أهلك عْنَزة‪ ،‬وجرًم ا‪ ،‬وُعكال‪ ،‬وسلوَل ‪ ،‬وباهلة وغنًيا‪ ،‬إال الهجاء؟!‬
‫وهذه قبائل فيها فضل كثير وبعض النقص‪ ،‬فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء‪ .‬وهل فضح الحبطات‪ ،‬مع‬
‫شرف حسكة بن عتاب‪ ،‬وعَّباد بن الحصين وولده‪ ،‬إال قول الشاعر‪:‬‬
‫(‪)43‬‬
‫كما الحبطات شر بني تميم"‬ ‫رأيت الحمر من شر المطايا‬

‫ويبدو لنا ذلك األثر النفسي الذي أحدثه هجاء جرير في ما أورده األصفهاني بقوله‪" :‬وقف الفرزدق على أبي‬
‫بمربد البصرة وهو ينشد قصيدته التي هجا بها الراعي فلما بلغ إلى قوله‬
‫فــال َك ْع ـــــبًا بلغت وال ِك البا‬ ‫فُغَّض الَّطْر ف إنك من ُنَم ير‬

‫أقبل الفرزدق على روايته فقال غضه وهللا فال يجيبه أبدا وال يفلح بعدها فلما بلغ إلى قوله‬
‫بها َبَر ٌص بجانِب إْس َكَتْيها ‪...‬‬
‫وضع الفرزدق يده على فيه وغطى عنفقته فقال أبي‪:‬‬
‫َك َعْنَفَقِة الفرزدِق حين شاَبا‬
‫فانصرف الفرزدق وهو يقول‪ :‬اللهم أخزه وهللا لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه ال يقول غير هذا ولكن طمعت أال‬
‫يأبه فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا(‪.)44‬‬
‫وإذا كان الهجاء في تلك الفترة األموية لم يعد بتلك الجدية التي كان عليها في العصر الجاهلي وتحوله إلى‬
‫نوع من المرح والتسلية بين الخاصة والعامة‪ ،‬وباألخص فن النقائض‪ ،‬إال أن الهجاء مهما يكن فيه مرارة‬
‫وفيه إذالل وانتقاص وإهانة حتى "قال عبد الملك بن مروان‪ :‬يا بني أمية‪ ،‬أحسابكم أنسابكم ال تعّرضوها‬
‫للهجاء‪ ،‬وإياكم وما سار به الشعر‪ ،‬فإّنه باٍق ما بقي الدهر؛ وهّللا ما يسّرني أني ُهجيت بهذا البيت وأن لي ما‬
‫طلعت عليه الشمس‪:‬‬
‫(‪)45‬‬
‫وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا‬ ‫يبيتون في المشتى مالًء بطونهم‬

‫وكذلك كان هجاء جرير مؤلمًا وموجعًا وبقيت آثاره فاعلة في المهجو‪ ،‬فجرير كان يتوخى نزع الفضائل‬
‫والقيم عن المهجوين "وأجود ما في الهجاء أن يسلب اإلنسان الفضائل النفسية وما تركب من بعضها مع‬
‫بعض"(‪ )46‬حتى إن الرواة ‪ -‬وفق المعتقد األسطوري‪ -‬أطلقوا على الشيطان الذي يلقي الشعر إلى جرير‬
‫"إبليس األباليس"(‪ ،)47‬وهذه التسمية تأخذ بعدًا نقديًا وتوحي بتفوق شعر جرير ووضعه في قمة الشعر المؤثر‪.‬‬

‫(‬
‫‪ )42‬المفصل فى تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬د‪ .‬جواد علي‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1422‬هـ‪2001 /‬م‪ .‬ج‪ ،17‬ص‪.68‬‬
‫(‬
‫‪ )43‬البيان والتبيين‪ .‬ص‪.576‬‬
‫(‬
‫‪ )44‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.37،38‬‬
‫(‬
‫‪ )45‬األمالي في لغة العرب‪ ،‬ألبي علي القالي دار الكتب العلمية – بيروت ‪1398‬هـ ‪1978‬م‪.‬ج‪ ،2‬ص‪ .160‬والبيت لألعشى‪.‬‬
‫(‬
‫‪ )46‬العمدة في محاسن الشعر البن رشيق‪ ،‬ص‪.170‬‬
‫(‬
‫‪ )47‬ينظر‪ :‬المفصل في تاريخ العرب‪ ،‬جواد علي‪ ،‬ج‪ ،17‬ص‪.120‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪51‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وقالوا بأن جرير أسقط ثمانين شاعرًا(‪ ،)48‬في مقدمتهم الفرزدق واألخطل والراعي النميري والبعيث بن‬
‫بشير والبلتع وسراقة البارقي والقريد‪ ،‬وقد أشار جرير إلى معاركه تلك في شعره وتحدث عن غلبته لهم‪،‬‬
‫كمثل قوله‪:‬‬
‫ُط‬
‫ِع ندي ُم خاِل ــهـــا الِس ماُم الُم نَقُع‬ ‫َأعَددُت ِللُش َعــراِء َك أســـــًا ُم ــــَّر ًة‬
‫َأو َأرَبعوَن َح َد وُتُهم َفِاسَتجَم عوا‬ ‫َهاّل َنهــــــاُهم ِتسَعــــٌة َقـَّتـــلُتُهم‬
‫َخ ِس روا َو ُشَّف َع َليِهُم َفِاستوِض عوا‬ ‫كــــــانوا َك ُم شَتِر كيَن َلّم ــا باَيعوا‬
‫َف‬
‫م َيص ــلوَن َح ـــريَق ناٍر َتس ـُع‬ ‫َط‬ ‫َأ‬ ‫َأَفَينَتهوَن َو َقـــد َقَض يُت َقضاءُهم‬
‫َو الباِر ِقــُّي َو ذاَق ِم نــــــها الَبلَتُع‬ ‫ذاَق الَفَر زَدُق َو اُألَخ يِط ُل َح ــَّر ها‬
‫َو َتَر كُت فيِه َو ِهَّيـــًة ال ُترَقــــــــُع‬ ‫َو َلَقد َقَس مُت ِلذي الِر قــاِع َهِدَّيــًة‬
‫َل‬ ‫َأل‬ ‫َل‬
‫قوا َك ما ِقَي الُقـــَر يُد ا صـ ـُع‬ ‫َل‬‫َف‬ ‫ًة‬ ‫َو َلَقد َص َك كُت َبني الَفَدوَك ِس َص َّك‬

‫وفي الراعي النميري واسمه عبيد بن حصين‪ ،‬يقول جرير‪:‬‬


‫َم َع الَقيَنيِن ِإذ ُغ ِلبا َو خابا‬ ‫َقَر نُت الَعبَد َعبَد َبني ُنَم يٍر‬

‫والبعيث وقد قال فيه‪:‬‬


‫َو َض غا الَفَر زَدُق َتحَت َح ِّد الَك لَك ِل‬ ‫َو َلَقد َو َس مُتَك يا َبعيُث ِبَم يَس مي‬

‫وعرادة وفيه يقول‪:‬‬


‫َفال َو َأبي َعراَد َة ما َأصابا‬ ‫َأتاني َعن َعراَد وُل سوٍء‬
‫َق‬ ‫َة‬

‫وابن هندابة وفيه يقول جرير‪:‬‬


‫َيروي ِلَقيٍن َو َلم ُينَدب ِإِل سعاِد‬ ‫َظَّل ِابُن ِه نداَبَة الَثّر اَء ُم بَتِر كًا‬

‫غير أنا ال نستطيع حصرهم كلهم‪ ،‬وهل كان إسقاطهم بالتغلب عليهم أو كفهم عن قول الشعر أو عدم التعرض‬
‫لجرير بالهجاء؟‬
‫ًا‬
‫ويتحدث جرير عن فاعلية قصائده في القوم وتأثيرها الموجع‪ ،‬مشبه لها بالسيوف تارة تجدع األنوف‪ ،‬وتطأ‬
‫بأقدامها الهامات‪ ،‬وتارة أخرى بأنها عذاب سقط على القوم‪ ،‬كما في قوله‪:‬‬
‫ِبالُس ِّم ُيلَح ــُم َنسُج ـها َو ُيناُر‬ ‫ِإَّن الَقصاِئَد َقد َج َدعــَن ُم جـاِش عًا‬
‫َو َلَقد ُنِقضَت َفما ِبَك ِاسِتمراُر‬ ‫َو َلقوا َعواِص َي َقد َع ِييَت ِبَنقِض ها‬

‫ويقول‪:‬‬
‫َوَو ِط ئَن َتغِلَب ما َلها ِم ن زاِج ِر‬ ‫ِإَّن الَقصاِئَد َقد َو ِط ئَن ُم جاِش عًا‬

‫ويقول‪:‬‬

‫(‬
‫‪ )48‬ينظر‪ :‬خزانة األدب للبغدادي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.91‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪52‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫ِلَبني َفَدوَك َس ِإذ َج َدعَن ِع قاال‬ ‫ِإَّن الَقواِفَي َقد ُأِمَّر َم ريُر ها‬

‫ويمكن أن نضيف عامًال آخر ساعد في فاعلية الهجاء وأثره النفسي‪ ،‬تمثل في فنية األداء الشعري الذي كان ال‬
‫يزال في العصر األموي امتدادًا للعصر ىالجاهلي‪ ،‬حيث يلقى فيه الشعر مشافهة‪ ،‬وتعمل فيه مدرسة الرواية‬
‫الشفهية‪ ،‬ويتناقله الناس سماعًا‪.‬‬
‫فجرير مثل غيره من شعراء عصره كان ينشد الشعر في سوق المربد‪ ،‬حيث المنتدى الرسمي لتلك المهاجاة‪،‬‬
‫فيحرص علية القوم وعامتهم على سماع كل جديد من أشعار الشعراء الثالثة وغيرهم‪ ،‬فجرير يتحدث عن‬
‫ذلك ويقول‪:‬‬
‫ما َبيَن ِم صَر ِإلى َج نوِب َو باِر‬ ‫ًا‬ ‫سَت‬ ‫َق‬
‫ساَر ال صاِئُد َو ِا َبحَن ُم جاِش ع‬
‫ِبَح ديِث ِج عِثَن ما َتَر َّنَم سـاري‬ ‫ِإَّن الَقصـاِئَد َلن َيَزلــَن َس واِئحــًا‬

‫وتجد من لم يتاح له الحضور وسماع الشعر مباشرة في تلك الجلسات‪ ،‬يسال من حضر‪ ،‬وبالذات عن ما‬
‫حملته من هجاء‪ .‬فقيل(‪ :)49‬أن رجًال دخل مجلسًا وفيه الفرزدق‪ ،‬فقال‪ :‬وردت اليوم المربد قصيدة لجرير‪،‬‬
‫تناشدها الناس‪ ،‬فامتقع لون الفرزدق‪ ،‬فقال له الرجل‪ :‬ليست فيك يا أبا فراس قال‪ :‬ففيمن؟ قال‪ :‬في ابن لجأ‬
‫التيمي‪ ،‬قال‪ :‬أحفظت منها شيئًا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬علقت منها ببيتين‪ ،‬قال‪ :‬ما هما؟ فأنشده‪:‬‬
‫لَقد ُح ِدَيْت تيٌم ُح َداًء َع َصْبَص با‬ ‫لِئْن ُع ِّم َر ْت َتْيٌم زمانًا ِبِع ـــَّز ٍة‬
‫وُع ْك ٌل َيَش ُّم وَن الَفِر يَس الُم َنَّيَبا‬ ‫فال َيْض َغَم َّن الليُث ُع ْكًال ِبِع َّرٍة‬

‫هذه العوامل جعلت من هجاء جرير بالغ التأثير حتى في أولئك الذين يمتلكون ناصية الشعر من أقرانه‪" .‬قال‬
‫بعض رواة قيس وعلمائهم كان الراعي فحل مضر حتى ضغمه الليث يعني جريرا‬
‫وقال أبو البيداء مر راكب يتغنى‬
‫بقاقـــية أسبابها تقــطر الدما‬ ‫وعاو عوى من غير شىء رميته‬
‫قرا هنـــدوانى إذا هز صمما‬ ‫خـروج بأفــــواه الرواة كأنــــها‬

‫فسمعه الراعي فأتبعه رسوال فقال‪ :‬لمن البيتان؟ قال‪ :‬جرير‪ ،‬قال‪ :‬وهللا لو اجتمعت الجن واإلنس على صاحب‬
‫(‪5‬‬
‫أالم على أن يغلبني مثل هذا‪ .‬وإنما يعني جرير"‬ ‫هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا‪ ،‬ثم قال لمن حضر‪ :‬ويحكم ُ‬
‫‪.)0‬‬
‫ونجد عددًا من أبيات الشعر لدى جرير تسير مسار المثل والحكمة‪ ،‬يحكيها الناس وتشيع في مناسبات‬
‫مشابهة‪ ،‬كما في البيت الشعري الذي قاله جرير ردًا على الفرزدق الذي توعد مربعًا بالقتل عندما وجده‬
‫يحفظ شعر جرير‪ ،‬فقال جرير متهكمًا‪:‬‬
‫(‪)51‬‬
‫بِش ر ِبطوِل َس الَم ٍة يا َم رَبُع‬‫َأ‬ ‫َز َع َم الَفَر زَدُق َأن َسَيقُتُل َم رَبعًا‬

‫وقد تضمن البيت تهكمًا شديدًا وتمثل به كثير من الخلفاء واألمراء لما يحمله من ظرافة وسخرية بالمخاطب‪.‬‬
‫(‬
‫‪ )49‬طبقات فحول الشعراء‪ .‬ج‪ ،2‬ص‪.376‬‬
‫(‬
‫‪ )50‬نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.437‬‬
‫(‬
‫‪ )51‬خاص الخاص‪ ،‬ألبي منصور الثعالبي‪ ،‬تحقيق ‪ :‬حسن األمين‪ ،‬دار مكتبة الحياة – بيروت‪ .‬ص‪.105‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪53‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫وقد تحدثت كتب األدب أن هجاء جرير أثر على األفراد وعلى القبائل بمجموع أفرادها‪ ،‬حتى قالت بنو‬
‫مشاجع(‪ )52‬ما هجينا بشعر أشد علينا من قول جرير‪:‬‬
‫نكحْت نساؤهُم بغيِر مهوِر‬ ‫وبرحرحاَن غداَة ّ‬
‫كبَل معبد‬

‫وهكذا أعلن جرير حربه وشن هجومه على كل من وقف مع الفرزدق أو ساند خصومه من الشعراء‪ ،‬سواء‬
‫أكانوا أفرادًا أم قبائل‪ ،‬فيروى أن(‪ )53‬قبيلة بنو الهجيم لما سمحوا للفرزدق أن ينشدهم شعرًا في مسجدهم‪ ،‬وبلغ‬
‫ذلك جريرا فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق فقال له شيخ منهم‪ :‬يا هذا اتق هللا فإن هذا المسجد‬
‫إنما بني لذكر هللا والصالة‪ ،‬فقال جرير‪ :‬أقررتم للفرزدق ومنعتموني وخرج مغضبا وهو يقول‪:‬‬
‫ُح ُّص الِّلَح ى متشابهو األلواِن‬ ‫إّن الُهَج ــْيــَم قبيلٌة ملعونٌة‬
‫بُعَم اَن أضحى جْم ُعهم بُعماِن‬ ‫لو َيسَم عون بأكلٍة أو َشْر بٍة‬
‫ُدخا‬ ‫ك‬
‫ِد ِح ِّل ِن‬ ‫لري‬ ‫الخدو‬ ‫ع‬
‫ُص َر‬ ‫متـأِّبطــين بنيهـُم وبناِتهــْم‬

‫ونتيجة لهذا الهجاء الذي ضرب به جرير كل حدب وصوب لقي العديد من التهديدات وربما المحاوالت‬
‫لقتله‪ ،‬ومن ذلك قوله لعطية الحنيفي‪:‬‬
‫إال حنيفة تفسو في مناحيها‬ ‫إن اليمامة أضحت ال أنيس بها‬

‫فلقيه عطية بن دعبل الحنفي فقال‪ :‬يا جرير إنك قد عرفت نصرة الفخم وإن لي سيفًا يختصم الجزور فوهللا لئن‬
‫عدت لهجاء قومي ألسيلنه منك بشرطين‪ .‬فقال‪ :‬ال أنطق بعد هذا‪ ،‬فأعف هذه المرة"(‪.)54‬‬
‫وقد عمل جرير على استغالل عدد من الحوادث والقضايا تجاه خصومه في الهجاء‪ ،‬وأخذت حيزًا واسعًا في‬
‫شعره‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -‬حادثة غدر قبيلة مجاشع بالزبير بن العوام‪.‬‬
‫‪ -‬حادثة نبو سيف الفرزدق عند ضرب أسير رومي‪.‬‬
‫‪ -‬مجون الفرزدق وفسقه‪.‬‬
‫‪ -‬حادثة جعثن أخت الفرزدق مع ابن مرة‪.‬‬
‫‪ -‬مهنة الفرزدق وأبيه‪.‬‬
‫‪ -‬نصرانية األخطل وأكله لحم الخنزير وشربه الخمر‪.‬‬
‫‪ -‬انتصار قيس على تغلب‪.‬‬
‫إذ تكررت هذه القضايا في قصائد جرير‪ ،‬ولم يترك مناسبة إال وذكرها تصريحا أو وتلميحًا‪.‬‬

‫(‬
‫‪ )52‬ديوان المعاني‪ ،‬ألبي هالل العسكري‪ ،‬ص‪.72‬‬
‫(‬
‫‪ )53‬ينظر‪ :‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.57‬‬
‫(‬
‫‪ )54‬محاضرات األدباء‪ ،‬الراغب األصفهاني‪ ،‬ص‪.177‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪54‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫تحليل نصين هجائيين لجرير‬


‫بعد اإلستعراض والنقاش لقضيا عديدة في هجاء جرير يجدر أن نقف على نصين مطولين من نقائض جرير‬
‫بالتحليل العام لنرى كيف أدار جرير مهاجاته الصاخبة‪ ،‬ونتعرف على أسلوبه الفني‪ ،‬والبناء العام لقصائد‬
‫المناقضات‪ ،‬وموقع الهجاء فيها‪.‬‬
‫(‪)55‬‬
‫النص األول‬
‫َقد ِه جِت َشوقًا َو ماذا َتنَفُع الِذ َك ُر‬ ‫ُقل ِللِد ياِر َس قى َأطــــــالَلكِ الَم َطُر‬
‫َأو هاِط ــًال ُم رَثِع نًا َص ــــوُبُه ِدَر ُر‬ ‫ُأسقيِت ُم حَتِفــــــــًال َيسَتُّن واِبُلُه‬
‫َهذا الَز ماُن َو ِإذ في َو حِش ِه ِغ َر ُر‬ ‫ِإِذ الَز ماُن َز مـــــــــاٌن ال ُيقاِر ُبُه‬
‫ِم ن ذي لوٍح َو حاَلت دوَنها الُبَصُر‬ ‫ُط‬ ‫ِإَّن الُفؤاَد َم َع الُظعِن اَّلتي َبَك َر ت‬
‫َخ ّلوا الَم الَم َة ال َشكوى َو ال ِع َذ ُر‬ ‫قالوا َلَعَّلَك َم حزوٌن َفُقــــلُت َلُهم‬
‫ِم ن داَرِة الَج أِب ِإذ َأحداُج ُهم ُز َم ُر‬ ‫ِإَّن الَخ ليَط َأَج َّد اَلَبيَن َيوَم َغ َدوا‬
‫َر ّدوا الِج ماَل ِإِل صعاٍد َو ما ِانَح َدروا‬ ‫َلّم ا َتَر َّفَع ِم ن َهيِج الَج نوِب َلُهم‬
‫َنسٌق ِم َن الَر وِض َح ّتى ُطِّيَر الَو َبُر‬ ‫ِم ن ُك ِّل َأصَهَب َأسرى في َعقيَقِتِه‬
‫َح يُث الَم ناِكُب َيلقى َر جَعها الَقَصُر‬ ‫ُبزٌل َك َأَّن الُك َح يَل الِص رَف َضَّرَج ها‬
‫َأ‬
‫َو َص الَر طُب ِإاّل ن ُيرى ِس َر ُر‬ ‫َّل‬‫َق‬ ‫َأبَص رَن َأَّن ُظهوَر اَألرِض هاِئَج ٌة‬
‫َح ٌّي ِبَغيِر َعباِء الَم وِص ِل ِاخَتَدروا‬ ‫َهل ُتبِص راِن ُح موَل الَح ِّي ِإذ ُرِفَعت‬
‫يا ُبعَد َم نَظِرِهم ذاَك اَّلذي َنَظروا‬ ‫قالوا َنرى اآلَل َيزهى الَدوَم َأو ُظُعنًا‬
‫م ما ُبكاُؤَك ِإذ جيراُنَك ِابَتَك روا‬ ‫َأ‬ ‫ماذا َيهيُج ـــَك ِم ـــن داٍر َو َم نــِز َلٍة‬
‫ِم ّنا ُبكورًا َفما ِارتابوا َو ما ِانَتَظروا‬ ‫نادى الُم نادي ِبَبيِن الَح ِّي َفِابَتَك روا‬
‫ِم ّنا َو ما َينَفُع اِإل شفاُق َو الَح ـــَذ ُر‬ ‫حاَذ رُت َبيَنُهُم ِباَألمِس ِإذ َبَك ـــروا‬
‫َيكاُد َينَشُّق َعن َم جهوِلها الَبَصُر‬ ‫َك م دوَنُهم ِم ن ُذ رى تيٍه ُم َخ ِّفـــَقٍة‬
‫ِنعَم الَفواِر ُس َلّم ــــا ِالَتَّفِت الُعَذ ُر‬ ‫ِإّنا ِبِط ــخــَفــَة َأو َأّياِم ذي َنَج ــٍب‬
‫َو ال ُيقاُل َلُهـــم َك ــــاّل ِإذا ِافَتَخ روا‬ ‫َلم ُيخــــِز َأَّو َل َيربوٍع َفواِر ُسُهم‬
‫َّل‬
‫حيَن ِالَتقى ِبِإياِد الُقــ ــــِة الَك َدُر‬ ‫ساِئل َتميمًا َو َبكرًا َعن َفواِرِس نا‬

‫ضاَق الَطريُق َو َع َّي الِو رُد َو الَصَدُر‬ ‫َلوال َفواِر ُس َيربوٍع ِبذي َنجٍب‬
‫َأو واَقفوا عاَنقوا اَألبطاَل َفِاهُتِص روا‬ ‫ِإن طاَر دوا الَخ يَل َلم ُيشُو وا َفواِر َس ها‬
‫ِم ن َح وَم ٍة َلم ُيخاِلط َص فَو ها َك َدُر‬ ‫َنحُن ِاجَتَبينا ِح ياَض الَم جِد ُم تَر َع ًة‬
‫ِع نَد الِح فاِظ َو ما في َعظِم نا َخ َو ُر‬ ‫ِإّنا َو ُأُّم َك ما ُترجــــــى ُظالَم ُتنا‬
‫َح وَم الُبحوِر َو كاَنت َغ مَر ًة ُج سروا‬ ‫َتلقى َتميمًا ِإذا خاَض ت ُقروُم ُهُم‬
‫َيوَم الُهَذ يِل ِبَأيدي الَقوِم ُم قَتـــَسُر‬ ‫َهل َتعِر فوَن ِبذي َبهدى َفواِرَس نا‬
‫َو قُع الَقنا َو ِالَتقى ِم ن َفوِقها الَغــَبُر‬ ‫الضاِر بيَن ِإذا ما الَخ يُل َضَّرَج ها‬

‫(‬
‫‪ )55‬ديوان جرير‪ .‬ص‪.196‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪55‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫َليٌث ِإذا َش ـَّد ِم ــــــــن َنجداِتِه الَظَفُر‬ ‫ِإَّن الُهَذ يَل ِبذي َبهدى َتداَر َك ـــُه‬
‫َأاّل ُيباِر َك في اَألمِر اَّلـــذي ِائَتَم روا‬ ‫َأرجو ِلَتغِلَب ِإذ َغ َّبت ُأموُر ُهـــــُم‬
‫َح وَض الَم كاِرِم ِإَّن الَم جـــَد ُم بَتَدُر‬ ‫خاَبت َبنو َتغِلٍب ِإذ َض َّل فاِر ُطـُهم‬
‫َو الساِئلوَن ِبَظهِر الَغيِب مــا الَخ َبُر‬ ‫الظاِع نوَن َعلى الَعمياِء ِإن َظَعنوا‬
‫في الناِر ِإذ َح َّر َقت َأرواَح ُهم َس َقُر‬ ‫َو ما َر ضيُتم َأِلجساٍد ُتَح ــــِّر ُقـــُهم‬
‫َو الناِز لوَن ِإذا واراُهـــُم الَخ َم ـــــُر‬ ‫اآلِكلوَن َخ بيَث الزاِد َو حـــــــَدُهُم‬
‫ِتلَك الُو جوُه اَّلتي ُيسقى ِبها الَم َطُر‬ ‫َيحمي اَّلذيَن ِبَبطحاَو ي ِم نًى َح َس بي‬
‫َوُهَللا َع َّزَز ِباَألنصاِر َم ــن َنَص روا‬ ‫َأعطوا ُخ َز يَم َة َو اَألنصاَر ُح كَم ُهُم‬
‫َتخَز وَن َأن ُيذَك َر الَج ّح اُف َأو ُز َفُر‬ ‫ِإّني َر ئيُتُك ُم َو الَح ـــُّق َم غَض ــَبــــــٌة‬
‫ُشعَث الَنواصي ِإذا ما ُيطَر ُد الَعَك ُر‬ ‫َقومًا ُيَر ّدوَن َس رَح الَقــــوِم عاِدَيًة‬
‫ِإحدى الَدواهي اَّلتي ُتخشى َو ُتنَتَظُر‬ ‫ِإَّن اُألَخ يِط َل ِخ نزيٌر َأطـــــــاَف ِبِه‬
‫َتغشى الِط عاَن َو في َأعطاِفـــها َز َو ُر‬ ‫قادوا ِإَليُك م ُص دوَر الَخ يِل ُم عِلَم ًة‬
‫ِم ــــــن َتغِلٍب َبعَدهــــا َعيٌن َو ال َأَثُر‬ ‫كاَنت َو قاِئُع ُقلنا َلـــــن ُترى َأَبدًا‬
‫ِم نُهم َفُقلُت َأرى اَألمواَت َقد ُنِش روا‬ ‫َح ّتى َسِم عُت ِبِخ نزيٍر َض غا َج َز عًا‬

‫َو اَألرُض َتلُفـــُظ َم ــوتاُهم ِإذا ُقِبروا‬ ‫َأحياؤُهم َشُّر َأحيـــــاٍء َو َأَألُم ــــُه‬
‫َقرُع الَنواقيِس ال َيدروَن ما الُس َو ُر‬ ‫ِر جٌس َيكوُن ِإذا َص ّلـــوا َأذاُنُهُم‬
‫َو ال َصَبرُتم ِلَقيٍس ِم ثــَل ما َصَبروا‬ ‫َفما َم َنعُتم َغ داَة الِبشِر ِنسَو َتُك م‬

‫َو ُك ــــَّل ُم خــَض ــَرِة الُقـــرَبيِن ُتبَتَقُر‬ ‫َأسَلمُتُم ُك َّل ُم جتــاٍب َعبـــــــاَء َتُه‬
‫ــــــُر في َقــتــالُك ـــــُم ِغ ـــَيُر‬
‫ِإذ ال ُيَغ َّ‬ ‫َهاّل َس َك نُتم َفُيخفي َبعَض َس وَأِتُك م‬
‫َأم َم ن َج َعلَت ِإلى َقيٍس ِإذا َخ ـروا‬
‫َذ‬ ‫يا ِابَن الَخ بيَثِة ريحًا َم ن َعَدلَت ِبنا‬
‫َلسُتــــــم ِإَليهـِم َو ال َأنُتم َلُهـم َخ َطُر‬ ‫َقيٌس َو ِخ نِد ُف َأهُل الَم جِد َقبَلــُك ُم‬
‫َلـم َيقَطعوا َبطَن واٍد دوَنـُه ُم َض ـُر‬ ‫موتوا ِم َن الَغيِظ َغ ّم ًا في َج زيَر ِتُك م‬
‫ِإاّل ِافَتَخ رنا ِبَح ٍّق َفوَق مـا ِافَتَخ روا‬ ‫ما ُعَّد َقوٌم َو ِإن َع ّز وا َو ِإن َك َر موا‬
‫َأن َلــن ُيفاِخ ـــَر نا ِم ن َخ لِقـِه َبَش ُر‬ ‫َنرضى َع ِن ِهَللا َأَّن الناَس َقد َع ِلموا‬
‫َنجٌم ُيضيُء َو ال َشمٌس َو ال َقـَم ـــُر‬ ‫َو ما ِلَتغِلَب ِإن َعدــَّت َم ســـــاعيها‬
‫َك الُم هَلكيَن ِبذي اَألحقاِف ِإذ َد َم روا‬ ‫كــاَنت َبنـو َتغلـٍِب ال َيعـــُل َج ُّدُهُم‬
‫َح ّتــى َأصاَبُهـــــُم ِبالحاِصِب الَقَدُر‬ ‫ُصَّبت َع َليِهم َعقيٌم ما ُتناِظ ــــُر ُهم‬
‫َح ّتى َأَع َّز َح صـــاَك اَألوُس َو الَنِمُر‬ ‫َتهجوَن َقيسًا َو َقد َج ّذ وا َدواِبَر ُك م‬
‫َنجــٌد َو مــــــــاَلَك ِم ن غوِر ِّيِه َح َج ُر‬ ‫ِإّني َنَفيُتَك َعن َنجٍد َفمـــا َلـــــُك ــُم‬
‫َبرُق الَعباِء َو ما َح ّج وا َو ما ِاعَتَم روا‬ ‫َتلقى اُألَخ يِط َل في َر كٍب َم طاِر ُفُهم‬
‫يا ُقِّبَح ـــت ِتلَك َأفواهًا ِإذا ِاكَتَشروا‬ ‫الضاِح كيَن ِإلى الِخ نزيِر َشهــَو َتُه‬
‫ِبئَس الَج زوُر َو ِبئَس الَقوُم ِإذ َيَس روا‬ ‫َو الُم قِر عيَن َعلى الِخ نزيِر َم يِس َر ُهم‬
‫َو الَتغــِلِبــُّي َلئيـــــٌم حيـــَن ُيخَتـــَبُر‬ ‫َو الَتغِلــِبــُّي َلئيــــٌم حيــَن َتجَهُرُه‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪56‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫َعبــــــٌد َيسوُق ِر كاَب الَقوِم ُم ؤَتَج ُر‬ ‫َو الَتغَلـــِبـــُّي ِإذا َتَّم ت ُم ــــروَأُتُه‬
‫َو ال َج ــــمــاٌل َو ال ديٌن َو ال َخ ـفـــــَُر‬ ‫ِنسواُن َتغِلَب ال ِح لٌم َو ال َح َس ــــٌب‬
‫َو الَطِّيــــباِن َأبو َبكـــٍر َو ال ُع ـَم ـــــُر‬ ‫ما كاَن َيرضى َر سوُل ِهَللا ديَنُهُم‬
‫َو َهل َيضيُر َر سـوَل ِهَللا َأن َك َفـــروا‬ ‫جاَء الَر سوُل ِبديِن الَح ِّق َفِانَتَك ثوا‬
‫ما داَم في مــاِر ديَن الَز يُت َيعَتـَصُر‬ ‫يا ُخ زَر َتغِلــَب ِإَّن اللــُؤَم حاَلَفُك م‬
‫ُثَّم ِارَتدوا ِبِثياِب الُلـــــــؤِم َو ِاَّتَز روا‬ ‫َتَس رَبلوا الُلؤَم َخ لقًا ِم ن ُج لوِدِهُم‬
‫َو الجاِنحـــيَن ِإلى َبكٍر ِإذا ِافَتَقروا‬ ‫الشاِتمــــيَن َبني َبكـــٍر ِإذا َبِط نوا‬

‫هذه القصيدة في األساس هي إحدى نقائض جرير جاءت ردًا على نقيضة األخطل الرائية التي هجاء فيها‬
‫جرير بشدة ومطلعها‪:‬‬
‫ها‬ ‫ر‬ ‫في‬ ‫و‬‫َن‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫َأ‬
‫َو زَع َج ُه ًى َص ِف ِغ َيُر‬ ‫روا‬ ‫َك‬ ‫و‬‫َأ‬
‫ِم نَك َب‬ ‫راحوا‬‫َف‬ ‫َخ َّف الَقطيُن‬

‫ومما ذكره األخطل في هجائه لقبيلة غدانة بن يربوع‪ ،‬إخوة كليب‪،‬يصفهم باألغنام ويصف الرجال بالفاحشة‬
‫والخبث والجشع والبخل‪ ، ،‬ويلصق بنسائهم الرذائل والفحش‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ِع نَد الَم كاِرِم ال ِو رٌد َو ال َص ــــــَدُر‬ ‫َأّم ا ُك َليُب بُن َيربوٍع َفَليـــَس َلُهــم‬
‫َو ُهم ِبَغيٍب َو في َعمياَء ما َش َعروا‬ ‫ُم َخ َّلفوَن َو َيقضــي الناُس َأمــَر ُهُم‬
‫َينَفــــُّك ِم ــــــــن داِر ِم ٍّي فيِهِم َأَثُر‬ ‫ُم َلَّطموَن ِبَأعقاِر الِح يـــــاِض َفمـا‬
‫ِإذا َج ــــرى فيِهِم الُم ّز اُء َو الَس َك ُر‬ ‫ِبئَس الُص حاُة َو ِبئَس الَشرُب ُشرُبُهُم‬
‫َو ُك ــــُّل ُم خــــِز َيٍة ُسَّبت ِبها ُم َضُر‬ ‫َقوٌم َتناَهت ِإَليِهم ُك ـــُّل فــــاِح َش ـــٍة‬
‫َو الساِئلوَن ِبَظهِر الَغيِب ما الَخ َبُر‬ ‫اآلِكلـــوَن َخ بيَث الزاِد َو حـــــَدُهـُم‬
‫َل‬ ‫َّل‬
‫ِم َن الَح بـــَ ِق ُتبنى َح و ها الِصَيُر‬ ‫َو ِاذُك ــــر ُغ ـــداَنَة ِع ّدانًا ُم َز َّنَم ــــًة‬
‫َو َتزَر ِئُّم ِإذا مـــا َبَّلــــــــها الَم ـــَطُر‬ ‫َتمذي ِإذا َس ُخ َنت في ُقبِل َأدُرِع ها‬
‫لحاِبسو الشاِء َح ّتى َتفُض َل الُس َؤ ُر‬ ‫َأ‬ ‫َو ما ُغ داَنُة فـــــي َش ـــيٍء َم كاَنُهُم‬
‫َر َّد الــــِر فاَد َو َك َّف الحاِلِب الَقـِر ُر‬ ‫ُص فُر الِلحى ِم ن َو قوِد اَألدِخ ناِت ِإذا‬
‫مــــا َتسَتِح ُّم ِإذا ما ِاحَتَّك ِت الُنــَقُر‬ ‫ُثَّم اِإل ياُب ِإلــــى ســـوٍد ُم ـــــَد َّنَسٍة‬
‫َح ّتى ُيحاِلَف َبطَن الراَح ـــِة الَش َعُر‬ ‫َقد َأقَس َم الَم جُد َح ّقًا ال ُيحاِلــــُفُهم‬

‫وقصيدة جرير سارت في أسلوبها الفني وبنيتها العامة وفق تقليد القصيدة الجاهلية‪ ،‬في وقوفها على الديار‬
‫والطلل‪ ،‬ووصف الرحلة وغير ذلك من عناصر المقدمة المعروفة‪ .‬غير أن جرير يبدو في هذه المقدمة رقيق‬
‫اللفظ‪ ،‬ذا عاطفة حزينة تجهش بذكريات الزمان‪ ،‬مع خطوات الظعن وتمايل الركب السائر ببطء‪ ،‬وكل ما‬
‫حوله يهيج األشجان‪ ،‬وهو يرى البعد الزماني والبعد المكاني المجهول الذي يغيب الحبيب أو المفقود‪.‬‬
‫ويستمر بهذا الوصف العاطفي الجياش مصحوبًا بالغزل الطروب‪ ،‬وكأن هذه المقدمة أغنية لحنها يجري دون‬
‫مغٍن يغنيها لعذوبة ألفاظها‪.‬‬
‫ثم نراه ينتقل انتقاًال هادئًا بكل إنسياب إلى االفتخار بيربوع‪ ،‬ويتحدث عن البطوالت والفوارس والمآثر‬
‫واألمجاد التي ال يرى لها مثيًال‪ .‬ومن هنا يبدأ الهجاء بنفي أمجاد اآلخر في سياق الفخر وما أثبته لذاته‪:‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪57‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫ِع نَد الِح فاِظ َو ما فــي َعظِم نا َخ َو ُر‬ ‫ِإّنا َو ُأُّم َك ما ُترجــــــى ُظالَم ُتـنا‬
‫َح وَم الُبحوِر َو كاَنت َغ مَر ًة ُج سروا‬ ‫َتلقى َتميمًا ِإذا خاَض ت ُقروُم ُهُم‬

‫ويستمر في هجومه الالذع على قبيلة تغلب ويسوق حشدا من المعايب والصفات القبيحة يصم القبيلة بها‬
‫ويذكر شاعرها األخطل ويصفه بالخنزير في إشارة إلى عقيدته النصرانية التي ال تحرم هذا الحيوان‪.‬كما‬
‫تعرض لعقيدته الفاسدة وضرب النواقيس وعدم احترام هذه القبيلة وشاعرها للقيم والمثل الفاضلة وخاصة‬
‫التي جاء بها اإلسالم‪ ،‬ويتواصل بهذا األسلوب الهجائي القوي إلى آخر القصيدة موجها حديثه عن قبيلة تغلب‬
‫واألخطل دون أن يشير إلى آخرين يقصدهم بالهجاء كالفرزدق مثًال‪ ،‬فالقصيدة أعدت في األساس ردًا على‬
‫األخطل وقصيدته‪.‬‬
‫ًا‬
‫لقد اختار جرير لقصيدته لغة رصينة ومتينة ذات أبعاد داللية جدية‪ ،‬مستخدم أسلوب الوصف والمقارنة‬
‫أحيانًا‪ ،‬واعتمد في معظمها على الجملة الخبرية بقصد إعطاء المخاطب قدرًا كبيرًا من أخبار قبيلة تغلب‬
‫وشاعرها األخطل وما تنطوي عليه حالتها من سوء‪ ،‬ولم تأت األساليب اإلنشائية إال لماما‪.‬‬
‫إيقاع القصيدة قام على بحر البسيط ذي التفعيلة المزدوجة "مستفعلن فعلن" وهو يمثل الوقع الصارم وقد‬
‫تناسب تماما مع موضوع القصيدة ومع دالالتها القوية‪ ،‬فالبسيط من األوزان العروضية التي تالئم‬
‫موضوعات الفخر والهجاء وكذا المديح‪ ،‬وهي معاني فخمة يؤطرها هذا الوزن ويستوعبها فتجري فيه بكل‬
‫سهولة ويسر‪.‬وتأتي القافية بروي الراء المرفوعة المطلقة‪ ،‬لتشكل ثنائيًا إيقاعيا رائعا مع وزن البسيط‪ ،‬وحرف‬
‫الراء كثر استخدامه رويًا في الشعر القديم والحديث لما يحدثه من رنة ساحرة تستعذبها األذن‪ ،‬وتهتز لوقعها‬
‫المشاعر‪ ،‬وهي بوقعها القوي تحدث تنبيها دالليًا‪ ،‬ليستوعب الذهن المعنى بكل وضوح كما في أبيات هذه‬
‫القصيدة‪ ،‬فنرى في القافية مفردات متنوعة ما بين أسم وفعل مثل‪ :‬الذكر البصر‪ ،‬بشر‪ ،‬القمر‪ ،‬انحدروا‪ ،‬كفروا‬
‫‪...‬‬
‫فكان بذلك إيقاع القصيدة إيقاعًا متالحمًا مع لغة القصيدة وداللتها‪.‬‬
‫(‪)56‬‬
‫النص الثاني‬
‫َو قولي ِإن َأَص بُت َلَقد َأصابا‬ ‫َأِقّلي الَلوَم عـــاِذ َل َو الِع تـــابا‬
‫َظ‬
‫َو َح ّيًا طاَل ما ِانَت روا اِإل يابا‬ ‫َأَج ِّدَك ما َتَذ َّك ُر َأهـــــَل َنجــــٍد‬
‫َك ما َعَّينَت ِبالَس ـــَر ِب الِط بابا‬ ‫َبلى َفِارَفَّض َدمُعَك َغ يَر َنزٍر‬
‫َهــوًى مــا َتسَتطيُع َلُه ِط الَب‬ ‫َو هاَج الَبرُق َليَلــــَة َأذِر عاٍت‬
‫هــاَج َع َلــَّي َبيَنــُهما ِاكِتئابا‬ ‫َف‬ ‫َفُقلُت ِبحاَج ٍة َو َطَو يُت ُأخرى‬
‫َض ميُر الَقلِب َيلَتِهــُب ِالِتهابا‬ ‫َوَو جٍد َقد َطَو يُت َيكــــاُد ِم نُه‬
‫َو َم َّنتنا الَم واِع َد َو الِخ ـــــالبا‬ ‫َس َألناها الِش فاَء َفـــــما َش َفتنا‬
‫َة‬
‫َو َم ن َس َك َن الَس ليَل َو الِج ـنابا‬ ‫َلَش ّتاَن الُم جــــاِو ُر َديَر َأروى‬
‫َو َر ّيا َح يُث َتعَتِقُد الِح ــقــــابا‬ ‫َأسيَلُة َم عِقِد الِس مَطيِن ِم نـــها‬
‫َو ال ُتهدي ِلجاَر ِتها الِس بـــابا‬ ‫َو ال َتمشي الِلئاُم َلـــــها ِبِس ٍّر‬
‫ِش عاَب الُح ِّب ِإَّن َلُه ِش عــــابا‬ ‫َأباَح ت ُأُّم َح زَر َة ِم ــن ُفؤادي‬
‫َتَبَّيَن في ُو جوِهِهِم ِاكِتــــئابا‬ ‫َم تى ُأذَك ر ِبخوِر َبني ِع قـــاٍل‬
‫َشَددُت َعلى ُأنوِفِهِم الِع صابا‬ ‫ِإذا القى َبنو َو قباَن َغ ّم ـــــــًا‬
‫(‬
‫‪ )56‬نفسه ص‪.58‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪58‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫َو في َفرَعي ُخ َز يَم َة َأن ُأعابا‬ ‫َأبى لي ما َم ضى لي في َتميٍم‬


‫َو َم ن ُع ِر َفت َقصاِئُد ُه ِاجِتالبا‬ ‫َس َتعَلُم َم ن َيصيُر َأبوُه َقيـــنًا‬
‫َعَدلَت ِبِهم ُطَهَّيَة َو الِخ شـــابا‬ ‫َأَثعَلَبَة الَفواِرِس َأو ِر ياحـــــًا‬
‫ِح جاَر ُة خاِرٍئ َيرمي ِك ـــالبا‬ ‫َك َأَّن َبني ُطَهَّيَة َر هَط َس لــمى‬
‫َك َيربوٍع ِإذا َر َفعوا الُعقــــابا‬ ‫َفال َو َأبيَك ما الَقيُت َح ــــــــّيًا‬
‫َو َأسَر َع ِم ن َفواِرِس نا ِاسِتالبا‬ ‫َو ما َو َج َد الُم لوُك َأَع ـــــَّز ِم ّنا‬
‫َك َفينا ذا الَج ريَرِة َو الُم صــابا‬ ‫َو َنحُن الحاِكموَن َعلى ُقـالٍخ‬
‫َو َأحَر زنا الَص ناِئَع َو الِنـــهابا‬ ‫َح َم ينا َيوَم ذي َنَج ٍب ِح مـــانا‬
‫َكَنسِج الريِح َتطِر ُد الَح بـــابا‬ ‫َلنا َتحَت الَم حاِم ِل ساِبغـــــاٌت‬
‫َس َلبناُه الُس راِد َق َو الِح جــاَب‬ ‫َو ذي تاٍج َلُه َخ َر زاُت ُم ـــــلٍك‬
‫َو زاَدُهُم ِبَغدِر ِهِم ِارِتيــــــــابا‬ ‫َأال َقَبَح اِإل َلُه َبني ِع ــــقـــــاٍل‬
‫َفَألقوا الَس يَف َو ِاَّتِخ ذوا الِع يابا‬ ‫َأجيراَن الُز َبــــيِر َبِر ئُت ِم نُك م‬
‫َو َر حًال ضاَع َفِانُتِهَب ِانِتهابا‬ ‫َلَقد َغ َّر الُقيوُن َدمـــــًا َك ريمًا‬
‫ُتجاِذُبُهم َأِع َّنَتـــها ِج ــــــذابا‬ ‫َو َقد َقِع َس ت ُظهوُر ُهُم ِبَخ ـــيٍل‬
‫َأهاَنُك ُم اَّلذي َو َضَع الِك تـــــابا‬ ‫َعالَم َتقاَعسوَن َو َقد َدعاُك ــم‬
‫َو َلم َتهَج ع َقراِئُبُه ِانِتحـــــابا‬ ‫َتَعّشوا ِم ن َخ زيِر ِهُم َفنامـــوا‬
‫َو ِج عِثَن َبعَد َأعَيَن َو الــَر بابا‬ ‫َأَتنَس وَن الُز َبيَر َو َر هَط َعوٍف‬
‫َو قالوا ِح نَو َعيِنَك َو الُغـراَب‬ ‫َو خوُر ُم جاِش ٍع َتَر كوا َلقــيطًا‬
‫َلقيَن ِبَج نِبِه الَعَج َب الُعجــابا‬ ‫َو َأضُبُع ذي َم عاِر َك َقد َع ِلمُتم‬
‫َو ال ُوِج َدت َم كاِس ُر ُهم ِص البا‬ ‫َو ال َو َأبيَك ما َلُهـــم ُعقــــوٌل‬
‫َو ُشعثًا في ُبيوِتُك ُم ِس غــــــابا‬ ‫َو َليَلَة َر حَر حاِن َتَر كَت شيــبًا‬
‫ُثعاَلَة َح يُث َلم َتِج دوا َش ـرابا‬ ‫َر ِض عُتم ُثَّم ساَل َعلى ِلحاُك ــم‬
‫ُتَر ِّدُف ِع نَد ِر حَلِتها الِركــابا‬ ‫َتَر كُتم ِبالَو قيِط ُعضاِر طـــاٍت‬
‫َفَأمسى َج هُد ُنصَر ِتِه ِاغِتيابا‬ ‫َلَقد َخ ِز َي الَفَر زَدُق في َم ـَعٍّد‬
‫َترى لوكوِف َعبَر ِتِه ِانِص بابا‬ ‫َو القى الَقيُن َو الَنَخ باُت َغ ّم ــًا‬
‫َو ما َح ُّق ِابِن َبرَو َع َأن ُيهابا‬ ‫َفما ِه بُت الَفَر زَدَق َقد َع ِلمُتم‬

‫َص واِع َق َيخَض عوَن َلها الِر قابا‬ ‫َأَعَّد ُهَللا ِللُش َعراِء ِم ّنـــــــــــي‬
‫َم ـــــــَع الَقيَنيِن ِإذ ُغ ِلبا َو خابا‬ ‫َقَر نُت الَعبَد َعبَد َبني ُنَم ــيٍر‬
‫َفـــــــال َو َأبي َعراَد َة ما َأصابا‬ ‫َأتاني َعن َعراَد َة َقوُل ســوٍء‬
‫ِإذا ِاسَتأنوَك َو ِانَتــَظروا اِإل يابا‬ ‫َلِبئَس الَك سُب َتكِس ُبُه ُنَم ـــيٌر‬
‫َفَقد َو َأبيِهُم القـــــــــــوا ِس بابا‬ ‫َأَتلَتِمُس الِس باَب َبنو ُنَم ــــيٍر‬
‫ُأِتحُت ِم َن الَس ماِء َلهــا ِانِص بابا‬ ‫َأنا البازي الُم ِد ُّل َعلى ُنَم يٍر‬
‫َأصاَب الَقلَب َأو َهَتَك الِح جــابا‬ ‫ِإذا َع ِلَقت َم خاِلُبُه ِبَقـــــــرٍن‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪59‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫َج واِنَح ِللَك الِك ــــــِل َأن ُتصـــابا‬ ‫َترى الَطيَر الِع تاَق َتَظُّل ِم نُه‬
‫َو ال ُسِقَيت ُقبوُر ُهـــــُم الَس حابا‬ ‫َفال َص ّلى اِإل َلُه َعلـــــى ُنَم يٍر‬
‫َيشيُن َس واُد َم حِج ِر هــــا الِنقابا‬ ‫َو َخ ضراِء الَم غاِبِن ِم ن ُنَم يٍر‬
‫ُبَعيَد الَنوِم َأنَبَح ِت الِك ــــــــــالبا‬ ‫ِإذا قاَم ت ِلَغيِر َص ــــالِة ِو تٍر‬
‫َو ما َع َر َفت َأناِم ُلها الِخ ضــــاَب‬ ‫َو َقد َج َّلت ِنساُء َبنــــي ُنَم يٍر‬
‫َعلى ِتبراَك َخ َّبـــَثــِت الــــُترابا‬ ‫ِإذا َح َّلت ِنساُء َبنــــــي ُنَم يٍر‬
‫َعلى الميزاِن ما َو َز َنت ُذ بــــابا‬ ‫َو َلو ُوِز َنت ُح لوُم َبنـي ُنَم يٍر‬
‫َفِإَّن الَح رَب موِقَد ٌة ِش هــــــــابا‬ ‫َفَص برًا يا ُتيوَس َبنــي ُنَم يٍر‬
‫َلساَء َلــــــها ِبَم قَصَبتي ِس بــابا‬ ‫َلَعمرُو َأبي ِنساِء َبنـي ُنَم يٍر‬
‫َقــواٍف ال ُأريُد ِبـــها ِع تـــــــابا‬ ‫َس َتهِد ُم حاِئَطي َقرمـاَء ِم ّني‬
‫َو َلم َيتُركَن ِم ن َص نـــعــــاَء بابا‬ ‫َد َخ لَن ُقصوَر َيثِر َب ُم عِلماٍت‬
‫َو َيحمي َز أُر ها َأَج مًا َو غــــــابا‬ ‫َتطوُلُك ُم ِح باُل َبنـــــــي َتميٍم‬
‫َفال ُشكرًا َج ــــَز يَن َو ال َثوابــــا‬ ‫َأَلم ُنعِتق ِنساَء َبنـــــي ُنَم يٍر‬

‫َو َقد فاَر ت َأباِج ُلُه َو شـــــــــــابا‬ ‫َأَلم َتَر ني ُص ِببُت َعلـى ُع َبيٍد‬
‫َفَيشفي َح ُّر ُشعَلِتها الِج ــــــرابا‬ ‫ُأِع َّد َلُه َم واِس َم حاِم يــــــــاٍت‬
‫َفال َك عبًا َبَلـــغـــَت َو ال ِك ــــــالبا‬ ‫َفُغَّض الَطرَف ِإَّنَك ِم ن ُنَم يٍر‬
‫ِإلى َفرَعيِن َقد َك ُثرا َو طـــــــابا‬ ‫َأَتعِد ُل ِد مَنًة َخ ُبَثت َو َقـــّلـــَت‬
‫َو َض َّبــــُة ال َأباَلَك َأن ُيعــــــابا‬ ‫َو ُح َّق ِلَم ن َتَك َّنــَفـــُه ُنَم ــــيٌر‬
‫َو َك عٍب ِاَل غَتَص بُتُك ُم ِاغِتـــصــابا‬ ‫َفَلوال الُغُّر ِم ن َس َلفي ِك ــالٍب‬
‫ُترى ُبرُق الَعباِء َلُك ـــم ِثيــــابا‬ ‫َفِإَّنُك ُم َقطيُن َبنــــي ُس َليــــــٍم‬
‫َو َع َلـــَّي َأن َأزيَدُهــــــُم ِارِتيابا‬ ‫ِإذًا َلَنَفيُت َعبــــــَد َبني ُنَم يٍر‬
‫ِبراعي اِإل بِل َيحَتـِر ُش الِض بابا‬ ‫َفيا َع َج بي َأتوِع ــــُدني ُنَم يٌر‬
‫َتَقُّلَدَك اَألِص ــــَّر َة َو الِع ــــــــالبا‬ ‫َلَعَّلَك يا ُع َبيُد َح ِس بَت َح ربي‬
‫َنَهـضـــَت ِبُعـلـَبـــٍة َو َأَثرَت نابا‬ ‫ِإذا َنَهَض الِكراُم ِإلى الَم عالي‬
‫َو َتعِر ُفُه الِفصـــــــــاُل ِإذا َأهابا‬ ‫َيِح ُّن َلُه الِع فاُس ِإذا َأفـــاَقت‬
‫َك ما أوَلعَت ِبالـــــَد َبِر الُغـــرابا‬ ‫َفَأوِلع ِبالِع فاِس بني ُنَم ـــــيٍر‬
‫ُتَهِّيُج ُهم َو َتمَتِدُح الــــــِو طابا‬ ‫َو ِبئَس الَقرُض َقرُض َك ِع نَد َقيٍس‬
‫ُنجومًا ال َتروُم َلها ِط ـــــــــالبا‬ ‫َو َتدعو َخ مَش ُأِّم َك َأن َترانا‬
‫َو ال َعمرى َبَلغَت َو ال الـــِر بابا‬ ‫َفَلن َتسطيَع َح نَظَلتى َو ُس عدى‬
‫ِإذا ما اَألمُر في الَح ـــَدثاِن نابا‬ ‫ُقروٌم َتحِم ُل اَألعباَء َعنـــُك م‬
‫َو ُهم َم َنعوا ِم َن الَيَم ـــِن الُك البا‬ ‫ُهُم َم َلكوا الُم لوَك ِبذاِت َك هٍف‬
‫ُأسوَد َخ ِفَّيِة الُغلِب الـــِر قـــــابا‬ ‫َيرى الُم َتَعِّيدوَن َع َلَّي دوني‬
‫َح ِس بَت الناَس ُك ُّلـــــُهُم ِغ ضابا‬ ‫ِإذا َغ ِضَبت َع َليَك َبنو َتمــيٍم‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪60‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫ِبَبطِن ِم نًى َو َأعَظــُم ُه ِقبــــــابا‬ ‫َأَلسنا َأكَثَر الَثَقَليِن َر جــــــًال‬


‫ِبَدعوى ياَل ِخ نـــِد َف َأن ُيجابا‬ ‫َو َأجَد َر ِإن َتجاَسَر ُثــَّم نادى‬
‫َو َلم َيُك َس يُل َأوِدَيتــــي ِش عابا‬ ‫َلنا الَبطحاُء ُتفِع ُم ها الَس واقي‬
‫َشقاِش َقها َو هاَفَتِت الُلــعـــــــابا‬ ‫َفـــما َأنُتم ِإذا َعَد َلت ُقرومي‬
‫َترى في َم وِج ِج رَيِتِه ُع ـبـــابا‬ ‫َتَنَّح َفـــِإَّن َبحــــــري ِخ نِدِفٌّي‬

‫ُتَغَّر ق ُثَّم َيرِم ِبَك الَج ــنــــــــابا‬ ‫ِبَم وٍج َك الِج باِل َفِإن َتُر مـــــُه‬
‫ِبذي َز َلٍل َو ال َنَس بي ِائِتـشــــابا‬ ‫َفما َتلقى َم َح ِّلَي في َتمــيــــٍم‬
‫َترى ِم ن دوِنها ُر َتبًا ِص ــعـــابا‬ ‫َع َلوُت َع َليَك ِذ رَو َة ِخ نـــِدِفٍّي‬
‫َو َم ـــن َو ِر َث الُنــــُبَّو َة َو الِك تابا‬ ‫َلُه َح وُض الَنِبِّي َو سـاِقــــياُه‬
‫َو ِإن خاَطبَت َع َّزُك ــــُم ِخ طــــابا‬ ‫َو ِم ّنا َم ن ُيجيُز َح جيَج َج ـمٍع‬
‫َو َأعَظُم نا ِبغـــــــاِئَرٍة ِه ــضـــابا‬ ‫َس َتعَلُم َم ن ُأِع ُّز ِح مًى ِبَنـجـٍد‬
‫ِبَغوِر اَألرِض ُتنَتهـَُب ِانِتهـــابا‬ ‫ُأُع ُّز َك ِبالِح جاِز َو ِإن َتَسَّهــل‬
‫َفَقد َأسَم عَت َفِاسَتِم ِع الَج ــــوابا‬ ‫َأَتيَعُر يا ِابَن َبرَو َع ِم ن َبعيٍد‬
‫َك َأقواٍم َنَفحَت َلــُهــــــــــم ِذ نابا‬ ‫َفال َتجَز ع َفـــِإَّن َبنـــي ُنَم يٍر‬
‫َو َح َّيُة َأرَيحاَء لي ِاسَتجــــــــابا‬ ‫َشياطيُن الِبالِد َيَخ فَن َز أري‬
‫َك داِر السوِء َأسَر َع ِت الَخ ــرابا‬ ‫َتَر كُت ُم جاِش عًا َو َبنــي ُنَم يٍر‬
‫َو ِز دُت َعلـــى ُأنوِفِهُم الِع ـــالبا‬ ‫َأَلم َتَر ني َو َس مُت َبنـي ُنَم يٍر‬
‫َو َلّم ا َتقَتــــــِد ح ِم ّنـــي ِش هــابا‬ ‫ِإَليَك ِإَليَك َعبَد َبني ُنَم ـــــيٍر‬

‫ذاع صيت هذه القصيدة وحظيت بشهرة واسعة‪ ،‬ولعلها أشهر قصائد جرير سيرورة وتمثًال وذلك لما‬
‫صاحبها من حدث ومرويات‪ ،‬فقد ارتبطت بمالبسات تاريخية تتعلق بالصراع بين جرير والشعراء الذين‬
‫وقفوا له في إطار المهاجاة الطويلة‪.‬‬
‫وقد انهالت على هذه القصيدة المقوالت النقدية والتسميات من قبل القدما‪ ،‬فسموها بالفاضحة‪ ،‬والدامغة‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وقبل أن ينظم جرير هذه القصيدة أصابته حالة من الغضب والتوتر النفسي لما لحقه من خصومه‪ ،‬فعاش ليلة‬
‫كاملة من االنفعال ولم يطعم جفنه النوم حتى أتى على آخر بيت في القصيدة تقول الرواية‪ " :‬فجعل جرير ‪-‬‬
‫وهو ينظم القصيدة ‪ -‬يهمهم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه فإذا هو‬
‫يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه‪ ،‬فانحدرت فقالت‪ :‬ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬اذهبي‬
‫لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس‪ ،‬فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتًا في بني‬
‫نمير‪ ،‬فلما ختمها بقوله‪:‬‬
‫فـــال َك ْع بًا بلغَت َو ال ِكَالَبا‬ ‫ي‬
‫َم ٍر‬‫ُن‬ ‫من‬ ‫َك‬‫َّن‬ ‫إ‬ ‫فُغَّض الَّطْر َف‬

‫كبر‪ ،‬ثم قال‪ :‬أخزيُته ورب الكعبة"(‪.)57‬‬


‫وقد جاء في سبب نظم القصيدة خبرًا مطوًال في كتب األدب يقول‪:‬‬
‫(‬
‫‪ )57‬األغاني‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.34‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪61‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫"أن عرادة النميري كان نديما للفرزدق فقدم الراعي البصرة فقدم عرادة طعاما وشرابا فدعا الراعي‪ ،‬فلما‬
‫أخذت الكاس منهما قال عراده للراعي‪ :‬يا أبا جندل قل شعرا تفضل الفرزدق على جرير فلم يزل يزين له‬
‫ذلك حتى قال‪:‬‬
‫غلب الفرزدق في الهجاء جريرا‬ ‫يا صاحبي دنا األصيل فسيرا‬

‫فغدا به عرادة على الفرزدق فأنشده إياه‪ ،‬وكان عبيد الراعي شاعر مضر وذا سنها‪ ،‬فحسب جرير أنه‬
‫مغلب الفرزدق عليه‪ ،‬فلقيه يوم الجمعة‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا جندل إني أتيتك بخبر أتاني إني وابن عمي هذا ‪ -‬يعني‬
‫الفرزدق‪ -‬نستب صباحا ومساء وما عليك غلبة المغلوب وال عليك غلبة الغالب‪ ،‬فإما أن تدعني وصاحبي‬
‫وإما أن تغلبني عليه النقطاعي إلى قيس وحطي في حبلهم‪ ،‬فقال له الراعي‪ :‬صدقت ال أبعدك من خير‬
‫ميعادك المربد فصحبه جرير‪ ،‬فبينما هما يستخرج كل منهما مقالة صاحبه رآهما جندل بن عبيد فأقبل‬
‫يركض على فرس له فضرب بغلة أبيه الراعي‪ ،‬وقال‪ :‬مالك يراك الناس واقفا على كلب بني كليب؟ فصرفه‬
‫عنه‪ ،‬فقال جرير‪ :‬أما وهللا ألثقلن رواحلك‪ ،‬ثم أقبل إلى منزلة فقال للحسين روايته‪ :‬زد في دهن سراجك‬
‫الليلة وأعدد لوحا ودواة‪ ،‬ثم أقبل على هجاء بني نمير‪ ،‬فلم يزل يملي حتى ورد عليه قوله‪:‬‬
‫فـــال كعبا بلغت وال كالبا‬ ‫فغض الطرف إنك من نمير‬

‫فقال‪ :‬حسبك أطفئ سراجك ونم فرغت منه‪ ،‬ثم إن جريرا أتم هذه بعد وكان يسميها الدامغة أو الدماغة‪ ،‬وكان‬
‫يسمى هذه القافية المنصورة‪ ،‬ألنه قال قصائد فيها كلهن أجاد فيها‪ ،‬وبعد أن أتمها أدخل طرف ثوبه‬

‫بين رجليه‪ ،‬ثم هدر فقال‪ :‬أخزيت ابن يربوع‪ ،‬حتى إذا أصبح غدا ورأى الراعي في سوق اإلبل‪ ،‬فأتاه وأنشده‬
‫إياها حتى وصل إلى قوله‪:‬‬
‫إذا ما األير في است أبيك غابا‬ ‫أجندل ما تقول بنو نمير‬

‫فقال الراعي‪ :‬شرا وهللا تقول‪:‬‬


‫ترى من دونها رتبا صعابا‬ ‫علوت عليك ذروة خنـدفي‬
‫ومــن ورث النبوة والكتابا‬ ‫لنا حوض النبي وساقــياه‬
‫حسبت الناس كلهم غضابا‬ ‫إذا غضبت عليك بنو تميم‬
‫فال كـعــبًا بلغت وال كـــالبا‬ ‫فغض الطرف إنك من نمير‬

‫فقال الراعي وهو يريد نقضها‪:‬‬


‫تعرض حول دجلة ثم هابا‬ ‫أتاني أن جحش بني كليب‬
‫بحيث ينازع الماء السحابا‬ ‫فأولى أن يظل البحر يطفو‬
‫أغـــر ترى لجريتـه حبــــابا‬ ‫أتاك البحر يضرب جانبيه‬

‫ثم كّف ورأى أن ال يجيبه‪ ،‬فأجاب عنه الفرزدق على روي قوله‪:‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪62‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫إذا مــا أعظم الحدثان نابا‬ ‫أنا ابن العاصمين بني تميم‬

‫ثم إن الراعي قال البنه‪ :‬يا غالم بئسما كسبنا قومنا‪ ،‬ثم قام من ساعته وقال ألصحابه‪ :‬ركابكم فليس لكم ها هنا‬
‫مقام فضحكم جرير‪ ،‬فقال له بعض القوم‪ :‬ذلك بشؤمك وشؤم ابنك‪ .‬وسار إلى أهله فلما وصل إليهم سمع عند‬
‫القدوم "فغض الطرف إنك من نمير ‪ "..‬وأقسم باهلل ما بلغها إنسي وإن لجرير ألشياعا من الجن‪ ،‬فتشاءمت به‬
‫بنو نمير وسبوه وسبوه ابنه وهم يتشاءمون به إلى اآلن(‪.)58‬‬
‫وقد نسجت روايات عديدة حول أثر هذه القصيدة‪ ،‬ومسيرها مثًال بين الناس‪ ،‬ويسلط الضوء بالذات على‬
‫بيت واحد في القصيدة حول بني نمير‪ ،‬فقد روى الجاحظ(‪" :)59‬ان امرأة مرت بمجلس من مجالس بني نمير‬
‫فتأملها ناس منهم فقالت‪ :‬يا بني نمير ال قول هللا سمعتم‪ ،‬وال قول الشاعر أطعتم؛ قال هللا تعالى‪ " :‬قل‬
‫للمؤمنين يغضوا من أبصارهم"‪ ،‬وقال الشاعر‪:‬‬
‫فـــال كعبا بلغت وال كالبا‬ ‫فغض الطرف انك من نمير‬

‫ويروي الجاحظ(‪ )60‬مشيرا ‪ -‬في موضع آخر ‪ -‬إلى فعل هذه القصيدة في بني نمير‪" :‬وإذا كان بيت واحد‬
‫يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والَع دد والَفعال مثل ُنمير يصير أهُله إلى ما صارت إليه ُنمير وغير نمير‬
‫فما ظُّنَك بالُّظَليم وبمناف وبالَح ِبطات وقد بلغ مضَّر ُة جرير عليهم حيُث قال‪:‬‬
‫فال كعبًا بلغَت وال كالبا‬ ‫َفُغَّض الَّطْر َف إَّنَك ِم ن ُنمير‬

‫إلى أن قال شاعر آخر وهو يهجو َقْو مًا آَخ رين‪:‬‬
‫كما وضَع الِهجاُء َبِني ُنمْيِر‬ ‫وَس وَف يزيُدكم َض عًة ِهَج اِئي‬

‫وحّتى قال أبو الُّر َدْينّي ‪:‬‬


‫َم تى َقَتَلْت ُنمْير َم ْن َهَج اَها‬ ‫َأُتوِع ُد ِني ِلَتْقُتَلِني ُنمْيٌر‬

‫وقد ابتنت القصيدة على غير مبنى القصائد األخرى في مقدمتها‪ ،‬فلم تلتزم بالطلل والديار‪ ،‬بل بدأت بالغزل‬
‫الرقيق‪ ،‬ثم األفتخار وبعد ذلك يأتي الهجاء الذي صال وجال فيه جرير‪ ،‬حتى رّوع الخصوم وأفزعهم‪.‬‬
‫والقارئ للقصيدة يجد فيها عنفونًا ولغة غاضبة وأسلوبًا ساخرًا يظهر الشاعر في هياج وانتقام‪ ،‬حتى في بداية‬
‫القصيدة الغزلية يظهر انفعال الشاعر وسخطه في إقالل اللوم‪ ،‬وهياج البرق والتهاب القلب لهابا‪ ،‬وسوء‬
‫العالقة مع المحبوب‪.‬‬
‫ًا‬
‫أما الهجاء فشغل معظم القصيدة‪ ،‬وتناول الشاعر عدد من الشخصيات وقبائلهم‪ ،‬وصب عليهم وابًال من‬
‫العيوب وألصق بهم المخازي‪ ،‬ومن تلك الشخصيات الفرزدق والراعي النميري وغيرهم‪.‬‬
‫ومما زاد في قوة القصيدة إيقاعها الراقص الذي وفق الشاعر وأجاد في اختياره وزنًا وقافية بتمازج وانسجام‬
‫زاد في حسن المبنى‪ ،‬وعمق المعنى‪.‬‬
‫فوزن الوافر من األوزان السريعة التي ال يتلكأ فيها المعنى ‪ ،‬وال تتأرجح فيها المفردات‪ ،‬وإنما تنساب‬
‫وتتوالى تأخذ برقاب بعضها وهذا ما فعله الشاعر بصياغته واختياره لمفرداته يساعده هذا الوزن اإليقاعي‪.‬‬
‫(‬
‫‪ )58‬خزانة األدب‪ ،‬للبغدادي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.90- 87‬‬
‫(‬
‫‪ )59‬البيان والتبيين‪ ،‬للجاحظ‪ ،‬ص‪.576‬‬
‫(‬
‫‪ )60‬الحيوان‪ ،‬للجاحظ‪،‬ج‪ ،1‬ص‪.364‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪63‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫فالوافر بحر عروضي ينتمي إلى المجموعة األولى التي تتكرر في شطريها تفعلية واحدة ‪ ،‬وتفعلية الوافر هي‬
‫"مفاعلتن" تتكرر ست مرات" وهي تفعلية يتسم إيقاعها بالتموج الحركي والتفخيم‪ ،‬فيحدث جلجلة تتناسب مع‬
‫القضايا الجدية‪.‬‬
‫ًا‬
‫وتأتي القافية بحرف الروي الباء المطلقة بحرف الخروج األلف لتعطي البيت الشعري انطالق غير محدود في‬
‫نهايته‪ ،‬فيما اإليقاع مع ألف اإلطالق بعد أن يحدث روي الباء الصامت وقفة تهز المشاعر‪ .‬فالباء من حروف‬
‫الذالقة التي تتصف بالطالقة والوضوح‪ ،‬ومن ثم تحدث إيقاعًا فخمًا قويًا في قوافي الشعر سواء جاءت مطلقة‬
‫أو مقيدة‪.‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪64‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫خالصة البحث‪:‬‬
‫تفرد هجاء جرير عن غيره بميزتين عامة وخاصة‪ :‬أما العامة فهي الرعاية الرسمية من قبل الخلفاء‬
‫واألمراء لفن الهجاء المعروف بفن النقائض عمومًا‪ ،‬وأما الخاصة فإن جريرا كان يقف لوحده أمام جيش كبير‬
‫من الشعراء الخصوم المهاجمين وهو في موقف الدفاع والرد‪.‬‬
‫ولقد حار النقاد في الحكم على شعر جرير وتفضيله‪ ،‬فبعضهم يرى أن شعر جرير هو ذلك الشعر السهل في‬
‫ألفاظه الميسور في معانيه ودالالته وهو ما جعله سائرًا متمكنًا في وجدان العامة‪ ،‬لكن هذا الرأي إذا سلمنا‬
‫بصوابه ال يمنع اهتمام الخاصة به ومتابعتهم له تماما كما هو حظ غيره من الشعراء األقران‪.‬‬
‫والقارئ لشعر جرير والذي غلب عليه موضوع الهجاء والمهاجاة يجده ذا لغة متينة وقوية بعيدة عن‬
‫اإلغراب إلى حد كبير‪ ،‬وتميز أسلوب جرير بتوجيهالخطاب مباشرة نحو المخاطب المهجو وحفل شعره‬
‫بصور بالغية قائمة على التشبيهات واالستعارات وبعض الكنايات‪ ،‬كماعتمد على مصطلحات ومسميات‬
‫مكروهة وظفها في هجائه تجاه الخصوم‪ ،‬حتى إنه وصل في بعض األحيان إلى حالة الفحش واإلقذاع‬
‫واإليالم‪.‬‬
‫ًا‬
‫ورغم ذلك يبقى الهجاء في تلك الفترة ومنه هجاء جرير نوع من العمل الفني المحترف ال يثير الخصومات‬
‫كتلك التي كان يثيرها الهجاء في العصر الجاهلي‪.‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪65‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬
‫د‪ /‬عبدالكريم حسين رعدان‬ ‫البعد البالغي في شعر جرير الهجائي ( دراسة بالغية نقدية )‬

‫المصادر والمراجع‬
‫األدب المفرد‪ ،‬للبخاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبدالباقي ‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية ‪ -‬بيروتالطبعة الثالثة ‪– 1409 ،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪1989‬م‪.‬‬
‫األغاني‪ ،‬ألبي فرج األصفهاني‪ ،‬تحقيق‪ :‬سمير جابر‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫األمالي في لغة العرب‪ ،‬ألبي علي القالي دار الكتب العلمية – بيروت ‪1398‬هـ ‪1978‬م‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫البيان والتبيين‪ :‬لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‪ ،‬تحقيق ‪ :‬المحامي فوزي عطوي‪ ،‬دار صعب – بيروت الطبعة‬ ‫‪-4‬‬
‫األولى ‪1968‬م‪.‬‬
‫البداية والنهاية‪ ،‬البن كثير‬ ‫‪-5‬‬
‫تاريخ آداب العرب‪ ،‬للرافعي‪،‬‬ ‫‪-6‬‬
‫تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم‪ .‬للذهبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬عمر عبد السالم تدمري‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬لبنان ‪-‬‬ ‫‪-7‬‬
‫بيروت‪،‬الطبعة األولى ‪1407‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫الحيوان‪ ،‬الجاحظ‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم محمد هارون‪ ،‬دار الجيل ‪ -1416‬بيروت لبنان‪،‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬ ‫‪-8‬‬
‫خاص الخاص‪ ،‬ألبي منصور الثعالبي‪ ،‬تحقيق ‪ :‬حسن األمين‪ ،‬دار مكتبة الحياة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫خزانة األدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد نبيل طريفي‪ ،‬وإميل بديع اليعقوب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬ ‫‪-10‬‬
‫بيروت‪،‬‬
‫ديوان جرير‪ ،‬دار صادر بيروت لبنان‪.‬‬ ‫‪-11‬‬
‫ديوان حسان بن ثابت‪ ،‬شرحه وضبطه‪ :‬د‪.‬عمر فاروق الطباع‪ ،‬دار القلم للطباعة والنشر بيروت لبنان‪.‬‬ ‫‪-12‬‬
‫ديوان المعاني‪ ،‬ألبي هالل العسكري‪.‬‬ ‫‪-13‬‬
‫سنن الترمذي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر وآخرون‪ ،‬دار إحياء التراث العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-14‬‬
‫سنن أبي داود‪ ،‬تعليق‪ :‬عزت الدعاس‪ ،‬دار الحديث حمص‪ ،‬الطبعة األولى ‪1969‬م‪.‬‬ ‫‪-15‬‬
‫الشعر والشعراء‪ ،‬البن قتيبة‪ ،‬دار إحياء العلوم بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪1404‬هـ‪1984 /‬م‬ ‫‪-16‬‬
‫طبقات فحول الشعراء‪ ,‬البن سآلم الجمحي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محّم د شاكر ‪ ,‬دار المدني ‪ ,‬جدة‪،‬‬ ‫‪-17‬‬
‫العصر الجاهلي‪ ،‬شوقي ضيف‪ ،‬دار المعارف الطبعة الثامنة‪.‬‬ ‫‪-18‬‬
‫العمدة البن رشيق‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد قرقزان‪ ،‬دار المعرفة بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة األولى ‪1408‬هـ‪1988/‬م‬ ‫‪-19‬‬
‫لسان العرب‪،‬البن منظور‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪.‬‬ ‫‪-20‬‬
‫الكامل في اللغة واألدب‪ ،‬للمبرد‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار الفكر العربي – القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1417‬‬ ‫‪-21‬‬
‫هـ ‪ 1997 -‬م‪.‬‬
‫محاضرات األدباء‪ ،‬الراغب األصفهاني‪.‬‬ ‫‪-22‬‬
‫المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها‪ ،‬عبد هللا الطيب المجذوب‪ ،‬دار جامعة الخرطوم للنشر‪ ،‬الطبعة الرابعة‬ ‫‪-23‬‬
‫‪1991‬م ‪،‬‬
‫معاهد التنصيص على شواهد التلخيص‪ ،‬للعباسي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين عبد الحميد عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-24‬‬
‫‪1367‬هـ ‪1947‬م‪.‬‬
‫المفصل فى تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬د‪ .‬جواد علي‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1422‬هـ‪2001 /‬م‪.‬‬ ‫‪-25‬‬
‫الموشح للمرزباني‬ ‫‪-26‬‬

‫العدد األول يناير‪ -‬يونيو ‪2013‬م‬


‫‪66‬‬ ‫مجلة جامعة الناصر‬

You might also like