Professional Documents
Culture Documents
Re 2
Re 2
بالغية
دراسةبالغية
الهجائي( (دراسة جريرالهجائي
شعرجرير
البالغيفيفيشعر
البعدالبالغي
البعد
د /عبدالكريم حسين رعدان نقدية) )
نقدية
نائب عميد كلية التربية -سقطرة
تفرد هجاء جرير عن غيره بميزتين عامة وخاصة :أما العامة فهي الرعاية الرسمية
الملخص
من قبل الخلفاء واألمراء لفن الهجاء المعروف بفن النقائض عمومًا ،وأما الخاصة فإن
جريرا كان يقف لوحده أمام جيش كبير من الشعراء الخصوم المهاجمين وهو في موقف
الدفاع والرد.
2
ولقد حار النقاد في الحكم على شعر جرير وتفضيله ،فبعضهم يرى أن شعر جرير هو
ذلك الشعر السهل في ألفاظه الميسور في معانيه ودالالته وهو ما جعله سائرًا متمكنًا في
وجدان العامة ،لكن هذا الرأي إذا سلمنا بصوابه ال يمنع اهتمام الخاصة به ومتابعتهم له
تماما كما هو حظ غيره من الشعراء األقران.
والقارئ لشعر جرير والذي غلب عليه موضوع الهجاء والمهاجاة يجده ذا لغة متينة
وقوية بعيدة عن اإلغراب إلى حد كبير ،وتميز أسلوب جرير بتوجيهالخطاب مباشرة
نحو المخاطب المهجو وحفل شعره بصور بالغية قائمة على التشبيهات واالستعارات
وبعض الكنايات ،كماعتمد على مصطلحات ومسميات مكروهة وظفها في هجائه تجاه
الخصوم ،حتى إنه وصل في بعض األحيان إلى حالة الفحش واإلقذاع واإليالم.
ورغم ذلك يبقى الهجاء في تلك الفترة ومنه هجاء جرير نوعًا من العمل الفني المحترف
ال يثير الخصومات كتلك التي كان يثيرها الهجاء في العصر الجاهلي.
مقدمة
الهجاء مصطلح مخيف -كان -بالنسبة لمن عاشوا في أزمان األدب العربي القديم ،أما نحن اليوم
فهو -لدينا -غرض من أغراض الشعر التقليدية ،ندرسه ضمن فنيات وأطر بحثية نقدية وتأريخية وغيرها.
فقد كان الهجاء -في وعي من أنتجه وتلقاه -واحدًا من أدوات الصراع الفتاكة في المجتمعات العربية
وخاصة في العصر الجاهلي ،وامتد إلى العصر اإلسالمي وُاستخدم في المواجهات الدائرة بين المسلمين
والمشركين إبان إنطالق الدعوة اإلسالمية من قبل الطرفين ،وقد ورد عن النبي صلى هللا عليه وسلم قوله
لحسان بن ثابت في غزوة أحد" :أهجهم فوهللا لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام ،في غلس الظالم ،أهجهم
ومعك جبريل روح القدس ،والَف أبا بكر يعلمك تلك الهَّنات"( .)1والهَّنات هي العيوب والمثالب التي كان
يعرفها أبو بكر في أنساب قريش وأخبارهم.
ولعل شعر الهجاء أقدر من غيره من موضوعات وأغراض الشعر األخرى في امتالكه مقومات حفظه
وروايته ومن ثم تدوينه ،إذ يمتلك عنصر السخرية والتندر فيجعل المتلقي مشدودًا ومنجذبًا لمتابعة ما يحويه
من النقد الفردي أو االجتماعي الالذع.
وهذه الدراسة تقف -بصورة معمقة – على جزئية ربما غابت عن الكثير وهي البعد البالغي في مهاجاة
جرير ،وبيان األثر الذي جعل جرير يتفوق على أقرانه في فن الهجاء ،وما أحدثه من دوي وفاعليه في التأثير
النفسي واالجتماعي فاق كل تصور.
فيذكر النقاد القدماء أن شعر جرير كان ذا سيرورة وانتشار بين العامة أكثر منه بين الخاصة ،وهو ما
جعلهم يفضلون الفرزدق لسيرورة شعره بين الخاصة ،إال أن هذا الحكم غير دقيق ،فالواقع يؤكد أن أشعار
جرير والفرزدق ومعهما األخطل -وخاصة في تلك النقائض التي دارت رحاها بينهم -كان الخلفاء وعْلَية
القوم وخاصتهم يتلقونها لحظة بلحظة ،ولم يغب عنهم منها شيء ،وما يفتأون يسألون عن كل بيت قاله كل
من هؤالء الشعراء الثالثة ،ويبدون عليه مالحظاتهم ،حتى إنه"لما بلغ عبد الملك بن مروان قول جرير:
لو شئُت ساقُك م إلّي َقطينا هذا ابن عِّم ي في ِد َم ْشق خليفًة
قال ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطيا أما إنه لو قال:
(لو شاء ساقكم إلّي قطينا) لسقتهم إليه كما قال"( .)2وأخبار كثيرة مماثلة في هذا الصدد.
بيد أن جريرًا -في تقديري – كان أكثر حظوة من صاحبيه في اهتمام العامة بشعره وتناقله وحفظه أكثر من
اهتمامهم بشعر صاحبيه ،ويتضح بذلك قولهم( )3بأن أهجى بيت قالته العرب في اإلسالم من غير فحش هو
قول جرير:
َل
ال َك عبًا َب غَت َو ال ِك الباَف َفُغَّض ال رَف ِإ َك ِم ن َم يٍر
ُن َّن َط
(
)1سنن الترمذي ،تحقيق :أحمد محمد شاكر وآخرون ،دار إحياء التراث العربي – بيروت،ج ،8ص .63وسنن أبي داود ،رقم الحديث(
.)5015
(
)2األغاني ،ألبي فرج األصفهاني ،تحقيق :سمير جابر ،الطبعة الثانية ،دار الفكر ،بيروت،ج ،8ص.65 ،64
(
)3ينظر :تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم .للذهبي ،تحقيق :د .عمر عبد السالم تدمري ،دار الكتاب العربي ،لبنان -
بيروت،الطبعة األولى 1407هـ 1987 -م .ج ،7ص.41
ثم إن سيرورة شعر جرير بين العامة تأكيد على قوته الهجائية ،فتراهم يحفظونه ويتشافهون به تندرًا بالمهجو،
وإعجابا بما فيه من تشنيع ومعايب.
وعلى أية حال سيناقش هذا البحث في البداية على جرير وحياته الشعرية والظروف التي دفعت به إلى زمن
أفناه في الصراع والمهاجاة ،ثم يمر الحديث على المفهوم األدبي للهجاء بصورة عجلى ،ليتوقف النقاش بشيء
من التأمل في لغة الهجاء لدى جرير وأسلوبه البالغي ،وأثر الهجاء وفاعليته ،والتوقف مع نصين طويلين من
نقائض الهجاء بالتحليل السريع.
وقد اعتمدت في إيراد معظم النصوص واالستشهادات الشعرية وضبطها على ديوان جرير الصادر عن دار
صادر دون اإلشارة إليها في الهامش نظرًا لوفرتها وما عدا ذلك تمت اإلشارة إليه في موضعه.
المفهوم األدبي للهجاء
ينصرف الهجاء في مبناه اللفظي إلى السب والشتم والذم ،وقد جاء في اللسانَ" :هجاه َيْهُجوه َهْج وًا وِه جاء
وَتْهجاء ،مدود :شتمه بالِّش عر ،وهو خالف الَم ْد ح .قال الليث :هو الَوِقيعُة في اَألْش عار"(.)4
والهجاء واحد من األغراض والموضوعات الشعرية األكثر جذبًا للمتلقي بالمقارنة مع األغراض األخرى،
ويأتي الهجاء مصاحبًا للفخر ،وقد يأتي مستقًال عنه في القصائد والمقطوعات القصيرة .والهجاء هو "فصل
المرء عن مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قومية الجماعة ،وتركه عضوًا ميتًا يتواصفون ازدراءه"( .)5فهو
ُيبنى -أي الهجاء -على ذكر المعايب والقبائح لألفراد أو القبيلة ،بالطعن في األنساب وإلصاق تهمة الجبن
والبخل والتشنيع بالمهجو .وقد يكون ذلك اختالقًا وأكاذيب.
وتوليد معاني الهجاء واختيار مفرداته قد ال تكون مستعصية على الشعراء "وقد قيل لشاعر :أنت ال تحسن
الهجاء ،فقال :بلى وهللا أتراني ال أحسن أن أجعل مكان عافاك هللا أخزاك هللا"(.)6
وفي كل العصور األدبية وإلى اليوم مارس الشعراء فن الهجاء .فالعصر الجاهلي هو الفترة الذهبية للهجاء،
حيث فاعليته النافذة وأثره االجتماعي والنفسي ،ويمكن أن نطلق عليه في تلك الفترة "بالهجاء المبكي".
فأعراف المجتمع الجاهلي القائمة على الصرامة في العادات والصفات اللصيقة بالشخصية ،ال تقبل الجرح أو
التعرض والمس خاصة في جانب العرض والنسب والشجاعة والكرم ،ولذلك كان للهجاء أثره البالغ المؤلم
"وألمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء ،وهذا من أول كرمها ،كما بكى مخارق بن شهاب،
وكما بكى علقمة بن عالثة ،وكما بكى عبد هللا بن جدعان" (.)7
ونرى قيس بن الحدادية يقول واصفًا اندفاع القوم في الحرب خوف مسبة الهجاء:
َو َيبروَن َأعداَء ُهم ِبالَح َر ب .
()8
ُيَلّبوَن في الَح رِب َخ وَف الِهجاِء
وللهجاء طقوس خاصة ،في النظم واألداء "فالشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة خاصة ،ولعلها كحلل
الكهان ،وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقي رأسه ،وانتعل نعاًل واحدة ،ونحن نعرف أن حلق
الرأس كان من سننهم في الحج ،وكأن شاعر الهجاء كان يتخذ نفس الشعائر التي يصنعها في حجه وأثناء
(
)4لسان العرب،البن منظور ،دار صادر ،بيروت ،الطبعة األولى .مادة (هجا).
(
)5تاريخ آداب العرب ،للرافعي ،دار الكتب العلمية ،بيروت لبنان ،الطبعة األولى 2000م .ج ،3ص.81
(
)6األغاني ،ج ،1ص.330
(
)7الحيوان ،الجاحظ ،تحقيق :عبد السالم محمد هارون ،دار الجيل -1416بيروت لبنان،هـ 1996 -م .ج ،1ص.200
(
)8األغاني ،ج ،14ص.148
دعائه لربه أو ألربابه ،حتى تصيب لعناُت هجائه خصومه بكل ما يمكن من ألوان األذى وضروب النحس
المستمر"(.)9
وقصائد الهجاء تمتاز عن غيرها بسرعة الذيوع والسيرورة ،يلقيها الشاعر شفاهية فيتلقفها الرواة ومنهم إلى
الناس ،وال يمكن أن ُيحال بينها وبين االنتشـار ،حيث يتحول المتلقي إلى ملٍق من جديد ،وقــد روي :أن
عمير بن جعبل حين هجا قومه ندم علـى هجائه لهم ولكن بعد فـوات األوان ،فقد انتشرت القصيدة في اآلفاق
وسمع بها القاصي والداني ،يقول(:)10
مضت واستتبت للـرواة مذاهبه ندمت علـى شتم العشيرة بعدمــا
كما ال يرد الدّر في الضرع حالبه فأصبحت ال أستطع دفعًا لما مضى
(1
ونتيجة لسرعة انتشار الهجاء " تجَّنب األشراف ُم َم ازحة الشاعر ،خوف لفظة ُتْسمع منه مزحًا فتعود جدًا"
.)1
يقول شوقي ضيف" :فالهجاء في الجاهلية كان ال يزال ُيْقَر ن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية األولى من
شعائر ،ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتطيرون منه ويتشاءمون ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى
ذلك سبياًل .ونحن نعرف أن الغزو والنهب كان دائًرا بينهم؛ غير أن المغيرين إن أغاروا ونهبوا إباًل بينها
إبل لشاعر ،وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطروا اضطراًرا إلى ردها أو على األقل يردون ماله هو
وإبله .يروي الرواة أن الحارث بن ورقاء األسدي أغار على عشيرة زهير ،واستاق فيما استاق إباًل له
وغالًم ا ،فنظم زهير أبياًتا يتوعده بالهجاء المقذع ،يقول فيها:
باق كما دنس القبطية الودك َف ليأتينك مني منطق قذع
أما الهجاء بمفهومه العام السابق فقد َخ َفَت صوته في صدر اإلسالم ،وخَّفت لهجته لنهي اإلسالم عن التعرض
لألعراض والقدح واإلفتراء بغير الحق ،فقد نقل عن الرسول هللا صلى هللا عليه و سلم قوله" :إن أعظم الناس
جرما إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها ورجل تنفى من أبيه"(.)14
ولهذا رأينا عمر بن الخطاب يلزم الشعراء بعدم التعرض للمسلمين بالهجاء والتشبيب ،وقد سجن الحطيئة
رائد الهجاء أنذاك ،واشترى منه أعراض المسلمين ،وفي ذلك يقول الحطيئة يشكو عدم فاعلية هجائه للقيود
المفروضه عليه(:)15
َشتمًا َيُضُّر َو ال َم ديحًا َينَفُع َو َأَخ ذَت َأطراَر الَك الِم َفَلــم َتَدع
َشتمي َفَأصَبَح آِم نًا ال َيفَز ُع َو َم َنعَتني َشتَم الَبخيِل َفَلم َيَخ ف
وفي العصر األموي عادت العصبيات السياسية والقبلية كما كانت في العصر الجاهلي أو أشد ،ونما مع هذه
العصبيات الهجاء الشعري.
وتطور إلى مفاخرات منظمة كانت تجري بين الشعراء الثالثة جرير والفرزدق واألخطل في المربد حتى
اصطلح على تلك المفاخرات بفن النقائض فيما بعد.
فالنقائض هي تحول الهجاء من غايته الجادة إلى غاية المتعة ،وسد حاجات الجماعة ،وإضفاء المرح على
مجالس األمراء وما إلى ذلك ،حيث يقوم شاعر قبيلة بنظم قصيدة يفخر فيها بأمجاد قومه ،ويتعرض
لخصومها من القبائل األخرى بالهجاء ،فينبري له شاعر من شعراء تلك القبائل يرد عليه بقصيدة مماثلة في
الوزن والقافية(.)16
وكان لهذه النقائض عوامل تعين على نموها وانتشارها ،منها عوامل اجتماعية ،تتمثل في إشغال فراغ الناس
بضرب من المالهي إلى جانب الدرس العلمي الجاد في البصرة وغيرها من المدن.
فإذا صاغ الفرزدق قصيدة يفخر فيها بأمجاد قومه ومآثرهم ،رد عليه جرير ينفي عليه ادعاءه بقصيدة على
وزن وروي القصيدة األولى ،وهكذا يفعل جرير مع األخطل وغيره من الشعراء الذين يتعرضون له ،فينبري
لهم جرير مظهرًا البراعة األدبية والتفوق عليهم.
ومما زاد من قوة شعر النقائض أن شعراءها لم يسعوا إليها بدافع نيل العطاء من قبل المهجو أو من له
مصلحة في تلك المهاجاة ،كما هو الغالب على كثير من شعراء الهجاء مثل الحطيئة وغيره ،فأدى إلى استقالل
قصيدة الهجاء عن التصنع وجعل الدافع العاطفي منها قويًا.
ومما شَّجع على نمو هذا النوع الشعري تفتح العقل العربي على علوم أخرى تسربت من غير العرب وقادت
إلى معترك من الجدل والمناظرة ،فانعكست على شعر النقائض.
ويأتي عامل آخر وهو دور الخلفاء في تأجيج نار العداوة بين الشعراء بتشجيعهم وتفضيل شاعر على آخر،
بغرض الترفيه والتسلية أحيانًا ،ولصرف الشعراء والقبائل عن السلطة وإشغالهم بأنفسهم أحيانًا .كما كان
الناس يشجعون هذه المفاخرات الشعرية ،ويجتمعون ويهتفون ويصفقون تعصبًا لهذا أو لذاك ،واستمرت هذه
النقائض دائرة بين هوالء الشعراء قرابة نصف قرن من الزمن( ،)17تغذيها تلك العوامل ،حتى أصبحت
النقائض ضربًا من اللهو ألنها ال تجُّر إلى الحروب والمنازعات كما كانت في الزمن الجاهلي.
وال بد من اإلشارة إلى أن تلك النقائض لم تكن مقصورة على قصائد طوال ،فهي تدور أحيانًا على
مساجالت شعرية ببيت أو بيتين ،ومن ذلك ما رواه األصفهاني "أن جريرا والفرزدق اجتمعا عند بشر بن
(
)15ينظر :خزانة األدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي ،تحقيق :محمد نبيل طريفي ،وإميل بديع اليعقوب ،دار الكتب العلمية ،بيروت،
1998م .ج ،3ص.278
(
)16ينظر :العصر اإلسالمي شوقي ضيف ،ص.242 ،241
(
)17ينظر :طبقات فحول الشعراء ,البن سآلم الجمحي ،تحقيق :محمود محّم د شاكر ,دار المدني ,جدة ،ج ،2ص .389
مروان فقال لهما بشر :إنكما قد تقارضتما األشعار وتطالبتما اآلثار وتقاولتما الفخر وتهاجيتما فأما الهجاء
فليست بي إليه حاجة فجددا بين يدي فخرا ودعاني مما مضى فقال الفرزدق
فَم ْن ذا ُيساِو ي بالَّس َناِم المناسَم ا نحن الَّس َناُم والَم َناِس ــــُم غيُر نا
فقال جرير
وكـــــُّل َس َنـــــــاٍم تابٌع للَغَالِص ِم َأل
على موضع ا ْس تاِه أنتم زعمُتُم
فقال الفرزدق
أَال إَّن فوق الَغْلَص مات الَج َم اِج َم ا ُمزعمُت مـأنت ث ْرَف لل ْح
َم َر ٍث على
فقال جرير
وال هـــــــاَم إال تابــــــٌع للَخ َر اطم وأنبأُتمونا أنكم هاُم قوِم ـــــــكم
فقال الفرزدق
من الناس ما ِز لنا ولسنا َلَهاِزَم ا فنحن الِّز ماُم القائُد المقتَدى به
فقال جرير
فتاهت كساٍر طاِئش الرأِس عاِرِم فنحن َبِني زيد قطعنا ِز ماِم ـــها
فقال بشر غلبته يا جرير بقطعك الزمام وذهابك بالناقة وأحسن الجائزة لهما وفضل جريرا"(.)18
جرير حياته وثقافته الهجائية
جرير بن عطية بن الَخ َطفي اليربوعي التميمي ،ولقبه أبو حرزة من كبار شعراء العصر األموي ،ولد
ومات باليمامة ،وكان شاعرًا هجاء ،وأحد رواد شعر النقائض الذي شغل الناس قديما وحديثًا.
نشأ جرير فقيرًا يرعى إبل قومه ،وبدأ نظم الشعر في مطلع حياته رجزًا منذ المهاجاة بين غّسان السليطي
وبين الخطفي جده في أيام معاوية ،ثم إن جريرًا مدح يزيد بن معاوية وأخذ منه جائزة هي أول جائزة من
خليفة(.)19
ولما أشتد النزاع بين بني أمية وبين عبد هللا بن الزبير وقف جرير في صفوف القيسيين من أنصار ابن
الزبير ُيهاجي القحطانية أنصار بين أمية.
انحدر جرير من اليمامة إلى البصرة مركز الحركة السياسية ،وميدان شعراء المناقضات ،واتصل بالحكم
بن أيوب ابن عم الحجاج وعامله على البصرة حوالي سنة 75هـ ،فوجهه الحكم إلى الحجاج فمدحه ونال
جوائزه ،ولكن الحجاج أراد أن يحبو الخليفة عبد الملك بهذا الشاعر الموهوب ،فوجهه إليه ،ومع أن عبد
الملك ال يحب االستماع إلى شعراء القيسية لكن توصية الحجاج بجرير أقنعت الخليفة باالستماع إليه ،فمدحه
بالقصيدة المشهورة ومطلعها:
ِحوا َرـ الِب َكُب ـ ح َص َّم َه َةَّي ِش َع ِحصا ُري َأَتصحو أْم ُفؤاُدَك َغ
(
)18األغاني ،ج ،8ص.40
(
)19ينظر في ترجمته :األغاني،ج ،8ص .5والشعر والشعراء ،ص.96
وال يكاد التاريخ يذكر جرير إال ويقترن معه الفرزدق وهما شاعران كبيران يلتقيان في قبيلة تميم ،األول من
عشيرة كليب اليربوعية ،والثاني من عشيرة مجاشع الدارمية.
يكاد االجماع بين النقاد قديما يتم على أن جرير في مقدمة الشعراء العرب ،بل قال بعضهم" :جرير أشعر
العرب كلها"(.)20
بل وصل األعجاب بجرير وشاعريته لدى بعضهم إلى التنبؤ بقيادة جرير لموكب الشعراء والفصل بينهم يوم
القيامة حيث قال" :ال يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجيء جرير فيحكم بينهم"(.)21
ثم إن الرواة ينظرون إلى شعر جرير بعين أوثق من شعر الفرزدق في حقيقة نسبته ،وبعده عن السرقات
الشعرية ،وقد روي أن األصمعي قال " :تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة ،وكان يكابر .وأّم ا جرير فما
علمته سرق إال نصف بيت؛ قال :وال أدري؛ ولّعله وافق شيء شيئًا .قلت :وما هو؟ فقال :هجاء ،ولم يخبرنا
به"(.)22
لم يكن هجاء جرير بالقدر اليسير بالنسبة إلى جملة شعره بل يجد القارئ لديوانه الشعري أن الهجاء قد امتد
على مساحة واسعة وخاصة في قصائده الطوال.
ويرد العلماء السر في تفوق جرير ونبوغه في فن الهجاء إلى معرفته أعراف وأنساب القبائل وما فيها من
مثالب ،حيث ورث ذلك عن جده الخطفي(.)23
ونستطيع أن نتبين قدرة جرير الهجائية حيث تمكن من هجاء ثالثة شعراء في بيت شعري واحد ،فقال:
َو َع َلى اْلَبِع يِث َج َدْعُت َأْنَف اَألْخ َطِل َلَّم ا َو َض ْعُت َع َلى اْلَفَر ْز َد ِق ِم يَسِم ي
وقال جرير :لقد هجوت التيم في ثالث كلمات ما هجا فيهن شاعر شاعرا قبلي قلت
وفي األرحام ُيخلق والَم شيِم من األصالب َيْنِز ل لؤُم َتْيٍم
والمتتبع لديوان جرير الشعري وحياته يجد أن الهجاء قد امتزج بفكره وثقافته ،وال تكاد تجد موقفًا شعريًا
يخلو من الهجاء ،فيروى أن" :عطية بن جعال الغداني كان صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن رجال
من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفح
له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال:
َة
فـوهبتكم لعطي بِن ُج عال أبني ُغ دانة إنني َح ــــّر رتكم
من بين أألم أعين وسبال لوال عطيُة الجَتدْعُت أنوفكم
فبلغ ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها هللا من هبة ممنونة مرتجعة"(.)25
(
)20األغاني ،ج ،8ص.78
(
)21نفسه ،ج ،8ص.78
(
)22الموشح للمرزباني ،ص.34
(
)23ينظر :البيان والتبيين :لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ،تحقيق :المحامي فوزي عطوي ،دار صعب – بيروت الطبعة األولى
1968م ،.ص.192
(
)24األغاني ج ،8ص.8
(
)25نفسه ،ج ،21ص.403
وال بد من اإلشارة إلى أن جرير أظهر مقدرة شعرية في األغراض الشعرية األخرى غير الهجاء ،وقد تحدث
هو نفسه عن إنشغاله بمهاجاة أقرانه عن النسيب فقال " :لوال ما شغلني من هذه الكالب لشببت تشبيبا تحن منه
العجوز إلى شبابها حنين الناقة إلى سقبها"(.)26
ولعلنا ننقل المالحظة النقدية التي شاعت بين العامة خاصة والتي تعزز من حيازة جرير للتفوق في أغراض
الشعر الرئيسة ،فيروى :أن أعرابيًا من بني عذرة دخل على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده
الشعراء الثالثة ،جرير والفرزدق واالخطل ،فلم يعرفهم االعرابي ،فقال عبد الملك لالعرابي :هل تعرف
اهجى بيت قالته العرب في االسالم ؟ قال :نعم ! قول جرير:
َفــــال َك عبًا َبَلغَت َو ال ِك ـــالبا َفُغَّض الَطرَف ِإَّنَك ِم ن ُنَم يٍر
فقال :أحسنت ،فهل تعرف أمدح بيت قيل في االسالم ؟ قال نعم ! قول جرير:
َو َأندى العاَلميَن ُبطوَن ِح
را َأَلسُتم َخ يَر َم ن َرِكَب الَم طايا
فقال :أصبت واحسنت ،فهل تعرف أرق بيت قيل في االسالم ؟ قال :نعم ! قول جرير:
َقَتلَننا ُثَّم َلــم ُيحيــِيَن َقتــــالنا ِإَّن الُعيوَن اَّلتي في َطرِفها َح ــَو ٌر
َو ُهَّن َأضَعُف َخ لِق ِهَللا َأركانا َيصَر عَن ذا الُلَّب َح ّتى ال ِح راَك ِبِه
فقال :أحسنت ،فهل تعرف جريرا ؟ قال :ال وهللا ،وإني إلى رؤيته لمشتاق ،قال :فهذا جرير وهذا الفرزدق
وهذا االخطل"(.)27
ونرى الفرزدق نفسه يرى في شعر جرير الرقة ويشهد له بذلك ،فعندما سمع قول جرير:
أِح ُّب لحــِّب فــــاطمَة الديارا أَال حِّي الديار بَسْع ــَد إّني
فهاُج وا َص ْدَع قلبَي فاستطارا أراَد الظاعنون ليحزُنوني
"فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها ،قال :أو ما تدري لمن هذا الشعر؟ فقال ال وهللا ،قال
هو لجرير يهجوك به ،فقال :ويل ابن المراغة ما كان أحوجه مع عفافه إلى صالبة شعري وأحوجني مع
شهواتي إلى رقة شعره"( ،)28ويعجب المرء حين يسمع بأن النوار زوجة الفرزدق عندما ماتت قاموا ينوحون
عليها بشعر جرير( )29ويقصدون قصيدته التي يقول في مطلعها:
َو َلُز رُت َقبَر ِك َو الَح بيُب ُيزاُر َلوال الَح ياُء َلعاَدني ِاسِتعباُر
ويتواتر الرأي النقدي لدى القدماء على تقدم جرير وتفضيله على أقرانه حتى في جملة شعره ،يقول بن
األثير" :ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا رب تغزل ومديح وهجاء وافتخار وقد كسا كل معنى من
هذه المعاني ألفاظا الئقة به ويكفيه من ذلك قوله
ُط ْق ُذ ْنَفَأ
ِبقاِفــــــَيٍة ا َها َت ُر الَّد َم ا َو َعاٍو َع َو ى ِم ْن َغ ْيِر َش ْي ٍء َر َم ْيُتُه
(
)26خزانة األدب .ج ،1ص.92
(
)27البداية والنهاية ،البن كثير ،ج ،9ص.288
(
)28األغاني ،ج ،15ص.132
(
)29ينظر :األغاني ،ج ،8ص.12
َو ُر وٍد ِإذا الَّس اِر ي ِبَلْيٍل َتَر َّنَم ا وِإِّنــي َلَقـَّو اُل ِلُك ــــــــِّل َغ ــِر يبـــٍَة
َش َبا ُهْنُدوانٍّي إَذ ا ُهَّز َص ّم ـــََم ا َخ ُر وٌج ِبأْفَو اِه الــــــُّر َو اِة َك ــــأَّنها
أَخ ْذ َن َطِر يقًا ِلْلَقصاِئِد ُم ْع َلـــَم ا َغ ـــَر اِئُب آَالُف إَذ ا َح ـــــاَن ِو ْر ُدَها
ويبالغ في إعجابه بقصائده حتى أنه يفاخر الشعراء األقدمين ومن جاء بعده بشعره ،فيقول:
ِلَم ن كاَن َبعدي في الَقصاِئِد َم صَنعا َو َأدَر كُت َم ن َقد كاَن َقبلي َو َلم َأَدع
َو مــا َيمَنُع اَألصـــداَء َأاّل َتَفَّج ــعــا َتَفَّج ـــَع ِبسطـاٌم َو َخ َّبَرُه الَص ــدى
(
)30المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ،لأبي الفتح ضياء الدين ابن األثير ،تحقيق :محمد محيي الدين عبدالحميد المكتبة العصرية -
بيروت 1995 ،م .ج ،2ص.379
(
)31األغاني ،ج ،8ص.86
(
)32الموشح للمرزباني ،ص.40
(
)33الموشح للمرزباني ،ص.40
وقبل أن نختم الحديث عن هذا الشاعر نقول بأن جريرًا امتلك إلى جانب الموهبة الشعرية الفطنة والذكاء
وسرعة البديهة ،كما عرف بالعفة والتقوى التي تفّوق بها عن صاحبه الفرزدق ،فقد "حدث أبو عبيدة قال:
التقى جرير والفرزدق منى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير:
فخارا فخبرني بمن أنت فاخر فإنك الق بالمنازل من منى
قال له جرير :لبيك اللهم لبيك .قال :فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويتعجبون منه"(.)34
وتشير الروايات أن الخليفة عمر بن عبد العزيز لما ولي الخالفة وفد إليه الشعراء فردهم عدا جرير( ،)35وهذ
يؤكد ما ذكر من تقوى جرير والتزامه وعفته.
لغة الهجاء في شعر جرير
استخدم جرير في الهجاء لغة في غاية القوة والمتانة والجزالة ،إذ اختار ألفاظًا ذات بنية صارمة في
أصواتها وصفاتها ومخارجها ،واعتمد على المسميات الحيوانية والدواب والمهن المنبوذة ومسميات القبح
والرذيلة وحشد مفردات المكروهات في الدين وعرف المجتمع والقبيلة والنسب وما شاكلها ،ومن ذلك:
وصفه للفرزدق بأنه قيٌن أي حداد ،والصناعة كانت من مثالب القوم ،فيقول:
لَفْطِح الَم َس اِح ى َأو لَج ْد ِل ا َداهم
َأل ُهَو الَقْيُن واْبُن الَقيِن ال َقْيَن ِم ْثُلُه
وقال:
ِقرٌد َيُح ُّث َعلى الِز ناِء ُقرودا َأمسى الَفَر زَدُق يا َنواُر َك َأَّنُه
(
)34معاهد التنصيص على شواهد التلخيص ،للعباسي ،تحقيق :محمد محيي الدين عبد الحميد
عالم الكتب ،بيروت1367 ،هـ 1947م.ج ،2ص.266
(
)35ينظر :األغاني ،ج ،8ص.51
ولقد كثرت المفردات في هجاء جرير حول موضوع األعراض ،كوصف النساء بالفاحشة والخبث وتكلم عن
أعضاء المرأة والرجل وذكر أفعال الفاحشة والزنا وما يتعلق بذلك من ممارسات .فتراه يقول:
خوٌر َبناُت ُمَو َّقٍع َخ ّو اِر َأبِلغ َبني َو قباَن َأَّن ِنساُؤُهم
َو اَألخَبثوَن َم َح َّل ُك ِّل ِإزاِر ِإَّن الِلئاَم َبني الِلئاِم ُم جاِش ٌع
ويقول:
َح َّك ِاسَتُه َو َتَم َّثَل اَألمثاال َو الَتغِلِبُّي ِإذا َتَنحَنَح ِللِقرى
ويقول:
َأِخ اّل َء الَفواِس ِق َو الَزواني َأِخ اّل َء الَفَر زَد ِق َفِانُص روُه
ونرى في لغة هجاء جرير استخدامًا للمفردات الفاضحة المكشوفة ،وكان بإمكان جرير أن يتخذ من الكناية
اللفظية بديًال لتلك المفردات ،لكن لعل الغرض منها اإلضحاك والسخرية ،وهذا ما نراه في قوله للفرزدق
يعير مقاتل بن طلبة وقد زوج ابنته خولة لشاعر وضيع(:)36
فروج بناته كـــمر المــوالي رأيت مقاتل الطلبات حّلى
من الّص هب المشّو هة السبال لقد أنكحتم عبــدًا لعـبــــٍد
خرئتم فوق أعظميه البوالي فال تفخـــر بقيٍس إّن قيسًا
ويبدو أن مفردات الفحش كانت فاعلة أكثر من غيرها ،وهذا ما دفع جرير إلى توظيفها في هجائه ،وقد قال:
"هجوت بني طهية أنواع الهجاء فلم يحفلوا بقولي حتى قلت في قصيدة الراعي:
حجارُة خارىٍء َيرِم ي كالَبا كأّن بني ُطَهَّيَة رهَط َس ْلَم ى
(
)36ينظر :الكامل في اللغة واألدب ،للمبرد ،تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار الفكر العربي – القاهرة ،الطبعة الثالثة 1417هـ -
1997م .ج ،2ص.57
(
)37األغاني ،ج ،8ص.79 ،78
وريُش الُّذ نابـّي تابـــٌع للقـواِد م لقْد كنَت فيها يا فرزدُق تابـعـًا
ضربَت ولم تضرْب بسيِف ابن ظالِم بسيِف أبي رغواَن سيِف مجاشٍع
يداَك وقالوا محَد ٌث غيُر صارِم ضربَت به عنَد اإلمام ِ فأرعَش ـْت
ويكاد شعره يتوزع بين األسلوب الخبري واإلنشائي ولربما نجد ميًال في القصائد الطوال إلى األسلوب
الخبري فقد كان جرير يعدد صات المهجو وقبائحه ،كما كان جرير يوجه الخطاب مباشرة إلى المخاطب
ويسمي اأشخاص والقبائل دون حرج.
()38
وقد يبدأ جرير أحيانا بالتحذير للمهجو ،كما في تحذيره لبني حنيفة ،وكان ميلهم مع الفرزدق عليه :
إني أخاف عليكم أن أغضبا أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
أدع اليمامة ال تواري أرنبا أبني حنيـفة إنني إن أهجـكم
وقد وصل الهجاء لدى جرير إلى درجة الفحش وهتك األعراض حيث يصف جعثن اخت الفرزدق بأوصاف
مقذعة ،فيقول:
ِلالمعم كالطريق جعثَن جاُن ِع و لنفسه يستجير الفرزدُق بات
والمنقرُّي يدوســـها بالمنـشل أسلمَت جعثَن إذ يجّر برجلها
(
)38العمدة في محاسن الشعر ،البن رشيق ،ج،1ص.168
وخاصية أخرى تميز بها أسلوب جرير في هجائه ومناقضاته ،وهي أنه كان يبني شعره على ماجاء في هجوم
الشعراء الذين تعرضوا له ،ويقف موقف الدفاع المفند لما جاء في شعر الخصم ،وهذا ما ذكره جرير عندما
دخل على الحجاج" ،فقال له :إيه يا عدو هللا عالم تشتم الناس وتظلمهم فقلت جعلني هللا فداء األمير وهللا إني ما
أظلمهم ولكنهم يظلمونني فأنتصر"(.)39
ومن األمثلة على ذلك ما ذكره األصفهاني( ،)40في حوار جرير مع الحجاج بقوله :أما غسان بن ذهيل فإنه
رجل من قومي هجاني وهجا عشيرتي بقوله:
َأ
َج ريٌر لقد ْخ َزى ُك َلْيبًا َج ـِر يُر ها لَعْمِري لئن كانت َبِج يـلُة زاَنــها
َم َر اِم يَك حتى عاد ِص ْفرًا َج ِفيُر ها رميَت ِنَض اًال عن ُك َليٍب فَقَّص رْت
طـويٌل َتَناِج يها ِص غــاٌر ُقـُدوُر ها وال َيْذ َبحــون الشــاَة إال بَم ْيس ِــٍر
غير أن موقف جرير في الدفاع والرد ال يبدو أنه متكئ على شعر المهاجم ،أو أنه يتنصص على نص
الخصم ،فتراه يترك الخصم جانبًا ،ويخترع شعره جديدًا تبرز فيه قدرته التي تظهره متفوقًا في معانيه وصوغ
أفكاره ،متضمنًا الرد والتفنيد لما يحتاجه متجاهًال ما قاله الخصم.
ويسعى جرير إلى توظيف الفخر في قصائده لدعم الهجاء وقهر خصمه في إطار المقارنة بين مكارم
ومورث أبائه وانحطاط المهجو وقبح ماضيه وأمجاده ،فيقول يفخر بقومه على الفرزدق:
ُيِع ّدوَن الَم كـــاِرَم ِللِس باِب َلَقد َع ِلَم الَفَر زَدُق َأَّن َقومي
َأباَن الُم قِر فاُت ِم َن الِع راِب ِإذا َأباؤنا َو َأبوَك ُع ــــّدوا
َة َأ َط
ِر با الَخ يِل فِنَي الِقــباِب َفَأوَر َثَك الَعـــالَة َو َأوَر ثونا
ويستند جرير في فخره على تقصي أيام كانت لقيس ووقائع أخزي فيها الفرزق ورهطه ،فيقول(:)41
ِلَقوِم ـــَك َيومـــــــًا ِم ثَل َيوِم اَألراِقِم ُتَح ِّض ُض يا ِابَن الَقيِن َقيسًا ِلَيجَعلوا
َل
َو َعمرَو بَن َعمرٍو ِإذ َدعوا يا داِرِم َك َأَّنَك َلم َتشَهد َلقيــطًا َو حاِج ـــــــــبًا
َو َشّداِت َقيــٍس َيوَم َديِر الَج مــــاِجِم َو َلم َتشَهِد الَج وَنيِن َو الِش عَب ذا الَص فا
(
)39األغاني ،ج ،8ص.19
(
)40نفسه ،ج ،8ص.20 ،19
(
)41الكامل في اللغة واألدب ،للمبرد ،ج ،2ص.60
َو ِبالَح زِن َأصَبحــُتم َعبـيـــَد الَلهاِزِم َو َيوَم الَص ــفا ُك نُتم َعبـــيدًا ِلعـاِم ـــٍر
َو ُتخـــزيَك يا ِابَن الَقـــيِن َأّياُم داِرِم ِإذا ُع ــَّد ِت اَألّياُم َأخــــَز يَت داِر مــــًا
ويعتد جرير بذاته ويصل إلى أعلى درجات المبالغة ،في فخره على خصمه ،فيشبه نفسه بالدهر الذي ال
يطاوله شيء ليلغي خصمه وال يبقي له ما يفخر به ،فيقول في عنفوان وغضب:
َفِج ئني ِبِم ثِل الَدهِر َشيئًا ُيطاِو ُله َأنا الَدهُر ُيفني الَم وَت َو الَدهُر خاِلٌد
أما الصور الشعرية فقد ابتكر جرير صورًا شعرية موحية في مهاجاته ،وهذا الصور تجعل خيال القارئ
واسعًا يجول في أعماق النص يتأمل لوقت غير قصير ،وتسعى تلك الصور لتحقق غايتين هما :اإلضحاك
والسخرية ،كما أن معظم الصور الشعرية في مهاجاة جرير تأتي مستندة على الوصف والتعداد للسوءات،
ومستندة كذلك على حشد من التشبيهات بالحيوانات كالقرود والخنازير والحمير وغيرها ،ومن تلك
األوصاف قول جرير في قصيدة يصف فيها أخت الفرزدق "جعثن" بأقبح الصفات ،فيقول:
َأال َتّبًا ِلَفــخـــــِر َك ِبالُح بــاِت َنسيُتم ُعقَر ِج عِثَن َو ِاحَتَبيُتم
َل
ِم َن الِتبراِك يَس ِم َن الَص الِة َو َقد َد ِمَيت َم واِقـُع ُر كَبَتـيها
كدأِب الترِك تلعـُب باكـــراِت تبيُت الليَل تسلُق إسكــتاها
علــــى أِّم القفا والّليُل عـــاِت وحـّط المنقرَّي بها فخَّر ْت
َّن
لقْد أخزيَت قومَك في ال داِت تنادي غالبًا وبنـِي عقـــاٍل
وقد تضمن النص أيضًا كنايات واستعارات وتشبيهات قوية تصور هذه الفتاة غارقة في الفاحشة ،وتبيت الليل
تمارس المجون في هيئة قبيحة.
وفي هذه األوصاف مبالغات تصل إلى حد القذف واإلسفاف ،وخروج بالهجاء إلى الفحش الذي كان عليه في
الشعر الجاهلي.
وأما التشبيهات فتأتي في صور ساخرة مضحكة وهو يصور من يهجوهم مرة بالحشرات وأخرى بالقرود،
وثالثة بالخنازير ،يقول في بني وقبان:
َط َغ َف
ِم ثُل ال راِش شيَن ناَر الُم ص لي َأزرى ِبِح لِم ُك ُم الِفياُش َفَأنُتُم
وشبه الشعراء الذين تعرضوا له بالثعالب العاوية التي أصابها فزع وقد كر عليها أسد هصور:
َع َلـــــَّي َفَقد َأصــاَبُهُم ِانِتقــاُم َعوى الُش َعراُء َبعُضُهُم ِلَبعٍض
ِه َزبرًا في الَعريِن َلُه ِانِتحاُم َك َأُّنُهُم الَثعاِلُب حيــَن َتلـــقــى
والتشبيهات في هجاء جرير لم تكن جامدة بل تراها تجسد هيئة مزرية نتيجة حسن الصياغة التي تدار فيها
المفردات ،فلم يقتصر جرير بتشبيه الفزدق بالقرد الذي يمارس الفاحشة بل تراه يبذل أقصى جهد في حث
غيره من القرود لفعل الزناء:
ِقرٌد َيُح ُّث َعلى الِز ناِء ُقرودا َأمسى الَفَر زَدُق يا َنواُر َك َأَّنُه
وتراه يتخذ من الخنزير رمزًا لنصرانية األخطل التغلبي إذ يحلو للفزدق أن يجعل الخنزير له مثًال:
ِإحدى الَدواهي اَّلتي ُتخشى َو ُتنَتَظُر ِإَّن اُألَخ يِط َل ِخ نزيٌر َأطاَف ِبِه
ونرى لجرير ابتكارات تصويرية في هجائه يتسع فيها الخيال إلى ماضي بعيد وهو يتحدث عن لؤم بني تيم،
فيقول:
شي
َم ِم وال خلقُي األرحام وفي ٍم ْيَت لؤ
ِز ُمل ْنَي األصالب من
وهذه صورة عجيبة فعًال لها تأثير مؤلم في نفس المهجو ،وهو يصور رسوخ اللؤم في األصل اإلنساني
لهؤالء جميعا واستقراره في اإلرحام.
وفي صورة أخرى للؤم بني نمير يصور جرير هذا اللؤم اللصيق بكبار القوم وفقهائهم لكنهم يحاولون
تغطيته بمظهرهم الزائف ،فهم يلبسون العمائم ليظهروا بمظهر الوقار والرفعة بينما هم يخفون اللؤم تحتها،
فيقول على طريقة االستعارة المكنية:
ما ال َط
َم ُّي َع ِئِمؤُل ال يّط َغُي يَف َك َو ُتَغّطي ُنَم يٌر ِبالَعماِئِم ُلؤَم ها
إن هذه األلفاظ التي ترسم تلك الصور جعلت لشعر جرير أثرًا بالغًا وهذا ما أدركه جرير ليؤكد أن شعره
كأس مرة يسيقها الشعراء ،ويذيقهم مرارتها على طريق االستعارة التصريحية فيقول:
ِع ندي ُم خاِلُطها الِس ماُم الُم نَقُع َأعَددُت ِللُش َعراِء َك أسًا ُم َّر ًة
ومن الصور البديعة واالبتكارات المعنوية التي يخص فيها الخيال قول جرير في بني نمير:
عـلــــــى َخ َبِث الحديد إذًا َلَذ اَبا فلو وضعت ِفَقاُح بني ُنمير
والحديد ال يذوب إال بنار مستعرة ،فهذه صورة قبيحة وكأن فقاحهم أكيار تنفخ نارًا تذيب خبث الحديد،
والتركيب يحمل كناية تعريض تشير إلى امتالء بطونهم بالهواء ،ومن ثم إخراج الروائح النتنة.
فاعلية هجاء جرير
يرى بعض النقاد أن الهجاء الذي عرف به جرير في شعره لم يكن ذلك الهجاء الفاحش ويجعلونه هجاء
مشوبًا بالعفة وأقرب إلى الهزل .وهذه الرؤية قد تكون صائبة من حيث نتائج الهجاء االجتماعية فهو ال يؤدي
إلى حروب ومنازعات وصراعات ،لكن من حيث اآلثار النفسية يعتبر هجاًء فاحشًا وفيه تهكم وسخرية
بالمهجو.
ورغم أن هناك بعض األخبار تنقل أن قبائل تركت مرابضها نتيجة لهجاء جرير إال أن مثل هذه الروايات
لربما خالطها شيء من المبالغة وتبقى في دائرة الممكن وال تقلل من شأن هجاء جرير.
ومن تلك الروايات أنه" :لما هجا جرير بني نمير بقوله:
فال كعًبا بلغَت وال ِك البا فغَّض الَّطْر َف إنك من نمير
أخذ بنو نمير ينتسبون إلى عامر بن َص ْع َصَع ة ،ويتجاوزون أباهم نميًرا إلى أبيه ،هرًبا من ذكر نمير وفراًرا
مما وسم به من الفضيحة والوصمة .مع أنهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومد صوته
وقال :من بني نمير ،وكانوا جمرة من جمرات العرب .وكان أحدهم إذا رأى نميرًّيا وأراد نبزه واإلساءة إليه
قال له :غِّم ض وإال جاءك ما تكره ،وهو إنشاد هذا البيت ،وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له :ممن
الرجل؟ قال :من بني عامر"(.)42
قال الجاحظ" :وفي نمير شرف كثير .وهل أهلك عْنَزة ،وجرًم ا ،وُعكال ،وسلوَل ،وباهلة وغنًيا ،إال الهجاء؟!
وهذه قبائل فيها فضل كثير وبعض النقص ،فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء .وهل فضح الحبطات ،مع
شرف حسكة بن عتاب ،وعَّباد بن الحصين وولده ،إال قول الشاعر:
()43
كما الحبطات شر بني تميم" رأيت الحمر من شر المطايا
ويبدو لنا ذلك األثر النفسي الذي أحدثه هجاء جرير في ما أورده األصفهاني بقوله" :وقف الفرزدق على أبي
بمربد البصرة وهو ينشد قصيدته التي هجا بها الراعي فلما بلغ إلى قوله
فــال َك ْع ـــــبًا بلغت وال ِك البا فُغَّض الَّطْر ف إنك من ُنَم ير
أقبل الفرزدق على روايته فقال غضه وهللا فال يجيبه أبدا وال يفلح بعدها فلما بلغ إلى قوله
بها َبَر ٌص بجانِب إْس َكَتْيها ...
وضع الفرزدق يده على فيه وغطى عنفقته فقال أبي:
َك َعْنَفَقِة الفرزدِق حين شاَبا
فانصرف الفرزدق وهو يقول :اللهم أخزه وهللا لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه ال يقول غير هذا ولكن طمعت أال
يأبه فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا(.)44
وإذا كان الهجاء في تلك الفترة األموية لم يعد بتلك الجدية التي كان عليها في العصر الجاهلي وتحوله إلى
نوع من المرح والتسلية بين الخاصة والعامة ،وباألخص فن النقائض ،إال أن الهجاء مهما يكن فيه مرارة
وفيه إذالل وانتقاص وإهانة حتى "قال عبد الملك بن مروان :يا بني أمية ،أحسابكم أنسابكم ال تعّرضوها
للهجاء ،وإياكم وما سار به الشعر ،فإّنه باٍق ما بقي الدهر؛ وهّللا ما يسّرني أني ُهجيت بهذا البيت وأن لي ما
طلعت عليه الشمس:
()45
وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا يبيتون في المشتى مالًء بطونهم
وكذلك كان هجاء جرير مؤلمًا وموجعًا وبقيت آثاره فاعلة في المهجو ،فجرير كان يتوخى نزع الفضائل
والقيم عن المهجوين "وأجود ما في الهجاء أن يسلب اإلنسان الفضائل النفسية وما تركب من بعضها مع
بعض"( )46حتى إن الرواة -وفق المعتقد األسطوري -أطلقوا على الشيطان الذي يلقي الشعر إلى جرير
"إبليس األباليس"( ،)47وهذه التسمية تأخذ بعدًا نقديًا وتوحي بتفوق شعر جرير ووضعه في قمة الشعر المؤثر.
(
)42المفصل فى تاريخ العرب قبل اإلسالم ،د .جواد علي ،دار الساقي ،الطبعة الرابعة 1422هـ2001 /م .ج ،17ص.68
(
)43البيان والتبيين .ص.576
(
)44األغاني ،ج ،8ص.37،38
(
)45األمالي في لغة العرب ،ألبي علي القالي دار الكتب العلمية – بيروت 1398هـ 1978م.ج ،2ص .160والبيت لألعشى.
(
)46العمدة في محاسن الشعر البن رشيق ،ص.170
(
)47ينظر :المفصل في تاريخ العرب ،جواد علي ،ج ،17ص.120
وقالوا بأن جرير أسقط ثمانين شاعرًا( ،)48في مقدمتهم الفرزدق واألخطل والراعي النميري والبعيث بن
بشير والبلتع وسراقة البارقي والقريد ،وقد أشار جرير إلى معاركه تلك في شعره وتحدث عن غلبته لهم،
كمثل قوله:
ُط
ِع ندي ُم خاِل ــهـــا الِس ماُم الُم نَقُع َأعَددُت ِللُش َعــراِء َك أســـــًا ُم ــــَّر ًة
َأو َأرَبعوَن َح َد وُتُهم َفِاسَتجَم عوا َهاّل َنهــــــاُهم ِتسَعــــٌة َقـَّتـــلُتُهم
َخ ِس روا َو ُشَّف َع َليِهُم َفِاستوِض عوا كــــــانوا َك ُم شَتِر كيَن َلّم ــا باَيعوا
َف
م َيص ــلوَن َح ـــريَق ناٍر َتس ـُع َط َأ َأَفَينَتهوَن َو َقـــد َقَض يُت َقضاءُهم
َو الباِر ِقــُّي َو ذاَق ِم نــــــها الَبلَتُع ذاَق الَفَر زَدُق َو اُألَخ يِط ُل َح ــَّر ها
َو َتَر كُت فيِه َو ِهَّيـــًة ال ُترَقــــــــُع َو َلَقد َقَس مُت ِلذي الِر قــاِع َهِدَّيــًة
َل َأل َل
قوا َك ما ِقَي الُقـــَر يُد ا صـ ـُع َلَف ًة َو َلَقد َص َك كُت َبني الَفَدوَك ِس َص َّك
غير أنا ال نستطيع حصرهم كلهم ،وهل كان إسقاطهم بالتغلب عليهم أو كفهم عن قول الشعر أو عدم التعرض
لجرير بالهجاء؟
ًا
ويتحدث جرير عن فاعلية قصائده في القوم وتأثيرها الموجع ،مشبه لها بالسيوف تارة تجدع األنوف ،وتطأ
بأقدامها الهامات ،وتارة أخرى بأنها عذاب سقط على القوم ،كما في قوله:
ِبالُس ِّم ُيلَح ــُم َنسُج ـها َو ُيناُر ِإَّن الَقصاِئَد َقد َج َدعــَن ُم جـاِش عًا
َو َلَقد ُنِقضَت َفما ِبَك ِاسِتمراُر َو َلقوا َعواِص َي َقد َع ِييَت ِبَنقِض ها
ويقول:
َوَو ِط ئَن َتغِلَب ما َلها ِم ن زاِج ِر ِإَّن الَقصاِئَد َقد َو ِط ئَن ُم جاِش عًا
ويقول:
(
)48ينظر :خزانة األدب للبغدادي ،ج ،1ص.91
ِلَبني َفَدوَك َس ِإذ َج َدعَن ِع قاال ِإَّن الَقواِفَي َقد ُأِمَّر َم ريُر ها
ويمكن أن نضيف عامًال آخر ساعد في فاعلية الهجاء وأثره النفسي ،تمثل في فنية األداء الشعري الذي كان ال
يزال في العصر األموي امتدادًا للعصر ىالجاهلي ،حيث يلقى فيه الشعر مشافهة ،وتعمل فيه مدرسة الرواية
الشفهية ،ويتناقله الناس سماعًا.
فجرير مثل غيره من شعراء عصره كان ينشد الشعر في سوق المربد ،حيث المنتدى الرسمي لتلك المهاجاة،
فيحرص علية القوم وعامتهم على سماع كل جديد من أشعار الشعراء الثالثة وغيرهم ،فجرير يتحدث عن
ذلك ويقول:
ما َبيَن ِم صَر ِإلى َج نوِب َو باِر ًا سَت َق
ساَر ال صاِئُد َو ِا َبحَن ُم جاِش ع
ِبَح ديِث ِج عِثَن ما َتَر َّنَم سـاري ِإَّن الَقصـاِئَد َلن َيَزلــَن َس واِئحــًا
وتجد من لم يتاح له الحضور وسماع الشعر مباشرة في تلك الجلسات ،يسال من حضر ،وبالذات عن ما
حملته من هجاء .فقيل( :)49أن رجًال دخل مجلسًا وفيه الفرزدق ،فقال :وردت اليوم المربد قصيدة لجرير،
تناشدها الناس ،فامتقع لون الفرزدق ،فقال له الرجل :ليست فيك يا أبا فراس قال :ففيمن؟ قال :في ابن لجأ
التيمي ،قال :أحفظت منها شيئًا؟ قال :نعم ،علقت منها ببيتين ،قال :ما هما؟ فأنشده:
لَقد ُح ِدَيْت تيٌم ُح َداًء َع َصْبَص با لِئْن ُع ِّم َر ْت َتْيٌم زمانًا ِبِع ـــَّز ٍة
وُع ْك ٌل َيَش ُّم وَن الَفِر يَس الُم َنَّيَبا فال َيْض َغَم َّن الليُث ُع ْكًال ِبِع َّرٍة
هذه العوامل جعلت من هجاء جرير بالغ التأثير حتى في أولئك الذين يمتلكون ناصية الشعر من أقرانه" .قال
بعض رواة قيس وعلمائهم كان الراعي فحل مضر حتى ضغمه الليث يعني جريرا
وقال أبو البيداء مر راكب يتغنى
بقاقـــية أسبابها تقــطر الدما وعاو عوى من غير شىء رميته
قرا هنـــدوانى إذا هز صمما خـروج بأفــــواه الرواة كأنــــها
فسمعه الراعي فأتبعه رسوال فقال :لمن البيتان؟ قال :جرير ،قال :وهللا لو اجتمعت الجن واإلنس على صاحب
(5
أالم على أن يغلبني مثل هذا .وإنما يعني جرير" هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا ،ثم قال لمن حضر :ويحكم ُ
.)0
ونجد عددًا من أبيات الشعر لدى جرير تسير مسار المثل والحكمة ،يحكيها الناس وتشيع في مناسبات
مشابهة ،كما في البيت الشعري الذي قاله جرير ردًا على الفرزدق الذي توعد مربعًا بالقتل عندما وجده
يحفظ شعر جرير ،فقال جرير متهكمًا:
()51
بِش ر ِبطوِل َس الَم ٍة يا َم رَبُعَأ َز َع َم الَفَر زَدُق َأن َسَيقُتُل َم رَبعًا
وقد تضمن البيت تهكمًا شديدًا وتمثل به كثير من الخلفاء واألمراء لما يحمله من ظرافة وسخرية بالمخاطب.
(
)49طبقات فحول الشعراء .ج ،2ص.376
(
)50نفسه ،ج ،2ص.437
(
)51خاص الخاص ،ألبي منصور الثعالبي ،تحقيق :حسن األمين ،دار مكتبة الحياة – بيروت .ص.105
وقد تحدثت كتب األدب أن هجاء جرير أثر على األفراد وعلى القبائل بمجموع أفرادها ،حتى قالت بنو
مشاجع( )52ما هجينا بشعر أشد علينا من قول جرير:
نكحْت نساؤهُم بغيِر مهوِر وبرحرحاَن غداَة ّ
كبَل معبد
وهكذا أعلن جرير حربه وشن هجومه على كل من وقف مع الفرزدق أو ساند خصومه من الشعراء ،سواء
أكانوا أفرادًا أم قبائل ،فيروى أن( )53قبيلة بنو الهجيم لما سمحوا للفرزدق أن ينشدهم شعرًا في مسجدهم ،وبلغ
ذلك جريرا فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق فقال له شيخ منهم :يا هذا اتق هللا فإن هذا المسجد
إنما بني لذكر هللا والصالة ،فقال جرير :أقررتم للفرزدق ومنعتموني وخرج مغضبا وهو يقول:
ُح ُّص الِّلَح ى متشابهو األلواِن إّن الُهَج ــْيــَم قبيلٌة ملعونٌة
بُعَم اَن أضحى جْم ُعهم بُعماِن لو َيسَم عون بأكلٍة أو َشْر بٍة
ُدخا ك
ِد ِح ِّل ِن لري الخدو ع
ُص َر متـأِّبطــين بنيهـُم وبناِتهــْم
ونتيجة لهذا الهجاء الذي ضرب به جرير كل حدب وصوب لقي العديد من التهديدات وربما المحاوالت
لقتله ،ومن ذلك قوله لعطية الحنيفي:
إال حنيفة تفسو في مناحيها إن اليمامة أضحت ال أنيس بها
فلقيه عطية بن دعبل الحنفي فقال :يا جرير إنك قد عرفت نصرة الفخم وإن لي سيفًا يختصم الجزور فوهللا لئن
عدت لهجاء قومي ألسيلنه منك بشرطين .فقال :ال أنطق بعد هذا ،فأعف هذه المرة"(.)54
وقد عمل جرير على استغالل عدد من الحوادث والقضايا تجاه خصومه في الهجاء ،وأخذت حيزًا واسعًا في
شعره ،وهي:
-حادثة غدر قبيلة مجاشع بالزبير بن العوام.
-حادثة نبو سيف الفرزدق عند ضرب أسير رومي.
-مجون الفرزدق وفسقه.
-حادثة جعثن أخت الفرزدق مع ابن مرة.
-مهنة الفرزدق وأبيه.
-نصرانية األخطل وأكله لحم الخنزير وشربه الخمر.
-انتصار قيس على تغلب.
إذ تكررت هذه القضايا في قصائد جرير ،ولم يترك مناسبة إال وذكرها تصريحا أو وتلميحًا.
(
)52ديوان المعاني ،ألبي هالل العسكري ،ص.72
(
)53ينظر :األغاني ،ج ،8ص.57
(
)54محاضرات األدباء ،الراغب األصفهاني ،ص.177
ضاَق الَطريُق َو َع َّي الِو رُد َو الَصَدُر َلوال َفواِر ُس َيربوٍع ِبذي َنجٍب
َأو واَقفوا عاَنقوا اَألبطاَل َفِاهُتِص روا ِإن طاَر دوا الَخ يَل َلم ُيشُو وا َفواِر َس ها
ِم ن َح وَم ٍة َلم ُيخاِلط َص فَو ها َك َدُر َنحُن ِاجَتَبينا ِح ياَض الَم جِد ُم تَر َع ًة
ِع نَد الِح فاِظ َو ما في َعظِم نا َخ َو ُر ِإّنا َو ُأُّم َك ما ُترجــــــى ُظالَم ُتنا
َح وَم الُبحوِر َو كاَنت َغ مَر ًة ُج سروا َتلقى َتميمًا ِإذا خاَض ت ُقروُم ُهُم
َيوَم الُهَذ يِل ِبَأيدي الَقوِم ُم قَتـــَسُر َهل َتعِر فوَن ِبذي َبهدى َفواِرَس نا
َو قُع الَقنا َو ِالَتقى ِم ن َفوِقها الَغــَبُر الضاِر بيَن ِإذا ما الَخ يُل َضَّرَج ها
(
)55ديوان جرير .ص.196
َليٌث ِإذا َش ـَّد ِم ــــــــن َنجداِتِه الَظَفُر ِإَّن الُهَذ يَل ِبذي َبهدى َتداَر َك ـــُه
َأاّل ُيباِر َك في اَألمِر اَّلـــذي ِائَتَم روا َأرجو ِلَتغِلَب ِإذ َغ َّبت ُأموُر ُهـــــُم
َح وَض الَم كاِرِم ِإَّن الَم جـــَد ُم بَتَدُر خاَبت َبنو َتغِلٍب ِإذ َض َّل فاِر ُطـُهم
َو الساِئلوَن ِبَظهِر الَغيِب مــا الَخ َبُر الظاِع نوَن َعلى الَعمياِء ِإن َظَعنوا
في الناِر ِإذ َح َّر َقت َأرواَح ُهم َس َقُر َو ما َر ضيُتم َأِلجساٍد ُتَح ــــِّر ُقـــُهم
َو الناِز لوَن ِإذا واراُهـــُم الَخ َم ـــــُر اآلِكلوَن َخ بيَث الزاِد َو حـــــــَدُهُم
ِتلَك الُو جوُه اَّلتي ُيسقى ِبها الَم َطُر َيحمي اَّلذيَن ِبَبطحاَو ي ِم نًى َح َس بي
َوُهَللا َع َّزَز ِباَألنصاِر َم ــن َنَص روا َأعطوا ُخ َز يَم َة َو اَألنصاَر ُح كَم ُهُم
َتخَز وَن َأن ُيذَك َر الَج ّح اُف َأو ُز َفُر ِإّني َر ئيُتُك ُم َو الَح ـــُّق َم غَض ــَبــــــٌة
ُشعَث الَنواصي ِإذا ما ُيطَر ُد الَعَك ُر َقومًا ُيَر ّدوَن َس رَح الَقــــوِم عاِدَيًة
ِإحدى الَدواهي اَّلتي ُتخشى َو ُتنَتَظُر ِإَّن اُألَخ يِط َل ِخ نزيٌر َأطـــــــاَف ِبِه
َتغشى الِط عاَن َو في َأعطاِفـــها َز َو ُر قادوا ِإَليُك م ُص دوَر الَخ يِل ُم عِلَم ًة
ِم ــــــن َتغِلٍب َبعَدهــــا َعيٌن َو ال َأَثُر كاَنت َو قاِئُع ُقلنا َلـــــن ُترى َأَبدًا
ِم نُهم َفُقلُت َأرى اَألمواَت َقد ُنِش روا َح ّتى َسِم عُت ِبِخ نزيٍر َض غا َج َز عًا
َو اَألرُض َتلُفـــُظ َم ــوتاُهم ِإذا ُقِبروا َأحياؤُهم َشُّر َأحيـــــاٍء َو َأَألُم ــــُه
َقرُع الَنواقيِس ال َيدروَن ما الُس َو ُر ِر جٌس َيكوُن ِإذا َص ّلـــوا َأذاُنُهُم
َو ال َصَبرُتم ِلَقيٍس ِم ثــَل ما َصَبروا َفما َم َنعُتم َغ داَة الِبشِر ِنسَو َتُك م
َو ُك ــــَّل ُم خــَض ــَرِة الُقـــرَبيِن ُتبَتَقُر َأسَلمُتُم ُك َّل ُم جتــاٍب َعبـــــــاَء َتُه
ــــــُر في َقــتــالُك ـــــُم ِغ ـــَيُر
ِإذ ال ُيَغ َّ َهاّل َس َك نُتم َفُيخفي َبعَض َس وَأِتُك م
َأم َم ن َج َعلَت ِإلى َقيٍس ِإذا َخ ـروا
َذ يا ِابَن الَخ بيَثِة ريحًا َم ن َعَدلَت ِبنا
َلسُتــــــم ِإَليهـِم َو ال َأنُتم َلُهـم َخ َطُر َقيٌس َو ِخ نِد ُف َأهُل الَم جِد َقبَلــُك ُم
َلـم َيقَطعوا َبطَن واٍد دوَنـُه ُم َض ـُر موتوا ِم َن الَغيِظ َغ ّم ًا في َج زيَر ِتُك م
ِإاّل ِافَتَخ رنا ِبَح ٍّق َفوَق مـا ِافَتَخ روا ما ُعَّد َقوٌم َو ِإن َع ّز وا َو ِإن َك َر موا
َأن َلــن ُيفاِخ ـــَر نا ِم ن َخ لِقـِه َبَش ُر َنرضى َع ِن ِهَللا َأَّن الناَس َقد َع ِلموا
َنجٌم ُيضيُء َو ال َشمٌس َو ال َقـَم ـــُر َو ما ِلَتغِلَب ِإن َعدــَّت َم ســـــاعيها
َك الُم هَلكيَن ِبذي اَألحقاِف ِإذ َد َم روا كــاَنت َبنـو َتغلـٍِب ال َيعـــُل َج ُّدُهُم
َح ّتــى َأصاَبُهـــــُم ِبالحاِصِب الَقَدُر ُصَّبت َع َليِهم َعقيٌم ما ُتناِظ ــــُر ُهم
َح ّتى َأَع َّز َح صـــاَك اَألوُس َو الَنِمُر َتهجوَن َقيسًا َو َقد َج ّذ وا َدواِبَر ُك م
َنجــٌد َو مــــــــاَلَك ِم ن غوِر ِّيِه َح َج ُر ِإّني َنَفيُتَك َعن َنجٍد َفمـــا َلـــــُك ــُم
َبرُق الَعباِء َو ما َح ّج وا َو ما ِاعَتَم روا َتلقى اُألَخ يِط َل في َر كٍب َم طاِر ُفُهم
يا ُقِّبَح ـــت ِتلَك َأفواهًا ِإذا ِاكَتَشروا الضاِح كيَن ِإلى الِخ نزيِر َشهــَو َتُه
ِبئَس الَج زوُر َو ِبئَس الَقوُم ِإذ َيَس روا َو الُم قِر عيَن َعلى الِخ نزيِر َم يِس َر ُهم
َو الَتغــِلِبــُّي َلئيـــــٌم حيـــَن ُيخَتـــَبُر َو الَتغِلــِبــُّي َلئيــــٌم حيــَن َتجَهُرُه
َعبــــــٌد َيسوُق ِر كاَب الَقوِم ُم ؤَتَج ُر َو الَتغَلـــِبـــُّي ِإذا َتَّم ت ُم ــــروَأُتُه
َو ال َج ــــمــاٌل َو ال ديٌن َو ال َخ ـفـــــَُر ِنسواُن َتغِلَب ال ِح لٌم َو ال َح َس ــــٌب
َو الَطِّيــــباِن َأبو َبكـــٍر َو ال ُع ـَم ـــــُر ما كاَن َيرضى َر سوُل ِهَللا ديَنُهُم
َو َهل َيضيُر َر سـوَل ِهَللا َأن َك َفـــروا جاَء الَر سوُل ِبديِن الَح ِّق َفِانَتَك ثوا
ما داَم في مــاِر ديَن الَز يُت َيعَتـَصُر يا ُخ زَر َتغِلــَب ِإَّن اللــُؤَم حاَلَفُك م
ُثَّم ِارَتدوا ِبِثياِب الُلـــــــؤِم َو ِاَّتَز روا َتَس رَبلوا الُلؤَم َخ لقًا ِم ن ُج لوِدِهُم
َو الجاِنحـــيَن ِإلى َبكٍر ِإذا ِافَتَقروا الشاِتمــــيَن َبني َبكـــٍر ِإذا َبِط نوا
هذه القصيدة في األساس هي إحدى نقائض جرير جاءت ردًا على نقيضة األخطل الرائية التي هجاء فيها
جرير بشدة ومطلعها:
ها ر في وَن م ت َأ
َو زَع َج ُه ًى َص ِف ِغ َيُر روا َك وَأ
ِم نَك َب راحواَف َخ َّف الَقطيُن
ومما ذكره األخطل في هجائه لقبيلة غدانة بن يربوع ،إخوة كليب،يصفهم باألغنام ويصف الرجال بالفاحشة
والخبث والجشع والبخل ، ،ويلصق بنسائهم الرذائل والفحش ،فيقول:
ِع نَد الَم كاِرِم ال ِو رٌد َو ال َص ــــــَدُر َأّم ا ُك َليُب بُن َيربوٍع َفَليـــَس َلُهــم
َو ُهم ِبَغيٍب َو في َعمياَء ما َش َعروا ُم َخ َّلفوَن َو َيقضــي الناُس َأمــَر ُهُم
َينَفــــُّك ِم ــــــــن داِر ِم ٍّي فيِهِم َأَثُر ُم َلَّطموَن ِبَأعقاِر الِح يـــــاِض َفمـا
ِإذا َج ــــرى فيِهِم الُم ّز اُء َو الَس َك ُر ِبئَس الُص حاُة َو ِبئَس الَشرُب ُشرُبُهُم
َو ُك ــــُّل ُم خــــِز َيٍة ُسَّبت ِبها ُم َضُر َقوٌم َتناَهت ِإَليِهم ُك ـــُّل فــــاِح َش ـــٍة
َو الساِئلوَن ِبَظهِر الَغيِب ما الَخ َبُر اآلِكلـــوَن َخ بيَث الزاِد َو حـــــَدُهـُم
َل َّل
ِم َن الَح بـــَ ِق ُتبنى َح و ها الِصَيُر َو ِاذُك ــــر ُغ ـــداَنَة ِع ّدانًا ُم َز َّنَم ــــًة
َو َتزَر ِئُّم ِإذا مـــا َبَّلــــــــها الَم ـــَطُر َتمذي ِإذا َس ُخ َنت في ُقبِل َأدُرِع ها
لحاِبسو الشاِء َح ّتى َتفُض َل الُس َؤ ُر َأ َو ما ُغ داَنُة فـــــي َش ـــيٍء َم كاَنُهُم
َر َّد الــــِر فاَد َو َك َّف الحاِلِب الَقـِر ُر ُص فُر الِلحى ِم ن َو قوِد اَألدِخ ناِت ِإذا
مــــا َتسَتِح ُّم ِإذا ما ِاحَتَّك ِت الُنــَقُر ُثَّم اِإل ياُب ِإلــــى ســـوٍد ُم ـــــَد َّنَسٍة
َح ّتى ُيحاِلَف َبطَن الراَح ـــِة الَش َعُر َقد َأقَس َم الَم جُد َح ّقًا ال ُيحاِلــــُفُهم
وقصيدة جرير سارت في أسلوبها الفني وبنيتها العامة وفق تقليد القصيدة الجاهلية ،في وقوفها على الديار
والطلل ،ووصف الرحلة وغير ذلك من عناصر المقدمة المعروفة .غير أن جرير يبدو في هذه المقدمة رقيق
اللفظ ،ذا عاطفة حزينة تجهش بذكريات الزمان ،مع خطوات الظعن وتمايل الركب السائر ببطء ،وكل ما
حوله يهيج األشجان ،وهو يرى البعد الزماني والبعد المكاني المجهول الذي يغيب الحبيب أو المفقود.
ويستمر بهذا الوصف العاطفي الجياش مصحوبًا بالغزل الطروب ،وكأن هذه المقدمة أغنية لحنها يجري دون
مغٍن يغنيها لعذوبة ألفاظها.
ثم نراه ينتقل انتقاًال هادئًا بكل إنسياب إلى االفتخار بيربوع ،ويتحدث عن البطوالت والفوارس والمآثر
واألمجاد التي ال يرى لها مثيًال .ومن هنا يبدأ الهجاء بنفي أمجاد اآلخر في سياق الفخر وما أثبته لذاته:
ِع نَد الِح فاِظ َو ما فــي َعظِم نا َخ َو ُر ِإّنا َو ُأُّم َك ما ُترجــــــى ُظالَم ُتـنا
َح وَم الُبحوِر َو كاَنت َغ مَر ًة ُج سروا َتلقى َتميمًا ِإذا خاَض ت ُقروُم ُهُم
ويستمر في هجومه الالذع على قبيلة تغلب ويسوق حشدا من المعايب والصفات القبيحة يصم القبيلة بها
ويذكر شاعرها األخطل ويصفه بالخنزير في إشارة إلى عقيدته النصرانية التي ال تحرم هذا الحيوان.كما
تعرض لعقيدته الفاسدة وضرب النواقيس وعدم احترام هذه القبيلة وشاعرها للقيم والمثل الفاضلة وخاصة
التي جاء بها اإلسالم ،ويتواصل بهذا األسلوب الهجائي القوي إلى آخر القصيدة موجها حديثه عن قبيلة تغلب
واألخطل دون أن يشير إلى آخرين يقصدهم بالهجاء كالفرزدق مثًال ،فالقصيدة أعدت في األساس ردًا على
األخطل وقصيدته.
ًا
لقد اختار جرير لقصيدته لغة رصينة ومتينة ذات أبعاد داللية جدية ،مستخدم أسلوب الوصف والمقارنة
أحيانًا ،واعتمد في معظمها على الجملة الخبرية بقصد إعطاء المخاطب قدرًا كبيرًا من أخبار قبيلة تغلب
وشاعرها األخطل وما تنطوي عليه حالتها من سوء ،ولم تأت األساليب اإلنشائية إال لماما.
إيقاع القصيدة قام على بحر البسيط ذي التفعيلة المزدوجة "مستفعلن فعلن" وهو يمثل الوقع الصارم وقد
تناسب تماما مع موضوع القصيدة ومع دالالتها القوية ،فالبسيط من األوزان العروضية التي تالئم
موضوعات الفخر والهجاء وكذا المديح ،وهي معاني فخمة يؤطرها هذا الوزن ويستوعبها فتجري فيه بكل
سهولة ويسر.وتأتي القافية بروي الراء المرفوعة المطلقة ،لتشكل ثنائيًا إيقاعيا رائعا مع وزن البسيط ،وحرف
الراء كثر استخدامه رويًا في الشعر القديم والحديث لما يحدثه من رنة ساحرة تستعذبها األذن ،وتهتز لوقعها
المشاعر ،وهي بوقعها القوي تحدث تنبيها دالليًا ،ليستوعب الذهن المعنى بكل وضوح كما في أبيات هذه
القصيدة ،فنرى في القافية مفردات متنوعة ما بين أسم وفعل مثل :الذكر البصر ،بشر ،القمر ،انحدروا ،كفروا
...
فكان بذلك إيقاع القصيدة إيقاعًا متالحمًا مع لغة القصيدة وداللتها.
()56
النص الثاني
َو قولي ِإن َأَص بُت َلَقد َأصابا َأِقّلي الَلوَم عـــاِذ َل َو الِع تـــابا
َظ
َو َح ّيًا طاَل ما ِانَت روا اِإل يابا َأَج ِّدَك ما َتَذ َّك ُر َأهـــــَل َنجــــٍد
َك ما َعَّينَت ِبالَس ـــَر ِب الِط بابا َبلى َفِارَفَّض َدمُعَك َغ يَر َنزٍر
َهــوًى مــا َتسَتطيُع َلُه ِط الَب َو هاَج الَبرُق َليَلــــَة َأذِر عاٍت
هــاَج َع َلــَّي َبيَنــُهما ِاكِتئابا َف َفُقلُت ِبحاَج ٍة َو َطَو يُت ُأخرى
َض ميُر الَقلِب َيلَتِهــُب ِالِتهابا َوَو جٍد َقد َطَو يُت َيكــــاُد ِم نُه
َو َم َّنتنا الَم واِع َد َو الِخ ـــــالبا َس َألناها الِش فاَء َفـــــما َش َفتنا
َة
َو َم ن َس َك َن الَس ليَل َو الِج ـنابا َلَش ّتاَن الُم جــــاِو ُر َديَر َأروى
َو َر ّيا َح يُث َتعَتِقُد الِح ــقــــابا َأسيَلُة َم عِقِد الِس مَطيِن ِم نـــها
َو ال ُتهدي ِلجاَر ِتها الِس بـــابا َو ال َتمشي الِلئاُم َلـــــها ِبِس ٍّر
ِش عاَب الُح ِّب ِإَّن َلُه ِش عــــابا َأباَح ت ُأُّم َح زَر َة ِم ــن ُفؤادي
َتَبَّيَن في ُو جوِهِهِم ِاكِتــــئابا َم تى ُأذَك ر ِبخوِر َبني ِع قـــاٍل
َشَددُت َعلى ُأنوِفِهِم الِع صابا ِإذا القى َبنو َو قباَن َغ ّم ـــــــًا
(
)56نفسه ص.58
َص واِع َق َيخَض عوَن َلها الِر قابا َأَعَّد ُهَللا ِللُش َعراِء ِم ّنـــــــــــي
َم ـــــــَع الَقيَنيِن ِإذ ُغ ِلبا َو خابا َقَر نُت الَعبَد َعبَد َبني ُنَم ــيٍر
َفـــــــال َو َأبي َعراَد َة ما َأصابا َأتاني َعن َعراَد َة َقوُل ســوٍء
ِإذا ِاسَتأنوَك َو ِانَتــَظروا اِإل يابا َلِبئَس الَك سُب َتكِس ُبُه ُنَم ـــيٌر
َفَقد َو َأبيِهُم القـــــــــــوا ِس بابا َأَتلَتِمُس الِس باَب َبنو ُنَم ــــيٍر
ُأِتحُت ِم َن الَس ماِء َلهــا ِانِص بابا َأنا البازي الُم ِد ُّل َعلى ُنَم يٍر
َأصاَب الَقلَب َأو َهَتَك الِح جــابا ِإذا َع ِلَقت َم خاِلُبُه ِبَقـــــــرٍن
َج واِنَح ِللَك الِك ــــــِل َأن ُتصـــابا َترى الَطيَر الِع تاَق َتَظُّل ِم نُه
َو ال ُسِقَيت ُقبوُر ُهـــــُم الَس حابا َفال َص ّلى اِإل َلُه َعلـــــى ُنَم يٍر
َيشيُن َس واُد َم حِج ِر هــــا الِنقابا َو َخ ضراِء الَم غاِبِن ِم ن ُنَم يٍر
ُبَعيَد الَنوِم َأنَبَح ِت الِك ــــــــــالبا ِإذا قاَم ت ِلَغيِر َص ــــالِة ِو تٍر
َو ما َع َر َفت َأناِم ُلها الِخ ضــــاَب َو َقد َج َّلت ِنساُء َبنــــي ُنَم يٍر
َعلى ِتبراَك َخ َّبـــَثــِت الــــُترابا ِإذا َح َّلت ِنساُء َبنــــــي ُنَم يٍر
َعلى الميزاِن ما َو َز َنت ُذ بــــابا َو َلو ُوِز َنت ُح لوُم َبنـي ُنَم يٍر
َفِإَّن الَح رَب موِقَد ٌة ِش هــــــــابا َفَص برًا يا ُتيوَس َبنــي ُنَم يٍر
َلساَء َلــــــها ِبَم قَصَبتي ِس بــابا َلَعمرُو َأبي ِنساِء َبنـي ُنَم يٍر
َقــواٍف ال ُأريُد ِبـــها ِع تـــــــابا َس َتهِد ُم حاِئَطي َقرمـاَء ِم ّني
َو َلم َيتُركَن ِم ن َص نـــعــــاَء بابا َد َخ لَن ُقصوَر َيثِر َب ُم عِلماٍت
َو َيحمي َز أُر ها َأَج مًا َو غــــــابا َتطوُلُك ُم ِح باُل َبنـــــــي َتميٍم
َفال ُشكرًا َج ــــَز يَن َو ال َثوابــــا َأَلم ُنعِتق ِنساَء َبنـــــي ُنَم يٍر
َو َقد فاَر ت َأباِج ُلُه َو شـــــــــــابا َأَلم َتَر ني ُص ِببُت َعلـى ُع َبيٍد
َفَيشفي َح ُّر ُشعَلِتها الِج ــــــرابا ُأِع َّد َلُه َم واِس َم حاِم يــــــــاٍت
َفال َك عبًا َبَلـــغـــَت َو ال ِك ــــــالبا َفُغَّض الَطرَف ِإَّنَك ِم ن ُنَم يٍر
ِإلى َفرَعيِن َقد َك ُثرا َو طـــــــابا َأَتعِد ُل ِد مَنًة َخ ُبَثت َو َقـــّلـــَت
َو َض َّبــــُة ال َأباَلَك َأن ُيعــــــابا َو ُح َّق ِلَم ن َتَك َّنــَفـــُه ُنَم ــــيٌر
َو َك عٍب ِاَل غَتَص بُتُك ُم ِاغِتـــصــابا َفَلوال الُغُّر ِم ن َس َلفي ِك ــالٍب
ُترى ُبرُق الَعباِء َلُك ـــم ِثيــــابا َفِإَّنُك ُم َقطيُن َبنــــي ُس َليــــــٍم
َو َع َلـــَّي َأن َأزيَدُهــــــُم ِارِتيابا ِإذًا َلَنَفيُت َعبــــــَد َبني ُنَم يٍر
ِبراعي اِإل بِل َيحَتـِر ُش الِض بابا َفيا َع َج بي َأتوِع ــــُدني ُنَم يٌر
َتَقُّلَدَك اَألِص ــــَّر َة َو الِع ــــــــالبا َلَعَّلَك يا ُع َبيُد َح ِس بَت َح ربي
َنَهـضـــَت ِبُعـلـَبـــٍة َو َأَثرَت نابا ِإذا َنَهَض الِكراُم ِإلى الَم عالي
َو َتعِر ُفُه الِفصـــــــــاُل ِإذا َأهابا َيِح ُّن َلُه الِع فاُس ِإذا َأفـــاَقت
َك ما أوَلعَت ِبالـــــَد َبِر الُغـــرابا َفَأوِلع ِبالِع فاِس بني ُنَم ـــــيٍر
ُتَهِّيُج ُهم َو َتمَتِدُح الــــــِو طابا َو ِبئَس الَقرُض َقرُض َك ِع نَد َقيٍس
ُنجومًا ال َتروُم َلها ِط ـــــــــالبا َو َتدعو َخ مَش ُأِّم َك َأن َترانا
َو ال َعمرى َبَلغَت َو ال الـــِر بابا َفَلن َتسطيَع َح نَظَلتى َو ُس عدى
ِإذا ما اَألمُر في الَح ـــَدثاِن نابا ُقروٌم َتحِم ُل اَألعباَء َعنـــُك م
َو ُهم َم َنعوا ِم َن الَيَم ـــِن الُك البا ُهُم َم َلكوا الُم لوَك ِبذاِت َك هٍف
ُأسوَد َخ ِفَّيِة الُغلِب الـــِر قـــــابا َيرى الُم َتَعِّيدوَن َع َلَّي دوني
َح ِس بَت الناَس ُك ُّلـــــُهُم ِغ ضابا ِإذا َغ ِضَبت َع َليَك َبنو َتمــيٍم
ُتَغَّر ق ُثَّم َيرِم ِبَك الَج ــنــــــــابا ِبَم وٍج َك الِج باِل َفِإن َتُر مـــــُه
ِبذي َز َلٍل َو ال َنَس بي ِائِتـشــــابا َفما َتلقى َم َح ِّلَي في َتمــيــــٍم
َترى ِم ن دوِنها ُر َتبًا ِص ــعـــابا َع َلوُت َع َليَك ِذ رَو َة ِخ نـــِدِفٍّي
َو َم ـــن َو ِر َث الُنــــُبَّو َة َو الِك تابا َلُه َح وُض الَنِبِّي َو سـاِقــــياُه
َو ِإن خاَطبَت َع َّزُك ــــُم ِخ طــــابا َو ِم ّنا َم ن ُيجيُز َح جيَج َج ـمٍع
َو َأعَظُم نا ِبغـــــــاِئَرٍة ِه ــضـــابا َس َتعَلُم َم ن ُأِع ُّز ِح مًى ِبَنـجـٍد
ِبَغوِر اَألرِض ُتنَتهـَُب ِانِتهـــابا ُأُع ُّز َك ِبالِح جاِز َو ِإن َتَسَّهــل
َفَقد َأسَم عَت َفِاسَتِم ِع الَج ــــوابا َأَتيَعُر يا ِابَن َبرَو َع ِم ن َبعيٍد
َك َأقواٍم َنَفحَت َلــُهــــــــــم ِذ نابا َفال َتجَز ع َفـــِإَّن َبنـــي ُنَم يٍر
َو َح َّيُة َأرَيحاَء لي ِاسَتجــــــــابا َشياطيُن الِبالِد َيَخ فَن َز أري
َك داِر السوِء َأسَر َع ِت الَخ ــرابا َتَر كُت ُم جاِش عًا َو َبنــي ُنَم يٍر
َو ِز دُت َعلـــى ُأنوِفِهُم الِع ـــالبا َأَلم َتَر ني َو َس مُت َبنـي ُنَم يٍر
َو َلّم ا َتقَتــــــِد ح ِم ّنـــي ِش هــابا ِإَليَك ِإَليَك َعبَد َبني ُنَم ـــــيٍر
ذاع صيت هذه القصيدة وحظيت بشهرة واسعة ،ولعلها أشهر قصائد جرير سيرورة وتمثًال وذلك لما
صاحبها من حدث ومرويات ،فقد ارتبطت بمالبسات تاريخية تتعلق بالصراع بين جرير والشعراء الذين
وقفوا له في إطار المهاجاة الطويلة.
وقد انهالت على هذه القصيدة المقوالت النقدية والتسميات من قبل القدما ،فسموها بالفاضحة ،والدامغة
وغيرها.
وقبل أن ينظم جرير هذه القصيدة أصابته حالة من الغضب والتوتر النفسي لما لحقه من خصومه ،فعاش ليلة
كاملة من االنفعال ولم يطعم جفنه النوم حتى أتى على آخر بيت في القصيدة تقول الرواية " :فجعل جرير -
وهو ينظم القصيدة -يهمهم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه فإذا هو
يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه ،فانحدرت فقالت :ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا ،فقالوا لها :اذهبي
لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس ،فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتًا في بني
نمير ،فلما ختمها بقوله:
فـــال َك ْع بًا بلغَت َو ال ِكَالَبا ي
َم ٍرُن من َكَّن إ فُغَّض الَّطْر َف
"أن عرادة النميري كان نديما للفرزدق فقدم الراعي البصرة فقدم عرادة طعاما وشرابا فدعا الراعي ،فلما
أخذت الكاس منهما قال عراده للراعي :يا أبا جندل قل شعرا تفضل الفرزدق على جرير فلم يزل يزين له
ذلك حتى قال:
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا يا صاحبي دنا األصيل فسيرا
فغدا به عرادة على الفرزدق فأنشده إياه ،وكان عبيد الراعي شاعر مضر وذا سنها ،فحسب جرير أنه
مغلب الفرزدق عليه ،فلقيه يوم الجمعة ،فقال :يا أبا جندل إني أتيتك بخبر أتاني إني وابن عمي هذا -يعني
الفرزدق -نستب صباحا ومساء وما عليك غلبة المغلوب وال عليك غلبة الغالب ،فإما أن تدعني وصاحبي
وإما أن تغلبني عليه النقطاعي إلى قيس وحطي في حبلهم ،فقال له الراعي :صدقت ال أبعدك من خير
ميعادك المربد فصحبه جرير ،فبينما هما يستخرج كل منهما مقالة صاحبه رآهما جندل بن عبيد فأقبل
يركض على فرس له فضرب بغلة أبيه الراعي ،وقال :مالك يراك الناس واقفا على كلب بني كليب؟ فصرفه
عنه ،فقال جرير :أما وهللا ألثقلن رواحلك ،ثم أقبل إلى منزلة فقال للحسين روايته :زد في دهن سراجك
الليلة وأعدد لوحا ودواة ،ثم أقبل على هجاء بني نمير ،فلم يزل يملي حتى ورد عليه قوله:
فـــال كعبا بلغت وال كالبا فغض الطرف إنك من نمير
فقال :حسبك أطفئ سراجك ونم فرغت منه ،ثم إن جريرا أتم هذه بعد وكان يسميها الدامغة أو الدماغة ،وكان
يسمى هذه القافية المنصورة ،ألنه قال قصائد فيها كلهن أجاد فيها ،وبعد أن أتمها أدخل طرف ثوبه
بين رجليه ،ثم هدر فقال :أخزيت ابن يربوع ،حتى إذا أصبح غدا ورأى الراعي في سوق اإلبل ،فأتاه وأنشده
إياها حتى وصل إلى قوله:
إذا ما األير في است أبيك غابا أجندل ما تقول بنو نمير
ثم كّف ورأى أن ال يجيبه ،فأجاب عنه الفرزدق على روي قوله:
إذا مــا أعظم الحدثان نابا أنا ابن العاصمين بني تميم
ثم إن الراعي قال البنه :يا غالم بئسما كسبنا قومنا ،ثم قام من ساعته وقال ألصحابه :ركابكم فليس لكم ها هنا
مقام فضحكم جرير ،فقال له بعض القوم :ذلك بشؤمك وشؤم ابنك .وسار إلى أهله فلما وصل إليهم سمع عند
القدوم "فغض الطرف إنك من نمير "..وأقسم باهلل ما بلغها إنسي وإن لجرير ألشياعا من الجن ،فتشاءمت به
بنو نمير وسبوه وسبوه ابنه وهم يتشاءمون به إلى اآلن(.)58
وقد نسجت روايات عديدة حول أثر هذه القصيدة ،ومسيرها مثًال بين الناس ،ويسلط الضوء بالذات على
بيت واحد في القصيدة حول بني نمير ،فقد روى الجاحظ(" :)59ان امرأة مرت بمجلس من مجالس بني نمير
فتأملها ناس منهم فقالت :يا بني نمير ال قول هللا سمعتم ،وال قول الشاعر أطعتم؛ قال هللا تعالى " :قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" ،وقال الشاعر:
فـــال كعبا بلغت وال كالبا فغض الطرف انك من نمير
ويروي الجاحظ( )60مشيرا -في موضع آخر -إلى فعل هذه القصيدة في بني نمير" :وإذا كان بيت واحد
يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والَع دد والَفعال مثل ُنمير يصير أهُله إلى ما صارت إليه ُنمير وغير نمير
فما ظُّنَك بالُّظَليم وبمناف وبالَح ِبطات وقد بلغ مضَّر ُة جرير عليهم حيُث قال:
فال كعبًا بلغَت وال كالبا َفُغَّض الَّطْر َف إَّنَك ِم ن ُنمير
إلى أن قال شاعر آخر وهو يهجو َقْو مًا آَخ رين:
كما وضَع الِهجاُء َبِني ُنمْيِر وَس وَف يزيُدكم َض عًة ِهَج اِئي
وقد ابتنت القصيدة على غير مبنى القصائد األخرى في مقدمتها ،فلم تلتزم بالطلل والديار ،بل بدأت بالغزل
الرقيق ،ثم األفتخار وبعد ذلك يأتي الهجاء الذي صال وجال فيه جرير ،حتى رّوع الخصوم وأفزعهم.
والقارئ للقصيدة يجد فيها عنفونًا ولغة غاضبة وأسلوبًا ساخرًا يظهر الشاعر في هياج وانتقام ،حتى في بداية
القصيدة الغزلية يظهر انفعال الشاعر وسخطه في إقالل اللوم ،وهياج البرق والتهاب القلب لهابا ،وسوء
العالقة مع المحبوب.
ًا
أما الهجاء فشغل معظم القصيدة ،وتناول الشاعر عدد من الشخصيات وقبائلهم ،وصب عليهم وابًال من
العيوب وألصق بهم المخازي ،ومن تلك الشخصيات الفرزدق والراعي النميري وغيرهم.
ومما زاد في قوة القصيدة إيقاعها الراقص الذي وفق الشاعر وأجاد في اختياره وزنًا وقافية بتمازج وانسجام
زاد في حسن المبنى ،وعمق المعنى.
فوزن الوافر من األوزان السريعة التي ال يتلكأ فيها المعنى ،وال تتأرجح فيها المفردات ،وإنما تنساب
وتتوالى تأخذ برقاب بعضها وهذا ما فعله الشاعر بصياغته واختياره لمفرداته يساعده هذا الوزن اإليقاعي.
(
)58خزانة األدب ،للبغدادي ،ج ،1ص.90- 87
(
)59البيان والتبيين ،للجاحظ ،ص.576
(
)60الحيوان ،للجاحظ،ج ،1ص.364
فالوافر بحر عروضي ينتمي إلى المجموعة األولى التي تتكرر في شطريها تفعلية واحدة ،وتفعلية الوافر هي
"مفاعلتن" تتكرر ست مرات" وهي تفعلية يتسم إيقاعها بالتموج الحركي والتفخيم ،فيحدث جلجلة تتناسب مع
القضايا الجدية.
ًا
وتأتي القافية بحرف الروي الباء المطلقة بحرف الخروج األلف لتعطي البيت الشعري انطالق غير محدود في
نهايته ،فيما اإليقاع مع ألف اإلطالق بعد أن يحدث روي الباء الصامت وقفة تهز المشاعر .فالباء من حروف
الذالقة التي تتصف بالطالقة والوضوح ،ومن ثم تحدث إيقاعًا فخمًا قويًا في قوافي الشعر سواء جاءت مطلقة
أو مقيدة.
خالصة البحث:
تفرد هجاء جرير عن غيره بميزتين عامة وخاصة :أما العامة فهي الرعاية الرسمية من قبل الخلفاء
واألمراء لفن الهجاء المعروف بفن النقائض عمومًا ،وأما الخاصة فإن جريرا كان يقف لوحده أمام جيش كبير
من الشعراء الخصوم المهاجمين وهو في موقف الدفاع والرد.
ولقد حار النقاد في الحكم على شعر جرير وتفضيله ،فبعضهم يرى أن شعر جرير هو ذلك الشعر السهل في
ألفاظه الميسور في معانيه ودالالته وهو ما جعله سائرًا متمكنًا في وجدان العامة ،لكن هذا الرأي إذا سلمنا
بصوابه ال يمنع اهتمام الخاصة به ومتابعتهم له تماما كما هو حظ غيره من الشعراء األقران.
والقارئ لشعر جرير والذي غلب عليه موضوع الهجاء والمهاجاة يجده ذا لغة متينة وقوية بعيدة عن
اإلغراب إلى حد كبير ،وتميز أسلوب جرير بتوجيهالخطاب مباشرة نحو المخاطب المهجو وحفل شعره
بصور بالغية قائمة على التشبيهات واالستعارات وبعض الكنايات ،كماعتمد على مصطلحات ومسميات
مكروهة وظفها في هجائه تجاه الخصوم ،حتى إنه وصل في بعض األحيان إلى حالة الفحش واإلقذاع
واإليالم.
ًا
ورغم ذلك يبقى الهجاء في تلك الفترة ومنه هجاء جرير نوع من العمل الفني المحترف ال يثير الخصومات
كتلك التي كان يثيرها الهجاء في العصر الجاهلي.
المصادر والمراجع
األدب المفرد ،للبخاري ،تحقيق :محمد فؤاد عبدالباقي ،دار البشائر اإلسالمية -بيروتالطبعة الثالثة – 1409 ، -1
1989م.
األغاني ،ألبي فرج األصفهاني ،تحقيق :سمير جابر ،الطبعة الثانية ،دار الفكر ،بيروت. -2
األمالي في لغة العرب ،ألبي علي القالي دار الكتب العلمية – بيروت 1398هـ 1978م. -3
البيان والتبيين :لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ،تحقيق :المحامي فوزي عطوي ،دار صعب – بيروت الطبعة -4
األولى 1968م.
البداية والنهاية ،البن كثير -5
تاريخ آداب العرب ،للرافعي، -6
تاريخ اإلسالم ووفيات المشاهير واألعالم .للذهبي ،تحقيق :د .عمر عبد السالم تدمري ،دار الكتاب العربي ،لبنان - -7
بيروت،الطبعة األولى 1407هـ 1987 -م.
الحيوان ،الجاحظ ،تحقيق :عبد السالم محمد هارون ،دار الجيل -1416بيروت لبنان،هـ 1996 -م. -8
خاص الخاص ،ألبي منصور الثعالبي ،تحقيق :حسن األمين ،دار مكتبة الحياة – بيروت. -9
خزانة األدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي ،تحقيق :محمد نبيل طريفي ،وإميل بديع اليعقوب ،دار الكتب العلمية، -10
بيروت،
ديوان جرير ،دار صادر بيروت لبنان. -11
ديوان حسان بن ثابت ،شرحه وضبطه :د.عمر فاروق الطباع ،دار القلم للطباعة والنشر بيروت لبنان. -12
ديوان المعاني ،ألبي هالل العسكري. -13
سنن الترمذي ،تحقيق :أحمد محمد شاكر وآخرون ،دار إحياء التراث العربي – بيروت. -14
سنن أبي داود ،تعليق :عزت الدعاس ،دار الحديث حمص ،الطبعة األولى 1969م. -15
الشعر والشعراء ،البن قتيبة ،دار إحياء العلوم بيروت ،الطبعة األولى 1404هـ1984 /م -16
طبقات فحول الشعراء ,البن سآلم الجمحي ،تحقيق :محمود محّم د شاكر ,دار المدني ,جدة، -17
العصر الجاهلي ،شوقي ضيف ،دار المعارف الطبعة الثامنة. -18
العمدة البن رشيق ،تحقيق :د .محمد قرقزان ،دار المعرفة بيروت لبنان ،الطبعة األولى 1408هـ1988/م -19
لسان العرب،البن منظور ،دار صادر ،بيروت ،الطبعة األولى. -20
الكامل في اللغة واألدب ،للمبرد ،تحقيق :محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار الفكر العربي – القاهرة ،الطبعة الثالثة 1417 -21
هـ 1997 -م.
محاضرات األدباء ،الراغب األصفهاني. -22
المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ،عبد هللا الطيب المجذوب ،دار جامعة الخرطوم للنشر ،الطبعة الرابعة -23
1991م ،
معاهد التنصيص على شواهد التلخيص ،للعباسي ،تحقيق :محمد محيي الدين عبد الحميد عالم الكتب ،بيروت، -24
1367هـ 1947م.
المفصل فى تاريخ العرب قبل اإلسالم ،د .جواد علي ،دار الساقي ،الطبعة الرابعة 1422هـ2001 /م. -25
الموشح للمرزباني -26