Professional Documents
Culture Documents
إن احلمد هلل حنمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ باهلل تعاىل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده اهلل فال
مِض ل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله إال اهلل إله األولني واآلخرين ،وأشهد أن حممًد ا عبده
ورسوله ،صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إىل يوم الدين.
أما بعد :فاتقوا اهلل أيها املؤمنون ،اتقوا اهلل حق التقوى ،واشكروا اهلل تعاىل على ما من به عليكم من هذا الدين
ِض ِن ِد
وهذا الصراط املستقيم حيث قال جل يف عاله (اْلَيْوَم َأْك َم ْلُت َلُك ْم يَنُك ْم َوَأَمْتْم ُت َعَلْيُك ْم ْع َم يِت َوَر يُت َلُك ُم
اِإل ْس َالَم ِد يًنا) [املائدة.]3 :
بعث اهلل نبينا حممًد ا -صلى اهلل عليه وسلم -على حني فرتة من الرسل وانطماس من السبل وجهالة من اخللق،
فلم يكن يف األرض من يعرف هلل حًّقا إال بقايا من أهل الكتاب.
فبعث اهلل هذا النور املبني ،وهذا الرسول الكرمي يف قوٍم مل يسبق هلم عهد برسالة ،يف قوٍم ورثوا بعض ما كان عليه
خليل اهلل إبراهيم من تعظيم البيت احلرام ،وإجالل هذه البقعة ،وليس عندهم من معرفة اهلل -تعاىل -وعبادته
شيء ُيذَك ر ،بل كانوا على جاهلية جهالء ،كانوا على عماء عظيم كسائر بقاع األرض ،إال أن اهلل اصطفى هذه
البقعة فجاءها هذا النور العظيم ،هذا املكان الذي ُعِبد فيه اهلل أوًال؛ مكة البلد احلرام أول بيت ُوضع للناس ،منه
انبثقت آخر رسالة للناس ،وآخر رسول بعثه اهلل -تعاىل -للناس شاء أن يكون من هذه البقعة املباركة لريبط أول
الزمان بآخره (ِإَّن َأَّو َل َبْيٍت ُوِض َع ِللَّناِس َلَّلِذي ِبَبَّك َة ُمَباَرًك ا َوُه ًد ى ِّلْلَعاَلِم َني ) [آل عمران.]96:
فيهم ُبِعث حممد -صلى اهلل عليه وسلم -فجاء النور من هذه البقعة املباركة ،خرج رسول اهلل -صلى اهلل عليه
وسلم -دعا قومه إىل أكمل دعوة ،وإىل أمت كلمة إىل "ال إله إال اهلل" ،دعاهم إىل أن يعبدوا اهلل وحده ال شريك
له ،مل يكثر عليهم طلًبا ومل يكثر عليهم فروًض ا ،بل دعاهم إىل عبادة اهلل وحده ،إىل أن حيرروا قلوهبم من التعلق
بغري اهلل ،فعُظم ذلك على كثري منهم فقالوا (َأَجَعَل اآْل َهِلَة ِإًهَلا َواِح ًد ا ِإَّن َه َذ ا َلَش ْي ٌء ُعَج اٌب ) [ص ،]5:فكذبوه -
صلى اهلل عليه وسلم -وعاندوه وضَّيقوا عليه وسُّبوه مبا سُّبوه من الكذب واجلنون والسحر ،وقد كان محيد السرية
فيهم ال يعرفون عنه إال احلق واهلدى واخلري والرب ،فسريته كانت أعظم شاهد على صدق ما جاء به.
كيف ال وسريته طيبة قبل البعثة ،فكملها اهلل -تعاىل -بالرسالة والنور املبني واهلدى القومي الذي جاء به جربيل
عليه السالم.
جاء رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -هلؤالء مبا جاء به فكذبوه أعظم تكذيب ،فضاق على النيب -صلى اهلل
عليه وسلم -األمر يف مكة ،فطلب مكاًنا يبِّلغ فيه دين ربه ،ويدعو الناس إىل هداية اهلل -عز وجل -ليخرجهم
من الظلمات إىل النور ،فما كان إال أن أذن اهلل له باهلجرة بعد أن عزم الكفار على قتله كما قال جل يف عاله:
(َو ِإْذ ْمَيُك ُر ِبَك اَّلِذ يَن َك َف ُروْا ِلُيْثِبُتوَك َأْو َيْق ُتُلوَك َأْو ْخُيِرُج وَك َوْمَيُك ُروَن َوْمَيُك ُر الّلُه َوالّلُه َخ ْيُر اْلَم اِكِريَن ) [األنفال:
.]30
خرج رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وقد اختار لصحبته صِّديق هذه األمة ،وأفضلها بعد نبيها أبا بكر
الصديق -رضي اهلل عنه ،-فلحق رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وأبو بكر بأول خروجهم بغار يف جبل ثور،
فكان فيه ثالثة أيام ،وعرف املشركون مكان الغار ،إال أن اهلل أعماهم.
ملا سكن الطلب عنهم خرج -صلى اهلل عليه وسلم -موقًنا بنصر اهلل ،وتأييده فتبعه من تبعه من املشركني يطلبونه
رغبًة يف حتصيل اجلائزة اليت وضعتها قريش ملن جاء بالنيب -صلى اهلل عليه وسلم ،-وكان ممن تِبع النَّيب -صلى اهلل
عليه وسلم -سراقُة بن مالك؛ تِبع النَّيب -صلى اهلل عليه وسلم -ليظَف ر بتلك اجلائزة ،فخرج حنوه حىت كاد أن
يدركه فلما اقرتب من رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -عثرت به فرسه ،فخَّر عنها ،مث قام فامتطاها ،فتبع النيب
-صلى اهلل عليه وسلم ،-فلما قرب منه خَّر ثانية ،وحصل ما حصل يف املرة السابقة ،حىت إنه اقرتب يف املرة
الثالثة فسمع قراءة النيب -صلى اهلل عليه وسلم.-
سراقة الذي خرج يَّتِبع النيب -صلى اهلل عليه وسلم -اقرتب منه إىل درجة أنه ِمس ع قراءة النيب -صلى اهلل عليه
وسلم -وهو -صلى اهلل عليه وسلم -ال يلتفت إليه ،وأبو بكر ُيكِثر االلتفاف خائًف ا من إدراكه.
يقول سراقة" :فلما قربت منهم ساخت يد فرسي يف األرض" ،أي غاصت يد فرسه الذي عليه يف األرض حىت
بلغت الركبتنيَ ،فَخ َرْرُت عنها ،مث زجرهتا فنهضْت فلم تكد خترج يديها ،فلما استوت قائمة إذا ألثر يديها ُعَثاٌن
َس اِط ع يف السماء مثل الدخان ،فاستقسمت باألزالم فخرج الذي أكره ،فناديتهم باألمان ،فوقفوا فركبت فرسي
حىت جئتهم ،ووقع يف نفسي حني لقيت ما لقيت من احلبس عنهم ،أن سيظهر أمر رسول اهلل -صلى اهلل عليه
وسلم -فقلت له :إَّن قومك قد جعلوا فيك الدية ،وأخربهتم أخبار ما يريد الناس هبم ،وعرضت عليهم الزاد واملتاع
فلم َيْرَزآيِن ،ومل يسأالين ،إال أن قال :أْخ ِف عنا ،يعين رد عنا َم ن يتبعنا من هذه اجلهة ،فجعلت ال ألقي أحًد ا يف
الطلب إال رَددته وقلت له :كفيتكم هذا الوجه.
فسبحان اهلل! خرج سراقة أول النهار ليدرك -صلى اهلل عليه وسلم -وصاحبه ،وأمسى آخر النهار حارًس ا هلما
راًّد ا للناس عنهما ،وقد أعرب سراقة عن سبب ذلك يف أبيات فقال خياطب أبا جهل:
أبا حكم واهلل لو كنَت شاهدًا *** ألمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ومل َتْش ُك ك بأّن حممدًا *** رسول وبرهان فمن ذا يقاومه؟!
عليك فُكَّف القوم عنه فإنين *** أرى أمره يومًا ستبدو معامله
صدق رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -فإن اهلل منجز وعدهِ( :إَّال َتنُصُروُه َفَقْد َنَص َرُه الّلُه ِإْذ َأْخ َرَجُه اَّلِذ يَن َك َف ُروْا
َثاَيِن اْثَنِنْي ِإْذ َمُها يِف اْلَغاِر ِإْذ َيُقوُل ِلَص اِح ِبِه َال ْحَتَزْن ِإَّن الّلَه َمَعَنا) [التوبة ،]40:صدق اهلل فصدقه.
شاع خرب خروج رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -من مكة يف جوانب الصحراء ،فعلم به البدو واحلضر ،وكان
ممن ترامت إليهم األخبار وطرقتهم أنباء خروج سيد ولد آدم -صلى اهلل عليه وسلم -كان من أولئك أهل املدينة،
فكانوا خيرجون يرقبون وصول رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -ويتشوفون إىل مقدمه الكرمي ومطلعه البهيج كل
صباح ميدون أبصارهم وقلوهبم إىل حيث تنقطع األنظار يرقبون جميء خري األنام -صلى اهلل عليه وسلم ،-فإذا
اشتد هبم احلر عادوا إىل بيوهتم.
ويف اليوم الثاين عشر من شهر ربيع األول عام 13من البعثة النبوية خرج املهاجرون واألنصار خرجوا على عادهتم
يرقبون رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -فلما محيت الشمس رجعوا كعادهتم ،فما لبسوا إال أن مسعوا هاتًف ا
يصيح ويصرخ بأعلى صوته :يا بين قيلة ،وهو اسم لألنصار ،هذا صاحبكم قد جاء ،هذا جدكم الذي تنتظرون،
أي هذا حظكم ونصيبكم الذي تنتظرون ،فارجتت املدينة تكبًريا ،ولبست طيبة حلة البهجة والسرور ،وخرج أهلها
يستقبلون رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -خرجوا رجاًال ونساء صغاًرا وكباًرا ،خرجوا للقائه -صلى اهلل عليه
وسلم -فتلَّق ْوه وحَّيوه بتحية النبوة ،أحاطوا به من كل جانب ،والسكينة تغشاه والوحي يتنزل عليه -صلى اهلل عليه
وسلم -فإن اهلل هو مواله وجربيل وصاحل املؤمنني واملالئكة بعد ذلك ظاهرين.
بىَن -صلى اهلل عليه وسلم -أول ما قدم املدينة مسجد قباء وهو أول مسجد ُعِّم ر يف اإلسالم بعد البعثة ،بناه يف
بين عامر ،وهذا أول مسجد ُأِّس س على التقوى ،مث نزل -صلى اهلل عليه وسلم -يف بين النجار عند أخواله ،وبىن
مسجده الذي بقي فيه حىت مات -صلى اهلل عليه وسلم ،-آخى بني املهاجرين واألنصار ،كانت هجرته من
معامل صدق نبوته -صلى اهلل عليه وسلم ،-فصارت املدينة عاصمة أهل اإلسالم ودار اهلجرة ،ومأرز أهل اإلميان،
فاحلمد هلل محًد ا كثًريا طيًبا مبارًك ا فيه كما حيب ربنا ويرضى.
أقول هذا القول وأستغفر اهلل العظيم يل ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
اخلطبة الثانية:
احلمد هلل رب العاملني ،أمحده حق محده ال أحصي ثناًء عليه ،هو كما أثىن على نفسه ،وأشهد أن ال إله إال اهلل
إله األولني واآلخرين ،وأشهد أن حممًد ا عبداهلل ورسوله بَّلغ البالغ املبني صلى اهلل عليه وعلى صحبه ومن اتبع
سنته بإحسان إىل يوم الدين.
أما بعد :فاتقوا اهلل أيها املؤمنون ،والزموا أمره فإن تقواه سبب السعادة والنجاة (َيا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوْا اَّتُق وْا الّلَه َح َّق
ُتَق اِتِه َوَال ُمَتوُتَّن ِإَّال َوَأنُتم ُّم ْس ِلُم وَن ) [آل عمران.]102:
عباد اهلل :استمتعتم إىل طرف من نبأ هجرة النيب -صلى اهلل عليه وسلم -اليت كانت يف هذا الشهر عام 13من
بعثته -صلى اهلل عليه وسلم.-
فاتقوا اهلل أيها املؤمنون ،وتدبروا ما يف هذه اهلجرة وهذا النبأ العظيم من العرب والعظات؛ فإن اهلل -تعاىل -أجنى
رسوله من مكر أعدائه ،وأذن بظهور هذا الدين هبذه اهلجرة ،ونصره نصًرا عزيًزا ومَّك َنه متكيًنا كبًريا ،فكانت هجرته
مفرًقا عظيًم ا ،ونقطة حتول يف دعوة رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم.-
وهبذا ُيعَلم أن اهلل غاِلب على أمره ،ولكّن أكثر الناس ال يعلمون ،فمهما بلغ كيد الكفار والفجار إلمخاد هذا
ِإ
الدين ومنع ظهور أنواره؛ فإن اهلل -تعاىل -قد أذن بظهوره ،ويأىب اهلل إال أن يتم نوره ولو كره الكافرين (َو ْذ ْمَيُك ُر
ِبَك اَّلِذ يَن َك َف ُروْا ِلُيْثِبُتوَك َأْو َيْق ُتُلوَك َأْو ْخُيِرُج وَك َوْمَيُك ُروَن َوْمَيُك ُر الّلُه َوالّلُه َخ ْيُر اْلَم اِكِريَن ) [األنفال.]30:
إن أعداء اهلل مهما بلغوا من القوة يف املكر ،والشدة يف الكيد ،والرصانة يف التخطيط إلطفاء نور اهلل -تعاىل-
وأذى عباده إال أن اهلل -تعاىل -جيري أمره على ما شاء ،فما شاء كان وما مل يشأ مل يكن (َك َتَب الَّلُه َأَلْغ ِلَّنَب َأَنا
َوُرُس ِلي ِإَّن الَّلَه َقِوٌّي َعِزيٌز ) [اجملادلة.]21:
أيها املؤمنون :هذا الشهر شهر ربيع األول ،كان حمل ألحداث كبار غرَّي ت وجه التاريخ ،ففيه ُولد رسول اهلل -
صلى اهلل عليه وسلم -على قول كثري من أهل العلم ،ووصل املدينة مهاجًرا يف هذا الشهر ،وفيه تويف -صلى اهلل
عليه وسلم -وانقَطع الوحُي من السماء ،وقد مَض ى الَّس لف الصاحل الذين هم بالكتاب عاِلمون ،وبالسنة
مستمسكون على عدم إحداث شيء يف هذا الشهر من األعياد واملناسبات اليت جيتمع الناس فيها ِلْذكر سريته -
صلى اهلل عليه وسلم -مل حيدثوا شيًئا من ذلك ،فال أعياد وال مناسبات وال موالد وال أفراح ،بل هو كسائر
الشهور ،كما أهنم مل حُي ِد ثوا شيًئا لوفاته ،فال مآمت وال أحزان وال بكاء وال عويل ملوته -صلى اهلل عليه وسلم-
وانقطاع الوحي من السماء.
بل مضْو ا -رمحهم اهلل -على عد هذا الشهر كغريه من الشهور ،فلما ضُعفت العلوم يف الناس ،وانتشر فيهم
اجلهل ،وخفي فيهم نور النبوة حَد ث ما حدث يف القرن الرابع من اهلجرة؛ حيث أحدث العبيديون االحتفال
مبولد النيب -صلى اهلل عليه وسلم ،-فشاعت هذه البدعة بعد أن زالت دولة العبيديني ،شاعت يف املسلمني إىل
يومنا هذا ،وفيه حيتفل كثري من املسلمني مبولد النيب -صلى اهلل عليه وسلم -وهم يف هذا على درجات بني بدعة
وبني شرك ،فالذين حيدثون موًمسا يبتهجون فيه ،ويوزعون فيه احللوى ،ويقيمون فيه األطعمة؛ هؤالء وقعوا يف
بدعة.
وأما أولئك الذين ينشدون القصائد الشركية الكفرية اليت يعظمون فيها النّيب مبا ال يليق إال باهلل ،وال يكون إال له،
فهؤالء قد وقَعوا يف الشرك.
وبني هذا وذاك من أنواع االحنراف من الغناء والسفور ،ورقص الرجال والنساء يف بعض املوالد ما يعرفه العارفون
هبذه البدع ،ال أقول كل املوالد على هذا النحو ،بل منها ما فيه هذه الصورة ،يفعلونه تقرًبا إىل اهلل ،وظًّنا أنه
تعظيم للنيب -صلى اهلل عليه وسلم -خيالفون أمره ،ويَّد ُعون حمّبته ،وهذا كذب وزور.
فخري األمور الّس الفات على اهلدى *** وشّر األمور احملدثات البدائع
اللهم أهلنا رشدنا وقنا شر أنفسنا ..وارزقنا االستمساك بسنة نبيك صلى اهلل عليه وسلم