Professional Documents
Culture Documents
شرح منظومة أصول مذهب الإمام مالك
شرح منظومة أصول مذهب الإمام مالك
تفريغ شرح
نظم أصول مذهب اإلمام مالك
رحمه الله
1
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدرس األول 3 ....................................................................................
2
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدرس األول
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل أفضل املرسلني خاتم النبيني ،وعىل آله
وأصحابه أمجعني ،و َم ْن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين ،سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك
أنت العليم احلكيم.
نبدأ بعون اهلل وتوفيقه ما تيرس من التعليق عىل منظومة أصول مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل
الو َاليت الشنقيطي رمحه اهلل تعاىل.
تعاىل للعالمة أمحد بن حممد بن أيب ُق َّفة املحجويب َ
(ترمجة املؤلف)
وهنا نضبط اسم هذا العلم رمحه اهلل تعاىل ،فاسمه أمحد بن حممد بن أمحد ،وأمحد هذا الذي
هو جده ُيكنَّى باللهجة احلسان َّية التي هي هلجة أهل موريتانياُ ،يقال له ،بو جفة ،بو :معناه
أبو ،وجفة :هي قفة َّ
الشعر ،يعني عندما يطول شعر رأس اإلنسان نقول :فالن (عاد
ابجفته) ،فاجلفة باجليم املرصية التي تعرب عندنا بأهنا كاف معقودة معناها :الشعر الطويل.
فهو أمحد بن حممد بن أمحد ،وهو أبو ق َّفة ،املحجويب -نسب ًة إىل قبيلة املحاجيبَ -
الواليت -
أيضا يغلط بعض الناس يف ضبطها ،فيقولَّ :
الواليت ،بالتشديد، نسبة إىل مدينة َ
والته وهذه ً
3
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الشنقيطي؛ نسب ًة إىل اإلقليم ،وإال فهو ليس من مدينة شنقيط ،ولكن كام تعلمون مجي ًعا
الشنقيطي لقب لكل أهل تلك البالد ،وهو عامل جليل رمحه اهلل تعاىل ،ت ِّ
ُويف سنة مخس
وسبعني ومائتني وألف.
وهذه املنظومة ذكر فيها عىل سبيل اإلمجال أصول اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل ،وهذه
األصول ينبغي أن ُيع َلم أن اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل مل يضعها ،وإنام استنبطها أصحابه من
كتبه ،وألجل ذلك وقع االختالف يف بعضها ،وهو أراد أن يذكرها عىل سبيل اإلمجال ال
أيضا سنذكرها عىل سبيل اإلمجال ،لكننا نعلق عىل كل أصل بام
عىل سبيل التفصيل ،ونحن ً
نراه مناس ًبا من مسائله ،دون أن نُلزم أنفسنا باخلوض يف تفاصيل مسائل كل أصل من هذه
األصول؛ ألن هذه األصول يمكن أن تكون ألفية لو ُبس َطت مسائلها وتفريعاهتا ،لكن هذا
ليس هو املقصود ،املقصود أن يعرف الطالب أصول مالك عىل سبيل ،اإلمجال بأن يعرف
كل أصل من هذه األصول ،وأن يعرف حج َّية هذا األصل ،وأن يعرف مهامت مسائله،
وتطبيقاته ،وهذا هو الذي نريده ،نسأل اهلل اإلعانة والتوفيق.
رشحا
ً الو َاليت رمحه اهلل تعاىل وهذه املنظومة رشحها َّ
العالمة حممد حييى بن حممد املختار َ
واف ًيا ،وهو متوفر.
َد ََلئِْ ْ ْ ْ ْ ْ َا اد ي
ِْ ْ ْ ْ ْ ْ ِ اد َ ِ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ِ اد ل َ َمْ ْ ْ ْ ْ ْ .1احلم ْ ْ ْ ْ لا ِيِ
ذ اديْ ْ ْ ْ ِا َ ْ ْ ْ ْا َْ ي َم ْ ْ ْ ْ َ
ِ م ْ ْ ْ ْ ِ ِ اد ِ ْ ْ ْ ْ َا ِ ِ
َادتيْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ِ َ
ى َْلْ ْ ْ ْ ْ ْ ل َع َْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ادْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ يا ََا ََ .3آد ْ ْ ْ ْ ادصلْ ْ ْ ْ أِ ََ َ
اداصْ ْ ْ ِ ِز اد ي
ِْ ْ ْ اد َ ِ ْ ْ ْ ِذكْ ْ ْ ِن ْ ْ ْ ِِ ِ
ل ََ
ْ َ .4لا َ د َصص ْ لا ِْ َاا اد ْنيَ ِ اد ْ ِ
َ ََ
ِن دِ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ة
َّ ا ِعِن ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ِ ِس ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْتيذَ َع َ َِ .6دديْ ْ ْذل ا َْ ْ ْا ِ
ا َِن ْ ْ ْا َ ِ
ِ ْ ْ ْ ْ ْ ْْ َ ا ا َ َْ ْْأ
النبي ،والنبيئ،
ُّ الس َال ُم) ،أي :األمانَ ( ،أ َبدَ ا) ،أي مستمرينَ ( ،ع َىل النَّبِ ِّي) ﷺ ،و ُيقال:
( َو َّ
أيضا أصله باهلمز ،وقد يكون من نبا
والنبي :قد يكون ً
ُّ فالنبيئ اشتقاقه من النبأ ،وهو اخلرب،
ينبو بمعنى :ارتفع.
5
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
اش ِم ِّي) ،أي :املنتسب إىل هاشم بن عبد مناف ،فهو ﷺ ،حممد بن عبد اهلل بن عبد
(اهل ِ
َ
املطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قيص بن كالبَ ( ،أ ْمحَدَ ا) ﷺ.
( َوآلِ ِه) ،أي :وأصيل وأسلم عىل آل النبي صىل اهلل عليه وسلم ،وهم عند املالكية أقارب
النبي ﷺ املؤمنني من بني هاشم خاصة دون غريهم ،وقال الشافعية :أقاربه املؤمنون من
بني هاشم ،وبني املطلب بن عبد مناف.
( َو َص ْحبِ ِه) ،أي :أصحابه ،اسم مجع صاحب وصاحب النبي ﷺُّ :
كل َم ْن آمن به ،واجتمع
معه ،ومات عىل دينه ،ولو ختللت ذلك ردة عىل األصح.
التابعني للنبي ﷺ ،وآله وأصحابهَ ( ،ع َىل الدَّ َوا ْم) ،أي :عىل استمرار الزمن.
6
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
(الو ِج ْيز)،
( َفال َق ْصدُ ) ،أي :املقصود( ،بِ َذا النَّ ْظ ِم) ،أي :هبذه األبيات املنظومة يف بحر الرجزَ ،
أي :املخترص الذي هو قليل العبارة ،لكنه كثري املعنىِ ،
(ذك ُْر َم َب ِان) ،أي :املقصود هو أن
أذكر مبان ،أي :أصول الفقه ،واملبان مجع مبنى ،وهو ما ينبني عليه غريه ،أي :األصل الذي
ينبني عليه غريه ،وقولهَ ( :م َب ِان ال ِف ْق ِه) ،حيتمل:
● أن تكون (أل) فيه العهدية ،واملقصود :الفقه املعهود عندنا ،وهو فقه اإلمام مالك
رمحه اهلل تعاىل.
● ويمكن أن يكون أراد بالفقه املعنى اللغوي ،وهو الفهم ،وعليه يتعلق به اجلار
مصدرا يصح تع ُّلق اجلار علام ،بل يكون ٍ
ً واملجرور بعده؛ ألنه حينئذ ال يكون ً
ِ ِ ِ ِ
واملجرور به ،فيكون املعنىَ ( :م َبان الف ْقه يف َّ ْ
الرشعِ) ،أي :مبان فهم الرشع ،والفقه
ٍ
حينئذ. يف الرشع ،فيصح تع ُّلق املجرور به
ٍ
حينئذ شبه اجلملة ،أي :املقصود أنني أذكر األصول علام فإنه ال يتعلق به
أما إذا جعلنا الفقه ً
التي ينبني عليها فهم الرشع ،وهي األصول التي تُستَفاد منها الفروع ،أو مبان الفقه املعهود
عندنا ،أي :أذكر أصول الفقه املعهود عندنا ،وهو فقه اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل.
7
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ِ
فمثال :قول اهلل تعاىلَ { :أق ِم َّ
الص َال َة} [اإلرساء: تغايرا يف الذاتً ،
ً لكن التغاير بينهام ليس
دليال إمجال ًّيا من جهة أن صيغة َأ ِق ْم( :ا ْف َع ْل) ،فهذه الصيغة ُينظر فيها من
،]78هذا يعترب ً
جهة إمجالية ،هل يقصد هبا الوجوب أو الندب؟ وهل تفيد الفور أم ال؟ وهل يكفي يف
امتثاهلا املرة أم أنه ال بد من التكرار؟ وهل األمر هبذا اليشء هني عن ضده؟ وهل األمر به
يقتيض اإلجزاء أو ال يقتيض اإلجزاء؟ وهذا هو حمل نظر األصويل ،فهذا دليل إمجايل.
ٍ
حينئذ لكن عندما ننصب هذه اآلية ً
دليال عىل وجوب حكم خاص ،وهو الصالة ،فإهنا
تكون ً
دليال جزئ ًّيا ،وهو حمل نظر الفقيه ،فالفقهاء هم الذين يستدلون عىل وجوب هذه
اجلزئية؛ ألن هذا حمل نظرهم.
اعتباري ،وليس
ٌّ لكن كام ب َّينَّا التغاير بني الدليل اإلمجايل ،وبني الدليل التفصييل ،هو تغاير
تغايرا ذات ًّيا؛ ألن املثال واحد ،لكن له جهتان:
ً
8
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ونحن هنا نتكلم عن األدلة اإلمجالية ،هنا ال نريد تعيني حكم بمفرده ،وإنام نريد تعيني ٍ
دليل
إمجا ٍّيل يمكن أن تُستنبط منه أحكام كثرية ،فهو جمرد عن اجلزئيات.
فقال:
ب األَ َغ ْر) ،أي :املشهور املعروف ،وهو اإلمام مالك بن أنس بن مالك ( َأ ِد َّل ُة املَ ْذ ِ
هب َم ْذ َه ِ
األص َبحي التيمي موالهم املدن رمحه اهلل تعاىل ،إمام دار اهلجرة ،نجم العلامء ،قال ِ
احلمريي ْ
ٌ
فاملك النجم. اإلمام الشافعي رمحه اهلل تعاىل :إذا ُذكر العلامء
أدلة مذهبه ستة عرش ،ثم رشع يف تفصيل هذه األدلة ،وكام ب َّينَّا من قبل فإننا لن نخوض يف
تفاصيل مسائل هذه األدلة إال ما نرى أنه رضوري لتوضيح القاعدة ،وتبيني األصل ،فنحن
ال نريد دراسة علم أصول الفقه من خالل هذا الكتاب ،فذلك علم آخر ،له كتبه التي
درس فيها.
ُي َ
داللته ويقول :أنا أرى أن ثامنني هذه معناها ثالثون ،أو أربعون ،ونحو ذلك.
ِ
ب ِيف إِنَاء َأ َح ِدك ُْم َف ْل َي ْغ ِس ْل ُه َس ْب ًعا» ،فقوله سبعا ً
أيضا عدد نص، وكقوله ﷺ« :إِ َذا َ ِ
رش َب ال َك ْل ُ
ال حيتمل معنى آخر.
فالنص سوا ًء كان من الكتاب أو من السنة فهو حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل،
وطب ًعا هو حجة عند مجاهري العلامء.
10
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
يعني أن النص قد ُيطلق عىل الدليل مطل ًقا سواء كان وح ًيا ،أو غري وحي ،وقد ُيطلق عىل
الدليل من الكتاب أو السنة مطل ًقا ،ف ُيقال ً
مثال :ال قياس مع النص ،والنص معناه وجود
كتاب أو سنة ،ونحو ذلك ،فالنص له إطالقات أخرى.
لكن املقصود بالنص هنا اللفظ الذي ال حيتمل إال معنى واحدً ا ،ومن أشهر أمثلته :األعالم،
مثالُ { :ح ِّر َم ْت َع َل ْيك ُُم املَْ ْي َت ُة} [املائدةُ ،]3 :ح ِّر َم ْتٌّ :
نص يف واألعداد ،ويكون يف غريهاً ،
املنع ،ال حتتمل معنى آخر.
ُيقالَ :ق ِم ٌن بكرس امليم ،و َق َم ٌن بفتحها ،أي :جدير وحقيق ،ولكن األنسب هنا كرس امليم؛
ملناسبة الشطر األول.
األصل الثان من أصول اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل :هو الظاهر من الكتاب والسنة،
ً
احتامال والظاهر هو االحتامل الراجح فاللفظ الذي َّ
دل عىل معنى ظاهر حيتمل غريه
أيضا حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل،
مرجوحا ،يسمى معناه املتبادر ظاهرا ،وهو ً
ً
وعند مجاهري أهل العلم كام هو معلوم.
11
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
فمثال :من التأويل أن ُيقال :هذا خيتص بالصغرية ،أو خيتص بالسفيهة ،أو خيتص باألَ َمة؛ ً
ألن قوله« :ا ْم َر َأ ٍة» ،ظاهر يف العموم ،فهذا دليل عند مالك رمحه اهلل تعاىل.
فالظاهر حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل ،وينبغي أن ُيعلم أن األدلة الرشعية النطقية
من الكتاب والسنة يف داللتها تنقسم إىل أربعة أقسام؛ ألن اللفظ الرشعي من الكتاب
والسنة:
إما أن ال حيتمل إال معنى واحدً ا ،فهذا هو النص .وإما أن حيتمل معنيني وأكثر مع التساوي
سمى باملجمل.
ترجح معنى من املعان ،فهذا ُي َّ
دون ُّ
مرجوحا يف بعضها،
ً ظاهرا يف بعض تلك املعان،
ً وإما أن حيتمل معنيني فأكثر ،ويكون
سمى بالظاهر ،ويقابله املؤول ،واملؤول قد يكون
فذلك املعنى الراجح املتبادر هو الذي ُي َّ
ً
تأويال بعيدً ا؛ كالتأويل صحيحا إذا كان بأدلة قوية ،وقد يكون مردو ًدا إذا كان
ً تأويله قري ًبا
الذي ذكرنا اآلن ،تأويل املرأة بقرصها عىل الصغرية ،أو عىل السفيهة ،أو نحو ذلك.
ونقترص عىل هذا القدر إن شاء اهلل ،سبحانك اللهم وبحمدك ،نشهد أن ال إله إال أنت،
نستغفرك ونتوب إليك.
12
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدرس الثان
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل أفضل املرسلني خاتم النبيني ،وعىل آله
وأصحابه أمجعني ،و َم ْن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين.
نبدأ بعون اهلل تعاىل وتوفيقه الدرس الثان من التعليق عىل منظومة (أصول مذهب اإلمام
مالك رمحه اهلل تعاىل) ،وقد وصلنا إىل قول املؤلف:
13
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ف) ،أي :من املفاهيم مفهوم الصفة؛ كقوله تعاىلَ { :و َم ْن َمل ْ َي ْستَطِ ْع ِمنْك ُْم َط ْو ًال َأ ْن َين ِْك َح (ص ِْ
َات} [النساءَ { ،]25 :ف َت َياتِك ُُم َت َأيام ُنكُم ِمن َف َتياتِكُم املُْ ْؤ ِمن ِ ِ ِ ِ ِ
املُْ ْح َصنَات املُْ ْؤمنَات َفم ْن َما َم َلك ْ ْ َ ْ ْ َ ُ
َات} ،هذا مفهوم صفة ،كقوله تعاىل يف كفارة القتلَ { :فت َْح ِر ُير َر َق َب ٍة ُم ْؤ ِمن ٍَة} [النساء: املُْ ْؤ ِمن ِ
( َع ِّل ْل) ،مفهوم العلة؛ كقوله صىل اهلل عليه وسلمَ « :م ْن َقات ََل لِ َتك َ
ُون ك َِل َم ُة اهللِ ِه َي ا ْل ُع ْل َيا َف ُه َو
يل اهللِ» ،هذا مفهوم العلة ،مفهومه أنه إن قاتل لغري ذلك مل يكن يف سبيل اهلل. ِيف َسبِ ِ
( َل ِّق ْ
ب) ،هذا مفهوم اللقب ،ومفهوم اللقب هو تعليق احلكم عىل اسم جامد؛ كاألعالم،
وأسامء األجناس ،وهو غري معترب عند مجاهري أهل العلم؛ ألن األسامء اجلامدة ال تُشعر
ِ
بالع ِل َّية ،ومل يقل به إال قليل من أهل العلم ،و ُيعزى القول به لإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل،
وقال به من الشافعية الدقاق والصرييف ،ومن املالكية ُيعزى القول به إىل ابن خويز منداد
أيضا.
ً
ولكن مجاهري املحققني من األصوليني عىل أنه غري معترب؛ ألن األسامء اجلامدة ال ت ِ
ُشعر
بالع ِل َّية ،بل إن األستاذ أبا إسحاق اإلسفراييني قال :إن الدقاق نُوظِر فيه ،فقيل له :إن قولك
ِ
هذا يلزم منه إذا قلنا :الصالة واجبة؛ عد ُم وجوب الزكاة؛ ألننا إذا اعتربنا مفهوم الصالة
حكمنا لغريها بعدم الوجوب ،فلام قيل له ذلك بدا له ضعف مذهبه فتوقف.
وقال بعضهم :إن القول بمفهوم اللقب قد ينشأ عنه الكفر ،كام إذا اعتربنا مفهوم حممد
رسول اهلل ﷺ ،فإذا اعتربنا مفهوم حممد فمعناه أنه ال رسول إال حممد ﷺ ،وهذا كفر؛ ألنه
14
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ال بد من اإليامن بكل األنبياء ،فالتصديق بالنبي ﷺ وحده ال يكفي إذ من رشوط اإليامن أن
تؤمن باهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،بجميع الرسل ،ال بد من اإليامن هبم مجي ًعا.
وقولهُ ( :ثنْ َيا) ،أشار به إىل النفي واالستثناء ،وهو يف احلقيقة داخل يف مفهوم احلرص الذي
ذكره بعد ذلك.
وه ْم َث َامنِ َ
ني َج ْلدَ ًة} [النور ،]4 :أي :ال أقل وال أكثر من اج ِلدُ ُ
(عُدَّ ) ،مفهوم العدد كقولهَ { :ف ْ
ذلك.
( َظر َف ِ
ان) ،أي :من املفاهيم الظروف املكانية والزمانية ،وبعضهم يدخلها يف مفهوم الصفة، ْ
احل ُّج َأ ْش ُه ٌر َم ْع ُلو َم ٌ
ات} داخال يف الصفة ،فمثال الزمانية قوله تعاىلَ ْ { : ً فيجعل الظرف
اج ِد} [البقرة.]187 : ون ِيف املَْس ِ
َ
[البقرة ،]197 :ومثال املكانية قوله تعاىل{ :و َأ ْنتُم َع ِ
اك ُف َ َ ْ
أعم،
والصفة عندما يطلقها األصوليون يف هذا املوضع فإهنم ال يعنون النعت النحوي فهي ُّ
الص َال َة َو َأ ْنت ُْم ُسك َ
َارى} [النساء ،]43 :فهذه فيدخل فيها :احلال؛ كقوله تعاىلَ { :ال َت ْق َر ُبوا َّ
مجلة حالية ،ومفهومها مفهوم صفة؛ ألن الصفة عند األصوليني أعم من النعت النحوي.
رص) ،أي :ومن مفاهيم املخالفة احلرص ،واحلرص له طرق كثرية أقواها النفي واالستثناء؛
(ح ْ ٌ
َ
نحو :ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل ﷺ ،فإذا وقع النفي ،ثم وقع االستثناء بعده فهذا من
«ال َص َال َة إِ َّال
أيضا أقوى أنواع مفهوم املخالفةَ ،
أقوى ،بل هو أقوى أنواع احلرص ،وهو ً
بِ ُط ُه ٍ
ور».
15
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
أيضا الفصل بني املبتدأ واخلرب بضمري الفصل ،وذلك يف قوله تعاىلَ { :فاهللَُّ ومن أنواع احلرص ً
ُه َو ا ْل َو ِ ُّيل} [الشورىُ ،]9 :ف ِصل هنا بني املبتدأ واخلرب بضمري الفصل.
ُسمى مفاهيم املخالفة ،وهي حجة عند مجاهري أهل العلم من غري احلنفية إال
وهذه املفاهيم ت َّ
مفهوم اللقب ،وقد ب َّينَّا أنه ال يقول به إال قليل من العلامء ،واملحققون من أئمة األصول عىل
عدم اعتباره.
أي :من أصول مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل مفهوم املخالفة يف الكتاب والسنة عىل
حدِّ سواء.
من أصول مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل التنبيه ،وأراد به مفهوم املوافقة ،وهو إعطاء
ٍ
مساو ،وأوىل، املسكوت عنه حكم املنطوق به؛ ملساواته له ،أو أولويته باحلكم ،فهو درجتان:
األحروي
َّ وسمى
َّ املساوي حلن اخلطاب،
َ فسمى
ومنهم من جعل هلاتني الدرجتني لقبنيَّ ،
فحوى اخلطاب.
َ
ومثال املساوي من القرآن قول اهلل تعاىل{ :إِ َّن ا َّل ِذي َن َي ْأ ُك ُل َ
ون َأ ْم َو َال ا ْل َيتَا َمى ُظ ْل ًام إِن ََّام َي ْأ ُك ُل َ
ون
َارا} [النساء ،]10 :فاآلية دليل عىل حتريم أكل أموال اليتامى ،فهل جيوز أن ِيف ُب ُط ِ ِ
وهن ْم ن ً
مساو ألكلها. ٍ ُتلف بإحراق دون أكل؟ ال جيوز ذلك؛ ألن هذا ت َ
رشكًا َل ُه ِيف َع ْب ٍد فك َ
َان َل ُه َم ٌال َي ْب ُل ُغ َث َم َن ِ
ومثال املساوي من السنة قول النبي ﷺَ « :م ْن َأ ْعت ََق ْ
عتق َع َل ْي ِه ا ْل َع ْبدُ » ،فهذا َاؤ ُه ِح َص َص ُه ْمَ ،و َ
رشك ُ ِ ٍ
يم َة عَدْ لَ ،و ُأ ْعط َي ُ َ
ِ ِ ِ
ا ْل َع ْبد ُق ِّو َم ا ْل َع ْبدُ َع َل ْيه ق َ
سمى برساية العتق ،ومعناه أن اإلنسان إذا كان رشيكًا يف عبد فأعتق حصته من ذلك العبد،
ُي َّ
قوم عليه بقية العبد ،ويعطي رشيكه وكان له مال يستطيع أن َّ
يفك به بقية العبد ،فإنه ُي َّ
وجيرب الرشيك عىل بيع ذلك العبد الذي قد ُأعتِق جزؤه ،فهل األَ َمة كذلك؟ هذا حصتهُ ،
ٍ
مساو ،ال فرق بني األمة والعبد يف نص يف العبد ،لكن هل األَ َمة كذلك؟ نعم ،ال فرق ،هذا
ٌّ
ذلك.
حرو ِّي قوله تعاىلَ { :و َق ََض َر ُّب َك َأ َّال َت ْع ُبدُ وا إِ َّال إِ َّيا ُه َوبِا ْل َوالِدَ ْي ِن إِ ْح َسانًا إِ َّما َي ْب ُل َغ َّن ومثال األَ ِ
17
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
هذان البيتان ذكر فيهام الدليل اخلامس ،والدليل السادس ،وأراد هبام ما يسميه األصوليون
باملنطوق غري الرصيح ،وهو ثالثة أقسام:
● داللة اقتضاء.
● وداللة إشارة.
ُسمى داللة اإليامء.
● وداللة تنبيه ،وت َّ
ِ ِ
(و ُح َّج ٌة َلدَ ْيه َم ْف ُهو ُم الكت ْ
َاب) ،أراد باملفهوم هنا داللة االقتضاء ،ومثلها كذلك داللة فقالَ :
اإلشارة ،فداللة االقتضاء هي حمذوف يتوقف عليه صدق الكالم ،أو صحته ً
عقال أو رش ًعا،
وهي كثرية يف النصوص الرشعية من كتاب اهلل سبحانه وتعاىل ،وسنة رسوله ﷺ.
18
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الناس خيطئون فهذا الكالم صدقة يتوقف عىل حمذوف ،أيُ :رفع عن أمتي املؤاخذة باخلطأ
أونحو ذلك.
مثال قول اهلل تعاىل وداللة االقتضاء كثرية يف كتاب اهلل تعاىل ،ويف سنة رسوله ﷺ ،فمن ذلك ً
ب َع َىل ا َّل ِذي َن ِم ْن َق ْب ِلك ُْم َل َع َّلك ُْم ِ
ب َع َل ْيك ُُم ِّ
الص َيا ُم ك ََام كُت َ
ِ ِ
يف آية الصيامَ { :يا َأ ُّ َُّيا ا َّلذي َن آ َمنُوا كُت َ
يضا َأ ْو َع َىل َس َف ٍر َف ِعدَّ ٌة ِم ْن َأ َّيا ٍم ُأ َخ َر} َان ِمنْك ُْم َم ِر ً ون (َ )183أياما معدُ ود ٍ
ات َف َم ْن ك َ َّ ً َ ْ َ َت َّت ُق َ
مريضا أو عىل سفر فأفطر ،ألن هذا الكالم
ً فم ْن كان منكم
[البقرة ،]184 ،183 :املعنىَ :
ال بد فيه من حذف؛ ألن املريض إذا صام ال ُيطا َلب بالقضاء ،واملسافر إذا صام ال ُيطالب
19
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
بالقضاء ،وهذا مذهب مجاهري أهل العلم ،طب ًعا خال ًفا للظاهرية فهم يرون أن املرض ُيفسد
الصوم ،وأن السفر ُيفسد الصوم
وكقوله تعاىلُ { :ح ِّر َم ْت َع َل ْيك ُُم املَْ ْي َت ُة} [املائدة ،]3 :هذا الكالم ال بد فيه من حذف ملاذا؟
ألن امليتة عني ،والتحريم حكم ،واألحكام ال تتعلق باألعيان ،فالذي ُيوصف بالتحريم هو
ترصفات املُك َّلف ،هذا الترصف الذي ستفعله أنت هو الذي ُيقال فيه :هذا حرام ،هذا
جائز ،هذا مندوب ،فاملعنىُ :ح ِّرم عليكم أكل امليتة ،أو االنتفاع بامليتة ،أو نحو ذلك ،هناك
حمذوف ال بد من تقديره ،هذا ُيسمى بداللة االقتضاء.
أما داللة اإلشارة ،فهي أن يدل اللفظ عىل معنى ليس مقصو ًدا منه باألصالة بل بالتبع،
دل عليه ألنه من لوازمه، سق هلذا املعنى ،وإنام َّ أصال مل ُي ْولكن هو مفهوم منه ،فالكالم ً
ِ
وه َّن َوا ْب َت ُغوا َما َكت َ
َب ارش ُ وذلك كفهم جواز إصباح الصائم جن ًبا من قول اهلل تعاىلَ { :ف ْاآل َن َب ُ
ط ْاألَ ْس َو ِد ِم َن ا ْل َف ْج ِر ُث َّم َأ ِِتُّوا
اخلي ِ ِ
اخلَ ْي ُط ْاألَ ْب َي ُض م َن ْ َ ْ
ني َلك ُُم ْ اهللَُّ َلك ُْم َو ُك ُلوا َو ْ َ
ارش ُبوا َحتَّى َي َت َب َّ َ
الص َيا َم إِ َىل ال َّل ْي ِل} [البقرة.]187 : ِّ
فهذه اآلية أذن اهلل تعاىل فيها للصائم يف أن يتناول مجيع املفطرات يف مجيع أجزاء الليل،
ويدخل يف املفطرات مبارشة زوجه ،فلو أنه فعل ذلك يف آخر جزء من الليل ،هل جيوز
ِ
َب اهللَُّ َلك ُْم َو ُك ُلوا َو ْ َ
ارش ُبوا}، وه َّن َوا ْب َت ُغوا َما َكت َ ذلك؟ نعم ،ألن اهلل تعاىل قالَ { :ف ْاآل َن َب ُ
ارش ُ
أذن اهلل تبارك وتعاىل يف هذه املفطرات إىل الفجر ،فإذا فعل ذلك يف آخر جزء من الليل وقد
جاز له ذلك؛ لزم ً
عقال من ذلك أال يبقى وقت لالغتسال ،ف ُعلم أن الصائم له أن يصبح
جن ًبا ،وأن ذلك ال يفسد صيامه.
20
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
مح ُل ُه
ني} [لقامن ،]14 :وقولهَ { :و َ ْ وكفهم أقل َأ َم ِد احلمل من قول اهلل تعاىلَ { :وفِ َصا ُل ُه ِيف َعا َم ْ ِ
عرب
أيضا داللة اإليامء ،وهي التي َّ
والدليل السادس هو ما ُيسمى بداللة التنبيه ،وتُسمى ً
عنها بقوله:
وداللة التنبيه ،وتُسمى داللة اإليامء هي أن يقرتن احلكم بوصف لو مل يكن علة له لعابه
البصري بمقاصد الكالم ،أن يقرتن احلكم بوصف لو مل يكن ذلك الوصف عل ًة لذلك احلكم
لعابه البصري بمقاصد الكالم ،لكان الكالم غري بليغ.
ار َق ُة َفا ْق َط ُعوا َأ ْي ِد َ ُُّي َام} [املائدة ،]38 :ملاذا تُق َطع
الس ِ الس ِ
ار ُق َو َّ وذلك مثل قول اهلل تعاىلَ { :و َّ
أيدُّيام؟ ألهنام سارقان ،عندنا وصف وهو السارق والسارقة ،وعندنا حكم وهو َفا ْق َط ُعوا،
إذن اقرتن حكم وهو َفا ْق َط ُعوا بوصف وهو السارق والسارقة ،لو مل يكن هذا الوصف عل ًة
هلذا احلكم لكان هذا ِخم ًّال ببالغة الكالم ،إذن هنا تنبيه ،وهو بيان العلة ،أن علة القطع هي
الرسقة.
اح ٍد ِمن ُْه َام ِما َئ َة َج ْلدَ ٍة} [النور ،]2 :نفس اليشء ،ملاذا
الز ِان َفاج ِلدُ وا ك َُّل و ِ
َ ْ الزانِ َي ُة َو َّ
{ َّ
نجلدهم؟ ألهنم زناة.
وكقوله ﷺَ « :م ْن َبدَّ َل ِدينَ ُه َفا ْق ُت ُلو ُه» ،ملاذا تقتلوه؟ ألنه بدَّ ل دينه ،وهكذا.
21
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ونقترص عىل هذا القدر ،سبحانك اللهم وبحمدك ،نشهد أن ال إله إال أنت ،نستغفرك
ونتوب إليك.
22
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدرس الثالث
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل أفضل املرسلني خاتم النبيني ،وعىل آله
وأصحابه أمجعني ،و َم ْن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين ،سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك
أنت العليم احلكيم.
نبدأ بعون اهلل تعاىل وتوفيقه الدرس الثالث من التعليق عىل منظومة (أصول مذهب اإلمام
مالك رمحه اهلل تعاىل) ،وقد وصلنا إىل قول املؤلف:
ِ ِ
َعن ْ ْ ْ ْ ْ ل َ ْ ْ ْ ْ ْا َْ َ ْ ْ ْ ْ ْ ل َك ْ ْ ْ ْ ْ َ ل ْ ْ ْ ْ ِْ ل ََ .16دَ ْ ْ ْ ِ ادتيْ ِْ ْ َْل ِننْ ْ ْ ل َْص ل
صْ ْ ْ ل
اع) ،هذا الدليل السابع ،الدليل السابع من هذه األدلة هو اإلمجاع ،واإلمجاع قولهُ ( :ث َّم َت إِ ْ َ
مج ٌ
هو اتفاق املجتهدين من أمة حممد ﷺ يف عرص من العصور بعد وفاته ﷺ عىل حكم رشعي،
فهذه القيود معتربة ،فاملعترب يف اإلمجاع هو إمجاع (املجتهدين) ،وال عربة بالعوام( ،من أمة
أيضا ،فاإلمجاع ال ينعقد يف حياة النبيﷺ؛ ألنه ما دام
حممد ﷺ) ،وال بد أن يكون بعد وفاته ً
أيضا ال بد أن يكون يف حكم رشعي.
ح ًّيا فاحلجة يف قوله وفعله صىل اهلل عليه وسلم ،ثم ً
23
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
وإذا انعقد اإلمجاع واستكمل رشوطه كان حجة متف ًقا عليها عند أهل العلم.
ول ِم ْن َب ْع ِد َما َت َب َّ َ
ني َل ُه ْاهلُدَ ى ِ
ومن دليل حجية اإلمجاع قول اهلل تعاىلَ { :و َم ْن ُي َشاق ِق َّ
الر ُس َ
ني ن َُو ِّل ِه َما ت ََو َّىل َون ُْص ِل ِه َج َهن ََّم َو َسا َء ْت َم ِص ًريا} [النساء ،]115 :قوله:
يل املُْ ْؤ ِمنِ َ
َو َيتَّبِ ْع َغ ْ َري َسبِ ِ
ني} ،يدل عىل أن سبيل املؤمنني حق ،أن املؤمنني إذا سلكوا طري ًقا يل املُْ ْؤ ِمنِ َ
{ َو َيتَّبِ ْع َغ ْ َري َسبِ ِ
كان ذلك الطريق ح ًّقا.
«ال ت ََز ُال َط ِائ َف ٌة وكذلك يدل حلج َّيته قوله ﷺ« :إِ َّن ُأ َّمتِي َال َ ْجتت َِم ُع َع َىل َض َال َل ٍة» ،وقوله ﷺَ :
ِمن ُأمتِي َظ ِ
يت َأ ْم ُر رض ُه ُم َم ْن َخ َذ َهل ُ ْم -ويف روايةَ :م ْن خالفهمَ -حتَّى َي ْأ ِ َ اه ِري َن َع َىل ْ
احلَ ِّق َال َي ُ ُّ ْ َّ
«ال ت ََز ُال َط ِائ َف ٌة ِم ْن ُأ َّمتِي
اهللََِّ ،و ُه ْم ك ََذلِ َك» ،ووجه االستدالل هبذا احلديث أن قولهَ :
ِ
َظاه ِري َن َع َىل ْ َ
احل ِّق» ،أنه حكم لطائفة من أمته أهنا ستبقى عىل احلق من هذه األمة ،فإذا
ٍ
حينئذ ستكون من ضمنها الطائفة التي هي عىل احلق ،إذا اتفقت األمة أمجعت األمة فإهنا
ستكون من بينها طائفة شهد هلا رسول اهلل ﷺ أهنا عىل احلق.
وتقسيامت اإلمجاع كثرية ،وال نريد أن نخوض فيها ،وهو عىل كل حال ينقسم إىل:
نطقي ،وهو حجة إذا نُقل بطريق صحيح وتكلم املجتهدون فأفصحواٍّ ٍ
رصيح ●
ٍ
حينئذ. واتفقوا فإنه يكون حجة اتفا ًقا
● ومنه السكويت ،وهو أن يتكلم بعض املجتهدين ،ويشتهر كالمهم ،فتميض مدة
سمى إمجا ًعا سكوت ًّيا وهو حجة ،ولكنه
يمكن لغريهم أن يرد عليهم فال يرد ،فهذا ُي َّ
ليس كاإلمجاع النطقي يف االحتجاج به.
24
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
(و َق ْي ٌس) ،وهو القياس ،والقياس كذلك من األدلة املُ َّت َف ِق
عرب عنه بـ َ
الدليل الثامن الذي َّ
عليها ،وهو يف اللغة :التقدير ،ويف االصطالح :محل معلوم عىل معلوم ملساواته له يف علة
احلكم.
ت َل ْو ك َ
َان أيضا أحاديث النبي ﷺ الكثريةَ « :أر َأي ِ وحجيته يشهد هلا األمر باالعتبار ،وكذلك ً
َ ْ
اض َي َت ُه؟» ،وقوله ﷺ للرجل الذي أنكر ابنه؛ ألن لونَه خيالف لونه، ْت َق ِ َع َىل ُأم ِك دينَ ،أ ُكن ِ
ِّ َ ْ ٌ
يها ِم ْن ِ
«ه ْل ف َ مح ٌرَ ،ق َالَ : «ه ْل َل َك ِم ْن إِبِ ٍل؟»َ ،ق َالَ :ن َع ْمَ ،ق َالَ « :ف َام َأ ْل َو ُاهنَا؟» َق َالْ ُ : قالَ :
ِ ِ ِ
َاها َذل َك؟» َق َالَ :ع َسى ع ْر ٌق ن ََز َع َها َق َالَ :
«و َه َذا َأ ْو َر َق؟» َق َال :إِ َّن ف َ
يها َل ُو ْر ًقاَ ،ق َالَ « :ف َأنَّى َأت َ
َل َع َّل ِع ْر ًقا ن ََز َع ُه».
يها ِو ْز ٌر؟» ،إىل غريِ ِ وقياس العكس كام يف قوله ﷺَ « :أ َر َأ ْيت ُْم َل ْو َو َض َع َها ِيف َح َرا ٍم َأك َ
َان َع َل ْيه ف َ
ذلك من أقيسة النبي ﷺ الكثرية التي تدل عىل مرشوعية االعتبار ،وقياس بعض األمور
ببعض.
25
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
وهو دليل معترب عند املالكية وعند غريهم ،عند مجاهري أهل العلم ،خالف فيه طب ًعا
الظاهرية ،ولكن األئمة األربعة ،ومجاهري الفقهاء واألصوليني يعتربونه حج ًة ال خالف فيه
عند اجلمهور ،وإنام وقع خالف داخل املذهب يف تقديمه عىل خرب اآلحاد ،أوتقديم خرب
اآلحاد عليه ،وقد اختلف املالكية يف ذلك:
● منهم َم ْن قال :إن مذهب مالك تقديم خرب اآلحاد عىل القياس ،كام يراه القايض
عياض ،وغريه.
● ومنهم -وهو مذهب كثري من املتأخرينَ -م ْن يرى تقديم القياس عىل خرب اآلحاد.
واخلالف يف املذهب مشهور ،وقال القايض عياض :إن أصول مذهب اإلمام مالك تشهد
بتقديم خرب اآلحاد عىل القياس ،واستدل هؤالء بأن مالكًا رمحه اهلل يدل كثري من فروع
مثال يف مسألة املُرصاة ،وهي الدابة
مذهبه تدل عىل تقديمه خرب اآلحاد عىل القياس ،كقوله ً
وحيفل باللبن ،ثم تُباع ل ُيظ َّن أهنا َحلوب ،وقد قال
التي ُيرتك حل ُبها حتى يعظم رض ُعهاْ َ ،
النبي ﷺ إن َم ْن وجد الشاة أو الناقة مرصا ًة أنه يردها ويرد معها صا ًعا من ِتر.
فهذا احلديث خمالف للقياس كام هو معلوم؛ ألن األصل أن َم ْن أتلف شي ًئا أن يرد مثله،
ِترا ،والنبي ﷺ أخرب أنه
األصل أن َم ْن أتلف لبنًا يرد لبنًا ،من أتلف ثو ًبا يرد ثو ًبا ،ال يرد ً
يردها ،ويرد معها صا ًعا من ِتر ،واحلديث كام قلنا خمالف للقياس ،ومع ذلك فاملالكية
يقولون به ،فهذا يشهد ملَ ْن يرى تقديم املالكية خرب اآلحاد عىل القياس ،واخلالف يف معلوم.
يعني أن من أصول مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل ،وهو األصل التاسع :عمل أهل
املدينة ،وهذا أصل اشتهر به املالكية ،واختصوا به ،واملراد بأهل املدينة الذين يعتربهم اإلمام
26
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
واملراد بعملهم العمل املستمر فيام طريقه التوقيف ،وذلك كأذان أهل املدينة ،فإنه مل يزل عىل
فاستمر العمل به ،فهو
َّ ما هو عليه من عهد رسول اهلل ﷺ ،تنقله األجيال عن األجيال،
عمل مستمر طريقه التوقيف ،ال يدخله االجتهاد ،فمثل هذا حجة.
وقد ناظر اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل اإلمام أبا يوسف صاحب أيب حنيفة ،وجاءه اإلمام
بصيع ِ
ان أهل املدينة وأمدادهم التي توارثوها عن آبائهم ،فأثبت له املدَّ الذي تُقدَّ م به ِ
مالك ْ َ
وأقر له أبو يوسف بذلك ،ألن أبا حنيفة يقول باملد األكرب ،وهو مدُّ هشام.
الكفاراتَّ ،
فام كان طريقه التوقيف؛ كألفاظ األذان ،واإلقامة ،وكاملدِّ والصاع اللذان تُقاس هبام
َرت ِك الزكاة يف َرت ِك اجلهر بالبسملة ً
مثال ،وك َ ْ الكفارات ،وزكاة الفطر ،ونحو ذلك ،وك َ ْ
استمر عليه عمل أهل املدينة ،هذا حجة اتفا ًقا عند املالكية.
َّ اخلرضاوات ،ونحو ذلك مما
واختلف املالكية فيام كان طريقه االجتهاد مما اتفق عليه علامء املدينة هل يكون حجة أم ال؟
واملحققون ال يرون ذلك حجة ،وإنام يقولون :إن عمل أهل املدينة الذي هو حجة عند
استمر عليه عملهم ،وكان
َّ اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل هو عمل الصحابة والتابعني الذي
طريقه التوقيف كاألمثلة التي م َّثلنا؛ كألفاظ األذان واإلقامة ،واملُدِّ ،وترك اجلهر بالبسملة،
وترك الزكاة يف اخلرضاوات ،ونحو ذلك.
27
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
( َو َق ْو ُل َص ْحبِ ِه) الدليل العارش :هو قول الصحايب ،واملراد بقول الصحايب رأيه الصادر عن
يتعني رفعه ،كام إذا كان فيام ال جمال لالجتهاد فيه ،إذا قال
اجتهاد منه؛ ألن قول الصحايب قد َّ
ٍ
حينئذ كام هو معلوم. شي ًئا ال جمال لالجتهاد فيه فإنه له حكم الرفع
هذا حمل اخلالف بني أهل العلم ،وهو من األدلة املُختَلف فيها ،ويف املذهب فيها ثالثة
أقوال:
● أشهر هذه األقوال يف املذهب أنه حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل ،ولذلك َم ْن
تأ َّمل كتاب املوطأ وجد اإلمام مالكًا رمحه اهلل تعاىل ُيكثر من اآلثار الواردة عن
اخللفاء الراشدين ،وعن ابن عمر ،وعن غريهم من الصحابة رضوان اهلل تعاىل
عليهم ،وما ذلك إال ألنه يرى أن أقواهلم التي اشتهرت عنهم حجة عىل َم ْن جاء
بعدهم إذا مل يظهر هلا خمالف من أصحاب رسول اهلل ﷺ ،هذا القول األول.
● القول الثان :أنه حجة إن انترش ومل يظهر له خمالف ،وهذا القول قد يظن بعض
الناس أنه موافق لإلمجاع السكويت ،ولكن ال ُيشرتط فيه استيفاء رشوط اإلمجاع
عم مجيع املجتهدين ،أنه بلغ
السكويت ،ألن اإلمجاع السكويت من رشطه أن نتأكد أنه َّ
أيضا لنظرهم ور ِّدهم ،وأنه مل تظهر عالمة منهم
مجيع املجتهدين ،وأنه مضت مدة ً
تدل عىل الرضا ،أو عىل الر ِّد ،فسكتوا ،املهم أن القول الثان أنه إن انترش ،ومل يلزم
28
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
من هذا االنتشار أن يبلغ درجة اإلمجاع السكويت؛ ألنه إذا بلغ اإلمجاع السكويت
أصبح ً
دليال آخر داخل يف اإلمجاع ،كام هو واضح.
● القول الثالث :أنه غري معترب.
يب
ولكن املشهور يف املذهب أن قول الصحايب حجة برشوط كام ب َّينَّا ،منها :أال خيالفه صحا ٌّ
يب آخر ،وطب ًعا نحن قلنا :هذا فيام ليس له حكم الرفع ،فإن آخرُ ،يشرتط فيه أال خيالفه صحا ٌّ
ٍ
حينئذ يكون من السنة ،والسنة دليل ُم َّت َفق عليه ال خالف فيه كام هو كان له حكم الرفع فإنه
معلوم.
والدليل عىل اعتباره يف املذهب كام ب َّينَّا أن َم ْن تأ َّمل كتب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل
كاملوطأ ،وكفتاوى اإلمام مالك املبثوثة يف املدونة ،ويف غريها ،فإنه جيد أن اإلمام مالكًا رمحه
كثريا َ
أقوال الصحابة وآثارهم؛ ألهنا حجة عنده. اهلل تعاىل ُيورد ً
ي
يِف نََ ْ َ َ َ َ ي َ َ َ َ َ ْ ف ْ ي َ َ َ َ َ ُا ي َ َ َ َ ْ
ر َوي َ َ َ َ َ َ َ ََ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َي ََي َ َ َ َ َ َ يَََْ َ َ َ َ َ َ َ ي ْ
ي
ر ُْ َ َ َ َ َ َ َ ُ
َْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ََْ َ َ َ َ َ َم يََ ْْلَ َ َ َ َ َ َ َ ُ َكْ َ َ َ َ َ َ َ َ اْبيَ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ي َْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ يََ ْ َُ َ َ َ َ َ َ َ َ ُِ ي
َوَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ي دَ َ ْ
29
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
من أدلة املالكية االستحسان ،واالستحسان اختُلف يف تعريفه ،وقد ذكر له تعريفني ارتَض
أيضا إن شاء اهلل.
واحدً ا منهام ،لكن سنذكر هذه التعريفات ،ونذكر غريها ً
االستحسان اشتهر عن اإلمام أيب حنيفة رمحه اهلل ،وأنكره اإلمام الشافعي رمحه اهلل تعاىل
ي
يِف نََ ْ َ َ َ َ ي َ َ َ َ َ ْ ف ْ ي َ َ َ َ َ ُا ي َ َ َ َ ْ
ر َوي َ َ َ َ َ َ َ ََ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ َي ََي َ َ َ َ َ َ يَََْ َ َ َ َ َ َ َ ي ْ
ي
ر ُْ َ َ َ َ َ َ َ ُ
َْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ََْ َ َ َ َ َ َم يََ ْْلَ َ َ َ َ َ َ َ ُ َكْ َ َ َ َ َ َ َ َ اْبيَ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ي َْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ يََ ْ َُ َ َ َ َ َ َ َ َ ُِ ي
َوَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ي دَ َ ْ
وهذا تعريف مردود ،فر َّده ابن احلاجب وغريه ،قال ابن احلاجب :هذا مردود؛ ألنه إن َّ
شك
تصوره عندي كاملمتنع؛ ألن املجتهد فيه فمردود اتفا ًقا ،وإن حتقق فمعمول به ،وقال ً
أيضاُّ :
30
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
من رشوطه أن يكون ذا رتبة وسطى يف اللغة العربية ،فإذا كان ذا رتبة وسطى يف اللغة
فتصور هذا كاملمتنع ،فهو قول
العربية فكيف يعجز عن التعبري عن يشء انقدح يف ذهنه؟! ُّ
مردود.
● التعريف الثالث :أن االستحسان هو ختصيص العا ِّم بالعادة ملصلحة اقتضت ذلك.
وذلك كاستحسان جواز دخول احلامم من غري تعيني زمن املكث ،وقدر املاء ،احلامم :املكان
احلار الذي يستعمل اإلنسان فيه احلميم ،أي :املاء الساخن؛ إلزالة األوساخ عنه ،جرت
ُّ
حيدَّ ُد له القدر الذي يستعمله من املاء ،وال ُحيدَّ د له
العادة أنه يدخله اإلنسان بأجر ،لكن ال ُ َ
أيضا الذي يمكث ،يف الغالب ،أو يف زمنهم هم ،عىل كل حال ال حتديد للوقت ،وال
الوقت ً
لقدر املاء.
أيضا له
ؤجر ،والوقت ُحيسب وسيأيت زبون آخر ،وهذا ماء ً
وهذا فيه غرر؛ ألن هذا مكان ُي َّ
ثمن ،لكن جرت العادة هبذا ،وق َّبحت العاد ُة املشاحة يف مثل هذا ،فليس من املروءة أن
رخيصا ،واملشاحة يف
ً تقول :استعمل هذا القدر من املاء وال تزد عليه؛ ألن املاء غال ًبا يكون
مثل هذا منافية للمروءة ،فالنصوص الرشعية العامة الناهية عن الغرر ُخ ِّصصت بالعرف،
ُخ ِّصصت هنا بالعرف ملصلحة ،فهذا استحسان ،ف ُف ِّرس االستحسان هبذا.
ِ
األبيار ُّي ،و اإلمام الشاطبي يف املوافقات ،قالوا :هو األخذ ● التعريف الرابع :قاله
باملصلحة اجلزئية فيام يقابل ً
دليال كل ًّيا.
قالوا :إن االستحسان عند مالك هو األخذ بمصلحة جزئية فيام يقابل ً
دليال كل ًّيا ،وقال ذلك
الشاطبي يف املوافقات ،وتبعه تلميذه ابن عاصم ،فقال يف املُ ْر َت َقى:
يعني أن الظاهر أن االستحسان ينبغي أن ُيعترب بحسب ما ُي َف َّرس به؛ ألهنم َّ
فرسوه بتفسريات
خمتلفة ،ثم اختار تفسري شيخه الشاطبي ،فقال:
ي ي يي
دَ َ ْخ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ يفَْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َلَ َح د ُْْ اَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ضَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُْ ْو دَْ َ ِْيوياَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ
َوُ ِْتَ َ
املرتَض ،أي :املُ ْختَار ،من حدوده ،أي :تعريفاته املروية هو األخذ باملصلحة اجلزئية
َ يعني أن
فيام يقابل القياس الكيل؛ ألنه من مستحسنات العقل.
الر َخ ُ
ص الواقعة يف الرشيعة .فالرخص كيل ،قال :ويشهد له يف الرشع ُّ
جزئية يف مقابلة دليل ٍّ
الواقعة يف الرشعية كلها مستثناة من أصل ممنوعُ ،فأخذ بمصلحة جزئية يف مقابل دليل ٍّ
كيل،
فأكل امليتة للمضطر هذا استثناء من أصل ممنوعُ { :ح ِّر َم ْت َع َل ْيك ُُم املَْ ْي َت ُة} [املائدة.]3 :
32
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الس َلم استثناء من أصل ممنوع؛ ألنه ال جيوز أن يبيع اإلنسان ما ليس عنده.
َّ
ويمثلون له بام إذا ورث بعض الناس سلع ًة َمبِي َعة باخليار مل َي ُب َّت ُ
امليت يف إمضائها وعدمه،
مات زيد وترك مخسة أوالد ،وكانت عنده سلعة بِي َع ْت له باخليار مل َي ُب َّت يف إمضائها ،وال يف
ر ِّدها ،فقال بعضهم :أنا أرى إمضاءها ،وقال بعضهم :أنا أرى ر َّدها ،وهم ورثوا اخليار،
واألصل أن اخليار ال يتجزأ ،فالقياس يقتيض أهنا ت َُر ُّد مجي ًعا؛ ألن امليت ً
أصال عندما أخذ
السلعة إما أن ير َّدها مجي ًعا ،أو يأخذها مجي ًعا ،لكن االستحسان يقتيض أن املُ َ
جيز يأخذها
مجي ًعا ،أن أولئك الذين َقبِلوها يأخذون السلعة مجي ًعا ،فتكون من جزئهم من الرتكة.
33
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدرس الرابع
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل أفضل املرسلني خاتم النبيني ،وعىل آله
وأصحابه أمجعني ،و َم ْن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين.
نبدأ بعون اهلل وتوفيقه الدرس الرابع من التعليق عىل منظومة أصول مذهب اإلمام مالك
رمحه اهلل تعاىل ،وقد وصلنا إىل قول املؤلف:
َ َم دِ ْ ْ ْ ْ ْ ْ َ
َّ دَ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ل َع َ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ِذ ِ اعتِ َم ْ ْ ْ ْ ْ ْ د ِ ِ
َ ََ .17س ْْ ْا َ ْ ْْ َ اا َذ َائْ ْ ِ اد َا َ
َ ْْ د
ا ِ ِ
َََ لْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ل ز َذا َ ََل لْ َ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ْ ل ا
ََ .18لح يجْ ْ ْذَ دَ َا ْ ْ ْ اَلستصْ ْ ْ َ ل
اداصْ ْ ْ ِ َْ ْ ْا َْ ْ ْ َ َع َ ْ ْ ْ
ْ ْ ْر لْ ْ ْ َ ِ ِ
َ ل َ ََ .19خ ْ ْْ َ ل اد َ ا ِح ْ ْ ْ ِا لح يج ْ ْْذَ دَ َا ْ ْ ْ
ِْ ْ ْ ْ ْ ْ ِ ََ َعنْ ْ ْ ْ ْ ْ ل َكْ ْ ْ ْ ْ ْ َ اَْ ْ ْ ْ ْ ْ ا َ ِْ ْ ْ ْ ْ ْ ِا ل َََ .21عْ ل لخ ْ ة َكْ َ اَْ ا َْ َمْ لا
34
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدليل الثان عرش من أدلة اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل هو سدُّ الذرائع ،والذرائع مجع ذريعة،
وهي الوسيلة ،والوسائل يف الرشع عىل ثالثة أقسام:
النص بسدِّ هذه كسب األصنام بحرضة ُع َّبادها؛ خشية أن يسبوا اهلل تعاىل ،فقد ورد ُّ ِّ وذلك
ون اهللَِّ َف َي ُس ُّبوا اهللََّ عَدْ ًوا بِ َغ ْ ِري ِع ْل ٍم}
ون ِمن د ِ ِ
الذريعة ،قال تعاىلَ { :و َال ت َُس ُّبوا ا َّلذي َن َيدْ ُع َ ْ ُ
[األنعام ،]108 :ال جيوز لإلنسان أن يسب الصنم بحرضة عابده إذا كان ذلك سيؤدي إىل
نص الشارع عىل سدِّ ها فهي مسدودة
يسب عابدُ الصنم اهلل ،فهذه ذريعة َّ
َّ سب اهلل ،إىل أن
ِّ
إمجا ًعا ،وكذا ما جرى جمراها مما مفاسده راجحة عىل مصاحله؛ كحفر اآلبار يف طرقات
املسلمني ،فهذه ذريعة مسدودة إمجا ًعا.
● القسم الثان :عىل العكس ،وهي الذرائع املفتوحة إمجا ًعا ،الذرائع التي أمجعت األمة
عىل فتحها.
35
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
● القسم الثالث :وهو حمل اخلالف ،وهو الذرائع التي مل ُي َّت َفق عىل سدِّ ها ،وال فتحها،
وهذه من أصول اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل سدُّ ها ،فذرائع الفساد التي مل ُي َّت َفق عىل
سدِّ ها ،وال عىل فتحها ،من مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل سدُّ ها.
وذلك كبيوع اآلجال ،وبيوع اآلجال كثرية ،وصورها متعددة ،ومن أشهر صورها أن يبيع
الرجل سلعة بعرشة دراهم ً
مثال لشهر ،ثم يشرتُّيا اآلن بخمسة ،فهذا ال جيوز عند املالكية؛
ألنه ذريعة إىل اشرتاء عرشة آجلة بخمسة حالة ،فالسلعة اخلارجة من اليد العائدة إليها
ُملغاة ،فأنت بعت بعرشة ألجل ،واشرتيت نفس السلعة فرجعت إليك ،فهي خرجت ثم
بعت مخسة دراهم حالة بعرشة بأجل ،وهذا ربا ،إذن هذا
عادت فهي ُملغاة ،فأنت يف النهاية َ
ُحم َّرم عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل ،فهو من الذرائع املسدودة.
36
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ِ ِ
اس ا ْلك َْر ِم) ،أي :شجر العنب، َاحل َج ِر) ،أي :املنع( ،م ِن ا ْغ َ
رت ِ بعض الذرائع غري معترب؛ (ك ْ َ
اخلَ ْم ِر).
ف ْ َ
(خ ْو َ
ي ي
َوَِتْيَُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ِف َد َ َ يَُ َْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ و ُ اج َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َْيَْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ د ْ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َح ُ
يعني :أن اإلمام مالكا رمحه اهلل تعاىل من أصوله االستصحاب ،واالستصحاب املعترب عند
مالك ،املُعترب نوعان:
استصحاب العدم األصيل حتى يرد الناقل رش ًعا ،وهذا هو الذي ُيسمى بالرباءة األصلية؛
كاستصحابنا أنه ال جيب علينا أن نصوم شهر صفر ،وأنه ال جتب علينا صالة سادسة حتى
37
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ومن االستصحاب ما هو ضعيف ،وذلك كالذي يسمونه باستصحاب حال اإلمجاع ،كأن
نقول ً
مثال فيمن مل جيد املاء فتيمم ،ثم وجد املاء أثناء الصالة ،هل تبطل صالته أم ال؟ إذا
استصحبنا حال اإلمجاع نقول :أمجعنا عىل أنه حني أحرم صالته صحيحة؛ ألنه فعل ما هو
حكمه ،وهو التيمم عند عدم وجود املاء ،فنستصحب هذا اإلمجاع أثناء الصالة ،فنقول :إن
صالته صحيحة؛ استصحا ًبا لذلك اإلمجاع الذي كان عندنا .وهذا ضعيف ،وهو غري ُمعترب
عند املالكية ،ولذلك مما ُيبطل الصالة عندهم وجو ُد املاء أثناء الصالة إن كان قد نسيه .
وخالف يف الرباءة األصلية من املالكية اثنان من أصحابنا العراقيني ،أحدُها قال :إن األصل
يف األشياء التحريم ،وهو األهبري رمحه اهلل تعاىل ،والثان :هو أبو الفرج البغدادي عراقي
أيضا ،قال :إن األصل يف األشياء اإلباحة الرشعية ،ومذهب اجلمهور يف اإلباحة األصلية
ً
تمسك هبا كدليل عقيل ،لكن ليست إباحة
حكام رشع ًّيا ،ولكن ُي َّ
أهنا إباحة عقلية ،وليست ً
رشعية ،والقايض أبو الفرج جعلها إباحة رشعية؛ ألن األصل يف األشياء عنده اإلباحة،
وعكس األهبري ذلك.
ي ي ي ي
و َُْ َ َ َ ُِوي دَ ْ َ َ َ َ ََ َ َ َ ْْ ََ َ َ َ َ َلَ َ َ َ َ ْ
َْْ َ َ َ َ دَيد َ َ َ َ َ َ َ َ َْ ُ اجَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َْيَ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ
َو َخَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ
يعني أن األصل الرابع عرش من أصول اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل هو حجية خرب اآلحاد،
سمى بخرب اآلحاد،
متواترا فهو ُي َّ
ً واملراد ما ليس بمتواتر من األحاديث ،كل حديث ليس
وهو حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل.
ودليل حجيته من القرآن قول اهلل تعاىل{ :يا َأُّيا ا َّل ِذين آمنُوا إِ ْن جاءكُم َف ِ
اس ٌق بِنَ َبإٍ َف َت َب َّينُوا} َ َ ْ َ َ َ ُّ َ َّ
[احلجرات ،]6 :و ُق ِرئَ { :ف َت َث َّبتُوا} ،وُها قراءتان متواترتان ،مفهوم املخالفة يف قوله:
38
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
ُعرف {جاءكُم َف ِ
والرت ِّوي فيه حتى ت َ
اس ٌق} ،هذه اآلية تدل بمنطوقها عىل ر ِّد خرب الفاسقَّ ، َ َ ْ
حقيقة األمر ،لكن دليل اخلطاب أن خرب العدل مقبول ،وال ُحيتاج فيه إىل ٍ
ترو{ ،إِ ْن َجا َءك ُْم
اس ٌق} ،مفهومه إن جاءكم غري الفاسق فاقبلوا كالمه ،فهذا دليل من الكتاب عىل قبول خرب َف ِ
الواحد.
أيضا إمجاع الصحابة ،فالصحابة كانوا يعملون بأخبار اآلحاد ،يأيت واحد من الصحابة عنده
ً
نص يف مسألة ،فيعملون بخربه.
أيضا األحاديث الكثرية الواردة عن النبي ﷺ بأنه كان يرسل الرسول الواحد إىل
كذلك ً
األمة ،فلو مل يكن خرب الواحد حجة ملا قامت به احلجة عىل األمم وامللوك التي راسلها النبي
عيل فتقول :هذا يلزم منه الدَّ ْو ُر؛ ألن
ﷺ ،وبعث إليها رسله ،وال َد ْو َر هنا ،ال تعرتض َّ
إرسال هذا الرسول إىل هذه األمة هو خرب آحاد ،فكيف تثبت خرب اآلحاد بخرب آحاد هذا
َد ْو ٌر؟
أقول لك :ال َد ْو َر؛ ألن الوقائع التي ُفع َلت من هذا كثرية جدًّ ا ينشأ عنها تواتر معنوي تثبت
به أصل املسألة فلو مجعنا الوقائع التي أرسل فيها النبي ﷺ واحدً ا؛ لوجدنا طرقها متعددة
منترشة تؤدي إىل العلم ،واليقني ،فاحتجاجي بتواتر ،فال َد ْو َر ،ال يلزمني الدَّ ْو ُر هنا يف هذه
املسألة.
إذن خرب اآلحاد حجة عند اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل فهو من أصوله.
39
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
األصل اخلامس عرش ،وهو األصل قبل األخري هو املصلحة املرسلة ،واملصلحة املرسلة هي
الوصف املناسب الذي مل َّ
يدل الشارع عىل اعتباره ،وال عىل إلغائه ،وصف مناسب ألن ُيناط
يضا
احلكم به ،ومل يثبت يف الرشع اعتباره ،وال إلغاؤه؛ ألن املصالح عىل ثالثة أقسام أ ً
ُ
كالذرائع:
● القسم األول :مصالح ثبت يف الرشع اعتبارها؛ كحفظ العقل ،فحفظ العقل
مصلحة ثبت يف الرشع اعتبارها؛ لقوله ﷺ« :ك ُُّل ُم ْس ِك ٍر َح َرا ٌم» ،إذن هذه مصلحة
ال خالف فيها؛ ألنه ثبت يف الرشع اعتبارها.
● القسم الثان :ما ثبت عدم اعتباره يف الرشع ،مصالح ع َّطلها الشارع ،ومل يعتربها،
ف يف السفر مصلحته أن يصوم؛ ألنه ال جيد مشقة، مثال :املُ ْ َ
رت ُ وذلك كأن ُيقال ً
طول الصالة؛ ملا يف ذلك من اخلضوع ،واخلشوع ،وفيه مصلحة
ومصلحته أن ُي ِّ
رتف أن ُيفطر يف السفر ،ولو
للم ْ َ
أخروية ،لكن الشارع مل يعترب هذه مصلحة ،وأباح ُ
كان سفره سفر نزهة وتَرف ،وأن يقرص الصالة.
وأيضا كأن ُيقال :صاحب األعامل الشاقة حيصل له من املشقة مثل ما حيصل للمسافر،
ً
كاحلاملة ،وبعض البنائني ،ونحو ذلك حيصل هلم يف
َّ فبعض أصحاب األعامل الشاقة؛
عملهم من املشقة مثل ما حيصل للمسافر أو أكثر ،ف ْلنَ ُق ْل هلم :اقرصوا الصالة ،وأفطروا يف
رمضان ،لكن هذا ُملغى ،فالشارع ع َّطل هذا ،الشارع مل يأذن ألصحاب األعامل الشاقة يف
خص ذلك بالسفر.
الفطر ،ومل يأذن هلم يف قرص الصالة ،وإنام َّ
40
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
لكن مشهور مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل وأصوله أنه أصل عنده ،قال الشيخ
سيدي عبد اهلل رمحه اهلل تعاىل يف املراقي:
( َن ْق َب َل ُه) ،نحن املالكية ،نقبله ملاذا؟ (لعمل الصحابة كالنقط للمصحف) ،تنقيط املصحف
أيضا مصلحة مرسلة
مصلحة مرسلة عمل هبا الصحابة( ،والكتابة) ،حتى كتابة املصحف ً
عمل هبا الصحابة.
ِ
للفاروق) ،تولية أيب بكر الصديق لعمر ريض اهلل تعاىل عنه ،هذه مصلحة (تولية الصدِّ يق
مرسلة؛ ألنه أراد هبا حسم باب اخلالف والنزاع ،وقد ُو ِّفق يف ذلك ريض اهلل تعاىل عنه،
فهذه مصلحة مرسلة فعلها الصديق ريض اهلل تعاىل عنه ،وما هي بأول بركاته.
ِ
للضيق) ،من املصالح املرسلة التي عمل هبا الصحابة التوسعة التي ٍ
مسجد (وهدم ِ
جار
وض ِ
وع َفت يف عهد عثامن بن عفان ريض اهلل تعاىل عنه ،هدموا بعض ُفع َلت يف عهد عمرُ ،
عوضوا ألصحاهبا ،وأدخلوها يف املسجد ،فهدم جار املسجد؛
املنازل املجاورة للمساجد ،و َّ
لتوسعة املسجد مصلحة مرسلة عمل هبا الصحابة.
أيضا فنحن نعمل باملصالح املرسلة ،فعمر بن اخلطاب ريض اهلل تعاىل عنه محل املقا َم من
ً
مكانهَّ ،
وأخره ووضعه يف املوضع الذي ُيوضع فيه اآلن ،فمقام إبراهيم كان يف جنب البيت
41
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
يف عهد النبي صىل اهلل عليه وسلم ،ويف عهد أيب بكر كان مالص ًقا للبيت ،فأمر عمر بتنحيته
وتأخريا له؛ ألن الناس يصلون خلفه ،فإذا كانوا سيصلون خلفه ،وهو
ً توسع ًة للمطاف،
ُمالصق للبيت ،سيكون هذا مان ًعا للطواف ،فعندما ك ُثر الناس أمر عمر بتنحية املقام؛ ل ُي َ
رتك
حينئذ ،فهذه مصلحة مرسلة مل يشهد الشارع ٍ جمال للطواف ،ثم الناس يصلون خلف املقام
بإلغائها ،وال باعتبارها ،وقد عمل هبا عمر بن اخلطاب ريض اهلل عنه ،فهي من أصول
املصالح املرسلة.
فاملالكية يقولون باملصالح املرسلة؛ لعمل الصحابة هبا ،والتحقيق يف احلقيقة -كام قال
القرايف -أن مجيع املذاهب تعمل باملصالح املرسلة ،لكن عىل تفاوت ،وللاملكية ُّ
احلظ األوفر
من ذلك ،وحجتهم عمل الصحابة باملصالح املرسلة ،ولذلك أجاز اإلمام مالك رمحه اهلل
رضب املتهم بالرسقة إن كان معرو ًفا هبا؛ حتى ُي ِق َّر ،هذه مصلحة مرسلة.،
َ تعاىل
وملا كان هذا األصل اشتهر به املالكية ،حتى إن بعض الناس ظن أن املصالح املرسلة ،و سدَّ
الذرائع ،والعرف خمتصة باملالكية ،قال ابن عاصم رمحه اهلل تعاىل يف املَ ْهيع بعد ذكره هلذه
األصول:
42
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
يعني :أن مراعاة اخلالف هي األصل السادس عرش ،وهي آخر هذه األصول ،وأخرب أنه
طورا ،يعني :أنه مل يعملها يف مجيع الفروع ،بل أعملها يف
طورا ،ويعدل عنها ً
كان يعمل هبا ً
بعض الفروع ،وتركها يف بعض ،ولذلك نشأ اخلالف داخل املذهب هل هي ً
فعال أصل أم
ليست بأصل؟
أيب حنيفة؛ ألن التوارث الزم عن صحة العقد ال عن فساده ،فاملك هنا أعمل دليل خصمه
43
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
يف الزم مدلوله ،ما يلزم من مذهب اخلصم ،وهو التوارث ،وأعمل الدليل نفسه يف املسألة
نفسها فمذهبه هو يف فساد هذا النكاح.
وهذا الدليل أنكره القايض عياض ،وهو مراعاة اخلالف ،وقال :إنه خمالف للقياس ،إذ
أيضا:
القياس يقتيض أن جيري املجتهد عىل مقتَض دليله ،ال أن خيالف مقتَض دليله ،وقال ً
رجح.
إنه غري مطرد يف كل مسألة فتخصيصه ببعض املسائل حتكم وترجيح بال ُم ِّ
لكن أجابه ابن عرفة رمحه اهلل تعاىل عن هذا االعرتاض فقال :إنه حجة يف بعض املسائل
دون بعض ،ولذلك ضابط ،وضابط ذلك رجحان دليل املخالف ،ضابط ذلك أنه إذا كان
أيضا اخلالف؛ لقوة
دليل املخالف قو ًّيا مل نُعمل دليلنا فقط ،وإنام نُعمل دليلنا ،ولكن نراعي ً
دليل خمالفنا.
فلام وقع فتح مكة جاء سعد بن أيب وقاص ريض اهلل تعاىل عنه إىل النبي ﷺ ،وقال :إن أخي
أوصان بابنه ،فقال عبد بن زمعة ،وهو أخو سودة :إنه أخي ولد عىل فراش أيب فقال النبي
ﷺ« :ا ْلو َلدُ لِ ْل ِفر ِ ِ ِ
اش َول ْل َعاه ِر ْ َ
احل َج ُر» ،فقَض به لزمعة ،ولكن أمر سودة أن حتتجب منه، َ َ
احت َِجبِي ِمنْ ُه َيا َس ْو َدةُ» ،إذن هو هنا أعمل دليلني ،أعمل ظاهر الرشع يف أن الولد
«و ْ فقالَ :
أيضا أمر سودة أن حتتجب منه قال
للفراش ،وأنه ابن زمعة ،ولكن ملا رآه يشبه آل وقاص ً
البدوي رمحه اهلل تعىل يف أنساب العرب:
44
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
45
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
الدرس اخلامس
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل أفضل املرسلني ،وعىل آله وأصحابه أمجعني،
و َم ْن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين ،رب يرس برمحتك يا أرحم الرامحني.
نبدأ بعون اهلل وتوفيقه الدرس اخلامس من التعليق عىل منظومة أصول مذهب اإلمام مالك
رمحه اهلل تعاىل ،وقد كنا قرأنا قوله:
ب َّينَّا فيام قبل معنى مراعاة اخلالف ،ووجه إعامل املالكية لذلك ،ودليلهم ،ثم قال:
يعني :أن العلامء اختلفوا هل جيب عىل املجتهد مراعاة اخلالف أم ال؟ وعىل القول بوجـوب
مراعاة اخلالف؛ هل جيب مراعاة كل دليل أم أن ما جيب مراعاته اخلالف الذي قوي دليله؟
ْض َ ،و ْ و د يد
ن ي َ َ َ َ َ َ دَا ََ َ َ َ َ يِ
ي يخَ َ َ َ َم ََ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ ََُْ َ َ َ َ َ د َوََ َ َ َ َْ َ كَ َ َ َ َ يخَ َ َ َ َم
ثم ختم املؤلف رمحه اهلل تعاىل هذه املنظومة بذكر القواعد اخلمس الكربى التي هي أعظم
القواعد ،وعليها مبنى الفقه يف الرشع ،فقال:
46
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
اداص ْ ْ ْ ْ ِ ِ َ ْ ْ ْ ْ تَْن ِ
صْْْ ْ َ
َ ي لْ ْ ْ ْ ْ َ َ ِ
ل ِ ْ ْ ْ ْ َ ََ .23ا ِ َ ْ ْ ْ ْ ل َْ َ ا ِعْ ْ ْ ْ َا ذكِْ ْ ْ ْ
ِ ْ ْ ْ ِأ
َّ َْ ْ ْا لح ْ ْ ْ ل ادَص ْ ْ ْ ِ ِِبد ي ِ
ى لْتَْ ْ ْ ْ ل ى لح لم ْ ْ ل َل لْ َ ْ ْ ل
َ ْ ْ ََ .24ادَص ْ ْ ل
ِِن ْ ْ ْ ْ َ ا لِن ْ ْ ْ ْ ِ َْ ْ ْ ْ ْ َ ِ ْ ْ ْ ْ ِ تلْ َم ْ ْ ْ ْ لا ََ .26لكْ ْ ْ ْا َِنْ ْ ْ اد َْ ْ ْ َدُل ِ ْ ْ ْ ِ تَْ ْ ْا لخ لا
مخس َقو ِ ِ ِ
اعدَ ) ،ذكر هنا القواعد اخلمس الكربى بعد فراغه من (و َهذه َ ْ ُ َ
صىل اهلل عليه وسلمَ ،
ذكر أصول مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل عىل سبيل اجلملة ،وهذه قواعد متفق عليها
كام سيأيت ،ال خالف فيها بني املالكية وغريهم ،وقد ذكر بعض أهل العلم -وهو القايض
حسني من الشافعية -أهنا تنبني عليها مجيع فروع الرشيعة إما مبارشة ،أو بواسطة ،أو
بوسائط ،وإن كان ذلك يف احلقيقة إطالقه ال خيلو من تكلف ،ولكن يف اجلملة هي قواعد
كربى ينبني عليها كثري من األحكام الرشعية.
47
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
القاعدة األوىل :قاعدة اليقني ال ُيرفع بالشك ،أن األصل استصحاب اليقني ،وهذه القاعدة
تشمل العمل بأصل االستصحاب؛ ألن االستصحاب هو التمسك بدليل ُمتي َّقن حتى يأيت
صارف عنه ،فهذا تقديم لليقن عىل الشك ،فاليقني ال يزول بالشك ،قال أبو عبد اهلل املقري:
قاعدة :املعترب يف األسباب والرباءة وكل ما يرتتب عليه األحكام العلم ،وملا َّ
تعذر يف أكثر
الصور ُأ ِقيم الظن مقامه؛ لقربه منه،
تعذر يف أكثر الصور ُأ ِقيم الظن مقامه؛ لقربه منه ،وبقي الشك ُملغى عىل األصل،
قال :وملا َّ
خاص من الرشع عىل اعتباره؛ كالنضحً ،
مثال عند املالكية يف طهارة ٌّ إال أن َّ
يدل دليل
املشكوك فيه ينضحونه ،وكالوضوء من الشك يف احلدث عند مالك.
الوضوء من الشك يف احلدث هو مذهب اإلمام مالك رمحه اهلل تعاىل ،خال ًفا للجمهور؛ ألنه
48
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
و َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ََي َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ك َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ت ا ََ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ه ِف دَ َ َ َ ي
و َ َ َ ََْ د ْون َ َ َ َ َ َ َ ْ ََ َ َ َ ا
وكذلك لزوم البينة عىل املُدَّ ِعي؛ ألن األصل براءة الذمة ،واملُدَّ َعى عليه األصل براءة ذمته،
فال بد أن يأيت املُدَّ ِعي بالبينة؛ ألن اليقني ال يزول بالشك،
ي
َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ا يََ َ َ َ َ َ َ َ َ ُْوُ َ َْثُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ تََ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ضَ َ َ َ َ َ َ َ ََِ يَُ َ َ َ َ َ َ َ ََد ُ َودَاَْسَ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ
َو َ
رض ٌر ُي َز ُال) ،والقاعدة الثانية :هي قاعدة وجوب إزالة الرضر ،واألصل فيها قوله ﷺ:
(و َ َ
َ
ِ
أيضا مبني عىل جلب املصالح ،ودرء املفاسد ،وتندرج رض َر َو َال َ
رض َار» ،وألن الرشع ً «ال َ َ َ
حتت هذه القاعدة فروع كثرية ال حرص هلا ،تندرج حتتها قاعدة ارتكاب أخف الرضرين.
49
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
املتلفات يف الرشع ،وتطليق املرأة بالرضر ،وباإلعسار من باب أنه ال رضر وال رضار،
والفروع املبنية عليها يف الرشع كثرية.
ور َح ْي ُث َام َت َق ْع) القاعدة الثالثة :هي قاعدة املشقة جتلب التيسري، ٍ ِ
(وال َّت ْيس ُري َم ْع َم َش َّقة َيدُ ُ
َ
ين ِم ْن َح َر ٍج} [احلج ،]78 :وينبغي أن ُيع َلم أن
ودليلها قوله تعاىلَ { :و َما َج َع َل َع َل ْيك ُْم ِيف الدِّ ِ
املشقة املرفوعة رش ًعا ،والتي هي احلرج؛ هي املشقة الزائدة عىل ما يقتضيه التكليف من
املشقة ،أما ما تقتضيه حكمة التكليف من املشقة فإن املشقة فيه غري معتربة ،فالتكليف ُيراد
به اختبار املُك َّلف ،وهذا يلزم منه أن حيصل بعض املشقة؛ ألن أصل التكليف هو إلزام ما فيه
كُلفة ،أو طلب ما فيه كُلفة.
أما إذا وصلت املشقة إىل درجة احلرج فإهنا تكون ملغاة ح ٍ
ينئذ. ُ
ومن فروع هذه القاعدة :قرص الصالة والفطر يف السفر ،هذا من فروع قاعدة املشقة جتلب
التيسري ،وكذلك الفطر يف املرض ،ومجع الصالتني للمطر واملرض والسفر ،والتيمم
الرخص كلها تدخل يف قاعدة املشقة جتلب
للمرض ،واملسح عىل اجلبرية ،وأكل امليتة ،ف ُّ
التيسري.
ي ي ي ي ي ي
َ َ َ َ َ َ َ د ُ َ َ َ َ َ ََي ََْ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ تَُ ْْ َ َ َ َ َ َ َ ُ َوُكَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ دَ ََْ َ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ َ َ َ َ تََ َ َ َ َ َ َ ْْ ُخ ُ
القاعدة الرابعة :هي قاعدة العادة ُحمك ََّمة ،والعادة هي غلبة معنى من املعان عىل الناس ،أن
يغلب معنى من املعان عىل الناس سواء كان ً
قوال أو ً
فعال ،تنقسم إىل :لفظية ،وفعلية.
50
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
اللفظية؛ كألفاظ األَيامن ،وألفاظ الطالق ،هذا خيتلف من جمتمع ملجتمع ،ومن مكان ملكان،
اللفظ الذي حيصل به.
والفعلية؛ كتقدير النفقات ،وما الشأن فيه من البيوع النقد ،وما الشأن فيه غري ذلك ،وهذه
القاعدة دليلها إحالة الرشع عىل العرف يف نصوص كثرية ،وذلك مثل قول اهلل تعاىل:
{وللمطلقات متاع باملعروف} ،أي :املُتعارف عليه بني الناس ،وكقوله ﷺ هلندَ ِ
بنت عتب َة َ
يك وو َلدَ ِك بِاملَْعر ِ
وف» ،فالشارع أحال عىل املعروف أي ِ ِ ريض اهلل تعاىل عنهاِ ُ :
ُْ «خذي َما َيكْف َ َ
كثريا ،فإحالة الشارع عىل العرف دليل عىل اعتباره.، املُت َ
َعارف عند الناس ً
خيص
خيص الرجل من متاع البيت؛ كالسيف ،أو ُّ
وفروعها كثرية؛ كتقدير النفقات ،وما ُّ
حل ِّيل ً
مثال يف العادة ،إذا جاء زوجان إىل القايض يتنازعان يف ُح ٍّيل عندُها ،العرف املرأة؛ كا ُ
حل َّيل من مملوك املرأة ،فإذا تنازعا يف السيف فإن العرف ً
مثال يقتيض أن السيف يقتيض أن ا ُ
من مملوك الرجال ،وليس من مملوك النساء ،فهذا مما ُيرجع فيه إىل العادة .
وكذلك ما العادة فيه النقد من البيوع إذا ا ُّد ِعي فيه النقد أو عدمه ،وكصيغ األيامن ،والعقود،
والفسوخ ،وألفاظ الطالق ،ونحو ذلك.
ِتَ ا ِتُُ َ َ َ َ َ َ َ َيَ دَ ا َ َ َ َ َ َ َ َ ْ ي يفَْ َ َ يص َ َ َ َ َ َ َ َْ َوَد َ ََ َْْ َ َ َ َ َ َ َ َ َو َخَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ي َ دَْ َ َيد يَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ يْ
51
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
قال:
ِ ِ ِ
( َول ْل َم َقاصد األُ ُم ُ
ور َت ْت َب ُع) ،القاعدة اخلامسة هي قاعدة األمور بمقاصدها ،دليلها قوله ﷺ:
ات» ،وفروعها كثرية؛ كتمييز العبادات بعضها عن بعض ،وِتييز العبادات «إِنَّام ْاألَ ْعام ُل بِا ْلنِي ِ
َ َ َ
من العادات ،ورشط حصول الثواب يف األعامل ،فإن ذلك إنام يكون بنية ،وكتخصيص
اليمني بنية احلالف ،وتندرج يف قاعدة األمور بمقاصدها سدُّ ذرائع الفساد؛ ألهنا ناشئة عن
ن َّيات فاسدة.
يها َوا ِر ُد) ،يعني :أن هذه القواعد اخلمسة المخستُها َال ُخ ْل َ ِ ِ ثم قالِ :
فف َ (وذي ال َق َواعدُ َ ْ َ َ
َ
خالف فيها بني أهل العلم ،فهي مما اتفق عليه أهل العلم وإنام وقع اخلالف يف استقالل
األخرية أو دخوهلا حتت غريها أو يف بعض تفاصيل الفروع املبنية عليها ،ور َّد اإلمام سلطان
عز الدين بن عبد السالم رمحه اهلل تعاىل أحكام الرشع وفروعه مجي ًعا إىل أصل واحد،
العلامء ُّ
وهو جلب املصالح ،ودرء املفاسد.
52
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
قال:
ي ي ي ي
َلََ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُُمَ ا َ َ َ َ َ َ َ َ َ َْ َو ََ َ َ َ َ َ َ َ َ َ دَ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ََِد ْ َوِتَ َْ َ َ َ ُ دَ ا َ َ َ َم َ َ َ َ ْ ِتَ ْ َ َ َ َ دَ اس َ َ َم ْ
الص َال ِة) ،أي :أسأل اهلل تعاىل أن يصيل أطيب الصالة ،وأسنى السالم ( َع َىل ُحم َ َّم ٍد)
ب َّ( َو َأ ْط َي ُ
صىل اهلل عليه وسلم( ،وآلِ ِه ِ
الك َرا ْم). َ
تتم الصاحلات،
وهبذا نكون قد أهنينا هذه املنظومة املباركة ،واحلمد هلل الذي بنعمته وجالله ُّ
وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني ،بارك اهلل فيكم.
53
أكاديمية الشنقيطي للدراسات الرشعية واللغوية منظومة أصول اإلمام مالك
تشجري النظم
54