You are on page 1of 29

‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫‪1‬‬
‫أفالطون‬

‫• موسوعة ستانفورد للفلسفة‬


‫ترجمة‪ :‬ناصر الحلواني‬

‫مقدمة‪ :‬هذا نص مترجم لد‪ .‬ريتشارد كراوت‪ ،‬حول أفالطون وفلسفته‪ ،‬والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة)‪.‬‬
‫ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة على هذا الرابط‪ ،‬والتي قد تختلف ا‬
‫قليال عن النسخة الدارجة‬
‫نخص‬
‫ّ‬ ‫للمقالة‪ ،‬حيث أنه قد يطرأ على األخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة ألخرى منذ تتمة هذه الترجمة‪ .‬وختا اما‪،‬‬
‫بالشكر محرري موسوعة ستانفورد‪ ،‬وعلى رأسهم د‪ .‬إدوارد زالتا‪ ،‬على تعاونهم‪ ،‬واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة‬
‫حكمة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Kraut, Richard, "Plato", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2017 Edition),‬‬
‫‪Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2017/entries/plato/>.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪1‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يعد أفالطون (‪ 429‬ق‪.‬م‪ .‬تقريبا ـ ‪ 347‬ق‪.‬م‪ ).‬أحد أملع الكتَّاب يف الرتاث األديب الغريب‪ ،‬وأحد أكثر‬
‫انتشارا‪ ،‬وتغلغالر يف اتريخ الفلسفة‪ .‬وهو مواطن أثيين من عائلة أرستقراطية‪ ،‬يكشف يف حماوراته‬
‫أتثيا‪ ،‬و ر‬
‫املؤلفني ر‬
‫عن اندماجه يف األحداث السياسية‪ ،‬واحلركات الفكرية يف عصره‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فقد كانت املسائل األعمق‬
‫واألبعد تثيه أكثر‪ ،‬كما كانت االسرتاتيجيات اليت يستخدمها يف معاجلة تلك املسائل غنية اإلحياء والتأثي‪،‬‬
‫حىت يقال َّ‬
‫أن القراء املثقفني يف كل حقبة اترخيية تقريبا كانوا قد أتثروا به يف جوانب مهمة‪ ،‬ومل خيلو عصر من‬
‫العصور من فالسفة اعتربوا أنفسهم أفالطونيني‪ .‬مل يكن أول من ميكن أن تنطبق عليه كلمة "فيلسوف"‪ ،‬غي‬
‫أنه متيز بوعيه الفائق ابلكيفية اليت جيب النظر هبا إىل الفلسفة‪ ،‬وقد كان مدركا جملاهلا‪ ،‬وطموحاهتا بدقة‪ ،‬كما‬
‫حول مسار التيارات الفكرية اليت تصدى لبحثها‪ ،‬حىت ميكن اعتبار أن موضوع الفلسفة حبث منهجي دقيق‪،‬‬ ‫َّ‬
‫للقضااي األخالقية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وامليتافيزيقية‪ ،‬واملعرفية‪ ،‬ابستخدام منهج حمدد من ابتكاره‪ .‬ويف اتريخ الفلسفة‬
‫الغربية‪ ،‬مل يقاربه يف عمق حبثه ومدى أتثيه‪ ،‬إال قليل من املؤلفني‪ :‬رمبا فقط‪ :‬أرسطو (الذي زامله يف الدراسة)‪،‬‬
‫وتوماس األكويين‪ ،‬وكانط‪ ،‬وهم من ميكن االتفاق على أهنم ينتمون لنفس مرتبته‪.‬‬
‫‪ .1‬مذاهب أفالطون الرئيسية‬ ‫•‬
‫‪ .2‬أ ِ‬
‫حجيَات أفالطون‬ ‫•‬

‫‪ .3‬احلوار‪ ،‬الزمان واملكان‪ ،‬الشخصيات‬ ‫•‬

‫‪ .4‬سقراط‬ ‫•‬

‫‪ .5‬أفالطون غي املباشر‬ ‫•‬

‫هل ميكننا معرفة عقل أفالطون؟‬ ‫‪.6‬‬ ‫•‬

‫سقراط مهيمنا على احلوار‬ ‫‪.7‬‬ ‫•‬

‫الروابط بني احملاورات‬ ‫‪.8‬‬ ‫•‬

‫غي أفالطون رأيه حول املثل؟‬ ‫هل َّ‬ ‫‪.9‬‬ ‫•‬

‫غي أفالطون رأيه حول السياسة؟‬ ‫‪ .10‬هل َّ‬ ‫•‬

‫‪ .11‬سقراط التارخيي‪ :‬احملاورات املبكرة‪ ،‬والوسطى‪ ،‬واملتأخرة‬ ‫•‬

‫‪ .12‬ملاذا احملاورات؟‬ ‫•‬

‫املراجع‬ ‫•‬

‫الرتمجة إىل اإلجنليزية‬ ‫‪o‬‬

‫مراجع عامة‬ ‫‪o‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪2‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫مؤلفات حول سقراط‬ ‫‪o‬‬

‫مؤلفات حول اسرتاتيجيات التفسي‬ ‫‪o‬‬

‫‪ o‬مؤلفات حول الرتتيب الزمين للمحاورات‬


‫‪ o‬رسائل أفالطون‬
‫أدوات أكادميية‬ ‫•‬

‫مصادر أخرى على الشبكة العنكبوتية‬ ‫•‬

‫مدخالت ذات صلة‬ ‫•‬

‫‪ .1‬مذاهب أفالطون الرئيسية‬


‫ينسب الكثي من الناس إىل أفالطون بعض املذاهب الرئيسية‪ ،‬اليت اهتم هبا يف كتاابته‪ :‬العامل الذي‬
‫يتبدى حلواسنا هو عامل مشوه ومليء ابألخطاء بنحو ما‪ ،‬لكن يوجد عامل أكثر واقعية وكماال‪ ،‬مأهول ابملاهيات‬
‫(وقد تسمى "املثل" أو "األفكار") اليت تتصف أبهنا خالدة‪ ،‬وال يدركها تغيي‪ ،‬وتعترب هذه املاهيات النموذج‬
‫الذي حتاكيه بنية وطبيعة العامل الذي يتمثل أمام حواسنا‪ .‬من بني أهم هذه املوضوعات اجملردة (كما تدعى‬
‫اآلن‪ ،‬بسبب عدم متوضعها يف املكان أو الزمان)‪ :‬اخلي‪ ،‬واجلمال‪ ،‬واملساواة‪ ،‬والضخامة‪ ،‬والتشابه‪ ،‬والوحدة‪،‬‬
‫والوجود‪ ،‬والتماثل‪ ،‬واالختالف‪ ،‬والتغي‪ ،‬والثبات‪( .‬غالبا ما تكتب هذه االصطالحات ـ "اخلي"‪ ،‬و"اجلمال"‬
‫وأشباهها ـ حبروف كبية [يف اإلجنليزية] من جانب من يكتبون عن أفالطون‪ ،‬للفت االنتباه إىل مكانتها الرفيعة‪،‬‬
‫مبثل ما يفعلون مع "مثل"‪ ،‬و"أفكار")‪ .‬جوهر فلسفة أفالطون اهتمامه ابرتباط موضوعات ظاهرة للحواس‪،‬‬
‫خية‪ ،‬أو عادلة‪ ،‬أو متحدة‪ ،‬أو متساوية‪ ،‬أو كبية)‪ ،‬أو ضمن املوضوع الواحد‪،‬‬ ‫وتتصف أبهنا مجيلة (أو أهنا ّ‬
‫والذي هو اجلمال يف ذاته (اخلي يف ذاته‪ ،‬أو العدالة يف ذاهتا‪ ،‬أو الوحدة يف ذاهتا)‪ ،‬والذي تستمد تلك الوفرة‬
‫من األشياء اجلميلة (اخلية‪ ،‬أو العادلة‪ ،‬أو املتحدة‪ ،‬أو املتساوية‪ ،‬أو الكبية) امسها‪ ،‬وخصائصها املماثلة له‪.‬‬
‫ومت تكريس كل األعمال األساسية ألفالطون حول هذا اجلوهر تقريبا‪ ،‬أو دارت أعماله حوهلا بصورة أو أبخرى‪.‬‬
‫بعض هذه األعمال كان مشغوال ببحث النتائج األخالقية والعملية لتصور الواقع حبسب هذه الطريقة املزدوجة‪.‬‬
‫فنحن مطالبون بتغيي قيمنا‪ ،‬وأبن أنخذ مأخذ اجلد واالهتمام‪ ،‬احلقيقة العظمى للمثل‪ ،‬مع فساد العامل املادي‬
‫امللموس‪ .‬وجيب أن ندرك أن الروح جوهر من نوع خمتلف عن اجلسد ـ حىت أهنا ال تتوقف يف فاعليتها على‬
‫وجود اجلسد‪ ،‬ومبقدورها‪ ،‬ابلفعل‪ ،‬أن تفهم طبيعة املثل بسهولة أكرب‪ ،‬حينما ال تعود مثقلة ابرتباطها بكل ما‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪3‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫هو مادي ملموس‪ .‬يف بعض أعمال أفالطون‪ ،‬نعلم أن للروح قدرة دائمة على تذكر ما عاينته سابقا من املثل‬
‫قبلما حتل يف اجلسد‪ ،‬وقبل أن يولد من حلت يف جسده (أنظر‪ :‬حماورة مينون)‪ ،‬وأن حياتنا‪ ،‬إىل حد ما‪،‬‬
‫ليست إال عقاب أو مكافأة ملا كان من اختياراتنا يف وجود سابق (انظر‪ :‬الصفحات األخية من حماورة‬
‫اجلمهورية)‪ .‬لكن يف كثي من كتاابت أفالطون يتم االفرتاض‪ ،‬أو التأكيد‪ ،‬على أن الفيلسوف األصيل ـ الذي‬
‫يدرك أمهية متييز املثال الواحد (املثال الواحد للخي‪ ،‬أو للفضيلة‪ ،‬او للشجاعة) عن الكثرة (الكثرة من األشياء‪،‬‬
‫اليت تتصف أبهنا خي‪ ،‬أو فاضلة‪ ،‬أو شجاعة) ـ هو يف حال تؤهله ملكانة سامية أخالقيا‪ ،‬ابلنسبة لغي املتنورين‬
‫من البشر‪ ،‬ملا ميلكه من درجة رفيعة من التبصر‪ .‬ولكي نعرف أي األشياء هي خي‪ ،‬وملاذا هي خي (وإال إن‬
‫مل تشغلنا مثل هذه األسئلة‪ ،‬فكيف لنا أن نعمل ما هو خي؟)‪ ،‬ينبغي لنا أن نتحرى مثال اخلي‪.‬‬

‫‪ .2‬أ ِ‬
‫ُحجيَات أفالطون‬
‫رغم أن َّقراء أفالطون غالبا ما ينظرون إىل تلك االقرتاحات على اعتبارها القسم األكرب من لب فلسفته‪،‬‬
‫فإن كثيا من أهم معجبيه‪ ،‬ومعظم طالب الفلسفة احلصفاء‪ ،‬يلفتون االنتباه إىل أن قليل جدا من كتاابت‬
‫أفالطون‪ ،‬ورمبا ال يوجد أي منها‪ ،‬ما ميكن وصفه أبنه دفاع حمض عن جمموعة من االفرتاضات القاطعة‪ .‬فغالبا‬
‫ما تبدي أعمال أفالطون درجة ما من عدم الرضا‪ ،‬واحلية‪ ،‬حىت مع تلك املذاهب اليت يوصى أبن جنعلها‬
‫مثال‪ :‬فيدون)‪ ،‬وبشكل خاص‪:‬‬ ‫موضع اهتمامنا‪ .‬على سبيل املثال‪ :‬أحياان ما توصف املثل كفرضيات (انظر ر‬
‫صور كشيء يكتنفه الغموض‪ ،‬ذو طبيعة مراوغة‪ ،‬مل يعرفه أحد أبدا (اجلمهورية)‪ .‬تثار‬
‫مثال اخلي‪ ،‬حيث ي َّ‬
‫حجيات ـ والجياب عنها إجابة شافية ـ حول‪ :‬كيف نعرف أي مثال‪ ،‬وكيف لنا أن نتحدث عنها من دون‬ ‫األ ِ‬
‫الوقوع يف التناقض (ابرمنيدس)‪ ،‬أو‪ :‬ما معىن معرفة أي شيء (ثياتيتوس)‪ ،‬أو معىن أن جتعل امسا ألي شيء‬
‫(كراتيلوس)‪ .‬وعند مقارنة أفالطون أبي من الفالسفة‪ ،‬الذين هم يف مرتبته ـ على سبيل املثال‪ :‬أرسطو‪ ،‬وتوماس‬
‫األكويين‪ ،‬وكانط ـ فسنجده يتميز بكونه استكشايف‪ ،‬وغي مكتمل منهجيا‪ ،‬ومراوغ‪ ،‬وساخر أكثر منهم‪ .‬ذلك‪،‬‬
‫ابإلضافة إىل مواهبه ككاتب‪ ،‬وكمبدع يف الرتكيب الدرامي‪ ،‬وشخصياته مليئة ابحلياة‪ ،‬وذلك مما يفسر اعتباره‬
‫املؤلف املثايل‪ ،‬الذي جيب أن يتلقى املرء درسه األول يف الفلسفة عنه‪ .‬إذ أنه ال يقدم لقرائه منظومة دقيقة‬
‫ملذاهب أ ّقرت لتكون فاعلة متاما‪ ،‬حبيث ال تكون يف حاجة إىل مزيد استكشاف‪ ،‬أو تطور إضايف‪ ،‬وإمنا‪ ،‬بدال‬
‫من ذلك‪ ،‬فإن ما نتلقاه من أفالطون هو جمرد أفكار مفتاحية‪ ،‬مصحوبة بسلسلة من االقرتاحات واملشكالت‪،‬‬
‫حول كيفية تقصي وعرض تلك األفكار‪ .‬إن قـَّراء احملاورة األفالطونية يستدرجون إىل التفكي أبنفسهم يف‬
‫القضااي املثارة‪ ،‬إذا ما رغبوا يف معرفة ما يتوقع أن خترب به احملاورات ذاهتا عنها‪ .‬ابلتايل‪ ،‬تولِّد كثي من أعماله‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪4‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫انطباعا قواي لدى قرائها‪ ،‬أبن الفلسفة موضوع حي‪ ،‬وغي منته (رمبا ال ميكن للمرء إهنائه ابدا) يشاركون هم‬
‫أنفسهم فيه‪ ،‬فقد عمدت كل أعمال أفالطون‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬إىل ترك بعض العمل لقرائها‪ ،‬ومن بني أكثر‬
‫احملاورات اليت ينطبق عليها ذلك األمر‪ :‬أوطيفرون‪ ،‬والخيس‪ ،‬وخارميدس‪ ،‬وإيوثيدميوس‪ ،‬وثياتيتوس‪ ،‬وابرمنيدس‪.‬‬

‫‪ .3‬احلوار‪ ،‬الزمان واملكان‪ ،‬الشخصيات‬


‫تتصف كتاابت أفالطون خباصية إضافية؛ متيزه بني كبار الفالسفة‪ ،‬وتؤثر يف جتربتنا معه كمؤلف؛ فكل‬
‫ما يكتبه‪ ،‬تقريبا‪ ،‬يتخذ شكل احملاورة‪( .‬هناك بعض االستثناءات البارزة‪ :‬فمحاورة الدفاع‪ ،‬اليت قدمت على‬
‫أهنا مرافعة سقراط للدفاع عن نفسه ـ الكلمة اليواننية ‪ apologia‬تعين "الدفاع" ـ عام ‪ 399‬ق‪ .‬م‪ ، .‬عندما‬
‫أهتم وأدين جبرمية التجديف‪ .‬على أية حال ‪ ،‬فحىت يف هذه احلالة‪ ،‬ظهر سقراط يف حلظة ما وهو يوجه أسئلة‬
‫ذات طبيعة فلسفية ملن اهتمه‪ :‬ميليتوس‪ ،‬ويرد عليها‪ .‬ابإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فقد ض ّمت منذ العصور القدمية‪،‬‬
‫جمموعة من ‪ 13‬رسالة إىل جممل أعمال أفالطون‪ ،‬لكنها مل تلق قبوال عامليا بني الباحثني من جهة توثيقها‬
‫وأصالتها كمؤلفات ألفالطون‪ ،‬ولعل معظمهم لديه يقني أبهنا ليس من أعماله‪ ،‬ويفهم من معظمها أهنا نتاج‬
‫اخنراطه يف السياسة يف سياقوصة‪ ،‬وهي مدينة كثيفة السكان‪ ،‬تقع يف صقلية‪ ،‬وحيكمها الطغاة)‪.‬‬
‫لدينا ابلطبع معرفة ابحلوار‪ ،‬من خالل اطالعنا على الدراما كنوع أديب‪ ،‬غي أن حماورات أفالطون ال‬
‫تنشد خلق عامل خيايل بغرض رواية قصة‪ ،‬كما هو احلال ابلنسبة للكثي من األعمال الدرامية‪ ،‬كما أهنا ال‬
‫تقصد إىل استلهام عامل األساطي القدمية‪ ،‬مبثل ما يفعل مبدعي الرتاجيداي اليوانن‪ :‬أسخيلوس‪ ،‬وسوفوكليس‪،‬‬
‫ويوريبيدس‪ .‬وهي ـ احملاورات ـ مل تقدم يف قالب الدراما املسرحية‪ :‬فنجد يف معظمها متحداث فردا يروي أحدااث‬
‫شارك فيها‪ .‬فهي مناقشات فلسفية ـ أو قد تكون "مناظرات" هي الكلمة املالئمة ـ بني جمموعة صغية من‬
‫املتحاورين‪ ،‬وكثي منهم ميك ن معرفته كشخصية اترخيية حقيقية‪ ،‬وغالبا ما تبدأ بتصوير زمان ومكان املناقشة ـ‬
‫كزايرة للسجن‪ ،‬أو منزل رجل ثري‪ ،‬أو حفلة يتناولون فيها الشراب‪ ،‬أو مهرجان ديين‪ ،‬أو زايرة لساحة رايضية‪،‬‬
‫أو نزهة خارج أسوار املدينة‪ ،‬أو السي طويال يف يوم حار‪ .‬فهم يشكلون كجماعة صورا حية لعامل اجتماعي‪،‬‬
‫وما يدور ليس فكراي خالصا‪ ،‬بني متحدثني غي حمددي اهلوية أو املكانة االجتماعية (على أية حال‪ ،‬فهذا‬
‫ينطبق على كثي من املتحاورين يف حماورات أفالطون)‪ .‬مع ذلك‪ ،‬جيب القول أن املتحدثني‪ ،‬يف بعض أعماله‪،‬‬
‫يبدون غي واضحي اهلوية‪ ،‬أو غي معرويف اهلوية‪ .‬انظر‪ ،‬على سبيل املثال‪ :‬حماوريت السفسطائي‪ ،‬والسياسي ـ‬
‫حيث يقدم زائر من مدينة إليا‪ ،‬مشال إيطاليا‪ ،‬ويقود املناقشة‪ ،‬وحماورة القوانني‪ ،‬حيث نرى نقاشا بني شخص‬
‫أثيين مبهم االسم‪ ،‬وشخصيتني خياليتني معلوميت االسم‪ ،‬أحدمها من كريت‪ ،‬واآلخر من إسربطة)‪ .‬يف كثي من‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪5‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫حماوراته (وإن ليست مجيعها) ال حياول أفالطون استمالة قرائه إىل املسامهة يف النقاش فحسب‪ ،‬ولكن أيضا‪،‬‬
‫إىل التعليق على البيئة االجتماعية اليت يصورها‪ ،‬ونقد الشخصية‪ ،‬وأساليب احلياة اخلاصة ابملتحاورين‪ .‬من‬
‫احملاورات اليت متثل هذا النمط بوضوح‪ :‬برواتجوراس‪ ،‬وهيبياس األكرب‪ ،‬وإيوثيدميوس‪ ،‬واملأدبة‪.‬‬

‫‪ .4‬سقراط‬
‫هناك حماور واحد فقط تكرر ظهوره يف كل حماورات أفالطون تقريبا‪ ،‬ومل يغب متاما إال يف حماورة القوانني‪،‬‬
‫اليت ختربان الدالئل القدمية أهنا إحدى أعمال أفالطون األخية؛ هذا احملاور هو سقراط‪ .‬وككل من ظهروا يف‬
‫أعمال أفالطون‪ ،‬مل يكن سقراط شخصية مبتدعة من قبل أفالطون؛ إذ كان موجودا ابلفعل‪ ،‬مبثل ما كان‬
‫كريتون‪ ،‬وجورجياس‪ ،‬وتراسيماخوس‪ ،‬والخيس‪ .‬مل يكن أفالطون هو املؤلف الوحيد الذي ساعدته خربته‬
‫الشخصية مع سقراط لتصويره كإحدى شخصيات بعض أعماله الدرامية‪ .‬فسقراط هو أحد الشخصيات‬
‫الرئيسية يف مسرحية السحب ألريستوفانيس‪ .‬كما كتب زينوفون‪ ،‬وهو مؤرخ وقائد عسكري مثل أفالطون‪،‬‬
‫حماورة بعنوان الدفاع عن سقراط (تصور حماكمة سقراط) ابإلضافة إىل أعمال أخرى‪ ،‬يظهر فيها سقراط‬
‫كمتحدث رئيسي‪ .‬ابإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فلدينا بعض شذرات ابقية حملاورات كتبت بواسطة مؤلفني آخرين‪ ،‬إىل‬
‫جانب أفالطون وزينوفون‪،‬عن سقراط (آيسخينيس‪ ،‬وأنتيثينيس‪ ،‬وإقليدس‪ ،‬وفيدون)‪ ،‬وكانت تتضمن وصفا‬
‫حملاداثت أجراها مع آخرين‪ .‬لذلك‪ ،‬عندما كتب أفالطون حماورات تصور سقراط كمتحدث رئيسي‪ ،‬فقد‬
‫ساهم من انحية يف نوع أديب مستوحى من حياة سقراط‪ ،‬ومن انحية أخرى يف نقاش أديب نشط حول طبيعة‬
‫الشخص الذي كان عليه سقراط‪ ،‬وقيمة احلوارات الفكرية اليت شارك فيها‪ .‬لقد كان تصوير أريستوفانيس اهلزيل‬
‫الذعا له ولشخصيات فكرية ابرزة أخرى معاصرة له يف نفس الوقت (‪ 420‬ق‪.‬م‪ ،).‬أما تصوير‬ ‫نقدا ر‬
‫لسقراط ر‬
‫أفالطون‪ ،‬وزينوفون‪ ،‬وغيمها من املؤلفني (عام ‪ 390‬ق‪.‬م‪ .‬وما بعدها)‪" ،‬حملاورات سقراط ‪Socratic‬‬
‫‪( "discourses‬كما أطلق أرسطو على هذ الشكل من الكتابة) فإنه يعطي انطباعا أطيب كثيا‪.‬‬
‫من الواضح أن سقراط التارخيي كان الشخص الذي أاثر فيمن عرفوه‪ ،‬أو عرفوا عنه‪ ،‬استجابة عميقة‪،‬‬
‫كما أهلم الكثي من أولئك الذين وقعوا حتت أتثيه‪ ،‬للكتابة عنه‪ .‬غي أن تلك األعمال اليت صورت شخصية‬
‫سقراط‪ ،‬واليت ألفها أريستوفانيس‪ ،‬وزينوفون‪ ،‬وأفالطون‪ ،‬هي اليت ظلت موجودة دون تغيي‪ ،‬وابلتايل‪ ،‬فهي اليت‬
‫جيب أن يكون هلا الدور األكرب يف تشكيل تصوران عن سقراط‪ .‬من بني تلك األعمال‪ :‬مسرحية السحب‪،‬‬
‫اليت كانت األقل قيمة كداللة على منط سقراط يف التفلسف‪ ،‬على أية حال‪ ،‬فإهنا مل تؤلف كعمل فلسفي‪،‬‬
‫برغم تضمنها لعد د من األسطر اليت تقدم صفات ملالمح فريدة لسقراط‪ ،‬أما سائرها‪ ،‬فهو هجوم على منط‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪6‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫الفيلسوف ـ متهدل الشعر‪ ،‬الذي ال يغتسل‪ ،‬والباحث الالأخالقي يف الظواهر العصية على الفهم ـ أبكثر منها‬
‫تصوير لسقراط نفسه‪ .‬أما تصوير زينوفون لسقراط‪ ،‬أاي كانت قيمته كشهادة اترخيية (واليت ميكن أخذها يف‬
‫االعتبار)‪ ،‬فقد ساد النظر إليه ابعتباره فاقدا للفصاحة الفلسفية‪ ،‬ولعمق أعمال أفالطون‪ .‬على أية حال‪ ،‬فما‬
‫من أحد (ابلطبع‪ ،‬زينوفون ليس من بينهم) ينظر إىل زينوفون ابعتباره فيلسوفا مهما؛ فعند قراءتنا ألعماله‬
‫السقراطية‪ ،‬ال جند عقال فلسفيا عظيما‪ ،‬ولكن هذا ما جنده عند قرائتنا حملاورات أفالطون السقراطية‪ ،‬ذلك‬
‫ألننا (مبثل ما هو جلي أن أفالطون أراد لنا أن نكون) مشغولون مبن يكون سقراط‪ ،‬وماذا ميثل‪ ،‬وحىت إذا صار‬
‫لدينا القليل‪ ،‬أو ال شيء ‪ ،‬من الرغبة يف معرفة سقراط التارخيي‪ ،‬فسيتطلب منا األمر قراءة أعمال أفالطون؛‬
‫ألننا بذلك نلقى مؤلفا ألعظم املعاين الفلسفية‪ .‬ال شك أنه استعار أساليبا مهمة من سقراط‪ ،‬رغم أنه من‬
‫الصعب تعيني اخلط الفاصل بينه وبني معلمه (املزيد حول ذلك جتده الحقا يف الفقرة ‪ .)12‬لكن مثة اتفاق‬
‫عام بني الباحثني على أن أفالطون ليس جمرد انقل لكلمات سقراط (ليس أبكثر من زينوفون‪ ،‬أو املؤلفني‬
‫اآلخرين للحوارات السقراطية)‪ .‬إن توظيفه لشخصية تدعى "سقراط" يف الكثي من حماوراته‪ ،‬ال جيب أن يؤخذ‬
‫على أن معناه أن أفالطون كان عمله جمرد حفظ الدروس اليت تعلمها من معلمه‪ ،‬ألجل القراءة العامة‪.‬‬

‫‪ .5‬أفالطون غري املباشر‬


‫جيب أن نضع يف اعتباران‪ ،‬أن سقراط ال يظهر يف مجيع أعمال أفالطون‪ .‬فهو غائب متاما يف حماورة‬
‫القوانني‪ ،‬وهناك عدة حماورات (السفسطائي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬وطيماوس) أيخذ فيها سقراط دورا صغيا اثنواي‪ ،‬فيما‬
‫هتيمن شخصية أخرى على احلوار‪ ،‬أو قد تقوم بتقدمي حديث متواصل‪ ،‬ومفصل‪ ،‬ومسهب خاص هبا كما يف‬
‫طيماوس‪ ،‬وكريتياس‪ .‬إن حماورات أفالطون ليست قالبا أدبيا جامدا؛ فليست جمرد تنويع للموضوعات‪ ،‬وليست‬
‫جمرد تنويع للمتحدثني‪ ،‬وإمنا هو الدور الذي لعبته األسئلة واإلجاابت والذي ال يتكرر أبدا يف احملاورات‪.‬‬
‫(املأدبة‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬هي عبارة عن سلسلة من الكلمات امللقاة‪ ،‬وهناك أيضا كلمات مسهبة‪ ،‬يف حماورات‬
‫الدفاع‪ ،‬ومينيكسينوس‪ ،‬وبرواتجوراس‪ ،‬وكريتون‪ ،‬وفايدروس‪ ،‬وطيماوس‪ ،‬وكريتياس؛ احلقيقة‪ ،‬رمبا يكون من‬
‫املقبول أن يتساءل املرء عما إذا كان اسم احملاورة يالئم هذه األعمال)‪ .‬لكن‪ ،‬على الرغم من تبين أفالطون‬
‫املتواصل ل"قالب احلوار" (وهو اصطالح شائع‪ ،‬ومالئم متاما‪ ،‬طاملا أننا ال نفهمه كوحدة ال تتنوع) ليالئم‬
‫مقاصده‪ ،‬فمن املذهل أنه خالل اترخيه ككاتب مل يستخدم أبدا قالبا شائعا بعصره يف التأليف‪ ،‬مث أصبح‬
‫النموذج القياسي للخطاب الفلسفي‪ :‬هو األطروحة الفلسفية‪ ،‬اليت مل يكتبها أفالطون أبدا‪ .‬ابلرغم من كون‬
‫مثال) ممارسة سائدة بني أسالفه ومعاصريه‪( .‬أقرب ما توصلنا‬
‫كتابة األطروحات (يف اخلطابة‪ ،‬والطب‪ ،‬واهلندسة ر‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪7‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫إليه من استثناء هلذا التعميم؛ هو الرسالة السابعة‪ ،‬اليت تتضمن فقرة موجزة‪ ،‬يلتزم فيها املؤلف‪ ،‬سواء كان‬
‫أفالطون أو من ينتحل امسه‪ ،‬ببعض النقاط الفلسفية ـ فيما يصر يف الوقت ذاته على أن الفيلسوف ال يكتب‬
‫عن املسائل العميقة‪ ،‬وإمنا سيقوم بنقل أفكاره عرب نقاش خاص مع أشخاص حمددين‪ .‬وكما ذكران آنفا‪ ،‬فإن‬
‫توثيق رسائل أفالطون وإثبات نسبتها له‪ ،‬هو من املسائل اليت يشتد حوهلا اخلالف‪ ،‬وعلى أي حال‪ ،‬فإن‬
‫مؤلف الرسالة السابعة يعلن معارضته لتأليف الكتب الفلسفية‪ .‬سواء كان الكاتب أفالطون‪ ،‬أو غيه‪ ،‬فال‬
‫ميكن اعتبارها أطروحة فلسفية‪ ،‬ومل يشأ مؤلفها أيضا اعتبارها كذلك)‪ .‬ال يتحدث أفالطون أبدا إىل قرائه‬
‫مباشرة بنفسه‪ ،‬وذلك قد سرى يف مجيع مؤلفاته ـ ابستثناء الرسائل‪ ،‬إذا ما كانت أصيلة وتصح نسبتها له ـ‪ .‬يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬ال جيزم أفالطون أبي شيء يف حماوراته بنفسه‪ ،‬وإمنا جيعل املتحاورين يف حماوراته هم من يقوم بكل‬
‫شيء‪ :‬اجلزم‪ ،‬أو الشك‪ ،‬أو التساؤل‪ ،‬أو الربهنة‪ ،‬وغي ذلك‪ .‬فكل ما كان يرغب يف إيصاله إلينا كان قد وصلنا‬
‫بطريق غي مباشر‪.‬‬

‫‪ .6‬هل ميكننا معرفة عقل أفالطون؟‬


‫يثي هذا امللمح املذكور آنفا يف أعمال أفالطون أسئلة مهمة حول كيفية قراءته‪ ،‬كما أدى إىل خالف‬
‫واضح بني الدارسني ألعماله‪ .‬وألنه مل يقم بنفسه بتأكيد أي شيء يف أي من حماوراته‪ ،‬فهل ميكن أن نكون‬
‫على ثقة يف نسبة مذهب فلسفي معني له (كمقابل ملذهب إحدى شخصيات حماوراته)؟ هل كان لديه‬
‫قناعات فلسفية‪ ،‬وميكن لنا معرفتها؟ هل يسوغ لنا التحدث عن "فلسفة أفالطون"؟ وإذا عزوان تصور ما إىل‬
‫أفالطون نفسه‪ ،‬فهل خنون بذلك تلك الروح اليت قصد إىل أن تقرأ احملاورات حبسبها؟ هل كان مهه‪ ،‬ابالمتناع‬
‫عن كتابة األطروحات‪ ،‬أن يثين قراء أعماله عن التساؤل عن اعتقادات مؤلفها‪ ،‬وتشجيعهم ببساطة على إقرار‬
‫ما هو مقبول أو غي مقبول مما تقوله شخصياته؟ هل هذا هو السبب وراء كتابة أفالطون للمحاورات؟ إن مل‬
‫يكن هلذا السبب‪ ،‬إذن‪ ،‬فماذا كان غرضه من االمتناع عن خماطبة قرائه بطريقة مباشرة؟ هناك أسئلة مهمة‬
‫أخرى حول الشكل احملدد الذي اختذته احملاورات‪ :‬على سبيل املثال؛ ملاذا يلعب سقراط ذلك الدور البارز يف‬
‫كثي منها‪ ،‬وملاذا ال يلعب سقراط إال دورا اثنواي يف بعض احملاورات‪ ،‬أو ال يكون له فيها دور على االطالق؟‬
‫ما إن تطرح هذه األسئلة‪ ،‬ويتبني مدى صعوبتها‪ ،‬سيكون مغراي تبين اسرتاتيجية حذرة للغاية عند قراءة‬
‫أعمال أفالطون والتفكي فيها‪ ،‬وإال فسينتهي األمر بتورط املرء يف افرتاض ما حول ما يقصد أفالطون إىل‬
‫توصيله لقرائه‪ ،‬ورمبا اختذ املرء موقفا حمايدا حول مقاصده‪ ،‬وأن يقتصر على الكالم عما قيل بواسطة شخصياته‬
‫الدرامية‪ . dramatis personae‬ال ميكن للمرء أن خيطئ‪ ،‬إذا ما الحظ افرتاض سقراط على أن العدالة‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪8‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يف النفس تتكون يف كل جزء من النفس من تلقاء نفسها يف مجهورية أفالطون‪ .‬وصحيح أيضا‪ ،‬اإلشارة إىل‬
‫أن املتحدثني اآلخرين يف هذا العمل‪ ،‬جلوكون وأدميانتوس‪ ،‬يقبال احلجج اليت يقدمها سقراط على هذا التعريف‬
‫للعدالة‪ .‬رمبا ال نكون يف حاجة لقول املزيد ـ فنقول‪ ،‬على سبيل املثال‪ :‬إن أفالطون نفسه يوافق على أن تلك‬
‫هي الطريقة اليت ينبغي اتباعها يف تعريف العدالة‪ ،‬أو أن أفالطون نفسه يقبل احلجج اليت يقدمها سقراط دعما‬
‫هلذا التعريف‪ .‬ورمبا نتخذ نفس هذا النهج "كحد أدىن" جلميع أعمال أفالطون‪ .‬يف النهاية‪ ،‬هل من أمهية ما‬
‫الكتشاف ما الذي يدور يف ذهنه بينما هو يكتب ـ ملعرفة ما إذا كان هو نفسه قد أقر تلك األفكار اليت‬
‫وضعها على لسان شخصياته‪ ،‬وما إذا كانت يف جمملها تشكل "فلسفة أفالطون"؟ هل جيب علينا أال نقرأ‬
‫أعماله من أجل قيمتها الفلسفية اخلالصة‪ ،‬وأال نقراها كأدوات تستخدم للولوج إىل عقل مؤلفها؟ فنحن نعلم‬
‫ما تقول شخصيات أفالطون ـ أليس ذلك كل ما نبغي ألجل حتقيق غايتنا ابلتواصل مع أعماله على حنو‬
‫فلسفي؟‬
‫معرفتنا ملا تقوله شخصيات أفالطون‪ ،‬ورفضنا قبول أي فرضيات مسبقة حول ما يسعى مؤلف تلك‬
‫األعمال لتوصيله؛ ال تعين أبن ابستطاعتنا فهم معىن ما تقوله تلك الشخصيات‪ .‬ال جيب أن تغيب عن نظران‬
‫تلك احلقيقة‪ :‬أبنه أفالطون نفسه‪ ،‬وليس أحد من شخصياته الدرامية‪ ،‬هو من يصل إىل مجهور القراء‪ ،‬ويسعى‬
‫إىل التأثي يف معتقداهتم وأفعاهلم من خالل أداءاته األدبية‪ .‬عندما نتساءل عما إذا كان ينبغي قراءة احلجة املثارة‬
‫من قبل إحدى شخصيات أعمال افالطون‪ ،‬كمحاولة إلقناعنا بنتيجتها‪ ،‬أو ما إذا كان األفضل قراءهتا كبيان‬
‫ملدى محاقة ذلك املتحدث‪ ،‬فإمنا نتساءل عما حياول أفالطون أن جيعلنا نعتقده كمؤلف (وليس تلك‬
‫الشخصية)‪ ،‬من خالل ما يكتبه ليسرتعي انتباهنا‪ .‬حنن حباجة إىل أتويل العمل نفسه ملعرفة ما الذي يرمي‬
‫إليه‪ ،‬أو‪ ،‬ما الذي يعنيه أفالطون كمؤلف‪ .‬فمثلما نتساءل عن أفضل فهم لكلمة مفردة ذات معاين خمتلفة؛‬
‫فإننا نتساءل عما يقصد أفالطون نقله لنا‪ ،‬بواسطة املتحدث الذي يستخدم تلك الكلمة‪ .‬جيب أال نفرتض‬
‫أنه مبقدوران استخالص الكثي من الدالئل الفلسفية من كتاابت أفالطون‪ ،‬إذا رفضنا استقبال أية أفكار عن‬
‫الفائدة اليت أرادان حتصيلها مما يقوله متحدثوه‪ .‬إن التغلغل يف عقل أفالطون‪ ،‬وفهم ما يعنيه متحاوريه من خالل‬
‫ما يقولون‪ ،‬ليستا مهمتني خمتلفني‪ ،‬بل مهمة واحدة‪ ،‬وإذا مل نتساءل عن معىن ما يقول متحاوريه‪ ،‬وما تدل‬
‫عليه احملاورة ذاهتا‪ ،‬والتفكي يف معناها‪ ،‬فلن جنين أية فائدة تذ َكر من قراءة حماوراته‪.‬‬
‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن للمحاورات مسات حمددة‪ ،‬ميكن بيان أكثرها بسهولة‪ ،‬ابفرتاض أن أفالطون إمنا‬
‫يستخدمها كأدوات يستميل هبا قرائه إىل االقتناع (أو زايدة اقتناعهم) ابفرتاضات معينة ـ على سبيل املثال‪:‬‬
‫وجود املثل‪ ،‬وأن النفس المادية‪ ،‬وأن املعرفة ال ميكن حتصيلها إال بتأمل املثل‪ ،‬وهكذا‪ .‬ملاذا كتب أفالطون‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪9‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫الح رقا الكثي من األعمال (على سبيل املثال‪ :‬فيدون‪ ،‬واملأدبة‪ ،‬واجلمهورية‪ ،‬وفايدروس‪ ،‬وثياتيتوس‪،‬‬
‫والسفسطائي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬وطيماوس‪ ،‬وفيليبوس‪ ،‬والقوانني) اليت هتيمن شخصية واحدة على احلوار فيها (غالبا‪،‬‬
‫وليس دائما‪ ،‬تكون شخصية سقراط) وتقوم إبقناع املتحدثني اآلخرين (أحياان‪ ،‬بعد معارضة أولية) أبن عليهم‬
‫قبول أو رفض نتائج معينة‪ ،‬استنادا إىل احلجج اليت مت طرحها؟ القول أبن هذه احملاورات قد صممت من جانب‬
‫أفالطون هو السبيل املنطقي واملقبول الوحيد لإلجابة على هذا السؤال؛ لتكون احملاورات مبثابة الوسائل اليت‬
‫متكنه من استمالة مجهور القراء إىل ما قصد منهم أن يقوموا ابلتفكي فيه‪ ،‬وقبول احلجج والنتائج اليت يقدمها‬
‫حماوره الرئيسي‪( .‬جدير ابملالحظة أنه يف حماورة القوانني‪ ،‬يرى املتحدث الرئيسي ـ زائر أثيين مل يذكر امسه ـ أنه‬
‫جيب على القوانني أن تكون مصحوبة بـ"تدريبات متهيدية" تقدم فيها كل ما ميكن من تفسيات ألسسها‬
‫الفلسفية‪ .‬وابلتايل‪ ،‬فإن القيمة الرتبوية للنصوص املكتوبة يكون قد مت إعالهنا بوضوح من قبل متحدث أفالطون‬
‫الرئيسي‪ .‬إذا أمكن لتلك التمهيدات أن تعلم مجيع املواطنني ما مت إعدادهم لتعلمه منها‪ ،‬فمن املؤكد حينئذ أن‬
‫يعتقد أفالطون أنه ميكن ألشكال أخرى من النصوص املكتوبة ـ كمحاوراته ـ أن تؤدي دورا تربواي)‪.‬‬
‫ال يعين هذا اعتقاد أفالطون أن قراءه سيصبحون حكماء مبجرد قراءة ودراسة أعماله‪ ،‬بل وعلى عكس‬
‫ذلك‪ ،‬فمن املرجح أنه أراد جململ أعماله أن تكون مبثابة وسائل مساعدة إضافية حلوار فلسفي؛ ففي أحد‬
‫أعماله جنده حيذر قراءه من االكتفاء ابلرجوع إىل الكتب وحدها‪ ،‬أو اجلزم مبوثوقيتها‪ ،‬وذلك على لسان سقراط‪.‬‬
‫يقول سقراط أبن من األفضل استعمال هذه الكتب كوسائل حتاكي ذاكرة القراء مبا حتويه من نقاشات‬
‫(فايدروس ‪ .)274e-276d‬فقد اختذت مواقف‪ ،‬وقدمت حجج‪ ،‬واستدل على نتائج يف تلك املناقشات‬
‫اليت جتري وجها لوجه مع كبار املثقفني‪ .‬إن كتاابت أفالطون‪ ،‬كما يضمن يف ذلك املقطع من حماورة فايدروس‪،‬‬
‫ستكون أكثر نفعا ملا تتضمنه من براهني وحجج؛ إذا ما كان قد مت نثر بذور اجلدل‪.‬‬

‫‪ .7‬سقراط مهيمنا على احلوار‬


‫إذا افرتضنا أن أفالطون حياول استمالتنا‪ ،‬إىل قبول االستنتاجات اليت توصل إليها متحاوريه الرئيسيني‬
‫(أو استمالتنا إىل رفض ما يذهب إليه خصومهم)‪ ،‬خالل العديد من أعماله‪ ،‬فيمكننا ببساطة تفسي اختياره‬
‫املتكرر لسقراط كمتحدث مهيمن يف حماوراته‪ .‬فمن احملتمل أن بني اجلمهور املعاصر‪ ،‬والذي كان أفالطون‬
‫يكتب له‪ ،‬الكثي من املعجبني بسقراط‪ ،‬وعليه فسيميلون إىل اعتقاد أن الشخصية اليت تدعى سقراط جتمع‬
‫صفات التألق الفكري‪ ،‬والشغف األخالقي‪ ،‬اليت يتصف هبا الشخص التارخيي الذي حتمل امسه (خاصة وأن‬
‫أفالطون يبذل جهدا مميزا ليمنح "سقراطه" ما يشبه احلياة الواقعية‪ ،‬فجعله يشي إىل حماكمته‪ ،‬أو إىل السمات‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪10‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫الشخصية اليت اشتهر هبا)‪ ،‬وستَـ َهب اهلالة اليت حتيط ابلشخصية املسماة "سقراط" طاقة اقناع هائلة‪ ،‬إىل كلماته‬
‫يف احملاورة‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬ففي حال شعور أفالطون القوي أبنه مدين لسقراط ابلكثي من أساليبه الفلسفية‬
‫وأفكاره‪ ،‬فذلك مما يشكل سببا إضافيا ألن مينحه دورا مهيمنا يف العديد من حماوراته‪( .‬املزيد حول ذلك يف‬
‫الفقرة ‪.)12‬‬
‫من املؤكد أن هناك طرقا أخرى ميكن ختمينها‪ ،‬لتفسي السبب الذي دفع أفالطون إىل أن جعل سقراط‬
‫متحدثه الرئيسي‪ .‬فيمكننا على سبيل املثال القول أبن أفالطون كان يسعى إىل تقويض مسعة سقراط التارخيي‬
‫بواسطة كتابة سلسلة من األعمال اليت حتاول فيها شخصية تدعى "سقراط" إقناع جمموعة من املتحاورين‬
‫السذج واملختلني نفسيا بقبول استنتاجات عبثية تقوم على سفسطات‪ .‬لكن من يقرأ بعضا من أعمال افالطون‪،‬‬ ‫َّ‬
‫سرعان ما سيدرك االستحالة التامة لقراءهتا بتلك الطريقة البديلة‪ ،‬فلرمبا ذكر أفالطون يف ثنااي أعماله إشارات‬
‫تظهر للقارئ أبن حجج سقراط غي صاحلة‪ ،‬وأن حماوريه محقى لقبوهلم إايها‪ ،‬غي أن هناك الكثي من العالمات‬
‫اليت تشي إىل خالف ذلك‪ ،‬كما يف حماورات‪ :‬مينون‪ ،‬وفيدون‪ ،‬واجلمهورية‪ ،‬وفايدروس‪( ،‬كما أن التقدير الكبي‬
‫الذي يكنُّه أفالطون لسقراط يتبدى يف حماورة الدفاع)‪ .‬فالقارئ تتوفر لديه احلوافز على االعتقاد أبن السبب‬
‫وراء جناح سقراط يكمن يف إقناعه حماوريه (يف احلاالت اليت ينجح فيها يف ذلك) أبن حججه قوية‪ .‬وقد يتم‬
‫بتعبي آخر حثه من جانب املؤلف على قبول تلك احلجج‪ ،‬إن مل يكن ابعتبارها هنائية وجازمة‪ ،‬فعلى األقل‬
‫ابعتبارها الفتة للنظر بنحو كبي‪ ،‬وتستحق االهتمام واالعتبار‪ .‬وحينما نقوم بتأويل احملاورات حبسب هذه‬
‫الطريقة‪ ،‬فال يعود مبقدوران جتنب حقيقة أننا نتغلغل يف عقل أفالطون‪ ،‬وننسب إليه‪ ،‬كمؤلف هلا‪ ،‬تقييما إجيابيا‬
‫للحجج اليت يقدمها متحاوروه لبعضهم البعض‪.‬‬

‫‪ .8‬الروابط بني احملاورات‬


‫هناك سبب آخر لقبولنا بفرضيات حول ما قصد إليه أفالطون واعتقده‪ ،‬وأال نقتصر على جمرد‬
‫مالحظات حول أي نوع من الناس كانت شخصياته‪ ،‬وماذا كانوا يقولون لبعضهم البعض‪ .‬فعندما نقوم إبجراء‬
‫دراسة جادة ألفالطون‪ ،‬ونذهب إىل أبعد من جمرد قراءة أحد أعماله‪ ،‬فسيد على اذهاننا‪ ،‬ال حمالة‪ ،‬تساؤل‬
‫عن كيفية الربط بني العمل الذي نقرأه‪ ،‬وبني األعمال العديدة األخرى اليت ألفها أفالطون‪ .‬وبنحو مثي‬
‫لإلعجاب‪ ،‬فإن كثيا من حماوراته تنشئ بداية جديدة‪ ،‬يف املكان والزمان‪ ،‬ويف شخوص متحاوريها‪ :‬وكما هو‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪11‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫مألوف‪ ،‬نرى سقراط يواجه جمموعة من الناس‪ ،‬العديد منهم ال يظهر يف حماورات أخرى ألفالطون‪ ،‬ولذلك‬
‫حيتاج أفالطون كمؤلف إىل إعطاء قرائه بعض التوضيحات عن شخصياهتم وأوضاعهم االجتماعية‪ .‬لكن حىت‬
‫شخصيات أفالطون تديل بكلمات قد تكون عصية على الفهم ابلنسبة للقراء‪ ،‬إال إن يكونوا قد قرأوا من قبل‬
‫واحدا أو أكثر من أعماله األخرى‪ .‬على سبيل املثال‪ :‬يف حماورة فيدون (‪ ،)73a-b‬يقول سقراط إن من‬
‫الرباهني على خلود النفس‪ ،‬ما نستدل عليه من حقيقة أنه إذا سئل الناس سؤاال حمددا‪ ،‬وقدمت هلم بعض‬
‫الرسوم التوضيحية ملساعدهتم‪ ،‬فإهنم جييبون بطريقة تظهر أهنم ال يتعلمون من تلك الرسوم التوضيحية شيئا‪ ،‬أو‬
‫من املعلومات اليت تتضمنها األسئلة‪ ،‬وإمنا يستمدون معرفتهم ابإلجاابت مما حيوزونه يف أنفسهم‪ .‬هذه املالحظة‬
‫لن يكون هلا كبي قيمة ابلنسبة جلمهور القراء الذين مل يكونوا قد قرأوا حماورة مينون بعد‪ .‬بعد عدة صفحات‪،‬‬
‫من ذكره لذلك الربهان‪ ،‬خيرب سقراط حماوريه إن برهانه خبصوص معرفتنا األولية ابملساواة يف ذاهتا (مثال املساواة)‬
‫ينطبق متاما على املثل األخرى ـ على اجلمال يف ذاته‪ ،‬والتقوى يف ذاهتا‪ ،‬وعلى كافة األشياء األخرى املوجودة‬
‫بذاهتا‪ ،‬واليت ترد يف أسئلتهم أو إجاابهتم (‪ .)75d‬تلك اإلشارة إىل األسئلة واإلجاابت‪ ،‬لن يتم فهمها من‬
‫قبل القارئ الذي مل يسبق له قراءة سلسلة من احملاورات‪ ،‬يسأل فيها سقراط حماوريه أسئلة عن املثال "ما هو‬
‫كذا ؟" (يف أوطيفرون‪ :‬ما هي التقوى؟ ويف الخيس‪ :‬ما هي الشجاعة؟ ويف خارميدس‪ :‬ما هو االعتدال؟ ويف‬
‫هيبياس األكرب‪ :‬ما هو اجلمال؟)‪ .‬من الواضح‪ ،‬أن أفالطون يفرتض أن من يقرأ فيدون يكون قد سبق له أن‬
‫أمت ابلفعل قراءة عدد من أعماله األخرى‪ ،‬وأنه سيقوم بتطبيق كافة الدروس اليت تعلمها منها‪ .‬ويف بعض كتاابته‪،‬‬
‫تشي شخصيات أفالطون إىل مناقشات جرت بينهم قبل فرتة‪ :‬هكذا يومئ لنا أفالطون أبمهية قراءة حماورات‬
‫ثياتيتوس‪ ،‬والسفسطائي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬بنحو متتابع ومماثل‪ ،‬ومبا أنه حييلنا يف افتتاحية حماورة طيماوس إىل حماورة‬
‫اجلمهورية‪ ،‬فإن أفالطون يدل قرائه على وجوب سعيهم إلجياد روابط بني هذين العملني‪.‬‬
‫تظهر تلك السمات اخلاصة ابحملاورات إدراك أفالطون أبنه ال يستطيع أن يبدأ من نقطة الصفر متاما‪،‬‬
‫يف كل عمل يكتبه‪ .‬سيقدم أفكارا جديدة‪ ،‬ويطرح إشكاليات غي مسبوقة‪ ،‬ولكنه يتوقع أيضا من قرائه أن‬
‫يكونوا قد أملوا ابملناقشات اليت جرت بني املتحاورين يف أعمال أخرى ـ حىت مع وجود بعض التبديل بني هؤالء‬
‫املتحاورين‪( ،‬مينون ال يعاود الظهور يف فيدون‪ ،‬وطيماوس مل يكن ضمن املتحاورين يف اجلمهورية)‪ .‬ملاذا جعل‬
‫أفالطون تلك الشخصيات املهيمنة (سقراط‪ ،‬الزائر الغريب من إيليا) تعاود بني حماورة وأخرى لتأكيد أفكار‬
‫يطور أفكارا قدمت يف أعمال سابقة؟ إذا كان املقصود من احملاورات أهنا جمرد مثيات للتفكي ـ‬
‫بعينها‪ ،‬وأن ّ‬
‫أي جمرد تدريبات للعقل ـ فما كان هناك حاجة أبفالطون ألن يربط بني شخصياته الرئيسية وبني مذهب‬
‫متماسك ومتنامي‪ .‬على سبيل املثال؛ يواصل سقراط‪ ،‬خالل عدد كبي من احملاورات‪ّ ،‬ادعاء وجود تلك األشياء‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪12‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫اليت يسميها مثل ـ وال يوجد تفسي ملواصلته ذلك أفضل من افرتاض أن أفالطون يزكي ذلك املذهب لقرائه‪.‬‬
‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬عندما مت استبدال سقراط كمحاور أساسي ابلزائر الغريب من إيليا (يف حماوريت السفسطائي‪،‬‬
‫السياسي)‪ ،‬استمر وجود املثل كأمر مفروغ منه‪ ،‬ونرى الزائر اإليلي ينتقد أي تصور للواقع يستبعد تلك الكياانت‬
‫الالمادية؛ كالنفس‪ ،‬واملثل‪ .‬فالغريب اإليلي‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬يؤيد ويدعم ميتافيزيقا متاثل تلك اليت يدافع عنها‬
‫سقراط‪ ،‬يف كثي من النواحي‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬فإن أفضل تفسي الستمرار ذلك املوقف؛ أن أفالطون يستخدم كالر‬
‫من الشخصيتني ـ سقراط والغريب اإليلي ـ كأدوات لتقدمي مذهب يعتنقه‪ ،‬والدفاع عنه‪ ،‬ويريد لقرائه أيضا أن‬
‫يعتنقوه‪.‬‬

‫غري أفالطون رأيه يف نظرية املُثُل؟‬


‫‪ .9‬هل ر‬
‫تلك الطريقة لقراءة حماورات أفالطون ال تفرتض مسبقا أنه لن يغي رأيه أبدا يف أي شيء ـ مبعىن أن أاي‬
‫كان ما يؤيده متحاوريه يف إحدى احملاورات‪ ،‬فسيستمر كأمر افرتاضي‪ ،‬أو مؤكد‪ ،‬يف حماورة أخرى بدون تغيي‪.‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬إنه أمر صعب ودقيق أن نقرر‪ ،‬استنادا إىل قراءتنا للمحاورات‪ ،‬ما إذا كان أفالطون يقصد تعديل‬
‫أو نفي‪ ،‬يف حماورة ما ‪ ،‬ما جيعل حماوره الرئيسي يؤكده يف حماورة اخرى‪ .‬أحد األسئلة األكثر إاثرة لالهتمام‬
‫مثال‪،‬‬
‫وللجدل حول معاجلة فكرة املثل هي ما إذا كان يعرتف أبن تصوره لتلك الكياانت اجملردة أمر قابل للنقد ر‬
‫وإذا كان كذلك‪ ،‬فهل يقوم مبراجعة بعض الفرضيات اليت طرحها حوهلا‪ ،‬أو يقوم بتقدمي صورة أكثر تفصيال‬
‫هلا‪ ،‬حبيث تسمح له ابلرد على تلك االنتقادات‪ .‬يف حماورة ابرمنيدس‪ ،‬جند احملاور الرئيسي (ليس سقراط ـ فهو‬
‫هنا يظهر كفيلسوف شاب واعد‪ ،‬يف حاجة إىل مزيد تدريب ـ ولكن اإليلي املنتمي للمرحلة ما قبل السقراطية‪،‬‬
‫والذي حتمل احملاورة امسه‪ :‬ابرمنيدس) يضع املثل موضع النقد احلاد‪ ،‬مث يوافق على أن جيري حتقيقا حول طبيعة‬
‫الواحدية ‪ ،oneness‬اليت ال متلك روابط واضحة بنقده للمثل‪ .‬هل يساعد النقاش حول الواحدية (سلسلة‬
‫حمية من املتناقضات ـ أو‪ ،‬أبي اعتبار‪ ،‬افرتاضات تبدو ظاهراي كمجموعة من املتناقضات) بشكل أو آبخر‪،‬‬
‫يف توجيه املشكالت املثارة حول املثل؟ تلك طريقة لقراءة احملاورات‪ .‬وإذا ما قرأانها حبسب تلك الطريقة‪ ،‬فهل‬
‫غي رأيه يف بعض األفكار املتعلقة ابملثل‪ ،‬واليت أدرجها يف حماورات سابقة؟ هل‬
‫يدل ذلك على أن أفالطون قد َّ‬
‫إبمكاننا العثور على حماورات تتضمن "نظرية جديدة للمثل" ـ أي‪ :‬طريقة للتفكي يف املثل‪ ،‬تتجنب بنحو دقيق‪،‬‬
‫االفرتاضات اخلاصة ابملثل‪ ،‬واليت أدت ببارمنيدس إىل تلك االنتقادات؟ أمر يصعب قوله‪ .‬لكننا ال نستطيع أن‬
‫نطرح هذا كقضية تستحق التفكي‪ ،‬إال إذا افرتضنا سلفا أن وراء تلك احملاورات يقبع عقل مفرد‪ ،‬يستخدم تلك‬
‫الكتاابت كوسيلة إلجياد احلقيقة‪ ،‬وجعل هذه احلقيقة موضع اهتمام اآلخرين‪ .‬فإذا وجدان طيماوس (احملاور‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪13‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫الرئيسي يف احملاورة اليت حتمل امسه) والزائر اإليلي يف حماوريت السفسطائي والسياسي‪ ،‬يتحداثن عن املثل بنحو‬
‫يتوافق متاما مع الطريقة اليت يتحدث هبا سقراط عن املثل‪ ،‬يف حماوريت فيدون واجلمهورية؛ فليس هلذا التوافق‬
‫سوى تفسي واحد معقول‪ :‬أن أفالطون يعتقد أن كالمهم عن املثل صحيح‪ ،‬أو‪ ،‬على األقل‪ ،‬أن هناك اعتبارات‬
‫وجيهة تؤيده بقوة‪ .‬وإذا وجدان أن طيماوس‪ ،‬أو الزائر اإليلي‪ ،‬من انحية أخرى‪ ،‬يتحداثن عن املثل بطريقة ال‬
‫تتناغم مع الطريقة اليت يفهم هبا سقراط تلك املوضوعات اجملردة‪ ،‬يف احملاورات اليت أيخذ فيها الدور احملوري‪،‬‬
‫كموجه لدفة احلوار فإن التفسي األكثر احتماال هلذه التعارضات حينئذ هو افرتاض أن أفالطون نفسه ليس‬
‫لديه قناعات مستقرة خبصوص املثل‪ ،‬وأنه يرغب يف منح قرائه تدريبا عقليا فحسب‪ ،‬بواسطة أتليف حماورات‪،‬‬
‫تتحدث فيها الشخصيات الرئيسية عن تلك املوضوعات بطرق متضاربة‪.‬‬

‫غري أفالطون رأيه يف السياسة؟‬


‫‪ .10‬هل ر‬
‫الفكرة نفسها ـ أنه ينبغي لنا أن ننظر إىل احملاورات كنتاج عقل مفرد‪ ،‬لفيلسوف واحد‪ ،‬وإن كان من‬
‫احملتمل أن يغي رأيه ـ ميكن سرايهنا على السياسة يف أعمال أفالطون‪.‬‬
‫واجلدير ابملالحظة والبدء به‪ ،‬من بني أمور عدة‪ ،‬هو أن أفالطون فيلسوف سياسي‪ ،‬حيث يعرب يف‬
‫العديد من أعماله (فيدون بنحو خاص)‪ ،‬عن ٍ‬
‫توق للهرب من البهرجة الرخيصة للعالقات اإلنسانية العادية‪.‬‬
‫(بنحو مماثل‪ ،‬فإنه يظهر شعورا بقبح العامل احلسي‪ ،‬الذي ينمحي مجاله مقارنة مبا للمثل من مجال)‪ .‬بسبب‬
‫ذلك‪ ،‬سيكون سهال للغاية‪ ،‬ابلنسبة ألفالطون‪ ،‬أن يصرف اهتمامه ابلكلية عن الواقع العملي‪ ،‬وأن يقتصر يف‬
‫أتمالته على األسئلة النظرية‪ .‬فبعض أعماله ـ ابرمنيدس مثال ممتاز على ذلك ـ تقتصر على حتري األسئلة اليت‬
‫ال تنطبق على احلياة العملية أبي شكل‪ .‬غي أن الالفت للنظر‪ ،‬هو قلة أعماله اليت تندرج حتت هذا التصنيف‪.‬‬
‫فحىت األسئلة اجملردة اليت يتم طرحها يف حماورة السوفسطائي حول طبيعة املوجود وغي املوجود‪ ،‬تندرج يف هناية‬
‫األمر يف نطاق البحث عن تعريف للسفسطة‪ ،‬وابلتايل‪ ،‬فإهنا تستدعي للذهن السؤال عما إذا كان ينبغي‬
‫تصنيف سقراط كسفسطائي ـ وبتعبي آخر‪ ،‬عما إذا كان ينبغي إزدراء السوفسطائيني وجتنبهم‪ .‬على أي حال‪،‬‬
‫فربغم التوق الشديد الذي يبديه أفالطون ورغبته يف إسكان جسد وحياة املرء يف عامل روحي‪ ،‬فإنه يكرس قدرا‬
‫هائال من طاقته‪ ،‬يف حماولة فهم العامل الذي حنياه‪ ،‬وتقدير مجاله احملدود‪ ،‬والعمل على تطويره‪.‬‬
‫إن ثنائه على اجلمال املشوش للعامل احلسي‪ ،‬يف طيماوس‪ ،‬يقوم على تصويره له كنتاج للسعي اإلهلي‬
‫إىل تشكيل الواقع على صورة املثل‪ ،‬ابستخدام مناذج هندسية بسيطة‪ ،‬وعالقات رايضية متناغمة‪ ،‬كوحدات‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪14‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫بناء‪ .‬إن الرغبة يف حتويل العالقات اإلنسانية مت التعبي عنها يف عدد هائل من األعمال‪ .‬ففي حماورة الدفاع‬
‫ألفالطون‪ ،‬يقدم سقراط نفسه‪ ،‬كرجل ال تقبع رأسه بني السحب (وهذا أحد اهتامات أريستوفانيس له يف‬
‫مسرحيته السحب)‪ .‬وأنه ال يريد اهلرب من عامل احلياة اليومية‪ ،‬وإمنا يرغب يف حتسينه‪ .‬ويقدم نفسه‪ ،‬يف حماورة‬
‫جورجياس‪ ،‬أبنه األثيين الوحيد الذي أجهد نفسه يف جمال الفن احلقيقي للسياسة‪.‬‬
‫بنحو مماثل‪ ،‬يكرس سقراط قسما كبيا من مناقشاته‪ ،‬يف حماورة اجلمهورية‪ ،‬لنقد املؤسسات السائدة‪:‬‬
‫األسرة‪ ،‬وامللكية اخلاصة‪ ،‬وحكم األغلبية‪ .‬واحلافز وراء أتليف هذه احملاورة هو الرغبة يف حتويل (أو‪ ،‬بنحو ما‪،‬‬
‫يف تطوير) احلياة السياسية‪ ،‬وليس الفرار منها (برغم ما هو معروف من أن الرغبة يف االبتعاد عنها أمر ِّ‬
‫مشرف‪:‬‬
‫فأفضل أنواع احلكام هم من يؤثرون أتمل العامل اإلهلي على حكم املدينة)‪ .‬وإن تولد لدينا شك آخر أبن‬
‫أفالطون قد اهتم ابحلياة العملية‪ ،‬فال حنتاج إال إىل الرجوع إىل حماورة القوانني‪ .‬فعمل مبثل هذا احلجم الكبي‪،‬‬
‫والتفاصيل اهلائلة‪ ،‬والذي يدور حول إجراءات التصويت‪ ،‬والعقوابت‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والتشريع‪ ،‬ومراقبة املوظفني‬
‫العموميني‪ ،‬ال يكتبه إال شخص مشغول ابملسامهة بشئ يف حتسني احلياة املعاشة‪ ،‬يف هذا العامل احلسي املعيب‪.‬‬
‫وهناك دليل آخر على اهتمام أفالطون ابألمور العملية‪ ،‬ميكن استنتاجه من رسائله‪ ،‬حال ثبوت نسبتها إليه‪.‬‬
‫ففي معظمها‪ ،‬جنده يقدم نفسه كصاحب اهتمام كبي ابلرتبية (مبعاونة صديقه ديون) حاكم سياقوصة‪،‬‬
‫ديونيسيوس الثاين‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬أييت إصالح سياسة تلك املدينة‪.‬‬
‫ومثل أي حماولة لفهم آراء أفالطون حول املثل‪ ،‬فالبد وأن يواجهها السؤال عما إذا كانت أفكاره عنها‬
‫قد تطورت‪ ،‬أو تبدلت عرب الزمن‪ ،‬وكذلك أيضا قراءتنا له كفيلسوف سياسي‪ ،‬جيب أن تتضمن االستعداد‬
‫غي رأيه‪ .‬على سبيل املثال؛ فإن أي قراءة معقولة حملاورة اجلمهورية‪ ،‬ستبني أن‬
‫لقبول احتمال أن يكون قد َّ‬
‫أفالطون يظهر نفورا شديدا من حكم األغلبية‪ .‬فنرى سقراط وهو خيرب حماوريه أبن النظم السياسية الوحيدة‬
‫الذي ميكن أن يشاركوا فيها‪ ،‬هي احلكومات غي الدميوقراطية‪ ،‬واليت يصورها كنموذج للدستور اجليد‪ .‬ولكن‬
‫يف حماورة القوانني يقرتح الزائر األثيين إطارا شرعيا مفصال ملدينة‪ ،‬مينح فيه غي الفالسفة (أانس مل يسبق هلم أن‬
‫كحكام‪ .‬ما كان أفالطون لينفق كثي وقت يف‬ ‫مسعوا عن املثل‪ ،‬ومل يتم تدريبهم على فهمها) سلطات مهمة َّ‬
‫إبداع هذا العمل الشامل واملستفيض‪ ،‬ما مل يكن معتقدا أبن خلق جمتمع سياسي حيكمه غي املتنورين فلسفيا‬
‫غي أفالطون رأيه حينئذ؟ هل قام إبعادة تقييم رأيه السليب‪ ،‬الذي اختذه‬
‫هو مشروع يستحق أتييد قرائه‪ .‬هل َّ‬
‫يف السابق‪ ،‬يف حق الربيئون من الفلسفة؟ هل فكر‪ ،‬يف بداية األمر‪ ،‬أن إصالح املدن اليواننية احلالية‪ ،‬بكل ما‬
‫تشتمل عليه من أوجه خلل‪ ،‬هو مضيعة للوقت ـ مث عاد ورأى أهنا حماولة عظيمة القيمة؟ (وإذا كان األمر‬
‫كذلك‪ ،‬فما الذي أدى به إىل تغيي رأيه؟) ميكن لإلجاابت على هذه األسئلة أن جتد تربيرها ابلعناية الفائقة‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪15‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫واالنتباه ملا وضعه على لسان متحاوريه من أقوال‪ .‬لكن سيكون من غي احملتمل متاما افرتاض أن تلك األسئلة‬
‫التطورية ال حتتاج إىل أن تطرح‪ ،‬ابعتبار أن كال من حماورة اجلمهورية‪ ،‬وحماورة القوانني‪ ،‬لديها شخصياهتا اخلاصة‬
‫هبا‪ ،‬فال ميكن ابلتايل أن تناقض إحدامها األخرى‪ .‬حبسب هذا االفرتاض (والذي ينبغي نبذه) ألن سقراط‬
‫(وليس أفالطون) هو من ينتقد الدميوقراطية يف حماورة اجلمهورية‪ ،‬وألن الزائر األثيين (وليس أفالطون) هو من‬
‫يقر بفضائل حكم األغلبية يف حماورة القوانني‪ ،‬فينتفي بذلك احتمال تصادم احملاورتني‪ .‬يف معارضة هذا‬
‫االفرتاض‪ ،‬ينبغي أن نقول‪ :‬مبا أن كال من اجلمهورية والقوانني عملني حاول أفالطون خالهلما توجيه قرائه حنو‬
‫استنتاجات معينة‪ ،‬أبن جيعلهم يفكرون يف براهني معينة ـ تلك احملاورات ال متتنع عن أن تتصف هبذه السمة‬
‫ابستخدامها لشخصيات متحاوريها ـ وسيكون هرواب من مسؤوليتنا كقراء وتالميذ ألفالطون‪ ،‬أال نسأل عما‬
‫إذا كان ما يؤيده أحدهم يتوافق مع ما يؤيده اآلخر‪ .‬إذا أجبنا هذا السؤال ابلسلب‪ ،‬فسيكون علينا تقدمي‬
‫تفسي ما؛ ما الذي أدى إىل ذلك التغي؟ وإن كان غي ذلك؛ أي إن ذهبنا إىل أن العملني متوافقني‪ ،‬فسيلزمنا‬
‫بيان السبب يف أن التضارب الظاهر ومهي‪.‬‬

‫‪ .11‬سقراط التارخيي‪ :‬احملاورات املبكرة‪ ،‬والوسطى‪ ،‬واملتأخرة‪.‬‬


‫يرى كثي من الباحثني املعاصرين أنه من املنطقي‪ ،‬أن يؤلف أفالطون‪ ،‬مبستهل حياته الفكرية ككاتب‬
‫فلسفي‪ ،‬ابإلضافة إىل حماورة الدفاع عن سقراط‪ ،‬عددا من احملاورات األخالقية القصية‪ ،‬اليت ال تتضمن إال‬
‫القليل‪ ،‬أو الشيء‪ ،‬من مالمح املذهب الفلسفي الواضح‪ ،‬وإمنا كرست أساسا لتصوير الطريقة اليت يقوض هبا‬
‫سقراط إدعاءات الفهم والعلم لدى حماوريه‪ ،‬وإجبارهم على االعرتاف أبهنم غي قادرين على تقدمي تعريفات‬
‫وافية للمفاهيم األخالقية اليت يستخدموهنا‪ ،‬أو تقدمي حجج قوية تدعم معتقداهتم األخالقية‪ .‬وحبسب تلك‬
‫الطريقة يف ترتيب احملاورات ترتيبا زمنيا صارما ـ الذي ارتبط بشكل خاص ابسم جرجيوري فالستوس (انظر‪،‬‬
‫حتديدا‪ ،‬كتابه‪ :‬سقراط‪ :‬فيلسوف أخالقي ساخر‪ ،‬الفصلني الثاين والثالث) ـ فقد كان أفالطون‪ ،‬يف تلك املرحلة‬
‫من اترخيه الفكري‪ ،‬راضيا ابستخدام كتاابته‪ ،‬مبدئيرا‪ ،‬بغرض احلفاظ على ذكرى سقراط‪ ،‬والتمهيد لتفوق بطله‪،‬‬
‫مبهارة عقلية وجدية أخالقية‪ ،‬على مج يع معاصريه ـ وخباصة أولئك الذي ادعوا أهنم خرباء يف األمور الدينية‪،‬‬
‫والسياسية‪ ،‬واألخالقية‪ .‬ويف فئة احملاورات املبكرة (واليت يطلق عليها أحياان‪" :‬احملاورات السقراطية"‪ ،‬وتذكر غالبا‬
‫من دون أي داللة زمنية معينة) تتموضع حماورات‪ :‬خارميدس‪ ،‬وكريتون‪ ،‬وإيوثيدميوس‪ ،‬وأوطيفرون‪ ،‬وجورجياس‪،‬‬
‫وهيبياس الكبي‪ ،‬وهيبياس الصغي‪ ،‬وأيون‪ ،‬والخيس‪ ،‬واليزيس‪ ،‬وبرواتجوراس‪( ،‬يرى بعض الباحثني أنه إبمكاننا‬
‫حتديد أي تلك احملاورات جاء آخرار‪ ،‬خالل املرحلة املبكرة ألفالطون‪ ،‬فمثال‪ :‬يقال أحياان إن حماوريت برواتجوراس‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪16‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫وجورجياس متأخراتن؛ بسبب طوهلما الواضح‪ ،‬وتعقد مضموهنما الفلسفي‪ ،‬بينما أعترب أن حماورات أخرى ـ‬
‫مثل‪ :‬خارميدس واليزيس ـ ال تدخل يف عداد حماورات أفالطون األوىل‪ ،‬يف تلك اجملموعة املبكرة؛ بسبب أن‬
‫سقراط يلعب فيها دورا أكثر فاعلية يف تشكيل النمو الدرامي للمحاورة؛ أي‪ :‬تتزايد أفكاره اخلاصة به)‪ .‬ومقارنة‬
‫ابلعديد من حماورات أفالطون األخرى‪ ،‬فتلك األعمال املوصوفة بـ"السقراطية"‪ ،‬تتضمن القليل من أتمالت‬
‫امليتافيزيقية‪ ،‬أو املعرفية‪ ،‬أو املنهجية‪ ،‬وابلتايل‪ ،‬فإهنا تتالئم متاما مع الطريقة اليت مييز هبا سقراط نفسه يف حماورة‬
‫الدفاع‪ :‬كرجل يهجر البحث يف املسائل الطنانة (وهي اليت تقع "يف السماء‪ ،‬وحتت األرض") إىل أمور أكثر‬
‫حكمة‪ ،‬ويقتصر يف كل أحباثه على السؤال عن الكيفية اليت ينبغي لإلنسان أن يعيش حياته عليها‪ .‬ويصف‬
‫أرسطو سقراط كشخص تنحصر اهتماماته يف فرع واحد فقط من فروع الفلسفة ـ هو اجملال األخالقي‪ ،‬ويضيف‬
‫قائال‪ :‬إنه كان يعتاد على توجيه أسئلة عن التعريفات اليت يفتقر هو نفسه إىل إجاابت عليها (امليتافيزيقا‬
‫‪ ، 987b1‬املغالطات السوفسطائية ‪ .)183b7‬تضيف تلك الشهادة وزان لالفرتاض اجملمع عليه؛ بوجود‬
‫جمموعة من احملاورات ـ تلك اليت ذكرت آنفا ابعتبارها األعمال األوىل‪ ،‬يف مسار أفالطون التأليفي‪ ،‬سواء كانت‬
‫قد كتبت مجيعها يف املرحلة املبكرة أم ال ـ اليت يستخدم فيها أفالطون قالب احلوار‪ ،‬كوسيلة لتصوير الفاعليات‬
‫الفلسفية لسقراط التارخيي (رغم أنه قد يكون قد وظف تلك الفاعليات من نواح أخرى أيضا‪ ،‬مثال؛ القرتاح‬
‫وبدء تقصي إشكاليات فلسفية مت طرحها فيها)‪.‬‬
‫لكن أفالطون يشرع‪ ،‬عند حلظة معينة ـ حبسب ذلك االفرتاض عن الرتتيب الزمين للمحاورات ـ يف‬
‫استخدام أعماله للدفع أبفكاره اليت ابتدعتها قرحيته‪ ،‬ال أبفكار سقراط‪ ،‬وإن استمر يف منح اسم "سقراط"‬
‫للمحاور الذي يقدم تلك األفكار اجلديدة ويربهن عليها‪ .‬يبدأ اآلن‪ ،‬املتحدث املدعو "سقراط" يف جتاوز‬
‫سقراط التارخيي ‪ ،‬واالنفصال عنه‪ :‬فلديه اآلن آراء يف املنهجية اليت ينبغي أن يستخدمها الفيلسوف (منهجية‬
‫مستعارة من الرايضيات)‪ ،‬كما أنه يربهن على خلود النفس‪ ،‬وعلى وجود وأمهية مثل اجلمال‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واخلي‪،‬‬
‫وما أشبه‪( .‬على النقيض من ذلك؛ ففي حماورة الدفاع ‪ ،‬يقول سقراط إن أحدا ال يعرف ما الذي سنؤول إليه‬
‫عرب فيها أفالطون‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬عن نفسه كفيلسوف جتاوز‪،‬‬ ‫بعد موتنا)‪ ،‬ويقال دوما إن حماورة فيدون هي اليت َّ‬
‫ببون شاسع‪ ،‬أفكار معلمه (وذلك ابلرغم من شيوع القول أبننا نرى حنكة منهجية واهتماما ابلغا ابملعرفة‬
‫الرايضية يف حماورة مينون أيضرا)‪ .‬وبعدما انتهى أفالطون من كتابة تلك احملاورات‪ ،‬اليت نصنفها‪ ،‬حبسب ذلك‬
‫االفرتاض‪ ،‬كأعمال مبكرة‪ ،‬أيخذ أفالطون يف توسيع جمال املوضوعات اليت يبحثها يف كتاابته (فلم يعد يقيد‬
‫نفسه مبجال األخالق)‪ ،‬ووضع نظرية املثل (وما له صلة هبا من أفكار عن اللغة‪ ،‬و املعرفة‪ ،‬واحلب) يف مركز‬
‫اهتمامه الفكري‪ .‬يف تلك األعمال‪ ،‬اليت تنتمي إىل مرحلته "الوسطى" ـ على سبيل املثال‪ :‬يف فيدون‪ ،‬وكراتيلوس‪،‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪17‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫واملأدبة‪ ،‬واجلمهورية‪ ،‬وفايدروس ـ جند تغيا يف مواضع االهتمام واملذهب معا‪ .‬مل يعد االهتمام منصبا على أن‬
‫خنلص أنفسنا من األفكار الزائفة‪ ،‬وخداع ذواتنا‪ ،‬وإمنا أصبح مطلواب منَّا قبول (مؤقتا على أية حال) تصور‬
‫جديد أصيل لذواتنا (املنقسمة اآلن إىل ثالثة أقسام)‪ ،‬ولعاملنا ـ أو ابألحرى‪ :‬عاملينا ـ وحاجتنا إىل التوفيق‬
‫بينهما‪ .‬وأخيا‪ ،‬يتم عرض التعريفات اخلاصة أبهم الفضائل (اليت أخفقت حماولة الوصول إليها يف بعض‬
‫احملاورات املبكرة) ففي حماورة اجلمهورية‪ :‬الكتاب األول فيها‪ ،‬صورة للكيفية اليت كان سقراط التارخيي ليتوىل‬
‫هبا البحث عن تعريف للعدالة‪ ،‬أما سائر احملاورة‪ ،‬فتبني كيف ميكن لألدوات واألفكار اجلديدة‪ ،‬اليت اكتشفها‬
‫أفالطون‪ ،‬أن تكمل املشروع الذي مل يتمكن معلمه من إهنائه‪ .‬يواصل أفالطون استخدام شخصية تدعى‬
‫"سقراط" كمحاور رئيسي‪ ،‬وهبذا فإنه خيلق شعورا ابالستمرارية بني وسائل‪ ،‬ورؤى‪ ،‬وأهداف سقراط التارخيي‪،‬‬
‫وبني سقراط اجلديد؛ الذي أصبح واسطة لصياغة رؤية أفالطون الفلسفية اخلاصة‪ .‬ولتحقيق ذلك‪ ،‬يعرتف‬
‫أبنه مدين أبفكاره ملعلمه‪ ،‬ويعتمد‪ ،‬ألجل مقاصده اخلاصة‪ ،‬املكانة الفائقة‪ ،‬للرجل الذي كان أحكم رجال‬
‫عصره‪.‬‬
‫الفرضية اخلاصة ابلرتتيب الزمين لكتاابت أفالطون هلا حمتوى اثلث‪ :‬فإهنا ال تضع أعماله حتت أي من‬
‫الفئتني املذكورتني فقط ـ احملاورات املبكرة‪ ،‬أو "السقراطية"‪ ،‬يف فئة‪ ،‬وسائر احملاورات يف فئة أخرى ـ إمنا تعاملت‪،‬‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬مع تقسيم ثالثي للمحاورات‪ :‬املبكرة‪ ،‬والوسطى‪ ،‬واملتأخرة‪ .‬وسبب ذلك‪ ،‬إتباعا للشهادة‬
‫القدمية‪ ،‬أن أصبح اإلمجاع على افرتاض أن حماورة القوانني هي إحدى حماورات أفالطون األخية‪ ،‬إضافة إىل‬
‫أن تلك احملاورة تتشارك‪ ،‬يف كثي جدا من املشرتكات األسلوبية‪ ،‬مع جمموعة صغية من احملاورات األخرى‪:‬‬
‫السوفسطائي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬وطيماوس‪ ،‬وكريتياس‪ ،‬وفيليبوس‪ .‬ومث اتفاق عام‪ ،‬على أن تلك احملاورات اخلمسة‪،‬‬
‫ابإلضافة إىل حماورة القوانني ‪ ،‬هي أعمال أفالطون األخية‪ ،‬ملا بينها من تشاهبات كثية‪ ،‬عندما حيصي املرء‬
‫السمات األسلوبية اليت يلحظها‪ ،‬فقط‪ ،‬قارئ أفالطون يف األصل اليوانين‪ ،‬أبكثر منها يف أعمال أفالطون‬
‫األخرى‪( .‬دعَّم إحصاء الكمبيوتر هذه الدراسات األسلوبية اإلحصائية‪ ،‬غي أن عزل جمموعة من ست حماورات‪،‬‬
‫على أساس القواسم األسلوبية املشرتكة بينها‪ ،‬كان أمرا معروفا يف القرن التاسع عشر)‪.‬‬
‫من غي الواضح متاما ما إذا كان هناك واحد أو أكثر من التشاهبات الفلسفية بني هذه اجملموعة من‬
‫احملاورات الستة ـ مبعىن؛ ما إذا كان حمتواها الفلسفي خيتلف متاما عن احملتوى الفلسفي لسائر احملاورات األخرى‪.‬‬
‫ومل يقم أفالطون بشيء يشجع القارئ على النظر إىل تلك األعمال ابعتبارها ذات حمتوى متمايز ومنفصل‬
‫لفكره‪ .‬على النقيض من ذلك؛ فإنه يربط بني حماوريت السوفسطائي وثياتيتوس (فاملناقشات اليت تقدم ذكرها‬
‫فيها كثي من التداخالت بني الشخصيات‪ ،‬كما أهنا تقع يف أايم متتالية) وكذلك بني حماوريت السوفسطائي‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪18‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫والسياسي‪ .‬تتضمن حماورة السوفسطائي‪ ،‬يف صفحاهتا األوىل‪ ،‬إشارة إىل النقاش الذي دار يف حماورة ابرمنيدس‬
‫ـ ورمبا كان أفالطون يلمح بذلك إىل قرائه أنه جيب عليهم أن يستحضروا ما استفادوه من دروس بقراءهتم حملاورة‬
‫ابرمنيدس أثناء قراءهتم حملاورة السوفسطائي‪ .‬وبنحو مماثل‪ ،‬تفتتح حماورة طيماوس بتذكي ببعض املذاهب‬
‫السياسية واألخالقية األساسية‪ ،‬اليت ورد ذكرها يف حماورة اجلمهورية‪ .‬ميكننا القول ابلطبع أنه إذا نظر املرء إىل‬
‫ما وراء تلك األدوات الضابطة للمراحل‪ ،‬فسيلحظ تغيات فلسفية واضحة يف احملاورات الستة األخية‪ ،‬تضع‬
‫هذه اجملموعة يف مكانة منفصلة عن كل ما سبقها‪ .‬غي أنه ليس مث إمجاع على وجوب قراءهتا حبسب هذا‬
‫االعتبار‪ .‬إذ حيتاج حل هذه املسألة إىل دراسة متأنية حملتوى أعمال أفالطون‪ .‬هلذا‪ ،‬فعلى الرغم من القبول العام‬
‫أبن تلك احملاورات الستة‪ ،‬املذكورة آنفا‪ ،‬تنتمي إىل املرحلة األخية ألفالطون‪ ،‬فال يوجد حىت اآلن اتفاق بني‬
‫دارسي أفالطون على أن تلك احملاورات الستة تشكل مرحلة متمايزة يف تطوره الفلسفي‪.‬‬
‫يبقى تقسيم أعمال أفالطون إىل مراحل ثالثة ـ مبكرة‪ ،‬ووسطى‪ ،‬ومتأخرة ـ كمسألة خالفية ـ مؤشرا‬
‫صحيحا على ترتيب أتليف احملاورات‪ ،‬ومبينا إذا ما كانت تلك وسيلة انجحة إىل فهم فكر أفالطون (انظر‪:‬‬
‫‪ .)Cooper 1997, vii-xxvii‬سيكون مقبوال بشكل كبي دعم القول الذي يذهب إىل أن مسية‬
‫أفالطون يف الكتابة بدأت مبثل تلك األعمال املعقدة‪ ،‬مثل القوانني‪ ،‬وابرمنيدس‪ ،‬وفايدروس‪ ،‬أو اجلمهورية‪.‬‬
‫على ضوء االفرتاضات املقبولة بشكل واسع حول كيفية تطور العقول الفلسفية‪ ،‬فإن االحتمال األقرب للصواب‬
‫هو أنه عندما شرع أفالطون يف كتابة أعمال فلسفية‪ ،‬فإن احملاورات األقصر واألبسط‪ ،‬هي ما ألفه‪ :‬الخيس‪،‬‬
‫أو كريتون‪ ،‬أو أيون (على سبيل املثال)‪( .‬وابملثل‪ ،‬فإن حماورة الدفاع ال تطرح برانجما فلسفيا معقدا‪ ،‬كما ال‬
‫تفرتض وجود أعمال سابقة؛ وهلذا‪ ،‬يعظم احتمال أنه مت أتليفها قريبا من بداية مسار أفالطون التأليفي)‪ .‬وإذا‬
‫كرس نفسه يف أغلب مراحل حياته‬ ‫كان األمر كذلك‪ ،‬فال يوجد سبب قوي لنبذ االفرتاض أبن أفالطون قد َّ‬
‫لكتابة نوعني من احملاورات‪ ،‬ينتقل بينهما من واحد آلخر يف نفس املراحل خالل تقدمه يف العمر‪ :‬من جهة‪،‬‬
‫أعمال متهيدية‪ ،‬مقصدها األساسي أن تبني للقراء الصعوبة الكامنة فيما يبدو كمشكالت فلسفية بسيطة‪،‬‬
‫ظاهراي‪ ،‬ومن مث يقوم بتخليص قرائه من ادعاءاهتم الواهية‪ ،‬ومعتقداهتم الزائفة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬أعمال تذخر‬
‫ابملزيد من النظرايت الفلسفية اجلوهرية‪ ،‬املدعومة ابلرباهني التفصيلية‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬ميكننا اإلشارة إىل‬
‫مالمح العديد من احملاورات "السقراطية"‪ ،‬اليت تسوغ وضعها يف الفئة األخية‪ ،‬رغم أن جوهر احلوارات فيها ال‬
‫يعىن ابمليتافيزيقا أو املنهجية‪ ،‬أو يستحضر الرايضيات ـ ومن بينها‪ :‬جورجياس‪ ،‬وبرواتجوراس‪ ،‬واليزيس‪،‬‬
‫وإيوثيدميوس‪ ،‬وهيبياس األكرب‪.‬‬
‫يبني أفالطون‪ ،‬بشكل واضح‪ ،‬وجوب تقدُّم إحدى هاتني العمليتني على األخرى جزءرا من الرتبية‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪19‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫الفلسفية للمرء‪ .‬إن واحدا من أهم قناعاته املنهجية (والذي يتأكد يف حماورة مينون‪ ،‬وثياتيتوس‪ ،‬والسوفسطائي)‬
‫هو أنه لتحقيق التقدم الفكري‪ ،‬علينا إدراك أنه ال ميكن حتصيل املعرفة بواسطة التلقي السليب من اآلخرين‪ ،‬بل‬
‫جيب أن نتجاوز املشكالت‪ ،‬وأن نقدر مزااي مواجهة النظرايت بعقل مستقل‪ .‬وابلتايل‪ ،‬فإن بعض حماوراته تعد‬
‫مبثابة أدوات أولية لكسر حالة الرضا عن النفس لدى القارئ‪ ،‬وذلك هو السبب يف أهنا ال تنتهي إىل نتائج‬
‫إجيابية‪ ،‬وهذا أمر جوهري‪ ،‬ومث حماورات أخرى‪ ،‬هي مبثابة مسامهات يف بناء النظرية‪ ،‬وابلتايل‪ ،‬يتحقق أفضل‬
‫استيعاب هلا بواسطة أولئك الذين سبق هلم املرور ابملرحلة األوىل من التطور الفلسفي‪ .‬ال جيب علينا افرتاض‬
‫أن أفالطون كان قد كتب احملاورات التمهيدية‪ ،‬فقط‪ ،‬يف املرحلة األوىل يف مساره الفلسفي‪ ،‬رغم أنه قد يكون‬
‫استهل مسيته ككاتب بتبين ذلك النوع من املشروعات‪ ،‬ولعله استمر يف كتابة تلك األعمال "احملايدة‬
‫‪ " negative‬يف مراحله املتأخرة‪ ،‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬كان يؤلف حماوراته اليت تؤسس نظريته‪ .‬ومثال على ذلك‪،‬‬
‫رغم أن حماوريت إيوثيدميوس‪ ،‬وخارميدس‪ ،‬قد شاع اعتبارمها من احملاورات املبكرة‪ ،‬فرمبا تكوان قد كتبتا يف نفس‬
‫الوقت تقريبا‪ ،‬الذي كتبت فيه حماورات املأدبة‪ ،‬واجلمهورية‪ ،‬اللتان ينظر إليهما‪ ،‬من العموم‪ ،‬على أهنما من‬
‫مؤلفات املرحلة الوسطى‪ ،‬أو حىت املتأخرة‪.‬‬
‫ال شك أن بعض األعمال اليت ساد اعتبارها من األعمال املبكرة‪ ،‬هي كذلك ابلفعل‪ .‬لكن يظل السؤال‬
‫مطروحا؛ أيها كذلك‪ ،‬وكم عددها‪ .‬على أية حال‪ ،‬من الواضح أن أفالطون قد استمر يف الكتابة يف التيار‬
‫"السقراطي"‪ ،‬و"احملايد"‪ ،‬حىت بعدما جتاوز املراحل املبكرة يف مسيته‪ :‬حماورة ثياتيتوس تصور سقراطا أكثر‬
‫إصرارا على جهله‪ ،‬أبكثر مما حيدث يف التصوير الدرامي لسقراط يف األعمال األكثر وجازة‪ ،‬واألقل تعقيدا من‬
‫الوجهة الفلسفية‪ ،‬واليت افرتض‪ ،‬بنحو معقول‪ ،‬أهنا أعمال مبكرة‪ ،‬وتسعى حماورة ثياتيتوس‪ ،‬مثل العديد من‬
‫تلك األعمال املبكرة‪ ،‬على السؤال "ما هو ‪...‬؟" الذي يلح بال هوادة؛ مثل‪":‬ما هي املعرفة؟"‪ .‬وابملثل‪ ،‬ابلرغم‬
‫من أن حماورة ابرمنيدس قطعا ليست من احملاورات املبكرة‪ ،‬فهي عمل يهدف أساسا إىل إاثرة حية القارئ‪،‬‬
‫بعرض احلجج بشكل تبدو فيه نتائجها متناقضة ظاهراي‪ ،‬إذ إهنا ال ختربان كيف ميكن قبول كل تلك النتائج‪،‬‬
‫مبكرا‪ ،‬واملنتهية إىل نتائج حمايدة‪.‬‬
‫وأتثيها اجلوهري على القارئ مشابه لتأثي احملاورات اليت يعد بعضها ال شك ر‬
‫يستخدم أفالطون تلك الوسيلة الرتبوية ـ إاثرة القارئ بواسطة عرض احلجج املتقابلة‪ ،‬مث تركه هلذا التضارب بال‬
‫حل ـ وأيضا‪ ،‬يف حماورة برواتجوراس (اليت تعترب‪ ،‬غالبا‪ ،‬من احملاورات املبكرة)‪ .‬لذا‪ ،‬فمن الواضح‪ ،‬أنه بعدما‬
‫جتاوز إىل حد كبي املراحل املبكرة يف تفكيه‪ ،‬استمر يف تعهد مشروع كتابة األعمال اليت هتدف أساس‪ ،‬إىل‬
‫العرض احملايد لإلشكاليات اليت ال يصل فيها إىل حل‪( .‬وأيضا‪،‬كما ينبغي االعرتاف‪ ،‬أبن إاثرة حية القارئ‬
‫تستمر كهدف له حىت يف األعمال املتأخرة‪ ،‬لذا جيب علينا أيضا أال نغفل عن حقيقة أن هناك بعضا من‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪20‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫املالمح اجلوهرية يف بناء النظرية‪ ،‬يف األعمال األخالقية البسيطة إىل حد كاف لتكون من املؤلفات املبكرة‪:‬‬
‫أيون‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬تؤكد نظريةر يف اإلهلام الشعري‪ ،‬وكريتون‪ ،‬تؤسس للشروط اليت حبسبها حيقق املواطن‬
‫االلتزام بطاعة األوامر املدنية‪ .‬وال تنتهي إيهما إبخفاق)‪.‬‬
‫إذا كان لدينا ما يربر اعتبار أن خطاب سقراط‪ ،‬يف حماورة الدفاع ألفالطون‪ ،‬ميثل شاهدا وثيقا على ما‬
‫كان عليه سقراط التارخيي‪ ،‬إذن‪ ،‬فأاي كان ما نلقاه‪ ،‬يف أعمال أفالطون األخرى‪ ،‬وجاء متوافقا مع ذلك‬
‫اخلطاب‪ ،‬فبمقدوران أن ننسبه ابطمئنان إىل سقراط‪ .‬ومن املتوافق عليه أن سقراط كان ذا توجه أخالقي‪ ،‬لكنه‬
‫(خبالف أفالطون) مل يكن ميتافيزيقيا‪ ،‬أو منشغال بنظرية املعرفة‪ ،‬أو من املهتمني ابلبحث الكوين‪ .‬وذلك يتفق‬
‫مع شهادة أرسطو‪ ،‬كما يعطي منهج أفالطون يف اختيار املتحدث الرئيسي يف حماوراته‪ ،‬دعما إضافيا هلذه‬
‫الطريقة يف التمييز بينه وبني سقراط‪ .‬إن عدد احملاورات اليت هيمنت فيها شخصية سقراط‪ ،‬واليت ينسج فيها‬
‫مذاهب فلسفية مفصلة‪ ،‬تعد قليلة بشكل ملحوظ‪ :‬فيدون‪ ،‬واجلمهورية‪ ،‬وفيليبوس‪ .‬مجيعها سادت فيها املسائل‬
‫األخالقية؛ ما إذا كنا خناف املوت‪ ،‬أو أن تكون عادال‪ ،‬ومن الذي حنب‪ ،‬وموضع اللذة‪ .‬من الواضح أن‬
‫أفالطون يعتقد أنه من املالئم أن جيعل سقراط املتحدث الرئيسي يف حماورة مشحونة ابحملتوى اإلجيايب فقط‬
‫عندما تكون املوضوعات اليت يتم حبثها تتعلق مبدئيا ابحلياة األخالقية للفرد‪( .‬إن األبعاد السياسية يف حماورة‬
‫اجلمهورية إمنا قيلت بوضوح لتخدم السؤال األهم؛ عما إذا كان جيب على كل فرد أن يكون عادال بغض النظر‬
‫عن الظروف احمليطة)‪ .‬حينما صارت املذاهب اليت يرغب أفالطون يف عرضها بنحو منهجي ميتافيزيقية يف‬
‫املقام األول‪ ،‬توجه إىل الزائر من إيليا (السوفسطائي‪ ،‬والسياسي)‪ ،‬وحينما أصبح منشغال ابلقضااي الكونية‪،‬‬
‫توجه إىل طيماوس‪ ،‬وحينما صارت مسائله دستورية‪ ،‬اجته‪ ،‬يف حماورة القوانني‪ ،‬إىل زائر من أثينا (وحينئذ‪ ،‬فإنه‬
‫يستبعد سقراط ابلكلية)‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يبني أفالطون لنا أنه‪ :‬على الرغم من أنه يدين ابلكثي لألفكار األخالقية‬
‫لسقراط‪ ،‬وكذلك منهجه يف نقض االدعاءات الفكرية حملاوريه‪ ،‬من خالل وضعهم يف حال من التناقض‪ ،‬فإنه‬
‫يعتقد أبنه ال جيب عليه أن يضع على لسان معلمه حتقيقا كثي التفاصيل يف موضوعات أنطولوجية‪ ،‬أو كونية‪،‬‬
‫أو سياسية‪ ،‬ألن سقراط كان ميسك عن اخلوض يف تلك اجملاالت‪ .‬قد يكون ذلك جزءا من تفسي السبب‬
‫الذي جعل سقراط يضع على لسان القوانني األثينية ـ اليت جتسدت كشخص حياوره ـ النظرية اليت أاثرها يف‬
‫حماورة كريتون ‪ ،‬واليت أدت به إىل أنه سيقرتف ظلما يف حقها إذا فر من السجن‪ .‬لعل أفالطون يشي‪ ،‬يف‬
‫اللحظة اليت يشارك فيها هؤالء املتحدثني يف احلوار‪ ،‬أال شيء مما قيل هنا مأخوذ عن سقراط أ ومستوحى من‬
‫حواره أبي حال من األحوال‪.‬‬
‫مثلما جيب علينا نفي فكرة أن أفالطون قد اختذ يف مرحلة مبكرة قرار التوقف عن كتابة نوع واحد من‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪21‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫احملاورات (احملايد‪ ،‬أورالنقضي‪ ،‬أوالتمهيدي)‪ ،‬وأن يقتصر على كتابة األعمال املفصلة يف مساره إىل بناء نظريته‪،‬‬
‫مر مبرحلة مبكرة‪ ،‬ختلَّص خالهلا من تقدمي أي من أفكاره‬ ‫لذا‪ ،‬جيب علينا أيضا التساؤل عما إذا كان قد َّ‬
‫اخلاصة يف أعماله (يف حال كان لديه أفكارا خاصة به حينئذ)‪ ،‬وكان راضيا بلعب دور ِّ‬
‫املصور األمني‪ ،‬مستعرضا‬
‫حياة وفكر سقراط لقرائه‪ .‬ومن غي الواقعي‪ ،‬افرتاض أن شخصا له أصالة وإبداع أفالطون‪ ،‬والذي حيتمل أنه‬
‫قد بدأ كتابة احملاورات وهو يف الثالثينيات من عمره (كان عمره ‪ 28‬عاما تقريبا‪ ،‬عندما قتل سقراط)‪ ،‬كان‬
‫ِ‬
‫ضمنها أفكاره اخلاصة‪ ،‬أو أن يقرر كبح مثل هذه األفكار لفرتة من الزمن إن‬
‫ليبدأ أتليف أعماله من دون أن ي ّ‬
‫كانت لديه‪ ،‬وال يسمح ل نفسه ابلتفكي يف مسائله اخلاصة إال الحقا‪( .‬ما الذي أدى به إىل اختاذ مثل هذا‬
‫القرار؟) جيب علينا‪ ،‬بدال من ذلك‪ ،‬معاجلة النقالت احلاصلة يف احملاورات‪ ،‬حىت تلك اليت حيتمل أن تكون‬
‫مبكرة‪ ،‬ابعتبارها ابتكارات أفالطونية ـ مستمدة بال شك من أتمالت أفالطون يف املوضوعات األساسية اخلاصة‬
‫مثال إىل أن تلك احلال من‬‫بسقراط‪ ،‬وحتوالهتا‪ ،‬واليت يعزوها إىل سقراط يف حماورة الدفاع‪ .‬تلك اخلطبة تشي ر‬
‫التقوى البالغة اليت أبداها سقراط‪ ،‬كانت غي تقليدية‪ ،‬وحيتمل أن تثي االستياء‪ ،‬أو أن تؤدي إىل سوء فهم‪.‬‬
‫وقد يكون من املقبول افرتاض أن أفالطون قام ببساطة بتلفيق فكرة أن سقراط يتبع إشارة إهلية‪ ،‬خاصة وأن‬
‫زينوفون‪ ،‬أيضا‪ ،‬قد نسب األمر نفسه إىل سقراطه‪ .‬لكن‪ ،‬ماذا عن النقالت الفلسفية املتنوعة‪ ،‬اليت تكررت يف‬
‫أوطيفرون ـ احملاورة اليت يبحث فيها سقراط عن فهم ما هي التقوى؟ حىت بال جدوى‪ ،‬ليس لدينا سبب قوي‬
‫لالعتقاد أبن أفالطون قد أخذ يف كتابته هلذا العمل دور آلة تسجيل فحسب‪ ،‬أو ما يقرب من ذلك (فيقوم‬
‫بتغيي كلمة هنا‪ ،‬أو كلمة هناك‪ ،‬ولكنه غالبرا ال يزيد عن جمرد تذكر ما مسع سقراط يقوله‪ ،‬وهو يف طريقه إىل‬
‫احملكمة)‪ .‬األمر األكثر احتماال أن أفالطون‪ ،‬مستلهما تصور سقراط غي التقليدي للتقوى‪ ،‬قد أنشأ‪ ،‬بطريقته‬
‫اخلاصة‪ ،‬سلسة من األسئلة واإلجاابت املصممة حبيث تبني لقرائه مدى صعوبة الوصول إىل فهم الفكرة احملورية‪،‬‬
‫اليت اختذها مواطنو سقراط ذريعة للحكم عليه ابملوت‪ .‬إن الفكرة اليت مؤداها أمهية البحث عن تعريفات‪ ،‬قد‬
‫تكون سقراطية يف أص لها‪( .‬يف النهاية‪ ،‬فكثيا ما ينسب أرسطو تلك الفكرة إىل سقراط)‪ .‬لكن التقلبات‬
‫واالنعطافات يف اجلداالت الدائرة يف حماورة أوطيفرون‪ ،‬واحملاورات األخرى‪ ،‬اليت تبحث عن تعريفات‪ ،‬يزداد‬
‫احتمال كوهنا نتاج عقل أفالطون‪ ،‬أبكثر من حمتوى أية مناقشات جرت ابلفعل‪.‬‬

‫‪ .12‬ملاذا حماورات؟‬
‫من غي املعقول أيضا‪ ،‬افرتاض أنه عندما استهل أفالطون مسيته ككاتب‪ ،‬اختذ قرارا واعيا أبن يصيغ‬
‫كل املؤلفات اليت سينجزها‪ ،‬من تلك اللحظة فصاعدا‪ ،‬لعامة مجهور القراء (ابستثناء حماورة الدفاع) يف قالب‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪22‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫احلوار‪ .‬وإذا كان السؤال‪" :‬ملاذا كتب أفالطون حماورات؟" والذي مييل إىل طرحه الكثي من قرائه‪ ،‬يقتضي‬
‫ضرورة وجود مثل هذا القرار احلاسم‪ ،‬فهذا طرح متهافت‪ .‬فمن األفضل تقسيم ذلك السؤال إىل عدة أسئلة‬
‫جزئية؛ فمن األفضل السؤال‪" :‬ملاذا كتب أفالطون ذلك العمل حتديدا (على سبيل املثال‪ :‬برواتجوراس‪ ،‬أو‬
‫اجلمهورية‪ ،‬أو املأدبة‪ ،‬أو القوانني) يف قالب احلوار ـ وكتب ذاك العمل (طيماوس‪ ،‬مثال) ويغلب عليه قالب‬
‫اخلطبة األحادية التفصيلية واخلطابية؟" مث نسأل عن السبب وراء قراره ابختاذ احلوار كقالب ألعماله‪.‬‬
‫أفضل وسيلة للوصول إىل ختمني معقول حول السبب وراء كتابة أفالطون‪ ،‬ألي عمل حمدد‪ ،‬يف قالب‬
‫احلوا ر‪ ،‬هي السؤال‪ :‬ما الذي سنفقده‪ ،‬إذا ما حاول املرء إعادة كتابة ذلك العمل‪ ،‬حبيث يستبعد ما فيه من‬
‫تبادل للنقاشات‪ ،‬ويقوم بتجريد الشخصيات من صفاهتا الذاتية‪ ،‬وأوضاعها االجتماعية‪ ،‬وحتويل الشكل‬
‫النهائي إىل شيئ أييت مباشرة على لسان مؤلفه؟ غالبا ما ستكون اإلجابة على هذا السؤال سهلة‪ ،‬لكن تلك‬
‫اإلجابة قد تتباين بشدة من حماورة ألخرى‪ .‬مبتابعة تلك االسرتاتيجية‪ ،‬ال ينبغي لنا استبعاد احتمال أن تكون‬
‫بعض أسباب أفالطون‪ ،‬لكتابة هذا العمل أو ذاك يف شكل حماورة‪ ،‬هي أيضا أسبابه لفعل ذلك يف حاالت‬
‫أخرى ـ رمبا ستكون بعض أسبابه‪ ،‬وبقدر ما نفرتضه جتاهها‪ ،‬حاضرة يف كل احلاالت األخرى‪ .‬مثال ذلك‪ :‬إن‬
‫استخدام الشخصية واحلوار يسمحان للمؤلف إبضفاء احليوية على عمله‪ ،‬وإاثرة اهتمام مجهوره من القراء‪،‬‬
‫وابلتايل الوصول إىل مجهور أكرب‪ .‬تنتج اجلاذبية اهلائلة لكتاابت أفالطون عن أسلوب أتليفها الدرامي إىل حد‬
‫ما‪ .‬حىت مؤلفاته اليت جاءت على شكل أقرب إىل األطروحة ـ طيماوس والقوانني‪ ،‬على سبيل املثال ـ تتحسن‬
‫قابليتها للقراءة بسبب إطارها احلواري‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن قالب احلوار يسمح ابهتمام أفالطون الشديد‬
‫ابألسئلة الرتبوية (كيف ميكننا التعلم؟ ما هي أفضل طريقة للتعلم؟ من أي نوع من الناس ميكننا التعلم؟ ما‬
‫حال الشخص الذي ميكنه القيام ابلتعليم؟) اليت ميكن متابعتها‪ ،‬ليس فقط يف مضمون مؤلفاته‪ ،‬بل أيضا يف‬
‫الشكل اليت صيغت فيه‪ .‬فحىت يف حماورة القوانني‪ ،‬مل تكن مثل هذه األسئلة بعيدة عن ذهن أفالطون‪ ،‬فيما‬
‫يوضح‪ ،‬بواسطة القالب احلواري‪ ،‬كم هو ممكن ملواطين أثينا‪ ،‬وإسربطة‪ ،‬وكريت‪ ،‬أن يتعلم بعضهم من بعض‪،‬‬
‫ابختاذ وتطوير املؤسسات االجتماعية والسياسية من بعضهم البعض‪.‬‬
‫يف بعض أعماله‪ ،‬يبدو واضحا أن أحد أهداف أفالطون هو خلق شعور ابحلية بني قرائه‪ ،‬وأن القالب‬
‫احلواري إمنا استخدم هلذا الغرض‪ .‬رمبا كانت حماورة ابرمنيدس املثال األوضح لعمل من هذا النوع‪ ،‬إذ يصدم‬
‫فيها أفالطون قرائه بال هوادة‪ ،‬بسلسلة مذهلة من األحجيات غي احمللولة‪ ،‬والتناقضات الظاهرية‪ .‬غي أن‬
‫العديد من أعماله األخرى تتصف أيضا هبذه الصفة‪ ،‬وإن بدرجة أقل‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬برواتجوراس (هل ميكن‬
‫تعلم الفضيلة؟)‪ ،‬وهيبياس األصغر (هل الشر اإلرادي أفضل من الشر الالإرادي؟) وأقسام من مينون (هل يعد‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪23‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫بعض الناس فضالء بفعل إهلام إهلي؟)‪ .‬مثلما حيدث أبن يقع الشخص‪ ،‬الذي يعارض سقراط أثناء املناقشة‪،‬‬
‫يف احلية‪ ،‬فيما إذا كان يعين ما يقول (أو ما إذا كان بدال من ذلك يتكلم بسخرية)‪ ،‬لذا‪ ،‬يستخدم أفالطون‬
‫أحياان ليخلق يف نفوس قرائه شعورا بعدم الراحة جتاه ما يقصده‪ ،‬وما يلزمنا استنتاجه من الرباهني‬
‫قالب احلوار ر‬
‫اليت مت تقدميها لنا‪ .‬لكن سقراط ال يتحدث دوما بسخرية‪ ،‬وابملثل‪ ،‬فإن حماورات أفالطون ال هتدف دوما إىل‬
‫خلق ذلك الشعور ابحلية حول ما نعتقده خبصوص املوضوع الذي تتم مناقشته‪ .‬ال توجد قاعدة آلية الكتشاف‬
‫أفضل طريقة لقراءة حماورة‪ ،‬وليس مث اسرتاتيجية أتويلية ميكن تطبيقها بنحو متماثل على مجيع أعماله‪ .‬وإمنا‬
‫سنحقق أفضل فهم ألعمال أفالطون‪ ،‬وأكرب استفادة من قراءتنا هلا‪ ،‬إذا أدركنا تنوعها األسلويب اهلائل‪ ،‬وأبن‬
‫غي طريقتنا يف القراءة تبعا لذلك‪ .‬وذلك أفضل من أن نفرض على قراءتنا ألفالطون توقع أحادي ملا جيب أن‬ ‫نّ‬
‫يفعله هنا (ألنه فعل الشيء نفسه يف موضع آخر)‪ ،‬جيب علينا أن نستحضر مع كل حماورة قابلية تل ّقي ما هو‬
‫فريد فيها‪ .‬وسيكون ذلك هو أفضل استجابة للجانب الفين اإلبداعي يف فلسفته‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫المراجع‬
‫‪The bibliography below is meant as a highly selective and limited guide for‬‬
‫‪readers who want to learn more about the issues covered above. Further discussion‬‬
‫‪of these and other issues regarding Plato’s philosophy, and far more‬‬
‫‪bibliographical information, is available in the other entries on Plato.‬‬

‫ترجمات إلى اإلنجليزية‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪24‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

• Cooper, John M. (ed.), 1997, Plato: Complete Works, Indianapolis: Hackett.


(Contains translations of all the works handed down from antiquity with
attribution to Plato, some of which are universally agreed to be spurious, with
explanatory footnotes and both a general Introduction to the study of the dialogues
and individual Introductory Notes to each work translated.)

‫مراجع عامة‬

• Allen, Danielle, S., 2010, Why Plato Wrote, Malden, MA: Wiley-Blackwell.
• Annas, Julia, 2003, Plato: A Very Short Introduction, Oxford: Oxford University
Press.
• Benson, Hugh (ed.), 2006, A Companion to Plato, Oxford: Blackwell.
• Bobonich, Christopher, 2002, Plato's Utopia Recast: His Later Ethics and
Politics, Oxford: Oxford University Press.
• Dancy, Russell, 2004, Plato's Introduction of Forms, Cambridge: Cambridge
University Press.
• Fine, Gail (ed.), 1999, Plato 1: Metaphysics and Epistemology, Oxford: Oxford
University Press.
• ––– (ed.), 1999, Plato 2: Ethics, Politics, Religion, and the Soul, Oxford: Oxford
University Press.
• ––– (ed.), 2008, The Oxford Handbook of Plato, Oxford: Oxford University Press.
(Essays by many scholars on a wide range of topics, including several studies of
individual dialogues.)
• Guthrie, W.K.C., 1975, A History of Greek Philosophy, Volume 4, Cambridge:
Cambridge University Press.
• –––, 1978, A History of Greek Philosophy, Volume 5, Cambridge: Cambridge
University Press.
• Irwin, Terence, 1995, Plato's Ethics, Oxford: Oxford University Press.
• Kraut, Richard (ed.), 1992, The Cambridge Companion to Plato, Cambridge:
Cambridge University Press.
• –––, 2008, How to Read Plato, London: Granta.
• McCabe, Mary Margaret, 1994, Plato's Individuals, Princeton: Princeton
University Press.
• –––, 2000, Plato and His Predecessors: The Dramatisation of Reason,
Cambridge: Cambridge University Press.
• Meinwald, Constance, 2016, Plato, London: Routledge.

Copyright 2017 © ‫حكمة‬ 25


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

• Nails, Debra, 2002, The People of Plato: A Prosopography of Plato and Other
Socratics, Indianapolis: Hackett. (An encyclopedia of information about the
characters in all of the dialogues.)
• Rowe, Christopher, & Malcolm Schofield (eds.), 2000, Greek and Roman
Political Thought, Cambridge: Cambridge University Press. (Contains 7
introductory essays by 7 hands on Socratic and Platonic political thought.)
• Russell, Daniel C., 2005, Plato on Pleasure and the Good Life, Oxford: Clarendon
Press.
• Rutherford, R.B., 1995, The Art of Plato: Ten Essays in Platonic Interpretation,
Cambridge, MA: Harvard University Press.
• Schofield, Malcolm, 2006, Plato: Political Philosophy, Oxford: Oxford University
Press.
• Silverman, Allan, 2002, The Dialectic of Essence: A Study of Plato's Metaphysics,
Princeton: Princeton University Press.
• Vasiliou, Iakovos, 2008, Aiming at Virtue in Plato, Cambridge: Cambridge
University Press.
• Vlastos, Gregory, 1995, Studies in Greek Philosophy (Volume 2: Socrates, Plato,
and Their Tradition), Daniel W. Graham (ed.), Princeton: Princeton University
Press.
• White, Nicholas P., 1976, Plato on Knowledge and Reality, Indianapolis: Hackett.
• Zuckert, Catherine H., 2009, Plato's Philosophers: The Coherence of the
Dialogues, Chicago: University of Chicago Press.

‫مؤلفات عن سقراط‬

• Ahbel-Rappe, Sara, and Rachana Kamtekar (eds.), 2006, A Companion to


Socrates, Oxford: Blackwell.
• Boys-Stone George, and Christopher Rowe (eds.), 2013, The Circle of Socrates:
Readings in the First-Generation Socratics, Indianapolis: Hackett.
• Brickhouse, Thomas C. & Nicholas D. Smith, 1994, Plato's Socrates, Oxford:
Oxford University Press.
• Guthrie, W.K.C., 1971, Socrates, Cambridge: Cambridge University Press.
• Morrison, Donald R., 2012, The Cambridge Companion to Socrates, Cambridge:
Cambridge University Press.
• Peterson, Sandra, 2011, Socrates and Philosophy in the Dialogues of Plato,
Cambridge: Cambridge University Press.

Copyright 2017 © ‫حكمة‬ 26


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

• Rudebusch, George, 2009, Socrates, Malden, MA: Wiley-Blackwell.


• Santas, Gerasimos, 1979, Socrates: Philosophy in Plato's Early Dialogues,
London: Routledge & Kegan Paul.
• Taylor, C.C.W., 1998, Socrates, Oxford: Oxford University Press.
• Vander Waerdt, Paul. A. (ed.), 1994, The Socratic Movement, Ithaca: Cornell
University Press.
• Vlastos, Gregory, 1991, Socrates: Ironist and Moral Philosopher, Cambridge:
Cambridge University Press.

‫مؤلفات حول استراتيجيات التأويل‬

• Blondell, Ruby, 2002, The Play of Character in Plato's Dialogues, Cambridge:


Cambridge University Press.
• Frede, Michael, 1992, “Plato's Arguments and the Dialogue Form,” in Oxford
Studies in Ancient Philosophy, Supplementary Volume 1992, Oxford: Oxford
University Press, pp. 201–220.
• Griswold, Charles L. (ed.), 1988, Platonic Writings, Platonic Readings, London:
Routledge.
• Kahn, Charles H., 1996, Plato and the Socratic Dialogue: The Philosophical Use
of a Literary Form, Cambridge: Cambridge University Press.
• Klagge, James C. and Nicholas D. Smith (eds.), 1992, Methods of Interpreting
Plato and His Dialogue, Oxford Studies in Ancient Philosophy, Supplementary
Volume 1992, Oxford: Clarendon Press.
• Nails, Debra, 1995, Agora, Academy, and the Conduct of Philosophy, Dordrecht:
Kluwer Academic Publishers.
• Nightingale, Andrea, 1993, Genres in Dialogue: Plato and the Construction of
Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
• Press, Gerald A. (ed.), 2000, Who Speaks for Plato? Studies in Platonic
Anonymity, Lanham, MD: Rowman & Littlefield.
• Rowe, C.J., 2007, Plato and the Art of Philosophical Writing, Cambridge:
Cambridge University Press.
• Sayre, Kenneth, 1995, Plato's Literary Garden, Notre Dame: University of Notre
Dame Press.

‫مؤلفات حول الترتيب الزمني للمحاورات‬

Copyright 2017 © ‫حكمة‬ 27


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

• Brandwood, Leonard, 1990, The Chronology of Plato's Dialogues, Cambridge:


Cambridge University Press.
• Kahn, Charles, 2003, “On Platonic Chronology,” in Julia Annas and Christopher
Rowe (eds.), New Perspectives on Plato: Modern and Ancient, Cambridge, MA:
Harvard University Press, chapter 4.
• Ledger, Gerald R., 1989, Re-Counting Plato: A Computer Analysis of Plato's
Style, Oxford: Oxford University Press.
• Thesleff, Holger, 1982, Studies in Platonic Chronology, Commentationes
Humanarum Litterarum 70, Helsinki: Societas Scientiarum Fennica.
• Young, Charles M., 1994, “Plato and Computer Dating,” Oxford Studies in
Ancient Philosophy, 12: 227–250.

‫مؤلفات حول رسائل أفالطون‬

• Burnyeat, Myles and Michael Frede, 2015, The Pseudo-Platonic


Seventh Letter, Dominic Scott (ed.), Oxford: Oxford University
Press.

‫أدوات أكاديمية‬
How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

‫مصادر أخرى على الشبكة العنكبوتية‬

• Links to Original texts of Plato's Dialogues (maintained by Bernard


Suzanne)
• In Dialogue: the Life and Works of Plato, a short podcast by Peter
Adamson (Philosophy, Kings College London).

‫مدخالت ذات صلة‬

Copyright 2017 © ‫حكمة‬ 28


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫‪abstract objects | Aristotle | education, philosophy‬‬


‫‪of | epistemology | metaphysics | Plato: ethics and politics in The‬‬
‫‪Republic | religion: and morality | Socrates | Socratic Dialogues‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2017‬‬ ‫‪29‬‬

You might also like