You are on page 1of 31

‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫‪1‬‬
‫ما بعد الحداثة‬

‫• موسوعة ستانفورد للفلسفة‬


‫ترجمة‪ :‬فاطمة الزهراء عل‬

‫حول ما بعد الحداثة وطالئعها والوضع فيما بعد الحداثة‪ ،‬حول الجينالوجيا والذاتية‪ ،‬والختالف المثمر‪ ،‬والتفكيك‪،‬‬
‫والواقعية الفائقة‪ ،‬وجماليات ما بعد الحداثة؛ نص رمتجم للـد‪ .‬غاري آيلزورث‪ ،‬والمنشور عىل (موسوعة ستانفورد‬
‫ا‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫والت قد تختلف قليًل عن النسخة‬
‫ه للنسخة المؤرشفة يف الموسوعة عىل هذا الرابط‪ ،‬ي‬ ‫للفلسفة)‪ .‬ننوه بأن التجمة ي‬
‫األختة بعض التحديث أو التعديل من فينة ألخرى منذ تتمة هذه رالتجمة‪.‬‬ ‫ر‬ ‫الدارجة للمقالة‪ ،‬حيث أنه قد يطرأ عىل‬
‫نخص بالشكر محرري موسوعة ستانفورد‪ ،‬وعىل رأسهم د‪ .‬إدوارد زالتا‪ ،‬عىل تعاونهم‪ ،‬واعتمادهم رللتجمة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وختاما‪،‬‬
‫ر‬
‫والنش عىل مجلة حكمة‪.‬‬

‫‪1‬‬‫‪Aylesworth, Gary, "Postmodernism", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2015 Edition),‬‬
‫‪Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2015/entries/postmodernism/>.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪1‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫إن عدم قابلية مصطلح (ما بعد احلداثة) للتعريف هو أمر بدهي؛ ومع ذلك‪ ،‬فيمكن وصفه كمجموعة من‬
‫املمارسات النقدية واالسرتاتيجية والسردية اليت توظف مفاهيم مثل‪ :‬االختالف‪ ،‬والتكرار‪ ،‬واألثر‪ ،‬واحملاكاة‪،‬‬
‫والواقعية الفائقة من أجل زعزعة متاسك مفاهيم أخرى مثل‪ :‬احلضور‪ ،‬واهلوية‪ ،‬والتقدم التارخيي‪ ،‬واليقني املعريف‪،‬‬
‫وأحادية املعىن‪.‬‬

‫دخل مصطلح (ما بعد احلداثة) إىل معجم الفلسفة ألول مرة عام ‪ 1979‬مع نشر جان فرنسوا ليواتر‬
‫كتابه (الوضع ما بعد احلداثي)‪ .‬وابلتايل‪ ،‬فإن ليواتر سيحتل موضع الصدارة يف الفقرات الالحقة‪ .‬آلية االنتقاء‬
‫قمت ابختيار أولئك الذين متَّ االستشهاد هبم‬
‫تفرض العناية يف اختيار الشخصيات األخرى هلذا املدخل‪ ،‬وقد ُ‬
‫على نطاق شاسع يف املناقشات الفلسفية املابعد حداثية؛ مخسة فرنسيني وإيطاليَّان‪ ،‬ابلرغم من أهنم على‬
‫الصعيد الفردي رمبا يقاومون فكرة االنتماء املشرتك‪ ،‬وترتيبهم حسب اجلنسية رمبا يكون ُُمطَّطا حداثيا قد‬
‫يعرتضون عليه‪ ،‬إال أن هناك اختالفات شديدة بينهم‪ ،‬وهذه متيل لالنقسام على أسس لغوية وثقافية‪ .‬يعمل‬
‫الفرنسيون ‪ -‬مثال ‪ -‬مع مفاهيم متَّ تطويرها من خالل الثورة البنيوية يف ابريس يف اخلمسينيات وأوائل الستينيات‪،‬‬
‫مبا يف ذلك القراءات البنيوية ملاركس وفرويد‪ ،‬ولذلك فغالبا ما يطلق عليهم "ما بعد البنيويني"‪ .‬كما أهنم‬
‫يستشهدون أبحداث مايو ‪ 1968‬ابعتبارها حلظة فاصلة يف الفكر احلديث ومؤسساته‪ ،‬وخاصة اجلامعات‪.‬‬
‫على النقيض من ذلك؛ فإن اإليطاليني ‪ -‬من أمثال جيامباتيستا فيكو وبينيديتو كروتش ‪ -‬يعتمدون على‬
‫تقاليد البالغة واجلماليات‪ ،‬وكان تركيزهم اترخييا ابألساس‪ ،‬ومل يُظ ِهروا افتِتاانً ابللحظة الثورية‪ .‬عوضا عن ذلك؛‬
‫أكدوا على السرد‪ ،‬واالستمرارية‪ ،‬واالختالف ضمن االستمرارية‪ ،‬بدال من االسرتاتيجيات املقا ِومة والفجوات‬ ‫ُّ‬
‫املنطقية‪.‬‬

‫ابلرغم من ذلك؛ فإن اأّيً من اجلانبني ال يقرتح أن ما بعد احلداثة هجوم على احلداثة أو رحيل كامل عنها‪،‬‬
‫بل إن اختالفاهتما تكمن داخل احلداثة نفسها‪ ،‬وفلسفة ما بعد احلداثة هي استمرار للتفكري احلداثي ولكن‬
‫بنمط ُمتلف‪.‬‬

‫قمت بتضمني ملخص لنقد هابرماس الذي ميثل اخلطوط األساسية للنقاش الدائر على جانيب‬ ‫وأخريا؛ ُ‬
‫األطلسي‪ .‬جيادل هابرماس أبن ما بعد احلداثة تناقض نفسها من خالل املرجعية الذاتية‪ ،‬ويالحظ أن مفكري‬
‫ما بعد احلداثة يتصورون مفاهيم يسعون ‪ -‬من انحية أخرى ‪ -‬إىل تقويضها‪ ،‬مثل‪ :‬احلرية‪ ،‬والذاتية‪ ،‬أو اإلبداع‪.‬‬
‫ويرى هابرماس يف هذا االستعمال البالغي لالسرتاتيجيات الذي متَّ توظيفه من قِبل الفن الطليعي ‪artistic‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪2‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫‪ avant-garde‬يف القرنني التاسع عشر والعشرين‪ ،‬وهو ال ميكن أن يكون طليعيا يف املقام األول إال ألن‬
‫احلداثة تفصل القيم الفنية عن السياسة والعِلم‪ .‬ما بعد احلداثة هي جتميل غري مشروع ‪ -‬من وجهة نظره ‪-‬‬
‫للمعرفة واخلطاب العام‪.‬‬

‫يف مقابل ذلك؛ يسعى هابرماس إىل إعادة أتهيل العقل املعاصر ابعتباره نظاما من القواعد اإلجرائية هبدف‬
‫حتقيق اإلمجاع واالتفاق حول املوضوعات التواصلية‪ .‬بقدر ما تقدم ما بعد احلداثة هبجة اجلماليات والتقويض‬
‫إىل العِلم والسياسة؛ فإن هابرماس يقاومها ابسم احلداثة اليت تتجه حنو االكتمال ِعوضا عن التحول الذايت‪.‬‬

‫‪ .1‬طالئع ما بعد احلداثة‬

‫‪ .2‬الوضع ما بعد احلداثي‬

‫‪ .3‬اجلينالوجيا والذاتية‬

‫‪ .4‬االختالف املثمر‬

‫‪ .5‬التفكيك‬

‫‪ .6‬الواقعية الفائقة‬

‫‪ .7‬هريمنيوطيقيا ما بعد احلداثة‬

‫‪ .8‬فن اخلطاب ومجاليات ما بعد احلداثة‬

‫‪ .9‬نقد هابرماس‬

‫• املراجع‬
‫• أدوات أكادميية‬
‫• مصادر أخرى على اإلنرتنت‬
‫• مداخل ذات صلة‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪3‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫‪ .1‬طالئع ما بعد احلداثة‬

‫بدأت ما بعد احلداثة ابلظهور يف فلسفة احلداثة مع الثورة الكوبرنيكية اليت أحدثها كانط؛ أي يف افرتاضه أننا‬
‫ال نستطيع أن نعرف األشياء بذواهتا‪ ،‬وأن موضوعات املعرفة جيب أن تتوافق مع تصوراتنا الكلية‪ .‬إن أفكارا‬
‫مثل اإلله‪ ،‬احلرية‪ ،‬اخللود‪ ،‬العا ممل‪ ،‬البداية األوىل والغاية النهائية تقوم بوظيفة تنظيمية للمعرفة حيث أهنا ال‬
‫تستطيع إجياد مناذج ُم ْر ِضية ضمن موضوعات التجربة‪.‬‬

‫ظهرت مع هيغل ومهية بداهة العالقة بني الذات واملوضوع حب اِد ذاهتا‪ ،‬إذ يقول يف كتابه (فنومينولوجيا‬
‫يتم‬
‫الروح)‪" :‬نالحظ أن وجود الواحد واآلخر ال ينحصر بصورة مباشرة يف منطق اليقني‪ ،‬إذ أن كال منهما ُّ‬
‫َّوسل به"‪ ،‬ألن الذات واملوضوع على حد سواء مناذج لـ "هذا" و "اآلن" وال ميكن استشعار أي منهما‬
‫الت ُّ‬
‫مباشرة‪ .‬وابلتايل؛ فإن ما يسمى ابلفهم املباشر يفتقر إىل اليقني املباشر ذاته‪ ،‬وهو يقني جيب إحالته إىل تطوير‬
‫نظام متكامل من التجربة‪ .‬وابلرغم من ذلك؛ فإن بعض املفكرين أشاروا يف وقت الحق أن منطق هيغل يفرتض‬
‫مفاهيما بشكل مسبق‪ ،‬مثل اهلوية والنقيض‪ ،‬واليت ال ميكن قبوهلا كمفاهيم ُمعطاة على حنو مباشر‪ ،‬وجيب‬
‫تعليلها ‪ -‬ابلتايل ‪ -‬بطريقة أخرى غري جدلية‪.‬‬

‫أواخر القرن التاسع عشر هو عصر احلداثة كحقيقة انجزة حيث يقوم العِلم والتكنولوجيا‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫شبكات االتصال اجلماهريي ووسائل النقل‪ ،‬إبعادة تشكيل التصورات البشرية‪ ،‬ومل يعد يوجد ابلتجربة متييز‬
‫واضح بني الطبيعي واملصطنع‪ .‬إن كثريا من مؤيدي ما بعد احلداثة ‪ -‬ابلفعل ‪ -‬يعرتضون على قابلية هذا‬
‫كبتِها‪ .‬إن تمبِ معة‬
‫املنجزة ظهور مشكلة قامت الفلسفة التقليدية بِ ْ‬
‫التمييز الذي ال طائل منه‪ ،‬ويرون يف احلداثة م‬
‫حتقيق احلداثة هو ما قد يشري إليه املابعد حداثيون ابعتباره غربة عن الواقع؛ تؤثر على كل من الذات واملوضوع‬
‫ـتداخال‪ .‬ظهرت مق اِدمات مهمة هلذه‬
‫حمل التجربة‪ ،‬إذ يكون إدراكهما للهوية واألصالة واجلوهر مضطراب أو م ِ‬
‫ُ‬
‫الفكرة عند كريكيغارد وماركس ونيتشه‪.‬‬

‫يتم حتويل األفراد‬


‫كريكيغارد ‪ -‬على سبيل املثال ‪ -‬يصف اجملتمع احلديث بشبكة من العالقات اليت ُّ‬
‫عرف ابسم "اجلمهور"‪ .‬اجلمهور احلديث؛ على النقيض من اجملتمعات القدمية وجمتمعات‬
‫فيها إىل أشباح جمردة تُ م‬
‫العصور الوسطى؛ هو من ابتكار الصحافة‪ ،‬وهي األداة الوحيدة القادرة على ربط ُكْتلة من األفراد "الزائفني"‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪4‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫ببعضهم البعض "الذين ليسوا أبدا‪ ،‬وال ميكن أبدا أن يكونوا يف تنظيم أو وضع حقيقي"‪ .‬هبذا املعىن؛ حيقق‬
‫اجملتمع فكرة جمردة‪ ،‬متماسكة بفعل وسيط مصطنع واسع االنتشار يتحدث ابسم اجلميع يف الوقت الذي ال‬
‫ميثل فيه أي أحد‪.‬‬
‫ِ‬
‫السلع حيث تفقد األشياء متانة قيمتها‬
‫من جهة أخرى؛ جند لدى ماركس حتليال عن صنمية ا‬
‫االستخدامية‪ ،‬وتصبح رموزا طيفية تندرج ضمن حيثية قيمة التبادل‪ ،‬وتنتج طبيعتها الشبحية من االستيعاب‬
‫احلاصل هلا داخل شبكة من العالقات االجتماعية اليت تتأرجح فيها قيمتها بشكل مستقل عن كياهنا املادي‪.‬‬
‫ِ‬
‫السلمع هي نتاج للعمل البشري‪ .‬وللمفارقة؛ فإن‬
‫الذوات البشرية نفسها تتعرض هلذا النمط من االغرتاب ألن ا‬
‫العمال يفقدون كينونتهم إبدراك ذواهتم‪ ،‬ويتحول ذلك لرمز ابلنسبة ألولئك الذين ينادون إىل وعي ما بعد‬
‫حداثي‪.‬‬

‫جند أيضا إشارات لالغرتاب لدى نيتشه الذي يتحدث عن الكينونة ابعتبارها "الرمق األخري للواقع‬
‫املتم مش ِظاي"‪ ،‬ويـُ مع اِقب على إزالة التمييز بني العامل "احلقيقي" والعامل "الظاهري"‪ .‬يمتتبَّع نيتشه يف كتابه (أفول‬
‫ُ‬
‫األصنام) اتريخ هذا التمييز من أفالطون إىل عصره حيث يصبح "العامل احلقيقي" فكرة فائضة وعدمية الفائدة‪.‬‬
‫على أي حال؛ يقول نيتشه أنه مع فكرة العامل احلقيقي فإننا ابتعدان عن فكرة العامل الظاهري‪ ،‬وما تبقَّى ليس‬
‫حقيقيا وال ظاهرا‪ ،‬إمنا شيء بينهما‪ ،‬وابلتايل هو شيء أقرب إىل الواقع االفرتاضي ملاض أكثر حداثة‪.‬‬

‫إن مفهوم اهنيار [احلاجز] بني احلقيقي والظاهري متَّت اإلشارة إليه يف أول كتاب نيتشه الصادر عام‬
‫‪( 1872‬مولد الرتاجيدّي)‪ ،‬إذا يعرض فيه الرتاجيدّي اليواننية كتوليفة من الدوافع الفنية الطبيعية امل ممثـَّلمة يف اآلهلة‬
‫ُ‬
‫أبولو وديونيسوس‪ .‬يف الوقت الذي يعترب فيه أبولو إله األشكال والصور اجلميلة فإن ديونيسوس هو إله اهليجان‬
‫متفرد مع الطبيعة‪ .‬يف حني أن الفن‬ ‫تفرد الوجود يف حلظة ِااحتاد غري اِ‬‫السكْر الذي بفعل أترجحه تنكسر فتنة ُّ‬ ‫و ُّ‬
‫الرتاجيدي هو فن مؤاكِد للحياة بربطه بني هذين الدافعني فإن املنطق والعلم مبنيَّان على التصورات األبولوية‬
‫اليت أصبحت ابهتة وجامدة‪ِ .‬‬
‫ومن مثَّ فإن نيتشه يعتقد فقط أن عودة دافع الفن الديونيسوسي ميكن أن ينقذ‬
‫اجملتمع احلديث من اجلدب والعدمية‪ .‬ينطوي هذا التفسري على نُ ُذر مفاهيم ما بعد احلداثة للفن والتصورات‪،‬‬
‫كما يتنبَّأ أيضا ابفتتان ما بعد احلداثة ابحتمالية ظهور حلظة ثورية تنذر ابجتاه جديد أانركي للمجتمع‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪5‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يعترب نيتشه ‪ -‬كذلك ‪ -‬رائدا ملا بعد احلداثة يف حتليله اجلينالوجي للمفاهيم األساسية‪ ،‬وخاصة فيما‬
‫يعتربه املفهوم األساسي للميتافيزيقيا الغربية؛ الـ "أان"‪ .‬يعتقد نيتشه أن مفهوم الـ "أان" ينبع من الواجب األخالقي‬
‫لتحمل مسؤولية أفعالنا‪ ،‬ولكي نكون مسؤولني فال بُ َّد أن نفرتض أننا السبب يف أفعالنا‪ ،‬وجيب أن يمظم َّل هذا‬
‫السبب اثبتا مع مرور الوقت‪ ،‬حمتفظا بذاتيته‪ ،‬حبيث يتم قبول الثواب والعقاب ابعتبارمها عواقب ألفعال تعترب‬
‫انفعة أو مؤذية لآلخرين‪ .‬هبذه الطريقة فإن مفهوم الـ "أان" أييت كبناء اجتماعي ووهم أخالقي‪ ،‬ووفقا لنيتشه‪،‬‬
‫يتم إسقاطه على أحداث العامل الذي تتشكل فيه هوية األشياء‬‫فإن املعىن األخالقي للـ "أان" ابعتباره سببا ذاتيا ُّ‬
‫والعِلل والتأثريات‪..‬وما إىل ذلك؛ يتبلور [أي املعىن األخالقي للـ "أان] لتصورات سهلة االنتشار‪ .‬تولَّد هذا‬
‫املنطق من املطالبة اباللتزام ابملعايري االجتماعية السائدة اليت تصوغ اجلمهور البشري جملتمع من الذوات املعرفية‬
‫والعاملة‪.‬‬

‫ابلنسبة للمتخصصني فيما بعد احلداثة فإن أتصيل نيتشه للمفاهيم يف مقالته (عن احلقيقة واألوهام‬
‫حبس الأخالقي) الصادرة عام ‪1873‬؛ يـُ مع ُّد أيضا مرجعا مهما‪ .‬يقدم نيتشه يف ذلك النَّص فرضية أن املفاهيم‬
‫العلمية هي سلسلة من االستعارات اليت صارت صلبة ومتَّ حتويلها إىل حقائق مقبولة‪ .‬هبذا املعىن؛ فإن االستعارة‬
‫ومن ممثَّ حماكاته ابلصوت الذي يرتقي مع التكرار إىل الكلمة‪ ،‬واليت‬ ‫تبدأ عندما ينسخ احملفز العصيب كصورة‪ِ ،‬‬
‫ُم‬
‫تتحول إىل مفهوم عند استخدام الكلمة لتحديد مناذج متعددة لوقائع منفردة‪ .‬االستعارات املفاهيمية‬ ‫بدورها َّ‬
‫هي ‪ -‬إذن ‪ -‬أكاذيب ألهنا ُمتاثِل بني أمور غري متماثلة مبجرد انتقال سلسلة االستعارات من مستوى آلخر‪.‬‬
‫وابلتايل؛ فإن مشكلة هيغل مع "هذا" و"اآلن" توسعت لتشمل تكرار النماذج عرب فجوات متق ِطاعة بني‬
‫مستوّيت األشياء وأنواعها‪.‬‬

‫يف ارتباط وثيق مع هذه اجلينالوجيا؛ ينتقد نيتشه اترخيانية القرن التاسع عشر يف كتابه الذي ظهر يف‬
‫عام ‪ 1874‬بعنوان (حول منافع ومضار التاريخ على احلياة)‪ .‬حسب وجهة نظر نيتشه؛ فإن الثقافة وحياة‬
‫الفرد يعتمدان على قدرهتما على تكرار حلظة غري اترخيية‪ ،‬وهو نوع من النسيان الذي يواكب تطورمها املستمر‬
‫عرب الزمن‪ ،‬وابلتايل فإن دراسة التاريخ جيب أن تُ ِربز كيفية وصول كل فرد وكل ثقافة لتلك اللحظة‪ ،‬وكيفية‬
‫تكرارمها هلا‪ِ .‬‬
‫وم ْن ممثَّ فال جمال للوصول لنقطة استشراف خارج التاريخ‪ ،‬أو خارج تصور العصور املاضية ابعتبارها‬
‫حمطات يف الطريق إىل احلاضر‪ .‬التكرار التارخيي ليس خطيا‪ ،‬لكن كل عصر جدير أبن يعيد اختياره للحظة‬
‫غري اترخيية متثل حاضره بوصفه "جديدا"‪ .‬ويف هذا الصدد؛ سيتفق نيتشه مع تشارلز بودلري الذي يصف احلداثة‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪6‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫وعمرضيَّة" حبيث تتكرر يف مجيع األزمنة‪ ،‬ومالحظات نيتشه وما بعد احلداثيني حول‬
‫بـكوهنا "حلظية‪ ،‬عابرة‪ ،‬م‬
‫العود األبدي تتفق مع ذلك‪.‬‬

‫يقدم نيتشه هذا املفهوم يف كتابه (العلم اجلذل) الصادر عام ‪ ،1882‬وبشكل أكثر تطورا يف كتابه‬
‫(هكذا تكلم زارادشت) (‪ .)1891–1883‬أخذ الكثريون هذا املفهوم للداللة على تكرار أبدي متطابق‬
‫لكل شيء يف الكون‪ ،‬حبيث أنه مل حيدث أي شيء إال وقد حدث ابلفعل يف السابق مرات غري حمدودة العدد‪.‬‬
‫وابلرغم من ذلك؛ فهناك آخرون ‪ -‬مبا يف ذلك ما بعد احلداثيني ‪ -‬ممن قرأوا تلك الفقرات ابلتزامن مع فكرة‬
‫أن التاريخ هو تكرار للحظة غري اترخيية‪ ،‬متجددة ابستمرار يف كل حدث‪ .‬حسب وجهة نظر هؤالء؛ فما عناه‬
‫نيتشه ليس سوى أن األبدية اجلديدة تعيد ذاهتا ابعتبارها جديدة‪ ،‬وبذلك فإن التكرار هو مسألة متايز ال متاثل‪.‬‬
‫عالوة على ذلك؛ يؤيد ما بعد احلداثيون مفهوم العود األبدي مع فقدان التمييز بني العامل احلقيقي والعامل‬
‫الظاهري‪ .‬هذا التمييز حبد ذاته ال يعاود الظهور‪ ،‬وما يتكرر ليس حقيقيا وال ظاهرّي ابملعىن التقليدي‪ ،‬بل هو‬
‫توهم وحماكاة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫حمط اهتمام مشرتك بني فالسفة ما بعد احلداثة ومارتن هايدغر‪ ،‬والذين استشهدوا وعلَّقوا‬
‫يـُ مع ُّد نيتشه َّ‬
‫ابنتظام على أتمالته يف الفن والتكنولوجيا واحنسار الكينونة‪ .‬غالبا ما تنبثق إسهامات هايدغر يف معىن االغرتاب‬
‫من مالحظات متكررة ِمن قبيل‪" :‬حنن يف كل مكان كائنات تعيش يف خضم سريورة‪ ،‬ومل نعد نعرف ‪ -‬مع‬
‫ذلك ‪ -‬كيف نتفق مع الكينونة"‪ ،‬و "ال يوجد اليوم أي مكان على وجه التحديد حيث يستطيع اإلنسان أن‬
‫يواجه نفسه؛ أي جوهره"‪ .‬ينظر هايدغر إىل التكنولوجيا احلديثة ابعتبارها إجنازا للميتافيزيقيا الغربية اليت يصفها‬
‫مبيتافيزيقيا املوجود‪ ،‬ويرى أن الفكر الغريب منذ زمن الفالسفة األوائل‪ ،‬وعلى وجه التحديد منذ أفالطون‪ ،‬تصور‬
‫الكينونة كوجود للكائنات‪ ،‬وتطور هذا التصور يف العصر احلديث ليتحول إىل توفر الكائنات لالستخدام‪.‬‬

‫مييل وجود الكائنات؛ كما كتب هايدغر يف كتابه (الكينونة والزمان)؛ إىل التَّواري يف وضوح فائدهتا‬
‫يسهل أن تكون يف متناول اليد‪ .‬يقلِاص جوهر التكنولوجيا ‪ -‬الذي يسميه هايدغر بـ "التأطري" ‪-‬‬ ‫كأشياء ُ‬
‫وجود الكائنات إىل نظام حسايب‪ ،‬وبناءً عليه‪ ،‬فإن اجلبل ليس جبال بل مصدر اثبت للفحم‪ ،‬وهنر الراين ليس‬
‫هنرا بل مولدا للطاقة الكهرومائية‪ ،‬والبشر ليسوا بشرا بل مصدرا احتياطيا للقوة العاملة‪ .‬إن جتربة العامل احلديث‬
‫هي إذن جتربة احنسار الكينونة يف مواجهة سطوة التأطري على الكائنات‪ .‬ويتأثر البشر ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬هبذا‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪7‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫االحنسار يف حلظات القلق أو امللل‪ ،‬وهنا يكمن طريق لعودة حمتم مملة للكينونة‪ ،‬األمر الذي سيكون مبثابة عودة‬
‫مكررة لتجربة الكينونة اليت متَّ عرضها من قِبل الفيلسوفني ابرمينيدس وهرقليطس‪.‬‬

‫يرى هايدغر أن ذلك هو إدراك إلرادة القوة‪ ،‬وهذا مفهوم نيتشوي آخر ميثل ‪ -‬إىل جانب مفهوم‬
‫العود األبدي – استنزافا للرتاث امليتافيزيقي‪ .‬ابلنسبة هلايدغر؛ فإن إرادة القوة هي العود األبدي ابعتباره صريورة‪،‬‬
‫ودميومة الصريورة هي اللحظة اخلتامية للميتافيزيقيا الوجودية‪ .‬يف هذه القراءة؛ فإن الصريورة هي انبثاق وزوال‬
‫الكائنات ضمن كائنات أخرى ِعوضا عن االنبثاق من الوجود‪ .‬وابلتايل؛ فإن نيتشه ‪ -‬يف نظر هايدغر ‪ -‬كان‬
‫مؤشرا على هناية التفكري امليتافيزيقي‪ ،‬وليس على مسار آخر يتفوق عليه‪ ،‬وعليه فإن هايدغر يرى نيتشه أنه‬
‫امليتافيزيقي األخري الذي اكتمل معه ِااحماء الكينونة‪.‬‬

‫وابألحرى يكمن أمل يف مسار فكري غري ميتافيزيقي لدى هولدرلني الذي متنح أبياته صوات إلشارات‬
‫الكينونة املؤاكِدة على انسحاهبا‪ .‬يف حني يدين ما بعد احلداثيون الكثري لتأمالت هايدغر حول غياب الكينونة‬
‫واغرتاب الكائنات من خالل التأطري التكنولوجي؛ فإهنم خيتلفون حب اِدة معه حول قراءته لنيتشه‪.‬‬

‫جيد العديد من فالسفة ما بعد احلداثة لدى هايدغر حنينا لكينونة ال يتشاركوهنا معه‪ ،‬ويفضلون بدال‬
‫من ذلك معىن النسيان البهيج واإلبداع اللعوب الكامن يف العود األبدي عند نيتشه كتكرار للمختلف واجلديد‪،‬‬
‫وذهب بعضهم إىل ح اِد قلب الطاولة على هايدغر وقراءة أتمالته حول امليتافيزيقيا كتكرار لبادرة ميتافيزيقية‬
‫أصيلة؛ مراكمة األفكار صوب جوهرها ونداءها الباطين "املالئم"‪ .‬يف هذه املراكمة اليت تتبع حصرا اجتاهات‬
‫املضادة اليت‬
‫َّ‬ ‫يتم نسيان شيء أكثر أصالة من الكينونة‪ ،‬وهو االختالف والغريية‬
‫تقاليد يواننية‪-‬مسيحية‪-‬أملانية؛ ُّ‬
‫لت مبعيَّتِها تلك التقاليد‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تشك ْ‬
‫ستثىن لدى هايدغر والغرب‬
‫وقد أشار ُكتَّاب ابرزون مرتبطون مبا بعد احلداثة إىل أن "اآلخر" املنسي واملُ م‬
‫بصورة عامة قد متثَّل يف اليهودي‪ ،‬وأصبحوا هبذه الطريقة قادرين على متييز مشاريعهم عن فكر هايدغر‪ ،‬وعلى‬
‫حماسبته نقدّي على اخنراطه يف االشرتاكية القومية وصمته عن اهلولوكوست‪ ،‬وإن كان ذلك بعبارات ال تعاجل‬
‫تلك اإلشكاالت ابعتبارها إخفاقات شخصية‪ .‬لن جيد أولئك الذين يبحثون عن إداانت شخصية هلايدغر‬
‫حتمل املسؤولية" أي إشارة لذلك يف شروحات ما بعد احلداثة‪ ،‬لكنهم سيجدون ‪-‬‬
‫بسبب أفعاله أو "رفضه ُّ‬
‫يتم فيها تفعيل أفكار‬
‫مع ذلك ‪ -‬استثناءات عديدة حول أمهية نيتشه الفلسفية‪ ،‬والكثري من احلاالت اليت ُّ‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪8‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫نيتشه بشكل نقدي ضد هايدغر ومتثيله للذات‪ .‬وابلرغم من ذلك؛ فإن ُك اال من هايدغر ونيتشه يعتربان‬
‫مصدران رئيسان للنقد التفكيكي املابعد حداثوي‪ ،‬وإلزاحة املفهوم البارز لفلسفة احلداثة؛ "الذات"‪ ،‬والذي‬
‫يتم فهمه عادة على أنه وعي‪ ،‬أو هويَّة الوعي‪ ،‬أو أساسه‪ ،‬أو مت ِ‬
‫َّحدا معه‪ ،‬أو موسوما بـ "األان"‪ .‬يف حني جيد‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫نيتشه يف هذا املفهوم اخلطأ امليتافيزيقي األصلي الناتج عن الفضيلة واالحتياجات التواصلية للدمهاء‪ ،‬فإن‬
‫إستِْنفاداً للتقاليد امليتافيزيقية اليت دشَّنها اإلغريق حيث متَّ تفسري الكينونة كحضور‪.‬‬
‫هايدغر يرى فيه هنايةً و ْ‬
‫الكينونة هنا هي األساس الكامن وراء وجود الكائنات‪ ،‬والـ ‪ subiectum‬اجلوهر الذي اعتُِرب يف فلسفة‬
‫احلداثة موضوعا للوعي‪ .‬إال أن هايدغر يتصور الوجود اإلنساين يف كتابه (الكينونة والزمان) كـ‬
‫"دازاين"‪ ،Dasein‬والذي ليس ببساطة جمرد وعي حاضر بل حالة من االنشراح املؤقت املفتوح على كينونة‬
‫املاضي ‪ Gewesensein‬الذي لن يكون حاضرا أبدا (كان موجودا ابلفعل يف السابق) ومستقبل ‪Zu-‬‬
‫‪ kunft‬مل أيت بعد (إمكانية املوت)‪ .‬وابلتايل فإنه ال ميكن احتواء حمدودية "الدازاين" يف نطاق حدود الوعي‪،‬‬
‫وال يف نطاق حدود الذات‪ ،‬سواء متَّ إدراكها بشكل جوهري أو بشكل صوري‪.‬‬

‫ابإلضافة إىل انتقادات الذات اليت قدَّمها ُكلٌّ من نيتشه وهايدغر؛ فإن العديد من فالسفة ما بعد‬
‫احلداثة يستعريون بشكل ُمكثَّف نظرّيت التحليل النفسي جلاك الكان‪ .‬تكمن ابدرة الكان املميزة يف إصراره‬
‫على أن الالوعي الفرويدي هو وظيفة‪ ،‬أو جمموعة من الوظائف اليت تنتمي إىل لغة‪ ،‬وحتديدا إىل التبادل اللفظي‬
‫بني املحلِال والشخص موضوع التحليل أثناء اجللسة التحليلية‪ .‬ابلنسبة إىل الكان؛ فإن الذات دائما موضوع‬
‫ُ‬
‫موجها جتاه آخر ذا عالقة مبن تستطيع الذات من خالله أن متيِاز وحت اِدد نفسها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫خطااب‬ ‫يعين‬ ‫وهذا‬ ‫اخلطاب‪،‬‬
‫يتشكل كاقتصاد للدالالت‪،‬‬ ‫من هذا املنطلق؛ فإن اللغة هي ِِسة من ِسات "النظام الرمزي" للمجتمع الذي َّ‬
‫واليت من خالهلا تتحول احلاجة احليوانية رغبة إنسانية يتمثَّل هدفها األساسي يف اعرتاف اآلخر هبا‪ .‬بيد أن‬
‫حتتل موقع الداللة األهم‪،‬‬
‫الرغبة يف النهاية هتدف إىل أمر مستحيل؛ أن تستحوذ‪ ،‬أن تصبح "موجودة"‪ ،‬أو أن َّ‬
‫أي الـ ‪ phallus‬القضيب‪ .‬وطاملا أن "الفالوس" ليس سوى وظيفة داللية؛ فال وجود له‪ ،‬وليس شيئا جيب‬
‫يتم ابتداء اجلمع بني الذات واآلخر‪ِ ،‬‬
‫ومن ممثَّ فهو يفرض نفسه على الذات‬ ‫امتالكه‪ ،‬بل هو الذي من خالله ُّ ً‬
‫ابعتباره فقداان أو غيااب جوهرّي مزمنا وضرورّي يف الوقت ذاته‪ .‬لذلك فإن الذات منفصلة عن نفسها على‬
‫الدوام وغري قادرة على حتقيق هوية أو احتاد هنائي‪ .‬وكما هو احلال مع موضوع الرغبة؛ تظل الذات غري مكتملة‬
‫دوما‪ ،‬ومتاما كما يبقى "الدازاين" لدى هايدغر "متجاوزا ذاته" يف حالة نشوة مؤقتة‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪9‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫‪ .2‬الوضع ما بعد احلداثي‬

‫دخل مصطلح "ما بعد احلداثة" إىل املعجم الفلسفي مع نشر جان فرنسوا ليواتر (الوضع ما بعد احلداثي‪:‬‬
‫تقرير عن املعرفة) يف عام ‪ 1979‬حيث يوظف منوذج فيتغنشتاين لأللعاب اللغوية ومفاهيم مأخوذة من نظرية‬
‫الفعل الكالمي ليُعلِال ما يسميه ابنقالب قواعد لعبة العِلم‪ ،‬والفن‪ ،‬واألدب منذ هناية القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫يصف ليواتر نصه أبنه مزيج من لعبتني لغويتني ُمتلفتني‪ ،‬مها‪ :‬لغة الفيلسوف‪ ،‬ولغة اخلبري‪ .‬وبينما يدري اخلبري‬
‫ما يعرفه وما ال يعرفه‪ ،‬فإن الفيلسوف ال يعرف اأّي من األمرين‪ ،‬بل يطرح أسئلة‪ .‬على ضوء هذا الغموض؛‬
‫اِ‬
‫يصرح ليواتر أن صورته حلالة املعرفة "ال تدَّعي أبهنا أصلية أو حىت صحيحة"‪ ،‬وأن افرتاضاته "جيب أال ُمتنمح‬
‫قيمة تنبُّؤية فيما يتعلق ابلواقع‪ ،‬بل قيمة اسرتاتيجية فيما يتعلق ابألسئلة املطروحة"‪ .‬الكتاب ‪ -‬إذن ‪ -‬هو مبثابة‬
‫جتربة يف املزج بني األلعاب اللغوية بقدر ما هو "تقرير" موضوعي‪.‬‬

‫حول املعرفة إىل معلومات‪ ،‬أي إىل رسائل مشفَّرة ضمن‬ ‫حسب رأي ليواتر؛ فإن عصر احلاسوب َّ‬
‫نظام اإلرسال والتواصل‪ .‬يتطلب حتليل هذه املعرفة إىل دراسة استعماالت لغة التواصل طاملا أن صياغة الرسائل‬
‫يتم قبوهلا من قِبل أولئك الذين سيحكمون عليها‪ .‬كما يشري‬ ‫وإرساهلا واستقباهلا جيب أن تتَّبِع قواعد لكي َّ‬
‫صر‬
‫شرع هو أيضا موقف داخل لعبة اللغة‪ ،‬وهذا ما يطرح سؤال الشرعية‪ .‬ويُ ُّ‬ ‫ليواتر؛ فإن موقف القاضي أو امل اِ‬
‫ُ‬
‫سمى ابألخالق‬ ‫ي‬
‫ُ َّ‬ ‫الذي‬ ‫النوع‬
‫و‬ ‫لم‬‫ِ‬‫الع‬ ‫عليها‬ ‫ق‬ ‫ل‬
‫م‬ ‫ط‬ ‫ي‬ ‫اليت‬ ‫اللغة‬ ‫نوع‬ ‫بني‬ ‫ا‬ ‫صارم‬ ‫أيضا على "أن هناك ترابطا‬
‫ُ‬
‫والسياسة"‪ ،‬وهذا الرتابط يشكل املنظور الثقايف للغرب‪ .‬ولذلك فإن العِلم متشابك بشدة مع احلكومة و ُّ‬
‫السلطة‪،‬‬
‫وخاصة يف عصر املعلومات‪ ،‬إذ أن هناك حاجة لكميات هائلة من رأس املال والتجهيزات الكبرية إلجراء‬
‫األحباث‪ .‬يشري ليواتر إىل أنه يف حني يسعى العِلم إىل متييز نفسه عن املعرفة السردية اليت أتيت يف صورة حكمة‬
‫يتم نقلها عرب األساطري واخلرافات؛ فإن الفلسفة احلديثة سعت إىل توفري سردّيت شرعية‬ ‫قبلية أو عشائرية ُّ‬
‫للعِلم يف صيغة "دّيلكتيك الروح‪ِ ،‬‬
‫وعلم أتويل املعىن‪ ،‬حترير الذات العاقلة أو العاملة‪ ،‬أو خلق الثروة"‪ .‬وابلرغم‬
‫من ذلك؛ فإن العِلم ي قوم بلعبة الدالالت اللغوية من أجل استبعاد ما سواه‪ ،‬ويف هذا الصدد فهو يزيح املعرفة‬
‫السردية‪ ،‬مبا يف ذلك السردّيت املرجعية أو املاورائية ‪ meta-narratives‬للفلسفة‪ .‬يرجع ذلك جزئيا إىل‬
‫ما يصفه ليواتر ابلنمو السريع للتكنولوجيات والتقنيات يف النصف الثاين من القرن العشرين حيث حتول تركيز‬
‫املعرفة من غاّيت الفعل البشري إىل وسائله‪ .‬وقد َّأدى ذلك إىل آتكل اللعبة التأملية للفلسفة وإطالق حرية‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪10‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫كل ِعلم يف التطور املستقل عن التأسيس الفلسفي أو التنظيم املنهجي‪ .‬يقول ليواتر‪" :‬إنين اِ‬
‫أعرف ما بعد‬
‫احلداثة أبهنا ارتياب جتاه السردّيت املاورائية"‪ .‬ونتيجة لذلك؛ تتطور جماالت هجينة جديدة دون اتصال مع‬
‫التقاليد املعرفية القدمية‪ ،‬وخاصة الفلسفة‪ ،‬وهذا يعين أن العِلم وحده ميارس لعبته اخلاصة وال ميكن أن يشرعن‬
‫ما عداه‪ ،‬كاحلتميات األخالقية‪.‬‬

‫تشكل جتزئة املعرفة وتفكيك التساوق املعريف مصدر قلق للباحثني والفالسفة على حد سواء‪ ،‬إذ أيخذ‬
‫جراء حقيقة أن املعرفة‬
‫ليواتر بعني االعتبار أن "راثء (ضياع املعىن) يف فلسفة ما بعد احلداثة انجم عن احلزن َّ‬
‫مل تعد سردية يف املقام األول"‪ .‬يف الواقع ‪ -‬ابلنسبة لليواتر ‪ -‬فإن االغرتاب العاملي يعين تفسخ العناصر السردية‬
‫إىل "غيوم" من التوليفات اللغوية واصطدامات بني ألعاب لغوية غري معدودة وغري متجانسة‪ .‬عالوة على ذلك؛‬
‫كمشار إليه‪..‬وهكذا‪.‬‬ ‫ففي داخل كل لعبة تنتقل الذات من موضع آلخر؛ مَّرة كم ِ‬
‫ومرة ُ‬
‫رسل إليه‪َّ ،‬‬
‫كم م‬
‫ومرة ُ‬
‫رسل‪َّ ،‬‬ ‫م ُ‬
‫وابلتايل فإن فقدان السرد املاورائي املستمر جيزئ الذات إىل حلظات ذاتية غري متجانسة؛ ال تندمج يف هوية‬
‫واحدة‪ .‬لكن ليواتر يؤكد أنه يف حني أن اجملموعات اليت خنتربها ليست ابلضرورة وطيدة أو قابلة لالتصال فإننا‬
‫نكتشف كيف نتحرك فيما بينها برشاقة‪.‬‬

‫إن حساسية ما بعد احلداثة ال تندب ضياع االلتحام السردي أكثر من ضياع الكينونة‪ .‬بيد أن تفكيك‬
‫موحد‪ :‬الشرعية األدائية للنظام املنتِج للمعرفة الذي تشكل املعلومات‬
‫السرد يرتك جمال الشرعية ملعيار جديد ِ‬
‫ا‬
‫ُ‬
‫رأس ماله‪ .‬تعين الشرعية األدائية زّيدة تدفق املعلومات وتقليل التحركات الراكدة (التحركات غري الوظيفية)‬
‫داخل النظام حيث جيب نبذ كل ما ال ميكن الوصول إليه كمعلومات‪ .‬يهدد املعيار األدائي أي شيء ال يتوافق‬
‫مع مقتضياته؛ مثل السردّيت التأملية؛ بنزع الشرعية واالستبعاد‪ .‬ومع ذلك؛ فإن رأس املال يتطلب أيضا‬
‫استمرار إعادة ابتكار "اجلديد" يف شكل ألعاب لغوية جديدة وبياانت داللية جديدة‪ ،‬وهكذا يفرض النظام‬
‫ذاته ‪ -‬للمفارقة ‪ -‬مغالطة معينة‪ .‬يف هذا الصدد؛ فإن منوذج احلداثة للتقدم ابعتباره حتركات جديدة يف ظل‬
‫قواعد راسخة يفسح اجملال أمام منوذج ما بعد احلداثة القائم على اخرتاع قواعد جديدة وتغيري اللعبة‪.‬‬

‫يعترب ابتكار رموز جديدة وإعادة صياغة املعلومات جزءً كبريا من إنتاج املعرفة‪ ،‬والعِلم يف حلظة ابتكاره‬
‫ال يتقيَّد ابلكفاءة األدائية‪ .‬وعلى املنوال ذاته؛ فإن التصورات الفوقية للعِلم وقواعده هي نفسها أهداف لالبتكار‬
‫وللتجريب من أجل إنتاج بياانت جديدة‪ .‬يقول ليواتر هبذا اخلصوص أن منوذج املعرفة ابعتباره تطورا متدرجا‬
‫من االمجاع أصبح ابليا‪ .‬بل إن حماوالت اسرتجاع منوذج االمجاع يكرر فحسب مستوى التماسك املطلوب‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪11‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫للكفاءة الوظيفية‪ ،‬وابلتايل فهي تضع نفسها حتت سيطرة رأس املال‪ .‬من جهة أخرى؛ بينما نتنقل بني األلعاب‬
‫اللغوية اليت ُتربِكنا اآلن فإن مغالطة االبتكار للعلوم تثري إمكانية تصور جديد للعدالة‪ ،‬وكذلك املعرفة‪.‬‬

‫يتناول ليواتر مسألة العدالة يف كتابيه (جمرد لعب) [‪ ]1979‬و (النزاع‪ :‬عبارات يف االختالف)‬
‫[‪ ]1983‬حيث جيمع بني منوذج األلعاب اللغوية وتقسيم كانط للملمكات (الفهم‪ ،‬واخليال‪ ،‬والعقل) وأنواع‬
‫احلكم (النظري‪ ،‬والعملي‪ ،‬واجلمايل) من أجل استكشاف مشكلة العدالة اليت متَّ عرضها يف كتاب (الوضع ما‬
‫بعد احلداثي)‪ .‬بدون التماسك الشكلي للذات فإن الكليات تكون حرة يف العمل من تلقاء نفسها‪ .‬بينما يصر‬
‫كانط على أن العقل جيب أن حيدد نطاق وحدود الكليات األخرى‪ ،‬فإن اعتماده على متاسك الذات من‬
‫أجل متاثل املفاهيم كقوانني أو قواعد ينزع شرعية سلطته القضائية يف عصر ما بعد احلداثة‪ .‬عوضا عن ذلك؛‬
‫وألننا نواجه تعددا غري قابل لالختزال لألحكام و"التعبري عن أنظمة احلكم" فإن ملكة احلكم نفسها تظهر يف‬
‫املقدمة‪ .‬ومن مثَّ؛ فإن النقد الثالث لكانط يقدم موادا مفاهيمية لتحليالت ليواتر‪ ،‬وال سيما حتليل احلكم‬
‫اجلمايل‪.‬‬

‫احلكم اجلمايل هو النموذج األمثل ‪ -‬كما جيادل ليواتر ‪ -‬ملشكلة العدالة يف جتربة ما بعد احلداثة ألننا‬
‫أتمليا‬
‫يوحدها‪ .‬ولذلك جيب أن يكون احلكم ُّ‬ ‫ِ‬
‫نواجه جمموعة متعددة من األلعاب والقواعد دون وجود مفهوم ا‬
‫عوضا عن أن يكون حمدَّدا‪ .‬أضف إىل ذلك أن احلكم جيب أن يكون مجاليا إىل القدر الذي ال ينتج عنه معرفة‬
‫داللية حول حالة راهنة حمدَّدة‪ ،‬إمنا يشري إىل الطريقة اليت تتفاعل هبا كلياتنا مع بعضها البعض بينما ننتقل من‬
‫نسق تعبري آلخر‪ ،‬أي التأملي‪ ،‬والتصوري‪ ،‬واألدائي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬واإلدراكي‪ ،‬والفين‪ ..‬إخل‪ .‬بلغة كانطية فإن‬
‫هذا التفاعل ينتظم كشعور مجايل‪ .‬يف حني يؤكد كانط أن اإلحساس ابجلميل هو تفاعل متناغم بني اخليال‬
‫والفهم؛ فإن ليواتر يشدد على النسق الذي تكون فيه الكليات (اخليال والعقل) يف تنافر‪ ،‬أي اإلحساس‬
‫ابملتعايل‪ .‬ابلنسبة لكانط؛ فإن املتعايل يظهر عندما تنبهر كليات املظهر احملسوس لدينا ابنطباعات عن القوة‬
‫املطلقة وعظمتها‪ ،‬ويرتد العقل لقاء قوته يف تصور األفكار (مثل القانون األخالقي) اليت تتجاوز العامل احملسوس‪.‬‬
‫غري أنه ابلنسبة لليواتر؛ فإن املتعايل ما بعد احلداثي يظهر عندما نتأثر بعناصر متعددة غري صاحلة للتقدمي دون‬
‫ِ‬
‫املوحد‪ .‬العدالة إذن لن تكون قاعدة قابلة للتحديد‪ ،‬بل قدرة على التحرك‬
‫اإلحالة إىل العقل ابعتباره أصلها ا‬
‫واحلكم بني القواعد يف تباينها وتعددها‪ .‬هبذا االعتبار؛ فإن العدالة تكون أقرب إىل إنتاج الفن من احلكم‬
‫األخالقي ابملعىن الكانطي‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪12‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يف إجابته على سؤال (ماذا تعين ما بعد احلداثة؟) اليت تظهر كملحق للطبعة اإلجنليزية من كتاب‬
‫(الوضع ما بعد احلداثي) يتحدث ليواتر عن أمهية الفن الطليعي من حيث مجالية املتعايل‪ .‬ويشري إىل أن الفن‬
‫احلداثي هو رمز حلساسية املتعايل‪ ،‬أي أهنا حساسية تعين أن هناك شيئا غري قابل للتقدمي يطالب بوضعه يف‬
‫صيغة ملموسة‪ ،‬ويربك مجيع احملاوالت اليت تسعى للقيام بذلك‪ .‬ولكن بينما يقدم الفن احلداثي الشيء غري‬
‫القابل للتقدمي كمحتوى ضائع ضمن قالب مجيل‪ ،‬كما هو احلال مع مارسيل بروست‪ ،‬فإن الفن ما بعد‬
‫احلداثي‪ ،‬ممثال جبميس جويس‪ ،‬يقدم الشيء غري القابل للتقدمي مكتم مخ ٍّال عن القالب اجلميل ذاته‪ ،‬وابلتايل فهو‬
‫ينكر ما كان يسميه كانط ابملعيار املشرتك للذوق‪ .‬ويضيف ليواتر أن العمل ميكن أن يصبح حداثيا فقط إن‬
‫كان يف البداية ما بعد حداثيا‪ ،‬ألن ما بعد احلداثة ليست حداثة يف غايتها‪ ،‬إمنا يف والدهتا‪ ،‬أي يف حلظة‬
‫حماولتها تقدمي ما هو غري القابل للتقدمي‪" ،‬وهذه حالة مستمرة"‪ .‬ما بعد احلداثة هي ‪ -‬إذن ‪ -‬عودة للحداثة‬
‫ابعتبارها "جديدا"‪ ،‬وهذا يعين رغبة متجددة دوما لتكرار آخر‪.‬‬

‫‪ .3‬اجلينالوجيا والذاتية‬

‫إن أسلوب اجلينالوجيا النيتشوية يف توسلها ابلذاتية احلديثة هو مظهر آخر من املظاهر الفلسفية ملا بعد احلداثة‪.‬‬
‫توسل ميشيل فوكو ابجلينالوجيا من أجل حلظات تكوينية يف اتريخ احلداثة‪ ،‬وحثِاه على جتربتها مع الذاتية يضعه‬
‫يف نطاق نظام ما بعد احلداثة‪ .‬يف مقالة عام ‪ 1971‬املعنونة بـ (نيتشه‪ :‬اجلينالوجيا والتاريخ) يوضح فوكو تبنيه‬
‫لألسلوب اجلينالوجي يف دراساته التارخيية‪ .‬يقول فوكو؛ أوال وقبل كل شيء‪ ،‬فإن اجلينالوجيا "ترتد على نفسها‬
‫الص مدف واألحداث الطارئة اليت جتتمع عند اللحظات املصريية‪،‬‬
‫ببحثها عن اجلذور"‪ ،‬أي أن اجلينالوجيا تدرس ُّ‬
‫مما يؤدي إىل ظهور عصور‪ ،‬ومفاهيم‪ ،‬ومؤسسات جديدة‪ ،‬إذ يالحظ فوكو أن "ما ُوِجد يف البداية التارخيية‬
‫لألشياء ليس هوية أصلها غري القابلة لالخرتاق؛ إمنا تفضيالت ألشياء أخرى‪ ،‬أي التفاوت"‪ .‬يعرض فوكو ‪-‬‬
‫على طريقة نيتشه ‪ -‬التاريخ الذي متَّ تصوره على أنه أصل وتطور لذات بعينها؛ "احلداثة" على سبيل املثال؛‬
‫كخطاابت خيالية حديثة اخرتعت ما بعد احلقيقة‪ .‬يكمن وراء خيالية احلداثة إدراك لزمانيتها اليت تستثين الدور‬
‫الذي تلعبه عناصر الصدفة والطوارئ يف كل حلظة‪ .‬ابختصار؛ فإن التاريخ اخلطي التقدمي يغطي الفجوات‬
‫واالنقطاعات اليت حتدد نقاط التعاقب يف الزمن التارخيي‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪13‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يقوم فوكو ابستخدام اجلينالوجيا خللق ما يسميه بـ "الذاكرة املضادة" أو "حتويل التاريخ إىل شكل زمين‬
‫ُمتلف متاما"‪ .‬يستلزم ذلك تذويب هوية الذات يف التاريخ ابستخدام مواد وتقنيات البحث التارخيي احلديث‪.‬‬
‫مثلما يفرتض نيتشه أن اإلرادة الدينية للحق يف املسيحية َّأدت إىل تدمري املسيحية من قِبل العِلم؛ فإن فوكو‬
‫يتم تعطيلها ابلفجوات‬
‫يفرتض أن األحباث اجلينالوجية ستؤدي إىل احنالل الذات املعرفية‪ ،‬مبا أن استمرارية الذات ُّ‬
‫واحلوادث اليت يكشف عنها البحث التارخيي‪ .‬املثال األول هلذا البحث هو ‪Histoire de la folie à‬‬
‫‪ ،l'age classique‬املنشور يف عام ‪ ، 1961‬ونشرت النسخة الكاملة منه إىل اللغة اإلجنليزية بعنوان‬
‫‪( History of Madness‬اتريخ اجلنون) يف عام ‪ .2006‬يقدم فوكو هنا سردا للبداّيت التارخيية للعقل‬
‫احلديث حسبما شرع يف تعريف نفسه ضد اجلنون يف القرن السابع عشر‪ .‬وتتمثل أطروحته يف أن ممارسة حبس‬
‫اجملنون هو حتول يف ممارسة حبس اجملذومني يف العصور الوسطى يف مالجئ مرضى اجلذام‪ .‬متكنت هذه‬
‫املؤسسات من البقاء لفرتة طويلة بعد اختفاء املصابني ابجلذام‪ ،‬وابلتايل فقد كان هناك هيكل مؤسسي للحبس‬
‫قائم ابلفعل عندما تبلور املفهوم احلديث للجنون ابعتباره مرضا‪ .‬ومع أن مؤسسات احلبس تعود إىل حقبة‬
‫ماضية إال أن حبس اجملنون يشكل انفصاال عن املاضي‪.‬‬

‫يركز فوكو على حلظة التحول‪ ،‬حني بدأ العقل احلديث ابلتبلور يف خليط من املفاهيم‪ ،‬واملؤسسات‪،‬‬
‫واملمارسات‪ ،‬أو كما يسميه [خليط] من املعرفة والسلطة‪ .‬العقل ‪ -‬يف منشئه ‪ -‬هو قوة تُ اِ‬
‫عرف نفسها بكوهنا‬
‫ضدا لآلخر؛ آخر تتحدَّد هويته وحقيقته ابلعقل أيضا‪ ،‬مما يعطي العقل إحساسا ابالنطالق من ذاته‪ .‬تكمن‬
‫سمح للجنون ابلتحدث عن نفسه‪ ،‬وهو رهن إشارة سلطة تفرض شروط‬ ‫املشكلة ابلنسبة لفوكو يف أنه ال يُ م‬
‫عالقتهما‪ ،‬إذ يالحظ أن‪" :‬ما هو أصلي هو التعطُّل ‪ /‬االنقطاع الذي يؤسس للمسافة بني العقل وما سواه‪،‬‬
‫ويرجع إخضاع العقل لغري العقالين؛ منتزعا منه حقيقته املتمثلة يف اجلنون‪ ،‬اجلرمية‪ ،‬أو املرض؛ جبالء إىل هذه‬
‫يتم تقييد الفرق بينهما يف تضادمها‪،‬‬
‫النقطة"‪ .‬تظهر حقيقة العقل عندما حيتل اجلنون موقع غري العقالين؛ عندما ُّ‬
‫وليس يف التماثل مع اجلانب املسيطر‪ .‬بعبارة أخرى؛ فإن العقل الذي يقف يف مواجهة اجلنون ليس متطابقا‬
‫صل الختالفهما‪ ،‬وهذا األخري سيكون عقال من دون نقيض‪ ،‬كسلطة عائمة حبرية وتفتقر‬ ‫ِ‬
‫مع العقل الذي يؤ ا‬
‫ألي شكل واضح‪ .‬هذا التحرر الغامض رمبا يكون ممثَّال ‪ -‬كما يقرتح فوكو ‪ -‬يف فكرة سفينة احلمقى اليت‬
‫كانت متثل اجلنون يف العصور الوسطى‪ ،‬ومثل ذلك البنية التناقضية للتحول التارخيي‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪14‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يوظف فوكو يف كتاابته األخرية ‪ -‬وعلى األخص يف (استعمال املتع) املنشور يف عام ‪- 1984‬‬
‫البحث التارخيي لفتح إمكانيات جتريبه مع الذاتية‪ ،‬من خالل إظهار أن الذاتية هي سلطة تكوينية لألان‪،‬‬
‫متجاوزة هياكل املعرفة والسلطة اليت انطلقت منها‪ ،‬ويقول فوكو أن هذه سلطة فكرية‪ ،‬وهي قدرة البشر على‬
‫مساءلة الظروف اليت يعيشون يف ظلها‪ .‬ابلنسبة للفلسفة؛ فإن ذلك يعين "السعي ملعرفة كيف وألي مدى قد‬
‫يكون ابإلمكان التفكري على حنو ُمتلف‪ ،‬عوضا عن إضفاء شرعية على ما هو مألوف ابلفعل"‪ .‬وهكذا فهو‬
‫ينضم إىل ليواتر يف الرتويج لتجريبية خالقة كسلطة فكرية رائدة‪ ،‬سلطة تتفوق على العقل ‪ -‬حمدَّدة بدقة ‪-‬‬
‫ومن دوهنا سيكون الفكر جامدا‪ .‬يقف فوكو ‪ -‬يف هذا الصدد ‪ -‬يف صف واحد مع الذين يؤكدون على‬
‫حساسية ما بعد احلداثة جتاه العِلم‪ ،‬والفن‪ ،‬واجملتمع املعاصر‪ .‬وال بُ َّد أن نالحظ كذلك أن كتاابت فوكو خليط‬
‫من الفلسفة والبحث التارخيي‪ ،‬متاما كما جيمع ليواتر بني ألعاب اخلبري اللغوية والفيلسوف يف (الوضع ما بعد‬
‫احلداثي)‪ .‬هذا املزج للفلسفة مبفاهيم وأساليب من ختصصات أخرى هو من ِسات ما بعد احلداثة مبعناها‬
‫األوسع‪.‬‬

‫‪ .4‬االختالف املثمر‬

‫إن مفهوم االختالف كآلية إنتاجية‪ ،‬عوضا عن أن يكون إنكارا للهوية‪ ،‬هو أيضا ِسة مميزة يف فلسفة ما بعد‬
‫املرتجم‬
‫يبث جيل دولوز هذا املفهوم يف ثناّي أعماله‪ ،‬ابتداءً بـ (نيتشه والفلسفة) الصادر عام ‪ ،1962‬و م‬
‫احلداثة‪ُّ .‬‬
‫إىل اإلجنليزية عام ‪ ،1983‬حيث يضع نيتشه يف مواجهة مناذج التفكري يف أعمال كانط وهيغل‪ ،‬إذ يقرتح فيه‬
‫رددها فوكو؛ اِ‬
‫يصرح‬ ‫املربرة ذاتيا بصورة َّ‬
‫فذة‪ .‬يف عبارة َّ‬ ‫التفكري ضد العقل ملقاومة إصرار كانط على سلطة العقل َّ‬
‫دولوز أبن اهلدف من نقده للعقل "ليس تربيرا إمنا صورة ُمتلفة للشعور‪ :‬حساسية أخرى"‪ .‬ويؤكد أن النقد‬
‫الفلسفي هو املواجهة بني الفكرة وما يدفعها ألن تصبح فعال‪ :‬إهنا مسألة حساسية بدال من أن تكون جملس‬
‫قضاء حياكِم به العقل ذاته بقوانينه اخلاصة‪ .‬عالوة على ذلك؛ فإن نقد العقل ليس منهجا‪ ،‬ولكن ُّ‬
‫يتم حتقيقه‬
‫من خالل الثقافة ابملعىن النيتشوي‪ :‬التدريب‪ ،‬واالنضباط‪ ،‬واالبتكار‪ ،‬وبنوع من الصرامة‪ .‬ومبا أن الفكرة ال‬
‫تفعِل ذاهتا كتفكري‪ ،‬فإن دولوز يقول أنه يتوجب عليها أن تعاين من العنف إن كان من امل َّ‬
‫قرر إاثرهتا‬ ‫ميكن أن ا‬
‫ُ‬
‫وحتريكها‪ .‬بقدر ما يعترب الفن والعِلم والفلسفة [وسائط] حتويلية وجتريبية فإهنا تنشر هذا النوع من العنف‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪15‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫يؤكد دولوز ‪ -‬معارضا هيغل ‪ -‬أنه بينما يكون الدّيلكتيك مبنيا على النفي والضد داخل هوية‬
‫مفرتضة فإن "االختالف هو املبدأ الوحيد للتكوين أو اإلنتاج"‪ .‬يظهر الضد يف نفس املستوى املنطقي‪ ،‬لكن‬
‫االختالف يتحرك عرب األسطح واملستوّيت‪ ،‬وليس يف اجتاه واحد فحسب‪ .‬أضف إىل ذلك أنه يف حني يعترب‬
‫هيغل النقيض القوة الدافعة للدّيلكتيك‪ ،‬فإن دولوز يعلن أنه ميكن التفكري يف االختالف فقط كتكرار يعيد‬
‫نفسه (كما يف العود األبدي لنيتشه)‪ ،‬حيث يؤكد االختالف نفسه ابختالفه األبدي عن ذاته‪ ،‬وحركته منتجة‬
‫ولكن دون ضد منطقي‪ ،‬أو نفي‪ ،‬أو ضرورة‪ .‬بدال من ذلك؛ تتكرر الصدفة والتعددية كما يكرر رمي النرد‬
‫عشوائية الرمي مع كل رقم‪ .‬من انحية أخرى؛ فإن الدّيلكتيك يُلغي الصدفة ويؤكد حركة النقيض كعمل خارج‬
‫إطار اهلوية‪ ،‬كما يف كتاب [هيغل] (علم املنطق) حيث يفرتض ابلكينونة أن تكون يف حلظتها اآلنية م ِ‬
‫عادلة‬ ‫ُ‬ ‫ُم‬
‫لذاهتا فحسب‪ .‬بيد أنه ابلنسبة لدولوز فإن احلساسية تقدم حلظة عشوائية إىل تطور الفكر‪ ،‬ما جيعل املصادفة‬
‫واألحداث الطارئة شروطا للتفكري‪ .‬هذه الشروط تربك اهلوية املنطقية واملضادة‪ ،‬وجتعل حدود التفكري تتجاوز‬
‫أي نظام دّيلكتيكي‪.‬‬

‫يقوم دولوز يف كتاب (االختالف والتكرار) الصادر عام ‪ 1968‬بتطوير مشروعه يف اجتاهات متعددة‪،‬‬
‫ويقول أن عمله ينبع من التقاء خطني حبثيني‪ :‬مفهوم االختالف بدون النقيض‪ ،‬ومفهوم التكرار الذي تكون‬
‫فيه التكرارات امليكانيكية واملادية لتباينات خفية متنكرة أو ُمزاحة‪ .‬تركيزه الرئيس هو نقد شامل للفكر التصوري‪،‬‬
‫مبا يف ذلك اهلوية‪ ،‬والضد‪ ،‬والتجانس‪ ،‬والتشابه‪ .‬ابلنسبة لدولوز فإن "املظاهر" ليست متثالت‪ ،‬ولكنها كثافات‬
‫حسية خالية من اهلوّيت الذاتية واملوضوعية‪ .‬بدون هذه اهلوّيت فإن املظاهر مبثابة حماكاة خادعة لتباينات‬
‫غري ظاهرة يسميها "امل ِا‬
‫بشر امل مبهم" أو "التفاوت حبد ذاته"‪ .‬هذا التباين هو الكينونة غري احملسوسة للمحسوس؛‬
‫ُ ُ‬
‫وهي كينونة ليست مطابقة للمحسوس أو لذاته‪ ،‬وبقدر ما هي معضلة عصيَّة فإهنا تدفعنا ملواجهة احملسوس‬
‫ابعتباره "معطى"‪.‬‬

‫من انحية أخرى يؤثر أي حراك ضد الفكر التصوري على هوية الذات‪ ،‬حني يؤسس كانط الوحدة‬
‫التصورية للمكان والزمان على الوحدة الشكلية للوعي يقوم االختالف إبعادة توزيع حدوس املاضي واحلاضر‬
‫واملستقبل حبيث يتفتت الوعي إىل حاالت متعددة بال ذات واحدة قابلة للتنبؤ‪ .‬يقول دولوز أن هناك قيم‬
‫مكثفة تتفرد بذواهتا‪ ،‬والفردانية ليست ِسة من ِسات الذات أو األان وإمنا تباين أبدي يقوم بتقسيم نفسه وتغيري‬
‫هيئته‪ .‬بصيغة نيتشوية؛ مصطلح "األان" هنا ال يشري إىل وحدة يف الوعي ولكن إىل حماكاة خادعة متعددة بال‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪16‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫ذات مطابقة هلذا التعدد الظاهري‪ ،‬وبدال من ذلك فإن الذوات تنشأ وتتعدد كـ “مفاعيل" لقيم مكثقة متأل‬
‫املكان والزمان‪ .‬هذا يقود دولوز الفرتاض كليات متعددة للذاتية ترتبط ابحملسوس بقدر ما تؤدي للشعور والفكر‬
‫والفعل‪ ،‬هو يقول أن "كل كلية ‪ -‬مبا يف ذلك الفكر ‪ -‬ليس لديها سوى جمازفات قسرية‪ ،‬ويبقى العمل‬
‫القسري جزءً ال يتجزأ من التجربة"‪ .‬على الصعيد الذايت فإن مفارقة التباين تقوم بتفتيت العامل املشرتك‬
‫للكليات وتضعها أمام حدودها اخلاصة؛ الفكر أمام ما ال ُميكن تصوره‪ ،‬والذاكرة أمام ما ال تعيه الذاكرة‪،‬‬
‫واحلس أمام ما ال يُدرك حسيا‪...‬إخل‪ ،‬هذا التصدع والتعدد للذات ‪ -‬كما يشري دولوز ‪ -‬يؤدي إلدراك مفاده‬
‫أن "الفصام ليس جمرد حقيقة إنسانية بل أيضا إمكانية فكرية"؛ لذا يقوم بتوسيع مداه كمفهوم فلسفي يتجاوز‬
‫تطبيقاته اإلكلينيكية‪.‬‬

‫موضوع حتلل الذات وتداعياته على اجملتمع هو موضوع الكتاب الصادر عام ‪( 1972‬ضد أوديب‪:‬‬
‫وجه ضد دوغما فكرية راسخة‬
‫الرأِسالية والشيزوفريينيا) لكل من جيل دولوز وفليكس غااتري‪ ،‬معظم الكتاب ُم َّ‬
‫لدى اليسار السياسي يف فرنسا خالل حقبة اخلمسينات والستينات‪ ،‬دوغما تتكون من أفكار ماركس وفرويد‬
‫والبنيوية اليت استعملها لويس ألتوسري وجاك الكان‪ .‬جيادل كل من دولوز وغااتري أن هذا اخلليط ال زال ُمقيَّدا‬
‫ابلتفكري التصوري ‪ -‬مبا يف ذلك مفاهيم اإلنتاج القائم على الندرة ‪ -‬وأفكار االغرتاب امل مؤ َّسسة على اهلوية‬
‫ُ‬
‫والنقيض‪ .‬عالوة على ذلك؛ فإن مفهوم أوديب للتحليل النفسي ‪ -‬كما يقوالن ‪ -‬يؤسس مسرحا للرغبة يكون‬
‫فيه العقل جزءً ال يتجزأ من دراما عائلية مغلقة عن القوى الفاعلة يف اجملتمع اليت تقع خارج حدود النفس‬
‫والعائلة‪ ،‬ويصفان هذه القوى أبهنا "آالت الرغبة" اليت تقوم بوظيفة االتصال واالنفصال وإعادة االتصال مع‬
‫بعضها البعض دون قصد أو معىن ‪.‬‬

‫صور املؤلفان اجملتمع كسلسلة أعيد "أقلمتها" أو نقوش على "جسد بال أعضاء" أو قضية تدفقات‬
‫يُ ا‬
‫حرة لقيم كمية متأل فراغا بدرجات متفاوتة‪ ،‬النقوش األوىل هي عالقات البُ َّنوة والقرابة اليت تقوم هبيكلة اجملتمعات‬
‫البدائية واليت تتضمن غالبا وسم أجساد بشرية‪ ،‬النقوش البدائية تؤسس رابطة آلالت مرغوب هبا ‪ -‬فنيا‬
‫واجتماعيا ‪ -‬بوصفها تدفقات ترميز أو إعاقة هلا عناصر أو أعضاء بشرية‪ ،‬اجلسد الكامل للمجتمع هو األرض‬
‫صص لذاهتا مجيع املخرجات االجتماعية كشرط‬ ‫املقدسة اليت تربط مجيع أفراد اجملتمع برابطة قرابة مباشرة ُ ِ‬
‫وخت ا‬
‫إهلي أو طبيعي مسبق‪ ،‬وبعدها يتم إعادة ترميز وال‪-‬أقلمة هذه النقوش البدائية بواسطة "آلة استبدادية" تؤسس‬
‫عالقات حتالف وقرابة جديدة عرب جسد احلاكم أو اإلمرباطور الذي يقف مبفرده يف صورة إله يقوم بتدشني‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪17‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫ميكانزم الدولة وفق أنساق اجتماعية موجودة مسبقا‪ .‬أخريا؛ تقوم الرأِسالية بال‪-‬أقلمة نقوش اآللة االستبدادية‬
‫وإعادة ترميز مجيع عالقات البُ َّنوة والتحالف لتدفقات رأس املال‪ .‬أعضاء اجملتمع والدولة يتم ختصيصهم يف‬
‫توظيف الرأِسالية‪ ،‬والبشر يصبحون أمرا اثنوّي يف عملية ِا‬
‫تبين رأس املال لذاته‪.‬‬

‫دولوز وغااتري يرّين يف النظام النقدي للرأِسالية "بداهة قيم كمية تتجه أكثر فأكثر ابجتاه ال‪-‬إقليمية‬
‫اجملال االجتماعي"‪ ،‬أي أن رأس املال فصامي أصال‪ ،‬لكن هذا الفصام يبقى مبثابة احلد اخلارجي للرأِسالية ألهنا‬
‫تعيد أقلمة كل التدفقات إىل املال‪ ،‬ومع ذلك يظل هذا احلد هو ما مينح الفكر قدرة على إخضاع الرأِسالية‬
‫للنقد الفلسفي‪ ،‬إذ يقوالن أن التحليل النفسي جزء من حاكمية رأس املال ألنه يعيد أقلمة الذات كمجال‬
‫"خاص" و"فردي" حيث يؤسس هوية نفسية من خالل رموز األوديبية‪ ،‬لكن املثلث األودييب هو حمض حماكاة‬
‫متثيلية للقرابة والبُ َّنوة‪ ،‬ويقوم إبعادة الرتميز داخل نظام قائم على قروض واجبة الدفع ومدفوعات مستحقة‬
‫التسديد‪ ،‬ويؤكدان أن تدفق ات الرغبة داخل هذا النظام قد أصبحت حمض متثالت هلا بصورة مفصولة عن‬
‫"جسد بال أعضاء" وميكانزمات أسرية مضافة للمجتمع‪ ،‬وابلتايل فإن النقد الراديكايل للرأِسالية لن يتحقق‬
‫ابلتحليل النفسي بل يتطلب التحليل الفصامي "من أجل قلب مسرح التمثالت إىل نظام إلنتاج الرغبات"‪.‬‬
‫هنا يرى كل من دولوز وغااتري إمكانية ثورية يف الفن احلديث والعلوم يتم عربها ال‪-‬أقلمة وحل شيفرة تدفقات‬
‫الرغبة ‪ -‬من أجل مواكبة ما هو جديد ضمن إطار اجملتمع ‪ -‬دون إعادة ترميزه تلقائيا داخل رأس املال‪ .‬من‬
‫عربت عن نفسها يف شوارع ابريس أثناء‬
‫هذا املنظور الثوري فإن "ضد األوديبية" تُقرأ بوصفها تصرحيا عن رغبة َّ‬
‫حراك مايو ‪ ،1968‬وال يزال أثرها يف احلياة الفكرية ملموسا حىت اآلن‪.‬‬

‫‪ .5‬التفكيك‬

‫مصطلح "التفكيك" ‪ -‬مثل مصطلح "ما بعد احلداثة" ‪ -‬اختذ عدة دالالت يف املخيال العام‪ ،‬لكنه على‬
‫الصعيد الفلسفي يشري السرتاتيجيات حمددة يف قراءة وكتابة النصوص‪ .‬مت إدخال املصطلح إىل جمال فلسفة‬
‫األدب عام ‪ 1967‬مع ثالثة نصوص نشرها جاك دريدا‪ :‬يف علم الكتابة (‪ )1974‬الكتابة واالختالف‬
‫(‪ )1978‬الصوت والظاهرة (‪)1973‬؛ هذه اإلصدرات جعلت دريدا خيطف األضواء ويرتبَّع على رأس تيار‬
‫فلسفي وإنساين جديد يتمركز يف ابريس جالبا مع مفرداته مصطلح "التفكيك"‪ .‬دريدا والتفكيك اقرتان بصورة‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪18‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫روتينية مع ما بعد احلداثة رغم أنه مل يقم بتوظيفها ‪ -‬كما هو احلال مع دولوز وفوكو ‪ -‬وسيقاوم كل أشكال‬
‫القولبة داخلها‪ .‬من بني هذه اإلصدرات الثالثة كان كتاب (يف علم الكتابة) أكثرها مشولية يف إرساء خلفية‬
‫للتفكيك كأسلوب يف قراءة النظرّيت احلديثة يف اللغة ‪ -‬خاصة البنيوية ‪ -‬وأتمالت هايدغر يف غياب الكينونة‪،‬‬
‫كما أنه حيدد مكمن اختالف دريدا عن هايدغر حول نيتشه‪ .‬هايدغر يضع نيتشه داخل ميتافيزيقيا الوجود‬
‫صر دريدا على "أن القراءة وابلتايل الكتابة وكذلك النص هي ابلنسبة لنيتشه عمليات أصلية"‪ ،‬وهذا‬ ‫بينما يُ ُّ‬
‫جيعله بصدد اختتامها وليس إهناءها‪ ،‬وهو إغالق ُحياِرر الكتابة من العالمات التقليدية اليت جتعل النص املكتوب‬
‫مبثابة عالمة (إشارة مرئية) لعالمة أخرى (اخلطاب) مدلوهلا له حضور كلي ذو معىن‪.‬‬

‫برز هذا االختتام ‪ -‬كما يقول دريدا ‪ -‬مع التطورات األخرية يف العلوم اإلنسانية واأللسنيات‬
‫والرّيضيات والسيربنطيقيا (علم التحكم واالتصال)؛ حيث تكون العالمة املكتوبة جمرد اصطالح وظيفي أكثر‬
‫ِ‬
‫سميها هايدغر مبيتافيزيقيا‬
‫من كوهنا معىن‪ .‬انعتاق املصطلح من املعىن يشري بصورة خاصة الختتام حقبة يُ ا‬
‫احلضور‪ ،‬اختتام ال يعين ابلضرورة اإلهناء‪ .‬وكما هو احلال يف مبحث "سؤال الوجود" لدى هايدغر الذي يرى‬
‫أنه من املناسب شطب كلمة "الوجود" مع بقائه مقروءً ‪ -‬رغم ذلك ‪ -‬حتت عالمة الشطب ‪ X‬؛ فإن دريدا‬
‫يعترب هذا االختتام للميتافيزيقيا مبثابة ِا‬
‫"احمائها"‪ ،‬إذ ال ختتفي متاما بل تبقى منقوشة كجانب واحد لالختالف‪،‬‬
‫ِ‬
‫سمي دريدا‬
‫حبيث تكون عالمة الشطب بذاهتا أثر االختالف الذي يصل ويفصل هذه العالمة وما مت شطبه‪ .‬يُ ا‬
‫هذا الوصل والفصل للعالمات ابإلرجاء‪ ،‬أداة ميكن قراءهتا فقط دون ِساعها حني يتم التلفظ ابالختالف‬
‫واإلرجاء يف الفرنسية‪ .‬حرف "أ" عالمة مكتوبة اشتقاقها مستقل عن الصوت‪ ،‬وهذا امتياز خيص حياز‬
‫امليتافيزيقيا‪ .‬هبذا املعىن يكون اإلرجاء بوصفه توسعة لالختالف ‪ -‬كتابة أصلية ‪ُ -‬مطط علم الكتابة‪ ،‬لكن‬
‫دريدا يقول‪" :‬ال ميكن أن يكون هناك علم لإلرجاء ذاته متاما كتعذر وجود علم ألصل احلضور نفسه‪ ،‬أي ال‬
‫ميكن أن يكون هناك علم ملا هو ال‪-‬أصل"‪ ،‬وعوضا عن ذلك ال يوجد سوى أثر اإلرجاء وهو التفكيك‪.‬‬

‫يقول دريدا أن أية لغة ‪ -‬حىت عند التحدث هبا ‪ -‬هي كتابة‪ ،‬هذه احلقيقة يتم قمعها حني النظر إىل‬
‫املعىن كأصل حاضر ومكتمل بذاته وذلك انطالقا من أن كل اللغات على املستوى الوظيفي هي عبارة عن‬
‫نظام اختالفات‪ ،‬فالنصوص تصبح عرضة للتفكيك حني تتخذ معىن أو ثيمة خاصة هبا‪ ،‬شأهنا شأن النصوص‬
‫األخرى املرتبطة هبا‪ .‬العالمات املكتوبة ‪ -‬ابلنسبة لدريدا ‪ -‬ال تنظم ذاهتا ضمن حدود طبيعية بل تتشكل وفق‬
‫سالسل دالالت تنتشر يف مجيع االجتاهات‪ .‬وحسب صياغة دريدا الشهرية "ال يوجد نص خارجي"؛ أي أن‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪19‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫النص يتضمن االختالف بني أي "داخل" و "خارج"‪ ،‬ويقصد ‪ -‬كما يف رسالة له إىل جريالد غراف ‪ -‬أن‬
‫"الواقع بكليته ميلك بنية ذات أثر تفاضلي مع كل إحالة"‪ ،‬فالنص إذن ليس كتااب وال ميلك مؤلاِفا ابملعىن الدقيق‬
‫للكلمة‪ .‬وابملقابل فإن اسم املؤلف هو دال مرتبط ابآلخرين حيث ال وجود لدال جوهري حاضر أو غائب يف‬
‫النص (كما هو احلال مع "الفالوس" لدى الكان)‪ ،‬وهذا ينطبق أيضا على مصطلح اإلرجاء إذ ال ميكن توظيفه‬
‫كملحق للتباعد املثمر بني العالمات‪ ،‬لذلك يصر دريدا على أن "اإلرجاء حرفيا ليس كلمة وليس مفهوما"‪،‬‬
‫بل ميكن مالحظته فقط بوصفه لعبة اختالفات على صعيد التباعد بني الدالالت املرتبطة ببعضها واملعىن‬
‫املؤجل أو احلاضر لدى ممارسة فعل القراءة على ح اد سواء‪.‬‬

‫إذن كيف ميكن توصيف االختالف؟ دريدا يرفض طرح اإلجابة من زاوية "ماذا" و "من" ألن ذلك‬
‫يوحي بوجود اسم مالئم لالختالف بدال من إضافات ال هنائية ال يكون فيها االختالف سوى شيء واحد‪.‬‬
‫هذه اإلزاحة التكميلية تعمل على الصعيد البنيوي ‪ -‬حسب هايدغر ‪ -‬على اختزال كل مسميات الوجود إىل‬
‫مستوى حضور املوجودات‪ ،‬وابلتايل جتاهل "االختالف األنطولوجي" بينها‪ ،‬لكن دريدا يتناول هذا االختالف‬
‫األنطولوجي كثمرة إلضافات مصطلح "اإلرجاء" بوصفه أحد أوجهه املتعددة‪ .‬يقول دريدا‪" :‬اإلرجاء أقدم من‬
‫االختالف األنطولوجي أو حقيقة الوجود بصورة مؤكدة وعلى حنو غري مألوف"‪ ،‬هنا َّ‬
‫يتقفى التفكيك نُسخ‬
‫اإلضافة‪ ،‬هو ليس يف جممله نظرية ملمارسة فعل القراءة وحتوير النص إذ تُولاِد حركة تقفي اجتاهات االختالف‬
‫تعسف ال ريب فيه يف لعبة االختالفات الناجتة فإن‬ ‫نصوصا أخرى متمازجة مع األصل‪ .‬وعلى الرغم من وجود ُّ‬
‫ما يولاِد املعىن املراد ‪ -‬أّي كان ‪ -‬ليس ُّ‬
‫تعسف القارئ‪ .‬املسألة هنا ال تتعلق ابملعىن بل ابلبعد الوظيفي‪ ،‬لو فُهم‬
‫املعىن يف سياقه الظريف وكانت الروابط الدالة اليت ُحتيل إىل التفكيك متوفرة يف النص ذاته فإن القراءة التفكيكية‬
‫ال تفرض أو تؤكد معىن ما بقدر م ا ختلق مساحات يعمل خالهلا النص ضد معناه الظاهري أو ضد اتريخ‬
‫أتويله‪.‬‬

‫‪ .6‬الواقعية الفائقة‬

‫يرتبط مفهوم الواقعية الفائقة ارتباطا وثيقا مبفهوم احملاكاة‪ :‬صورة أو نسخة ال ُحتيل إىل أصل‪ .‬يف ما بعد احلداثة؛‬
‫الواقعية الفائقة هي حصيلة خربة تتوسل التكنولوجيا وتقوم بتمرير شبكة من الصور والعالمات للواقع بدون‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪20‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫مرجعية خارجية حبيث ال ُمتثِال سوى ذاهتا‪ .‬استخدم جان بودرّير يف كتابه الصادر عام ‪( 1975‬التبادل الرمزي‬
‫واملوت) أفكار الكان خبصوص الرمزي واحلقيقي واملتخيل لتطوير هذا املفهوم يف سياق هجومه على يقينيات‬
‫اليسار السياسي‪ ،‬بدءً ابلواقع املفرتض للسلطة‪ ،‬واإلنتاج‪ ،‬والرغبة‪ ،‬واجملتمع‪ ،‬والشرعية السياسية‪ .‬جيادل بودرّير‬
‫أن هذه احلقائق حتولت إىل حماكاة‪ ،‬مبعىن أهنا أصبحت عالمات ال مرجعية هلا نظرا ألن احلقيقي واملتخيل قد‬
‫مت استيعاهبما يف الرمزي‪.‬‬

‫بودرّير يعرض الواقعية الفائقة كآخر مراحل احملاكاة‪ ،‬حيث ال وجود ألي عالقة مهما كانت بني‬
‫الواقع وبني الصورة أو العالمة ما خال "حمض زيف حماكاهتا اخلاصة"‪ .‬ما هو حقيقي أصبح انعكاسا إجرائيا‬
‫لعمليات رمزية‪ ،‬متاما كحال الصور اليت يتم توليدها وترميزها تقنيا قبل أن ندرك ذلك فعال‪ .‬هذا يعين أن مثة‬
‫وساطة تكنولوجية استحوذت على الدور اإلنتاجي للموضوع الكانطي بوصفه املركز األصلي لتوليفة البديهيات‬
‫واألفكار‪ ،‬وكذلك العامل املاركسي بوصفه منتج رأس املال من خالل العمل‪ ،‬والالوعي الفرويدي بوصفه‬
‫ميكانزم الرغبة والكبت‪ .‬يقول بودرّير‪" :‬من اآلن فصاعدا تتفاعل العالمات مع بعضها البعض بدال من‬
‫التفاعل مع الواقع"‪ ،‬اإلنتاج هنا صار معنيا بعالمات تُولاِد عالمات أخرى‪ ،‬ونظام التبادل الرمزي مل يعد واقعيا‬
‫وإمنا حتول لـ"واقعية فائقة" حبيث أصبح ما هو واقعي متوجها إىل "ما يتوفر على إمكانية استنساخ مماثل"‪ .‬يقول‬
‫بودرّير أن الواقعية الفائقة هي "ما ميكن ابلفعل إعادة إنتاجه دون توقف"‪ ،‬فالواقعية الفائقة ليست سوى نظام‬
‫حماكاة يقوم مبحاكاة ذاته ابستمرار‪.‬‬

‫الدرس الذي يستخلصه بودرّير من أحداث مايو عام ‪ 1968‬هو أن احلركة الطالبية قد استفزها‬
‫إدراك مفاده "حنن مل نعد منتجني"‪ ،‬وأن التناقض الواضح داخل نظام توليد املعاين وتبادل اآلراء ال يستنسخ‬
‫سوى ميكانزمات النظام نفسه‪ ،‬ويقول ‪ -‬من منظور اسرتاتيجي ‪ -‬أن اجلوهري ال ميكن جتاوزه إال إبدخال‬
‫عنصر غري قابل للتبادل يف النظام الرمزي‪ ،‬عنصر يتوفر على خاصية الالرجعة للموت الطبيعي والذي يستثنيه‬
‫النظام الرمزي وجيعله غري مرئي‪ .‬ويشري إىل أن النظام حياكي املوت الطبيعي بصور رائعة للموت والعنف حيث‬
‫يكون املوت انجتا عن عمليات مصطنعة و"حوادث"‪ .‬يستدرك بودرّير قائال‪" :‬لكن خاصية املوت ال ميكن‬
‫موضعتها أو برجمتها"‪ ،‬ويقصد بذلك املوت كنهاية حمتومة ال رجعة منها‪ ،‬لذا فهو يدعو لتطوير "اسرتاتيجيات‬
‫ُمهلِكة" جتعل النظام يعاين التقلب واالهنيار‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪21‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫هذه االسرتاتيجيات هي مسائل تتعلق ابلفن أو البالغة ‪ -‬أو مبزيج من االثنني معا ‪ -‬لذا يتوجب‬
‫إجنازها داخل النظام الرمزي‪ ،‬وهي تتخذ خاصية امللكات أو التضحيات حني يفتقر النظام حلركة مضادة أو‬
‫مكافئة‪ .‬بودرّير جيد منوذجا أوليا هلذه االسرتاتيجية يف أعمال فناين الغرافييت ممن يقومون بتوظيف العالمات‬
‫والرموز من أجل اإلشارة للمعىن احملظور املراد إيصاله‪ ،‬وميهرون نقوشهم اجلدارية أبِساء مستعارة بدال من أِسائهم‬
‫احلقيقية‪ .‬يقول بودرّير‪" :‬هم ال يسعون لالنشقاق الستعادة اهلوية بل لتحويل الالحتمية ضد النظام لتنقلب‬
‫إىل استئصال"‪ .‬بعض مالحظاته اخلاصة؛ مثل "ال عالقة يل مبا بعد احلداثة"؛ حتمل دون شك ذات املقصد‬
‫االسرتاتيجي إىل احلد الذي أصبحت فيه "ما بعد احلداثة" عالمة قابلة لالستبدال بعالمات أخرى ال يرغب‬
‫فعال أبن تكون له عالقة هبا‪ ،‬ومع ذلك فإن مفاهيمه عن احملاكاة والواقعية الفائقة ودعوته للقيام بتجارب‬
‫اسرتاتيجية ابلعالمات والرموز جتعله ابلقرب من شخصيات مثل ليواتر وفوكو ودريدا‪.‬‬

‫‪ .7‬هريمنيوطيقيا ما بعد احلداثة‬

‫اهلريمنيوطيقيا ‪ -‬علم أتويل النص ‪ -‬تلعب أيضا دورا يف فلسفة ما بعد احلداثة‪ ،‬تركز ‪ -‬خبالف التفكيكية ‪-‬‬
‫على اهلياكل الوظيفية للنص حيث تسعى لالنسجام أو التوافق مع ما يقصده النص أو يتحدث عنه‪ .‬جياين‬
‫فاتيمو صاغ فلسفة أتويل ما بعد حداثية يف كتابه الصادر عام ‪( 1985‬هناية احلداثة) ميَّز فيها نفسه عن‬
‫أقرانه الفرنسيني عرب طرح سؤال ما بعد احلداثة كمسألة تتعلق ابلتأويل الوجودي‪ .‬وبدال من الدعوة لتجربة‬
‫هياكل وظيفية واسرتاتيجيات مضادة فهو يرى أن عدم التجانس والتنوع يف خربتنا ابلعامل هو مشكلة أتويلية‬
‫جتد حلَّها يف تطوير معىن التواصلية بني املاضي واحلاضر‪ ،‬هذه التواصلية ليست تكرارا هليكل وظيفي وإمنا وحدة‬
‫املعىن وحتديدا األنطولوجي‪ .‬يف هذا الصدد؛ يُعترب مشروع فاتيمو امتدادا الستقصاءات هايدغر حول معىن‬
‫الكينونة‪ ،‬إذا كان هايدغر يضع نيتشه داخل حدود امليتافيزيقيا فإن فاتيمو يلجأ لتأويالت هايدغر الوجودية‬
‫وحماولة نيتشه للتفكري فيما وراء العدمية والتارخيانية عرب فكرته عن العود األبدي‪ ،‬والنتيجة ‪ -‬كما يقول فاتيمو‬
‫‪ -‬هو تشوه مؤكد لقراءة هايدغر لنيتشه تُ اِ‬
‫سوغ أتويل أحدمها من خالل اآلخر‪ .‬هذا فارق جوهري بني فاتيمو‬
‫فضلون حبكة النص النيتشوي على‬‫والفرنسيني املابعد حداثيني الذين يقرؤون نيتشه بوصفه ضدا هلايدغر ويُ ِا‬
‫سعي هايدغر ملعىن الكينونة‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪22‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫حسب فاتيمو ميكن اجلمع بني هايدغ ر ونيتشه حتت ثيمة التجاوز‪ ،‬نيتشه يعلنها عرب العود األبدي‬
‫وهايدغر يقرتحها عرب خربة غري ميتافيزيقية ابلكينونة‪ .‬فاتيمو جيادل أبن ما يتم جتاوزه يف كلتا احلالتني هو‬
‫احلداثة واليت تتميز هبيئة تكون خالهلا الفلسفة والعلم عبارة عن تطورات تقدمية يف الفكر واملعرفة تتناسب على‬
‫حنو متزايد مع أسسهما اخلاصة‪ .‬لكن جتاوز احلداثة ال ميكن أن يعين تقدما ملرحلة اترخيية جديدة حيث يشري‬
‫فاتيمو إىل أنه "من انحية؛ جيد كل واحد من الفيلسوفني نفسه مضطرا ألخذ مسافة نقدية من الفكر الغريب‬
‫بقدر ما هو أتسيسي ولكنه غري قادر ‪ -‬من انحية أخرى ‪ -‬على نقد الفكر الغريب انطالقا من أساس آخر‬
‫أكثر صوااب"‪ ،‬وابلتايل فإن جتاوز احلداثة ال بد وأن حيمل معىن حتريف أو تشويه احلداثة ذاهتا أكثر من صفة‬
‫التقدم إىل ما بعدها‪.‬‬

‫على الرغم من أن فاتيمو يعترب ما بعد احلداثة نقطة حتول جديدة داخل احلداثة؛ إال أنه ينطوي على‬
‫تفكك عرى ما هو جديد مبنطق التاريخ‪ ،‬مما يعين هناية التاريخ الكوين‪ ،‬ويقول أنه "يف حني يصبح مفهوم‬
‫التارخيانية أكثر إشكالية من أي وقت مضى فإن علم التاريخ ومنهجيته اخلاصة ابلوعي بفكرة التاريخ كعملية‬
‫أحادية يتبدد بسرعة"‪ .‬هذا ال يعين أن التحول التارخيي سيتوقف حدوثه لكن تطوره أحادّي مل يعد قابال‬
‫للتصور‪ ،‬ما هو ممكن احنصر يف التارخييات املوضعية‪ .‬الالاترخيانية تسارعت بفعل التكنولوجيا وخصوصا التلفاز‪،‬‬
‫لذا يقول فاتيمو أن "كل شيء مييل للتمظهر على السطح يف مستوى التزامن والتواقت"‪ ،‬ونتيجة لذلك تالشى‬
‫اجه مبجموعة متنوعة ومتباينة من الغاّيت‬
‫اإلحساس العميق ابلغاية خبصوص ما حيدث يف العامل‪ ،‬وغدوان نُو م‬
‫درك على حنو‬
‫اجلزئية اليت ال ميكن احلكم عليها إال من الناحية اجلمالية‪ ،‬لذا فحقيقة جتربة ما بعد احلداثة تُ م‬
‫أفضل يف الفن واألدب‪.‬‬

‫يُشري فاتيمو إىل أن املدلول النيتشوي لتجاوز احلداثة هو " مح ُّل احلداثة عرب دفع نزعاهتا الداخلية حلافة‬
‫الراديكالية"‪ ،‬وهذا يشمل استنساخ "اجلديد" كقيمة وحافز للتجاوز النقدي ابجتاه أسس ومنطلقات مالئمة‪.‬‬
‫يف هذا الصدد يفيد نيتشه أبن احلداثة تؤدي للعدمية‪ :‬مجيع القيم ‪ -‬مبا يف ذلك احلقيقة واجلديد ‪ -‬تنهار حتت‬
‫خرج من هذا االهنيار هو حلظة العود األبدي اليت نؤكد فيها على ضرورة اخلطأ يف ظل‬ ‫الرصد النقدي‪ ،‬واملم م‬
‫غياب األسس‪ .‬فاتيمو جيد موقفا مماثال من احلداثة يف فهم هايدغر للتجاوز امليتافيزيقي إىل احلد الذي يقرتح‬
‫حتول داخل التأطري ذاته‪ ،‬حت ُّول كهذا قد يعين تعميق وتشويه‬
‫فيه أن جتاوز التأطري يكمن يف احتمال حدوث ُّ‬
‫فهم كتفسري للتاريخ بوصفه‬
‫اجلوهر التقين وليس تدمريه أو هجره‪ .‬عالوة على ذلك؛ فإن معىن الوجود قد يُ م‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪23‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫مشوهة‪ .‬وخبالف فن‬‫"وجودا هزيال" بدال من كونه حقيقة صلدة‪ ،‬وعلم أتويل الوجود قد يصبح اترخيانية َّ‬
‫التأويل التقليدي؛ جيادل فاتيمو أبن إعادة بناء الطابع التواصلي للتجربة املعاصرة يتعذر دون التكامل مع العلم‪،‬‬
‫وهذا يتطلب فلسفة تطرح رؤية كلية للعامل خبطاب مقنع يتضمن بذاته آاثر أو بقاّي أو عناصر مت فرزها من‬
‫عترب فلسفة فاتيمو مشروع أتويل ما بعد حداثي على الضد من املفكرين الفرنسيني الذين‬
‫املعرفة العلمية‪ ،‬لذا تُ م‬
‫مل يكلفوا أنفسهم عناء النظر يف املعىن أو التاريخ كوحدات متصلة‪.‬‬

‫‪ .8‬فن اخلطاب ومجاليات ما بعد احلداثة‬

‫فن اخلطاب واجلماليات يتعلق بتقاسم اخلربات عرب التشارك واحملاكاة‪ .‬تتضمن هذه النشاطات ‪ -‬ابملعىن املا‬
‫بعد حداثي ‪ -‬التقاسم أو اإلسهام يف التباينات احلاصلة بني القدمي واجلديد‪ ،‬وبني الطبيعي واملصطنع‪ ،‬وحىت‬
‫ما بني احلياة واملوت‪ ،‬واملمثل األبرز هلذا املسار يف فكر ما بعد احلداثة هو ماريو برينيوال‪ .‬وكما هو احلال مع‬
‫فاتيمو؛ يصر برينيوال على عدم ختلي فلسفة ما بعد احلداثة عن إرث احلداثة يف العلوم والسياسة حيث يقول‬
‫يف كتابه الصادر عام ‪( 1995‬ألغاز‪ :‬اللحظة املصرية يف اجملتمع والفن)‪" :‬العالقة بني الفكر والواقع اليت‬
‫كسر"‪ .‬ومع ذلك فهو ال يؤسس هذه التواصلية على جوهر أو‬
‫جسدها التنوير واملثالية واملاركسية ينبغي أال تُ م‬
‫َّ‬
‫روح أو معىن داخلي بل على آاثر احلداثة املستمرة يف العامل‪ .‬إحدى هذه اآلاثر ‪ -‬اليت ميكن رؤيتها يف الفن‬
‫وعالقته ابجملتمع ‪ -‬هو تداعي املاضي واملستقبل يف احلاضر‪ ،‬والذي يصفه أبنه "مصري" أو "ابروكي" بطبيعته‪.‬‬
‫هذا األثر الزمين قد حتقق من خالل تداعي التباين بني البشر واألشياء‪ ،‬إذ "أصبح البشر أكثر شبها ابألشياء‬
‫حبيث يبدو العامل الالعضوي ‪ -‬بصورة متساوية وبفضل التقنية اإللكرتونية ‪ -‬وكأنه يلعب دور اإلنسان يف‬
‫إدراك األحداث"‪ ،‬وهذا يعادل ما كان لدى املصريني ‪ -‬حسب وصف هيغل يف كتابه الصادر عام ‪1823‬‬
‫(فلسفة الفن واجلمال) ‪ -‬حني مت املزج بني الروحاين والطبيعي لدرجة ال ميكن الفصل بينهما كما يف متثال أيب‬
‫اهلول على سبيل املثال‪ .‬على أية حال؛ الالعضوي يف عامل ما بعد احلداثة ليس طبيعيا بل هو مصطنع بقدر‬
‫ما تتوسط التكنولوجيا تصوراتنا‪.‬‬

‫ابملثل يقول برينيوال أن تشكيالت الفن يف املتاحف احلديثة تُنتِج "أتثريا ابروكيا" حبيث أن "احلقل‬
‫ٍّ‬
‫تشكيلة ما ليس الرأي العام الذي مت تعهده بعناية وال املشاركة االجتماعية بل هو فضاء جيتذبه‬ ‫املفتوح عرب‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪24‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫حتديدا ألنه ال ميكن التحكم به أو االستحواذ عليه"‪ ،‬أي أن الفن ‪ -‬يف سياق هذه التشكيلة ‪ -‬قد متت إزالته‬
‫من سياقه الطبيعي أو التارخيي مع تشكل معىن جديد للفضاء والزمن غري قابل لالختزال لتاريخ خطي أو ألي‬
‫مدلول أصلي‪ .‬التشكيلة ‪ -‬هبذا املعىن ‪ -‬هي رمزية جمتمع ما بعد احلداثة‪ ،‬حلظة "حقيقته"‪ .‬عالوة على ذلك؛‬
‫يصر برينيوال على أن احلس الباروكي بوجه عام هو ميزة للثقافة واجملتمع اإليطايل‪ ،‬ويقول أن "فكرة احلقيقة‬‫ُّ‬
‫كشيء عار ابلضرورة تتناقض مع املفهوم الباروكي املتجذر يف إيطاليا للحقيقة بوصفها شيئا ُمغطَّى ابلضرورة"‪،‬‬
‫وهذا يتوافق مع إدراك يتوسط املشاعر الداخلية واألشياء اخلارجية‪ .‬يقول برينيوال‪" :‬اللغز اإليطايل يكمن يف‬
‫حقيقة مفادها أن العنصر البشري ُم َّزود بنزعة عاطفية يشارك هبا رغم أهنا ال تنتمي له على حنو محيمي"‪ .‬من‬
‫أجل إعادة االعتبار هلذه اخلربة الغامضة جيب أن يصبح الفيلسوف "وسيطا أو ممرا أو حمطة عبور لشيء أجنيب‬
‫وُمتلف‪ ،‬لذا فالكتابة والقراءة الفلسفية ليست أنشطة متماثلة يف موضوعها ولكنها ‪ -‬وبشكل غري حمدد ‪-‬‬
‫عمليات توسط بني الذات واآلخر‪ ،‬والسرد الفلسفي هو جتاوز لتناقضاهتا‪.‬‬

‫هذه التناقضات ال ميكن التغلب عليها إبلغائها بواسطة توليفة نظام أعلى ‪ -‬على الطريقة اهليغلية ‪-‬‬
‫بل جيب أن تتآكل خالل عملية جتاوزها‪ .‬يوضح برينيوال يف كتابه (التفكري الطقسي) هذه العملية عرب مفاهيم‬
‫العبور واحملاكاة الزائفة والطقس اجملرد من اخلرافة‪ .‬العبور مشتق من مدلول التزامن املقرتن ابحلاضر حيث يتم‬
‫إرسالنا حلالة تتسم ابلالاستمرارية والالتعيني والتحرك "من النظري إىل النظري"‪ .‬احملاكاة الزائفة هي انتج ميمات‬
‫ال تنتهي حيث ال وجود سوى لنُ مسخ تتولد من نُ مسخ أخرى دون إحالة إىل أصل‪ ،‬والطقس اجملرد من اخلرافة‬
‫هو تكرار ألمناط الفعل الذي ال عالقة له ابحلياة الباطنية لذات أو جمتمع‪ .‬وهكذا يرى برينيوال التفاعل‬
‫االجتماعي والسياسي كنماذج فعل متكرر‪ ،‬معناه ليس انجزا وإمنا يف طور التشكل‪ ،‬ومع ذلك فإن جتاوز‬
‫األضداد ‪ -‬حتديدا احلياة واملوت ‪ -‬يف حيز وسيط يتم وفق حركة ذهاب وإّيب داخل فضاء تناقضاهتا‪.‬‬

‫يشري برينيوال إىل ممارسات متصلة ابلدين الروماين حتديدا من أجل إيضاح هذه املفاهيم حيث يقول‪:‬‬
‫"الطقوس اجملردة من اخلرا فة هو أساسا جوهر الرومان"‪ ،‬هو ممر عبور بني احلياة واملوت عرب حماكاة متبادلة؛‬
‫على سبيل املثال؛ يف احلركات املعقدة لطقس يُعرف بـ ‪[ Lusus Troiae‬حدث فروسية كان يُقام يف روما‬
‫أثناء جنازة أو تشييد معبد أو احتفال بنصر عسكري لكن مل يرتبط أبي مهرجان ديين]‪ ،‬ويقول أن هذه‬
‫وتوس ِط تناقضها عرب أفعال بال‬
‫احلركات تقوم بدور وسيط بني احلياة واملوت عرب عكس منط تعاقبها الطبيعي‪ُّ ،‬‬
‫معىن جوهري‪ .‬وخبالف مشروع فاتيمو لبناء املعىن عرب جتاوز التناقضات التارخيية فإن مفهوم برينيوال للعبور إىل‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪25‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫فضاء االختالف هو "فن" حيمل مدلول احليلة أو التكنيك‪ ،‬وال يسعى لتوليف أو توحيد العناصر املتناقضة‪.‬‬
‫يف هذا الصدد؛ يتوافق برينيوال مع ما بعد احلداثيني الفرنسيني الذين يشددون على التكرار الوظيفي أكثر من‬
‫إبداع املعىن‪ ،‬ومع ذلك فإن التكرار الوظيفي للتفاعل االجتماعي والتقين ‪ -‬كما يوضحه مفهوم برينيوال للطقس‬
‫اجملرد من اخلرافة ‪ -‬ال يكشف التباينات وإمنا يطمسها‪ ،‬هذا واضح يف تقريره لطقسنة العبور بني احلياة واملوت‬
‫مقارنة ببودرّير الذي يدعو السرتاتيجيات تقوم إبقحام املوت الذي ال رجعة منه يف نظام تبادل رمزي‪ ،‬وهبذا‬
‫عدي التجربة اجلمايل‬
‫االعتبار تكون ما بعد حداثية برينيوال مجالية بقوة بينما تظل مع فاتيمو قائمة يف بُ م‬
‫والتارخيي‪.‬‬

‫‪ .9‬نقد هابرماس‬

‫يورغن هابرماس من أكثر نـُ َّقاد فلسفة ما بعد احلداثة مشولية وشهرة‪ ،‬وتصدى يف كتابه الصادر عام ‪1985‬‬
‫(اخلطاب الفلسفي للحداثة) ملا بعد احلداثة على مستوى اجملتمع و"الفعل التواصلي"‪ .‬ال يذود هابرماس عن‬
‫مفهوم احلداثة ضد هجمات ما بعد احلداثيني بوصفها وعيا أو ذاات مستقلة لكنه يُناصر املنطق اجلديل لتواصلية‬
‫التَّذات [العالقة ما بني الذوات] ضد اسرتاتيجيات جتريبية طليعية‪ .‬على سبيل املثال؛ يزعم هابرماس أن نقودات‬
‫نيتشه وهايدغر ودريدا وفوكو للحداثة اشتملت على خطأ إجرائي يتمثل يف مفاهيم وآليات ال ميكن أن يوظفها‬
‫سوى العقل احلداثي‪ ،‬وينتقد ديونيس ية نيتشه كرمز تعويضي عن فقدان الثقافة الغربية لالنسجام الذي كانت‬
‫تستمده من الدين يف زمن ما قبل احلداثة‪ .‬عالوة على ذلك؛ فإن إحساس نيتشه بوجود ديونيسوس جديد يف‬
‫الفن احلديث يتأسس على حداثة مجالية يكتسب عربها الفن قوته التجريبية من خالل االنفصال عن قيم العلم‬
‫واألخالق‪ ،‬هذا االنفصال الذي أجنزه عصر التنوير تسبب بفقدان الوحدة العضوية اليت يسعى نيتشه الستعادهتا‬
‫عرب الفن ذاته‪ .‬هابرماس يرى هايدغر ودريدا ورثة هلذه العقيدة الديونيسية‪ ،‬إذ يتنباأ هايدغر مثال بتجربة وجودية‬
‫ُحمتم ِجبة بفعل فلسفة مقلوبة للذات ‪ -‬كما يقول هابرماس ‪ -‬ويطمح تفكيك هايدغر هلا إىل قيام وحدة مأمولة‬
‫طور مفهوم االختالف أو "الكتابة األصلية"‬ ‫ليست سوى غياب الذات حاليا‪ .‬يشري هابرماس إىل أن دريدا َّ‬
‫بطريقة مشاهبة‪ ،‬هنا نرى اإلله ديونيسوس يكشف عن ذاته مرة أخرى عرب الغياب كمعىن مؤجل الهنائي‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪26‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫ينتقد هابرماس أيضا التسوية بني الفلسفة واألدب لدى دريدا وبسط سلطان البالغة على نصوص‬
‫ذات نفس منطقي وجدايل حيث يقول أن دريدا أيمل هبذه الطريقة تفادي مشكلة منطقية تتمثل ابإلحالة إىل‬
‫الذات يف نقده للعقل‪ .‬وعلى أية حال؛ فإن هابرماس يؤكد أن "من ينقل نقد العقل الراديكايل إىل جمال البالغة‬
‫من أجل تقويض مفارقة اإلحالة إىل الذات فسوف يتسبب أيضا بثُلمة يف سيف نقد العقل ذاته"‪ .‬بطريقة‬
‫مشاهبة ينتقد هابرماس فوكو لعدم إخضاعه املنهج اجلينالوجي اخلاص به لكشف جينالوجي قد يُظ ِهر تعيينه‬
‫جمددا لذات حديثة إبمكاهنا أن تتفحص نقدّي اترخيها اخلاص‪ .‬ولذا يقول هابرماس‪" :‬إن فوكو عاجز عن‬
‫التعامل بشكل مالئم مع اإلشكاليات املستمرة اليت تتصل ابملقاربة التأويلية حلقل املوضوع ورفض مرجعية الذات‬
‫ملتطلبات الصدق الكلي واملربر املعياري للنقد"‪.‬‬

‫نقد هابرماس ملا بعد احلداثة على أساس التناقض األدائي ومفارقة اإلحالة إىل الذات ُحت اِدد نربة وشروط‬
‫ردوا عليها حبجج‬
‫كثري من النقاش النقدي الدائر حاليا‪ ،‬يف حني رفض ما بعد احلداثيون هذه النقودات أو ُّ‬
‫ذات نـم مفس خطايب‪ .‬ليواتر ‪ -‬مثال ‪ -‬يرفض القول أبن تواصلية التَّذات تفرتض جمموعة من القواعد املتفق عليها‬
‫ابلفعل‪ ،‬وأن اإلمجاع بصورة كلية هو اهلدف النهائي للخطاب‪ .‬ما بعد احلداثيون صرحيون يف ردودهم على‬
‫هابرماس ألنه ‪ -‬خبالف غريه من النُّقاد ‪ -‬أيخذ ما بعد احلداثة على حممل اجلد وال يعتربها جمرد هراء‪ ،‬واستطاع‬
‫ربهن على وضوحها‪ .‬يتفق هابرماس مع ما بعد‬ ‫ابلفعل أن يقرأ نصوص ما بعد احلداثيني عن كثب وابستطراد ي ِ‬
‫ُ‬
‫احلداثيني يف أن حمور النقاش جيب أن يتوجه إىل احلداثة اليت يتم الوعي هبا يف املمارسات واملؤسسات االجتماعية‬
‫وليس إىل نظرّيت اإلدراك أو مصطلحات اللغة كحقول مستقلة‪ .‬اهتمام هابرماس بتواصلية التَّذات يساعد يف‬
‫إيضاح الدور األساسي الذي تستمر يف لعبه حوارات ما بعد احلداثة املعاصرة‪.‬‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪27‬‬


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫املراجع‬
Baudrillard, Jean, 1976, Symbolic Exchange and Death, Ian Hamilton
Grant (trans.), London: Sage Publications, 1993. (Page reference is to
the 1993 translation.)
–––, 1981, Simulacra and Simulation, Sheila Faria Glaser (trans.), Ann
Arbor: University of Michigan Press, 1994. (Page reference is to the
1994 translation.)
Cahoone, Lawrence (ed.), 2003, From Modernism to Postmodernism: An
Anthology, 2nd Edition, London: Blackwell Publishing, Ltd.
Deleuze, Gilles, 1983 [1962], Nietzsche and Philosophy, Hugh Tomlinson
(trans.), New York: Columbia University Press.
–––, 1994 [1968], Difference and Repetition, Paul Patton (trans.), New
York: Columbia University Press.
Deleuze, Gilles, and Guattari, Felix, 1983 [1972], Anti-Oedipus:
Capitalism and Schizophrenia, Robert Hurley, Mark Seem, Helen R.
Lane (trans.), Minneapolis: University of Minnesota Press.
Derrida, Jacques, 1973 [1967], Speech and Phenomena and other Essays
on Husserl's Theory of Signs, David B. Allison (trans.), Evanston:
Northwestern University Press.
–––, 1974 [1967], Of Grammatology, Gayatri Chakravorty Spivak (trans.),
Baltimore: Johns Hopkins University Press.
–––, 1978 [1967], Writing and Difference, Alan Bass (trans.), Chicago:
University of Chicago Press.
–––, 1982 [1972], Margins of Philosophy, Alan Bass (trans.), Chicago:
University of Chicago Press.
–––, 1979 [1978], Spurs: Nietzsche's Styles, Barbara Harlow (trans.),
Chicago: University of Chicago Press.
–––, 1987 [1989], Of Spirit: Heidegger and the Question, Geoffrey
Bennington and Rachel Bowlby (trans.), Chicago: University of
Chicago Press.
–––, 1988, Limited Inc, Gerald Graff (ed.), Evanston: Northwestern
University Press.
Foucault, Michel, 2006 [1961], History of Madness, Jonathan Murphy and
Jean Khalfa (trans.), London and New York: Routledge.
–––, 1965, Madness and Civilization: A History of Insanity in the Age of
Reason, Richard Howard (trans.), New York: Random House.
–––, 1977, Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and
Interviews, Donald F. Bouchard (ed.), Ithaca: Cornell University
Press.

Copyright 2018 © ‫حكمة‬ 28


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

–––, 1985 [1984], The Use of Pleasure: The History of Sexuality, Volume
Two, Robert Hurley (trans.), New York: Random House.
Habermas, Jürgen, 1987 [1985], The Philosophical Discourse of
Modernity, Frederick Lawrence (trans.), Cambridge: Cambridge
University Press.
Hegel, G.W.F., 1812, Science of Logic, A.V. Miller (trans.), London:
Allen & Unwin, Ltd., 1969. (Page reference is to the 1969
translation.)
–––, 1807, Phenomenology of Spirit, A.V. Miller (trans.), Oxford: Oxford
University Press, 1977. (Page reference is to the translation.)
–––, 1823–9, Lectures on Fine Art, (Volume 1), T.M. Knox (trans.),
Oxford: Clarendon Press, 1975. (Page reference is to the translation.)
Heidegger, Martin, 1962 [1927], Being and Time, John Macquarrie and
Edward Robinson (trans.), San Francisco: Harper & Row.
–––, 1991a, Nietzsche, Volume I: The Will to Power as Art, and Volume
II: The Eternal Recurrence of the Same, David Farrell Krell (trans.),
San Francisco: Harper Collins.
–––, 1991b, Nietzsche, Volume III: The Will to Power as Knowledge and
as Metaphysics, and Volume IV: Nihilism, David Farrell Krell (ed.),
San Francisco: Harper Collins.
–––, 1993, Basic Writings, 2nd Edition, David Farrell Krell (ed.), San
Francisco: Harper & Row.
–––, 1994 [1937–1938], Basic Questions of Philosophy: Selected
“Problems” of “Logic,” Richard Rojcewicz and Andre Schuwer
(trans.), Bloomington: Indiana University Press.
–––, 1998, Pathmarks, William McNeill (ed.), Cambridge: Cambridge
University Press.
–––, 2000 [1953], Introduction to Metaphysics, Gregory Fried and Richard
Polt (trans.), New Haven: Yale University Press.
Kant, Immanuel, 1787, Critique of Pure Reason, 2nd edition, Norman
Kemp Smith (trans.), London: Macmillan & Co., Ltd., 1929;
reprinted 1964. (Page reference is to the reprinted translation of 1964.
–––, 1790, Critique of Judgment, Werner S. Pluhar (trans.), Indianapolis:
Hackett, 1987.
Kaufmann, Walter (ed.), 1954, The Portable Nietzsche, New York: Viking
Press.
Kierkegaard, Soren, 1846, The Present Age, Alexander Dru (trans.), New
York: Harper & Row, 1962. (Page reference is to the translation.)
Lacan, J., 1977, Écrits: A Selection, Alan Sheridan (trans.), New York: W.W. Norton &
Co.
Lacan, J., 1953–1955, The Seminar, Books I (Freud's Papers on
Technique) and II (The Ego in Freud's Theory and in the Technique
of Psychoanalysis), edited by Jacques-Alain Miller, transl. by J.
Forrester (Book I) and Sylvana Tomaselli (Book II), New York:
W.W. Norton & Co., New York, 1988.

Copyright 2018 © ‫حكمة‬ 29


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

Lacoue-Labarthe, Philippe, 1990 [1988], Heidegger, Art and Politics,


Chris Turner (trans.), London: Blackwell.
Lyotard, J.-F., 1984 [1979], The Postmodern Condition: A Report on
Knowledge, Geoff Bennington and Brian Massumi (trans.),
Minneapolis: University of Minnesota Press.
–––, 1985 [1979], Just Gaming, Wlad Godzich (trans.), Minneapolis:
University of Minnesota Press.
–––, 1988 [1983], The Differend: Phrases in Dispute, Georges Van Den
Abbeele (trans.) Minneapolis: University of Minnesota Press.
–––, 1990 [1988], Heidegger and “the jews”, Andreas Michel and Mark
Roberts (trans.), Minneapolis: University of Minnesota Press.
Marx, Karl, 1867, Das Kapital, Volume 1. The section quoted is from
chapter 1, “The Commodity”, Page numbers from the reprint, The
Portable Karl Marx, Eugene Kamenka (ed.), New York: Penguin
USA, 1983.
Nietzsche, Friedrich, 1872, “The Birth of Tragedy”, reprinted in The Birth
of Tragedy and The Case of Wagner, Walter Kaufmann (trans.), New
York: Random House, 1967.
–––, 1873, “On Truth and Lies in a Nonmoral Sense”, reprinted in
Philosophy and Truth: Selections From Nietzsche's Notebooks of the
Early 1870s, Daniel Breazeale (ed.), New Jersey: Humanities Press,
1979.
–––, 1874, “On the Uses and Disadvantage of History for Life”, in
Untimely Meditations, R.J. Hollingdale (trans.), Cambridge:
Cambridge University Press, 1985.
–––, 1974 [1882], The Gay Science, Walter Kaufmann (trans.), New York:
Random House, 1974.
–––, 1883–1891, Thus Spoke Zarathustra, translation and page numbers
from Kaufman 1954: 112–439.
–––, 1967 [1887], On the Genealogy of Morals, Walter Kaufmann (trans.),
New York: Random House.
–––, 1889, “Twilight of the Idols”, translation and pages numbers from
Kaufman 1954: 463–564.
Perniola, Mario, 1995 [1990], Enigmas: The Egyptian Moment in Society
and Art, Christopher Woodall (trans.), London: Verso.
–––, 2001, Ritual Thinking: Sexuality, Death, World, Massimo Verdicchio
(trans.), Amherst, N.Y.: Humanity Books.
Taylor, Victor E., and Winquist, Charles E., 2001, Encyclopedia of
Postmodernism, London: Routledge.
Vattimo, Gianni, 1988 [1985], The End of Modernity: Nihilism and
Hermeneutics in Postmodern Culture, Jon R. Snyder (trans.),
Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Wittgenstein, Ludwig, 1953, Philosophical Investigations, G.E.M.
Anscombe (trans.), New York: Macmillan.

Copyright 2018 © ‫حكمة‬ 30


‫ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ‬

‫حكمة © ‪Copyright 2018‬‬ ‫‪31‬‬

You might also like