Professional Documents
Culture Documents
مُقَدَّمَة
مُقَدَّمَة
مُقَدَّمَة
احلمد هلل رب العاملني ،والّص الة والّس الم على أشرف املرسلني حمم ٍد وعلى آله وصحبه أمجعني,
وعلى من تبعهم بإحسان إىل يوم الدين ,أما بعد:
فمعل وم أن ه الب ّد من أن تك وَن لك ّل جمتم ع -ح ىت يك وَن من السائرين يف ركب احلض ارة ,أو من
ِش
اجلالسني على عر ها ،أو ح ىت يك وَن على األق ل اجتماُع ه اجتماع ا ُمنتج ا كم ا ُي راد من ه -مقّو م اٌت
وأسٌس يقوم عليها وقواعُد يعتمدها يف هنوضه ,والتعاون والتكاتف أحُد أهّم تلك القواعِد واألسس.
ولعل من آكد الوسائل والشروط املسامهِة يف حصول هذا األساِس هو التواص ُل بني أفراد اجملتمع ,بل
إّن ه ذه الوس يلَة هي يف ح ّد ذاهتا أس اٌس ,ي دخل بطري ق أو ب أخرى يف تك وين األس س األخ رى ,فكّلم ا
ك انت اجملموع ُة البش ريُة متواص لًة كلم ا ك ان متاس كها قوي ا ،وترابُطه ا متين ا ,فق وّيت ش وكُتها وعلت
مكانُتها ,وكّلما كانت مفكك ًة ومَش رَذمًة كلما كان متاس ُك ها ضعيفا ،وترابُطها هشا ،ف َو َه نت شوكُتها
واحنطت مكانُته ا .وهلذا أن زل الب احثون والعلم اُء واملفك رون على اختالف أجناِس هم وتن وع م ذاهبهم
ومش ارهِب م ه ذه الوس يلَة منزل َة الغاي ِة ,ونظ روا إليه ا نظ رة ه دٍف ُيقَص ُد ,فب ذلوا يف س بيل حتقيقه ا الغ ايل
والنفيس ,وحتمل وا يف ذل ك الّش دائَد واَحلَم اِقيَس ,ف اخرُت ع وُأب دع ،وُأنتج وُأوِج د م ا ُأوج د من الوس ائل
1
املسامهِة يف إجناحها على م ّر العصور والدهور ،إال أن الفضل الكب َري يف وجودها ما يزال وس َيَز ال يرجع
إىل اللغ ة ال يت هلا األمهي ة والسبُق املطل ُق يف ذل ك ,فهي الوس يلة االّتصالَّيُة األوىل واألخ رية ،ألهنا األداُة
الَف ّعاَلة اليت يسَتعان هبا يف تقنيات االتصال األخرى الّش ديدِة الّتنوِع ،فبها يتفاعل املرء مع غريه ،بل وحىت
م ع نفسه ،فهي أداة العق ل ال ذي هب ا يفك ر ,وهي الكت اب ال ذي من ه يق رأ فك ر اجملتم ع ال ذي يعيش في ه,
وفيه ا ي رى رس م طب ائعهم وح اَل خصائصهم ،ب ل هي لسان احلاِل املبُني ال ذي ُيْف ِّص ح عن وج وده
ووج وِد هم ,وهي العني الكاش فُة ملا غ رب وملا حض ر وملا ُينتظ ر ,وهي الواص لُة بني املاض ي البعي د واحلاض ِر
الش هيد واملستقبِل الولي د ,وخالص ة الق ول هي ال رحُم ال يت بفض لها اجتم ع الن اس وتواص لوا ,وق د أدرك
القدماء هذه احلقيقة فعرب عنها أحُد هم بقوله :ال سبيَل إىل بقاء أحٍد من الناس ووجوِد ه دون كالٍم .
ونظرًا هلذه األمهية البارزة واملزّية العظمى اليت تتمتع هبا اللغة ،توجه الفكر البشرُّي -عن طوع منه يشبه
الك ره وعن ك ره من ه يش به الط وع-إىل العم ل على فهم حقيقِته ا وتفسِري كْنهه ا ،والعم ل على دراس تها
ٍة ٍت
ألج ل أن ُيَف ِّع َل دوَر ه ا يف عملي ة اإلبالغ والتبلي غ ،وق د َّمَت ذل ك بط رق ش ىت وكيفي ا متنوع وم راتَب
متدرجٍة ،فمازالت الدراسُة َتَطَّو ر وترتاك إىل أْن وصلت إىل مرحل ٍة ُث فيها عن الوظائف اإلبالغي ِة
ُيْبَح ُم َت
ال يت ُتؤديه ا في العملي ة اإلبالغي ة كم ا َحَص َل ذل ك من ع دد من اللغ ويني منهم :ابن ج ين وابن س نان
اخلف اجي من الع رب ,وُب وْه َلر وَج اُك ْبُس ون وُر وُب ول وَه اِلي َد اي ...وغ ريهم من الب َاحِثني الع رب أو
الغرب.
إّن بيان الوظيفِة اإلبالغية للغة بصفة جمملة عامة-وإْن كانت هي يف نفسها خطوًة طّيبًة وجهدًا جبارًا
بارعًا -قد ال خيدم اجلانب اإلبالغي خدمًة كبرية بقدر ما خيدُمه بياُن وظيفِة حِّدها األدىن املفيد الذي تبدأ
من ه عملي ة اإلبالغ والتبلي غ ،خاص ة وأّن املرَء ال يتكّلم اللغ َة دفع ًة واح دًة ,ب ل يستعمل ذل ك احلَّد األدىن
الذي اصطلح على تسميِته بـ:الجملة ،كما أنه أصبح من املسلم به يف الدراسات اللغوية احلديثة أن دراسة
اللغة ال تكون نافعًة ومفيدًة إال إذا انطلقت منها .فاجلملة هي اخللية احلي ُة والعض ُّو الفاع ُل يف جسم اللغة،
وهلذا كان الّتحديد الّد قيق للوظائف اإلبالغية جلسم اللغة يتجسد ويتم من خالل حتديد وظيف ِة ك ّل عض ٍّو
وأعضاؤها يف العملية اإلبالغية إمنا هي اجلمل ال غري.
ُ فيها،
وي رى معظُم الدارس ني احملدثني أّن النح اَة ق د غمط وا اجلمل َة؛ فلم يعطوه ا حَّقه ا من الدراس ة ،ومل
يتناولوه ا إال مبقتض ى م ا هلا من عالق ة ب املفرد؛ أي إهنم اكتف وا يف استعراض هم لوظ ائف اجلمل ة الطريق َة
املتوخ اَة يف بي ان وظ ائف املف ردات ،وهلذا نظ روا إليه ا من حيث إمكاني ُة قياِم ه ا بالوظيف ة ال يت يق وم هبا
ِف ِد ِد
املف رُد ،وذل ك بتحدي هم للجم ل ال يت هلا حمل من اإلع راب وحتدي هم لوظائ ه ا النحوي ة ,وهي وظ ائُف
خاص ٌة ,يتسىَّن يف ضوئها وبواسطتها واعتمادا عليها االنتقال إىل حتديد الوظيفة العامة املقصودِة فعال من
عملية اإلبالغ؛ وهي الوظيف ُة اإلبالغية ،أما النوع الثاين من اجلمل والناشئ من اعتبار النوع األول وهو
2
اجلمل اليت ال حمل هلا من اإلعراب فبقي ُغْف ال دون دراسة ,بل زاد أن أبعد من جمال الدراسة النحوية كما
ه و واض ح من تسميته ،وه ذه الرؤي ة يف احلقيق ة تث ري العدي َد من اإلش كاالت ال يت ن ذكر منه ا :إىل أّي
مدى ميكن أن ُيَس َّلم للمحدثني برؤيتهم هذه ؟ .وملاذا أْقصى النحاُة هذا النوَع من اجلمل من دراستهم
وكي ف مت ذل ك ؟ .وإذا ك انت اجلم ل ال يت هلا حمل من اإلع راب حَّلت يف مك ان املف رد ،فم ا ه و املك ان
الذي حّلته اجلمل اليت ال حمل هلا ؟ .بل وهل يسَّلم للنجاة هبذا الطرح؟ .وما هو الشيء الذي دَف َع حسب
نظرهم إىل عجز اجلملة غِري احمللية عن أداء دوِر املفرد ؟ .وما هي املميزات اليت ختتص هبا اجلم غ احملليِة
ُل ُري
عن غِري ها ؟ .وهل كان إلقصائها من اإلعراب أث ٌر على فهم املعىن اإلبالغي ؟ .وإذا كان حتدي ُد الوظيفة
اإلبالغية للجملة احمللية يعتمد على الوظيفة النحوية باألساس ,فعلى ماذا ُيعَتَم د يف حتديِد الوظيفة اإلبالغي ة
للجملة غِري احمللية ؟ .مبعىن آخر هل ميكن َتْف ِعيل إقصائها من اإلعراب يف البحث عن حمّلها يف اإلبالغ؟.
وكيف يتم ذلك ؟ .أو على األقل كيف ميكن أن يتَّم ذلك ؟.
وكفى مبثل هذه اإلشكاالِت حافزا يدفع الفضوَل إىل كشف اللثام عنها ،وحقيق مبن عّنت له أن يبحث
فيها ،أن يقلب النظَر يف صفحات الكتب عساه أن يظفَر مبا يفُّك إهباَم ها ويزي ُل إشكاهَل ا ,وهو ما حاولُت ه
من خالل ه ذه األوراق ال يت رمت مجَعه ا حتت عن وان :الجم ل ال تي ال مح ل له ا من اإلع راب
ووظائفها اإلبالغية.
ويف ظّل هذه اإلشكاالت وما تقدمها من أفكاٍر سطرت هدفني رئيَس نْي ,وَتْنَح ِص ر فيهما مادة البحث,
ويتفرع عنهما أهداٌف جزئيٌة تابعة هلما أو منبثقة عنهما.
اهلدف األول هو الوقوُف على خصوصيِة تراكيِب اجلمل اليت ال حمل هلا من اإلعراب ,وحتديُد كيفياِت
تأليِف ها والشروِط املتحّك مِة يف ذلك بشكل مييل إىل االختبارية من خالل الّد راسة الّتطبيقية ,وبياُن ما تعَّل ق
باملوضوع من قواعَد وقوانَني تضبطه وتبُني حـدوَده ,وقبل هذا وذاك بياُن األشياِء قام عليها ,ورصد أهم
السلطات املعرفي ة والقواع ِد اخللفي ِة ال يت ك انت تسرِّي تفك َري النح اة وَتُق وُده وُتَّو ِج ُه ه يف ه ذا احلق ل من
الدراس ة النحوي ة ,خاص ة إذا أخ ذنا بعني االعتب ار أن تل ك السلطاِت والقواع د املعرفي ةَ ,ب ل والدراس َة
النحويَة كَّلها ليست من اللغة يف حّد ذاهتا بل هي نظرٌة فذٌة ،ورؤي ٌة عميق ٌة ،ابتكرهتا عقوٌل هلا قوُة فك ٍر ،
عمُق بصريٍة ،امتلكت ناصية اللغة ،وأحسنت تفسَريها والتنظَري هلا.
إن املتابع َة االس تيعابيةَ للموض وع على ه ذا املن وال متكُنن ا من إع ادة إنتاج ه وص ياغِته ص ياغًة حداثّي ًة وف ق
األصول اليت قّر رها النحاُة للوصول إىل متييز الطاق ِة الَف ّعال ِة اليت متكُننا من جعل املوضوع صاحلا للتجديد
والتطوير مبا يتوافق مع توُّج هاِتنا الدراسيِة ,وأغراِض نا البحثّي ة ،وأيضا حىت ال يكون البحث منسلخا عن
ماضيه ,منبتا عما سبقه ,يْس َبح يف عشوائيٍة من غري تأصيٍل وال تأثي ٍل ،خاصة إذا علمنا أّن النظام النحوَّي
للغات ثابٌت ال يتغري إال إذا تغريت اللغة يف حّد ذاهتا ,وُمَّس ت األساليُب يف جوهرها.
3
أّم ا اهلدف الث اين فه و االنطالُق مـن ه ذه الرؤي ة عن د النحـاة الس تكمال عملهم بدراس ة الوظ ائف
اإلبالغي ة للجمـل ال يت ال حمل هلا من اإلع راب ,ويك ون ذل ك باالنتقـال من دراس تها يف املستوى األول
-الذي ال يعّتُّد مبا هو خارج عن اللغة ,وال تعتـرف بتأثريه فيها ويف بنيِتها الداخلية -إىل املستوى الثاين -
ال ذي َيْع ّتّد بسياق اإلنت اج وأث ره يف البني ة ,-لنصل من خالل ه إىل معرف ة العالق ة ال يت ترب ط هات ه اجلم َل
باخلطاب أو بالنص أو بامللفوظ كامال ,وهذا يشبه إىل ح ّد كبري ما حيصل يف الرياضيات من االنتقال من
جمموعة األعداد احلقيقية إىل جمموعة األعداد املركبة قصد إجياد حلوٍل ملسائَل استعصى حُّلها يف اجملموعة
األوىل ،أما هنا فهو انتقال َقْص َد إجياد تفسريات لرتاكيب عجز النظام األول(النحو) عن تفسريها ،وهذا
التفسري ال بد من طلبه ألجل بناء قواع َد تنسيقيٍة مشرتكٍة يف الفهم واحلكم والتقومي والتأويل ،أو إلجياد
مرجعيٍة واحدٍة موحدٍة لإلبالغ والتواصل أو إلنشاء معرفٍة مشرتكٍة بني املرسل واملتلقي تؤدي إىل االتفاق
الدائِم بينهما من أجل تسهيل اإلبالغ والتبليغ ،خاصة وأن هذا األخَري ال يعين فقط رمَي املعلوم ِة بل يعين
حتقي َق وص وهلا ،وال ميكن َحَتقُُّق وص وهِل ا إال مبعرفته ا على ص ورهتا ال يت أراده ا هلا مبلُغه ا ,وال ميكن أن
يكون ذلك كذلك إّال إذا كان هناك وجوٌد سابٌق هلا يف منظومة واحدٍة متف ٍق عليها بني املتلقي واملرسل؛
ألن اس تخدام اللغ ة لالتصال ب اآلخرين يتطلب من ا التن ازَل عن ج زء على األق ل من س لطتنا الفردي ة
واالحتكام لألعراف االجتماعي ة وللسلطة اجلماعي ة ،إذ اللغة ليست ملكا شخصيا خالصا للمتكلم هبا،
فمن املسلم به أهنا لو كانت كذلك ،واستخدمها كل منا على حنو خيصه لتعذر فهمها وأصبحت أداة
تقاطع وعزلة واضطراب عكس الدور الذي أنبط هبا اجتماعيا كما أشرت.
وقد اقتصرت يف حبثي هذا على ثالث مجل فقط ،وهي االعرتاضية والتفسريية والّص لة ،وذلك ألن
االستئنافية والشرطية والتابعة َو َر ْد َن بقوة يف املدونة ،وكان تواترهن كثريا جدا ،خرج عن ح ّد القدرة عن
دراستها كِّلها يف حبث واحد يف حدود الوقت ا ْم نوح ،إضافة إىل أن الشرطية والتابعة فيهما العديد من
َمل
املسائل اليت حتتاج إىل مناقشة وإعادة صياغة ،أما بالنسبة جلملة جواب القسم الصريح فلم ترد متاما ،أما
القسم املدلول عليه بالالم ونوين التوكيد فقد ورد بتواتر قليل ال يصلح للدراسة وتسجيل نتائَج عليه ,هذا
ويصعب على ال دارس أن جيد مدون ًة يك ون فيه ا ت واتر اجلم ل ال يت ال حمل هلا واردا ُوُر ودًا تصلح مع ه
دراسُتها مع بعضها جمتمعًة .وكان اختياري لسورة البقرة راجعا إىل أمرين مها:
-1رغبيت الدائمُة وامللحُة يف التعامل مع النص القرآين ،فهو النص الذي ال تشبع منه العلماء ،وال متله
األتقياء ،ال خيلق من كثرة الرّد ،وال تنقضي عجائبُه ،وهو النص الذي من علم علمه سبق ،ومن قال به
صدق ،ومن حكم به عدل ،ومن عمل به أجر ,كما أّنه هو النص البعيد ك َّل البعد عن العبثّي ة الصياغّية
والعبثّية اإلبالغّية.
4
-2أن السورة تعاجل مواضيع كثرية جدا ،متس كل اجلوانب احلياة الدينية والدنيوية ،فمعظم املباحث
العقدية واألحكام الشرعية ذكرت فيها ورمبا اختصت ببعض األحكام مل تذكر يف غريها ,وقد جاء يف
األثر أّن امسها فسطاط القرآن والفسطاط معناه :املدينة اجلامعة ،وكما ورد أن امسها سنام القرآن والِّس نام
هو أعلى كل شيء ،وقال بعض األشياخ :إن فيها ألف أمر وألف هني وألف َخرَب وقيل وفيها مخسة عشر
مثال ،كل هذا التنوِع يف املواضيع يسمح بتنوِع الوظائف اإلبالغية للجملة لتنوع املوضوع املستعملة فيه،
الجم ل ال تي ال مح ل له ا من اإلع راب ووظائفه ا هك ذا ص ار عن وان البحث كم ا يلي:
اإلبالغية
(اجلملة االعرتاضية ,واجلملة التفسريية ,ومجلة الّصلة)
دراسة تطبيقية في سورة البقرة
هذا ,وقد وزعت مادة البحث على ثالثة فصول يتقدمها مدخلٌ ومقدمةٌ ،وذيل المجموع خبامتة ُس جل
فيها أهّمُ ما أناره البحث من أفكار تتصل باملوضوع عامة من جهة بيان األسس اليت ُبين عليها ،ومن جهة
بيان طريقة تناوله.
وأما املقدمة فال خيفى على كل من انتسب للدراسة اجلامعية حمتواها ،وأما املدخل فانَص َّب على تبني
ماهية العضو الذي قصد بيان وظيفته ،وتفرغت صفحاُته حلمل بعض حدود هذا العضو القدمية واحلديثة،
التطويل غ َري ُاملِم ل واإلجياَز غري ا ِخ ل ،أما
َ وتقسيماته حسب نوع املؤلفات وحجمها ،مراعيا يف ذلك
ُمل
رأي باقتضاب ،وفعلت هذا التطوي ُل فَتحقق فبعرض أك ِرب عدد من اآلراء ،أما اإلجياُز فك ان بتناول ك ِّل ٍّ
كَّل ه من أج ل أن تك ون يل ه ذه املف اهيُم والتقسيماُت بصيَص ن ور أهت دي بض وئه يف مساري البح ثي،
وعضدا أستند إليه يف النهوض بأعباء الدراسة.
وإذا ك ان البحث يع اجل اجلم ل ال يت ال حمل هلا من اإلع راب ،ك ان من الالزم علي أن أخصص فصال
يعُقُب املدخَل يعرف هبذا النوع من اجلمل ،وهو ما كان فعال ،وقد عنونته بـ"اجلملة واإلعراب" ,وبدأت
في ه بي ان الطري ق ال يت وص ل هبا النح اة إىل إقصاء اجلمل ة من اإلع راب من خالل بي ان أن واع اإلع راب،
وخصصت احلديث بع ده عن الن وع الث الث من ه وال ذي يتصل مباش رة باملوض وع؛ وه و اإلع راب احمللي
بعرض مفهومه ورأي احملدثني فيه ،حىت إذا اجنلت صورته ،انتقلت إىل استعراض قراءة للعبارة التحليلية"ال
حمل هلا من اإلعراب" فاحتة يل باب الكالم عن املعايري املعتمدة يف احلكم على اجلملة بعدم احمللية ,ألخلص
منه إىل احلديث عن عدد هذه اجلمل عند النحاة واالختالفاِت احلاصلة بينهم ،وكذا تتبع سلوِكهم مع
مع ايريهم وض وابطهم من خالل اجلم ل الثالث ال يت ُأْف رَدت ب البحث .أّم ا الفصلان الث اين والث الث فق د
خصصا للدراس ة التطبيقي ة ال يت تسعى إىل حتدي د الوظ ائف اإلبالغي ة للجم ل الثالث ،وق د اختذ الفصُل
الثالث من الفصل الثاين دراس ًة متهيدي ًة له ،حيث ُأفرد هذا األخري ملعاجلة اجلانب الرتكييب الداخلي لكل
مجلة على حده ،فوزعت إثر ذلك املادة احملصاة على أمناط تركيبية حبسب نوع اجلملة وكثافة عناصرها
5
املؤلف ة هلا ,ويتخل ل عرَض ها الفين ةَ بع د الفين ِة مناقش اٌت لبعض القض ايا النظري ة ال يت من ش أهنا أن توض ح
خاص يًة من اخلصائص الرتكيبي ة للجمل ة َاملعِْنَّي ة أو ش رطا من ش روطها الرتكيبي ة ،ألخ رج يف آخ ر ه ذا
العرض كله إىل تلخيص تلك اخلصائص والشروط الرتكيبية يف هناية دراسة كل مجلة مبا يعني الفكر على
مجع الشتات ،وإعادة ترتيب املعلومات ,وكان ال بد علي -واحلال َة هذه -أن استعمَل اهلامَش يف تذكري
القارئ الكرمي ببعض املسائل النحوية واختالف النحويني فيها ،أو لذكر بعض األوجه اإلعرابية آلية من
اآليات حىت يزول معها اإلشكاُل الذي رمبا تطرق إىل الذهن من قراءة الوجه املثبت يف املنت.
الوظائِف اإلبالغي ِة
ومنه وبه توصلت إىل الفصل الثالث والذي -وعلى صفحاته -حاولت جاهدا َتَبَنُّي
لكلِّ مجلة من اجلمل الثالث ،وقد انتهجت لذلك سبيلني:
السبيل األول :مع اجلملة االعرتاضية ،حيث قمت بتحليل كل شاهد اعرتاضي مبفرده خامتا ذلك التحليل
باس تخالص الوظيف ة اإلبالغي ة ,ح ىت أتيت على مجي ع م ا أحصيته من ش واهَد اعرتاض يٍة .أم ا م ع اجلمل ة
التفسريية والصلتني فق د انتهجت السبيَل الث اين وال ذي جيم ع الش واهَد املتع ددَة حتت الوظيف ِة اإلبالغي ة
الواحدة.
ومل أكن حرا يف سلوك هذين السبيلني ،بل ُأْلِز ْم ت هبما استجابًة لطبيعة توزع الوظائف اإلبالغية ،ففي
املسلك األول خوفا من إغفال بعضها ,ويف املسلك الثاين هروبا من الوقوع يف الَّتْك َر ار.
وُيلحُظ من توُّزع هذه املادِة أّنيّن مل أسر يف البحث مبنهج واحد ،إمنا تنوع املنهج حبسب طبيعة الفصل
واألهداف املرجوة منه ،ففي املدخل تزاوج فيه املنهج التارخيي؛ برصده س َري مفهوِم اجلملة واألقسام اليت
تعرضت هلا .باملنهج التحليلي؛ بنظره يف أسس تلك املفاهيم ومبادئها قصد الوصول من ذلك إىل تصوٍر
شامل للعضو احلي يف اللغة ،ومعرفٍة -ولو مبدئيٍةُ -تَيِّس ر الولوَج فيما بعدها من مسائَل.
التحليلي -بالفصل األول ،وذلك لتعاملي مع ما ُو جد من مادة حنوية تتعلق َ وانفرد هذا األخري –املنهَج
مبوضوِع اجلمل اليت ال حمل هلا فحّللها للوصول منها إىل بيان سلوك النحاة يف املوضوع تأسيسا وتقعيدا
وتنظريا وتطبيقا .أما الفصل الثاين فقد تكاتف على إجنازه ثالثُة مناهَج ،فبعد أن مجع املنهج اإلحصائي ما
عَّن ل ه أن ه من اجلم ل الثالث ،ت أخر ليتق دم على إث ره املنهُج الوص في ،فتـَّم ب ه الوق وُف على املكون ات
إحصائي يف ُز َم ر عرفت باألمناط ،ليع ود يف آخر العمل ُ اإلفرادي ة للم ادة اجملموعة .وُح ِص ر ذل ك الن اتُج ال
املنهُج التحليلي مبين ا الط رَق ال يت تعلقت هبا العناص ُر اإلفرادي ة بعُض ها ببعض ،وم ربزًا اخلصائَص الرتكيبي َة
لكّل مجلة والشروَط اللغويَة اليت تتحكم يف تلك اخلصائِص .ويبقى هذا املنهُج -املنهَج التحليلَي -فارضا
َس ْيَطرَته يف الفصل الث الث معتم دا على إج راءات اختاره ا البحث وانسجمت مع ه وأدت الع رض ،ميكن
الق وُل عنه ا بأهنا إج راءاٌت ِش ْبُه أس لوبيٍة ،ألن األس لوبيَة تبحث عن الوظ ائف اجلمالي ِة ال يت تتمخض عن
6
الُبىَن الرتكيبية ،بينما يتجه هذا البحُث إىل الكشف عن الوظ ائف اإلبالغية هلا دون وضع اعتب ار لعنصر
اجلمال فيها.
هذا ،وقد اختذ البحُث لنفسه زادا معرفيا ،يغرتف منه خمتلَف املشارب؛ فمنه القدُمي واحلديُث ،ومتنوَع
األصناف؛ فمنه ما كان من النحو ومنه ما كان من البالغة ومنه ما كان من التفسري.
فمن الكتب القدمية :كتاُب سيبويه ،وشرُح الرضى على الكافية ،وشرح الّتسهيل البن مالك ،واألشباه
والنظ ائر يف النح و للسيوطي ,واخلصائص البن ج ين ،وش رح املفصل البن يعيش ،كتاب ا دالئ ل اإلعج از
وأس رار البالغ ة لعب د الق اهر اجلرج اين ،واإليض اح يف عل وم البالغ ة للقزوي ين...وغريه ا ،ويرج ع الفض ُل
الكبُري إىل كتب ابن هشام خاصة كتاب مغىن اللبيب عن كتب األعاريب .أّم ا ما كان منها حديثا فأذكر
منها :نظرات يف الرتاث لعبد القادر املهريي ،ويف النحو العريب -نقد وتوجيه -ملهدي املخزومي ،وكتاَب
اللغة العربية معناها ومبناها وكتاب األصول وكتاب البيان يف روائع القرآن كّلها لتمام حسان ،واملنوال
النح وي الع ريب لعز ال دين جمدوب...وغريها ،وأخص بال ذكر كت ايب حممد محاس ة عب د اللطيف :العالمة
األعرابية ،بناء اجلملة العربية .وكتاَب إعراب اجلمل وأشباه اجلمل لفخر الدين قباوة ،كما ال أنسى رسالة
الدكتوراه ألستاذي الدكتور النواري سعودي واملوسومة بـ"بنية اخلطاب القرآين يف السور املكية-دراسة
وصفية حتليلية "-واليت كان هلا األثر الواضح يف صياغة الفصل الثاين ,كما كان له -جزاه اهلل خريا -األثر
البني يف صياغة العقلية اللغوية للباحث من قبل.
وحاولت قصارى جهدي أن أكون حمتميا بآراء املفسرين يف توجيه اآليات وتبني معانيها ,حىت ال
أحتمل تبعة القول يف كتاب اهلل بعقلي القاصر ،ورأيي الضعيف ،وكيف ال أفعل ذلك وقد كان الصحابة
-رض وان اهلل عليهم -وهم من هم يف الزه د والعلم ,ال جَي ُْر ُؤ ون على مث ل ذل ك كم ا ح دثتنا عنهم
األخب اُر ،وثبتت ب ذلك اآلث اُر .ومن التفاس ري ال يت ص حبتين يف البحث :تفسريالطربي ،وتفسريالقرطيب،
وتفسرياأللوسي ،وتفسري البحر احمليط ،وتلخيصه النهر املاد ،وتفسري الكشاف ,وتفسري التحرير والتنوير ,وتفسري
اجلاللني ...
ومل يكن احلصوُل على هذه املراجع وغريها سهال ميسورا ،خاصة وأن مكتبة اجلامعة -جامعة باتنة -عاشت
حالة عدم استقرار أثناء قيامي بالبحث ،إضافة إىل عدم امتالكها لبعض املصادر واملراجع مقارنة بغريها ،مما حال
دون الوص ول إليه ا إال مبش قة وعنت وكلف ة وض ياع وقت يف التنق ل إىل مكتب ات اجلامع ات األخ رى ،وُذِّك َيْت
ه ذه الصعوبُة بصعوبة أخ رى زادت من هليبه ا وش رارهتا متثلت يف تش عب م ادة املوض وع ،وتفرقه ا يف املصادر
واملراجع ،بل وتفرقها يف املصدر و املرَج ِع الواحد يف مواض َع عدٍة منه ,وذلك راجع إىل حصول احلديث عنها
عرضا ال قصدا ،وهذا يعين االحتياج إىل عدد كثري منها ،فحال كل هذا دون حصوِل ما كان مبيتا يف النية من
تناول املوضوع جبميع أنواع مجله ،نسأل اهلل تعاىل أن يوفقنا إىل ذلك يف املستقبل القريب العاجل ،وأن ميدنا
بالقدرة والقوة والتوفيق فيه.
7
وأخريا ،ال أدعي أين أتيت يف حبثي هذا جبديد ،ولكنين حاولت مجع ما تفرق من أفكاره الدرر ،ومعلوماته
الغ رر ,يف كتب السالفني ،وَض َم مت إليه ا حماوالِت احملدثني ال يت م ا ف تئت تنفض الغب ار عنه ا حين ا بع د حني،
وأملي يف ذلك أن أحسن التبويَب وال رتتيب ،والنق َل والع رض ،وال ربَم والفهم ،واالنتق اَء واالختي ار ،عساين أن
أكشف من وراء ذلك عن مستور تداولته العقوُل والفهوم ،ومل تره النواظُر والعيون من املسطور املرقوم .فإن
وفقت فبفضل اهلل وتوفيقه ,وإن كانت األخرى فلقصر باعي وقل ِة بضاعيت وضعِف حيليت ,وعليه فاملرجو ِم ن
كل َم ن وقف على هذا العمل ,وس ّر ح ألفاظه فيه بالنقد ,أن يسامح ناسجه وأن يسدي إليه النصح ,وله منه
جزيُل الشكر ,فصدره واسع لتقبل مرارة اخلطإ مادام أنه يبحث عن حالوة الصواب والنجاح .
وقبل اخلتام ال يفوتين أن أتقدم بالشكر اجلزيل الكثري ،ألستاذي القدير :خلضر بلخري ،الذي أحسن إيل مرتني
ِن
,أوالمها تعليمه يل ,وكان أحسن ما تعلمت منه تلك الشيم النبيلة ,اخلالُل الكرميُة ,وكان أحسُن أحس ها لُني
جانبه وتواض ُعه يف حشمة وحياء ,وهو بذلك معروف بني الطلبة .أما ثانيُتهم ا فتكرُم ه باإلشراف علّي يف هذه
الرس الة ,فم ا ف تئ حيث ين ويوجه ين ،ويرش ُد ين وي دلين ،ومل ي أل أّي جه د يف ذل ك ح ىت ظننت أن ه أح رص على
املوض وع م ين ،رغم املرض ال ذي أكرم ه اهلل ب ه طيل َة م دِة البحث ،نسأل اهلل أن ميده يف دين ه وص حته وأهل ه
بالعافية واهلناء ،وأن يعجل له الشفاء.
أم ا ب اذل ال روح واجله د ،اخلل ال ويف ,والصاحب الطيب ال زكّي ،وال ذي أخفي امسه خش ية أن أزاحم يف
صداقته ،فحايل معه حال الشاعر الذي يقول:
َيّد ي وِلَس ايِن والضمَري ا َح َّج بَا َأَفاَدْتُك م الَّنْع ماُء ِم يِّن َثالثًة
ُمل
َو َلكّنين َح اَو لُت يف اُجلهِد َم ذَه باَ وما ُش ْك ِر ي َو اِفيًا ِبَنَو اِلُك م
والشكر موصول إىل كل األساتذة أستاذا أستاذا والزمالء واحدا واحدا ،واهلل نسأل أن يوفقنا لالعتقاد السليم
بعد النية احلسنة ,للعمل الصاحل بعد العلم النافع ،وأن يغفر لنا ما كان من ا من زلل إنه جواد كرمي ،واحلمد هلل
رب العاملني ،والصالة والسالم على أشرف املرسلني حممد وآله وصحبه أمجعني .آمين.
8