You are on page 1of 208

‫حقوق الطبع حمفوظة‬

‫�إال ممن �أراد طباعته لتوزيعه جمانا‬

‫الطبعة الأوىل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪1438‬هـ‬ ‫رجب‬
‫الباب الأول‪ :‬مقدمات يف �أ�ساليب التف�سري‬

‫متهيد‬
‫احلمد هلل الذي جعل كتابه الكريم هدى للناس يف مجيع شؤوهنم‪،‬‬
‫يتبصون‬‫وحاك ًام عىل أحواهلم وأعامهلم‪ ،‬وقائد ًا ملن اتّبعه إىل أرشد األمور‪ ،‬رّ‬
‫احلق والباطل‪ ،‬وجيدون فيه تبيان‬
‫ويفرقون به بني ّ‬ ‫ببصائره‪ ،‬وهيتدون هبداه‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫ومنهل‬ ‫دليل للعقول‪ ،‬وموعظة للقلوب‪ ،‬وزكاة للنفوس‪،‬‬ ‫كل يشء؛ فهو ٌ‬ ‫ّ‬
‫للعلم واحلكمة‪ ،‬ال حُياط بعلمه وال تنقيض عجائبه‪.‬‬
‫والصالة والسالم عىل رسوله األمني‪ ،‬الذي ب ّلغ البالغ املبني‪ ،‬وبينّ‬
‫احلجة‪ ،‬واستنار‬‫ّ‬ ‫كتاب ر ّبه أحسن التبيني‪ ،‬حتى استقامت امل ّلة‪ ،‬وقامت‬
‫الطريق للسالكني؛ فصىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه أمجعني‪ ،‬ومن تبعهم‬
‫بإحسان إىل يوم الدين‪.‬‬

‫�أما بعد‪:‬‬
‫وقربه للناس يقرأه كبريهم‬‫يس القرآن للذكر‪ّ ،‬‬
‫فإن من رمحة اهلل تعاىل أن رّ‬
‫املتبحر‬
‫ّ‬ ‫وصغريهم‪ ،‬وذكرهم وأنثاهم‪ ،‬وعربيهم وأعجميهم‪ ،‬ويقرأه العامل‬
‫يف العلوم‪ ،‬والعامل املتخصص يف علم من العلوم‪ ،‬وطالب العلم‪ ،‬وطالب‬
‫احلكمة‪ ،‬وطالب زكاة النفس‪ ،‬وطالب املخرج من ظلمة تعرتيه‪ ،‬وأزمة‬
‫يعانيها‪ ،‬وبالء نزل به‪.‬‬
‫‪-5-‬‬
‫ويقرأه العا ّمي الذي ال يدرك كثري ًا من املعاين‪ ،‬ويقرأه من يتتعتع فيه‬
‫وهو عليه شاق‪.‬‬
‫ويقرأه من يريد الدعوة إىل اهلل تعاىل وتبليغ معانيه ملن يدعوهم عىل‬
‫كل أولئك فيه ما يكفيهم‬‫وتنوع مطالبهم؛ فيجد ّ‬ ‫اختالف مذاهبهم‪ّ ،‬‬
‫ويغنيهم إذا صدقوا وأحسنوا ‪.‬‬
‫تتنوع كذلك‪ ،‬وقد جعل‬
‫تنوعت حاجاهتم فإن كفاياهتم ّ‬ ‫والناس وإن ّ‬
‫اهلل تعاىل ّ‬
‫لكل يشء قدر ًا‪.‬‬
‫فالقرآن كتاب هداية‪ ،‬ولذلك أنزل‪ ،‬كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭤ‬
‫ﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮋﮌﮍﮎ‬
‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾‪.‬‬
‫لتنوع حاجات الناس ومعارفهم‬ ‫تتنوع إىل أنواع‪ّ ،‬‬
‫وهذه اهلدايات ّ‬
‫التنوع حكمة بالغة‪ ،‬وآيات باهرة‪ّ ،‬‬
‫تدل عىل بديع‬ ‫ومطالبهم‪ ،‬ويف هذا ّ‬
‫حكمة اهلل تعاىل‪ ،‬وإحاطته ّ‬
‫بكل يشء رمحة وعل ًام‪.‬‬
‫ومن َأ ْج ِل ذلك ّ‬
‫تنوعت عنايات العلامء بالقرآن الكريم رواية ودراية‬
‫وتنوعت أساليبهم كذلك‬‫ورعاية‪ ،‬وتنوعت عنايتهم يف تفسريه وعلومه‪ّ ،‬‬
‫يف تبليغ معانيه‪ ،‬وبيان هداياته‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫معنى �أ�ساليب التف�سري‬
‫واملقصود بأساليب التفسري هنا‪ :‬طرق تبلي ِغ معاين القرآن للمتل ّقني‬
‫وتقريبها هلم بام يناسب حال املخا َطبني ومقا َم احلديث‪.‬‬
‫وذلك أن طالب العلم إذا أحسن دراسة مسائل التفسري‪ ،‬ومسائل أصول‬
‫التفسري وعلوم القرآن‪ ،‬وعرف كيف حيسن تلخيص دروس التفسري وحيرر‬
‫األقوال فيها فإنه حيتاج بعد ذلك إىل أن يلقي مادة التفسري إىل املتلقني إلقا ًء‬
‫مكتوب ًا أو مسموع ًا أو مرئي ًا؛ وحيتاج إىل جتويد طريقة تبليغه ملعاين القرآن؛‬
‫األسلوب األمثل إللقاء تلك‬
‫َ‬ ‫يتعرف‬
‫أهم ما حيتاج إليه أن ّ‬
‫ولذلك كان من ّ‬
‫املادة العلمية‪.‬‬
‫وحتديد األسلوب يرتتّب عليه تصفية تلك املسائل وهتذيبها واإلضافة‬
‫عليها وحتسني طريقة عرضها بام يناسب األسلوب الذي اختاره؛ لتكون‬
‫كلمته أقرب إىل القبول والتأثري ونفع املتل ّقني‪.‬‬

‫فوائد التعرف على �أ�ساليب التف�سري‬


‫والتعرف عىل أساليب العلامء يف التفسري يفيد طالب العلم بفوائد عزيزة‬
‫منها‪:‬‬
‫ّ‬
‫ولكل مقام أسلوبه الذي‬ ‫‪ :1‬أن يعرف أن للتفسري مقامات وأساليب‪،‬‬
‫يالئمه‪.‬‬
‫كل أسلوب‪ ،‬ليجتهد يف تدريب نفسه‬ ‫يتعرف عىل النامذج احلسنة يف ّ‬
‫‪ :2‬أن ّ‬
‫عىل األخذ بأحسنها‪ ،‬واالقتباس من طريقة العلامء فيها‪ ،‬وحماولة حماكاهتا‪.‬‬

‫‪-7-‬‬
‫فإن لدى كل طالب علم ما‬ ‫‪ :3‬أن يستكشف جوانب اإلحسان لديه؛ ّ‬
‫أنعم اهلل به عليه من امل َلكات العلمية والقدرات الذهنية واملعرفية؛ فإذا‬
‫عرف األسلوب الذي حيسنه ويربع يف حماكاته وحتسينه؛ فقد انفتح له‬
‫باب عظيم من أبواب الدعوة إىل اهلل تعاىل وتعليم العلم النافع؛ فيجتهد‬
‫يف العناية هبذا األسلوب وجتويده وحتسينه وإعداد الدروس والكلامت‬
‫التفسريية به‪ ،‬وذلك من شكر اهلل تعاىل عىل ما أنعم به عليه‪ ،‬وقد وعد اهلل‬
‫الشاكرين باملزيد‪.‬‬
‫‪ :4‬أن حياول طالب العلم تدريب نفسه عىل تنويع األساليب يف التفسري‬
‫بحسب ما يقتضيه املقام وحال املخاطبني‪ ،‬وأن حيرص عىل اجتياز احلدّ‬
‫عارف بالتفسري‬
‫ٌ‬ ‫يقومها له‬
‫األدنى يف كل أسلوب بتطبيق نامذج منه ّ‬
‫وأساليبه؛ ثم جيتهد يف األسلوب الذي يرى أنه قد ُفتح له فيه‪.‬‬
‫‪ :5‬بيان هذه األساليب ووضع املعايري املعينة عىل حتقيق اجلودة العلمية‬
‫فيها يعني ‪ -‬بإذن اهلل تعاىل ‪ -‬عىل تأهيل عدد من طالب العلم حيسنون‬
‫إعداد الكلامت التفسريية واملقاالت التفسريية‪ ،‬والدعوة إىل اهلل تعاىل‬
‫بتبليغ معاين القرآن وبيان اهلدى للناس انطالقا من هدي القرآن احلكيم‪.‬‬
‫‪ :6‬معرفة طالب العلم باألسلوب الذي يناسبه يف التفسري له أثر كبري‬
‫عىل بنائه العلمي؛ فيدعوه ذلك إىل أن حيسن البناء العلمي واستعامل‬
‫األدوات املعرفية بام خيدم ذلك األسلوب عىل وجه اخلصوص؛ ليكون‬
‫بناؤه العلمي أحسن وأنفع‪.‬‬

‫‪-8-‬‬
‫�أنواع �أ�ساليب التف�سري‪:‬‬
‫يمكن تقسيم أساليب العلامء يف تفسري القرآن إىل األنواع التالية‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬أسلوب التقرير العلمي‪ ،‬وهو أسلوب قائم عىل إرادة‬
‫حترير املسائل العلمية وبياهنا بأدلتها‪.‬‬
‫والنوع الثاين‪ :‬األسلوب الوعظي‪ ،‬وعمدته عىل التبصري باهلدى‬
‫والرتغيب والرتهيب‪ ،‬وإرادة التأثري عىل النفوس بخطاب الوعظ‪.‬‬
‫والنوع الثالث‪ :‬األسلوب االستنتاجي‪ ،‬وعمدته عىل استنباط الفوائد‬
‫واألحكام واستخراجها‪.‬‬
‫والنوع الرابع‪ :‬أسلوب ِ‬
‫احل َجاج الرشعي‪ ،‬وهو أسلوب يراد به االنتصار‬
‫حيق به‬
‫للحق‪ ،‬وبيان أوجه الردود عىل املخالفني‪ ،‬وداللة القرآن عىل ما ّ‬
‫احلق‪ ،‬ويتبينّ به بطالن الباطل‪.‬‬
‫والنوع اخلامس‪ :‬األسلوب البياين‪ ،‬وهو أسلوب قائم عىل الكشف عن‬
‫حسن بيان القرآن‪ ،‬ولطائف داللة األلفاظ عىل املعاين اجلليلة‪ ،‬وأرسار‬
‫اختيار بعض األلفاظ والرتاكيب عىل بعض‪.‬‬
‫والنوع السادس‪ :‬األسلوب املقاصدي‪ ،‬وهو قائم عىل بيان مقاصد‬
‫اآليات وهداياهتا‪ ،‬وحترير موافقتها ملقاصد القرآن العامة‪.‬‬
‫وسبرْ ِ أساليب‬
‫وهذه األنواع استخرجتُها باستقراء الرسائل التفسريية‪َ ،‬‬
‫العلامء فيها‪ ،‬وتأ ّمل مقاصدها‪ ،‬وأدواهتا العلمية‪ ،‬ولغة اخلطاب يف تلك‬
‫الرسائل‪ ،‬وتصنيفها إىل أصناف‪ ،‬ور ّبام فاتني يشء منها‪ ،‬لكنّي أرجو أين‬
‫تركت؛ ألن الغرض بيان‬
‫ُ‬ ‫ذكرت عىل ما‬
‫ُ‬ ‫املهم منها‪ ،‬ون ّبهت بام‬
‫قد ذكرت ّ‬
‫‪-9-‬‬
‫الفكرة وتوضيحها باألمثلة‪ ،‬وينبغي أن ال نتوقف كثري ًا عند حدود األسامء‬
‫واملصطلحات إذا اتّضح املراد‪ ،‬ألن املقصود حتصيل الثمرة املرجوة وهي‬
‫إحسان إعداد دروس التفسري وإحسان تبليغها للمتل ّقني‪.‬‬
‫وموضوع هذه الدورة العلمية هو يف التعريف هبذه األساليب‪ ،‬وبيان‬
‫عناية العلامء هبا‪ ،‬والتعريف باألدوات العلمية التي يستعملها العلامء يف‬
‫كل أسلوب منها‪ ،‬وبيان طرق حتسني تلك األساليب‪ ،‬وذكر أمثلة من‬ ‫ّ‬
‫رسائل أهل العلم يف التفسري بتلك األساليب‪ ،‬واقرتاح تطبيقات يؤ ّدهيا‬
‫لكل أسلوب من أساليب التفسري‪.‬‬ ‫الطالب ّ‬

‫تداخل الأ�ساليب‬
‫والنص عىل ما شاع منها يف كالم‬
‫ّ‬ ‫الغرض من بيان أنواع األساليب‬
‫املفسين يف رسائلهم التفسريية خصوص ًا ويف كتب التفسري‪ ،‬إنام هو‬ ‫رّ‬
‫ِ‬
‫ألجل إبراز تلك األساليب والتعريف هبا وبيان سماَ هتا ومقاصدها وما‬
‫يعني عىل اإلحسان فيها‪.‬‬
‫خلو كل نوع منها من شوائب سامت األنواع‬ ‫وال يقتيض هذا التنويع ّ‬
‫األخرى؛ فهي أساليب متكاملة ال متزايلة‪ ،‬ومقتبسة من مشكاة واحدة‪،‬‬
‫ويسعى أصحاهبا إىل غاية واحدة؛ وإنام يكون التصنيف عىل ما يغلب من‬
‫املفس بني أسلوبني أو أكثر؛ فيم ّيز‬
‫أسلوب الرسالة التفسريية‪ ،‬وقد جيمع رّ‬
‫يتحي فيه‪.‬‬
‫ذلك طالب العلم‪ ،‬ويعرفه وال رّ‬
‫فاألسلوب الوعظي القائم عىل أصول علمية صحيحة ال بدّ أن يظهر‬
‫فيه يشء من أثر أسلوب التقرير العلمي‪ ،‬لكن تظل الصبغة الظاهرة عىل‬
‫األسلوب هي الصبغة الوعظية‪.‬‬
‫‪- 10 -‬‬
‫وكذلك يقال يف األساليب األخرى؛ فالعربة يف التصنيف بام يغلب عىل‬
‫املفس بني أسلوبني مجع ًا ظاهر ًا يصعب معه‬
‫املفس‪ ،‬وقد جيمع رّ‬
‫أسلوب رّ‬
‫تصنيفه إىل أحدمها‪.‬‬
‫التعرف عىل هذه األساليب‬
‫ومقصود دراسة أساليب التفسري إنام هو ّ‬
‫ليعرف الطالب ما يالئمه منها‪ ،‬وليجتهد يف حتسينه‪.‬‬

‫الفرق بني مناهج املف�سرين و�أ�ساليب التف�سري‬


‫املفسين وأساليب التفسري؛‬ ‫املهم التنبيه عىل الفرق بني مناهج رّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫املفس وأصوله يف االستمداد‬ ‫أعم من حيث تناوله لطريقة رّ‬
‫املفس ّ‬
‫فمنهج رّ‬
‫املعريف ونوع العناية العلمية‪ ،‬وطريقته يف استخراج املسائل ودراستها‬
‫وعرضها؛ وقد تكون له اختيارات خاصة وخ ّطة خيت ّطها لنفسه يف دراسة‬
‫بنصه عىل ذلك أو باستقراء تفسريه‪.‬‬‫ُعرف ّ‬‫مسائل التفسري ت َ‬
‫وأ ّما أسلوب التفسري فهو الطريقة التي تُلقى هبا املا ّدة العلمية للمتل ّقي‪،‬‬
‫والقا َلب الذي يخُ رجها رّ ُ‬
‫املفس به‪.‬‬

‫�سبب العناية بالر�سائل التف�سريية‬


‫رسائل تفسريية مفردة يف تفسري بعض اآليات أو‬ ‫ُ‬ ‫املفسين‬ ‫ٍ‬
‫جلامعة من رّ‬
‫ِ‬
‫وهدايات‬ ‫ِ‬
‫لبيان مسائل التفسري‪،‬‬ ‫ب‬ ‫السور‪ ،‬ويف تلك الرسائل ٌ‬
‫جمال َر ْح ٌ‬
‫القرآن وفيها متن َّفس لإلطناب يف البيان‪ ،‬وجريان القلم بام يف ذهن رّ‬
‫املفس‬
‫لتنوع أساليب التفسري‪،‬‬ ‫يفسها‪ ،‬وفيها متّسع ّ‬ ‫مما له صلة باآليات التي رّ‬
‫والتفنّن فيها بام يناسب أنواع ًا من املخا َطبني‪ ،‬وهذا مما ّ‬
‫يشق التزا ُمه يف‬
‫ِ‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬ ‫التفاسري التا ّمة لِ ُس َو ِر‬
‫‪- 11 -‬‬
‫وكثري من األئمة البارعني يف التفسري ليس هلم تفاسري مؤلفة‪ ،‬وإنام ظهر‬
‫لنا علمهم يف التفسري بام كتبوه من الرسائل التفسريية التي تدل عىل سعة‬
‫اطالعهم وحسن معرفتهم وجودة حتريرهم ملسائل التفسري وإحسان‬
‫عرضها‪.‬‬
‫وتنوع أساليب التفسري يف تلك الرسائل أظهر منه يف كتب التفسري التي‬ ‫ّ‬
‫موجهة غالب ًا لطالب العلم والعلامء‪ ،‬والتفاسري املخترصة املؤلفة‬ ‫تكون ّ‬
‫للعا ّمة ال يتّسع املجال فيها إلبراز املعاين وخماطبة املتل ّقي بام ُيروي غليله‪.‬‬
‫وخماطبة العامة وطالب العلم بام يشفيهم ويكفيهم من بيان هدى‬
‫مهم‪ ،‬وقد كان ذلك من هدي السلف الصالح ريض‬ ‫القرآن مطلب ّ‬
‫املفسين ابن عباس ريض اهلل عنه‬‫اهلل عنهم؛ فهذا ترمجان القرآن وإمام رّ‬
‫يفس القرآن للناس يف املوسم تفسري ًا حسن ًا يأخذ بمجامع القلوب‬
‫كان رّ‬
‫ويستأثر باألسامع ويشفي العليل ويروي الغليل‪ ،‬حتى قيل فيه‪:‬‬
‫بملتقط�ات ال ترى بينها فصال‬ ‫إذا ق�ال مل يترك مق�اال لقائ�ل‬
‫لذي إربة يف القول جدّ ا وال هزال‬ ‫كفى وشفى ما يف النفوس فلم يدع‬

‫وصاحب يل‪ ،‬واب ُن‬


‫ٌ‬ ‫وقد قال أبو وائل شقيق بن سلمة‪( :‬حججت أنا‬
‫ويفسها؛ فقال صاحبي‪:‬‬ ‫رّ‬ ‫احلج‪ ،‬فجعل يقرأ سورة النور‬
‫ّ‬ ‫عباس عىل‬
‫ُ‬
‫الرتك‬ ‫رأس هذا الرجل‪ ،‬لو سمعت هذا‬ ‫ِ‬ ‫«يا سبحان اهلل‪ ،‬ماذا خيرج من‬
‫ألسلمت»)‪ .‬رواه احلاكم يف «املستدرك» وصححه‪.‬‬
‫واملقصود أنه ينبغي لطالب العلم إذا تك ّلم يف مسألة من مسائل العلم أن‬
‫وعظ أحس َن املوعظة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يبينّ اهلدى فيها بام يشفي ويكفي؛ فإذا كان يف مقا ِم‬
‫وإذا كان يف مقا ِم تعلي ٍم أحس َن التعليم‪ ،‬وإذا كان يف مقام منا َظرة ور ٍّد عىل‬
‫‪- 12 -‬‬
‫الذب عن الرشيعة ودمغ‬
‫ّ‬ ‫ُمبطِ ٍل ونرصة للرشيعة أحسن النرصة وأحسن‬
‫احلق تقرير ًا حسن ًا‪.‬‬
‫وقرر ّ‬
‫الباطل‪َّ ،‬‬
‫وهكذا يف سائر املقامات التي حُيتاج فيها إىل من يبينّ للناس ما حيتاجون‬
‫إليه من اهلدى‪.‬‬
‫وسبيل التأهل هلذه املرتبة يتط ّلب ثالثة أمور ّ‬
‫مهمة‪:‬‬
‫الطالب‬ ‫كسب‬‫األمر األول‪ :‬العناية بالتحرير العلمي للمسائل؛ فإنّه ي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُح ْس َن اإلملام بام قيل يف املسألة‪ ،‬ويعينه عىل اجلمع بني األقوال الصحيحة‪،‬‬
‫ِ‬
‫الضعيف‪ ،‬تزييف الباطل‪ ،‬والتنبيه عىل الع ّلة‪،‬‬ ‫وترجيح الراجح‪ ،‬ور ّد‬
‫وكشف الشبهة‪ ،‬وبيان ا ُمل ْش ِكل‪ ،‬حتى ُيمكنه أن يعرض املسألة عىل املتل ّقي‬
‫عرض ًا حسن ًا‪.‬‬
‫خري كثري‪،‬‬
‫التدرب عىل التحرير العلمي فاته ٌ‬
‫ّ‬ ‫وإذا أمهل طالب العلم‬
‫حيرر القول فيها‪،‬‬
‫والطالب الذي يقنع بخالصة ما قيل يف املسألة‪ ،‬وال ّ‬
‫واملرجحات‬
‫ّ‬ ‫يتعرف مآخذ األقوال وعللها‪ ،‬وطرق استخراج املسائل‬
‫وال ّ‬
‫يفوته التحقيق يف كثري من املسائل إذا كان هذا دأبه‪ ،‬وتضعف لديه ملكة‬
‫التحرير العلمي‪.‬‬
‫وأ ّما الذي ُيعنى بتحرير املسائل وجيتهد يف معرفة أصوهلا‪ ،‬ونشأة األقوال‬
‫وحجة كل قول‪ ،‬وطرق النقد واإلعالل‪ ،‬واجلمع والرتجيح؛ فإنّه‬ ‫ّ‬ ‫فيها‪،‬‬
‫التمرن فوائد جليلة من حسن الفهم وسعة األفق يف العلم‬ ‫ّ‬ ‫يكتسب هبذا‬
‫الذي يدرسه‪ ،‬وتقوى لديه َم َل َك ُة التحرير العلمي‪ ،‬والقدرة عىل عرض‬
‫متنوعة‪.‬‬
‫املسألة بأساليب ّ‬

‫‪- 13 -‬‬
‫ضعف‬
‫ُ‬ ‫ولذلك أرى أنّه من اخلطأ الشائع لدى كثري من طالب العلم‬
‫الطالب‬ ‫ِ‬
‫العناية بتحرير املسائل‪ ،‬واالكتفا ُء بخالصة ما قيل فيها؛ فيكون‬
‫ُ‬
‫رجح واخترص‪ ،‬وهو ال يعرف ما بنى عليه ترجيحه‪ ،‬وال‬ ‫مق ّلد ًا ملن ّ‬
‫مصادره التي اخترص منها بح َثه للمسألة‪.‬‬
‫فإن طالب العلم يف حديثه عن‬ ‫األمر الثاين‪ :‬البناء العلمي احلسن‪ّ ،‬‬
‫متنوعة يف‬
‫جيره احلديث إىل مسائل ّ‬ ‫مسألة من مسائل التفسري ال بدّ أن ّ‬
‫علوم متعدّ دة؛ منها مسائل من علوم اآلية كالقراءات الواردة فيها والوقف‬
‫واالبتداء وعدّ اآلي وسبب النزول وغري ذلك من العلوم التي ينبغي‬
‫يمرن نفسه عىل رسعة الوصول إىل مصادرها وحسن‬ ‫لطالب العلم أن ّ‬
‫اإلفادة منها وطرق استعامهلا يف كتاباته يف التفسري‪.‬‬
‫جيره احلديث إىل مسائل يف علوم أخرى كالعقيدة والسلوك والفقه‬‫وقد ّ‬
‫وأصوله والنحو والرصف واالشتقاق والبالغة واملفردات اللغوية‪،‬‬
‫وغريها من العلوم التي ينبغي لطالب التفسري أن جيتاز فيها مرحلة‬
‫ويتعرف‬
‫ّ‬ ‫املبتدئني عىل احلدّ األدنى‪ ،‬وأن يتع ّلم طرق البحث يف مسائلها‬
‫مصادرها حتى يكتسب رسعة الوصول إىل املعلومة التي يريد البحث‬
‫عنها‪.‬‬
‫جيره إىل‬ ‫ِ‬
‫أثره عىل الطالب‪ ،‬وقد ّ‬
‫يظهر ُ‬
‫ُ‬ ‫بالبناء العلمي‬ ‫وضعف العناية‬
‫ٍ‬
‫أخطاء علمية فادحة‪.‬‬ ‫الوقوع يف‬

‫األمر الثالث‪ :‬مهارة النرش العلمي‪ ،‬وإتقان األسلوب الذي يناسبه وجيد‬
‫من نفسه إمكان الرباعة فيه‪ ،‬وهذا هو مقصود هذه الدروس؛ ّ‬
‫فإن العطاء‬
‫ثمرة البناء العلمي‪ ،‬والثمرة احلسنة ال تكون إال بنبات حسن‪.‬‬
‫‪- 14 -‬‬
‫ومعرفة طالب علم التفسري باألسلوب الذي له فيه نوع إجادة وإحسان‬
‫تعينه عىل سلوك السبيل الذي ينبغي له أن يسلكه حتى ينرش علمه‪ ،‬وينتفع‬
‫الناس به بإذن اهلل‪ ،‬وقيمة ّ‬
‫كل امرئ ما حيسنه‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫الباب الثاين‪� :‬أ�سلوب التقرير العلمي‬

‫األسلوب العلمي هو أصل أساليب التفسري‪ ،‬وأكثرها شيوع ًا يف‬


‫املفسين‪ ،‬وعناية أهل العلم به ظاهرة ب ّينة‪ ،‬وهو‬
‫رسائل التفسري وكتب رّ‬
‫األسلوب األليق بمقام التعليم‪ ،‬وخماطبة طالب العلم ومن له حظ من‬
‫املعرفة والنظر يف األدلة وأوجه االستدالالت‪.‬‬
‫وهذا األسلوب قائم عىل إحسان حترير املسائل العلمية يف اآليات‬
‫املفسة‪ ،‬وإحسان عرضها للمتلقي بأسلوب علمي صحيح‪.‬‬ ‫رَّ‬
‫ولذلك فإنه يستدعي حسن اإلملام بأصول التفسري وطرق استخراج‬
‫املسائل التفسريية وحترير أقوال العلامء فيها وبيان حججها وعللها وإعامل‬
‫قواعد اجلمع والرتجيح‪ ،‬والنقد واإلعالل‪ ،‬وغري ذلك من األدوات‬
‫املفس‪.‬‬
‫العلمية التي حيتاج إليها رّ‬

‫لغة اخلطاب يف �أ�سلوب التقرير العلمي‪:‬‬


‫ومن فِ ْقه‬
‫املخا َطبون هبذا األسلوب عامتهم من أهل العلم وطالبه‪ِ ،‬‬
‫ّ‬
‫كل فئة بام يناسبها من األسلوب ولغة اخلطاب‬ ‫املتحدّ ث وحكمته أن حيدّ ث ّ‬
‫ومقام احلديث؛ فلذلك ينبغي أن تكون لغ ُة اخلطاب يف هذا األسلوب لغ ًة‬
‫َ‬
‫املسائل التفسريي َة استيفاء حسن ًا‬ ‫علمي ًة رصين ًة حمررةً‪ ،‬وأن يستويف رّ ُ‬
‫املفس‬
‫بحسب ُو ْسعه وما حيتمله املقام‪.‬‬
‫‪- 17 -‬‬
‫وأن حيرص عىل التث ّبت يف حكاية األقوال ونقل كالم أهل العلم‪ ،‬وأن‬
‫ويقرب الفائدة العلمية لطالب العلم‪،‬‬
‫ويؤصل البحث‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫حيسن الفهم‪،‬‬
‫وأن جيتنب احلدّ ة والتشنيع يف املسائل االجتهادية‪ ،‬وأن حيذر من العجلة‬
‫يف إطالق األحكام بام يبدر إىل ذهنه قبل التحقق من صحة ما يكتب‪ ،‬وأن‬
‫التوسع يف الدعوى بام ال يمكنه إقامة الدليل عليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يتجنّب‬

‫تنوع امل�سائل العلمية يف التف�سري‬


‫ّ‬
‫تتنوع املسائل التفسريية فيه‬
‫علم التفسري أوسع العلوم وأمجعها؛ ولذلك ّ‬
‫إىل أنواع متعددة‪:‬‬
‫‪ -‬فمنها مسائل متعلقة بعلوم اآلية التي رّ‬
‫يفسها كقراءاهتا ومقاصدها‬
‫وسبب نزوهلا‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها مسائل متعلقة بمعاين مفردات اآليات ودالالت األساليب‬
‫والرتاكيب‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها مسائل متعلقة بتعيني املراد ببعض األلفاظ العامة واملجملة‬
‫كتعيني املبهم‪ ،‬وتسمية املضمر‪ ،‬وتبيني املجمل‪ ،‬وتقييد املطلق‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها مسائل متعلقة بفقه أحكام اآلية‪ ،‬ومسائل متعلقة بالعقيدة‪،‬‬
‫وأخرى بعلم السلوك وبيان هدايات اآلية إىل غري ذلك من أنواع املسائل‬
‫التفسريية التي تدل عليها اآليات داللة مبارشة‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫يفصل احلديث فيها إىل إحسان حتريرها‬
‫املفس يف املسائل التي ّ‬
‫وحيتاج رّ‬
‫عىل ما تقتضيه أصول بحث تلك املسائل بحسب العلوم التي تنتمي إليها‬
‫تلك املسائل أصالة‪:‬‬
‫‪ -‬فإذا تع ّلق البحث ببيان مسائل اآلية االعتقادية كان عليه أن يكون‬
‫حسن املعرفة بأصول عقيدة أهل السنة واجلامعة حسن التو ّقي من أقوال‬
‫املخالفني هلم عىل تفاوت خمالفاهتم‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا تعلق البحث بتحرير أقوال السلف يف تفسري اآلية كان عليه‬
‫أن يستخرج تلك األقوال من مصادرها األصلية أو البديلة‪ ،‬وال يكتفي‬
‫باملصادر الناقلة‪ ،‬وأن يميز بحسب استطاعته ما تصح نسبته من تلك‬
‫يصح‪ ،‬ويف هذا النوع من‬
‫ّ‬ ‫األقوال إىل من ُذكرت عنهم من السلف مما ال‬
‫املفسين‪.‬‬
‫البحث تفاوت كبري بني رّ‬
‫املفس‬
‫تنوعها احتاج رّ‬‫‪ -‬وكذلك إذا تع ّلق البحث باملسائل اللغوية عىل ّ‬
‫إىل دراسة كل نوع منها عىل ما تقتضيه أصول البحث يف ذلك العلم بالقدر‬
‫املفسون يف معنى مفردة من مفردات‬‫املفس؛ فإذا اختلف رّ‬ ‫الذي حيتاجه رّ‬
‫املفس احلصيف البحث عن معاين تلك املفردة يف معاجم‬ ‫القرآن‪ ،‬كان عىل رّ‬
‫والتعرف عىل إطالقاهتا وشواهدها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اللغة وكتب علامء ال ّلغة املتقدّ مني‪،‬‬
‫املفسين‪ ،‬وإعامل قواعد التفسري اللغوي‪.‬‬
‫وموازنة أقوال اللغويني بأقوال رّ‬
‫املفس يف حرص األقوال‪ ،‬وحترير نسبتها‪ ،‬وأحس َن دراستها‬‫وإذا اجتهد رّ‬
‫وتصنيفها‪ ،‬وأجرى ما يقتضيه البحث العلمي من اجلمع والرتجيح‬
‫مهمة وهي األسلوب الذي يعرض‬ ‫واإلعالل بقيت عليه بعد ذلك مسألة ّ‬
‫به دراسته لتلك املسألة عىل املتل ّقني من طالب العلم‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫عر�ض امل�سائل التف�سريية يف الأ�سلوب العلمي‪:‬‬
‫حترر هلم من املسائل العلمية يف‬
‫تنوعت طرق العلامء يف عرض ما َّ‬ ‫ّ‬
‫التنوع يفيد طالب العلم أن ترتيب‬
‫املفسين فيها؛ وهذا ّ‬‫التفسري وأقوال رّ‬
‫عرض األقوال واملسائل العلمية يف التفسري قضية اجتهادية ّ‬
‫يتوخى فيها‬
‫نفسه يف‬
‫املفس ُ‬
‫ينوع رّ‬‫املفس أحسن الطرق إلفادة املتل ّقي وتفهيمه‪ ،‬وقد ّ‬
‫رّ‬
‫الرتتيب يف عدد من رسائله‪.‬‬
‫يعرج عىل‬‫املفسين من يبدأ بتقرير القول الصحيح يف اآلية ثم ّ‬ ‫فمن رّ‬
‫األقوال الضعيفة والباطلة ويبينّ ما يردها؛ ليكون أول ما يتلقاه املتلقي‬
‫هو القول الصحيح‪.‬‬
‫ثم يثري األسئلة‬
‫ومنهم من يعكس األمر فيبدأ بذكر األقوال الضعيفة ّ‬
‫ّ‬
‫ليستحث ذهن القارئ عىل التفكّر يف املعنى الصحيح‪،‬‬ ‫التي تبينّ ضعفها‬
‫يرجحه‪.‬‬
‫يتوصل إىل بيان القول الذي ّ‬
‫ثم يسرتسل يف عرض األقوال حتى ّ‬
‫ومنهم يبدأ بحرص األقوال وحترير نسبتها ثم يع ّقب ببيان ما ّ‬
‫يرتجح له‬
‫ويع ّلق عىل تلك األقوال بام يراه‪.‬‬
‫وختتلف مناهجهم يف استيعاب األقوال التفسريية؛ فمنهم من جيتهد‬
‫يف استيعاهبا وتلخيصها‪ ،‬ومنهم َمن يرى اإلعراض عن األقوال البعيدة‬
‫والباطلة‪.‬‬
‫املفسين من يكون غرضه األكرب من كتابة الرسالة التفسريية‬
‫ومن رّ‬
‫التنبيه عىل مسألة مهمة من مسائل تفسري اآلية وتقرير االستدالل هلا‬
‫يرجحه فيها‪ ،‬ولذلك قد يغلب‬ ‫بأوجه متعددة تبينّ صحة القول الذي ّ‬

‫‪- 20 -‬‬
‫عليه النظر يف تلك املسألة فيسهب فيها حتى يتجاوز ذكر بعض املسائل‬
‫املهمة يف تفسري اآلية الشتغاله بام يتع ّلق بمقاصد كتابته لتلك الرسالة‪.‬‬

‫تنوع �أوجه العناية العلمية لدى املف�سرين‪:‬‬


‫املفسين متنوعة إىل‬
‫ومما ينبغي أن ُيعلم أن أوجه العناية العلمية لدى رّ‬
‫أنواع‪:‬‬
‫‪ -‬فمنهم املعتني باألحاديث وآثار السلف‪ ،‬ويظهر ذلك يف اجتهاده يف‬
‫تقيص تلك األحاديث واآلثار من مظاهنا وبيان طرقها‪ ،‬وحترير نسبتها‪،‬‬
‫والتنبيه عىل ما يتصل بذلك من الفوائد والعلل يف جانبي الرواية والدراية‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم املعتني بجمع وحترير األقوال التفسريية يف مصنفات املفرسين‬
‫كل قول‪ ،‬وبيان مأخذه ونشأته‪ ،‬وموقف العلامء منه‪،‬‬ ‫وتعرف مصادر ّ‬ ‫ّ‬
‫وطرق نقل املفرسين بعضهم عن بعض‪ ،‬وبيان ما يتصل بذلك من الفوائد‬
‫والعلل التي هلا أثر عىل حترير دراسته لتلك املسائل التفسريية‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم املعتني باملسائل اللغوية وطرق استخراجها ومجع أقوال‬
‫اللغويني فيها‪ ،‬واملوازنة بينها‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم املعتني باملسائل السلوكية والوقوف عند هدايات اآليات‬
‫وتد ّبرها‪ ،‬واستخراج فوائدها‪ ،‬وطرق داللة اآلية عليها‪ ،‬ومجع أقوال‬
‫علامء السلوك يف تلك املسائل‪ ،‬واستخراجها من مظاهنا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ومن أهل العلم َمن ُيو َّفق للجمع بني أنواع من تلك األوجه‪ ،‬ويظهر‬
‫ذلك جل ّيا يف رسائله التفسريية‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫املفس مرتبة متقدمة يف التفسري حتى حيسن اجلمع بني أنواع‬
‫وال يبلغ رّ‬
‫من العلوم بام يؤهله حلسن البحث يف مسائلها وحترير أقواهلا‪.‬‬
‫واجلامع بني األنواع املتقدمة هو غلبة األسلوب العلمي واعتامده عىل‬
‫حترير املسائل العلمية‪.‬‬

‫َ‬
‫املخاطبون بالأ�سلوب العلمي‪:‬‬
‫تقدّ م أن أسلوب التقرير العلمي خيا َطب به طالب العلم والعلامء يف‬
‫املفس أن تكون لغته هبذا اخلطاب لغة علمية‬ ‫األصل؛ ولذلك يوىص رّ‬
‫هادئة حمررة تناسب َمن يخُ اطبهم‪ ،‬ويلقي إليهم تلك املا ّدة العلمية‪.‬‬

‫عناية العلماء بالأ�سلوب العلمي‪:‬‬


‫هذا األسلوب هو الغالب عىل كتب التفسري وكتب معاين القرآن عىل‬
‫وتنوع يف أوجه العناية العلمية‪،‬‬
‫تفاوت ظاهر بينهم يف التفصيل واإلمجال‪ّ ،‬‬
‫وتنوع يف مسالك العرض والتقرير وترتيب املسائل‪.‬‬
‫ّ‬
‫املفسين يف رسائلهم التفسريية عناية حسنة هبذا األسلوب‬
‫ولبعض رّ‬
‫وبراعة ظاهرة فيه‪ ،‬ومن أجود الرسائل والفصول التفسريية التي كتبت‬
‫هبذا األسلوب‪:‬‬
‫‪ .1‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ‪ ﴾...‬لشيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل‬
‫‪ .2‬فصل يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ‪ ﴾...‬البن الق ّيم رمحه اهلل‪.‬‬
‫‪- 22 -‬‬
‫‪ .3‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾‬
‫للحافظ ابن رجب احلنبيل رمحه اهلل‪.‬‬
‫‪ .4‬تفسري الباقيات الصاحلات للحافظ العالئي‪.‬‬
‫‪ .5‬القسم األول من رسالة تفسري آية الكريس للشيخ حممد بن صالح‬
‫العثيمني‪.‬‬

‫�أمثلة‪:‬‬
‫‪ .1‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ﴾‪.‬‬
‫‪ .2‬فصل يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﮖ﴾‪.‬‬
‫‪ .3‬رسالة يف تفسري املثل األعىل‪.‬‬

‫تطبيق‪:‬‬
‫‪ -‬اكتب رسالة تفسريية بأسلوب التقرير العلمي‪.‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫املثال الأول‪ :‬ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾‬

‫غر ي ُغ ُّر ُغرور ًا‪ ،‬وهو اخلداع بالباطل بسبب‬


‫ال ُغرور يف اللغة مصدر َّ‬
‫اجلهل والغفلة وقلة التجربة‪ ،‬ومنه االنخداع باألماين الباطلة‪ ،‬قال اهلل‬
‫تعاىل يف الشيطان‪﴿ :‬ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾‪.‬‬
‫وقال آكل املرار والد امرئ القيس‪:‬‬
‫ٍ‬
‫هن�د جلاه�ل مغ�رور‬ ‫بع�د‬ ‫غ�ره النس�اء بشيء‬‫إن م�ن َّ‬

‫وقال طرفة بن العبد‪:‬‬


‫ومل أعطكم بالطوع مايل وال عريض‬ ‫أبا منذر كانت ُغرور ًا صحيفتي‬

‫أي‪ :‬منيتموين بالباطل حتى خدعتموين بتلك الصحيفة‪.‬‬


‫رت‪ :‬املنخدع‪.‬‬
‫واملغ ّ‬
‫غرته الدنيا‪ :‬أي خدعته بزينتها وباطلها؛ فهو مغرور منخدع هبا‪.‬‬
‫ورجل َّ‬
‫عرضها للهلكة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الرجل بنفسه إذا َّ‬ ‫وغر َر‬‫َّ‬
‫جيرب األمور فيسهل انخداعه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والغ ُّر الذي مل ّ‬
‫والتغرير بالشخص تعريضه للخديعة لضعف رشده‪.‬‬

‫وال َغرور هو الذي َي ُغ ُّر َ‬


‫غريه‪.‬‬
‫واملغرور هو املنخدع به‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫وال ُغرور هو وصف فعل اخلديعة؛ قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯶ ﯷ﴾‪،‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾‪.‬‬
‫يغرك‪ ،‬وال ُغرور األباطيل)‪.‬‬
‫قال األصمعي‪( :‬ال َغرور الذي ُّ‬
‫فهذا تلخيص كالم علامء اللغة يف معنى الغرور‪ ،‬وأقوال املفرسين يف‬
‫تفسري اآلية ال خترج عن هذا املعنى اللغوي‪.‬‬
‫وما شاع يف القرون املتأخرة من إطالق لفظ الغرور عىل معنى الزهو‬
‫والعجب‪ ،‬وقوهلم عن صاحب العجب والزهو‪ :‬إنه مغرور‪ ،‬هو ختصيص‬
‫ملعنى اللفظ ورصف له عن رصيح داللته يف اللغة‪.‬‬
‫غره وفتَنه‬
‫مغرور ألنه منخدع بام َّ‬
‫ٌ‬ ‫وصاحب العجب يصدق عليه أنه‬
‫حتى أصابه ما أصابه من العجب والزهو‪.‬‬
‫لكن من اخلطأ أن يظن أن داللة اللفظ اللغوية عىل هذا املعنى هي‬
‫باعتبار العجب والزهو‪ ،‬وإنام هي باعتبار اجلهل واالنخداع‪.‬‬

‫و�أما قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾‬


‫ففيه مسائل‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬ما معنى هذا األسلوب يف اللغة؟ أي‪ :‬ما غرك بكذا؟ أو‬
‫ما غرك بفالن؟‬
‫املسألة الثانية‪ :‬ما معنى االستفهام يف اآلية؟‬
‫املسألة الثالثة‪ :‬ما جواب االستفهام؟ وما مناسبة ذكر اسم اهلل (الكريم)‬
‫يف هذه اآلية؟‬

‫‪- 25 -‬‬
‫فأما جواب املسألة األوىل‪ :‬فالعرب تقول‪ :‬ما غرك بفالن؟! تريد‪ :‬ما‬
‫جرأك عليه؟ وما خدعك حتى أصابك منه ما أصابك أو فاتك من خريه‬ ‫َّ‬
‫ما فاتك؟‬
‫‪ -‬قال األصمعي‪( :‬ما غرك بفالن؟ أي‪ :‬كيف اجرتأت عليه؟)‪ .‬ونقله‬
‫أبو عيل القايل عن أيب نرص الباهيل‪.‬‬
‫‪ -‬ويف مواعظ عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن القرب يقول لصاحبه إذا‬
‫غرك يب؟! قد كنت متيش حويل فِدَ ادا»‪ .‬رواه ابن‬ ‫وضع فيه‪« :‬يا ابن آدم ما َّ‬
‫أيب شيبة وغريه‪ ،‬فداد ًا أي اختياالً‪.‬‬
‫‪ -‬وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي بعد أن ظفر ببني أسد وقتل‬
‫منهم من قتل بعد أن اجرتؤا عليه ونالوا منه‪:‬‬
‫غرك�م باألس�د الباس�ل؟!‬
‫م�ا َّ‬ ‫ل�دودان عبي�دَ العص�ا‬
‫َ‬ ‫فق�ل‬
‫لقب لبني أسد‪.‬‬
‫دودان ٌ‬
‫وسول‬
‫قال أبو إسحاق الزجاج يف تفسري هذه اآلية‪( :‬أي ما خدعك َّ‬
‫وجب عليك؟)‪.‬‬
‫َ‬ ‫لك حتى أضعت ما‬
‫وقد تناقله كثري من املفرسين‪.‬‬
‫وأما جواب املسألة الثانية‪ :‬فاالستفهام جامع ملعنى اإلنكار والتوبيخ‬
‫والتقريع‪ ،‬والقول يف معنى االستفهام فرع عن فهم داللة اآلية‪.‬‬
‫ولذلك كان ِم َن السلف َمن َي ِع ُظ هبذه اآلية ملا فهم منها من معنى‬
‫الزجر‪ ،‬كام قال سعيد بن عبيد‪( :‬رأيت سعيد بن جبري وهو يؤ ّمهم يف‬

‫‪- 26 -‬‬
‫رمضان يردد هذه اآلية‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾‪﴿ ،‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ يرددها مرتني أو ثالثا)‪ .‬رواه عبد‬
‫الرزاق‪.‬‬
‫وأما جواب املسألة الثالثة فقد اختلف فيه عىل ثالثة أقوال‪:‬‬
‫غره هو جهله‪ ،‬وروي هذا املعنى عن عمر وابن‬ ‫القول األول‪َّ :‬‬
‫أن الذي ّ‬
‫عباس وأيب موسى األشعري والربيع بن خثيم واحلسن البرصي‪.‬‬
‫غره هو الشيطان‪ ،‬وهذا قول قتادة رواه عنه ابن‬ ‫والقول الثاين‪َّ :‬‬
‫أن الذي َّ‬
‫جرير بإسناد صحيح‪.‬‬
‫واستدل له بقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ أي خدعكم‬ ‫َّ‬
‫وجرأكم عىل عصيان اهلل ال َغ ُ‬
‫رور وهو الشيطان يف أظهر األقوال‪.‬‬
‫غره هو كرم ر ّبه‪ ،‬وهذا القول نقل معناه عن‬ ‫والقول الثالث‪َّ :‬‬
‫أن الذي َّ‬
‫الفضيل بن عياض وحييى بن معاذ وأيب بكر الوراق‪ ،‬وذكر املاوردي ما يف‬
‫معناه احتامالً‪ ،‬ثم ذكره ابن اجلوزي من غري نسبة‪ ،‬ثم اشتهر هذا القول يف‬
‫كتب التفسري‪.‬‬
‫فالقوالن األوالن صحيحان متالزمان؛ فالشيطان هو مصدر التغرير‪،‬‬
‫وجهل اإلنسان هو منفذ االغرتار‪ ،‬وبه تسلط الشيطان عىل املغرور‪.‬‬
‫وأما القول الثالث فخطأ بي وهو معارض ملقصد اآلية‪َّ ،‬‬
‫ألن كرم اهلل ال‬
‫وتنزهه عن النقائص‬‫يغر بل يوجب الشكر‪ ،‬وتذكّر العبد لكرم اهلل تعاىل ّ‬ ‫ُّ‬
‫والعيوب حيمله عىل خشيته واالستحياء منه‪ ،‬وإنام الذي يغر جهل اجلاهل‬
‫بام جيب أن يقابل به هذا الكرم‪ ،‬وعاميته عن العرب واآليات‪.‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫جمرد عدم العلم الذي ُيعذر به غالب ًا‪ ،‬وإنام املراد‬
‫واجلهل هنا ليس املراد به ّ‬
‫احلكمي الناتج عن الغفلة واإلعراض عن ذكر اهلل؛ فيوصف به‬ ‫ّ‬ ‫به اجلهل‬
‫صاحبه بأنه من اجلاهلني وصاحب جهالة‪ ،‬كام يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ وكل ما عيص اهلل به فهو عن‬
‫جهالة ونوع سفاهة منافية للرشد‪.‬‬
‫وقد أحسن ابن القيم وابن كثري يف رد هذا القول فقال ابن كثري‪( :‬وقوله‪:‬‬
‫﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾‪ :‬هذا هتديد‪ ،‬ال كام يتومهه بعض‬
‫الناس من أنه إرشاد إىل اجلواب؛ حيث قال‪« :‬ا ْلك َِري ِم» حتى يقول قائلهم‪:‬‬
‫«غر ُه كرمه»‪.‬‬
‫َّ‬
‫بل املعنى يف هذه اآلية‪ :‬ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم‪-‬أي‪ :‬العظيم‪-‬‬
‫حتى أقدمت عىل معصيته‪ ،‬وقابلته بام ال يليق؟ كام جاء يف احلديث‪« :‬يقول‬
‫أجبت املرسلني؟»)‪.‬‬
‫َ‬ ‫اهلل يوم القيامة‪ :‬اب َن آدم! ما غرك يب؟ اب َن آدم! ماذا‬
‫وقال ابن القيم يف «اجلواب الكايف»‪( :‬كاغرتار بعض اجلهال بقوله‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ فيقول‪ :‬كرمه‪ ،‬وقد يقول‬
‫بعضهم‪ :‬إنه ل َّقن املغ َّ‬
‫رت حجته!!‬
‫غره بربه ال َغرور‪ ،‬وهو الشيطان ونفسه األمارة‬
‫وهذا جهل قبيح‪ ،‬وإنام َّ‬
‫بالسوء وجهله وهواه‪ ،‬وأتى سبحانه بلفظ الكريم وهو السيد العظيم‬
‫املطاع الذي ال ينبغي االغرتار به وال إمهال حقه؛ فوضع هذا املغرت الغرور‬
‫يف غري موضعه واغرت بمن ال ينبغي االغرتار به)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقال البغوي‪( :‬وقال بعض أهل اإلشارة‪ :‬إنام قال‪﴿ :‬ﭫ ﭬ﴾‬
‫دون سائر أسامئه وصفاته‪ ،‬كأنه لقنه اإلجابة)‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫قال ابن كثري معقب ًا عىل هذا القول‪( :‬وهذا الذي ختيله هذا القائل ليس‬
‫بطائل؛ ألنه إنام أتى باسمه ا ْلك َِريم لينبه عىل أنه ال ينبغي أن ُي َقا َبل الكريم‬
‫باألفعال القبيحة‪ ،‬وأعامل السوء)‪.‬‬
‫والكريم من أسامء اهلل احلسنى ومعناه املتصف بكل كامل وصفات‬
‫حسنى‪ ،‬فهو كريم يف ذاته‪ ،‬كريم يف صفاته‪ ،‬كريم يف أفعاله‪ ،‬كريم يف‬
‫أحكامه ال يأمر إال بالعدل واإلحسان‪ ،‬كريم يف ثوابه‪ ،‬كريم يف إنعامه ال‬
‫يدُّ فضله‪ ،‬وهو الكريم الذي بيده اخلري كله‪ ،‬فكل خري‬‫حتىص نعمه‪ ،‬وال حُ َ‬
‫هو موليه واملتفضل به‪ ،‬وهو الكريم املتنزه عن كل نقص وسوء‪.‬‬
‫وهو الكريم فيام يأمره به وينهى عنه ويرشد إليه‪ ،‬إن اهلل نعام يعظكم به‬
‫املكرم عن ّ‬
‫كل سوء الذي‬ ‫غر هذا اجلاهل املغرور بربه الكريم َّ‬
‫فام الذي َّ‬
‫ال يليق أن َ‬
‫يقابل إحسانُه بعمل السيئات؟!‬
‫غره بر ّبه الكريم الذي أنشأه من العدم وأسبغ عليه النعم‬
‫وما الذي َّ‬
‫غره حتى رصفه عن طاعته‬ ‫وعرفه بح ّقه عليه وعاقبة عصيانه؛ فام الذي َّ‬‫َّ‬
‫وعرضه لسخطه؟!‬ ‫َّ‬
‫غره بر ّبه الكريم فمنعه من تصديق وعده واتّباع هداه؟!‬
‫وما الذي َّ‬
‫وحرمه من ثواب ربه وعطائه وفضله العظيم؟!‬
‫وما الذي غره بربه الكريم الذي ال أكرم منه يف ذاته وصفاته‪ ،‬الذي من‬
‫كرمه تشتاق نفوس العارفني به أعظم شوق إىل لقائه والنظر إىل وجهه‬
‫الكريم فام الذي غره بربه وحجبه عنه؟!‬

‫‪- 29 -‬‬
‫وما الذي غره بربه الكريم الذي ال يأمر إال بالعدل واإلحسان وما فيه‬
‫غره‬
‫زكاة نفس العبد وطهارهتا وقيام مصالح العبد ورشاد أمره‪ ،‬فام الذي َّ‬
‫بر ّبه وأوقعه يف أرس اهلوى وعواقب الذنوب وتسلط الشيطان؟!‬
‫وما الذي غره بربه الكريم الذي أنعم عليه بالنعم العظيمة من مبدأ‬
‫خلقه إىل موته َ‬
‫فقابل نعمه وإحسانه هبذا الكفر والنكران؟!!‬
‫فتد ُّبر هذه املعاين ومعرفة أوجه اتصاهلا بمعنى اسم الكريم وآثاره‬
‫يف اخللق واألمر واجلزاء يفتح لك أبواب ًا من فهم القرآن‪ ،‬واهلل املوفق‬
‫واملستعان‪.‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫املثال الثاين‪ :‬تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‬

‫التفريق بني اإلسالم واإليامن است ُِدل له بآيات من القرآن الكريم‪:‬‬


‫منها‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾ [احلجرات‪.]14 :‬‬
‫وللسلف يف تفسري هذه اآلية قوالن مشهوران‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن اإلسالم املث َبت هلم هو مرتبة اإلسالم‪ ،‬وأهنم مل يبلغوا‬
‫مرتبة اإليامن‪.‬‬
‫القول الثاين‪ :‬أن اإلسالم املث َبت هلم هو اإلسالم الظاهر الذي ال يقتيض‬
‫أن يكون صاحبه مسل ًام حق ًا يف الباطن‪ ،‬وذلك كام حيكم ألهل النفاق‬
‫باإلسالم الظاهر‪ ،‬وإن كانوا كفار ًا يف الباطن؛ ألن التعامل مع الناس هو‬
‫عىل ما يظهر منهم؛ فمن أظهر اإلسالم قبلنا منه ظاهره ووكلنا رسيرته إىل‬
‫اهلل‪ ،‬فيعامل معاملة املسلمني ما مل يتبني لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫القول األول هو قول الزهري وإبراهيم النخعي وأمحد بن حنبل‬
‫واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثري وابن رجب‪.‬‬
‫والقول الثاين هو قول جماهد والشافعي والبخاري وحممد بن نرص‬
‫املروزي وأيب املظفر السمعاين والبغوي والشنقيطي‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫واستدل أصحاب القول الثاين بقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ﴾ قالوا‪ :‬فهؤالء مل يدخل اإليامن يف قلوهبم بنص القرآن‪ ،‬ومن مل‬
‫يدخل اإليامن يف قلبه فليس بمسلم عىل احلقيقة‪ ،‬وإنام إسالمه بلسانه دون‬
‫قلبه‪.‬‬
‫وأصحاب القول األول يقولون إن اإليامن املنفي عنهم إنام هو ما‬
‫تقتضيه مرتبة اإليامن‪ ،‬فهم مل يعرفوا حقيقة اإليامن وإنام أسلموا عىل جهل‬
‫فيثبت هلم حكم اإلسالم‪ ،‬فيكون معنى قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ﴾ أي مل تبارش حقيق ُة اإليامن قلو َبكم‪.‬‬
‫وابن القيم رمحه اهلل قال بالقول األول يف «بدائع الفوائد»‪ ،‬وقال بالقول‬
‫الثاين يف «إعالم املوقعني»‪.‬‬
‫والتحقيق أن داللة اآلية ت ََس ُع القولني‪ ،‬فإذا أريد بنفي اإليامن يف قوله‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﮒ ﮓ﴾ نفي أصل اإليامن الذي َيثبت به حكم اإلسالم؛ فهؤالء‬
‫كفار يف الباطن‪ ،‬مسلمون يف الظاهر‪ ،‬فيكون حكمهم حكم املنافقني‪ ،‬وقد‬
‫يتوب اهلل عىل من يشاء منهم وهيديه لإليامن‪.‬‬
‫وإذا أريد بنفي اإليامن نفي القدر الواجب من اإليامن الذي مدح اهلل به‬
‫املؤمنني وسامهم به مؤمنني؛ فهذا ال يستلزم نفي أصل اإليامن واخلروج‬
‫من دين اإلسالم‪ ،‬فيثبت هلم حكم اإلسالم‪ ،‬وينفى عنهم وصف اإليامن‬
‫الذي يطلق عىل من أتى بالقدر الواجب منه‪.‬‬
‫وهذا كام يف «صحيح البخاري» من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه أن‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم قال‪« :‬واهلل ال يؤمن! واهلل ال يؤمن! واهلل ال‬
‫يؤمن!»‪.‬‬
‫‪- 32 -‬‬
‫قيل‪ :‬من يا رسول اهلل؟‬
‫قال‪« :‬الذي ال يأمن جاره بوائقه»‪.‬‬
‫فهذا نفى عنه حقيقة اإليامن والقدر الواجب منه الذي مدح اهلل به‬
‫املؤمنني وسامهم به‪ ،‬وال يقتيض أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫والذي يوضح هذا األمر أن قول ﴿ﮖ﴾ قد يقوله الصادق‬
‫والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّ ٍع لإلسالم خمادع للذين آمنوا‪،‬‬
‫ُيظهر اإلسالم ويبطن الكفر‪.‬‬
‫وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهر ًا وباطن ًا‪ ،‬ومعه أصل اإليامن‪.‬‬
‫وهلذا قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇﰈ﴾‪.‬‬
‫فعلق وصف اإليامن بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف‬
‫األول‪ ،‬ومن مل يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاين‪ ،‬وهذا يبينّ جواز‬
‫أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه اآليات من هو من أصحاب الصنف‬
‫واألول‪ ،‬ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاين‪ ،‬وشملت هذه اآليات‬
‫الصنفني كليهام‪.‬‬
‫وهذا مثال بديع حلسن بيان القرآن الكريم‪ ،‬وداللته عىل املعاين العظيمة‬
‫بألفاظ وجيزة‪.‬‬
‫واملقصود أن اآلية عىل القول األول يف تفسريها فيها داللة عىل التفريق‬
‫بني مرتبة اإلسالم ومرتبة اإليامن‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫قال حممد بن نرص املروزي‪( :‬نقول إن الرجل قد يسمى مسلام عىل‬
‫وجهني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬أن خيضع هلل باإليامن والطاعة تدينا بذلك يريد اهلل بإخالص نية‪.‬‬
‫واجلهة األخرى‪ :‬أن خيضع ويستسلم للرسول وللمؤمنني خوفا من‬
‫القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع خوفا وتقية‪ ،‬ومل يسلم هلل‪ ،‬وليس‬
‫هذا باإلسالم الذي اصطفاه اهلل وارتضاه الذي هو اإليامن الذي دعا اهلل‬
‫العباد إليه)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [الذاريات‪.]36-35 :‬‬
‫نجى اهلل مجيع املؤمنني من العذاب كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫َّ‬
‫ﭯ ﭰ﴾‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ دليل عىل أنه مل يكن يف‬
‫قرى قوم لوط إال بيت واحد عىل اإلسالم‪ ،‬وهو بيت لوط عليه السالم‪.‬‬
‫وأهل لوط كلهم مؤمنون إال امرأته كانت كافرة بنص القرآن كام يف‬
‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾‪،‬‬
‫لكن اختلف أهل العلم‪ ،‬هل كانت مسلمة يف الظاهر أو كانت عىل دين‬
‫قومها ظاهر ًا وباطنا عىل قولني‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أهنا كانت عىل دين قومها‪ ،‬وإنام كانت خيانتها أهنا تدل‬
‫قومها الذين يعملون السوء عىل أضياف لوط‪ ،‬وهذه خيانة له‪.‬‬
‫القول الثاين‪ :‬أهنا كانت تظهر اإلسالم وتبطن الكفر‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫والقول األول أصح وأشهر وهو املأثور عن ابن عباس وسعيد بن جبري‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف يبقيها يف ذمته وهي كافرة؟‬
‫قيل‪ :‬إن ذلك كان جائز ًا يف رشيعتهم‪ ،‬كام كان جائز ًا يف أول اإلسالم‬
‫ثم نسخ‪.‬‬
‫وسواء أكانت امرأة لوط مسلمة يف الظاهر أم غري مسلمة يف الظاهر؛‬
‫فإن ذلك ال ينقض احلكم عىل البيت بأنه بيت إسالم‪ ،‬كام أن وجود بعض‬
‫الكفار يف بالد اإلسالم ال جيعلها بالد كفر‪.‬‬
‫ومقصود اآلية أن قرى قوم لوط مل يكن فيها بيت عىل اإلسالم إال بيت‬
‫لوط عليه السالم‪.‬‬
‫وهذه اآلية فيها لطيفة وهي أن املؤمنني موعودون بالنجاة‪ ،‬واملسلم‬
‫غري املؤمن ليس له عهد بالسالمة من العذاب والنجاة منه؛ فقد يعذب‬
‫بمعاصيه يف الدنيا وقد يعذب يف قربه وقد يعذب يف النار‪ ،‬لكنه ال خيلد‬
‫فيها‪.‬‬
‫وهذا نظريه ما ورد يف قصة أصحاب السبت فإن اهلل تعاىل أنجى املؤمنني‬
‫الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتني عن إنكار املنكر وأخذ‬
‫الذين ظلموا بعذاب بئيس‪ ،‬فتبني أن أصحاب الكبائر من املسلمني ليس‬
‫هلم عهد أمان من العذاب كام جعل اهلل ذلك ألهل اإليامن؛ فقد ُي َّ‬
‫عذبون‪،‬‬
‫وقد يعفو اهلل عنهم بفضله وكرمه‪ ،‬وهذا يبني لك الفرق العظيم بني مرتبة‬
‫اإلسالم ومرتبة اإليامن‪.‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫فاملؤمن له عهد أمان بأن ال يعذبه اهلل وال خيذله‪ ،‬وأنه ال خياف وال‬
‫حيزن‪ ،‬وال يضل وال يشقى‪ ،‬وقد تكفل اهلل له باهلداية والنجاة والنرص‬
‫والرفعة ‪.‬‬
‫وهو يف أمان من نقمة اهلل تعاىل وسخطه‪ ،‬ويف أمان من عذاب اآلخرة‬
‫كام قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ﴾‪.‬‬
‫ ‬

‫‪- 36 -‬‬
‫املثال الثالث‪ :‬تف�سري املثل الأعلى‬

‫احلمد هلل الذي له املثل األعىل وهو العزيز احلكيم‪ ،‬والصالة والسالم‬
‫عىل الرسول النبي الكريم نبينا حممد وعىل آله وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فقد ورد ذكر «املثل األعىل» – هبذا اللفظ ‪ -‬يف آيتني من القرآن العظيم‪:‬‬
‫‪ -‬إحدامها يف سورة النحل وهي قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬واألخرى يف سورة الروم وهي قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ﴾‪.‬‬
‫وقد تنوعت عبارات السلف يف بيان معنى «املثل األعىل» ومن رويت‬
‫عنهم آثار من الصحابة والتابعني يف بيان معنى املثل األعىل ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬ابن عباس ريض اهلل عنه‪:‬‬
‫فروى معاوية بن صالح عن عيل بن أيب طلحة عن ابن عباس يف قوله‬
‫عز وجل‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾ قال‪« :‬يقول‪ :‬ليس كمثله يشء»‪ .‬رواه ابن‬
‫جرير وابن أيب حاتم والبيهقي يف «كتاب االعتقاد» ويف «كتاب األسامء‬
‫والصفات»‪.‬‬
‫وهذا تفسري بعض املعنى بالالزم؛ فكونه تعاىل له املثل األعىل يقتيض أنه‬
‫ليس كمثله يشء‪ ،‬قال ابن القيم –رمحه اهلل – يف كتابه «الصواعق املرسلة»‪:‬‬
‫(يستحيل أن يشرتك يف املثل األعىل اثنان ألهنام إن تكافآ مل يكن أحدمها‬
‫‪- 37 -‬‬
‫أعىل من اآلخر‪ ،‬وإن مل يتكافآ فاملوصوف باملثل األعىل أحدمها وحدَ ه‪،‬‬
‫يستحيل أن يكون ملن له املثل األعىل مثل أو نظري)‪.‬‬
‫وقد استدل رمحه اهلل هبذه اآلية عىل تفرد اهلل تعاىل بصفات الكامل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬قتادة بن دعامة السدويس رمحه اهلل‪:‬‬
‫روى عبد الرزاق يف تفسريه عن معمر عن قتادة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ﴾؛ قال‪« :‬شهادة أن ال إله إال اهلل»‪.‬‬
‫ورواه أيض ًا ابن جرير وابن أيب حاتم والطرباين يف «الدعاء»‪.‬‬
‫وروى ابن جرير من طريق يزيد عن سعيد عن قتادة أن املراد باملثل‬
‫األعىل اإلخالص والتوحيد‪ ،‬ويف لفظ عنده‪« :‬مثله أنه ال إله إال هو وال‬
‫رب غريه»‪.‬‬
‫وقد نسبه أبو املظفر السمعاين ملجاهد وتبعه عىل ذلك القرطبي‬
‫والشوكاين وهو خطأ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬حممد بن املنكدر‪:‬‬
‫قال ابن كثري‪( :‬وعن مالك يف تفسريه املروي عنه‪ ،‬عن حممد بن املنْك َِدر‪،‬‬
‫يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪ ،‬قال‪ :‬ال إله إال اهلل)‪.‬‬
‫فهذا ما علمته ُأثر عن الصحابة والتابعني يف تفسري املثل األعىل‪.‬‬
‫وأكثر املفرسين عىل أن املثل األعىل الصفات العليا التي تستوجب‬
‫إخالص العبادة له وحده ال رشيك له‪ ،‬واعتقاد الكامل املطلق له جل‬
‫وعال‪ ،‬وأنه ال يساميه يف ذلك أحد‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫قال ابن جرير (ت‪ 310:‬هـ)‪﴿( :‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾ يقول‪ :‬وهلل املثل‬
‫األعىل‪ ،‬وهو األفضل واألطيب‪ ،‬واألحسن‪ ،‬واألمجل‪ ،‬وذلك التوحيد‬
‫واإلذعان له بأنه ال إله غريه)‪.‬‬
‫وقال يف تفسري آية الروم‪( :‬وقوله‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ﴾ يقول‪ :‬وهلل املثل‬
‫األعىل يف الساموات واألرض‪ ،‬وهو أنه ال إله إال هو وحده ال رشيك له‪،‬‬
‫ليس كمثله يشء‪ ،‬فذلك املثل األعىل‪ ،‬تعاىل ربنا وتقدّ س)‪.‬‬
‫قال أبو جعفر النحاس (ت‪338:‬هـ)‪﴿( :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ﴾ آية‪ ،‬روى ابن أيب طلحة عن ابن عباس قال يقول ليس كمثله‬
‫يشء‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يعني ال إله إال اهلل‪.‬‬
‫وحقيقته يف اللغة وله الوصف األعىل)‪.‬‬
‫قال أبو الليث السمرقندي (ت‪375:‬هـ)‪﴿( :‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾ أي‪:‬‬
‫الصفة العليا‪ ،‬وهي شهادة أن ال إله إالَّ اهلل وحده ال رشيك له)‪.‬‬
‫وقال الثعلبي (ت‪427:‬هـ)‪﴿( :‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾ الصفة العليا وهي‬
‫التوحيد واإلخالص)‪.‬‬
‫وقال أبو املظفر السمعاين (ت‪489 :‬هـ)‪( :‬وقوله‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾‬
‫أي‪ :‬الصفة العليا‪ ،‬وذلك مثل قوهلم‪ :‬عامل وقادر ورازق وحي‪ ،‬وغري‬
‫هذا)‪.‬‬
‫وقال البغوي (ت‪516:‬هـ)‪﴿( :‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾ الصفة العليا‪ ،‬وهي‬
‫التوحيد وأنه ال إله إال هو‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫وقيل‪ :‬مجيع صفات اجلالل والكامل‪ ،‬من العلم‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والبقاء‪،‬‬
‫وغريها من الصفات)‪.‬‬
‫وقال ابن اجلوزي(ت‪597:‬هـ)‪( :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ﴾ قال‬
‫الصفة ال ُعليا ﴿ﭺ ﭻ ﭼ﴾ وهي أنَّه ال إِله غريه)‪.‬‬
‫املفرسون‪ :‬أي‪ :‬له ِّ‬
‫ٍ‬
‫معان‪:‬‬ ‫وامل َثل يف اللغة يطلق عىل‬
‫املعنى األول‪ :‬الصفة‪ ،‬وهذا املعنى كثري يف االستعامل‪ ،‬وله شواهد كثرية‪،‬‬
‫منها قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‪﴾...‬‬
‫وسمى ذلك الوصف َم َثالً‪.‬‬
‫اآلية فوصفها َّ‬
‫وروى أبو منصور األزهري عن حممد بن سالم اجلمحي قال‪( :‬أخربين‬
‫عمر بن أيب خليفة‪ ،‬قال‪ :‬سمعت مقاتال صاحب التفسري يسأل أبا عمرو‬
‫بن العالء عن قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ ما مثلها؟‬
‫قال‪﴿ :‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾‪.‬‬
‫َق َال‪َ :‬ما م َثلها؟ فسكَت َأ ُبو َع ْمرو‪.‬‬
‫قال‪ :‬فسألت يونس عنها‪ ،‬فقال‪َ « :‬م َث ُلها‪ِ :‬ص َفتُها» )‪.‬‬
‫قال حممد بن سالم‪( :‬ومثل ذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ﴾ أي ِصفتهم)‪.‬‬
‫املعنى الثاين‪ :‬اآلية‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾‬
‫أي آية هلم‪ ،‬كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ﴾‪ ،‬وقال‪﴿ :‬ﮕ ﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ﴾‪ ،‬قال ابن جرير‪﴿( :‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾‬
‫يقول‪ :‬وجعلناه آية لبني إرسائيل)‪ .‬وروى مثله عن قتادة‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫املعنى الثالث‪ :‬العربة والعظة‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ﴾‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪( :‬وقوله‪﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ﴾ يقول‪ :‬وعربة وعظة‬
‫يتعظ هبم َم ْن بعدهم من األمم‪ ،‬فينتهوا عن الكفر باهلل)‪ .‬وروى نحوه عن‬
‫جماهد وقتادة والسدي‪.‬‬
‫ومنه عىل أحد التفسريين قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾‪.‬‬
‫املعنى الرابع‪ :‬القول السائر‪ ،‬وفيه يقال‪( :‬فأرسلها مثالً) أي جعل كلمته‬
‫قوالً سائر ًا يتمثل الناس به يف نظائره‪.‬‬
‫املعنى اخلامس‪ :‬املثل املرضوب‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ﴾‪.‬‬
‫وهذه املعاين اخلمسة بينها تناسب واشرتاك يف قدر من املعنى‪ ،‬ولذلك‬
‫تنوعت عبارات املفرسين يف تفسري ما ورد فيه هذا اللفظ بام يدل عىل‬
‫تقارب بني هذه املعاين‪.‬‬
‫كشبه ِ‬
‫وش ْبه‪ .‬وامل َث ُل‬ ‫ِ‬
‫املرضوب‬
‫ُ‬ ‫قال ابن فارس‪( :‬وا َمل َثل‪ :‬امل ْثل أيض ًا‪َ َ ،‬‬
‫مور ًى به عن ِم ِثله يف املعنى)‪.‬‬
‫مأخو ٌذ من هذا‪ ،‬ألنَّه ُيذكَر َّ‬
‫وكالم السلف يف تفسري املثل األعىل غري خمالف ملا ذكره علامء اللغة‬
‫من معنى املثل‪ ،‬فإن اهلل تعاىل هو اإلله املتفرد بصفات الكامل املستحق ألن‬
‫يعبد وحده ال رشيك له‪ ،‬فكونه اإلله احلق يتضمن اتصافه بصفات الكامل‬
‫واستحقاقه ألعظم احلقوق‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫قال ابن كثري (ت‪774:‬هـ)‪﴿( :‬ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‬
‫أي‪ :‬النقص إنام ينسب إليهم‪﴿ ،‬ﮘ ﮙ ﮚ﴾ أي‪ :‬الكامل املطلق من‬
‫كل وجه‪ ،‬وهو منسوب إليه‪﴿ ،‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾)‪.‬‬
‫وقال يف تفسري آية الروم‪( :‬وقد أنشد بعض ا ُمل َفرسين عند ذكر هذه‬
‫اآلية لبعض أهل املعارف‪:‬‬

‫َّس�يم‬
‫أن يحُ َ ّركَ� ُه الن ُ‬ ‫ن�ب ْ‬ ‫َو ُج َ‬ ‫إ َذا َس�كَن الغ ُ‬
‫َدي�ر على َص َف�اء‬
‫�م ُس َت ْب�دو َوالن ُّجو ُم‬ ‫اك َّ‬
‫الش ْ‬ ‫ك ََذ َ‬ ‫تراء‬
‫السَم�اَ ء َبلا ْام َ‬
‫ت�رى في�ه َّ‬
‫ُي َ�رى يف َص ْفوه�ا اهللُ ال َع ُ‬
‫ظيم)‪.‬‬ ‫�وب ْأر َب�اب الت ََّجل‬ ‫ك َ‬
‫َ�ذاك ُق ُل ُ‬
‫وقال ابن رجب يف «فتح الباري»‪( :‬وحديث حارثة هو من هذا املعنى؛‬
‫بارزا‪ ،‬وكأين أنظر إىل أهل اجلنة يتزاورون‬
‫فإنه قال‪ :‬كأين أنظر إىل عرش ريب ً‬
‫فيها وإىل أهل النار يتعاوون فيها‪ ،‬فقال النبي صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬عرفت‬
‫فالزم‪َ ،‬ع ْبدٌ َّنور اهلل اإليامن يف قلبه» وهو حديث مرسل‪ ،‬وقد روي مسندا‬
‫بإسناد ضعيف‪.‬‬
‫وكذلك قول ابن عمر لعروة ملا خطب إليه ابنته يف الطواف فلم يرد‬
‫عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال‪« :‬كنا يف الطواف نتخايل اهلل بني أعيننا»‪.‬‬
‫ومنه األثر الذي ذكره الفضيل بن عياض‪( :‬يقول اهلل‪ :‬ما أنا مطلع عىل‬
‫أحبائي إذا جنّهم الليل جعلت أبصارهم يف قلوهبم‪ ،‬ومثلت نفيس بني‬
‫أعينهم فخاطبوين عىل املشاهدة وكلموين عىل حضوري‪.‬‬
‫وهبذا فرس املثل األعىل املذكور يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ﴾‪ ،‬ومثله قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬

‫‪- 42 -‬‬
‫ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ﴾‪ ،‬قال‬
‫ابن كعب وغريه من السلف‪ :‬مثل نوره يف قلب املؤمن‪.‬‬
‫فمن وصل إىل هذا املقام فقد وصل إىل هناية اإلحسان وصار اإليامن‬
‫لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه و َأنِ َس به يف خلوته وتنعم بذكره ومناجاته‬
‫ودعائه حتى ربام استوحش من خلقه‪ ،‬كام قال بعضهم‪ :‬عجبت للخليقة‬
‫كيف أنست بسواك؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوهبا بذكر‬
‫سواك‪.)...‬‬
‫إىل أن قال‪( :‬وقوله صىل اهلل عليه وسلم‪« :‬اعبد اهلل كأنك تراه» إشارة‬
‫إىل أن العابد يتخيل ذلك يف عبادته‪ ،‬ال أنه يراه حقيقة ال ببرصه وال بقلبه ‪.‬‬
‫وأما من زعم أن القلوب تصل يف الدنيا إىل رؤية اهلل عيانا كام تراه األبصار‬
‫يف اآلخرة كام يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية ‪ -‬فهو زعم باطل)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكره هو ما يسمى باملثال العلمي‪ ،‬وقد ذكره شيخ اإلسالم‬
‫ابن تيمية كثري ًا يف مواضع من كتبه‪ ،‬ومن أفضل من عرب عنه فيام اطلعت‬
‫عليه ابن القيم رمحه اهلل تعاىل إذ قال يف كتابه «شفاء العليل»‪( :‬إذا رشح اهلل‬
‫صدر عبده بنوره الذي يقذفه يف قلبه أراه يف ضوء ذلك النور حقائق األسامء‬
‫والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ ال يمكن أن يعرفها العبد عىل ما‬
‫هي عليه يف نفس األمر‪ ،‬وأراه يف ضوء ذلك النور حقائق اإليامن وحقائق‬
‫العبودية وما يصححها وما يفسدها وتفاوت معرفة األسامء والصفات‬
‫واإليامن واإلخالص وأحكام العبودية بحسب تفاوهتم يف هذا النور‪.‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾‪.‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾‪.‬‬
‫فيكشف لقلب املؤمن يف ضوء ذلك النور عن حقيقة املثل األعىل‬
‫مستويا عىل عرش اإليامن يف قلب العبد املؤمن؛ فيشهد بقلبه ر ًّبا عظيماً‬
‫رب من كل يشء يف ذاته ويف صفاته ويف أفعاله‪ ،‬الساموات‬ ‫قادرا أك َ‬
‫قاهرا ً‬
‫ً‬
‫السبع قبضة إحدى يديه‪ ،‬واألرضون السبع قبضة اليد األخرى‪ ،‬يمسك‬
‫الساموات عىل أصبع‪ ،‬واألرضني عىل أصبع‪ ،‬واجلبال عىل أصبع‪ ،‬والشجر‬
‫هيزهن ثم يقول‪ :‬أنا امللك‪.‬‬
‫عىل أصبع‪ ،‬والثرى عىل أصبع‪ ،‬ثم ُّ‬
‫فالساموات السبع يف ك ِّفه كخردلة يف كف العبد‪ ،‬حييط وال حياط به‪،‬‬
‫وحيرص خلقه وال حيرصونه‪ ،‬ويدركهم وال يدركونه‪ ،‬لو أن الناس من لدن‬
‫آدم إىل آخر اخللق قاموا ص ًفا واحدً ا ما أحاطوا به سبحانه‪.‬‬
‫ثم يشهده يف علمه فوق كل عليم‪ ،‬ويف قدرته فوق كل قدير‪ ،‬ويف جوده‬
‫فوق كل جواد‪ ،‬ويف رمحته فوق كل رحيم‪ ،‬ويف مجاله فوق كل مجيل‪ ،‬حتى‬
‫لو كان مجال اخلالئق كلهم عىل شخص واحد منهم ثم أعطى اخللق كلهم‬
‫مثل ذلك اجلامل لكانت نسبته إىل مجال الرب سبحانه دون نسبة رساج‬
‫ضعيف إىل ضوء الشمس‪.‬‬
‫ولو اجتمعت قوى اخلالئق عىل شخص واحد منهم ثم أعطى كل منهم‬
‫مثل تلك القوة لكانت نسبتها إىل قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إىل‬
‫محلة العرش‪.‬‬
‫‪- 44 -‬‬
‫ولو كان جودهم عىل رجل واحد وكل اخلالئق عىل ذلك اجلود لكانت‬
‫نسبته إىل جوده دون نسبة قطرة إىل البحر‪.‬‬
‫وكذلك علم اخلالئق إذا نسبة إىل علمه كان كنقرة عصفور من البحر‪.‬‬
‫وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبرصه وإرادته فلو فرض البحر‬
‫املحيط باألرض مداد حتيط به سبعة أبحر ومجيع أشجار األرض شيئا بعد‬
‫يشء أقالم لفني ذلك املداد واألقالم وال تفنى كلامته وال تنفد‪.‬‬
‫فهو أكرب يف علمه من كل عامل ويف قدرته من كل قادر‪ ،‬ويف جوده من‬
‫كل جواد‪ ،‬ويف غناه من كل غني‪ ،‬ويف علوه من كل ٍ‬
‫عال‪ ،‬ويف رمحته من‬
‫كل رحيم‪.‬‬
‫استوى عىل عرشه واستوىل عىل خلقه‪ ،‬متفرد بتدبري مملكته فال قبض‬
‫وال بسط وال منع وال ضالل وال سعادة وال شقاوة وال موت وال حياة‬
‫وال نفع وال رض إال بيده‪ ،‬ال مالك غريه وال مدبر سواه‪ ،‬ال يستقل أحد‬
‫معه بملك مثقال ذرة يف الساموات واألرض وال له رشكة يف ملكها‪ ،‬وال‬
‫حيتاج إىل وزير وال ظهري وال معني‪ ،‬وال يغيب فيخلفه غريه‪ ،‬وال يع َيا‬
‫فيعينه سواه‪ ،‬وال يتقدم أحد بالشفاعة بني يديه إال من بعد إذنه ملن شاء‬
‫ويف من شاء؛ فهو أول مشاهد املعرفة‪ ،‬ثم يرتقى منه إىل مشهد فوقه ال‬
‫يتم إال به وهو مشهد اإلهلية؛ فيشهده سبحانه متجلي ًا يف كامله بأمره وهنيه‬
‫ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله يف ثوابه فيشهد ر ًّبا قيو ًما متكلماً‬
‫آمرا ناه ًيا‪ ،‬حيب ويبغض ويرىض ويغضب‪ ،‬قد أرسل رسله وأنزل كتبه‬ ‫ً‬
‫وأقام عىل عباده احلجة البالغة‪ ،‬وأتم عليهم نعمته السابغة‪ ،‬هيدى من يشاء‬
‫منه نعمة وفضالً‪ ،‬ويضل من يشاء حكمة منه وعدالً‪ُ ،‬ينزل إليهم أوامره‪،‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫وتعرض عليه أعامهلم‪ ،‬مل خيلقهم عبث ًا‪ ،‬ومل يرتكهم سدً ى‪ ،‬بل َأ ْمره ٍ‬
‫جار‬
‫عليهم يف حركاهتم وسكناهتم وظواهرهم وبواطنهم؛ فلله عليهم ُحك ٌْم‬
‫ٍ‬
‫ولفظة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وحلظة‬ ‫ٍ‬
‫وتسكينة‬ ‫ٍ‬
‫حتريكة‬ ‫وأمر يف كل‬
‫َوينكشف له يف هذا النور عدله وحكمته ورمحته ولطفه وإحسانه‬
‫وبره يف رشعه وأحكامه‪ ،‬وأهنا أحكام رب رحيم حمسن لطيف حكيم‪،‬‬
‫قد هبرت حكمته العقول وأقرت هبا ِ‬
‫الف َطر‪ ،‬وشهدت ملنزهلا بالوحدانية‪،‬‬
‫وملن جاء هبا بالرسالة والنبوة‪ ،‬وينكشف له يف ضوء ذلك النور إثبات‬
‫صفات الكامل‪ ،‬وتنزهيه سبحانه عن النقص واملثال‪ ،‬وإن كل كامل يف‬
‫الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأوىل‪ ،‬وكل نقص وعيب فهو سبحانه‬
‫ٍ‬
‫متعال عنه‪.‬‬ ‫منزه‬
‫وينكشف له يف ضوء هذا النور حقائق املعاد واليوم اآلخر وما أخرب به‬
‫الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانًا‪ ،‬وكأنه خيرب عن اهلل وأسامئه وصفاته‬
‫وأمره وهنيه ووعده ووعيده‪ ،‬إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما‬
‫أخرب به؛ فمن أراد سبحانه هدايته رشح صدره هلذا فاتسع له وانفسح‪،‬‬
‫ومن أراد ضاللته جعل صدره من ذلك يف ضيق وحرج ال جيد فيه مسلكا‬
‫وال ً‬
‫منفذا‪ ،‬واهلل املوفق املعني‪.‬‬
‫وهذا الباب يكفي اللبيب يف معرفة القدر واحلكمة ويطلعه عىل العدل‬
‫والتوحيد الذي تضمنهام قوله‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ﴾ )ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬الأ�سلوب الوعظي‬

‫غرض املتكلم به وعظ‬


‫األسلوب الذي يكون ُ‬
‫ُ‬ ‫األسلوب الوعظي هو‬
‫املتل ّقني وتبصريهم باهلدى وتذكريهم بآيات اهلل‪ ،‬وترقيق القلوب‪ ،‬وتزكية‬
‫النفوس‪ ،‬واحلث عىل التقوى واإلحسان‪ ،‬والتحذير من الفتن واألهواء‪،‬‬
‫وغري ذلك من مقاصد الوعظ التي تقوم عىل التبصري والتذكري‪ ،‬والرتغيب‬
‫والرتهيب‪ ،‬والبشارة والنذارة‪.‬‬
‫وهو من أنفع األساليب وأحسنها أثر ًا‪ ،‬وأعظمها ثمرة إذا كان قائ ًام‬
‫عىل أصول علمية صحيحة‪ ،‬وقد بينّ اهلل تعاىل أن من مقاصد إنزال القرآن‬
‫وتذكريهم؛ فقال تعاىل‪ ﴿ :‬ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وعظ املؤمنني‬ ‫الكريم‬
‫ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ‬
‫ﮥ ﮦ ﮧ﴾‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫وح ْس ِن أثره ُذكر بصيغة احلرص املن ّبهة عىل‬
‫بل لعظمة هذا املقصد ُ‬
‫تقديمه والعناية به؛ فقال تعاىل‪ ﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾‪.‬‬
‫وقال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ‬
‫أمر بخطاب الوعظ والتذكري‪،‬‬ ‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ وهذا فيه ٌ‬
‫أن الوعظ منه‬ ‫وتنبي ٌه عىل أمهيته وحاجة األمة إليه‪ ،‬وفيه أيض ًا تنبيه عىل ّ‬
‫حسن ومنه غري حسن‪ ،‬واملأمور به هو الوعظ احلسن‪ ،‬وهو الذي ُيتّبع فيه‬
‫هدي النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ فيكون قائ ًام عىل العلم ورعاية املصلحة‬
‫الرشعية ملن يدعى به‪.‬‬
‫وأ ّما الوعظ القائم عىل اجلهل ونرش األقوال الباطلة واألخبار الواهية‬
‫والقصص اخلرافية؛ فهو وعظ غري حسن‪ ،‬وإن كان له تأثري عىل بعض‬
‫النفوس‪.‬‬
‫وكذلك الوعظ الذي ال تراعى فيه مصلحة امللت ّقي؛ فإنّه قد ُيسئ فيه‬
‫الواعظ من حيث حيتسب النفع؛ فخطاب اخلائف الوجل الذي يشفق عىل‬
‫نفسه من شدة اخلوف وربام اشتكى أذى شديدا من الوسوسة التي تدعوه‬
‫إىل اليأس من رمحة اهلل ال يصلح أن يكون كخطاب الذي يعرف منه التهتّك‬
‫واملجاهرة باملعايص‪ ،‬ويظهر منه الفرح هبا‪ ،‬والتفاخر بام أصاب منها‪.‬‬
‫وينبغي للواعظ أن يفقه املقصد األعظم من الوعظ وهو تعظيم اهلل تعاىل‬
‫وحمَ ْ ِده ومتجيده وتنزهيه عام ال يليق به؛ ودعوة الناس لتوحيده وعبادته‬
‫حم ّبة وتعظي ًام وخوف ًا ورجا ًء عىل طريقة التسديد واملقاربة‪.‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫يتوسع يف الرتغيب‬
‫الو ّعاظ من يتشدد يف الرتهيب والتحذير أو ّ‬ ‫فمن ُ‬
‫واالنبساط؛ فيذكر يف حديثه من األقوال الباطلة واآلثار الواهية أو التي‬
‫تفهم عىل غري وجهها ما يلقي به إىل أذهان املتلقني معاين ال تليق باهلل جل‬
‫ظ ممن َي ِع ُظهم‪.‬‬
‫أحق بالو ْع ِ‬
‫وعال؛ حتى يكون َّ َ‬

‫�أ�صناف الواعظني بالقر�آن‬


‫واملتك ّلمون يف تبليغ معاين القرآن الكريم بأسلوب الوعظ والتذكري عىل‬
‫أصناف‪:‬‬
‫‪ .1‬صنف تك ّلموا فيه بح ّقه؛ فجمعوا األهلية العلمية وإحسان اخلطاب‬
‫هبذا األسلوب‪ ،‬فانتفعوا ونفع اهلل هبم‪ ،‬وقد سلك هذا املسلك مجاعة من‬
‫العلامء يف بيان معاين القرآن للناس‪ ،‬وتعريفهم هبداه؛ فكتبوا الرسائل‬
‫والكتب يف تفسري بعض اآليات‪ ،‬وكانت لغتهم فيام كتبوا لغ ًة َو ْعظي ًة‬
‫مؤثرة‪ ،‬قائمة عىل أصول علمية صحيحة‪ ،‬ومن أشهر من كتب يف ذلك‪:‬‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب‪ ،‬والسعدي‪.‬‬
‫‪ .2‬وصنف تك ّلموا هبذا األسلوب وكانت هلم براعة يف خماطبة العا ّمة‬
‫به‪ ،‬وقدرة عىل تقريب املعاين‪ ،‬واسرتعاء االنتباه‪ ،‬وإيصال الفكرة إىل‬
‫املتل ّقني بطريقة مدهشة ممتعة‪ ،‬أو مؤثرة تأثري ًا بالغ ًا‪ ،‬لكن دخل عليهم‬
‫الغلط من جانب ضعف األهلية العلمية؛ فأشاعوا بعض األقوال الباطلة‪،‬‬
‫والروايات الواهية‪ ،‬والتأمالت اخلاطئة‪.‬‬
‫‪ .3‬وصنف تكلموا فيه بأهل ّية علمية حسنة لكن مل تكن هلم عناية‬
‫بإحسان األسلوب الوعظي؛ فدخل الضعف يف كلامهتم وعباراهتم‪،‬‬
‫ف تأثريها بسبب ضعف أسلوهبم‪.‬‬ ‫وض ُع َ‬
‫َ‬
‫‪- 49 -‬‬
‫ركائز الأ�سلوب الوعظي‪:‬‬
‫الوعظ قائم عىل ركيزتني‪:‬‬
‫إحدامها‪ :‬التبصري باهلدى فيام حُيتاج إليه‪ ،‬والتذكري به‪.‬‬
‫واألخرى‪ :‬استحثاث حمركات القلوب الثالثة (املحبة واخلوف‬
‫فإن هذه العبادات العظيمة هي أصل صالح القلوب‪ ،‬وإذا‬‫والرجاء) َّ‬
‫صلح القلب صلح اجلسد ك ّله‪.‬‬
‫‪ -‬فمن املؤمنني من يغلب عليه دافع املحبة فيطيع اهلل عز وجل حمبة له‪،‬‬
‫ُ‬
‫سلطان املحبة‬ ‫مع خوفه من اهلل ورجائه له‪ ،‬لكن الذي يغلب عىل قلبه‬
‫وصدق التقرب إىل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -‬ومن املؤمنني من يغلب عليه اخلوف من اهلل فيطيع اهلل خوف ًا منه؛‬
‫فالذي حيمله عىل فعل الطاعات واجتناب املحرمات غالب ًا إنام هو خوفه‬
‫من اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬ومن املؤمنني من يغلب عليه رجاء ثواب اهلل فتجد َّ‬
‫أن أكثر ما حيمله‬
‫عىل فعل الطاعات واجتناب املحرمات هو رجاء ثواب اهلل وفضله‪.‬‬
‫والكامل أن جيمع العبد بني هذه الثالثة‪ ،‬فيطيع اهلل حمبة له‪ ،‬وخوف ًا منه‪،‬‬
‫ورجاء لثوابه وفضله‪.‬‬
‫واملقصود أن وعظ العلامء قائم عىل هاتني الركيزتني‪:‬‬
‫فالركيزة األوىل تثمر رّ‬
‫التبص واليقني وحسن املعرفة باهلل تعاىل وهبداه‪.‬‬
‫والركيزة الثانية تثمر االستقامة والتقوى‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫واجلمع بينهام هو يف حقيقته مجع بني العلم والعمل‪ ،‬ألن صحة العلم‬
‫والتبص به وتذكّره‪ ،‬وصالح العمل‬
‫رّ‬ ‫تعرف هدى اهلل تعاىل‬
‫مرجعها إىل ّ‬
‫مرجعه إىل صالح اإلرادة الذي مبعثه صالح القلب‪.‬‬

‫ت�صحيح مقا�صد الوعظ‪:‬‬


‫يصح َح مقاصده يف الوعظ وأن جيتهد يف حتقيق‬
‫ِّ‬ ‫جيب عىل الواعظ أن‬
‫الصدق واإلخالص فيه‪.‬‬
‫وكل َع َم ٍل يعمله العبدُ صادق ًا خملص ًا هلل تعاىل فيه؛ فإنَّه ال يضيع عند‬
‫ُّ‬
‫ألن اجتامع الصدق واإلخالص حيصل به معنى اإلحسان‪ ،‬وقد‬ ‫اهلل تعاىل؛ َّ‬
‫قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾‪.‬‬
‫أن اإلمام أمحد ُذ َ‬
‫كر له الصدق‬ ‫وقد ذكر ابن مفلح يف «اآلداب الرشعية» َّ‬
‫واإلخالص فقال‪( :‬هبذا ارتفع القوم)‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪( :‬يكثر يف كالم مشايخ الدين وأئمته‬
‫ذكر الصدق واإلخالص حتى يقولون‪« :‬قل ملن ال يصدق ال يتعنَّى»‪،‬‬
‫ويقولون‪« :‬الصدق سيف اهلل يف األرض ما وضع عىل يشء إال قطعه»‪،‬‬
‫ويقول يوسف بن أسباط وغريه‪« :‬ما صدق اهللَ عبدٌ إال صنع له»‪ ،‬وأمثال‬
‫هذا كثري)‪.‬‬
‫وقال أيض ًا‪( :‬واهلل سبحانه يقرن يف كتابه بني الرشك والكذب كام يقرن‬
‫بني الصدق واإلخالص)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫واملقصود أن املوعظة اخلالصة الصادقة تنفع صاحبها واملخا َطبني هبا‬
‫بإذن اهلل؛ ويرجى أن ُيكتب هلا القبول والربكة وحسن األثر‪.‬‬
‫‪- 51 -‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن احلديث إذا خرج من القلب وقع يف القلب‪.‬‬
‫يصح أن ينويه الواعظ بموعظته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتصحيح املقاصد يشمل مجيع ما‬
‫وهو باب واسع‪ ،‬وأصله إخالص النية هلل تعاىل يف املوعظة‪ ،‬والصدق يف‬
‫اتّباع هداه وامتثال أمره‪.‬‬
‫ثم يصحب ذلك مقاصد صاحلة يثاب عليها ثواب ًا زائد ًا بحسب ن ّيته‬ ‫ّ‬
‫وعمله؛ ومن ذلك‪ :‬إرادة نفع املوعوظني‪ ،‬والتقرب إىل اهلل تعاىل بالدعوة‬
‫إليه عىل بصرية‪ ،‬والسعي يف اإلصالح‪ ،‬والداللة عىل أبواب اخلري‪،‬‬
‫والتعرض‬‫ّ‬ ‫واإلعانة عليه‪ ،‬وصدق الرغبة يف فضل اهلل تعاىل وبركاته‪،‬‬
‫لرمحاته ونفحاته‪ ،‬وإعداد النفس ومترينها لتصل إىل مرتبة اإلحسان يف‬
‫حيب ِمن كل‬
‫كل يشء‪ ،‬وهو ّ‬ ‫الوعظ‪ ،‬واهلل تعاىل قد كتب اإلحسان عىل ّ‬
‫عامل أن حُيسن عمله‪ ،‬وأخرب أنه مع املحسنني‪.‬‬
‫متنوعة‪ ،‬ويرجى أن يضاعف للواعظ‬
‫فاملقاصد الصاحلة يف الوعظ كثرية ّ‬
‫الصالح أجره بتعدد مقاصده الصاحلة‪.‬‬
‫وتوق مما يفسد النية‪ ،‬وحيبط العمل‪ ،‬وجيلب‬ ‫ٍّ‬ ‫وليكن الواعظ عىل حذر‬
‫املقت‪ ،‬ويضعف اإلرادة‪ ،‬من التسميع واملراءاة‪ ،‬والتنطع والتك ّلف‪،‬‬
‫ويعوق عن الدعوة إىل اهلل‬
‫ّ‬ ‫وخمالفة العمل للقول‪ ،‬واالستجابة ملا يث ّبط‬
‫تعاىل‪.‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫طرق حت�سني الأ�سلوب الوعظي‪:‬‬
‫للمفس أن جيتهد يف حتسني أسلوبه الوعظي يف التفسري ألنه‬ ‫رّ‬ ‫ينبغي‬
‫أرجى لكثرة االنتفاع بعلمه‪ ،‬وتوسيع دائرة املخاطبني به‪ ،‬وبقاء أثره يف‬
‫النفوس‪.‬‬
‫للمفس أن يعتني بام يؤ ّثر عىل نفس‬
‫رّ‬ ‫ولتحسني هذا األسلوب ينبغي‬
‫املخا َطب من حسن البيان عن معاين القرآن‪ ،‬والبعد عن التعقيد اللفظي‬
‫واملعنوي‪ ،‬وترك اإلسهاب فيام ال صلة له بمقام الوعظ‪ ،‬وحتلية خطابه‬
‫باآلثار واألخبار والقصص واألمثال ونحو ذلك مما له تأثري بالغ عىل‬
‫يتقوى به سلطان الوعظ عىل القلوب‪،‬‬ ‫القلوب؛ فيضيف إىل تفسريه ما ّ‬
‫وليحرص عىل االستزادة من القراءة يف الكتب والرسائل التي أحسن‬
‫أصحاهبا احلديث هبذا األسلوب‪ ،‬وكان حلديثهم قبول وتأثري؛ فيقتبس‬
‫حيسن به أسلوبه‪.‬‬
‫من طريقتهم ما ّ‬
‫يقوي تأثري الرسالة التفسريية الوعظية حتليتُها بالعبارات املوجزة‬
‫ومما ّ‬
‫وحك َِمهم ووصاياهم‪ ،‬وكذلك‬ ‫املؤ ّثرة التي تُنتقى من كالم أهل العلم ِ‬
‫ما ُينتقى القصص واألخبار التي فيها ِعبرَ ٌ وآيات‪ ،‬وهلا تأثري عىل نفوس‬
‫املتل ّقني‪.‬‬
‫استخراج الفوائد‬
‫ُ‬ ‫ومما يعني عىل حتسني األسلوب الوعظي أيض ًا‪:‬‬
‫السلوكية من اآليات ثم تضمينها يف الرسالة يف املواضع املناسبة‪.‬‬

‫‪- 53 -‬‬
‫االقت�صاد يف الوعظ‪:‬‬
‫أسلوب الوعظ حتتاجه مجيع النفوس بالقدر الذي يقيمها وال ُيم ّلها‪،‬‬
‫يرضها؛ فإن النفس إذا أمهل وعظها وتذكريها أدركتها الغفلة‬
‫وينفعها وال ّ‬
‫وتسلط عليها اجلهل واهلوى‪ ،‬وإذا ُأكثر عليها من الوعظ سئمت وأدبرت‬
‫ومل تنتفع باملوعظة‪ ،‬ولذلك كان من هدي النبي صىل اهلل عليه وس ّلم‬
‫وهدي أصحابه االقتصاد يف الوعظ والتذكري‪.‬‬
‫قال أبو وائل شقيق بن سلمة‪ :‬كان عبد اهلل [بن مسعود] يذكّر الناس يف‬
‫كل مخيس؛ فقال له رجل‪ :‬يا أبا عبد الرمحن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟‬
‫ِ‬
‫أكر ُه أن ُأم َّلكُم‪ ،‬وإين َّ‬
‫أختولكم‬ ‫قال‪« :‬أما إنه يمنعني من ذلك أين َ‬
‫يتخولنا هبا‪ ،‬خمافة السآمة‬
‫َّ‬ ‫باملوعظة‪ ،‬كام كان النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫علينا»‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫َ‬
‫املخاطبون ب�أ�سلوب الوعظ‪:‬‬
‫واخلاصة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫العامة‬
‫أسلوب الوعظ يناسب ّ‬
‫العامة فلتكن موعظته رَّ‬
‫ميسة قريبة ألفهامهم‪،‬‬ ‫املفس خياطب ّ‬‫‪ -‬فإذا كان رّ ُ‬
‫وليجتنب اإلسهاب فيام ال يناسب أفهامهم من املسائل العلمية‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا كان خياطب طالب العلم وأهله؛ فليكن وعظه مبني ًا عىل حترير‬
‫علمي حسن‪ ،‬وعناية بتقرير الفوائد السلوكية‪ ،‬وإفادة املخاطبني بام ينفعهم‬
‫من النقول والتقريرات ولطائف االستدالالت‪.‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫للمفس مسألة حيتاج فيها إىل استخدام أسلوب التحرير‬
‫رّ‬ ‫وقد تعرض‬
‫العلمي يف الرسالة الوعظية؛ فيكون حتريره عىل مرتبتني بحسب املتلقني‪:‬‬
‫‪ .1‬فإذا كان التفسري موجه ًا للعا ّمة فيكفي أن يذكر هلم اخلالصة يف‬
‫مسائل اخلالف القوي‪ ،‬وأما مسائل اخلالف الضعيف فاألوىل أن ال يشري‬
‫إليه إال لفائدة عارضة‪.‬‬
‫‪ .2‬وإذا كان التفسري موجه ًا لطالب العلم والدعاة والعلامء ّ‬
‫فيفصل فيه‬
‫بالقدر الذي حيتمله املقام‪ ،‬وقد حيتاج إىل التفصيل يف بعض املسائل لدفع‬
‫إشكال‪ ،‬أو بيان خطأ فهم شائع‪ ،‬أو بيان ع ّلة قول مشتهر ال ّ‬
‫يصح‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك من غري أن خيرج عن مقاصد األسلوب الوعظي‪.‬‬

‫عناية العلماء بالأ�سلوب الوعظي العلمي يف التف�سري‪:‬‬


‫عناية العلامء بأسلوب الوعظ العلمي عناية ظاهرة ب ّينة‪ ،‬وما كتبوه‬
‫من الرسائل والفصول التفسريية شاهد عىل ذلك‪ ،‬ومن أمثلة ما كُتب‬
‫باألسلوب الوعظي العلمي‪:‬‬
‫‪ .1‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‪ ﴾...‬البن القيم‪.‬‬
‫‪ .2‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫الأمثلة‪:‬‬
‫‪ .1‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ﴾‪.‬‬
‫‪ .2‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ﴾‬

‫التطبيق‪:‬‬
‫الوعظي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬اكتب رسالة تفسريية باألسلوب‬

‫‪- 56 -‬‬
‫املثال الأول‪ :‬ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾‬

‫إن احلمد هلل‪ ،‬نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من رشور‬


‫أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات أعاملنا‪ ،‬من هيده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال‬
‫هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال رشيك له‪ ،‬وأن حممدا عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬صىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه وسلم تسلي ًام كثري ًا‬

‫�أما بعد‪:‬‬
‫فهذه تأمالت يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ﴾‪.‬‬
‫تضمنت دالئل عظيمة ولطائف بديعة‪ ،‬تد ّبرها والتفكّر فيها‬ ‫هذه اآلية ّ‬
‫يزيد املؤمن إيامن ًا ويقين ًا وحم ّبة هلل تعاىل‪ ،‬وبصرية يف دينه‪.‬‬
‫فمن ذلك تصدير اآلية باألمر بالتبشري؛ ملا للتبشري من أثر عظيم عىل‬
‫ينمي الرجاء يف القلب ويع ّظمه‪ ،‬ويرشع أبواب‬ ‫النفس البرشية؛ فهو ّ‬
‫األمل‪ ،‬ويعني عىل االجتهاد يف العمل‪ ،‬ويدفع عن النفس كثري ًا من كيد‬
‫فإن عني البصرية إذا انفتحت عىل سبيل‬ ‫الشيطان وتوهينه وتضليله؛ ّ‬
‫الفضل والتكريم‪ ،‬وأيقنت بحسن عاقبة سلوك هذا السبيل مل تلتفت إىل‬
‫غريه‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫وتبشري اهلل تعاىل لعباده املؤمنني دليل من مجلة دالئل عىل عنايته تعاىل‬
‫هبم‪ ،‬وحمبته هلم‪ ،‬وهلذه العناية واملحبة آثارها العظيمة املباركة‪ ،‬فهي حمبة‬
‫من ال يعجزه يشء‪ ،‬وال خيفي عليه يشء‪ ،‬وال يغيض من ملكه كثر ُة عطائه‪.‬‬
‫ومما يدل عىل تأكيد عناية اهلل تعاىل هبم وحمبته لتبشريهم؛ أنه كرر األمر‬
‫مرارا أن يبرشهم‪ ،‬فورد قوله‬
‫عىل نبيه صىل اهلل عليه وسلم يف القرآن ً‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ﴾ هبذا اللفظ يف القرآن يف مخسة مواضع‪ ،‬وورد‬
‫أيضا يف موضعني‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ﴾‪ ،‬ويف موضعني‪﴿ :‬ﮚ‬ ‫ً‬
‫ﮛ﴾‪.‬‬
‫وما يقوم يف قلب املؤمن عند تل ّقيه البرشى من اهلل تعاىل ومن نب ّيه‬
‫جل وعال‪ ،‬وقد تضافرت‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم له اعتبار عظيم عند اهلل ّ‬
‫النصوص عىل أن تل ّقي البرشى بالقبول والشكر والفرح بفضل اهلل تعاىل‬
‫من دالئل اإليامن ومن موجبات رمحة اهلل تعاىل وحم ّبته ملن يقوم بقلبه تلك‬
‫العبادات التي حي ّبها اهلل‪.‬‬
‫أن اإلعراض عن تلك البرشى‪ ،‬ومقابلتها بالتشكيك والتهوين‪،‬‬ ‫كام ّ‬
‫من دالئل مرض القلب ونفاقه‪ ،‬واستحقاقه للحرمان من فضل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ّ‬
‫فإن نظر اهلل تعاىل إىل القلوب واألعامل ال إىل الصور واألجسام‪.‬‬
‫فاملؤمن الذي يتل ّقى البشارة التي تأتيه من اهلل بقلب منيب إىل اهلل فرح‬
‫بفضله ورمحته شاكر لنعمته يرجى له أن هيديه اهلل إىل فقه دالئل تلك‬
‫والتبص برشوطها وآثارها وآداهبا‬
‫رّ‬ ‫البرشى العظيمة‪ ،‬ومعرفة مقاصدها‪،‬‬
‫فإن فقه ذلك من العلم اجلليل‪ ،‬بل‬‫وما أراد اهلل تعاىل من عبده املؤمن هبا؛ ّ‬
‫خيتص اهلل به أهل البصائر وأويل األلباب‬
‫هو صفو العلم وخالصته‪ ،‬الذي ّ‬
‫‪- 58 -‬‬
‫أجل املعاين‪،‬‬ ‫فإن اخلطاب يف القرآن أرشف اخلطاب‪ ،‬ومعانيه ّ‬ ‫من عباده؛ ّ‬
‫وشأنه أعظم الشأن؛ فمن عقله وفقه دالئله ومقاصده فقد أويت عل ًام عظي ًام‬
‫وخري ًا كثري ًا‪.‬‬
‫وهذه اآلية قد اجتمع فيها عىل وجازة لفظها من اللطائف الدالة عىل‬
‫عظم هذه البرشى ما حيملنا عىل تد ّبرها والتفكر فيها وتذكري النفس‬
‫بمقاصدها ودالئلها حتى نكتسب اليقني بفضل اهلل تعاىل‪ ،‬وأنه فضل‬
‫كبري؛ فيحملنا هذا اليقني املبني عىل حسن التصديق عىل السعي لتحقيق‬
‫تضمنت اآلية‬
‫الرشط الذي تُنال به هذه البشارة العظيمة‪ ،‬وهو رشط قد ّ‬
‫بيانه‪.‬‬
‫توجه األمر بالتبشري إىل النبي صىل‬‫فأول اللطائف يف هذه اآلية؛ أن ّ‬
‫‪ّ :1‬‬
‫اهلل عليه وسلم ليب ّلغه أ ّمته‪ ،‬وتعيني الرسول الكريم واسطة لتبليغ هذا‬
‫األمر دليل عىل عظم شأنه؛ فاألمور العظيمة يخُ تار لتبليغها العظامء‪.‬‬
‫وبش املؤمنني ّ‬
‫بأن هلم من اهلل فض ً‬
‫ال‬ ‫‪ :2‬واللطيفة الثانية التوكيد ّ‬
‫بأن؛ رّ‬
‫كبري ًا‪ ،‬والتوكيد له أثر ال خيفى عىل نفس املخاطب‪.‬‬
‫‪ :3‬واللطيفة الثالثة‪ :‬تقديم الالم املشعرة باالختصاص «هلم» ال لغريهم‪،‬‬
‫فهو فضل خاص باملؤمنني‪ ،‬وهذه الالم مع داللتها عىل االختصاص ّ‬
‫تدل‬
‫عىل التمكني والتمليك بمقتىض هذا الوعد الكريم‪.‬‬
‫النص عىل ّ‬
‫أن هذا الفضل من اهلل تعاىل‪﴿ ،‬ﭪ‬ ‫‪ :4‬واللطيفة الرابعة‪ّ :‬‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫َ‬
‫دالئل عظيم َة‬ ‫فالنص بأن هذا الفضل من اهلل وبالصيغة املؤكدة حيمل‬
‫األثر يف قلوب املؤمنني‪:‬‬
‫• فمن ذلك‪ :‬داللتها عىل أن هذا الفضل فضل عظيم‪ ،‬جدّ عظيم؛ ألنه‬
‫فضل من اهلل‪ ،‬وليس من غريه‪ ،‬واهلل تعاىل عليم بام ُيريض عباده‪ ،‬وما تقر‬
‫به عيوهنم‪ ،‬وحتسن به عاقبتهم‪.‬‬
‫• ومن ذلك‪ :‬داللتها عىل حمبة اهلل تعاىل هلم؛ بأن نص عىل أن هذا الفضل‬
‫خصهم به‪.‬‬ ‫منه ‪-‬جل وعلاّ ‪ ،-‬وأنه اختصاص ّ‬
‫• ومن ذلك‪ :‬حتصيل اليقني بقدرة اهلل تعاىل عىل الوفاء بام وعدهم من‬
‫الفضل الكبري؛ فإنّه وعد من قادر ال يعجزه يشء‪.‬‬
‫• ومن ذلك‪ :‬أنه فضل يكفي عن وصفه وتعيني نوعه وأفراده‪ ،‬أنه فضل‬
‫من اهلل؛ وكل عطية موعودة‪ ،‬يزهنا الناس بقدر معطيها‪ ،‬أال ترون أن الناس‬
‫والتجار‪ ،‬ملظنة أن أعطياهتم جزلة‬
‫ّ‬ ‫يسترشفون ألعطيات الكرباء من امللوك‬
‫كثرية؟!‬
‫‪ :5‬واللطيفة اخلامسة‪ :‬التنكري يف قوله‪﴿ :‬ﭰ﴾ وهو تنكري إهبام‬
‫لغرض التفخيم والتعظيم‪.‬‬
‫يشوق النفس إليها‪.‬‬
‫وإهبام العطية املوعودة من قادر عليها ّ‬
‫أن ملك ًا من امللوك أو ثر ّيا من األثرياء وعد رج ً‬
‫ال بعط ّية فأهبمها‬ ‫فلو ّ‬
‫إهبام تفخيم؛ لعلم املوعود أنه إنام أهبمها لتعظيمها‪ ،‬فيحصل له يقني‬
‫بعظمها بسبب هذا اإلهبام‪ ،‬وتذهب آماله كل مذهب لثقته بقدرة ذلك‬
‫الثري عىل الوفاء باألعطيات العظيمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫امللك أو ذلك‬

‫‪- 60 -‬‬
‫ونحن نعلم أن هؤالء امللوك واألثرياء والكرباء ال يساوون يف ملك‬
‫اهلل عز وجل شي ًئا يذكر‪ ،‬ولو اجتمعوا مجي ًعا من أول ما خلق اهلل الدنيا إىل‬
‫أن تقوم الساعة عىل أن يعطوا أعطية عظيمة؛ فإهنم لن يبلغوا يف ملك اهلل‬
‫تعاىل نقرة عصفور يف بحر عظيم‪ ،‬وال ينقصون من ملك اهلل إال كام ينقص‬
‫املخيط إذا أدخل البحر ثم ُأخرج منه‪ ،‬فهذا القدر من املاء الذي يعلق‬
‫باإلبرة ال يساوي شي ًئا يذكر بالنسبة للبحر العظيم‪ ،‬فهذا مثل ما ينفقون‬
‫ولو اجتمعوا عليه بالنسبة لفضل اهلل تعاىل‪ ،‬فام ظنكم بفضل اهلل العظيم؟‬
‫‪ :6‬واللطيفة السادسة‪ :‬التعبري عنه بلفظ الفضل؛ فسماّ ه فضالً؛ ألنهّ م‬
‫يمتازون به عن غريهم‪ ،‬ويفضلوهنم به‪ ،‬والفضل يف اللغة الزيادة يف اخلري‪.‬‬
‫يقال‪ :‬رجل ذو فضل إذا كان له ما يفضل به غريه من أبواب اخلري؛ أي‬
‫يزيد به عىل غريه؛ من فضل مال أو جاه أو علم قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ﴾‪.‬‬
‫والنفس البرشية تتع ّلق بام ّ‬
‫حتب أن متتاز به من الفضل؛ فوعد اهلل عباده‬
‫ال كبري ًا‪.‬‬ ‫املؤمنني ّ‬
‫بأن هلم فض ً‬
‫‪ :7‬واللطيفة السابعة‪ :‬وصف هذا الفضل بأنّه كبري‪ ،‬فمع ما تقدّ م من‬
‫نص هنا عىل وصفه بأنّه فضل‬ ‫اللطائف وداللتها عىل عظم هذا الفضل ّ‬
‫كبري‪ ،‬وهذا الوصف يورث املؤمن يقينا بعظم هذا الفضل املوعود‪.‬‬
‫واملقصود أن التبشري هبذا الفضل‪ ،‬وبيان اختصاصه باملؤمنني‪ ،‬والنص‬
‫عىل أنه فضل من اهلل‪ ،‬وإهبام هذا الفضل إهبام تعظيم وتفخيم؛ ووصفه بأنّه‬
‫كبري‪ ،‬كل ذلك من دالئل تعظيمه لترشئب األعناق إليه‪ ،‬وتتطلع النفوس‬
‫إليه‪ ،‬ويزداد شوقها إليه‪ ،‬وزادهم اهلل عز وجل بيانًا وتشويق ًا بأن وصف‬
‫هذا الفضل بأنه كبري‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾‪.‬‬
‫‪- 61 -‬‬
‫ف�ضائل الإميان‬
‫وما وعد اهلل به املؤمنني من الفضل العظيم منه ما بينّ يف نصوص‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬ومنه ما أخفي تشويقا هلم‪ ،‬وألن عقوهلم يف هذه احلياة‬
‫الدنيا ال حتتمله‪ ،‬وأمانيهم ال تبلغه‪.‬‬
‫ومما حيسن أن نذكّر به أنفسنا ما ب ّينه اهلل تعاىل وب ّينه رسوله صىل اهلل‬
‫عليه وسلم من فضائل اإليامن يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهذا التذكر ينفع املؤمن‬
‫فيتبص وينيب إىل ر ّبه‪ ،‬وجيتهد يف حتقيق اإليامن واستكامله‪.‬‬
‫رّ‬
‫وقد قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗﯘ﴾‪.‬‬
‫فمام جعله اهلل للمؤمنني من الفضل الكبري‪:‬‬
‫‪ :1‬أعىل الفضائل وأرشفها رؤيته ّ‬
‫جل وعال يف دار الكرامة‪.‬‬
‫‪ :2‬ودخول جنّته دخول تكريم‪ ،‬والتمتع بام فيها من النعيم‪ ،‬واإلقامة‬
‫حتول عنها‪ ،‬وال نكد فيها‪﴿ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬ ‫فيها إقامة دائمة ال ّ‬
‫ﮩﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮰﮱﯓﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺ﴾‪.‬‬
‫‪ :3‬ومن أعظم فضائل اإليامن‪ :‬النجاة من سخط اهلل وعذابه‪ ،‬بل جعل‬
‫اهلل تعاىل ذلك حق ًا أوجبه عىل نفسه كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾‪.‬‬
‫‪- 62 -‬‬
‫‪ :4‬ومن ّ‬
‫أجل فضائل اإليامن وأرشفها‪ :‬مع ّية اهلل تعاىل لعباده املؤمنني كام‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾‪ ،‬وهذه املعية اخلاصة هلا آثارها‬
‫املباركة‪ ،‬وأعظم آثارها حم ّبة اهلل تعاىل هلم وحفظه وتأييده‪.‬‬
‫‪ :5‬ومن فضائل اإليامن‪ :‬ما جعله اهلل لعباده املؤمنني‪ ،‬من احلياة الط ّيبة‬
‫وقرة العني‪،‬‬‫املباركة بطمأنينة القلب‪ ،‬وسكينة النفس‪ ،‬وانرشاح الصدر‪ّ ،‬‬
‫وكفايتهم‪ ،‬والتك ّفل هلم بحسن عاقبتهم‪.‬‬
‫وإذا عىص العبد ر ّبه وأراد اهلل به خري ًا ّ‬
‫عجل له عقوبته يف الدنيا‪.‬‬
‫روى اإلمام أمحد وابن حبان واحلاكم والبيهقي عن عبد اهلل بن مغفل‪،‬‬
‫أن رجال لقي امرأة كانت بغيا يف اجلاهلية‪ ،‬فجعل يالعبها حتى بسط‬
‫يده إليها‪ ،‬فقالت املرأة‪ :‬مه‪ ،‬فإن اهلل عز وجل قد ذهب بالرشك وجاءنا‬
‫باإلسالم؛ فرتكها ووىل‪ ،‬وجعل ينظر إليها حتى أصاب وجهه احلائط‬
‫فشجه؛ ثم أتى النبي صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأخربه‪ ،‬فقال‪« :‬أنت عبد أراد‬
‫َّ‬
‫اهلل بك خريا‪ ،‬إذا أراد اهلل عز وجل بعبد خريا عجل له عقوبة ذنبه‪ ،‬وإذا‬
‫أراد بعبد رشا أمسك عليه بذنبه حتى يواىف به يوم القيامة كأنه عري»‪.‬‬
‫‪ :6‬ومن فضائل اإليامن‪ :‬ما أوجبه اهلل لعبده املؤمن من حرمة ح ّقه‪،‬‬
‫وتك ّفله بحفظ حقه واملدافعة عنه‪ ،‬وانتصاره له ممن يظلمه‪ ،‬أو يناله بكلمة‬
‫فكل ذلك حمفوظ للمؤمن ال‬ ‫فأكثر أو ييسء به الظ ّن به‪ ،‬أو يكيده بمكيدة‪ّ ،‬‬
‫يعجل اهلل لبعض املؤمنني بعض ح ّقهم من ذلك يف‬ ‫يضيع عند اهلل تعاىل‪ّ ،‬‬
‫احلياة الدنيا‪ ،‬ويدّ خره لبعضهم فيأتيهم موفور ًا يوم تنصب املوازين‪ ،‬وقد‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾‪.‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫‪ :7‬ومن فضائل اإليامن‪ :‬ما أكرم اهلل به عباده املؤمنني من إجابة دعواهتم‬
‫وذكره هلم إذا ذكروه‪ ،‬كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﯩ ﯪ﴾‪ ،‬وسامعه ملا يبثونه‬
‫من الشكوى واحلاجات‪ ،‬وإجابته هلم يف صلواهتم؛ ورمحته إياهم؛ بكشف‬
‫الغم عنهم‪ ،‬وهداية قلوهبم عند‬
‫كروهبم‪ ،‬وإنزال السكينة عليهم‪ ،‬وكشف ّ‬
‫نزول املصائب ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ‬
‫ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾‪.‬‬
‫‪ :8‬ومن فضائل اإليامن‪ :‬ما جعله اهلل من روابط األخوة اإليامنية بني‬
‫املؤمنني‪ ،‬وهذه األخوة هلا حقوق وآثار مباركة‪ ،‬فأوجب للمؤمن عىل‬
‫إخوانه حقوق ًا‪ ،‬وأ ّدهبم يف معاملته واحلديث معه‪.‬‬
‫‪ :9‬ومن فضائل اإليامن‪ :‬ما فتحه اهلل للمؤمن من أبواب اخلري الكثرية‪،‬‬
‫حتى جعله له من كلامت يسرية يقوهلا أجور ًا عظيمة مضاعفة‪ ،‬ومن‬
‫تأمل ما جعله اهلل من ثواب األذكار واألعامل الصاحلة واألجور العظيمة‬
‫املضاعفة عليها أدرك هذه احلقيقة‪ ،‬وأهنا من دالئل حم ّبة اهلل تعاىل لعباده‬
‫خاص باملؤمنني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املؤمنني‪ ،‬وحم ّبته ألن يستكثروا من فضله‪ ،‬وهذا الفضل‬
‫فغري املؤمن لو عمل من هذه األعامل ما عمل مل يقبله اهلل منه‪.‬‬
‫أن املؤمن ما بقي صحيح اإليامن فإنّه‬ ‫‪ :10‬ومن فضائل اإليامن‪ّ :‬‬
‫يستجاب دعاء املؤمنني له‪ ،‬دعاء املالئكة ودعاء األنبياء والصاحلني‪ ،‬من‬
‫ّأول ما خلق اهلل اخللق إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها؛ فهذا الدعوات‬
‫كل عبد مؤمن صحيح اإليامن‪ ،‬وحيرم منها من حرم اإليامن‪.‬‬ ‫املتق ّبلة يناهلا ّ‬
‫فهذه عرشة أنواع من فضائل اإليامن؛ ّ‬
‫كل نوع منها خري من الدنيا وما‬
‫فيها‪.‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫�شرط الفوز بالب�شارة يف هذه الآية‪:‬‬
‫أن هذه البرشى العظيمة بالفضل الكبري من اهلل تعاىل هلا‬ ‫واملقصود ّ‬
‫تضمنته هذه اآلية‪ ،‬وهو رشط اإليامن؛ فمن كان مؤمنا كان من‬ ‫رشط قد ّ‬
‫أهل هذه البرشى العظيمة‪ ،‬نسأل اهلل تعاىل أن جيعلنا من أهل اإليامن‪.‬‬
‫ومما ينبغي أن يعلم أن اإليامن يتفاضل‪ ،‬فأعظم املؤمنني نصيب ًا من هذه‬
‫البرشى أحسنهم إيامن ًا‪ ،‬واإليامن قول وعمل واعتقاد؛ وشأن إيامن القلب‬
‫عظيم وهو أصل صالح اجلوارح‪ ،‬فإذا صلح القلب صلح سائر اجلسد‪،‬‬
‫وكم من األعامل التي تتشابه يف صورهتا الظاهرة ويكون تفاوت الناس‬
‫فيها عند اهلل تعاىل تفاوت ًا عظي ًام يف املح ّبة واألجر والتكريم‪.‬‬
‫ومن تأ ّمل فضائل اإليامن العظيمة‪ ،‬وتأ ّمل عظيم اخلرسان ملن حرم هذه‬
‫الفضائل‪ ،‬وسوء عاقبته‪ ،‬علم سبب شدة خوف السلف رمحهم اهلل من أن‬
‫ُيسلب أحدهم اإليامن؛ فإن الفتن واملعايص قد تغري العبد فيسرتسل فيها‬
‫حتى يسلب اإليامن وينسلخ من الدين؛ فيشقى الشقاء العظيم‪ ،‬والعياذ‬
‫باهلل تعاىل‪.‬‬
‫بل قد يقول املرء كلمة ال يلقي هلا باالً هيوي هبا يف جهنّم‪ ،‬كام ّ‬
‫صح‬
‫بذلك احلديث عن أيب هريرة عن النبي صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬يف صحيح‬
‫البخاري وغريه‪.‬‬
‫ويف صحيح مسلم من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه أن رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم قال‪« :‬بادروا باألعامل فتنا كقطع الليل املظلم‪ ،‬يصبح‬
‫الرجل مؤمنا ويميس كافرا‪ ،‬أو يميس مؤمنا ويصبح كافرا‪ ،‬يبيع دينه‬
‫بعرض من الدنيا»‪.‬‬
‫‪- 65 -‬‬
‫وكان سفيان الثوري رمحه اهلل يبكي ويقول‪« :‬أخاف أن ُأسلب اإليامن‬
‫عند املوت»‪.‬‬
‫ولذلك اشتدّ حتذير النبي صىل اهلل عليه وسلم وحتذير العلامء من‬
‫التهاون يف الذنوب واملعايص؛ فإن العبد ما دام مرصّ ا عىل ذنب فهو عىل‬
‫وتعرضه لذنوب أعظم بسبب هتاونه‬ ‫ّ‬ ‫خطر من عقوبته؛ ومرض قلبه‪،‬‬
‫يف ذلك الذنب وإرصاره عليه؛ فاملعايص بريد النفاق؛ ومن كثر غشيانه‬
‫تفش النفاق فيه ما‬
‫للمعايص حصل له من مرض القلب أو موته بسبب يّ‬
‫خيشى عليه أن يزيد به حتى يموت قلبه بالكلية ويسلب اإليامن عند املوت‬
‫والعياذ باهلل تعاىل‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪( :‬إذا أرص عىل ترك ما أمر به من السنة‪ ،‬وفعل ما هني‬
‫عنه‪ ،‬فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات‪ ،‬حتى قد يصري فاسقا أو داعيا‬
‫إىل بدعة‪ ،‬وإن أرص عىل الكبائر‪ ،‬فقد خياف عليه أن يسلب اإليامن‪ ،‬فإن‬
‫البدع ال تزال خترج اإلنسان من صغري إىل كبري‪ ،‬حتى خترجه إىل اإلحلاد‬
‫والزندقة‪ ،‬كام وقع هذا لغري واحد ممن كان هلم أحوال من املكاشفات‬
‫والتأثريات)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫تعجل‪،‬‬
‫وقال ابن القيم رمحه اهلل‪( :‬اعلم أن العقوبات ختتلف فتارة َّ‬
‫وتارة َّ‬
‫تؤخر‪ ،‬وتارة جيمع اهلل عىل العايص بينهام‪.‬‬
‫وأشد العقوبات‪ :‬العقوبة بسلب اإليامن‪ ،‬ودوهنا العقوبة بموت القلب‪،‬‬
‫وحمو لذة الذكر والقراءة والدعاء واملناجاة منه‪ ،‬وربام د َّبت عقوبة القلب‬
‫فيه دبيب الظلمة إىل أن يمتلئ القلب هبام؛ فتعمى البصرية‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫وأهون العقوبة ما كان واقعا بالبدن يف الدنيا‪ ،‬وأهون منها ما وقع‬
‫باملال)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫اللهم أحينا مؤمنني‪ ،‬وتوفنا مؤمنني‪ ،‬وأحلقنا بالصاحلني‪ ،‬يا أرحم‬
‫الرامحني‪.‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫املثال الثاين‪ :‬ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾‬

‫أصدق عالمات اإلنابة‪ :‬طمأنينة قلب املؤمن بذكر اهلل‪ ،‬كام قال اهلل‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ‬
‫ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾‪.‬‬
‫قال قتادة‪( :‬سكنت إىل ذكر اهلل واستأنست به)‪ .‬رواه ابن جرير‪.‬‬
‫فطمأنينة القلب بذكر اهلل‪ :‬سكونه واستئناسه ورضاه بسبب ذكر اهلل‬
‫دل عليه‪.‬‬ ‫وما َّ‬
‫والباء فرست بالسببية واملصاحبة واملالبسة واالستعانة والتربك‪ ،‬وكلها‬
‫معان صحيحة تتسع هلا داللة هذا احلرف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫ملعان عظيمة‪،‬‬ ‫وهذه العالمة [طمأنينة قلب املؤمن بذكر اهلل] جامعة‬
‫فس به ِذكْر اهلل هنا‪:‬‬ ‫ّ‬
‫يدل عليها ما رّ‬
‫فقيل‪ :‬الذكر‪ :‬هو القرآن‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الذكر هو ذكر العبد ر َّبه بلسانه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الذكر هو ذكر العبد ر َّبه يف نفسه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الذكر هو التذكر الذي ينتفع به العبد من تفكره يف آيات اهلل‬
‫وخملوقاته‪.‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫جل وعال‪،‬‬ ‫وكل هذه املعاين صحيحة وهي من مدلول معنى ذكر اهلل َّ‬
‫وي ِزعه ثم َذك ََر‬ ‫ِ‬
‫وهبا حتصل طمأنينة القلب؛ فإن املؤمن إذا دمهه ما ُيزْع ُجه جُ ْ‬
‫ر َّبه يف نفسه وعلم أن له ر ّبا سميع ًا بصري ًا رحي ًام ودود ًا ال خيفى عليه يشء‬
‫وال يعجزه يشء وال خيذل أولياءه وال يتخلىَّ عنهم‪ ،‬بل هيدهيم وينرصهم‬
‫اطمأن قل ُبه ملا تذكَّر من أسامء اهلل وصفاته وآثارها التي ال‬ ‫َّ‬ ‫وحيفظهم‬
‫تتخلف عنها‪.‬‬
‫ذكر َو ْعدَ اهلل تعاىل ملن اتبع هداه أن ال خياف وال حيزن وأن ال يضل‬
‫‪ -‬وإذا َ‬
‫وال يشقى‪ ،‬وأن اهلل مع عباده املؤمنني املتقني حيبهم ويؤيدهم وينرصهم‪،‬‬
‫َّ‬
‫اطمأن قلبه بذكر اهلل‪ ،‬وصدق وعده‪.‬‬ ‫وخيرجهم من الظلامت إىل النور‪:‬‬
‫‪ -‬وإذا تال آيات اهلل وجد من نفسه طمأنينة هلا وفرح ًا هبا ورضا ينرشح‬
‫به الصدر وتسكن به النفس فيطمئ ُّن القلب بذكر اهلل الذي أنزله عىل‬
‫عباده؛ فيتبع العبد ما فيه من اهلدى‪ ،‬ويعترب بام فيه من العرب واملواعظ‪،‬‬
‫ويعقل ما فيه من األمثال‪ ،‬فيثبت بإذن ربه عىل احلق واهلدى فيزيده اهلل‬
‫ال وثبات ًا عىل احلق‪.‬‬
‫هدى وفض ً‬
‫تأمل آيات اهلل الكونية واعترب بام فيها من العرب العظيمة َّ‬
‫وتعرف‬ ‫‪ -‬وإذا َّ‬
‫هبا عىل أسامء اهلل وصفاته‪ ،‬وأن من خلق هذا الكون العظيم فإنه أعظم‬
‫منه‪ ،‬ومن سيرَّ هذه األفالك العظيمة بنظام دقيق عجيب حمكم حكيم‬
‫عليم قدير‪ ،‬وأن من يد ّبر أمور الكائنات عىل كثرهتا اهلائلة وتنوعها العظيم‬
‫واختالفها وتزامنها ال يشغله شأن عن شأن‪ ،‬وال يعجزه يشء‪ ،‬وال خيفى‬
‫عليه يشء‪.‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫وال يزال يتفكر يف نفسه ويف اآلفاق ويف ما يراه من عجائب خلق اهلل‬
‫تعاىل للكائنات وتدبريه ألحواهلا وتقديره ألوصافها وقسمه ألقواهتا‬
‫وأرزاقها وطبائعها وأخالقها‪.‬‬
‫فيكون هذا التفكر دلي ً‬
‫ال يذكّره باهلل فيطمئ ّن قلبه بذكر اهلل‪ ،‬ويثمر له‬
‫هذا التفكر والتذكر ما يثمر من خشية اهلل واإلنابة إليه وتعظيمه وحمبته‬
‫واخلضوع ألمره‪ ،‬وإخالص العبادة له وحده ال رشيك له‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويدل عىل هذا املعنى قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭹﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ﴾‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾‪.‬‬
‫جل وعال َع َص َمه اهلل من كيد‬‫‪ -‬وإذا َذك ََر العبدُ ر َّبه بلسانه مؤمن ًا باهلل َّ‬
‫الشيطان الوسواس اخلناس الذي يوسوس فإذا ذكر العبد ر َّبه خنس‪،‬‬
‫ِ‬
‫رش وسوسة نفسه األمارة بالسوء ورش وسوسة شياطني‬ ‫َو ُوقي أيض ًا َّ‬
‫اإلنس واجلن‪ ،‬وإذا اندفعت هذه الوساوس عن القلب و ُعصم العبد من‬
‫رشها اطمأن القلب لعصمته من األذى الذي كان يزعجه ويقلقه؛ فإن ما‬
‫معان متقاربة من التحزين والتيئيس‬‫ٍ‬ ‫حيجب الطمأنينة عن القلب راجع إىل‬
‫والتشكيك والتخويف وكلها إنام مصدرها رشور النفوس ووساوس‬
‫جل وعال‪.‬‬‫الشياطني؛ فإذا ُعصم العبد منها بقي القلب مطمئن ًا بذكر اهلل َّ‬

‫‪- 70 -‬‬
‫حق التأمل وجدهتا من أظهر عالمات اإلنابة‬
‫وهذه املعاين إذا تأملتها َّ‬
‫إىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وأن الشقي املحروم هو املعرض عن ذكر ربه‪ ،‬الذي إذا ذكر اهلل ْاش َم َأ َّز‬
‫قلبه‪ ،‬وإذا تليت عليه آياته أعرض عنها؛ فهذا من املجرمني كام قال اهلل‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ﴾‪.‬‬
‫ومن تأ َّمل العقوبات التي جعلها اهلل ملن أعرض عن ذكره علم شدة‬
‫انتقام اهلل َّ‬
‫جل وعال ممن ال ُينيب إليه وال يطمئ ّن قلبه بذكره‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾‪.‬‬
‫فتأ ّمل شدة هذه العقوبة‪ ،‬وكيف أهنا يف مقابل ما يم ّن اهلل به عىل أهل‬
‫اإلنابة واخلشية من فهم القرآن وفقهه واالنتفاع به‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪.‬‬
‫فانظر حفظني اهلل وإياك ووقانا أسباب سخطه ونقمته عظم هذا الذنب‬
‫وهو عمل قلبي وكيف أنه سبب هلذه العقوبات العظيمة من الشقاء‬
‫واخلذالن‪ ،‬وتسلط الشياطني‪ ،‬واحلرمان من اهلدى واالنتفاع بالقرآن‪،‬‬
‫وسبب ذلك‪ :‬اإلعراض عن ذكر اهلل‪.‬‬
‫وعالجه‪ :‬اإلنابة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وطمأنينة القلب بذكره‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫وتقديم اجلار واملجرور يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ‬
‫ﰓﰔ﴾ يدلك عىل أن القلوب ال طمأنينة هلا عىل احلقيقة إال بذكر‬
‫اهلل َّ‬
‫جل وعال؛ الذي هو ربهّ ا وخالقها ومعبودها احلق ال إله إال هو‪.‬‬
‫وأن ما حيصل ألهل املعصية واإلعراض من الفرح واالنبساط إنام‬ ‫َّ‬
‫هو سكرة نفسية وخ َّفة شيطانية كام يسكر صاحب ّ‬
‫اهلم باخلمر فيجد هلا‬
‫انبساط ًا فإذا صحا من سكرته عاد إليه َكدَ ُره‪ ،‬وحضرَ َ ُه ضي ُقه و ُّ‬
‫مهه أشد مما‬
‫مثل ِه أو أشد‪.‬‬
‫كان عليه؛ فيدفع أثر السك ِْر بِسك ٍْر ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬

‫‪- 72 -‬‬
‫الباب الرابع‪ :‬الأ�سلوب اال�ستنتاجي‬

‫األسلوب االستنتاجي هو أسلوب قائم عىل استنباط الفوائد واستخراج‬


‫املسائل واألحكام من اآليات القرآنية‪ ،‬سواء أكانت تلك الفوائد فقهية أم‬
‫عقدية أم سلوكية أم لغوية‪.‬‬
‫فاجلامع الذي جيمعها هو أسلوب االستنتاج واالستخراج واالستنباط‪،‬‬
‫ومن أهل العلم من تكون له براعة يف االستنباط يف هذه األنواع كلها‪،‬‬
‫ومنهم من تغلب عليه العناية بنوع منها‪.‬‬
‫وغرض هذا األسلوب األصيل هو إفادة املتلقي بتلك األحكام‬
‫والفوائد‪ ،‬وبيان داللة اآلية عليها‪ ،‬والتنبيه عىل سعة معاين ألفاظ القرآن‬
‫وتنوع دالالهتا‪.‬‬
‫ّ‬

‫فوائد الأ�سلوب اال�ستنتاجي‬


‫وإعامل لألدوات العلمية‬‫ٌ‬ ‫هذا األسلوب فيه مترين ذهني حسن‪،‬‬
‫التي تُستخرج هبا املسائل والفوائد واألحكام‪ ،‬ويعني عىل تنمية ملكة‬
‫املفس‪ ،‬ويزيد من تف ّطنه ملآخذ األقوال‬
‫ويقوي نظر رّ‬
‫االستنباط وتقويمها‪ّ ،‬‬
‫وعللها‪ ،‬وتقرير االستدالل هلا ونقدها‪.‬‬
‫يتمهر فيه فقد‬
‫وإذا أحسن الطالب التدرب عىل هذا األسلوب حتى ّ‬
‫أويت حظ ًا عظي ًام من علم التفسري‪.‬‬
‫‪- 73 -‬‬
‫طرق حت�سني الأ�سلوب اال�ستنتاجي‪:‬‬
‫ينبغي لطالب العلم أن جيتهد يف حتسني أسلوبه االستنتاجي من ثالثة‬
‫جوانب‪:‬‬
‫اجلانب األول‪ :‬تنمية اإلملام بأصول التفسري وقواعده وضوابطه‪ ،‬حتى‬
‫يكون كالمه يف التفسري منضبط ًا باألصول العلمية‪ ،‬عامل ًا بتحرير مسائل‬
‫التفسري‪ ،‬وطرق التعامل مع أقوال املفرسين واستدالالهتم‪ ،‬لئال يقع يف‬
‫كالمه خمالفة للمنهج العلمي الصحيح يف التفسري‪.‬‬
‫واجلانب الثاين‪ّ :‬‬
‫التأهل يف العلوم التي تتطلبها الرباعة يف االستنتاج؛‬
‫فيدرس خمترصات يف أصول الفقه والنحو والرصف والبالغة ومعاين‬
‫احلروف وفقه اللغة واالشتقاق‪ ،‬وهذه العلوم غن ّية باألدوات العلمية‬
‫التي تُستخرج هبا املسائل والفوائد‪ ،‬والتمكن من هذه العلوم من أعظم‬
‫املفسين يف االستنباط‪.‬‬
‫أسباب التفاوت بني رّ‬
‫وليحرص طالب العلم عند دراسته لتلك العلوم أن ينتفع بام يدرسه‬
‫منها يف التفسري‪.‬‬
‫التمرن عىل حماكاة أساليب العلامء يف االستنباط‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واجلانب الثالث‪:‬‬
‫والتعرف عىل طرق استخراجهم‬‫ّ‬ ‫واستعامل األدوات التي يستعملوهنا‪،‬‬
‫للمسائل والفوائد وتطبيق ما تع ّلمه عىل ما يدرسه من اآليات‪.‬‬
‫ومن أحسن ما يعينه عىل حتسني أسلوبه االستنتاجي قراءة الرسائل‬ ‫ِ‬
‫التفسريية التي تظهر فيها العناية هبذا األسلوب‪ ،‬والتم ّعن فيها‪.‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫َ‬
‫املخاطبون بالأ�سلوب اال�ستنتاجي‪:‬‬
‫عا ّمة املخاطبني هبذا األسلوب هم من أهل العلم وطالبه‪ ،‬ولذلك‬
‫ينبغي أن تكون لغة اخلطاب يف هذا األسلوب لغة علمية رصينة‪ ،‬وأن‬
‫املفس من املسائل والفوائد وجه ًا صحيح ًا يف االستدالل‬
‫يكون ملا يذكره رّ‬
‫والتمحل‪ ،‬والترسّ ع بإطالق األحكام‬
‫ّ‬ ‫واالستخراج‪ ،‬وأن يتجنب التك ّلف‬
‫نظر يف موافقتها للنصوص ومقاصد الرشيعة‪ ،‬ولذلك‬ ‫والدعاوى من غري ٍ‬
‫املفس ما استخرجه من املسائل والفوائد عىل النصوص‬‫ينبغي أن يعرض رّ ُ‬
‫فام خالفها فهو مردود‪.‬‬

‫عناية العلماء بالأ�سلوب اال�ستنتاجي‪:‬‬


‫عناية العلامء باألسلوب االستنتاجي ظاهرة جلية يف كتب التفسري‪،‬‬
‫والرسائل التفسريية‪ ،‬وقد وبرع يف االستنباط واالستخراج مجاعة من‬
‫العلامء منهم‪ :‬الشافعي وأبو عبيد القاسم بن سالم والبخاري وابن املنذر‬
‫وابن خزيمة وابن جرير الطربي والطحاوي وابن ح ّبان‪.‬‬
‫‪ -‬ثم أتى بعدهم‪ :‬شيخ اإلسالم ابن تيمية وابن القيم وابن كثري وابن‬
‫رجب وابن اجلزري‪.‬‬
‫ثم أتى بعدهم‪ :‬احلافظ ابن حجر والسيوطي‪ ،‬وله كتاب مفرد يف‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ذلك سماّ ه «اإلكليل يف استنباط التأويل»‪.‬‬
‫ثم أتى بعدهم‪ :‬شيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬وله عناية بالغة‬
‫‪ّ -‬‬
‫هبذا األسلوب يف عدد من رسائله يف التفسري‪ ،‬والشوكاين كذلك له عناية‬
‫حسنة باالستنباط‪.‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫ثم أتى بعدهم‪ :‬عبد الرمحن السعدي‪ ،‬وعبد الرمحن املع ّلمي‪ ،‬وحممد‬
‫ّ‬
‫األمني الشنقيطي‪ ،‬وابن عثيمني‪.‬‬
‫وهلؤالء العلامء وغريهم يف كتبهم ورسائلهم ما ّ‬
‫يدل عىل براعتهم يف‬
‫استخراج املسائل والفوائد واألحكام واللطائف‪.‬‬
‫املفسين يستعمله يف تفسري بعض اآليات من تفسريه فيم ّيزها‬
‫وبعض رّ‬
‫بمزيد عناية كام استنبط السعدي يف تفسريه آلية الوضوء نحو مخسني فائدة؛‬
‫فخرج يف هذا املوضع عن طريقته التي انتهجها يف تفسريه إىل األسلوب‬
‫االستنتاجي‪.‬‬
‫وله رسالة يف استنباط مائة فائدة من قصة يوسف‪ ،‬ولتلميذه الشيخ‬
‫حممد العثيمني رمحه اهلل عناية حسنة هبذا األسلوب يف مواضع من تفسريه‪.‬‬
‫ومن أمثلة ما كُتب هبذا األسلوب‪:‬‬
‫‪ .1‬الفوائد املستفادة من قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ﴾ البن الق ّيم رمحه اهلل‬
‫‪ .2‬تفسري صدر سورة املدثر لشيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب‪.‬‬
‫‪ .3‬تفسري آية الوضوء للشيخ عبد الرمحن بن نارص السعدي رمحه اهلل‪.‬‬
‫‪ .4‬القسم الثاين من تفسري آية الكريس للشيخ حممد بن صالح العثيمني‪.‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫�أمثلة‪:‬‬
‫‪ .1‬فوائد سلوكية من قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾‪.‬‬
‫‪ .2‬تأ ّمالت يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ﴾‪.‬‬

‫التطبيق‪:‬‬
‫‪ -‬اكتب رسالة تفسريية باألسلوب االستنتاجي‪.‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫املثال الأول‪ :‬فوائد �سلوكية من تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‪﴾...‬‬

‫احلمد هلل الذي له املحامد كلها‪ ،‬عىل كرمه وعلمه‪ ،‬وعىل عفوه وحلمه‪،‬‬
‫وعىل هدايته وتوفيقه‪ ،‬والصالة والسالم عىل خري عباده‪ ،‬وصفوة أوليائه‪،‬‬
‫نبينا حممد وعىل آله وصحبه وأتباعه أما بعد‪:‬‬
‫فهذه فوائد سلوكية من تدبر قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫تضمنه من هدايات جليلة القدر عظيمة النفع ملن و ّفقه‬
‫ﰂ﴾ وبيان ما َّ‬
‫اهلل‪:‬‬
‫رس السعادة وسبب الفوز‬ ‫تضمن هذه اآلية الكريمة بيان ّ‬ ‫ّ‬ ‫فمنها‪:‬‬
‫والفالح يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهو االستجابة هلل تعاىل؛ فاملستجيب هو‬
‫حل ْسنى‪.‬‬
‫السعيد الذي له كتب اهلل له ا ُ‬
‫ومنها‪ :‬ما يف هذه اآلية ضامن كريم ووعد صادق من اهلل تعاىل – واهلل ال‬
‫خيلف امليعاد ‪ -‬أن من استجاب له تعاىل فسيكون يف أحسن حال‪.‬‬
‫حلسنى يف اآلية عا ّم للحال واملآل عىل أظهر أقوال‬ ‫ومنها‪َّ :‬‬
‫أن وصف ا ُ‬
‫املفسين‪.‬‬
‫رّ‬
‫حلسنى» الرصيف عىل « ُف ْعىل» ٌّ‬
‫دال عىل بلوغ الغاية‬ ‫ومنها‪َّ :‬‬
‫أن بناء لفظ «ا ُ‬
‫والوثقى والعظمى‬‫احلسن حسن احلال وحسن اجلزاء‪ ،‬كام يقال‪ :‬املثىل ُ‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫والكربى للداللة عىل بلوغ منتهى الغاية يف ذلك‪.‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذا اجلزاء منحة خاصة ألهل االستجابة ال يشاركهم فيها‬
‫غريهم؛ فلهم هبا أعظم االمتياز عن غريهم‪َّ ،‬‬
‫دل عىل ذلك تقديم اجلار‬
‫واملجرور ﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾‪.‬‬
‫فدل ذلك عىل سبق بيان‬ ‫ومنها‪ :‬أن االستجابة ال تكون إال بعد دعوة َّ‬
‫اهلدى؛ وتك ّفل اهلل تعاىل به يف كل ما حيتاجه العبد وإنام عليه االستجابة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذا الثواب عام يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وسيجد املستجيب لربه‬
‫أحسن ما ُينال وأفضله يف امليزان الصحيح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اقرتان ذكر االستجابة بوصف الربوبية له دالالت عظيمة‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬أنه تعاىل هو ّ‬
‫رب املستجيبني ربوبية خاصة متأل قلوهبم ثقة‬
‫وطمأنينة بحسن هداه وصدق وعده‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أنه تعاىل أعلم بام يصلح عباده وأرحم هبم من أنفسهم؛ فقد‬
‫يمنعهم بعض ما يشتهونه وقاية هلم مما يفيض إىل شقاوهتم وهالكهم‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬أنه تعاىل هو ّ‬
‫الرب الكفيل ببيان هداه وإنجاز وعده‪.‬‬
‫أن املستجيب الصادق سيجد العون عىل االستجابة لر ّبه ّ‬
‫جل‬ ‫والرابعة‪َّ :‬‬
‫وعال‪.‬‬
‫ميسة ال حرج فيها َّ‬
‫دل عىل ذلك‬ ‫ومن الفوائد أيض ًا‪ :‬أن هذه االستجابة رَّ‬
‫استصحاب أصل رفع احلرج يف ّ‬
‫كل ما يأمر اهلل به عباده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن استجابة العبد جيب أن تكون خالصة لربه ّ‬
‫جل وعال ﴿ﯿ‬
‫دل عىل ذلك معنى االختصاص يف حرف الالم يف قوله‬ ‫ﰀ ﰁ﴾ ّ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﰁ﴾ أي ال لغريه؛ فيعمل الطاعات امتثاالً ألمر اهلل وابتغاء وجهه‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫دل عىل ذلك‬ ‫ومنها‪ :‬أن استجابة العباد لربهّ م عىل درجات متفاوتة‪ّ ،‬‬
‫ظهور التفاوت يف حتقيق االستجابة؛ فمن املستجيبني من هو حمسن يف‬
‫استجابته مسارع هبا إىل اهلل تعاىل؛ فله أحسن اجلزاء وأحسن العاقبة‪ ،‬ومنهم‬
‫املقتصد الذي يستجيب استجابة تربأ هبا ُعهدته‪ ،‬فينال بذلك حسن ثواب‬
‫املتّقني‪ ،‬ومنهم الظامل لنفسه الذي يف استجابته نقص وتفريط؛ فيستجيب‬
‫ويقص يف بعض ما جيب عليه فيام‬
‫رّ‬ ‫له يف أصل الدين وما حيفظ به إسالمه‬
‫وراء ذلك؛ فله من حسن العاقبة ما وعد اهلل به أهل اإلسالم من النجاة‬
‫عذب‪.‬‬‫من النار ودخول اجلنّة وإن ُع ّذب قبل ذلك ما ّ‬
‫فهؤالء كلهم من أهل االستجابة‪ ،‬والتفاضل بينهم يف احلال واجلزاء‬
‫عظيم كام تفاضلوا يف االستجابة‪.‬‬
‫فتبينّ بذلك أن أسعد الناس بأحسن األحوال واجلزاء أحسنهم استجابة‬
‫لربه ّ‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫وأ ّما الذين أخرب اهلل عنهم بقوله‪﴿ :‬ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ‬
‫ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾ فهم الذين مل يستجيبوا له يف أصل الدين وهم‬
‫الكفار واملنافقون‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬
‫أن العبدَ لو تأ ّمل أسباب شقائه وسوء حاله لوجده راجع ًا إىل‬ ‫ومنها‪َّ :‬‬
‫أصل واحد‪ ،‬وهو تقصريه يف استجابته لربه فساءت حاله ملا أساء‪.‬‬
‫ب أن‬ ‫ِ‬ ‫ومنها‪َّ :‬‬
‫أن كل أمر يعرتض العبد يقابله هدى من اهلل تعاىل حُي ُّ‬
‫عرض نفسه‬ ‫يستجاب له فيه؛ فمن استجاب فاز باحلسنى ومن أعرض ّ‬
‫لسوء احلال والعقاب‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫ومنها‪َّ :‬‬
‫أن يقني العبد بأن مدار سعادته وفوزه وفالحه عىل استجابته هلل‬
‫تعاىل جيعله دائم الفكر فيام يريض ربه وما حيب أن يستجاب له فيه‪ ،‬وهنا‬
‫رس العبودية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنَّه من ا ُمل َحال رشعا وعق ً‬
‫ال عند أهل العلم واإليامن أن تكون‬
‫عاقبة املستجيب لربه سيئة‪ ،‬فمن أيقن هبذا أحسن الظ ّن باهلل‪ ،‬وريض به‬
‫وتيس له حتقيق التوكل‪.‬‬ ‫ر ّبا‪ ،‬رّ‬
‫فهذه بضع عرشة فائدة سلوكية يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫تبص هبا وفقه معانيها وعرف قدرها تب َّينت له مناسبة قول‬
‫ﰂ﴾ من رَّ‬
‫اهلل تعاىل يف اآلية التي تليها‪﴿ :‬ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ‬
‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾‪.‬‬
‫هذا مما فتح اهلل تعاىل به من بيان بعض ما تضمنته هذه اآلية من الفوائد‬
‫السلوكية عىل تقصري يف الرشح وقصور يف التعبري عن دالئل هذه الكلمة‬
‫العظيمة‪ ،‬أسأل اهلل تعاىل أن يتقبلها ويبارك فيها إنه محيد جميد‪.‬‬
‫وأستغفر اهلل تعاىل من اخلطأ والزلل‪ ،‬وصىل اهلل وس ّلم عىل نب ّينا حممد‬
‫وعىل آله وصحبه‪.‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫املثال الثاين‪ :‬ت�أمالت يف قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾‬

‫تضمنت هذه اآلية اجلليلة عىل وجازة ألفاظها آداب جمادلة أهل‬
‫الباطل‪ ،‬وبيان رشوط متام الغلبة‪ ،‬والتنبيه عىل العلل التي يخُ ذل هبا بعض‬
‫وتضمنت وعد ًا بكرامة عظيمة ملن التزموا هذه اآلداب وحققوا‬
‫ّ‬ ‫املجادلني‪،‬‬
‫تلك الرشوط‪.‬‬
‫‪ :1‬فأول هذه اآلداب أن يستشعر املجادل أن الذي يقذف هو اهلل‪ ،‬وأنه‬
‫جمرد سبب وأداة ُينرص هبا احلق‪ ،‬وغاية ما يرجو من الرشف أن يكون سبب ًا‬
‫صاحل ًا؛ فإن اهلل تعاىل أسند القذف إليه‪ ،‬وقال يف حماجة إبراهيم لقومه‪:‬‬
‫﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾‪.‬‬
‫ومن ظ َّن أنه هو الذي يستعيل بحجته ودهائه وتفننه يف أساليب البالغة‬
‫فليشفق عىل نفسه من اخلذالن واالستدراج‪ ،‬وذلك لضعف توكله عىل‬
‫اهلل واستعانته به‪ ،‬ويكثر يف هذا الصنف أهنم إذا حصل هلم يشء من العلو‬
‫الظاهر لضعف اخلصم أصاهبم من الزهو والعجب ما يذهب األجر‬
‫وجيلب املقت‪.‬‬
‫وهذا األدب اجلليل حيمل العبد عىل حتقيق التوكل عىل اهلل واالستعانة‬
‫به‪ ،‬والتواضع جلالله وعظمته‪ ،‬واستلهام هدايته وتوفيقه‪ ،‬وأن يستشعر‬
‫العبد أنه جندي من جنود احلق؛ يرشف هبذه النسبة‪ ،‬ويطمئن لضامن اهلل‬
‫الغلبة جلنده؛ فيعتقد أن اهلل حسبه وكافيه‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫فيكون أكثر ما خيشاه أن يستزله الشيطان ببعض ما كسب؛ فيدفعه‬
‫ذلك لتحقيق االستقامة وإتباعها باالستغفار وتكرار التوبة؛ فاملصاولة‬
‫العلمية ال تقل عن املصاولة عىل أرض القتال؛ وقد أثنى اهلل عىل املحسنني‬
‫يف اجلهاد بقوله‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱﯲ ﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺ ﯻﯼ‬
‫ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾‪.‬‬
‫فهؤالء من املحسنني يف جهادهم‪.‬‬
‫صح يف قلب املؤمن املجادل باحلق أثمر فيه عبادات‬‫‪ :2‬أن هذا املقام إذا ّ‬
‫قلبية عظيمة من املح ّبة واخلوف والرجاء واخلشية واإلنابة والتوكل‬
‫واالستعانة واالستعاذة وغريها فتجتمع يف قلبه اجتامع ًا حسن ًا‪ ،‬وهذه‬
‫صح عن النبي‬‫أحب إىل اهلل تعاىل من أعامل العبد الظاهرة‪ ،‬وقد ّ‬‫ّ‬ ‫األعامل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ّ‬
‫أن اهلل ينظر إىل القلوب‬
‫كام يف صحيح مسلم من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه أن النبي صىل‬
‫اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إن اهلل ال ينظر إىل صوركم وأموالكم ولكن ينظر إىل‬
‫قلوبكم وأعاملكم»‪.‬‬
‫‪ :3‬أن يتمحض املؤمن املجادل للحق‪ ،‬ويكون رده عىل حمض الباطل؛‬
‫ولذلك قد يتجادل خصامن مع أحدمها حق كثري وباطل قليل‪ ،‬واآلخر‬
‫بعكسه؛ فال (يدمغ) أحدمها اآلخر‪ ،‬وإنام يدمغ حق كل منهام باطل‬
‫صاحبه؛ فإن يف احلق قوة ال تقبل اإلزهاق وإن كان مع صاحبه باطل كثري‪.‬‬
‫وقد قال النبي يف الشيطان وهو رأس الباطل‪« :‬صدقك وهو كذوب»‪.‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫ولذلك فإن من اإلنصاف اعرتافك باحلق الذي قال به خصمك يف‬
‫املجادلة وإن كان قليالً‪ ،‬ثم ترد باطله‪ ،‬وأما ردك حقه بحجة كثرة باطله‬
‫فهو نوع مكابرة قد ختذل بسببها‪ ،‬وقد يتأخر النرص‪.‬‬
‫‪ :4‬أن يتوجه املجادل باحلجة عىل أصل الباطل ﴿ﮗ﴾ وال ينشغل‬
‫باألطراف والقضايا اجلانبية التي لو بينَّ بطالهنا بقي غريها ومنبعها الذي‬
‫يو ّلد أطراف ًا أخرى‪.‬‬
‫‪ :5‬احلق فيه ّ‬
‫علو مالزم له‪ ،‬والباطل سافل بذاته‪ ،‬وإنام يرتفع باإلثارة؛‬
‫كالغبار والدخان إذا أثريا آذا وأزكام وربام حجبا رؤية احلق عن الذين ال‬
‫يعرفون معامله؛ فإذا ُعرف مصدر إثارة الباطل‪ ،‬ووجهت إليه قذيفة احلق‬
‫عاد الباطل إىل أصله ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾‪.‬‬
‫بعلو احلق وقوته تكسبك طمأنينة وثقة ومتاسك ًا وثباتا‬‫‪ :6‬معرفتك ّ‬
‫يفتقده املجادل بالباطل‪ ،‬فإن املجادل بالباطل متح ّفز لنرصة باطله دائب‬
‫عىل إثارته حتى ال خيبو فيعود ألصله‪ ،‬فهو مالزم للقلق واالضطراب‬
‫والتخوف‪ ،‬وأما صاحب احلق فإنه ينظر إىل الباطل من علو فيعرف مصدر‬
‫إثارته وأصل شبهته فيوجه إليه قذيفة احلق فيدمغه‪.‬‬
‫لعلو صاحبه‪ ،‬وما الناس إال فريقان‪ :‬فريق هم أهل‬ ‫‪ :7‬علو احلق مستلزم ّ‬
‫احلق‪ ،‬وفريق هم أهل الباطل‪ ،‬فمن كان من أهل احلق القائمني به كان موعود ًا‬
‫بالعزة والرفعة والعلو كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ﴾‪.‬‬
‫وملا َأ ِذن اهلل تعاىل بالقتال يف سبيله وحث املؤمنني عليه ووعدهم بالنرص‬
‫ع َّلل ذلك بقوله‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾‪.‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫فكونه تعاىل هو احلق يقتيض أن ال يقر الباطل؛ بل ال بد أن ينرص احلق‬
‫ويعليه عىل الباطل‪.‬‬
‫َو َختْم اآلية باالسمني اجلليلني ﴿ﯘ ﯙ﴾ هلام أثرمها العظيم يف‬
‫بيان هذا التعليل؛ فهو العيل بذاته وأسامئه وصفاته‪ ،‬ودينه أعىل األديان‪،‬‬
‫وعباده املؤمنون هم األعلون‪ ،‬ومن سواهم فهم األذلون األرذلون‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يغلب األذل األعز‪ ،‬واال األدنى األعىل‪.‬‬
‫وهو ﴿ﯙ﴾ الذي ال أكرب منه؛ فهو أكرب من كل يشء بذاته‬
‫وصفاته‪ ،‬وهذه الصفة اجلليلة تستلزم ما تستلزم من صفات جليلة أخرى‬
‫كالقوة والقدرة والقهر واجلربوت وامللكوت وشدة البطش وغريها‪.‬‬
‫فكونه العيل يقتيض عدم خذالهنم‪.‬‬
‫وكون الكبري يقتيض عدم عجزه عن نرصهتم‪.‬‬
‫فتحصل للمؤمن بذلك سكينة وطمأنينة بانتصار احلق وعلوه وغلبة‬
‫جند اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وهذه التهيئة النفسية هلا أثر عظيم يف حسن اإلعداد للجهاد‪ ،‬وأخذ‬
‫العدة له‪ ،‬والتبرص بمواضع قوة اخلصم ومصادر إمداده‪ ،‬فيوجه عنايته‬
‫إليه‪.‬‬
‫للحق‪ ،‬وكان دفعه ملحض الباطل رشف بالنسبة إىل‬ ‫ّ‬ ‫متحض‬‫‪ :8‬أن من ّ‬
‫حزب اهلل تعاىل وكان ول ّيا من أولياء اهلل ّ‬
‫فإن اهلل تعاىل هو احلق‪ ،‬وهو يتولىّ‬
‫أهل احلق‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫احل َجاج‬
‫الباب اخلام�س‪� :‬أ�سلوب ِ‬

‫اج ًة‬ ‫أحاج و ُأ َح ِ‬ ‫ِ‬


‫ـح َّ‬
‫اج ُج ُم َ‬ ‫ُّ‬ ‫حاج ْج ُت‬
‫َ‬ ‫اج بكرس احلاء مصدر‬
‫احل َج ُ‬
‫ِ‬
‫وح َجاج ًا‪.‬‬
‫حل َّجة‪ ،‬ومنه ما يف الصحيحني من حديث أيب‬
‫وحج ْجتُه أي غلبتُه با ُ‬
‫َ‬
‫هريرة مرفوع ًا‪َ :‬‬
‫«فح َّج آد ُم موسى»‪.‬‬
‫واحلج ُة الربهان عىل الصواب‪ ،‬واملحاج هو الذي حياول إقامة احلجج‬
‫َّ‬
‫صحة قوله وإبطال قول خصمه‪.‬‬
‫والرباهني عىل ّ‬
‫وأسلوب ِ‬
‫احلجاج من األساليب التي اعتنى هبا العلامء عناية بالغة‬
‫يف مقام االنتصار للرشيعة‪ ،‬والر ّد عىل املخالفني من أهل امللل والنحل‪،‬‬
‫احلق بأد ّلته‪.‬‬
‫وكشف الشبهات‪ ،‬وتفنيد احلجج الباطلة‪ ،‬وتقرير ّ‬
‫وهذا األسلوب يتط ّلب معرفة حسنة بأصول الدين‪ ،‬ودراية بمنهج‬
‫أهل السنة واجلامعة يف االستدالل ومعاملة املخالفني‪ ،‬وبصرية بأقوال‬
‫املخالفني وأصوهلا‪ ،‬وطرق ر ّدها‪.‬‬
‫وهو من مقامات اجلهاد بالقرآن ملا يرتتب عليه من إظهار حجج القرآن‬
‫وتبيينها‪ ،‬وإقامة الرباهني عىل بطالن ما خيالف هدى القرآن‪ ،‬وقد قال اهلل‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾‪.‬‬
‫ومن ُفتح له باب اإلحسان يف هذا األسلوب فهو من املجاهدين بالقرآن‪.‬‬

‫‪- 87 -‬‬
‫�آداب �أ�سلوب احلجاج‪:‬‬
‫نت‬
‫املفس أن يعتني بمراعاهتا‪ ،‬وقد ب ّي ُ‬
‫هلذا األسلوب أحكام وآداب عىل رّ‬
‫بعضها يف رسالة تقدمت اإلشارة إليها بعنوان‪ :‬تأمالت يف قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾‪.‬‬

‫طرق حت�سني �أ�سلوب احلجاج‪:‬‬


‫أسلوب احلجاج قائم عىل تقرير األد ّلة‪ ،‬واإللزام باحلجة‪ ،‬وتزييف‬
‫الباطل‪ ،‬ولذلك حُيتاج فيه إىل خماطبة العقل للتبصري‪ ،‬وخماطبة القلب‬
‫للتأثري‪.‬‬
‫واملحاج البارع هو الذي حُيسن اجلمع بينهام‪.‬‬
‫ُّ‬
‫للمفس أن يعتني بدراسة حجج‬ ‫رّ‬ ‫ولتحسني هذا األسلوب ينبغي‬
‫القرآن‪ ،‬وطرق تقريرها‪ ،‬وأن يعتني بقراءة رسائل األئمة التي كتبت هبذا‬
‫األسلوب وردودهم عىل املخالفني ومناظراهتم‪ ،‬وأن يقتبس من طرائقهم‬
‫وينمي به ملكتَه يف احلجاج‪.‬‬
‫حجته‪ّ ،‬‬‫تتقوى به ّ‬
‫ما َّ‬
‫يتعرف األدوات العلمية التي يستعملها العلامء يف احلجاج‪ ،‬ومن‬‫وأن َّ‬
‫أشهرها‪ :‬السرب والتقسيم‪ ،‬واملنع والتسليم‪ ،‬وبراعة التعليل‪ ،‬وإعامل‬
‫باملوجب‪ ،‬واإلرضاب واالنتقال‪ ،‬واملعارضة واملناقضة‪،‬‬
‫َ‬ ‫املفهوم‪ ،‬والقول‬
‫واملجاراة واإلعثار‪ ،‬والتبكيت والتشنيع‪.‬‬
‫احلق‬ ‫ِ‬
‫اجلدال احلسن إلظهار ّ‬ ‫وغري ذلك من األدوات التي تُستعمل يف‬
‫ودمغ الباطل‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫وهذه األدوات العلمية من أهم ما حيتاج إليه طالب العلم يف املناظرة‬
‫واملجادلة‪ ،‬ويستعمل العلامء بعضها يف عدد من العلوم مع اختالف يف‬
‫التطبيق يف كل علم‪.‬‬
‫‪ -‬فالسرب والتقسيم يف علم اجلدل واملناظرة يراد به حرص األقوال‬
‫املمكنة يف املسألة بطريقة من طرق احلرص كالقسمة العقلية أو االستقراء‬
‫التام أو غريمها؛ وهذا اجلزء هو التقسيم‪ ،‬والسرب أن يأيت إىل ّ‬
‫كل قول منها‬
‫فيبطله بام يظهر به بطالنه إىل أن يبقى قول واحد هو احلق‪.‬‬
‫وتسمى هذه الطريقة أيض ًا بالتقسيم والرتديد‪ ،‬وتسمى يف علم املنطق‬
‫بالرشطي املنفصل‪.‬‬
‫ويم ّثل مجاعة من العلامء هلذه األداة بقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ فحرصت االحتامالت يف ثالثة؛ األوالن مذكوران‬
‫بام يبطلهام وهو االستفهام اإلنكاري‪ ،‬والثالث هو احلق‪.‬‬
‫فاالحتامل األول‪ :‬أهنم ُوجدوا من غري خالق هلم‪ ،‬وهذا ظاهر البطالن؛‬
‫متفق عىل بطالنه‪.‬‬
‫واالحتامل الثاين‪ :‬أهنم هم الذين خلقوا أنفسهم‪ ،‬وهذا باطل أيض ًا‬
‫ببداهة العقل أن املعدوم ال خيلق نفسه‪.‬‬
‫فتعينّ االحتامل الثالث‪ ،‬وهو ّ‬
‫أن هلم خالق من غري أنفسهم‪ ،‬وهو اهلل‬
‫جل جالله‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فهذا هو املراد بالسرب والتقسيم هنا‪ ،‬واألصوليون هلم اصطالح خاص‬
‫يف السرب والتقسيم‪ ،‬وهو عندهم من طرق استنباط علة احلكم‪ ،‬ويكون‬

‫‪- 89 -‬‬
‫بحرص أوصاف األصل املقيس عليه بطريقة من طرق احلرص ثم إبطال ما‬
‫ال يصلح علة بطريقة من طرق اإلبطال‪ ،‬وهو من أنواع تنقيح املناط‪.‬‬
‫وهذه األداة العلمية مستعملة يف عدد من العلوم‪ ،‬استعملها الفقهاء يف‬
‫مناظراهتم وردودهم‪ ،‬واستعملها النحاة والرصفيون يف مسائل اخلالف‬
‫ويف علل النحو والترصيف كام فعل ابن األنباري وابن احلاجب وغريمها‪.‬‬
‫واستعملها عدد من األئمة يف مناظراهتم ألهل البدع واألهواء‪.‬‬
‫وهي طريقة عقلية إلقامة احلجة وإبطال االحتامالت الباطلة ليتعينّ‬
‫االحتامل الصحيح‪ ،‬وهلذه الطريقة أصل يف الكتاب والسنة يف مواضع‬
‫كثرية‪.‬‬
‫ومن األمثلة احلسنة لتوضيح تطبيق هذه األداة يف التفسري ما ذكره األمني‬
‫الشنقيطي رمحه اهلل يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ﴾‪.‬‬
‫قال رمحه اهلل‪( :‬والتقسيم الصحيح يف هذه اآلية الكريمة حيرص أوصاف‬
‫املحل يف ثالثة‪ ،‬والسرب الصحيح يبطل اثنني منها ويصحح الثالث‪.‬‬
‫وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل احلجر يف دعواه‪ :‬أنه ُيؤتى يوم القيامة‬
‫ماالً وولد ًا‪.‬‬
‫أما وجه حرص أوصاف املحل يف ثالثة فهو أنا نقول‪ :‬قولك إنك تُؤتَى‬
‫ماالً وولد ًا يوم القيامة ال خيلو مستندك فيه من واحد من ثالثة أشياء‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن تكون اطلعت عىل الغيب‪ ،‬وعلمت أن إيتاءك املال والولد‬
‫يوم القيامة مما كتبه اهلل يف اللوح املحفوظ‪.‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫والثاين‪ :‬أن يكون اهلل أعطاك عهد ًا بذلك‪ ،‬فإنه إن أعطاك عهد ًا لن‬
‫خيلفه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن تكون قلت ذلك افرتا ًء عىل اهلل من غري عهد وال اطالع‬
‫غيب‪.‬‬
‫وقد ذكر تعاىل القسمني األولني يف قوله‪﴿ :‬ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ال هلام بأداة اإلنكار‪ ،‬وال شك أن كال هذين القسمني‬ ‫ﭠ ﭡ﴾‪ ،‬مبط ً‬
‫باطل؛ ألن العاص املذكور مل يطلع الغيب‪ ،‬ومل يتخذ عند الرمحن عهدا‪،‬‬
‫فتعني القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افرتا ًء عىل اهلل‪ ،‬وقد أشار تعاىل إىل‬
‫هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله‪﴿ :‬ﭢ﴾‪،‬‬
‫أي‪ :‬ألنه يلزمه ليس األمر كذلك‪ ،‬مل يطلع الغيب‪ ،‬ومل يتخذ عند الرمحن‬
‫ال مل يستوجب‬‫عهد ًا‪ ،‬بل قال ذلك افرتا ًء عىل اهلل‪ ،‬ألنه لو كان أحدمها حاص ً‬
‫الردع عن مقالته كام ترى)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫توسع رمحه اهلل يف التمثيل هلذه القاعدة ورشحها رشح ًا حسن ًا يف‬
‫وقد ّ‬
‫تفسريه لسورة مريم؛ فلرياجعها من أراد االستزادة‪.‬‬
‫وأما طريقة املنع والتسليم؛ فهي طريقة مناسبة للرد عىل اعرتاضات‬ ‫‪ّ -‬‬
‫املبطلني عىل دالالت األدلة الرشعية ونفيها وتأويلها ودفع ما يوردونه‬
‫من الشبه‪ ،‬وهذه الطريقة استعملها بعض األئمة يف الر ّد عىل أهل البدع‪،‬‬
‫وقد أكثر الشيخ ابن عثيمني ‪ -‬رمحه اهلل ‪ -‬من استعامهلا يف رشحه للعقيدة‬
‫الواسطية‪ ،‬ومن أمثلة ذلك قوله يف الرد عىل نفاة صفة املحبة هلل تعاىل من‬
‫املتكلمني بدعوى أن العقل ال ّ‬
‫يدل عليها‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫قال رمحه اهلل‪( :‬ونحن نرد عليهم فنقول‪ :‬نجيبكم عن األول‪ ،‬وهو أن‬
‫العقل ال يدل عليها بجوابني‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬بالتسليم‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬باملنع‪.‬‬
‫التسليم‪ :‬نقول‪ :‬سلمنا أن العقل ال يدل عىل املحبة‪ ،‬فالسمع دل عليها‪،‬‬
‫وهو دليل قائم بنفسه‪ ،‬واهلل عز وجل يقول يف القرآن‪﴿ :‬ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ﴾‪ ،‬فإذا كان تبيان ًا‪ ،‬فهو دليل قائم بنفسه‪( ،‬وانتفاء‬
‫الدليل املعني‪ ،‬ال يلزم منه انتفاء املدلول)‪ ،‬ألن املدلول قد يكون له أدلة‬
‫متعددة‪ ،‬سواء احلسيات أو املعنويات؛ فاحلسيات‪ :‬مثل بلد له عدة طرق‬
‫توصل إليه‪ ،‬فإذا انسد طريق ذهبنا مع الطريق الثاين‪.‬‬
‫أما املعنويات‪ ،‬فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة‪ ،‬وجوب الطهارة‬
‫للصالة مث ً‬
‫ال فيه أدلة متعددة‪.‬‬
‫فإذ ًا‪ ،‬إذا قلتم‪ :‬إن العقل ال يدل عىل إثبات املحبة بني اخلالق واملخلوق‪،‬‬
‫فإن السمع دل عليه بأجىل دليل وأوضح بيان‪.‬‬
‫اجلواب الثاين‪ :‬املنع‪ :‬أن نمنع دعوى أن العقل ال يدل عليها‪ ،‬ونقول‪:‬‬
‫بل العقل دل عىل إثبات املحبة بني اخلالق واملخلوق‪ ،‬كام سبق)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وتدرب طالب العلم عىل إحسان استعامهلا يفيده كثري ًا يف الر ّد عىل‬ ‫ّ‬
‫إيرادات أصحاب ُّ‬
‫الش َبه واألقوال الباطلة‪.‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫وأما براعة التعليل؛ فاملراد هبا هنا أمران‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫ويتعرف احلامل له‬
‫ّ‬ ‫أحدمها‪ :‬أن يستخرج املناظر ع ّلة قول خصمه‪،‬‬
‫فإن ما يورده املبطل من األدلة والشبه واالعرتاضات يشء‪،‬‬ ‫عىل قوله؛ ّ‬
‫واحلامل له عىل ذلك قد يكون شيئ ًا آخر؛ فالتعرف عىل العلة احلقيقية‬
‫يفيد تركيز القول عىل ما تُعالج به هذه العلة‪ ،‬واستعامل األسلوب األمثل‬
‫هلا‪ ،‬واختصار كثري من الكالم‪ ،‬وهذا له أمثلة من القرآن الكريم منها‬
‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾‪ ،‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ‬
‫ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾‪.‬‬
‫واملعنى اآلخر‪ :‬أن يورد املبطل لشبهته حججا فيستخرج املناظر الع ّلة‬
‫التي بنى عليها هذا املبطل حججه‪ ،‬وينقضها‪ ،‬ومن أمثلة ذلك يف القرآن‬
‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ فهذه ثالثة إيرادات بنوها عىل أهنم‬
‫ّنزلوا أنفسهم منزلة اخلبري بام يأيت من عند اهلل؛ فحكموا عىل ما أتى به‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم بأنّه إفك مفرتى‪ ،‬وأنه إنام يريد أن يصدّ هم‬
‫عام يعبد آباؤهم وهذا تعريض باتهّ امه بطلب رصف الوجوه إليه‪ ،‬وأن‬
‫سحر سحرهم به؛ وهذا ِكبرْ ٌ بالغ‬
‫ٌ‬ ‫تأثريه عىل من اتّبعه من املؤمنني إنام هو‬
‫نقض اهلل عليهم أساسه بقوله‪﴿ :‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ‬
‫ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ﴾ فلم يأهتم رسول قبل النبي صىل اهلل عليه وسلم‬

‫‪- 93 -‬‬
‫وليس لدهيم كتاب من عند اهلل حيكمون به عىل ما خالفه بأنه إفك مفرتى؛‬
‫فسقطت حججهم وادعاءاهتم ملا سقط أصلها الذي ُبنيت عليه‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الطرق املتّصلة هبذه الطريقة‪ :‬طريقة نقض الع ّلة؛ وهي أن يبني‬
‫حجته عىل ع ّلة؛ فينقضها املجادل باحلق فينكشف زيف املبطل‪،‬‬ ‫املبطل ّ‬
‫ومن أمثلة ذلك قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾‪.‬‬
‫وأما إعامل املفهوم؛ فاملفهوم منه مفهوم موافقة ومفهوم خمالفة؛ فأ ّما‬
‫‪ّ -‬‬
‫مفهوم املوافقة فيسميه بعضهم فحوى اخلطاب‪ ،‬ويستفاد منه إثبات حكم‬
‫املسكوت عنه بام يوافق حكم املنطوق‪ ،‬ويم ّثلون له بقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮧ ﮨ‬
‫كالسب والشتم‬
‫ّ‬ ‫ﮩ ﮪ﴾ عىل حتريم اإليذاء بام هو أعظم من قول (أف)‬
‫واملضارة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويسمى (دليل اخلطاب) فيستفاد منه استخراج‬‫ّ‬ ‫وأما مفهوم املخالفة‬
‫حكم للمسكوت عنه يقابل حكم املنطوق‪ ،‬ويتعلق بمقابل معناه؛ كام يف‬
‫قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛﭜ﴾‪ ،‬قال األمني‬
‫الشنقيطي‪( :‬رصح يف هذه اآلية بأن هذا القرآن ﴿ﭚ ﭛﭜ﴾‪،‬‬
‫ويفهم من مفهوم اآلية ‪ -‬أعني مفهوم املخالفة املعروف بدليل اخلطاب‬
‫‪ -‬أن غري املتقني ليس هذا القرآن هدى هلم‪ ،‬ورصح هبذا املفهوم يف آيات‬
‫أخر كقوله‪﴿ :‬ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ‬
‫ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ وقوله‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ‬

‫‪- 94 -‬‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾‪ ،‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ اآليتني)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وإعامل مفهوم املخالفة له رشوط عىل املناظر أن يراعي حتققها‪ ،‬وله‬
‫أنواع أوصلها بعضهم إىل عرشة‪ ،‬وهي‪ :‬مفهوم الصفة‪ ،‬ومفهوم الرشط‪،‬‬
‫ومفهوم العلة‪ ،‬ومفهوم اللقب‪ ،‬ومفهوم االستثناء‪ ،‬ومفهوم العدد‪،‬‬
‫ومفهوم الزمان‪ ،‬ومفهوم املكان‪ ،‬ومفهوم احلرص‪ ،‬ومفهوم الغاية‪.‬‬
‫وقد مجعها ابن غازي رمحه اهلل يف بيت واحد فقال‪:‬‬
‫و ُع�دَّ ظرفين وحصر ًا إ ْغي�ا‬ ‫ب ُثنيا‬ ‫ِ‬
‫واشرت ْط َع ّل ْل َو َل ِّق ْ‬ ‫ِص ْ‬
‫ف‬
‫ورشحها يستدعي درس ًا خاصا‪ ،‬واملقصود التنبيه عىل استعامل املفرسين‬
‫هلذه األداة يف استخراج املعاين وأحكام املسائل والرد عىل املخالفني‪.‬‬
‫باملوجب؛ فله اصطالح خاص عند األصوليني‪ ،‬وله‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬وأما القول‬
‫بموجب‬
‫َ‬ ‫كذلك اصطالح خاص عند البالغيني‪ ،‬واملراد به هنا أن تقول‬
‫قول اخلصم لكن تعكس القضية عليه‪ ،‬وقد م ّثل له ناصح الدين ابن‬
‫احلنبيل يف كتابه «استخراج اجلدل من القرآن» بقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯦ ﯧ‬
‫ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰ ﯱﯲﯳ‬
‫ﯴ ﯵﯶ﴾ القول باملوجب ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫آباؤكم) ﴿ﭙ ﭚ‬ ‫ﭘ﴾ تقديره‪( :‬نريدُ ْ‬
‫أن نصدَّ كُم عام كان يعبدُ ُ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾‪.‬‬

‫‪- 95 -‬‬
‫وقد رشحه األستاذ اجلليل حممد الطاهر ابن عاشور رشحا حسن ًا فقال‪:‬‬
‫باملوجب‬
‫َ‬ ‫(قول الرسل ﴿ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ جواب بطريق القول‬
‫يف علم آداب البحث‪ ،‬وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان حمل‬
‫كر عىل استدالهلم‬ ‫االستدالل غري تام اإلنتاج‪ ،‬وفيه إطامع يف املوافقة‪ ،‬ثم َّ‬
‫املقصود باإلبطال بتبيني خطئهم‪.‬‬
‫ونظريه قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾‪،‬‬
‫وهذا النوع من القوادح يف علم اجلدل شديد الوقع عىل املناظر‪ ،‬فليس‬
‫قول الرسل ﴿ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ تقريرا للدليل‪ ،‬ولكنه متهيد لبيان‬
‫غلط املستدل يف االستنتاج من دليله‪ ،‬وحمل البيان هو االستدراك يف قوله‪:‬‬
‫﴿ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾‪ ،‬واملعنى‪ :‬أن املامثلة يف البرشية ال‬
‫تقتيض املامثلة يف زائد عليها فالبرش كلهم عباد اهلل واهلل يمن عىل من يشاء‬
‫من عباده بنعم مل يعطها غريهم)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وم ّثل له ابن احلنبيل أيضا بقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾‪.‬‬
‫الكف واإلعراض‪ ،‬وهو يف علم البيان‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وأما اإلرضاب يف اللغة فمعناه‬
‫وعند النحاة عىل نوعني‪ :‬إرضاب إبطايل وإرضاب انتقايل‪:‬‬
‫‪ -‬فأما اإلرضاب اإلبطايل؛ فرياد به إبطال ما قاله املردود عليه‪ ،‬كام يف‬
‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬ﮝ ﮞ ﮟ‬

‫‪- 96 -‬‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾‪.‬‬
‫وأما اإلرضاب االنتقايل؛ فهو أن تنتقل من احلديث عن أمر إىل احلديث‬
‫عن غريه من غري إبطال األمر األول‪ ،‬ومثاله قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾‪.‬‬
‫ويستفاد منه يف علم اجلدل اإلرضاب عن دعوى اخلصم إلبطاهلا بإيراد‬
‫آخر‪ ،‬ومن أمثلته قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ‬
‫ﮅﮆ ﮇﮈﮉ ﮊ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ‬
‫ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾‪.‬‬
‫فأرضب عن إيراده بأنه حييى ويميت‪ ،‬وأورد عليه ما يظهر به بطالن‬
‫َ‬
‫دعواه‪.‬‬
‫‪ -‬وأما املعارضة واملناقضة؛ فبينهام تناسب؛ أما املعارضة فأن تورد‬
‫عىل دعوى اخلصم اعرتاض ًا رّ‬
‫يتحي اخلصم يف جوابه‪ ،‬حتى يتبينّ له عدم‬
‫صحة دعواه‪ ،‬ومن أمثلة املعارضة قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬ ‫ّ‬
‫ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ‬
‫عار َض به دعواهم يف أصنامهم أهنا‬
‫ﮃﮄ﴾؛ فأورد عليهم إيرادا َ‬
‫عاجز عن ذلك تبينّ بطالن اعتقادهم فيه‪ ،‬وإن‬
‫ٌ‬ ‫آهلة؛ فإن زعموا َّ‬
‫أن كبريهم‬
‫زعموا أنَّه من فعله أقروا بقبح الرشك؛ فإذا كان هذا الكبري ال يرىض أن‬
‫رشك به‪.‬‬ ‫ُيرشك به؛ فكيف يظنّون َّ‬
‫أن اهلل تعاىل يرىض أن ُي َ‬

‫‪- 97 -‬‬
‫ومن أمثلته ما حكاه شيخ اإلسالم ابن تيمية عن اإلمام أمحد بن حنبل‬
‫يف حمنته املشهورة؛ أن املعتزلة قالوا له‪ :‬ما تقول يف القرآن وكالم اهلل‪ ،‬أهو‬
‫اهلل أم غري اهلل؟‬
‫عارضهم بالعلم؛ وقال هلم‪( :‬ما تقولون يف علم اهلل‪ ،‬أهو اهلل أم غري‬
‫اهلل؟)‪.‬‬
‫وقال يف موضع آخر‪( :‬وهلذا ملا سألوا اإلمام أمحد يف املحنة عن القرآن‪:‬‬
‫أهو اهلل أو غريه؟ وإذا كان غريه كان خملوق ًا‪َ -‬‬
‫عار َضهم بالعلم فسكتوا)‬
‫ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬وأما املناقضة فهي أن تنقض الدعوى بام يبطل مقدماهتا‪ ،‬ويبينّ خطأ‬
‫نتيجتها‪ ،‬ومن أمثلة ذلك قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍ﴾‪.‬‬
‫فنقض دعواهم نقض ًا تاما ال يبقى معه احتامل لصحة الدعوى وال تردد‬
‫يف بطالهنا‪ ،‬وهذا من بديع النقض‪ ،‬وقد أحسن الطاهر ابن عاشور يف‬
‫بيانه فقال‪﴿ ( :‬ﯸ ﯹ ﯺ…﴾ مجلة مستأنفة‪ ،‬وهذا رشوع يف‬
‫اإلخبار بعظيم قدرة اهلل تعاىل‪ ،‬وهي تفيد مع ذلك تقوية التنزيه يف قوله‪:‬‬
‫﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾ فتتنزل منزلة التعليل ملضمون‬
‫ذلك التنزيه بمضموهنا أيضا‪ ،‬وهبذا الوجه رجح فصلها عىل عطفها؛‬
‫فإن ما يصفونه هو قوهلم‪ :‬إن له ولدا وبنات‪ ،‬ألن ذلك التنزيه يتضمن‬
‫نفي اليشء املنزه عنه وإبطاله‪ ،‬فعلل اإلبطال بأنه خالق أعظم املخلوقات‪،‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫بنوة اجلن واملالئكة ألجل عظمتها‬ ‫داللة عىل القدرة؛ فإذا كنتم تدّ عون ّ‬
‫يف املخلوقات‪ ،‬وأنتم ال ترون اجلن وال املالئكة؛ فلامذا مل تدّ عوا البنوة‬
‫للساموات واألرض املشاهدة لكم وأنتم تروهنا وترون عظمها؟!! فهذا‬
‫اإلبطال بمنزلة النقض يف علم اجلدل واملناظرة)‪.‬‬
‫وقد أطال رمحه اهلل يف تفصيل ذلك‪ ،‬واملقصود التمثيل عىل طريقة نقض‬
‫الدعوى‪ ،‬وبيان الفرق بينها وبني املعارضة‪.‬‬
‫واختيار إحدى الطريقتني يعتمد عىل مناسبة احلال‪ ،‬وقوة استحضار‬
‫احلجة‪.‬‬
‫املحاج إىل خصمه من‬ ‫لقي‬‫‪ -‬وأما املجاراة واإلعثار؛ فرياد هبا أن ي ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫األسئلة واالستدراج ما يقوده به إىل موضع يتبينّ فيه بطالن دعواه؛ وهذه‬
‫يعب عن باطله‬ ‫الطريقة إنام يقوم هبا احلاذق يف املناظرة‪ ،‬فصاحب الباطل رّ‬
‫احلق بالباطل؛ فليتبس أمره عىل من ال يتبينّ‬‫بزخرف القول‪ ،‬ويلبس ّ‬
‫حقيقته؛ وقد يكون لديه اندفاع شديد للدعوة إىل باطله؛ فمن احلكمة يف‬
‫موجهة إىل املوضع الذي يتبينّ فيه‬
‫بعض األحوال أن جياريه املناظر جماراة ّ‬
‫خطؤه وبطالن دعواه‪ ،‬ومن األمثلة عىل ذلك قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﰋ ﰌ‬
‫ﰍ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗ‬
‫ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾‪.‬‬
‫قال ابن الق ّيم رمحه اهلل‪( :‬فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال عىل التفصيل؛‬
‫فإهنم قالوا أوالً‪ :‬إذا كنا عظاما ورفاتا أئنا ملبعوثون خلقا جديدا؟!!‬

‫‪- 99 -‬‬
‫فقيل هلم يف جواب هذا السؤال‪ :‬إن كنتم تزعمون أنه ال خالق لكم وال‬
‫رب فهال كنتم خلقا جديدا ال يفنيه املوت كاحلجارة واحلديد؟!! أو ما هو‬
‫أكرب يف صدوركم من ذلك؟‬
‫فإن قلتم‪ :‬لنا رب خالق‪ ،‬خلقنا عىل هذه الصفة‪ ،‬وأنشأنا هذه النشأة‬
‫التي ال تقبل البقاء‪ ،‬ومل جيعلنا حجارة وال حديدا؛ فقد قامت عليكم‬
‫احلجة بإقراركم؛ فام الذي حيول بني خالقكم ومنشئكم وبني إعادتكم‬
‫خلقا جديدا؟!!)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقد بنى اإلمام أبو عبد اهلل األذرمي مناظرته ألمحد ابن أيب دؤاد يف‬
‫فتنة خلق القرآن عىل هذه الطريقة؛ وكانت تلك املناظرة بحرضة الواثق‪،‬‬
‫تلخص من رواياهتا (أن األذرمي جيئ به‬ ‫وقد رويت بألفاظ متقاربة‪ ،‬ومما ّ‬
‫إىل جملس الواثق ليناظر ابن أيب دؤاد يف خلق القرآن فإن أجابه وإال ُقتل‬
‫كام قتل مجاعة من العلامء يف تلك الفتنة‪ ،‬وكان الواثق َحنِق ًا عىل األذرمي‬
‫حتى إنه ملا جيء باألذرمي من السجن ليحرض جملس املناظرة دخل فقال‪:‬‬
‫السالم عليك يا أمري املؤمنني‪.‬‬
‫ّ‬
‫فقال الواثق‪ :‬ال س ّلم اهلل عليك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬بئس ما أ ّدبك مؤ ّدبك‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯿ‬
‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾‪.‬‬
‫ثم دعاه الواثق ملناظرة ابن أيب دؤاد فقال األذرمي‪ :‬يا أمحد بن أيب دؤاد‪،‬‬
‫ّ‬
‫إىل ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟‬
‫فقال ابن أيب دؤاد‪ :‬إىل أن تقول‪ :‬القرآن خملوق؛ ألن كل يشء دون اهلل‬
‫خملوق‪.‬‬
‫‪- 100 -‬‬
‫قال األذرمي‪ :‬أخربين يا أمحد عن مقالتك هذه‪ ،‬أواجبة داخلة يف عقد‬
‫الدين‪ ،‬فال يكون الدين كامال حتى يقال فيه ما قلت؟‬
‫قال ابن أيب دؤاد‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال األذرمي‪ :‬يا أمحد أخربين عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم حني‬
‫بعثه اهلل تعاىل إىل عباده‪ ،‬هل سرت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم شيئا مما‬
‫أمر اهلل تعاىل به يف دينه؟‬
‫قال ابن أيب دؤاد‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬فدعا رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم األمة إىل مقالتك‬
‫هذه؟ فسكت ابن أيب دؤاد‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬تكلم فسكت‪ ،‬فالتفت الشيخ إىل الواثق‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمري‬
‫املؤمنني‪ ،‬واحدة‪.‬‬
‫فقال الواثق‪ :‬واحدة‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬يا أمحد‪ ،‬أخربين عن اهلل تعاىل‪ ،‬حني أنزل القرآن عىل‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم فقال‪﴿ :‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ أكان اهلل تعاىل الصادق يف إكامل‬
‫دينه‪ ،‬أم أنت الصادق يف نقصانه‪ ،‬فال يكون الدين كامال حتى يقال فيه‬
‫بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أيب دؤاد‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬أجب يا أمحد‪ ،‬فلم جيبه‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬يا أمري املؤمنني‪،‬‬
‫اثنتان‪.‬‬
‫فقال الواثق‪ :‬اثنتان‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫فقال األذرمي‪ :‬يا أمحد أخربين عن مقالتك هذه‪ ،‬أعلمها رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم أم جهلها؟‬
‫قال ابن أيب دؤاد‪ :‬علمها‪.‬‬
‫قال األذرمي‪ :‬فدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أيب دؤاد فقال الشيخ‪ :‬يا‬
‫أمري املؤمنني‪ ،‬ثالث‪.‬‬
‫فقال الواثق‪ :‬ثالث‪.‬‬
‫فاتسع لرسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم إذ علمها‬
‫َ‬ ‫فقال األذرمي‪ :‬يا أمحد‪،‬‬
‫كام زعمت‪ ،‬ومل يطالب أمته هبا؟‬
‫قال ابن أيب دؤاد‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال األذرمي‪ :‬واتسع أليب بكر وعمر وعثامن وعيل ريض اهلل عنهم؟‬
‫فقال ابن أيب دؤاد‪ :‬نعم)‪.‬‬
‫ويف رواية (أنه قال له‪ :‬ما تقول يف القرآن؟‬
‫ٌ‬
‫خملوق‪.‬‬ ‫قال ابن أيب دؤاد‪:‬‬
‫ّبي ‪-‬صلىّ اللهّ عليه وس ّلم‪ -‬وأبو ٍ‬
‫بكر‪،‬‬ ‫قال األذرمي‪ :‬هذا يش ٌء علمه الن ّ‬
‫الراشدون‪ ،‬أم يش ٌء مل يعلموه؟‬‫وعمر‪ ،‬واخللفاء ّ‬
‫قال‪ :‬يش ٌء مل يعلموه‪.‬‬
‫ّبي ‪-‬صلىّ اللهّ عليه وس ّلم‪ -‬علمته‬
‫فقال‪ :‬سبحان اهلل! يش ٌء مل يعلمه الن ّ‬
‫أنت؟‬
‫فخجل‪ ،‬فقال‪ :‬أقلني‪.‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫قال األذرمي‪ :‬املسألة بحاهلا‪.‬‬
‫قال ابن أيب دؤاد‪ :‬نعم‪ ،‬علموه‪.‬‬
‫فقال‪ :‬علموه‪ ،‬ومل يدعوا النّاس إليه؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أفال وسعك ما وسعهم؟)‪.‬‬
‫فكانت تلك املناظرة من أسباب رفع حمنة القول بخلق القرآن؛ وهي‬
‫مناظرة مشهورة رويت بأسانيد وألفاظ خمتلفة‪ ،‬وعامدها جماراة صاحب‬
‫الباطل وتوجيهه إىل املوضع الذي يتبينّ به عثار قوله‪.‬‬
‫يعرفه‬‫‪ -‬وأما التبكيت فرياد به تقريع صاحب الدعوى الباطلة بام ّ‬
‫بخطئه ويشعره بقبح دعواه‪ ،‬ويعقبه احلرسة والندم إن كان يف قلبه بق ّية‬
‫حياة‪ ،‬ويف مسند الشافعي وسنن أيب داوود والبيهقي أن النبي صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ُأيت بشارب مخر؛ فقال‪ :‬ارضبوه‪ ،‬فرضبوه باأليدي والنعال‬
‫وأطراف الثياب وحثوا عليه من الرتاب‪ ،‬ثم قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ألصحابه‪« :‬بكّتوه» فبكّتوه‪ ،‬ثم أرسلوه‪.‬‬
‫وقد ورد تفسري هذا التبكيت يف رواية عند أيب داوود أهنم أقبلوا عليه‬
‫يقولون‪ :‬ما اتقيت اهلل؟! ما خشيت اهلل؟! وما استحييت من رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم؟!‬
‫قال أبو سليامن اخلطايب‪( :‬التبكيت هاهنا التقريع بال ّلسان وهو أن ُيقال‬
‫يت من النّاس ونحو هذا من‬ ‫َل ُه‪َ :‬أ َما اتّق ْي َت اهلل أما َخ ِش َ‬
‫يت اهللَ أما استَح َي َ‬
‫الكالم)‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫واملقصود أن التبكيت أسلوب خياطب به املذنب واملبطل ليستقبح ذنبه‬
‫وباطله‪ ،‬ويذهب عنه الطيش والغرور‪ ،‬فقد حيمله ذلك عىل التبرص فينيب‬
‫حجته‪.‬‬
‫ويرجع‪ ،‬وقد يكابر فيكون يف التبكيت ما خيزيه ويقطع ّ‬
‫والتبكيت له أمثلة كثرية يف القرآن الكريم‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙ﴾‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ﴾‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫‪- 104 -‬‬
‫ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾‪.‬‬
‫واملقصود أن من املبطلني من يكون تبكيته أنفع له وأقطع حلجته من‬
‫جمادلته؛ فإن يف التبكيت خماطبة للقلب ووعظ ًا له‪ ،‬ودعوة لصاحب‬
‫الدعوى الباطلة أن يتفكّر يف نفسه ويف مقالته وفيام أورد عليه من التبكيت‬
‫ليكف عن دعواه الباطلة‪ ،‬ويتبينّ قبحها‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وأما التشنيع عىل املبطل فهو بيان شناعة قوله وقبح مقالته‪ ،‬وتعظيم‬
‫خطرها عليه‪ ،‬واستعامل ما يناسب ذلك من العبارات؛ ّ‬
‫فإن املبطل يز ّين‬
‫قوله بزخرف القول وحياول تسويغه وهتذيبه وإظهاره يف مظهر اخلري‬
‫رت به من يغرت‪ ،‬فإذا ُع ّري قوله عن زخارفه‪،‬‬‫ورعاية األصلح حتى يغ ّ‬
‫وأظهرت مفاسد لوازمه وآثاره انكشفت حقيقته وتب ّينت شناعته‪،‬‬
‫والتشنيع إذا كان باحلق فهو نافع جد ًا يف التأثري عىل صاحبه وعىل من‬
‫كان مغرت ًا بقوله‪ ،‬وعىل غريهم حتى حيذروا تلك املقالة الباطلة وتستقر يف‬
‫نفوسهم شناعتها‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك يف القرآن الكريم قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯼ ﯽ ﯾ‬
‫ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ﯙﯚﯛﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠﯡﯢﯣﯤ‬
‫ﯥ ﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯳ‬
‫ﯴﯵ ﯶﯷ ﯸﯹﯺﯻ ﯼﯽﯾﯿﰀ‬
‫ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾‪.‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫ويف هذا غاية ما يكون من التشنيع الذي ترجتف له القلوب احلية‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ﴾‪.‬‬
‫واملقصود من ذكر هذه األدوات العلمية يف دورة «أساليب التفسري»‬
‫حث طالب علم التفسري عىل العناية هبا والتدرب عليها؛ وال‬‫ورشحها ُّ‬
‫الش َب ِه والر ّد عىل‬
‫س ّيام من يريد الكتابة بأسلوب احلجاج الرشعي وكشف ُّ‬
‫املبطلني؛ وأن يستعمل منها ما تدعو احلاجة إليه يف كل موضع بحسبه‪.‬‬
‫ومن ُرزق حسن املعرفة هبذه األدوات‪ ،‬وجودة البيان عنها‪ ،‬وصدق‬
‫النية والتزام العدل رجي أن ينفع اهلل بام يكتبه يف هذا الباب‪ ،‬وأن يبارك‬
‫فيه‪.‬‬

‫عناية العلماء ب�أ�سلوب احلجاج ال�شرعي‪:‬‬


‫للعلامء عناية بالغة بأسلوب احلجاج لكثرة ما تدعوهم احلاجة إىل إقامة‬
‫احلجج والرباهني‪ ،‬عىل تبيني أصول الدين‪ ،‬والرد عىل املخالفني واملبطلني‪،‬‬
‫وقد علموا أن أقرب الطرق إىل ذلك وأنفعها بيان حجج القرآن وتقريبها‬
‫ورشحها واجلهاد هبا‪.‬‬
‫ومن أمثلة ما كتب هبذا األسلوب‪:‬‬
‫‪ .1‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆ ﮇ ﮈ‪ ﴾...‬لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫‪ .2‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ‬
‫ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄ‬
‫ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾‪ ،‬البن الق ّيم‪.‬‬
‫‪ .3‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇﰈ‪ ﴾...‬لشيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب‪.‬‬

‫مثال‪:‬‬
‫‪ .1‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒ‪.﴾...‬‬

‫التطبيق الرابع‪:‬‬
‫‪ -‬اكتب رسالة تفسريية خمترصة بأسلوب ِ‬
‫احل َجاج‪.‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‪﴾...‬‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ‬


‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯﮰ ﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘﯙﯚﯛ ﯜ‬
‫ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨﯩﯪﯫ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [املائدة‪.]76-73 :‬‬
‫تضمنت هذه اآليات الكريامت من احلجج القاطعة‪ ،‬واآليات البينات‬
‫ما أظهر اهلل به بطالن ما اعتقدته طوائف كثرية من النصارى يف عيسى بن‬
‫مريم وأ ّمه عليهام السالم‪ ،‬واختاذهم إيامها إهلني من دون اهلل‪ ،‬وزعمهم أن‬
‫اهلل ثالث ثالثة‪.‬‬
‫ِ‬
‫اآليات يف خطاهبم تنبيه ًا وتعريف ًا‪ ،‬وتبصري ًا وتذكري ًا‪،‬‬ ‫رصف اهللُ‬‫وقد َّ‬
‫وترغيب ًا وترهيب ًا‪ ،‬ببيان بديع حمكم‪ ،‬وإلزام باحلجة الظاهرة التي ال ير ّدها‬
‫مكابر معاند‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫إال‬
‫حي منيب تبينّ له ما يفيد اليقني ببطالن‬
‫ومن تأ ّمل هذه اآليات بقلب ّ‬
‫مقاالهتم الكفرية‪ ،‬وضالهلم عن الرصاط املستقيم‪.‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫وبيان ذلك من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬احلكم بتحقق كفر قائيل هذه املقالة الشنيعة‪﴿ ،‬ﮋ ﮌ‬
‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾‪.‬‬
‫فحرف (قد) مفيد للتحقيق‪ ،‬والالم مؤكّدة هلذا احلكم‪.‬‬
‫ِ‬
‫نفس املخا َطب‬ ‫إهلي ُقدّ م يف َّأول عرض القض ّية ليقذف يف‬
‫وهو حكم ّ‬
‫حكمها‪ ،‬وشناعة جرم أصحاهبا‪ ،‬وليقطع عليه مجيع حماوالت البحث عن‬
‫أن حكمها الكفر املتحقق‬ ‫ٍ‬
‫تربير هلا؛ إذ بينّ اهلل تعاىل َّ‬ ‫ٍ‬
‫ختريج ملقالتهم‪ ،‬أو‬
‫الذي ال ريب فيه‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾؛ وهذا نفي قاطع‬
‫بأسلوب االستغراق واحلرص‪( ،‬ما) نافية‪ ،‬و(من) لالستغراق‪ ،‬أي ليس يف‬
‫الكون ك ّله إال إله واحد‪.‬‬
‫حق‪ ،‬فاإلله احلق ال يكون إال‬ ‫ّ‬
‫وكل ما ُيدعى من دون اهلل فإنَّام ُعبد بغري ّ‬
‫واحد ًا‪ ،‬و ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾‪ ،‬وهذا يبطل التثليث‪.‬‬
‫والوجه الثالث‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾‪.‬‬
‫وهذا فيه تقريع شديد‪ ،‬وتشنيع عىل قائيل هذه املقالة الكفرية‪.‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾ ومل يقل‪( :‬ليمسنّهم) لتأكيد‬
‫كل من قال مقالة كفرية منهم‬ ‫بيان كفر قائيل هذه املقالة‪ ،‬وليشمل احلكم َّ‬
‫فإن لضُلاَّ ل النصارى أقواالً كفرية ذكرها اهلل تعاىل عنهم‬
‫غري هذه املقالة؛ َّ‬
‫يف القرآن؛ فمنهم من قال‪ :‬إن اهلل هو املسيح ابن مريم‪ ،‬ومنهم من قال‪:‬‬
‫املسيح ابن اهلل‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إن اهلل ثالث ثالثة‪.‬‬
‫‪- 109 -‬‬
‫فهذا احلكم شامل ّ‬
‫لكل مقاالهتم الكفرية‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﮛ ﮜ ﮝ‪ ﴾..‬فيه فتح لباب النجاة من هذا الكفر ما داموا‬
‫يف دار احلياة الدنيا قبل أن تقبض أرواحهم‪.‬‬
‫احلق‬
‫وهذا له وقع عظيم عىل نفس املذنب الذي يف قلبه جذوة من إرادة ّ‬
‫ليتدارك نفسه‪ ،‬ويسلك سبيل النجاة‪.‬‬
‫والوجه الرابع‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾؛‬
‫وهذا فيه تقرير أنهّ م أذنبوا ذنب ًا عظي ًام هبذه املقالة الكفرية؛ يستوجب التوبة‬
‫واالستغفار‪.‬‬
‫وتأمل سعة رمحة اهلل عز وجل وعظيم حلمه كيف دعاهم ‪ -‬وقد قالوا‬
‫عرض وألطفه‪﴿:‬ﮧ ﮨ ﮩ‬ ‫ٍ‬ ‫هذه املقالة الشنيعة ‪ -‬إىل التوبة بأمجل‬
‫ﮪ ﮫ﴾ ثم ذكر ما يرغبهم يف ذلك ويزيل اليأس والقنوط‬
‫من قلوهبم إن صدقوا التوبة بقوله‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ كثري‬
‫ذنب أن يغفره‪ ،‬ورمحته وسعت كل‬ ‫املغفرة‪ ،‬واسع املغفرة‪ ،‬ال يستعظمه ٌ‬
‫يشء‪ ،‬وعمت كل حي‪ ،‬ويف ضمن ذلك وعدهم باملغفرة والرمحة والعفو‬ ‫ٍ‬
‫عام بدر منهم إن هم تابوا إليه واستغفروه‪.‬‬
‫فإذا علم العبد ذلك حتركت دواعي الرجوع إىل اهلل يف قلبه‪ ،‬ومل يقنط‬
‫من رمحة اهلل عز وجل مهام بلغت ذنوبه‪.‬‬
‫والوجه اخلامس‪َّ :‬‬
‫أن هذا العرض الكريم اللطيف أتى بعد التقريع‬
‫الشديد ليجتمع يف هذه اآليات خطاب الرتهيب والرتغيب‪ ،‬وخطاب‬
‫فبصهم وذكَّرهم‪ ،‬ووعظهم وزجرهم‪ ،‬ثم فتح هلم باب‬‫العقل والقلب؛ رَّ‬

‫‪- 110 -‬‬


‫جتب ما قبلها؛ فال يتخ ّلف عن هذه الدعوة إال ّ‬
‫شقي‬ ‫املغفرة والتوبة التي ّ‬
‫مستحق للعذاب الشديد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حمروم مكابر‬
‫والوجه السادس‪ :‬تبصريهم باألد ّلة التي يتبينّ هبا لكل عاقل بطالن‬
‫غلوهم يف عيسى ابن مريم وأ ّمه‪ ،‬من غري أن ينقص قدرمها‪ ،‬وال أن‬ ‫ّ‬
‫يسلبهام ما َم َّن به عليهام من الفضل العظيم‪ ،‬واملنزلة العالية بني عباده‪ ،‬بل‬
‫أثبت لعيسى الرسال َة وأل ّمه الصديقية‪.‬‬
‫والوجه السابع‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ٍ‬
‫رسل ماتوا وهو عىل إثرهم‬ ‫ٌ‬
‫رسول من مجلة‬ ‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾ فهو‬
‫سيموت‪ ،‬واإلله احلق إنام هو احلي الذي ال يموت‪.‬‬
‫رسول مك َّلف بأداء الرسالة؛ يأمرهم بعبادة اهلل‬
‫ٌ‬ ‫والوجه الثامن‪ :‬أنَّه‬
‫وحده ال رشيك له؛ كام هو ظاهر مستفيض لدهيم من كالمه ووصاياه‪،‬‬
‫يستحق العبادة ألمر بعبادة نفسه ال بعبادة غريه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ولو كان إهل ًا‬
‫والوجه التاسع‪ :‬أن الرسل أعظم الناس عبادة لربهّ م وافتقار ًا إليه‪ ،‬وهذا‬
‫أمر معلوم عل ًام قطعي ًا من أحواهلم وأخبارهم‪ ،‬والعابد حمتاج إىل إهله الذي‬
‫الغني احلميد الذي‬
‫ّ‬ ‫يعبده‪ ،‬واملحتاج ال يمكن أن يكون إهل ًا‪ ،‬إنام إهلهم اهلل‬
‫حتتاج إليه مجيع املخلوقات وال حيتاج إىل أحد‪.‬‬
‫والوجه العارش‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯝ ﯞ﴾ ويف هذا عدة ٍ‬
‫أدلة‪:‬‬
‫ٌ‬
‫خملوق كائ ٌن بعد أن مل يكن‪ ،‬فلم يوجد إال بعد والدة أمه‬ ‫‪ -‬أوهلا‪ :‬أنه‬
‫له؛ ومثل هذا ال يصلح أن يكون إهل ًا؛ فإن اإلله احلق إنام هو األول الذي‬
‫ليس قبله يشء‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫حمتاج يف أصل حياته إىل غريه فوجوده إنام كان بواسطة‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬الثاين‪ :‬أنه‬
‫أمه؛ واإلله احلق إنام هو احلي القيوم الذي قيام كل ٍ‬
‫يشء به‪ ،‬الغني احلميد‬
‫الذي ال حيتاج إىل ٍ‬
‫أحد سواه طرفة ٍ‬
‫عني‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬أنه مولو ٌد؛ واإلله احلق إنام هو الصمد الذي مل يلد ومل يولد‪.‬‬
‫خارج من املكان الذي قد علموا؛ ومثل هذا ال يصلح أن‬ ‫ٌ‬ ‫‪ -‬الرابع‪ :‬أنه‬
‫يكون إهل ًا؛ فاإلله احلق إنام هو القدوس السالم املتنـزه عام ال يليق بجالله‬
‫وعظمته‪.‬‬
‫‪ -‬اخلامس‪ :‬أن أمه صديق ٌة؛ فهي أم ٌة عابد ٌة فقري ٌة إىل من تعبده‪ ،‬والفقري‬
‫ال ينتج إال فقري ًا‪.‬‬
‫والوجه احلادي عرش‪ :‬قوله‪﴿ :‬ﯠ ﯡ ﯢ﴾ ويف هذا‬
‫عدة ٍ‬
‫أدلة‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬أن كوهنام يأكالن الطعام ٌ‬
‫دليل عىل حاجتهام وفقرمها إليه‪،‬‬
‫والفقري املحتاج ال يصلح أن يكون إهل ًا‪.‬‬
‫وآالت‬
‫ٌ‬ ‫جوف‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬الثاين‪ :‬أن العقالء قد علموا أن الذي يأكل الطعام له‬
‫وقنوات يسري فيها الطعام‪ ،‬واإلله احلق إنام هو الصمد‬
‫ٌ‬ ‫هتضم الطعام‪،‬‬
‫الذي ال جوف له‪ ،‬وال حيتاج إىل ما حيتاج إليه البرش‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬أن الذي ال يستطيع ترصيف الطعام داخل جسده وتسيريه يف‬
‫قنواته‪ ،‬وإيصال كل موض ٍع من جسمه ما حيتاج إليه من الغذاء؛ وإنام الذي‬
‫يسريه ويرصفه فيه غريه كيف يستطيع أن يدبر شئون اخلالئق‪ ،‬وجييب‬
‫دعواهتم‪ ،‬ويعلم رسائرهم وأحواهلم؟!!‬

‫‪- 112 -‬‬


‫إنام إهلهم امللك القيوم الذي قام بشؤوهنم ووسعهم علمه وحفظه‬
‫ورمحته‪.‬‬
‫‪ -‬الرابع‪ :‬أن العقالء قد علموا أن الذي يأكل الطعام ال بد له من‬
‫إخراجه بعد هضمه‪ ،‬والذي خترج منه هذه الفضالت املستقذرة ال يصلح‬
‫أن يكون إهل ًا؛ بل اإلله احلق إنام هو القدوس السالم املتنـزه عن مثل هذا‬
‫وسائر ما ال يليق بجالله وقدسيته‪.‬‬
‫‪ -‬اخلامس‪ :‬أن الذي يأكل الطعام عرض ٌة ألن يأكل ما يرضه أو ييسء‬
‫أكل ما فيه نفع فيمرض ويسقم؛ ومثل هذا ال يصلح أن يكون إهل ًا‪.‬‬
‫فهذه األدلة البينة التي نبه عليها بقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ﴾ قاطعة ببطالن ما زعموه من إهلية عيسى وأمه‪.‬‬
‫والوجه الثاين عرش‪ :‬قوله تعاىل بعد هذا البيان البديع‪﴿ :‬ﯤ ﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾‪ ،‬وهذا فيه بيان‬
‫احلق بعدما تب هلم‪ ،‬وأهنم مأفوكون ٍ‬
‫بإفك‬ ‫للسبب الذي رصفهم عن ّ‬
‫ينّ‬
‫عظيم؛ أضاعوا حياهتم وخرسوا سعادهتم باتّباعهم هذا اإلفك‪.‬‬
‫ِ‬
‫والرصف عن‬ ‫ِ‬
‫الكذب العظيم‪،‬‬ ‫ولفظ (اإلفك) هنا جامع بني معنيني‪:‬‬
‫احلق‪.‬‬
‫ّ‬
‫فاإلفك هو الفرية الكبرية‪.‬‬
‫املطر‬
‫وتقول العرب‪ :‬أرض مأفوكة‪ ،‬أي حمرومة من املطر‪ ،‬قد صرُ ف ُ‬
‫عنها إىل غريها‪.‬‬
‫الرج ُل َعن اخليرْ ِ َأي صرُ ف َعن ُه؛ فانقلب خائب ًا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ويقولون‪ُ :‬أف َك ُ‬

‫‪- 113 -‬‬


‫والوجه الثالث عرش‪ :‬التبكيت يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭ﴾‬
‫وهلذا التبكيت وقع شديد عىل النفس ملن عقل معناه‪ ،‬إذ كيف يرىض املرء‬
‫لنفسه أن حُيرم اخلري والسعادة بسبب اتّباع من خيادعه ويز ّين له الطريق‬
‫املفضية إىل النار حتى يدخلها‪.‬‬
‫النص عىل ِذك ِْر من َأ َفك َُهم وصرَ َ َف ُهم عن ّ‬
‫احلق‬ ‫والوجه الرابع عرش‪ :‬عدم ّ‬
‫كل مشرتك يف تضليلهم‬ ‫واهلدى وما فيه نجاهتم وسعادهتم‪ ،‬ليشمل ذلك ّ‬
‫كل سبب أ ّدى إىل ضالهلم‬ ‫احلق‪ ،‬وليتفكّروا يف ِّ‬‫وخداعهم ورصفهم عن ّ‬
‫وانحرافهم عن الرصاط املستقيم‪.‬‬
‫تأمل ذلك وجد أن أعظم أسباب انحرافهم‪:‬‬
‫ومن ّ‬
‫‪ -‬اتّباعهم خلطوات الشيطان وتضليله‪.‬‬
‫‪ -‬واتّباعهم ألهوائهم املردية‪ ،‬ورغباهتم املخزية‪.‬‬
‫‪ -‬وإعراضهم عن ّ‬
‫احلق البينّ الذي أتاهم من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ -‬وطاعتهم ملن َف َسدَ من أحبارهم ورهباهنم ومع ّظميهم الذين ز ّينوا‬
‫هلم تلك املقاالت الكفرية وأمروهم باعتقادها واتّباعهم عليها‪.‬‬
‫وخ ِد ُعوا هبا عن‬ ‫فهذه من أعظم األسباب التي ُأفكوا هبا عن ّ‬
‫احلق‪ُ ،‬‬
‫سلوك سبيل الفوز والسعادة‪.‬‬
‫والوجه اخلامس عرش‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ﴾ فإن العبد العاقل إنام يعبد من جيلب له النفع‬
‫ويدفع عنه الرض‪ ،‬وليس هذا لغري اهلل تعاىل؛ فهو النافع الضار‪ ،‬وغريه‬
‫مدبر‪ ،‬ناصيته بيد ربه ال‬
‫مربوب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫إنام رضره ونفعه بمشيئة اهلل تعاىل‪ ،‬وهو‬

‫‪- 114 -‬‬


‫يستقل بنف ٍع وال رض؛ فمن احلامقة عبادة من هذا شأنه!!‬
‫والوجه السادس عرش‪ :‬ما د ّلت عليه هذا اآلية من التنبيه عىل ما عرفوا‬
‫وأن عيسى مل يكن له طاقة‬‫مهوا بقتل عيسى عليه السالم‪َّ ،‬‬ ‫من َّ‬
‫أن اليهود قد ّ‬
‫بقتاهلم وال بدفعهم عن نفسه وال حتصني أتباعه منهم‪ ،‬فلم يكن يملك‬
‫والرض هو اهلل‬
‫ّ‬ ‫الرض ألعدائه وال النفع ألتباعه‪ ،‬وإنام الذي بيده النفع‬ ‫ّ‬
‫تعاىل‪ ،‬فكيف يزعمون أنّه إله من دون اهلل أو أنّه ابن اهلل‪.‬‬
‫والوجه السابع عرش‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ يسمع‬
‫دعاءهم ويعلم أحواهلم‪ ،‬وال خيفى عليه يش ٌء من أمرهم؛ وهذا هو اإلله‬
‫احلق‪ ،‬ليس الذي ال يسمع دعاء عابديه وال يعلم أحواهلم‪.‬‬
‫فاستبدال عبادة اهلل تعاىل الذي بيده النفع والرض وهو السميع العليم‬
‫بعبادة من ال يملك هلم رضا وال نفع ًا‪ ،‬وال يسمع دعاءهم وال يعلم‬
‫أحواهلم من أعظم اجلهل والسفه‪.‬‬
‫والوجه الثامن عرش‪ :‬أسلوب احلرص يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯼ ﯽ‬
‫ﯾﯿ﴾ وهذان االسامن اجلليالن لو تفكّر العباد فيهام لعلموا أنه ال‬
‫ينبغي أن يعبد غري اهلل تعاىل‪ ،‬فهو الذي وسع سمعه مجيع األصوات‪ ،‬عىل‬
‫اختالف اللغات‪ ،‬وتعدد الدعوات وتزامنها‪ ،‬ال يشغله سمع عن سمع‪،‬‬
‫وال خيفى عليه يشء‪ ،‬يعلم قصد ّ‬
‫كل دا ٍع بدعوته‪ ،‬وم ّطلع عىل حاله ون ّيته‪،‬‬
‫ويسمع ّ‬
‫كل ما ينطق به‪ ،‬ويعلم كل ما حيدّ ث به نفسه‪.‬‬
‫وهذا ال يكون إال هلل تعاىل؛ فكيف ُيعبد غريه؟!!‬
‫والوجه التاسع عرش‪ :‬ما ّ‬
‫تضمنه قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ﴾‬
‫وحد اهلل تعاىل واستجاب لدعوته‪.‬‬
‫من الوعد باستجابة الدعاء ملن ّ‬
‫‪- 115 -‬‬
‫فيستجيب اهلل دعاء من يستجيب لدعوته؛ ويعرض عمن أعرض عن‬
‫دعائه واستجابة دعوته‪ ،‬استجابة باستجابة‪ ،‬وإعراض بإعراض‪ ،‬واهلل‬
‫تعاىل يعلم حال املستجيبني واملعرضني‪.‬‬
‫ويوم القيامة جيزي الذين استجابوا أحسن اجلزاء يف جنات النعيم‪،‬‬
‫ويعاقب املعرضني أشدّ العقاب يف نار جهنّم وبئس املصري‪.‬‬
‫كل إنسان يكون حكمه بحسب ما يضع نفسه من‬ ‫أن َّ‬‫فرجع األمر إىل ّ‬
‫كل خلقه‪ ،‬فمن أطاع اهلل واستجاب‬ ‫دعوة ر ّبه له‪ ،‬وحجة اهلل قائمة عىل ّ‬
‫لدعوته سعد وفاز‪ ،‬ومن أعرض فال يلوم ّن إال نفسه‪.‬‬
‫والوجه العرشون‪ :‬ما تضمنته هذه اآليات اجلليلة من الداللة عىل أسامء‬
‫كل وجه من األوجه املتقدّ مة‬ ‫اهلل احلسنى وصفاته العليا‪ ،‬ولو تأ ّملت َّ‬
‫وجدت أنَّه من آثار بعض أسامء اهلل وصفاته‪.‬‬
‫فانظر كيف اجتذب القلوب إىل عبادته وتوحيده بام له من األسامء‬
‫احلسنى والصفات العىل‪ ،‬وانظر إىل كامل حجة اهلل وإحكامها‪ ،‬حيث ال‬
‫يبقى بعدها لذي باطل ما يستمسك به‪.‬‬
‫وفقني اهلل وإياكم‪ ،‬حلسن تدبر كتابه الكريم‪ ،‬وتالوته حق تالوته‪ ،‬وفقه‬
‫حججه‪ ،‬ونرصة دينه‪ ،‬واهلل املوفق واهلادي إىل سواء السبيل‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫الباب ال�ساد�س‪ :‬الأ�سلوب البياين‬

‫األسلوب البياين هو األسلوب الذي ُيعنى فيه صاحبه ببيان بالغة‬


‫القرآن‪ ،‬والتعريف بسمو ألفاظه‪ ،‬وسعة معانيه‪ ،‬وائتالفها وعدم اختالفها‪،‬‬
‫وتناسب األلفاظ واملعاين‪ ،‬وتبيني لطائف الفروق بني األلفاظ‪ ،‬واستخراج‬
‫احلكم من اختيار بعضها عىل بعض‪ ،‬وجتلية معاين األساليب والرتاكيب‪،‬‬
‫وبيان أرسار التقديم والتأخري‪ ،‬والتعريف والتنكري‪ ،‬والذكر واحلذف‪،‬‬
‫واإلظهار واإلضامر‪ ،‬وااللتفات يف اخلطاب‪ ،‬واإلسهاب واالقتضاب‪،‬‬
‫وبيان معاين احلروف واإلطالقات‪ ،‬إىل غري ذلك من املباحث البيانية التي‬
‫املفسون هبذا األسلوب‪.‬‬
‫ُيعنى هبا رّ‬

‫ثمرات التف�سري البياين‪:‬‬


‫التفسري البياين لون من ألوان تبليغ معاين القرآن‪ ،‬والدعوة إىل اهلل تعاىل‬
‫وذب الطعن عنه‪ ،‬ونفي االختالف فيه‪.‬‬ ‫بتمجيد كالمه‪ ،‬وبيان حسنه وعظمته‪ّ ،‬‬
‫وله ثمرات جليلة‪:‬‬
‫منها‪ :‬بيان سعة معاين القرآن وسمو ألفاظه وتسنّمه الذروة العليا من‬
‫البيان‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تقرير ائتالف معاين القرآن وعدم اختالفها‪ ،‬واجلواب عام يثريه‬
‫بعض الطاعنني يف بيان القرآن‪.‬‬
‫‪- 117 -‬‬
‫ومنها‪ :‬اجلواب عام يشكل عىل بعض العلامء والعامة من املسائل التي‬
‫يرون يف ظاهرها إشكاالً يسبق إىل أذهاهنم يستح ّثهم للسؤال عام يرفعه‪،‬‬
‫وطلب الكشف عن املعنى الصحيح الذي ال إشكال فيه؛ فيحصل‬
‫بالبحث والسؤال واستعامل األدوات البيانية ما يفيد السائل بأكثر مما سأل‬
‫ويعرف بحسن بيان القرآن واتساق ألفاظه وائتالف معانيه‪.‬‬ ‫عنه غالب ًا‪ّ ،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن األدوات البيانية تفيد فوائد جليلة يف تقرير االستدالل‬
‫حجتهم‪ ،‬وإعالل األقوال الضعيفة وبيان‬
‫املفسين وتقوية ّ‬‫لبعض أقوال رّ‬
‫ما ير ّدها‪ ،‬والرتجيح بني أقوال املفرسين‪.‬‬
‫بقوة بيان القرآن بسبب ما حيصل من إدهاش املتل ّقي‬ ‫ومنها‪ :‬التأثري ّ‬
‫ٍ‬
‫معان بديعة كانت غائبة عنه؛ وهذا‬ ‫بام يذهب حريته‪ ،‬ويكشف له عن‬
‫االندهاش واالنبهار له تأثري بالغ عىل بعض النفوس فتنقاد به ويؤثر فيها‬
‫ما ال يؤثره األسلوب الوعظي‪.‬‬

‫و�سائل حت�سني الأ�سلوب البياين‬


‫التفسري باألسلوب البياين يستدعي أهلية علمية حسنة يف علوم البالغة‬
‫وفقه اللغة ومعاين احلروف واملفردات وأوجه اإلعراب والترصيف‪.‬‬
‫وجيب ‪-‬مع ذلك‪ -‬أن يكون التفسري البياين قائ ًام عىل قدر حسن من‬
‫املفس‬
‫التأصيل العلمي يف علم أصول التفسري وعلم العقيدة؛ لئال يقود رِّ َ‬
‫استحسانُه بعض ما يقرأ أو خيطر له من األوجه البيانية إىل اخلروج بقول‬
‫باطل يف التفسري أو خمالف لصحيح االعتقاد‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫ومما يعني عىل حتسني األسلوب البياين‪:‬‬
‫‪ .1‬دراسة خمترصات يف علوم اللغة املتقدّ م ذكرها دراسة حسنة ُيعنى‬
‫مهم ليحصل‬ ‫فيها باألمثلة التطبيقية عىل مسائل التفسري‪ ،‬وهذا القدر ّ‬
‫تصور حسن ومعرفة جيدة بمسائل التفسري البياين‪ ،‬ول ُي ْحسن‬ ‫للطالب ّ‬
‫فهم كالم املفرسين يف هذا النوع من املسائل‪.‬‬
‫َ‬
‫»‬
‫‪ .2‬قراءة التفاسري التي تُعنى بعلم البيان ومن أجودها «التحرير والتنوير‬
‫للطاهر ابن عاشور‪ ،‬و«تفسري أيب السعود»‪ ،‬و«روح املعاين» لأللويس‪،‬‬
‫و«الكشاف» للزخمرشي مع االحرتاز من اعتزالياته‪ ،‬و«نظم الدرر» للبقاعي‬
‫مع االحرتاز مما فيه من التكلف واألغالط يف بعض املواضع‪ ،‬و«حاشية‬
‫الطيبي عىل الكشاف»‪ ،‬و«حاشية الشهاب اخلفاجي عىل البيضاوي»‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫‪ .3‬قراءة الرسائل التفسريية التي ُيعنى أصحاهبا بالتفسري البياين‪،‬‬
‫أهم‬
‫واالجتهاد يف حماولة حماكاهتم‪ ،‬واستعامل أدواهتم العلمية‪ ،‬وهي من ّ‬
‫األسباب املعينة عىل تنمية ملكة التفسري البياين‪.‬‬
‫‪ .4‬قراءة الكتب التي تعدّ أصوالً يف علم البالغة ككتايب عبد القاهر‬
‫اجلرجاين «أرسار البالغة» و«دالئل اإلعجاز»‪ ،‬و«أساس البالغة» للزخمرشي‪،‬‬
‫و«اإليضاح» للقزويني‪ ،‬وغريها‪ ،‬وهذه الكتب حيتاجها طالب العلم لبحث‬
‫املسائل البالغية وتفصيلها‪.‬‬
‫‪ .5‬قراءة الكتب التي تعنى بالبالغة القرآنية؛ ويكثر أصحاهبا من ذكر‬
‫األوجه البيانية يف آيات القرآن‪ ،‬ومن أجودها‪« :‬بديع القرآن» البن أيب‬
‫رس الفصاحة» البن سنان اخلفاجي‪ ،‬و«التبيان يف علم‬‫اإلصبع املرصي‪ ،‬و ّ‬
‫«‬

‫البيان» للطيبي‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫‪ .6‬القراءة يف كتب ُم ْش ِكل القرآن؛ والتعرف عىل أنواع اإلشكاالت‬
‫التي تُثار‪ ،‬وأصول الرد عليها‪ ،‬واألدوات العلمية التي يستعملها العلامء‬
‫ينمي ملكة طالب العلم يف التعرف‬ ‫يف اجلواب عنها‪ ،‬وتكرار هذه املسائل ّ‬
‫عىل أسباب اإلشكاالت وطرق كشفها‪ ،‬ومن أجود تلك الكتب‪« :‬تأويل‬
‫مشكل القرآن» البن قتيبة‪ ،‬و«أنموذج جليل يف أسئلة وأجوبة عن غرائب‬
‫آي التنزيل» ملحمد بن أيب بكر الرازي صاحب «خمتار الصحاح»‪ ،‬و«تفسري‬
‫آيات أشكلت عىل كثري من العلامء» البن تيمية‪ ،‬و«دفع إهيام االضطراب‬
‫عن آيات الكتاب» ملحمد األمني الشنقيطي‪.‬‬
‫أهم‬ ‫‪ّ .7‬‬
‫التمرن عىل استخراج املسائل التفسريية من اآليات؛ وهي من ّ‬
‫املهارات املفيدة يف تنمية ملكة األسلوب البياين‪.‬‬
‫واملتأمل يف رسائل العلامء املتقدمني يف األسلوب البياين جيد لدهيم براعة‬
‫يف استخراج املسائل واستنتاج الفوائد واألحكام‪ ،‬فقد ذكر ابن الق ّيم يف‬
‫فصل له يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‪ ﴾...‬اآلية‬
‫عرشين مسألة‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر ابن اجلزري يف رسالة له يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯪ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‪ ﴾...‬اآلية مخس ًا وأربعني مسألة‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر الزجاج يف رسالته يف تفسري البسملة ثامنني مسألة‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر السيوطي يف رسالة له يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔ ‪ ﴾...‬مائة وعرشين فائدة بالغية‪.‬‬
‫وهذه الرباعة يف استخراج املسائل هلا أثر كبري يف التفطن ألوجه البيان‬
‫واجلواب عن اإلشكاالت التي تعرض لبعض السائلني‪.‬‬
‫‪- 120 -‬‬
‫وهذه الكتب وإن بدا للناظر أهنا كثرية بادئ األمر إال أن املعتني‬
‫باألسلوب البياين جيد يف قراءهتا ودراسة مسائلها من الفائدة واملتعة‬
‫والوقوف عىل اللطائف والعجائب ما يذهب عنه كثري ًا من عناء البحث‬
‫واملدارسة؛ ويثري معرفته بمسائل التفسري البياين‪ ،‬و ُيكْسبه التأصيل‬
‫احلسن يف هذا العلم‪.‬‬

‫َ‬
‫املخاطبون بالأ�سلوب البياين‪:‬‬
‫اخلطاب باألسلوب البياين له درجات فمنه ما يناسب أهل العلم‬
‫وتستخدم فيه املصطلحات البيانية املعروفة لدى املعتنني هبذه العلوم‪.‬‬
‫ومنه ما يكون الغرض منه تفهيم العامة ببعض بيان القرآن فيوىص‬
‫املفس أن خييل كالمه مما ال تدرك العامة معناه من املصطلحات والعبارات‬
‫رّ‬
‫التي تناسب اخلاصة‪ ،‬وأن جيتهد يف تيسري أسلوبه وتقريب عباراته ألفهام‬
‫املخا ّطبني‪ ،‬وأن يتجنب التعقيد واحلشو‪.‬‬

‫عناية العلماء بالأ�سلوب البياين‪:‬‬


‫التفسري البياين نوع من أنواع التفسري اللغوي‪ ،‬وللعناية به أصل لدى‬
‫السلف لكن كانت طريقتهم فيه التنبي ُه واإلشارة‪ ،‬ومل يعرف االسرتسال يف‬
‫وتقرر مصطلحاهتا‪.‬‬
‫التفسري البياين إال بعد نضج التأليف يف علوم البالغة ُّ‬
‫ولذلك قد يأخذ بعض البالغيني الكلمة الواحدة من تفسري السلف‬
‫ال كثري ًا ويطنبون يف رشحه وتقريره وإظهار‬
‫فيفصلون القول فيها تفصي ً‬
‫ّ‬
‫حماسنه‪.‬‬
‫‪- 121 -‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫قول قتادة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫احلي»‪ .‬رواه‬
‫األمة‪ ،‬يعني بذلك القلب‪ :‬القلب ّ‬
‫ﭨ﴾‪ :‬قال‪« :‬أي من هذه ّ‬
‫ابن جرير‪.‬‬
‫وقال عبد الرمحن بن زيد بن أسلم يف قوله‪﴿ :‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾ قال‪:‬‬
‫(قلب يعقل ما قد سمع من األحاديث ا ّلتي ّ‬
‫عذب اللهّ هبا من عصاه من‬ ‫ٌ‬
‫األمم)‪.‬‬
‫ُسمي من ال ينتفع‬
‫لغوي وهو أن العرب ت ّ‬
‫ّ‬ ‫فهذا القول مبني عىل أصل‬
‫باآللة باسم فاقدها؛ فيقال ملن ال يبرص احلق مع وضوحه‪ :‬أعمى‪ ،‬ومن‬
‫أصم‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل يف الكفار‪﴿ :‬ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬ ‫ّ‬ ‫ال يسمعه‪:‬‬
‫ﭻﭼ﴾‪.‬‬
‫عب عنه بعض السلف بعبارة موجزة أخذه عبد‬ ‫فهذا املعنى الذي رّ‬
‫القاهر اجلرجاين يف كتابه «دالئل اإلعجاز« وحبرَّ ه حتبري ًا حسن ًا فقال‪( :‬قوله‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾ أي ملن أعمل قلبه فيام خلق‬
‫القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيام ينبغي أن ينظر فيه؛ فهذا عىل أن‬
‫جيعل الذي ال يعي وال يسمع وال ينظر وال يتفكر‪ ،‬كأنه قد عدم القلب‬
‫من حيث عدم االنتفاع به‪ ،‬وفاته الذي هو فائدة القلب واملطلوب منه كام‬
‫جيعل الذي ال ينتفع ببرصه وسمعه وال يفكر فيام يؤديان إليه‪ ،‬وال حيصل‬
‫من رؤية ما يرى وسامع ما يسمع عىل فائدة‪ ،‬بمنزلة من ال سمع له وال‬
‫برص‪.‬‬
‫فأما تفسري من يفرسه عىل أنه بمعنى «من كان له عقل»‪ ،‬فإنه إنام يصح‬

‫‪- 122 -‬‬


‫عىل أن يكون قد أراد الداللة عىل الغرض عىل اجلملة‪ ،‬فأما أن يؤخذ به‬
‫عىل هذا الظاهر حتى كأن «القلب» اسم «للعقل»‪ ،‬كام يتومهه احلشو ومن‬
‫ال يعرف خمارج الكالم‪ ،‬فمحال باطل‪ ،‬ألنه يؤدي إىل إبطال الغرض من‬
‫اآلية‪ ،‬وإىل حتريف الكالم عن صورته‪ ،‬وإزالة املعنى عن جهته‪.‬‬
‫وذاك أن املراد به احلث عىل النظر‪ ،‬والتقريع عىل تركه‪ ،‬وذ ُّم من ُّ‬
‫خيل به‬
‫ويغفل عنه‪ ،‬وال حيصل ذلك إال بالطريق الذي قدّ متُه‪ ،‬وإال بأن يكون قد‬
‫جعل من ال يفقه بقلبه وال ينظر وال يتفكر‪ ،‬كأنه ليس بذي قلب‪ ،‬كام جيعل‬
‫كأنه مجاد‪ ،‬وكأنه ميت ال يشعر وال حيس‪.‬‬
‫وليس سبيل من فرس «القلب» ههنا عىل «العقل» إال سبيل من فرس‬
‫عليه «العني» و «السمع» يف قول الناس‪« :‬هذا بني ملن كانت له عني‪ ،‬وملن‬
‫كان له سمع» وفرس «العمى» و «الصمم» و «املوت» يف صفة من يوصف‬
‫باجلهالة‪ ،‬عىل جمرد اجلهل‪ ،‬وأجرى مجيع ذلك عىل الظاهر‪ ،‬فاعرفه‪.‬‬
‫ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسري بغري علم‪ ،‬أن يتومهوا أبدا يف األلفاظ‬
‫املوضوعة عىل املجاز والتمثيل‪ ،‬أهنا عىل ظواهرها‪ ،‬فيفسدوا املعنى بذلك‪،‬‬
‫ويبطلوا الغرض‪ ،‬ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البالغة‪،‬‬
‫ومكان الرشف‪ ،‬وناهيك هبم إذا هم أخذوا يف ذكر الوجوه‪ ،‬وجعلوا‬
‫يكثرون يف غري طائل‪ ،‬هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه‪ ،‬وزند‬
‫ضاللة قد قدحوا به‪ ،‬ونسأل اهلل تعاىل العصمة والتوفيق)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ثم جاء ابن الق ّيم بعده فزاد يف هذا التفسري وبالغ يف حتبريه وحتريره‬
‫وأسهب فيه وأطنب‪ ،‬وأدهش وأعجب‪ ،‬واستعمل السرب والتقسيم‪،‬‬
‫ووقف عىل معاين احلروف واألساليب‪ ،‬ومقاصد اآلية وسياقها‪ ،‬وتوافقها‬

‫‪- 123 -‬‬


‫مع مقاصد القرآن واتّساقها‪ ،‬فخرج ببيان بديع ِ‬
‫معجب‪.‬‬
‫فقال يف كتابه «مدارج السالكني»‪( :‬وقال تعاىل يف آياته املشهودة‪﴿ :‬ﭑ‬
‫ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾‪.‬‬
‫والناس ثالثة‪ :‬رجل قلبه ميت‪ ،‬فذلك الذي ال قلب له‪ ،‬فهذا ليست‬
‫هذه اآلية ذكرى يف حقه‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬رجل له قلب حي مستعد‪ ،‬لكنه غري مستمع لآليات املتلوة التي‬
‫خيرب هبا اهلل عن اآليات املشهودة إما لعدم ورودها‪ ،‬أو لوصوهلا إليه ولكن‬
‫قلبه مشغول عنها بغريها‪ ،‬فهو غائب القلب‪ ،‬ليس حارضا‪ ،‬فهذا أيضا ال‬
‫حتصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬رجل حي القلب مستعد‪ ،‬تليت عليه اآليات‪ ،‬فأصغى بسمعه‪،‬‬
‫وألقى السمع وأحرض قلبه‪ ،‬ومل يشغله بغري فهم ما يسمعه‪ ،‬فهو شاهد‬
‫القلب‪ُ ،‬م ْل ِق السمع‪ ،‬فهذا القسم هو الذي ينتفع باآليات املتلوة واملشهودة‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬بمنزلة األعمى الذي ال يبرص‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬بمنزلة البصري الطامح ببرصه إىل غري جهة املنظور إليه‪ ،‬فكالمها‬
‫ال يراه‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬بمنزلة البصري الذي قد حدق إىل جهة املنظور‪ ،‬وأتبعه برصه‪،‬‬
‫وقابله عىل توسط من البعد والقرب‪ ،‬فهذا هو الذي يراه‪.‬‬
‫فسبحان من جعل كالمه شفاء ملا يف الصدور‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فام موقع «أو» من هذا النظم عىل ما قررت؟‬

‫‪- 124 -‬‬


‫قيل‪ :‬فيها رس لطيف‪ ،‬ولسنا نقول‪ :‬إهنا بمعنى الواو‪ ،‬كام يقوله ظاهرية‬
‫النحاة‪.‬‬
‫فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب و ّقاد‪ ،‬ميلء باستخراج العرب‪،‬‬
‫واستنباط احلكم‪ ،‬فهذا قلبه يوقعه عىل التذكر واالعتبار‪ ،‬فإذا سمع‬
‫اآليات كانت له نورا عىل نور‪ ،‬وهؤالء أكمل خلق اهلل‪ ،‬وأعظمهم إيامنا‬
‫كأن الذي أخربهم به الرسول مشاهد هلم‪ ،‬لكن مل يشعروا‬ ‫وبصرية‪ ،‬حتى ّ‬
‫بتفاصيله وأنواعه‪ ،‬حتى قيل‪ :‬إن مثل حال الصديق مع النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬كمثل رجلني دخال دارا‪ ،‬فرأى أحدمها تفاصيل ما فيها وجزئياته‪،‬‬
‫واآلخر وقعت يده عىل ما يف الدار ومل ير تفاصيله وال جزئياته‪ ،‬لكن علم‬
‫أن فيها أمورا عظيمة‪ ،‬مل يدرك برصه تفاصيلها‪ ،‬ثم خرجا‪ ،‬فسأله عام رأى‬
‫يف الدار؟ فجعل كلام أخربه بيشء صدقه‪ ،‬ملا عنده من شواهده‪ ،‬وهذه‬
‫عبد بمثل هذا‬‫أعىل درجات الصديقية‪ ،‬وال تستبعد أن يمن اهلل املنان عىل ٍ‬
‫ّ‬
‫اإليامن‪ ،‬فإن فضل اهلل ال يدخل حتت حرص وال حسبان‪.‬‬
‫فصاحب هذا القلب إذا سمع اآليات ويف قلبه نور من البصرية ازداد‬
‫هبا نور ًا إىل نوره‪ ،‬فإن مل يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد‬
‫قلبه ومل يغب حصل له التذكر أيضا ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ والوابل‬
‫والطل يف مجيع األعامل وآثارها وموجباهتا‪ ،‬وأهل اجلنة سابقون مقربون‪،‬‬
‫وأصحاب يمني‪ ،‬وبينهام يف درجات التفضيل ما بينهام‪ ،‬حتى إن رشاب‬
‫أحد النوعني الرصف يطيب به رشاب النوع اآلخر ويمزج به مزجا‪،‬‬
‫قال اهلل تعاىل ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾ فكل مؤمن يرى هذا‪ ،‬ولكن رؤية‬
‫أهل العلم له لون‪ ،‬ورؤية غريهم له لون آخر)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫‪- 125 -‬‬
‫واملقصود من هذا العرض أن العلامء املتقدمني كانت هلم عناية هبذا‬
‫النوع لكنهم كانوا جيتزئون عن التطويل باإلشارة‪ ،‬وعن التفصيل بالتنبيه‪.‬‬
‫قال عبد اهلل بن دينار‪ :‬كان عمر بن اخلطاب يسأل ابن عباس عن اليشء‬
‫من القرآن ثم يقول‪ُ « :‬غ ْص َغ َّواص» رواه اإلمام أمحد يف «فضائل الصحابة»‪.‬‬
‫وقال ابن عباس لرجل سأله عن مسائل يف القرآن أشكلت عليه‪ ،‬ومنها‬
‫قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ ونظائرها؛ قال‪ :‬ما شأنه يقول‪:‬‬
‫﴿ﮊ ﮋ﴾ يشري إىل أن (كان) ملا مىض‪.‬‬
‫فقال له ابن عباس‪« :‬وأما قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮊ ﮋ﴾؛ فإن اهلل كان مل يزل‬
‫كذلك‪ ،‬وهو كذلك عزيز حكيم قدير‪ ،‬مل يزل كذلك؛ فام اختلف عليك‬
‫من القرآن فهو ِش ْب ُه ما ذكرت لك؛ َّ‬
‫فإن اهلل مل ُي ِنزل شيئ ًا إال وقد أصاب به‬
‫الذي أراد‪ ،‬ولكن الناس ال يعلمون»‪ .‬رواه عبد الرزاق وابن أيب حاتم‪،‬‬
‫وع َّلقه البخاري يف صحيحه‪.‬‬
‫توسع العلامء يف علوم البالغة ظهر أثر العناية بتلك العلوم عىل‬
‫ثم ملا ّ‬
‫َ‬
‫مسائل التفسري‪ ،‬واشتهر بالعناية بالتفسري البياين مجاعة من‬ ‫تعاطيهم‬
‫املفسين منهم‪ :‬الزخمرشي والطيبي وابن القيم والبقاعي وأبو السعود‬ ‫رّ‬
‫والشهاب اخلفاجي واأللويس وابن عاشور‪.‬‬
‫ولبعض العلامء رسائل مفردة أو فصول من بعض كتبهم‪ ،‬ومن أجودها‪:‬‬
‫‪ .1‬فصل يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ‪﴾...‬‬
‫اآلية البن القيم‪.‬‬
‫‪« .2‬كفاية األملعي يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ‪ »﴾...‬للحافظ ابن اجلزري‪.‬‬
‫‪- 126 -‬‬
‫‪« .3‬فتح اجلليل للعبد الذليل» جلالل الدين السيوطي‪.‬‬

‫مثال‪:‬‬
‫‪ .1‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾‪.‬‬

‫التطبيق‪:‬‬
‫‪ -‬اكتب رسالة تفسريية خمترصة باألسلوب البياين‪.‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾‬

‫تضمنت هاتان اآليتان من األوجه البيانية البديعة‪ ،‬والفوائد واللطائف‬


‫العجيبة ما يمأل قلب متأ ّملهام تعظي ًام لكالم اهلل ّ‬
‫جل وعال‪ ،‬ويقين ًا بحسن‬
‫بيانه‪ ،‬وأنّه ليس كمثل كالم اهلل تعاىل كالم‪ ،‬وال كمثل خطابه خطاب‪ ،‬قد‬
‫هبر األلباب بإحكا ِم بيانه‪ ،‬وشفى النفوس هبداه وبصائره‪ ،‬ووعظ القلوب‬
‫فأحياها‪ ،‬وزجر النفوس عن أهوائها املردية وزكّاها‪ّ ،‬‬
‫ودل أويل األلباب‬
‫عىل سبيل احلكمة بأحسن بيان وألطف خطاب‪.‬‬
‫يس اهلل معرفته من األوجه البيانية يف هاتني‬ ‫وهذه الرسالة فيها بيان ملا رّ‬
‫وقوة داللتها عىل املعاين‬
‫اآليتني‪ ،‬وبديع اختيار بعض األلفاظ عىل بعض‪ّ ،‬‬
‫املرادة‪ ،‬وسعة آثارها ولوازمها‪ ،‬ووفائها بام حتتاجه النفس البرشية من‬
‫ّ‬
‫وأجل املعاين‪ ،‬وأحسنها أثر ًا‪،‬‬ ‫بيان اهلدى؛ وشفاء أدوائها‪ِ ،‬‬
‫بأبني األلفاظ‬
‫وأشدّ ها تأثري ًا عىل من عقل اخلطاب وفهم املراد‪.‬‬
‫وأول ذلك إخراج هاتني اآليتني خمرج الرسالة العظيمة ذات الشأن‬ ‫ّ‬
‫الكبري‪ ،‬وتوجيه اخلطاب للنبي صىل اهلل عليه وسلم ليب ّلغ هذه الرسالة‬
‫العظيمة ذات الشأن؛ إذ من املعلوم املتقرر أن الرسائل العظيمة يخُ تار‬
‫ِ‬
‫عظيم ال َقدْ ِر واألمانة‪ ،‬فع َظم َقدْ ِر َ‬
‫املرسل هبذه الرسالة من دالئل‬ ‫ُ‬ ‫لتبليغها‬
‫عظمة الرسالة نفسها‪ ،‬وأنهّ ا ذات شأن كبري‪ ،‬وأثر جليل‪.‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫فقال تعاىل‪﴿ :‬ﯴ ﯵ﴾‬
‫أمر ذي شأن‬‫جمرد اإلخبار؛ فهو إخبار صادق عن ٍ‬ ‫أخص من ّ‬ ‫ّ‬ ‫واإلنباء‬
‫ذكر أهل العلم من الفرق‬ ‫يفيد عل ًام له ٌ‬
‫أثر عىل املن َّبأ به‪ ،‬وهذه خالصة ما َ‬
‫والزبيدي‬
‫ُّ‬ ‫الراغب يف مفرداته‬ ‫ُ‬ ‫بعض ذلك‬‫بني اإلخبار واإلنباء‪ ،‬وقد ذكر َ‬
‫يدل عليه استقراء ورود هذا اللفظ‬ ‫يف تاج العروس وغريمها‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫يف كالم العرب؛ فال يكا ُد ُيطلق لفظ النبأ عىل اخلرب التافه إال عىل سبيل‬
‫فيهتم له‬
‫ّ‬ ‫أثر عىل املن َّبأ به؛‬
‫التهكّم‪ ،‬كام ال يكاد يطلق إال عىل اخلرب الذي له ٌ‬
‫و ُيعنى به‪ ،‬كام قال كعب بن زهري‪:‬‬
‫والعفو عند رس�ول اهلل مأمول‬ ‫ُن ّبئ�ت ّ‬
‫أن رس�ول اهلل أوع�دين‬
‫وقال احلارث بن ح ّلزة اليشكري‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ط�ب ُن ْعنَ�ى بِ�ه َون َُس ُ‬
‫�اء‬ ‫ء َخ ٌ‬ ‫احل�وادث واألنب�ا‬ ‫م�ن‬
‫وأتان�ا َ‬
‫إحف�اء‬
‫ُ‬ ‫قيله�م‬
‫ْ‬ ‫َن علين�ا يف‬ ‫األراق�م َيغ ُل�و‬
‫َ‬ ‫أن إخوانَن�ا‬
‫َّ‬
‫اخللاء‬
‫ُ‬ ‫اخللي‬
‫َّ‬ ‫نف�ع‬
‫ـ�ب وال َي ُ‬ ‫البريء منّا بذي َّ‬
‫الذنْـ‬ ‫َ‬ ‫خيلطون‬
‫َ‬

‫وقال امرؤ القيس بن حجر‪:‬‬


‫�د‬‫ولمَ تر ُق ِ‬ ‫َ ِل�يِ‬ ‫ِ‬
‫باألثم�د‬ ‫َ‬
‫َط�اول َلي ُل�ك‬
‫ت‬
‫ْ ْ‬ ‫اخل ُّ‬ ‫ون�ام‬
‫�د‬ ‫العائ�ر األرم ِ‬
‫ِ‬ ‫َك َلي ِ‬
‫ل�ة ذي‬ ‫وبات�ت ل� ُه ليل� ٌة‬
‫ْ‬ ‫وب�ات‬
‫َْ‬ ‫ْ‬
‫�و ِد‬‫األس َ‬
‫ْ‬ ‫َو ُخبرِّ ْ تُ� ُه َع ْ‬
‫�ن أيب‬ ‫وذل�ك م�ن َن َب�أٍ ج�اءين‬ ‫َ‬

‫وقد نُسبت هذه األبيات إىل غري امرئ القيس‪ ،‬واملشهور أهنا له‪،‬‬
‫وشواهد هذا املعنى كثرية يف كالم العرب وأشعارهم‪.‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫أن قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯴ﴾ ّ‬
‫يدل عىل اإلخبار بأمر له شأن‪ ،‬جيب‬ ‫واملقصود ّ‬
‫عىل املن َّبئني به أن ينصتوا له‪ ،‬ويعوه بقلوهبم‪ ،‬ويعرفوا له قدره‪.‬‬
‫واختري لفظ ﴿ﯴ﴾ بالتشديد عىل [أنبئ] يف هذا املقام للداللة عىل‬
‫ِ‬
‫األمر املن ّبأ به‪.‬‬ ‫التوكيد‪ ،‬وبيان ِع َظم‬
‫وتصدير اآلية باألمر بـ﴿ﯴ﴾ هي ّيئ النفس لتل ّقي هذا النبأ ذي الشأن‪،‬‬
‫ويتبص به‪ ،‬حتى‬
‫رّ‬ ‫رضه عق َله‪ ،‬ويتفكّر فيه‪،‬‬
‫وي َ‬
‫فيلقي إليه السامع سمعه‪ ،‬حُ‬
‫يدرك مقصده وأثره؛ ويتّبع ما فيه من اهلدى‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯵ﴾ اختيار هذا اللفظ عىل غريه من األلفاظ فيه‬
‫جل وعال‪ ،‬وأنهّ م مهام بلغوا فهم عباد‬ ‫تذكري للناس بعبوديتهم لربهّ م ّ‬
‫خملوقون لعبادته‪ ،‬مقهورون حتت حكمه‪ ،‬ال خيرجون عن سلطانه؛ ففيه‬
‫من توكيد وجوب االستامع إىل هذا النبأ ما ال خيفى؛ إذ هو خطاب ربهّ م‬
‫رب هلم سواه‪ ،‬وال خالق هلم غريه؛ فكذلك جيب أن ال‬ ‫ومالكهم الذي ال ّ‬
‫يكون هلم معبود سواه‪ ،‬وال أعظم يف قلوهبم منه‪.‬‬
‫واإلضافة يف ﴿ﯵ﴾ حتمل معنيني متسقني غري خمتلفني‪:‬‬
‫املعنى األول‪ :‬إضافة امللك واالختصاص‪ ،‬أي هم عباده ال عباد غريه‪،‬‬
‫وهي إضافة تقتيض أنهّ م خملوقون مربوبون حمكومون بحكم اهلل تعاىل‪ ،‬ال‬
‫خيرجون عن ُحك ِْمه وسلطانه‪ ،‬وهذا باعتبار معنى العبودية العام‪ ،‬كام قال‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ﴾‪ ،‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ﴾‪.‬‬
‫واملعنى الثاين‪ :‬إضافة الترشيف‪ ،‬وهي خاصة لعباده الذين يعبدونه‬
‫وحده ال رشيك له؛ وهي املذكورة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫‪- 130 -‬‬
‫ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾‪ ،‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾‪.‬‬
‫ولكل عبد ما يناسبه من هذه اإلضافة؛ فاملؤمنون هلم منها حظ الترشيف‬
‫والتكريم‪ ،‬والك ّفار هلم منها ّ‬
‫حظ العبودية الالزمة هلم التي ال خيرجون‬
‫حجة عليهم؛ إذ عبدوا غريه‪ ،‬ومها عباده‬
‫عنها بحال من األحوال‪ ،‬وهي ّ‬
‫يف احلقيقة‪.‬‬
‫واإلضافتان تقتضيان عناية اهلل تعاىل بعباده‪ ،‬وأنّه مل خيلقهم عبث ًا‪ ،‬ومل‬
‫يرتكهم مهالً‪ ،‬بل أرسل إليهم الرسل‪ ،‬وبينّ هلم اهلدى‪.‬‬
‫وهذه اإلضافة تفيد املؤمنني فائدة أخرى عظيمة الشأن واألثر‪ ،‬وهي‬
‫وتنميها‪ ،‬ويزيدها االعتزاز‬ ‫حترك حم ّبة اهلل تعاىل يف قلوهبم‪،‬وتع ّظمها ّ‬
‫أهنا ّ‬
‫بترشيفه إ َّياهم بإضافتهم إليه؛ فهم عبا ُده‪ ،‬وهو معبودهم الذي يعبدونه‬
‫وحده ال رشيك له؛ فيح ّبونه غاية املحبة‪ ،‬ويع ّظمونه غاية التعظيم‪،‬‬
‫تسمى العبادة عبادة حتى جيتمع فيها‬ ‫وخيضعون له غاية اخلضوع‪ ،‬وال ّ‬
‫معنى املحبة والتعظيم واخلضوع‪ ،‬وبذلك يكون املرء عابد ًا هلل حق ًا‪.‬‬
‫فاألمر منه تعاىل ليس كاألمر من غريه‪ ،‬والنبأ منه ليس كالنبأ من غريه؛‬
‫بل هو نبأ جليل؛ ح ّقه أن ُيتل ّقى بالتعظيم واإلجالل‪ ،‬وأن ُيفقه أحسن‬
‫الفقه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯶ﴾ استهالل لبيان موضوع النبأ‪ ،‬وأنّه أرشف موضوع‬
‫جل وعال‪ ،‬صيغ بأداة التوكيد ّ‬
‫(أن)‪،‬‬ ‫وأجل من َّبأ به‪ ،‬إذ هو نبأ عن اهلل ّ‬
‫ّ‬
‫وحذفت منه نون الوقاية التي تكون يف [أنني] لإلشعار بجاللة النبأ‪،‬‬
‫ورسعة الدخول يف املراد‪.‬‬
‫‪- 131 -‬‬
‫دال عىل معنى احلرص والتوكيد ملعنى اإلضافة‬ ‫﴿ﯷ﴾ ضمري الفصل هنا ٌّ‬
‫يف ﴿ﯶ﴾؛ ويف هذا من بيان رهبة الرسالة وجاللة قدرها‪ِ ،‬‬
‫وع َظ ِم َخ َطرها‬
‫ما جيعل النفوس املؤمنة هبذا اخلطاب تتل ّقاه بالتعظيم واإلجالل‪ ،‬وإلقاء‬
‫السمع ملا يكون من هذا النبأ‪.‬‬
‫﴿ﯸ ﯹ﴾ البدء بذكر املغفرة والرمحة فيه إذهاب ملا يف النفس‬
‫ليحل حم ّلها الرجاء‪ ،‬فيكون ذلك أوقع يف النفس‪،‬‬‫ّ‬ ‫رهبة ّأول اخلطاب؛‬
‫وأحسن أثر ًا‪.‬‬
‫﴿ﯸ﴾ الذي يغفر الذنوب مجيع ًا ملن يشاء‪ ،‬عظيم املغفرة‪ ،‬واسع‬
‫املغفرة‪ ،‬كثري ال ُغ ْفران‪ ،‬ال يستعظمه ذنبه أن يغفره‪ ،‬يغفر الذنوب وال يبايل‪،‬‬
‫ويف هذا من الدعوة إىل استغفاره‪ ،‬ورجاء مغفرته ما ال خيفى‪ّ ،‬‬
‫وأن العبد‬
‫مهام بلغت ذنوبه فيجب أن ال ييأس من مغفرة ر ّبه ّ‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫﴿ﯹ﴾ الذي وسعت رمحته كل يشء؛ فهو عظيم الرمحة‪ ،‬كثري‬
‫الرمحة‪ ،‬إذ املبالغة يف «رحيم» تأيت ملعنى الكثرة‪ ،‬وملعنى ال َع َظمة‪ ،‬واهلل تعاىل‬
‫هو الرحيم باملعنيني؛ فرمحته عظيمة واسعة‪ ،‬وهو كثري الرمحة‪ ،‬ويف هذا‬
‫من قذف رجاء رمحة اهلل يف القلب ما ال خيفى أثره؛ حتى يكاد يمتلئ قلب‬
‫املؤمن املوقن هبذا اخلطاب من رجاء رمحة ر ّبه‪.‬‬
‫فلكثرة رمحة اهلل تعاىل يرجو العبد أن تناله تلك الرمحة وأن ال تضيق‬
‫عنه فيحرم منها‪ ،‬ولِ ِع َظ ِم رمحته ّ‬
‫جل عال يرجو أن يصيبه منها ما ُي ْسعده يف‬
‫دنياه وأخراه‪.‬‬
‫والرجاء من أعظم الدوافع للعمل؛ فلعظمة الرجاء يف القلب يتحمل‬
‫ّ‬
‫املشاق‪ ،‬ويعاين الصعاب‪ ،‬وهو فرح مرسور؛ ال يأسف عىل ما فاته‬ ‫العبد‬
‫‪- 132 -‬‬
‫ّ‬
‫وأجل خطر ًا؛ فهان عليه‬ ‫مما هتواه نفسه؛ إذ كان ما يرجوه أعظم يف نفسه‪،‬‬
‫ما يلقى يف سبيله‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳﯴﯵ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ‬
‫ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾‪.‬‬
‫فلماّ عظم الرجاء يف قلوهبم أقدموا عىل هذه األعامل اجلليلة بنفوس‬
‫مؤمنة مقبلة‪.‬‬
‫و ّملا خت ّلف هذا الرجاء عن الكفار واملنافقني هان عليهم ترك الفرائض‪،‬‬
‫وارتكاب املحرمات‪ ،‬واإلعراض عن هدى اهلل؛ ّ‬
‫ألن قلوهبم مل يكن فيها من‬
‫الرجاء ما حيملهم عىل الطاعة واالتّباع‪﴿ ،‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ﴾‪.‬‬
‫ومما يبينّ ذلك قول النبي صىل اهلل عليه وسلم يف املنافقني‪ُ :‬‬
‫«أثقل صالة‬
‫ِ‬
‫الفجر‪ ،‬ولو ي ْع َل ُم َ‬
‫ون ما فيهام ألتومها‬ ‫عىل املنافقني‪ :‬صال ُة ِ‬
‫العشاء‪ ،‬وصال ُة‬
‫ولو َح ْبوا» متفق عليه من حديث أيب هريرة‪.‬‬
‫فلو كان يف قلوهبم رجاء صحيح قائم عىل التصديق بوعد اهلل واليقني‬
‫بفضله؛ لدفعهم إىل شهود الصالة مع املؤمنني‪.‬‬
‫أن مقصد اآلية تعظيم الرجاء يف قلوب املؤمنني‪ ،‬وأهنا‬‫وهبذا يظهر ّ‬
‫تقتيض منهم االجتهاد يف طلب فضل اهلل ورمحته‪ ،‬والسعي يف األعامل‬
‫ِ‬
‫وموجبتها بإذن اهلل‪.‬‬ ‫الصاحلة التي هي سبب الرمحة‬

‫‪- 133 -‬‬


‫ويف ضمري الفصل ﴿ﯷ﴾ يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ﴾‬
‫معنى لطيف بديع‪ ،‬وهو الداللة عىل الضامنة التي يطمئ ّن هلا قلب املؤمن‪،‬‬
‫فيصدّ ق بوعد اهلل‪ ،‬ويرجو رمحته ومغفرته‪.‬‬
‫يطلب شيئ ًا وتريد أن يطمئ ّن لوعدك وكفايتك‬
‫ُ‬ ‫أال ترى أنّك إذا قلت ملن‬
‫له‪( :‬أنا أعطيك)‪ ،‬وربام أرشت إىل صدرك لتحقيق معنى الضامنة‪ ،‬وهذا‬
‫أوقع يف نفس السائل وأعظم أثر ًا من قولك‪( :‬سأعطيك) جمردة من هذا‬
‫املعنى‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾‪.‬‬
‫﴿ﯻ﴾ الواو للعطف‪ ،‬و﴿ﭖ﴾ للتوكيد‪ ،‬وهذا رشوع يف بيان نبأ عظيم‬
‫آخر؛ مؤكّد بأداة التوكيد ﴿ﭖ﴾‪.‬‬
‫﴿ﯼ﴾ أضاف العذاب إليه إضاف ًة تقتيض التعريف واالختصاص‪،‬‬
‫كأي عذاب‪ ،‬بل هو عذاب ال مثيل له‪،‬‬ ‫بام ّ‬
‫يدل عىل أنه عذاب عظيم ليس ّ‬
‫كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾‪.‬‬
‫ويف املراد هبذا العذاب وجهان يف التفسري‪:‬‬
‫ٍ‬
‫عذاب من اهلل تعاىل يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬كام قال‬ ‫شامل ّ‬
‫لكل‬ ‫ٌ‬ ‫أحدمها‪ :‬أنّه‬
‫اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬
‫ﮋ﴾‪.‬‬
‫ّ‬
‫املكذبة التي أهلكها بعذاب من عنده‪:‬‬ ‫‪ -‬وقال تعاىل يف شأن األمم‬
‫﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾‪.‬‬

‫‪- 134 -‬‬


‫‪ -‬وقال تعاىل يف شأن املنافقني‪﴿ :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬
‫ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل يف تو ّعد من يريد التخ ّلف عن اجلهاد الواجب‪ ﴿ :‬ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾‪.‬‬
‫واآليات يف عذاب اهلل تعاىل للعصاة عذاب ًا ألي ًام يف الدنيا واآلخرة كثرية‪،‬‬
‫أن لفظ العذاب يف اآلية نكرة مضافة؛ فأفادت‬ ‫مبني عىل ّ‬
‫وهذا القول ّ‬
‫العموم‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويدل عىل هذا املعنى ما ورد من العقوبات عىل كثري من املعايص‪ ،‬كام‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ والراجح أنهّ ا‬
‫ليست بمنسوخة‪ ،‬وتفسري النبي صىل اهلل عليه وسلم هلذه اآلية يمنع القول‬
‫بنسخها‪.‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫‪ -‬ويف «مسند اإلمام أمحد» و«صحيح ابن حبان» وغريمها من حديث‬
‫املزين ريض اهلل‬
‫ّ‬ ‫يونس بن عبيد عن احلسن البرصي عن عبد اهلل بن مغ َّفل‬
‫عنه أن رجال لقي امرأة كانت بغ َّيا يف اجلاهلية‪ ،‬فجعل يالعبها حتى بسط‬
‫وجل قد ذهب بالرشك وجاءنا‬ ‫عز َّ‬ ‫يده إليها‪ ،‬فقالت املرأة‪َ :‬م ْه‪َّ ،‬‬
‫فإن اهلل َّ‬
‫باإلسالم؛ فرتكها وولىَّ ‪ ،‬وجعل ينظر إليها حتى أصاب وجهه احلائط‬
‫فشجه؛ ثم أتى النبي صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأخربه‪ ،‬فقال‪« :‬أنت عبد أراد‬ ‫َّ‬
‫اهلل بك خريا‪ ،‬إذا أراد اهلل عز وجل بعبد خريا عجل له عقوبة ذنبه‪ ،‬وإذا‬
‫أراد بعبد رشا أمسك عليه بذنبه حتى يواىف به يوم القيامة كأنه َعيرْ »‪.‬‬
‫عجل عقوب ًة‬ ‫فهذه النصوص وما يف معناها ّ‬
‫تدل عىل ّ‬
‫أن من العذاب ما ُي َّ‬
‫لصاحبه؛ فأ ّما املؤمن فيكون فيه تكفري لذنوبه أو بعضها‪ ،‬وأ ّما الكافر‬
‫واملنافق فيكون هلام من العذاب األدنى دون العذاب األكرب‪.‬‬
‫أن العذاب هنا ُيراد به العذاب األكرب‪ ،‬وهو عذاب‬ ‫والوجه اآلخر‪ّ :‬‬
‫اخللود يف النّار‪ ،‬والعياذ باهلل منها‪ ،‬وهذا مبني عىل ّ‬
‫أن لفظ العذاب يف اآلية‬
‫عا ٌّم أريد به اخلصوص‪ ،‬وهو العذاب املذكور يف قوله اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯤ‬
‫ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾‪.‬‬
‫ويف الصحيحني من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال النبي‬
‫«حتاجت اجلنة والنار‪ ،‬فقالت النار‪ :‬أوثرت باملتكربين‬
‫َّ‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫واملتجربين‪ ،‬وقالت اجلنة‪ :‬ما يل ال يدخلني إال ضعفاء الناس وسقطهم‪،‬‬
‫قال اهلل تبارك وتعاىل للجنة‪[ :‬أنت رمحتي أرحم بك من أشاء من عبادي]‪،‬‬
‫وقال للنار‪[ :‬إنام أنت عذايب أعذب بك من أشاء من عبادي‪ ،‬ولكل واحدة‬
‫منهام ملؤها]‪.‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫فأما النار‪ :‬فال متتلئ حتى يضع رجله فتقول‪ :‬قط قط‪ ،‬فهنالك متتلئ‬
‫ويزوى بعضها إىل بعض‪ ،‬وال يظلم اهلل عز وجل من خلقه أحد ًا‪ ،‬وأما‬
‫اجلنة‪ :‬فإن اهلل عز وجل ينشئ هلا خلقا»‪.‬‬
‫والشاهد قوله تعاىل للنار‪[ :‬إنام أنت عذايب]‪.‬‬
‫فمن محل اآلية عىل هذا الوجه؛ فتخرجيها ّ‬
‫أن لفظ العذاب عا ّم مرا ٌد به‬
‫اخلصوص ملناسبة الوعيد املقابل للوعد‪ ،‬وملناسبة أسلوب احلرص يف قوله‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ﴾‪.‬‬
‫يدل بعضهام عىل بعض؛ فمن محل اآلية عىل الوجه األول‬ ‫والوجهان ّ‬
‫داخل فيه دخوالً أولي ًا إذ هو أوىل ما ُيطلق عليه العذاب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فالوجه الثاين‬
‫ظهور اقتضاء هذا الوجه الرتهيب من ّ‬
‫كل معصية؛ ّ‬
‫ألن خمالفة أمر اهلل‬ ‫ِ‬ ‫مع‬
‫تعاىل متو ّعد عليها بعذاب أليم‪.‬‬
‫التعر ّض‬
‫ّ‬ ‫ومن محلها عىل الوجه الثاين ففيه داللة عىل الرتهيب من‬
‫ألسباب ذلك العذاب؛ ّ‬
‫فدل عىل التحذير من املعايص ألنهّ ا سبب للعذاب‬
‫يعذب عىل الفسق األكرب بالعذاب األكرب قادر‬‫فإن من ّ‬
‫األكرب‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫يعذب صاحب الفسق األدنى ببعض العذاب األدنى‪.‬‬ ‫عىل أن ّ‬
‫ففي كال الوجهني حتذير من عذاب أليم عىل خمالفة أمر اهلل؛ وعىل قدر‬
‫عظم املعصية يعظم الوعيد‪.‬‬
‫﴿ ﯽ﴾ ضمري الفصل هنا إلفادة احلرص‪ ،‬وهذا احلرص عىل معنى‬
‫األولوية يف اعتبار الصفة‪.‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫فكل عذاب إذا نُسب إىل‬ ‫فإذا حمُ ل املراد بالعذاب عىل الوجه الثاين‪ّ :‬‬
‫عذاب اهلل األكرب فنسبته إليه كال يشء؛ فكأنّه وحدَ ه العذاب األليم‪ ،‬وما‬
‫سواه فال يعدّ أ ُمله عىل شدّ ته أمل ًا بإزاء هذا العذاب األليم‪.‬‬
‫فام يعرفه الناس من ألوان العذاب الذي تقتضيه شؤون هذه احلياة من‬
‫آالم األمراض والوالدة واملوت والقتل إذا نسبت آالمها إىل أمل العذاب‬
‫تستحق أن تذكر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األكرب كانت تلك النسبة ضئيلة جد ًا‪ ،‬بل كأهنا معدومة ال‬
‫وهذا كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾؛ فأفرد هلا‬
‫ّ‬
‫فكأن ما يعرفه الناس من أنواع‬ ‫زلزاالً واحد ًا وهو زلزال يوم القيامة؛‬
‫الزالزل عىل كثرهتا وشدّ هتا ال يعدّ شيئ ًا يف جنب ذلك الزلزال العظيم؛‬
‫فإذا وقع ذلك الزلزال؛ فكأنّه زلزاهلا الذي ال زلزال هلا غريه من شدّ ته‬
‫ِ‬
‫رجا‪ ،‬وتزول اجلبال كلها‪ ،‬ويقع‬ ‫ترج به األرض كلها ّ‬ ‫وع َظم هوله؛ إذ ّ‬
‫من هول تلك الزلزلة ما يذهل املرضعة عام أرضعت‪ ،‬كام قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝ‬
‫ﭞﭟﭠﭡ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ﴾‪.‬‬
‫سمي‬
‫هول ذلك الزلزال ال نسبة لزالزل األرض كلها إليه ّ‬ ‫فلماّ كان ُ‬
‫زلزاهلا؛ فكذلك عذاب اهلل تعاىل املراد يف هذه اآلية ﴿ﯽ ﯾ ﯿ﴾‪.‬‬
‫املوج ُع بألمَِه‪ ،‬و«أليم» صيغة مبالغة ّ‬
‫تدل عىل معنى الشدّ ة‪ ،‬وعىل‬ ‫األليم‪ِ :‬‬
‫أليم شديد اإليالم‪ ،‬طويل اإليالم‪ ،‬ال ينقطع‬
‫معنى الطول؛ فهو عذاب ٌ‬
‫خيف‪ ،‬والعياذ باهلل‪ ،‬كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ‬‫إيالمه وال ّ‬
‫ﭧﭨ﴾‪.‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾‪.‬‬
‫وأصل ما خيافه الناس وجيتهدون يف السالمة منه هو «األمل»‪ ،‬بل ّ‬
‫إن‬
‫الرش ك ّلها إىل األمل وأسبابه؛ كام قال ابن‬
‫من أهل العلم من أرجع معاين ّ‬
‫(الرش يقال عىل شيئني‪ :‬عىل األمل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الق ّيم رمحه اهلل تعاىل يف «بدائع الفوائد»‪:‬‬
‫مسمى سوى ذلك؛ فالرشور هي اآلالم‬ ‫وعىل ما يفيض إليه‪ ،‬وليس له ّ‬
‫رشور وإن كان‬ ‫ٌ‬ ‫وأسباهبا؛ فاملعايص والكفر والرشك وأنواع الظلم هي‬
‫ولذة‪ ،‬لكنها رشور ألهنا أسباب اآلالم ومفضية‬ ‫نوع َغ َر ٍ‬
‫ض َّ‬ ‫لصاحبها فيها ُ‬
‫إليها كإفضاء سائر األسباب إىل مس َّبباهتا؛ فرتتُّب األمل عليها كرتتّب املوت‬
‫عىل تناول السموم القاتلة وعىل الذبح واإلحراق بالنار واخلنق باحلبل‬
‫وغري ذلك من األسباب التي تصيبه مفضي ًة إىل مسبباهتا وال بد‪ ،‬ما مل يمنع‬
‫السبب ما هو أقوى منه وأشدّ اقتضا ًء لضدّ ه‪ ،‬كام‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫يعارض‬ ‫السببي َة ٌ‬
‫مانع أو‬
‫سبب املعايص قو ُة اإليامن وعظم ُة احلسنات املاحية وكثرتهُ ا فيزيد‬ ‫يعارض َ‬
‫األضعف‪ ،‬وهذا‬
‫َ‬ ‫أسباب العذاب؛ فيدفع األقوى‬ ‫ِ‬ ‫يف كم ّيتها وكيفيتها عىل‬
‫شأن مجيع األسباب املتضادة كأسباب الصحة واملرض وأسباب الضعف‬
‫والقوة)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وإذا أريد بالعذاب الوجه الثاين؛ فهو تنبيه عىل املوازنة بني ما يصيب‬
‫اإلنسان من العذاب بسبب معصية اهلل‪ ،‬وبني ما يصيب املؤمن من أمل‬

‫‪- 139 -‬‬


‫الصرب عىل طاعة اهلل‪ ،‬والصرب عن معصيته‪ ،‬وأمل األقدار املؤملة‪ ،‬فام يصيب‬
‫حيب من رفعة الدرجات‬ ‫خري له إلفضائه إىل ما ّ‬ ‫املؤمن من ذلك فهو ٌ‬
‫ومضاعفة احلسنات وتكفري السيئات‪.‬‬
‫فإن كان جيد أمل ًا يف الصرب فاألمل احلقيقي هو يف ترك الصرب؛ ّ‬
‫ألن ترك‬
‫الصرب عىل الطاعات‪ ،‬وترك الصرب عن املعايص‪ ،‬وترك الصرب عىل األقدار‬
‫كل ذلك يفيض إىل عذاب أليم ال نسبة إىل ما جيده من أمل الصرب إىل‬‫املؤملة ّ‬
‫أمل العذاب عىل تركه‪.‬‬
‫وهذا املعنى ن ّبه إليه يف أكثر من آية‪:‬‬
‫كام قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫ﮒﮓ﴾‪.‬‬
‫‪ -‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ﴾‪.‬‬
‫أي فام جتدونه من أمل الصرب عىل اجلهاد أشدّ عليكم من أمل ترك اجلهاد؛‬
‫إذ يفيض بكم إىل الفتنة يف الدين والتعرض للعذاب األليم إذا ُفتنتم يف‬
‫دينكم‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ﴾‪.‬‬

‫‪- 140 -‬‬


‫وما يصيب املسلم من العذاب بسبب معصيته ففيه تكفري له‪ ،‬وتعجيل‬
‫تذكري له‬
‫ٌ‬ ‫لعقوبته حتى يأيت يوم القيامة خفيف احلمل من األوزار‪ ،‬وفيه‬
‫بشؤم املعصية وقبح أثرها؛ فيذوق من جنس ما يذوقه أهل املعصية حتى‬
‫يرجع إىل ر ّبه وينيب إليه‪.‬‬
‫سمى عذاب ًا مما يقع عىل العبد فال خيرج عن أحد نوعني‪:‬‬
‫وما ُي ّ‬
‫النوع األول‪ :‬ما يقع ابتال ًء للعبد من األقدار املؤملة له إيالم ًا جسدي ًا أو‬
‫نفسي ًا؛ كأمل املرض‪ ،‬وأمل فقد العزيز‪ ،‬وأمل الألواء والن ََّصب‪ ،‬وهذا النوع‬
‫تتعذب به‪ ،‬ويف الصحيحني من حديث‬ ‫ألن النفس ّ‬
‫سمى عذاب ًا ّ‬‫يصح أن ُي ّ‬
‫ّ‬
‫مي عن أبى صالح عن أبى هريرة ريض اهلل عنه أن رسول اهلل صىل اهلل‬ ‫ُس ّ‬
‫عليه وسلم قال‪« :‬السفر قطعة من العذاب‪ ،‬يمنع أحدكم نومه وطعامه‬
‫وجه ِه ف ْلي ْع َج ْل إىل أهله»‪.‬‬
‫ورشابه؛ فإذا قىض أحدُ كم هنمته من ِ‬
‫والنوع اآلخر‪ :‬ما يقع عقوبة عىل ذنب‪.‬‬
‫والعبد ال يكاد يسلم من تقصري وتفريط‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯽ‬
‫ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ‬
‫ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ﴾‪.‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ﴾‪.‬‬
‫فإن كثرة االستغفار والتوبة نافعة يف دفع كثري من العذاب‪ ،‬وقد‬ ‫ولذلك ّ‬
‫يقع ما صورته يف الظاهر عذاب فيخ ّففه اهلل عىل بعض عباده املؤمنني رمحة‬
‫هبم حتى ال جيدوا من أمله إال شيئ ًا يسري ًا حمتمالً‪.‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫حق املسلم عذاب االبتالء وعذاب العقوبة؛ فيكون‬ ‫وقد جيتمع يف ّ‬
‫عقوبة هلم عىل ذنب سابق وابتالء هلم؛ كام قال اهلل تعاىل ملن تولىّ عن‬
‫اجلهاد‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯ﴾‪.‬‬
‫وقد تشتبه صورة عذاب العقوبة بصورة عذاب االبتالء سرت ًا من اهلل‬
‫أمر فيه عذاب عا ّم؛ فيكون لبعض الناس عقوبة ولبعضهم‬
‫لعباده؛ وقد يقع ٌ‬
‫ابتالء‪.‬‬
‫والعربة بحال العبد؛ ْ‬
‫فإن كان مستقي ًام عىل طاعة اهلل تعاىل؛ فهو ابتالء‬
‫له‪ ،‬ورفعة لدرجاته وتكفري سيئاته‪ ،‬وإن كان مقرتف ًا ملآثم ظاهرة أو باطنة‬
‫ليتطهر من ذنوبه ما دام‬
‫ّ‬ ‫فهو من عقوبة ذنبه؛ فليبادر بالتوبة واالستغفار‬
‫يعذب يف سكرات املوت أو يف قربه أو يف عرصات‬ ‫يف دار املهلة قبل أن ّ‬
‫يوم القيامة أو النار ما مل تدركه رمحة أرحم الرامحني؛ ّ‬
‫فإن اهلل تعاىل قد‬
‫أن اجلنّة ال تدخلها إال نفس ط ّيبة‪ ،‬واملعايص َخ َب ٌث؛ فلم ّ‬
‫تطهره‬ ‫كتب ّ‬
‫يتطهر من ذنوبه ك ّلها‪ ،‬إال‬
‫عذب حتى ّ‬ ‫التوبة واألعامل الصاحلة يف الدنيا ّ‬
‫أن تدركه رمحة من ر ّبه‪.‬‬
‫ظاهر يف التخويف من معصية اهلل تعاىل وخمالفة أمره؛‬
‫ٌ‬ ‫ومقصد هذه اآلية‬
‫جير عليه عذاب اهلل تعاىل‪.‬‬‫فمن أيقن هبذا اإلنذار خاف أن يقع يف يشء مما ّ‬
‫حمركات‬
‫فهاتان اآليتان عىل وجازة ألفاظهام تضمنتا الداللة عىل أصول ّ‬
‫القلوب الثالثة‪ :‬املح ّبة والرجاء واخلوف‪ ،‬وهي أصول العبادات الباطنة‬
‫التي هي أصل العبادات الظاهرة‪.‬‬

‫‪- 142 -‬‬


‫وقد جعل اهلل هاتني اآليتني مقدمة بني يدي قصص عظيمة الشأن واألثر‬
‫ّ‬
‫تدل عىل مغفرته تعاىل ورمحته ملن أطاعه‪ ،‬وتعذيبه ملن عصاه‪ ،‬ليتفكّر املرء‬
‫يف أصيل الثواب والعقاب‪ّ ،‬‬
‫وأن سنّة اهلل تعاىل ماضية ال تبديل هلا‪.‬‬
‫قال ابن عاشور‪( :‬وإنام قدم األمر بإعالم الناس بمغفرة اهلل وعذابه‬
‫ابتداء باملوعظة األصلية قبل املوعظة بجزئيات حوادث االنتقام من‬
‫املعاندين وإنجاء َمن بينهم من املؤمنني ألن ذلك دائر بني أثر الغفران‬
‫وبني أثر العذاب)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫فانظر إىل هاتني اآليتني ما ّ‬
‫أجل نبأمها‪ ،‬وما أعظم أثرمها عىل من تفكّر‬
‫حيرك‬
‫تطهرت مما هبا لوجدنا من أثرها ما ّ‬ ‫فيهام‪ ،‬وآمن هبام‪ ،‬فلو ّ‬
‫أن قلوبنا ّ‬
‫ويقض املضاجع‪.‬‬ ‫األشجان‪ ،‬و ُيسبل الدموع‪ّ ،‬‬
‫والقول كام قال الشاطبي رمحه اهلل‪:‬‬
‫س�حائبها بالدم�ع ديما وه ّطال‬ ‫أن عين ًا س�اعدت لتوكّفت‬
‫فلو ّ‬
‫فيا ضيعة األعامر متيض سبهلال‬ ‫ولكنّها عن قس�وة القلب قحطها‬

‫اللهم إنا نسألك مغفرتك ورمحتك‪ ،‬ونعوذ بك من عذابك‪.‬‬


‫َّ‬
‫حممد وعىل آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫وصىل اهلل وسلم عىل نبينا ّ‬

‫‪- 143 -‬‬


‫الباب ال�سابع‪ :‬الأ�سلوب املقا�صدي‬

‫األسلوب املقاصدي هو األسلوب الذي يكون غرض املتك ّلم به بيان‬


‫يفسها؛ والوقوف عندها‪ ،‬وتأ ّمل دالئلها وآثارها‬‫مقاصد اآليات التي رّ‬
‫واتساقها مع املقاصد العامة للقرآن‪ ،‬وبيان حاجة الناس إىل فقه تلك‬
‫املقاصد‪ ،‬واتّباع ما د َّلت عليه من اهلدى‪.‬‬
‫جير إىل التنبيه عىل أنواع خمالفات‬
‫واحلديث عن هذه املسائل العظيمة ّ‬
‫الناس لتلك اهلدايات‪ ،‬وآثار تلك املخالفات عليهم‪ ،‬وبيان ما ُيرشدون به‬
‫للتخلص من آثار خمالفاهتم‪ ،‬والسالمة من شؤمها وعقوباهتا‪ ،‬وداللتهم‬
‫عىل سبيل الفالح والفوز برضوان اهلل تعاىل وحسن ثوابه‪.‬‬

‫ثمرات الأ�سلوب املقا�صدي‪:‬‬


‫التفسري باألسلوب املقاصدي له ثمرات جليلة‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن فيه بيان ًا ملقاصد اآليات‪ ،‬وتقرير ًا ألدلة تلك املقاصد‪ ،‬وتفقيه ًا‬
‫هبداياهتا وإرشاداهتا‪ ،‬وهذا األمر قد يغفل عنه كثري ممن يكتب يف التفسري‪،‬‬
‫قل البارعون يف هذا األسلوب التفسريي اجلليل‪.‬‬ ‫ولذلك َّ‬
‫ومنها‪ :‬أن فيه بيان ًا التّساق مقاصد اآليات مع املقاصد العامة للقرآن‪،‬‬
‫املفس هبذه املعاين واشتغاله ببياهنا واحلديث عنها‬
‫وذلك ألجل عناية رّ‬

‫‪- 145 -‬‬


‫فيكشف بذلك عن أوجه بديعة هلذا االتّساق والتناسب يتبينَّ للمخا َطب‬
‫هبا عظمة املقاصد القرآنية‪ ،‬وجاللة قدرها‪ ،‬واتّساع آثارها‪ ،‬وشدّ ة احلاجة‬
‫إىل فقهها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن فيه تقرير ًا حسن ًا التّصال املقاصد القرآنية بأحوال املخاطبني‬
‫وأحكام أعامهلم وجزائهم‪ ،‬وتنبيه ًا عىل األصول اجلامعة لتلك األحوال‬
‫واألحكام‪ ،‬وميزان العدل ومظاهر اإلحسان‪ ،‬وتعريف ًا بأسباب التوفيق‬
‫وكل ذلك مما ُيعني عىل حسن فهم القرآن‪.‬‬ ‫واخلذالن‪ّ ،‬‬
‫ومنها‪ :‬ما يظهر للمخاطبني هبذا األسلوب من بيان بديع َي ْست َْجلون به‬
‫معاين صفات القرآن التي وصفه اهلل هبا من العظمة واملجد واإلحكام‬
‫والربكة والشفاء وأنّه كتاب ق ّيم حاكم عىل مجيع شؤون املكلفني؛ فال خيلو‬
‫حال من أحوال العبد وال عمل من أعامله من ُح ْك ٍم جيري عليه بسبب هذا‬
‫القرآن العظيم‪.‬‬

‫�أ�صول التف�سري املقا�صدي‪:‬‬


‫التفسري باألسلوب املقاصدي يستدعي فقها حسن ًا ملقاصد القرآن‬
‫املفس‪ ،‬ومعرفة‬‫يفسها رّ‬‫العامة‪ ،‬وبصرية حسنة بمقاصد إنزال اآليات التي رّ‬
‫بأحوال املخاطبني‪ ،‬وطرق تناول اآليات لتلك األحوال‪ ،‬وتقرير ما يتح َّقق‬
‫به صالحهم وفالحهم‪.‬‬
‫وهذه املعارف اجلليلة جيب أن تكون قائمة عىل فقه ألصول الدين‪،‬‬
‫ودراية بمنهج أهل السنة يف االعتقاد ومعاملة املخالفني‪ ،‬ومعرفة حسنة‬
‫بأحكام الرشيعة ومقاصدها‪ ،‬وأصول اخلالف بني الرسل وأعدائهم‪،‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫وبصرية بتجدد مظاهر تلك األصول‪ ،‬وتعدد آثارها‪ ،‬وإدراك ًا حلقيقة‬
‫دعوة الرسل‪ ،‬وفقه ًا ألصول الفتن وسنن االبتالء‪ ،‬والتناسب بني احلكم‬
‫واجلزاء‪ ،‬إىل غري ذلك من األصول التي ُيعتمد عليها غالب ًا يف أسلوب‬
‫التفسري املقاصدي‪.‬‬

‫�سمات التف�سري املقا�صدي‪:‬‬


‫واملفس هبذا األسلوب يغلب عليه النظر إىل مقاصد اآليات والبيان‬‫رّ‬
‫عنها وعن آثارها وتع ّلقها باملكلفني‪ ،‬واإلسهاب يف املسائل املتّصلة‬
‫بتلك املقاصد‪ ،‬وإظهار ما تبينّ له من أوجه احلكمة البالغة يف الترشيع‬
‫يفسها من أنواع األدلة عليها‪،‬‬
‫والتقدير واجلزاء وما تضمنته اآليات التي رّ‬
‫املفس عىل جتاوز بعض املسائل التفسريية التي‬
‫وهذا اإلسهاب قد حيمل رّ‬
‫تضمنتها تلك اآليات‪.‬‬
‫املفس هبذا األسلوب عن آية يبدو للناظر فيها بادي األمر‬
‫وقد يتكلم رّ‬
‫أهنا واضحة بينة ال حيتاج إىل تفسريها وال الكشف عن معانيها‪ ،‬لكنه ما‬
‫ويعرف بسعة دالئلها‪ ،‬وشدّ ة احلاجة إىل فقه مسائلها‬
‫إن يبينّ مقاصدها‪ّ ،‬‬
‫ألول مرة يعرف معناها‪.‬‬‫حتى يكاد يشعر املخا َطب أنه ّ‬

‫طرق حت�سني الأ�سلوب املقا�صدي‪:‬‬


‫لتحسني األسلوب املقاصدي وسائل تعني عليه‪:‬‬
‫منها‪ :‬التف ّقه يف أمثال القرآن؛ وتد ّبرها وعقل معانيها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قراءة الرسائل والفصول التي ُيعنَى فيها هبذا األسلوب‪.‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫ومنها‪ :‬القراءة يف التفاسري التي ألصحاهبا عناية بالكشف عن مقاصد‬
‫اآليات ومراعاة املقصد يف الرتجيح بني األقوال‪ ،‬ومن أجودها تفسري ابن‬
‫عطية وابن عاشور‪ ،‬والبن اجلوزي إشارات حسنة لبعض ذلك يف تفسريه‬
‫«زاد املسري»‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قراءة الكتب التي تعنى ببيان مقاصد الرشيعة وحماسنها وسعة‬
‫دالئل النصوص وحكم الترشيع‪ ،‬ومن أجودها‪« :‬الرسالة» للشافعي‪،‬‬
‫و«املوافقات» للشاطبي‪ ،‬و«إعالم املوقعني» البن القيم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬القراءة الواعية يف أصول علم السلوك‪ ،‬والسيام املباحث املتعلقة‬
‫بالفتن واالبتالء‪ ،‬والعقوبة واجلزاء‪ ،‬وهذه املباحث متفرقة يف كتب علم‬
‫السلوك‪.‬‬

‫عناية العلماء بالأ�سلوب املقا�صدي‪:‬‬


‫يصح القول ّ‬
‫بأن‬ ‫ّ‬ ‫للسلف عناية حسنة بفقه مقاصد اآليات‪ ،‬ولذلك‬
‫التفسري املقاصدي له أصل مأثور عن السلف الصالح لكنَّهم كانوا‬
‫جيتزئون بالعبارة املن ّبهة عن اإلسهاب واإلطناب‪ ،‬كام تقدّ م نظريه عنهم‬
‫يف األسلوب البياين‪.‬‬
‫ومن أشهر األمثلة عىل ذلك ما رواه البخاري يف صحيحه من حديث‬
‫أيب برش اليشكري‪ ،‬عن سعيد بن جبري‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬قال‪( :‬كان عمر‬
‫يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد يف نفسه‪ ،‬فقال‪ :‬مل تدخل هذا‬
‫معنا ولنا أبناء مثله؟!!‬

‫‪- 148 -‬‬


‫فقال عمر‪ :‬إنه من قد علمتم‪ ،‬فدعاه ذات يوم فأدخله معهم‪ ،‬فام رأيت‬
‫أنه دعاين يومئذ إال لريهيم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما تقولون يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾؟‬
‫فقال بعضهم‪ :‬أمرنا أن نحمد اهلل ونستغفره إذا نرصنا‪ ،‬وفتح علينا‪،‬‬
‫وسكت بعضهم فلم يقل شيئا‪.‬‬
‫فقال يل‪ :‬أكذاك تقول يا ابن عباس؟‬
‫فقلت‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬فام تقول؟‬
‫قلت‪« :‬هو َأ َج ُل رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أعلمه له»‪ ،‬قال‪﴿ :‬ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ «وذلك عالمة أجلك»‪﴿ ،‬ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾‪ ،‬فقال عمر‪« :‬ما أعلم منها إال ما تقول»)‪.‬‬
‫أدق الفهم وألطفه‪ ،‬وال يدركه كل‬ ‫قال ابن الق ّيم رمحه اهلل‪( :‬وهذا من ّ‬
‫أحد‪ ،‬فإنه سبحانه مل يعلق االستغفار بعمله‪ ،‬بل علقه بام حيدثه هو سبحانه‬
‫من نعمة فتحه عىل رسوله ودخول الناس يف دينه‪ ،‬وهذا ليس بسبب‬
‫لالستغفار‪ ،‬ف ُع ِل َم أن سبب االستغفار غريه‪ ،‬وهو حضور األجل الذي من‬
‫متام نعمة اهلل عىل عبده توفيقه للتوبة النصوح واالستغفار بني يديه ليلقى‬
‫ربه طاهر ًا مطهر ًا من كل ذنب؛ فيقدم عليه مرسور ًا راضي ًا مرضي ًا عنه‪.‬‬
‫ويدل عليه أيضا قوله‪﴿ :‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ وهو صىل اهلل‬
‫عليه وسلم كان يسبح بحمده دائام؛ فعلم أن املأمور به من ذلك التسبيح‬
‫بعد الفتح ودخول الناس يف هذا الدين أمر أكرب من ذلك املتقدم‪ ،‬وذلك‬

‫‪- 149 -‬‬


‫مقدمة بني يدي انتقاله إىل الرفيق األعىل‪ .‬وأنه قد بقيت عليه من عبودية‬
‫التسبيح واالستغفار التي ترقيه إىل ذلك املقام بقية فأمره بتوفيتها‪.‬‬
‫ويدل عليه أيضا أنه سبحانه رشع التوبة واالستغفار يف خواتيم األعامل‪،‬‬
‫فرشعها يف خامتة احلج وقيام الليل‪ ،‬وكان النبي صىل اهلل عليه وسلم إذا‬
‫سلم من الصالة استغفر ثالثا‪ ،‬ورشع للمتوضئ بعد كامل وضوئه أن‬
‫يقول‪« :‬اللهم اجعلني من التوابني واجعلني من املتطهرين» فعلم أن التوبة‬
‫مرشوعة عقيب األعامل الصاحلة‪ ،‬فأمر رسوله باالستغفار عقيب توفيته ما‬
‫عليه من تبليغ الرسالة واجلهاد يف سبيله حني دخل الناس يف دينه أفواجا‪،‬‬
‫فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها‪ ،‬فرشع له االستغفار عقيبها)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقال قتادة يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ﴾ قال‪« :‬هذا َم َث ٌل رضبه اهلل يف املؤمن والكافر» رواه‬
‫عبد الرزاق وابن جرير‪.‬‬
‫وتت ّبع إشارات السلف إىل مقاصد اآليات نافع جد ًا يف هذا الباب‪.‬‬
‫املفسين عناية بمالحظة مقاصد اآلية وطرق تقريرها والتنبيه‬‫ولبعض رّ‬
‫عليها‪ ،‬ومنهم‪ :‬ابن عطية وابن اجلوزي وابن تيمية وابن الق ّيم وابن كثري‪،‬‬
‫وابن عاشور‪.‬‬
‫والكتابة باألسلوب املقاصدي غالبا ما تكون متداخلة مع غريها من‬
‫األساليب‪ ،‬لكن من أجود ما ظهر فيه األسلوب املقاصدي من الرسائل‬
‫والفصول التفسريية‪:‬‬
‫‪« .1‬تفسري صدر سورة العنكبوت» لشيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل‪،‬‬
‫وقد نقلها عنه تلميذه ابن القيم يف كتاب «الفوائد»‪.‬‬
‫‪- 150 -‬‬
‫‪ .2‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‪ ﴾...‬البن القيم‪.‬‬

‫�أنواع مقا�صد ال�سور والآيات‪:‬‬


‫مقصد اآلية قد يكون ظاهر ًا وقد يكون خفي ًا‪:‬‬
‫فمثال الظاهر‪ :‬قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾‪.‬‬
‫ومثال غري الظاهر‪ :‬ما جاء عن ابن عباس يف تفسري سورة النرص‪.‬‬
‫والنوع الثاين حُيتاج فيه إىل دقة يف االستنباط‪ ،‬وحسن نظر وتأ ّمل‪.‬‬
‫يفس اآليات إمجاال أو تفصيال‬
‫للمفس سهل عليه أن رّ‬
‫رّ‬ ‫وإذا تبينّ املقصد‬
‫عىل ضوء ذلك املقصد‪.‬‬

‫�إتقان الأ�سلوب املقا�صدي‬


‫مما يعني عىل إتقان األسلوب املقاصدي أو مقاربة اإلتقان‪:‬‬
‫املفس يف استخراج مقصد اآلية أوالً؛ فإن كان ظاهر ًا‬
‫‪ .1‬أن جيتهد رّ‬
‫فاحلمد هلل‪ ،‬وإن كان غري ظاهر اجتهد يف استخراج الفوائد السلوكية‪،‬‬
‫َ‬
‫وازن بني الفوائد التي استخرجها من‬ ‫ِ‬
‫اآلية وخامتتها‪ ،‬ثم‬ ‫َ‬
‫سياق‬ ‫وتأ َّم َل‬
‫اآلية وبني سياق اآلية وخامتتها؛ فإنه ُيرجى له أن يقارب إصابة مقصد‬
‫اآلية‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يستخلص اهلدايات الربانية الواردة يف اآلية‪ ،‬وغالب ًا ما تكون‬
‫ظاهرة ب ّينة‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫‪ .3‬أن يتأ ّمل هذه اهلدايات جيد ًا‪ ،‬ويتفكّر يف حاجة الناس إليها‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫يتحدّ ث عن ذلك بتفصيل مناسب‪ ،‬وحيشد لبيان هذه احلاجة مما ا ّطلع‬
‫عليه من أقوال املفرسين‪ ،‬ومما أنعم اهلل به عليه من خمزون معريف مرتاكم‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يتأ ّمل أحوال الناس يف اتّباع تلك اهلدايات الربانية ودرجاهتم يف‬
‫ذلك‪ ،‬واآلثار احلسنة لتلك اهلدايات عىل من اتّبعها‪.‬‬
‫‪ .5‬أن يتفكّر يف أحوال املعرضني والغافلني عن تلك اهلدايات‪ ،‬واآلثار‬
‫السيئة إلعراضهم وغفلتهم‪ ،‬ويتحدّ ث عنها بتفصيل مناسب‪.‬‬
‫‪ .6‬أن يتفكّر يف خامتة اآلية وتناسبها مع مطلعها وسياقها ويستخلص‬
‫الفوائد املتعلقة بام سبق منها‪.‬‬
‫‪ .7‬أن يتفكر يف تناسب هذه اهلدايات مع مقاصد السورة واملقاصد‬
‫القرآنية العامة‪.‬‬
‫احلديث يف هذه النقاط السبع بكالم صحيح متقن‬ ‫َ‬ ‫املفس‬
‫فصل رّ ُ‬
‫فإذا َّ‬
‫أرجو أن يكون تفسريه تفسري ًا مقاصدي ًا حسن ًا بإذن اهلل‪.‬‬

‫مثال‪:‬‬
‫‪ .1‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‪.‬‬

‫التطبيق‪:‬‬
‫‪ -‬اكتب رسالة تفسريية خمترصة باألسلوب املقاصدي‪.‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾‬

‫هذه اآلية اجلليلة من الوصية العظيمة التي وصىَّ هبا يوسف عليه السالم‬
‫ِ‬
‫جليلة املعاين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واسعة الدالئل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األلفاظ‪،‬‬ ‫صاحبي السجن يف ٍ‬
‫مجل يسرية‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ‬
‫ﯱﯲ ﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ‬
‫ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ‬
‫ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ‬
‫ﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿ ﮀﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‪.‬‬
‫وسنقف وقفات عند قوله يف هذه الوصية‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐ ﮑ﴾ ونتفكّر يف معانيها وآثارها وسعة دالئلها‪.‬‬
‫أي ُح ْك ٍم غري‬
‫﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ أسلوب حرص مؤكد‪ ،‬قاطع بنفي ّ‬
‫حكم اهلل تعاىل عىل احلقيقة‪.‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫قدري‪ ،‬وحكم‬
‫ّ‬ ‫حكم رشعي‪ ،‬وحكم‬
‫ٌ‬ ‫وحكم اهلل تعاىل عىل ثالثة أنواع‪:‬‬
‫جزائي‪.‬‬
‫‪ -‬فاحلكم الرشعي ما تعلق باألمر والنهي‪.‬‬
‫‪ -‬واحلكم القدري متعلق بالقضاء والقدر‪.‬‬
‫‪ -‬واحلكم اجلزائي متع ّلق بالثواب والعقاب‪.‬‬
‫وهذه األنواع جتتمع يف حاالت وتفرتق يف أخرى كثرية؛ ولكل نوع‬
‫ِحك ٌَم عظيمة‪ ،‬وآثار جليلة‪ ،‬وهي أحكام متّسقة باتّساق بديع حمكم ّ‬
‫يدل‬
‫املتفك َّر يف عظمتها وشموهلا وإحاطتها بأحوال املكلفني عىل القطع بأنّه ال‬
‫حلكَم)‪ ،‬ومعنى قوله‬ ‫حكم إال هلل تعاىل‪ ،‬و ُيظهر له بعض آثار اسم اهلل (ا َ‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ وقوله‪﴿ :‬ﮄ ﮅ﴾‪.‬‬
‫والتف ّقه يف هذا الباب والتفكّر يف معانيه وآثاره من أسباب حتصيل‬
‫اليقني باهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ .1‬فأحكام اهلل الرشعية غاي ٌة يف قيام املصالح ورعايتها‪ ،‬ودرء املفاسد‬
‫واالحرتاز منها‪ ،‬وال حيصل ذلك إال ملن اتّبع هدى اهلل تعاىل؛ فامتثل أمره‬
‫واجتنب هنيه؛ َّ‬
‫فإن ذلك يفيض به إىل احلال احلسنة والعاقبة احلسنة‪.‬‬
‫قص يف اتّباع هدى اهلل حصل له من السوء يف حاله وعاقبته بقدر‬ ‫ومن رّ‬
‫خمالفته‪.‬‬
‫‪ .2‬واألحكام القدرية غاية يف العزة ِ‬
‫واحلك َْمة وال ُّل ْطف‪.‬‬
‫‪ .3‬واألحكام اجلزائية دائرة بني العدل واإلحسان‪.‬‬
‫وال ختلو حالة من أحوال اإلنسان من تع ّل ٍق هبذه األحكام شاء أم أبى‪.‬‬
‫‪- 154 -‬‬
‫فحكم اهلل حميط بجميع أعامل العباد وآثارهم‪ ،‬وهذه اإلحاطة من‬
‫وعزته وقهره‪ ،‬وهذا الشمول العظيم يقيض عىل‬‫دالئل وحدانية اهلل تعاىل َّ‬
‫كل حكم سوى حكم اهلل بالعجز والضعف والبطالن مهام بدا لصاحبه‬ ‫ّ‬
‫قوة ظاهرة يف هذه احلياة الدنيا فهو حمكوم مقهور‪.‬‬
‫من ّ‬
‫ومهام حصل من تقصري القضاة يف إدراك األحكام الرشعية واحلكم‬
‫بكل ذلك‪ ،‬وحتاكم الناس إىل رشيعة اهلل تعاىل‬‫فإن حكم اهلل حميط ّ‬‫هبا‪َّ ،‬‬
‫ال يقترص عىل ما يمكن تقديمه من الب ّينات عند اخلصومات ونحو ذلك‬
‫مما حيكم به القضاة بام يظهر هلم‪ ،‬بل هو حتاكم شامل لكل ما ُيتنازع فيه؛‬
‫دق‪ ،‬وال يفوت املجرم بجرمه مهام ّ‬
‫قل‬ ‫احلق مهام ّ‬
‫حق صاحب ّ‬ ‫فال يضيع ّ‬
‫و﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ﴾‪.‬‬
‫يفر املجرم بجرمه أو تع ّطل احلدود يف بقعة ما أو رّ‬
‫يغي‬ ‫ولذلك قد ّ‬
‫املغيون بعض أحكام الرشيعة لكنّهم مجيع ًا ال خيرجون عن دائرة احلكم‬
‫رّ‬
‫القدري واجلزائي‪.‬‬
‫وكم من شخص اقرتف جرم ًا وفرح بنجاته من ُحكَّام األرض؛ فأصابه‬
‫من العقوبة يف نفسه وماله ما هو أشدّ عليه من عقوبة اجلريمة التي اقرتفها‪.‬‬
‫نظره عىل‬
‫قرص َ‬
‫حق الفقه من َ‬ ‫وأحكام التعامالت مع الناس ال يفقهها ّ‬
‫قوانني التحاكم إىل املخلوقني وإن كان ُحكمهم بالرشيعة يف أصل األمر؛‬
‫بل ال بد من اجلمع بني هذه األنواع‪.‬‬
‫وهبذا تندفع كثري من اإلشكاالت التي يثريها بعض املعرتضني عىل حتكيم‬
‫اخلفي ظلم‪ ،‬وبراعة أحد املتخاصمني يف‬
‫ّ‬ ‫احلق‬
‫أن فوات ّ‬‫الرشيعة‪ ،‬بزعمهم َّ‬
‫حق صاحبه‪ ،‬وهذه االستشكاالت فيها غفلة‬ ‫احلجة قد يستميل هبا بعض ّ‬
‫‪- 155 -‬‬
‫عن ضامنات احلكم القدري واحلكم اجلزائي‪.‬‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم إىل ذلك كام يف الصحيحني من‬ ‫ّ‬ ‫وقد ن َّبه‬
‫حديث هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة‪ ،‬عن أم سلمة‪،‬‬
‫عن النبي صىل اهلل عليه وسلم أنه قال‪« :‬إنام أنا برش‪ ،‬وإنكم ختتصمون إيل‪،‬‬
‫ولعل بعضكم أن يكون أحلن بحجته من بعض‪ ،‬وأقيض له عىل نحو ما‬
‫أسمع‪ ،‬فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فال يأخذ‪ ،‬فإنام أقطع له قطعة‬
‫من النار»‪.‬‬
‫فمن ُقيض له بيشء ال يستح ّقه حر َم عليه أن يأخذه‪ ،‬ومن وقع عليه‬
‫دق‪َّ ،‬‬
‫فإن اهلل ال‬ ‫ظلم وريض باهلل َح َك ًام مل يضع عليه يشء من ح ّقه مهام ّ‬
‫ذرة‪.‬‬
‫يظلم مثقال ّ‬
‫ّ‬
‫بتسخطه أو تعدّ يه‪ ،‬كام قال‬ ‫يتحول إىل ظامل‬
‫وإنام اخلوف عىل املظلوم أن ّ‬
‫ابن مسعود‪« :‬ما يزال املرسوق منه يتظنّى حتى يصري أعظم من السارق»‪.‬‬
‫رواه البخاري يف «األدب املفرد»‪.‬‬
‫خترص ًا بظنّه‪.‬‬
‫أي يتّهم األبرياء ّ‬
‫حكم اهلل‪ ،‬وال يتعدّ ى عىل‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يتسخط‬ ‫وأما املظلوم الذي ال يتعدّ ى وال‬
‫عباد اهلل فهو يف ضامن اهلل تعاىل له؛ فيأتيه ح ّقه باحلكم القدري أو اجلزائي‪،‬‬
‫وبني هذين احلكمني فرق لطيف‪:‬‬
‫وهو أن احلكم ال َقدَ ري عىل العبد قد يقع عقوبة أو ابتالء أو استدراج ًا‬
‫أو تنبيه ًا‪ ،‬وأما احلكم اجلزائي فمتع ّلق بالثواب والعقاب الدنيوي‬
‫واألخروي‪ ،‬هذا من وجه‪.‬‬

‫‪- 156 -‬‬


‫ومن وجه آخر‪ :‬فاحلكم اجلزائي ينقسم إىل حكم جزائي رشعي‪ ،‬وحكم‬
‫جزائي قدري‪.‬‬
‫حلكَم» و«احلكيم» الذي‬
‫إذا تبينّ لك ما تقدّ م عرفت سعة معاين اسم اهلل «ا َ‬
‫له احلكم ك ّله بجميع أنواعه؛ فهو تعاىل احلكَم بجميع هذه االعتبارات‪،‬‬
‫وإليه يرجع األمر ك ّله؛ فيحكم فيه بام شاء‪ ،‬ال خيرج عن حكمه يشء‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ يشمل هذه‬
‫األنواع الثالثة‪ :‬احلكم الرشعي املبينّ للهدى‪ ،‬واحلكم القدري‪ ،‬واحلكم‬
‫اجلزائي‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ حرص مؤكد‪ ،‬يتبينّ للمتفكّر فيه أنَّه‬
‫َ‬
‫قضون‬ ‫ال حكم ألحد دون اهلل تعاىل‪ ،‬وأن الذين ُيدعون من دون اهلل ال َي‬
‫بيشء‪ ،‬وال يملكون نفع ًا وال رض ًا‪ ،‬وال حياة وال نشور ًا‪ ،‬فكيف ُيطاعون‬
‫يف معصية اهلل تعاىل الذي له احلكم؟!!‬
‫وكيف ُيعبدون من دون اهلل وقد ﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾‪.‬‬
‫فمن حت ّقق هبذه احلقيقة أسلم قلبه هلل‪ ،‬وأخلص له الدين‪ ،‬ملا قام يف قلبه‬
‫جل وعال‪،‬‬ ‫وأن القضاء والقدر بيده وحده َّ‬
‫من اليقني بأن احلكم هلل وحده‪َّ ،‬‬
‫والثواب والعقاب من عنده؛ فكذلك األمر والنهي جيب أن ال يكونا إال‬
‫من عنده‪.‬‬
‫وهذا احلكم عا ّم يف كبري األمور وصغريها‪ّ ،‬‬
‫فكل معصية ُيعىص اهلل هبا‬
‫يستحق صاحبه العقاب عليه؛ كام‬
‫ّ‬ ‫هي خروج عن عبادته الواجبة‪ ،‬وفسق‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾‪.‬‬
‫‪- 157 -‬‬
‫ولذلك عظمت خشية املؤمنني لربهّ م ّ‬
‫جل وعال‪ ،‬واستعاذوا به من‬
‫الوقوع يف اإلثم كام صح عن النبي صىل اهلل عليه وسلم أنه كان يدعو‪:‬‬
‫«اللهم إين أعوذ بك من املأثم واملغرم» متفق عليه من حديث الزهري عن‬
‫عروة بن الزبري عن عائشة ريض اهلل عنها‪.‬‬
‫واملتأ ّمل يف هذه األحكام اإلهلية وسعتها وعظمة آثارها واتّساقها اتّساق ًا‬
‫بديع ًا حمك ًام يدرك أن الدين قائم عىل إخالص العبادة هلل تعاىل وحده‪ ،‬كام‬
‫قال أبو العالية الرياحي رمحه اهلل يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ‬
‫«أسس الدّ ين عىل اإلخالص للهّ وحده ال رشيك‬ ‫ﮏ ﮐ ﮑ﴾ قال‪ّ :‬‬
‫له»‪ .‬رواه ابن جرير‪.‬‬
‫التابعي اجلليل دليل عىل فقهه وإدراكه‬
‫ّ‬ ‫وهذه الكلمة العظيمة من هذا‬
‫ملقصد اآلية وحسن تنبيهه لذلك‪.‬‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ﴾ اإلشارة بلفظ اإلشارة البعيد ﴿ﯘ﴾‬
‫والسمو العايل هلذا الدين‪ ،‬الذي يتعاىل عن كل ما‬
‫ّ‬ ‫فيه داللة عىل الرفعة‬
‫أريد به مضاهاته‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معان‪:‬‬ ‫والق ّيم شامل لثالثة‬
‫أحدها‪ :‬املستقيم الذي ال عوج فيه وال اختالف وال تناقض‪.‬‬
‫والثاين‪ّ :‬‬
‫القوام برعاية املصالح وحتقيقها‪.‬‬
‫ّ‬
‫فلكل عمل‬ ‫والثالث‪ :‬املهيمن عىل شؤون العباد وأعامهلم وأحواهلم؛‬
‫حكم‪ ،‬ولكل حال سبب وجزاء‪.‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫تفرد اهلل تعاىل‬
‫وقوله‪﴿ :‬ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ﴾ أي يف غفلة عن ّ‬
‫باحلكم‪ ،‬وعن قيوم ّية هذا الدين‪.‬‬
‫والوصف بعدم العلم يف هذا املوضع وصف ذ ّم يستدعي التفكّر يف‬
‫أسبابه وآثاره‪.‬‬
‫فهو جهل مذموم ناشئ عن الغفلة واإلعراض‪ ،‬واإلمعان يف التعامي‬
‫الغي حتى‬
‫عن هدى اهلل تعاىل‪ ،‬واجلراءة عىل معصيته واالسرتسال يف ّ‬
‫طمست البصرية‪ ،‬وأظلم القلب‪ ،‬واستحكم اجلهل؛ فهم ال يعلمون‪.‬‬
‫وهذا الوصف الذميم يقذف يف نفس املؤمن الرهبة من أن يوصم بيشء‬
‫منه فيكون من اجلاهلني‪ ،‬فيحمله ذلك عىل أن ينأى بنفسه عن التخلق‬
‫بأخالق اجلاهلني‪ ،‬والعمل بأعامهلم‪ ،‬والتش ّبه بأحواهلم‪.‬‬
‫ولذلك ّملا ُدعي يوسف عليه السالم إىل الفاحشة ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‪.‬‬

‫‪- 159 -‬‬


‫الباب الثامن‪ :‬تنمية ملكة التف�سري‬

‫من أعظم ما ينبغي لطالب علم التفسري أن يعتني به تنمية َم َلكَته‬


‫التفسريية‪ ،‬وامل َلكة صفة تفيد حسن املعرفة بالعلم الذي ُيعنى به الطالب‬
‫واملهارة يف معرفة مسائله وحتريرها واإلبانة عنها‪.‬‬
‫فامللكة التفسريية قائمة عىل أصلني‪:‬‬
‫األصل األول‪ :‬املعرفة احلسنة بأصول التفسري وحترير مسائله‪،‬‬
‫املفسين‬ ‫فيعرف املصادر التي يرجع إليها يف دراسة ّ‬
‫كل مسألة‪ ،‬ومراتب رّ‬
‫وتفاسريهم‪ ،‬ومصادر حتصيل األقوال وأدلة املسائل‪ ،‬ومعرفة مواضع‬
‫اإلمجاع واخلالف‪ ،‬والقدرة عىل حترير ّ‬
‫حمل النزاع‪ ،‬ونضج املعرفة بطرق‬
‫اجلمع والرتجيح والنقد واإلعالل‪.‬‬
‫وهذا هو اجلانب العلمي الذي تستند عليه امللكة التفسريية‪ ،‬وهو مما‬
‫يتفاوت فيه العلامء وطالب العلم‪ ،‬ولذلك ينبغي لطالب علم التفسري‬
‫أن ُيعنى بتقوية هذا األصل لديه‪ ،‬شيئ ًا فشيئ ًا عىل ّ‬
‫مر األيام والليايل‪ ،‬وأن‬
‫تكون لديه هنمة يف علم التفسري تعينه عىل إحسان حتصيل هذا األصل‬
‫وتقريب مدّ ته‪.‬‬
‫واألصل الثاين‪ :‬املهارة يف معرفة علل التفسري واجلواب عن املشكل‬
‫وحسن البيان عن معاين القرآن‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫واملهارة يف العمل أداؤه بإتقان من غري كلفة وال تردد‪.‬‬
‫قص تقصري ًا خم ً‬
‫ال يف حتصيل األصل األول‪.‬‬ ‫وهذه املهارة ال حتصل ملن رّ‬
‫فمتى حصلت املهارة لطالب العلم يف عا ّمة دروس التفسري فهو‬
‫لب التحصيل العلمي‬‫صاحب َم َلكة حسنة يف التفسري‪ ،‬وهذه امللكة هي ّ‬
‫مهم لقياس جودة املنهج التعليمي الذي سار‬
‫وثمرته العلمية‪ ،‬وهي معيار ّ‬
‫عليه الطالب‪.‬‬
‫والعناية بأساليب التفسري وكتابة الرسائل التفسريية من أفضل ما يعني‬
‫عىل تنمية ملكة التفسري لثالثة أسباب‪:‬‬
‫السبب األول‪ :‬أن الطالب عند كتابته لرسالة تفسريية جيد حاجته ّ‬
‫ماسة‬
‫لتحرير مسائله وحسن اإلبانة عن املعاين فيقوده ذلك إىل االجتهاد يف‬
‫دراسة مسائل التفسري وحتريرها واإلجابة عىل ما قد يثار من األسئلة يف‬
‫موضوع درسه‪ ،‬واعتياد هذا األمر يعني الطالب عىل التمكن من دراسة‬
‫مسائل التفسري‪ ،‬وحسن املعرفة بمصادر األقوال ومراتب التفاسري‪،‬‬
‫وأنواع املراجع التي حيتاجها‪ ،‬إىل أن حتصل له خربة حسنة يف علم التفسري‪.‬‬
‫تعرفه باألساليب التي‬‫والسبب الثاين‪ :‬أن كتابته للرسائل التفسريية ّ‬
‫حيسنها‪ ،‬ويفتح له فيها؛ فيجتهد فيام فتح له فيه‪ ،‬ويكثر من الكتابة فيه إىل‬
‫أن جيد من نفسه مهارة يف كتابة الرسائل التفسريية باألساليب التي حيسنها‪.‬‬
‫وكلام وجد عرس ًا يف بعض مراحل كتابته لرسالته التفسريية اجتهد يف‬
‫ومرن نفسه حتى تتحقق له املهارة ويذهب عنه ما‬
‫معرفة سببه وعالجه َّ‬
‫جيد من املشقة والعرس‪.‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫والسبب الثالث‪ :‬أن مداومة طالب علم التفسري عىل كتابة الرسائل‬
‫وتنمي بناءه العلمي يف‬
‫ترسخ فقه املسائل التي كتبها يف نفسه؛ ّ‬
‫التفسريية ّ‬
‫التفسري‪ ،‬وتثري أصوله العلمية‪ ،‬وتعينه عىل الدعوة إىل اهلل تعاىل وبيان‬
‫هدى القرآن للناس بام تعلم من التفسري‪ ،‬وما أحسن من األساليب‪.‬‬
‫وإذا رزق طالب علم التفسري الصدق واإلخالص يف كتابة رسائله‬
‫التفسريية ُرجي أن يبارك اهلل له يف علمه‪ ،‬وأن ينفع به‪ ،‬وأن يزيده اهلل عل ًام‬
‫نافع ًا مبارك ًا‪ ،‬وأن يذلل له ما جيد من صعوبات يف طلب العلم‪.‬‬
‫فكتابة الرسائل التفسريية وإلقاء الكلامت التفسريية من أعظم أنواع‬
‫الدعوة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وهي من شكر طالب العلم لر ّبه عىل ما ع ّلمه ّ‬
‫وفهمه‪،‬‬
‫ومن شكر نعمة اهلل زاده اهلل من فضله‪ ،‬وشكر له عمله‪ ،‬وبارك له فيه‪.‬‬
‫أهم ما ينبغي أن جيتهد فيه‬ ‫ولذلك َّ‬
‫فإن العناية بأساليب التفسري من ّ‬
‫طالب علم التفسري‪.‬‬
‫وسنتناول يف هذا الباب بيان حمددات األسلوب الذي ينبغي أن جيتهد‬
‫طالب علم التفسري يف الكتابة فيه‪ ،‬وبيان طريقة حتسني كتابة الرسائل‬
‫التفسريية‪.‬‬

‫‪- 163 -‬‬


‫حمددات الأ�سلوب‪:‬‬
‫املفس أن يلقي كلمة تفسريية أو يكتب رسالة تفسريية فإن‬ ‫إذا أراد رّ‬
‫اختيار األسلوب املناسب يعتمد عىل ثالثة حمدّ دات‪:‬‬
‫فإن انطالق املتك ّلم‬
‫املفس من العلوم واملهارات‪ّ ،‬‬
‫املحدد األول‪ :‬ما جييده رّ‬
‫مما جييده أقوى وأبلغ من تك ّلفه ما ال حيسن‪ ،‬فمن كان ّ‬
‫متبحر ًا يف علم من‬
‫العلوم فإن األنفع ملن يستمع إليه أن يفيدهم من علمه الذي متكّن فيه‬
‫ورسخت فيه قدمه؛ فيكون اختياره لألسلوب املوافق لذلك العلم أمجل‬
‫به وأنفع‪ ،‬وكذلك يقال يف املهارات؛ فمن كان ذا مهارة مع ّينة يف الكتابة أو‬
‫اإللقاء فإن عنايته بام فتح له فيه أوىل به من تك ّلف ما ال حيسن‪.‬‬
‫فمن الناس من يفتح له يف الكتابة؛ فيكون لكتاباته أثر عىل من يقرأ‬
‫له‪ ،‬لكنّه إذا تك ّلم مل يكن لكالمه ذلك األثر‪ ،‬لضعف أسلوبه يف احلديث‪،‬‬
‫وكثرة تردده وتلعثمه‪ ،‬واضطراب صوته؛ ومن الناس من يكون عىل‬
‫عكس ذلك؛ فإذا تك ّلم أخذ باألسامع‪ ،‬واسرتعى االنتباه‪ ،‬وشدّ احلارضين‬
‫إليه؛ فكان لكالمه يف نفوسهم أثر ًا بالغ ًا‪ ،‬وحلديثه قبوالً‪ ،‬وحلضوره هبجة‪.‬‬
‫ومنهم من يفتح له يف األمرين‪ ،‬وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪.‬‬
‫واملقصود أن من فتح له يف علم أو مهارة فإن من شكر ما أنعم اهلل‬
‫به عليه أن يستعمله يف الدعوة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وتعليم العلم النافع‪ ،‬وبيان‬
‫اهلدى للناس‪.‬‬
‫وإذا وجد يف نفسه ضعف ًا يف مهارة حيتاج إليها أو علم حيتاج إليه يف‬
‫ويتمرن عىل تلك املهارة‬
‫ّ‬ ‫دعوته وتبليغه؛ فينبغي أن يتع ّلم ذلك العلم‪،‬‬

‫‪- 164 -‬‬


‫حتى يتقنها أو يكون أداؤه فيها مقبوالً عىل احلدّ األدنى‪.‬‬
‫فإن املقصود من احلديث حصول‬ ‫املحدد الثاين‪ :‬ما يناسب حال املتل ّقني‪ّ ،‬‬
‫الفائدة‪ ،‬وانتفاع املتلقني بام يلقى إليهم من املادة العلمية؛ وحتديث الناس‬
‫بام يعرس عليهم فهمه‪ ،‬أو تنفر منه طباعهم‪ ،‬أو بام ال عناية هلم به ليس من‬
‫احلكمة يف يشء‪.‬‬
‫للمفس إذا حدّ ث قوم ًا أن خيتار األسلوب األقرب إىل‬
‫رّ‬ ‫فلذلك ينبغي‬
‫أفهامهم‪ ،‬واألحظى بقبوهلم وإقباهلم‪ ،‬واألرجى النتفاعهم‪.‬‬
‫فمخاطبة طالب العلم الذي يريد أن يتع ّلم التفسري عىل وجهه فيبينّ له‬
‫مواضع اإلمجاع واخلالف واملسائل املتع ّلقة باآليات وطرق حتريرها ومتييز‬
‫األقوال الصحيحة من الضعيفة‪ ،‬ونحو ذلك من املعارف واألدوات‬
‫العلمية التي حيتاجها طالب العلم؛ يستدعي من املتك ّلم أن خيتار له‬
‫األسلوب األنفع إللقاء تلك املادة العلمية‪.‬‬
‫التعرف عىل خالصة بيان اهلدى الذي‬
‫وخماطبة العا ّمة الذين غايتهم ّ‬
‫تضمنته تلك اآليات ينبغي أن خيتار له األسلوب األنسب هلم‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعس عليه أن حيدّ ث العا ّمة بام يناسبهم لغلبة اللغة العلمية العالية‬
‫ومن رّ‬
‫فليوجه خطابه إىل نوع من املتل ّقني يكون أسلوبه قريب ًا إىل‬ ‫ّ‬ ‫يف خطابه؛‬
‫أذواقهم‪ ،‬لذيذا يف أسامعهم‪ ،‬حمبوب ًا لدهيم‪ ،‬عزيز ًا عليهم‪ ،‬وإن مل يعرف‬
‫يستلذوه للعوائق احلائلة دون فهمه عىل‬ ‫ّ‬ ‫اآلخرون له قدره ونفعه‪ ،‬ومل‬
‫وجهه‪ ،‬واستجالء حسنه وفائدته‪.‬‬
‫يشق عليه االنسالخ‬
‫فاملتبحر يف علوم اللغة ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬قد ّ‬
‫ّ‬
‫حماجة قوم من‬
‫من اللغة العالية يف خطابه‪ ،‬وكذلك الذي غلبت عليه ّ‬
‫‪- 165 -‬‬
‫أهل الضالل هلم اصطالحات خاصة‪ ،‬وعبارات مع ّقدة‪ ،‬وأفهام غريبة‬
‫شق عليه التخ ّلص من تأثري تلك‬
‫عىل العامة؛ إذا أراد احلديث بام حيسنه ّ‬
‫العبارات واالصطالحات‪.‬‬
‫ويعودها عىل أن خياطب العا ّمة‬
‫يروض نفسه ّ‬ ‫فمن كان كذلك فإ ّما أن ّ‬
‫باألسلوب الذي يناسبهم‪ ،‬وخياطب اخلاصة بام يناسبهم‪ ،‬وإ ّما أن خيتار‬
‫حلديثه النوع األنسب من املتل ّقني‪ ،‬ويتخصص يف ذلك‪.‬‬
‫وقد قال عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنه‪« :‬حدثوا الناس بام يعرفون؛‬
‫وبوب‬
‫أحتبون أن يكذب اهلل ورسوله» رواه البخاري يف صحيحه معلقا‪ّ ،‬‬
‫عليه‪( :‬باب من خص بالعلم قوما دون قوم‪ ،‬كراهية أن ال يفهموا)‪.‬‬
‫وذلك أن حتديث الناس بام يشتبه عليهم علمه‪ ،‬ويعرس عليهم فهمه؛‬
‫من الفتنة هلم؛ كام قال عبد اهلل بن مسعود ريض اهلل عنه‪« :‬ما أنت بمحدث‬
‫قوما حديثا ال تبلغه عقوهلم‪ ،‬إال كان لبعضهم فتنة» رواه مسلم‪.‬‬
‫وقال عروة بن الزبري‪« :‬ما حدثت أحدا بيشء من العلم قط مل يبلغه‬
‫عقله إال كان ضالال عليه» رواه ابن عبد ال ّ‬
‫رب يف جامع بيان العلم وفضله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بحديث من ال‬ ‫وقال أبو قالبة اجلرمي ‪ -‬تلميذ ابن عباس‪« : -‬ال حتدث‬
‫يعرفه؛ فإن من ال يعرفه يرضه وال ينفعه» رواه ابن عبد الرب‪.‬‬
‫فإن لكل مقا ٍم مقاالً‪ ،‬وكل مناسبة اقتضت‬ ‫املحدد الثالث‪ :‬املقام؛ ّ‬
‫احلديث أو الكتابة يف التفسري هلا أثرها يف اختيار األسلوب األليق هبا؛‬
‫فمقام التدريس وتقريب املسائل العلمية وبياهنا لطالب العلم أليق به‬
‫أسلوب التقرير العلمي‪.‬‬

‫‪- 166 -‬‬


‫تضمنتها اآليات أليق به‬
‫ّ‬ ‫ومقام التعريف بالفوائد واألحكام التي‬
‫األسلوب االستنتاجي‪.‬‬
‫ومقام الوعظ والتذكري به وإرشاد الناس إىل هدايات القرآن وتقريبها‬
‫هلم أليق به األسلوب الوعظي يف الغالب‪.‬‬
‫وتروج فيه األغاليط ينبغي عليه أسلوب‬
‫ّ‬ ‫واملقام الذي تثار فيه ّ‬
‫الشبه‬
‫احلجاج والرد‪.‬‬
‫وهكذا يف سائر املقامات؛ خيتار املتحدّ ث األسلوب األليق بذلك املقام‪.‬‬
‫وقد تقتيض بعض املقامات التنويع بني األساليب؛ والتنويع بينها‬
‫يتطلب مهارة حسنة من املتحدّ ث‪.‬‬

‫التنويع بني الأ�ساليب‪:‬‬


‫املفس إىل التنويع بني األساليب‪ ،‬ألسباب متعدّ دة يقتضيها‬ ‫قد حيتاج رّ‬
‫املقام وحال املخاطبني‪ ،‬وطبيعة املا ّدة العلمية التي يلقيها‪.‬‬
‫وقد ظهر يف رسائل بعض األئمة براعة يف التنويع بني تلك األساليب؛‬
‫قوة يف التأثري‪ ،‬وإحسان ًا لعرض املا ّدة العلمية‪ ،‬وتوسيعا‬
‫مما أكسب رسائلهم ّ‬
‫للرتابة والسآمة‪.‬‬‫لدائرة االنتفاع هبا‪ ،‬وإذهابا ّ‬
‫ثم ينتقل يف مواضع‬
‫فمنهم من يعتمد أسلوب التقرير العلمي كأصل له ّ‬
‫من كلمته أو رسالته إىل األسلوب الوعظي تارة بقدر مناسب‪ ،‬وينتقل تارة‬
‫تنوع حسن يكون له أثره يف‬
‫أخرى إىل األسلوب االستنتاجي‪ ،‬وهكذا يف ّ‬
‫انتفاع املتل ّقي‪ ،‬وإحسان عرض املا ّدة بالعلمية بأكثر من وجه‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫أدعى حلسن بياهنا‪ ،‬وكثرة بركتها‪.‬‬
‫‪- 167 -‬‬
‫يمرن نفسه عىل مهارة التنويع احلسن بني‬
‫وينبغي لطالب العلم أن ّ‬
‫أساليب التفسري‪ ،‬وأن تكون لديه أهلية حسنة يف ّ‬
‫كل أسلوب منها‪ ،‬ولو أن‬
‫كل أسلوب‪ ،‬ويكون تركيزه عىل األسلوب الذي‬ ‫يتجاوز احلدّ األدنى يف ّ‬
‫فتح له فيه فأتقنه وبرع فيه‪.‬‬

‫التع ّلم باملحاكاة واال ّتباع‪:‬‬


‫التعلم باملحاكاة واالتّباع من طرق التع ّلم العتيقة والنافعة‪ ،‬وقد أرشد‬
‫اهلل تعاىل إليها آدم عليه السالم‪ ،‬وجعلها سنّة يف ذريته؛ ففي الصحيحني‬
‫من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه‪ ،‬عن النبي صىل اهلل عليه وسلم أنه‬
‫قال‪« :‬خلق اهلل آدم عىل صورته‪ ،‬طوله ستون ذراعا‪ ،‬فلام خلقه قال‪ :‬اذهب‬
‫فسلم عىل أولئك النفر من املالئكة‪ ،‬جلوس‪ ،‬فاستمع ما حييونك؛ فإهنا‬
‫حتيتك وحتية ذريتك‪ ،‬فقال‪ :‬السالم عليكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬السالم عليك ورمحة‬
‫اهلل‪ ،‬فزادوه‪ :‬ورمحة اهلل ‪ » ...‬احلديث‪.‬‬
‫وأرشد اهلل إليها ابن آدم األول كام يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ‬
‫ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬
‫ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ﴾‪.‬‬
‫وقال النبي صىل اهلل عليه وسلم ألصحابه‪« :‬صلوا كام رأيتموين أصيل»‪،‬‬
‫وقال‪« :‬خذوا عني مناسككم»‪.‬‬
‫وألجل نفع هذه الطريقة رضبت األمثال‪ ،‬وحكيت القصص التي فيها‬
‫عرب؛ فإن اللبيب يقتبس من املثل نور ًا يميش به‪ ،‬ويتّخذ من العربة درس ًا‬
‫ينتفع به‪.‬‬

‫‪- 168 -‬‬


‫وهي طريقة موافقة لطبيعة اإلنسان وما جبل عليه من املالحظة‬
‫والتقليد؛ فالصبي ّأول ما ُيع ّلم الكتابة يكتب له احلرف ويكرر له‪ ،‬ثم‬
‫ِ‬
‫ُينقط له َر ْس ُم احلرف حتى يكتمل له بِ َو ْص ِل النقط َر ْس ُم صورة احلرف‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫يكرر ذلك كثري ًا؛ حتى يمكنه أن يكتب احلرف استقالالً من غري أن يعتمد‬
‫عىل تلك النقط‪ ،‬وال يزال يتع ّلم عىل هذه الطريقة حتى حيسن الكتابة؛‬
‫فعامد تع ّلمه هو املحاكاة مع اإلرشاف والتوجيه‪.‬‬
‫وهبذه الطريقة يتعلم املبتدئون يف الصناعات واحلرف املهارات األساسية‬
‫فيها‪ ،‬حتى إذا أتقنوها أمكنهم أن يترصّ فوا يف أدوات تلك املهنة ترصفا‬
‫ينتفعون به وينفعون غريهم‪ ،‬ويضيفون إىل تلك املهارات ما يبتكرونه وما‬
‫يستفيدونه بمعرفة األشباه والنظائر‪ ،‬ونقل التجربة الصحيحة من جمال‬
‫إىل جمال‪ ،‬واملزاوجة بني طريقتني أو أكثر؛ ينتج باجلمع بينها نتيجة أفضل‬
‫وأنفع‪.‬‬
‫ولكل صنعة رجاهلا العارفون هبا‪ ،‬ومن ذلك العلوم واملهارات العلمية؛‬
‫فلكل علم أهله املتقدّ مون فيه‪ ،‬وهلم أدواهتم العلمية وطرقهم يف حتصيله‬ ‫ّ‬
‫وتبيينه؛ فمن أراد أن يتع ّلم عل ًام من العلوم؛ فلينظر يف طريقة احلاذقني به‬
‫وليرتسمها؛ وليداوم عىل ذلك حتى يعدّ من أهل ذلك العلم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهذا كام يقال يف العلوم يقال أيض ًا يف املهارات عىل اختالف أنواعها؛‬
‫يقوم لسانه يف احلديث ويمهر يف الفصاحة وحسن البيان؛‬ ‫فمن أراد أن ّ‬
‫االستامع إىل كالم الفصحاء وأرباب البيان‪ ،‬وأن جيتنب‬
‫َ‬ ‫فينبغي له أن يكثر‬
‫‪-‬ما أمكنه‪ -‬كالم أويل اللحن وضعف األسلوب؛ ألن اعتياد األذن عىل‬
‫سامع الفصيح من الكالم‪ ،‬يعني عىل نطق اللسان به‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫حيسن أسلوبه يف الكتابة ينبغي له أن حيسن اختيار من يقرأ‬
‫ومن أراد أن ّ‬
‫كتبهم من الكتّاب البارعني‪.‬‬
‫يمرن ذهنه عىل فهم الدقائق وحل املشكالت وكشف‬ ‫ومن أراد أن ّ‬
‫املعضالت فينبغي أن يقرأ كتب من عرفوا بذلك من العلامء املحققني‪.‬‬
‫وهكذا يف ّ‬
‫كل علم من العلوم‪ ،‬ومهارة من املهارات‪ ،‬جيد الطالب فيها‬
‫أئمة حاذقني فيستفيد من طريقتهم وينتفع بكتبهم ورسائلهم‪.‬‬‫ّ‬
‫واملقصود أن طريقة التعلم باملحاكاة واالتباع طريقة نافعة جد ًا‪ ،‬وال‬
‫س ّيام يف تعلم املهارات‪ ،‬وختترص عىل املع ّلم كثرة الرشح النظري ألمور قد‬
‫يتصورها الطالب ذهني ًا كام ينبغي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫وعرفه الطريقة‬
‫فإنّه إذا أقام األنموذج للطالب‪ ،‬وطلب منه أن حيكيه ّ‬
‫بمثاهلا أغناه ذلك عن كثري من الرشح والتوضيح‪ ،‬ويبقى عىل الطالب‬
‫ثم‬
‫العناية بجودة املالحظة وحسن املحاكاة؛ حتى يتفهم الطريقة ويتقنها؛ ّ‬
‫يضيف إليها ما يفتح اهلل له من جوانب اإلحسان والتم ّيز‪.‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫خطوات املحاكاة‪:‬‬
‫حتى حيسن الطالب التع ّلم هبذه الطريقة ويربع فيها ينبغي له أن يعتني‬
‫باخلطوات التالية‪:‬‬
‫‪ :1‬تأسيس املحاكاة‬
‫وذلك بأمرين‪:‬‬
‫أحدمها‪ :‬حسن اختيار األنموذج؛ وهذا مما ينبغي للمع ّلم الناصح أن‬
‫يقدّ مه لطالبه؛ وعناية املع ّلم باختيار النامذج احلسنة للطالب تكفيهم هذه‬
‫املؤونة يف ّأول طريقهم يف املحاكاة‪ ،‬ثم ليحرص الطالب عىل أن حيسن‬
‫االختيار بعد ذلك‪.‬‬
‫وقد قيل‪( :‬لكل يشء صناعة‪ ،‬وصناعة العقل حس ُن االختيار)‪.‬‬
‫وهذه املقولة نسبت للخليل بن أمحد‪ ،‬ونسبت لغريه‪ ،‬وهي مقولة‬
‫صحيحة بليغة‪.‬‬
‫وقال أبو إسحاق الوطواط (ت‪718:‬هـ)‪( :‬ترصف الناس يف حسن‬
‫االختيار معدود من املواهب)‪.‬‬
‫واألمر اآلخر‪ّ :‬‬
‫التعرف عىل أسلوب الرسالة التي يريد أن يتّبع طريقتها‪،‬‬
‫واألدوات العلمية التي استعملها املؤلف يف رسالته‪.‬‬
‫يؤسس للمحاكاة‬
‫فإذا أحسن الطالب معرفة هذين األمرين أمكنه أن ّ‬
‫تأسيس ًا حسنا بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫‪ :2‬بناء املحاكاة‬
‫إذا ق ّعد الطالب للمحاكاة قواعدها؛ بقي عليه أن يبني تلك املحاكاة عىل‬
‫طريقة املؤلف يف استخراج املسائل واستعامل األدوات العلمية‪ ،‬ويعينه يف‬
‫ذلك حسن املالحظة‪ ،‬والتف ّطن لترصّ ف املؤلف يف تناول املسائل العلمية‬
‫وتفنّنه يف ترتيبها وعنايته برتتّب بعضها عىل بعض حتى يصل إىل حتقيق‬
‫مقصد تلك الرسالة‪.‬‬
‫لب عمل املحاكاة؛ فإذا أحسنه الطالب كان ما‬ ‫وهذه املرحلة هي ّ‬
‫بعده سهالً‪ ،‬وهو أمر قد ال يصل الطالب فيه إىل مرتبة اإلجادة إال بكثرة‬
‫التجريب وطول املران‪.‬‬
‫‪ :3‬هتذيب املحاكاة‬
‫مسودة الرسالة؛ فإنّه ينبغي له أن يعود إليها‬
‫إذا أهنى الطالب كتابة ّ‬
‫بالتهذيب؛ فيصحح األخطاء‪ ،‬ويلغي ما ال حيسن بقاؤه كالعبارات‬
‫ألن الغرض ليس هو املحاكاة‬ ‫خيتص هبا املؤلف اختصاص ًا ظاهر ًا؛ ّ‬‫ّ‬ ‫التي‬
‫الشكلية‪ ،‬وإنام حتصيل امللكة العلمية يف تناول تلك املسائل والتعبري عنها‪.‬‬
‫وليجتنب كذلك حماكاة العبارات التي يطلقها بعض العلامء بناء عىل‬
‫سعة اطالعهم وكثرة معاناهتم للبحث والقراءة وطول تت ّبعهم؛ فيجري‬
‫منهم إطالق عبارات بالنفي املطلق ألمور ال يمكن للطالب أن يصل إليها‬
‫إال بتت ّبع حسن أو إسناد إىل عامل يوثق بإطالقه لتلك األحكام؛ مثل حكاية‬
‫اإلمجاع أو نفي وجود قول من األقوال املدّ عاة‪ ،‬أو تقرير قاعدة أو ضابط‬
‫علمي ونحو ذلك مما يطلقه بعض العلامء بناء عىل سعة ا ّطالعهم وطول‬
‫معاناهتم للبحث والتنقيب يف الكتب‪.‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫مهمة لتنقية الرسالة من األخطاء العلمية‪،‬‬
‫واملقصود أن مرحلة التهذيب ّ‬
‫والتسع يف حتصيل النتائج قبل تقرير مقدّ ماهتا‪.‬‬
‫رّ‬ ‫والدعاوى العريضة‪،‬‬
‫وفيها حيذف الطالب ما ال حيسن بقاؤه مما ال حُيتاج إليه‪ ،‬وقد ذكر أبو‬
‫موشاه عن اخلليل بن أمحد أنه قال‪( :‬ال‬ ‫الوشاء (ت‪325:‬هـ) يف ّ‬ ‫الط ّيب ّ‬
‫حيسن االختيار إال من يعلم ما ال حيتاج إليه من الكالم)ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫فإن الطالب إذا كان حيسن اختيار اجلمل‬ ‫وهذه العبارة بليغة دقيقة؛ ّ‬
‫ويرتّب أفكار الرسالة حتى يصل إىل النتيجة التي يريد تقريرها بأسلوب‬
‫بينّ واضح حيتاج إىل استثامر ّ‬
‫كل مجلة يف رسالته‪ ،‬وبقاء كالم ال حُيتاج إليه‬
‫يشتت الذهن ويطيل الطريق من غري فائدة‪.‬‬
‫‪ :4‬حتسني املحاكاة‬
‫مهمة ألمرين‪:‬‬
‫مرحلة حتسني املحاكاة ّ‬
‫أحدمها‪ :‬جتويد الرسالة وحتسينها؛ ومعاجلة ما قد يظهر عليها من‬
‫ضعف يف األسلوب‪.‬‬
‫واألمر اآلخر‪ :‬أن يصل الطالب بتحسني األسلوب إىل أن ّ‬
‫خيتط لنفسه‬
‫أسلوبا يالئمه ويتم ّيز به يستفيده باجلمع بني حماسن عدد من النامذج التي‬
‫أراد حماكاهتا‪.‬‬
‫وقد يكون لدى الطالب موهبة يف جمال من املجاالت فيجمع بينها‬
‫وبني حماسن األنموذج الذي يريد حماكاته فينتج له من ذلك حتسني موهبته‬
‫وتقوية طريقة بيانه معاين القرآن‪.‬‬
‫حيب ويرىض‬
‫وفقني اهلل وإياكم ملا ّ‬

‫‪- 173 -‬‬


‫الباب التا�سع‪ :‬خطوات�إعداد الر�سالة التف�سريية‬

‫هذه خطوات مقرتحة أرجو أن تعني طالب علم التفسري عىل إحسان‬
‫إعداد الرسائل التفسريية‪ ،‬وأن تكون رسائلهم وافية باملطلوب نافعة‬
‫للقارئ والكاتب بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫اخلطوة الأوىل‪ :‬حتديد املق�صد من الر�سالة‬


‫أهم مرحلة يف إعداد الرسالة ألن وضوح املقصد يف ذهن الكاتب‬
‫وهي ّ‬
‫يعينه عىل توظيف مسائل الرسالة وفقراهتا وأسلوهبا وما حيشده فيها من‬
‫األدلة واآلثار واألقوال خلدمة هذا املقصد‪ ،‬ويعينه عىل الرتكيز وعدم‬
‫التشتت‪.‬‬

‫اخلطوة الثانية‪ :‬حتديد نوع املخاطبني‬


‫مهم يف كتابة الرسائل التفسريية ألنه يعني الكاتب‬
‫حتديد نوع املخاطبني ّ‬
‫عىل اختيار األسلوب األنسب هلم ولغة اخلطاب األقرب إليهم؛ ومستوى‬
‫التفصيل الذي يناسبهم‪.‬‬
‫فإذا كان الكاتب يكتب لعا ّمة الناس فيوىص أن خيتار األسلوب الوعظي‬
‫يتوسع يف تفصيالت ال حتتملها أذهاهنم‪ ،‬وأن‬
‫أو ما هو قريب منه‪ ،‬وأن ال ّ‬
‫تكون عباراته واضحة سهلة قريبة من أفهامهم‪.‬‬
‫‪- 175 -‬‬
‫وإذا كان يكتب لطالب علم مبتدئني فيكتب ما يناسبهم من تقرير‬
‫ميس ومشتمل عىل التحرير العلمي املناسب‪.‬‬
‫بعض املسائل بأسلوب رّ‬
‫وإذا كان يكتب ملتخصصني يف التفسري وعلوم القرآن وطالب علم‬
‫معتنني بتفصيل بعض املسائل اخلالفية وحل بعض املشكالت وكشف‬
‫ال يفي بالغرض‬ ‫يفصل يف رسالته تفصي ً‬
‫بعض املعضالت فينبغي له أن ّ‬
‫الذي كتب من أجله ويناسب من يكتب هلم؛ ويتجاوز اإلسهاب يف‬
‫املقدّ مات املعروفة لدى أهل االختصاص‪ ،‬ويكتفي باإلشارة للمهم منها‪.‬‬

‫اخلطوة الثالثة‪ :‬حتديد الأ�سلوب‬


‫مهم اختيار‬
‫املفس رسالته ّ‬ ‫حتديد األسلوب الذي يريد أن يكتب به رّ‬
‫املسائل التي يعتني فيها بمزيد تركيز‪ ،‬وباألدوات العلمية التي تستعمل‬
‫يف الرسالة ونوع املعلومات التي حتشد فيها؛ وهذا له أثره يف توافق مبنى‬
‫ينوع بني األساليب يف رسالته لكن‬ ‫الرسالة مع مقصدها‪ ،‬وال بأس أن ّ‬
‫ينبغي أن يكون تنويع ًا متوازن ًا يثري القارئ ويشبع هنمته وال يشتت ذهنه‪.‬‬

‫اخلطوة الرابعة‪ :‬ا�ستخراج امل�سائل التف�سريية من الآية التي‬


‫يريد تف�سريها‬
‫املفس‬
‫تعرف رّ‬ ‫وهذه اخلطوة مهمة جد ًا‪ ،‬وحم ّلها مسودة الرسالة‪ ،‬ألهنا ّ‬
‫باملسائل التي ينبغي له أن يذكرها ويعنى ببسط احلديث عنها واملسائل‬
‫التي ينبغي أن يتجاوزها حتى ال ترصفه عن مقصده من الرسالة‪ ،‬وفيها‬
‫توسيع ملداركه بكثرة االستنباط واالستخراج وحسن التوظيف‪ ،‬وهذا ما‬
‫نسميه يف التقويم بمعيار املواءمة‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪- 176 -‬‬
‫ويمكن أن يرجع الطالب إىل درس «استخالص املسائل التفسريية من‬
‫اآليات القرآنية» وهو من دروس دورة «مهارات التفسري»‪.‬‬

‫اخلطوة اخلام�سة‪ :‬معرفة النظائر‬


‫ومعرفة نظائر اآلية واستخراج مسائلها نافع جد ًا يف إثراء الرسالة‬
‫العلمية وتقويتها‪ ،‬ومعني عىل حتقيق املقصد من الرسالة؛ فقد حيتاج إىل‬
‫ذكر بعض املسائل املتع ّلقة بتلك اآليات‪ ،‬والتفصيل فيها ألثرها يف بيان‬
‫املقصد الكيل للرسالة‪ ،‬أو ترجيح بعض األقوال عىل بعض‪ ،‬أو رفع‬
‫إشكال أو دفع اعرتاض‪.‬‬

‫اخلطوة ال�ساد�سة‪ :‬اختيار الأمنوذج‬


‫مهم يف املرحلة األوىل من‬
‫اختيار األنموذج املناسب ليحاكيه الطالب ّ‬
‫مراحل كتابة الرسائل التفسريية؛ ألنه يعني الطالب عىل تقوية رسالته؛‬
‫حتى إذا اعتاد الطالب عىل الكتابة عرف األسلوب الذي يالئمه؛ فيجتهد‬
‫فيام فتح له فيه‪.‬‬
‫فاملحاكاة ينبغي للطالب أن ينظر هلا عىل أهنا مرحلة مؤقتة إىل حني‬
‫وصوله إىل مرتبة إجادة كتابة الرسائل التفسريية‪ ،‬وأن اختياره لألنموذج‬
‫ال يعني مجوده عليه؛ فقد يكون لدى الطالب من نقاط القوة ما يمكن أن‬
‫يضيفه عىل األنموذج؛ فتزداد رسالته حسن ًا ونفع ًا‪.‬‬

‫‪- 177 -‬‬


‫اخلطوة ال�سابعة‪ :‬حتديد عنا�صر الر�سالة‬
‫ينبغي للطالب أن يكتب العنارص قبل البدء بكتابة الرسالة ألهنا‬
‫تضبط له خطة السري يف تلك الكتابة؛ وليعتن يف تلك العنارص بالوضوح‬
‫والتناسب بني تلك العنارص وحسن ترتيبها وتأديتها للمقصد من الرسالة‬
‫هبذا التسلسل الذي اختاره‪.‬‬
‫وهذه العنارص قابلة لإلضافة والتحسني وتغيري الرتتيب متى دعت‬
‫احلاجة إىل ذلك؛ فقد ينفتق للطالب عند كتابته للرسالة من املعاين‬
‫واألفكار ما مل يكن خيطر عىل باله عند التخطيط لكتابتها‪.‬‬

‫اخلطوة الثامنة‪ :‬كتابة الر�سالة‬


‫يبدأ الطالب بعد ذلك بكتابة الرسالة مراعيا حسن الصياغة وجودة‬
‫التعبري‪ ،‬والعناية بالتحرير العلمي عىل قدر احلاجة؛ حتى يفرغ من آخر‬
‫عنرص من عنارص الرسالة‪.‬‬

‫اخلطوة التا�سعة‪ :‬تهذيب الر�سالة‬


‫وذلك بإعادة النظر فيها وحتسينها وجتويد بعض العبارات‪ ،‬وإضافة‬
‫بعض األفكار النافعة التي تضيف للرسالة مزيد ًا من القيمة العلمية‪،‬‬
‫توسعا غري مناسب يف العبارة‪ ،‬أو‬‫وحيذف ما يرى فيه جتوز ًا وخطأ أو ّ‬
‫دعوى ال دليل عليها أمالها عليه اهنامكه يف معاين الرسالة؛ فيحرص عىل‬
‫أن تكون عباراته منضبطة بقواعد االستدالل‪ ،‬موزونة بميزان العدل من‬
‫غري إفراط وال تفريط‪.‬‬
‫‪- 178 -‬‬
‫اخلطوة العا�شرة‪ :‬املراجعة النهائية‬
‫وفيها يعتني الطالب بالتحقق من خلو رسالته من األخطاء العلمية‬
‫القادحة‪ ،‬والضعف اللغوي‪ ،‬واألخطاء الكتابية‪ ،‬وغريها من األخطاء‪،‬‬
‫ويصلح ما فاته إصالحه يف املراحل السابقة‪ ،‬ويكمل ما ح ّقه أن ُيكمل‪،‬‬
‫وقد يرى احلاجة يف بعض املواضع إىل زيادة يف التوضيح أو إضافة نقول‬
‫مهمة تثري الرسالة يف ذلك املوضع‪ ،‬فيضيف ما حتسن إضافته‪ ،‬وحيذف‬ ‫ّ‬
‫ما حيسن حذفه؛ حتى يصل إىل الصياغة النهائية التي يرىض عنها‪.‬‬

‫مرحلة العر�ض‬
‫إذا كتب طالب العلم رسالته التفسريية مراعيا اخلطوات السابق ذكرها‬
‫متضمنة لفوائد علمية جديرة‬
‫ّ‬ ‫فهو أدعى ألن تكون رسالته رسالة حسنة‬
‫بالنرش؛ لكن ينبغي له أن ال يستعجل بنرشها يف ّأول األمر حتى يعرضها‬
‫عىل عامل أو طالب علم متمكّن يف التفسري وأصوله؛ حتى ين ّبهه عىل ما‬
‫يقوي الرسالة ويثرهيا‬‫قد يقع فيه من األخطاء العلمية‪ ،‬ويشري عليه بام ّ‬
‫علمي ًا؛ فيفيده ذلك يف إصالح رسالته واعتامدها للنرش‪ ،‬ويفيده يف تاليف‬
‫تلك األخطاء فيام يكتب من الرسائل التفسريية بعد ذلك بإذن اهلل‪.‬‬
‫وإذا واصل الطالب كتابة عرش رسائل تفسريية أو عرشين رسالة هبذه‬
‫الطريقة فإنّه ال يلبث أن يصل إىل مرتبة إتقان كتابة الرسائل التفسريية‪،‬‬
‫مهمة جد ًا يف نرش العلم النافع‪ ،‬وبيان ما أنزل اهلل للناس يف‬
‫وهذه املرتبة ّ‬
‫الكتاب من الب ّينات واهلدى‪ ،‬وتقريبه هلم‪ ،‬ودعوهتم إليه بلساهنم‪ ،‬وبام‬
‫يناسب أفهامهم‪.‬‬
‫‪- 179 -‬‬
‫فإن طالب العلم يبقى عليه بعد ذلك أن يزكّي علمه بأن يكتب من‬ ‫ّ‬
‫املقاالت والرسائل ويلقى من اخلطب والكلامت الدعوية والدروس‬
‫العلمية ما ينفع به نفسه وأ ّمته‪ ،‬وحيصل باجتامع مجاعة من طالب العلم‬
‫املتقنني عىل هذا األمر هنضة علمية مباركة بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬
‫كل طالب‬ ‫خترج مائة طالب من هذا الربنامج‪ ،‬وكتب ّ‬ ‫ألنا لو افرتضنا ّ‬
‫عرشة رسائل تفسريية بأسلوب حمرر؛ فإنه ينتج من ذلك كتابة ألف رسالة‪،‬‬
‫وهذا قدر حسن مبارك بإذن اهلل؛ ألن تلك الرسائل يمكن أن يستفاد منها‬
‫بأوجه شتى؛ فقد تصلح مادة خلطبة مجعة‪ ،‬أو مقالة نافعة‪ ،‬أو ما ّدة علمية‬
‫لربنامج إعالمي‪ ،‬أو سلسلة دروس علمية‪ ،‬أو موضوع يف ملتقى علمي‬
‫تبث يف مواقع التواصل االجتامعي‪ ،‬وقد‬ ‫عىل شبكة االنرتنت‪ ،‬أو جمُ ل ّ‬
‫فالرسالة الواحد قد تكون صاحلة ألن‬ ‫يرتجم بعضها إىل لغات متعددة‪ّ ،‬‬
‫متنوعة‪.‬‬
‫تكون مادة علمية ملخرجات كثرية ّ‬

‫و�صايا و�إر�شادات‪:‬‬
‫‪ .1‬العناية بالتحرير العلمي‬
‫ينبغي لطالب علم التفسري أن يعتني غاية العناية بتحرير املسائل‬
‫التفسريية بالقدر الذي يتالءم مع أسلوب الرسالة ونوع املخاطبني؛ ومن‬
‫اخلطأ أن يظن الكاتب أن اختياره لألسلوب الوعظي يعفيه من التحرير‬
‫العلمي؛ فإن الوعظ بالتفسري جيب أن يكون قائام عىل أساس علمي‬
‫صحيح‪ ،‬وبيان ناتج عن حترير حسن للمعنى‪.‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫واملسائل التي حيتاج الكاتب إىل بياهنا ال ختلو من حالني‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن تكون مسائل ال خالف فيها؛ فينبغي له أن يعتني بحسن بيان‬
‫يوضحها وجي ّليها‪ ،‬وقد حيتاج لتحقيق ذلك إىل أن ّ‬
‫جيود‬ ‫تلك املسائل بام ّ‬
‫عبارته بأسلوب أديب حسن أو يستشهد ببعض اآلثار وأقوال العلامء‪ ،‬أو‬
‫وق حكاية‪ ،‬فيقع ذلك يف‬ ‫يعضد قوله بام جيليّ مراده من رضب مثل أو س ِ‬
‫َ‬
‫نفس القارئ والسامع موقع ًا حسن ًا‪ ،‬وتصله الرسالة بطريقة أكمل وأمجل‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن تكون تلك املسألة من املسائل التي اختلف فيها أهل العلم؛‬
‫ففي أسلوب التقرير العلمي يتأكد عىل الكاتب أن يعتني بتحرير األقوال‬
‫يف تلك املسألة؛ بحرص األقوال وترتيبها وحسن العبارة عنها‪ ،‬ونسبتها إىل‬
‫من قال هبا؛ وبيان أدلتهم‪ ،‬وبيان القول الراجح يف تلك املسألة بام َيظهر‬
‫له من إعامل أصول التفسري وقواعد الرتجيح التي درسها؛ فإن مل يمكنه‬
‫أقل من إحسان حكاية اخلالف يف تلك املسألة وبيان األقوال‬ ‫الرتجيح فال ّ‬
‫فيها وذكر األدلة واالعرتاضات بعبارة قريبة من أفهام املتلقني‪.‬‬
‫وإن كانت الكتابة بأسلوب غري أسلوب التقرير العلمي فينبغي أن‬
‫يكون التحرير العلمي حارض ًا يف ذهن الكاتب‪ ،‬وأن يكون انطالقه يف‬
‫بيان معنى اآلية انطالق امل ّطلع عىل أقوال العلامء العارف بأدلتهم وما‬
‫حيتاج إىل بيانه منها؛ فيذكر من األقوال ما يناسب األسلوب الذي يكتب‬
‫به عىل أن يكون املقدّ م فيها هو القول الراجح‪ ،‬ويمكن أن يكتفي بالقول‬
‫الراجح وال يذكر اخلالف؛ لكن ينبغي له عند ذلك أن حيسن تقرير هذا‬
‫القول الراجح وحيسن التعبري عنه‪.‬‬

‫‪- 181 -‬‬


‫‪ .2‬حسن اختيار املراجع‬
‫املسائل التي حيتاج الكاتب إىل حترير القول فيها واإلفاضة يف احلديث‬
‫عنها عىل أنواع‪:‬‬
‫أ‪ :‬فمنها ما حيتاج فيه إىل التحقق من صحة النقل كالتفسري النبوي وكثري‬
‫من تفاسري الصحابة والتابعني؛ ويف هذا النوع من املسائل يكون الرجوع‬
‫لكتب التفسري باملأثور كتفسري ابن جرير وابن أيب حاتم وعبد الرزاق‬
‫و«الدر املنثور» وتفسري ابن كثري والبغوي وغريها‪ ،‬ويف كثري من األحيان‬
‫حيتاج الباحث إىل مراجعة دواوين السنة‪ ،‬وقد جيد فيها ما ال جيده يف هذه‬
‫الكتب عىل أمهيتها‪.‬‬
‫ومرشوع «مجهرة تفاسري السلف» يف مجهرة العلوم‪ ،‬خيترص عىل الباحث‬
‫شيئ ًا كثري ًا يف هذا النوع بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ب‪ :‬ومنها مسائل لغوية؛ فينصح الكاتب بالرجوع إىل التفاسري املعتنية‬
‫هبذا النوع من املسائل كـ«معاين القرآن» للفراء والزجاج والنحاس‪ ،‬و«جماز‬
‫القرآن» أليب عبيدة و«غريب القرآن» البن قتيبة و«تأويل مشكل القرآن» له‬
‫وغريب أيب عبيد ونحو هذه الكتب‪.‬‬
‫ويف كثري من األحيان حيتاج الباحث إىل مراجعة دواوين اللغة ومن‬
‫أجلها هتذيب اللغة أليب منصور األزهري‪ ،‬ومن أمجعها لسان العرب البن‬
‫منظور‪ ،‬ومن أحسنها املحكم واملخصص البن سيده ومعجم مقاييس‬
‫اللغة البن فارس‪.‬‬
‫ومرشوع «مجهرة التفسري اللغوي» يف موقع «مجهرة العلوم» جيمع‬
‫للباحث عا ّمة أقوال هؤالء العلامء وغريهم‪ ،‬وينظر يف تفصيل احلديث‬
‫‪- 182 -‬‬
‫عن هذا املرشوع‪ :‬موضوع مقدّ مة مجهرة التفسري اللغوي‪.‬‬
‫ج‪ :‬وإذا كان املراد حماولة مجع أقوال املفرسين يف اآلية وحرصه؛ فينصح‬
‫بالرجوع إىل تفسري ابن جرير الطربي واملحرر الوجيز البن عطية‪ ،‬وزاد‬
‫املسري البن اجلوزي‪ ،‬والنكت والعيون للاموردي‪ ،‬وتفسري الثعلبي‪ ،‬فهذه‬
‫املفسين؛ ومل يفت أصحاهبا إىل يشء قليل‬
‫التفاسري قد حوت عا ّمة أقوال رّ‬
‫جد ًا‪ ،‬وإن رجع معها إىل تفسري القرطبي فحسن‪.‬‬
‫عىل أن الباحث ينبغي له أن يتن ّبه إىل أمهية التحقق من صحة نسبة‬
‫األقوال إىل قائليها يف بعض هذه التفاسري‪.‬‬
‫د‪ :‬وإذا كان املقصود نقد األقوال ومتييز صحيحها من ضعيفها والرتجيح‬
‫بني األقوال املعتربة‪ ،‬والتعرف عىل علل األقوال اخلاطئة‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫فيكون الرجوع إىل حتريرات ابن جرير وابن عطية وشيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية وابن القيم وابن كثري وابن عاشور وأضواء البيان للشنقيطي‪ ،‬واعتياد‬
‫الطالب عىل البحث يف كتبهم يعينه عىل رسعة الوصول إىل مراده‪ ،‬ونسعى‬
‫يف مرشوع «مجهرة التفاسري» إىل مجع أقواهلم يف كل آية يف موضعها‪ ،‬وما‬
‫زلنا يف مراحل العمل إلمتام هذا املرشوع الكبري‪ ،‬ونسأل اهلل تعاىل اإلعانة‬
‫والتسديد‪.‬‬
‫هـ‪ :‬وإذا كانت املسألة مسألة عقدية؛ فيعتني بالرجوع إىل التفاسري التي‬
‫ُعرف أصحاهبا باتّباع السنّة ونرصهتا‪ ،‬والتنبيه عىل البدع واالنحرافات؛‬
‫كـ«تفسري ابن جرير»‪ ،‬و«تفسري أيب املظ ّفر السمعاين»‪ ،‬و«تفسري ابن كثري»‪،‬‬
‫و«أضواء البيان» للشنقيطي‪ ،‬وما كتبه شيخ اإلسالم ابن تيمية وتلميذه ابن‬
‫الق ّيم يف التفسري والتنبيه عىل انحرافات أهل البدع واألهواء‪.‬‬

‫‪- 183 -‬‬


‫ومن اخلطأ البينّ أن يأخذ الباحث تقرير مسائل االعتقاد من التفاسري‬
‫التي سلك أصحاهبا غري طريقة أهل السنة يف تقرير تلك املسائل‪.‬‬
‫و‪ :‬وإذا كانت املسألة بالغية فريجع إىل حترير ابن عاشور وإرشاد أيب‬
‫السعود وكشاف الزخمرشي و«روح املعاين» لأللويس وبعض حوايش‬
‫البيضاوي‪ ،‬وحيتاج مع هذا إىل النظر يف بعض كتب البالغة‪ ،‬وكتب بيان‬
‫املشكل‪.‬‬
‫وهكذا يف سائر أنواع املسائل التفسريية؛ جيد الطالب أن طائفة من‬
‫التفاسري اعتنت بذلك النوع عناية حسنة‪ ،‬وذلك النوع وثيق الصلة بعلم من‬
‫العلوم له كتبه املرجعية وأئمته املعروفون‪ ،‬وأصوهلم يف دراسة تلك املسائل‪.‬‬
‫وهذا التقسيم لتلك الكتب إنام هو عىل ما يغلب من عناية أصحاهبا‪،‬‬
‫وليس املقصود منه خلو تلك الكتب من العلوم األخرى‪ ،‬ولكن لكل‬
‫علم مصادره وأئمته‪.‬‬
‫ومداومة الطالب عىل البحث والكتابة تعينه عىل بناء ملكة حسنة يف‬
‫انتقاء املصادر‪ ،‬ورسعة الوصول إىل ما يبحث عنه‪.‬‬
‫‪ .3‬العناية بحسن الصياغة وحسن العرض‬
‫وهذا له أثر كبري يف إيصال الرسالة إىل املتل ّقي بطريقة حسنة‪ ،‬وأسلوب‬
‫واضح‪ ،‬ومؤ ّد للمقصد من الرسالة بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وينبغي أن يلحظ الطالب جوانب اإلحسان يف الصياغة والعرض‪،‬‬
‫وحيرص عىل تنميتها مع مداومته عىل الكتابة حتى يصل فيها إىل مرحلة‬
‫متقدّ مة من اإلتقان بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪- 184 -‬‬


‫‪ .4‬جتنّب األخطاء العلمية‬
‫قد يبذل الكاتب جهد ًا كبري ًا يف حترير رسالته وإثرائها علمي ًا وحيسن‬
‫الصياغة والعرض لكنّه قد يقع يف خطأ علمي يفسد عليه ما أحسن فيه‪،‬‬
‫وربام ذهب بثمرة الرسالة‪.‬‬
‫واخلطأ يف الرسالة العلمية نظري النجاسة يف الثوب احلسن؛ يلفت‬
‫كل َمطِري‪.‬‬
‫األنظار وين ّفر منه‪ ،‬ومن العا ّمة من يطري باخلطأ َّ‬
‫يتحري الصحة فيام يكتب‪ ،‬وأن جيتنب الغرائب‬‫فيجب عىل الكاتب أن ّ‬
‫التي تستنكر‪ ،‬وإذا ذكر شيئا منها فليعزه إىل مصدره إن كان حمتم ً‬
‫ال للصحة‪،‬‬
‫وإن تبينّ له ضعفه فليرتكه‪.‬‬
‫وليجتنب الدعاوى العريضة واألحكام املطلقة التي قد يمليها عليها‬
‫حال احلامسة عند الكتابة واستغراق مسائل البحث لنظره وتأ ّمله‪.‬‬
‫ويعينه عىل السالمة من ذلك أن يضبط كتابته بقواعد االستدالل‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫‪ .5‬املداومة عىل الكتابة‬
‫«أحب العمل إىل اهلل أدومه وإن قل»‪ ،‬وكان عمل النبي صىل اهلل عليه‬
‫ّ‬
‫أن‬
‫وسلم ديمة‪ ،‬والعمل الذي يداوم عليه صاحبه ُيبارك له فيه‪ ،‬ولو ّ‬
‫كل شهر؛ لكتب يف سنوات يسرية‬ ‫الطالب داوم عىل كتابة رسالة حسنة ّ‬
‫عرشات الرسائل‪ ،‬واكتسب هبذه املداومة بركات كثرية‪:‬‬
‫وتوسع اطالعه وخربته باملصادر العلمية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬منها‪ :‬ازدياد علمه‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬تنمية مهارة التحرير العلمي لديه‪.‬‬

‫‪- 185 -‬‬


‫‪ -‬ومنها‪ :‬حتسني أسلوبه يف الكتابة والعرض‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬إعداد العدّ ة العلمية لإللقاء الكلامت والدروس واملحارضات‪.‬‬
‫إىل غري ذلك من الربكات العظيمة التي لو تأ ّملت سببها لوجدته‬
‫املداومة عىل كتابة رسالة تفسريية حسنة يف كل شهر‪ ،‬وقد يزيد الطالب ما‬
‫شاء اهلل أن يزيد إذا بلغ مرحلة النضج العلمي‪ ،‬وهذه الرسائل يمكن أن‬
‫ينتفع هبا وينفع هبا بأوجه كثرية إذا أحسن النظر‪.‬‬

‫حماذير وتنبيهات‪:‬‬
‫يف ختام هذا املوضوع أود التنبيه عىل اجتناب ما يلحظ من األخطاء‬
‫الشائعة؛ فإن التفطن هلا واجتناهبا من أسباب إحسان كتابة الرسائل‬
‫التفسريية‪ ،‬وعا ّمة هذه األخطاء تفهم مما سبق‪ ،‬لكن مجعها يف موضع‬
‫واحد باختصار يعني عىل ضبطها واستعراضها قبل أن يعتمد الطالب‬
‫رسالته حتى جيتنب ما يراه من األخطاء‪ ،‬ومن هذه األخطاء‪:‬‬
‫‪.1‬ضعف العناية بالتحرير العلمي‪.‬‬
‫‪ .2‬ضعف العناية باستخراج املسائل التفسريية‪.‬‬
‫‪ .3‬غياب املقصد العام‪.‬‬
‫‪ .4‬العشوائية يف اختيار التفاسري واملصادر‪.‬‬
‫‪ .5‬النسخ واللصق والتلفيق بني التفاسري‪.‬‬
‫‪ .6‬التوسع يف املسائل التي ال ختدم املقصد العام للرسالة‪.‬‬
‫‪ .7‬تقرير مسائل االعتقاد من تفاسري األشاعرة واملعتزلة والصوفية‪.‬‬
‫‪- 186 -‬‬
‫‪ .8‬ضعف الصياغة وركاكة األسلوب‪.‬‬
‫‪ .9‬اضطراب أفكار الرسالة وتشتيت ذهن القارئ‪.‬‬
‫‪ .10‬األخطاء اإلمالئية‪.‬‬
‫‪ .11‬ضعف العناية بعالمات الرتقيم‪.‬‬
‫‪ .12‬ضعف العناية بإحسان العرض‪.‬‬

‫حيب ويرىض‪ ،‬وأن يقينا رشور‬ ‫أسأل اهلل تعاىل أن يوفقني وإياكم ملا ّ‬
‫أنفسنا وسيئات أعاملنا‪ ،‬وأن يستعملنا يف طاعته‪ ،‬ويم ّن علينا بربكته‬
‫وأن يدخلنا يف رمحة منه وفضل وهيدينا إليه رصاط ًا مستقيام‬
‫وصىل اهلل وسلم عىل نب ّينا حممد وعىل آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫‪- 187 -‬‬


‫قائمة املراجع‬

‫الض ِّب ُّي (ت‪168:‬هـ)‪ ،‬حتقيق ورشح‪ :‬أمحد‬‫حممد بن حييى َّ‬ ‫‪ :1‬املفضليات‪َّ ،‬‬
‫املفضل بن َّ‬
‫شاكر وعبد السالم هارون‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :2‬العني‪ ،‬اخلليل بن أمحد الفراهيدي (ت‪170:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬مهدي املخزومي‬
‫ود‪.‬إبراهيم السامرائي‪ ،‬مؤسسة األعلمي للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :3‬األم [رواية الربيع بن سليامن املرادي (ت‪270:‬هـ)]‪ ،‬حممد بن إدريس الشافعي‬
‫لبي (ت‪204:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬رفعت فوزي عبد املطلب‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬املنصورة‪.‬‬ ‫امل َّط ّ‬
‫‪ :4‬تفسري القرآن العزيز‪ ،‬عبد الرزاق بن مهام الصنعاين (ت‪211:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬مصطفى‬
‫مسلم حممد‪ ،‬مكتبة الرشد‪.‬‬
‫‪ :5‬فضائل الصحابة‪ ،‬أبو عبد اهلل أمحد بن حممد بن حنبل الشيباين (ت‪٢٤١:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫د‪ .‬ويص اهلل حممد عباس‪ ،‬مكتبة الرسالة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :6‬صحيح البخاري‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل البخاري (ت‪٢٥٦:‬هـ)‪ ،‬عناية‪:‬‬
‫حممد زهري بن نارص النارص‪ ،‬دار طوق النجاة‪.‬‬
‫‪ :7‬خلق أفعال العباد‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل البخاري (ت‪٢٥٦:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬فهد‬
‫بن سليامن الفهيد‪ ،‬دار أطلس اخلرضاء‪.‬‬
‫‪ :8‬األدب املفرد‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل البخاري (ت‪256:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد‬
‫نارص الدين األلباين‪ ،‬دار الصديق‪.‬‬
‫‪ :9‬صحيح مسلم‪ ،‬مسلم بن احلجاج القشريي (ت‪٢٦١:‬هـ)‪ ،‬عناية‪ :‬نظر الفريايب‪ ،‬دار‬
‫طيبة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :10‬سنن ابن ماجه‪ ،‬حممد بن يزيد ابن ماجه القزويني (ت‪٢٧٣:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬بشار‬
‫عواد معروف‪ ،‬دار الغرب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :11‬سنن أيب داود السجستاين‪ ،‬أبو داود سليامن بن األشعث السجستاين (ت‪٢٧٥:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬حممد عوامة‪ ،‬دار املنهاج‪.‬‬
‫‪ :12‬تأويل مشكل القرآن‪ ،‬أبو حممد عبد اهلل بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت‪276:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬السيد أمحد صقر‪ ،‬مكتبة دار الرتاث‪.‬‬

‫‪- 188 -‬‬


‫‪ :13‬سنن الرتمذي‪ ،‬أبو عيسى حممد بن عيسى بن سورة الرتمذي (ت‪٢٧٩:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫بشار عواد معروف‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :14‬السنة‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن نرص بن احلجاج ا َمل ْر َو ِزي (ت‪294:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫د‪.‬عبداهلل البصريي‪ ،‬دار العاصمة‪.‬‬
‫‪ :15‬سنن النسائي الصغرى (املجتبى)‪ ،‬أمحد بن عيل بن شعيب النسائي (ت‪٣٠٣:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬عبد الفتاح أبو غدة‪ ،‬مكتب املطبوعات اإلسالمية‪ ،‬حلب‪ ،‬سوريا‪.‬‬
‫‪ :16‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬حممد بن جرير الطربي (ت‪310:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫مجاعة بإرشاف‪ :‬د‪ .‬عبد اهلل بن عبد املحسن الرتكي‪ ،‬دار هجر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :17‬صحيح ابن خزيمة‪ ،‬أبو بكر حممد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري‬
‫(ت‪311:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬حممد مصطفى األعظمي‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :18‬كتاب التوحيد‪ ،‬أبو بكر حممد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري‬
‫(ت‪311:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫بن َس ْه ٍل‬ ‫إبراهيم ب ُن رَّ ِ‬
‫الس ِّي ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪ :19‬اإلبانة والتفهيم عن معنى «بسم اهلل الرمحن الرحيم»‪،‬‬
‫الز َّجاج (ت‪311:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬عبد الفتاح سليم‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ :20‬تفسري القرآن‪ ،‬أبو بكر حممد بن إبراهيم بن املنذر النيسابوري (ت‪318:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫د‪.‬سعد بن حممد السعد‪ ،‬دار املآثر‪ ،‬املدينة النبوية‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫‪ :21‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬عبد الرمحن بن حممد ابن أيب حاتم الرازي (ت‪327:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬أسعد حممد الطيب‪ ،‬مكتبة نزار مصطفى الباز‪ ،‬مكة املكرمة‪.‬‬
‫‪ :22‬رشح القصائد السبع الطوال اجلاهليات‪ ،‬أبو بكر حممد بن القاسم بن بشار ابن‬
‫األنباري (ت ‪328‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬دار املعارف‪.‬‬
‫‪ :23‬معاين القرآن الكريم‪ ،‬أمحد بن حممد بن إسامعيل النحاس (ت‪338:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫حممد عيل الصابوين‪ ،‬جامعة أم القرى‪.‬‬
‫‪ :24‬صحيح ابن حبان (برتتيب ابن بلبان الفاريس)‪ ،‬أبو حاتم حممد بن أمحد ابن حبان‬
‫البستي (ت‪٣٥٤:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :25‬الدعاء‪ ،‬أبو القاسم سليامن بن أمحد بن أيوب الطرباين (ت‪360:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد‬
‫سعيد بخاري‪ ،‬دار البشائر‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫‪- 189 -‬‬


‫‪ :26‬الرشيعة‪ ،‬أبو بكر حممد بن احلسني اآلجري (ت‪360:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬عبد اهلل بن‬
‫عمر الدميجي‪ ،‬مدار الوطن‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫منصور حممد بن أمحد األزهري (ت‪370:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبدالسالم‬ ‫ٍ‬ ‫‪ :27‬هتذيب اللغة‪ ،‬أبو‬
‫هارون وآخرين‪ ،‬الدار املرصية للتأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :28‬بحر العلوم‪ ،‬أبو الليث نرص بن حممد السمرقندي (ت‪375:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عيل‬
‫معوض‪ ،‬عادل عبد املوجود‪ ،‬زكريا النويت‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ :29‬اإلبانة الكربى عن رشيعة الفرقة الناجية وجمانبة الفرق املذمومة‪ ،‬أبو عبد اهلل عبيد‬
‫اهلل بن حممد ابن ب ّطة العكربي (ت‪387:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬رضا معطي‪ ،‬وعثامن األثيويب‪،‬‬
‫ويوسف الوابل‪ ،‬والوليد بن سيف النرص‪ ،‬ومحد التوجيري‪ ،‬دار الراية‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :30‬معامل السنن‪ ،‬أبو سليامن اخلطايب‪ :‬حمَ ْدُ بن حممد بن إبراهيم بن اخلطاب البستي‬
‫(ت‪388:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬سعد بن نجدت عمر وشعبان العودة‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :31‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬أمحد بن فارس بن زكريا الرازي (ت‪395:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد‬
‫السالم هارون‪ ،‬مطبعة البايب احللبي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :32‬املستدرك عىل الصحيحني‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن عبد اهلل ابن محدويه احلاكم‬
‫النيسابوري (ت‪405:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬سليامن امليامن وأيمن احلنيحن‪ ،‬دار امليامن‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :33‬رشح أصول اعتقاد أهل السنة‪ ،‬أبو القاسم هبة اهلل بن احلسن بن منصور الطربي‬
‫الرازي الاللكائي (ت‪418:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬أمحد بن سعد بن محدان الغامدي‪ ،‬دار طبية‪،‬‬
‫الرياض‪.‬‬
‫‪ :34‬الكشف والبيان عن تفسري القرآن‪ ،‬أمحد بن حممد الثعلبي (ت‪427:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬أيب‬
‫حممد بن عاشور‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪.‬‬
‫‪ :35‬األسامء والصفات‪ ،‬أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي (ت‪458:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد اهلل‬
‫بن حممد احلاشدي‪ ،‬مكتبة السوادي‪ ،‬جدة‪.‬‬
‫‪ :36‬رس الفصاحة‪ ،‬عبد اهلل بن حممد بن سعيد ابن سنان اخلفاجي احللبي (ت‪466 :‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬عيل فودة‪ ،‬مكتبة اخلانجي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :37‬أرسار البالغة‪ ،‬عبد القاهر بن عبد الرمحن بن حممد الفاريس اجلرجاين (ت‪471:‬هـ)‪،‬‬
‫عناية‪ :‬أيب فهر حممود حممد شاكر‪ ،‬مطبعة املدين‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪- 190 -‬‬


‫‪ :38‬دالئل اإلعجاز يف علم املعاين‪ ،‬عبد القاهر بن عبد الرمحن بن حممد الفاريس اجلرجاين‬
‫(ت‪471 :‬هـ)‪ ،‬عناية‪ :‬أيب فهر حممود حممد شاكر‪ ،‬مطبعة املدين‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :39‬تفسري القرآن‪ ،‬أبو املظفر منصور بن حممد بن عبد اجلبار السمعاين (ت‪489:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬يارس بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم‪ ،‬دار الوطن‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :40‬املفردات يف غريب القرآن‪ ،‬أبو القاسم احلسني بن حممد األصفهاين املعروف‬
‫بالراغب األصفهاين (ت‪502 :‬هـ تقريب ًا)‪ ،‬حتقيق‪ :‬صفوان عدنان الداودي‪ ،‬دار القلم‪،‬‬
‫الدار الشامية‪ ،‬دمشق بريوت‪.‬‬
‫‪ :41‬معامل التنزيل‪ ،‬أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي (ت‪516:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد‬
‫عبداهلل النمر وعثامن مجعة ضمريية وسليامن مسلم احلرش‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :42‬أساس البالغة‪ ،‬حممود بن عمر الزخمرشي (ت‪538:‬هـ)‪ ،‬دار الكتب املرصية‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫‪ :43‬الكشاف عن حقائق التنزيل‪ ،‬حممود بن عمر الزخمرشي (ت‪538:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫عادل عبد املوجود وعيل معوض‪ ،‬مكتبة العبيكان‪.‬‬
‫‪ :44‬املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪ ،‬عبد احلق بن غالب بن عطية األندليس‬
‫(ت‪546:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬مجاعة من الباحثني‪ ،‬مطبوعات وزارة األوقاف والشؤون‬
‫اإلسالمية القطرية‪.‬‬
‫‪ :45‬االعتقاد واهلداية إىل سبيل الرشاد‪ ،‬أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي (ت‪458:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬أمحد أبو العينني‪ ،‬دار الفضيلة‪.‬‬
‫‪ :46‬أشعار الشعراء الستة اجلاهليني‪ ،‬أبو احلجاج يوسف بن سليامن األعلم الشنتمري‬
‫(ت‪476:‬هـ)‪ ،‬دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫فريه بن خلف‬ ‫‪ :47‬متن الشاطبية (حرز األماين ووجه التهاين يف القراءات)‪ ،‬القاسم بن ُّ‬
‫الشاطبي (ت‪590:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد متيم الزعبي‪ ،‬مكتبة دار اهلدى ودار الغوثاين‬
‫للدراسات القرآنية‪.‬‬
‫‪ :48‬منتهى الطلب من أشعار العرب‪ ،‬حممد بن املبارك بن حممد بن ميمون البغدادي‬
‫(ت‪597 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬حممد نبيل طريفي‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :49‬زاد املسري‪ ،‬أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل ابن اجلوزي (ت‪597:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫عبدالرزاق املهدي‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫‪- 191 -‬‬


‫‪ :50‬استخراج اجلدال من القرآن الكريم‪ ،‬ناصح الدين أبو الفرج عبد الرمحن بن نجم‬
‫بن عبد الوهاب ابن احلنبيل (ت‪634 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬زاهر بن عواض األملعي‪ ،‬مطابع‬
‫الفرزدق التجارية‪.‬‬
‫‪ :51‬بديع القرآن‪ ،‬عبد العظيم بن الواحد بن ظافر ابن أيب اإلصبع املرصي (ت‪654:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬حفني حممد رشف‪ ،‬دار هنضة مرص‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :52‬أنموذج جليل يف غرائب آي التنزيل‪ ،‬حممد بن أيب بكر بن عبد القادر الرازي‬
‫(ت‪666:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬عبد الرمحن بن إبراهيم املطرودي‪ ،‬دار عامل الكتب‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :53‬اجلامع ألحكام القرآن‪ ،‬أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن فرح القرطبي‬
‫(ت‪671:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬فريق من الباحثني‪ ،‬بعناية‪ :‬د‪.‬عبد اهلل بن عبد املحسن الرتكي‪،‬‬
‫مؤسسة الرسالة‪.‬‬
‫‪ :54‬جمموع الفتاوى‪ ،‬شيخ اإلسالم أمحد بن عبد احلليم ابن تيمية احلراين (ت‪728:‬هـ)‪،‬‬
‫مجع وترتيب‪ :‬عبد الرمحن بن حممد بن قاسم وابنه حممد‪ ،‬جممع امللك فهد لطباعة املصحف‬
‫الرشيف‪ ،‬املدينة النبوية‪.‬‬
‫‪ :55‬تفسري آيات أشكلت عىل كثري من العلامء‪ ،‬أمحد بن عبد احلليم ابن تيمية احلراين‬
‫(ت‪728 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد العزيز اخلليفة‪ ،‬مكتبة الرشد‪.‬‬
‫‪ :56‬اإليضاح يف علوم البالغة‪ ،‬اخلطيب القزويني‪ :‬أبو املعايل جالل الدين حممد بن‬
‫عبدالرمحن بن عمر الشافعي (ت‪739 :‬هـ) حتقيق ‪ :‬حممد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار‬
‫اجليل‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :57‬التبيان يف البيان‪ ،‬رشف الدين احلسني بن عبد اهلل الطيبي (ت‪ 743 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫عبد الستار حسني زموط‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬بإرشاف‪ :‬أ‪.‬د‪.‬كامل اخلويل‪ ،‬قسم اللغة‬
‫العربية‪ ،‬جامعة األزهر‪.‬‬
‫رع ُّي الدمشقي (ت‪751:‬هـ)‪،‬‬ ‫الز ِ‬
‫‪ :58‬اجلواب الكايف‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫حتقيق‪ :‬حممد أمجل اإلصالحي‪ ،‬خرج أحاديثه‪ :‬زائد بن أمحد النشريي‪ ،‬حتت إرشاف‪:‬‬
‫بكر أبو زيد‪ ،‬دار عامل الفوائد‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫الزرع ُّي الدمشقي (ت‪751:‬هـ)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ :59‬بدائع الفوائد‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫حتقيق‪ :‬عيل بن حممد العمران‪ ،‬حتت إرشاف‪ :‬بكر أبو زيد‪ ،‬دار عامل الفوائد‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫الز ِ‬
‫رع ُّي الدمشقي‬ ‫‪ :60‬إعالم املوقعني عن رب العاملني‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫(ت‪751:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬أيب عبيدة مشهور بن حسن آل سلامن‪ ،‬دار ابن اجلوزي‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪- 192 -‬‬
‫الز ِ‬
‫رع ُّي‬ ‫‪ :61‬إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫الدمشقي (ت‪751:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عيل بن حسن عبد احلميد احللبي‪ ،‬دار ابن اجلوزي‪،‬‬
‫الدمام‪.‬‬
‫‪ :62‬شفاء العليل يف مسائل القضاء والقدر واحلكمة والتعليل‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن‬
‫رع ُّي الدمشقي (ت‪751:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬أمحد بن صالح الصمعاين ود‪.‬عيل بن‬ ‫الز ِ‬
‫أيب بكر ُّ‬
‫حممد العجالن‪ ،‬تقديم‪ :‬الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ‪ ،‬دار الصميعي‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫رع ُّي الدمشقي‬ ‫الز ِ‬
‫‪ :63‬الصواعق املرسلة‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫(ت‪751:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬عيل بن حممد الدخيل اهلل‪ ،‬دار العاصمة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫رع ُّي الدمشقي‬ ‫الز ِ‬‫‪ :64‬مدارج السالكني‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫(ت‪751:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬نارص السعوي وعيل القرعاوي وصالح التوجيري وخالد الغنيم‬
‫وحممد اخلضريي‪ ،‬حتقيق‪ :‬مجاعة من أساتذة العقيدة واملذاهب املعارصة بجامعة القصيم‪،‬‬
‫دار الصميعي‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫الزرع ُّي الدمشقي (ت‪751:‬هـ)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ :65‬بدائع الفوائد‪ ،‬ابن ق ّيم اجلوزية‪ :‬حممد بن أيب بكر ُّ‬
‫حتقيق‪ :‬عيل بن حممد العمران‪ ،‬حتت إرشاف‪ :‬بكر أبو زيد‪ ،‬دار عامل الفوائد‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫‪ :66‬جزء يف تفسري الباقيات الصاحلات‪ ،‬صالح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن‬
‫عبد اهلل الدمشقي العالئي (ت‪761:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬بدر الزمان حممد شفيع النيبايل‪ ،‬مكتبة‬
‫األيامن‪ ،‬املدينة املنورة‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫‪ :67‬اآلداب الرشعية واملنح املرعية‪ ،‬حممد بن مفلح بن حممد املقديس احلنبيل‬
‫(ت‪763:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط وعمر القيام‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :69‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬إسامعيل بن عمر ابن كثري القريش (ت‪774:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫سامي بن حممد السالمة‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :70‬املوافقات‪ ،‬إبراهيم بن موسى بن حممد اللخمي الغرناطي الشاطبي (ت‪790 :‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلامن‪ ،‬دار ابن عفان‪.‬‬
‫‪ :71‬جمموع رسائل ابن رجب‪ ،‬عبد الرمحن بن أمحد ابن رجب احلنبيل (ت‪795:‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق‪ :‬طلعت بن فؤاد احللواين‪ ،‬دار الفاروق‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :72‬روائع التفسري‪ ،‬من كالم اإلمام عبد الرمحن بن أمحد ابن رجب احلنبيل (ت‪795:‬هـ)‬
‫يف التفسري‪ ،‬مجع‪ :‬طارق بن عوض اهلل بن حممد‪ ،‬دار العاصمة‪ ،‬الرياض‪.‬‬

‫‪- 193 -‬‬


‫‪ :73‬فتح الباري برشح صحيح البخاري‪ ،‬عبد الرمحن بن أمحد ابن رجب احلنبيل‬
‫(ت‪795:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬مجاعة من املحققني‪ ،‬مكتبة الغرباء األثرية‪ ،‬املدينة النبوية‪،‬‬
‫السعودية‪.‬‬
‫‪ :74‬القاموس املحيط‪ ،‬جمد الدين حممد بن يعقوب الفريوزآبادي (ت‪817:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫مكتب حتقيق الرتاث يف مؤسسة الرسالة‪ ،‬مؤسسة الرسالة للطباعة والنرش والتوزيع‪،‬‬
‫بريوت‪.‬‬
‫‪ :75‬النرش يف القراءات العرش‪ ،‬حممد بن حممد ابن اجلزري (ت‪833:‬هـ)‪ :‬حتقيق‪ :‬حممد‬
‫سامل حميسن‪ ،‬مكتبة القاهرة‪.‬‬
‫‪ :76‬كفاية األملعي يف آية {يا أرض ابلعي}‪ ،‬حممد بن حممد ابن اجلزري (ت‪833:‬هـ)‪،‬‬
‫دراسة وحتقيق‪ :‬نشيد محيد سعيد آل حممود‪ ،‬دار االفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :77‬فتح الباري‪ ،‬أمحد بن عيل بن حممد ابن حجر العسقالين (ت‪852:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬نظر‬
‫الفريايب‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :78‬نظم الدرر يف تناسب اآليات والسور‪ ،‬إبراهيم بن عمر البقاعي(ت‪885:‬هـ)‪ ،‬دار‬
‫الكتاب اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :79‬اإلكليل يف استنباط التنزيل‪ ،‬جالل الدين عبد الرمحن ابن أيب بكر السيوطي‬
‫(ت‪911:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬عامر بن عيل العرايب‪ ،‬دار األندلس اخلرضاء‪.‬‬
‫‪ :80‬فتح اجلليل للعبد الذليل‪ ،‬جالل الدين عبد الرمحن ابن أيب بكر السيوطي‬
‫(ت‪911:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رفعت زنجري‪ ،‬مؤسسة الريان‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :81‬إرشاد العقل السليم‪ ،‬أبو السعود حممد العامدي احلنفي (ت‪950:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫عبدالقادر أمحد عطا‪ ،‬مكتبة الرياض‪.‬‬
‫الزبيدي (ت‪1205:‬هـ)‪،‬‬ ‫‪ :82‬تاج العروس من جواهر القاموس‪ّ ،‬‬
‫حممد مرتىض احلسيني َّ‬
‫فريق من الباحثني‪ ،‬وزارة اإلرشاد واألنباء‪ ،‬الكويت‪.‬‬
‫‪ :83‬جمموع مؤلفات الشيخ حممد بن عبد الوهاب‪ ،‬حممد بن عبد الوهاب بن سليامن‬
‫التميمي (ت‪1206:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬صالح بن عبد الرمحن األطرم وحممد بن عبدالرزاق‬
‫الدويش‪ ،‬جامعة األمام حممد بن سعود‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :84‬فتح القدير‪ ،‬حممد بن عيل الشوكاين (ت‪1255:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬عبد الرمحن عمرية‪،‬‬
‫دار الوفاء‪.‬‬

‫‪- 194 -‬‬


‫‪ :85‬روح املعاين‪ ،‬حممود بن عبد اهلل األلويس (ت‪1270:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد أمحد األمد‬
‫وعمر عبد السالم السالمي‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪.‬‬
‫‪ :86‬دروس البالغة‪ ،‬حفني ناصف (ت‪1338:‬هـ) وحممد دياب (ت‪1339:‬هـ)‪،‬‬
‫ومصطفى طموم (ت‪1354 :‬هـ)‪ ،‬وسلطان حممد‪ ،‬عني به‪ :‬أمحد السنويس أمحد‪ ،‬دار‬
‫ابن حزم‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :87‬تيسري الكريم الرمحن‪ ،‬عبد الرمحن بن نارص السعدي (ت‪1376 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫د‪.‬عبد الرمحن بن معال اللوحيق‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪.‬‬
‫‪ :88‬آثار الشيخ العالمة عبد الرمحن بن حييى ا ُملعلمي (ت‪1386:‬هـ)‪ ،‬أرشف عىل‬
‫حتقيقه‪ :‬عيل العمران‪ ،‬دار عامل الفوائد‪ ،‬مكة املكرمة‪.‬‬
‫‪ :89‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬حممد األمني اجلكني الشنقيطي‬
‫(ت‪1393:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬مجاعة من الباحثني بإرشاف‪ :‬بكر بن عبد اهلل أبو زيد‪ ،‬دار عامل‬
‫الفوائد‪ ،‬مكة املكرمة‪.‬‬
‫‪ :90‬العذب النمري من جمالس الشنقيطي يف التفسري‪ ،‬حممد األمني اجلكني الشنقيطي‬
‫(ت‪1393:‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪ :‬خالد بن عثامن السبت‪ ،‬دار عامل الفوائد‪ ،‬مكة املكرمة‪.‬‬
‫‪ :91‬دفع إهيام االضطراب عن آيات الكتاب‪ ،‬حممد األمني اجلكني الشنقيطي‬
‫(ت‪1393:‬هـ)‪ ،‬مكتبة ابن تيمية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :92‬التحرير والتنوير‪ ،‬حممد الطاهر بن عاشور (ت‪1393:‬هـ)‪ ،‬دار سحنون‪ ،‬تونس‪.‬‬
‫‪ :93‬تفسري آية الكريس‪ ،‬حممد بن صالح بن حممد العثيمني (ت‪1421:‬هـ)‪ ،‬دار املدائن‬
‫العلمية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ :94‬رشح العقيدة الواسطية‪ ،‬حممد بن صالح بن حممد العثيمني (ت‪1421 :‬هـ)‪ ،‬حتقيق‪:‬‬
‫سعد فواز الصميل‪ ،‬دار ابن اجلوزي‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫املرضب كعب بن زهري بن أيب سلمى املزين (ت‪24 :‬هـ)‪،‬‬ ‫‪ :95‬ديوان كعب ين زهري‪ ،‬أبو َّ‬
‫حتقيق ‪ :‬د‪ .‬درويش اجلويدي‪ ،‬املكتبة العرصية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫امرئ القيس‪ ،‬ا ْم ُر ُؤ ال َق ْيس بن حجر بن احلارث الكندي (ت‪ 80 :‬ق‪.‬هـ)‪،‬‬ ‫‪ :96‬ديوان ِ‬
‫اعتنى به‪ :‬عبد الرمحن املصطاوي‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ :97‬رشح ثالثة األصول وأدلتها‪ ،‬عبد العزيز بن داخل املطريي‪ ،‬مؤسسة آفاق التيسري‪،‬‬
‫الرياض‪.‬‬

‫‪- 195 -‬‬


‫‪ :98‬بيان فضل القرآن‪ ،‬عبد العزيز بن داخل املطريي‪ ،‬مؤسسة آفاق التيسري‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :99‬أعامل القلوب‪ ،‬عبد العزيز بن داخل املطريي‪ ،‬مؤسسة آفاق التيسري‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :100‬طرق التفسري‪ ،‬عبد العزيز بن داخل املطريي‪ ،‬مؤسسة آفاق التيسري‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :101‬تاريخ علم التفسري‪ ،‬عبد العزيز بن داخل املطريي‪ ،‬مؤسسة آفاق التيسري‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫‪ :102‬تفسري سورة الفاحتة‪ ،‬عبد العزيز بن داخل املطريي‪ ،‬مؤسسة آفاق التيسري‪،‬‬
‫الرياض‪.‬‬

‫‪- 196 -‬‬


‫الفهر�س‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬
‫‪5‬‬ ‫الباب األول‪ :‬مقدمات يف أساليب التفسري‬
‫‪5‬‬ ‫متهيد‬
‫‪7‬‬ ‫معنى أساليب التفسري‬
‫‪7‬‬ ‫فوائد التعرف عىل أساليب التفسري‬
‫‪9‬‬ ‫أنواع أساليب التفسري‬
‫‪10‬‬ ‫تداخل األساليب‬
‫‪11‬‬ ‫الفرق بني مناهج املفرسين وأساليب التفسري‬
‫‪11‬‬ ‫سبب العناية بالرسائل التفسريية‬
‫‪17‬‬ ‫الباب الثاين‪ :‬أسلوب التقرير العلمي‬
‫‪17‬‬ ‫لغة اخلطاب يف أسلوب التقرير العلمي‬
‫‪17‬‬ ‫تنوع املسائل العلمية يف التفسري‬
‫ّ‬
‫‪20‬‬ ‫عرض املسائل التفسريية يف األسلوب العلمي‬
‫‪21‬‬ ‫تنوع أوجه العناية العلمية لدى املفرسين‬
‫‪22‬‬ ‫املخا َطبون باألسلوب العلمي‬
‫‪22‬‬ ‫عناية العلامء باألسلوب العلمي‬
‫‪23‬‬ ‫أمثلة‬
‫‪24‬‬ ‫املثال األول‪ :‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬ ﭭ﴾‬
‫‪31‬‬ ‫املثال الثاين‪ :‬تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ﴾‬

‫‪- 198 -‬‬


‫‪37‬‬ ‫املثال الثالث‪ :‬تفسري املثل األعىل‬
‫‪47‬‬ ‫الباب الثالث‪ :‬األسلوب الوعظي‬
‫‪49‬‬ ‫أصناف الواعظني بالقرآن‬
‫‪50‬‬ ‫ركائز األسلوب الوعظي‬
‫‪51‬‬ ‫تصحيح مقاصد الوعظ‬
‫‪53‬‬ ‫طرق حتسني األسلوب الوعظي‬
‫‪54‬‬ ‫االقتصاد يف الوعظ‬
‫‪54‬‬ ‫املخا َطبون بأسلوب الوعظ‬
‫‪55‬‬ ‫عناية العلامء باألسلوب الوعظي العلمي يف التفسري‬
‫‪56‬‬ ‫األمثلة‬
‫‪56‬‬ ‫التطبيق‬
‫‪57‬‬ ‫املثال األول‪ :‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ﴾‬
‫‪62‬‬ ‫فضائل اإليامن‬
‫‪65‬‬ ‫رشط الفوز بالبشارة يف هذه اآلية‬
‫‪68‬‬ ‫املثال الثاين‪ :‬رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ﴾‬
‫‪73‬‬ ‫الباب الرابع‪ :‬األسلوب االستنتاجي‬
‫‪73‬‬ ‫فوائد األسلوب االستنتاجي‬
‫‪74‬‬ ‫طرق حتسني األسلوب االستنتاجي‬
‫‪75‬‬ ‫املخا َطبون باألسلوب االستنتاجي‬
‫‪75‬‬ ‫عناية العلامء باألسلوب االستنتاجي‬
‫‪77‬‬ ‫أمثلة‬
‫‪77‬‬ ‫التطبيق‬

‫‪- 199 -‬‬


‫‪78‬‬ ‫املثال األول‪ :‬فوائد سلوكية من تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫ﰂ‪﴾...‬‬
‫‪82‬‬ ‫املثال الثاين‪ :‬تأمالت يف قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ﴾‬
‫‪87‬‬ ‫الباب اخلامس‪ :‬أسلوب ِ‬
‫احل َجاج‬
‫‪88‬‬ ‫آداب أسلوب احلجاج‬
‫‪88‬‬ ‫طرق حتسني أسلوب احلجاج‬
‫‪88‬‬ ‫األدوات العلمية التي يستعملها العلامء يف احلجاج‬
‫‪89‬‬ ‫السرب والتقسيم‬
‫‪91‬‬ ‫املنع والتسليم‬
‫‪93‬‬ ‫براعة التعليل‬
‫‪94‬‬ ‫نقض الع ّلة‬
‫‪94‬‬ ‫إعامل املفهوم‬
‫‪95‬‬ ‫باملوجب‬
‫َ‬ ‫القول‬
‫‪96‬‬ ‫اإلرضاب‬
‫‪97‬‬ ‫املعارضة واملناقضة‬
‫‪99‬‬ ‫املجاراة واإلعثار‬
‫‪103‬‬ ‫التبكيت‬
‫‪105‬‬ ‫التشنيع‬
‫‪106‬‬ ‫عناية العلامء بأسلوب احلجاج الرشعي‬
‫‪107‬‬ ‫مثال‬
‫‪107‬‬ ‫التطبيق الرابع‬
‫‪108‬‬ ‫تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‪﴾...‬‬

‫‪- 200 -‬‬


‫‪117‬‬ ‫الباب السادس‪ :‬األسلوب البياين‬
‫‪117‬‬ ‫ثمرات التفسري البياين‬
‫‪118‬‬ ‫وسائل حتسني األسلوب البياين‬
‫‪121‬‬ ‫املخا َطبون باألسلوب البياين‬
‫‪121‬‬ ‫عناية العلامء باألسلوب البياين‬
‫‪127‬‬ ‫مثال‬
‫‪127‬‬ ‫التطبيق‬
‫‪128‬‬ ‫رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾‬
‫‪145‬‬ ‫الباب السابع‪ :‬األسلوب املقاصدي‬
‫‪145‬‬ ‫ثمرات األسلوب املقاصدي‬
‫‪146‬‬ ‫أصول التفسري املقاصدي‬
‫‪147‬‬ ‫سامت التفسري املقاصدي‬
‫‪147‬‬ ‫طرق حتسني األسلوب املقاصدي‬
‫‪148‬‬ ‫عناية العلامء باألسلوب املقاصدي‬
‫‪151‬‬ ‫أنواع مقاصد السور واآليات‬
‫‪151‬‬ ‫إتقان األسلوب املقاصدي‬
‫‪152‬‬ ‫مثال‬
‫‪153‬‬ ‫التطبيق‬
‫‪153‬‬ ‫رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ﴾‬
‫‪161‬‬ ‫الباب الثامن‪ :‬تنمية ملكة التفسري‬
‫‪164‬‬ ‫حمددات األسلوب‬

‫‪- 201 -‬‬


‫‪167‬‬ ‫التنويع بني األساليب‬
‫‪168‬‬ ‫التع ّلم باملحاكاة واالتّباع‬
‫‪171‬‬ ‫خطوات املحاكاة‬
‫‪175‬‬ ‫الباب التاسع‪ :‬خطوات إعداد الرسالة التفسريية‬
‫‪175‬‬ ‫اخلطوة األوىل‪ :‬حتديد املقصد من الرسالة‬
‫‪175‬‬ ‫اخلطوة الثانية‪ :‬حتديد نوع املخاطبني‬
‫‪176‬‬ ‫اخلطوة الثالثة‪ :‬حتديد األسلوب‬
‫‪176‬‬ ‫اخلطوة الرابعة‪ :‬استخراج املسائل التفسريية من اآلية التي يريد تفسريها‬
‫‪177‬‬ ‫اخلطوة اخلامسة‪ :‬معرفة النظائر‬
‫‪177‬‬ ‫اخلطوة السادسة‪ :‬اختيار األنموذج‬
‫‪178‬‬ ‫اخلطوة السابعة‪ :‬حتديد عنارص الرسالة‬
‫‪178‬‬ ‫اخلطوة الثامنة‪ :‬كتابة الرسالة‬
‫‪178‬‬ ‫اخلطوة التاسعة‪ :‬هتذيب الرسالة‬
‫‪179‬‬ ‫اخلطوة العارشة‪ :‬املراجعة النهائية‬
‫‪179‬‬ ‫مرحلة العرض‬
‫‪180‬‬ ‫وصايا وإرشادات‬
‫‪186‬‬ ‫حماذير وتنبيهات‬
‫‪188‬‬ ‫قائمة املراجع‬
‫‪198‬‬ ‫الفهرس‬

‫‪- 202 -‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪- 203 -‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪- 204 -‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪- 205 -‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪- 206 -‬‬

You might also like