Professional Documents
Culture Documents
الطبعة الأوىل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1438هـ رجب
الباب الأول :مقدمات يف �أ�ساليب التف�سري
متهيد
احلمد هلل الذي جعل كتابه الكريم هدى للناس يف مجيع شؤوهنم،
يتبصونوحاك ًام عىل أحواهلم وأعامهلم ،وقائد ًا ملن اتّبعه إىل أرشد األمور ،رّ
احلق والباطل ،وجيدون فيه تبيان
ويفرقون به بني ّ ببصائره ،وهيتدون هبداهّ ،
ٌ
ومنهل دليل للعقول ،وموعظة للقلوب ،وزكاة للنفوس، كل يشء؛ فهو ٌ ّ
للعلم واحلكمة ،ال حُياط بعلمه وال تنقيض عجائبه.
والصالة والسالم عىل رسوله األمني ،الذي ب ّلغ البالغ املبني ،وبينّ
احلجة ،واستنارّ كتاب ر ّبه أحسن التبيني ،حتى استقامت امل ّلة ،وقامت
الطريق للسالكني؛ فصىل اهلل عليه وعىل آله وصحبه أمجعني ،ومن تبعهم
بإحسان إىل يوم الدين.
�أما بعد:
وقربه للناس يقرأه كبريهميس القرآن للذكرّ ،
فإن من رمحة اهلل تعاىل أن رّ
املتبحر
ّ وصغريهم ،وذكرهم وأنثاهم ،وعربيهم وأعجميهم ،ويقرأه العامل
يف العلوم ،والعامل املتخصص يف علم من العلوم ،وطالب العلم ،وطالب
احلكمة ،وطالب زكاة النفس ،وطالب املخرج من ظلمة تعرتيه ،وأزمة
يعانيها ،وبالء نزل به.
-5-
ويقرأه العا ّمي الذي ال يدرك كثري ًا من املعاين ،ويقرأه من يتتعتع فيه
وهو عليه شاق.
ويقرأه من يريد الدعوة إىل اهلل تعاىل وتبليغ معانيه ملن يدعوهم عىل
كل أولئك فيه ما يكفيهموتنوع مطالبهم؛ فيجد ّ اختالف مذاهبهمّ ،
ويغنيهم إذا صدقوا وأحسنوا .
تتنوع كذلك ،وقد جعل
تنوعت حاجاهتم فإن كفاياهتم ّ والناس وإن ّ
اهلل تعاىل ّ
لكل يشء قدر ًا.
فالقرآن كتاب هداية ،ولذلك أنزل ،كام قال اهلل تعاىل﴿ :ﭤ
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ﴾.
وقال تعاىل﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮋﮌﮍﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾.
وقال تعاىل﴿ :ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾.
لتنوع حاجات الناس ومعارفهم تتنوع إىل أنواعّ ،
وهذه اهلدايات ّ
التنوع حكمة بالغة ،وآيات باهرةّ ،
تدل عىل بديع ومطالبهم ،ويف هذا ّ
حكمة اهلل تعاىل ،وإحاطته ّ
بكل يشء رمحة وعل ًام.
ومن َأ ْج ِل ذلك ّ
تنوعت عنايات العلامء بالقرآن الكريم رواية ودراية
وتنوعت أساليبهم كذلكورعاية ،وتنوعت عنايتهم يف تفسريه وعلومهّ ،
يف تبليغ معانيه ،وبيان هداياته.
-6-
معنى �أ�ساليب التف�سري
واملقصود بأساليب التفسري هنا :طرق تبلي ِغ معاين القرآن للمتل ّقني
وتقريبها هلم بام يناسب حال املخا َطبني ومقا َم احلديث.
وذلك أن طالب العلم إذا أحسن دراسة مسائل التفسري ،ومسائل أصول
التفسري وعلوم القرآن ،وعرف كيف حيسن تلخيص دروس التفسري وحيرر
األقوال فيها فإنه حيتاج بعد ذلك إىل أن يلقي مادة التفسري إىل املتلقني إلقا ًء
مكتوب ًا أو مسموع ًا أو مرئي ًا؛ وحيتاج إىل جتويد طريقة تبليغه ملعاين القرآن؛
األسلوب األمثل إللقاء تلك
َ يتعرف
أهم ما حيتاج إليه أن ّ
ولذلك كان من ّ
املادة العلمية.
وحتديد األسلوب يرتتّب عليه تصفية تلك املسائل وهتذيبها واإلضافة
عليها وحتسني طريقة عرضها بام يناسب األسلوب الذي اختاره؛ لتكون
كلمته أقرب إىل القبول والتأثري ونفع املتل ّقني.
-7-
فإن لدى كل طالب علم ما :3أن يستكشف جوانب اإلحسان لديه؛ ّ
أنعم اهلل به عليه من امل َلكات العلمية والقدرات الذهنية واملعرفية؛ فإذا
عرف األسلوب الذي حيسنه ويربع يف حماكاته وحتسينه؛ فقد انفتح له
باب عظيم من أبواب الدعوة إىل اهلل تعاىل وتعليم العلم النافع؛ فيجتهد
يف العناية هبذا األسلوب وجتويده وحتسينه وإعداد الدروس والكلامت
التفسريية به ،وذلك من شكر اهلل تعاىل عىل ما أنعم به عليه ،وقد وعد اهلل
الشاكرين باملزيد.
:4أن حياول طالب العلم تدريب نفسه عىل تنويع األساليب يف التفسري
بحسب ما يقتضيه املقام وحال املخاطبني ،وأن حيرص عىل اجتياز احلدّ
عارف بالتفسري
ٌ يقومها له
األدنى يف كل أسلوب بتطبيق نامذج منه ّ
وأساليبه؛ ثم جيتهد يف األسلوب الذي يرى أنه قد ُفتح له فيه.
:5بيان هذه األساليب ووضع املعايري املعينة عىل حتقيق اجلودة العلمية
فيها يعني -بإذن اهلل تعاىل -عىل تأهيل عدد من طالب العلم حيسنون
إعداد الكلامت التفسريية واملقاالت التفسريية ،والدعوة إىل اهلل تعاىل
بتبليغ معاين القرآن وبيان اهلدى للناس انطالقا من هدي القرآن احلكيم.
:6معرفة طالب العلم باألسلوب الذي يناسبه يف التفسري له أثر كبري
عىل بنائه العلمي؛ فيدعوه ذلك إىل أن حيسن البناء العلمي واستعامل
األدوات املعرفية بام خيدم ذلك األسلوب عىل وجه اخلصوص؛ ليكون
بناؤه العلمي أحسن وأنفع.
-8-
�أنواع �أ�ساليب التف�سري:
يمكن تقسيم أساليب العلامء يف تفسري القرآن إىل األنواع التالية:
النوع األول :أسلوب التقرير العلمي ،وهو أسلوب قائم عىل إرادة
حترير املسائل العلمية وبياهنا بأدلتها.
والنوع الثاين :األسلوب الوعظي ،وعمدته عىل التبصري باهلدى
والرتغيب والرتهيب ،وإرادة التأثري عىل النفوس بخطاب الوعظ.
والنوع الثالث :األسلوب االستنتاجي ،وعمدته عىل استنباط الفوائد
واألحكام واستخراجها.
والنوع الرابع :أسلوب ِ
احل َجاج الرشعي ،وهو أسلوب يراد به االنتصار
حيق به
للحق ،وبيان أوجه الردود عىل املخالفني ،وداللة القرآن عىل ما ّ
احلق ،ويتبينّ به بطالن الباطل.
والنوع اخلامس :األسلوب البياين ،وهو أسلوب قائم عىل الكشف عن
حسن بيان القرآن ،ولطائف داللة األلفاظ عىل املعاين اجلليلة ،وأرسار
اختيار بعض األلفاظ والرتاكيب عىل بعض.
والنوع السادس :األسلوب املقاصدي ،وهو قائم عىل بيان مقاصد
اآليات وهداياهتا ،وحترير موافقتها ملقاصد القرآن العامة.
وسبرْ ِ أساليب
وهذه األنواع استخرجتُها باستقراء الرسائل التفسرييةَ ،
العلامء فيها ،وتأ ّمل مقاصدها ،وأدواهتا العلمية ،ولغة اخلطاب يف تلك
الرسائل ،وتصنيفها إىل أصناف ،ور ّبام فاتني يشء منها ،لكنّي أرجو أين
تركت؛ ألن الغرض بيان
ُ ذكرت عىل ما
ُ املهم منها ،ون ّبهت بام
قد ذكرت ّ
-9-
الفكرة وتوضيحها باألمثلة ،وينبغي أن ال نتوقف كثري ًا عند حدود األسامء
واملصطلحات إذا اتّضح املراد ،ألن املقصود حتصيل الثمرة املرجوة وهي
إحسان إعداد دروس التفسري وإحسان تبليغها للمتل ّقني.
وموضوع هذه الدورة العلمية هو يف التعريف هبذه األساليب ،وبيان
عناية العلامء هبا ،والتعريف باألدوات العلمية التي يستعملها العلامء يف
كل أسلوب منها ،وبيان طرق حتسني تلك األساليب ،وذكر أمثلة من ّ
رسائل أهل العلم يف التفسري بتلك األساليب ،واقرتاح تطبيقات يؤ ّدهيا
لكل أسلوب من أساليب التفسري. الطالب ّ
تداخل الأ�ساليب
والنص عىل ما شاع منها يف كالم
ّ الغرض من بيان أنواع األساليب
املفسين يف رسائلهم التفسريية خصوص ًا ويف كتب التفسري ،إنام هو رّ
ِ
ألجل إبراز تلك األساليب والتعريف هبا وبيان سماَ هتا ومقاصدها وما
يعني عىل اإلحسان فيها.
خلو كل نوع منها من شوائب سامت األنواع وال يقتيض هذا التنويع ّ
األخرى؛ فهي أساليب متكاملة ال متزايلة ،ومقتبسة من مشكاة واحدة،
ويسعى أصحاهبا إىل غاية واحدة؛ وإنام يكون التصنيف عىل ما يغلب من
املفس بني أسلوبني أو أكثر؛ فيم ّيز
أسلوب الرسالة التفسريية ،وقد جيمع رّ
يتحي فيه.
ذلك طالب العلم ،ويعرفه وال رّ
فاألسلوب الوعظي القائم عىل أصول علمية صحيحة ال بدّ أن يظهر
فيه يشء من أثر أسلوب التقرير العلمي ،لكن تظل الصبغة الظاهرة عىل
األسلوب هي الصبغة الوعظية.
- 10 -
وكذلك يقال يف األساليب األخرى؛ فالعربة يف التصنيف بام يغلب عىل
املفس بني أسلوبني مجع ًا ظاهر ًا يصعب معه
املفس ،وقد جيمع رّ
أسلوب رّ
تصنيفه إىل أحدمها.
التعرف عىل هذه األساليب
ومقصود دراسة أساليب التفسري إنام هو ّ
ليعرف الطالب ما يالئمه منها ،وليجتهد يف حتسينه.
- 13 -
ضعف
ُ ولذلك أرى أنّه من اخلطأ الشائع لدى كثري من طالب العلم
الطالب ِ
العناية بتحرير املسائل ،واالكتفا ُء بخالصة ما قيل فيها؛ فيكون
ُ
رجح واخترص ،وهو ال يعرف ما بنى عليه ترجيحه ،وال مق ّلد ًا ملن ّ
مصادره التي اخترص منها بح َثه للمسألة.
فإن طالب العلم يف حديثه عن األمر الثاين :البناء العلمي احلسنّ ،
متنوعة يف
جيره احلديث إىل مسائل ّ مسألة من مسائل التفسري ال بدّ أن ّ
علوم متعدّ دة؛ منها مسائل من علوم اآلية كالقراءات الواردة فيها والوقف
واالبتداء وعدّ اآلي وسبب النزول وغري ذلك من العلوم التي ينبغي
يمرن نفسه عىل رسعة الوصول إىل مصادرها وحسن لطالب العلم أن ّ
اإلفادة منها وطرق استعامهلا يف كتاباته يف التفسري.
جيره احلديث إىل مسائل يف علوم أخرى كالعقيدة والسلوك والفقهوقد ّ
وأصوله والنحو والرصف واالشتقاق والبالغة واملفردات اللغوية،
وغريها من العلوم التي ينبغي لطالب التفسري أن جيتاز فيها مرحلة
ويتعرف
ّ املبتدئني عىل احلدّ األدنى ،وأن يتع ّلم طرق البحث يف مسائلها
مصادرها حتى يكتسب رسعة الوصول إىل املعلومة التي يريد البحث
عنها.
جيره إىل ِ
أثره عىل الطالب ،وقد ّ
يظهر ُ
ُ بالبناء العلمي وضعف العناية
ٍ
أخطاء علمية فادحة. الوقوع يف
األمر الثالث :مهارة النرش العلمي ،وإتقان األسلوب الذي يناسبه وجيد
من نفسه إمكان الرباعة فيه ،وهذا هو مقصود هذه الدروس؛ ّ
فإن العطاء
ثمرة البناء العلمي ،والثمرة احلسنة ال تكون إال بنبات حسن.
- 14 -
ومعرفة طالب علم التفسري باألسلوب الذي له فيه نوع إجادة وإحسان
تعينه عىل سلوك السبيل الذي ينبغي له أن يسلكه حتى ينرش علمه ،وينتفع
الناس به بإذن اهلل ،وقيمة ّ
كل امرئ ما حيسنه.
- 15 -
الباب الثاين� :أ�سلوب التقرير العلمي
- 18 -
يفصل احلديث فيها إىل إحسان حتريرها
املفس يف املسائل التي ّ
وحيتاج رّ
عىل ما تقتضيه أصول بحث تلك املسائل بحسب العلوم التي تنتمي إليها
تلك املسائل أصالة:
-فإذا تع ّلق البحث ببيان مسائل اآلية االعتقادية كان عليه أن يكون
حسن املعرفة بأصول عقيدة أهل السنة واجلامعة حسن التو ّقي من أقوال
املخالفني هلم عىل تفاوت خمالفاهتم.
-وإذا تعلق البحث بتحرير أقوال السلف يف تفسري اآلية كان عليه
أن يستخرج تلك األقوال من مصادرها األصلية أو البديلة ،وال يكتفي
باملصادر الناقلة ،وأن يميز بحسب استطاعته ما تصح نسبته من تلك
يصح ،ويف هذا النوع من
ّ األقوال إىل من ُذكرت عنهم من السلف مما ال
املفسين.
البحث تفاوت كبري بني رّ
املفس
تنوعها احتاج رّ -وكذلك إذا تع ّلق البحث باملسائل اللغوية عىل ّ
إىل دراسة كل نوع منها عىل ما تقتضيه أصول البحث يف ذلك العلم بالقدر
املفسون يف معنى مفردة من مفرداتاملفس؛ فإذا اختلف رّ الذي حيتاجه رّ
املفس احلصيف البحث عن معاين تلك املفردة يف معاجم القرآن ،كان عىل رّ
والتعرف عىل إطالقاهتا وشواهدها،
ّ اللغة وكتب علامء ال ّلغة املتقدّ مني،
املفسين ،وإعامل قواعد التفسري اللغوي.
وموازنة أقوال اللغويني بأقوال رّ
املفس يف حرص األقوال ،وحترير نسبتها ،وأحس َن دراستهاوإذا اجتهد رّ
وتصنيفها ،وأجرى ما يقتضيه البحث العلمي من اجلمع والرتجيح
مهمة وهي األسلوب الذي يعرض واإلعالل بقيت عليه بعد ذلك مسألة ّ
به دراسته لتلك املسألة عىل املتل ّقني من طالب العلم.
- 19 -
عر�ض امل�سائل التف�سريية يف الأ�سلوب العلمي:
حترر هلم من املسائل العلمية يف
تنوعت طرق العلامء يف عرض ما َّ ّ
التنوع يفيد طالب العلم أن ترتيب
املفسين فيها؛ وهذا ّالتفسري وأقوال رّ
عرض األقوال واملسائل العلمية يف التفسري قضية اجتهادية ّ
يتوخى فيها
نفسه يف
املفس ُ
ينوع رّاملفس أحسن الطرق إلفادة املتل ّقي وتفهيمه ،وقد ّ
رّ
الرتتيب يف عدد من رسائله.
يعرج عىلاملفسين من يبدأ بتقرير القول الصحيح يف اآلية ثم ّ فمن رّ
األقوال الضعيفة والباطلة ويبينّ ما يردها؛ ليكون أول ما يتلقاه املتلقي
هو القول الصحيح.
ثم يثري األسئلة
ومنهم من يعكس األمر فيبدأ بذكر األقوال الضعيفة ّ
ّ
ليستحث ذهن القارئ عىل التفكّر يف املعنى الصحيح، التي تبينّ ضعفها
يرجحه.
يتوصل إىل بيان القول الذي ّ
ثم يسرتسل يف عرض األقوال حتى ّ
ومنهم يبدأ بحرص األقوال وحترير نسبتها ثم يع ّقب ببيان ما ّ
يرتجح له
ويع ّلق عىل تلك األقوال بام يراه.
وختتلف مناهجهم يف استيعاب األقوال التفسريية؛ فمنهم من جيتهد
يف استيعاهبا وتلخيصها ،ومنهم َمن يرى اإلعراض عن األقوال البعيدة
والباطلة.
املفسين من يكون غرضه األكرب من كتابة الرسالة التفسريية
ومن رّ
التنبيه عىل مسألة مهمة من مسائل تفسري اآلية وتقرير االستدالل هلا
يرجحه فيها ،ولذلك قد يغلب بأوجه متعددة تبينّ صحة القول الذي ّ
- 20 -
عليه النظر يف تلك املسألة فيسهب فيها حتى يتجاوز ذكر بعض املسائل
املهمة يف تفسري اآلية الشتغاله بام يتع ّلق بمقاصد كتابته لتلك الرسالة.
- 21 -
املفس مرتبة متقدمة يف التفسري حتى حيسن اجلمع بني أنواع
وال يبلغ رّ
من العلوم بام يؤهله حلسن البحث يف مسائلها وحترير أقواهلا.
واجلامع بني األنواع املتقدمة هو غلبة األسلوب العلمي واعتامده عىل
حترير املسائل العلمية.
َ
املخاطبون بالأ�سلوب العلمي:
تقدّ م أن أسلوب التقرير العلمي خيا َطب به طالب العلم والعلامء يف
املفس أن تكون لغته هبذا اخلطاب لغة علمية األصل؛ ولذلك يوىص رّ
هادئة حمررة تناسب َمن يخُ اطبهم ،ويلقي إليهم تلك املا ّدة العلمية.
�أمثلة:
.1رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ﴾.
.2فصل يف تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ﴾.
.3رسالة يف تفسري املثل األعىل.
تطبيق:
-اكتب رسالة تفسريية بأسلوب التقرير العلمي.
- 23 -
املثال الأول :ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل:
﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾
- 24 -
وال ُغرور هو وصف فعل اخلديعة؛ قال اهلل تعاىل﴿ :ﯶ ﯷ﴾،
وقال﴿ :ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾.
يغرك ،وال ُغرور األباطيل).
قال األصمعي( :ال َغرور الذي ُّ
فهذا تلخيص كالم علامء اللغة يف معنى الغرور ،وأقوال املفرسين يف
تفسري اآلية ال خترج عن هذا املعنى اللغوي.
وما شاع يف القرون املتأخرة من إطالق لفظ الغرور عىل معنى الزهو
والعجب ،وقوهلم عن صاحب العجب والزهو :إنه مغرور ،هو ختصيص
ملعنى اللفظ ورصف له عن رصيح داللته يف اللغة.
غره وفتَنه
مغرور ألنه منخدع بام َّ
ٌ وصاحب العجب يصدق عليه أنه
حتى أصابه ما أصابه من العجب والزهو.
لكن من اخلطأ أن يظن أن داللة اللفظ اللغوية عىل هذا املعنى هي
باعتبار العجب والزهو ،وإنام هي باعتبار اجلهل واالنخداع.
- 25 -
فأما جواب املسألة األوىل :فالعرب تقول :ما غرك بفالن؟! تريد :ما
جرأك عليه؟ وما خدعك حتى أصابك منه ما أصابك أو فاتك من خريه َّ
ما فاتك؟
-قال األصمعي( :ما غرك بفالن؟ أي :كيف اجرتأت عليه؟) .ونقله
أبو عيل القايل عن أيب نرص الباهيل.
-ويف مواعظ عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن القرب يقول لصاحبه إذا
غرك يب؟! قد كنت متيش حويل فِدَ ادا» .رواه ابن وضع فيه« :يا ابن آدم ما َّ
أيب شيبة وغريه ،فداد ًا أي اختياالً.
-وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي بعد أن ظفر ببني أسد وقتل
منهم من قتل بعد أن اجرتؤا عليه ونالوا منه:
غرك�م باألس�د الباس�ل؟!
م�ا َّ ل�دودان عبي�دَ العص�ا
َ فق�ل
لقب لبني أسد.
دودان ٌ
وسول
قال أبو إسحاق الزجاج يف تفسري هذه اآلية( :أي ما خدعك َّ
وجب عليك؟).
َ لك حتى أضعت ما
وقد تناقله كثري من املفرسين.
وأما جواب املسألة الثانية :فاالستفهام جامع ملعنى اإلنكار والتوبيخ
والتقريع ،والقول يف معنى االستفهام فرع عن فهم داللة اآلية.
ولذلك كان ِم َن السلف َمن َي ِع ُظ هبذه اآلية ملا فهم منها من معنى
الزجر ،كام قال سعيد بن عبيد( :رأيت سعيد بن جبري وهو يؤ ّمهم يف
- 26 -
رمضان يردد هذه اآلية﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾﴿ ،ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ يرددها مرتني أو ثالثا) .رواه عبد
الرزاق.
وأما جواب املسألة الثالثة فقد اختلف فيه عىل ثالثة أقوال:
غره هو جهله ،وروي هذا املعنى عن عمر وابن القول األولَّ :
أن الذي ّ
عباس وأيب موسى األشعري والربيع بن خثيم واحلسن البرصي.
غره هو الشيطان ،وهذا قول قتادة رواه عنه ابن والقول الثاينَّ :
أن الذي َّ
جرير بإسناد صحيح.
واستدل له بقول اهلل تعاىل﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ أي خدعكم َّ
وجرأكم عىل عصيان اهلل ال َغ ُ
رور وهو الشيطان يف أظهر األقوال.
غره هو كرم ر ّبه ،وهذا القول نقل معناه عن والقول الثالثَّ :
أن الذي َّ
الفضيل بن عياض وحييى بن معاذ وأيب بكر الوراق ،وذكر املاوردي ما يف
معناه احتامالً ،ثم ذكره ابن اجلوزي من غري نسبة ،ثم اشتهر هذا القول يف
كتب التفسري.
فالقوالن األوالن صحيحان متالزمان؛ فالشيطان هو مصدر التغرير،
وجهل اإلنسان هو منفذ االغرتار ،وبه تسلط الشيطان عىل املغرور.
وأما القول الثالث فخطأ بي وهو معارض ملقصد اآليةَّ ،
ألن كرم اهلل ال
وتنزهه عن النقائصيغر بل يوجب الشكر ،وتذكّر العبد لكرم اهلل تعاىل ّ ُّ
والعيوب حيمله عىل خشيته واالستحياء منه ،وإنام الذي يغر جهل اجلاهل
بام جيب أن يقابل به هذا الكرم ،وعاميته عن العرب واآليات.
- 27 -
جمرد عدم العلم الذي ُيعذر به غالب ًا ،وإنام املراد
واجلهل هنا ليس املراد به ّ
احلكمي الناتج عن الغفلة واإلعراض عن ذكر اهلل؛ فيوصف به ّ به اجلهل
صاحبه بأنه من اجلاهلني وصاحب جهالة ،كام يف قول اهلل تعاىل﴿ :ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ وكل ما عيص اهلل به فهو عن
جهالة ونوع سفاهة منافية للرشد.
وقد أحسن ابن القيم وابن كثري يف رد هذا القول فقال ابن كثري( :وقوله:
﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ :هذا هتديد ،ال كام يتومهه بعض
الناس من أنه إرشاد إىل اجلواب؛ حيث قال« :ا ْلك َِري ِم» حتى يقول قائلهم:
«غر ُه كرمه».
َّ
بل املعنى يف هذه اآلية :ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم-أي :العظيم-
حتى أقدمت عىل معصيته ،وقابلته بام ال يليق؟ كام جاء يف احلديث« :يقول
أجبت املرسلني؟»).
َ اهلل يوم القيامة :اب َن آدم! ما غرك يب؟ اب َن آدم! ماذا
وقال ابن القيم يف «اجلواب الكايف»( :كاغرتار بعض اجلهال بقوله
تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ فيقول :كرمه ،وقد يقول
بعضهم :إنه ل َّقن املغ َّ
رت حجته!!
غره بربه ال َغرور ،وهو الشيطان ونفسه األمارة
وهذا جهل قبيح ،وإنام َّ
بالسوء وجهله وهواه ،وأتى سبحانه بلفظ الكريم وهو السيد العظيم
املطاع الذي ال ينبغي االغرتار به وال إمهال حقه؛ فوضع هذا املغرت الغرور
يف غري موضعه واغرت بمن ال ينبغي االغرتار به)ا.هـ.
وقال البغوي( :وقال بعض أهل اإلشارة :إنام قال﴿ :ﭫ ﭬ﴾
دون سائر أسامئه وصفاته ،كأنه لقنه اإلجابة).
- 28 -
قال ابن كثري معقب ًا عىل هذا القول( :وهذا الذي ختيله هذا القائل ليس
بطائل؛ ألنه إنام أتى باسمه ا ْلك َِريم لينبه عىل أنه ال ينبغي أن ُي َقا َبل الكريم
باألفعال القبيحة ،وأعامل السوء).
والكريم من أسامء اهلل احلسنى ومعناه املتصف بكل كامل وصفات
حسنى ،فهو كريم يف ذاته ،كريم يف صفاته ،كريم يف أفعاله ،كريم يف
أحكامه ال يأمر إال بالعدل واإلحسان ،كريم يف ثوابه ،كريم يف إنعامه ال
يدُّ فضله ،وهو الكريم الذي بيده اخلري كله ،فكل خريحتىص نعمه ،وال حُ َ
هو موليه واملتفضل به ،وهو الكريم املتنزه عن كل نقص وسوء.
وهو الكريم فيام يأمره به وينهى عنه ويرشد إليه ،إن اهلل نعام يعظكم به
املكرم عن ّ
كل سوء الذي غر هذا اجلاهل املغرور بربه الكريم َّ
فام الذي َّ
ال يليق أن َ
يقابل إحسانُه بعمل السيئات؟!
غره بر ّبه الكريم الذي أنشأه من العدم وأسبغ عليه النعم
وما الذي َّ
غره حتى رصفه عن طاعته وعرفه بح ّقه عليه وعاقبة عصيانه؛ فام الذي ََّّ
وعرضه لسخطه؟! َّ
غره بر ّبه الكريم فمنعه من تصديق وعده واتّباع هداه؟!
وما الذي َّ
وحرمه من ثواب ربه وعطائه وفضله العظيم؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي ال أكرم منه يف ذاته وصفاته ،الذي من
كرمه تشتاق نفوس العارفني به أعظم شوق إىل لقائه والنظر إىل وجهه
الكريم فام الذي غره بربه وحجبه عنه؟!
- 29 -
وما الذي غره بربه الكريم الذي ال يأمر إال بالعدل واإلحسان وما فيه
غره
زكاة نفس العبد وطهارهتا وقيام مصالح العبد ورشاد أمره ،فام الذي َّ
بر ّبه وأوقعه يف أرس اهلوى وعواقب الذنوب وتسلط الشيطان؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي أنعم عليه بالنعم العظيمة من مبدأ
خلقه إىل موته َ
فقابل نعمه وإحسانه هبذا الكفر والنكران؟!!
فتد ُّبر هذه املعاين ومعرفة أوجه اتصاهلا بمعنى اسم الكريم وآثاره
يف اخللق واألمر واجلزاء يفتح لك أبواب ًا من فهم القرآن ،واهلل املوفق
واملستعان.
- 30 -
املثال الثاين :تف�سري قول اهلل تعاىل:
﴿ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾
- 31 -
واستدل أصحاب القول الثاين بقوله تعاىل﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ﴾ قالوا :فهؤالء مل يدخل اإليامن يف قلوهبم بنص القرآن ،ومن مل
يدخل اإليامن يف قلبه فليس بمسلم عىل احلقيقة ،وإنام إسالمه بلسانه دون
قلبه.
وأصحاب القول األول يقولون إن اإليامن املنفي عنهم إنام هو ما
تقتضيه مرتبة اإليامن ،فهم مل يعرفوا حقيقة اإليامن وإنام أسلموا عىل جهل
فيثبت هلم حكم اإلسالم ،فيكون معنى قوله تعاىل﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ﴾ أي مل تبارش حقيق ُة اإليامن قلو َبكم.
وابن القيم رمحه اهلل قال بالقول األول يف «بدائع الفوائد» ،وقال بالقول
الثاين يف «إعالم املوقعني».
والتحقيق أن داللة اآلية ت ََس ُع القولني ،فإذا أريد بنفي اإليامن يف قوله
تعاىل﴿ :ﮒ ﮓ﴾ نفي أصل اإليامن الذي َيثبت به حكم اإلسالم؛ فهؤالء
كفار يف الباطن ،مسلمون يف الظاهر ،فيكون حكمهم حكم املنافقني ،وقد
يتوب اهلل عىل من يشاء منهم وهيديه لإليامن.
وإذا أريد بنفي اإليامن نفي القدر الواجب من اإليامن الذي مدح اهلل به
املؤمنني وسامهم به مؤمنني؛ فهذا ال يستلزم نفي أصل اإليامن واخلروج
من دين اإلسالم ،فيثبت هلم حكم اإلسالم ،وينفى عنهم وصف اإليامن
الذي يطلق عىل من أتى بالقدر الواجب منه.
وهذا كام يف «صحيح البخاري» من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه أن
النبي صىل اهلل عليه وسلم قال« :واهلل ال يؤمن! واهلل ال يؤمن! واهلل ال
يؤمن!».
- 32 -
قيل :من يا رسول اهلل؟
قال« :الذي ال يأمن جاره بوائقه».
فهذا نفى عنه حقيقة اإليامن والقدر الواجب منه الذي مدح اهلل به
املؤمنني وسامهم به ،وال يقتيض أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين
اإلسالم.
والذي يوضح هذا األمر أن قول ﴿ﮖ﴾ قد يقوله الصادق
والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّ ٍع لإلسالم خمادع للذين آمنوا،
ُيظهر اإلسالم ويبطن الكفر.
وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهر ًا وباطن ًا ،ومعه أصل اإليامن.
وهلذا قال اهلل تعاىل﴿ :ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇﰈ﴾.
فعلق وصف اإليامن بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف
األول ،ومن مل يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاين ،وهذا يبينّ جواز
أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه اآليات من هو من أصحاب الصنف
واألول ،ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاين ،وشملت هذه اآليات
الصنفني كليهام.
وهذا مثال بديع حلسن بيان القرآن الكريم ،وداللته عىل املعاين العظيمة
بألفاظ وجيزة.
واملقصود أن اآلية عىل القول األول يف تفسريها فيها داللة عىل التفريق
بني مرتبة اإلسالم ومرتبة اإليامن.
- 33 -
قال حممد بن نرص املروزي( :نقول إن الرجل قد يسمى مسلام عىل
وجهني:
أحدمها :أن خيضع هلل باإليامن والطاعة تدينا بذلك يريد اهلل بإخالص نية.
واجلهة األخرى :أن خيضع ويستسلم للرسول وللمؤمنني خوفا من
القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع خوفا وتقية ،ومل يسلم هلل ،وليس
هذا باإلسالم الذي اصطفاه اهلل وارتضاه الذي هو اإليامن الذي دعا اهلل
العباد إليه)ا.هـ.
وكذلك قوله تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [الذاريات.]36-35 :
نجى اهلل مجيع املؤمنني من العذاب كام قال تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
َّ
ﭯ ﭰ﴾.
وقوله﴿ :ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ دليل عىل أنه مل يكن يف
قرى قوم لوط إال بيت واحد عىل اإلسالم ،وهو بيت لوط عليه السالم.
وأهل لوط كلهم مؤمنون إال امرأته كانت كافرة بنص القرآن كام يف
قوله تعاىل﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾،
لكن اختلف أهل العلم ،هل كانت مسلمة يف الظاهر أو كانت عىل دين
قومها ظاهر ًا وباطنا عىل قولني:
القول األول :أهنا كانت عىل دين قومها ،وإنام كانت خيانتها أهنا تدل
قومها الذين يعملون السوء عىل أضياف لوط ،وهذه خيانة له.
القول الثاين :أهنا كانت تظهر اإلسالم وتبطن الكفر.
- 34 -
والقول األول أصح وأشهر وهو املأثور عن ابن عباس وسعيد بن جبري.
فإن قيل :كيف يبقيها يف ذمته وهي كافرة؟
قيل :إن ذلك كان جائز ًا يف رشيعتهم ،كام كان جائز ًا يف أول اإلسالم
ثم نسخ.
وسواء أكانت امرأة لوط مسلمة يف الظاهر أم غري مسلمة يف الظاهر؛
فإن ذلك ال ينقض احلكم عىل البيت بأنه بيت إسالم ،كام أن وجود بعض
الكفار يف بالد اإلسالم ال جيعلها بالد كفر.
ومقصود اآلية أن قرى قوم لوط مل يكن فيها بيت عىل اإلسالم إال بيت
لوط عليه السالم.
وهذه اآلية فيها لطيفة وهي أن املؤمنني موعودون بالنجاة ،واملسلم
غري املؤمن ليس له عهد بالسالمة من العذاب والنجاة منه؛ فقد يعذب
بمعاصيه يف الدنيا وقد يعذب يف قربه وقد يعذب يف النار ،لكنه ال خيلد
فيها.
وهذا نظريه ما ورد يف قصة أصحاب السبت فإن اهلل تعاىل أنجى املؤمنني
الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتني عن إنكار املنكر وأخذ
الذين ظلموا بعذاب بئيس ،فتبني أن أصحاب الكبائر من املسلمني ليس
هلم عهد أمان من العذاب كام جعل اهلل ذلك ألهل اإليامن؛ فقد ُي َّ
عذبون،
وقد يعفو اهلل عنهم بفضله وكرمه ،وهذا يبني لك الفرق العظيم بني مرتبة
اإلسالم ومرتبة اإليامن.
- 35 -
فاملؤمن له عهد أمان بأن ال يعذبه اهلل وال خيذله ،وأنه ال خياف وال
حيزن ،وال يضل وال يشقى ،وقد تكفل اهلل له باهلداية والنجاة والنرص
والرفعة .
وهو يف أمان من نقمة اهلل تعاىل وسخطه ،ويف أمان من عذاب اآلخرة
كام قال اهلل تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ﴾.
- 36 -
املثال الثالث :تف�سري املثل الأعلى
احلمد هلل الذي له املثل األعىل وهو العزيز احلكيم ،والصالة والسالم
عىل الرسول النبي الكريم نبينا حممد وعىل آله وصحبه أمجعني ،أما بعد:
فقد ورد ذكر «املثل األعىل» – هبذا اللفظ -يف آيتني من القرآن العظيم:
-إحدامها يف سورة النحل وهي قوله تعاىل﴿ :ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾.
-واألخرى يف سورة الروم وهي قوله تعاىل﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ﴾.
وقد تنوعت عبارات السلف يف بيان معنى «املثل األعىل» ومن رويت
عنهم آثار من الصحابة والتابعني يف بيان معنى املثل األعىل ثالثة:
األول :ابن عباس ريض اهلل عنه:
فروى معاوية بن صالح عن عيل بن أيب طلحة عن ابن عباس يف قوله
عز وجل﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ﴾ قال« :يقول :ليس كمثله يشء» .رواه ابن
جرير وابن أيب حاتم والبيهقي يف «كتاب االعتقاد» ويف «كتاب األسامء
والصفات».
وهذا تفسري بعض املعنى بالالزم؛ فكونه تعاىل له املثل األعىل يقتيض أنه
ليس كمثله يشء ،قال ابن القيم –رمحه اهلل – يف كتابه «الصواعق املرسلة»:
(يستحيل أن يشرتك يف املثل األعىل اثنان ألهنام إن تكافآ مل يكن أحدمها
- 37 -
أعىل من اآلخر ،وإن مل يتكافآ فاملوصوف باملثل األعىل أحدمها وحدَ ه،
يستحيل أن يكون ملن له املثل األعىل مثل أو نظري).
وقد استدل رمحه اهلل هبذه اآلية عىل تفرد اهلل تعاىل بصفات الكامل.
الثاين :قتادة بن دعامة السدويس رمحه اهلل:
روى عبد الرزاق يف تفسريه عن معمر عن قتادة يف قوله تعاىل﴿ :ﮘ
ﮙ ﮚ﴾؛ قال« :شهادة أن ال إله إال اهلل».
ورواه أيض ًا ابن جرير وابن أيب حاتم والطرباين يف «الدعاء».
وروى ابن جرير من طريق يزيد عن سعيد عن قتادة أن املراد باملثل
األعىل اإلخالص والتوحيد ،ويف لفظ عنده« :مثله أنه ال إله إال هو وال
رب غريه».
وقد نسبه أبو املظفر السمعاين ملجاهد وتبعه عىل ذلك القرطبي
والشوكاين وهو خطأ.
الثالث :حممد بن املنكدر:
قال ابن كثري( :وعن مالك يف تفسريه املروي عنه ،عن حممد بن املنْك َِدر،
يف قوله تعاىل﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ﴾ ،قال :ال إله إال اهلل).
فهذا ما علمته ُأثر عن الصحابة والتابعني يف تفسري املثل األعىل.
وأكثر املفرسين عىل أن املثل األعىل الصفات العليا التي تستوجب
إخالص العبادة له وحده ال رشيك له ،واعتقاد الكامل املطلق له جل
وعال ،وأنه ال يساميه يف ذلك أحد.
- 38 -
قال ابن جرير (ت 310:هـ)﴿( :ﮘ ﮙ ﮚ﴾ يقول :وهلل املثل
األعىل ،وهو األفضل واألطيب ،واألحسن ،واألمجل ،وذلك التوحيد
واإلذعان له بأنه ال إله غريه).
وقال يف تفسري آية الروم( :وقوله﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ﴾ يقول :وهلل املثل
األعىل يف الساموات واألرض ،وهو أنه ال إله إال هو وحده ال رشيك له،
ليس كمثله يشء ،فذلك املثل األعىل ،تعاىل ربنا وتقدّ س).
قال أبو جعفر النحاس (ت338:هـ)﴿( :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ﴾ آية ،روى ابن أيب طلحة عن ابن عباس قال يقول ليس كمثله
يشء.
وقيل :يعني ال إله إال اهلل.
وحقيقته يف اللغة وله الوصف األعىل).
قال أبو الليث السمرقندي (ت375:هـ)﴿( :ﮘ ﮙ ﮚ﴾ أي:
الصفة العليا ،وهي شهادة أن ال إله إالَّ اهلل وحده ال رشيك له).
وقال الثعلبي (ت427:هـ)﴿( :ﮘ ﮙ ﮚ﴾ الصفة العليا وهي
التوحيد واإلخالص).
وقال أبو املظفر السمعاين (ت489 :هـ)( :وقوله﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ﴾
أي :الصفة العليا ،وذلك مثل قوهلم :عامل وقادر ورازق وحي ،وغري
هذا).
وقال البغوي (ت516:هـ)﴿( :ﮘ ﮙ ﮚ﴾ الصفة العليا ،وهي
التوحيد وأنه ال إله إال هو.
- 39 -
وقيل :مجيع صفات اجلالل والكامل ،من العلم ،والقدرة ،والبقاء،
وغريها من الصفات).
وقال ابن اجلوزي(ت597:هـ)( :قوله تعاىل﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ﴾ قال
الصفة ال ُعليا ﴿ﭺ ﭻ ﭼ﴾ وهي أنَّه ال إِله غريه).
املفرسون :أي :له ِّ
ٍ
معان: وامل َثل يف اللغة يطلق عىل
املعنى األول :الصفة ،وهذا املعنى كثري يف االستعامل ،وله شواهد كثرية،
منها قوله تعاىل﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾...
وسمى ذلك الوصف َم َثالً.
اآلية فوصفها َّ
وروى أبو منصور األزهري عن حممد بن سالم اجلمحي قال( :أخربين
عمر بن أيب خليفة ،قال :سمعت مقاتال صاحب التفسري يسأل أبا عمرو
بن العالء عن قول اهلل تعاىل﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ ما مثلها؟
قال﴿ :ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾.
َق َالَ :ما م َثلها؟ فسكَت َأ ُبو َع ْمرو.
قال :فسألت يونس عنها ،فقالَ « :م َث ُلهاِ :ص َفتُها» ).
قال حممد بن سالم( :ومثل ذلك قوله تعاىل﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ﴾ أي ِصفتهم).
املعنى الثاين :اآلية ،ومنه قوله تعاىل﴿ :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾
أي آية هلم ،كام قال تعاىل﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ﴾ ،وقال﴿ :ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ﴾ ،قال ابن جرير﴿( :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾
يقول :وجعلناه آية لبني إرسائيل) .وروى مثله عن قتادة.
- 40 -
املعنى الثالث :العربة والعظة ،ومنه قوله تعاىل﴿ :ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ﴾.
قال ابن جرير( :وقوله﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ﴾ يقول :وعربة وعظة
يتعظ هبم َم ْن بعدهم من األمم ،فينتهوا عن الكفر باهلل) .وروى نحوه عن
جماهد وقتادة والسدي.
ومنه عىل أحد التفسريين قوله تعاىل﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾.
املعنى الرابع :القول السائر ،وفيه يقال( :فأرسلها مثالً) أي جعل كلمته
قوالً سائر ًا يتمثل الناس به يف نظائره.
املعنى اخلامس :املثل املرضوب ،ومنه قوله تعاىل﴿ :ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ﴾.
وهذه املعاين اخلمسة بينها تناسب واشرتاك يف قدر من املعنى ،ولذلك
تنوعت عبارات املفرسين يف تفسري ما ورد فيه هذا اللفظ بام يدل عىل
تقارب بني هذه املعاين.
كشبه ِ
وش ْبه .وامل َث ُل ِ
املرضوب
ُ قال ابن فارس( :وا َمل َثل :امل ْثل أيض ًاَ َ ،
مور ًى به عن ِم ِثله يف املعنى).
مأخو ٌذ من هذا ،ألنَّه ُيذكَر َّ
وكالم السلف يف تفسري املثل األعىل غري خمالف ملا ذكره علامء اللغة
من معنى املثل ،فإن اهلل تعاىل هو اإلله املتفرد بصفات الكامل املستحق ألن
يعبد وحده ال رشيك له ،فكونه اإلله احلق يتضمن اتصافه بصفات الكامل
واستحقاقه ألعظم احلقوق.
- 41 -
قال ابن كثري (ت774:هـ)﴿( :ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾
أي :النقص إنام ينسب إليهم﴿ ،ﮘ ﮙ ﮚ﴾ أي :الكامل املطلق من
كل وجه ،وهو منسوب إليه﴿ ،ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾).
وقال يف تفسري آية الروم( :وقد أنشد بعض ا ُمل َفرسين عند ذكر هذه
اآلية لبعض أهل املعارف:
َّس�يم
أن يحُ َ ّركَ� ُه الن ُ ن�ب ْ َو ُج َ إ َذا َس�كَن الغ ُ
َدي�ر على َص َف�اء
�م ُس َت ْب�دو َوالن ُّجو ُم اك َّ
الش ْ ك ََذ َ تراء
السَم�اَ ء َبلا ْام َ
ت�رى في�ه َّ
ُي َ�رى يف َص ْفوه�ا اهللُ ال َع ُ
ظيم). �وب ْأر َب�اب الت ََّجل ك َ
َ�ذاك ُق ُل ُ
وقال ابن رجب يف «فتح الباري»( :وحديث حارثة هو من هذا املعنى؛
بارزا ،وكأين أنظر إىل أهل اجلنة يتزاورون
فإنه قال :كأين أنظر إىل عرش ريب ً
فيها وإىل أهل النار يتعاوون فيها ،فقال النبي صىل اهلل عليه وسلم« :عرفت
فالزمَ ،ع ْبدٌ َّنور اهلل اإليامن يف قلبه» وهو حديث مرسل ،وقد روي مسندا
بإسناد ضعيف.
وكذلك قول ابن عمر لعروة ملا خطب إليه ابنته يف الطواف فلم يرد
عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال« :كنا يف الطواف نتخايل اهلل بني أعيننا».
ومنه األثر الذي ذكره الفضيل بن عياض( :يقول اهلل :ما أنا مطلع عىل
أحبائي إذا جنّهم الليل جعلت أبصارهم يف قلوهبم ،ومثلت نفيس بني
أعينهم فخاطبوين عىل املشاهدة وكلموين عىل حضوري.
وهبذا فرس املثل األعىل املذكور يف قوله تعاىل﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ﴾ ،ومثله قوله تعاىل﴿ :ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
- 42 -
ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ﴾ ،قال
ابن كعب وغريه من السلف :مثل نوره يف قلب املؤمن.
فمن وصل إىل هذا املقام فقد وصل إىل هناية اإلحسان وصار اإليامن
لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه و َأنِ َس به يف خلوته وتنعم بذكره ومناجاته
ودعائه حتى ربام استوحش من خلقه ،كام قال بعضهم :عجبت للخليقة
كيف أنست بسواك؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوهبا بذكر
سواك.)...
إىل أن قال( :وقوله صىل اهلل عليه وسلم« :اعبد اهلل كأنك تراه» إشارة
إىل أن العابد يتخيل ذلك يف عبادته ،ال أنه يراه حقيقة ال ببرصه وال بقلبه .
وأما من زعم أن القلوب تصل يف الدنيا إىل رؤية اهلل عيانا كام تراه األبصار
يف اآلخرة كام يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية -فهو زعم باطل)ا.هـ.
وهذا الذي ذكره هو ما يسمى باملثال العلمي ،وقد ذكره شيخ اإلسالم
ابن تيمية كثري ًا يف مواضع من كتبه ،ومن أفضل من عرب عنه فيام اطلعت
عليه ابن القيم رمحه اهلل تعاىل إذ قال يف كتابه «شفاء العليل»( :إذا رشح اهلل
صدر عبده بنوره الذي يقذفه يف قلبه أراه يف ضوء ذلك النور حقائق األسامء
والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ ال يمكن أن يعرفها العبد عىل ما
هي عليه يف نفس األمر ،وأراه يف ضوء ذلك النور حقائق اإليامن وحقائق
العبودية وما يصححها وما يفسدها وتفاوت معرفة األسامء والصفات
واإليامن واإلخالص وأحكام العبودية بحسب تفاوهتم يف هذا النور.
- 43 -
قال تعاىل﴿ :ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾.
وقال﴿ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾.
فيكشف لقلب املؤمن يف ضوء ذلك النور عن حقيقة املثل األعىل
مستويا عىل عرش اإليامن يف قلب العبد املؤمن؛ فيشهد بقلبه ر ًّبا عظيماً
رب من كل يشء يف ذاته ويف صفاته ويف أفعاله ،الساموات قادرا أك َ
قاهرا ً
ً
السبع قبضة إحدى يديه ،واألرضون السبع قبضة اليد األخرى ،يمسك
الساموات عىل أصبع ،واألرضني عىل أصبع ،واجلبال عىل أصبع ،والشجر
هيزهن ثم يقول :أنا امللك.
عىل أصبع ،والثرى عىل أصبع ،ثم ُّ
فالساموات السبع يف ك ِّفه كخردلة يف كف العبد ،حييط وال حياط به،
وحيرص خلقه وال حيرصونه ،ويدركهم وال يدركونه ،لو أن الناس من لدن
آدم إىل آخر اخللق قاموا ص ًفا واحدً ا ما أحاطوا به سبحانه.
ثم يشهده يف علمه فوق كل عليم ،ويف قدرته فوق كل قدير ،ويف جوده
فوق كل جواد ،ويف رمحته فوق كل رحيم ،ويف مجاله فوق كل مجيل ،حتى
لو كان مجال اخلالئق كلهم عىل شخص واحد منهم ثم أعطى اخللق كلهم
مثل ذلك اجلامل لكانت نسبته إىل مجال الرب سبحانه دون نسبة رساج
ضعيف إىل ضوء الشمس.
ولو اجتمعت قوى اخلالئق عىل شخص واحد منهم ثم أعطى كل منهم
مثل تلك القوة لكانت نسبتها إىل قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إىل
محلة العرش.
- 44 -
ولو كان جودهم عىل رجل واحد وكل اخلالئق عىل ذلك اجلود لكانت
نسبته إىل جوده دون نسبة قطرة إىل البحر.
وكذلك علم اخلالئق إذا نسبة إىل علمه كان كنقرة عصفور من البحر.
وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبرصه وإرادته فلو فرض البحر
املحيط باألرض مداد حتيط به سبعة أبحر ومجيع أشجار األرض شيئا بعد
يشء أقالم لفني ذلك املداد واألقالم وال تفنى كلامته وال تنفد.
فهو أكرب يف علمه من كل عامل ويف قدرته من كل قادر ،ويف جوده من
كل جواد ،ويف غناه من كل غني ،ويف علوه من كل ٍ
عال ،ويف رمحته من
كل رحيم.
استوى عىل عرشه واستوىل عىل خلقه ،متفرد بتدبري مملكته فال قبض
وال بسط وال منع وال ضالل وال سعادة وال شقاوة وال موت وال حياة
وال نفع وال رض إال بيده ،ال مالك غريه وال مدبر سواه ،ال يستقل أحد
معه بملك مثقال ذرة يف الساموات واألرض وال له رشكة يف ملكها ،وال
حيتاج إىل وزير وال ظهري وال معني ،وال يغيب فيخلفه غريه ،وال يع َيا
فيعينه سواه ،وال يتقدم أحد بالشفاعة بني يديه إال من بعد إذنه ملن شاء
ويف من شاء؛ فهو أول مشاهد املعرفة ،ثم يرتقى منه إىل مشهد فوقه ال
يتم إال به وهو مشهد اإلهلية؛ فيشهده سبحانه متجلي ًا يف كامله بأمره وهنيه
ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله يف ثوابه فيشهد ر ًّبا قيو ًما متكلماً
آمرا ناه ًيا ،حيب ويبغض ويرىض ويغضب ،قد أرسل رسله وأنزل كتبه ً
وأقام عىل عباده احلجة البالغة ،وأتم عليهم نعمته السابغة ،هيدى من يشاء
منه نعمة وفضالً ،ويضل من يشاء حكمة منه وعدالًُ ،ينزل إليهم أوامره،
- 45 -
وتعرض عليه أعامهلم ،مل خيلقهم عبث ًا ،ومل يرتكهم سدً ى ،بل َأ ْمره ٍ
جار
عليهم يف حركاهتم وسكناهتم وظواهرهم وبواطنهم؛ فلله عليهم ُحك ٌْم
ٍ
ولفظة. ٍ
وحلظة ٍ
وتسكينة ٍ
حتريكة وأمر يف كل
َوينكشف له يف هذا النور عدله وحكمته ورمحته ولطفه وإحسانه
وبره يف رشعه وأحكامه ،وأهنا أحكام رب رحيم حمسن لطيف حكيم،
قد هبرت حكمته العقول وأقرت هبا ِ
الف َطر ،وشهدت ملنزهلا بالوحدانية،
وملن جاء هبا بالرسالة والنبوة ،وينكشف له يف ضوء ذلك النور إثبات
صفات الكامل ،وتنزهيه سبحانه عن النقص واملثال ،وإن كل كامل يف
الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأوىل ،وكل نقص وعيب فهو سبحانه
ٍ
متعال عنه. منزه
وينكشف له يف ضوء هذا النور حقائق املعاد واليوم اآلخر وما أخرب به
الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانًا ،وكأنه خيرب عن اهلل وأسامئه وصفاته
وأمره وهنيه ووعده ووعيده ،إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما
أخرب به؛ فمن أراد سبحانه هدايته رشح صدره هلذا فاتسع له وانفسح،
ومن أراد ضاللته جعل صدره من ذلك يف ضيق وحرج ال جيد فيه مسلكا
وال ً
منفذا ،واهلل املوفق املعني.
وهذا الباب يكفي اللبيب يف معرفة القدر واحلكمة ويطلعه عىل العدل
والتوحيد الذي تضمنهام قوله﴿ :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ﴾ )ا.هـ.
- 46 -
الباب الثالث :الأ�سلوب الوعظي
- 47 -
وح ْس ِن أثره ُذكر بصيغة احلرص املن ّبهة عىل
بل لعظمة هذا املقصد ُ
تقديمه والعناية به؛ فقال تعاىل ﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾.
وقال اهلل تعاىل﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ
أمر بخطاب الوعظ والتذكري، ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ وهذا فيه ٌ
أن الوعظ منه وتنبي ٌه عىل أمهيته وحاجة األمة إليه ،وفيه أيض ًا تنبيه عىل ّ
حسن ومنه غري حسن ،واملأمور به هو الوعظ احلسن ،وهو الذي ُيتّبع فيه
هدي النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ فيكون قائ ًام عىل العلم ورعاية املصلحة
الرشعية ملن يدعى به.
وأ ّما الوعظ القائم عىل اجلهل ونرش األقوال الباطلة واألخبار الواهية
والقصص اخلرافية؛ فهو وعظ غري حسن ،وإن كان له تأثري عىل بعض
النفوس.
وكذلك الوعظ الذي ال تراعى فيه مصلحة امللت ّقي؛ فإنّه قد ُيسئ فيه
الواعظ من حيث حيتسب النفع؛ فخطاب اخلائف الوجل الذي يشفق عىل
نفسه من شدة اخلوف وربام اشتكى أذى شديدا من الوسوسة التي تدعوه
إىل اليأس من رمحة اهلل ال يصلح أن يكون كخطاب الذي يعرف منه التهتّك
واملجاهرة باملعايص ،ويظهر منه الفرح هبا ،والتفاخر بام أصاب منها.
وينبغي للواعظ أن يفقه املقصد األعظم من الوعظ وهو تعظيم اهلل تعاىل
وحمَ ْ ِده ومتجيده وتنزهيه عام ال يليق به؛ ودعوة الناس لتوحيده وعبادته
حم ّبة وتعظي ًام وخوف ًا ورجا ًء عىل طريقة التسديد واملقاربة.
- 48 -
يتوسع يف الرتغيب
الو ّعاظ من يتشدد يف الرتهيب والتحذير أو ّ فمن ُ
واالنبساط؛ فيذكر يف حديثه من األقوال الباطلة واآلثار الواهية أو التي
تفهم عىل غري وجهها ما يلقي به إىل أذهان املتلقني معاين ال تليق باهلل جل
ظ ممن َي ِع ُظهم.
أحق بالو ْع ِ
وعال؛ حتى يكون َّ َ
- 50 -
واجلمع بينهام هو يف حقيقته مجع بني العلم والعمل ،ألن صحة العلم
والتبص به وتذكّره ،وصالح العمل
رّ تعرف هدى اهلل تعاىل
مرجعها إىل ّ
مرجعه إىل صالح اإلرادة الذي مبعثه صالح القلب.
- 52 -
طرق حت�سني الأ�سلوب الوعظي:
للمفس أن جيتهد يف حتسني أسلوبه الوعظي يف التفسري ألنه رّ ينبغي
أرجى لكثرة االنتفاع بعلمه ،وتوسيع دائرة املخاطبني به ،وبقاء أثره يف
النفوس.
للمفس أن يعتني بام يؤ ّثر عىل نفس
رّ ولتحسني هذا األسلوب ينبغي
املخا َطب من حسن البيان عن معاين القرآن ،والبعد عن التعقيد اللفظي
واملعنوي ،وترك اإلسهاب فيام ال صلة له بمقام الوعظ ،وحتلية خطابه
باآلثار واألخبار والقصص واألمثال ونحو ذلك مما له تأثري بالغ عىل
يتقوى به سلطان الوعظ عىل القلوب، القلوب؛ فيضيف إىل تفسريه ما ّ
وليحرص عىل االستزادة من القراءة يف الكتب والرسائل التي أحسن
أصحاهبا احلديث هبذا األسلوب ،وكان حلديثهم قبول وتأثري؛ فيقتبس
حيسن به أسلوبه.
من طريقتهم ما ّ
يقوي تأثري الرسالة التفسريية الوعظية حتليتُها بالعبارات املوجزة
ومما ّ
وحك َِمهم ووصاياهم ،وكذلك املؤ ّثرة التي تُنتقى من كالم أهل العلم ِ
ما ُينتقى القصص واألخبار التي فيها ِعبرَ ٌ وآيات ،وهلا تأثري عىل نفوس
املتل ّقني.
استخراج الفوائد
ُ ومما يعني عىل حتسني األسلوب الوعظي أيض ًا:
السلوكية من اآليات ثم تضمينها يف الرسالة يف املواضع املناسبة.
- 53 -
االقت�صاد يف الوعظ:
أسلوب الوعظ حتتاجه مجيع النفوس بالقدر الذي يقيمها وال ُيم ّلها،
يرضها؛ فإن النفس إذا أمهل وعظها وتذكريها أدركتها الغفلة
وينفعها وال ّ
وتسلط عليها اجلهل واهلوى ،وإذا ُأكثر عليها من الوعظ سئمت وأدبرت
ومل تنتفع باملوعظة ،ولذلك كان من هدي النبي صىل اهلل عليه وس ّلم
وهدي أصحابه االقتصاد يف الوعظ والتذكري.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة :كان عبد اهلل [بن مسعود] يذكّر الناس يف
كل مخيس؛ فقال له رجل :يا أبا عبد الرمحن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟
ِ
أكر ُه أن ُأم َّلكُم ،وإين َّ
أختولكم قال« :أما إنه يمنعني من ذلك أين َ
يتخولنا هبا ،خمافة السآمة
َّ باملوعظة ،كام كان النبي صىل اهلل عليه وسلم
علينا» .متفق عليه.
َ
املخاطبون ب�أ�سلوب الوعظ:
واخلاصة:
ّ العامة
أسلوب الوعظ يناسب ّ
العامة فلتكن موعظته رَّ
ميسة قريبة ألفهامهم، املفس خياطب ّ -فإذا كان رّ ُ
وليجتنب اإلسهاب فيام ال يناسب أفهامهم من املسائل العلمية.
-وإذا كان خياطب طالب العلم وأهله؛ فليكن وعظه مبني ًا عىل حترير
علمي حسن ،وعناية بتقرير الفوائد السلوكية ،وإفادة املخاطبني بام ينفعهم
من النقول والتقريرات ولطائف االستدالالت.
- 54 -
للمفس مسألة حيتاج فيها إىل استخدام أسلوب التحرير
رّ وقد تعرض
العلمي يف الرسالة الوعظية؛ فيكون حتريره عىل مرتبتني بحسب املتلقني:
.1فإذا كان التفسري موجه ًا للعا ّمة فيكفي أن يذكر هلم اخلالصة يف
مسائل اخلالف القوي ،وأما مسائل اخلالف الضعيف فاألوىل أن ال يشري
إليه إال لفائدة عارضة.
.2وإذا كان التفسري موجه ًا لطالب العلم والدعاة والعلامء ّ
فيفصل فيه
بالقدر الذي حيتمله املقام ،وقد حيتاج إىل التفصيل يف بعض املسائل لدفع
إشكال ،أو بيان خطأ فهم شائع ،أو بيان ع ّلة قول مشتهر ال ّ
يصح ،ونحو
ذلك من غري أن خيرج عن مقاصد األسلوب الوعظي.
- 55 -
الأمثلة:
.1رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ﴾.
.2رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ﴾
التطبيق:
الوعظي.
ّ -اكتب رسالة تفسريية باألسلوب
- 56 -
املثال الأول :ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل:
﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾
�أما بعد:
فهذه تأمالت يف قول اهلل تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ﴾.
تضمنت دالئل عظيمة ولطائف بديعة ،تد ّبرها والتفكّر فيها هذه اآلية ّ
يزيد املؤمن إيامن ًا ويقين ًا وحم ّبة هلل تعاىل ،وبصرية يف دينه.
فمن ذلك تصدير اآلية باألمر بالتبشري؛ ملا للتبشري من أثر عظيم عىل
ينمي الرجاء يف القلب ويع ّظمه ،ويرشع أبواب النفس البرشية؛ فهو ّ
األمل ،ويعني عىل االجتهاد يف العمل ،ويدفع عن النفس كثري ًا من كيد
فإن عني البصرية إذا انفتحت عىل سبيل الشيطان وتوهينه وتضليله؛ ّ
الفضل والتكريم ،وأيقنت بحسن عاقبة سلوك هذا السبيل مل تلتفت إىل
غريه.
- 57 -
وتبشري اهلل تعاىل لعباده املؤمنني دليل من مجلة دالئل عىل عنايته تعاىل
هبم ،وحمبته هلم ،وهلذه العناية واملحبة آثارها العظيمة املباركة ،فهي حمبة
من ال يعجزه يشء ،وال خيفي عليه يشء ،وال يغيض من ملكه كثر ُة عطائه.
ومما يدل عىل تأكيد عناية اهلل تعاىل هبم وحمبته لتبشريهم؛ أنه كرر األمر
مرارا أن يبرشهم ،فورد قوله
عىل نبيه صىل اهلل عليه وسلم يف القرآن ً
تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ﴾ هبذا اللفظ يف القرآن يف مخسة مواضع ،وورد
أيضا يف موضعني﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ﴾ ،ويف موضعني﴿ :ﮚ ً
ﮛ﴾.
وما يقوم يف قلب املؤمن عند تل ّقيه البرشى من اهلل تعاىل ومن نب ّيه
جل وعال ،وقد تضافرت صىل اهلل عليه وسلم له اعتبار عظيم عند اهلل ّ
النصوص عىل أن تل ّقي البرشى بالقبول والشكر والفرح بفضل اهلل تعاىل
من دالئل اإليامن ومن موجبات رمحة اهلل تعاىل وحم ّبته ملن يقوم بقلبه تلك
العبادات التي حي ّبها اهلل.
أن اإلعراض عن تلك البرشى ،ومقابلتها بالتشكيك والتهوين، كام ّ
من دالئل مرض القلب ونفاقه ،واستحقاقه للحرمان من فضل اهلل تعاىل.
ّ
فإن نظر اهلل تعاىل إىل القلوب واألعامل ال إىل الصور واألجسام.
فاملؤمن الذي يتل ّقى البشارة التي تأتيه من اهلل بقلب منيب إىل اهلل فرح
بفضله ورمحته شاكر لنعمته يرجى له أن هيديه اهلل إىل فقه دالئل تلك
والتبص برشوطها وآثارها وآداهبا
رّ البرشى العظيمة ،ومعرفة مقاصدها،
فإن فقه ذلك من العلم اجلليل ،بلوما أراد اهلل تعاىل من عبده املؤمن هبا؛ ّ
خيتص اهلل به أهل البصائر وأويل األلباب
هو صفو العلم وخالصته ،الذي ّ
- 58 -
أجل املعاين، فإن اخلطاب يف القرآن أرشف اخلطاب ،ومعانيه ّ من عباده؛ ّ
وشأنه أعظم الشأن؛ فمن عقله وفقه دالئله ومقاصده فقد أويت عل ًام عظي ًام
وخري ًا كثري ًا.
وهذه اآلية قد اجتمع فيها عىل وجازة لفظها من اللطائف الدالة عىل
عظم هذه البرشى ما حيملنا عىل تد ّبرها والتفكر فيها وتذكري النفس
بمقاصدها ودالئلها حتى نكتسب اليقني بفضل اهلل تعاىل ،وأنه فضل
كبري؛ فيحملنا هذا اليقني املبني عىل حسن التصديق عىل السعي لتحقيق
تضمنت اآلية
الرشط الذي تُنال به هذه البشارة العظيمة ،وهو رشط قد ّ
بيانه.
توجه األمر بالتبشري إىل النبي صىلفأول اللطائف يف هذه اآلية؛ أن ّ
ّ :1
اهلل عليه وسلم ليب ّلغه أ ّمته ،وتعيني الرسول الكريم واسطة لتبليغ هذا
األمر دليل عىل عظم شأنه؛ فاألمور العظيمة يخُ تار لتبليغها العظامء.
وبش املؤمنني ّ
بأن هلم من اهلل فض ً
ال :2واللطيفة الثانية التوكيد ّ
بأن؛ رّ
كبري ًا ،والتوكيد له أثر ال خيفى عىل نفس املخاطب.
:3واللطيفة الثالثة :تقديم الالم املشعرة باالختصاص «هلم» ال لغريهم،
فهو فضل خاص باملؤمنني ،وهذه الالم مع داللتها عىل االختصاص ّ
تدل
عىل التمكني والتمليك بمقتىض هذا الوعد الكريم.
النص عىل ّ
أن هذا الفضل من اهلل تعاىل﴿ ،ﭪ :4واللطيفة الرابعةّ :
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾.
- 59 -
َ
دالئل عظيم َة فالنص بأن هذا الفضل من اهلل وبالصيغة املؤكدة حيمل
األثر يف قلوب املؤمنني:
• فمن ذلك :داللتها عىل أن هذا الفضل فضل عظيم ،جدّ عظيم؛ ألنه
فضل من اهلل ،وليس من غريه ،واهلل تعاىل عليم بام ُيريض عباده ،وما تقر
به عيوهنم ،وحتسن به عاقبتهم.
• ومن ذلك :داللتها عىل حمبة اهلل تعاىل هلم؛ بأن نص عىل أن هذا الفضل
خصهم به. منه -جل وعلاّ ،-وأنه اختصاص ّ
• ومن ذلك :حتصيل اليقني بقدرة اهلل تعاىل عىل الوفاء بام وعدهم من
الفضل الكبري؛ فإنّه وعد من قادر ال يعجزه يشء.
• ومن ذلك :أنه فضل يكفي عن وصفه وتعيني نوعه وأفراده ،أنه فضل
من اهلل؛ وكل عطية موعودة ،يزهنا الناس بقدر معطيها ،أال ترون أن الناس
والتجار ،ملظنة أن أعطياهتم جزلة
ّ يسترشفون ألعطيات الكرباء من امللوك
كثرية؟!
:5واللطيفة اخلامسة :التنكري يف قوله﴿ :ﭰ﴾ وهو تنكري إهبام
لغرض التفخيم والتعظيم.
يشوق النفس إليها.
وإهبام العطية املوعودة من قادر عليها ّ
أن ملك ًا من امللوك أو ثر ّيا من األثرياء وعد رج ً
ال بعط ّية فأهبمها فلو ّ
إهبام تفخيم؛ لعلم املوعود أنه إنام أهبمها لتعظيمها ،فيحصل له يقني
بعظمها بسبب هذا اإلهبام ،وتذهب آماله كل مذهب لثقته بقدرة ذلك
الثري عىل الوفاء باألعطيات العظيمة.
ّ امللك أو ذلك
- 60 -
ونحن نعلم أن هؤالء امللوك واألثرياء والكرباء ال يساوون يف ملك
اهلل عز وجل شي ًئا يذكر ،ولو اجتمعوا مجي ًعا من أول ما خلق اهلل الدنيا إىل
أن تقوم الساعة عىل أن يعطوا أعطية عظيمة؛ فإهنم لن يبلغوا يف ملك اهلل
تعاىل نقرة عصفور يف بحر عظيم ،وال ينقصون من ملك اهلل إال كام ينقص
املخيط إذا أدخل البحر ثم ُأخرج منه ،فهذا القدر من املاء الذي يعلق
باإلبرة ال يساوي شي ًئا يذكر بالنسبة للبحر العظيم ،فهذا مثل ما ينفقون
ولو اجتمعوا عليه بالنسبة لفضل اهلل تعاىل ،فام ظنكم بفضل اهلل العظيم؟
:6واللطيفة السادسة :التعبري عنه بلفظ الفضل؛ فسماّ ه فضالً؛ ألنهّ م
يمتازون به عن غريهم ،ويفضلوهنم به ،والفضل يف اللغة الزيادة يف اخلري.
يقال :رجل ذو فضل إذا كان له ما يفضل به غريه من أبواب اخلري؛ أي
يزيد به عىل غريه؛ من فضل مال أو جاه أو علم قال اهلل تعاىل﴿ :ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ﴾.
والنفس البرشية تتع ّلق بام ّ
حتب أن متتاز به من الفضل؛ فوعد اهلل عباده
ال كبري ًا. املؤمنني ّ
بأن هلم فض ً
:7واللطيفة السابعة :وصف هذا الفضل بأنّه كبري ،فمع ما تقدّ م من
نص هنا عىل وصفه بأنّه فضل اللطائف وداللتها عىل عظم هذا الفضل ّ
كبري ،وهذا الوصف يورث املؤمن يقينا بعظم هذا الفضل املوعود.
واملقصود أن التبشري هبذا الفضل ،وبيان اختصاصه باملؤمنني ،والنص
عىل أنه فضل من اهلل ،وإهبام هذا الفضل إهبام تعظيم وتفخيم؛ ووصفه بأنّه
كبري ،كل ذلك من دالئل تعظيمه لترشئب األعناق إليه ،وتتطلع النفوس
إليه ،ويزداد شوقها إليه ،وزادهم اهلل عز وجل بيانًا وتشويق ًا بأن وصف
هذا الفضل بأنه كبري﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾.
- 61 -
ف�ضائل الإميان
وما وعد اهلل به املؤمنني من الفضل العظيم منه ما بينّ يف نصوص
الكتاب والسنة ،ومنه ما أخفي تشويقا هلم ،وألن عقوهلم يف هذه احلياة
الدنيا ال حتتمله ،وأمانيهم ال تبلغه.
ومما حيسن أن نذكّر به أنفسنا ما ب ّينه اهلل تعاىل وب ّينه رسوله صىل اهلل
عليه وسلم من فضائل اإليامن يف الدنيا واآلخرة ،وهذا التذكر ينفع املؤمن
فيتبص وينيب إىل ر ّبه ،وجيتهد يف حتقيق اإليامن واستكامله.
رّ
وقد قال اهلل تعاىل﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗﯘ﴾.
فمام جعله اهلل للمؤمنني من الفضل الكبري:
:1أعىل الفضائل وأرشفها رؤيته ّ
جل وعال يف دار الكرامة.
:2ودخول جنّته دخول تكريم ،والتمتع بام فيها من النعيم ،واإلقامة
حتول عنها ،وال نكد فيها﴿ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ فيها إقامة دائمة ال ّ
ﮩﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮰﮱﯓﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ﴾.
:3ومن أعظم فضائل اإليامن :النجاة من سخط اهلل وعذابه ،بل جعل
اهلل تعاىل ذلك حق ًا أوجبه عىل نفسه كام قال اهلل تعاىل﴿ :ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾.
- 62 -
:4ومن ّ
أجل فضائل اإليامن وأرشفها :مع ّية اهلل تعاىل لعباده املؤمنني كام
قال اهلل تعاىل﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ ،وهذه املعية اخلاصة هلا آثارها
املباركة ،وأعظم آثارها حم ّبة اهلل تعاىل هلم وحفظه وتأييده.
:5ومن فضائل اإليامن :ما جعله اهلل لعباده املؤمنني ،من احلياة الط ّيبة
وقرة العني،املباركة بطمأنينة القلب ،وسكينة النفس ،وانرشاح الصدرّ ،
وكفايتهم ،والتك ّفل هلم بحسن عاقبتهم.
وإذا عىص العبد ر ّبه وأراد اهلل به خري ًا ّ
عجل له عقوبته يف الدنيا.
روى اإلمام أمحد وابن حبان واحلاكم والبيهقي عن عبد اهلل بن مغفل،
أن رجال لقي امرأة كانت بغيا يف اجلاهلية ،فجعل يالعبها حتى بسط
يده إليها ،فقالت املرأة :مه ،فإن اهلل عز وجل قد ذهب بالرشك وجاءنا
باإلسالم؛ فرتكها ووىل ،وجعل ينظر إليها حتى أصاب وجهه احلائط
فشجه؛ ثم أتى النبي صىل اهلل عليه وسلم ،فأخربه ،فقال« :أنت عبد أراد
َّ
اهلل بك خريا ،إذا أراد اهلل عز وجل بعبد خريا عجل له عقوبة ذنبه ،وإذا
أراد بعبد رشا أمسك عليه بذنبه حتى يواىف به يوم القيامة كأنه عري».
:6ومن فضائل اإليامن :ما أوجبه اهلل لعبده املؤمن من حرمة ح ّقه،
وتك ّفله بحفظ حقه واملدافعة عنه ،وانتصاره له ممن يظلمه ،أو يناله بكلمة
فكل ذلك حمفوظ للمؤمن ال فأكثر أو ييسء به الظ ّن به ،أو يكيده بمكيدةّ ،
يعجل اهلل لبعض املؤمنني بعض ح ّقهم من ذلك يف يضيع عند اهلل تعاىلّ ،
احلياة الدنيا ،ويدّ خره لبعضهم فيأتيهم موفور ًا يوم تنصب املوازين ،وقد
قال اهلل تعاىل﴿ :ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾.
- 63 -
:7ومن فضائل اإليامن :ما أكرم اهلل به عباده املؤمنني من إجابة دعواهتم
وذكره هلم إذا ذكروه ،كام قال تعاىل﴿ :ﯩ ﯪ﴾ ،وسامعه ملا يبثونه
من الشكوى واحلاجات ،وإجابته هلم يف صلواهتم؛ ورمحته إياهم؛ بكشف
الغم عنهم ،وهداية قلوهبم عند
كروهبم ،وإنزال السكينة عليهم ،وكشف ّ
نزول املصائب ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾.
:8ومن فضائل اإليامن :ما جعله اهلل من روابط األخوة اإليامنية بني
املؤمنني ،وهذه األخوة هلا حقوق وآثار مباركة ،فأوجب للمؤمن عىل
إخوانه حقوق ًا ،وأ ّدهبم يف معاملته واحلديث معه.
:9ومن فضائل اإليامن :ما فتحه اهلل للمؤمن من أبواب اخلري الكثرية،
حتى جعله له من كلامت يسرية يقوهلا أجور ًا عظيمة مضاعفة ،ومن
تأمل ما جعله اهلل من ثواب األذكار واألعامل الصاحلة واألجور العظيمة
املضاعفة عليها أدرك هذه احلقيقة ،وأهنا من دالئل حم ّبة اهلل تعاىل لعباده
خاص باملؤمنني،
ّ املؤمنني ،وحم ّبته ألن يستكثروا من فضله ،وهذا الفضل
فغري املؤمن لو عمل من هذه األعامل ما عمل مل يقبله اهلل منه.
أن املؤمن ما بقي صحيح اإليامن فإنّه :10ومن فضائل اإليامنّ :
يستجاب دعاء املؤمنني له ،دعاء املالئكة ودعاء األنبياء والصاحلني ،من
ّأول ما خلق اهلل اخللق إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها؛ فهذا الدعوات
كل عبد مؤمن صحيح اإليامن ،وحيرم منها من حرم اإليامن. املتق ّبلة يناهلا ّ
فهذه عرشة أنواع من فضائل اإليامن؛ ّ
كل نوع منها خري من الدنيا وما
فيها.
- 64 -
�شرط الفوز بالب�شارة يف هذه الآية:
أن هذه البرشى العظيمة بالفضل الكبري من اهلل تعاىل هلا واملقصود ّ
تضمنته هذه اآلية ،وهو رشط اإليامن؛ فمن كان مؤمنا كان من رشط قد ّ
أهل هذه البرشى العظيمة ،نسأل اهلل تعاىل أن جيعلنا من أهل اإليامن.
ومما ينبغي أن يعلم أن اإليامن يتفاضل ،فأعظم املؤمنني نصيب ًا من هذه
البرشى أحسنهم إيامن ًا ،واإليامن قول وعمل واعتقاد؛ وشأن إيامن القلب
عظيم وهو أصل صالح اجلوارح ،فإذا صلح القلب صلح سائر اجلسد،
وكم من األعامل التي تتشابه يف صورهتا الظاهرة ويكون تفاوت الناس
فيها عند اهلل تعاىل تفاوت ًا عظي ًام يف املح ّبة واألجر والتكريم.
ومن تأ ّمل فضائل اإليامن العظيمة ،وتأ ّمل عظيم اخلرسان ملن حرم هذه
الفضائل ،وسوء عاقبته ،علم سبب شدة خوف السلف رمحهم اهلل من أن
ُيسلب أحدهم اإليامن؛ فإن الفتن واملعايص قد تغري العبد فيسرتسل فيها
حتى يسلب اإليامن وينسلخ من الدين؛ فيشقى الشقاء العظيم ،والعياذ
باهلل تعاىل.
بل قد يقول املرء كلمة ال يلقي هلا باالً هيوي هبا يف جهنّم ،كام ّ
صح
بذلك احلديث عن أيب هريرة عن النبي صىل اهلل عليه وسلم ،يف صحيح
البخاري وغريه.
ويف صحيح مسلم من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه أن رسول اهلل
صىل اهلل عليه وسلم قال« :بادروا باألعامل فتنا كقطع الليل املظلم ،يصبح
الرجل مؤمنا ويميس كافرا ،أو يميس مؤمنا ويصبح كافرا ،يبيع دينه
بعرض من الدنيا».
- 65 -
وكان سفيان الثوري رمحه اهلل يبكي ويقول« :أخاف أن ُأسلب اإليامن
عند املوت».
ولذلك اشتدّ حتذير النبي صىل اهلل عليه وسلم وحتذير العلامء من
التهاون يف الذنوب واملعايص؛ فإن العبد ما دام مرصّ ا عىل ذنب فهو عىل
وتعرضه لذنوب أعظم بسبب هتاونه ّ خطر من عقوبته؛ ومرض قلبه،
يف ذلك الذنب وإرصاره عليه؛ فاملعايص بريد النفاق؛ ومن كثر غشيانه
تفش النفاق فيه ما
للمعايص حصل له من مرض القلب أو موته بسبب يّ
خيشى عليه أن يزيد به حتى يموت قلبه بالكلية ويسلب اإليامن عند املوت
والعياذ باهلل تعاىل.
قال ابن تيمية( :إذا أرص عىل ترك ما أمر به من السنة ،وفعل ما هني
عنه ،فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات ،حتى قد يصري فاسقا أو داعيا
إىل بدعة ،وإن أرص عىل الكبائر ،فقد خياف عليه أن يسلب اإليامن ،فإن
البدع ال تزال خترج اإلنسان من صغري إىل كبري ،حتى خترجه إىل اإلحلاد
والزندقة ،كام وقع هذا لغري واحد ممن كان هلم أحوال من املكاشفات
والتأثريات)ا.هـ.
تعجل،
وقال ابن القيم رمحه اهلل( :اعلم أن العقوبات ختتلف فتارة َّ
وتارة َّ
تؤخر ،وتارة جيمع اهلل عىل العايص بينهام.
وأشد العقوبات :العقوبة بسلب اإليامن ،ودوهنا العقوبة بموت القلب،
وحمو لذة الذكر والقراءة والدعاء واملناجاة منه ،وربام د َّبت عقوبة القلب
فيه دبيب الظلمة إىل أن يمتلئ القلب هبام؛ فتعمى البصرية.
- 66 -
وأهون العقوبة ما كان واقعا بالبدن يف الدنيا ،وأهون منها ما وقع
باملال)ا.هـ.
اللهم أحينا مؤمنني ،وتوفنا مؤمنني ،وأحلقنا بالصاحلني ،يا أرحم
الرامحني.
- 67 -
املثال الثاين :ر�سالة يف تف�سري قول اهلل تعاىل:
﴿ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾
أصدق عالمات اإلنابة :طمأنينة قلب املؤمن بذكر اهلل ،كام قال اهلل
تعاىل﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ
ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ﴾.
قال قتادة( :سكنت إىل ذكر اهلل واستأنست به) .رواه ابن جرير.
فطمأنينة القلب بذكر اهلل :سكونه واستئناسه ورضاه بسبب ذكر اهلل
دل عليه. وما َّ
والباء فرست بالسببية واملصاحبة واملالبسة واالستعانة والتربك ،وكلها
معان صحيحة تتسع هلا داللة هذا احلرف. ٍ
ٍ
ملعان عظيمة، وهذه العالمة [طمأنينة قلب املؤمن بذكر اهلل] جامعة
فس به ِذكْر اهلل هنا: ّ
يدل عليها ما رّ
فقيل :الذكر :هو القرآن.
وقيل :الذكر هو ذكر العبد ر َّبه بلسانه.
وقيل :الذكر هو ذكر العبد ر َّبه يف نفسه.
وقيل :الذكر هو التذكر الذي ينتفع به العبد من تفكره يف آيات اهلل
وخملوقاته.
- 68 -
جل وعال، وكل هذه املعاين صحيحة وهي من مدلول معنى ذكر اهلل َّ
وي ِزعه ثم َذك ََر ِ
وهبا حتصل طمأنينة القلب؛ فإن املؤمن إذا دمهه ما ُيزْع ُجه جُ ْ
ر َّبه يف نفسه وعلم أن له ر ّبا سميع ًا بصري ًا رحي ًام ودود ًا ال خيفى عليه يشء
وال يعجزه يشء وال خيذل أولياءه وال يتخلىَّ عنهم ،بل هيدهيم وينرصهم
اطمأن قل ُبه ملا تذكَّر من أسامء اهلل وصفاته وآثارها التي ال َّ وحيفظهم
تتخلف عنها.
ذكر َو ْعدَ اهلل تعاىل ملن اتبع هداه أن ال خياف وال حيزن وأن ال يضل
-وإذا َ
وال يشقى ،وأن اهلل مع عباده املؤمنني املتقني حيبهم ويؤيدهم وينرصهم،
َّ
اطمأن قلبه بذكر اهلل ،وصدق وعده. وخيرجهم من الظلامت إىل النور:
-وإذا تال آيات اهلل وجد من نفسه طمأنينة هلا وفرح ًا هبا ورضا ينرشح
به الصدر وتسكن به النفس فيطمئ ُّن القلب بذكر اهلل الذي أنزله عىل
عباده؛ فيتبع العبد ما فيه من اهلدى ،ويعترب بام فيه من العرب واملواعظ،
ويعقل ما فيه من األمثال ،فيثبت بإذن ربه عىل احلق واهلدى فيزيده اهلل
ال وثبات ًا عىل احلق.
هدى وفض ً
تأمل آيات اهلل الكونية واعترب بام فيها من العرب العظيمة َّ
وتعرف -وإذا َّ
هبا عىل أسامء اهلل وصفاته ،وأن من خلق هذا الكون العظيم فإنه أعظم
منه ،ومن سيرَّ هذه األفالك العظيمة بنظام دقيق عجيب حمكم حكيم
عليم قدير ،وأن من يد ّبر أمور الكائنات عىل كثرهتا اهلائلة وتنوعها العظيم
واختالفها وتزامنها ال يشغله شأن عن شأن ،وال يعجزه يشء ،وال خيفى
عليه يشء.
- 69 -
وال يزال يتفكر يف نفسه ويف اآلفاق ويف ما يراه من عجائب خلق اهلل
تعاىل للكائنات وتدبريه ألحواهلا وتقديره ألوصافها وقسمه ألقواهتا
وأرزاقها وطبائعها وأخالقها.
فيكون هذا التفكر دلي ً
ال يذكّره باهلل فيطمئ ّن قلبه بذكر اهلل ،ويثمر له
هذا التفكر والتذكر ما يثمر من خشية اهلل واإلنابة إليه وتعظيمه وحمبته
واخلضوع ألمره ،وإخالص العبادة له وحده ال رشيك له.
ّ
ويدل عىل هذا املعنى قول اهلل تعاىل﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭹﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ﴾.
وقوله تعاىل﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾.
جل وعال َع َص َمه اهلل من كيد -وإذا َذك ََر العبدُ ر َّبه بلسانه مؤمن ًا باهلل َّ
الشيطان الوسواس اخلناس الذي يوسوس فإذا ذكر العبد ر َّبه خنس،
ِ
رش وسوسة نفسه األمارة بالسوء ورش وسوسة شياطني َو ُوقي أيض ًا َّ
اإلنس واجلن ،وإذا اندفعت هذه الوساوس عن القلب و ُعصم العبد من
رشها اطمأن القلب لعصمته من األذى الذي كان يزعجه ويقلقه؛ فإن ما
معان متقاربة من التحزين والتيئيسٍ حيجب الطمأنينة عن القلب راجع إىل
والتشكيك والتخويف وكلها إنام مصدرها رشور النفوس ووساوس
جل وعال.الشياطني؛ فإذا ُعصم العبد منها بقي القلب مطمئن ًا بذكر اهلل َّ
- 70 -
حق التأمل وجدهتا من أظهر عالمات اإلنابة
وهذه املعاين إذا تأملتها َّ
إىل اهلل تعاىل.
وأن الشقي املحروم هو املعرض عن ذكر ربه ،الذي إذا ذكر اهلل ْاش َم َأ َّز
قلبه ،وإذا تليت عليه آياته أعرض عنها؛ فهذا من املجرمني كام قال اهلل
تعاىل﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ﴾.
ومن تأ َّمل العقوبات التي جعلها اهلل ملن أعرض عن ذكره علم شدة
انتقام اهلل َّ
جل وعال ممن ال ُينيب إليه وال يطمئ ّن قلبه بذكره.
قال اهلل تعاىل﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾.
فتأ ّمل شدة هذه العقوبة ،وكيف أهنا يف مقابل ما يم ّن اهلل به عىل أهل
اإلنابة واخلشية من فهم القرآن وفقهه واالنتفاع به.
وقال تعاىل﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾.
فانظر حفظني اهلل وإياك ووقانا أسباب سخطه ونقمته عظم هذا الذنب
وهو عمل قلبي وكيف أنه سبب هلذه العقوبات العظيمة من الشقاء
واخلذالن ،وتسلط الشياطني ،واحلرمان من اهلدى واالنتفاع بالقرآن،
وسبب ذلك :اإلعراض عن ذكر اهلل.
وعالجه :اإلنابة إىل اهلل تعاىل ،وطمأنينة القلب بذكره.
- 71 -
وتقديم اجلار واملجرور يف قوله تعاىل﴿ :ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ
ﰓﰔ﴾ يدلك عىل أن القلوب ال طمأنينة هلا عىل احلقيقة إال بذكر
اهلل َّ
جل وعال؛ الذي هو ربهّ ا وخالقها ومعبودها احلق ال إله إال هو.
وأن ما حيصل ألهل املعصية واإلعراض من الفرح واالنبساط إنام َّ
هو سكرة نفسية وخ َّفة شيطانية كام يسكر صاحب ّ
اهلم باخلمر فيجد هلا
انبساط ًا فإذا صحا من سكرته عاد إليه َكدَ ُره ،وحضرَ َ ُه ضي ُقه و ُّ
مهه أشد مما
مثل ِه أو أشد.
كان عليه؛ فيدفع أثر السك ِْر بِسك ٍْر ِ
ُ ُّ
- 72 -
الباب الرابع :الأ�سلوب اال�ستنتاجي
- 74 -
َ
املخاطبون بالأ�سلوب اال�ستنتاجي:
عا ّمة املخاطبني هبذا األسلوب هم من أهل العلم وطالبه ،ولذلك
ينبغي أن تكون لغة اخلطاب يف هذا األسلوب لغة علمية رصينة ،وأن
املفس من املسائل والفوائد وجه ًا صحيح ًا يف االستدالل
يكون ملا يذكره رّ
والتمحل ،والترسّ ع بإطالق األحكام
ّ واالستخراج ،وأن يتجنب التك ّلف
نظر يف موافقتها للنصوص ومقاصد الرشيعة ،ولذلك والدعاوى من غري ٍ
املفس ما استخرجه من املسائل والفوائد عىل النصوصينبغي أن يعرض رّ ُ
فام خالفها فهو مردود.
- 75 -
ثم أتى بعدهم :عبد الرمحن السعدي ،وعبد الرمحن املع ّلمي ،وحممد
ّ
األمني الشنقيطي ،وابن عثيمني.
وهلؤالء العلامء وغريهم يف كتبهم ورسائلهم ما ّ
يدل عىل براعتهم يف
استخراج املسائل والفوائد واألحكام واللطائف.
املفسين يستعمله يف تفسري بعض اآليات من تفسريه فيم ّيزها
وبعض رّ
بمزيد عناية كام استنبط السعدي يف تفسريه آلية الوضوء نحو مخسني فائدة؛
فخرج يف هذا املوضع عن طريقته التي انتهجها يف تفسريه إىل األسلوب
االستنتاجي.
وله رسالة يف استنباط مائة فائدة من قصة يوسف ،ولتلميذه الشيخ
حممد العثيمني رمحه اهلل عناية حسنة هبذا األسلوب يف مواضع من تفسريه.
ومن أمثلة ما كُتب هبذا األسلوب:
.1الفوائد املستفادة من قول اهلل تعاىل﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ﴾ البن الق ّيم رمحه اهلل
.2تفسري صدر سورة املدثر لشيخ اإلسالم حممد بن عبد الوهاب.
.3تفسري آية الوضوء للشيخ عبد الرمحن بن نارص السعدي رمحه اهلل.
.4القسم الثاين من تفسري آية الكريس للشيخ حممد بن صالح العثيمني.
- 76 -
�أمثلة:
.1فوائد سلوكية من قول اهلل تعاىل﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾.
.2تأ ّمالت يف قول اهلل تعاىل﴿ :ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ﴾.
التطبيق:
-اكتب رسالة تفسريية باألسلوب االستنتاجي.
- 77 -
املثال الأول :فوائد �سلوكية من تف�سري قول اهلل تعاىل:
﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾...
احلمد هلل الذي له املحامد كلها ،عىل كرمه وعلمه ،وعىل عفوه وحلمه،
وعىل هدايته وتوفيقه ،والصالة والسالم عىل خري عباده ،وصفوة أوليائه،
نبينا حممد وعىل آله وصحبه وأتباعه أما بعد:
فهذه فوائد سلوكية من تدبر قول اهلل تعاىل﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ
تضمنه من هدايات جليلة القدر عظيمة النفع ملن و ّفقه
ﰂ﴾ وبيان ما َّ
اهلل:
رس السعادة وسبب الفوز تضمن هذه اآلية الكريمة بيان ّ ّ فمنها:
والفالح يف الدنيا واآلخرة ،وهو االستجابة هلل تعاىل؛ فاملستجيب هو
حل ْسنى.
السعيد الذي له كتب اهلل له ا ُ
ومنها :ما يف هذه اآلية ضامن كريم ووعد صادق من اهلل تعاىل – واهلل ال
خيلف امليعاد -أن من استجاب له تعاىل فسيكون يف أحسن حال.
حلسنى يف اآلية عا ّم للحال واملآل عىل أظهر أقوال ومنهاَّ :
أن وصف ا ُ
املفسين.
رّ
حلسنى» الرصيف عىل « ُف ْعىل» ٌّ
دال عىل بلوغ الغاية ومنهاَّ :
أن بناء لفظ «ا ُ
والوثقى والعظمىاحلسن حسن احلال وحسن اجلزاء ،كام يقال :املثىل ُ ِ يف
والكربى للداللة عىل بلوغ منتهى الغاية يف ذلك.
- 78 -
ومنها :أن هذا اجلزاء منحة خاصة ألهل االستجابة ال يشاركهم فيها
غريهم؛ فلهم هبا أعظم االمتياز عن غريهمَّ ،
دل عىل ذلك تقديم اجلار
واملجرور ﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾.
فدل ذلك عىل سبق بيان ومنها :أن االستجابة ال تكون إال بعد دعوة َّ
اهلدى؛ وتك ّفل اهلل تعاىل به يف كل ما حيتاجه العبد وإنام عليه االستجابة.
ومنها :أن هذا الثواب عام يف الدنيا واآلخرة ،وسيجد املستجيب لربه
أحسن ما ُينال وأفضله يف امليزان الصحيح.
ومنها :أن اقرتان ذكر االستجابة بوصف الربوبية له دالالت عظيمة:
إحداها :أنه تعاىل هو ّ
رب املستجيبني ربوبية خاصة متأل قلوهبم ثقة
وطمأنينة بحسن هداه وصدق وعده.
والثانية :أنه تعاىل أعلم بام يصلح عباده وأرحم هبم من أنفسهم؛ فقد
يمنعهم بعض ما يشتهونه وقاية هلم مما يفيض إىل شقاوهتم وهالكهم.
والثالثة :أنه تعاىل هو ّ
الرب الكفيل ببيان هداه وإنجاز وعده.
أن املستجيب الصادق سيجد العون عىل االستجابة لر ّبه ّ
جل والرابعةَّ :
وعال.
ميسة ال حرج فيها َّ
دل عىل ذلك ومن الفوائد أيض ًا :أن هذه االستجابة رَّ
استصحاب أصل رفع احلرج يف ّ
كل ما يأمر اهلل به عباده.
ومنها :أن استجابة العبد جيب أن تكون خالصة لربه ّ
جل وعال ﴿ﯿ
دل عىل ذلك معنى االختصاص يف حرف الالم يف قوله ﰀ ﰁ﴾ ّ
تعاىل﴿ :ﰁ﴾ أي ال لغريه؛ فيعمل الطاعات امتثاالً ألمر اهلل وابتغاء وجهه.
- 79 -
دل عىل ذلك ومنها :أن استجابة العباد لربهّ م عىل درجات متفاوتةّ ،
ظهور التفاوت يف حتقيق االستجابة؛ فمن املستجيبني من هو حمسن يف
استجابته مسارع هبا إىل اهلل تعاىل؛ فله أحسن اجلزاء وأحسن العاقبة ،ومنهم
املقتصد الذي يستجيب استجابة تربأ هبا ُعهدته ،فينال بذلك حسن ثواب
املتّقني ،ومنهم الظامل لنفسه الذي يف استجابته نقص وتفريط؛ فيستجيب
ويقص يف بعض ما جيب عليه فيام
رّ له يف أصل الدين وما حيفظ به إسالمه
وراء ذلك؛ فله من حسن العاقبة ما وعد اهلل به أهل اإلسالم من النجاة
عذب.من النار ودخول اجلنّة وإن ُع ّذب قبل ذلك ما ّ
فهؤالء كلهم من أهل االستجابة ،والتفاضل بينهم يف احلال واجلزاء
عظيم كام تفاضلوا يف االستجابة.
فتبينّ بذلك أن أسعد الناس بأحسن األحوال واجلزاء أحسنهم استجابة
لربه ّ
جل وعال.
وأ ّما الذين أخرب اهلل عنهم بقوله﴿ :ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ
ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ﴾ فهم الذين مل يستجيبوا له يف أصل الدين وهم
الكفار واملنافقون ،والعياذ باهلل.
أن العبدَ لو تأ ّمل أسباب شقائه وسوء حاله لوجده راجع ًا إىل ومنهاَّ :
أصل واحد ،وهو تقصريه يف استجابته لربه فساءت حاله ملا أساء.
ب أن ِ ومنهاَّ :
أن كل أمر يعرتض العبد يقابله هدى من اهلل تعاىل حُي ُّ
عرض نفسه يستجاب له فيه؛ فمن استجاب فاز باحلسنى ومن أعرض ّ
لسوء احلال والعقاب.
- 80 -
ومنهاَّ :
أن يقني العبد بأن مدار سعادته وفوزه وفالحه عىل استجابته هلل
تعاىل جيعله دائم الفكر فيام يريض ربه وما حيب أن يستجاب له فيه ،وهنا
رس العبودية.
ومنها :أنَّه من ا ُمل َحال رشعا وعق ً
ال عند أهل العلم واإليامن أن تكون
عاقبة املستجيب لربه سيئة ،فمن أيقن هبذا أحسن الظ ّن باهلل ،وريض به
وتيس له حتقيق التوكل. ر ّبا ،رّ
فهذه بضع عرشة فائدة سلوكية يف قوله تعاىل﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ
تبص هبا وفقه معانيها وعرف قدرها تب َّينت له مناسبة قول
ﰂ﴾ من رَّ
اهلل تعاىل يف اآلية التي تليها﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾.
هذا مما فتح اهلل تعاىل به من بيان بعض ما تضمنته هذه اآلية من الفوائد
السلوكية عىل تقصري يف الرشح وقصور يف التعبري عن دالئل هذه الكلمة
العظيمة ،أسأل اهلل تعاىل أن يتقبلها ويبارك فيها إنه محيد جميد.
وأستغفر اهلل تعاىل من اخلطأ والزلل ،وصىل اهلل وس ّلم عىل نب ّينا حممد
وعىل آله وصحبه.
- 81 -
املثال الثاين :ت�أمالت يف قول اهلل تعاىل:
﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾
تضمنت هذه اآلية اجلليلة عىل وجازة ألفاظها آداب جمادلة أهل
الباطل ،وبيان رشوط متام الغلبة ،والتنبيه عىل العلل التي يخُ ذل هبا بعض
وتضمنت وعد ًا بكرامة عظيمة ملن التزموا هذه اآلداب وحققوا
ّ املجادلني،
تلك الرشوط.
:1فأول هذه اآلداب أن يستشعر املجادل أن الذي يقذف هو اهلل ،وأنه
جمرد سبب وأداة ُينرص هبا احلق ،وغاية ما يرجو من الرشف أن يكون سبب ًا
صاحل ًا؛ فإن اهلل تعاىل أسند القذف إليه ،وقال يف حماجة إبراهيم لقومه:
﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾.
ومن ظ َّن أنه هو الذي يستعيل بحجته ودهائه وتفننه يف أساليب البالغة
فليشفق عىل نفسه من اخلذالن واالستدراج ،وذلك لضعف توكله عىل
اهلل واستعانته به ،ويكثر يف هذا الصنف أهنم إذا حصل هلم يشء من العلو
الظاهر لضعف اخلصم أصاهبم من الزهو والعجب ما يذهب األجر
وجيلب املقت.
وهذا األدب اجلليل حيمل العبد عىل حتقيق التوكل عىل اهلل واالستعانة
به ،والتواضع جلالله وعظمته ،واستلهام هدايته وتوفيقه ،وأن يستشعر
العبد أنه جندي من جنود احلق؛ يرشف هبذه النسبة ،ويطمئن لضامن اهلل
الغلبة جلنده؛ فيعتقد أن اهلل حسبه وكافيه.
- 82 -
فيكون أكثر ما خيشاه أن يستزله الشيطان ببعض ما كسب؛ فيدفعه
ذلك لتحقيق االستقامة وإتباعها باالستغفار وتكرار التوبة؛ فاملصاولة
العلمية ال تقل عن املصاولة عىل أرض القتال؛ وقد أثنى اهلل عىل املحسنني
يف اجلهاد بقوله﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱﯲ ﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺ ﯻﯼ
ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾.
فهؤالء من املحسنني يف جهادهم.
صح يف قلب املؤمن املجادل باحلق أثمر فيه عبادات :2أن هذا املقام إذا ّ
قلبية عظيمة من املح ّبة واخلوف والرجاء واخلشية واإلنابة والتوكل
واالستعانة واالستعاذة وغريها فتجتمع يف قلبه اجتامع ًا حسن ًا ،وهذه
صح عن النبيأحب إىل اهلل تعاىل من أعامل العبد الظاهرة ،وقد ّّ األعامل
صىل اهلل عليه وسلم ّ
أن اهلل ينظر إىل القلوب
كام يف صحيح مسلم من حديث أيب هريرة ريض اهلل عنه أن النبي صىل
اهلل عليه وسلم قال« :إن اهلل ال ينظر إىل صوركم وأموالكم ولكن ينظر إىل
قلوبكم وأعاملكم».
:3أن يتمحض املؤمن املجادل للحق ،ويكون رده عىل حمض الباطل؛
ولذلك قد يتجادل خصامن مع أحدمها حق كثري وباطل قليل ،واآلخر
بعكسه؛ فال (يدمغ) أحدمها اآلخر ،وإنام يدمغ حق كل منهام باطل
صاحبه؛ فإن يف احلق قوة ال تقبل اإلزهاق وإن كان مع صاحبه باطل كثري.
وقد قال النبي يف الشيطان وهو رأس الباطل« :صدقك وهو كذوب».
- 83 -
ولذلك فإن من اإلنصاف اعرتافك باحلق الذي قال به خصمك يف
املجادلة وإن كان قليالً ،ثم ترد باطله ،وأما ردك حقه بحجة كثرة باطله
فهو نوع مكابرة قد ختذل بسببها ،وقد يتأخر النرص.
:4أن يتوجه املجادل باحلجة عىل أصل الباطل ﴿ﮗ﴾ وال ينشغل
باألطراف والقضايا اجلانبية التي لو بينَّ بطالهنا بقي غريها ومنبعها الذي
يو ّلد أطراف ًا أخرى.
:5احلق فيه ّ
علو مالزم له ،والباطل سافل بذاته ،وإنام يرتفع باإلثارة؛
كالغبار والدخان إذا أثريا آذا وأزكام وربام حجبا رؤية احلق عن الذين ال
يعرفون معامله؛ فإذا ُعرف مصدر إثارة الباطل ،ووجهت إليه قذيفة احلق
عاد الباطل إىل أصله ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾.
بعلو احلق وقوته تكسبك طمأنينة وثقة ومتاسك ًا وثباتا :6معرفتك ّ
يفتقده املجادل بالباطل ،فإن املجادل بالباطل متح ّفز لنرصة باطله دائب
عىل إثارته حتى ال خيبو فيعود ألصله ،فهو مالزم للقلق واالضطراب
والتخوف ،وأما صاحب احلق فإنه ينظر إىل الباطل من علو فيعرف مصدر
إثارته وأصل شبهته فيوجه إليه قذيفة احلق فيدمغه.
لعلو صاحبه ،وما الناس إال فريقان :فريق هم أهل :7علو احلق مستلزم ّ
احلق ،وفريق هم أهل الباطل ،فمن كان من أهل احلق القائمني به كان موعود ًا
بالعزة والرفعة والعلو كام قال اهلل تعاىل﴿ :ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ﴾.
وملا َأ ِذن اهلل تعاىل بالقتال يف سبيله وحث املؤمنني عليه ووعدهم بالنرص
ع َّلل ذلك بقوله﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾.
- 84 -
فكونه تعاىل هو احلق يقتيض أن ال يقر الباطل؛ بل ال بد أن ينرص احلق
ويعليه عىل الباطل.
َو َختْم اآلية باالسمني اجلليلني ﴿ﯘ ﯙ﴾ هلام أثرمها العظيم يف
بيان هذا التعليل؛ فهو العيل بذاته وأسامئه وصفاته ،ودينه أعىل األديان،
وعباده املؤمنون هم األعلون ،ومن سواهم فهم األذلون األرذلون ،وال
يمكن أن يغلب األذل األعز ،واال األدنى األعىل.
وهو ﴿ﯙ﴾ الذي ال أكرب منه؛ فهو أكرب من كل يشء بذاته
وصفاته ،وهذه الصفة اجلليلة تستلزم ما تستلزم من صفات جليلة أخرى
كالقوة والقدرة والقهر واجلربوت وامللكوت وشدة البطش وغريها.
فكونه العيل يقتيض عدم خذالهنم.
وكون الكبري يقتيض عدم عجزه عن نرصهتم.
فتحصل للمؤمن بذلك سكينة وطمأنينة بانتصار احلق وعلوه وغلبة
جند اهلل تعاىل.
وهذه التهيئة النفسية هلا أثر عظيم يف حسن اإلعداد للجهاد ،وأخذ
العدة له ،والتبرص بمواضع قوة اخلصم ومصادر إمداده ،فيوجه عنايته
إليه.
للحق ،وكان دفعه ملحض الباطل رشف بالنسبة إىل ّ متحض :8أن من ّ
حزب اهلل تعاىل وكان ول ّيا من أولياء اهلل ّ
فإن اهلل تعاىل هو احلق ،وهو يتولىّ
أهل احلق.
- 85 -
احل َجاج
الباب اخلام�س� :أ�سلوب ِ
- 87 -
�آداب �أ�سلوب احلجاج:
نت
املفس أن يعتني بمراعاهتا ،وقد ب ّي ُ
هلذا األسلوب أحكام وآداب عىل رّ
بعضها يف رسالة تقدمت اإلشارة إليها بعنوان :تأمالت يف قول اهلل تعاىل:
﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾.
- 88 -
وهذه األدوات العلمية من أهم ما حيتاج إليه طالب العلم يف املناظرة
واملجادلة ،ويستعمل العلامء بعضها يف عدد من العلوم مع اختالف يف
التطبيق يف كل علم.
-فالسرب والتقسيم يف علم اجلدل واملناظرة يراد به حرص األقوال
املمكنة يف املسألة بطريقة من طرق احلرص كالقسمة العقلية أو االستقراء
التام أو غريمها؛ وهذا اجلزء هو التقسيم ،والسرب أن يأيت إىل ّ
كل قول منها
فيبطله بام يظهر به بطالنه إىل أن يبقى قول واحد هو احلق.
وتسمى هذه الطريقة أيض ًا بالتقسيم والرتديد ،وتسمى يف علم املنطق
بالرشطي املنفصل.
ويم ّثل مجاعة من العلامء هلذه األداة بقول اهلل تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ فحرصت االحتامالت يف ثالثة؛ األوالن مذكوران
بام يبطلهام وهو االستفهام اإلنكاري ،والثالث هو احلق.
فاالحتامل األول :أهنم ُوجدوا من غري خالق هلم ،وهذا ظاهر البطالن؛
متفق عىل بطالنه.
واالحتامل الثاين :أهنم هم الذين خلقوا أنفسهم ،وهذا باطل أيض ًا
ببداهة العقل أن املعدوم ال خيلق نفسه.
فتعينّ االحتامل الثالث ،وهو ّ
أن هلم خالق من غري أنفسهم ،وهو اهلل
جل جالله. ّ
فهذا هو املراد بالسرب والتقسيم هنا ،واألصوليون هلم اصطالح خاص
يف السرب والتقسيم ،وهو عندهم من طرق استنباط علة احلكم ،ويكون
- 89 -
بحرص أوصاف األصل املقيس عليه بطريقة من طرق احلرص ثم إبطال ما
ال يصلح علة بطريقة من طرق اإلبطال ،وهو من أنواع تنقيح املناط.
وهذه األداة العلمية مستعملة يف عدد من العلوم ،استعملها الفقهاء يف
مناظراهتم وردودهم ،واستعملها النحاة والرصفيون يف مسائل اخلالف
ويف علل النحو والترصيف كام فعل ابن األنباري وابن احلاجب وغريمها.
واستعملها عدد من األئمة يف مناظراهتم ألهل البدع واألهواء.
وهي طريقة عقلية إلقامة احلجة وإبطال االحتامالت الباطلة ليتعينّ
االحتامل الصحيح ،وهلذه الطريقة أصل يف الكتاب والسنة يف مواضع
كثرية.
ومن األمثلة احلسنة لتوضيح تطبيق هذه األداة يف التفسري ما ذكره األمني
الشنقيطي رمحه اهلل يف تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﭑ ﭒﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ﴾.
قال رمحه اهلل( :والتقسيم الصحيح يف هذه اآلية الكريمة حيرص أوصاف
املحل يف ثالثة ،والسرب الصحيح يبطل اثنني منها ويصحح الثالث.
وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل احلجر يف دعواه :أنه ُيؤتى يوم القيامة
ماالً وولد ًا.
أما وجه حرص أوصاف املحل يف ثالثة فهو أنا نقول :قولك إنك تُؤتَى
ماالً وولد ًا يوم القيامة ال خيلو مستندك فيه من واحد من ثالثة أشياء:
األول :أن تكون اطلعت عىل الغيب ،وعلمت أن إيتاءك املال والولد
يوم القيامة مما كتبه اهلل يف اللوح املحفوظ.
- 90 -
والثاين :أن يكون اهلل أعطاك عهد ًا بذلك ،فإنه إن أعطاك عهد ًا لن
خيلفه.
الثالث :أن تكون قلت ذلك افرتا ًء عىل اهلل من غري عهد وال اطالع
غيب.
وقد ذكر تعاىل القسمني األولني يف قوله﴿ :ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ال هلام بأداة اإلنكار ،وال شك أن كال هذين القسمني ﭠ ﭡ﴾ ،مبط ً
باطل؛ ألن العاص املذكور مل يطلع الغيب ،ومل يتخذ عند الرمحن عهدا،
فتعني القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افرتا ًء عىل اهلل ،وقد أشار تعاىل إىل
هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله﴿ :ﭢ﴾،
أي :ألنه يلزمه ليس األمر كذلك ،مل يطلع الغيب ،ومل يتخذ عند الرمحن
ال مل يستوجبعهد ًا ،بل قال ذلك افرتا ًء عىل اهلل ،ألنه لو كان أحدمها حاص ً
الردع عن مقالته كام ترى)ا.هـ.
توسع رمحه اهلل يف التمثيل هلذه القاعدة ورشحها رشح ًا حسن ًا يف
وقد ّ
تفسريه لسورة مريم؛ فلرياجعها من أراد االستزادة.
وأما طريقة املنع والتسليم؛ فهي طريقة مناسبة للرد عىل اعرتاضات ّ -
املبطلني عىل دالالت األدلة الرشعية ونفيها وتأويلها ودفع ما يوردونه
من الشبه ،وهذه الطريقة استعملها بعض األئمة يف الر ّد عىل أهل البدع،
وقد أكثر الشيخ ابن عثيمني -رمحه اهلل -من استعامهلا يف رشحه للعقيدة
الواسطية ،ومن أمثلة ذلك قوله يف الرد عىل نفاة صفة املحبة هلل تعاىل من
املتكلمني بدعوى أن العقل ال ّ
يدل عليها.
- 91 -
قال رمحه اهلل( :ونحن نرد عليهم فنقول :نجيبكم عن األول ،وهو أن
العقل ال يدل عليها بجوابني:
أحدمها :بالتسليم.
والثاين :باملنع.
التسليم :نقول :سلمنا أن العقل ال يدل عىل املحبة ،فالسمع دل عليها،
وهو دليل قائم بنفسه ،واهلل عز وجل يقول يف القرآن﴿ :ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ﴾ ،فإذا كان تبيان ًا ،فهو دليل قائم بنفسه( ،وانتفاء
الدليل املعني ،ال يلزم منه انتفاء املدلول) ،ألن املدلول قد يكون له أدلة
متعددة ،سواء احلسيات أو املعنويات؛ فاحلسيات :مثل بلد له عدة طرق
توصل إليه ،فإذا انسد طريق ذهبنا مع الطريق الثاين.
أما املعنويات ،فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة ،وجوب الطهارة
للصالة مث ً
ال فيه أدلة متعددة.
فإذ ًا ،إذا قلتم :إن العقل ال يدل عىل إثبات املحبة بني اخلالق واملخلوق،
فإن السمع دل عليه بأجىل دليل وأوضح بيان.
اجلواب الثاين :املنع :أن نمنع دعوى أن العقل ال يدل عليها ،ونقول:
بل العقل دل عىل إثبات املحبة بني اخلالق واملخلوق ،كام سبق)ا.هـ.
وتدرب طالب العلم عىل إحسان استعامهلا يفيده كثري ًا يف الر ّد عىل ّ
إيرادات أصحاب ُّ
الش َبه واألقوال الباطلة.
- 92 -
وأما براعة التعليل؛ فاملراد هبا هنا أمران:
ّ -
ويتعرف احلامل له
ّ أحدمها :أن يستخرج املناظر ع ّلة قول خصمه،
فإن ما يورده املبطل من األدلة والشبه واالعرتاضات يشء، عىل قوله؛ ّ
واحلامل له عىل ذلك قد يكون شيئ ًا آخر؛ فالتعرف عىل العلة احلقيقية
يفيد تركيز القول عىل ما تُعالج به هذه العلة ،واستعامل األسلوب األمثل
هلا ،واختصار كثري من الكالم ،وهذا له أمثلة من القرآن الكريم منها
قوله تعاىل﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ ،وقال تعاىل﴿ :ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾.
واملعنى اآلخر :أن يورد املبطل لشبهته حججا فيستخرج املناظر الع ّلة
التي بنى عليها هذا املبطل حججه ،وينقضها ،ومن أمثلة ذلك يف القرآن
قوله تعاىل﴿ :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ فهذه ثالثة إيرادات بنوها عىل أهنم
ّنزلوا أنفسهم منزلة اخلبري بام يأيت من عند اهلل؛ فحكموا عىل ما أتى به
النبي صىل اهلل عليه وسلم بأنّه إفك مفرتى ،وأنه إنام يريد أن يصدّ هم
عام يعبد آباؤهم وهذا تعريض باتهّ امه بطلب رصف الوجوه إليه ،وأن
سحر سحرهم به؛ وهذا ِكبرْ ٌ بالغ
ٌ تأثريه عىل من اتّبعه من املؤمنني إنام هو
نقض اهلل عليهم أساسه بقوله﴿ :ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ﴾ فلم يأهتم رسول قبل النبي صىل اهلل عليه وسلم
- 93 -
وليس لدهيم كتاب من عند اهلل حيكمون به عىل ما خالفه بأنه إفك مفرتى؛
فسقطت حججهم وادعاءاهتم ملا سقط أصلها الذي ُبنيت عليه.
-ومن الطرق املتّصلة هبذه الطريقة :طريقة نقض الع ّلة؛ وهي أن يبني
حجته عىل ع ّلة؛ فينقضها املجادل باحلق فينكشف زيف املبطل، املبطل ّ
ومن أمثلة ذلك قول اهلل تعاىل﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾.
وأما إعامل املفهوم؛ فاملفهوم منه مفهوم موافقة ومفهوم خمالفة؛ فأ ّما
ّ -
مفهوم املوافقة فيسميه بعضهم فحوى اخلطاب ،ويستفاد منه إثبات حكم
املسكوت عنه بام يوافق حكم املنطوق ،ويم ّثلون له بقوله تعاىل﴿ :ﮧ ﮨ
كالسب والشتم
ّ ﮩ ﮪ﴾ عىل حتريم اإليذاء بام هو أعظم من قول (أف)
واملضارة.
ّ
ويسمى (دليل اخلطاب) فيستفاد منه استخراجّ وأما مفهوم املخالفة
حكم للمسكوت عنه يقابل حكم املنطوق ،ويتعلق بمقابل معناه؛ كام يف
قول اهلل تعاىل﴿ :ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛﭜ﴾ ،قال األمني
الشنقيطي( :رصح يف هذه اآلية بأن هذا القرآن ﴿ﭚ ﭛﭜ﴾،
ويفهم من مفهوم اآلية -أعني مفهوم املخالفة املعروف بدليل اخلطاب
-أن غري املتقني ليس هذا القرآن هدى هلم ،ورصح هبذا املفهوم يف آيات
أخر كقوله﴿ :ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ ،وقوله﴿ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ وقوله﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ
- 94 -
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾ ،وقوله تعاىل﴿ :ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ اآليتني)ا.هـ.
وإعامل مفهوم املخالفة له رشوط عىل املناظر أن يراعي حتققها ،وله
أنواع أوصلها بعضهم إىل عرشة ،وهي :مفهوم الصفة ،ومفهوم الرشط،
ومفهوم العلة ،ومفهوم اللقب ،ومفهوم االستثناء ،ومفهوم العدد،
ومفهوم الزمان ،ومفهوم املكان ،ومفهوم احلرص ،ومفهوم الغاية.
وقد مجعها ابن غازي رمحه اهلل يف بيت واحد فقال:
و ُع�دَّ ظرفين وحصر ًا إ ْغي�ا ب ُثنيا ِ
واشرت ْط َع ّل ْل َو َل ِّق ْ ِص ْ
ف
ورشحها يستدعي درس ًا خاصا ،واملقصود التنبيه عىل استعامل املفرسين
هلذه األداة يف استخراج املعاين وأحكام املسائل والرد عىل املخالفني.
باملوجب؛ فله اصطالح خاص عند األصوليني ،وله َ -وأما القول
بموجب
َ كذلك اصطالح خاص عند البالغيني ،واملراد به هنا أن تقول
قول اخلصم لكن تعكس القضية عليه ،وقد م ّثل له ناصح الدين ابن
احلنبيل يف كتابه «استخراج اجلدل من القرآن» بقوله تعاىل﴿ :ﯦ ﯧ
ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰ ﯱﯲﯳ
ﯴ ﯵﯶ﴾ القول باملوجب ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
آباؤكم) ﴿ﭙ ﭚ ﭘ﴾ تقديره( :نريدُ ْ
أن نصدَّ كُم عام كان يعبدُ ُ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾.
- 95 -
وقد رشحه األستاذ اجلليل حممد الطاهر ابن عاشور رشحا حسن ًا فقال:
باملوجب
َ (قول الرسل ﴿ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ جواب بطريق القول
يف علم آداب البحث ،وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان حمل
كر عىل استدالهلم االستدالل غري تام اإلنتاج ،وفيه إطامع يف املوافقة ،ثم َّ
املقصود باإلبطال بتبيني خطئهم.
ونظريه قوله تعاىل﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾،
وهذا النوع من القوادح يف علم اجلدل شديد الوقع عىل املناظر ،فليس
قول الرسل ﴿ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ تقريرا للدليل ،ولكنه متهيد لبيان
غلط املستدل يف االستنتاج من دليله ،وحمل البيان هو االستدراك يف قوله:
﴿ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ ،واملعنى :أن املامثلة يف البرشية ال
تقتيض املامثلة يف زائد عليها فالبرش كلهم عباد اهلل واهلل يمن عىل من يشاء
من عباده بنعم مل يعطها غريهم)ا.هـ.
وم ّثل له ابن احلنبيل أيضا بقوله تعاىل﴿ :ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾.
الكف واإلعراض ،وهو يف علم البيان
ّ -وأما اإلرضاب يف اللغة فمعناه
وعند النحاة عىل نوعني :إرضاب إبطايل وإرضاب انتقايل:
-فأما اإلرضاب اإلبطايل؛ فرياد به إبطال ما قاله املردود عليه ،كام يف
قوله تعاىل﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾ ،وقوله﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ
- 96 -
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾.
وأما اإلرضاب االنتقايل؛ فهو أن تنتقل من احلديث عن أمر إىل احلديث
عن غريه من غري إبطال األمر األول ،ومثاله قول اهلل تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾.
ويستفاد منه يف علم اجلدل اإلرضاب عن دعوى اخلصم إلبطاهلا بإيراد
آخر ،ومن أمثلته قول اهلل تعاىل﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ
ﮅﮆ ﮇﮈﮉ ﮊ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ
ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾.
فأرضب عن إيراده بأنه حييى ويميت ،وأورد عليه ما يظهر به بطالن
َ
دعواه.
-وأما املعارضة واملناقضة؛ فبينهام تناسب؛ أما املعارضة فأن تورد
عىل دعوى اخلصم اعرتاض ًا رّ
يتحي اخلصم يف جوابه ،حتى يتبينّ له عدم
صحة دعواه ،ومن أمثلة املعارضة قوله تعاىل﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ّ
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ
عار َض به دعواهم يف أصنامهم أهنا
ﮃﮄ﴾؛ فأورد عليهم إيرادا َ
عاجز عن ذلك تبينّ بطالن اعتقادهم فيه ،وإن
ٌ آهلة؛ فإن زعموا َّ
أن كبريهم
زعموا أنَّه من فعله أقروا بقبح الرشك؛ فإذا كان هذا الكبري ال يرىض أن
رشك به. ُيرشك به؛ فكيف يظنّون َّ
أن اهلل تعاىل يرىض أن ُي َ
- 97 -
ومن أمثلته ما حكاه شيخ اإلسالم ابن تيمية عن اإلمام أمحد بن حنبل
يف حمنته املشهورة؛ أن املعتزلة قالوا له :ما تقول يف القرآن وكالم اهلل ،أهو
اهلل أم غري اهلل؟
عارضهم بالعلم؛ وقال هلم( :ما تقولون يف علم اهلل ،أهو اهلل أم غري
اهلل؟).
وقال يف موضع آخر( :وهلذا ملا سألوا اإلمام أمحد يف املحنة عن القرآن:
أهو اهلل أو غريه؟ وإذا كان غريه كان خملوق ًاَ -
عار َضهم بالعلم فسكتوا)
ا.هـ.
-وأما املناقضة فهي أن تنقض الدعوى بام يبطل مقدماهتا ،ويبينّ خطأ
نتيجتها ،ومن أمثلة ذلك قول اهلل تعاىل﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ
ﰋ ﰌ ﰍ﴾.
فنقض دعواهم نقض ًا تاما ال يبقى معه احتامل لصحة الدعوى وال تردد
يف بطالهنا ،وهذا من بديع النقض ،وقد أحسن الطاهر ابن عاشور يف
بيانه فقال﴿ ( :ﯸ ﯹ ﯺ…﴾ مجلة مستأنفة ،وهذا رشوع يف
اإلخبار بعظيم قدرة اهلل تعاىل ،وهي تفيد مع ذلك تقوية التنزيه يف قوله:
﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾ فتتنزل منزلة التعليل ملضمون
ذلك التنزيه بمضموهنا أيضا ،وهبذا الوجه رجح فصلها عىل عطفها؛
فإن ما يصفونه هو قوهلم :إن له ولدا وبنات ،ألن ذلك التنزيه يتضمن
نفي اليشء املنزه عنه وإبطاله ،فعلل اإلبطال بأنه خالق أعظم املخلوقات،
- 98 -
بنوة اجلن واملالئكة ألجل عظمتها داللة عىل القدرة؛ فإذا كنتم تدّ عون ّ
يف املخلوقات ،وأنتم ال ترون اجلن وال املالئكة؛ فلامذا مل تدّ عوا البنوة
للساموات واألرض املشاهدة لكم وأنتم تروهنا وترون عظمها؟!! فهذا
اإلبطال بمنزلة النقض يف علم اجلدل واملناظرة).
وقد أطال رمحه اهلل يف تفصيل ذلك ،واملقصود التمثيل عىل طريقة نقض
الدعوى ،وبيان الفرق بينها وبني املعارضة.
واختيار إحدى الطريقتني يعتمد عىل مناسبة احلال ،وقوة استحضار
احلجة.
املحاج إىل خصمه من لقي -وأما املجاراة واإلعثار؛ فرياد هبا أن ي ِ
ُّ ُ ّ
األسئلة واالستدراج ما يقوده به إىل موضع يتبينّ فيه بطالن دعواه؛ وهذه
يعب عن باطله الطريقة إنام يقوم هبا احلاذق يف املناظرة ،فصاحب الباطل رّ
احلق بالباطل؛ فليتبس أمره عىل من ال يتبينّبزخرف القول ،ويلبس ّ
حقيقته؛ وقد يكون لديه اندفاع شديد للدعوة إىل باطله؛ فمن احلكمة يف
موجهة إىل املوضع الذي يتبينّ فيه
بعض األحوال أن جياريه املناظر جماراة ّ
خطؤه وبطالن دعواه ،ومن األمثلة عىل ذلك قول اهلل تعاىل﴿ :ﰋ ﰌ
ﰍ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾.
قال ابن الق ّيم رمحه اهلل( :فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال عىل التفصيل؛
فإهنم قالوا أوالً :إذا كنا عظاما ورفاتا أئنا ملبعوثون خلقا جديدا؟!!
- 99 -
فقيل هلم يف جواب هذا السؤال :إن كنتم تزعمون أنه ال خالق لكم وال
رب فهال كنتم خلقا جديدا ال يفنيه املوت كاحلجارة واحلديد؟!! أو ما هو
أكرب يف صدوركم من ذلك؟
فإن قلتم :لنا رب خالق ،خلقنا عىل هذه الصفة ،وأنشأنا هذه النشأة
التي ال تقبل البقاء ،ومل جيعلنا حجارة وال حديدا؛ فقد قامت عليكم
احلجة بإقراركم؛ فام الذي حيول بني خالقكم ومنشئكم وبني إعادتكم
خلقا جديدا؟!!)ا.هـ.
وقد بنى اإلمام أبو عبد اهلل األذرمي مناظرته ألمحد ابن أيب دؤاد يف
فتنة خلق القرآن عىل هذه الطريقة؛ وكانت تلك املناظرة بحرضة الواثق،
تلخص من رواياهتا (أن األذرمي جيئ به وقد رويت بألفاظ متقاربة ،ومما ّ
إىل جملس الواثق ليناظر ابن أيب دؤاد يف خلق القرآن فإن أجابه وإال ُقتل
كام قتل مجاعة من العلامء يف تلك الفتنة ،وكان الواثق َحنِق ًا عىل األذرمي
حتى إنه ملا جيء باألذرمي من السجن ليحرض جملس املناظرة دخل فقال:
السالم عليك يا أمري املؤمنني.
ّ
فقال الواثق :ال س ّلم اهلل عليك.
فقال :يا أمري املؤمنني ،بئس ما أ ّدبك مؤ ّدبك ،قال اهلل تعاىل﴿ :ﯿ
ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾.
ثم دعاه الواثق ملناظرة ابن أيب دؤاد فقال األذرمي :يا أمحد بن أيب دؤاد،
ّ
إىل ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟
فقال ابن أيب دؤاد :إىل أن تقول :القرآن خملوق؛ ألن كل يشء دون اهلل
خملوق.
- 100 -
قال األذرمي :أخربين يا أمحد عن مقالتك هذه ،أواجبة داخلة يف عقد
الدين ،فال يكون الدين كامال حتى يقال فيه ما قلت؟
قال ابن أيب دؤاد :نعم.
قال األذرمي :يا أمحد أخربين عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم حني
بعثه اهلل تعاىل إىل عباده ،هل سرت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم شيئا مما
أمر اهلل تعاىل به يف دينه؟
قال ابن أيب دؤاد :ال.
قال الشيخ :فدعا رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم األمة إىل مقالتك
هذه؟ فسكت ابن أيب دؤاد.
فقال الشيخ :تكلم فسكت ،فالتفت الشيخ إىل الواثق ،فقال :يا أمري
املؤمنني ،واحدة.
فقال الواثق :واحدة.
فقال الشيخ :يا أمحد ،أخربين عن اهلل تعاىل ،حني أنزل القرآن عىل
رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم فقال﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ أكان اهلل تعاىل الصادق يف إكامل
دينه ،أم أنت الصادق يف نقصانه ،فال يكون الدين كامال حتى يقال فيه
بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أيب دؤاد.
فقال الشيخ :أجب يا أمحد ،فلم جيبه ،فقال الشيخ :يا أمري املؤمنني،
اثنتان.
فقال الواثق :اثنتان.
مثال:
.1تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ.﴾...
التطبيق الرابع:
-اكتب رسالة تفسريية خمترصة بأسلوب ِ
احل َجاج.
َ
املخاطبون بالأ�سلوب البياين:
اخلطاب باألسلوب البياين له درجات فمنه ما يناسب أهل العلم
وتستخدم فيه املصطلحات البيانية املعروفة لدى املعتنني هبذه العلوم.
ومنه ما يكون الغرض منه تفهيم العامة ببعض بيان القرآن فيوىص
املفس أن خييل كالمه مما ال تدرك العامة معناه من املصطلحات والعبارات
رّ
التي تناسب اخلاصة ،وأن جيتهد يف تيسري أسلوبه وتقريب عباراته ألفهام
املخا ّطبني ،وأن يتجنب التعقيد واحلشو.
مثال:
.1رسالة يف تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾.
التطبيق:
-اكتب رسالة تفسريية خمترصة باألسلوب البياين.
وقد نُسبت هذه األبيات إىل غري امرئ القيس ،واملشهور أهنا له،
وشواهد هذا املعنى كثرية يف كالم العرب وأشعارهم.
مثال:
.1تفسري قول اهلل تعاىل﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾.
التطبيق:
-اكتب رسالة تفسريية خمترصة باألسلوب املقاصدي.
هذه اآلية اجلليلة من الوصية العظيمة التي وصىَّ هبا يوسف عليه السالم
ِ
جليلة املعاين. ِ
واسعة الدالئل، ِ
األلفاظ، صاحبي السجن يف ٍ
مجل يسرية
قال تعاىل﴿ :ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ
ﯱﯲ ﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ
ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ
ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ
ﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿ ﮀﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾.
وسنقف وقفات عند قوله يف هذه الوصية﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ﴾ ونتفكّر يف معانيها وآثارها وسعة دالئلها.
أي ُح ْك ٍم غري
﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ أسلوب حرص مؤكد ،قاطع بنفي ّ
حكم اهلل تعاىل عىل احلقيقة.
هذه خطوات مقرتحة أرجو أن تعني طالب علم التفسري عىل إحسان
إعداد الرسائل التفسريية ،وأن تكون رسائلهم وافية باملطلوب نافعة
للقارئ والكاتب بإذن اهلل تعاىل.
مرحلة العر�ض
إذا كتب طالب العلم رسالته التفسريية مراعيا اخلطوات السابق ذكرها
متضمنة لفوائد علمية جديرة
ّ فهو أدعى ألن تكون رسالته رسالة حسنة
بالنرش؛ لكن ينبغي له أن ال يستعجل بنرشها يف ّأول األمر حتى يعرضها
عىل عامل أو طالب علم متمكّن يف التفسري وأصوله؛ حتى ين ّبهه عىل ما
يقوي الرسالة ويثرهياقد يقع فيه من األخطاء العلمية ،ويشري عليه بام ّ
علمي ًا؛ فيفيده ذلك يف إصالح رسالته واعتامدها للنرش ،ويفيده يف تاليف
تلك األخطاء فيام يكتب من الرسائل التفسريية بعد ذلك بإذن اهلل.
وإذا واصل الطالب كتابة عرش رسائل تفسريية أو عرشين رسالة هبذه
الطريقة فإنّه ال يلبث أن يصل إىل مرتبة إتقان كتابة الرسائل التفسريية،
مهمة جد ًا يف نرش العلم النافع ،وبيان ما أنزل اهلل للناس يف
وهذه املرتبة ّ
الكتاب من الب ّينات واهلدى ،وتقريبه هلم ،ودعوهتم إليه بلساهنم ،وبام
يناسب أفهامهم.
- 179 -
فإن طالب العلم يبقى عليه بعد ذلك أن يزكّي علمه بأن يكتب من ّ
املقاالت والرسائل ويلقى من اخلطب والكلامت الدعوية والدروس
العلمية ما ينفع به نفسه وأ ّمته ،وحيصل باجتامع مجاعة من طالب العلم
املتقنني عىل هذا األمر هنضة علمية مباركة بإذن اهلل تعاىل.
كل طالب خترج مائة طالب من هذا الربنامج ،وكتب ّ ألنا لو افرتضنا ّ
عرشة رسائل تفسريية بأسلوب حمرر؛ فإنه ينتج من ذلك كتابة ألف رسالة،
وهذا قدر حسن مبارك بإذن اهلل؛ ألن تلك الرسائل يمكن أن يستفاد منها
بأوجه شتى؛ فقد تصلح مادة خلطبة مجعة ،أو مقالة نافعة ،أو ما ّدة علمية
لربنامج إعالمي ،أو سلسلة دروس علمية ،أو موضوع يف ملتقى علمي
تبث يف مواقع التواصل االجتامعي ،وقد عىل شبكة االنرتنت ،أو جمُ ل ّ
فالرسالة الواحد قد تكون صاحلة ألن يرتجم بعضها إىل لغات متعددةّ ،
متنوعة.
تكون مادة علمية ملخرجات كثرية ّ
و�صايا و�إر�شادات:
.1العناية بالتحرير العلمي
ينبغي لطالب علم التفسري أن يعتني غاية العناية بتحرير املسائل
التفسريية بالقدر الذي يتالءم مع أسلوب الرسالة ونوع املخاطبني؛ ومن
اخلطأ أن يظن الكاتب أن اختياره لألسلوب الوعظي يعفيه من التحرير
العلمي؛ فإن الوعظ بالتفسري جيب أن يكون قائام عىل أساس علمي
صحيح ،وبيان ناتج عن حترير حسن للمعنى.
حماذير وتنبيهات:
يف ختام هذا املوضوع أود التنبيه عىل اجتناب ما يلحظ من األخطاء
الشائعة؛ فإن التفطن هلا واجتناهبا من أسباب إحسان كتابة الرسائل
التفسريية ،وعا ّمة هذه األخطاء تفهم مما سبق ،لكن مجعها يف موضع
واحد باختصار يعني عىل ضبطها واستعراضها قبل أن يعتمد الطالب
رسالته حتى جيتنب ما يراه من األخطاء ،ومن هذه األخطاء:
.1ضعف العناية بالتحرير العلمي.
.2ضعف العناية باستخراج املسائل التفسريية.
.3غياب املقصد العام.
.4العشوائية يف اختيار التفاسري واملصادر.
.5النسخ واللصق والتلفيق بني التفاسري.
.6التوسع يف املسائل التي ال ختدم املقصد العام للرسالة.
.7تقرير مسائل االعتقاد من تفاسري األشاعرة واملعتزلة والصوفية.
- 186 -
.8ضعف الصياغة وركاكة األسلوب.
.9اضطراب أفكار الرسالة وتشتيت ذهن القارئ.
.10األخطاء اإلمالئية.
.11ضعف العناية بعالمات الرتقيم.
.12ضعف العناية بإحسان العرض.
حيب ويرىض ،وأن يقينا رشور أسأل اهلل تعاىل أن يوفقني وإياكم ملا ّ
أنفسنا وسيئات أعاملنا ،وأن يستعملنا يف طاعته ،ويم ّن علينا بربكته
وأن يدخلنا يف رمحة منه وفضل وهيدينا إليه رصاط ًا مستقيام
وصىل اهلل وسلم عىل نب ّينا حممد وعىل آله وصحبه أمجعني.
الض ِّب ُّي (ت168:هـ) ،حتقيق ورشح :أمحدحممد بن حييى َّ :1املفضلياتَّ ،
املفضل بن َّ
شاكر وعبد السالم هارون ،دار املعارف ،القاهرة.
:2العني ،اخلليل بن أمحد الفراهيدي (ت170:هـ) ،حتقيق :د.مهدي املخزومي
ود.إبراهيم السامرائي ،مؤسسة األعلمي للمطبوعات ،بريوت.
:3األم [رواية الربيع بن سليامن املرادي (ت270:هـ)] ،حممد بن إدريس الشافعي
لبي (ت204:هـ) ،حتقيق :د .رفعت فوزي عبد املطلب ،دار الوفاء ،املنصورة. امل َّط ّ
:4تفسري القرآن العزيز ،عبد الرزاق بن مهام الصنعاين (ت211:هـ) ،حتقيق :د.مصطفى
مسلم حممد ،مكتبة الرشد.
:5فضائل الصحابة ،أبو عبد اهلل أمحد بن حممد بن حنبل الشيباين (ت٢٤١:هـ) ،حتقيق:
د .ويص اهلل حممد عباس ،مكتبة الرسالة ،بريوت.
:6صحيح البخاري ،أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل البخاري (ت٢٥٦:هـ) ،عناية:
حممد زهري بن نارص النارص ،دار طوق النجاة.
:7خلق أفعال العباد ،أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل البخاري (ت٢٥٦:هـ) ،حتقيق :فهد
بن سليامن الفهيد ،دار أطلس اخلرضاء.
:8األدب املفرد ،أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل البخاري (ت256:هـ) ،حتقيق :حممد
نارص الدين األلباين ،دار الصديق.
:9صحيح مسلم ،مسلم بن احلجاج القشريي (ت٢٦١:هـ) ،عناية :نظر الفريايب ،دار
طيبة ،الرياض.
:10سنن ابن ماجه ،حممد بن يزيد ابن ماجه القزويني (ت٢٧٣:هـ) ،حتقيق :د.بشار
عواد معروف ،دار الغرب ،بريوت.
:11سنن أيب داود السجستاين ،أبو داود سليامن بن األشعث السجستاين (ت٢٧٥:هـ)،
حتقيق :حممد عوامة ،دار املنهاج.
:12تأويل مشكل القرآن ،أبو حممد عبد اهلل بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت276:هـ)،
حتقيق :السيد أمحد صقر ،مكتبة دار الرتاث.