You are on page 1of 20

‫مقياس‪:‬أدب الهامش‪ .‬الثالثة ليسانس تخصص أدب عربي‪ .

‬الفوجان‪2+1:‬‬
‫األستاذة‪ :‬د‪ .‬بهلول وهيبة‬
‫عنوان الدرس‪ :‬تابع درس أدب المهمشين (شعر الصعاليك)‬
‫‪ .1‬الجبل – أو المرقبة‬
‫ورد في شعر الصعاليك‪ ،‬سرد لحكاياتهم عن تربصهم بأعدائهم‪ ،‬وعن مغامراتهم‪ ،‬من أماكن غير‬
‫محّد دة جغرافيا‪ ،‬ولكنهم أشاروا إلى طبيعتها بالوصف الّد قيق‪ ،‬فسموها "المراقب"؛ أعالي الجبال‪،‬‬
‫وقممها‪ ،‬فكانت الملجأ‪ ،‬منها يتربصون‪ ،‬وعليها يترصدون لضحاياهم‪ ،‬فيخططون لرصد الهدف‪،‬‬
‫لتحين الفرصة لالنقضاض واإلغارة‪ ،‬وكثيرا ما كانوا يختارون الليل لتنفيذ خططهم‪ ،‬كما يصور‬
‫الشنفرى ‪-‬في إحدى قصائده ‪ -‬إحدى المراقب التي كان يلجأ إليها مترصدا‪ ،‬متربصا في قوله ‪:‬‬
‫َو َم ْر َقَبٍة َع ْنـقاَء َيــْقُصُر دوَنها َأخو الِّض ْر َو ِة الِّر ْج ُل اْلَحِفُّي اْلُم ـَخ َّفـُف‬
‫َنَع ْيُت إلى َأْد نـى ُذ راها َو َقْد َدنـا ِم َن الَّلْيـِل ُم ْلَتُّف اْلَح ـــديَقِة َأْس ــَد ُف‬
‫َفِبُّت على َح ِّد الِّذ راَعْين ُم ْج ِذ ًيــا َك ما َيــَتَطّو ى اَألْر َقــُم اْلُم َتَع ـــِّطُف‬
‫المرقبة ‪ :‬مكان المراقبة – العنقاء ‪ :‬الطويلة – يقصر دوَنها ‪ :‬يعجز عن بلوغها – أخو الضروة ‪:‬‬
‫الصياد مع (‪)...‬‬
‫إن الشنفرى‪ ،‬في هذه األبيات‪ ،‬يرقى إلى أعلى الجبل‪ ،‬ويتخذه مرقبة يعجز اآلخر أن يصلها ليستقل‬
‫بشخصيته و فرديته‪" ،‬فالفرد كائن ما هو كائن عليه‪ ،‬وإّنما بفضل ذاتية الشخصية‪ ،‬هذه الشخصية‬
‫التي ترتكز‪ ،‬بالتالي‪ ،‬ال إلى المضمون و إلى حماسته الثابتة‪ ،‬بل بصورة شكلية إلى اإلستقالل‬
‫الفردي‪.‬‬
‫والصعلوك حين يصور االرتقاء‪ ،‬إّنما يصور ارتقاء نفسه على اآلخر‪ ،‬ويرى في هذه المرقبة‬
‫الطويلة العالية‪ ،‬تعبيرا عن تساميه‪ ،‬وهو يعيش حاضره‪ ،‬دون أن يلتفت إلى الماضي كما فعل‬
‫الباكون على األطالل وهذا يعني أّنه يملك حاضره راضيا قنوًعا‪ ،‬غير مبال بما يخّبئه له المستقبل‪،‬‬
‫فالشنفرى يواجه الواقع‪ ،‬ويطرح الحاضر على أنه هو المنير الواضح‪ ،‬بكل سلبياته ونقائصه‪ ،‬بل‬
‫ويواجه الّليل وظلمته‪ ،‬رافعا رأسه‪ ،‬ثابتا قائما‪ ،‬والواقع أن وصف الجبل والمرقبة‪ ،‬هو تعبير عن‬
‫واقع حياة الصعلكة‪ ،‬وتجسيد التثبت بالحاضر وإلغاء الماضي ونسيانه‪ ،‬واندماج في الطبيعة الحّية‪.‬‬
‫ويقول الشنفرى في هذا االتجاه ‪:‬‬
‫َتروُد اَألراوي الُّص ْح ُم َح ْو لي كأَّنها َعذارى َعــَلْيِهــَّن اْلُم ـالُء اْلُم ـَذ َّيـُل‬
‫َو َيْر ُك ـْد َن ِباآلَص اِل َح ْو لي كأَّنِنـي ِم َن اْلُعـْص ِم َأْد فى َيْنَتـحي اْلِكيَح َأْعَقُل‬
‫نالحظ أن الجبل أو المرقبة‪ ،‬هذا المكان المطلق‪ ،‬يعوض الشاعر الصعلوك‪ ،‬ما افتقده في القبيلة‪،‬‬
‫فيعوضه حمايتها ودفأها‪ ،‬واالنتماء إليها‪ ،‬لينقلب عليها‪ ،‬ويشّن عليها غاراته رفقة رفاقه‪:‬‬
‫َثماِنَيـًة َو اْلَقْو ُم رْج ٌل و ِم ْقَنُب‬ ‫َيُش ُّن ِإَلْيِه ُك ُّل ريٍع َو َقْلعٍة‬
‫ثم يقول ‪:‬‬
‫ُيَنِّفُض ِر ْج ـلي ُبـْسُبًطا َفَعَص ْنَصَر ا‬ ‫ُأَم ّش ـي ِبأْطراف اْلَح ماِط َو َتـاَر ًة‬
‫ُهـناِلَك َنــْبغـي اْلقـاِص َي اْلـُم َتـَغـِّو را‬ ‫َو َيْو ًم ا ِبذاِت الِّرِّس َأْو َبـْطِن ِم ْنَج ـٍل‬
‫ويقول مصّوًر ا‪ ،‬اعتصامه بطريق في جبل‪ ،‬وقد لواه الجوع ؛ وهو يصف ذئًبا كان برفقته‪ ،‬بل هو‬
‫وصف لحاله ‪:‬‬
‫َيخوُت بأْذ ناِب الِّش عاِب َو َيْعــِس ل‬ ‫َغدا طاِو ًيا ُيعارض الّريَح هـاِفًيا‬
‫وبقيت تلك المراقب‪ ،‬شاهدة على الشنفرى‪ ،‬بعد موته‪ ،‬إذ وردت في مرثية تأبط شرا‪ ،‬وهو يتذكر‬
‫الشنفرى وانقضاضه على (فرائسه)‪ ،‬وثأره من أعدائه‪ ،‬فوقف تأبط شرا يرثيه ويتذكره‪ ،‬كما يقف‬
‫الشاعر على الطلل باكيا متذكرا ‪:‬‬
‫ِلــَيْغ ـَنــــَم غاٍز َأْو ِلُيـْد ِر َك َثائِــر‬ ‫َو َم ـْر َقَبٍة شّم ـاَء َأْقَع يـْـَت َفْو َقـَهــا‬
‫ولم يكن للصعاليك‪ ،‬مهرب‪ ،‬أو مخبًا‪ ،‬إال الجبل‪ ،‬والمسالك الوعرة التي يصعب على الفرسان‬
‫وخيلهم اللحاق بهم‪ ،‬وهذا تأبط شرا‪ ،‬بخفته‪ ،‬يلجأ دوما إلى الّطود‪ ،‬جاريا في نقابه ‪:‬‬

‫َأُؤ ُّم َس ـواَد َطـْو ٍد ذي ِنقـاِب‬ ‫َو ِز ْلُت ُمَس َّيـًرا َأْهـدي َر عيًال‬

‫كان الصعاليك يختارون المراقب التي تؤدي الغرض‪ ،‬وتفي بالمطلوب‪ ،‬ولها مواصفات خاصة‪،‬‬
‫فلم يكن لجوؤهم إلى الجبال قصد مصاحبة الوحش‪ ،‬وإّنما كانوا يختارون الجبل العالي‪َ ،‬م ْهربًا وملجًأ‬
‫لهم بعد الغْز و‪ِ ،‬لَئّال يلحق بهم األعداء‪ ،‬ويختارون الجبل ذا المرقبة العالية‪ ،‬ليترصدوا الفرائس‬
‫وينقضوا عليها‪ ،‬بعد مراقبتها و التخطيط لها وال بأس هنا‪ ،‬أن أعيد ما ذكر في " الطلل " ‪ -‬حيث‬
‫يصف تأبط شرا قّم ة جبل‪ ،‬اتخذها حصنا وملجأ‪ ،‬وهي بمثابة السالح الذي يبعث األمل واالطمئنان‬
‫في نفس الشاعر؛ وبالتالي تتحول قمة الجبل إلى سنان رمح‪ ،‬وينتقل تأبط شرا متجوال في عالمه‬
‫الخاص دون ارتباط بالزمان‪ ،‬رافضا الركون إلى اآلخر‪/‬القبيلة‪ ،‬وسلطتها‪ ،‬حيث يقول ‪:‬‬
‫َو ُقَّلـٍة َك سـناِن الُّر ْم ح بـاِر َز ٍة َض ْح ياَنــٍة في ُش هور الَّصيْــِف ِم ْح راق‬
‫َح ــّتـــــــى َنَم يْـُت إليــها َبـْعد ِإْش ـــــــــراق‬ ‫باَد ْر ُت ُقَّنَتهـا َص ـــــــْح بي َو مــــــا َك ِس لوا‬
‫أما عروة بن الورد‪ ،‬الوجه اآلخر للصعاليك‪ ،‬المحّب للزعامة‪ ،‬الّطموح إلى الكسب و الغنى‪ ،‬الكريم‬
‫الجواد‪- ،‬كما وصفه الخليفة عبد الملك بن مروان وروح الزعامة فيه‪ ،‬والقيادة‪ ،‬جعلته ينظم غزواته‬
‫ومعارَك ُه‪ ،‬كما يفعل قادة الجيوش وهم مقبلون على حرب أو معركة‪ ،‬إذ يختار المكان المنيع‬
‫المناسب و المخيف مًعا‪ ،‬و يبعث بربيء‪ ،‬أحد أتباعه من الصعاليك‪ ،‬ليقف على مرقبة حارسا‪،‬‬
‫ويصف عروة بن الورد هذا الربئ المنتصب في أعلى الجبل كالشجرة‪ ،‬ال يتحرك فيه إّال عيناه‪،‬‬
‫بينما اآلخرون‪ ،‬يستريحون في مكان آمن‪ ،‬وتستريح خيلهم وإبلهم‪ ،‬وبعضهم يهّي ء الطعام‪ ،‬كل هذا‬
‫يصفه عروة وهو في موقف الزعيم ‪:‬‬
‫َبَع ْثنا َر بيًئا في اْلَم راِبئ َك اْلِج ْذ ل‬ ‫إذا ما َهَبْطنا َم ْنَهًال في َم خوَفـٍة‬
‫َو ُهَّن ُم ناخاٌت َو ِم ْر َج ُلنا َيْغ ـلي‬ ‫ُيَقِّلُب في األْر ِض اْلَفضاِء ِبَطْر ِفِه‬
‫ومن هنا‪ ،‬نستنتج أّن لجوء الصعلوك إلى الجبل‪( ،‬واقعيًا) و(فنّيا)‪ ،‬إّنما ليثبت وجوده‪ ،‬ويعزز‬
‫مكانته‪ ،‬ويؤكد حريته التي وفرت له االنطالق‪ ،‬واالنسالخ من القبيلة وسلطتها‪ ،‬هذه الجبال‪،‬‬
‫والمراقب‪ ،‬وما تتمّيز به من علّو و سمّو ‪ ،‬ارتاحت لها نفسية الصعلوك‪ ،‬وأِلف قسوتها واستأنس‬
‫وحشتها ووحوشها ‪ ...‬ونطمئن – من هنا – إلى توافر العنصر األنثروبولوجي في الجبل والمرقبة‪،‬‬
‫من خالل األوصاف الّد قيقة التي يقف عندها الصعلوك‪ ،‬ويعجز غيره على بلوغها رغم تجهيزه‬
‫بالخيل والكالب‪ ،‬وهو ال يملك إال نعلين باليتين‪ ،‬ولباس رّث ‪ ،‬ولكنه يملك العزيمة‪ ،‬وهو يرافق‬
‫األراوي والوعول التي طالت قرونها‪ .‬و الصعلوك ال يقف عند مرقبة‪ ،‬أو جبل محددين‪ ،‬وإّنما ينتقل‬
‫بين كّل الجبال والمراقب ويسميها؛ فتارة "عصنصر" وتارة أخرى "ُبسبط" وطورًا "بمنجل"‪ ،‬وفي‬
‫كثير من المواقف‪ ،‬ال يذكر الّص علوك المكان بدقة وتحديد‪ ،‬إّنما يصفه مطلقا‪.‬‬
‫‪ .2‬الوحش‬
‫إّن لجوء الصعاليك إلى الجبال‪ ،‬والفيافي الموحشة‪ ،‬ووديانها المخيفة‪ ،‬أّد ى إلى مواجهة وحوشها؛‬
‫من ذئاب وضباع وغيرها‪ ،‬فتفننوا في تسمية هذه الوحوش ووصفها بأوصاف مثيرة‪ ،‬وهو أمر‬
‫طبيعي‪ ،‬أن يحضر الوحش بقوة في شعر الصعاليك‪ ،‬ألنهم ألفوه واستأنسوه‪ ،‬بل وصاروا منه‪،‬‬
‫وارتبط بهم‪ ،‬كما يقول الشنفرى ‪:‬‬
‫َو أْر قط ُز ْهلوٌل َو َع ْر فاُء َج ْيَأُل‬ ‫َو لي دونكم َأْهلون ‪ِ :‬س يٌد َع َم َّلٌس‬
‫وهذا إقرار صريح وواضح‪ ،‬من الشنفرى الذي ربط ألفة بينه وبين الّذ ئب‪ ،‬والضبع‪ ،‬وله مع‬
‫الوحوش حكايات وأحاديث حميمة‪ ،‬إذ أصبحوا قومه وعشيرته الجدد؛ مستودع أسرار الشنفرى ‪:‬‬
‫َلـَد ْيِهْم ‪َ ،‬و ال اْلجاني بما َج ـَّر ُيْخ ـَذ ُل‬ ‫ُهُم اَألهُل ال ُم سَتْو َد ُع الِّس ِر ذائع‬
‫ومن هذا العالم الجديد‪ُ ،‬نلفي الشنفرى يرسم عالمه الجديد‪ ،‬ويحّد د أفراد عائلته الجديدة‪ ،‬فيذكر‬
‫أقربهم إليه ‪ :‬ذئب قوي سريع (سيد عمّلس)‪ ،‬ونمر مرقط (أرقط زهلول)‪ ،‬وضبع كثيف الشعر طويل‬
‫العنق (عرفاء جيأُل)‪ ،‬وهذا يشكل مفهوم الحّر ية عند الشنفرى‪ ،‬والثورة على الجماعات البشرية‬
‫المحيطة به (القبيلة)‪ ،‬و االنتماء إلى المملكة الحيوانية ‪-‬أهله الجدد‪ ،-‬فالّسّر محفوظ بين الجميع‪،‬‬
‫والجماعة تحمي الفرد‪ ،‬والشجاعة ُم توافرة لديهم‪ ،‬وهي إشارة إلى سادة القبائل الذين يستعبدون‬
‫غيرهم‪ ،‬وبخاصة ضعفاءهم‪ ،‬ويسلبوهن حقوقهم ‪:‬‬
‫َو ُك ٌّل َأِبٌّي باِس ٌل َغْيَر َأَّنني إذا َع َر ْض ُت أولى الَّطراِئِد َأْبَس ُل‬
‫َو ِإْن ُم َّد ِت اَألْيدي إلى الزاِد لم َأُك ْن ِبَأْع َجِلِهْم ‪ِ ،‬إْذ َأْج َش ُع اْلَقْو ِم أْع َج ُل‬
‫إْذ صار الذئب واألسد‪ ،‬معادليًن موضوعيين في صورته الشعرية‪ ،‬التي يرى من خاللها أعّز‬
‫أصحابه (الصعاليك)‪ ،‬وأقربهم إليه ‪ -‬من بني اإلنسان– ويضفي عليهم صورة الُفتّو ة‪ ،‬والّنور‪،‬‬
‫والضياء‬
‫َم صابيُح أْو َلْو ٌن ِم ن اْلماء ُم ْذ َهُب‬ ‫َس راحيُن ِفْتياٌن كأَّن ُو جوَهُهم‬
‫السراحين ‪ :‬ج سرحان‪ ،‬وهو الذئب أو األسد ‪.‬‬
‫كما أن الشنفرى يشّبه نفسه باألسد‪ ،‬مفتخرا بشجاعته‪ ،‬قبل أن يقبل على غزو أعدائه‬ ‫‪‬‬

‫مشيرا لهم بضمير الغائب (ُهـْم ) ‪:‬‬

‫ُأَم ّش ي ِخ ـالَل الّد اِر َك اَألَس ـِد اْلَو ْر ِد‬ ‫ُهْم َع َر فـوني ناشئًـا ذا َم خيَلـة‬
‫الَم خيلة ‪ :‬الكْبر – ذو مخيلة ‪ :‬الشجاع‬
‫و الشنفرى ال يقف عند الوحوش المذكورة‪ ،‬بل يتعّد اها إلى الثعابين والحّيات الخبيثة‪ ،‬حيث يصف‬
‫نفسه‪ ،‬حين يكون رابضا متربصا بأعدائه‪ ،‬يتلوى كما يتلوى الثعبان األرقم ‪:‬‬
‫َك ما َيَتطّو ى اَألْر َقُم اْلُم َتَع ِّطُف‬ ‫َفِبُّت َعلى َح ِّد الِّذ راَعْيـِن ُم ْج ذًيـا‬
‫ولم يكتف الشنفرى بالقطيعة مع القبيلة والقوم‪ ،‬و هو حٌّي ‪ ،‬وإّنما فّض ل أن تستمر هذه القطيعة‪ ،‬حتى‬
‫بعد موته‪ ،‬لقد أوصى الذين أَس روه وهّم وا بقتله‪ ،‬أْن ال ُيدفن مع بني البشر‪ ،‬وإّنما ُيقَّد م طعاًم ا‬
‫للضباع؛ أحد أفراد (عائلته) الجدد‪ ،‬فهو يبّش رها بلحمه ‪:‬‬
‫ُأ‬
‫َع َلْيُك ـــْم ‪َ ،‬و َلِكْن َأْبشـري َّم عاِم ــِر‬ ‫ال َتْقبُروني‪ِ ،‬إَّن َقْبـري ُمَح ـّر ٌم‬
‫أم عامر ‪ :‬كنية الضبع‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أما تأبط شرا‪ ،‬الذي جاور الغول‪ ،‬وتصارع معها‪ ،‬فإّنه ألف الوحش‪ ،‬ولم يعد يخافه‪ ،‬ألنه ألفه و‬
‫استأنسه‪ ،‬وهذا مما يدل على قوة تأبط شرا وثباته‪ ،‬وعلى استقراره ببيت الوحش‪ ،‬إذ سكنه رفقته‪،‬‬
‫واتخذ من الوحش ومسكنه بديال عن القبيلة و القوم‪ ،‬بل تحّو ل صيده إلى اإلنسان وما يملكه ‪:‬‬
‫َيبيُت ِبَم ْغ ـنى اْلَو ْح ِش َح ّتى َأِلْفَنُه َو ُيْص َبُح ال َيْح مي َلها الَّدْهَر َم ْر َتعـا‬
‫َر َأْيَن َفًتى ال َص ْيُد َو ْح ٍش َيُهُّم ه َفلْو صاَفَح ْت ِإْنًســا َلصاَفْح َنُه مـعا‬
‫َو َلكَّن َأْر باَب اْلمـــــــــــــــــــــــَـخاِض َيُش ُّفهـْم إذا اْقـَتَفـروُه واحـــــــــــــــــًدا أو ُم َش ــــــــــــَّيَع ـا‬
‫المغـنى‪ ،‬المنزل‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المخاض ‪ :‬النوق الحوامل ‪ .‬يشفهم ‪ :‬يهزلهم – اقتفروه ‪ :‬تتّبــعوه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويصف تأبط شرا نفسه‪ ،‬على أّنه جواد كريم‪ ،‬شجاع‪ ،‬كالسحاب الذي يغيث الناس بمطره ويسقي‬
‫األرض بخيره‪ ،‬وشجاع كاألسد الهصور‪ ،‬ال يبالي بأعدائه يصول ويجول أّنى شاء‪ ،‬سريعا كالّذ ئب ‪:‬‬
‫َغْيُث ُم ْز ٍن غاِم ٌر َح ْيُث ُيْج دي َو ِإذا َيْسطو َفَلْيـٌث َأَبــُّل‬
‫ُم ْســــــــــِبٌل في اْلَح ـــــــــــــــــــــــــــــــّي َأْح وى ِر َفُّل َو إذا َيـــــــــــــْغ زو‪َ ،‬فِسْم ـــــــــــــٌع َأَزُّل‬
‫مزن ‪ :‬ج مزنه‪ ،‬السحابة البيضاء‪ ،‬و المراد السحابة فيها الماء – يسطو ‪ :‬يقهر َو يصول – األبّل ‪:‬‬
‫المصمم (‪ )...‬رفل ‪ :‬كثير اللحم – السمع ‪ :‬ولد الذئب – األزل ‪ :‬السريع المشي الممسوح العجز‬
‫هذه حال الصعلوك؛ إنه يمضي مكًّبا على وجهه في األرض الواسعة‪ ،‬ال يبالي‪ ،‬ألّنه غير مرتبط‪،‬‬
‫وال مقّيد‪ ،‬لقد فّك قيود المجتمع القبلي‪ ،‬وتحّر ر من سيطرة السلطة ‪-‬سلطة الشيوخ واألسياد‪ -‬يتباهى‬
‫ويتفاخر للوحش‪ ،‬للضباع‪ ،‬على تمّك نه من قتل أعدائه ودحرهم‪ ،‬فُيشاركه الضبع والذئب في التباهي‬
‫والنشوة بالنصر‪ ،‬وكّلهم في سرور بقتلى (هذيل)؛ سرور الضبع والذئب‪ ،‬ألنهما سيجدان في القتـلى‬
‫كثرة الغذاء‪ ،‬حّتى جوارح الطير‪ ،‬تنزل على القتلى فتمأل بطونها فال تقدر بعدها على الطيران‪ ،‬يقول‬
‫تأبط شرا ‪:‬‬
‫َتْض َح ُك الَّضُبع ِلقـْتلى ُهَذ ْيٍل وترى الّذ ئَب َلها َيْسَتــِهــُّل‬
‫َو ِع تـــــــــــــــــاُق الَّطيْـِر َتْغ ــــــــــــــدو ِبطانًـا َتَتخــــــــــــــــَّطاُهــْم َفمــــــــــــــــــــا َتْسـَتِقــُّل‬
‫إن عالقة الشعراء الصعاليك بالوحش‪َ ،‬تكاد تكون عالقة ألفة واستئناس‪ ،‬وألنهم َأْنَس نوا الطبيعة‪ ،‬فال‬
‫بّد لوحوشها أن تكون كذلك‪ ،‬وما ورود الوحش بمختلف أنواعه؛ ‪-‬الذئب‪ ،‬والضبع‪ ،‬والنمر‪،‬‬
‫والعقاب‪ -‬في شعرهم‪ ،‬ووصفهم له بأوصاف دقيقة‪ ،‬واتخاذه أهال وعشيرة ‪-‬كما صّر ح الشنفرى‪ -‬إال‬
‫للّد اللة على خرق محّر مات القبيلة وحرماتها‪ ،‬ومقّد ساتها وطقوسها‪ ،‬والتمرد على سلطتها‪ ،‬ونبذ‬
‫هيكل تنظيمها‪ ،‬ومؤسسات مجتمعها‪ ،‬ثم البحث عن مشروع مجتمع جديد‪ ،‬ال تذوب فيه فردية‬
‫اإلنسان‪َ ،‬و ال تضمحّل شخصيته في رموز القبيلة وأسيادها‪ ،‬ولذا نجد في شعر الصعاليك‪ - ،‬معظمه‬
‫– النفور من ضمير (الهو)‪ ،‬وصيغة الجمع (النحن)‪ ،‬إلى ضمير (األنا)‪ ،‬وإن اسُتعِم ل في صيغة‬
‫الجمع‪ ،‬فليس للذوبان في الجماعة‪ ،‬وإّنما قصد التجّم ع ولّم الشتات‪ ،‬ولكّن الصعلوك في آخر‬
‫المطاف‪ُ ،‬يبقي على تفّر ده وفرديته وذاته‪ ،‬بجسده وغريزته وانفعاالته‪ ،‬وليس ذلك اإلنسان الذي‬
‫تضبطه قوانين اآلخر‪ ،‬فينصاع ألوامره ونواهيه‪ ،‬فيحَّد د بمكان‪ ،‬وُيقّيد بزمان‪ ،‬وإّنما ينشد حركية‬
‫الزمان واستمراريته نحو المستقبل‪ ،‬مصيره مرتبط بالطبيعة‪ ،‬وليس بالقبيلة‪ ،‬فهو انفصام مكاني‪،‬‬
‫وتمّيز عن اآلخر‪ .‬وفي ضوء هذا‪ ،‬تمايز شعر الصعاليك عن الشعر الجاهلي القبلي من حيث بنية‬
‫القصيدة وموضوعاتها‪ ،‬وهو تغّير ينم عن صراع الهامش ضّد المركز ومن مالمحه‪:‬‬
‫*أنه شعر المقطوعات ووحدة الموضوع‬
‫*التخلص من المقدمة بأنواعه‬
‫* ظهور األنا وغياب القبيلة‬
‫عنوان الدرس‪ :‬حدود األدب الهامشي‪:‬‬
‫يرى الباحث عمارة بوجمعة في مقالته حدود األدب الهامشي‪ :‬أنه من الصعوبة وضع حدود ثابتــة‬
‫لألدب الهامشي لتعقد مفهومه وتنوع إشــكاالته االجتماعيــة والفلســفية والفنيــة‪ ،‬وتــوزع ميادينــه على‬
‫أكثر من حقل علمي وثقافي‪ ،‬غير أّن حضوره في األدب ظل قائما منذ تشكل التراث اليوناني‪ .،‬يكفي‬
‫هنا أن نذكر موقف الفيلسوف أفالطون من الشــعر الغنــائي‪ ،‬ثم منزلــة هــذا الفن من الفنــون األخــرى‬
‫والمعارف األخرى المختلفــة الــتي صــاغت حكمــة اليونــان‪ .‬لقــد كــان دائمــا هنــاك في تــاريخ اآلداب‬
‫اإلنســانية فواصــل بين األدب المركــزي الرفيــع واألدب الهامشــي المتســم عــادة بالســوقية والدونيــة‬
‫والرذيلة‪.‬إنه تقسيم كان يقع دائما ضمن المعـايير األخالقيـة والفنيـة‪ .‬وهكـذا ظلت هـذه المفاضـلة بين‬
‫أدب رفيع وأدب وضيع هي الســمة العامــة المحــددة لتــاريخ اآلداب اإلنســانية‪ .‬وبجــدر هنــا أن نــذكر‬
‫بعض الســمات الــتي حــددت هامشــيات األدب العــربي مثــل األدب الســوقي وشــعر العميــان وشــعر‬
‫الصعاليك وأدب الطرائف وغيرها من الظواهر الفنية التي تربت في أدي سلم القيم األخالقية والفنية‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن الهامش كان يتحدد في الثقافة العربية داخل األشكال الفنية الــتي تتعــارض أو تنفصــل‬
‫عن منظومة األعراف الجمالية واألخالقية واالجتماعية والتي كــان لهــا تــأثير كبــير في اإلبقــاء على‬
‫نــــــــــوع معين من اآلداب ودفــــــــــع نــــــــــوع آخــــــــــر إلى االنــــــــــدثار والنســــــــــيان‪.‬‬
‫وفي هذا السياق يشير الناقد شرف الدين مجدولين أن عالقة الهامشي بجماليات التعبير األدبي القــديم‬
‫تنطــوي على تعقيــدات جمــة‪ ،‬مردهــا إلى تــداخل عمليــات الهامشــي في نصــوص وأنــواع ذلــك‬
‫التعبير( فالهامشي مبدئيا هو المثال اإلنساني المقصى من دائرة االهتمام والمنبوذ في عرف األخالق‬
‫والمقموع من قبل مؤسسات المجتمع والعقل والعقيدة والسلطة‪ .‬وبهذه الرؤيــة مــيز الناقــد في الــتراث‬
‫العربي ثالثة مستويات من التمثيل الهامشي‪ ،‬أولههمــا تلــك األنــواع الــتي غــدت هامشــية بــالنظر إلى‬
‫جنسها التعبــيري كالحكايــات العجيبــة والخرافــات والســير الشــعبية‪ ،‬في مقابــل الشــعر والنــثر الفــني‬
‫والخطابة التي اعتبرت أدبا رفيعــا‪ ،‬وثانيهمــا تلــك الــتي تكمن هامشــيتها بــالنظر إلى مــا تصــوره من‬
‫عوالم سـفلية للمنبــوذين والخـارجين من مثــل قصــص الشـطارة ونــوادر الحمقى وأخبــار اللصــوص‬
‫وذوي العاهات والشواذ‪ ،‬وأما ثالث تلك المستويات فأدب كتبه هامشيون في التراث كــأدب القرامطــة‬
‫والباطنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة والزنادقـــــــــــــــــــــــــــــــــــة وغـــــــــــــــــــــــــــــــــــيرهم‪.‬‬
‫وإذا كان األدب الهامشي يتحدد في جميع الحاالت في مقابل األدب الذي تنتجه المؤسســة‪ ،‬فــإن داللــة‬
‫الهــامش تعــني بــذلك كــل أدب ينتج خـارج المؤسسـة سـواء كــانت مؤسسـة سياسـية أو اجتماعيــة أو‬
‫ثقافية ‪ ،‬وهو بذلك يقع بعيدا عن الرعاية واالحتضان وكثيرا مـا يجـري العمـل على نبـذه واسـتبعاده‪.‬‬
‫غير أن استبعاد هذا األدب وتغييبه ال يعني إخراجه من التــداول االجتمــاعي‪ ،‬فكثــيرا مــا يحظى هــذا‬
‫األدب بشهرة واهتمام اجتماعي يتجاوز ما يكون للنصوص التي ترعها السلطة وتعمل على نشــرها‪.‬‬
‫وفي هذا المعني يالحظ الناقد شرف الــدين مجــدولين‪ ،‬أنــه على الــرغم من أن بعض األشــكال الفنيــة‬
‫تعرضــت للنبــذ واإلبعــاد من قبــل المؤسســة الثقافيــة إال أنهــا حظيت في المقابــل من التــداول الثقــافي‬
‫واالنتش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار‪.‬‬
‫وفي هذه العمليــة القائمــة على االســتقطاب والعــزل‪ ،‬لم تكــون المقــاييس الموضــوعية هي الحكم بين‬
‫النص األدبي وغير األدبي‪ ،‬وإنما كانت هناك معايير أخالقية هي التي تتحكم في عملية الفــرز‪ ،‬ذلــك‬
‫أن قيم النصــوص األدبيــة ودالالتهــا تتأســس على نظــام معين للقيم واســتراتجيات ثقافيــة معينــة‬
‫وايدولوجيا توجه القراء وتحدد لهم مراجعهم وتمنحهم افتراضاته المسبقة‪.‬‬
‫عنوان الدرس ‪ :‬أدب الهامش وصوره في األدب العربي عند سعـــــــــادة لعلـــــــــــــى‪:‬‬
‫شاع تعبير «أدب الهامش ‪/‬المهمشين» ‪ Marginated Literature‬في السنوات األخيرة‬
‫شيوعًا واسعًا‪ ،‬وتبعًا لذلك انتشرت فكرة التهميش منطلقة من ديناميكية التخلي والنبذ‪ ،‬وهي‬
‫بالضرورة تختلف عن فعل التجاهل واستراتيجية العزل‪ .‬وينبغي اإلقرار بصعوبة تحديد مفهوم‬
‫جامع لـ"أدب الهامش" لتعدد جوانب هذا الهامش‪ (:‬الهامش االجتماعي والهامش السياسي والهامش‬
‫الثقافي والهامش الديني والهامش اإليديولوجي)‪ ،‬غير أنه يمكن إيراد عدة تعريفات منها‪ :‬هو األدب‬
‫الذي نشأ في العتمة‪ ،‬بعيدا عن األضواء‪ .‬أو هو األدب الذي ال ُيحتفى به‪ .‬أو هو األدب المختلف عن‬
‫األدب المألوف‪.‬‬
‫مقدمــة‪:‬‬
‫إن سفينة النجاة تنوء بكثرة األدباء بمختلف مشاربهم‪ ..‬وليس من اإلنصاف تسليط األضواء على‬
‫أدباء دون آخرين‪ ،‬وكأن اإلبداع الحقيقي تحتكره طائفة فقط‪ ،‬وتلك نظرة قاصرة تماما تحتاج إلى‬
‫انفتاح على الطاقات المبدعة في مختلف أماكن وجودها‪ ،‬ورصد الظواهر الفنية واألفكار المختلفة‪..‬‬
‫وذلك يستدعي بالضرورة السهر على تهيئة األرضية المناسبة للتلقي المحترف واالنفتاح على‬
‫كتابات تعيش في الهامش ونقل القارئ إلى األماكن الرحبة لألدب وتحفيز ذهنية القارئ المحترف‬
‫للتلقي اإليجابي والتناسل مع عناصر الدهشة واالنبهار والصدمة والتفاعل العضوي مع تلك‬
‫العناصر التي تلبد سماء الساحة األدبية بغيوم كثيفة لعلها على وشك الهطول بأمطار غزيرة تأتي‬
‫بثمر ناضج وفاكهة طيبة تغري القارئ المحترف بقوة االنجذاب نحو تفاصيلها الشهية! و من هنا‬
‫فإن التساؤالت الجديرة بالطرح‪ :‬هل ُيعُّد األدب والفن انعكاًسا لواقع الحياة في المجتمع مع وجود‬
‫رؤية ودافع نحو التغيير لألفضل‪ ،‬أم أن كليهما يخاطب الغرائز لتوفير قدر من اإلشباع لها بطريقة‬
‫أو بأخرى؟ وهل األدب والفن تصوير لحياة النخبة والطبقات الحاكمة والمسيطرة في المجتمعات‬
‫ومحاولة حمل قيمها إلى الجماهير العريضة‪ ،‬أم أن كليهما نافذتان تستطيع من خاللهما آالم المجتمع‬
‫وأحالمه أن ُتطل منهما على الواقع‪ ،‬أم أن لكل طبقة فنونها وآدابها ولغتها التي تختلف بها وتميزها‬
‫عن الطبقات األخرى‪ ،‬فهناك أدب الطبقة الراقية‪ ،‬وهناك أدب الطبقة المهمشة أو ما ُيسمى بـ ‪":‬أدب‬
‫القاع‪/‬الهامش؟"‬
‫مفهـوم أدب المركز‪:‬‬
‫هو األدب الذي يحظى بـ " الرعاية السامية " فتقام له المهرجانات واألماسي ويدرج في المناهج‬
‫التربوية‪..‬و إجماال هو األدب الرسمي المتداول‪.‬‬
‫أدب الهامش وتعدد المصطلحات المعبرة عنه عند سعـــــــــادة لعلـــــــــــــى‬
‫مفهـوم أدب الهامـش‪:‬‬
‫شاع تعبير «أدب الهامش ‪/‬المهمشين» ‪ Marginated Literature‬في السنوات األخيرة شيوعًا‬
‫واسعًا‪ ،‬وتبعًا لذلك انتشرت فكرة التهميش منطلقة من ديناميكية التخلي والنبذ‪ ،‬وهي بالضرورة‬
‫تختلف عن فعل التجاهل واستراتيجية العزل‪ .‬وينبغي اإلقرار بصعوبة تحديد مفهوم جامع لـ"أدب‬
‫الهامش" لتعدد جوانب هذا الهامش‪ (:‬الهامش االجتماعي والهامش السياسي والهامش الثقافي‬
‫والهامش الديني والهامش اإليديولوجي)‪ ،‬غير أنه يمكن إيراد عدة تعريفات منها‪ :‬هو األدب الذي‬
‫نشأ في العتمة‪ ،‬بعيدا عن األضواء‪ .‬أو هو األدب الذي ال ُيحتفى به‪ .‬أو هو األدب المختلف عن‬
‫األدب المألوف‪.‬‬
‫وعرفه أحد الكّتاب المغاربة بقوله‪" :‬هو كل أدب ال يعترف بالقوالب الجاهزة التي يفرضها لوبي‬
‫الثقافة في بالدنا‪ ،‬سواء على مستوى معالجة المواضيع واإلشكاليات الراهنة التي تفرض نفسها على‬
‫المبدع‪ ،‬أو على مستوى تقنيات الكتابة اإلبداعية ذاتها‪ ،‬فيخرج المبدع على األعراف والتقاليد السائدة‬
‫في الكتابة‪".‬‬
‫و يقابل أدب الهامش عندنا (أدُب الضواحي) الذي يقصد به أدُب الكّتاب الذين يقطنون خارج‬
‫العاصمة التي ُينظر إليها على أنها هي المركز‪.‬ومن هنا فإن أدب الهامش يعني أيضا كل أدب ُينتج‬
‫خارج المركز العاصمي!‬
‫من الصعلكة إلى التهميش‪:‬‬
‫فكرة التهميش ليست وليدة العصر الحالي‪ ،‬بل هي قديمة و متجذرة في مختلف الحضارات عبر‬
‫سياقها التاريخي‪ ،‬ذلك أن أفكار القمع والقهر واالستغالل التي تحدثت عنها البشرية تشير ضمنا إلى‬
‫فكرة التهميش‪ .‬وفي مجال الدراسات األدبية فإن كل حديث عن شعر الصعاليك في العصر الجاهلي‬
‫يكون مقترنا بهذه الفكرة‪ .‬وقد اختار مجموعة من الشعراء الجاهليين وعلى رأسهم الشنفرى‪ ،‬وتأبط‬
‫شرا والُّسليك بن السلكة‪ ،‬الصعلكة والعيش في الهامش (من منظور إيجابي) عن طواعية‪ ،‬فهذا‬
‫الشنفرى يكشف عن هذه الرغبة حين قال‪:‬‬
‫َأقيمـوا َبنـي ُأّم ـي ُصـدوَر َم ــــــــِط َّيُك ـم َفِإنّـي ِإلـى َقــــــوٍم ِس واُك م َألَم يُل‬
‫َفَقد ُح َّم ـت الحاجـاُت و الَليـــُل ُم قمـــــِـٌر َو ُش ـَّد ت ِلِط ّيــاٍت َم طــايا َو َأُرحـُل‬
‫َو في اَألرِض َم نـأى ِللَك ريـِم َعـــِن اَألذى َو فيها ِلَم ــن خاَف الِقلـى مُـَتَع ـَّز ُل‬
‫َلَع مُرَك ما في اَألرِض ضيٌق َعلى ِامرٍئ َس رى راِغ بًا َأو راِهبًا وَ هَو َيعِقُل‬
‫َو َأرَقطُـ ُز هــلوٌل َو َعرفاُء َج يـَأُل‬ ‫َو لـي دوَنُك ـم َأهَلـوَن سيـــٌد َعـــــــَم َّلـٌس‬
‫وهناك من يرى أن فكرة التهميش كانت في ضوء الحركة الثقافية كلها‪ ،‬وهذا ما يتضح في حديث‬
‫جابـر عصفور‪ ،‬إذ يتحدث عن "إرادة اإلبداع" ـ عند إدوار الخراط ـ ويرى أنها‪" :‬تتحدى سلطة‬
‫الكتابة المهيمنة‪ ،‬باحثًة عن نغمتها الخاصة وسط ركاِم المألوف والمعتاد‪ ،‬بعيدًا عن غواية المركز‪،‬‬
‫حيث أن الهوامش التي ال تعرف سوى اإلبحار صوب المجهول الذي يظل في حاجٍة إلى كشف"‬
‫فالسلطة هنا ليست سلطة الدولة‪ ،‬ولكنها سلطة الكتابة الكالسيكية الرومانسية التقليدية‪ ،‬فكل كتابة‬
‫إبداعية تخرج عن النسق المألوف تعتبر (كتابة هامشية)‪.‬‬
‫أدب الهامش‪/‬أدب المهمشين واألدب الحداثي‬
‫يعد كتاب" سوسيولوجيا الغزل العربي‪ ،‬الشعر العذري أنموذجًا" للباحث التونسي الطاهر لبيب‪،‬‬
‫نموذجا هاما الستخدام فكرة التهميش استخدامًا واعيًا في تحليل الظواهر األدبية‪ .‬الكتاب يقوم على‬
‫مالحظة الوضع الهامشي لهذه الفئة (فئة العذريين)‪ .‬قراءة الطاهر لبيب للغزَل العذري كانت من‬
‫منظور أن هذه الجماعٍة المهمشٍة عبرت عن رؤيتها للعالم من وضع التهميش الذي وجدت نفسها‬
‫فيه‪ .‬وفريق آخر يرى أن فكرة التهميش كانت في ضوء الحركة الثقافية كلها تضع الهامش وضعًا‬
‫يتعلق بمجمل الثقافة‪ ،‬يفسر التطور بالصراع التقليدي الجمالي الضمني بين األشكال المهّم شة‬
‫واألشكال التقليدية الحاكمة أو المهيمنة ‪ .‬وعلى محمل آخر قد يكون أدب المهمشين هو الشكل‬
‫األدبي‪ ،‬بمعنى "األدب الحداثي" أو "ما بعد الحداثي الجديد"‪ ،‬أو بمعنى "األدب المتمرد" على‬
‫محددات النوع األدبي‪ ،‬أو بمعنى الخصائص الجمالية المستحدثة غير المألوفة‪ .‬وعندما ننظر إليه‬
‫بوصفه الشكل أو النوع ونضعه في سياق صراعات التطور‪ ،‬نكون قد خرجنا بالموضوع إلى أفق‬
‫الثقافة الواسع‪ .‬وبديهي يمكن أن نعيَد التعبير عن أي مصطلح من المصطلحات الثالثة األخيرة‬
‫بعبارات المصطلحين اآلخرين؛ فمن السهل مثًال أن نقوَل إن الشكل الحداثي أو ما بعد الحداثي يحقق‬
‫لألدب خروجًا عن محددات النوع‪ ،‬وهو يجاوز التقاليد الجمالية السائدة‪ .‬ويمكن النظر إلى الشعر‬
‫الصوفي على أنِه إنتاج جماعٍة مارست التهميش على اعتبار أن الهامشيَة تعني الخروَج عن‬
‫السياقات السائدة جميعًا‪ ،‬وتحرير الوعي منها‪ .‬ولعل أوضح صورة ألدب الهامش الذي أنتجته‬
‫جماعٌة مهمشٌة هو األدب الشعبي الذي يراه النقاد نتاج جماعٍة شعبيٍة مهمشٍة تشكل جماليًا رؤيتها‬
‫للعالم‪ ،‬وتصنع أبطالها األسطوريين من بعض أفرادها‪.‬‬
‫أدباء الهامش‪..‬انتفاضة ومحاولة التسلق إلى المركز‪:‬‬
‫أقيم في السنة الماضية ملتقى أدبٌّي بإحدى مدن الداخل الجزائري سمي"عرس الهامش"‪ ،‬قصد‬
‫إسماع صوت "الجزائر العميقة"‪ ،‬كما تسمى كل المدن الجزائرية‪ ،‬ما عدا العاصمة التي تحولت إلى‬
‫مركز كبير فيه كل وسائل اإلعالم والدعاية الثقافية‪ ،‬بمقابل الهامش الذي ال يمتلك شيئا من تلك‬
‫األضواء وبقي كّتابه في ظل النسيان يكاد صوتهم ال ُيسمع حتى "ولو كتبوا الروائع األدبية"‪ ،‬مثلما‬
‫يؤكد بعض المالحظين‪ .‬وقد ظهر مصطلح "أدب الهامش" في الجزائر منذ سنين وكان يعني "أدب‬
‫المهمشين" المتمردين على المنظومة الرسمية مثلما هو معروف في آداب وفنون الشعوب األخرى‪.‬‬
‫وكانت أول محاولة لالحتفاء بذلك الزخم سلسلة "نصوص الهامش" الشعرية التي أصدرتها "رابطة‬
‫كّتاب االختالف" نهاية تسعينيات القرن الماضي وصدر عنها كثير من النصوص الشعرية لشعراء‬
‫كانوا مهمشين في المنظومة الشعرية الرسمية قبل ذلك‪ .‬لكن مفهوم الهامش تغّير في نظر كثير من‬
‫الكّتاب عندما حدثت تحوالت في المشهد األدبي‪ ،‬وافتك هامشيو الجزائر العاصمة مكانة لهم تحت‬
‫األضواء وتم االعتراف بهم‪ .‬وعندما وجدت فئة من كّتاب الضواحي الجزائرية نفسها بعيدة عن تلك‬
‫األضواء أصبحت تنسب نفسها إلى الهامش‪ ،‬ومن بين كّتاب الهامش المعروفين‪ ،‬الشاعر أبو بكر‬
‫زمال الذي ضاق ذرعا من حيف الهامش وضنكه فعرض إحدى كليتيه للبيع قبل نحو ست سنوات‪،‬‬
‫وبغض النظر عن هدفه من هذا السلوك فإنه أحدث فرقعة إعالمية حاول بوساطتها كسر طوق‬
‫الهامش الذي حاصره ليخطو خطوة أخرى في محاولة للتسلق إلى المركز حيث أصدر كتابا بعنوان‪:‬‬
‫" الصوت المفرد‪ ،‬شعريات جزائرية" وهو عنوان يتدثر بحياة الهامش ‪،‬الكتاب " انطولوجيا شعرية‬
‫" تضم ثمانية عشر شاعرا كلهم محسوبين على الهامش‪ ،‬أمثال عبد هللا الهامل وميلود خيزار‬
‫ونجيب أنزار وعمار مرياش وأحمد عبد الكريم وعلي مغازي وأحمد دلباني وغيرهم‪...‬وقد أشار في‬
‫كتابه إلى حياة الهامش وثورته و طموحاته حين ذكر أن الصوت المفرد يأتي " من حيث تنهض‬
‫الحياة بعيدا عن التراجيديات واألهوال والخيبات‪ ،‬يأتي من نداء األصابع والجمر‪ ،‬من جهات الصدفة‬
‫واللعب المتظلل بالطفولة‪ ،‬ال يذهب إال ليعود ساطعا‪ ،‬ومتنبئا بالحيرة‪ ،‬وممعنا في العراء‪ ..‬ال وحده‪..‬‬
‫إنه يتبطن الكل وييمم وجهه شطر النار كي ال يحترق بل ليضيء العتمات‪ ،‬ويخصب نرجسيته‪،‬‬
‫ويخرجها نهائيا من حيز اليتم إلى متون الوجود واالنتماء‪ ".‬كاتب آخر من كّتاب الهامش‪ ،‬الشاعر‬
‫رضا ديداني الذي ما زال يمتهن التعليم في إحدى المدن الصغيرة القريبة من مدينة عنابة‪ ،‬ورغم أن‬
‫تجربته في الكتابة بدأت في ثمانينيات القرن الماضي إال أنه لم يتمكن من إصدار مجموعة شعرية إال‬
‫مع مطلع األلفية الجديدة‪ ،‬واختار لها عنوانا معبرا هو "هيبة الهامش"‪.‬‬
‫يعتبر رضا ديداني كتابة الضواحي بأنها "مهمشة جغرافيا"‪ ،‬ويؤكد صراحة أن "كّتاب الضواحي‬
‫أصدق من كّتاب المركز لعدة اعتبارات‪ ،‬منها أنهم يعايشون الواقع الحقيقي‪ ،‬ويحتكون بشكل مباشر‬
‫مع األشياء الطبيعية‪ ،‬وأن الواقع اليومي في الضواحي أكثر واقعية وال زيف فيه بعكس كتابة‬
‫المركز"‪ .‬وفي الوقت الذي يؤكد فيه ديداني أنه استغنى عن العاصمة‪ ،‬واستطاع بسبب وجوده طويال‬
‫في الهامش الشعري وفي مدن الضواحي أن يرى "أصواتا أدبية مهمة جدا لم تستطع إسماع صوتها‬
‫للمركز وللعالم ألن األبواب مسدودة في وجهها ولم تجد أي منفذ للظهور‪".‬‬
‫ولئن رضي الشاعر رضا ديداني بالبقاء بعيدا عن أضواء العاصمة‪ ،‬فإن شاعرا آخرا نشأ في‬
‫الهامش الشعري هو الطيب لسلوس‪ ،‬المحسوب على ما يسمى بـ "جيل التسعينيات األدبي" وقد‬
‫صدرت له مجموعته الشعرية الوحيدة "هيروغليفيا" منذ حوالي أربع سنوات‪ ،‬كان من ضحايا لعبة‬
‫هامش الضواحي والمركز‪ .‬فرغم تمّيز صوته الشعري الحداثي وعمقه الفلسفي إال أنه بقي في الظل‬
‫ال يعرفه إال القليل من المهتمين بالشأن الشعري الجزائري‪ ،‬مما اضطره للهجرة إلى العاصمة في‬
‫ظروف صعبة جدا‪ ،‬وتمكن من طباعة ديوانه األول "هيروغليفيا" سنة ‪ ،2003‬ويتبوأ مكانة في‬
‫المشهد الشعري الجزائري المعاصر‪ .‬وقد نشر كثيرا من النصوص والمقاالت في منابر عربية‬
‫معروفة انطالقا من المركز العاصمي الذي جاءه مكرها‪ ،‬فبرأي الشاعر الطيب لسلوس أن هناك‬
‫إجحافا كبيرا فيما يخص كّتاب الضواحي‪ ،‬فالمعلومة المتعلقة بنشاط الساحة الثقافية تصل متأخرة‪،‬‬
‫على عكس كّتاب المركز العاصمي الذين كثيرا ما تتاح لهم فرص غير متوفرة لغيرهم ويمتلكون‬
‫سالح المعلومة‪ ،‬فتحدث بالتالي انتقائية في اختيار األسماء‪ ،‬وفي النهاية هم ضحايا العمل العصبوي؛‬
‫فكاتب الضواحي قد يورطه كاتب آخر من المركز العاصمي بسبب نقص المعلومة بالنسبة لألول‪ ،‬ثم‬
‫هناك نقص المنابر األدبية في الضواحي التي تجعل ظهور كّتاب هناك شيئا صعبا‪ ،‬وكاتب‬
‫الضواحي الذي تغيب عنه المعلومة‪ ،‬تغيب عنه بالتالي أدوات النشر وراهنية النشر‪ ،‬فقد يبقى كتابه‬
‫في انتظار النشر أكثر من خمس سنوات مثال ومع ذلك يعتقد بأن كتابه جديد‪ .‬وكثير من كّتاب‬
‫الضواحي تجاوزوا سن األربعين ومع ذلك يحشرون في خانة الكّتاب الجدد الناشئين‪ .‬ويعتقد لسلوس‬
‫أنه على كاتب الضواحي أن يعمل على الحصول على المعلومة الصحيحة في حينها حتى يكون‬
‫مواكبا لألحداث‪ ،‬وذلك قد يتم بالوجود الدائم في المركز العاصمي (مثلما فعل هو) وقد يكون‬
‫حضورا عن ُبعد بطرق أخرى‪.‬‬
‫وفي سنة ‪ 2008‬أقيمت عكاظية الشعر العربي في الجزائر في إطار برامج "الجزائر عاصمة الثقافة‬
‫العربية"‪ .‬ورغم حضور بعض شعراء الضواحي إلى جانب شعراء جاءوا من البلدان العربية‬
‫وآخرين من المركز العاصمي إال أن بعض كّتاب الضواحي وجدوا أنفسهم مرة أخرى في الهامش!‬
‫أما الكاتب شرف الدين شكري‪ ،‬وهو من مدينة بسكرة ‪ ،‬فقد أصدر بيانا لّخ ص فيه لعبة الهامش‬
‫والمركز تحت اسم "بيان غنائية الهامش" قال فيه‪" :‬سوف يواصل الشعر مرة ُأخرى قول الكالم‪.‬‬
‫وللمركز الجميل أن يتبارى في نسياننا‪ ،‬نحن ـ المهَّم شمين ـ وللهامش التليد أن يتبارى في تقديم‬
‫ضحاياه‪ ،‬الضحية تلو الضحية‪ ،‬وأن يبرع أكثر في اختالق الكورس النَّد اب وأن يمتنع عن التفكير‬
‫الذكي من أجل الدفاع أو من أجل إصالح األوضاع‪ ،‬فاالرتقاء واحد‪ :‬مركٌز مهَّم ش‪ ،‬وهامش‬
‫مركزي‪ ،‬طالما أَّن العملة المتداولة بين الطرفين ستظُّل موَّحدة حَّد الَّش به‪ :‬الكالم‪ ".‬وفي هذا السياق‬
‫أصدر الكاتب شرف الدين شكري كتابا بعنوان "الهوامش الكونية‪ ،‬تأمالت في حياة معدمة "‪ ،‬تحدث‬
‫فيه عن فلسفة الهامش المنتفض‪ ،‬الطموح لإلطاحة بالمركز‪ ..‬وهكذا يبقى الصراع والسجال بين‬
‫المركز والهامش في قالب جدلي وكل طرف يتربص باآلخر‪ ،‬يقول شرف الدين شكري‪ " :‬سوف‬
‫يواصل الشعر توسيع الهوة بين الهامش الذي لن يصير مركزا‪ ،‬والهامش الذي يبتغي االعتالء إلى‬
‫المركز والمركز الذي نسي الهامش والهامش الذي نسي المركز‪"...‬‬
‫بعض الشعراء قنعوا بحياة الهامش‪ ،‬منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر‪" ،‬حميد كّش اد " سلطان‬
‫المهّم شين رحل قبل نحو شهرين‪ ،‬كان يعشق الهامش إلى حد التضحية في سبيله بكل شيء‪ ،‬حتى‬
‫بـ"الخبزة" مثلما حدث له أكثر من مرة وغادر المؤسسة التي كان يعمل فيها مكرها‪ .‬أما الشاعر‬
‫عثمان لوصيف الذي أصدر ست عشرة مجموعة شعرية ومجموعة نثرية‪ ،‬فيبدو أنه قد استمرأ حياة‬
‫الهامش واستسلم لها بعد أن فهم " اللعبة " وراح يرقب الوضع بعيني " المتغابي" ‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫حاضر‬
‫لكنه يتبّد ى‬
‫موغال‪..‬في عتمات الغياب‬
‫عارف‬
‫لكنه يتغابى‪..‬‬
‫من رأى‪..‬أسطورة في ثياب ؟‬
‫ويضيف‪:‬‬
‫قال‪:‬‬
‫سري‪ ..‬في النبوغ‬
‫سطوعي‬
‫في األغاني‪..‬حكمتي في التغابي‬
‫الشاعر علي مغازي سعى للخروج من الهامش فأصدر مجموعته الشعرية األولى لكنه بقي في الظل‬
‫(والظل ال يختلف عن الهامش ) بعد أن عنونها بـ ‪ " :‬في جهة الظل " ويتوق إلى الخروج من جهة‬
‫الظل‪ ،‬وأذكر أنه لما أهدى لي مجموعته الشعرية كتب لي فيها ‪ .. ":‬على أمل أن نلتقي ذات يوم‬
‫خارج جهة الظل" ويبدو أنه يسعى الستكمال ذاته حين يقول‪:‬‬
‫ذلك‬
‫هو أنا‬
‫ليس أكثر‪...‬‬
‫ليس أقل‪...‬‬
‫وليس تماما‪...‬‬
‫أدب الهامش في المغرب قدم صورة مختلفة لمجتمع متعدد الزوايا يركز على التفاصيل وال يقف‬
‫منها موقف المتفرج‪ ،‬تفاصيل ساخرة مبكية يندى لها الجبين‪ ،‬لكنها صادقة‪ ،‬موجودة بالفعل‪ ،‬ليس من‬
‫مسؤوليته معالجتها أو البحث عن حلول آنية لها‪ ،‬إنه يبرزها فقط‪ .‬في هذا المستوى يمكن اعتبار‬
‫أدب الهامش في المغرب صورة صادقة ورائعة ألدب تمت معاملته مدة طويلة بكثير من االزدراء‬
‫والتهكم‪.‬‬
‫من الصعب حصر المبدعين المغاربة الذين يمكن إدراجهم في الهامش‪،‬لكن سأكتفي بثالثة وهم على‬
‫التوالي‪ :‬محمد شكري‪ ،‬محمد زفزاف‪ ،‬محمد منيب‪.‬‬
‫يكفي أن نقرأ “الخبز الحافي”لمحمد شكري لنعرف واقعا جديدا مغايرا‪ ،‬تاريخا آخر مسكوت عنه‪.‬‬
‫تاريخ يستنكف المؤرخون عن تدوينه‪ ،‬ربما العتقادهم أن المهمشين ال يصنعون التاريخ‪ ،‬فهل من‬
‫العار أن يصنع الضعفاء التاريخ؟ وتحضرني مقولة " نيتشه " التي مفادها أن القوة هي مهزلة‬
‫التاريخ‪ ،‬الحرب تصنعها القوة والسالم يصنعه الضعف! ليس مهّم ا من يصنع التاريخ‪ ،‬ولكن شكري‬
‫صنع تاريخا جديدا للمغرب‪ ،‬ال تهم الفائدة التي جناها أو حققها‪ ،‬كل ما يهم أن شكري كان مختلفا‪،‬‬
‫كتب ما عجز الجميع عن كتابته‪ ،‬وهذا يكفيه‪ .‬بعضهم شكك في إمكانية أن يكتب شكري قصة أو‬
‫رواية‪ ،‬وقبل هذا تم التشكيك في الشعر الجاهلي الذي ال يزال كالطود الشامخ‪.‬‬
‫شكري كان ذكيا جدا‪ ،‬استطاع أن يوظف طاقاته الخاصة‪ ،‬ال يدخل مجاال يعتقد أنه يجهله‪ ،‬ال يصف‬
‫أماكن ال يعرفها‪ ،‬ال يتحدث بلغة يجهل قواعدها‪ ،‬لشكري رحمه هللا قاعدة ذهبية هي‪ " :‬استغل‬
‫طاقتك و إمكاناتك‪ ".‬حتى إنتاج الجمل السردية في كتابات شكري تكاد تتبع نهجا واحدا‪ ،‬نسقا واحدا‪،‬‬
‫لونا واحدا‪ ،‬وهنا قمة التميز عند شكري‪.‬‬
‫رواية "الخبز الحافي" ليست سيرة ذاتية فحسب‪ ،‬بل هي سيرة مجتمع بأكمله‪ ،‬صورة األب تبعث‬
‫على التقزز ولكنها أصيلة في زمن الجوع والقهر‪ ،‬اآلن لم يعد الخبز هو المحرك الوحيد‪ ،‬ولكن‬
‫الخبز الحافي يبقى منقوشا في الذاكرة‪.‬‬
‫محمد زفزاف كاتب مدهش برواياته‪" :‬بيضة الديك”‪ " ،‬قبور في الماء"‪ " ،‬األفعى والبحر"‪،‬‬
‫"الثعلب الذي يظهر ويختفي" روائع ال يمكن نسيانها‪ .‬وما يميز هذين الرجلين هو الصدق مع النفس‬
‫ومع القارىء‪.‬‬
‫أما محمد منيب فعرف بالشعر؛ العالقات اإلنسانية المهمشة و المسكوت عنها‪ ،‬خاصة في عالقة‬
‫الرجل بالمرأة نجدها حاضرة بقوة في أشعار هذا الرجل‪ ،‬قليل من التصريح وكثير من التلميح‪،‬‬
‫ولكن حين نقرأ أشعار محمد منيب نلمس كل أشكال الهامش وزواياه‪.‬‬
‫الخاتمـــــــة‪:‬‬
‫لعل المثير للسخرية والرثاء أن كثيرا من أعمال كّتاب الهامش عندنا وجدت صدى واسعا لمناقشة‬
‫مضامينها في دول غربية في الوقت الذي ال ُيلتفت إليها عندنا‪ ..‬والواقع فالحياة طبقات ‪:‬طبقة ال‬
‫تضل وال تشقى وطبقة تمزقها الهموم والهواجس ورغم ذلك ال يفارقها األمل في األحالم وفي‬
‫اليقظة‪،‬هذه الطبقة وإن كانت تعيش في الهامش إال أن أفرادها يصنعون الحياة‪ ،‬ويصنعون نغمة‬
‫للغناء تارة وأخرى للبكاء تارة أخرى ثم يخرجون من الحياة دون أن يشعر بهم أحد‪ ،‬بعد أن كانوا‬
‫أكثر إقباال على الحياة وحملوا على ظهورهم همومها واألمل المزهر يشرق في نفوسهم بقدوم غد‬
‫أفضل‪.‬‬
‫عنوان الدرس‪ :‬أدب الهامش في الجزائر‪:‬‬
‫قراءة في دراسة ليلى جغام ومشقوق هنية "وصف التجربة الشعرية للشاعر ‪ :‬رضا ديداني‬
‫ممثل أدباء الهامش في الجزائر"‬
‫أدب الهامش وفوضى المصطلح‪:‬‬
‫لغة‪:‬‬
‫هامش وهوامش‪ ..‬حاشية الكتاب أو جانب الشيء وعرضه‪ ..‬وفالن يعيش على هامش الحياة‪ ،‬حيث‬
‫توحي لنا الكلمة بدونية الشيء أو تواضعه!! في حين نستمد من هوامش الكتب ثقافة قد ال نجدها في‬
‫الكتب نفسها‪ ..‬إذًا ف(الهامش) كلمة ذات عطاء موجب وسالب في آن‪ ،‬وليس سالب فقط‪ ،‬فإن تكون‬
‫على هامش الحياة يعني أنك بمعزل عن مآسيها‪ ،‬وهمومها‪ ،‬وعللها‪ ،‬وأوجاعها‪ ،‬وفقرها‪ ،‬و جوعها‪..‬‬
‫‪1‬و تشعر أن فالن جعلك في الهامش أو على الهامش فتأسى وتحزن وتكتئب‪ ..‬مع أن وضعك هذا‬
‫يمنح ذهنك مساحة لمراجعة أسباب جعلك كذلك؟ وطلب معرفة أين يكمن الخلل‪ ،‬فيك أو فيه؟ ‪2‬‬
‫اصطالحا‪:‬‬
‫أشار توفيق بكار في حديثه عن الهامشية أن الكلمة مشتقة من لغة الوراقة‪ ،‬وتتعلق بهيئة توزيع‬
‫الكالم على الصفحة المخطوطة أو المطبوعة‪ ،‬فلها صدر ولها هامش يحيط به‪ 2،‬أما الصدر فللنص‬
‫أي المتن‪ ،‬وأما الهامش فلتوابعه من التحشية والتعليق ‪3‬وللكلمة مشتقات أخرى نحو ‪ :‬الهامشي‬
‫والهامش والمهمش‪ ،‬خاصة عندما ترد الكلمة مصاحبة لكلمة أدب ‪.‬‬
‫وقد ظهر لنا أدب الهامش بجانب ثقافة الهامش‪ ،‬وكان ظهوره جليا في مدن الداخل الجزائري‬
‫المقموع مثقفيها ‪ ....‬عندما أقيم ملتقى ثقافي هو األول من نوعه تحت تسمية عرس الهامش ‪4‬‬
‫الفرق بين األدب الهامشي وأدب الهامش واألدب المهمش ‪:‬‬
‫األدب الهامشي‪ :‬يفترض وجود األدب المركزي‪ ،‬الذي هو أدب المؤسسة‪ ،‬يكتبه كتاب من صنع‬
‫المؤسسة السياسية أو الدينية النافذة في ذلك العصر للترويج أو الدعاية لها أو لتبرير وجودها‪ ،‬فهو‬
‫أدب تابع للمؤسسة‪ ،‬وفي مقابل هذا األدب الهامشي‪ ،‬وهو األدب الذي يقوم على االحتجاج ضد‬
‫وضعية اإلنسان والعالم وضد آداء المؤسسة وأحقية وجودها واستمرار سلطانها‪ ،‬وهو نوعان أدب‬
‫منبري خطابي ال خير فيه وأدب فيه من الرقي ما يجعله ينقد في غير إسفاف وال مباشرتية ‪5‬‬
‫أما أدب الهامش فهو أدب يرصد حياة المنسيين والذين يعيشون في طرة الحياة وعلى حافتها‪ ،‬هم‬
‫المدقعون فقرا من متسولين ولصوص صغار ومتشردين وبائعين متجولين وصغار الموظفين‪،‬‬
‫فيرصد هذا األدب حياتهم ومعاناتهم‪ ،‬وفي مقابل ذلك نتوقع وجود أدب آخر هو أدب المركز‪ ،‬وهو‬
‫األدب البالطي‪ ،‬أدب ينشغل بحياة الترف التي يحياها الخاصة من الساسة والفنانين ورجال الدين‬
‫أحيانا ‪6‬‬
‫في حين أن األدب المهمش هو أدب المغضوب عليهم من طرف المؤسسة‪ ،‬إما ألنهم يحاربونها‬
‫علنا أو يقدمون بدائل للحياة التي تسوسها من خالل أدب تقدمي يتغنى بالحريات مثال ‪7‬‬
‫ويمكن القول بأنه األدب المتمرد‪.‬‬
‫ظهور أدب الهامش في الجزائر ‪:‬‬
‫طفح الكيل‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬إذ بعد سنوات من العزلة المفروضة على الكتاب الجزائريين الذين‬
‫يعيشون خارج العاصمة‪ ،‬ها هو أحد كتاب الضواحي يصدر بيانًا قاسيًا‪ ،‬يذّك ر فيه بأن الجميع سواء‬
‫في المحنة‪ ،‬وأن المركز هامشي بدوره وليس متنًا‪ ،‬كما يعتقد البعض ‪8‬‬
‫في الجزائر قلماا تجد كاتبا معروفا‪ ،‬تعود أصوله إلى مدينة الجزائر العاصمة صاحبة التاريخ‬
‫الطويل وعدد السكان الكبير الذي يقارب الخمسة ماليين نسمة إال في حاالت استثنائية‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فكل المنابر الثقافية واإلعالمية في هذا البلد وكل الجمعيات الفاعلة تقريبا موجودة في الجزائر‬
‫العاصمة‪ ،‬ونتيجة لهذه المفارقة الغريبة‪ ،‬نشأ ما يمكن أن يسمى "أدب العاصمة" و"أدب‬
‫الضواحي"‪ ،‬هذا األخير الذي يكتبه أدباء يعيشون خارج العاصمة وصخبها وحتى أضوائها‬
‫اإلعالمية ‪9‬وهنا تلتقي الباحثتان مع رؤية سعادة لعلى‪.‬‬
‫أقيم في الفترة األخيرة ملتقى أدبي بإحدى مدن الداخل الجزائري سمي "عرس الهامش"‪ ،‬كأول‬
‫محاولة جادة من أجل إسماع صوت "الجزائر العميقة" كما تسمى كل المدن الجزائرية‪ ،‬ما عدا‬
‫العاصمة التي تحولت إلى مركز كبير فيه كل وسائل اإلعالم والدعاية الثقافية‪ ،‬بمقابل الهامش الذي‬
‫ال يمتلك شيئا من تلك األضواء وبقي كّتابه في ظل النسيان يكاد صوتهم ال يسمع حتى "ولو كتبوا‬
‫الروائع األدبية"‪ ،‬مثلما يؤكد بعض المالحظين ‪10‬‬
‫وقد ظهر مصطلح "أدب الهامش" في الجزائر منذ سنين وكان يعني "أدب المهمشين" المتمردين‬
‫على المنظومة الرسمية مثلما هو معروف في آداب وفنون الشعوب األخرى‪ ،‬وكانت أول محاولة‬
‫لالحتفاء بذلك الزخم سلسلة "نصوص الهامش" الشعرية التي أصدرتها "رابطة كّتاب االختالف"‬
‫نهاية تسعينات القرن‪ .‬العشرين‪ ،‬وصدر عنها الكثير من النصوص الشعرية لشعراء كانوا مهمشين‬
‫في‪ .‬المنظومة الشعرية الرسمية قبل ذلك ‪11‬‬
‫تغّير مفهوم الهامش بتغير األوضاع (االجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو حتى العالمية)‬
‫فمفهوم الهامش تغير في نظر الكثير من الكّتاب‪ ،‬عندما حدثت تحوالت في المشهد األدبي‪ ،‬وانتزع‬
‫هامشيو الجزائر العاصمة‪ ،‬مكانة لهم تحت األضواء وتم االعتراف بهم‪ .‬وعندما وجدت فئة من‬
‫كّتاب الضواحي الجزائرية نفسها بعيدة عن تلك األضواء أصبحت تنسب نفسها إلى الهامش‪ .‬ومن‬
‫بين كّتاب الهامش المعروفين الشاعر رضا ديداني الذي ما زال لحد اآلن يمتهن التعليم في إحدى‬
‫المدن الصغيرة القريبة من مدينة عنابة بأقصى الشرق الجزائري ‪12‬‬
‫رضا ديداني أديب الهامش وموقف باقي األدباء الجزائريين من الهامش‪:‬‬
‫رغم أن تجربته في الكتابة بدأت في ثمانينات القرن العشرين إال أنه لم يتمكن من إصدار مجموعــة‬
‫شعرية إال مع مطلع األلفية الجديدة‪ ،‬واختار لها عنوانا معبرا هو "هيبة الهامش" ‪ 13‬ويعتــبر رضــا‬
‫ديداني كتابة الضواحي فعال "مهمشة جغرافيــا"‪ ،‬ويؤكــد صــراحة أن "كّت اب الضــواحي أصــدق من‬
‫كّتاب المركز لعدة اعتبارات‪ ،‬منها أنهم يعايشون الواقع الحقيقي‪ ،‬ويحتكون بشكل مباشر مع األشــياء‬
‫الطبيعية‪ ،‬وأن الواقع اليومي في الضواحي أكثر واقعية وال زيف فيه بعكس كتابة المركز" ‪14‬‬
‫وفي ذات الوقت يؤكد ديداني أنه استغنى عن العاصمة‪ ،‬واستطاع بسبب تواجده طويال في الهــامش‬
‫الشعري وفي مدن الضواحي أن يرى "أصواتا أدبيـة مهمـة جـدا لم تسـتطع إسـماع صـوتها للمركـز‬
‫وللعالم ألن األبواب مسدودة في وجهها ولم تجد أي منفذ للظهور" ‪15‬‬
‫ولئن رضي الشاعر رضا ديداني بالبقــاء بعيــدا عن أضــواء العاصــمة‪ ،‬فــإن شــاعرا آخــرا نشــأ في‬
‫الهامش الشعري هو الطيب لسـلوس‪ ،‬المحسـوب على مـا يسـمى ب "جيـل التسـعينيات األدبي" وقـد‬
‫صدرت له مجموعته الشعرية الوحيدة هيروغليفيا" منذ حوالي أربع سـنوات‪ ،‬كــان من ضــحايا لعبــة‬
‫هامش الضواحي والمركز‪ ،‬فرغم تميز صوته الشعري الحداثي وعمقه الفلسفي إال أنه بقي في الظــل‬
‫ال يعرفه إال القليل من المهتمين بالشأن الشعري الجزائري‪ ،‬ممــا اضــطره للهجــرة إلى العاصــمة في‬
‫ظروف صعبة جدا‪ .‬وهكذا استطاع هذا الشاعر طباعة ديوانه األول "هيروغليفيــا" الــذي صــدر عن‬
‫منشورات اتحاد الكّتاب الجزائريين سنة ‪ ،2003‬وأن يكون لـه اسـم في المشـهد الشـعري الجزائـري‬
‫المعاصر ‪16‬‬
‫وقفة مع ديوان " هيبة الهامش " للشاعر رضا ديداني ‪:‬‬
‫قصــائد تعــانق الحلم و االنكســار – كمــا وصــفت ‪ -‬عرضــها األخضــر رحمــوني‪ ،‬صــدرت عن‬
‫منشورات إتحاد الكتاب الجزائريين و بمساهمة الصندوق الوطني لترقية الفنون و اآلداب و تطــويره‬
‫التابع لوزارة االتصال و الثقافة‪،‬‬
‫وصدرت مؤخرا عن مطبعة دار هومة المجموعــة العشــرية األولى للشــاعر الشــاب رضــا ديــداني‬
‫الموسومة ب" هيبة الهامش" في ‪ 94‬صـفحة من الحجم المتوسـط ‪ ،‬والـديوان مقسـم إلى مجموعـتين‬
‫شــعريتين‪ ،‬األولى حملت عنــوان " قصــائد العزلــة" و تحتــوي على ‪ 11‬قصــيدة و الثانيــة بعنــوان "‬
‫قصائد الهامش" و تضم ‪ 06‬قصائد‪17.‬‬
‫رفع الشاعر رضا ديداني باكورة أعماله الشعرية إلى روح األصــدقاء ‪ :‬عبـد هللا بوخالفـة وعبـد هللا‬
‫شكري وبختي بن عودة الذين اختطفتهم أيادي الغدر والخيانــة وهم في عمــر الزهــور‪ ،‬ومــا تــذكرهم‬
‫باإلهداء إال عربون وفاء ومحبة خاصة وأن الشاعر قــد جمعتــه وإيــاهم عالقــات حميميــة في دروب‬
‫الهم الثقافي وفي الرؤية الفكرية الحديثـة‪ ،‬و ال نكشـف سـرا إذا مـا أشـرنا إلى أن آخـر رسـالة كتبهـا‬
‫المرحوم الشاعر عبد هللا بوخالفة قبل و فاته بيــومين خالل شــهر أكتــوبر ‪ 1988‬كــانت موجهــة إلى‬
‫صديقه رضا ديداني ‪18‬‬
‫يمكن القول بداية أن "هيبة الهامش" تندرج ضمن ما يسمى ب‪ :‬شعر الحالة‪ ،‬وأن جميع نصوصــها‬
‫خاضعة لحالة ما ألمت بالشاعر فيقولها بكار خاما كمــا أحســها ال كمــا فهمهــا‪ ،‬مترجمــا إياهــا ألفاظــا‬
‫وعبارات وال أقول أفكار أو معاني بل أصوات مكتفية بذاتها مشــبعة بــزخم وقــع حالتهــا ومتموجــة‬
‫بتموجها‪ ،‬فإذا ما كانت الحالة حادة وقوية جاءت األلفاظ كذلك حادة وقوية من خالل في تنــاغم نفسـي‬
‫خالص‪ ،‬إذ نقرأ مثال في نص (عزلة) (‪ )phonemes‬صوتياتها)‬
‫‪ : 19‬ص ‪12‬‬
‫"طيش‬
‫ال تقلق من يأس بليغ مثل هذا اللون األزرق‬
‫حتى لو كانت مغرمة بطهرها ‪،‬‬
‫لغة يفتنها سماء الوثن‬
‫هي بلبسها تختلي ‪،‬‬
‫وأنت بأمالحها تتمعن ضدك" !‬
‫وإذا ما تأملنا في المقطع وجدناه يعبر عن حالة قلق وحيرة وما ينبثق عنهما‬
‫من اضطراب وعنف ‪..‬وإذا ما حاولنا تفكيك المقطع السابق وقراءة السطر األول‬
‫منه الذي يقول ‪:‬‬
‫ال تقلق من يأس بليغ مثل هذا اللون األزرق‪ ..‬وإذا ما قرأناه سيميائيا وتأملنا في دالالتــه وإشــاراته‬
‫لوجدنا أن الشاعر يسقط حالة نفسية (القلــق واليــأس) على معطى طــبيعي‪ ،‬األلــوان (اللــون األزرق)‬
‫وهو لون البحر أين يعيش الشاعر)مدينة عنابة(‪ ،‬ثم ينتقل مباشرة إلى حالـة أخـرى يتحـدث فيهـا عن‬
‫المؤنث بعد أن كان يخاطب المذكر فيقول‪( :‬حتى لو كانت مغرمة بطهرها)‪ ،‬وهــو طــرح ظاهريــا ال‬
‫يمت بصلة إلى السطر األول ولكنه شعوريا مرتبط أشد االرتباط لكــون الشـاعر ال يقصــد المعــنى أو‬
‫الفكرة بل ينساق وراء الحالة واإلحساس الذي ألم به فيقولها كما أحسها وشعر بهــا‪ ..‬ونلمس ذلــك في‬
‫السطر الذي يليه مباشرة في قوله‪:‬‬
‫لغة يفتنها سماء الوثن‬
‫هي بلبسها تختلي ‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫وأنت بأمالحها تتمعن ضدك !‬
‫قد يـراه البعض شـيء من العبث‪ ،‬والبعض اآلخـر يعتـبره سـخف ‪ ..‬ولكن السـؤال المطـروح عبثـا‬
‫وسخفا بالنظر إلى ماذا؟! وهنا يكمن سر شعر الحالة! هل نحن نقرأ الــوعي أو الالوعي؟ الظــاهر أم‬
‫الباطن؟ الفيزيقي أم الميتافيزيقي (الماوراء)؟ ! وإذا ما أخذنا بالمعايير المعمول بها وقرأنـا نصـوص‬
‫رضا ديداني بالقواعد المتداولة والمتعارف عليها أكاديميا؛ من الجانب اللغوي والموسيقي والبناء‬
‫التركيــبي للمعــاني واألفكــار لرميناهــا جانبــا‪ .‬ولكن إذا مــا أخــذناها كمعطى وجــودي جســد النص)‬
‫الستمتعنا كثيرا بمناقشتها ومعرفة كنهها‪20‬‬
‫وفي قراءتنا نحن لهذا المقطع فإن الشاعر يتحّد ث عن لغة أدب المركـز؛ فهي يفتنهـا سـماء الـوثن‬
‫إشارة منه إلى السلطة أو المؤسسة العليا التي تتحكم في كل شيء بمــا في ذلــك األدب ومن ثم فاللغــة‬
‫التي يكتب بها أدب المركز ليست بريئة وال طــاهرة من النفــاق والكــذب إرضــاء للمركــز‪ .‬والشــاعر‬
‫يخاطب نفسـه أو األدبــاء الــذين هم في الهــامش مثلــه‪ ،‬موضــحا لهم أنهم يعرفـون أدبهم وأنفسـهم من‬
‫خالل تأمل كتابات المركز المتسمة بالملوحة التي تنم عن عدم استساغتها مثل الطعام شديد الملوحــة‪.‬‬
‫وهنا نرى الشاعر يستخدم الرمز ال الوضوح للتعبير عن موقفه من كتابات أدب المركز‪.‬‬
‫ومع هذا فنصوص رضا ديداني ال تخلو كلها من الــتركيب المنطقي واســتدراج المعــنى‪ ،‬فهــذا نص‬
‫الطين ص ‪ 21‬دليل على ذلك‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫انحنيت ‪ ،‬كانت الغرفة ‪،‬‬
‫أقرب إلى ظهري‬
‫وصوتي يتدحرج كحجر السقف‬
‫وأنا أحاول أن أنام بأقراص النهار‪.‬‬
‫*****‬
‫ال تعدم الفكرة‬
‫فنجان القهوة‬
‫كل صباح ينطفئ‬
‫لفكرة بين أصابعي تريبك‬
‫كأسئلة األطفال‬
‫أنا أنتظرها‪.‬‬
‫وهي تنتظر اإلعدام ! ‪8 21‬‬
‫ويمكن للقارئ الذكي تفكيك تركيبة هذه النصــوص المكثفــة لغويــا‪ ،‬النابعــة من يقظــة ذهنيــة تالمس‬
‫المغيب و األنا التي أصبحت مكرسة تعبيريا لألنا القوة الفاقدة لهويتها بمختلف تجلياتها ‪ ،‬وفي أحيــان‬
‫كثيرة تخاطب بل تحاكم األنا قبل محاكمة اآلخر ‪.‬‬
‫من لبس الصمت‬
‫تيقنت أن اللغة يائسة‬
‫وغايتي ال أعرف!‬
‫أنت هناك‬
‫ثوب أزرق يرتعش‬
‫و أنا أعاين الحجر األملس ‪22‬‬
‫ويتجلى الحضور الشعري المتميز لهــذه النصــوص في تقاطعهــا مــع الــراهن االجتمــاعي الخاضــع‬
‫لسياسة األقــوى بــالعودة إلى ديمومــة حركــة الثمانينيــات الحالمــة و التســعينيات المنتكســة من القــرن‬
‫الماضي وهكذا جاءت مجموعة " هيبة الهامش" متفتحة على رؤية نصــية مشــهدية بتوظيفهــا بعض‬
‫الـدالالت اللفظيـة مثـل ( المـرآة‪ ،‬النافـذة‪ ،‬الطفـل‪ ،‬الـذباب ‪ ،‬الثقـوب‪ ).....،‬كرمـوز للتعبـير عن قلـق‬
‫الوجود ‪ ،‬وإحباطات النفس المغيبة‪ ،‬وحرقة‬
‫الكلمة البريئة ‪ ،‬فقصيدة " سؤال" كنموذج تحمل في مفاصلها حيرة اإلنسان الجزائري إزاء سياســة‬
‫مفلسة ثقافيا و اجتماعيا مما جعلته يتمرغ بين لغة الخشب ولغة العدمية حتى سقط في اليومي العبــثي‬
‫‪ 23‬وفي نص (هيبة الهامش) المتضمن بالمجموعة يحاول رضا ديداني أن يمد جسور التالقي ويفتح‬
‫كوة لإلفصاح عن عالم الهامش فيقول‪:‬‬
‫تمهلني ‪ ،‬أمهلك ‪،‬‬
‫من مساء الضوء الغابر في مهالك السوء ‪،‬‬
‫اختار الشك‪.‬‬
‫وأنا أتبرم بشفاه فاضت علي‪.‬‬
‫ترددت ‪ ،‬حين شاخت قدمي‬
‫عند عتبات الباب‬
‫أسمي الظل ‪ ،‬وكأني ألسعه ‪،‬‬
‫كم أختفي ‪ ..‬حتى لو أمهلك‪.‬‬
‫‪..........‬‬
‫‪..........‬‬
‫اندفع ‪ ،‬اندفع ‪ ..‬اآلن‪.‬‬
‫حتى فمي أزرق عند أقدام هذا الهيكل‪.‬‬
‫ما بوسعه يئن حيلة‬
‫لينقر النافذة‬
‫وأنا بين أصابعه‬
‫أرتمي ألرمم جسدي‬
‫وأخيط ملذاته ألساعدك‬
‫أفترض أن أجيء بقلب هادئ‬
‫لكن أذني من نقر الباب ترتعش‪24 .‬‬
‫يتبع الشاعر خطواته مـوغال في الهـامش‪ ،‬يـوارب معنـاه‪ ،‬ويصـرخ في صـمت وبقلب مثلج هـادئ‬
‫يبحث في أبعاد المدفأة عن غنيمة الممر لدفء الغيمة بعيدا عنقلق(حتى)وقصائد العزلة !‬
‫والمجموعة تضم ‪ 17‬لغزا بداية من نص "عزلــة‪ ،‬ملــوك النمــل‪ ،‬أنــا‪ ،‬طين‪ ،‬أنت ســؤال‪ ،‬محاكمــة‪،‬‬
‫اآلن‪ ،‬نص الذباب‪ ،‬شفة النهاية‪ ،‬مالذ المتن‪ ،‬هيبة الهامش‪ ،‬أبعاد المدفأة‪ ،‬حــتى‪ ،‬دفء الغنيمــة‪ ،‬قلــق‪،‬‬
‫غنيمة الممر"‪ ،‬وكما يتضح من خالل هذه العناوين المسائلة والحائرة فالشاعر دومــا في عمليــة بحث‬
‫وتجريب‪ ،‬هو ال يقــول المتن وإنمــا يخاتــل الهــامش ويســير بجانبــه كالظــل يطــارد فراشــات المعــنى‬
‫ويهمس ألزهار الجانب بالسر الذي يبحث عنه وال يفشيه ‪25‬‬
‫ف"هيبة الهامش" إذن مغامرة في عالم المجهول‪ ،‬ديــوان يحــذوه القلــق من كــل جــانب؛ لغــة وبنــاء‬
‫وصورة‪ ..‬وتحوم من حولــه عالمــات التعجب واالســتفهام‪ ،‬فهــو مؤشــر قــوي نافــذ إلى أغــوار عــالم‬
‫باطني يحاول الشاعر رضا ديداني اإلفصاح عنه بأدوات مغاير للسائد ومختلفة عن المتفق عليه‪ ..‬قد‬
‫تكون نظرة أو نظرية لعالم موازي" الهامش"‪ ،‬وقد تكون أشياء أخرى تعجز اللغة عن قولها‪26‬‬
‫وقد أورد الشاعر عز الدين ميهوبي رئيس إتحاد الكتاب الجزائريين ‪ -‬في تقــديم المجموعــة أن في‬
‫ديوان " هيبة الهامش" شيء من سيرة رضــا ديــداني الــتي تنــبئ عن ميالد جيــل من الشـعراء الــذين‬
‫يرفضون الموت على أرصفة اإلبداع المتوحشة " ‪27‬‬
‫خاتمة ‪:‬‬
‫تخلص الباحثتان إلى أن هامشية األدب تتعلق بمدى تسليط األضواء عليه واكتسـابه اهتمـام السـلطة‬
‫الفاعلة أو المؤسسة المكلفة برعاية ذلك‪ ،‬حتى لو كان من روائع الكتابات كما قال بعض المالحظين‪،‬‬
‫ويتعلق األمر عادة بكتاب الضواحي من غير العاصمة أو ما يسمى بالجزائر العميقــة‪ ،‬ممــا يتخــذ من‬
‫مجريات الحياة اليوميــة في هــذه المنــاطق موضــوعا لهــا‪ ،‬ممــا يعتــبر خارجــا عن اهتمــام المؤسســة‬
‫الوصية على ترقية األدب ومتابعته ‪.‬‬
‫وتتضمن قصائد ديوان هيبة الهــامش للشاعر رضــا ديــداني إحساســا بالعزلــة والتهميش ممــا كــان‬
‫يمارس ضد صاحبها وغيره ممن عاصرهم ونحو نحوه‪.‬‬
‫عنوان الدرس‪ :‬من أدب الهامش إلى أدب المركز (العوامل واألسباب)‬
‫قراءة في مقال أدب محمد شكري من الهامشية إلى المركزية لحسن بحراوي‬

You might also like