Professional Documents
Culture Documents
دروس أدب الهامش
دروس أدب الهامش
الفوجان2+1:
األستاذة :د .بهلول وهيبة
عنوان الدرس :تابع درس أدب المهمشين (شعر الصعاليك)
.1الجبل – أو المرقبة
ورد في شعر الصعاليك ،سرد لحكاياتهم عن تربصهم بأعدائهم ،وعن مغامراتهم ،من أماكن غير
محّد دة جغرافيا ،ولكنهم أشاروا إلى طبيعتها بالوصف الّد قيق ،فسموها "المراقب"؛ أعالي الجبال،
وقممها ،فكانت الملجأ ،منها يتربصون ،وعليها يترصدون لضحاياهم ،فيخططون لرصد الهدف،
لتحين الفرصة لالنقضاض واإلغارة ،وكثيرا ما كانوا يختارون الليل لتنفيذ خططهم ،كما يصور
الشنفرى -في إحدى قصائده -إحدى المراقب التي كان يلجأ إليها مترصدا ،متربصا في قوله :
َو َم ْر َقَبٍة َع ْنـقاَء َيــْقُصُر دوَنها َأخو الِّض ْر َو ِة الِّر ْج ُل اْلَحِفُّي اْلُم ـَخ َّفـُف
َنَع ْيُت إلى َأْد نـى ُذ راها َو َقْد َدنـا ِم َن الَّلْيـِل ُم ْلَتُّف اْلَح ـــديَقِة َأْس ــَد ُف
َفِبُّت على َح ِّد الِّذ راَعْين ُم ْج ِذ ًيــا َك ما َيــَتَطّو ى اَألْر َقــُم اْلُم َتَع ـــِّطُف
المرقبة :مكان المراقبة – العنقاء :الطويلة – يقصر دوَنها :يعجز عن بلوغها – أخو الضروة :
الصياد مع ()...
إن الشنفرى ،في هذه األبيات ،يرقى إلى أعلى الجبل ،ويتخذه مرقبة يعجز اآلخر أن يصلها ليستقل
بشخصيته و فرديته" ،فالفرد كائن ما هو كائن عليه ،وإّنما بفضل ذاتية الشخصية ،هذه الشخصية
التي ترتكز ،بالتالي ،ال إلى المضمون و إلى حماسته الثابتة ،بل بصورة شكلية إلى اإلستقالل
الفردي.
والصعلوك حين يصور االرتقاء ،إّنما يصور ارتقاء نفسه على اآلخر ،ويرى في هذه المرقبة
الطويلة العالية ،تعبيرا عن تساميه ،وهو يعيش حاضره ،دون أن يلتفت إلى الماضي كما فعل
الباكون على األطالل وهذا يعني أّنه يملك حاضره راضيا قنوًعا ،غير مبال بما يخّبئه له المستقبل،
فالشنفرى يواجه الواقع ،ويطرح الحاضر على أنه هو المنير الواضح ،بكل سلبياته ونقائصه ،بل
ويواجه الّليل وظلمته ،رافعا رأسه ،ثابتا قائما ،والواقع أن وصف الجبل والمرقبة ،هو تعبير عن
واقع حياة الصعلكة ،وتجسيد التثبت بالحاضر وإلغاء الماضي ونسيانه ،واندماج في الطبيعة الحّية.
ويقول الشنفرى في هذا االتجاه :
َتروُد اَألراوي الُّص ْح ُم َح ْو لي كأَّنها َعذارى َعــَلْيِهــَّن اْلُم ـالُء اْلُم ـَذ َّيـُل
َو َيْر ُك ـْد َن ِباآلَص اِل َح ْو لي كأَّنِنـي ِم َن اْلُعـْص ِم َأْد فى َيْنَتـحي اْلِكيَح َأْعَقُل
نالحظ أن الجبل أو المرقبة ،هذا المكان المطلق ،يعوض الشاعر الصعلوك ،ما افتقده في القبيلة،
فيعوضه حمايتها ودفأها ،واالنتماء إليها ،لينقلب عليها ،ويشّن عليها غاراته رفقة رفاقه:
َثماِنَيـًة َو اْلَقْو ُم رْج ٌل و ِم ْقَنُب َيُش ُّن ِإَلْيِه ُك ُّل ريٍع َو َقْلعٍة
ثم يقول :
ُيَنِّفُض ِر ْج ـلي ُبـْسُبًطا َفَعَص ْنَصَر ا ُأَم ّش ـي ِبأْطراف اْلَح ماِط َو َتـاَر ًة
ُهـناِلَك َنــْبغـي اْلقـاِص َي اْلـُم َتـَغـِّو را َو َيْو ًم ا ِبذاِت الِّرِّس َأْو َبـْطِن ِم ْنَج ـٍل
ويقول مصّوًر ا ،اعتصامه بطريق في جبل ،وقد لواه الجوع ؛ وهو يصف ذئًبا كان برفقته ،بل هو
وصف لحاله :
َيخوُت بأْذ ناِب الِّش عاِب َو َيْعــِس ل َغدا طاِو ًيا ُيعارض الّريَح هـاِفًيا
وبقيت تلك المراقب ،شاهدة على الشنفرى ،بعد موته ،إذ وردت في مرثية تأبط شرا ،وهو يتذكر
الشنفرى وانقضاضه على (فرائسه) ،وثأره من أعدائه ،فوقف تأبط شرا يرثيه ويتذكره ،كما يقف
الشاعر على الطلل باكيا متذكرا :
ِلــَيْغ ـَنــــَم غاٍز َأْو ِلُيـْد ِر َك َثائِــر َو َم ـْر َقَبٍة شّم ـاَء َأْقَع يـْـَت َفْو َقـَهــا
ولم يكن للصعاليك ،مهرب ،أو مخبًا ،إال الجبل ،والمسالك الوعرة التي يصعب على الفرسان
وخيلهم اللحاق بهم ،وهذا تأبط شرا ،بخفته ،يلجأ دوما إلى الّطود ،جاريا في نقابه :
َأُؤ ُّم َس ـواَد َطـْو ٍد ذي ِنقـاِب َو ِز ْلُت ُمَس َّيـًرا َأْهـدي َر عيًال
كان الصعاليك يختارون المراقب التي تؤدي الغرض ،وتفي بالمطلوب ،ولها مواصفات خاصة،
فلم يكن لجوؤهم إلى الجبال قصد مصاحبة الوحش ،وإّنما كانوا يختارون الجبل العاليَ ،م ْهربًا وملجًأ
لهم بعد الغْز وِ ،لَئّال يلحق بهم األعداء ،ويختارون الجبل ذا المرقبة العالية ،ليترصدوا الفرائس
وينقضوا عليها ،بعد مراقبتها و التخطيط لها وال بأس هنا ،أن أعيد ما ذكر في " الطلل " -حيث
يصف تأبط شرا قّم ة جبل ،اتخذها حصنا وملجأ ،وهي بمثابة السالح الذي يبعث األمل واالطمئنان
في نفس الشاعر؛ وبالتالي تتحول قمة الجبل إلى سنان رمح ،وينتقل تأبط شرا متجوال في عالمه
الخاص دون ارتباط بالزمان ،رافضا الركون إلى اآلخر/القبيلة ،وسلطتها ،حيث يقول :
َو ُقَّلـٍة َك سـناِن الُّر ْم ح بـاِر َز ٍة َض ْح ياَنــٍة في ُش هور الَّصيْــِف ِم ْح راق
َح ــّتـــــــى َنَم يْـُت إليــها َبـْعد ِإْش ـــــــــراق باَد ْر ُت ُقَّنَتهـا َص ـــــــْح بي َو مــــــا َك ِس لوا
أما عروة بن الورد ،الوجه اآلخر للصعاليك ،المحّب للزعامة ،الّطموح إلى الكسب و الغنى ،الكريم
الجواد- ،كما وصفه الخليفة عبد الملك بن مروان وروح الزعامة فيه ،والقيادة ،جعلته ينظم غزواته
ومعارَك ُه ،كما يفعل قادة الجيوش وهم مقبلون على حرب أو معركة ،إذ يختار المكان المنيع
المناسب و المخيف مًعا ،و يبعث بربيء ،أحد أتباعه من الصعاليك ،ليقف على مرقبة حارسا،
ويصف عروة بن الورد هذا الربئ المنتصب في أعلى الجبل كالشجرة ،ال يتحرك فيه إّال عيناه،
بينما اآلخرون ،يستريحون في مكان آمن ،وتستريح خيلهم وإبلهم ،وبعضهم يهّي ء الطعام ،كل هذا
يصفه عروة وهو في موقف الزعيم :
َبَع ْثنا َر بيًئا في اْلَم راِبئ َك اْلِج ْذ ل إذا ما َهَبْطنا َم ْنَهًال في َم خوَفـٍة
َو ُهَّن ُم ناخاٌت َو ِم ْر َج ُلنا َيْغ ـلي ُيَقِّلُب في األْر ِض اْلَفضاِء ِبَطْر ِفِه
ومن هنا ،نستنتج أّن لجوء الصعلوك إلى الجبل( ،واقعيًا) و(فنّيا) ،إّنما ليثبت وجوده ،ويعزز
مكانته ،ويؤكد حريته التي وفرت له االنطالق ،واالنسالخ من القبيلة وسلطتها ،هذه الجبال،
والمراقب ،وما تتمّيز به من علّو و سمّو ،ارتاحت لها نفسية الصعلوك ،وأِلف قسوتها واستأنس
وحشتها ووحوشها ...ونطمئن – من هنا – إلى توافر العنصر األنثروبولوجي في الجبل والمرقبة،
من خالل األوصاف الّد قيقة التي يقف عندها الصعلوك ،ويعجز غيره على بلوغها رغم تجهيزه
بالخيل والكالب ،وهو ال يملك إال نعلين باليتين ،ولباس رّث ،ولكنه يملك العزيمة ،وهو يرافق
األراوي والوعول التي طالت قرونها .و الصعلوك ال يقف عند مرقبة ،أو جبل محددين ،وإّنما ينتقل
بين كّل الجبال والمراقب ويسميها؛ فتارة "عصنصر" وتارة أخرى "ُبسبط" وطورًا "بمنجل" ،وفي
كثير من المواقف ،ال يذكر الّص علوك المكان بدقة وتحديد ،إّنما يصفه مطلقا.
.2الوحش
إّن لجوء الصعاليك إلى الجبال ،والفيافي الموحشة ،ووديانها المخيفة ،أّد ى إلى مواجهة وحوشها؛
من ذئاب وضباع وغيرها ،فتفننوا في تسمية هذه الوحوش ووصفها بأوصاف مثيرة ،وهو أمر
طبيعي ،أن يحضر الوحش بقوة في شعر الصعاليك ،ألنهم ألفوه واستأنسوه ،بل وصاروا منه،
وارتبط بهم ،كما يقول الشنفرى :
َو أْر قط ُز ْهلوٌل َو َع ْر فاُء َج ْيَأُل َو لي دونكم َأْهلون ِ :س يٌد َع َم َّلٌس
وهذا إقرار صريح وواضح ،من الشنفرى الذي ربط ألفة بينه وبين الّذ ئب ،والضبع ،وله مع
الوحوش حكايات وأحاديث حميمة ،إذ أصبحوا قومه وعشيرته الجدد؛ مستودع أسرار الشنفرى :
َلـَد ْيِهْم َ ،و ال اْلجاني بما َج ـَّر ُيْخ ـَذ ُل ُهُم اَألهُل ال ُم سَتْو َد ُع الِّس ِر ذائع
ومن هذا العالم الجديدُ ،نلفي الشنفرى يرسم عالمه الجديد ،ويحّد د أفراد عائلته الجديدة ،فيذكر
أقربهم إليه :ذئب قوي سريع (سيد عمّلس) ،ونمر مرقط (أرقط زهلول) ،وضبع كثيف الشعر طويل
العنق (عرفاء جيأُل) ،وهذا يشكل مفهوم الحّر ية عند الشنفرى ،والثورة على الجماعات البشرية
المحيطة به (القبيلة) ،و االنتماء إلى المملكة الحيوانية -أهله الجدد ،-فالّسّر محفوظ بين الجميع،
والجماعة تحمي الفرد ،والشجاعة ُم توافرة لديهم ،وهي إشارة إلى سادة القبائل الذين يستعبدون
غيرهم ،وبخاصة ضعفاءهم ،ويسلبوهن حقوقهم :
َو ُك ٌّل َأِبٌّي باِس ٌل َغْيَر َأَّنني إذا َع َر ْض ُت أولى الَّطراِئِد َأْبَس ُل
َو ِإْن ُم َّد ِت اَألْيدي إلى الزاِد لم َأُك ْن ِبَأْع َجِلِهْم ِ ،إْذ َأْج َش ُع اْلَقْو ِم أْع َج ُل
إْذ صار الذئب واألسد ،معادليًن موضوعيين في صورته الشعرية ،التي يرى من خاللها أعّز
أصحابه (الصعاليك) ،وأقربهم إليه -من بني اإلنسان– ويضفي عليهم صورة الُفتّو ة ،والّنور،
والضياء
َم صابيُح أْو َلْو ٌن ِم ن اْلماء ُم ْذ َهُب َس راحيُن ِفْتياٌن كأَّن ُو جوَهُهم
السراحين :ج سرحان ،وهو الذئب أو األسد .
كما أن الشنفرى يشّبه نفسه باألسد ،مفتخرا بشجاعته ،قبل أن يقبل على غزو أعدائه
ُأَم ّش ي ِخ ـالَل الّد اِر َك اَألَس ـِد اْلَو ْر ِد ُهْم َع َر فـوني ناشئًـا ذا َم خيَلـة
الَم خيلة :الكْبر – ذو مخيلة :الشجاع
و الشنفرى ال يقف عند الوحوش المذكورة ،بل يتعّد اها إلى الثعابين والحّيات الخبيثة ،حيث يصف
نفسه ،حين يكون رابضا متربصا بأعدائه ،يتلوى كما يتلوى الثعبان األرقم :
َك ما َيَتطّو ى اَألْر َقُم اْلُم َتَع ِّطُف َفِبُّت َعلى َح ِّد الِّذ راَعْيـِن ُم ْج ذًيـا
ولم يكتف الشنفرى بالقطيعة مع القبيلة والقوم ،و هو حٌّي ،وإّنما فّض ل أن تستمر هذه القطيعة ،حتى
بعد موته ،لقد أوصى الذين أَس روه وهّم وا بقتله ،أْن ال ُيدفن مع بني البشر ،وإّنما ُيقَّد م طعاًم ا
للضباع؛ أحد أفراد (عائلته) الجدد ،فهو يبّش رها بلحمه :
ُأ
َع َلْيُك ـــْم َ ،و َلِكْن َأْبشـري َّم عاِم ــِر ال َتْقبُرونيِ ،إَّن َقْبـري ُمَح ـّر ٌم
أم عامر :كنية الضبع.
أما تأبط شرا ،الذي جاور الغول ،وتصارع معها ،فإّنه ألف الوحش ،ولم يعد يخافه ،ألنه ألفه و
استأنسه ،وهذا مما يدل على قوة تأبط شرا وثباته ،وعلى استقراره ببيت الوحش ،إذ سكنه رفقته،
واتخذ من الوحش ومسكنه بديال عن القبيلة و القوم ،بل تحّو ل صيده إلى اإلنسان وما يملكه :
َيبيُت ِبَم ْغ ـنى اْلَو ْح ِش َح ّتى َأِلْفَنُه َو ُيْص َبُح ال َيْح مي َلها الَّدْهَر َم ْر َتعـا
َر َأْيَن َفًتى ال َص ْيُد َو ْح ٍش َيُهُّم ه َفلْو صاَفَح ْت ِإْنًســا َلصاَفْح َنُه مـعا
َو َلكَّن َأْر باَب اْلمـــــــــــــــــــــــَـخاِض َيُش ُّفهـْم إذا اْقـَتَفـروُه واحـــــــــــــــــًدا أو ُم َش ــــــــــــَّيَع ـا
المغـنى ،المنزل.
ويصف تأبط شرا نفسه ،على أّنه جواد كريم ،شجاع ،كالسحاب الذي يغيث الناس بمطره ويسقي
األرض بخيره ،وشجاع كاألسد الهصور ،ال يبالي بأعدائه يصول ويجول أّنى شاء ،سريعا كالّذ ئب :
َغْيُث ُم ْز ٍن غاِم ٌر َح ْيُث ُيْج دي َو ِإذا َيْسطو َفَلْيـٌث َأَبــُّل
ُم ْســــــــــِبٌل في اْلَح ـــــــــــــــــــــــــــــــّي َأْح وى ِر َفُّل َو إذا َيـــــــــــــْغ زوَ ،فِسْم ـــــــــــــٌع َأَزُّل
مزن :ج مزنه ،السحابة البيضاء ،و المراد السحابة فيها الماء – يسطو :يقهر َو يصول – األبّل :
المصمم ( )...رفل :كثير اللحم – السمع :ولد الذئب – األزل :السريع المشي الممسوح العجز
هذه حال الصعلوك؛ إنه يمضي مكًّبا على وجهه في األرض الواسعة ،ال يبالي ،ألّنه غير مرتبط،
وال مقّيد ،لقد فّك قيود المجتمع القبلي ،وتحّر ر من سيطرة السلطة -سلطة الشيوخ واألسياد -يتباهى
ويتفاخر للوحش ،للضباع ،على تمّك نه من قتل أعدائه ودحرهم ،فُيشاركه الضبع والذئب في التباهي
والنشوة بالنصر ،وكّلهم في سرور بقتلى (هذيل)؛ سرور الضبع والذئب ،ألنهما سيجدان في القتـلى
كثرة الغذاء ،حّتى جوارح الطير ،تنزل على القتلى فتمأل بطونها فال تقدر بعدها على الطيران ،يقول
تأبط شرا :
َتْض َح ُك الَّضُبع ِلقـْتلى ُهَذ ْيٍل وترى الّذ ئَب َلها َيْسَتــِهــُّل
َو ِع تـــــــــــــــــاُق الَّطيْـِر َتْغ ــــــــــــــدو ِبطانًـا َتَتخــــــــــــــــَّطاُهــْم َفمــــــــــــــــــــا َتْسـَتِقــُّل
إن عالقة الشعراء الصعاليك بالوحشَ ،تكاد تكون عالقة ألفة واستئناس ،وألنهم َأْنَس نوا الطبيعة ،فال
بّد لوحوشها أن تكون كذلك ،وما ورود الوحش بمختلف أنواعه؛ -الذئب ،والضبع ،والنمر،
والعقاب -في شعرهم ،ووصفهم له بأوصاف دقيقة ،واتخاذه أهال وعشيرة -كما صّر ح الشنفرى -إال
للّد اللة على خرق محّر مات القبيلة وحرماتها ،ومقّد ساتها وطقوسها ،والتمرد على سلطتها ،ونبذ
هيكل تنظيمها ،ومؤسسات مجتمعها ،ثم البحث عن مشروع مجتمع جديد ،ال تذوب فيه فردية
اإلنسانَ ،و ال تضمحّل شخصيته في رموز القبيلة وأسيادها ،ولذا نجد في شعر الصعاليك - ،معظمه
– النفور من ضمير (الهو) ،وصيغة الجمع (النحن) ،إلى ضمير (األنا) ،وإن اسُتعِم ل في صيغة
الجمع ،فليس للذوبان في الجماعة ،وإّنما قصد التجّم ع ولّم الشتات ،ولكّن الصعلوك في آخر
المطافُ ،يبقي على تفّر ده وفرديته وذاته ،بجسده وغريزته وانفعاالته ،وليس ذلك اإلنسان الذي
تضبطه قوانين اآلخر ،فينصاع ألوامره ونواهيه ،فيحَّد د بمكان ،وُيقّيد بزمان ،وإّنما ينشد حركية
الزمان واستمراريته نحو المستقبل ،مصيره مرتبط بالطبيعة ،وليس بالقبيلة ،فهو انفصام مكاني،
وتمّيز عن اآلخر .وفي ضوء هذا ،تمايز شعر الصعاليك عن الشعر الجاهلي القبلي من حيث بنية
القصيدة وموضوعاتها ،وهو تغّير ينم عن صراع الهامش ضّد المركز ومن مالمحه:
*أنه شعر المقطوعات ووحدة الموضوع
*التخلص من المقدمة بأنواعه
* ظهور األنا وغياب القبيلة
عنوان الدرس :حدود األدب الهامشي:
يرى الباحث عمارة بوجمعة في مقالته حدود األدب الهامشي :أنه من الصعوبة وضع حدود ثابتــة
لألدب الهامشي لتعقد مفهومه وتنوع إشــكاالته االجتماعيــة والفلســفية والفنيــة ،وتــوزع ميادينــه على
أكثر من حقل علمي وثقافي ،غير أّن حضوره في األدب ظل قائما منذ تشكل التراث اليوناني .،يكفي
هنا أن نذكر موقف الفيلسوف أفالطون من الشــعر الغنــائي ،ثم منزلــة هــذا الفن من الفنــون األخــرى
والمعارف األخرى المختلفــة الــتي صــاغت حكمــة اليونــان .لقــد كــان دائمــا هنــاك في تــاريخ اآلداب
اإلنســانية فواصــل بين األدب المركــزي الرفيــع واألدب الهامشــي المتســم عــادة بالســوقية والدونيــة
والرذيلة.إنه تقسيم كان يقع دائما ضمن المعـايير األخالقيـة والفنيـة .وهكـذا ظلت هـذه المفاضـلة بين
أدب رفيع وأدب وضيع هي الســمة العامــة المحــددة لتــاريخ اآلداب اإلنســانية .وبجــدر هنــا أن نــذكر
بعض الســمات الــتي حــددت هامشــيات األدب العــربي مثــل األدب الســوقي وشــعر العميــان وشــعر
الصعاليك وأدب الطرائف وغيرها من الظواهر الفنية التي تربت في أدي سلم القيم األخالقية والفنية.
ومعنى ذلك أن الهامش كان يتحدد في الثقافة العربية داخل األشكال الفنية الــتي تتعــارض أو تنفصــل
عن منظومة األعراف الجمالية واألخالقية واالجتماعية والتي كــان لهــا تــأثير كبــير في اإلبقــاء على
نــــــــــوع معين من اآلداب ودفــــــــــع نــــــــــوع آخــــــــــر إلى االنــــــــــدثار والنســــــــــيان.
وفي هذا السياق يشير الناقد شرف الدين مجدولين أن عالقة الهامشي بجماليات التعبير األدبي القــديم
تنطــوي على تعقيــدات جمــة ،مردهــا إلى تــداخل عمليــات الهامشــي في نصــوص وأنــواع ذلــك
التعبير( فالهامشي مبدئيا هو المثال اإلنساني المقصى من دائرة االهتمام والمنبوذ في عرف األخالق
والمقموع من قبل مؤسسات المجتمع والعقل والعقيدة والسلطة .وبهذه الرؤيــة مــيز الناقــد في الــتراث
العربي ثالثة مستويات من التمثيل الهامشي ،أولههمــا تلــك األنــواع الــتي غــدت هامشــية بــالنظر إلى
جنسها التعبــيري كالحكايــات العجيبــة والخرافــات والســير الشــعبية ،في مقابــل الشــعر والنــثر الفــني
والخطابة التي اعتبرت أدبا رفيعــا ،وثانيهمــا تلــك الــتي تكمن هامشــيتها بــالنظر إلى مــا تصــوره من
عوالم سـفلية للمنبــوذين والخـارجين من مثــل قصــص الشـطارة ونــوادر الحمقى وأخبــار اللصــوص
وذوي العاهات والشواذ ،وأما ثالث تلك المستويات فأدب كتبه هامشيون في التراث كــأدب القرامطــة
والباطنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــة والزنادقـــــــــــــــــــــــــــــــــــة وغـــــــــــــــــــــــــــــــــــيرهم.
وإذا كان األدب الهامشي يتحدد في جميع الحاالت في مقابل األدب الذي تنتجه المؤسســة ،فــإن داللــة
الهــامش تعــني بــذلك كــل أدب ينتج خـارج المؤسسـة سـواء كــانت مؤسسـة سياسـية أو اجتماعيــة أو
ثقافية ،وهو بذلك يقع بعيدا عن الرعاية واالحتضان وكثيرا مـا يجـري العمـل على نبـذه واسـتبعاده.
غير أن استبعاد هذا األدب وتغييبه ال يعني إخراجه من التــداول االجتمــاعي ،فكثــيرا مــا يحظى هــذا
األدب بشهرة واهتمام اجتماعي يتجاوز ما يكون للنصوص التي ترعها السلطة وتعمل على نشــرها.
وفي هذا المعني يالحظ الناقد شرف الــدين مجــدولين ،أنــه على الــرغم من أن بعض األشــكال الفنيــة
تعرضــت للنبــذ واإلبعــاد من قبــل المؤسســة الثقافيــة إال أنهــا حظيت في المقابــل من التــداول الثقــافي
واالنتش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار.
وفي هذه العمليــة القائمــة على االســتقطاب والعــزل ،لم تكــون المقــاييس الموضــوعية هي الحكم بين
النص األدبي وغير األدبي ،وإنما كانت هناك معايير أخالقية هي التي تتحكم في عملية الفــرز ،ذلــك
أن قيم النصــوص األدبيــة ودالالتهــا تتأســس على نظــام معين للقيم واســتراتجيات ثقافيــة معينــة
وايدولوجيا توجه القراء وتحدد لهم مراجعهم وتمنحهم افتراضاته المسبقة.
عنوان الدرس :أدب الهامش وصوره في األدب العربي عند سعـــــــــادة لعلـــــــــــــى:
شاع تعبير «أدب الهامش /المهمشين» Marginated Literatureفي السنوات األخيرة
شيوعًا واسعًا ،وتبعًا لذلك انتشرت فكرة التهميش منطلقة من ديناميكية التخلي والنبذ ،وهي
بالضرورة تختلف عن فعل التجاهل واستراتيجية العزل .وينبغي اإلقرار بصعوبة تحديد مفهوم
جامع لـ"أدب الهامش" لتعدد جوانب هذا الهامش (:الهامش االجتماعي والهامش السياسي والهامش
الثقافي والهامش الديني والهامش اإليديولوجي) ،غير أنه يمكن إيراد عدة تعريفات منها :هو األدب
الذي نشأ في العتمة ،بعيدا عن األضواء .أو هو األدب الذي ال ُيحتفى به .أو هو األدب المختلف عن
األدب المألوف.
مقدمــة:
إن سفينة النجاة تنوء بكثرة األدباء بمختلف مشاربهم ..وليس من اإلنصاف تسليط األضواء على
أدباء دون آخرين ،وكأن اإلبداع الحقيقي تحتكره طائفة فقط ،وتلك نظرة قاصرة تماما تحتاج إلى
انفتاح على الطاقات المبدعة في مختلف أماكن وجودها ،ورصد الظواهر الفنية واألفكار المختلفة..
وذلك يستدعي بالضرورة السهر على تهيئة األرضية المناسبة للتلقي المحترف واالنفتاح على
كتابات تعيش في الهامش ونقل القارئ إلى األماكن الرحبة لألدب وتحفيز ذهنية القارئ المحترف
للتلقي اإليجابي والتناسل مع عناصر الدهشة واالنبهار والصدمة والتفاعل العضوي مع تلك
العناصر التي تلبد سماء الساحة األدبية بغيوم كثيفة لعلها على وشك الهطول بأمطار غزيرة تأتي
بثمر ناضج وفاكهة طيبة تغري القارئ المحترف بقوة االنجذاب نحو تفاصيلها الشهية! و من هنا
فإن التساؤالت الجديرة بالطرح :هل ُيعُّد األدب والفن انعكاًسا لواقع الحياة في المجتمع مع وجود
رؤية ودافع نحو التغيير لألفضل ،أم أن كليهما يخاطب الغرائز لتوفير قدر من اإلشباع لها بطريقة
أو بأخرى؟ وهل األدب والفن تصوير لحياة النخبة والطبقات الحاكمة والمسيطرة في المجتمعات
ومحاولة حمل قيمها إلى الجماهير العريضة ،أم أن كليهما نافذتان تستطيع من خاللهما آالم المجتمع
وأحالمه أن ُتطل منهما على الواقع ،أم أن لكل طبقة فنونها وآدابها ولغتها التي تختلف بها وتميزها
عن الطبقات األخرى ،فهناك أدب الطبقة الراقية ،وهناك أدب الطبقة المهمشة أو ما ُيسمى بـ ":أدب
القاع/الهامش؟"
مفهـوم أدب المركز:
هو األدب الذي يحظى بـ " الرعاية السامية " فتقام له المهرجانات واألماسي ويدرج في المناهج
التربوية..و إجماال هو األدب الرسمي المتداول.
أدب الهامش وتعدد المصطلحات المعبرة عنه عند سعـــــــــادة لعلـــــــــــــى
مفهـوم أدب الهامـش:
شاع تعبير «أدب الهامش /المهمشين» Marginated Literatureفي السنوات األخيرة شيوعًا
واسعًا ،وتبعًا لذلك انتشرت فكرة التهميش منطلقة من ديناميكية التخلي والنبذ ،وهي بالضرورة
تختلف عن فعل التجاهل واستراتيجية العزل .وينبغي اإلقرار بصعوبة تحديد مفهوم جامع لـ"أدب
الهامش" لتعدد جوانب هذا الهامش (:الهامش االجتماعي والهامش السياسي والهامش الثقافي
والهامش الديني والهامش اإليديولوجي) ،غير أنه يمكن إيراد عدة تعريفات منها :هو األدب الذي
نشأ في العتمة ،بعيدا عن األضواء .أو هو األدب الذي ال ُيحتفى به .أو هو األدب المختلف عن
األدب المألوف.
وعرفه أحد الكّتاب المغاربة بقوله" :هو كل أدب ال يعترف بالقوالب الجاهزة التي يفرضها لوبي
الثقافة في بالدنا ،سواء على مستوى معالجة المواضيع واإلشكاليات الراهنة التي تفرض نفسها على
المبدع ،أو على مستوى تقنيات الكتابة اإلبداعية ذاتها ،فيخرج المبدع على األعراف والتقاليد السائدة
في الكتابة".
و يقابل أدب الهامش عندنا (أدُب الضواحي) الذي يقصد به أدُب الكّتاب الذين يقطنون خارج
العاصمة التي ُينظر إليها على أنها هي المركز.ومن هنا فإن أدب الهامش يعني أيضا كل أدب ُينتج
خارج المركز العاصمي!
من الصعلكة إلى التهميش:
فكرة التهميش ليست وليدة العصر الحالي ،بل هي قديمة و متجذرة في مختلف الحضارات عبر
سياقها التاريخي ،ذلك أن أفكار القمع والقهر واالستغالل التي تحدثت عنها البشرية تشير ضمنا إلى
فكرة التهميش .وفي مجال الدراسات األدبية فإن كل حديث عن شعر الصعاليك في العصر الجاهلي
يكون مقترنا بهذه الفكرة .وقد اختار مجموعة من الشعراء الجاهليين وعلى رأسهم الشنفرى ،وتأبط
شرا والُّسليك بن السلكة ،الصعلكة والعيش في الهامش (من منظور إيجابي) عن طواعية ،فهذا
الشنفرى يكشف عن هذه الرغبة حين قال:
َأقيمـوا َبنـي ُأّم ـي ُصـدوَر َم ــــــــِط َّيُك ـم َفِإنّـي ِإلـى َقــــــوٍم ِس واُك م َألَم يُل
َفَقد ُح َّم ـت الحاجـاُت و الَليـــُل ُم قمـــــِـٌر َو ُش ـَّد ت ِلِط ّيــاٍت َم طــايا َو َأُرحـُل
َو في اَألرِض َم نـأى ِللَك ريـِم َعـــِن اَألذى َو فيها ِلَم ــن خاَف الِقلـى مُـَتَع ـَّز ُل
َلَع مُرَك ما في اَألرِض ضيٌق َعلى ِامرٍئ َس رى راِغ بًا َأو راِهبًا وَ هَو َيعِقُل
َو َأرَقطُـ ُز هــلوٌل َو َعرفاُء َج يـَأُل َو لـي دوَنُك ـم َأهَلـوَن سيـــٌد َعـــــــَم َّلـٌس
وهناك من يرى أن فكرة التهميش كانت في ضوء الحركة الثقافية كلها ،وهذا ما يتضح في حديث
جابـر عصفور ،إذ يتحدث عن "إرادة اإلبداع" ـ عند إدوار الخراط ـ ويرى أنها" :تتحدى سلطة
الكتابة المهيمنة ،باحثًة عن نغمتها الخاصة وسط ركاِم المألوف والمعتاد ،بعيدًا عن غواية المركز،
حيث أن الهوامش التي ال تعرف سوى اإلبحار صوب المجهول الذي يظل في حاجٍة إلى كشف"
فالسلطة هنا ليست سلطة الدولة ،ولكنها سلطة الكتابة الكالسيكية الرومانسية التقليدية ،فكل كتابة
إبداعية تخرج عن النسق المألوف تعتبر (كتابة هامشية).
أدب الهامش/أدب المهمشين واألدب الحداثي
يعد كتاب" سوسيولوجيا الغزل العربي ،الشعر العذري أنموذجًا" للباحث التونسي الطاهر لبيب،
نموذجا هاما الستخدام فكرة التهميش استخدامًا واعيًا في تحليل الظواهر األدبية .الكتاب يقوم على
مالحظة الوضع الهامشي لهذه الفئة (فئة العذريين) .قراءة الطاهر لبيب للغزَل العذري كانت من
منظور أن هذه الجماعٍة المهمشٍة عبرت عن رؤيتها للعالم من وضع التهميش الذي وجدت نفسها
فيه .وفريق آخر يرى أن فكرة التهميش كانت في ضوء الحركة الثقافية كلها تضع الهامش وضعًا
يتعلق بمجمل الثقافة ،يفسر التطور بالصراع التقليدي الجمالي الضمني بين األشكال المهّم شة
واألشكال التقليدية الحاكمة أو المهيمنة .وعلى محمل آخر قد يكون أدب المهمشين هو الشكل
األدبي ،بمعنى "األدب الحداثي" أو "ما بعد الحداثي الجديد" ،أو بمعنى "األدب المتمرد" على
محددات النوع األدبي ،أو بمعنى الخصائص الجمالية المستحدثة غير المألوفة .وعندما ننظر إليه
بوصفه الشكل أو النوع ونضعه في سياق صراعات التطور ،نكون قد خرجنا بالموضوع إلى أفق
الثقافة الواسع .وبديهي يمكن أن نعيَد التعبير عن أي مصطلح من المصطلحات الثالثة األخيرة
بعبارات المصطلحين اآلخرين؛ فمن السهل مثًال أن نقوَل إن الشكل الحداثي أو ما بعد الحداثي يحقق
لألدب خروجًا عن محددات النوع ،وهو يجاوز التقاليد الجمالية السائدة .ويمكن النظر إلى الشعر
الصوفي على أنِه إنتاج جماعٍة مارست التهميش على اعتبار أن الهامشيَة تعني الخروَج عن
السياقات السائدة جميعًا ،وتحرير الوعي منها .ولعل أوضح صورة ألدب الهامش الذي أنتجته
جماعٌة مهمشٌة هو األدب الشعبي الذي يراه النقاد نتاج جماعٍة شعبيٍة مهمشٍة تشكل جماليًا رؤيتها
للعالم ،وتصنع أبطالها األسطوريين من بعض أفرادها.
أدباء الهامش..انتفاضة ومحاولة التسلق إلى المركز:
أقيم في السنة الماضية ملتقى أدبٌّي بإحدى مدن الداخل الجزائري سمي"عرس الهامش" ،قصد
إسماع صوت "الجزائر العميقة" ،كما تسمى كل المدن الجزائرية ،ما عدا العاصمة التي تحولت إلى
مركز كبير فيه كل وسائل اإلعالم والدعاية الثقافية ،بمقابل الهامش الذي ال يمتلك شيئا من تلك
األضواء وبقي كّتابه في ظل النسيان يكاد صوتهم ال ُيسمع حتى "ولو كتبوا الروائع األدبية" ،مثلما
يؤكد بعض المالحظين .وقد ظهر مصطلح "أدب الهامش" في الجزائر منذ سنين وكان يعني "أدب
المهمشين" المتمردين على المنظومة الرسمية مثلما هو معروف في آداب وفنون الشعوب األخرى.
وكانت أول محاولة لالحتفاء بذلك الزخم سلسلة "نصوص الهامش" الشعرية التي أصدرتها "رابطة
كّتاب االختالف" نهاية تسعينيات القرن الماضي وصدر عنها كثير من النصوص الشعرية لشعراء
كانوا مهمشين في المنظومة الشعرية الرسمية قبل ذلك .لكن مفهوم الهامش تغّير في نظر كثير من
الكّتاب عندما حدثت تحوالت في المشهد األدبي ،وافتك هامشيو الجزائر العاصمة مكانة لهم تحت
األضواء وتم االعتراف بهم .وعندما وجدت فئة من كّتاب الضواحي الجزائرية نفسها بعيدة عن تلك
األضواء أصبحت تنسب نفسها إلى الهامش ،ومن بين كّتاب الهامش المعروفين ،الشاعر أبو بكر
زمال الذي ضاق ذرعا من حيف الهامش وضنكه فعرض إحدى كليتيه للبيع قبل نحو ست سنوات،
وبغض النظر عن هدفه من هذا السلوك فإنه أحدث فرقعة إعالمية حاول بوساطتها كسر طوق
الهامش الذي حاصره ليخطو خطوة أخرى في محاولة للتسلق إلى المركز حيث أصدر كتابا بعنوان:
" الصوت المفرد ،شعريات جزائرية" وهو عنوان يتدثر بحياة الهامش ،الكتاب " انطولوجيا شعرية
" تضم ثمانية عشر شاعرا كلهم محسوبين على الهامش ،أمثال عبد هللا الهامل وميلود خيزار
ونجيب أنزار وعمار مرياش وأحمد عبد الكريم وعلي مغازي وأحمد دلباني وغيرهم...وقد أشار في
كتابه إلى حياة الهامش وثورته و طموحاته حين ذكر أن الصوت المفرد يأتي " من حيث تنهض
الحياة بعيدا عن التراجيديات واألهوال والخيبات ،يأتي من نداء األصابع والجمر ،من جهات الصدفة
واللعب المتظلل بالطفولة ،ال يذهب إال ليعود ساطعا ،ومتنبئا بالحيرة ،وممعنا في العراء ..ال وحده..
إنه يتبطن الكل وييمم وجهه شطر النار كي ال يحترق بل ليضيء العتمات ،ويخصب نرجسيته،
ويخرجها نهائيا من حيز اليتم إلى متون الوجود واالنتماء ".كاتب آخر من كّتاب الهامش ،الشاعر
رضا ديداني الذي ما زال يمتهن التعليم في إحدى المدن الصغيرة القريبة من مدينة عنابة ،ورغم أن
تجربته في الكتابة بدأت في ثمانينيات القرن الماضي إال أنه لم يتمكن من إصدار مجموعة شعرية إال
مع مطلع األلفية الجديدة ،واختار لها عنوانا معبرا هو "هيبة الهامش".
يعتبر رضا ديداني كتابة الضواحي بأنها "مهمشة جغرافيا" ،ويؤكد صراحة أن "كّتاب الضواحي
أصدق من كّتاب المركز لعدة اعتبارات ،منها أنهم يعايشون الواقع الحقيقي ،ويحتكون بشكل مباشر
مع األشياء الطبيعية ،وأن الواقع اليومي في الضواحي أكثر واقعية وال زيف فيه بعكس كتابة
المركز" .وفي الوقت الذي يؤكد فيه ديداني أنه استغنى عن العاصمة ،واستطاع بسبب وجوده طويال
في الهامش الشعري وفي مدن الضواحي أن يرى "أصواتا أدبية مهمة جدا لم تستطع إسماع صوتها
للمركز وللعالم ألن األبواب مسدودة في وجهها ولم تجد أي منفذ للظهور".
ولئن رضي الشاعر رضا ديداني بالبقاء بعيدا عن أضواء العاصمة ،فإن شاعرا آخرا نشأ في
الهامش الشعري هو الطيب لسلوس ،المحسوب على ما يسمى بـ "جيل التسعينيات األدبي" وقد
صدرت له مجموعته الشعرية الوحيدة "هيروغليفيا" منذ حوالي أربع سنوات ،كان من ضحايا لعبة
هامش الضواحي والمركز .فرغم تمّيز صوته الشعري الحداثي وعمقه الفلسفي إال أنه بقي في الظل
ال يعرفه إال القليل من المهتمين بالشأن الشعري الجزائري ،مما اضطره للهجرة إلى العاصمة في
ظروف صعبة جدا ،وتمكن من طباعة ديوانه األول "هيروغليفيا" سنة ،2003ويتبوأ مكانة في
المشهد الشعري الجزائري المعاصر .وقد نشر كثيرا من النصوص والمقاالت في منابر عربية
معروفة انطالقا من المركز العاصمي الذي جاءه مكرها ،فبرأي الشاعر الطيب لسلوس أن هناك
إجحافا كبيرا فيما يخص كّتاب الضواحي ،فالمعلومة المتعلقة بنشاط الساحة الثقافية تصل متأخرة،
على عكس كّتاب المركز العاصمي الذين كثيرا ما تتاح لهم فرص غير متوفرة لغيرهم ويمتلكون
سالح المعلومة ،فتحدث بالتالي انتقائية في اختيار األسماء ،وفي النهاية هم ضحايا العمل العصبوي؛
فكاتب الضواحي قد يورطه كاتب آخر من المركز العاصمي بسبب نقص المعلومة بالنسبة لألول ،ثم
هناك نقص المنابر األدبية في الضواحي التي تجعل ظهور كّتاب هناك شيئا صعبا ،وكاتب
الضواحي الذي تغيب عنه المعلومة ،تغيب عنه بالتالي أدوات النشر وراهنية النشر ،فقد يبقى كتابه
في انتظار النشر أكثر من خمس سنوات مثال ومع ذلك يعتقد بأن كتابه جديد .وكثير من كّتاب
الضواحي تجاوزوا سن األربعين ومع ذلك يحشرون في خانة الكّتاب الجدد الناشئين .ويعتقد لسلوس
أنه على كاتب الضواحي أن يعمل على الحصول على المعلومة الصحيحة في حينها حتى يكون
مواكبا لألحداث ،وذلك قد يتم بالوجود الدائم في المركز العاصمي (مثلما فعل هو) وقد يكون
حضورا عن ُبعد بطرق أخرى.
وفي سنة 2008أقيمت عكاظية الشعر العربي في الجزائر في إطار برامج "الجزائر عاصمة الثقافة
العربية" .ورغم حضور بعض شعراء الضواحي إلى جانب شعراء جاءوا من البلدان العربية
وآخرين من المركز العاصمي إال أن بعض كّتاب الضواحي وجدوا أنفسهم مرة أخرى في الهامش!
أما الكاتب شرف الدين شكري ،وهو من مدينة بسكرة ،فقد أصدر بيانا لّخ ص فيه لعبة الهامش
والمركز تحت اسم "بيان غنائية الهامش" قال فيه" :سوف يواصل الشعر مرة ُأخرى قول الكالم.
وللمركز الجميل أن يتبارى في نسياننا ،نحن ـ المهَّم شمين ـ وللهامش التليد أن يتبارى في تقديم
ضحاياه ،الضحية تلو الضحية ،وأن يبرع أكثر في اختالق الكورس النَّد اب وأن يمتنع عن التفكير
الذكي من أجل الدفاع أو من أجل إصالح األوضاع ،فاالرتقاء واحد :مركٌز مهَّم ش ،وهامش
مركزي ،طالما أَّن العملة المتداولة بين الطرفين ستظُّل موَّحدة حَّد الَّش به :الكالم ".وفي هذا السياق
أصدر الكاتب شرف الدين شكري كتابا بعنوان "الهوامش الكونية ،تأمالت في حياة معدمة " ،تحدث
فيه عن فلسفة الهامش المنتفض ،الطموح لإلطاحة بالمركز ..وهكذا يبقى الصراع والسجال بين
المركز والهامش في قالب جدلي وكل طرف يتربص باآلخر ،يقول شرف الدين شكري " :سوف
يواصل الشعر توسيع الهوة بين الهامش الذي لن يصير مركزا ،والهامش الذي يبتغي االعتالء إلى
المركز والمركز الذي نسي الهامش والهامش الذي نسي المركز"...
بعض الشعراء قنعوا بحياة الهامش ،منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" ،حميد كّش اد " سلطان
المهّم شين رحل قبل نحو شهرين ،كان يعشق الهامش إلى حد التضحية في سبيله بكل شيء ،حتى
بـ"الخبزة" مثلما حدث له أكثر من مرة وغادر المؤسسة التي كان يعمل فيها مكرها .أما الشاعر
عثمان لوصيف الذي أصدر ست عشرة مجموعة شعرية ومجموعة نثرية ،فيبدو أنه قد استمرأ حياة
الهامش واستسلم لها بعد أن فهم " اللعبة " وراح يرقب الوضع بعيني " المتغابي" ،يقول:
حاضر
لكنه يتبّد ى
موغال..في عتمات الغياب
عارف
لكنه يتغابى..
من رأى..أسطورة في ثياب ؟
ويضيف:
قال:
سري ..في النبوغ
سطوعي
في األغاني..حكمتي في التغابي
الشاعر علي مغازي سعى للخروج من الهامش فأصدر مجموعته الشعرية األولى لكنه بقي في الظل
(والظل ال يختلف عن الهامش ) بعد أن عنونها بـ " :في جهة الظل " ويتوق إلى الخروج من جهة
الظل ،وأذكر أنه لما أهدى لي مجموعته الشعرية كتب لي فيها .. ":على أمل أن نلتقي ذات يوم
خارج جهة الظل" ويبدو أنه يسعى الستكمال ذاته حين يقول:
ذلك
هو أنا
ليس أكثر...
ليس أقل...
وليس تماما...
أدب الهامش في المغرب قدم صورة مختلفة لمجتمع متعدد الزوايا يركز على التفاصيل وال يقف
منها موقف المتفرج ،تفاصيل ساخرة مبكية يندى لها الجبين ،لكنها صادقة ،موجودة بالفعل ،ليس من
مسؤوليته معالجتها أو البحث عن حلول آنية لها ،إنه يبرزها فقط .في هذا المستوى يمكن اعتبار
أدب الهامش في المغرب صورة صادقة ورائعة ألدب تمت معاملته مدة طويلة بكثير من االزدراء
والتهكم.
من الصعب حصر المبدعين المغاربة الذين يمكن إدراجهم في الهامش،لكن سأكتفي بثالثة وهم على
التوالي :محمد شكري ،محمد زفزاف ،محمد منيب.
يكفي أن نقرأ “الخبز الحافي”لمحمد شكري لنعرف واقعا جديدا مغايرا ،تاريخا آخر مسكوت عنه.
تاريخ يستنكف المؤرخون عن تدوينه ،ربما العتقادهم أن المهمشين ال يصنعون التاريخ ،فهل من
العار أن يصنع الضعفاء التاريخ؟ وتحضرني مقولة " نيتشه " التي مفادها أن القوة هي مهزلة
التاريخ ،الحرب تصنعها القوة والسالم يصنعه الضعف! ليس مهّم ا من يصنع التاريخ ،ولكن شكري
صنع تاريخا جديدا للمغرب ،ال تهم الفائدة التي جناها أو حققها ،كل ما يهم أن شكري كان مختلفا،
كتب ما عجز الجميع عن كتابته ،وهذا يكفيه .بعضهم شكك في إمكانية أن يكتب شكري قصة أو
رواية ،وقبل هذا تم التشكيك في الشعر الجاهلي الذي ال يزال كالطود الشامخ.
شكري كان ذكيا جدا ،استطاع أن يوظف طاقاته الخاصة ،ال يدخل مجاال يعتقد أنه يجهله ،ال يصف
أماكن ال يعرفها ،ال يتحدث بلغة يجهل قواعدها ،لشكري رحمه هللا قاعدة ذهبية هي " :استغل
طاقتك و إمكاناتك ".حتى إنتاج الجمل السردية في كتابات شكري تكاد تتبع نهجا واحدا ،نسقا واحدا،
لونا واحدا ،وهنا قمة التميز عند شكري.
رواية "الخبز الحافي" ليست سيرة ذاتية فحسب ،بل هي سيرة مجتمع بأكمله ،صورة األب تبعث
على التقزز ولكنها أصيلة في زمن الجوع والقهر ،اآلن لم يعد الخبز هو المحرك الوحيد ،ولكن
الخبز الحافي يبقى منقوشا في الذاكرة.
محمد زفزاف كاتب مدهش برواياته" :بيضة الديك” " ،قبور في الماء" " ،األفعى والبحر"،
"الثعلب الذي يظهر ويختفي" روائع ال يمكن نسيانها .وما يميز هذين الرجلين هو الصدق مع النفس
ومع القارىء.
أما محمد منيب فعرف بالشعر؛ العالقات اإلنسانية المهمشة و المسكوت عنها ،خاصة في عالقة
الرجل بالمرأة نجدها حاضرة بقوة في أشعار هذا الرجل ،قليل من التصريح وكثير من التلميح،
ولكن حين نقرأ أشعار محمد منيب نلمس كل أشكال الهامش وزواياه.
الخاتمـــــــة:
لعل المثير للسخرية والرثاء أن كثيرا من أعمال كّتاب الهامش عندنا وجدت صدى واسعا لمناقشة
مضامينها في دول غربية في الوقت الذي ال ُيلتفت إليها عندنا ..والواقع فالحياة طبقات :طبقة ال
تضل وال تشقى وطبقة تمزقها الهموم والهواجس ورغم ذلك ال يفارقها األمل في األحالم وفي
اليقظة،هذه الطبقة وإن كانت تعيش في الهامش إال أن أفرادها يصنعون الحياة ،ويصنعون نغمة
للغناء تارة وأخرى للبكاء تارة أخرى ثم يخرجون من الحياة دون أن يشعر بهم أحد ،بعد أن كانوا
أكثر إقباال على الحياة وحملوا على ظهورهم همومها واألمل المزهر يشرق في نفوسهم بقدوم غد
أفضل.
عنوان الدرس :أدب الهامش في الجزائر:
قراءة في دراسة ليلى جغام ومشقوق هنية "وصف التجربة الشعرية للشاعر :رضا ديداني
ممثل أدباء الهامش في الجزائر"
أدب الهامش وفوضى المصطلح:
لغة:
هامش وهوامش ..حاشية الكتاب أو جانب الشيء وعرضه ..وفالن يعيش على هامش الحياة ،حيث
توحي لنا الكلمة بدونية الشيء أو تواضعه!! في حين نستمد من هوامش الكتب ثقافة قد ال نجدها في
الكتب نفسها ..إذًا ف(الهامش) كلمة ذات عطاء موجب وسالب في آن ،وليس سالب فقط ،فإن تكون
على هامش الحياة يعني أنك بمعزل عن مآسيها ،وهمومها ،وعللها ،وأوجاعها ،وفقرها ،و جوعها..
1و تشعر أن فالن جعلك في الهامش أو على الهامش فتأسى وتحزن وتكتئب ..مع أن وضعك هذا
يمنح ذهنك مساحة لمراجعة أسباب جعلك كذلك؟ وطلب معرفة أين يكمن الخلل ،فيك أو فيه؟ 2
اصطالحا:
أشار توفيق بكار في حديثه عن الهامشية أن الكلمة مشتقة من لغة الوراقة ،وتتعلق بهيئة توزيع
الكالم على الصفحة المخطوطة أو المطبوعة ،فلها صدر ولها هامش يحيط به 2،أما الصدر فللنص
أي المتن ،وأما الهامش فلتوابعه من التحشية والتعليق 3وللكلمة مشتقات أخرى نحو :الهامشي
والهامش والمهمش ،خاصة عندما ترد الكلمة مصاحبة لكلمة أدب .
وقد ظهر لنا أدب الهامش بجانب ثقافة الهامش ،وكان ظهوره جليا في مدن الداخل الجزائري
المقموع مثقفيها ....عندما أقيم ملتقى ثقافي هو األول من نوعه تحت تسمية عرس الهامش 4
الفرق بين األدب الهامشي وأدب الهامش واألدب المهمش :
األدب الهامشي :يفترض وجود األدب المركزي ،الذي هو أدب المؤسسة ،يكتبه كتاب من صنع
المؤسسة السياسية أو الدينية النافذة في ذلك العصر للترويج أو الدعاية لها أو لتبرير وجودها ،فهو
أدب تابع للمؤسسة ،وفي مقابل هذا األدب الهامشي ،وهو األدب الذي يقوم على االحتجاج ضد
وضعية اإلنسان والعالم وضد آداء المؤسسة وأحقية وجودها واستمرار سلطانها ،وهو نوعان أدب
منبري خطابي ال خير فيه وأدب فيه من الرقي ما يجعله ينقد في غير إسفاف وال مباشرتية 5
أما أدب الهامش فهو أدب يرصد حياة المنسيين والذين يعيشون في طرة الحياة وعلى حافتها ،هم
المدقعون فقرا من متسولين ولصوص صغار ومتشردين وبائعين متجولين وصغار الموظفين،
فيرصد هذا األدب حياتهم ومعاناتهم ،وفي مقابل ذلك نتوقع وجود أدب آخر هو أدب المركز ،وهو
األدب البالطي ،أدب ينشغل بحياة الترف التي يحياها الخاصة من الساسة والفنانين ورجال الدين
أحيانا 6
في حين أن األدب المهمش هو أدب المغضوب عليهم من طرف المؤسسة ،إما ألنهم يحاربونها
علنا أو يقدمون بدائل للحياة التي تسوسها من خالل أدب تقدمي يتغنى بالحريات مثال 7
ويمكن القول بأنه األدب المتمرد.
ظهور أدب الهامش في الجزائر :
طفح الكيل ،على ما يبدو ،إذ بعد سنوات من العزلة المفروضة على الكتاب الجزائريين الذين
يعيشون خارج العاصمة ،ها هو أحد كتاب الضواحي يصدر بيانًا قاسيًا ،يذّك ر فيه بأن الجميع سواء
في المحنة ،وأن المركز هامشي بدوره وليس متنًا ،كما يعتقد البعض 8
في الجزائر قلماا تجد كاتبا معروفا ،تعود أصوله إلى مدينة الجزائر العاصمة صاحبة التاريخ
الطويل وعدد السكان الكبير الذي يقارب الخمسة ماليين نسمة إال في حاالت استثنائية ،ومع ذلك
فكل المنابر الثقافية واإلعالمية في هذا البلد وكل الجمعيات الفاعلة تقريبا موجودة في الجزائر
العاصمة ،ونتيجة لهذه المفارقة الغريبة ،نشأ ما يمكن أن يسمى "أدب العاصمة" و"أدب
الضواحي" ،هذا األخير الذي يكتبه أدباء يعيشون خارج العاصمة وصخبها وحتى أضوائها
اإلعالمية 9وهنا تلتقي الباحثتان مع رؤية سعادة لعلى.
أقيم في الفترة األخيرة ملتقى أدبي بإحدى مدن الداخل الجزائري سمي "عرس الهامش" ،كأول
محاولة جادة من أجل إسماع صوت "الجزائر العميقة" كما تسمى كل المدن الجزائرية ،ما عدا
العاصمة التي تحولت إلى مركز كبير فيه كل وسائل اإلعالم والدعاية الثقافية ،بمقابل الهامش الذي
ال يمتلك شيئا من تلك األضواء وبقي كّتابه في ظل النسيان يكاد صوتهم ال يسمع حتى "ولو كتبوا
الروائع األدبية" ،مثلما يؤكد بعض المالحظين 10
وقد ظهر مصطلح "أدب الهامش" في الجزائر منذ سنين وكان يعني "أدب المهمشين" المتمردين
على المنظومة الرسمية مثلما هو معروف في آداب وفنون الشعوب األخرى ،وكانت أول محاولة
لالحتفاء بذلك الزخم سلسلة "نصوص الهامش" الشعرية التي أصدرتها "رابطة كّتاب االختالف"
نهاية تسعينات القرن .العشرين ،وصدر عنها الكثير من النصوص الشعرية لشعراء كانوا مهمشين
في .المنظومة الشعرية الرسمية قبل ذلك 11
تغّير مفهوم الهامش بتغير األوضاع (االجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو حتى العالمية)
فمفهوم الهامش تغير في نظر الكثير من الكّتاب ،عندما حدثت تحوالت في المشهد األدبي ،وانتزع
هامشيو الجزائر العاصمة ،مكانة لهم تحت األضواء وتم االعتراف بهم .وعندما وجدت فئة من
كّتاب الضواحي الجزائرية نفسها بعيدة عن تلك األضواء أصبحت تنسب نفسها إلى الهامش .ومن
بين كّتاب الهامش المعروفين الشاعر رضا ديداني الذي ما زال لحد اآلن يمتهن التعليم في إحدى
المدن الصغيرة القريبة من مدينة عنابة بأقصى الشرق الجزائري 12
رضا ديداني أديب الهامش وموقف باقي األدباء الجزائريين من الهامش:
رغم أن تجربته في الكتابة بدأت في ثمانينات القرن العشرين إال أنه لم يتمكن من إصدار مجموعــة
شعرية إال مع مطلع األلفية الجديدة ،واختار لها عنوانا معبرا هو "هيبة الهامش" 13ويعتــبر رضــا
ديداني كتابة الضواحي فعال "مهمشة جغرافيــا" ،ويؤكــد صــراحة أن "كّت اب الضــواحي أصــدق من
كّتاب المركز لعدة اعتبارات ،منها أنهم يعايشون الواقع الحقيقي ،ويحتكون بشكل مباشر مع األشــياء
الطبيعية ،وأن الواقع اليومي في الضواحي أكثر واقعية وال زيف فيه بعكس كتابة المركز" 14
وفي ذات الوقت يؤكد ديداني أنه استغنى عن العاصمة ،واستطاع بسبب تواجده طويال في الهــامش
الشعري وفي مدن الضواحي أن يرى "أصواتا أدبيـة مهمـة جـدا لم تسـتطع إسـماع صـوتها للمركـز
وللعالم ألن األبواب مسدودة في وجهها ولم تجد أي منفذ للظهور" 15
ولئن رضي الشاعر رضا ديداني بالبقــاء بعيــدا عن أضــواء العاصــمة ،فــإن شــاعرا آخــرا نشــأ في
الهامش الشعري هو الطيب لسـلوس ،المحسـوب على مـا يسـمى ب "جيـل التسـعينيات األدبي" وقـد
صدرت له مجموعته الشعرية الوحيدة هيروغليفيا" منذ حوالي أربع سـنوات ،كــان من ضــحايا لعبــة
هامش الضواحي والمركز ،فرغم تميز صوته الشعري الحداثي وعمقه الفلسفي إال أنه بقي في الظــل
ال يعرفه إال القليل من المهتمين بالشأن الشعري الجزائري ،ممــا اضــطره للهجــرة إلى العاصــمة في
ظروف صعبة جدا .وهكذا استطاع هذا الشاعر طباعة ديوانه األول "هيروغليفيــا" الــذي صــدر عن
منشورات اتحاد الكّتاب الجزائريين سنة ،2003وأن يكون لـه اسـم في المشـهد الشـعري الجزائـري
المعاصر 16
وقفة مع ديوان " هيبة الهامش " للشاعر رضا ديداني :
قصــائد تعــانق الحلم و االنكســار – كمــا وصــفت -عرضــها األخضــر رحمــوني ،صــدرت عن
منشورات إتحاد الكتاب الجزائريين و بمساهمة الصندوق الوطني لترقية الفنون و اآلداب و تطــويره
التابع لوزارة االتصال و الثقافة،
وصدرت مؤخرا عن مطبعة دار هومة المجموعــة العشــرية األولى للشــاعر الشــاب رضــا ديــداني
الموسومة ب" هيبة الهامش" في 94صـفحة من الحجم المتوسـط ،والـديوان مقسـم إلى مجموعـتين
شــعريتين ،األولى حملت عنــوان " قصــائد العزلــة" و تحتــوي على 11قصــيدة و الثانيــة بعنــوان "
قصائد الهامش" و تضم 06قصائد17.
رفع الشاعر رضا ديداني باكورة أعماله الشعرية إلى روح األصــدقاء :عبـد هللا بوخالفـة وعبـد هللا
شكري وبختي بن عودة الذين اختطفتهم أيادي الغدر والخيانــة وهم في عمــر الزهــور ،ومــا تــذكرهم
باإلهداء إال عربون وفاء ومحبة خاصة وأن الشاعر قــد جمعتــه وإيــاهم عالقــات حميميــة في دروب
الهم الثقافي وفي الرؤية الفكرية الحديثـة ،و ال نكشـف سـرا إذا مـا أشـرنا إلى أن آخـر رسـالة كتبهـا
المرحوم الشاعر عبد هللا بوخالفة قبل و فاته بيــومين خالل شــهر أكتــوبر 1988كــانت موجهــة إلى
صديقه رضا ديداني 18
يمكن القول بداية أن "هيبة الهامش" تندرج ضمن ما يسمى ب :شعر الحالة ،وأن جميع نصوصــها
خاضعة لحالة ما ألمت بالشاعر فيقولها بكار خاما كمــا أحســها ال كمــا فهمهــا ،مترجمــا إياهــا ألفاظــا
وعبارات وال أقول أفكار أو معاني بل أصوات مكتفية بذاتها مشــبعة بــزخم وقــع حالتهــا ومتموجــة
بتموجها ،فإذا ما كانت الحالة حادة وقوية جاءت األلفاظ كذلك حادة وقوية من خالل في تنــاغم نفسـي
خالص ،إذ نقرأ مثال في نص (عزلة) ( )phonemesصوتياتها)
: 19ص 12
"طيش
ال تقلق من يأس بليغ مثل هذا اللون األزرق
حتى لو كانت مغرمة بطهرها ،
لغة يفتنها سماء الوثن
هي بلبسها تختلي ،
وأنت بأمالحها تتمعن ضدك" !
وإذا ما تأملنا في المقطع وجدناه يعبر عن حالة قلق وحيرة وما ينبثق عنهما
من اضطراب وعنف ..وإذا ما حاولنا تفكيك المقطع السابق وقراءة السطر األول
منه الذي يقول :
ال تقلق من يأس بليغ مثل هذا اللون األزرق ..وإذا ما قرأناه سيميائيا وتأملنا في دالالتــه وإشــاراته
لوجدنا أن الشاعر يسقط حالة نفسية (القلــق واليــأس) على معطى طــبيعي ،األلــوان (اللــون األزرق)
وهو لون البحر أين يعيش الشاعر)مدينة عنابة( ،ثم ينتقل مباشرة إلى حالـة أخـرى يتحـدث فيهـا عن
المؤنث بعد أن كان يخاطب المذكر فيقول( :حتى لو كانت مغرمة بطهرها) ،وهــو طــرح ظاهريــا ال
يمت بصلة إلى السطر األول ولكنه شعوريا مرتبط أشد االرتباط لكــون الشـاعر ال يقصــد المعــنى أو
الفكرة بل ينساق وراء الحالة واإلحساس الذي ألم به فيقولها كما أحسها وشعر بهــا ..ونلمس ذلــك في
السطر الذي يليه مباشرة في قوله:
لغة يفتنها سماء الوثن
هي بلبسها تختلي ،
7
وأنت بأمالحها تتمعن ضدك !
قد يـراه البعض شـيء من العبث ،والبعض اآلخـر يعتـبره سـخف ..ولكن السـؤال المطـروح عبثـا
وسخفا بالنظر إلى ماذا؟! وهنا يكمن سر شعر الحالة! هل نحن نقرأ الــوعي أو الالوعي؟ الظــاهر أم
الباطن؟ الفيزيقي أم الميتافيزيقي (الماوراء)؟ ! وإذا ما أخذنا بالمعايير المعمول بها وقرأنـا نصـوص
رضا ديداني بالقواعد المتداولة والمتعارف عليها أكاديميا؛ من الجانب اللغوي والموسيقي والبناء
التركيــبي للمعــاني واألفكــار لرميناهــا جانبــا .ولكن إذا مــا أخــذناها كمعطى وجــودي جســد النص)
الستمتعنا كثيرا بمناقشتها ومعرفة كنهها20
وفي قراءتنا نحن لهذا المقطع فإن الشاعر يتحّد ث عن لغة أدب المركـز؛ فهي يفتنهـا سـماء الـوثن
إشارة منه إلى السلطة أو المؤسسة العليا التي تتحكم في كل شيء بمــا في ذلــك األدب ومن ثم فاللغــة
التي يكتب بها أدب المركز ليست بريئة وال طــاهرة من النفــاق والكــذب إرضــاء للمركــز .والشــاعر
يخاطب نفسـه أو األدبــاء الــذين هم في الهــامش مثلــه ،موضــحا لهم أنهم يعرفـون أدبهم وأنفسـهم من
خالل تأمل كتابات المركز المتسمة بالملوحة التي تنم عن عدم استساغتها مثل الطعام شديد الملوحــة.
وهنا نرى الشاعر يستخدم الرمز ال الوضوح للتعبير عن موقفه من كتابات أدب المركز.
ومع هذا فنصوص رضا ديداني ال تخلو كلها من الــتركيب المنطقي واســتدراج المعــنى ،فهــذا نص
الطين ص 21دليل على ذلك ،فيقول:
انحنيت ،كانت الغرفة ،
أقرب إلى ظهري
وصوتي يتدحرج كحجر السقف
وأنا أحاول أن أنام بأقراص النهار.
*****
ال تعدم الفكرة
فنجان القهوة
كل صباح ينطفئ
لفكرة بين أصابعي تريبك
كأسئلة األطفال
أنا أنتظرها.
وهي تنتظر اإلعدام ! 8 21
ويمكن للقارئ الذكي تفكيك تركيبة هذه النصــوص المكثفــة لغويــا ،النابعــة من يقظــة ذهنيــة تالمس
المغيب و األنا التي أصبحت مكرسة تعبيريا لألنا القوة الفاقدة لهويتها بمختلف تجلياتها ،وفي أحيــان
كثيرة تخاطب بل تحاكم األنا قبل محاكمة اآلخر .
من لبس الصمت
تيقنت أن اللغة يائسة
وغايتي ال أعرف!
أنت هناك
ثوب أزرق يرتعش
و أنا أعاين الحجر األملس 22
ويتجلى الحضور الشعري المتميز لهــذه النصــوص في تقاطعهــا مــع الــراهن االجتمــاعي الخاضــع
لسياسة األقــوى بــالعودة إلى ديمومــة حركــة الثمانينيــات الحالمــة و التســعينيات المنتكســة من القــرن
الماضي وهكذا جاءت مجموعة " هيبة الهامش" متفتحة على رؤية نصــية مشــهدية بتوظيفهــا بعض
الـدالالت اللفظيـة مثـل ( المـرآة ،النافـذة ،الطفـل ،الـذباب ،الثقـوب ).....،كرمـوز للتعبـير عن قلـق
الوجود ،وإحباطات النفس المغيبة ،وحرقة
الكلمة البريئة ،فقصيدة " سؤال" كنموذج تحمل في مفاصلها حيرة اإلنسان الجزائري إزاء سياســة
مفلسة ثقافيا و اجتماعيا مما جعلته يتمرغ بين لغة الخشب ولغة العدمية حتى سقط في اليومي العبــثي
23وفي نص (هيبة الهامش) المتضمن بالمجموعة يحاول رضا ديداني أن يمد جسور التالقي ويفتح
كوة لإلفصاح عن عالم الهامش فيقول:
تمهلني ،أمهلك ،
من مساء الضوء الغابر في مهالك السوء ،
اختار الشك.
وأنا أتبرم بشفاه فاضت علي.
ترددت ،حين شاخت قدمي
عند عتبات الباب
أسمي الظل ،وكأني ألسعه ،
كم أختفي ..حتى لو أمهلك.
..........
..........
اندفع ،اندفع ..اآلن.
حتى فمي أزرق عند أقدام هذا الهيكل.
ما بوسعه يئن حيلة
لينقر النافذة
وأنا بين أصابعه
أرتمي ألرمم جسدي
وأخيط ملذاته ألساعدك
أفترض أن أجيء بقلب هادئ
لكن أذني من نقر الباب ترتعش24 .
يتبع الشاعر خطواته مـوغال في الهـامش ،يـوارب معنـاه ،ويصـرخ في صـمت وبقلب مثلج هـادئ
يبحث في أبعاد المدفأة عن غنيمة الممر لدفء الغيمة بعيدا عنقلق(حتى)وقصائد العزلة !
والمجموعة تضم 17لغزا بداية من نص "عزلــة ،ملــوك النمــل ،أنــا ،طين ،أنت ســؤال ،محاكمــة،
اآلن ،نص الذباب ،شفة النهاية ،مالذ المتن ،هيبة الهامش ،أبعاد المدفأة ،حــتى ،دفء الغنيمــة ،قلــق،
غنيمة الممر" ،وكما يتضح من خالل هذه العناوين المسائلة والحائرة فالشاعر دومــا في عمليــة بحث
وتجريب ،هو ال يقــول المتن وإنمــا يخاتــل الهــامش ويســير بجانبــه كالظــل يطــارد فراشــات المعــنى
ويهمس ألزهار الجانب بالسر الذي يبحث عنه وال يفشيه 25
ف"هيبة الهامش" إذن مغامرة في عالم المجهول ،ديــوان يحــذوه القلــق من كــل جــانب؛ لغــة وبنــاء
وصورة ..وتحوم من حولــه عالمــات التعجب واالســتفهام ،فهــو مؤشــر قــوي نافــذ إلى أغــوار عــالم
باطني يحاول الشاعر رضا ديداني اإلفصاح عنه بأدوات مغاير للسائد ومختلفة عن المتفق عليه ..قد
تكون نظرة أو نظرية لعالم موازي" الهامش" ،وقد تكون أشياء أخرى تعجز اللغة عن قولها26
وقد أورد الشاعر عز الدين ميهوبي رئيس إتحاد الكتاب الجزائريين -في تقــديم المجموعــة أن في
ديوان " هيبة الهامش" شيء من سيرة رضــا ديــداني الــتي تنــبئ عن ميالد جيــل من الشـعراء الــذين
يرفضون الموت على أرصفة اإلبداع المتوحشة " 27
خاتمة :
تخلص الباحثتان إلى أن هامشية األدب تتعلق بمدى تسليط األضواء عليه واكتسـابه اهتمـام السـلطة
الفاعلة أو المؤسسة المكلفة برعاية ذلك ،حتى لو كان من روائع الكتابات كما قال بعض المالحظين،
ويتعلق األمر عادة بكتاب الضواحي من غير العاصمة أو ما يسمى بالجزائر العميقــة ،ممــا يتخــذ من
مجريات الحياة اليوميــة في هــذه المنــاطق موضــوعا لهــا ،ممــا يعتــبر خارجــا عن اهتمــام المؤسســة
الوصية على ترقية األدب ومتابعته .
وتتضمن قصائد ديوان هيبة الهــامش للشاعر رضــا ديــداني إحساســا بالعزلــة والتهميش ممــا كــان
يمارس ضد صاحبها وغيره ممن عاصرهم ونحو نحوه.
عنوان الدرس :من أدب الهامش إلى أدب المركز (العوامل واألسباب)
قراءة في مقال أدب محمد شكري من الهامشية إلى المركزية لحسن بحراوي