Professional Documents
Culture Documents
Alamalqudra Werada
Alamalqudra Werada
) (1البخاري كتاب المناقب :باب علمات النبوة ،حديث رقم . 3408
في القرآن الكريم ،ابتلء ذكاء النسان في رؤية السباب الصحيحة ،لن النظرة العجلى تفسر المور
تفسيرًا سطحيًا ؛ كما فسروا قديمًا حركة الشمس بأنها هي التي تدور حول الرض .وربما كانت حركة
الشمس آية للنسان في قابلية وقوعه في التفسير الخاطئ لما يظنه واضحًا جدًا ،ليراجع مفاهيمه وأعماله
ل سيما حين تتأخر العواقب عن أوقاتها التي قّدر ال لها قدرها … وال أسأل أن ينفع بهذا الكتاب وال
وراء القصد وهو يهدي السبيل .
جودت سعيد
27رمضان 1399هـ
الفصل الول
حات الَبحث
صطل َ
ُم َ
ل يتحقق عمل ناجح بغير إخلص وصواب ،فما ل نريده ول نخلص له ل نعمله ،وما ل نعرف
ل يقّرب معنى طريق تحقيقه ل نسعى إليه ،ولو سعينا إليه بغير طريقه فل نصل إليه .ونذكر مث ً
الخلص والصواب ) الرادة والقدرة ( حتى نعرف بعد ذلك المصطلحات التي تدل على المعنى نفسه أو
ما هو قريب منه .
فموقف الم من البن المريض في حرصها على شفاء ولدها يمكن أن نسميه موقف إخلص
) إرادة ( ،حيث أم موقفها نحو ابنها المريض ل يداخله غش أو خداع ،وإنما هو إخلص كامل لرادة
الشفاء .فهذا هو الخلص كشيء واضح قريب المأخذ يمكن أن نقّرب به محتوى الخلص ) الرادة (
ل بدرجات بادئ ذي بدء .ولكن هذا الموقف الذي تحمله الم نحو ابنها المريض يمكن أن نراه منفص ً
متفاوتة عن المعرفة الدقيقة للعلج الذي سيكون سببًا في شفاء هذا البن ،وإن المعرفة الختصاصية
الحاذقة لعلج هذا البن المريض يمنك أن نسميها :الصواب ) القدرة ( .
فإذا تبين لنا بهذا المثل الجانب الذي يطلق عليه الخلص ) الرادة ( والجانب الذي يطلق عليه
الصواب ) القدرة ( ،فسنجد هذا المثل منطلقًا لبحث هذين المعنيين بعد أن استندنا إلى فهم أولي واضح
لكل منهما ،وذلك أن :
- 1الرادة ) الخلص ( :هي حب تحصيل أمر ما وِإرادته والخلص له .
- 2القدرة ) الصواب ( :هي معرفة كيفية تحصيل هذا المر المراد .
ل « )سورة الملك :الية هذا ) وقد قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى » :ليبلوكم أيكم أحسن عم ً
(2قال :أخلصه وأصوبه .قالوا :يا أبا علي ،ما أخلصه وأصوبه ؟ قال :إن العمل إذا كان خالصًا لم
يقبل ؛ حتى يكون خالصًا وصوابًا .والخالص أن يكون ل ،والصواب أن يكون على السنة ( ) . ( 2
وتوضيح معنى الخلص ) الرادة ( والصواب ) القدرة ( هو موضوع هذا الكتاب ،وذلك لهميته
وتعلقه بمشكلة المجتمعات البشرية عامة ومشكلة المجتمع المسلم خاصة .
ل من المصطلحات التي يمكن أن تؤدي معنى الرادة )الخلص( والقدرة وسنذكر هنا جدو ً
)الصواب( مع تقديم المصطلح الذي يخص الرادة :
-1الخلص والصواب .
-2إّياك نعبد وإياك نستعين .
-3ل إله إل ال ،محمد رسول ال .
-4الغاية والوسيلة .
-5لماذا وكيف ؟
-6البواعث المعللة والطرق التنفيذية .
-7الموثوق والمضطلع .
) (1اللبس بين المكانة والكفاءة :فهذه غير تلك ،وبعبارة ثانية اللبس بين النتيجة والسبب ،فإذا نظرنا إلى
النتيجة ولم نَر أسبابها الحقيقية وفرضنا لها أسبابًا وهمية يصير بذلك بعدنا عن النتيجة مزدوجًا .وفي
صورة ثالثة :كالمي الذي رأى قدرة القراءة في المنظار فسعى لشراء النظارة ليحصل قدرة القراءة .
فهكذا يحدث الخلط بين تحصيل المنصب وتحصيل الجدارة ،فيتوجه الجهد إلى تحصيل المنصب دون
السعي الدائب لتحصيل الجدارة ؛ ومما ُيسهل الوقوع في هذه المزلقة رؤية الخلط بينهما كثيرًا في الواقع ،
فكأن الخطأ يبرر خطأ مثله ،أو يبرر سعيًا لزالة الخطأ بخطأ أكبر .
) (1مالك بن نبي -مشكلة الفكار في العالم السلمي ص . 36
) (1مالك بن نبي -مشكلة الفكار في العالم السلمي ص . 36
) (1ابن تيمية -الفتاوى -ج - 16ص . 343
وبهذا نعلم أنه ل يوجد لشعور إل وكان يومًا ما شعورًا ولو عند شخص آخر ،حيث أنه ل يشترط أن
يكونا في رجل واحد .
ويمكن أن نلحظ هذه الحالة من قوله تعالى :
» وإذا قيل لهم ل تفسدوا في الرض قالوا :إنما نحن مصلحون .أل إنهم ه المفسدون ولكن ل
يشعرون « )سورة البقرة :اليتان . (11،12
وإن وظيفة التغيير لما بالنفس يشمل الشعور واللشعور أيضًا ،فالفرد قد يتمكن وقد ل يتمكن من
كشف لشعوره كما لحظ ذلك ابن تيمية ،وقد ل يتمكن من تغييره لنه يحتاج إلى شروط اجتماعية .
ولكن المجتمع يمكن أن يقوم بمثل هذه الوظيفة إذا تعّلم كيف يقوم بها ،وقد ل يتعلم ذلك فل يتدخل ،
ع ،أما إلى خير وإما إلى شر لنه خرج من سلطان الوعي .وهذا ما يمكن فيحدث التغيير دون إشراف وا ٍ
أن يفسر به سبب انهيار الحضارات حيث يكف المجتمع عن السيطرة على تغيير ما بالعماق .وقد لحظ
هذه النقطة ابن خلدون دون أن يدرك إمكانية التدخل من المجتمع للسيطرة عليه .ول يشترط أن يكون عند
كل فرد الوعي لهذا الموضوع ،ولكن لبد من الكتلة الحرجة -الفرض الكفائي -من الفراد للشراف
على سلمة المجتمع من هذا الجانب .
ويمكن أن يفهم مصطلحًا النفعال والفعل على ضوء اللشعور والشعور ؛ لن النفعال نتيجة
اللشعور ،والفعل نتيجة الشعور .ول يفهم مما تقدم أن الخلص يكون في اللشعور فقط بل يمر في
الشعور ،ولكن غالبًا ما يكون في اللشعور ،فإن معظم المة تخلص لمثلها العلى دون وعي دقيق ،
وهذا ليس عيبًا -على الطلق -والعيب أل يوجد من الواعين ما يسد الحاجة في هذا الموضوع .
-13العاطفة والفكر :
وكذلك يمكن أن ُنخل في مصطلح الرادة )الخلص( والقدرة )الصواب( ،مصطلح )العاطفة
والفكر( .فما يقال عنه عاطفة إنما تكّون من ميول كنتيجة لعوامل مختلفة -كما يحثنا في اللشعور -أما
الفكر فيقصد به الشعور والوعي عادة .وما يكون فكرًا عند بعض الناس قد يكون عاطفة عند آخرين - ،
وليس في هذا ما يعاب -ولكن العواطف قد تكون سلبية أو إيجابية ،وحتى اليجابية منها بحاجة إلى وعي
لقيادتها وتوجيهها ،حتى ل تتحول إلى نتائج سلبية أثناء الصراع الفكري .
والفكر مصدر الفعل ،وآلته العقل ،وموضوع ما في الكون .والفكر :عملية نظر في الكون
واستنباط السنن التي تسير المور عليها ،ويقول محمد إقبال -رحمه ال -في هذا :
» أول ما يستهدفه القرآن من هذه الملحظة التأملية للطبيعة هو أنها تبعث في نفس النسان الشعور
بمن تعُد هذه الطبيعة آية عليه «. ((1
أي ما ُيعنى به القرآن أن يوجه الفكر إلى ما الكون دليل عليه ،فهذا الكون رمز وآية .وهكذا يعرض
القرآن الموضوع ؛ والقرآن الكريم معجزة رسول ال :
» ما من نبي إل أعطي من اليات ما مثله أو من أو آمن عليه البشر ،وإنما الذي أوتيت وحيًا أوحاه
ال إلي ،فأرجو أني أكثرهم تابعًا يوم القيامة «. ((1
كان النبياء يأتون بمعجزات إل أن هذه المعجزات ذهبت ولم تبق ،ولكن معجزة محمد قائمة
تتجدد يمكن أن براها كا إنسان على مدى الدهر ؛ وكان المشركون يطالبون بآيات كما أرسل الولون ،
فأتى الجواب من السماء أن آيات الكتاب تكفي :
» وقالوا لول أنزل عليه آيات من ربه ،قل :إنما اليات عند ال وإنما أنا نذير مبين .أولم يكفهم أّنا
أنزلنا عليك الكتاب ُيتلى عليهم ،إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون « )سورة العنكبوت :اليتان
. (50،51
بل نرى هذا السلوب متبعًا فيما يقص ال علينا من قصص عن الماضين وما يقابل ذلك في عهد
محمد : فقصة الذي
) (1محمد إقبال تجديد التفكير الديني -ص - 21القاهرة 1955م .
) (1صحيح البخاري -كتاب العتصام .
» َمّر على قرية وهي خاوية على عروشها ،قال :أنى يحيي هذه ال بعد موتها ،فأماته ال مائة عام
ثم بعثه ،قال :كم لبثت ؟ قال :لبثت يومًا أو بعض يوم ،قال :بل لبثت مائة عام ،فانظر إلى طعامك
وشرابك لم يتسنه ،وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا
،فلما تبّين له قال :أعلم أن ال على كل شيء قدير « )سورة البقرة :الية . (259
هذه القصة حول تساؤلت النسان عن كيفية إحياء ال للموات ؟ فكان الجواب أن أماته ال مائة عام
ثم أحياه وجعل له آية ليعلم أنه قد مات ،وذلك من رؤية عظام حماره الذي نشر عظامه أمامه ،فلما تبين
له قال :أعلم أن ال على كل شيء قدير ،فأراه ال الية في نفسه وفي دابته .ونجد بعد هذه القصة
مباشرة قصة إبراهيم عليه السلم :
ب أرني كيف تحي الموتى ؟ قال :أولم تؤمن ؟! قال بلى ولكن ليطمئن قلبي . » وإذ قال إبراهيم ر ّ
ن إليك ،ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعيًا واعلم صرُه ّ
قال :فخذ أربعة من الطير َف ُ
أن ال عزيز حكيم « )سورة البقرة :الية . (260
كان الجواب لتساؤل إبراهيم -عليه السلم -أن أراه الية في الطير ولم ُيِر إبراهيم تلك من نفسه .
وحدث مثل هذا التساؤل في زمن محمد أيضًا ولكن الجواب لم يكن كالجواب للذي مّر على القرية ،
ول كما فعل مع إبراهيم -عليه السلم -وإنما هو أنموذج آخر ُ ،أدخل إلى جانب العتبار بالمثال .ولقد
اكتفى إبراهيم -عليه السلم -أن يرى الطير ولم يحتج أن تقام عليه التجربة نفسها .ولكن الجواب الذي
حدث في زمن محمد الوارد في سورة )يس( :
ل ونسي خلقه ،قال :من » أوَلْم يَر النسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين .وضرب لنا مث ً
يحي العظام وهي رميم ؟ قل :يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم « )سورة يس :اليات
. (77،78،79
ت العظم طالبًا بيان كيف يحيها ال ،لم يواجه ال بإفزاعه إن الرجل الذي جاء إلى محمد َ - -وَف ّ
ل ونسي خلقه « في أن يعيد ما بيده من العظام حية تسعى ،ولكن بكل إيجاز قال عنه » :وضرب لنا مث ً
)سورة يس :الية . (78فأعيد إلى التذكر ليرى بالفكر والتأمل ذلك في نفسه ،وفي نشأته الولى ؛ وفي
مثل هذا المثال ما في القصص السابقة من البرهان ،ولكن بحاجة إلى فكر أدق ،وعليه أن يراه كل
واحد ،وهذا يدل أيضًا على تطوير أساليب البرهان على مّر الزمن وإن كان الموضوع واحدًا .
وتنّبه إلى هذا توماس كارليل فقال في حديثه عن محمد في كتابه )البطال( » :إنه كان - -
يطلب القريشيون منه براهين وآيات على صدق ما جاء به ،فكان يقول لهم :ألستم أنتم معجزات وجدتم
ولم تكونوا . « ..
وفهم ابن عباس -رضي ال عنه -الموضوع على هذه الصورة فقال ) :أتت قريش اليهود فقالوا :بَم
جاءكم موسى من اليات ؟ فقالوا :عصاه ويده بيضاء للناظرين ،وأنوا النصارى ،فقالوا كيف كان
عيسى ؟ فقالوا :كان ُيبرئ الكمة والبرص ويحي الموتى ،فأتوا النبي ، فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا
الصفا ذهبًا ،فدعا ربه فنزلت هذه الية » :إن في خلق السموات والرض واختلف الليل والنهار ليات
لولي اللباب « )سورة آل عمران :الية ، (190فليتفكروا فيها(. ((1
ول يقلل من قيمة الفكرة التي يتضمنها ما رواه ابن عباس أي إشكال برد عليه ،لن آية العنكبوت
واضحة :
» وقالوا لول أنزل عليه آيات من ربه ،قل :إنما اليات عند ال وإنما أنا نذير مبين .أولم يكفهم أّنا
أنزلنا عليك الكتاب ُيتلى عليهم « )سورة العنكبوت :اليتان . (50،51
-14الخلق والعلم :
يستخدم مصطلح )الخلق والعلم( مقابل مصطلح الخلص )الرادة( والصواب )القدرة( .وتفهم
الخلق عادة كهبة إلهية ل دخل للوعي والجهد فيها ،بينما ينبغي أن ُتفهم كقيمة خلقية وكجهد واع يقوم به
النسان ليحقق الحياة الخلقية -وقد شرحنا هذا الموضوع في بحث الرادة كقيمة وكصناعة . -
) (1شكوى وجواب شكوى .فلسفة إقبال تأليف العظمي والصاوي طبع القاهرة 1950ص . 92
) (2المرجع نفسه ص . 94
ِلَم يأمرنا ال بالنظر إلى كيف بدأ الخلق من الذرة إلى المجرة ؟ ومن البرة إلى الصاروخ ؟ ومن
عطف الم إلى المودة بين الزوجين ؟ … إلى الشياء في مستوى المجتمعات ؟ …
يأمرنا بذلك كله حتى نعرف كيف نسخر الكون ،وكيف نشكر …
ل ما تشكرون « )سورة السجدة :الية . (9 » وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قلي ً
ويبين ال لنا الزوجية في خلق النسان وفي كل المخلوقات المادية والمعنوية فيقول :
» ومن كل شيء خلقنا زوجين ،لعلك تنّكرون « )سورة الذاريات :الية . (49
الخلق كله في نموه وتغييره من الزواج ،والخالق هو ال الفرد الصمد ،لم يكن له كفوًا أحد .فكل
مخلوق من زوجين » :سبحان الذي خلق الزواج كلها مما تنبت الرض ومن أنفسهم ومما ل يعلمون «
)سورة يس :الية . (36فالمادة ،والنبات والحياة ،وأمور ل نعلمها ،كلها من الزواج .ففي مستوى
المادة :تتألف الذرة من السالب والموجب ،والنبات من كل زوج بهيج » فأخرجنا به أزواجًا من نبات
شّتى « )سورة طه :الية . (53
فمن الزواج يكون الميلد ،والمواليد لها آباء وأمهات ،وكذلك فإن خصوبة الحياة الفكرية تنتج من
المقارنة بين فكرتين حيث تتولد فكرة جديدة … وكذلك الحياة العملية تتولد من القدرة والرادة .
قال ابن تيمية ) :قال ال تعالى :ومن كل شيء خلقنا زوجين « )سورة الذاريات :الية ، (49 :
والزوج يراد به النظير المماثل ،والضد المخالف ،وهو النّد ،فما من مخلوق إل وله شريك ونّد ،والرب
سبحانه وحده هو الذي ل شريك له ،بل ل يصدر من المخلوق شيء إل عن اثنين فصاعدًا ،وأما الواحد
الذي يفعل وحده فليس إل ال ،فكما أن الوحدانية واجبة له لزمة له ،فالمشاركة واجبة للمخلوق ولزمة
له(. ((1
-2كيف يتولد العمل ؟
وهنا علينا أن ننظر كيف بدا خلق العمل ؟ ومن أي شيء يتولد ؟ وما أصله ؟ ومن أبواه ؟ وما تعريفه
؟ ..
أ -تعريف العمل :
ل،
ل ،فحركة الشمس والرياح ليست عم ً العمل :حركة بقصد ،ول نسمي الحركة بغير قصد عم ً
وغنما جريان مثل جريان النهر » :والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم « )سورة يس :
ل:
الية . (38ولكن العمل القاصد وعمل المريد وعمل النسان ،هو الذي يسمى عم ً
» من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة « )سورة النحل :الية » ، (97
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط « )سورة يونس :آتية . (4
فإذا كان تعريف العمل :حركة بقصد ،فإننا نستطيع القول :
إن العمل حركة وقصد ؛ وبتعبير آخر نقول :هو قدرة وإرادة .
إن الحركة وحدها بدون قصد تكون كحركة الجمادات ،التي هي حركة قدرة ولكن ل إرادة فيها ،
ول يمكن تصور الرادة الواضحة إل في مستوى النسان ،فإذا نظرنا إلى أعماله الجليلة منها
والصغيرة ،نراها مكونة من القدرة والرادة ،ول يتولد العمل ل إذا وجدتا معًا .فالجمادات تتحرك بغير
إرادة ،ولكن النسان ل يتحرك إل بإرادة ،ول تتصور منه أن يتحر بغير إرادة إل إذا كان نائمًا يمشي .
ونحن ل نستطيع أن نتصور حركة بغير قدرة ،فحركة الغصن قدرة لن القدرة طاقة ،فحركة
الغصن من الهواء ،وحركة الهواء طاقة ،وسقوط الورقة من الشجرة قدرة ،لن السقوط ل يتم إل بفعل
الجاذبية ،فالجاذبية طاقة ،ولكن ل نتصور في حركة الغصن أو في سقوط الورقة إرادة ،لن الغصن لم
يرد الحركة ،والورقة لم ترد
السقوط .ولكن إذا رأينا إنسانًا يمشي ،فإننا نعرف أنه يستخدم طاقة في مشيه ،إل أننا ل نستطيع
أن نتصوره يمشي من غير قصد ومن غير رادة ،فهو يمشي إلى شيء يريد أن يصل إليه ،ولو من أجل
أن يسري عن نفسه ويقطع الملل ،أو يحرك أعضاءه ،فإن له في المشي قصدًا .ولكن ل يمكن أن
نتصور المشي بالقصد وحده ،فإنه مهما كان يريد المشي ،ل يمكن أن يحدث إن لم يكن قادرًا عليه ،لن
) (1سمك متعفن يأكله بعض المصريين في عيد يسمى شم النسيم .
) (2أخرجه المام مسلم في كتاب القدر .
وهو غير المخلوقات المعهودة ،فليس له مثيل في الوجود .هذا اعقل الذي يفسر الحواس ،ويميز
السود من البيض ،ويرى الحلل بّينا ،والحرام بّينا ،ويميز القبيح من الحسن ؛ وكما أنه ل تستوي
الظلمات والنور ،ول الظل والحرور … كذلك ل تستوي الحسنة والسيئة .
الرادة باعث باطني عند النسان يتولد من رؤية الشيء الحسن كما يتولد الميل إلى الرائحة الزكية ،
والنفور من النتن ؛
لهذا إذا عرضت الفكار والعمال على النسان الفطري -خالي الذهن من التجارب السابقة -فإن له
القدرة على أن يختار أفضلها .
طُر الناس وتنازعوا في فهم الصواب يبقى وهذا هو الرصيد الساسي عند النسان ،حتى إذا فسدت ِف َ
لدى الجيال الناشئة هذا الرصيد ،ويجعل من الممكن أن يخرج من بينهم من يختار أفضل الفكار التي
يسمعها ،وهذه القدرة دائمة تتجدد مع كل مولود ،ولذلك فإن الباطل في عرض أفكارهم وآرائهم حتى ل
طُر الناشئة .وعلى فرض أن الباطل قد سبقهم ،فهذا السبق ليس نهائيًا ،حيث أن إمكانية العودة تفسد ِف َ
وإظهار الحق ل تزال باقية ؛ وإل لما أمكن نشر الديان والراء التي كان يعارضها أهل زمانها كلهم ،
وإن التاريخ والفطرة مع أهل الحق حين يعرف أهل الحق حقهم ،وحين يعرفون مزاياه .
وأثناء كتابة هذا الموضوع كانت تثور في ذهني أمور شتى وشبهات ،إل أنني أيضًا اعتمد على ذكاء
القارئ وقدرته على إدراك هذه الموضوع ل رجاء أن يكملها ،أو يعرف أمثلتها الكثيرة جدًا ..وهذا
يجعلني أكتفي بالشارات التي ربما تقضي الوقفات …
إذن :الرادة هي اختيار العقل ،وحين أقول العقل :أعني جهاز التمييز عند النسان )السمع والبصر
والفؤاد( .وقد يتدخل في سلمة الرادة الشعور واللشعور ،ومؤثرات الطفولة والبيئة ؛ ومع ذلك فإن
العقل قادر -حين يستخدم استخدامًا سليمًا -أن يميز الخطأ من الصواب ويعرف أدلة الخطأ والصواب ؛
وبذلك تستمر سلمة الرادة في المحافظة على سلمة جهاز المعرفة في النسان .
كثرًا ما تستعمل كلمة الرادة ونصفها بالحديدية تارة والصلبة تارة أخرى ،إلى آخر هذه الوصاف ؛
إل أن هذه الوصاف لم تعد تشبع رغبتي في الفهم .فأنا أريد أن اعرف كيف ُتصنع الرادة الحديدية أو
عرف الصلبة من اللف إلى الياء ؟ وكيف يفقد النسان الرادة ؟ وكيف تضعف الرادة ،وتموت ؟ فإذا ُ
منشأ الرادة وكيف تضعف ؟ وكيف تقوى ؟ عندها ُتخلق عندنا إرادة للمحافظة على الرادة بأسلوب
علمي عملي ،ل بأسلوب الماني والحلم والقعود والنتظار رجاء حدوثها بنفسها .وكل شيء ل نعرف
كيفية حدوثه ونرده إلى ال دون أن يكون لنا دخل في حدوثه أو تغييره -بمعنى لم يعطنا ال سلطان
تسخيره -فإنني أعاف البحث فيه .أما إذا أدركت المكان الذي يكون فيه جهدي مؤثرًا ،فعندها أكون قد
حصلت على ما يخلب لبي ويثير اهتمامي .لهذا إذا أردت أن تثير إرادة إنسان فعليك أن تريه الجانب الذي
يستطيع أن يؤثر فيه ويكون له دخل في حدوثه ،أما الجانب الذي ل دخل فيه ،ول يمكن أن يكون جهده
مؤثرًا فيه ،فإنه ل يستطيع أن ينشط إليه ،ول أن يوجه إرادته نحوه .
وهنا لبد من ملحوظة ..وهي أن هناك أمور ل نعرف كيفية حدوثها ،ولكن ل يؤثر في إرادة
النسان .قد ل أعرف سر علقة السباب بالنتائج ،أعني علقة :لم يحدث هذا من هذا ؟ إذ المر يرجع
إلى ال تعالى. ((1
ولكن الذي يهمني هو :هل أستطيع أن أوثر في هذا ،حتى أصنع هذا من هذا ؟ فالمر المفيد هو أن
ل أن أعرف لَم ينتج الماء من يتدخل جهدي في إحداث التركيب المطلوب والمماثل له .فليس المهم مث ً
اتحاد الكسجين والهيدروجين ول ينتج من غيرهما ؟ ولكن المهم أن أستطيع إجراء ذلك التحاد لينتج
الماء ،فقدرتي تنحصر في كشف القانون وتطبيقه ؛ أما النتيجة فمخلوقة وترجع إلى ال تعالى وحده ل
سريك له ،وأما غيري فقد ينسبها إلى الطبيعة أو ..وخلق ال السنن التي ل تتغير ول تتبدل ،ويجب
توضيح هذه النقطة جيدًا ،حتى يزول اللتباس ول يختلط علينا المر ،نعرف أين مكان قدراتنا ،وأين
مكان خلق ال تعالى وقدرته ؟ وقد شرحت ها المر بتفصيل أكثر في كتاب » حتى يغيروا ما بأنفسهم « .
) (2ابن تيمية ،الفتاوى ج ، 28ص ، 195طبعة الرياض 1382 ،هـ .
) (1من شروط لمثل العلى :وضوحه وإبرازه بجلء لخفاء فيه ؛ إذ ليس كل من عرض المثل العلى ،
استطاع أن يوضحه .
وموانعه :كل ما يقف أمام العقل من الموانع التي تخرجه عن الفطرة أو تحول بينه وبين التفكير .
ويمكن أن تتفرع الشروط والموانع إلى فروع كثيرة ،وهي التي تمنع من حصول المولود -بالرغم من
وجود الزوجين -بسبب من موانع ترجع لحد الزوجين أو كليهما ،وعلينا أن نتذكر أن هذه الموانع قابلة
للمعالجة والشفاء من حيث الصل لقوله » : ما أنزل ال داء إل أنزل له شفاء « .رواه البخاري في
كتاب الطب .
وكلما توضحت الركان المحكمة من المثل العلى الحق ،توضحت المور المشتبهة ؛ كما هو المر
بالنسبة لليات المحكمات واليات المتشابهات ؛ وكما هو المر بالنسبة للمور الدقيقة من العلم ،فكلما
عرف النسان القواعد الساسية زادت قدرته على تطبيقاته الجزئية .
عرفنا كيف تنشأ الرادة ،وعرفنا أبويها ،وعرفنا أنها بدورها تشكل زوجًا يساهم في مولود جديد
أل وهو العمل الصالح ..ومع هذا علينا أن نلقي أضواء أكثر على مشكلة الرادة لننا نريد إيجاد العمل
السلمي الصالح ،وهو ل يتولد إل من الرادة الصالحة ؛ التي ل تتولد إل إذا برز المثل العلى الحق
بوضوح وجلء أمام العقل النساني .وكلما كان العقل على الفطرة -أي قبل أن تطرأ عليه عوامل الفساد
-كان النجاح أمثل وأكبر .ومهما أفسدت الفطر ،تبقى إمكانية الصلح موجدة ؛ وربما يعرض لكثير من
الناس اليأس حين يرون في ظروف معينة إعراض الناس عن الحق ،وانتقال هذا العراض إلى صغارهم
كما قال نوح عليه السلم » :ول يلدوا إل فاجرًا كفارًا « )سورة نوح :الية (27؛ وسأعود إن شاء ال
لبحث هذه النقطة في بحث القدرة .إل أنه لبد من توضيح الشبهة في دعوة نوح عليه السلم .
إن نوحًا عليه السلم لما قال » :ول يلدوا إل فاجرًا كفارًا « )سورة نوح :الية : (27لم يقصد أن
الطفال يولدون فجرة كفرة ؛ لن هذا مخالف لسنة ال الواردة في الحديث الصحيح » :ما من مولود إل
ويولد على الفطرة « ((1وإنما كان قصده أن عوامل التربية المحيطة بهؤلء الطفال ستشوه فطرهم
وتبعدهم عن اتباع الحق .
وبما أن قصة نوح عليه السلم تذكر دائمًا لتبرير عدم نجاح الدعوة التي استوفت الشروط ،علينا أن
نذكر أن الشروط التي ترجع إلى الفرد غير الشروط التي ترجع إلى المجتمع وقد شرحت هذه الفكرة في
ت أن الية تدل على المسؤولية الدنيوية ل على المسؤولية كتاب » حتى يغيروا ما بأنفسهم « عندما بين ُ
الخروية ،وعندما بينت أن الية أيضًا تدل على التغيير الجتماعي ل على التغيير الفردي ..لهذا فإن
عدم نجاح نوح عليه السلم ،ل ينبغي أن يطرح حجة لعدم نجاح العمال السلمية التي توفرت لها
القدرة والرادة ؛ أي ل يجوز استخدام القصة مبررًا لفشلنا .ونقول :
-"1إن نوحًا عليه السلم نجح على سنن قدرات عصور النبياء السابقين ،فقد أغرق ال بالطوفان
كل الكافرين وأنجى المؤمنين في الفلك المشحون ،وهذا هو النجاح المبين ،وقد جعله ال آية للعالمين .
-"2إن القدرات تتفاوت حسب العصور والزمان ..
-"3إن استعراض قصص النبياء ،يدل على ظاهرة واضحة هي :أن ال تعالى قبل بعثة محمد
كان يهلك أعداءه بالفات .
» فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ،ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الرض ،ومنهم من
أغرقنا ..وما كان ال ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون « )سورة العنكبوت :الية (40
إل أن أسلوب انتصار محمد على قومه لم يكن بمثل هذه الساليب ،وإنما كان قضاءً من رسول
ال على أعدائه بسنن طبيعية بشرية بأيدي المؤمنين :
» ولو يشاء ال لنتصر منهم ،ولكن ليبلو بعضكم ببعض « )سورة محمد :الية . (4
وهذا حدث جديد ودليل آخر على تطور مسألة النبوة إلى مستوى آخر .فالنبي محمد والذين
اتبعوه أقاموا المجتمع الجديد بالجهود العادية للبشر العاديين ،وهذه ملحوظة هامة يزيل استحضارها كثيرًا
ل إلى الناس كافة ،وكان خاتم النبيين حتى ل يكون للناس من العقبات .وإنه من أجل هذا صار رسو ً
على ال حجة بعده ،وحتى ل يقول قائل :كيف ننتصر على خصومنا ولم يعطنا ال ما أعطى النبياء
السابقين من التأييد بالمعجزات ؟!!
ونحن مطالبون باتباع منهج رسولنا عليه الصلة والسلم ،وهو خاص به لنه من خصوصيات ختم
النبوة التي تميز بها وحده .
ويظهر هذا المر -وهو النصرة -في مستوى الجماعة أكثر مما يظهر في مستوى الفرد ،لهذا كان
القرآن يخاطب رسول ال فيقول :
» فإما نريّنك بعض الذي نعدهم ،أو نتوفيّنك « )سورة غافر :الية . (77
) (1صحيح البخاري -الجزء الخامس -كتاب المناقب -رقم - 100الطبعة المنيرية .
أل وهو أن تكون ساعتنا متأخرة !! أو أن يكون جالينوس قد أخطأ ) .انظر :قصة الحضارة ،جـ ، 27
ص . (154
إل أن إمكانية رؤية تبريرات المسلمين لمواقفهم إزاء المشكلت ليست في مثل هذا الوضوح .وقد
تكون بعض المواقف بالوضوح نفسه ،ولكن المشكلة ليست في أن تكون واضحة ،بل أن تكون واضحة
لنا ؛ فكم من خطأ نقع فيه من غير أن نشعر ،فيحول بيننا وبين اهتدائنا إلى الحق في حل مشكلتنا ..
وكما نكشف بعض الخطاء ،أو الغموض في بعض مواقف من سبقونا ،فل يضيرنا أن يكشف من
يأتي بعدنا جوانب القصور في فهمنا للمور ،بل إن هذا الكشف من اللحق يشرف السابق أيضًا ،لن
السابق كان سببًا في دللة اللحق على الهتداء إلى الصواب بوجه من الوجوه إن لم يكن بكل الوجوه ،بل
يكون من سعادتنا أن يتوضح النقص والغموض عندنا ،فيتلفاه من يأتي بعدنا ،ول يتناوله للتشفي منا ،
وإنما لمساعدة من بعدنا وبعده ،وليخفف عنه بعض الثقال التي نحملها ،أو ليزيل بعض الغموض الذي
يجعل سعينا ناقصًا ،وهذا هو معنى الدعاء المأثور
((1
» اللهم اغفر لي ما أخطأت وما تعمدت وما أسررت وما أعلنت وما جهلت وما تعمدت « .
ول ننزه أنفسنا عن الوقوع في رؤية الحق خطًأ أو عمدًا ولكن نرجو أن يكون هذا الفهم سببًا في تقليل
الحواجز التي تحول دون مراجعتنا لعواقب أعمالنا ،وفي تنكبنا عن الحق خطًأ أو عمدًا .
وانطلقًا من هذا المفهوم أرجو أن أوفق إلى إضافة بعض الوضوح أو التقدم خطوة أخرى في
الخطوات التي خطاها إلى الفق الوضاح الذي تقدم إليه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الذي يحلل
فيه نكبة حزيران » :درس النكبة الثانية … لماذا انهزمنا … وكيف ننتصر ؟ « .
ففي تحليله للنكبة يصل إلى نقطة متحارجة حين يتساءل :هل السبب في القادة أم في الشعب ؟ وذلك
بعد أن تحدث عن المناخ السياسي ،وعن صلح الدين المرتقب ..ثم وضع المؤلف العنوان التي :
)مسؤولية الفكر( .وفي الواقع إنني طربت لهذا العنوان كما يطرب أي إنسان يعثر على بحث في
الموضوع الذي يهمه ،فكان مما قال » :طريق الخلص الجهاد ،والجهاد يقتضي التغيير والتعبئة ،وهما
يحتاجان إلى القيادة المؤمن ،والقيادة ل تظهر إل في أمة تستحقها ،فكيف التخلص من هذا الدور ؟ المة
تحتاج إلى قيادة ،والقيادة إلى أمة «) . (1ويتابع الموضوع بعقله الصولي فيقول » :والحق انه ل دور ،
ول تناقض ،فظهور القائد المنشود والحاكم المرتقب يحتاج إلى ارض حرة يرتكز عليها ،وإلى كتلة قوية
تشد أزره ،وإلى تيار فكري ينادي به ويشعر المة بضرورة وجوده « ). (2
» وهنا تبرز مسؤولية الفكر ورجال الفكر ،ودورهم في إعداد المة وتعبئتها وتهيئتها للمرحلة
الحاسمة «). (3
الحق أنني شعرت هنا بنشوة الظفر ،والخروج من الدور والتسلسل ،وأنه قادنا إلى المخرج من التيه
،وما وصل إليه أعتبره إضافة جديدة إلى الفكر السلمي المعاصر ل نجده بمثل هذا الوضوح عند مؤلف
آخر ،هذه الضافة لها أهميتها البالغة ،وذلك أننا تجاوزنا في سعينا في تحليل المشكلت من إلقاء اللوم
على القادة وعل الشعب ،إلى إلقاء اللوم على الفكر ورجال الفكر .
ن التقدم
أجل إنه تقدٌم عن السلوب المتعارف عليه في تحليل القضية ،له قيمته ،ول يقّدره من لم يعا ِ
وصعوبته ،وأهمية الضافة الجديدة مهما كانت ضئيلة .وأرى هنا أن هذه الضافة ليست ضئيلة ،بل هي
مرصد جديد لكشف آفاق جديدة ،ومجال جديد لتحرك أهل الحركة ..
ثم بدأ في شرح الفكر الذي ننشده » :بأنه الفكر الحر الصيل الشجاع الواقعي « ،ثم الوصاف بأنه
» الفكر الحق « واهتم أكثر بصفة )الحر( ،واعتبر آية الفكر الحر الصالة .والصالة :أن تنبع من
أمتنا ،كما لم ينس أن يحترز مما يمكن أن يفهم من الصالة فبّين بأن هذا ليس دعوة » إلى إغلق النوافذ
الفكرية بيننا وبين العالم من حولنا ،ودون أن نفقد أصالتنا ،وأن ل يهولنا ضخامة الصنام وهالت
التقديس والسدنة « .
) (1رواه الفلني في » اليقاظ « ص ، 113ولبن القيم في أعلم الموقعين ج - 2ص 302عن المام
احمد بن حنبل رضي ال عنه .
ولهذا يجب أن نعرف مبلغ جهلنا ،وأل نخفي هذا عن الجيل الذي يأتي بعدنا ،ليعلم أن واقعنا نتيجة
لعملنا ؛ فإن كان ل يرضيه هذا الواقع فلينظر إلى علم أحسن ،فإن ما عندنا من علم لم يعط إل ما رأى .
إن بروز مسؤولية قادة الفكر كعنوان في بحث لتحليل عوامل حدث تاريخي كبير ،إنما هو إنعاش
للبذرة الصلية التي احتوت عليها الثقافة السلمية وهي :أن صلح المة في طائفتين من الناس :العلماء
والمراء ،أي في قادة الفكر ،وقادة السياسة .
إن وضع عنوان » مسؤولية قادة الفكر « إعادة الحياة لمسؤولية العلماء ومكانتهم بين الشعب وقادته .
ف المسلمون عن التنافس في تأهيل أنفسهم لدائها ، وهذه الوظيفة التي أصابتها ظواهر الهمال ،والتي ك ّ
قد جعلتنا نرى القذى في أعين الناس ،ونعجز عن رؤية الجذع في عيوننا ،إنه أوان ذهاب العلم الذي
ينتج عنه توزيع اللوم مجانًا على كل أحد ،خلفًا لمر رسولنا عن ربه :
» يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم ،ثم أوفيكم إياها ،فمن وجد خيرًا فليحمد ال ،ومن وجد غير
ن إل نفسه «. ((1
ذلك فل يلوم ّ
ونحن عندنا استعداد أن نبحث عمن نلومه ،ولو بادعاء أن الشمس غيرت مجراها حتى ل يتوجه
ل عن أن نتمكن من لوم أنفسنا . اللوم إلى شيء يتصل بنا ،فض ً
إن لوم النفس هو التوبة -وهو النقد الذاتي في المصطلح الحديث -ومن ل يقدر على لوم نفسه ،ل
يقدر أن يتوب » .ربنا ظلمنا أنفسنا ،وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين « )سورة العراف :
الية . (23ومن ل يقدر أن يتوب ل يمكنه أن يصحح سلوكه ،فلهذا ل تستقيم أمورنا .
إننا ُنبصر أخطاء غيرنا ،ونزحلق أبصارنا عن خطئنا … كأن قادة الفكر من المسلمين قاموا بما
عليهم من فهم وتفهيم ،ولكن المور لم تستقم مع ذلك !!
إن واجب الفهم والتفهيم والتحليل والتوضيح لجذور المشكلت ،إما يقع على قادة الفكر ،فهم الذين
عليهم أن يعرفوا علج الشعب وقادته .
ولكن ساعتنا صحيحة ،وإنما الذي تخلف الجهد السياسي ،والمسؤولون عنه غيرنا ،وبذلك صرنا
في أمان وبراءة وشعور بعدم المسؤولية ،فهذا الذي يجعلنا نوزع اللوم !!
إننا في العالم السلمي لم ندخل بعد عالم الفكار ول نزال نعيش في عالم الشياء والشخاص .إن
قيمة الفكر وقادة الفكر ،ل تزال في المكان الذي كان أبو تمام وضعهم فيه منذ زمان طويل حين قال :
السيف أصدق أنباء من الكتب .. ((1إن فكرنا مازال يسيطر عليه ما توحي به كلمة )عنترة( حين تذكر في
الدب الشعبي .
ول يسعني هنا إل أن أقتطف بكثير من الغتباط فقرة من مقال مطّول للستاذ الدكتور محمد الطالبي
بعنوان » :التاريخ ومشكلت اليوم والغد « » .ولعل فشل سياستنا اليوم ،وسلبيتها في كثير من الحيان
ُيعزيان إلى انعدام المختصين في صفوفنا في شؤون المم التي تتعايش معها أو تتصادم .لقد سبق أن قلنا :
إن التاريخ بقي أيضًا بالنسبة إلينا -لكن بمفهوم جديد -مدرسة لتخريج الطارات السياسية ،وليس معنى
ذلك أن رجل السياسة ينبغي أن يكون مؤرخًا .إن التاريخ اختصاص يفني -كغيره من العلوم -العمار ،
ول يترك المجال للشتغال بما سواه ،لكن يجب أن يجد القائد السياسي من بني جلده وحوله ،من
المؤرخين الكفاء ،ومن الدراسات التاريخية المتينة ،ما ينير له السبل ،ويمكّنه من إدراك الوضع
بوضوح حتى يحسن الخطاب والتصرف ويحقق النجاح ،ل لنه كما توهم القدماء يستطيع أن يغترف
ل جاهزة من الماضي يطبقها على الحاضر -مما قد يؤدي إلى الكوارث الجسام -بل لن الحكم على حلو ً
الشيء كما قال المنطقيون فرع عن تصوره .وفي التاريخ عون عظيم على التصور الصحيح ؛ وإذا ص ّ
ح
ما قدمناه من مقدمات ،فإنه يصح أيضًا أن نقول :إن إخفاق السياسة في معالجة شؤون اليوم ؛ إنما هو
إلى حد بعيد إخفاق الجامعة قبل كل شيء … «. ((1
) (1مجلة عالم الفكر -المجلد الخامس -العدد الول -عام - 1974مقالة للستاذ الدكتور محمد الطالبي
بعنوان التاريخ ومشاكل اليوم ،ص . 24
) (2المصدر السابق -ص . 28
) (1المصدر السابق -ص . 24
) (1سيد قطب -دراسات إسلمية -الطبعة الثالثة ص . 124
لم يكن لقوة الكلمة بمقدار ما كان نتيجة لقوة المسدس ..ولهذا ل نزال نحمل قابلية النخداع بالفجر الكاذب
،والمساهمة في صنعه بالمسدس ،ونحن نظن أننا نصنع فجرًا صادقًا .
والذي جعلنا نكتب هذا الستطراد الطويل ،ظن كثير من الناس أنه يمكن أن تتوفر الرادة الجازمة
والقدرة التامة ،ثم ل يحدث العمل الناجح ضرورة .
-3بعض خصائص الرادة :
أ -الرادة تنتقل بالوراثة الجتماعية :
بحثت في موضوع العمل الصالح أو الناجح ،وبينت أنه يتولد من زوجي القدرة والرادة ،وعرفنا
الرادة ؟ وكيف تتولد ؟ ومن أبواها أيضًا ؟ .
وهنا نريد أن نعرض لخاصة من خصائص الرادة ،وهي أنها يمكن أن توّرث ،ول أقصد الوراثة
العضوية ،وإنما الوراثة الجتماعية ،فالفرد يمكن أن يرث المثل العلى من مجتمعه ،كما يمكن للمجتمع
أم يغرسه في الطفال الذين ينشؤون فيه .
إن الُمُثل العليا التي يعتنقها المجتمع ،ينقلها بوسائله المباشرة وغير المباشرة ،وبطرق الوعي
واللوعي ،إلى الطفال الذين ينشؤون فيه ،ول يمكن لمجتمع أن يصير مجتمعًا إل بإرادة ،ول إرادة إل
بمثل أعلى كائنًا ما كان هذا المثل العلى ،فهو نجم القطب الذي تتوجه إليه الرادة .والطفال ينشؤون
وهم يقدسون هذه المثل العليا قبل أن يعرفوا قيمتها وصحتها ،وإنما تتعلق إرادتهم بها عن طريق الوراثة
الجتماعية .وكل المجتمعات تلّقن أفرادها مثلها العليا ،وإل لَما أمكن أن يعيش الفراد في هذه
المجتمعات ،ولما شعروا بالغربة حين يبتعدون عنها .
ومع أن الرادة تنتقل بالوراثة ،فإنها قابلة للتغيير ،إذ يمكن للمجتمعات والفراد أن تغير إرادتها ،
سلكت أنتجت ،وهذه وإن كان هذا التغيير صعبًا ،ولكن ليس هناك صعب مطلق ،وإنما هناك سنن إن ُ
السنن هي التي تغير الفراد كما يشهد بذلك تاريخ البشرية .وعلى البشر أن يعرفوا سنن التغيير ،وأن
يعرفوا الحق من الباطل فيغيروا وضعهم إلى الحق ،أي أن في إمكان البشر أن يجعلوا الرادة الحقة
ميراثًا ،وهذا الذي قصدناه من أن الرادة تنتقل بالوراثة الجتماعية ،أي تصير في مرحلة ما تنتقل عند
معظم الناس بالوراثة الجتماعية ،إل أن الذي يجعل هذه الوراثة إيجابية وليست سلبية وجود العدد الكافي
في المجتمع من الذين يعون هذه القضية وعيًا دقيقًا بحيث يشرفون على إجراء عمليات التصحيح والمراقبة
الدقيقة .
وربما يرجع تخلف المسلمين إلى فقدهم أداء هذه الوظيفة ،لن ما ينتقل بالوراثة الجتماعية دون
وعي ومراقبة قابل لن يفسد ويضيع بدون وعي أيضًا ،كما حدث في العالم السلمي .
والوراثة الجتماعية تكون أوضح في الرادات منها في القدرات لن الفرد يرث من المجتمع
مقدساته وإرادته ،ول يرث قدرات المجتمع ،فإن ابن المهندس ل يصير مهندسًا ،وابن الطبيب ل يصير
طبيبًا إل بالدراسة .
أقول هذا لنه الغلب ،وإن كانت كل القدرات والرادات تتدخل فيها عوامل الوراثة الجتماعية
والجهود الواعية الشخصية ،إل أن الوراثة في المثل العلى اكثر ،والجهد الواعي في القدرات أظهر .
ب -مستوى الرادة :
وهناك ملحوظة أخرى في مستوى الرادات :لقد بحثت الرادة في نشأتها ،وكيف أنها وظيفة جهاز
التمييز عند النسان ،فالنسان يريد الكل والشرب والنكاح وسائر حاجاته ..فهل تسمى هذه الشياء
إرادات ؟ أم الرادة شيء آخر أسمى من هذه الشياء ؟
قد يكون هذا الموضوع هاما ً ،ذلك أن الرادة قد نراها في عمل مثل تناول
القلم ،فل أمد يدي إل إذا أردت شيئا ً -فهذا مراد -ولكن هناك مرادات أخرى
سامية يجود النسان بنفسه في سبيلها ،وتكون بمثابة نجم القطب في توجيه
كل المرادات الخرى وفقها .وهذا مكان التوحيد في السلم .
فهناك إذًا مستويات للرادة :
-1النسان يريد الغذاء ليبقي ذاته أو جسمه .
-2النسان يريد النكاح ليبقي نوعه .
-3النسان يريد العقيدة والفهم )المثل العلى( ليرتقي بنوعه .
إن إرادة الغذاء والنكاح فطرة في النسان ،إل أن إرادة العقيدة ليست بهذا الوضوح … صحيح أن
النسان حيوان اجتماعي بالطبع وعنده إرادة للعيش في مجتمع … ولكن كما أن للغذاء سننًا ليعطي الجسم
السليم ،كذلك للنكاح سنن ليعطي النسل السليم ،والعقيدة أيضًا سنن لتعطي المجتمع السليم .
فقد يريد النسان الطعام والنكاح … ولكن ليس هذا الذي نبحثه هنا في الرادة ،وأن كانت هذه
المور مرادة أيضًا ،
وغنما نبحث إرادة المثل العلى ،إرادة الدين ،إرادة العقيدة التي ارتفعت في السلم إلى ابتغاء
وجه ال وحده .
» فمن كانت هجرته لدينا يصيبها ،أو امرأة ينكحها ،فهجرته إلى ما هاجر إليه ،ومن كانت هجرته
إلى ال ورسوله فهجرته إلى ال ورسوله «. ((1
فهنا أنواع من الرادات المختلفة ،ولكن الرادة المقبولة في السلم نوع معين من الرادة ،هي
التي تعطي قيمة عليا للنسان ،تخرجه عن إرادات الحيوان الذي يريد الغذاء والنكاح .ولكن النسان
يخضع هذه الرادات لرادته ،ابتغاء وجه ال ،ولهذا فإن الجهاد والبذل المقبول عند ال هو » :من قاتل
لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال عوز وجل « ، ((1ولهذا قلت أيضًا إنه يمكن أن يتعلق النسان
ل أعلى ،لنه أعلى شيء عند صاحبه ،وإن لم يكن في حد ذاته أعلى . بمثل أعلى سيئ ،ونسميه مث ً
والسلم حدد للمسلم مثله العلى … فالمسلم يريد الطعام والنكاح ،حتى انه لو ترك الطعام حتى يموت
لكان منتحرًا ،ولكن ل يجوز أن يجعل الطعام مثله العلى ،بل يطلبه طلب وجوب أو طلب استحباب كما
ل هذه حّد ال أمر ال تعالى .كما انه يمكن اتخاذ أنواع من المثل العليا مثل العشيرة والوطن والقوم … وك ّ
لها حدودها ،مبينًا كيفية التعامل معها ،وأنه من خرج عن هذه الحدود يكون قد خرج عن حدود ال ،مثل
من خرج من النكاح إلى السفاح .
إذن هناك إرادات فاسدة ،كالروائح النتنة ،لهذا قال رسول ال لّما رأى بعض قومه يدعون
بدعوى الجاهلية :يالل فلن .قال لهم » :دعوها فإنها منتنة «. ((2
فالرادات الصحيحة التي تلئم تقّدم النسان وكرامته ،هي ما شرعها ال تعالى ،وهي دين الفطرة
عرضت على الفطرة البشرية السليمة تقبلها وتفضلها على غيرها ما لم تكن الفطرة قد فسدت ، التي إذا ُ
وحتى إذا فسدت الفطرة ،فيمكن استخلص كثير منها بعرض الرادات والمثل العليا الراقية عليها .وبهذا
انتشرت الديان والفكار الصحيحة بين الناس .
والرادة المقصودة التي تعطى للمجتمع حتى يتحرك ،ليست إرادة المور العادية ،وإنما إرادة المثل
العلى ،وهو المرجع لتنظيم الحياة وتحديد علقات النسان مع الكون والنسان ،وهو مصدر التشريع
وهذا معنى التوحيد في الدين أي ابتغاء وجه ال وحده ،أي مصدر الرادة ومبعثها ال وحده ،وهذا مدلول
وحدانية ال .وباصطلح ابن تيمية :أن ل نعبد إل ال ،ول نعبده إل بما شرع ؛ وهو معنى » ل إله إل
ال محمد رسول ال « .
ومن خصائص الرادة إنها :تتولد دفعة واحدة ،وحين نقول هذا :فقولنا ليس إنكارًا لمكان الرادة
شيئًا فشيئًا .ولكن لّما ننظر إلى ما يحدث غالبًا ،نجد أن النسان الذي يحول إرادته من دين إلى دين آخر
يحدث عنده انقلب فجائي في كل جوانب حياته ،تتحول إرادته كلها من شيء إلى شيء آخر ،ولكن
القدرات ل تتحول بهذه السرعة .
قد يغير النسان إرادته من دين إلى دين آخر ،كما كان يحدث في الجاهلية ،يكون الرجل كافرًا في
الصباح فيؤمن ،فيكون من أشد المؤمنين إيمانًا في المساء ،ولكن القدرات ل تتحول بهذه السرعة .
فالطبيب ل يمكن أن يتحول إلى مهندس -كما يتحول الكافر إلى مؤمن وبالعكس -في يوم واحد ،وكذلك
تحول النسان من كافر إلى مؤمن في يوم واحد ل يجعله فقهيًا بأحكام هذا الدين ،وإنما يتعلمها بعد ذلك
) (1محمد إقبال -تجديد التفكير الديني في السلم -ص - 145 - 143القاهرة -مطبعة لجنة التأليف
والترجمة والنشر عام . 1955
أمية القراءة والكتابة ؛ لهذا وصف ال الذين يقرؤون ويكتبون دون أن تتسع مداركهم الفكرية بأنهم ل
يعلمون الكتاب إل أماني ،أي تلوة فقط .
ولما كان من فطرة العقل قبول المثل العلى إذا عرض عليه فقد منع السلم الكراه في الدين :
» إكراه في الدين ،قد تبين الرشد من الغي ) « ..سورة البقرة :الية . (256
ولتدارك ما يمكن أن يعرض لهذا الموضوع من شبهات أقول :
ل أو لعدم رؤيته بوضوح كاف » :بل إن أكثر المعرضين يعرضون لعدم رؤية المثل العلى أص ً
أكثرهم ل يعلمون الحق فهم معرضون « )سورة النبياء :الية . (24
وهذا يتصل بآخر سورة الفاتحة في تقسيم الناس إلى :المنعم عليهم ،والمغضوب عليهم ،
والضالين .وهم بالتتالي :الذين تبين لهم الحق واتبعوه ،والذين تبين لهم الحق ورفضوه ،والذين لم تبين
لهم الحق .
فإذا استطاع الذي عرف الطريق أن يبين للضالين الطريق الصحيح ،فإن أكثرهم سيمشون مع
الحق ،بل قد تستغرب أن يتخلف منهم أحد ،ولكن من إكرام ال للنسان أنه أعطاه قدرة على ترك الحق
أيضًا بعد أن تبين له حتى ل يكون مجبرًا ل اختيار له في قبول الحق أيضًا .
لهذا أرى أن البلغ المبين هو أول وأقوى دعائم قيام الحق على الرض .فإذا رفعنا الكتمان ،وأقمنا
البلغ المبين ،صار لكثر الناس القدرة على ترجيح ميزان الحق .وبمقدار ما يؤكد ال على نشر الحق
يقف أهل الباطل في وجه نشر الحق وبيانه للناس .كما أرى ضرورة قيام أهل الحق بعملية مسح للبشرية
ل يصال المثل العلى الحق إليهم :
ي عن بينة ص )سورة النفال :الية . (42 » ليهلك من هلك عن بينة ويحي من ح ّ
إن عدم وضوح هذه القضية بما تستحق من أهمية ،جعل المسلم يزهد في واجب البلغ ول يصبر
في معركته وينسحب من هذه المعركة ليهيئ نفسه لمعركة أخرى » كتغيير الوضاع بالعنف « .وهذه
هي النقطة التي يبدأ فيها المسلم بدخول التيه وهو يقصد اختصار الطريق ،فيترك طريقًا بينة موصلة ،
ليسلك طريقًا ل تعلم نتائجها .وهذا هو ترك السبيل السهلة القليلة التكاليف الكثيرة النتائج والبركات إلى
سبيل وعرة كثيرة العقبات قليلة النتائج .
إن الثبات في معركة البلغ المبين ل يسبب خسائر .وحتى خسائره مرابح ،بينما الطريق التي
يظنها النسان سهلة قريبة فإنها تؤدي إلى البعد والتيه .
أليس من العجب أن نزعم أن هذا الذي استصعب السير على الطريق السوية السهلة )طريق البلغ
المبين( وانسحب منها استصعابًا لها ،سوف يقدر على السير في الطريق الوعرة المظلمة !! هذا خداع
النفس ..إل أن الموضوع ل يزال غامضًا لم ينل ما يكفي من الوضوح والبيان .فكيف ُيصدق من
استصعب السير في السهل أنه سوف ينجح في السير في الوعر ؟!
إن معرفة فطرة النسان ودين الفطرة وإزالة الحواجز بينهما تجعل النسان الفطري يقبل دين الفطرة
.
قد يقول المسلم الذي لم ير هذه الحقيقة جيدًا :إنه ل يمكنه رفع الحواجز بين فطرة النسان ودين
الفطرة أو ل ُيمّكن من ذلك ،فلبد من بذل جهد كبير لكشف هذه النظرات المعيقة لسلوك طريق الحق
ولبيان سهولته .هنا نحن في حاجة إلى شيء من التأني لتنبيه المسلم إلى فكرة أخرى في هذا الموضوع
وهي قانون من قوانين ال في الكون .ومضمون هذا القانون » عمل المستطاع الن ،يجعل ما ليس
مستطاعًا الن مستطاعًا في المستقبل « .
ويحتج بعض الناس بقوله تعالى » :ل يكلف ال نفسًا إل وسعها « )سورة البقرة :الية ، (286
ويجدون فيها مبررًا للتهرب من المسؤولية ،ول يفطنون إلى مضمونها من التكليف .فالنسان إذا مل
يومه بالعمل بما في وسعه فإن غده سيعطيه وسعًا جديدًا وهذا أوضح ما يكون في طلب العلم .إن تعلمك
اليوم ما تستطيع تعلمه يمّكنك غدًا من فهم ما لم تستطع فهمه اليوم ،لن العلم درجت ل يكن الوصول إلى
فهم فكرة ما إل بتحصيل التي قبلها .وكما يقال :ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،فكذلك ما ل يتم العلم
إل به فواجب تعلمه قبل ذلك .
والنسان يستطيع اليوم أن يفهم العتبة الولى من العلم ،وهذا يمكنه من طلب العتبة الثانية والثانية
ل ،وإنما ينبغي أن يصير تمكن من الثالثة … وهكذا … فما هو مستحيل اليوم ينبغي أن ل يبقى مستحي ً
مستطاعًا وأن تتجاوزه الستطاعة ،وهذه القاعدة ينبغي أن نفهمها ،فإذا فهمناها فهمنا مشكلة العالم
السلمي القاعد وعليه الصار والغلل ،يردد أغنية العجز الخالدة » ما يطلع بأيدينا شيء « .وهذا
حاجز سحري شل المسلم ومنعه من تأدية واجبه المستطاع ،وإن رفع هذا الحاجز يجعله إنسانًا سويًا
يمارس عمله بشكل ينميه… ((1
وحين يقول » :ما يطلع بيدي شيء « فهو صادق وكاذب فلي آن واحد ،فهو صادق لنه يرى
ل ل يستطيع ما يريده ،ولكن الذي يكذب فيه ليس كذبًا في عجزه عن أمور ل قدرة له عليها .فهو فع ً
الواقع ،لنه جهل الرتباط الموجود بين مت يستطيع اليوم يصير غدًا مستطيعًا لما لم يكن يستطيعه …
والن ..أقول :يعذر فاقد الرادة إن لم يحدث لديه اتصال بين العقل والمثل العلى ،وبما أن المثل
العلى والعقل موجودان فينبغي أن نقوم بعملية الوصل أو رفع الحاجز بين الزوجين اللذين يلدان الرادة ،
ويتم ذلك بالبلغ المبين وعدم كتمان الحق وهو ما يستطيعه كل أحد في مستواه ،ول يكون الجمع بين
العقل والمثل العلى بالكراه ،لنه ل إكراه في الدين ،كما ل إكراه في الزواج ،كذلك ل إكراه في الحكم
.وإن جهلنا لطبيعة هذه العلقة أدى بنا إلى التطلع إلى علقات غير سوية وغير مشروعة مثل الغتصاب
والغتصاب سفاح وليس نكاحًا .
والذين يمارسون هذا السلوب هم الذين ل يسيرون في الطريق السوية وهم المرفوضون كشركاء في
العقد الجتماعي ،وإنه لمخجل حقًا أن نقع في مثل هذا .
وإذا طبقنا هذا على قاعدتنا التي تقول » :عمل ما نستطيعه الن يوصلنا إلى ما لم نكن نستطيعه «
فإننا نقول :إننا لم نقبل أن نعمل ما نستطيع عمله .لما رفضنا عمل ما نستطيعه رفض أن يدخل بيتنا ما ل
نستطيعه ،وإن كنا نريده .وكان الطريق الصحيح لجعل غير الممكن ممكنًا ،هو عمل الممكن اليوم
ليدخل إلى دائرة إمكانياتنا غير الممكن ،وهو ل يدخل إل إذا أنجز الممكن الذي لم نفعله بعد .
بحثنا أهمية البلغ المبين في عملية الزواج بين العقل والمثل العلى لنحصل على مولود الرادة التي
سنحتاج إليها في عملية زواج أخرى مع القدرة لولدة العمل الصالح الناجح والمقبول .
فإذا عرفنا العلقة الفطرية بين العقل والمثل العلى تبرز أهمية البلغ المبين ؛ فنعرف لماذا » :أخذ
ل« ال ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قلي ً
)سورة آل عمران :الية . (187
إن عدم قيامنا بمهمة البلغ المبين يمثل تمامًا زهدنا وعدم تقديرنا لقيمة البيان وعدم الكتمان ،وأننا ل
نقومه إل بثمن قليل نبيعه ونتنازل عنه بأتفه الثمان !! وكم نحن عاجزون أن نرفع من أهمية البلغ إلى
المقام الجليل الذي وضعه ال فيه حين قال :
» بّلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ،وال يعصمك من الناس « )سورة
المائدة :الية . (67
وليست العصمة للمبلغ فقط ،وإنما هي عصمة للدعوة وللجماعة .
فالتزام التبليغ حماية للدعوة وعصمة لها من النحراف والمطاردات والتهم ،وما أشد واقعية كلمة »
يعصمك من الناس « )سورة المائدة :الية . (67
إن البلغ فيه عصمة المبلغ أيضًا إذا فطنا إليه ..لكننا زهدنا فيه ،وتطلعنا إلى شيء آخر رفعناه إلى
مقام أعلى من مقام البلغ .وهذا ما سبق أن بينته في كتاب )مذهب ابن آدم الول .أو :مشكلة العنف في
العمل السلمي( .
إن سفينة النجاة عند الغرق في طوفان الفوضى هي البلغ المبين …
) (1والذين يقرؤون لمالك بن نبي ،يعرفون مصطلح )القابلية للستعمار( الذي ضمنه في كثير من بحوثه ،
وهو حينما يبحث مشكلة العالم السلمي يذكر الستعمار والقابلية للستعمار ويعطي الثقل للقابلية
للستعمار حين يفسر سبب تخلف العالم السلمي .
» قل إني لن يجيرني من ال أحد ،ولن أجد من دونه ملتحدًا إل بلغًا من ال ورسالته ) « ..سورة
الجن :الية . (23
ولن تجد إل البلغ ملجأ تلجأ إليه ويعصمك من الناس ،ويجعل لك القوة والمناعة والقدرة على شق
الصخر بهذا الطرف اللين الذي تحمله على رأس جذورك كما تفعل جذور النباتات في شقها الصخر .وإن
كلماتك ستتغلغل في العماق ،ولن تجد من دونه ملتحدًا إل بلغ كلمات ال ورسالته ..وفي هذا كلمة
عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص رضي ال عنهما » :الزم العدل ..فإنه وإن رؤي لينًا أقمع للباطل
«.
وشرط نجاح البلغ المبين أن ل يلجأ صاحبه إلى امتشاق الحسام لفرضه بالقوة .
أما ما يهدد ال به كاتمي ما أنزل من البينات ،فل نجد تهديدًا مثله حتى ول لتارك الصلة …
» إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم ال
ويلعنهم اللعنون إل الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ،فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم « )سورة البقرة
ل .أولئك ما :اليتان » … ، (159،160إن الذين يكتمون ما أنزل ال من الكتاب ويشترون به ثمنًا قلي ً
يأكلون في بطونهم إل النار .ول يكلمهم ال يوم القيامة ول يزكيهم ولهم عذاب أليم .أولئك الذين اشتروا
الضللة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ! ذلك بأن ال نزل الكتاب بالحق … « )سورة
البقرة :اليات . (176 - 174
والكتمان هو :عدم إيصال الخبر ،والثمن القليل :أن ل نقدر أهمية هذا الشيء ،والنتيجة نار في
البطون في اليوم الخر ،وشراء الضللة بالهدى في الدنيا .وإنه لعجب من صبرهم على النتائج النارية
في الدنيا والخرة من جراء الكتمان .
وبمقدار ما ُيحّذر ال من الكتمان ،ويهول من نتائجه في الدنيا والخرة ،يمكن أن نرى نتائج البلغ
المبين ..
إن هذا الموضوع ينتظر من يوضحه من الذين كشفوا فطرة النسان والمثل العلى وعرفوا ما سينتج
من ذرية -نتائج -طيبة من العمل الصالح .وإن الذين يفهمون تاريخ البشرية يعرفون أن العمال
العظيمة كانت نتيجة التزاوج الكريم بين العقل والمثل العلى بوساطة البلغ المبين ؛ إن هؤلء سيقرؤون
اليات السابقة ويفهمونها فهمًا جديدًا .
وهنا أرجو أن يتأمل المسلم حواليه ليرى نتائج الحداث المؤلمة من جراء سلوك الطرق الملتوية ،
وكيف أن هذه النتائج تدعو إلى الغثيان والتقزز .والذي أرجوه أيضًا أن يتمكن المسلم من فهم أن سلوكه
هذه الطرق غير السوية سوف ل ينتج له إل ما أنتجه الذين سلكوا قبله هذه الطرق .والمثل الكثر صدقًا :
أن من ل يعتبر ،يقع في ما وقع فيه من قبله … وأرجو ال أن يحمي المسلمين من الزلل .
بحثنا فيما سبق عن أبوي الرادة ،وقلنا :إنهما المثل العلى والعقل ،ولكن من أين يأتي المثل
العلى والعقل ؟ .
يمكن القول :إن العقل مرتبط بالمادة بطريقة لم يتوصل العلم إليها بعد ،وهذا ليس أمرًا مهمًا ،بل
المهم أن نجعل العقل يؤدي وظيفته على أتم شكل ..فنحن ل نعلم كيف ؟ ول متى بدأ نفخ الفكر في المادة ؟
» ثم سواه ونفخ فيه من روحه .وجعل لكم السمع والبصار والفئدة ) « ..سورة السجدة :الية . (9
ولكننا نعلم أن من فطرة ((1العقل إدراك العلقة بين شيئين ،وحينما نخرج من المادة والفكر ل يبقى
عندنا -على اعتبار أننا مسلمون -إل )ال( الذي ليس كمثله شيء ،الواحد الحد الذي » لم يلد ولم يولد ،
ولم يكن له كفوًا أحد « )سورة الخلص :اليتان (3،4
ل ،وبإدراك العلئق بينهما يكشف العقل سنن لهذا يتوجه الفكر إلى المخلوق لن له نظائر وأمثا ً
الشياء ويتوجه الذكر للخالق ،لن الفكر ل يعمل فيما ل مثيل له ،إذ الفكر كله مقارنات الشباه بالنظائر
وهذا ل يتم إل في المخلوق .أما الذكر فهو شكر وحمد على النعم ،وتقديس وتنزيه للخالق ،بينما
المخلوقات مسخرات على سنن يعمل الفكر فيها .
) (1يمكن استخدام كلمة )الفطرة( لصفات النسان ،واستخدام كلمة )طبيعة( لصفات لمادة .
وهنا نعرض للخصائص التي نكشفها ول نخلقها ،سواء خصائص المادة أو خصائص العقل ،فمن
خصائص العقل :الفكر والّذكر .الفكر في المخلوقات لتسخيرها والذكر للخالق لشكره .وهذه الخصائص
لم نصنعها نحن ،ولكن نكشفها ،والنسان العاقل ل يستوي أمره إل إذا وضع الكون موضع التسخير ،
ووقف من ال موقف العبادة وتعامل مع الناس بالعدل والحسان .فل يجوز أن نضع الكون مكان ال ول
أن ننزل بال إلى مرتبة الكائنات ..ول أن يظلم بعضنا بعضًا .وما معنى ل يجوز ؟
معناه :ل يتم ول يضيء مصباح النسان إل إذا عبد ال وسخر الكون ،وعدل مع الناس .فل يتكبر
على ال ،ول يتعبد للكون ،ول يتظالم مع البشر … وإل نزل به العقاب الصارم .
ويتحدث الكسيس كارل عن هذا في كتابه » تأملت في سلوك النسان « أو » الحضارة الحديثة في
الميزان « .
مع ملحظة أنه يضع قانون الطبيعة بدل مصطلح سنة ال ويقول …
» القوانين الطبيعية عامة وصارمة ..ل يستطيع أحد أن يعصيها ثم ينجو من العقاب في أي بلد كان
وهي ل تنذر من يخالفها .والعقاب هنا صامت صمت المر نفسه «. ((1
» والخلق الدينية تفرض قواعد ل تختلف في شيء عن القواعد التي أرادتها الحياة نفسها .لذلك
يجب اعتبار التحرر من كل نظام أخلقي مساويًا لعصيان القوانين الطبيعية ،وقد ردت الحياة -كما
نعرف -على هذا العصيان بابتعادها عنا ،وكان ردها صامتًا وقاسيًا في آن واحد وقد شعر ذوو البصيرة
بالخطر « .
» والمم والجناس التي لم تعرف كيف تميز بن الحلل والحرام تتحطم في الكوارث والتحلل
والموت .وهذا عقاب آلي بحت ،فإن الفناء مصير أولئك الذين ينتهكون القوانين الطبيعية ..
وهذا الرد المحتوم من جانب الحياة على أخطاء النسان يفسر ما نحن فيه من ضروب الشقاء :
فمرض الحضارة ومرض الحرب العالمية نتيجتان حتميتان لنتهاك حرمة القوانين الطبيعية ،إذ ل
يستطيع كائن ما أن يمنع الحياة من متابعة اتجاهاتها الجوهرية دون أن يحل به العقاب « ،كما يقول » :
… وحب الم قصير الجل لدى الكلب ،وأطول منه بكثير لدى القردة ،أما عند النسان فإنه ل ينقطع
ب ..ولشك في أن ب .والم في حاجة إلى أن ُيح ّ ح ّ
قط ،وذلك لن صغير النسان في حاجة إلى أن ُي َ
البوين اللذين ينجحان في تربية أطفال صالحين ،يشعران في نهاية حياتهما أنهما أّديا رسالتهما على
الوجه الكمل مهما كانت مدة حياتهما وصغر شأنهما .وهما يشعران في مرض شيخوختهما أنهما قد
كوفئا بالبهجة والهدوء اللذين تكافئ بهما الطبيعة كل من أطاعها تمام الطاعة «. ((1
» المومة رسالة المرأة الطبيعية ،وهي رسالة ل تستطيع التخلي عنها دون الوقوع في خطر ..إذ
أن الخلل العصبي والعقلي هو الثمن الذي يتحتم عليها دفعه إذا حالت ظروف الحياة أو إرادتها الخاصة
بينها وبين أدائها لوظيفة المومة … «. ((2
إن قوانين اليمان وأوامر الشريعة ونواهيها مثل قوانين الفيزياء والكيمياء ،ليس لنا من الحرية أن
نخالفها إل كما لنا من الحرية أن نقذف بأنفسنا من علو مئة متر … متحدين القوانين الفيزيائية ،أو شرب
السم متحدين القوانين الكيميائية …
نحن نستطيع أن نفعل هذا ,وتستطيع الم منع نفسها من أداء وظيفة المومة ،ويستطيع الولد عقوق
الوالدين ،وانتهاك سائر حرمات ال .ولكن بعد ذلك ل يبقى لنا من الحرية في منع نتائج هذه المخالفات ،
إل كما يبقى لنا من الحرية في منع نتائج السقوط بعد أن نقذف بأنفسنا من علو شاهق .وهذا ما جعل كارل
يقول عن صرامة قانون الحياة » :إذ ل يستطيع كائن ما أن يمنع الحياة من متابعة اتجاهاتها الجوهرية
دون أن يحل به العقاب «. ((3
) (1الكسيس كارل ،ترجمة محمد القصاص ،تأملت في سلوك النسان ،ص ، 23القاهرة ،مكتبة مصر
.
)(1
المصدر السابق -ص . 58
) (2المصدر السابق -ص . 59
) (3المصدر السابق -ص . 60
ولكل الذين يريدون أن يروا هذه اليات في الفاق والنفس القدرة على رؤيتها بالقوة نفسها
وبالتفاوت نفسه في رؤية قوانين الفيزياء والكيمياء ..فلقد كانت قوانين الكيمياء غامضة كالسحر عند
الناس يومًا ما .ولكنها صارت دقيقة وواضحة .
إن قوانين الخلق قد تبدو غامضة لنا اليوم في بعض أجزائها ولكنها قوانين ثابتة وصحيحة .فقانون
) :أن يحب المرء لخيه ما يحب لنفسه( وقانون )المتناع عن الغيبة والنميمة والحسد( قوانين أخلقية
اجتماعية ،كقانون )تأكسد الحديد وفساده( في مجال الطبيعة .
-4الرادة روح المة :
يقول عليه الصلة والسلم » :ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى
عضوًا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى «. ((1
وفي هذا الحديث تشبيه المة بالجسد في الترابط والسهر والشعور باللم أو عدم نومها إذا كان أحد
أعضائها مصابًا ..علينا أن ندقق في المشبه والمشبه به :ما الذي يجعل الجسد يتداعى إذا اشتكى عضوًا
من أعضائه ؟ هذه دراسة حيوية فطرية للجسد الحي ،إذ للحفاظ على كيانه وجد له اللم في المكان
المصاب بالخلل ووجد له ناقل اللم من العضو المصاب إلى مركز الفهم في الكائن الحي ،والكائن الحي
يقوم بالفطرة بأعمال داخل الجسم للقضاء على هذا الخلل الذي طرأ عليه .والطبيب يتدخل ليساعد الجسم
في القيام بعمله الفطري ،فإن سائر العضاء تقوم بمهمات خاصة للحالة الطارئة ،فستنفر الجسم كله
للسهر على حل مشكلة الحمى .وحين يفقد هذه الوظيفة يبدأ نزول الموت البارد به ،ويبدأ في التفسخ وفي
العودة إلى عناصره الولى من التراب شيئًا فشيئًا .
لماذا القلب ؟ ولماذا يقبل النسان المثل العلى ؟ لماذا تتحرك الجرام ؟ إن البحث في هذه المور ل
جدوى منه لنه ل يتعلق بوظيفة النسان وهي التسخير .فالمسلم يرى أن هذا يرجع في النهاية إلى ال
تعالى الذي قدر فهدى ،وجعل لما خلق سننًا يكتشفها النسان ؛ فيرى آيات ال في الفاق والنفس ويتمكن
من تسخيرها ،وعليه أن ل يفلت منه هذا الفهم وهذا التسخير .فنقول هذا ونحن نميز بين ما نعلم وما ل
نعلم ،وإن ما نعلم يكفي لن نقوم بوظيفتنا التسخيرية ،وإن ما نجهله هنا وهو » لماذا يدق القلب ؟ « »
ولماذا يقبل النسان المثل العلى ؟ « ل يتدخل في عملية التسخير ،وذلك أننا حين نعلم أن صنع الماء من
مواده هو الذي يمكننا من التسخير ،وليس علمنا أو جهلنا :لماذا يحدث هذا من ذاك .فكما أن روح
النسان من نفخ ال ،فكذلك روح المة من إنزال ال .قال ال تعالى في نفخ الروح :
» يدبر المر من السماء إلى الرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ،ذلك
عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ،الذي أحسن كل شيء خلقه ،وبدأ خلق النسان من طين ،ثم جعل
ل ما نسله من سللة من ماء مهين ،ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قلي ً
تشكرون « )سورة السجدة :اليات . (9-5
وأما إنزال روح المة فقد قال عز وجل :
» وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ،ما كنت تدري ما الكتاب ول اليمان ،ولكن جعلناه نورًا
نهدي به من نشاء من عبادنا ،وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ،صراط ال الذي له ما في السماوات وما
في الرض « )سورة الشورى :اليتان . (52،53
فكما أن الخليا تنضم بعضها إلى بعض وتكّون الكائن الحي ،كذلك أفراد البشر ينضم بعضهم إلى
بعض ليكونوا المة .إن السر في انضمام بعضهم إلى بعض حينما تحدث لهم إرادة واحدة بهدف إيجاد
كائن آخر هو )المة( ،فحياة الخلية تجعلها ترتبط بالخلية الخرى ؛ كذلك تولد الرادة في الفرد يجعله
ينضم إلى الفرد الخر فتتكون المة ؛ وكما يقولون في علم الجتماع :المجتمع رسالة من )النا( إلى
ل أعلى إلى آخر … وهذا هو التبليغ للروح الذي )الخر( ليتكون )النحن( .فالجميع ينشأ من حمل فرد مث ً
أوحاه ال :
» أوحينا إليك روحًا من أمرنا « )سورة الشورى :الية . (52
) (1للستزادة يرجى مراجعة المجلد 16من الفتاوى لبن تيمية ص 2520حتى . 280
تصرفنا في السباب التي خلقها ال ،حصلت لنا النتائج .فدور النسان هو فهم السنن )السباب( ،
والتصرف فيها هو التسخير .
وعندما يطابق الفهم للخلق )أي للسنة( تأتي النتائج كاملة ؛ أي يحصل التسخير ،وبمقدار ما يكون
فهم السباب ناقصًا يكون العلم ناقصًا ،ويكون التسخير ناقصًا ،لن دليل صحة الفهم هو تمام التسخير .
وحين ل تأتي النتائج تامة فإننا -للسف -ل نعترف بالخطأ أو بالنقص في فهمنا .بل نتذرع بأن النتيجة
لم تأت وذلك لحكمة أرادها ال … وكثيرًا ما تغدو هذه الحالة سترًا لعجزنا وتهربًا من مسؤولية البحث
والتنقيب عن أسباب قصورنا .
ولهذا يأمرنا ال تعالى بالنظر إلى العواقب ،لنها تدل على صدق فهم السنن .فالعواقب والتسخير
كلمتان قرآنيتان ،وهما الدليلن على صدق فهم النسان للموضوع ،ويمكن فهم هذا بشيء من السهولة
\في موضوع آيات الفاق ولسيما في هذا العصر لن التقدم العلمي في التسخير يتم على قدر ما يكتشف
النسان من السنن .وينبغي أن يتم نقل هذا القانون إلى مستوى المجتمع ،وهذا ما فعله القرآن حين أمر
بالنظر إلى عاقبة الذين خلوا من قبل ،وبالنظر إلى عاقبة المور .من ذلك قوله تعالى :
» قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين « )سورة آل
عمران :الية » .. (137أفلم يسيروا في الرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم « )سورة
يوسف :الية . (109
هذه هي القدرات الفهمية التي يحتاج إليها العالم السلمي لينجح في مسعاه وفي صنعه للمة المسلمة
.
وأمام العالم السلمي عقبات في إدراك هذا الموضوع ،وهذا ما يجعل سعيه عقيمًا ،وهذا ما جعلني
أحدد بأن هذا الجانب هو الذي ينقص العالم السلمي ليمشي سويًا بدل أن يظل مكّبا على وجهه معرضًا
عن أمر ال بالنظر في )كيف بدأ الخلق( )سورة العنكبوت :الية . (20ومازال أكثر المسلمين يظن أن
هذا المر شيء غير الكتاب والسنة ،ولسنا بحاجة إليه لننا لسنا بحاجة إلى ما سوى الكتاب والسنة .إنهم
ل يدركون مقدار ما يلح القرآن على النظر إلى سنن الذين خلوا من قبل .وهنا أريد أن أقول :إن فهمنا
للكتاب والسنة متقّيد .وأعني بمتقيد :لو أن إنسانًا خالي الذهن ل علم له بالمناخ الذي يحيط بالقرآن ،
عرضنا عليه القرآن وقلنا له :انظر لنا المور التي يهتم بها هذا الكتاب .إن هذا النسان يرى بسهولة أن
سَير
اهتمام القرآن يتوجه لفهم سنن الذين خلوا من قبل ،وللنظر إلى السنة والقوانين التي تتحكم في ِ
البشر .إن هذا القارئ ينظر إلى القرآن الكريم من غير أن يتأثر بالمناخ الثقافي المحيط بالقرآن الذي
صنعه المسلمون خلل القرون ؛ وهو مناخ يقيد المسلم بفهم خاص يبعده عن إدراك هذه المور القرآنية ،
ويجعله ل يرى لها أهمية وفائدة …
إن هذا المناخ هو الذي يسبب ما سمته الية الكريمة )العراض( في قوله تعالى :
» وكأين من آية في السماوات والرض يمرون عليها وهم عنها معرضون « )سورة يوسف :الية
. (105
إذن فعدم قدرة المسلمين في فهم أهمية هذه الوامر ليست راجعة إلى الكتاب والسنة ،ولكن إلى
المسلم الذي صارت عليه الصار والغلل من صنع القرون الماضية ،ومن إهمال العصور السابقة لهذه
الوامر .
إن فقدان المسلم لفكرة التسخير ،وفكرة المراجعة وكشف الخطأ في النظر ،وإعادة البحث في
السباب … كل هذا قد جعله عاجزًا عن أن ينظر إلى الكتاب والسنة نظرًا سليمًا .لقد ضيعنا قاعدة
التصحيح للخطأ ،فلهذا ل قدرة لنا على الخروج من الخطأ ،لننا فقدنا قانون تصحيح الفهم ليتطابق مع
سنن الوقائع في الكون والحداث في التاريخ مرّددين :علينا أن نسعى ،وليس علينا إدراك النجاح ،وبهذه
السهولة نمتنع عن مراجعة الموضوع لتلفي النقص في فهم السنن ..هذه عقبة كؤود تثقل كواهل
المسلمين .وحين يقول الباحثون في التاريخ :
» إن العوامل التي تعيق النمو هي مواريث خاطئة تحول بين المسلمين وبين رؤية الصواب « ،
فإنهم يرون أن العلج يكون بالتخفيف من أثقال المواريث أكثر من أن يكون بإضافة أشياء جديدة .
ويبدو هذا واضحًا في المثل الذي قدمناه سابقًا وهو أن النسان خالي الذهن أقدر على فهم القرآن من
النسان الذي حمل مواريث خاطئة تمنعه من الفهم الصحيح .
ل :ما بال الولين لم يروا هذا الذي تراه الن ؟وقد يرد معترض قائ ً
وقد يكون هذا العتراض صحيحًا ،إل أن الظروف التي عاش فيها الولون ل تكن مواتية لفهم هذه
المور كالظروف التي نعيش فيها الن مع تقدم العلم واتساع كشوفه في مجال الفاق والنفس .
إل أن الصار والغلل المتمثلة في المواريث الثقافية تمنع عنا الرؤية الصحيحة لنوار ال تعالى ،
وهذا ما يجب أن نسعى للتخلص منه ،وتلك مهمة رسول ال حين وصفه ال بقوله :
» الذين يتبعون الرسول النبي المي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والنجيل ،يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والغلل
التي كانت عليهم « )سورة العراف :الية . (157
وهنا يجدر بنا أن نبحث فكرة مهمة وهي :
ملكة لتحصيل القدرات :
إن الثقافة التي تثقف بها والدراسات التي نعيش نعها ،ل تبث فيا اكتساب ملة البحث والدرس وكشف
السنن والقوانين .ول يشعرنا الكاتب الذي نقرأ له أن بحثه ليس كافيًا ،وأن على الباحثين بعده أن
يوضحوا الموضوع أكثر منه ،كما ل يوحي إلينا أن العلم قابل للزيادة ؛ فل يحثنا على طلب المزيد منه ،
ول ينذر عن ضآلة ما يقدمه ،ليس بالكلمات وإنما بالسلوب نفسه الذي يستطيع به أن يدل على بث روح
ل ،فل يمكن المزيد عليه ،الدأب لكشف السنن وتوضيح القوانين .وثقافتنا توحي بأن العالم خلق كام ً
صلوا الذروة
وكأن البحوث انتهت مع الولين الذين ل يتركوا شاردة ول واردة إل بحثوها وفهموها وح ّ
والنهاية ،وليس عليه هو إل أن يتمّلق بحوثهم. ((1
فعلى الجيال اللحقة أن تكشف هذه المراض .وأن تبرز كيف يوحي كّتاب جيلنا والذين سبقوهم
لقرائهم بالخمول والكسل ويقتلون فيهم المواهب ويأسرون العقول .
والمسلم حين يسمع مثل هذا الكلم قد يفهم هذا بالنسبة لشخاص معينين ،وبالنسبة لجيال معينة ،
ولكن ل يريد أن يعمم هذه القاعدة على جميع الشخاص والجيال ،وبهذا الستثناء يهدم القاعدة ويعطل
الفائدة فل يصل إلى الحق ،وإنما ينتقل من تقليد إلى تقليد ،ه ل يشعر أنه قد اغتال القاعدة الصلية
القائلة :
)ل تعرف الحق بالرجال ،ولكن أعرف الحق تعرف أهله( .
وإن القفل الذي يسّد به باب ملكة تحصيل القدرات ،هو أن يصير الباء مكان الحقيقة مهما كان
هؤلء الباء ..وهذه إشارات صغيرة لوباء قّتال يشل العالم السلمي ،ويصرفه عن القدرات الفهمية ،
وكيف يتم تحصيلها … وهذا الكتاب بحث لبراز أهمية القدرات الفهمية )العلم( لمعرفة حل المشكلت
سها ؟ أين أنت يا من ستقّلم شجرةوتسخيرها ..أين أنت يامن سينسف هذه الحواجز التي ل نقدر على م ّ
المسلمين من الغصان اليابسة التي منعت من أن تعطي الثمار ؟ هل أنت لتزال في عالم الصلب ؟
انظر كيف نبذل جهودًا شاقة مضنية للتغلب على الوهام ،ولتكن لك هذه الجهود سابقة ،تساعدك
على تحصيل القدرات الفهمية للشراف على بستان المسلمين ،ولتتناوله من ايدي الذين يحرصون على
الغصان اليابسة التي علقت بها ،ولتخّلص هذا البستان من الذين يريدون أن يستأصلوا شجرة السلم .
أنت يا من يكون لك شرف تحصيل القدرات الفهمية للشراف على هذه الجنة التي أصابها الهمال
من أصحابها ،والفساد من آخرين مختلطين .
-3الرادة كانت قدرة :
) (1كذلك العلقة بين التلميذ والمعلم ،حيث يوحي المعلم بأنه يعلم كل شيء .وأخذ الطفال الصغار هذا
إلى أن يكتشفوا جهل المعلم في بعض المور .إل أن هذا الكشف ل يأتي بشكل إيجابي ل من المعلم ول
من التلميذ ،وإنما بشكل سلبي من كليهما .فالمعلم ل يقابل ما يجهل بسوية بل كثيرًا ما يكون بمواربة
وخداع … والتلميذ المسكين يتقمص هذا الموقف الذي ينتج سوء العلقة المشبعة بالحتقار .
تتولد الرادة في صورة قدرة لختيار الهدف الفضل ،وتتولد القدرة في صورة قدرة لكشف الوسائل
لتحقيق الهدف ،فكما أن ال خلقنا من زوجين ،كذلك خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها ،وبث
خلقا من نفس واحدة ،ثم خلق منها زوجها وبث ل كثيرًا ونساء … كذلك القدرة والرادة زوجا ُ منهما رجا ً
ل كثيرة ناجحة وصالحة … منهما أعما ً
خلق ال آدم ،ثم خلق منه زوجه ثم كان رجال ونساء ..وخلق ال القدرة ،ثم خلق منها زوجها
الرادة ثم كانت أعمال كثيرة ..
فالصل القدرة ،ثم الرادة التي تتفاعل معها ،فالقدرة على الرادة ،مثل القدرة على الشم فمنها تنشأ
إرادة الشم ..والصل أن يفهم النسان ثم يريد ،هذا هو الصل ،وإن كان في المكان حصول العكس
أحيانًا ،كما أن أصل اللشعور شعور سابق ،كذلك أصل الرادة قدرة سابقة .
والقدرة -بمعنى إمكان فهم الفضل مما هو متاح للنسان -هي التي ُتحدث الرادة عند النسان ،
وعلى هذا يمكن أن نقول :القدرة تلد الرادة وتعود الرادة فتدفع إلى طلب الصواب والزيادة منه ،
وازدياد الصواب يساهم في بلورة الرادة فتقوى ،وهي بدورها تدفع إلى تحصيل القدرات ،وهكذا يسير
المر بعد ذلك ،وهكذا نكن قد فهمنا البدء ،وفهمنا التقّدم .وبعد البدء والتقّدم إما التوقف والتقهقر أو
الستمرار والتقدم .
فهمنا كيف يتم البدء والتقدم ،ولكن كيف يحدث النتكاس :
» ومن نعمره ننكسه في الخلق « )سورة يس :الية . (65
إن الشارة في الية إلى الحياة العضوية الفردية ,وأما في الحياة العضوية الجتماعية ،فإن
النتكاس يتم بأن ينشأ قوم ل يكون واضحًا لديهم أمر العلقة » التسخيرية « -بلغة القرآن ،أو » السببية
أو الجدلية « بلغة أخرى -بين القدرة والرادة .فيزهدون في العلم أو يقتصرون على جانب منه ،فتبقى
ل العلم ،فتقل الرادة كما قال رسول ال : الرادة عزلى عن قدرتها وتبدأ في الضمور ،وهكذا يق ّ
» إن ال ل يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ،ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ،حتى إذا لم يب ِ
ق
ل فسئلوا فأفتوا بغير علم ،فضلوا وأضلوا «. ((1 عالمًا اتخذ الناس رؤساء جها ً
سرون على انحسار ويمكن ملحظة ذلك الن حيث نجد الذين يملكون إيرادات صحيحة ،ويتح ّ
مبادئ السلم من النفوس ،ويتألمون بصدق ،ولكنهم ل يعلمون كيف يحققون ما يريدون .فمع تألمنا
يحدث ما ل نريد وذلك راجع إلى ذهاب العلم أي ذهاب الصواب وذهاب القدرات .
وهناك من يقول » :إن انهيار المم يصاحب توسعًا في العلم « .إن هذا التوسع ظاهري ،لن علمًا
أساسيًا قد ُفقد فسبب فقده النهيار .ومثال ذلك واضح في أي جهاز يبدأ بفقد القدرة على أداء وظيفته إذ
لبد أن يكون قد اعتراه خلل معين ،وينبغي أل نخطئ هنا فنظن أن هذا الخلل قد نشأ من علم لعن
جهل ..وعدم تعميم مثل هذه البدهية على الحياة الجتماعية هو الذي ُيسقط المم ،وينبغي إدانة العلم نفسه
بسبب ادعاءاتهم ،بل علينا أن نكشف الجهل الذي تسبب في الخطأ .وإل فأي خطأ أكبر من أن نقول :إن
الخطأ نشأ من العلم ،فلهذا تناقض صريح .ولكن إن أقررنا الذين يفرجون بما عندهم من شواطئ العلم
نكون في ذلك الوقت في الصحارى وليس في لجج العلم وبحره ،وتقوى بذلك شوكة الجهل البسيط بجهلنا
المركب .إن العلم ل يكون سببًا للضلل ،وإنما نقص العلم سبب الضلل .ويجب أن نكشف ما حسبه
الناس علمًا على حقيقته ،فنبّين أنه ل يزيد عن كونه ظنًا أو علمًا ناقصًا غير كامل .ولذلك نسوق ما جاء
في مجلة اليونسكو )ديوجين -مصباح الفكر -العدد 19/1972في مقال لمحمد أركون( … » :وفيما
يتعلق بالغرب نراهم يبذلون الن جهودًا دائبة لتحرير العلم من منهج ديكارت ،ثم إن تقدم العلوم اللغوية
وعلم النفس والتاريخ والنثروبولوجيا -البشريات -وبخاصة علم الحياء من شأنه أن يجعل المذهب
الماركسي أكثر مرونة ،وتجري بحوث جادة للقضاء على اللهة الزائفة التي عبدها العقل بإخلص ،ول
ل من تقسيم العلم إلى :أ -نظرية تقوم على الفروض الميتافيزيقية .ب -تطبيق يترك يزال يقدسها ..وبد ً
أمره للمهندس والعامل .يسود التجاه الن نحو ما يسمى بالعلم العملي أي :الجمع بين النظرية
والتطبيق ،وهذا الموقف الجديد الذي يقفه العقل أمام نفسه يفرض عليه أن يعيد النظر في تاريخه كله ،ل
) (1إشارة إلى قوله تعالى » :ثم أنشأناه خلقًا آخر « سورة المؤمنون :الية . 14
) (1بل يعتبر هذا القول استجابة لقوله تعالى » :قل سيروا في الرض فانظروا كيف بدأ الخلق ؟ « سورة
العنكبوت :الية . 20
وإنها لتتحرك -وهي تمارس ما قّد لها من التحرر الروحي - ((1إما صوب خالقها أو بمنأى عته .فإن كنا
على حق إذ نرى في التاريخ صورة لبداع الخالق في حركته الدائبة ،فإنا لن نعجب إذا وجدنا أن القوة
الفعلية لتأثير التاريخ في العقول البشرية التي تتماثل فرضًا درجة قابليتها الداخلية لتأثير التاريخ وفقًا
للظروف التاريخية لمن يتلقاها ،إذ ل مناص من أن تقوم نزعة حب الستطلع بتعزيز القابلية لستيعاب
التاريخ ،ولكن حب الستطلع لن يثور إل إذا بدت للعيان عملية التغير الجتماعي واضحة وضوحًا
ساطًع قويًا … «. ((2
يريد )توينبي( من هذا الكلم أن إرادة الناس تظل كامنة معطلة حتى يروا طريق الصواب لتحقيق
هذه الرادة … حينئذ تنطلق الرادة من مكنها ،ويتحرك جهاز الكون بتحرك البعد السادس الذي يسميه
القرآن )الخلق الخر( :
» ولقد خلقنا النسان من سللة من طين .ثم جعلناه نطفة في قرار مكين .ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا
العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ؛ ثم أنشأناه خلقًا آخر .فتبارك ال أحسن الخالقين
« )سورة المؤمنون :اليات . (12،13،14
وكما نستخدم القدرة الفهمية في تسخير الجانب المادي ،ينبغي أن نستخدمها أيضًا لقامة الحياة
الخلقية .وطريق إقامة هذه الحياة هي التي ينبغي أن تصل إلى درجة الوضوح الساطع .
هذا ما يراه المؤرخ في تتبعه لحركة عالم النفس ،وهذا ما يأمرنا ال أن نصل إليه بالنظر إلى سنن
الذين خلوا من قبل .
والن هل يمكنك أن تتصور نشوء قدرة جديدة من مستوى قدرة القراءة والكتابة يمكن أن تضاف إلى
النسانية في جانب من الجوانب لترفع من قدرات النسان ؟ ..يمكنك هذا إذا تصورت البشرية وليس فيهم
أحد يقرأ ويكتب مع كون هذه القدرة كامنة في وجودهم ،وكيف كان يمكن لنسان في ذلك الوقت أن
يتصور الحالة التي يصل إليها النسان حين تضاف إليه هذه القدرة .وبإضافة قدرة الكتابة للنسان
أضيفت إليه ذاكرة جديدة ،لم يكن للنسانية أن تتقدم بدونها ،لن خبراته كانت تموت معه ،فاكتسبت
الفكار والخبرات والتجارب الخلود في الدنيا بوساطة القراءة والكتابة ،ول يمكن للنسان أن يتقدم إل
بوساطة الخبرات والتجارب .
علمنا أن النسان ل ينتمي في قدراته إلى جيله ،بل يقعد فوق الجيال السابقة كلها ،والذي جعل هذا
ممكنًا هو كشف قدرة القراءة .هذه القدرات الكامنة التي أشار إليها محمد إقبال في الحوار الذي تخله بين
ال والنسان حين قال ال تعالى للنسان » أثبت قدرة ال فيك « . ((1وهنا نشير إلى القدرة التي يظنها
الناس مستحيلة الحدوث ،وهي خروج النسان باستخدام القدرات الكامنة فيه من توقعات الملئكة فيه إلى
ما علمه ال فيه من قدرات كامنة حين قال تعالى ردًا على الملئكة :
» إني أعلم مال تعلمون « )سورة البقرة :الية . (30
وكما تنمو القدرات لستخدام الطاقة المادية ،ينبغي أن تنمو القدرات لستخدام القدرة النفسية ،ولن
تصبح القدرات المادية نعمة للنسان إل إذا تقدم في القدرات النفسية ،لهذا يقول ال تعالى :
» وما أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إل من آمن وعمل صالحًا « )سورة سبأ :الية
. (37
فالعالم اليوم ل يعرف كيف يستخدم الرقام إل في حساب الطاقة والدخل .ولّما يكمل بعد معرفته
لقياس التقدم النفسي .إن موازين التقدم ينبغي أل تبقى متعلقة بالدخل المادي ،وإذا لم يكشف النسان
مقاييس لفهم التقدم النفسي يظل عاجزًا عن تسخير هذا الجانب المهم من الكيان النساني -وهو لم يكتسب
) (1من تتبعنا لما يقصده توينبي من هذه العبارة يبدو لنا أنه يقصد تحرر النسان من انفاعلته ،وسيطرته
على دوافع الغي والقسوة والعداوة ووصوله إلى العفو واليثار والحب … أي الخروج من الحيوانية إلى
النسانية .
) (2آرنولد توينبي -موجز دراسة التاريخ -ج - 4الفصل - 44ص - 233الطبعة الثانية -القاهرة 1965
.
)(1
فلسفة إقبال تأليف العظمي ص . 94
بعد دقة جانب الفاق -وكل ما يطرأ على النسان من تقدم إنما ينطلق من تغيير ما بالنفس .وكلما تقدم
فهم النسان في هذا الجانب برزت أهمية الطفولة وما يملك من استعدادات هائلة إذا توفرت له الجواء
المناسبة .
ولبد من التمييز بين ما يرجع إلى القدرة وما يرجع إلى الرادة ،وبيان سبب الشتباه بينهما لن ك ً
ل
منهما يستدعي وجود الخر .فالقدرات هي التي تكشف أهمية الرادات ،واليرادات هي التي تبعث على
طلب القدرات .فقدرتك على التمييز بين الخطأ والصواب تجعلك تريد الصواب ..وإرادتك الصواب
تحملك على السعي لكتساب قدرات من أجل تحقيقه .وبتعبير آخر :إن قدرتك على التمييز بين الظلم
والعدل تجعلك تريد العدل ،وإن إرادتك للعدل تحملك على السعي لكتساب القدرات التي تحقق العدل
وتحميه .
هذا أمر هام لنه كلما تقدمت القدرات ولسيما الفهمية منها في مستوى المادة والنفس ،أمكننا أن نفهم
المثل العلى المناسب للنسان ؛ وبذلك تكون القدرات سببًا في التوصل إلى اختيار المثل العلى
المناسب .وكذلك الرادات تبعث على السعي لتحصيل القدرات ،فإذا لم توجد إرادات فعلَم يبحث
النسان عن القدرات ؟!
سَع صاحبها لتحصيل القدرات المتاحة ،وكذلك يتهم القدرات لهذا نجد القرآن يتهم الرادات إذا لم َي ْ
حين ل تدرك ول تميز المثل العليا الصحيحة ،فيقول في اتهام الرادات :
» لو أرادوا الخروج لعدوا له عدة « )سورة التوبة :الية . (46
ح منك الهوى أرشدت جدت الرادات لوجدت القدرات ؛ ومنه المثل العربي القديم » :لو ص ّ أي لو و ُ
ح العزم لهديت إلى الوسائل المحققة لذلك .وقد جرت عادة الناس حين تفتقد القدرات للحيل « .أي لو ص ّ
لديهم أن يتهموا اليمان بالنقص ،وهذا التهام ل يخلو من صواب لن من شأن الرادة ا\ن تحمل النسان
على طلب القدرات إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع .والنتباه لهذا ضروري لن هناك صورًا خادعة
… ولن شأن القدرات أن تكتشف الحق والصواب والمثل العلى الصحيح الذي يولد الرادات .
فالقدرات تكشف الرادات الصالحة ،والرادات تحمل على توفير القدرات .وبعبارة أخرى :
الخلص يدفع إلى طلب الصواب ،والصواب يولد الخلص وينميه .لهذا لّما يعجز العالم السلمي
اليوم عن تحصيل القدرات مع وجود اليمان )الرادات( لديه ،يسهل على الذي يريد التهام أن يتهم العالم
السلمي بعدم اليمان أو عدم الرادة . ((1وكذلك لما يعجز العالم الغربي عن تحصيل الرادات مع وجود
القدرات ،يمكن أن يقال :لو كان هناك مثل أعلى صحيح أحسن مما هم عليه لهتدوا إليه بقدراتهم الدقيقة
المادية والفهمية .هذه المور من المتشابهات التي يخيل للناظرين من أول مرة أنها صحيحة لنها جاءت
في صور القواعد الصحيحة دون مراعاة توفير الشروط وارتفاع الموانع للقدرات والرادات ،لنه يمكن
أن تحدث موانع تحول دون رؤية القدرات أو رؤية الرادات .
يقول الستاذ مالك بن نبي رحمه ال ) :إن أوروبا التي اعتقدت أن العناية قد اختارها لتستودعها
مصائر النسانية ،قد أخذت من عصر بوكاشيو -حين كانت حضارتها ترضع في مهدها لبان حضارة
ل ..وهاك ما قاله أحد الوروبيين في هذا الصدد وهو العرب -أخذت تتنكر للحضارة السلمية تنكرًا سه ً
الدكتور غوستاف لوبون ،فإنه حن أراد أن يختم دراسته عن الحضارة العربية اختتمها بهذا التأمل الحزين
:
» لعل القارئ يتساءل :لماذا ينكر العلماء في هذه الظروف تأثير العرب ؟ وقد كان أولى بهم أن
يتنزهوا عن اعتبارات التفرقة الدينية ؟ .
والحق أن استقلل آرائنا وتجردها ظاهري أكثر من أن يكون واقعيًا .وأننا ل نكون البتة أحرارًا في
تفكيرنا كما ينبغي حيال بعض الموضوعات ،فلقد تجمعت العقد الموروثة ،عقد التعصب التي ندين بها
ضد السلم ورجاله ،وتراكمت خلل قرون سحيقة حتى أصبحت ضمن تركيبنا العضوي … « .
) (1ويظهر هذا التهام في صورة اعتبار هذه المجتمعات مجتمعات جاهلية .
هذا النص يوضح بصورة غير مباشرة ،ولكنها صريحة موقف الحضارة الوروبية في وجه العالم
السلمي منذ بداية التاريخ الستعماري .وهو موقف يتفق وموقف هذا العالم السلمي من أشياء أوربا
وأفكارها حين ينظر إليها باحتقار شديد مؤكدًا أنه المستقر الوحيد لفضل ال ومواهبه «. ((1
هل آن لنا أن ندخل إلى المشكلة ؟ أم ل نزال ندور حول الموضوع ؟
ما المشكلة ؟ المشكلة هي العمل السلمي ،وكيف ينجح ؟
وما دام لبد لنجاح العمل من قدرة وإرادة ،فهل يملك العالم السلمي قدرة وإرادة ؟ وإذا وجدتا فهل
توفرت الشروط وانتفت الموانع ؟ وما الشروط ؟ وما الموانع ؟
أقذف بوجهة نظري عن الموضوع بأسطر مع أن الكتاب كان لثبات هذه الفكرة :إن العالم
السلمي عنده من الرادة متا يكفي على القل للقلع ،هذا من جانب الرادة .أما من جانب القدرة :
فعنده من القدرات والمكانات )المادية( القدر الهائل غير أن عنده إعوازًا حقيقيًا في القدرات )الفهمية( .
فإذا استطعت أن أفهمه هذه الفكرة فقط ،فهذا هو كل ما أريد من هذا الكتاب .وإذا فهم الشباب الحائر
اليائس هذا فسيتوجه بكل جد لتحيل القدرات الفهمية التي تنقصه ،وهذا ما سيضعه على الطريق ليخرج
من حيرته وقلقه .هذه هي المشكلة في إيجازها ووضوحها .كيف نعالجها ؟ بل كيف نكشف أن هذه الفكرة
مفهومة أم ل ؟ أو أنها معطلة بعوامل أخرى ؟ وها ما أردنا بحثه .
-5أسلوب آخر لتعريف الصواب )القدرات( :
الصواب هو كشف العلقة السليمة ،سواء كانت هذه العلقة بين الخالق والنسان ،أو بين بني آدم
بعضهم مع بعض ،أو بين بني آدم والفاق )الكون بما فيه من مادة ونبات وحياة( ،وهذه العلقات الثلث
هي :
-1علقة النسان مع الخالق )العبودية( :
» وما خلقت الجن والنس إل ليعبدوني « )سورة الذاريات :الية » . (56فاعبد ال مخلصًا له
الدين ،أل ل الدين الخالص « )سورة الزمر :اليتان . (2،3
-2العلقة بين بني آدم فينا بينهم )العدل والحسان( :
» إن ال يأمر بالعدل والحسان « )سورة النحل :الية » . (90ول يجرمنكم شنآن قوم على أل
تعدلوا ،اعدلوا هو أقرب للتقوى « )سورة المائدة :الية . (8
-3علقة النسان مع الكون )التسخير( :
» وسخر لكم ما في السماوات وما في الرض جميعًا منه ،إن في ذلك ليات لقوم يتفكرون «
)سورة الجاثية :الية . (13
ولطريق التي توصل إلى كشف العلقات السليمة هي العقل أي القدرة التفكيرية عند النسان :
ل « )سورة السراء :الية . (36 » إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئو ً
ل على هذه العلقات ،آيات ال التي سقتها من كتاب ال تعالى .ومن أراد والمسلم العادي حسبه دلي ً
ل غير ذلك فعليه أن ينظر في آيات ال في الفاق والنفس ،ليرى مصداق ذلك ؛ لن آيات الفاق دلي ً
والنفس تشهد ليات الكتاب .
والمسلم مأمور بأن يرى آيات ال في الفاق والنفس ،وأن يسير في الرض ليرى عواقب العلقات
السليمة أو الخاطئة ،عواقب )المصدقين( و)المكذبين( ليات ال :
» قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين « )سورة آل
عمران :الية . (137
وإذا تطلعت نفس المسلم إلى أن يرى سلمة هذه العلقات التي يقررها ال في كتابه … وإذا اشتاقت
نفسه إلى أن يرى مصداقها في آيات ال في الفاق والنفس ،فإن هذا الشتياق هو ما أزّكيه وأدعو إليه
وأكتب من أجله ..ولكن ينبغي على الشباب المسلم المشتاق الناشئ -أصحاب السماع والبصار
والفئدة ،أصحاب لكفاءات السليمة -أن يجتهدوا ليجعلوا أنفسهم من الذين ُيظهرون آيات ال في الفاق
والنفس للناس .وهذا العمل هو العمل الشريف ،وعمل الربانيين وظيفة الرسل التي تزكوها لنا .وينبغي
) (1مالك بن نبي ،وجهة العالم السلمي ،ص ، 43الطبعة الولى 1959 ،م .
أن تدرك أيها المسلم القلق على أحوال المسلمين أنه ل يجوز ترك دراسة آيات ال في الفاق والنفس
للذين يستغلونها لعلقاتهم الفاسدة ولمآربهم العاجلة …
ينبغي أن يستنفر المسلم لرؤية هذه اليات التي يعرضها ال من خلل خلقه المتتابع في هذا الكون
الذي نعيش فيه .كما ينبغي أن أكون صريحًا معك ..إني ل أقّدم لك آيات الفاق والنفس ،وإنما أدعوك
إلى دراستها وأن تستشعر مسئوليتك في تحصيلها .أدعوك إلى أن تعلم أن سنن الفاق والنفس تنتظر
عْلم موسى وعلم الخضر -عليهما السلم - الذين يبحثون عنها ،ول تظنن أنها استنفدت ،وأن تعلم أن ِ
ل « )سورة السراء :الية … (85 معًا ما هو إل كنقرة عصفور في بحر » :وما أوتيتم من العلم إل قلي ً
وليس معنى ذلك أن ال ل يعطي » وقل رب زدني علمًا « )سورة طه :الية ، (114وليس مثل العلم
منجمًا مكلما أخذ منه دل على سعته ..فالمجال أمامك واسع :
» قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا «
)سورة الكهف :الية . (1096
الفصل الخامس
تطبيقات
- 1هل عند العالم السلمي إرادة ؟
وقد أجبت عن هذا بنعم ..إنه يملك إرادة ،وعنده إيمان ،وِإن ِإرادته أن يتحول نظام الحياة إلى نظام
السلم ،وأن يعيش الناس وفق أوامر ال تعالى .
وكما يقولون » :حين يصبح في وسعك أن تتحدث عن مسألة ما ،فتعرضها
بالمقياس ،وتعبر عنها بالرقام ،تكون قد أصبحت على بعض العلم بهذه المسألة
« .وهل أستطيع أن أتعرض لرادة المسلمين بمقياس وأعبر عنها بالرقام حتى
نكون على بعض العلم بهذه المسألة ؟ إننا لو قمنا باستفتاء واضح بين المسلمين
قائلين لهم :ماذا تختارون ؟ هل تختارون أن يطبق عليكم دستور القرآن أو
دستور غيره ؟ لو عرض هذا بصراحة دون خوف أو ضغط ،فأرى الغلبية ستختار
أحكام القرآن ل أحكام غيره من الدساتير ،ويمكن أن نتأكد من هذا بأنفسنا
بالقيام بهذه العملية الحصائية في المدارس والجامعات والقرى والمعامل
والمعسكرات وفي كل مكان .وقد تختلف النسب من مكان إلى آخر ،ولك
الغلبية مع أحكام القرآن ..ومع ذلك ليس هذا الوضع ثابتا ً ساكنا ً ،بل قد يتغير
لعوامل يمنك ملحظتها .وربما قمنا بهذه العملية الحصائية قبل خمسين سنة ،
تكون النتائج غير ما هي عليه الن ،وكذلك تتغير بعد خمسين سنة أخرى زيادة أو
نقصا ً .ولكن الواقع دليل على وجود الرادة عند أكثرية المة ِ .إذا ً نستطيع
القول ِ :إنه يوجد من ناحية الرادة رأسمال كاف للنطلق به .
لسنا الن بحاجة ِإلى أن نبحث من أين جاءته هذه الرادة ،والعوامل التي تتدخل في وجودها مع
أهميتها أيضًا ؟ لنه ينبغي أن ل تتوقف الرادة أيضًا على المصادفات وأمور خارجة عن سلطاننا ،بل
ينبغي أن نفهم كيف نوجدها ،وهذا ما أشرت ِإليه من ناحية التبليغ ،وبأن يصل المثل العلى لكل واحد ،
وكذلك تعرضنا لهذا في بحث الرادة كقيمة وكصناعة .
ثم ِإننا نجد المسلمين عندهم استعداد أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل ال والسلم ،حتى عند
العوام والنساء والطفال والعجائز .وكل من دقق في المور ،يجد أن المة فيها خير ،ويظهر منها ما لم
يكن يتوقع من التضحية والبذل في المال والنفس .ومع ذلك فإن هذه النقطة قابلة لن ينازعني فيها من
يريد المنازعة ،حيث ينظر ِإلى الجانب الخر وهو قلة هؤلء الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل ال
من مجموع المة ،وأنا أوافقه على قلة هؤلء أيضًا على عمومه وأنه لو طلبنا من أكثرية المة أن يقدموا
أموالهم وأنفسهم في سبيل ال سوف ل تكون النتيجة مثل نتيجة الستفتاء السابق في التصويت على أحكام
القرآن .قد نجد أكثرية توافق على اختيار السلم ،ولكن ل نجد أكثرية تبذل الدم والنفس والمال في سبيل
ال .فهل هذا راجع ِإلى القدرة أم ِإلى الرادة ؟ هل الذي يجب أن نعطيهم ِإياه القدرات ؟ أم الرادات ؟
ل ، % 70والذين يوافقون على بذل المال أنا أقول ِ :إذا كان الذين يوافقون على اختيار السلم مث ً
والنفس في سبيل ال أقل من % 1من هؤلء ،فإن % 69أي الباقون لو رجعنا إلى فرزهم مرة أخرى
سائلين :لماذا تخلفوا عن بذل المال والنفس في سبيل ال ؟ فإننا سنجد أن % 60من هؤلء قد تخلفوا عن
البذل لنهم لم يستطيعوا أن يروا بذل المال والنفس في سبيل ال يعطي النتيجة التي يريدونها ؛ ولم يكن
السبب عدم ِإرادتهم السلم ..وبعبارة أخرى :هم ل يعرفون الطريقة التي لو بذلوا أنفسهم وأموالهم بها
أعطاهم ال النتيجة التي يريدونها …
وبحسب فهمي وإدراكي لمشكلت المسلمين أرى أن عدم بذلهم ليس راجعًا لعدم الرادة للبذل
والعطاء ،ولكنهم ل يعرفون الطريقة التي لو بذلوا عليها نفعت وأنتجت ..
هذه نقاط دقيقة ينبغي أن ل نتساهل فيها ،وينبغي أن نعرف السبب الذي من أجله يتخلف البذل ؟ هل
من عدم الرادة ؟ أم من عدم الفهم لكيفية تحصيل المراد ؟ فلو تأكد المسلم من تحصيل المراد لبذل نفسه
وماله .
نريد معرفة ما يرجع إلى القدرة الفهمية ،وهو ما يتجاهله من ل يقبلون تفسيري .وأريد أن أضعه
تحت المجهر لسباب كثيرة ،لن تجاهلنا له يؤدي ِإلى نتائج أخرى كبيرة في مجالت كثيرة ،نرجو أن
نوفق إلى بيان بعضها على القل إن لم يكن كلها …
ثم هل من سنة ال أن يطلب من أنفسنا وأموالنا في سبيله ثم ل يعطينا النصر ؟ أم أن العاقبة للمتقين ؟
حسنين تقتصر على » وكان حقًا علينا نصر المؤمنين « ) سورة الروم :الية . ( 47أم إن إحدى ال ُ
الشهادة دون النصر ؟
ليس من طبائع الشياء ،ول من طبيعة النسان أن ينصر مبدأ ل يمكن أن ينتصر .وإذا جهل المسلم
كيف يمكن أن ينتصر ،فإن إرادته ل تكفي لحصول النصر ،وإل فما أسهل أن يريد إنسان النصر !!
ولكن للنصر سننًا من خالفها ل ينتصر ..فقد حرم ال المسلمين يوم أحد النصر لمخالفتهم هذه السنة :
» وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله « )سورة آل عمران :الية
. (166
وِإذا فهمنا هذا ينبغي أن نعلم أن النجاح ليس من الرادة فقط ،بل من القدرة أيضًا على صنع
النجاح .وإذا اشتبه عليك ما يرجع إلى القدرات ،فهو الذي أريد أن أكشفه من نفس المسلم ،كما أحب أن
ل عجيبًا لينسب المر إلى الرادات ) اليمان ( ،بدل أن ينسبه إلى القدرات أذكر أن لدى المسلم الن مي ً
مع وضوح الفرق لديه بين ) البّكائين ( و ) المتخّلفين ( في غزوة تبوك .ومع وضوح أن العمل ل يمكن
إتمامه بدون القدرة والرادة معًا وأنهما زوجان ل بد منهما ،يحلو لنا أن نغمض أعيننا عن أحدهما
ونستغني عنه بسهولة لنقول :إن الذي ينقصنا هو إيمان ،وهو إرادة فقط !! وليس القدرة ..والذين كتبوا
ل ،نظروا إلى جانب الرادات وأهملوا جانب القدرات .ورأوا أن فقدان اليمان عن حزيران 1967مث ً
كان سبب الهزيمة ،لن اليمان وحده في رأيهم هو الذي نصر الصحابة الذين لم يكونا يميزون بين الملح
والكافور ..ومثل هذا التحليل السطحي يترك في نفوس الجيل أثرًا سلبيًا حين يوهمهم أن النصر ل يحتاج
لغير اليمان الصادق ،ول يحتاج لفهم دقيق يفوق فهم الخصم .وعندما نرفع عن كاهل الجيل عبء
الدرس والفكر نجعله يوقن أن ما يحتاجه المسلم ليس النظر الدقيق في فهم المشكلت البشرية والحداث
التي تجري ،وإنما المتلء من اليمان .والشاب المسلم يشعر أن ممتلئ إيمانًا وحماسًا ،وان تحصيل
اليمان المتحمس ل يحتاج للسير في الرض ول للنظر إلى الذين خلوا من قبل ،ول لفهم عملية تغيير ما
بالنفس ،وأن أي محاولة للتأمل في فهم مشكلت البشر على مّر التاريخ ِ ،إنما هي انصراف عن الواجب
الول وتضييع للوقت فيما ل طائل تحته .
ِإن ما يستوحيه القارئ من تلك التعليلت ذو أثر شديد على النفس فهو يؤدي إلى تنشيط الهمم ،
والقعود عن طلب المعرفة واكتساب القدرات الفهمية التي يحتاج إليها العالم السلمي ليخرج من محنته .
وإن ما يحتاجه الشباب السلمي المعاصر هو أن يوضح لهم أن القعود عن تحصيل العلم والمعرفة
من أكبر المعاصي الجتماعية التي عليهم أن يجتنبوها ،كما يجب إخراجهم من حالة الركود النفسي التي
ل يشعرون معها بخطيئتهم الكبرى ،وهم يتخلون عن تحصيل قواعد العلم التي توصلهم إلى سنن تسخير
المجتمع .
وهناك مشكلة أخرى هي أن هؤلء الشباب ل يعرفون ماذا يراد بالعلم الذي ينبغي أن يحصلوه
ليغيروا واقع المسلمين ،ولذلك يجب أن يوضح لهم أن تغيير واقع المسلمين يحتاج قبل كل شيء إلى
تغيير ما بأنفسهم … وهذه مسّلمٌة ل يمكنك أن نخطو بدونها خطوة واحدة .فالعلم الذي نقصده هو العلم
الذي ُيمّكن من تغيير ما بأنفس المسلمين ،ليغير ما بهم وحولهم ،ولك أن تسمي هذا العلم بعد ذلك بما
شئت ،فليس المهم هو السم ،وِإنما المهم ما يوصل إلى التمكن من هذه الوظيفة ..وهي تحتاج إلى معرفة
أمرين :
- 1ماذا ُنغّير .
- 2كيف نغير ؟
فالول :يشمل اختيار المثل العلى أو تصحيحه .وِإلى هذا انصرف جهد العالم السلمي منذ قرن
أو أكثر في صورة دفاع عن السلم أو حذف ما ليس منه .
وأما الثاني :فلم يبذل فيه جهد يذكر ،فما زالت دراسات المسلمين قاصرة عن بحث موضوع تغيير
ما بالنفس .
ِإذن ِ :لَم َلْم تصنع إرادات المسلمين قدراتهم ؟ هذا الكتاب مبني على أن الذي يعيق سير المسلمين في
هذا الوقت هو نقص القدرات وليس الرادات ،وهذا ما سبق تقريره بالقدر الذي تيسر .
وكذلك من جملة ما تقرر :أن الرادات تبعث على تحصيل القدرات ،وقد استشهدنا بقوله تعالى :
» ولو أرادوا الخروج لعّدوا له عدة « )سورة التوبة :الية . (46
على أن النسان إذا أراد شيئًا سعى لعداد وسائله ،وأن من ل ُيعّد السباب لما يريد ،يّتهم في صدق
إرادته ،وهذا صحيح بصورة عامة .
وهنا يتكرر السؤال السابق ِ :لَم َلْم تصنع إرادات المسلمين قدراتهم ؟ وأنت تزعم أن المسلمين عندهم
إرادات ،وأن الرادات تبعث على تحصيل القدرات .فكيف إذن تفسر الموضوع ؟ إن هذا الفهم يبّين أن
الذي ينقصنا اليمان ) الرادة ( ل القدرة !!
أقول :نعم .هذا يحتاج إلى التفسير والتوضيح والتفصيل ،وعدم توضيحه وتفصيله هو لذي يعقد
المسألة ،وإن تفسيره يحتاج إلى توضيح أمور .
أولها :أن للرادة شروطًا ل بد من توفرها حتى توجد القدرة ،ونوضح ذلك بمثل المرأة التي تريد
الخير لبنها ،وهذا الخير نفسره بالصحة الجسدية ،فليس من طبيعة المهات عدم إرادة الخير لولدهن ،
ل في الجهالة بحيث ل ومع ذلك فلعدم معرفتهن يخسرن صحة أولدهن .وعدم معرفتهن قد يكون موغ ً
يخطر على بال الم أن هناك وسائل معينة عليها أن تقوم بها للمحافظة على صحة الطفل ؛ غير المور
التي هي في حدود معرفتها السطحية ،وما خرج عن ذلك فل يخطر في بالها بصورة يبعثها على الطلب
الجدي للمعرفة .
وهكذا شأن العالم السلمي في مشكلة صحته الجتماعية ،فهو مكتفٍ بما عنده من المور التقليدية
لحفظ سلمة المجتمع دون أن يخطر في باله أن هناك أمورًا علمية فنية دقيقة جديدة في الحياة في حاجة
إلى أن يحصلها حتى يقي نفسه المشي مكّبا على وجهه .
ل يمشي ل -في بعض أحياء العاصمة طف ً ونقدم صورة أخرى تزيد المر وضوحًا :عندما نرى -مث ً
على يديه لصابته بشلل الطفال ،بينما الشخص المختص لعطاء اللقاح المضاد لهذا المرض في وسط
المدينة قاعد ينتظر ليقوم بالتلقيح مجانًا ،ومع ذلك فأبَوا الطفل ل تحملها إرادة الصحة لبنهما على أن
يقوما بتلقيح طفلهما !!
إلى أي شيء يرجع هذا الحدث ؟ هل نرجعه إلى عدم إرادة السلمة للطفل ؟ وهل نتهم الم بأنها فاقدة
لعاطفة المومة وأنها خائنة ؟ أم ترجع إلى عدم الفهم للموضوع مع وجود الرادة ،ومع وجود الحب
الكامل للسلمة ؟ إن عدم العلم والمعرفة بما ينبغي أن يقوما به لتحصيل السلمة ،هو الذي منعهما من
ذلك .فإذا أردت أن تفسر هذه الحادثة أيضًا بأن سبب عدم تلقيحهما لطفلهما هو عدم إيمانهما بجدوى
التلقيح ،حتى في هذه الحالة ل يكون السبب هو عدم إرادة السلمة للطفل ،بل عدم العلم بما ينفع الطفل ،
أو غموض هذا الموضوع ،أو إيمانهما بالتوكل على ال في نجاة ابنهما .إن تحليل هذه الحالة مفيد جدًا
لبيان مكان العلة في المشكلة ،لن العوامل التي تحول دون تلقيح الطفل :إما الجهل المطبق الذي يحيط
بالموضوع مما يجعله ملتبسًا ول يرفع الهمة لتحقيقه ،وِإما التوكل على ال في أن تحصيل النجاة برحمة
ال تعالى .
فالعاملن الول والثاني نريد أن نزيلهما من نفس المسلم فنغير ما بنفسه من الجهل والغموض .وأما
العامل الثالث :فنريد أن نصححه بِإضافة ) ِإعقل ( ِإلى ) توكل ( .
هذا المثل الذي سقناه يلقي ضوءًا جديدًا جليًا إلى حّد ما ،ويظهر الموضوع ليس بالشكل البسيط الذي
نتصوره بحيث يكفي مجرد الرادة لتتحقق القدرة .فتحقق القدرة بحاجة إلى توفر شروط وزوال موانع
لُتنجب الرادة قدرة .وهذا هو الذي أريد أن يتحقق في العالم السلمي لتقوم فيه الرادة بوظيفتها ،فبدل
طلت بما أصابها من فقدان للشروط عّأن نقول :إنه ل إرادة عنده ،أو ل إيمان عنده ؛ نقول :إن إرادته قد ُ
.ونذكر هنا أيضًا أ فقدان المقياس الذي نميز به النافع من الضار يؤدي إلى السترابة والخوف والنكماش
من كل جديد ،وإن كان هذا الجديد يحمل النفع ،ولعلنا نذكر ما كان يجري في بعض قرانا من استرابة
الناس من عملية التلقيح خشية أن يكون وراءها ضرر مقصود ،فالناس الذين عاشوا في ظروف اجتماعية
سيئة استغللية يتوجسون خيفة من كل شيء ويفسرون كل حدث بإرادة السوء دون الرجوع إلى مقياس إل
مقياس سوء الظن الموروث .
وبمقدار ما يدرك النسان سنن ال ويعمل بحسبها ،فإنه يتخلص من نفسية التشاؤم والنكماش ،
ل على بصيرة . وينطلق في طريق حياته متفائ ً
ويمكن أن نتصور هذه الحالة في العالم السلمي ،حيث أصبح المسلمون يستريبون من كل علم أو
دعوة ويرون في ذلك خطة للهلك أو اليقاع بهم .نلحظ ذلك كثيرًا في الدراسات والتعليقات التي تمثل
الموقف السلبي تجاه كثير من الفكار والبحاث والحداث ،لن أصحاب تلك الدراسات فقدوا المقياس
الموضوعي ،واكتفوا ردود فغل نابعة من المقياس الذاتي الذي كَّونه الخوف أوقات الجهالة .
ق وأسى ،أو شماتة وإدانة ،ول بد للمسلم ونتيجة لهذا الموقف فإن العالم ينظر إلى المسلم نظرة إشفا ٍ
ليتخلص من هذا أن يوسع أفقه ليصحح موقفه من مشكلت الحياة فيكون على بصيرة وبّينة .
طل إرادة المسلم ويمنعها من أن تعطي ثمارها ،فهُم المسلم الخاطئ لقدر ال ،وهذا ثانيًا :ومما يع ّ
الموضوع من الخفاء والتعقيد ما يحتاج إلى دراسة تحليلية دقيقة لكشف مدى العطالة التي تنتج عن هذه
النظرة .إن السلم يرى أن إرادته ليست مما يتحقق بجهده ،وإنما يحققها ال تعالى .ولّما عّلق المسلم
تحقيق إرادته على شيء آخر غير جهده ،أصبح ل قيمة لهذا الجهد ،فزهد في بذله .والموضوع -إلى
هذا الحد -بسيط سهل تناوله ،ولكن الصعوبة تبرز حين نبدأ في تعميم هذه القاعدة أو البحث عن الذين
طل فهمُهم هذا الموضوع بهذا المستوى قيمة جهودهم ِ .إن المشكلة ليست فقط في مستوى عوام يع ّ
المسلمين ،بل في مستوى قيادته … ومعاناة هذا الموضوع جعلت سيد قطب رحمه ال يكتب في كتابه
) هذا الدين ( » :هناك حقيقة أوّلية عن طبيعة هذا الدين ..حقيقة أولية بسيطة ،ولكنها مع بساطتها كثيرًا
ما ُتنسى ول تدرك ابتداء فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين … إن
ل من عند ال -أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة البعض ينتظر من هذا الدين -ما دام منّز ً
غامضة السباب ،ودون أي اعتبار لطبيعة البشر … « .
وأقول هنا :إن المسلم يردي ويتمنى بكل صدق وإخلص أن يتحقق في واقع الحياة المنهج السلمي
والشريعة السلمية ،ولكن هذه الرادة وهذه المنية الصادقة ،تظل أمنية في قلب المسلم ل تبعثه على
ل من عند ال -بطريقة سحرية خارقة فكر ول على عمل ،لنه ينتظر أن يتحقق هذا الدين -ما دام منز ً
غامضة السباب ودون أي اعتبار لجهد البشر .
هذا الموضوع جدير بالبحث والتوضيح لن غموضه ) أي غموض كيفية تحقيق إرادة المسلم ( ،
طل قيمة الرادة والنية الصالحة ،فتبقى الرادة ل تحمل على السعي ليجاد القدرات . يع ّ
ومسلم اليوم ل يشعر أنه يحتاج إلى شيء يقوم به في سبيل دينه غير أن يقدم نفسه وماله .وحين
يفعل هذا يصاب بزهّو يسّد أمامه منافذ الفهم ،فل يشعر أن هناك جهدًا آخر أفضل مما وصل إليه ،وهذه
الحالة النفسية تعطل السعي إلى التكامل وطلب المزيد من الصواب ،كما تعطل عملية النقد والتصحيح ،
إذ أن بذل المسلم لنفسه وماله بهذا الشكل ل تمكّنه من كشف جوانب النقص في أفكاره وفهمه للمور .ول
يخطر في البال أنه يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة الممتازة من التضحية العوام والعجائز وحتى الطفال
دون أن يؤثر ذلك في ضحالة أفكارهم لحل المشكلت .
طل إرادة المسلم ،فهمه الخاطئ لـ ) :كيف بدأ الخلق ( ؟ )سورة العنكبوت : ثالثًا :من أسباب ما يع ّ
الية (20وهذا السبب متصل بالسبب السابق ،وإن كان له وجه آخر ،وهو أن المسلم بحسب مواريثه
الثقافية خلل القرون صار ينظر إلى أحداث هذا الكون نظرًا يخلو من رؤية السباب التي تساعد على
وجود الحداث ونموها ،فل يرى القوانين والسنن التي تعمل في أحداث الكون ،ول يرى المؤثرات
البعيدة والقريبة التي ساهمت في حدوث الوضاع التي يعيشها … وحتى فكرة صلة الحاضر بالماضي
والمستقبل ،ليست واضحة لديه ،ولذلك ُيحّول الحداث بكل هدوء ورضا إلى إرادة العلي القدير ،ويتبرأ
من حوله وقوته إلى حول ال وقوته .واستخدم هذه الحوقلة في غير مكانها يبعدها عن أن تكون كنزًا من
كنوز الجنة كما ورد في الحديث الشريف ،ويجعلها كلمة استرجاع ) إنا ل وإنا إليه راجعون ( تقال في
موطن الضعف والستسلم ،ل كلمة استعانة ؛ وهذا ما جعل أحد الصالحين ينذر قائلها الذي استخدمها في
معنى السترجاع .
حاولنا أن نثبت فيما سبق وجود الرادة عند المسلم ،ولكن علينا أن نوجه هذه الرادة لوجهة
الصحيحة لتعطي نتائجها من السعي والحركة ليجاد القدرات ..وهذا التفسير للمشكلة يضع المسلم في
طريق الحل بدل أن نحاول نفي الرادة عنه ،وهو يشعر أنه يملكها ..وماذا نرفع إن لم نعرف كيف
نرفع ؟ وكيف نصنع ؟ هذا هو العلم الذي أريده منكم ولكم أيها الشباب المؤمن .
- 2عمى اللوان :
إن كان بعض الناس مصابين بعمى اللوان فل يرون إل بعضها ،فإن هناك عمى فكرياً ل يمكن معه
أن يفهم النسان المور والحداث متكاملة .وهذا العمى الفكري هو الذي يتضمنه قوله تعالى :
» وعلى أبصارهم غشاوة « )سورة البقرة :الية » . (7وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي
آذانهم وقرًا « )سورة النعام :الية 25وكذلك سورة السراء :الية » . (46ولهم أعين ل يبصرون بها
،ولهم آذان ل يسمعون بها « )سورة العراف :الية . (179
هذا المرض الفكري ل ُنبصره ،ول يقع تحت مجال رؤيتنا .وكما أن البصر يعجز عن الرؤية في
الظلم وعن رؤية ما فوق الشعة ،فإن الفكر يصاب بمثل هذا العجز -وليس هذا الجانب كشفًا جديدًا -
وتكرار آيات القرآن في هذا المجال ،يجعل الذي ل يعلم يتساءل عن سّر هذا التكرار ،وال سبحانه
وتعالى يقول :
» انظر كيف نصّرف اليات لعلهم يفقهون « )سورة النعام :الية . (65
إن هذا الموضوع قد صار معروفًا ،ولكن نحن المسلمين مصابون بعمى ألوان فكري ل ندرك بسببه
كثيرًا من الفكار » :فإنها ل تعمى البصار ،ولكن تعمى القلوب التي في الصدور « )سورة الحج :الية
. (46
وهذا ما يصدم المسلم الذي رسخ في فكره أن عمى القلوب خاص بالكافر ،وكأن المسلم يملك
المناعة لمجرد انتسابه إلى السلم ..إن هذه السذاجة هي نفسها أبرز مظاهر عمى القلوب .
وقد يكون المسلم مستعدًا لبذل ماله ونفسه في سبيل ال ،ولكنه يجهل السبل القويمة المجدية لهذا
البذل فيظل يتخبط ويقع في حيرة من أمره .إن عمى القلوب ل يتمثل فقط في حيرة هؤلء البسطاء ،
ولكنه يظهر بشكل أوضح في عقول الخاصة التي تجهل السبل القويمة لستخدام أنفس هؤلء وأموالهم
التي يجودون بها .
هنا يبلس المتفيهق ،ويرتد البصر خاسئًا وهو حسير ،وُتهدر الطاقات من مغفلية أصحابها ل من
عدم وجود الطاقات ،ول من سوء نوايا أصحابها وعدم إرادتهم الخير لمتهم ،بل في عمى بصائرهم عن
كيفية حل المشكلة .
لو أتينا بأقوى الرجال عضلت ،وأكثرهم صلة وصيامًا ،وأحبهم لنصرة قضية المسلمين ،وهو ل
يعلم عن المصارعة اليابانية شيئًا ،وأدخلناه حلبة الصراع مع إنسان شديد الكفر ،لكنه أوعى منه في هذا
الفن ،فإن نتيجة المصارعة مأساة ل نحتاج إلى ذكرها .فالرادات والقدرات العضلية تدحرجت أمام
القدرات الفهمية … وهذا ما يأبى العالم السلمي أن يفهمه ويبصره ويعترف به .ول بد من لفت النظر
ل -ل يصبح كافرًا ،وإنما مؤمنًا مقصرًا .إلى أن المؤمن الذي يفقد قدرة ما -قدرة المصارعة مث ً
ينبغي أن نحلل الموضوع بدقة أكثر ،لنعلم ماذا ينقص المسلم :هل هو اليمان والرادة حقًا ؟ أم
تنقصه القدرات الفهمية التدريبية ،أم القدرات المادية ؟ وإننا إذا أخطأنا في التشخيص ،فإن ذلك يؤدي
إلى نتائج وخيمة .وهنا أريد أن أنّبه ِإلى أمرين :
الول :الّدمج الذي يقوم به المسلم بين القدرة والرادة ،بين اليمان والسلم .إن اليمان هو
الرادة ،وإن السلم هو القدرة ،ولكن كما يقول ابن تيمية :حين يتعرض لبحث النزاع حول :هل
اليمان هو السلم ؟ والسلم هو اليمان ؟ أم أن كل واحد منهما يفترق عن الخر ؟
ل منهما ويخرج ابن تيمية من البحث بأنه إذا ُأطلق أي منهما شمل الخر ،ولكن إذا أردنا أن نبحث ك ً
بدقة نجد أحدهما يختلف عن الخر كما ورد في سورة الحجرات » :قالت العراب آمّنا .قل لم تؤمنوا ،
ولكن قولوا :أسلمنا وّلما يدخل اليمان في قلوبكم « )سورة الحجرات :الية . (14
ل ،ولديه استعداد أن يبذل نفسه وماله في سبيل ال ،ولكن ل يملك قد يكون الرجل مؤمنًا كام ً
القدرات الفهمية حتى يكون قاضيًا أو مفتيًا ،وليس هذا فرض عين على كل واحد ،وإنما هو فرض
كفاية ؛ ولكن إذا حصل تقصير في فرض الكفاية وقعت المسؤولية على الكل ،وليس على الكل بمستوى
واحد ،بل على من هو أقدر لتحققه ،ولهذا ألوم الشباب الذين ل يسعون لبلوغ المستوى في الفهم الذي
يحتاج إليه هذا العصر .
وموضوع اختلط المسلم بالمؤمن بحث طويل والنزاع فيه كثير ،وإنما سقت رأي ابن تيمية لما فيه
من اختصار وحل لمواطن النزاع بتطبيق هذه القاعدة .فقد يكون الرجل مسلمًا في الظاهر وليس عنده
اليمان كما قال ال تعالى عن العراب ؛ وقد يكون الرجل مؤمنًا وليس عنده السلم إما لهماله كالُعصاة
الذين ل يقيمون أحكام السلم ،وإما لعجزه كالمسلم الفقير الذي ل يحج ول يزكي .والول هو الذي
ل ،ل عدم ِإيمان ؛ فهذا الذي تنازع فيه المسلمون ومن أجله افترقوا إلى فرق يترك السلم إهما ً
كالخوارج والمعتزلة وأهل السنة ،وكل طائفة تحتها طوائف إلى درجة أن العدد ل ينضبط لكثرة
الختلفات .فالخوارج يكّفرون بالمعصية ،والمعتزلة يجعلونه ل كافرًا ول مؤمنًا بل هو في منزلة بين
المنزلتين ،وأهل السنة يجعلونه مؤمنًا عاصيًا ،ول يكفرون مؤمنًا بمعصية .وابن تيمية أطال الحديث
عن هذه البحوث .وأقول ِ :إن كثيرًا من الشباب المتحمس اليوم يذهبون من غير شعور منهم ِإلى رأي
الخوارج ،ويصيرون ِإلى هذا الرأي تحمسًا وحرقة لجل السلم ،وليس اعترافًا منهم برأي الخوارج .
وهنا ينبغي أن نبه ِإلى أمر ربما يفيد ،وهو أن إطلق الكفر والنفاق على مرتكبي المعاصي كتصديق
الكاهن ،حكم عام :
)(1
» من أتى كاهنًا أو عرافًا فصّدقه بما يقول ،فقد كفر بما ُأنزل على محمد « » ،ومن حلف بغير
ال فقد أشرك «) . ( 2
هذا الطلق حكم عام لن الشخص المعين الذي وقع منه هذا ل يشترط أن يكون كافرًا ،وقد يحكم
بعضهم بقتل من أصّر على ترك الصلة ثم يختلفون هل قتله كفرًا أم حّدا أم سياسة ؟ والكل متفقون على
أن هذه الحكام أحكام دنيوية ،وأمره في الخرة إلى ال .
وذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار عند قوله تعالى » [:ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم
الكافرون « )سورة المائدة -الية . (44قال ) :إن حكيم بن جبير سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى » :
ومن لم يحكم … ومن لم يحكم … ومن لم يحكم … « )سورة المائدة -اليات 44ن . (47 ، 45قال :
فقلت :زعم قوم أنها أنزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا ،قال :اقرأ ما قبلها وما بعدها .فقال :ل ،
بل أنزلت علينا ،ثم لقيت مقسمًا مولى ابن عباس فسألته عن هؤلء اليات التي في سورة المائدة ،قلت :
زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا .قال :إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا ،وما
نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم .ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته -وذكر أنه ذكر له ما قاله سعيد
) ( 1رشيد رضا -تفسير المنار -ج - 6ص - 404الطبعة الولى 1331 -هـ .
يعرف الطريق الصحيحة لبذل النفس ،يزهد في الموضوع وإن كان عنده استعداد لبذل النفس ،ويقول :
ما جدوى بذل النفس ِإذا كان ل يغير الحال ؟! إن هذا يقودنا إلى أن نفرق بين من يمتنع عن بذل نفسه -
وهم المعنيون في حديث القصعة -لزهده في الخرة ،وبين من ل يبذل نفسه لنه ل يرى المكان الذي
يبذل فيه نفسه ،وهو معذور في هذا ،لن المر ليس بذل نفس وكفى … ول شك أن هناك خلفًا في
كيفية بذل النفس ،فإذا كان بعض اليائسين يظنون أنه ينبغي أن يحملوا السلح ويقتلوا الناس الذين
يعتبرونهم كفارًا ،وأنهم إن فعلوا هذا فقد أطاعوا ال ،وإن لم يفعلوه ل يكونون قد استجابوا لمر ال
والرسول .إن مثل هذا الفهم الخاطئ جدير أن ينتج عنه حب الدنيا وكراهية الموت ،كالذي قال عن
ث على الشهادة في سبيل عنقود العنب بأنه مّر حين عجز عن فهم طريق الوصول إليه .إن السلم حين ح ّ
ال لم يكن ذلك مجرد طلب الموت وهجوم عليه .إن هذا ليس هو المراد ،بل إن توفير شرط الموت الذي
يباركه السلم أمر ضروري ،فإذا جهل إنسان شروط الموت أو فهمها فهمًا خاطئًا ،سوف ل يرى
النتائج الدنيوية -وهي عزة المجتمع السليم -التي أرادها ال من الموت في سبيله .
وينبغي أن يساعدنا النظر إلى النتائج الدنيوية على تصحيح مفاهيمنا لن أمر ال حين يكون على
وجهه يجب أن يعطي النتيجة حتمًا بإذن ال ؛ أما ِإن لم يعط النتائج فينبغي أن نصحح فهمنا ول نظل
نقول :نحن قمنا بالمر على وجهه إل أن النتائج هي التي أخلفت .وهذا النظر يمنع من مراجعة الذات ،
والبحث عن الخطاء في أعمالنا وتصرفاتنا ..ول بد من تنظيف هذه الزوايا حتى ل يستمر تخبط العالم
السلمي في التيه بغرور .ونكرر أن الجزاء الخروي يكون على حسب النية ،والجزاء الدنيوي على
حسب الصواب ،وأنه يمكن بل يجب تحقيقهما معًا .وقد ل يفهم القارئ ما نقصده بهذا الكلم ،ولكي يفهم
هذه الجملة ينبغي أن يكون قد فهم مشكلة المسلمين ،وفهم مستوى العصر الذي نعيش فيه في فهم
المشكلت .وحين ُنفهمه هذين المرين يمكنه أن يفهم أين المسلمون من مشكلتهم الحقيقية ؟ وأين
ت أني أستطيع رفع المسلم بهذه الصفحات إلى فهم مشكلة المسلمين مستواهم في فهم ذلك ؟ ولكن إن زعم ُ
بمستوى آيات الفاق والنفس التي ظهرت ،أكون غير مقّدر للمشكلة حق قدرها ،وُأحّمل ما أكتب فوق
طاقته .ومع ذلك يجب أن نفاجئ الخرين بنتائج البحوث -وإن لم نتمكن من سياق كل الدلة لهم -ليعلموا
أن هناك من يكسر إجماعًا يطمئنون إليه ،وأن هناك من ينظر إلى المشكلت بغير النظر الذي ينظرون به
إليها حتى ل يقول قائلهم :ما سمعنا بهذا .
قد نضع للمسلم الن العنوان ،وربما شيئًا فشيئًا على مّر السنين -إن كان مجتهدًا -يبدأ في رؤية
الدلة .وقد نجد المئات من الشباب المتحرق للقضية السلمية والذين عنهم استعداد لبذل نفوسهم -
ل -في سبيل السلم ،ولكن عدد الذين فهموا آيات الفاق والنفس قليل .بل أستطيع أن ويبذلونها فع ً
أقول :إنه ليس في العالم السلمي رجل واحد رائد في فهم آيات الفاق والنفس ،وإن كل الذين يكتشفون
اليوم آيات الفاق والنفس هم من غير العالم السلمي ،والمسلم إن اجتهد في فهم ذلك فمبلغه أن يستشهد
بأقوالهم ليدعم بها وجهة نظره .وإنما يحدث هذا في الوقت الذي يتوقف فيه الجميع عن التفكير ،وقد كان
يومًا ما عكس ذلك ،حيث كان كل الذين يفهمون ويبحثون آيات الفاق والنفس هم من العالم السلمي ،
ولكنها سنة ال » :وتلك اليام نداولها بين الناس « )سورة آل عمران -الية (140؛ ويتم ذلك وفق
سنة ،فإذا ترك المجتمع السيطرة على ما بنفسه يفقد زمام التاريخ ،وإل فلن يفلت منه الزمام .وهل بعد
هذا أيضًا نقول :إن الذي ينقص العالم السلمي إرادة أم قدرة ؟ وجدنا أصحاب الرادات الذين بذلوا
أنفسهم ول يزالون يبذلونها ،ولكن أين أصحاب القدرات ؟ إن هذه المشكلة ليست مشكلة المسلمين
وحدهم ،وإنما هي مشكلة العالم الثالث .إنني حين اكتب أتوجه إلى الشباب المسلم الذي ُيعرف بأنه
إسلمي ويريد أن يحيا حياة العبودية الحقة ل تعالى .ولكن لو توسعنا إلى إنسان منطقة الحضارة
السلمية أو مجال دراسة الحضارة السلمية -كما يقول توينبي -لوجدنا أن مشكلة النسان تكاد تكون
واحدة سواء عند الذين يدعون إلى استئناف الحياة السلمية أو الذين يريدون الدخول إلى مجال الحياة
المعاصرة عن طريق غير طريق السلم .إن الذي ينقصهم هو القدرات الفهمية للمشكلت وليست
الرادات ،لن مرض النسان مرتبط ببيئته الثقافية ،وهي بيئة واحدة لن النسان سواء كان يريد
السلم الذي تاريخه من الضخامة والفخامة ما هو جدير بإرادة الحياة ،أو يريد فكرة القومية أو
الشتراكية أو … كل هذه التجاهات المتنازعة ل تختلف في إرادتها الخير للمة التي تسعى لخدمتها
مهما اختلفت هذه الرادات في قيمتها … إن إرادتهم صادقة في مجموعها ،هم يريدون الخير والنصر و
الغنى للمة ،ولكن ما مقدار كفاءاتهم في تحقيق هذه الرادات ؟ إنهم كذلك قد قدموا قوائم من الضحايا ،
وهذا دليل على صدق إراداتهم .إنهم جميعًا أثبتوا إخلصهم بتضحيتهم واستعدادهم لبذل النفس والمال ،
ولكنهم لم يثبتوا كفاءاتهم الفنية في حل لمشاكل .إن هؤلء لم يؤتوا من قلة إراداتهم ،وإنما من قلة قدراتهم
الفهمية والفنية .وقد ل نبالي بعجز غير المسلم لن المسلم قد ل يغترف بإرادة غيره … وقصدنا أن يفهم
المسلم مشكلته الخاصة وإن كان يحسن به أن يعرف مشكلت غيره ،ويعرف القاسم المشترك بينه وبين
غيره من مشكلت ،وهذا الفهم العام مما يساعده على حل مشكلته بفعالية أكثر ،ويساهم مع الخرين في
حل مشكلتهم .ولسنا الن بصدد إثبات أو تقييم إرادة الخرين أو نفيها ،وإنما الذي نريد أن نشير إليه هو
ل -التي تؤكد المرض العام في المنطقة ،ل أن المسلم أثبت عجزه أمام الخرين .ففي قضية فلسطين -مث ً
يريد المسلم أن يعترف بعجزه أمام هذه القضية ،لن الذين دخلوا ميدان حلها لم يدخلوه تحت شعار
السلم ،فالمسلم يرى نفسه قد ُأبعد عن حل القضية .والحقيقة أنه قد عجز أن يثبت وجوده أمام هؤلء
الذين دخلوا ميدان القضية وعجزوا عن حلها ،فهو قد أثبت عجزه مرتين ؛ ولكن المسلم ل يريد أن يفهم
هذا ول يريد أن يعترف به .
لماذا يعجز المسلم عن رؤية هذه الواقعة الكبيرة ؟ لعل من أسباب ذلك أنه لم يفهم المشكلة بعد ولم
تتوضح له ،لن النسان في العادة ل يستطيع أن يعترف بخطئه إل إذا عرف كيف يستطيع أن يتخلص
منه ،فما دام لم يعرف بعد كيف يتخلص من خطئه ،فسيظل متمسكًا بالخطأ لنه لم ير البديل ،ولم ير
الحل الصائب ،ولم ير ما ينقصه للحل .وحين يدرك ما ينقصه حقًا تصير لديه القدرة على العتراف
بالخطأ الذي كان يرتكبه في معالجة المشكلة ،ول يعود يشعر بمركب النقص الذي يحمله على تحدي
الحقائق ،بل يصير يعترف بما كان يقع فيه من خطأ .وفهم الفرق ضروري بين من ل يقدر أن يسمع
أحدًا يتحدث عن خطئه ،وبين ما هو بنفسه يعترف بالخطأ الذي ارتكبه ،ول يشعر أنه من العيب أن يقع
في الخطأ ،ولكن العيب هو شعوره بالعيب عندما يعترف بالخطأ ،وهذه نقلة نفسية تغييرية كبيرة » كذلك
ن ال عليكم « )سورة النساء :الية . (94والقدرة على مثل هذا النتقال تمثل النتصار كنتم من قبل فم ّ
على النفس الذي هو سبب كل انتصار خارجي بعد ذلك .فحين تصير للمرء قدرة الهجوم على تلك
الخنادق المنصوبة داخل نفسه ،يكون قد انتصر داخليًا ..وتحرر من أعماقه …
وفرق كبير بين من يحمل في نفسه رهبة عبادة العجل ،وبين من تحرر فقال » :وانظر إلى ِإلهك
ظلت عليه عاكفًا لَنحرقّنه ثم لننسفّنه في اليّم نسفًا « )سورة طه :الية . (97الذي َ
كيف أخاف من التوبة وأنتم ل تخافون من الذنب ؟! كيف أخاف من العتراف بالخطأ وأنتم ل
تخافون اللتزام بالخطأ ؟! كيف أخاف ما أشركتم وأنتم ل تخافون أنكم أشركتم ؟ فأي الفريقين أحق بالمن
؟
والشاهد هنا انقلب المفاهيم ،وليس القصد الدانة بالشراك ،وإنما ضرورة أن يحدث عندنا تغيير
في فهم المشاكل ،ومنها المشكلة التي أبحثها وهي مشكلة الرادة والقدرة .والتغيير الذي أبغيه هو أن نعلم
أن الذي ينقصنا هو القدرات وليست الرادات .وإن كنتم تشعرون أنكم قد تجاوزتم فهم هذا الذي ُأتعب
نفسي وغيري لفهمه ،فاحمدوا ال على ذلك ،وارموا بهذا الكتاب عرض الحائط ،ثم امضوا إلى
تطلعاتكم الجديدة واتركوني مع الميين لعلمهم هذه الحرف البجدية في سنن الحياة .
- 3القدرة والرادة كشريعة وحقيقة :
والمقصود من هذا العنوان بيان كل من القدرة والرادة عند المتصوف والفقيه ،فالصوفية يسمون
أنفسهم بأصحاب الرادات ،ويسمون تلميذ المتصوف بالمريد ،ويعتبرون أنفسهم بأنهم بأصحاب
الحقيقة .كما أنهم يرون إمكان وصول المي والعامي إلى درجات عالية في الرادات ،وهو نموذج من
التطبيقات على ما ذكرنا سابقًا من أن الرادة قد ترتفع إلى درجة عالية عند العوام والطفال ذكورًا وإناثًا
بحيث يبلغون أقصى درجات الرادة ،وذلك ببذل النفس والمال .بينما ل يمنك أن يصل إلى القدرات إل
بجهود ،ل تتيسر للعوام والطفال .وكذلك أمر التصوف والفقه ،فالمتصوف يمكن أن يقطع المراحل
قفزًا ويصل ،ويسمونه ) الواصل ( .أما الفقيه فل يمكن أن يصل إل بالدرس والجد سنين طويلة .وقد
يرمي المتصوف بأنه متعلق بالرسوم ،وبأن الفقهاء محجوبون .وليس هذا موضع بحثه الن ،ول يهم ما
بين المتصوف والفقيه من خصام ووئام ،ول أن المتصوف قد يغرق في الرادة ول يعود يفرق بين
الرادة الشرعية والكونية ،فيرى الكون كله مرادًا ل ومنها المعاصي حيث يرى المعصية طاعة ل …
وهذا الختلط بين الرادة الكونية والشرعية شائع مشوش ،وإن لم يصل عند الكل ما وصله عند الحلولية
من المتصوفة .الرادة الكونية هي إرادة ال في أن جعل النسان قادرًا على فعل الطاعة والمعصية ،فإذا
فعل طاعة يكون قد عملها بإرادة ال الكونية ،أي بأقدار ال له على ذلك ،وإن فعل المعصية فكذلك …
أما الرادة الشرعية فهي إرادة الحلل والحرام ) الواجب والمحظور ( .فإذا استخدم النسان إرادة ال
الكونية في الطاعة فقد رضي ال عنه ،وإن استخدمها في المعصية سخط ال عليه … مثال ذلك شراء
ل كالمصحف لن ال أراد قدرتك على هذا وهذا ، المصحف أو شراء الخمر ،ولكن أن تجعل الخمر حل ً
فهنا مصدر الخطأ الذي يقع فيه الحلولي ،ومصدر التشويش الذي يقع فيه المسلم الطيب عادة حين يرى
أن المعاصي من قدر ال … ويمكن أن نرى الكوني والشرعي في قوله تعالى » :أل له الخلق والمر «
)سورة العراف :الية (54فال خلق المؤمن والكافر ..ولكن ال ل يأمر بالكفر ،وإنما يأمر بالطاعة :
» وإذا فعلوا فاحشة قالوا :وجدنا عليها آباءنا وال أمرنا بها .قل إن ال ل يأمر بالفحشاء ،أتقولون
على ال ما ل تعلمون « )سورة العراف :الية . (28
كما أن ) الخلق ( يتجه إلى الكوني ،و) المر ( يتجه إلى الشرعي .إل أنه قد تأتي الكلمة الواحدة
يراد بها الكوني أحيانًا ولشرعي أحيانًا .فقوله تعالى :
» حرمت عليكم الميتة « )سورة المائدة :الية : (3أمر شرعي .ولكن
قوله » :وحرمنا عليه المراضع « )سورة القصص :الية : (12 :أمر كوني ..
كذلك قوله تعالى » :أمر أل تعبدوا إل إياه « )سورة يوسف :الية : (40أمر
شرعي …
ويمكن الشارة -ونحن نبحث موضوع المتصوف والفقيه -إلى جانب آخر ،وهو أن التخلف حينما
أصاب العالم السلمي ،ظهر عند المتصوف ) في شطحاته ( ،وظهر عند الفقيه ) في جموده ( ؛ فكان
المتصوف من قبل يملك المرونة بحسب الجانب الرادي حيث تغلب عليه المقاصد ،أي كان مرنًا في
الجانب الفقهي .وكان الفقيه ملتزمًا للقواعد بشكل ظاهر في بيان الحلل والحرام … ولكن التخلف حينما
ل من المتصوف والفقيه ،شطح المتصوف فلم تعد له كوابح ،وجمد الفقيه فلم يعد يستطيع حركة أصاب ك ً
ول اجتهادًا .وجانب ثالث ،هو أن المتصوف يغلب عليه جانب العبادة ،بينما الفقيه يغلب عليه جانب
العلم وربما المنطق والفلسفة والحدود … يقول ابن تيمية في هذا في عدة مواطن من الفتاوى » :إن فسد
من عبادنا فيهم شبه بالنصارى ،ومن فسد من علمائنا فيهم شبه باليهود « ..لن النصارى ضالون
ففسادهم في القدرات أكثر لنهم يخالفون عن جهل ..واليهود مغضوب عليهم ففسادهم في الرادات أكثر
أي فساد النيات عندهم أكثر لنهم يخالفون عن علم .
- 4موقف أهل الدين والسياسة من نقص القدرة والرادة :
ذكرنا فيما سبق أن ركني العمل هما القدرة والرادة ،وأن النقص قد يكون في كليهما أو في أحدهما
… وأن النقص في حضارة عالم السلم اليوم إنما هو في جانب القدرات ،ولكننا ذلك نرى الناس
يتجهون إلى إبراز أهمية الرادات ويحاولون تلفي النقص فيها -وكان الحرى بهم أن يتجهوا إلى تلفي
النقص في القدرات -فيتجه أهل الدين إلى علم الكلم ،ويتجه أهل السياسة إلى مصادر جديدة للرادات .
أما في موطن الختلف ،فكل من أهل الدين والسياسة يتجه إلى الدانة في نقص الرادات أو عدم
وجودها ول يتجهون إلى الدانة في نقص القدرات :فيتجه أهل الدين إلى التزمت ورمي كل من يخالفهم
بالزندقة والمروق عن الدين ،ويسارعون إلى التهام بالكفر ،فينشأ عن ذلك تكفير بعضهم بعضًا ،كما
ينمو التشكك في الخلص والرادات .وكان منشأ محاكم التفتيش من مثل هذا التجاه .
وفي العالم السلمي يبرز هذا النقص في التوجس خيفًة من كل محاولة لكسب القدرات ،أو وصف
محاولة استخدام القدرات بأنها قنطرة اللدينية ،أو أنها أخطر بدعة تهدد الشريعة والدين .ويكون التنابز
بألقاب الكفر بضاعة لمتخاصمين ،ويتوجه الشك مباشرة إلى اليمان ،فيخشى على إيمان الذين يسعون
لكتساب القدرات .ويمكن أن يلحظ ذلك -بسهولة -كل من راجع سجل الفكار في العالم السلمي …
أما في مجال السياسة ،فنجد الحالة نفسها … فنراهم ل يدين بعضهم بعضًا في القدرات ،بل
يتجهون مباشرة بكل عفوية إلى الدانة في النيات والرادات ،في صورة التهام بالخيانة والعمالة ؛ فكل
من يخالفهم خائن وعميل .وما أسهل توزيع هذه اللقاب على بعضهم في أدنى خلف ينشب بينهم ،ولست
بحاجة إلى ذكر أمثلة ،إذ عليها نصبح وعليها نمسي … فوسائل العلم التي تضخمت في هذا العصر
عالميًا تطفح بمثل هذا التجاه ول يكون التهام في مثل هذه الظروف الحضارية -عادة -بنقص القدرات
أو بنقص العلم ،وباحتمال الخطأ في الفهم إذ » كل ابن آدم خطاء « بل يتوجه مباشرة إلى النيات وإدانة
المقاصد والرادات .ولعل السبب في هذا هو استخدام البضاعة المتوفرة وهي الرادات حيث يغيب
العلم ،فل يستخدمونه في بحث القضايا ،بل يستخدمون الخلص فيكون الطعن في إخلص المخالف ،
ل في إظهار خطئه وجهله .
وهذا السلوب هو أسلوب السهولة في الدانة ،لن الدانة في القدرات ) في العلم وفي الفهم ( ،
تحتاج إلى جهد عقلي وإلى إبراز الدلة ..أما الدانة بالكفر أو الخيانة ،فل تحتاج إل لمجرد الكلم …
هذا هو الواقع في مجتمع فقدت فيه الفكار قيمتها الذاتية .وإن لهذا السلوب في الدانة سيئات كثيرة
من أبرزها :أن الدانة تكون مؤلمة أكثر عندما يعرف المتهُم في نفسه الخلص ،بل أنه صادق في
إخلصه ،سواء كان من أهل الدين أو من أهل السياسة .فالول يحب ال ورسوله ويخلص لهما ،
ومستعد لتقديم كل شيء في سبيل ال .والثاني يعرف في نفسه إخلصه لمته وبلده ،ول يخطر في باله
أن يخون أمته أو يبيعها .فإذا ما اتهم بهذه التهمة أهل الدين أو أهل السياسة ،تكون الجراحات مؤلمة
مأساوية ..وكم تكون الصدمة شديدة حين يكشفون سوء ظن الخرين بهم أو اتهامهم مباشرة … حتى إن
هذا التجاه يظهر في التجمعات الصغيرة ،فيكون همها كشف ذي الوجهين ،ول يكون همهم في رفع
مستوى إدراك الذين يلوذون بهم ،لهذا تحدث النشقاقات والحرمانات ،والطرد ،وتحريم المطالعات غير
المقررة ،وفرض الرقابات الشديدة على مصادر المعرفة في المدارس الدينية والعقائدية ،ويبذلون في
ذلك كل جهد ووسيلة مشروعة أو غير مشروعة .ومن يراجع أساليب محاكم التفتيش في تنسم التهامات
لدنى الملبسات ،يعرف كيف أن النقص في القدرات يؤدي إلى دمار المجتمعات .
ومن سيئات الدانة في الرادة ) الخلص ( هو أن أصحابها يعّولون فقط على المخلصين لهم دون
النظر والتأكد من كفاءاتهم في أداء الواجب … فتنحط نتائج العمال وتتعرقل المور ،وتنعقد السبل ،ول
ينتج عن ذلك تنافس في تحصيل القدرات ،بل التنافس في التقرب والتزلف قدر المكان مما يزيد الطين
بلة .وهذا السلوب في الدانة ل يحل المشكلة ،لنه ل يعالج أسبابها ،بل يزيد المشكلة تعقيدًا .
ثم إن التهام بنقص القدرات ليس مؤلمًا كالتهام بنقص الرادات ،إذ يمكن للمرء أن يعترف بنقص
القدرات دون شعور بوخز في الضمير ،ودون شعور بالثم وبآلم مخاض ولدة جديدة .
قد يسهل علينا الن العتراف بنقص قدراتنا المادية -الشيئية -وكذلك حين ندخل مستوى القدرات
الفهمية ،سيسهل علينا العتراف بنقص قدراتنا الفهمية ،كما هو شأن أهل العلم والفهم ،إذ أن أقدر الناس
على العتراف بالنقص في العلم أهل العلم .ول يزال النسان يسعى لكتم جهله حتى يدخل باب العلم ،فإذا
طر في وقت مبكر عن دخل دار العلم لم يعد يقلقه أن يظهر جهله … وهذا ما حمل ابن تيمية على أن يس ّ
عصرنا هذه الملحظة التي لها أهميتها الخاصة لن كل الذين ينظرون ويدققون النظر في آيات ال في
الفاق والنفس يلحظون هذه الظواهر .قال رحمه ال في وصف هذه الظاهرة :
)1
» فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا ،ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ول يكفرون «
(.
فهذه إشارات خفيفة إلى مشكلت كبيرة نعانيها ،فهي ل تنتظر أصحاب الشارات الخفيفة ،وإنما
أصحاب قدرات علمية فهمية وليست مادية شيئية ،وذلك لتطهير مجتمعنا من المشكلت .وهذا واجبكم
أيها الشباب المؤمن ،وقد أنعم ال عليكم بنعمة الصحة والفراغ …
» ولتعلمن نبأه بعد حين « )سورة ص -الية . (88 :
وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين .