You are on page 1of 412

‫في القرآن الكريم‬

‫أنواعه ‪ -‬شروطه ‪ -‬أسبابه ‪ -‬مراحله وأهدافه‬

‫تأليف‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫الطبعة الولى‪1427 :‬هـ ‪2006 -‬ما‬


‫رقم اليداع‪5448/2006 :‬‬
‫بطاقة الفهرسة‬
‫فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة‬
‫لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشئون الفنية‬
‫الصلبي‪ ،‬على محمد‪.‬‬
‫فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬
‫تأليف‪ /‬على محمد الصلبي‪ .‬ط ‪ -1‬القاهرة‬
‫مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة ‪2006 ،‬‬
‫تدمك‪977 - 6119 - 80 -8 :‬‬ ‫‪560‬ص‪ 24 ،‬سم‬
‫‪ -1‬الفقه السلمي ‪ -2‬القرآن – فضائل‬
‫‪250‬‬ ‫أ‪ -‬العنوان‬

‫مركز السلما للتجهيز‬


‫الفني‬
‫عبد الحميد عمر‬
‫‪010696‬‬
‫مؤسسـة اقـــــرأ‬
‫‪2647‬‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫‪ 10‬ش أحمد عمارة ‪ -‬بجوار حديقة الفسطاط‬
‫محمول‪5224207/010 :‬‬ ‫القاهرة ت‪5326610 :‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪Email: info@iqraakotob.com‬‬
‫إلى العلماء العاملين‪..‬‬
‫والدعاة المخلصين‪..‬‬
‫وطلبا العلم المجتهدين‪..‬‬
‫وأبناء المة الغيورين‬
‫أهدى هذا الكتابا سائل ل المولى‬
‫جل بأسمائه الحسنى وصفاته‬ ‫ع عزز وع ع‬
‫صا لوجهه‬ ‫الععلى أن يكون خال ل‬
‫الكريم‪.‬‬
‫صاًلرححاً لولل ييكشرركك‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫‪+‬فللمنَ لكاًلن يليكريجوُ للقاًءل لربه فليكليْليكعلمكل لعلملح ل‬
‫ر ر ر‬
‫ححداً" ]الكهف‪.[110 :‬‬ ‫برعلباًلدة لربه أل ل‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪4‬‬
‫مقدمـــــــــــة‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ‬ ‫مقد‬
‫بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من‬
‫يهده الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادى له‪،‬‬ ‫مة‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد‬
‫دا عبده ورسوله‪.‬‬ ‫أن محم ل‬
‫‪+‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً اًتلييقوُاً اًلل لحلق تييلقاًترره لولل تليموُتيلنَ إرلل لوألنَكييتمُ مكسلريموُلن"‬
‫]آل عمران‪.[102 :‬‬

‫س لواًرحلدةة لولخ للق رم كنيلهاً‬ ‫س اًتلييقوُاً لربليكيمُ اًلرذيِ لخ للقيكمُ بمنَ نَليكف ة‬‫‪+‬لياً أليميلهاً اًللناً ي‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫لزوجهاً وب ل ر‬
‫ساًءليلوُلن به لواًلكرلحاًلم‬ ‫ساًءح لواًتلييقوُاً اًلل اً ذيِ تل ل‬ ‫ث م كنييهلماً رلجاًلح لكثيْحراً لونَ ل‬ ‫ك ل ل لل‬
‫ككمُ لرقيْحباً" ]النساء‪.[1:‬‬ ‫ر‬ ‫إرلن اًلل لكاًلن لع لكيْ ي‬
‫صلركح ليككمُ ألكعلماًليككمُ‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫‪+‬لياً أليميلهاً اًلذيلنَ آلمنيوُاً اًتلييقوُاً اًلل لويقوُليوُاً قليكوُلح لسديحداً ‪ ‬يي ك‬
‫لويليغكرفكر ليككمُ ذيينَوُبليككمُ لولمنَ ييرطرع اًلل لولريسوُلهي فليلقكد لفاًلز فليكوُحزاً‬
‫ظيْحماً" ]الحزابا‪.[71 ،70 :‬‬ ‫لع ر‬

‫أما بعد‪:‬‬
‫فإن موضوع فقه التمكين في القرآن الكريم‬
‫يحتاج لبحث تحليلي عميق لخطورته ولهميته في‬
‫حياتنا المعاصرة حيث إن المة تمر بفترة عصيبة‬
‫من تاريخها‪ ,‬فهي في أشد الحاجة لفهم فقه‬
‫التمكين حتى ترسم أهدافها وتسعى لتحقيق‬
‫آمالها وفق سنن الله الجارية في الشعوبا والمم‬
‫والمجتمعات والدول‪ ،‬ولقد لحظت في دراستي‬
‫للقرآن الكريم أن أصول فقه التمكين واضحة‬
‫المعالم في كتابا الله الكريم‪ ,‬فما على الباحث‬
‫إل أن يجمعها ويرتبها ويحللها ويبين أثرها على‬
‫حياة المة عندما حرصت على تطبيقه في كل‬
‫شئون حياتها‪ ،‬وماذا أصابها عندما ابتعدت عن‬
‫كتابا ربها وسنة نبيها ×‪ ،‬إن وصول المة‬
‫السلمية في هذا الزمان إلى التمكين ليس بالمر‬
‫السهل‪ ،‬ولكنه كذلك ليس بالمر المستحيل‪ ،‬إذ‬

‫‪5‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على الرغم من التضييق الشديد والحربا الضروس التي تشن‬


‫على السلما والمسلمين‪ ،‬فإن كثيلرا من المسلمين يرون أن‬
‫التمكين لدين الله قابا قوسين أو أدنى من ذلك‪ ،‬ومهما رأى‬
‫العداء أن التمكين للسلما بعيد يشبه المستحيل فإن المسلم‬
‫واثق بوعد الله أن الرض يرثها عباده الصالحون‪ ،‬وهذا ليس من‬
‫بابا الحلما والتمنيات‪ ،‬ولكن من بابا الثقة في الله تعالى‪،‬‬
‫واليقين بوعده‪ ،‬إن كثيلرا من علماء المة وطلبا العلم فيها أجادوا‬
‫في التصنيف في فنون متعددة ومتنوعة من علوما الدين‪ ،‬كما أنهم‬
‫أفادوا المة في شرح الداء الذي أصيبت به المة‪ ,‬وفي بيان‬
‫المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل اليهود والنصارى وأعداء‬
‫السلما‪ ،‬وبينوا شراسة الحملة التي شنها أعداء السلما بضراوة‪،‬‬
‫وبكل الصور والساليب على المة السلمية لتثبيط المسلمين‪،‬‬
‫وخنق المل في صدورهم‪ ،‬وبث روح الهزيمة النفسية بين‬
‫جوانحهم حتى ل ترتفع رؤوسهم‪ ،‬ول تقوى عزائمهم‪ ،‬فيظلون في‬
‫ذلك الضعف والهوان الذي صاروا إليه‪ ،‬فيصل بهم المر إلى‬
‫الذوبان‪ ،‬والضياع‪ ،‬والتمزق بين سطوة المم التي تداعت عليها‬
‫كما تتداعي الكلة إلى قصعتها‪ ،‬لقد تحدث بعض الخطباء والوعاظ‬
‫عن مشاكل المة‪ ،‬وفساد أحوالها‪ ،‬بصورة تنشر اليأس وتوصد‬
‫أبوابا المل في وجه أبناء المة الغيورين‪ ،‬وشاعت روح الهزيمة‬
‫بين صفوفهم‪ ،‬وأصبحنا كثيلرا ما نسمع من يقول‪ :‬ماذا نفعل؟ ضاع‬
‫السلما والمسلمون!‪..‬ويقفون على ذكريات الماضين ويتغنون‬
‫بأمجادهم‪ ،‬فأدركت أن المر كبير‪ ,‬والقضية خطيرة ورأيت أن‬
‫س الحاجة إلى ما يرد إليها ثقتها بربها‪ ،‬ومنهجها‪ ،‬في‬
‫المة في أم ز‬
‫حاجة إلى من يوقظ اليمان في قلبها‪ ،‬ويرشدها للخذ بأسبابا‬
‫التمكين وشروطه‪ ،‬ويبين لها طبيعة الطريق‪ ،‬وكيفية السير فيه‪،‬‬
‫ويوضح لها المعالم لتعرف كيف تعمل؟ وإلى أين تسير؟‬

‫‪6‬‬
‫مقدمـــــــــــة‬

‫الفصل الول‪ :‬مراحل التمكين‪ ،‬وفيه خمسة مباحث‪.‬‬


‫المبحث الول‪:‬مرحلة الدعوة والتعريف بالسلما‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مرحلة المغالبة‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مرحلة التمكين‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الحركات السلمية ودورها في العودة إلى‬
‫التمكين‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أهداف التمكين‪ ،‬وفيه مبحثان‪.‬‬
‫المبحث الول‪ :‬إقامة المجتمع المسلم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نشر الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫رابلعا‪ :‬الخاتمة‪ ,‬وفيها أهم نتائج البحث‪.‬‬
‫* منهجي في البحث‪:‬‬
‫لقد كانت كتابتي في هذا الموضوع ضمن منهج معين التزمت‬
‫به قدر المكان‪ ،‬وهذا المنهج فيما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬الرجوع إلى المصادر الصلية في البحث ما استطعت إلى ذلك‬
‫سبي ل‬
‫ل‪.‬‬
‫‪ -2‬الحرص على التزاما المانة العلمية في عزو القوال إلى‬
‫قائليها‪ ،‬وبذل الجهد في نقل قول كل قائل من مصدره على‬
‫قدر المستطاع‪.‬‬
‫‪ -3‬الحرص على تدعيم البحث بالنصوص الشرعية من الكتابا‬
‫سزنة‪ ،‬ونصوص العلماء مع تمييز كل ذلك بعلمات التنصيص‪،‬‬ ‫وال ع‬
‫والقواس‪.‬‬
‫‪ -4‬بيان مواضع اليات القرآنية الكريمة في المصحف الشريف‪،‬‬
‫وذلك بذكر اسم السورة ورقم الية‪.‬‬
‫‪ -5‬تخريج الحاديث النبوية الواردة في ثنايا الرسالة من كتب‬
‫الحاديث المشهورة‪.‬‬
‫‪ -6‬تخريج البيات الشعرية من دواوين قائليها إن تمكنت من ذلك‪،‬‬
‫ن ذكرها من العلماء‪.‬‬‫م ن‬
‫وإل ذكرت ع‬
‫‪ -7‬الترجمة للعلما الواردة أسماؤهم في الرسالة‪.‬‬
‫‪ -8‬شرح المصطلحات والكلمات الغريبة‪.‬‬
‫‪ -9‬وضع فهارس علمية في آخر الرسالة تسهل الستفادة منها‬
‫وهي كالتي‪:‬‬
‫أ‪ -‬فهرس المصادر والمراجع‪.‬‬
‫با‪ -‬فهرس الموضوعات‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫هذا‪ ،‬وإني بذلت ما في وسعى في معالجة قضايا هذا الحديث ما‬


‫ل‪ ،‬غير أن ققللة بضاعتي‪ ،‬وصعوبة هذا البحث‪،‬‬‫استطعت إلى ذلك سبي ل‬
‫وتشعب مباحثه أثنتني عن كثير مما أردت‪.‬‬
‫ول يفوتني ‪ -‬في الختاما ‪ -‬أن أتقدما بجزيل الشكر إلى أستاذي‬
‫وشيخي الجليل فضيلة الدكتور‪ :‬أحمد محمد جيلي الذي أكرمني‬
‫الله تعالى به للشراف على هذه الرسالة‪ ،‬ولقد كان ‪ -‬حفظه‬
‫جا حليا للصدق والخلص‪،‬‬ ‫الله‪ -‬مثال ل حسلنا للخلق الفاضلة‪ ،‬ونموذ ل‬
‫والتواضع‪ ،‬والكرما‪ ،‬وبشاشة الوجه‪.‬‬
‫ولقد أفادني بتوجيهاته المفيدة‪ ،‬وآرائه السديدة‪ ،‬وتعليقاته‬
‫النفسية‪ ،‬ولقد أعطاني من وقته وتوجيهاته ما ذلل أمامي عقبات‬
‫كثيرة في البحث‪ ،‬لقد كان ‪-‬حفظه الله تعالى ‪ -‬بعد الله ‪ -‬عولنا‬
‫صا‪ ،‬وكنت إذا ما واجهتني مشكلة في البحث‪ ،‬أتصل به‪ ،‬فأجد‬ ‫مخل ل‬
‫من فضيلته كل ترحيب وتقدير‪.‬‬
‫فالله أسأل أن يثيبه وأن يجزيه أحسن الجزاء‪ ،‬وأن يطيل‬
‫عمره في طاعته وأن يبارك له في وقته وأهله وماله‪.‬‬
‫كما أتقدما بالشكر إلى أساتذتي وإخواني الذين وقفوا معي‬
‫بكل ما يملكون من أجل إتماما هذا البحث‪ ,‬ول يفوتني أن أتقدما‬
‫بالشكر إلى جامعة أما درمان السلمية على ما تبذله من عطاء‬
‫متجدد للمة السلمية‪ ،‬وغرس للعقيدة الصحيحة في نفوس‬
‫أبنائها‪ ،‬وقد أكرمني الله بالدراسة فيها‪ ,‬فأسأله سبحانه أن يجزى‬
‫القائمين عليها خير الجزاء‪ ،‬وأن يعينهم على أداء واجبهم‪ ,‬إنه‬
‫سميع قريب‪.‬‬
‫كما أسأله سبحانه أن يمن علينا بنعمة اليمان والعيش مع‬
‫القرآن والعمل للسلما مخلصين له الدين ولو كره الكافرون‪ ،‬وأن‬
‫يجعل ما قدمنا حجة لنا ل حجة علينا‪ ..‬إنه ولي ذلك والقادر عليه‪.‬‬
‫***‬

‫‪8‬‬
‫تمهيـــــــــــــــد‬

‫‪9‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪10‬‬
‫أنواع التمكين‬
‫فــــــي القرآن‬
‫الكريم‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪12‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫تمهيد‬
‫صير يريس للناً لواًلرذيلنَ آلمنيوُاً رفيِ اًلكلحليْاًرة اًلمدنَكيليْاً لويليكوُلم يلييقوُيم‬ ‫قال تعالى‪+:‬إرلنَاً للنن ي‬
‫شلهاًيد"]غافر‪.[51 :‬‬ ‫اًل ك‬
‫صير اًلكيمكؤرمرنيْلنَ" ]الروما‪ .[47 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫وقال سبحانه‪+ :‬لولكاًلن لحققاً لع لكليْيلناً نَل ك‬
‫ت لكلرلمتييلناً لررعلباًردلنَاً‬ ‫صكريككمُ" ]محمد‪ .[7:‬وقال تعالى‪+ :‬لوللقكد لسبليلق ك‬ ‫صيرواً اًلل يليكن ي‬ ‫‪+‬رإن تليكن ي‬
‫ن" ]الصافات‪.[173 -171 :‬‬ ‫صوُيرولن ‪ ‬لوإرلن يجنلدلنَاً ليهيمُ اًلكلغاًلريبوُ ل‬ ‫ر‬
‫اًلكيمكرلسليْلنَ ‪ ‬إرنَلييهكمُ ليهيمُ اًلكلمن ي‬
‫إن هذه اليات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل اليمان‬
‫ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء‬
‫ما أو أحد المؤمنين‪ ،‬وهذا العزاز والنتصار‬ ‫كان الداعية رسول ل كري ل‬
‫والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الخرة‪.‬‬
‫ونجد في القرآن الكريم والسننة النبوية المطهرة‪ ،‬أن من‬
‫النبياء من قتله أهل الكفر والشرك‪ ،‬كيحيي وزكريا عليهما السلما‬
‫وغيرهما‪ ،‬ومنهم من حاول قومه قتله إل أن الله نجاه منهم كنبينا‬
‫محمد × وعيسى ابن مريم عليه السلما‪ ،‬وكإبراهيم الذي ترك‬
‫قومه وعشيرته مهاجلرا إلى الشاما‪ ,‬ونجد من أهل اليمان على مر‬
‫العصور ومر الدهور من يساما سوء العذابا وفيهم من يلقى في‬
‫خدود الرض المليئة بالنيران المحرقة‪ ،‬ومنهم من يقتل في سبيل‬
‫الله صابلرا محتسلبا مقبل ل غير مدبر‪ ،‬ومنهم من يعيش في كربا‬
‫وشدة واضطهاد‪ ،‬فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟‬
‫)‪(1‬‬ ‫وقد ع‬
‫طردوا أو قتلوا أو عذبوا؟‬
‫يقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬ويدخل الشيطان إلى‬
‫النفوس من هذا المدخل‪ ،‬ويفعل بها الفاعيل‪:‬‬
‫إن الناس يقيسون بظواهر المور‪ ،‬ويغفلون عن قيم كثيرة‬
‫وحقائق كثيرة في التقدير‪.‬‬
‫إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من‬
‫المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة‪ ،‬فأما المقياس الشامل‪،‬‬
‫فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان‪ ،‬ول‬
‫يضع الحدود بين عصر وعصر‪ ،‬ول بين مكان ومكان‪ ،‬ولو نظرنا‬
‫إلى قضية اليمان والعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك‪ .‬وانتصار‬
‫قضية اليمان هو انتصار أصحابها‪ ،‬فليس لصحابا هذه القضية‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬حقيقة الناتصار‪ ،‬ص )‪.(14 ،13‬‬

‫‪13‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وجود ذاتي خارج وجودها‪ ،‬وأول ما يطلبه منهم اليمان أن يفنوا‬


‫فيها ويختفوا هم ويبرزوها‪.‬‬
‫والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة‬
‫لهم‪ ،‬قريبة الرؤية لعينهم‪ ،‬ولكن صور النصر شتى‪ ،‬وقد يلتبس‬
‫بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة‪ ..‬إبراهيم عليه السلما‬
‫وهو يلقي في النار فل يرجع عن عقيدته ول عن الدعوة‬
‫إليها‪..‬أكان في موقف نصر أما في موقف هزيمة؟ ما من شك‬
‫‪-‬في منطق العقيدة ‪ -‬أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار‪,‬‬
‫كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار‪ ،‬هذه صورة وتلك‬
‫صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد‪ ..‬فأما في الحقيقة قريب‬
‫)‪(1‬‬
‫من قريب(‪.‬‬
‫)وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو‬
‫عاش ألف عاما كما نصرها باستشهاده‪ ،‬وما كان يملك أن يودع‬
‫القلوبا من المعاني الكبيرة ويحفز اللوف إلى العمال الكبيرة‪،‬‬
‫بخطبة مثل خطبته الخيرة التي يكتبها بدمه‪ ،‬فتبقى حافلزا محر ل‬
‫كا‬
‫كا لخطى التاريخ كله مدى‬ ‫للبناء والحفاد‪ ،‬وربما كانت حافلزا محر ل‬
‫)‪(2‬‬
‫أجيال(‪.‬‬
‫)إن هناك حالت كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة‪:‬‬
‫ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة‪ ،‬لقد‬
‫انتصر محمد × في حياته‪ ،‬لن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه‬
‫العقيدة بحقيقتها الكاملة في الرض‪ ،‬فهذه العقيدة ل يتم تمامها إل بأن‬
‫تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميلعا‪ ،‬من القلب المفرد‬
‫إلى الدولة الحاكمة‪ ،‬فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته‪،‬‬
‫ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة‪ ،‬ويترك هذه الحقيقة مقررة في‬
‫واقعية تاريخية محدودة مشهودة‪ ،‬ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة‬
‫بصورة أخرى بعيدة‪ ،‬واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية‬
‫وفق تقدير الله وترتيبه( )‪.(3‬‬
‫إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة‪ ،‬وصور متنوعة من‬
‫أهمها؛ تبليغ الرسالة‪ ،‬وهزيمة العداء‪ ،‬وإقامة الدولة‪.‬‬

‫الفصل الول‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الظللا )‪.(5/3086‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر نافسه‪.(5/3086) ،‬‬
‫‪3‬‬
‫)( الصدر نافسه‪.(5/3086) ،‬‬

‫‪14‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫تبليغ الرسالة وأداء المانة‬


‫إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم‪ ،‬تمكين‬
‫الله تعالى للدعاة‪ ،‬بتبليغ الرسالة وأداء المانة‪ ،‬واستجابة الخلق‬
‫لهم‪ ،‬وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك‪:‬‬

‫المبحث الول‪ :‬أصحابا القرية‬


‫ب اًلكلقكريلرة إركذ لجاًءللهاً اًلكيمكرلسيلوُلن ‪ ‬إركذ ألكرلسكللناً إرلكيْرهيمُ‬ ‫صلحاً ل‬ ‫ب ليهمُ لمثللح أل ك‬ ‫ضرر ك‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لواً ك‬
‫اًثكينليكيْرنَ فللكلذبوُيهماً فليعلزكزلنَاً برلثاًلر ة‬
‫ث فليلقاًليوُاً إرلنَاً إرلكيْيكمُ مكرلسيلوُلن ‪ ‬لقاًليوُاً لماً ألنَكيتيكمُ إرلل بل ل‬
‫شرر بمثكيليلناً لولماً ألنَكيلزلل‬ ‫ي ل ل‬
‫اًللركحلمينَ رمنَ لشكيِةء إركن ألنَكيتيكمُ إرلل تلككذيبوُلن ‪ ‬لقاًليوُاً لربميلناً يليكعليمُ إرلنَاً إرلكيْيككمُ ليمكرلسيلوُلن ‪ ‬لولماً لع لكليْيلناً إرلل اًلكبلللغي‬
‫ر‬
‫ب أللريْرمُ" ]يس‪-13 :‬‬ ‫سنليكمُ بملناً لعلذاً ر‬ ‫اًلكيمربيْينَ ‪ ‬لقاًليوُاً إرلنَاً تلطليْليكرلنَاً بريككمُ لرئنَ لكمُ لتنتلييهوُاً للنليكريجلمنليككمُ لوليْللم ل‬
‫‪.[18‬‬
‫إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين‪ ،‬ومضوا في‬
‫كفرهم وعنادهم غير مبالين‪ ،‬وهددوا المرسلين بالرجم والعذابا‬
‫الليم‪ ،‬والمتأمل في اليات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر‬
‫والتمكين‪ ،‬التي حققها المرسلون‪ ،‬وبذلك يكونون قد نصروا نصلرا‬
‫مؤزلرا‪ ،‬وأن أصحابا القرية هم الخاسرون‪ ،‬إن معاني النصر‬
‫ظهرت في الحقائق التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته‪،‬‬
‫ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أو ل‬
‫ل‪ ،‬وتهديدهم ثانليا‪ ،‬وهذه هي‬
‫مهمتهم‪+ :‬لولماً لع لكليْيلناً إرلل اًلكبلللغي اًلكيمربيْينَ" ]يس‪ [17 :‬ومن أدى ما عليه فقد‬
‫انتصر وفاز ونجح‪.‬‬
‫‪ -2‬إن استجابة رجل من أهل القرية لهم‪ ،‬وتأييده لدعوة‬
‫التوحيد علنية يعد نصلرا وانتصالرا له ولهم‪ ،‬ولذلك كان رد أهل‬
‫فا تجاهه‪ ،‬لنهم شعروا بخذلنه لهم‪ ،‬وخذلنهم نصر‬ ‫القرية عني ل‬
‫لولئك الرسل‪.‬‬
‫‪ -3‬إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له‬
‫ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوبا الناس من‬
‫المعاني الكبيرة‪ ،‬ويحفز اللوف إلى العمال الكبيرة‪ ،‬بخطبة مثل‬
‫خطبته الخيرة التي كتبها بدمه‪ ،‬فأصبحت حافلزا محر ل‬
‫كا لهل‬
‫اليمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى‬
‫أن يرث الله الرض ومن عليها‪،‬‬
‫إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سبلبا في فوزه البدي بدخول‬

‫‪15‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫]يس‪.[26 :‬‬ ‫الجنة ‪+‬رقيْلل اًكديخرل اًلكلجنلةل"‬


‫صا على هداية قومه‪،‬‬ ‫لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حري ل‬
‫دا ول ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله‪ ،‬وهذا انتصار‬ ‫فلم يحمل حق ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت قليكوُميِ يليكع ليموُلن ‪ ‬برلماً غللفلر ليِ لرببيِ لولجلع لنيِ‬
‫عظيم على النفس البشرية‪+ :‬لقاًلل لياً لكيْ ل‬
‫نَ" ]يس‪.[27 ،26 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ملنَ اًلكيمككلرميْ ل‬
‫إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود‬
‫العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من‬
‫الصدق والخلص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫‪ -4‬إن انتصارات هؤلء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من‬
‫أقصى المدينة توجت بهلك القوما الذين كذبوا بدعوة المرسلين‬
‫صكيْلحةح لواًرحلدحة‬ ‫سلماًرء لولماً يكلناً يمنرزرليْلنَ ‪ ‬رإن لكاًنَل ك‬
‫ت إرلل ل‬ ‫‪+‬لولماً ألنَكيلزلكلناً لعللىَ قليكوُرمره رمنَ بليكعردهر رمنَ يجكنةد بملنَ اًل ل‬
‫ن" ]يس‪.[29 ،28 :‬‬ ‫فلرإلذاً يهكمُ لخاًرميدو ل‬
‫س الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة‬ ‫إن الدعاة إلى الله في أم س‬
‫أصحابا القرية‪ ،‬ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها‪ .‬إنني أريد‬
‫أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن اليمان في قلبه‪ ,‬ماذا فعل‬
‫في نفسه ذلك اليمان العظيم‪ ،‬لقد وفق سيد قطب رحمه الله‬
‫في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب‬
‫لدعوة الرسل‪ ،‬وحلل نفسيته الخيرة‪ ،‬فقال‪ :‬إنها استجابة الفطرة‬
‫السليمة لدعوة الحق المستقيمة‪ ،‬فيها الصدق والبساطة‪،‬‬
‫والحرارة‪ ،‬واستقامة الدراك‪ ،‬وتلبية اليقاع القوي للحق المبين‪.‬‬
‫فهذا الرجل سمع الدعوة واستجابا لها بعد ما رأى فيها دلئل‬
‫الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر‬
‫حقيقة اليمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها‬
‫سكولتا‪ ،‬ولم يقبع في داره بعقيدته‪ ،‬وهو يرى الضلل من حوله‬
‫والجحود والفجور‪ ،‬ولكلنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره‪,‬‬
‫وتحرك في شعوره‪ ،‬سعى به إلى قومه‪ ،‬وهم يكذبون ويجحدون‬
‫ددون‪.‬‬ ‫ويتوعدون ويته ل‬
‫وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوما بواجبه في دعوة قومه‬
‫فهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الثيم‬ ‫إلى الحق‪ ،‬وفي ك ل‬
‫الذي يوشكون أن يصلبوه على المرسلين‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ول سلطان‪ ،‬ولم يكن في‬


‫عزة من قومه أو منعة من عشيرته‪ ،‬ولكلنها العقيدة الحلية في‬
‫)‪(1‬‬
‫ضميره‪ ،‬تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها‪.‬‬
‫ولقد أجاد الماما الفخر الرازي)‪ (2‬في الشارة إلى بعض‬
‫المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب‬
‫الرجل المؤمن الصادق المخلص‪ ..‬وأنقل إليك بعض هذه المعاني‪:‬‬
‫صة له‬
‫‪ -1‬إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات الق ل‬
‫وجهان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه بيان لكونهم أتوا بالبلغا المبين‪ ،‬حيث آمن بهم‬
‫صىَ اًلكلمردينلرة" بلغة‬ ‫ر‬
‫الرجل الساعي‪ ،‬وعلى هذا ففي قوله‪+ :‬مكنَ ألقك ل‬
‫باهرة‪ ،‬فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوبا‬
‫أصحابا الرسول × وتثبيتهم على الدعوة‪ ،‬كما كان ذكر الرسل‬
‫الثلثة تسلية لقلب الرسول ×‪.‬‬
‫‪ -2‬في تنكير ‪+‬لريجرل" فائدتان وحكمتان‪:‬‬
‫ما لشأنه‪ ،‬أي رجل كامل في الرجوللية‪.‬‬ ‫الولى‪ :‬أن يكون تعظي ل‬
‫دا لظهور الحق من جانب المرسلين‪،‬‬ ‫الثانية‪ :‬أن يكون مفي ل‬
‫حيث آمن رجل من الرجال ل معرفة لهم به‪ ،‬فل يقال إزنهم‬
‫تواطأوا‪.‬‬
‫‪ -3‬في قوله‪+ :‬يلكسلعىَ" تبصير للمؤمنين وهداية لهم‪ ،‬ليكونوا في‬
‫النصح باذلين جهدهم‪ ،‬ساعين فيه‪ ،‬مقتدين بالرجل الذي جاء‬
‫يسعى‪.‬‬
‫‪ -4‬في قوله‪+ :‬لياً قليكوُرم" معنى لطيف‪ ,‬حيث يشير إلى إشفاقه‬
‫عليهم‪ ،‬وإضافتهم إليه دليل على أنه ل يريد بهم إل خيلرا‪.‬‬
‫‪ -5‬في قوله‪+ :‬اًتلبرعيوُاً اًلكيمكرلسرليْلنَ" دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين‪،‬‬
‫ولم يقل‪ :‬اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر‪ ،‬وذلك‬
‫لنه جاء من أقصى المدينة‪ ،‬ولم يكن معهم ول بينهم‪ ،‬فدعا إلى اتباع‬
‫‪1‬‬
‫)( الظللا‪.(2963 -5/2962) :‬‬
‫‪2‬‬
‫لسي الرازي‪ ,‬اشتهر بعلم الصأولا والنحو والشعر والوعظ‪ ,‬وكان يوعظ‬
‫)( هو العال الصأول الفسر فخر الدين بن عمر بن ا ل‬
‫باللساناي العرب والعجمي وكان كثي البكاء‪ ,‬توف عام ‪606‬هـ اناظر‪ :‬الوفيات )‪.(248 /4‬‬

‫‪17‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل‪ ،‬وأوضحوا لهم السبيل‪.‬‬


‫‪ -6‬جمع في قوله‪+ :‬اًتلبرعيوُاً اًلكيمكرلسرليْلنَ" بين إظهار النصيحة في قوله‪:‬‬
‫‪+‬اًتلبرعيوُاً" وإظهار اليمان في قوله‪+ :‬اًلكيمكرلسرليْلنَ" وق ل‬
‫دما النصيحة على‬
‫اليمان لكونه أبلغ في النصح‪.‬‬
‫‪ -7‬في قوله‪+ :‬اًتلبرعيوُاً لمنَ لل يلكسأللييككمُ ألكجحراً لويهمُ مكهتليدولن" معنى حسن‬
‫لطيف‪ ،‬واستخداما لحسن الساليب في النقاش والجدال والقناع‪،‬‬
‫حيث نزل فيه درجة لقناعهم‪ ،‬وكأنه يقول لهم‪ :‬افترضوا أنهم‬
‫ليسوا مرسلين ول هداة‪ ،‬ولكنهم مهتدون عالمون بالطريقة‬
‫المستقيمة التي توصلهم إلى الحق‪ ،‬ثم هم ل يسألونكم أجلرا ول‬
‫ل‪ ،‬وهذا المر يدعوكم إلى اتباعهم والستجابة لهم‪.‬‬ ‫ما ل‬

‫‪ -8‬في قوله‪+ :‬لولماً لرليِ لل ألكعبييد اًلرذيِ فلطللررنَيِ" استفهاما استنكاري‪ ،‬وفيه‬
‫إشارة إلى أن المر من جهة عبادة الله وحده ل خفاء فيه‪ ،‬وعلى‬
‫دما السبب الذي يمنعه من عبادته‪ ،‬أما أنا فل‬ ‫الذي ل يعبده أن يق ل‬
‫أجد مانلعا يمنعني من عبادته‪.‬‬
‫‪ -9‬وفي قوله‪+ :‬لولماً لرليِ لل ألكعبييد اًلرذيِ فلطللررنَيِ" لطيفة أخرى‪ ،‬حيث عدل‬
‫عن مخاطبة القوما إلى الحديث عن نفسه‪ ،‬والحكمة في ذلك‪،‬‬
‫وهو أنه ل يخفى عليه حال نفسه‪ ،‬ولذلك فهو ل يطلب العلة‬
‫والدليل من أحد آخر‪ ،‬لنه أعلم بحال نفسه‪.‬‬
‫‪ -10‬جمع في قوله‪+ :‬لولماً لرليِ لل ألكعبييد اًلرذيِ فلطللررنَيِ" بين أمرين يتعلقان‬
‫بإيمانه بالله‪.‬‬
‫الول‪ :‬هو عدما المانع الذي يمنعه من اليمان في قوله‪+ :‬لولماً لرليِ‬
‫لل ألكعبييد اًلرذيِ"‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬هو قياما المقتضى الذي يدعوه إلى اليمان‪ ،‬وهو في‬
‫قوله‪+ :‬اًلرذيِ فلطللررنَيِ"‪ ،‬فالله الخالق مالك ومنعم‪ ,‬وعلى العبيد عبادته‬
‫وشكره‪.‬‬
‫‪ -11‬قدما عدما المانع من اليمان على المقتضى الذي يدعوه‬
‫لليمان في قوله‪+ :‬لولماً لرليِ لل ألكعبييد اًلرذيِ فلطللررنَيِ" ولم يقل‪) :‬فطركم( لنه‬
‫هو الهم من المقصود من السياق‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -12‬قال‪+ :‬فلطللررنَيِ" ولم يقل‪) :‬فطركم( لنه يتحدث عن نفسه‬


‫وليس عنهم‪ ،‬ولتناسقه مع قوله‪+ :‬لولماً لرليِ لل ألكعبييد"‪ ،‬حيث أسند العبادة‬
‫إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه‪.‬‬
‫‪ -13‬يتضمن قوله‪+ :‬لوإرلكيْره تييكرلجيعوُلن" الخوف والرجاء في عبادة‬
‫الله‪ ،‬فمن يكون إليه المرجع والمآبا‪ ،‬يخاف منه ويرجى‪.‬‬
‫‪ -14‬هناك حكمة لطيفة من اللتفات إليهم في قوله‪ + :‬لوإرلكيْره‬
‫تييكرلجيعوُلن" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله‪ ،‬فرجوعه هو‬
‫إلى الله ليس كرجوعهم هم‪.‬‬
‫رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله‪ ،‬ولهذا رجوعه‬
‫للكراما والنعاما‪ ،‬أما رجوعهم هم‪ ،‬فهو رجوع الكافر العاصي‪،‬‬
‫ذبا‪ ,‬فرجوعهم للعذابا والهانة وشتان بين‬ ‫ليحاسب ويعاقب ويع ل‬
‫رجوعين‪.‬‬
‫‪ -15‬في قوله‪+ :‬ألألتلرخيذ رمنَ يدونَرره آلرلهةح" إشارة إلى كمال التوحيد‪،‬‬
‫فقوله‪+ :‬لولماً لرليِ لل ألكعبييد اًلرذيِ فلطللررنَيِ لوإرلكيْره تييكرلجيعوُلن" إشارة إلى وجود الله‪،‬‬
‫وفي قوله‪+:‬ألألتلرخيذ رمنَ يدونَرره آلرلهةح" إشارة إلى نفي الشرك به وعدما‬
‫عبادة غيره‪.‬‬
‫‪ -16‬في قوله‪+ :‬رمنَ يدونَرره آلرلهةح" إشارة لطيفة‪ ،‬فالدونية هنا‬
‫مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود‪ ،‬فكل غير‬
‫الله هم ‪++‬يدونَرره"" وهؤلء جميلعا مشتركون في كونهم مخلوقين‬
‫ضعفاء‪ ،‬محتاجين إلى الله‪ ،‬مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا‬
‫جميلعا عابدين له‪ ،‬وبما أنهم كلهم )من دونه شركاء في الدونية(‬
‫فكيف يكون من بينهم آلهة؟!‬
‫ت برلربيككمُ" يخاطب الجميع‪ ،‬سواء كانوا من‬
‫‪ -17‬في قوله‪+ :‬إربنَيِ آلمن ي‬
‫المرسلين أو من أهل القرية‪ ،‬لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية‪،‬‬
‫حيث يثبت لهم أن الله وحده رنبهم‪.‬‬
‫‪ -18‬في قوله‪+ :‬لفاًكسلميعوُرن" ما يدل على أنه كان متروليا مفكلرا‪،‬‬
‫فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلمه جماعة سامعين‪ ،‬فإنه يتفكر‬
‫فيه‪ ،‬كما أنه يقصد أن عيسمعهم ليقيم الحجة عليهم‪ ،‬وكأنه يقول‬
‫لهم‪ :‬إني أخبرتكم بما فعلت‪ ،‬حتى ل تقولوا لم أخفيت عنا أمرك‪،‬‬
‫ولو أظهرت أمرك لتبعناك‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -19‬المراد بالسماع في قوله‪+ :‬لفاًكسلميعوُرن" ليس مجرد سماع‬


‫الصوت‪ ،‬بل قبول الدعوة‪ ،‬والستجابة لصوت الحق والدخول في‬
‫)‪(1‬‬
‫اليمان‪.‬‬
‫إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلص التوجه‪،‬‬
‫والحرص على الهداية‪ ،‬وظهور الشجاعة‪ ،‬وترتيب الفكار‪ ،‬وقوة‬
‫المنطق ترجع إلى تمكن اليمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل‬
‫الرباني‪ ،‬كما أن المرسلين الذين استطاعوا أن يضموا إلى موكب‬
‫اليمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص علدعليل على نصر‬
‫الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم‪ .‬إن دعوة الله يستجيب‬
‫لها من اتصف بصفة الرجولة‪ ,‬وهناك فرق بين الرجولة والذكورة‪،‬‬
‫فإن الذكورة تقابل النوثة‪ ،‬فالزوجان هما الذكر والنثى‪.‬‬
‫ن الرجولة تشير إلى‬ ‫والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إل؛ لك ل‬
‫مل والشجاعة والثبات‪ ،‬فهي تشير إلى صفات‬ ‫الشدة والقوة والتح ن‬
‫نفسية‪ ،‬ومزايا معنوية‪ ،‬وفضائل أخلقية‪.‬‬
‫ولعله لجل هذا وردت صفة الرجولة في مقاما مدح وثناء‬
‫صىَ اًلكلمردينلرة يلكسلعىَ لقاًلل لياً يموُلسىَ إرلن اًلكلم ل‬
‫ل‪"...‬‬ ‫وإشارة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لولجاًءل لريجرل بمكنَ ألقك ل‬
‫]القصص‪.[20 :‬‬

‫صىَ اًلكلمردينلرة لريجرل يلكسلعىَ لقاًلل لياً قليكوُرم اًتلبرعيوُاً اًلكيمكرلسرليْلنَ"‬ ‫ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لولجاًءل مكنَ ألقك ل‬
‫]يس‪.[20:‬‬

‫]غافر‪.[28:‬‬ ‫وقال تعالى‪+:‬لولقاًلل لريجرل مكؤرمرنَ بمكنَ آرل فركرلعكوُلن يلككتييمُ رإيلماًنَلهي"‬
‫صلدقيوُاً لماً لعاًلهيدواً اًلل لعلكيْره فلرم كنييهمُ لمنَ قل ل‬ ‫رر‬ ‫ر‬
‫ضىَ نَلكحبلهي‬ ‫وقال تعالى‪+:‬ملنَ اًلكيمكؤمنيْلنَ رلجاًرل ل‬
‫ورم كنيهمُ لمنَ ينت ر‬
‫ظير لولماً بللدليوُاً تليكبرديلح" ]الحزابا‪.[23 :‬‬ ‫لل‬ ‫ل ي‬
‫ح لهي رفيْلهاً رباًلكغييدبو‬ ‫ر‬ ‫ة ر‬ ‫ر‬
‫وقال تعالى‪+:‬فيِ بييييْوُت ألذلن اًلي لأن تييكرفللع لوييكذلكلر فيْلهاً اًكسيمهي يير ل‬
‫سب ي‬
‫صللةر لورإيلتاًء اًللزلكاًةر" ]النور‪،36 :‬‬ ‫واًللصاًرل ‪‬رجاًرل لل تييكلرهيْرهمُ ترجاًرةر ولل بيكيْرع لعنَ رذككرر اً ر‬
‫ل لوإرلقاًرم اًل ل‬ ‫ك لل ل ل‬ ‫ل‬ ‫ل ل‬
‫‪.[37‬‬

‫وقال تعالى‪+:‬رفيْره رلجاًرل يمرحمبوُلن لأن يليتلطللهيرواً لواًلي ييرح م‬


‫ب اًلكيمطلبهرريلنَ"‬
‫]التوبة‪.[108 :‬‬
‫ما‪،‬‬
‫فا إيمانليا عظي ل‬ ‫إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موق ل‬
‫وتدل على أن الحياة فعل ل مواقف‪ ،‬وأن الرجال بمواقفهم ل‬
‫بأعمارهم‪ ،‬لقد آمن في وقت المحنة والشدة والبتلء‪ ،‬وازتبع‬
‫المرسلين وهم مستضعفون‪ ،‬وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي الرازي )‪ (60-26/54‬مع التصرف‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه‪ ،‬مع أنه يرى الخطر أمامه‪،‬‬


‫ويتوقع أن يناله الذى والمكروه‪ ،‬وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق‬
‫روحه‪ ،‬ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه‪ ،‬واستعد لتحمل نتيجة موقفه‪.‬‬
‫)‪(1‬‬

‫إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن‬
‫يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه‬
‫الصفات الجميلة إلى صفوفهم‪.‬‬
‫ما بارلزا على طريق‬ ‫سا ومعل ل‬
‫إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبرا ل‬
‫الدعوة‪ ،‬يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه‬
‫ت برلربيككمُ‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬ولسان حال أحدهم يقول للخرين‪+ :‬إربنَيِ آلمن ي‬
‫لفاًكسلميعوُرن"‪.‬‬
‫إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه‪ ،‬يحتاج‬
‫إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الخرون‪ ،‬إن جمال الحياة‬
‫ورونقها البهي وحلوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل‬
‫في حصونه‪.‬‬
‫وإن المواقف اليمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ما الرابحون‪ ،‬فعندما يدفع‬ ‫إن أصحابا المواقف اليمانية هم دائ ل‬
‫النسان المؤمن حياته وعمره ودنياه‪ ،‬وهو هبة ومنحة وعطية‬
‫وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود البدي يكون‬
‫ما‪.‬‬
‫حا وفيلرا وفاز فولزا عظي ل‬
‫ربح رب ل‬
‫إن أهل اليمان يكظمون غيظهم‪ ،‬ويحلمون على الجهلة‬
‫والصبر على دعوة الشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم‪,‬‬
‫ويبتعدون عن الشماتة بالعداء‪ ,‬أل ترى كيف تمنى الرجل الرباني‬
‫)‪(2‬‬
‫الخير لقتلته‪ ،‬والباغين له الغوائل‪ ،‬وهم كفرة عبده أصناما‪.‬‬
‫إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين‪،‬‬
‫واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لولياء‬
‫الله‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬مع قصص السابقي للخالدى )‪.(7/256‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر السابق‪.(7/260) ،‬‬

‫‪21‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أصحـــــابا الخــــــــــدود‬
‫إن قصة الغلما مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين‬
‫الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم‪.‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له‬
‫ساحر‪ ،‬فلما كبر الساحر قال للملك‪ :‬إني قد كبر سني‪ ،‬وحضر‬
‫ما كان يعلمه‬ ‫ما لعلمه السحر‪ ،‬فدفع إليه غل ل‬ ‫ى غل ل‬
‫أجلي‪ ،‬فادفع إل ز‬
‫السحر‪ ،‬وكان بين الساحر وبين الملك راهب‪ ،‬فأتى الغلما على‬
‫الراهب فسمع من كلمه فأعجبه نحوه وكلمه‪ ،‬وكان إذا أتى‬
‫الساحر ضربه‪ ،‬قال‪ :‬ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إذا أراد الساحر أن يضربك فقل‪ :‬حبسني أهلي‪ ،‬وإذا أراد أهلك أن‬
‫يضربوك فقل‪ :‬حبسني الساحر‪ ،‬فبينما هو ذات يوما إذ أتى على‬
‫دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فل يستطيعون أن يجوزوا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اليوما أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أما أمر الساحر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فأخذ حجلرا‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى‬
‫من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس‪ ،‬ورماها‬
‫فقتلها‪ ،‬ومضى الناس‪ ،‬فأخبر الراهب بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أي بنى أنت‬
‫ى؛ فكان الغلما عيبرئ‬‫أفضل مني‪ ,‬ستبتلي‪ ،‬فإن ابتليت فل تدل عل ز‬
‫الكمه والبرص وسائر الدواء ويشفيهم بإذن الله‪ ,‬وكان للملك‬
‫جليس فعمى‪ ،‬فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة‪ ،‬فقال‪ :‬اشفني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬فإن آمنت به دعوت‬ ‫ج ز‬
‫دا‪ ،‬إنما يشفى الله ع عزز وع ع‬‫ما أنا أشفى أح ل‬
‫الله فشفاك‪ ،‬فآمن فدعا الله فشفاه‪ ،‬ثم أتى الملك فجلس منه‬
‫نحو ما كان يجلس‪ ،‬فقال له الملك‪ :‬يا فلن‪ ،‬من رد ل عليك بصرك؟‬
‫فقال‪ :‬ربي‪ ،‬فقال‪ :‬أنا؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ربي وربك الله‪ ،‬قال‪ :‬أو لك ربا‬
‫غيري؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ربي الله وربك الله‪ ،‬فلم يزل يعذبه حتى د ل‬
‫ل‬
‫على الغلما‪ ،‬فبعث إليه فقال‪ :‬أي بنى‪ ،‬بلغ من سحرك أن تبرئ‬
‫دا‪ ،‬إنما يشفى‬‫الكمه والبرص‪ ،‬وهذه الدواء؟ قال‪ :‬ما أشفى أح ل‬
‫ل‪ ،‬قال‪ :‬أنا؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬ولك ربا غيري؟ قال‪ :‬ربي‬ ‫ج ز‬
‫الله ع عزز وع ع‬
‫ضا بالعذابا لم يزل به حتى دل على الراهب‪،‬‬ ‫وربك الله‪ ،‬فأخذه أي ل‬
‫فأتى الراهب‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع عن دينك‪ ،‬فأبي فوضع المنشار في‬
‫مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الرض‪ ،‬وقال للغلما‪ :‬ارجع عن‬
‫دينك‪ ،‬فأبي‪ ،‬فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا‪ ،‬فقال‪ :‬إذا بلغتم‬
‫ذروته فإن رجع عن دينه وإل فدهدهوا‪ ،‬فذهبوا به‪ ،‬فلما علوا به‬
‫الجبل‪ ،‬قال‪ :‬اللهم اكفنيهم بما شئت‪ ،‬فرجف بهم الجبل فدهدهو‪،‬‬
‫أجمعون‪ ،‬وجاء الغلما يلتمس حتى دخل على الملك فقال‪ :‬ما فعل‬
‫أصحابك‪ ،‬فقال‪ :‬كفانيهم الله ‪ -‬تعالى ‪ ,-‬فبعث به مع نفر في‬

‫‪22‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫قرقور في البحر‪ ،‬فقال‪ :‬إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإل‬
‫فغلرقوه في البحر‪ ،‬فلججوا به البحر‪ ،‬فقال‪ :‬الغلما‪ :‬اللهم اكفنيهم‬
‫بما شئت‪ ،‬فغرقوا أجمعون‪ ،‬وجاء الغلما حتى دخل على الملك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما فعل أصحابك؟ فقال‪ :‬كفانيهم الله تعالى‪ ،‬ثم قال للملك‪:‬‬
‫إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به‪ ،‬فإن أنت فعلت ما آمرك‬
‫به قتلتني‪ ،‬وإل فإنك ل تستطيع قتلي‪ ،‬قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬تجمع‬
‫ما من‬‫الناس في صعيد واحد‪ ،‬ثم تصلبني على جذع وتأخذ سه ل‬
‫كنانتي‪ ،‬ثم قل‪ :‬بسم الله ربا الغلما‪ ،‬فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني‪،‬‬
‫ففعل‪ ,‬وضع السهم في كبد قوسه‪ ،‬ثم رماه‪ ،‬وقال‪ :‬بسم الله ربا‬
‫الغلما‪ ،‬فوقع السهم في صدغه‪ ،‬فوضع الغلما يده على موضع‬
‫السهم ومات‪ ،‬فقال الناس‪ :‬آمنا بربا الغلما‪.‬‬
‫فقيل للملك‪ :‬أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك‪ ،‬قد آمن‬
‫دد فيها الخاديد‪ ،‬وأضرمت فيها‬ ‫الناس كلهم‪ ،‬فأمر بأفواه السكك فخ ز‬
‫النيران‪ ،‬وقال‪ :‬من رجع عن دينه فدعوه‪ ،‬وإل فأقحموه فيها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فكانوا يتعادون ويتدافعون‪ ،‬فجاءت امرأة بابن لها ترضعه‪ ،‬فكأنما‬
‫تقاعست أن تقع في النار‪ ،‬فقال الصبي‪ :‬اصبرى يا ألماه فإنك على‬
‫)‪(1‬‬
‫الحق«‪.‬‬
‫لقد انتصر الغلما بعقيدته على الملك الكافر‪ ،‬وتمكن منهجه‬
‫الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر‪ ,‬وثبتوا على‬
‫عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى‬
‫من معاني النتصار‪.‬‬
‫قال سيد قطب رحمه الله‪) :‬في حسابا الرض يبدو أن‬
‫الطغيان قد انتصر على اليمان‪ ,‬وأن هذا اليمان الذي بلغ تلك‬
‫الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية‪،‬‬
‫لم يكن له وزن ول حسابا في المعركة التي دارت بين اليمان‬
‫والطغيان‪.‬‬
‫في حسابا الرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة‪.‬‬
‫ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيلئا آخر‪ ،‬ويكشف لهم عن‬
‫حقيقة أخرى‪.‬‬
‫إن الحياة وسائر ما يلبسها من لذائذ وآلما‪ ,‬ومن متاع‬
‫وحرمان‪ ،‬ليست هي القيمة الكبرى في الميزان‪ ،‬وليست هي‬
‫السلعة التي تقرر حسابا الربح والخسارة‪ ،‬والنصر ليس مقصولرا‬
‫‪1‬‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب أصأحاب الخأدود )‪ (3/2299‬رقم ‪.3005‬‬

‫‪23‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على الغلبة الظاهرة‪ ،‬فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة‪.‬‬


‫إن الناس جميلعا يموتون‪ ،‬وتختلف السبابا‪ ،‬ولكن الناس ل‬
‫ينتصرون ‪ -‬جميلعا ‪ -‬هذا النتصار‪ ،‬ول يرتفعون هذا الرتفاع‪ ،‬ول‬
‫يتحررون هذا التحرر‪ ،‬ول ينطلقون هذا النطلق إلى هذه الفاق‪ ،‬إنما‬
‫هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده‪ ،‬تشارك الناس في‬
‫الموت‪ ،‬وتنفرد دون كثير من الناس في المجد‪ ،‬المجد في المل‬
‫ضا ‪ -‬إذا نحن وضعنا في الحسابا نظرة‬ ‫العلى‪ ،‬وفي دنيا الناس ‪ -‬أي ل‬
‫الجيال بعد الجيال لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم‬
‫في مقابل الهزيمة ليمانهم‪ ،‬ولكن كم يخسرون أنفسهم‪ ،‬وكم كانت‬
‫البشرية كلها تخسر‪ ،‬كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى‬
‫الكبير‪ ،‬معنى زهادة الحياة بل عقيدة‪ ،‬وبشاعتها بل حلرية‪ ،‬وانحطاطها‬
‫حين يسيطر الطغاة على الرواح‪ ،‬بعد سيطرتهم على الجساد‪.‬‬
‫‪+‬وماً نَليلقموُاً رم كنييهمُ إرلل لأن ييكؤرمنيوُاً رباً ر‬
‫ل اًلكلعرزيرز اًلكلحرميْرد" ]البروج‪ .[8 :‬حقيقة ينبغي أن‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫لل ي‬
‫يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله‪ ،‬في كل أرض‪ ،‬وفي كل جيل‪.‬‬
‫إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة‬
‫عقيدة‪ ،‬وليست شيلئا آخر على الطلق‪ ,‬وإن خصومهم ل ينقمون‬
‫)‪(1‬‬
‫منهم إل اليمان‪ ،‬ول يسخطون منهم إل العقيدة‪.‬‬
‫إن المتأمل في قصة الغلما يجد أن الغلما انتصر بعقيدته‬
‫ومنهجه‪ ,‬وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في‬
‫مقابل أن تزهق روحه‪ ،‬أما العمى فقد انتصر مرتين‪ ،‬انتصر عندما‬
‫تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة‪،‬‬
‫وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته‪.‬‬
‫إن الراهب والعمى قد خللدا لنا معاني عظيمة من معاني‬
‫دا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير‬ ‫النتصار الحقيقي‪ ،‬بعي ل‬
‫من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الخرين أنهم‬
‫فعلوا ذلك من أجل الدين‪.‬‬
‫لقد كان الغلما ذكليا ألمعليا‪ ,‬وحين سنحت له فرصة عظيمة في‬
‫تبليغ رسالة ربه‪ ،‬اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوما النصر‬
‫والتمكين‪.‬‬
‫لقد انتصر الغلما بقوة فهمه وإدراكه لقصر وأسلم الطرق لنصرة‬
‫دينه وعقيدته‪ ،‬وإخراج أمته من الضلل إلى الهدى‪ ،‬ومن الكفر إلى‬
‫اليمان‪ ,‬وانتصر عندما وفق لتخاذ القرار الحاسم في الوقت‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬معال ف الطريق‪ :‬فصل‪ :‬هذا هو الطريق‪ ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪24‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المناسب‪ ،‬متخطليا جميع العقبات‪ ،‬ومستعلليا على الشهوات وحظوظ‬


‫النفس ومتاع الحياة الدنيا‪ ،‬وانتصر على هذا الملك المتجبر‬
‫المتغطرس‪ ،‬الذي أعمى الله قلبه‪ ،‬فأخربا ملكه بيده‪ ،‬فإنها ل تعمى‬
‫البصار ولكن تعمى القلوبا التي في الصدور‪.‬‬
‫إن الغلما كان عبقرليا عندما خطط لهلك الملك الكافر‬
‫وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله‪.‬‬
‫لقد كان النتصار العظيم في المعركة بين الكفر واليمان‬
‫لصالح موكب التوحيد‪ ،‬لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت‬
‫بربا الغلما‪.‬‬
‫إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ‪ ،‬وسلمة التقدير‪ ،‬نجاح باهر‪،‬‬
‫وفوز ظاهر‪.‬‬
‫لقد انتصر الغلما عندما جعله الله قدوة لمن بعده‪ ،‬وأبقى له‬
‫ذكلرا حسلنا على لسان المؤمنين‪ ،‬حيث جعل الله له لسان صدق‬
‫في الخرين‪ ،‬لقد كانت انتصارات متلحقة ووصلت إلى ذروتها‬
‫عندما آمن الناس بربا الغلما‪ ,‬آمنوا بالله وحده وكفروا‬
‫بالطاغوت‪ ،‬وهنالك جن جنون الملك‪ ،‬فقد صوابه‪ ،‬فاستخدما كل ما‬
‫يملك من وسائل الرهابا والتخويف‪ ،‬في محاولة يائسة‪ ،‬للبقاء‬
‫على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له‪.‬‬
‫ثم يحفر أخاديده‪ ،‬ويوقد نيرانه‪ ،‬ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء‬
‫المؤمنين في النار‪ ،‬وتأتي المفاجأة المذهلة‪ ،‬بدل أن يضعف من‬
‫يضعف‪ ،‬ويهربا من يهربا‪ ,‬إذا نجد القداما والشجاعة‪ ،‬وذلك بالتدافع‬
‫إلى النار ول غريب‪ ،‬لن اليمان بث في نفوسهم الشجاعة‪ ،‬والثبات‪,‬‬
‫دون في اللحاق بالغلما‪ ،‬وكأنهم يتلذذون في تقديم‬ ‫وها هم يج ل‬
‫أرواحهم فدالء لعقيدتهم ودينهم‪.‬‬
‫إن اليمان الحقيقي يصنع بالمم الغرائب‪ ,‬ويبدد الظلما‬
‫الطويل الذي عاشوه‪ ،‬والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها‬
‫الطغاة‪ ،‬ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها اليمان إلى النفوس إل‬
‫أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه‬
‫المة السعيدة التي آمنت بربا الغلما‪ ،‬وكأنهم عرفوا المنهج‬
‫وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره‪ ،‬أو تربوا عليه كما‬
‫تربي الغلما في صباه‪.‬‬
‫إن حقيقة اليمان عندما تخالط بشاشة القلوبا‪ ،‬وتلمس‬
‫الرواح تفعل العجب‪.‬‬
‫لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا بربا الغلما انتصالرا جماعليا‬

‫‪25‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫كا يدل على صفاء العقيدة‪ ،‬ووضوح المنهج‪ ،‬وسلمة الطريق‪،‬‬ ‫مبار ل‬
‫وفهم لحقيقة النتصار‪.‬‬
‫سزنة أي ذكر لهؤلء الظلمة‪،‬‬ ‫إننا ل نجد في القرآن ول في ال ن‬
‫وماذا كان مصيرهم في الدنيا‪ ,‬ولله في ذلك حكمة قد تخفى‬
‫علينا )‪ ..(1‬نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير‪:‬‬
‫ر ر‬ ‫رر‬ ‫ر‬
‫ب اًلكلحرريرق"‬ ‫‪+‬إرلن اًلذيلنَ فليتلينيوُاً اًلكيمكؤمنيْلنَ لواًلكيمكؤملناًت ثيلمُ لكمُ يلييتوُبيوُاً فلي ليهكمُ لعلذاً ي‬
‫ب لجلهنللمُ لوليهكمُ لعلذاً ي‬
‫]البروج‪.[10 :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫قال الحسن البصري ‪» :‬انظروا إلى هذا الكرما والجود‪ ،‬قتلوا‬
‫)‪(3‬‬
‫أولياءه‪ ،‬وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة«‪.‬‬
‫ن المنتصر؟‬ ‫م ن‬
‫أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني النتصار‪ ،‬ع‬
‫حلرق بضع دقائق‪ ،‬ثم انتقل إلى‬ ‫الذي نصر عقيدته ودين ربه‪ ،‬و ع‬
‫جنات النعيم‪ ،‬أو ذلك الذي تمتع بأياما في الحياة الدنيا ثم مآله ‪-‬‬
‫إن لم يتب ‪ -‬إلى عذابا جهنم وعذابا الحريق؟‬
‫هل هناك مقارنة بين الحريق الول‪ ،‬والحريق الثاني‪ ..‬حريق الدنيا‬
‫وحريق الخرة؟ إنها نقلة بعيدة‪ ،‬وبون شاسع‪ ،‬أما المؤمنون الذين‬
‫ت تلكجرريِ رمنَ تلكحترلهاً اًلنَكيلهاًير" ]البروج‪ ،[11 :‬وتعلن‬
‫حلرقوا في الدنيا‪ ،‬فـ ‪+‬ليهكمُ لجلناً ر‬
‫ع‬
‫ر‬
‫ك اًلكلفكوُيز اًلكلعظيْيمُ" أليس هذا هو‬ ‫ر‬
‫النتيجة التي ل مراء فيها ول جدال‪+ :‬لذل ل‬
‫النتصار؟ )‪ (4‬هذا في الخرة‪ ,‬وفي الدنيا تمكن المنهج من قلوبا‬
‫الناس وتم ظهوره‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬حقيقة الناتصار ص )‪(14 ،13‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو سيد التابعي السن بن أب السن يسار البصري الناصاري مولهم زاهد فاضل ثقة‪ ,‬كان من أفصح الناس وأجلهم‪,‬‬
‫توف ‪110‬هـ وهو ابن ‪) 88‬تذيب التهذيب ‪.(270 -2/263‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسي ابن كثي )‪.(4/496‬‬
‫‪4‬‬
‫)( اناظر‪ :‬حقيقة الناتصار ص)‪.(55‬‬

‫‪26‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫تمكين الله تعالى لرسول الله × لتبليغ الرسالة في‬
‫مكة‬
‫بعد العداد الرفيع الذي قاما به النبي × لتربية أصحابه‪ ,‬وبناء‬
‫القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية‪ ،‬وبعد‬
‫أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق‪ ،‬نزل قول الله تعالى‪:‬‬
‫ك اًلقكيلرربيْلنَ" ]الشعراء‪ [214 :‬فخرج رسول الله × حتى صعد‬‫‪+‬لوألنَرذكر لعرشيْلرتل ل‬
‫الصفا فهتف‪» :‬يا صباحاه«‪ ،‬فاجتمعت إليه قريش‪ ،‬فقال‪» :‬يا بنى‬
‫فلن‪ ،‬يا بنى عبد مناف‪ ،‬يا بنى عبد المطلب‪ ،‬أرأيتكم لو أخبرتكم‬
‫ي؟« قالوا‪ :‬ما جربلنا‬‫أن خيل ل تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدق ز‬
‫عليك كذلبا‪ .‬قال‪» :‬فإني نذير لكم بين يدي عذابا شديد« فقال أبو‬
‫ت‬
‫لهب‪ :‬تلبا لك‪ ،‬أما جمعتنا إل لهذا‪ ,‬ثم قاما فنزلت هذه السورة ‪+‬تليبل ك‬
‫ب" ]المسد‪.[1:‬‬ ‫ب لوتل ل‬ ‫يللداً ألربيِ لله ة‬
‫من الطبيعي أن يبدأ الرسول × دعوته العلنية بإنذار عشيرته‬
‫القربين‪ ،‬إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية‪ ،‬فبدء الدعوة‬
‫بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته‪ ،‬كما أن القياما‬
‫بالدعوة في مكة ل بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من‬
‫مركز ديني خطير‪ ،‬فجلبها إلى حظيرة السلما ل بد أن يكون له‬
‫وقع كبير على بقية القبائل‪ ،‬على أن هذا ل يعنى أن رسالة‬
‫السلما كانت في أدوارها الولى محدودة بقريش‪ ،‬لن السلما كما‬
‫يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق‬
‫)‪(1‬‬
‫رسالته العالمية‪.‬‬
‫ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والعراض‬
‫والسخرية واليذاء والتكذيب‪ ،‬والكيد المدبر المدروس‪ ،‬ولقد اشتد‬
‫الصراع بين النبي × وأصحابه‪ ،‬وبين شيوخ الوثنية وزعمائها‪،‬‬
‫وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان‪،‬‬
‫وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة‪ ،‬ساهم في أشد وألد‬
‫أعدائها‪ ،‬ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها‪ ،‬فليس‬
‫سسلمون بدعاوى القرشيين‪ ،‬بل كان يوجد من مختلف‬ ‫كل الناس ي ع ع‬
‫القبائل من يتابع الخبار‪ ،‬ويتحرى الصوابا فيظفر به‪.‬‬
‫وكانت الوسيلة العلمية في ذلك العصر تناقل الناس للخبار‬
‫‪1‬‬
‫)( دراسة ف السيةر النبوية‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خأليل ص ‪.125 ،124‬‬

‫‪27‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مشافهة‪ ,‬وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول ×‪ ،‬وأصبح هذا‬


‫الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان‪ ،‬وبدأ رسول الله ×‬
‫يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة‪ ،‬والنتقال بها‬
‫إلى مواقع جديدة‪ ،‬وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل‪،‬‬
‫والخروج للطائف‪ ،‬وهجرة الحبشة‪.‬‬
‫لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم‪ :‬قريش وأهل مكة‬
‫وبالخص عشيرة النبي × القربين فوجه إليهم الدعوة من خلل‬
‫هذا المنبر العلني‪ ،‬وأنذرهم عذابا الله وبأسه إن لم يؤمنوا )‪.(1‬‬
‫شا رفضت الستجابة والنقياد للحق المبين‪ ,‬وكان‬ ‫ولكن قري ل‬
‫موقفهم كموقف القواما السابقة من رسلهم‪ ،‬فحاربوا الدعوة‬
‫الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت‬
‫أحلمهم‪ ،‬أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والنسان‬
‫والكون‪ ،‬فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولت ليقاف الدعوة‬
‫وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها‪.‬‬
‫لقد فكر النبي × بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم‪،‬‬
‫ويسلمون من أذى قريش وفتنتها‪ ،‬حيث ل تطالهم يدها‪ ،‬ول يمتد‬
‫إليهم بطشها‪.‬‬
‫‪ -2‬البحث عن بيئة تقبل الدعوة‪ ،‬وتستجيب لها‪ ،‬في مقابل‬
‫عنت القرشيين وكنودهم‪ ،‬ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق‬
‫قا لمر الله بالتبليغ للعالمين )‪.(2‬‬‫الرض‪ ،‬تحقي ل‬
‫فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة‪ ،‬فكانت الولى في شهر‬
‫رجب سنة خمس من المبعث‪ ،‬وهم أحد عشر رجل ل وأربع نسوة‬
‫خرجوا مشاة ل إلى البحر فاستأجروا سفينة‪.‬‬
‫وقد صورت أما سلمه زوج النبي× ‪ -‬وهي ممن هاجر إلى‬
‫الحبشة الهجرة الولى ‪ -‬الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة‬
‫فقالت‪) :‬لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحابا رسول الله ×‬
‫وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلء والفتنة في دينهم‪ ،‬وأن رسول‬
‫الله ل يستطيع دفع ذلك عنهم‪ ،‬وكان رسول الله × في منعة من‬
‫قومه وعمه‪ ،‬ل يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه‪ ,‬فقال‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الغرباء الولون ص ‪ ،167‬سلمان العودةر‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر السابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬

‫‪28‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫كا ل عيظلم أحد عنده‪،‬‬ ‫لهم رسول الله ×‪» :‬إن بأرض الحبشة مل ل‬
‫جا مما أنتم فيه«‬‫جا ومخر ل‬ ‫فالحقوا ببلده حتى يجعل الله لكم فر ل‬
‫فخرجنا إليها أرسال ل حتى اجتمعنا بها‪ ،‬فنزلنا بخير دار إلى خير‬
‫ما( )‪.(1‬‬‫جار‪ ,‬أمنا على ديننا ولم نخش منه ظل ل‬
‫لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد‬
‫سياسية وإعلمية ودعوية‪ ,‬وكان اختيار النبي × للحبشة في غاية‬
‫الدقة وبعد النظر؛ لنه )التفت × إلى ما يحيط به من الداخل‬
‫والخارج‪ ،‬وما ينتظر دعوته من أخطار‪ ،‬فوجد أن جذورها قد‬
‫امتدت في أعماق الجزيرة العربية‪ ،‬بين مؤمن قوى اليمان‪ ،‬وبين‬
‫كافر معاند شديد الحرص على زعامتها‪ ،‬عظيم الحقد على الدعوة‬
‫وصاحبها(‪.‬‬
‫وأما خارج الجزيرة‪ ،‬فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها‬
‫دخان النار‪ ،‬وإمبراطورية الروما وقد عبدوا الملوك ودنياهم‪ ،‬أما‬
‫الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه‬
‫كا ل عيظلم أحد بأرضه )‪.(2‬‬‫السلما‪ ،‬وأن بها مل ل‬
‫وهذا يدل على اهتماما رسول الله × بما يدور حوله ومعرفة‬
‫الدول وطبائعها‪.‬‬
‫ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل العلما في السلما؛‬
‫لن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة‪ ،‬يخلق‬
‫تساؤل ل كبيلرا في المجتمع المليء‬
‫بالكذبا والراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد‪،‬‬
‫وخرجوا وقد تركوا تساؤل ل في أذهان الناس‪ :‬ما الذي حملهم على‬
‫ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه‬
‫لمر عظيم‪.‬‬
‫لقد خرج الوفد العلمي السلمي الول للحبشة بخطة‬
‫محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة السلمية وإعلنها في كل‬
‫مكان‪ ,‬حيث إن الرسول × أرسل كتالبا للنجاشي يشير فيه إلى‬
‫البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى السلما )‪.(3‬‬
‫وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة‬
‫والهروبا من شدة العذابا فقط‪ ،‬بل كان بعضهم في حماية قبيلة‬

‫‪1‬‬
‫)( ابن هشام )‪.(1/334‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الوفود العلمية ف العصر الكي لعلى السطل‪ ،‬ص)‪.(111‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الوفود العلمية ف العصر الكي لعلى السطل‪.(114) ،‬‬

‫‪29‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك )‪.(1‬‬


‫وكان الوفد العلمي الول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة‬
‫لكنها تحمل شعار ل إله إل الله محمد رسول الله‪ ،‬وتعمل جاهدة‬
‫على نشره‪ ،‬لقد كان الهدف الول من هجرة المسلمين إلى‬
‫الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش‪ ،‬ودفع غربتهم‬
‫المعنوية‪ ،‬وتأمينهم على دينهم‪ ،‬وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله‬
‫يشرف عليها المهاجرون‪ ،‬والحط من مكانة قريش عند سائر‬
‫ملتها‪ ،‬يجعل الحباش‬ ‫ح ع‬‫العربا‪ ،‬وإدانة موقفهم من الدعوة و ع‬
‫شا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف‬ ‫يسبقون قري ل‬
‫الناس‪ ،‬ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية‪ ،‬ل يضير أن‬
‫يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة‪ ،‬منها‪ :‬أن إيواء الحبشة‬
‫للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش‪،‬‬
‫فضاعفت من حربها ومكرها‪ ،‬وعداوتها)‪.(2‬‬
‫شا قد أسلمت‪ ،‬وكفت عن‬ ‫وعندما تسامع المهاجرون بأن قري ل‬
‫إيذاء النبي × رجعوا‪ ،‬فوجدوا المر أشد مما كان‪ ،‬فأذن النبي ×‬
‫بالهجرة الثانية‪ ،‬فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا‬
‫هناك)‪.(3‬‬
‫لقد ذكر ابن إسحاق )‪ (4‬دوافع الهجرة الثانية‪ ،‬فقال‪) :‬فلما اشتد‬
‫البلء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحابا رسول الله ×‪ ،‬وكانت‬
‫الفتنة الخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين‬
‫كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة( )‪.(5‬‬
‫لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة‬
‫يحملن الهدايا إلى النجاشي وبطارقته‪ ،‬فقابل النجاشي طالبين‬
‫إليه إعادة من هاجر من المسلمين‪ ،‬فأرسل النجاشي إلى‬
‫المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي‬
‫ما على الشرك‪ ،‬نعبد الوثان ونأكل‬ ‫الله عنه‪) :‬أيها الملك كنا قو ل‬
‫الميتة‪ ،‬ونسئ الجوار‪ ،‬ونستحل المحارما‪ ،‬بعضنا من بعض في‬
‫سفك الدماء وغيرها‪ ،‬ل نحل شيلئا ول نحرمه‪ ،‬فبعث الله إلينا نبليا‬

‫‪1‬‬
‫)( الصدر نافسه‪ ،‬ص )‪.(115‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الغرباء الولون ص )‪.(171‬‬
‫‪3‬‬
‫)( الصدر نافسه‪ ,‬ص )‪.(169‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو ممد بن إسحاق بن يسار من كتاب السيةر )اناظر‪ :‬سي أعلم النبلء ‪.(7/34‬‬
‫‪5‬‬
‫)( السي والغازي لبن إسحاق‪ ،‬ص ‪ ،213‬تقيق‪ :‬سهيل زكار‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته‪ ،‬فدعانا إلى أن نعبد الله‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬ونصل الرحم‪ ،‬ونحسن الجوار‪ ،‬ونصلى ونصوما‪،‬‬
‫ول نعبد غيره(‪.‬‬
‫فقال‪ :‬هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم‬
‫فنشروا المصاحف حوله‪ ،‬فقال جعفر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ى ما جاء به‪.‬‬
‫ل عل ز‬ ‫قال‪ :‬هعل ع ز‬
‫م فات ع‬
‫فقرأ عليهم صدلرا من كهيعص )‪ ،(1‬فبكى والله النجاشي حتى‬
‫اخضلت لحيته‪ ،‬وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال‪ :‬إن‬
‫هذا الكلما ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى‪ ..‬انطلقوا‬
‫راشدين‪.‬‬
‫ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم‪ ،‬أثار عمرو بن‬
‫العاص في اليوما التالي موقف المسلمين من عيسى عليه‬
‫السلما‪ ،‬فقال للنجاشي‪ :‬أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قول ل‬
‫ما‪ ,‬فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر‪ :‬نقول هو‬ ‫عظي ل‬
‫عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول‪.‬‬
‫فقال النجاشي‪ :‬ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود‪,‬‬
‫وأعطى النجاشي المان للمسلمين‪ ،‬فأقاموا مع خير جار في خير‬
‫)‪.(2‬‬
‫دار كما تقول أما سلمة رضي الله عنها‬
‫إن مسارعة قريش لرسال وفد لستعادة المسلمين‬
‫المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما‬
‫حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه‪ ،‬والحبشة نصرانية‪،‬‬
‫وملكها عرف بالعدل‪ ،‬وهي قريبة من مكة‪ ،‬وكل ذلك يشكل خطلرا‬
‫على قريش في المستقبل‪.‬‬
‫لقد فتحت جبهة جديدة لقريش انهزمت فيها معنوليا وسياسليا‬
‫وإعلمليا أماما‬
‫ضربات المسلمين الموفقة‪ ،‬وخطواتهم المتزنة‪ ،‬وأساليبهم‬
‫الرصينة من أجل تبليغ دعوة الله وإبلغا رسالته‪.‬‬
‫لقد قاد المعركة السياسية والدعوية والعقدية جعفر بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وكان صادق اللهجة‪ ،‬فصيح اللسان‪ ،‬قوي البيان‪ ،‬فتأثر‬
‫النجاشي من قوله وخابت آمال قريش‪ ،‬وظهرت ملمح اليمان‬
‫في وجه النجاشي‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( سورةر مري‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬السيةر النبوية لبن هشام‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن جعفر رضي الله عنه قاوما حملة قريش العلمية المضللة‬
‫بكل دقة وموضوعية وصدق ونقل الخبار والحقائق من مصادرها‪،‬‬
‫فأعلن رضي الله عنه ما سمعه من‬
‫دا على سؤال النجاشي في أمر عيسى عليه السلما‬ ‫النبي × ر ل‬
‫دون مداهنة أو مواربة أو نفاق‪ ،‬لقد تلل وجه النجاشي باليمان‬
‫الصادق دون بطارقته وقال للمهاجرين‪) :‬اذهبوا فأنتم شيوما‬
‫أرضى آمنون‪ ،‬من سبكم غرما ‪-‬كررها ثللثا‪ ،-‬ما أحب أن لي دبلرا‬
‫)‪ (1‬من ذهب‪ ،‬وأني آذيت رجل ل منكم‪ .‬ردوا عليهما هداياهما فل‬
‫ى ملكي‬ ‫حاجة لي بها‪ ,‬فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد ل عل ل‬
‫فآخذ الرشوة فيه‪ ،‬وما أطاع الناس فيل فأطيعهم فيه(‪.‬‬
‫ظا على السلما والمهاجرين‬ ‫دا وغي ل‬
‫وقد امتلت القلوبا حق ل‬
‫الذين اطمأنوا في عبادتهم ونشر دينهم بالحكمة والموعظة‬
‫الحسنة‪ ،‬وقد آمن النجاشي ملك الحباش وكسبت الدعوة أنصالرا‬
‫جدلدا‪ ,‬وتوسعت دائرة المسلمين وكسبوا معارك سياسية‬
‫وإعلمية‪ ،‬ودعوية بتوفيق الله تعالى لهم )‪.(2‬‬
‫لقد بقى المسلمون في الحبشة إلى أن استقر السلما في‬
‫المدينة فهاجر بعضهم إليها وبقى جعفر ومن معه )‪ (3‬إلى فتح خيبر‬
‫سنة ‪7‬هـ‪.‬‬
‫وحاول رسول الله × أن يوسع مجال دعوته؛ فخرج إلى‬
‫الطائف وعرض السلما على زعمائها إل أنهم رفضوا ذلك وبالغوا‬
‫في السفه وسوء الدبا معه‪ ،‬فقاما رسول الله × من عندهم‪،‬‬
‫وقصد مكة ليواصل تبليغ الرسالة وأداء المانة ونصح المة‪ ,‬ولم‬
‫يدخل مكة بدون تخطيط أو دراسة مستوعبة لكل الملبسات‬
‫والظروف المحيطة به‪ ،‬بل درس المر وخطط للمرحلة القادمة‪،‬‬
‫ورأى بثاقب بصره وبعد نظره أن يتصل بمطعم بن عدى سيد‬
‫قبيلة بنى نوفل بن عبد مناف وطلب جواره‪ ,‬فاستجابا لطلب‬
‫النبي × ودخل رسول الله × ومعه زيد بن حارثة في حراسة بنى‬
‫نوفل الذين تحلقوا حوله بالسلح وهو يصلي في البيت الحراما‬
‫وذهبوا في حراسته حتى دخل بيته‪.‬‬
‫لقد كان بنوا نوفل مؤسسة قوية في المجتمع القرشي الذي‬
‫له أعرافه وتقاليده المقدسة‪ ،‬فاستفاد الرسول × من تلك‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ابن هشام )‪.(1/338‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الوفود ف العهد الكي ص )‪.(123‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬السيةر النبوية الصحيحة‪ ،‬د‪ .‬أكرم ضياء العمري )‪.(1/176‬‬

‫‪32‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫القوانين الموجودة ووظفها بكل دقة وحنكة وسياسة لمصلحة‬


‫الدعوة )‪.(1‬‬
‫هكذا × دخل إلى مكة بعد رجوعه من الطائف‪ ,‬وبدأ يعرض‬
‫نفسه على القبائل في المواسم‪ :‬يشرح لهم السلما‪ ،‬ويطلب‬
‫ل وكان رسول‬ ‫ج ز‬
‫منهم اليواء والنصرة‪ ،‬حتى يبلغ كلما الله عزز وع ع‬
‫الله × يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع‬
‫فيها القبائل وفق خطة دعوية واضحة المعالم ومحددة الهداف‪,‬‬
‫وكان × يعرض نفسه على القبائل على أنه حامل دعوة من الله‬
‫من أجل حمايته لكي يتمكن من تبليغ دعوة الله إلى الناس‪ ،‬ومن‬
‫أجل نصرته فيما يسعى إليه من إقامة سلطان لتلك الدعوة‪،‬‬
‫ويوفر لها ولتباعها الحماية والمن‪ ،‬ومن ثم يمكنها من النطلق‬
‫في الرض داعية كل جنس ولون إلى الستجابة لمر الله‪.‬‬
‫ومن توفيق الله لدعوته أن المدينة المنورة كانت تعيش‬
‫ظرولفا خاصة ترشحها لحتضان دعوة السلما‪ ،‬وتجتمع فيها عناصر‬
‫عديدة ل تجتمع في غيرها‪:‬‬
‫‪ -1‬منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة‪:‬‬
‫الوس والخزرج‪ ،‬وقد قامت بينهما الحروبا الطاحنة كيوما بعاث‬
‫وغيره‪ ،‬وقد أفنت هذه الحربا كبار زعمائهم‪ ،‬ممن كان نظراؤهم‬
‫في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة‪ ،‬ولم يبق‬
‫إل القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق‪ ،‬إضافة إلى‬
‫عدما وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها‪،‬‬
‫وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه‪ ،‬وليلتئم شملهم تحت ظله‪,‬‬
‫دمه الله تعالى لنبيه ×‪ ،‬فقدما وقد قتل‬ ‫فكان يوما بعاث أملرا ق ل‬
‫جرحوا‪ ،‬فقدمه الله لرسوله × في دخولهم‬ ‫معظم سرواتهم و ع‬
‫السلما )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم ‪ -‬ولو‬
‫يسيلرا ‪ -‬بأمر الرسالت السماوية‪ ،‬وخبر المرسلين السابقين‪،‬‬
‫وهم ‪ -‬في مجتمعهم ‪ -‬يعايشون هذه القضية في حياتهم‬
‫اليومية‪ ،‬وليسوا مثل قريش التي ل يساكنها أهل كتابا‪ ،‬وإنما‬
‫غاية أمرها أن تسمع أخبالرا متفرقة عن الرسالت والوحي‬
‫اللهي‪ ،‬دون أن تلح عليها هذه المسألة‪ ،‬أو تشغل تفكيرها‬
‫باستمرار‪ ،‬فلما أراد الله إتماما أمره بنصر دينه‪ ،‬قيض ستة نفر‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬أصأولا الفكر السياسي ف القرآن الكري‪ ,‬د‪ .‬التجان‪ ،‬ص )‪.(180 -172‬‬
‫‪2‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الناقب‪ ،‬باب مناقب الناصار )‪ (4/267‬رقم ‪.7777‬‬

‫‪33‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من أهل المدينة للنبي × فالتقي بهم عند العقبة ‪ -‬عقبة منى ‪-‬‬
‫فعرض عليهم السلما‪ ،‬فاستبشروا وأسلموا‪ ،‬وعرفوا أنه النبي‬
‫الذي توعدهم به اليهود‪ ،‬ورجعوا إلى المدينة‪ ،‬فأفشوا ذكر‬
‫النبي × في بيوتها )‪ ،(1‬وكان هذا هو »بدء إسلما النصار« كما‬
‫يسميه أهل السير )‪.(2‬‬
‫لقد كانت المدينة المنورة تربة صالحة لنتشار السلما‪ ،‬فاليهود‬
‫يهددون بنبي أظل زمانه يتبعونه ويقتلون الوس والخزرج قتل عاد‬
‫وإرما‪ ,‬والعربا أهل فراسة ونخوة أضاءت بعض شموع الحق‬
‫بينهم‪ ،‬وكأنها إرهاصات للنصرة والنجدة وقاما الوفد بتبليغ الرسالة‬
‫وأداء المانة‪.‬‬
‫ضعف العدد الول ‪-‬‬ ‫ولما جاء وقت العاما التالي وافي الموسم ق‬
‫اثنا عشر رجل ل من المؤمنين‪ -‬فبايعهم النبي × على أل يشركوا‬
‫بالله شيلئا ول يسرقوا ول يزنوا ول يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم‬
‫وأرجلهم‪ ,‬ول يعصوه في معروف‪ ,‬وتعرف هذه البيعة ببيعة العقبة‬
‫الولى‪.‬‬
‫عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال‪) :‬إني لمن النقباء‬
‫الذين بايعوا‬
‫رسول الله ×‪ ،‬وقال‪ :‬بايعناه على أل نشرك بالله شيلئا ول نزني‪،‬‬
‫ول نسرق‪ ،‬ول نقتل النفس التي حرما الله إل بالحق‪ ،‬ول ننهب‪ ،‬ول‬
‫نعصى‪ ،‬فالجنة إن فعلنا ذلك‪ ،‬فإن‬
‫غشينا )‪ (3‬من ذلك شيلئا كان قضاء ذلك إلى الله( )‪.(4‬‬
‫ولقد بعث الرسول × مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم‬
‫الدين ويقرؤهم القرآن‪ ،‬فكان يسمى في المدينة المقرئ وكان‬
‫يؤمهم في الصلة )‪.(5‬‬
‫ولقد اختاره الرسول × عن علم بشخصيته من جهة‪ ،‬وعلم‬
‫بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى‪ ،‬حيث كان رضي الله‬
‫عنه بجانب حفظه لما نزل من القرآن‪ ،‬يملك من اللباقة والهدوء‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ابن هشام )‪.(1/430‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(1/428‬‬
‫‪3‬‬
‫)( ارتكبنا ذناببا‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الدود‪ ،‬باب الدود كفارات لهلها )‪ (3/1333‬رقم )‪.(1079‬‬
‫‪5‬‬
‫)( اناظر‪ :‬سيةر ابن هشام )‪.(1/431‬‬

‫‪34‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وحسن الخلق والحكمة قدلرا كبيلرا‪ ,‬فضل ل عن قوة إيمانه وشدة‬


‫حماسه للدين‪ ،‬ولذلك تمكن خلل أشهر أن ينشر السلما في‬
‫سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للسلما أنصالرا من كبار زعمائها‪،‬‬
‫كسعد بن معاذ‪ ،‬وأسيد بن حضير‪ ،‬وقد أسلم بإسلمهما خلق كثير‬
‫من قومهم)‪.(1‬‬
‫لقد كانت دعوة مصعب رضي الله عنه في المدينة موفقة‬
‫وحققت أهدافها‪ ,‬وشرع يشرح للناس تعاليم الدين الجديد وتعاليم‬
‫القرآن الكريم وتفسيره‪ ،‬وتقوية الروابط الخوية بين أفراد القبائل‬
‫المؤمنة من ناحية‪ ،‬وبين النبي × وصحبه بمكة المكرمة‪ ،‬ليجاد‬
‫القاعدة المنية لنطلق الدعوة‪ .‬لقد كان الدور العلمي‬
‫والتعليمي والتوجيهي الذي قاما به مصعب في المدينة له أثر كبير‬
‫لتهيئة الظروف للمرحلة التي بعدها‪ ،‬لقد فتحت المدينة بالقرآن‬
‫وبالدعوة إلى الله‪ ,‬وأصبح ولء كثير من الوس والخزرج لعقيدة‬
‫السلما وشريعة الرحمن وتشكل وفد من النصار لعقد البيعة‬
‫الثانية مع النبي ×‪ ،‬لتنتقل الدعوة إلى طور جديد ومرحلة أخرى‪.‬‬
‫لقد اهتم × ببناء الفرد المسلم الذي يحمل تكاليف الدعوة‬
‫ويضحى من أجلها‪ ,‬ولذلك نجد جعفلرا يقوما بدور عظيم في تبليغ‬
‫الدعوة وأداء المانة في أرض الحبشة‪ ,‬ونجد مصعلبا يفتح الله على‬
‫يديه المدينة ويدخل كثير من أهلها في دعوة السلما‪.‬‬
‫إن النبي × في طور المرحلة المكية قاما بتبليغ الرسالة وأداء‬
‫المانة على خير قياما وكانت عناية الله وحفظه له وتأييده ظاهرة‬
‫للعيان‪.‬‬
‫ولقد سار على نهج رسول الله × في تبليغ الرسالة وأداء‬
‫المانة كثير من الدعاة على مر العصور وكر الدهور‪ ,‬ومكن الله‬
‫لهم بين الناس حتى أدوا واجبهم في الدعوة إلى الله ومن أمثال‬
‫ذلك‪ :‬الماما أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬والعز بن عبد السلما‪,‬‬
‫ومحمد بن عبد الوهابا في الجزيرة‪ ،‬ومحمد بن على السنوسى‬
‫في ليبيا‪ ،‬وسعيد النورسى في العصر الحديث في تركيا‪ ،‬وعبد‬
‫الحميد بن باديس في الجزائر‪ ،‬وحسن البنا في مصر‪ ،‬وغيرهم‬
‫كثير‪ ،‬ومنهم من استشهد في سبيل دعوته إل أنها انتشرت بعد‬
‫مماته انتشار الضياء في الظلما‪ ،‬ولقد لحظت في سيرة هؤلء‬
‫العلما في القديم والحديث حماية الله لهم ورعايته وحفظه‬

‫‪1‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(1/435‬‬

‫‪35‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وتثبيته لهم في المحن والشدائد‪ ,‬وتهيئة الله قلوبا الناس لستماع‬


‫دعوتهم ونصحهم‪ ،‬وكانوا رحمهم الله رجال ل للعقيدة عاشوا من‬
‫أجل هذا الدين وماتوا في سبيله‪.‬‬
‫***‬

‫‪36‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫الفصل الثاني‬
‫هلك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في‬
‫المعارك‬
‫إن قصة نوح وموسى عليهما السلما نموذج رفيع للتدليل على‬
‫أن من أنواع التمكين هلك الكفار ونجاة المؤمنين‪ ،‬وقصة نوح مع‬
‫قومه منهج عظيم للدعاة إلى الله‪ ,‬وقصته مليئة بالدروس والعبر‪،‬‬
‫ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫حا عليه السلما أول رسول إلى البشر‪ ،‬وكل أول له‬ ‫‪ -1‬أن نو ل‬
‫خصوصيته وميزته‪.‬‬
‫‪ -2‬امتداد الزمن الذي قضاه في دعوة قومه )‪ 950‬سنة(‪.‬‬
‫‪ -3‬كونه من أولى العزما الذين ذكروا في القرآن‪.‬‬
‫‪ -4‬ورد اسمه كثيلرا في القرآن الكريم حيث بلغ )‪ (43‬مرة في‬
‫)‪ (29‬سورة من سور القرآن‪ ،‬أي في ربع سور القرآن تقريلبا‪ ،‬مع‬
‫ورود سورة باسمه في القرآن‪.‬‬
‫وأما قصة موسى عليه السلما مع فرعون‪ ،‬فتبين ضراوة‬
‫الصراع بين الحق والباطل‪ ,‬والهدى والضلل‪ ،‬واليمان والكفر‪،‬‬
‫والنور والظلما‪ ,‬وتسلط الضواء على استكبار فرعون وتجبره‬
‫دا‪،‬‬
‫ما وعبي ل‬‫ما وحش ل‬
‫واستعباده عباد الله واستضعافهم واتخاذهم خد ل‬
‫وكيف أراد الله لبنى إسرائيل أن يرد إليهم حريتهم المسلوبة‬
‫وكرامتهم المغصوبة‪ ,‬ومجدهم الضائع وعزهم المفقود‪ ،‬إن من‬
‫يقف أماما إرادة الله فهو عاجز ضعيف‪ ،‬وهو فاشل مهزوما‪ ,‬وإن‬
‫أعداء الله أينما كانوا هم إلى هزيمة وخسارة وهوان‪ ،‬وتبين لنا‬
‫كيف انتقم الله من فرعون ونصر وليه موسى عليه السلما‬
‫وقومه‪.‬‬
‫وأما قصة طالوت‪ ،‬فتوضح مرحلة مرت بها أمة بنى إسرائيل‪،‬‬
‫فبعد أن وقعوا في المعاصي‪ ،‬وانحرفوا عن منهج الله وسلط الله‬
‫عليهم العداء وأصابا بني إسرائيل ذل وخيم‪ ،‬ومرارة أليمة‪،‬‬
‫وهزيمة عظيمة‪ ,‬وأرادوا أن يغيروا واقعهم المهين‪ ،‬وأن يبدلوا‬
‫ذلهم عزة وهزيمتهم نصلرا‪ ،‬وعلموا أن السبيل لذلك هو الجهاد‬
‫والقتال‪ ،‬فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم مل ل‬
‫كا يتولى أمورهم‪،‬‬
‫ويقودهم إلى العزة والنصر‪ ،‬ويقاتل لهم أعداءهم‪ ،‬في سبيل الله‪،‬‬

‫‪37‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫كا عليهم‪ ،‬ومن ثم يقودهم‬ ‫فوقع خيار الله على طالوت ليكون مل ل‬
‫إلى النصر والعزة والتحرير‪ ،‬فاعترض المل على نبيهم قائلين‪:‬‬
‫ك رمكنهي لولكمُ يييكؤ ل‬
‫ت لسلعةح بملنَ اًلكلماًرل"‪،‬‬ ‫ك لع لكليْيلناً ونَلكحنَ ألحمق رباًلكمكل ر‬
‫ي‬ ‫ل ي ل‬ ‫‪+‬أللنَىَ يليكوُين لهي اًلكيمكل ي‬
‫فبين لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم‪ ،‬والله حكيم خبير‪ ،‬وإن الله‬
‫زاده بسطة في العلم والجسم‪ ،‬وتسلم طالوت قيادة بنى‬
‫إسرائيل وكانت قصة طالوت مع بنى إسرائيل من أروع القصص‬
‫القرآني في بيان سنن الله في النهوض بالمم المستضعفة‪ ،‬وما‬
‫هي السمات والصفات المطلوبة للقيادة التي تتصدى لمثل هذه‬
‫العمال العظيمة لتقوية الشعوبا والنهوض بها نحو المعالي‪ ،‬وفق‬
‫منهج رباني ووسائل عملية وتربوية عميقة على معاني الطاعة‬
‫والثبات والتضحية والفداء من أجل العقيدة الصحيحة‪.‬‬
‫وفي سيرة النبي × نجد هذا النوع من التمكين ‪-‬أل وهو النصر‬
‫در ظرفه‬ ‫حا‪ ،‬فبعد أن هاجر × إلى المدينة ق ل‬ ‫على العداء‪ -‬واض ل‬
‫وزمانه ومكانه وجهز قوات جهادية حققت أهدافها القريبة‬
‫عا في الخذ بالسبابا‬ ‫دا على الله في ذلك‪ ،‬شار ل‬ ‫والبعيدة‪ ،‬معتم ل‬
‫التي أمره الله بها‪ ،‬فترك لنا معالم نيلرة في مغازيه الميمونة‪,‬‬
‫سا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على العداء والتمكين‬ ‫ودرو ل‬
‫لدين الله تعالى‪ ،‬بدأ بالسرايا‪ ،‬فحققت أهدافها‪ ،‬ومضى يحاصر‬
‫قوى البغي والكفر والضلل حتى فتحت مكة‪ ،‬ومن ثم وحدت‬
‫جزيرة العربا‪ ,‬وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى‬
‫الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود‪ ,‬وإلى ملوك‬
‫الرض يدعوهم للسلما‪ ،‬فترك البناء متيلنا‪ .‬وقاما الخلفاء‬
‫الراشدون من بعده ليتوسعوا بالسلما شرلقا وغرلبا‪ ،‬وهكذا توالت‬
‫الجيال لحمل الرسالة ولداء المانة‪ ،‬وكان تاريخ أمتنا مليلئا بهذا‬
‫النوع من التمكين‪ ،‬ففي عهد صلح الدين كانت موقعة حطين‬
‫على يديه وكان فتح القدس‪ ،‬وفي عهد يوسف بن تاشفين كانت‬
‫لقة‪ ،‬وفي عهد محمد الفاتح كان فتح القسطنطينية‪،‬‬ ‫معركة الز ل‬
‫وأما في العصر الحديث‪ ،‬فالملحمة الجهادية بين الروس والفغان‬
‫انتهت بهزيمة اللحاد‪ ،‬والمعارك بين السلما والنصرانية في جنوبا‬
‫السودان فتحت للمسلمين أبوابا الشهادة والعزة والنصر‬
‫والتمكين‪ ،‬والصراع بين اليهود والمسلمين في فلسطين بين الكر‬
‫ما عون الله لهل التوحيد واليمان على مر‬ ‫والفر‪ ،‬وهكذا نجد دائ ل‬
‫العصور وكر الدهور وتوالى الزمان‪.‬‬
‫المبحث الول‬
‫قصة نجاة نوح عليه السلما وهلك قومه‬
‫‪38‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫غيْييرهي إربنَيِ‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫رر‬


‫قال تعالى‪+:‬للقكد ألكرلسكللناً ينَوُححاً إرللىَ قليكوُمه فليلقاًلل لياً قليكوُم اًكعبييدواً اًلل لماً ليكمُ بمكنَ إرله لك‬
‫ظيْةمُ" ]العراف‪.[59 :‬‬ ‫ف لع ليْيكمُ لعلذاًب ييوُةم لع ر‬
‫ل لك‬ ‫أللخاً ي ك ك‬
‫إن ثوابت دعوة نوح عليه السلما‪ ،‬الدعوة إلى عبادة الله‬
‫وتوحيده‪ ،‬والتحذير من عدما الستجابة إلى توحيده‪.‬‬
‫فلم يستجب قومه إلى ما دعاهم إليه‪ ،‬بل استكبروا وعتوا‬
‫وتجبروا‪ ،‬قال سبحانه‪+:‬لواًتكلي لع لكيْرهكمُ نَليبلأل ينَوُةح إركذ لقاًلل لرلقكوُرمره لياً قليكوُرم رإن لكاًلن لكبييلر لع لكيْيكمُ‬
‫ت فلألكجرمعيوُاً ألكملريككمُ لويشلرلكاًلءيككمُ ثيلمُ لل يليككنَ ألكميريككمُ لع لكيْيككمُ غيلمةح‬ ‫ل فليعللىَ اً ر‬‫ر ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ل تليلوُلككل ي‬ ‫لملقاًميِ لوتلكذكيْرريِ ربآِلياًت اً ل‬
‫ظيرورن" ]يونس‪.[71 :‬‬ ‫ضوُاً إرلليِ ولل تييكن ر‬ ‫ثيلمُ اًقك ي‬
‫ل‬
‫وجاءت سورة هود لتبين لنا الحوار الطويل بينه وبين قومه‪،‬‬
‫الذين حاججهم وجادلهم وأقاما عليهم الحجة وبين لهم طريق‬
‫ت رجلداًللناً فلأكتلناً بلماً‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ح قلكد لجاًلدكلتليلناً فلألككثليكر ل‬‫الهداية‪ ،‬حتى أجابا قومه بقولهم‪+:‬لياً ينَوُ ي‬
‫ت رمنَ اًل ل ر ر‬ ‫ر‬
‫نَ" ]هود‪.[32 :‬‬ ‫صاًدقيْ ل‬ ‫تلعيدلنَاً إركن يككن ل ل‬
‫ك إرلل‬ ‫ثم بين الله له النهاية في هؤلء‪+:‬لويأورحليِ إرللىَ ينَوُةح ألنَلهي للنَ يميكؤرملنَ رمنَ قليكوُرم ل‬
‫ك برألكعيْينرلناً لولوكحيْرلناً لولل تيلخاًرطكبرنيِ رفيِ اًلرذيلنَ‬ ‫صنلرع اًلكيفكل ل‬‫س برلماً لكاًنَيوُاً يليكفلعيلوُلن ‪ ‬لواً ك‬ ‫ر‬
‫لمنَ قلكد آلملنَ فللل تليكبتلئ ك‬
‫ن" ]هود‪.[37،36:‬‬ ‫ظلليموُاً إرنَلييهكمُ مغكلريقوُ ل‬
‫لقد كان نوح عليه السلما صابلرا وثابلتا في دعوة قومه إلى‬
‫عبادة الله تعالى‪ ،‬فاتخذ معهم جميع الساليب الدعوية المتنوعة‬
‫في محاولة صادقة لهدايتهم وتعبيدهم لله تعالى‪ ،‬قال تعالى‪+:‬لقاًلل‬
‫ت قليكوُرميِ لكيْلح لونَليلهاًحراً ‪ ‬فلي لكمُ يلرزكديهكمُ يدلعاًرئيِ إرلل فرلراًحراً ‪ ‬لوإربنَيِ يك للماً لدلعكوُتيييهكمُ رلتليغكرفلر ليهكمُ‬ ‫ب إربنَيِ لدلعكوُ ي‬ ‫لر ب‬
‫صمرواً لواًكستلككبلييرواً اًكسترككلباًحراً ‪ ‬ثيلمُ إربنَيِ لدلعكوُتيييهكمُ رجلهاًحراً"‬ ‫جعليوُاً ألصاًبرعيهمُ رفيِ آلذاًنَررهمُ واًكستليغك ل ر‬
‫شكوُاً ثليْاًبلييهكمُ لوأل ل‬ ‫كل‬ ‫ل ل ك‬ ‫لل‬
‫]نوح‪.[8 -5 :‬‬
‫ومع هذا الجهد العظيم والصبر الجميل والثبات المنقطع‬
‫النظير‪ ،‬والحرص المستمر إل أن قومه رفضوا وامتنعوا من الجابة‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ك اًلكرلذيلوُلن" ]الشعراء‪ .[111 :‬ثم قالوا‪+ :‬لئنَ لكمُ تليكنتله لياً ينَوُ ي‬
‫ح‬ ‫ك لواًتليبليلع ل‬ ‫‪+‬لقاًليوُاً ألنَييكؤرمينَ ل ل‬
‫لمكريجوُرميْلنَ" ]الشعراء‪ ،[116 :‬ولم يؤمن مع نوح إل فئة قليلة من‬ ‫لتليكوُنَللنَ رملنَ اً ك ل‬
‫قومه حتى زوجته وأحد أبنائه غرقوا في مستنقع الكفر الخبيث‪,‬‬
‫ت لعكبلديكرنَ رمكنَ‬ ‫ت يلوُةط لكاًنَليلتاً تلكح ل‬ ‫ب اًلي لمثللح لبلرذيلنَ لكلفيرواً اًكملرأل ل‬
‫ت ينَوُةح لواًكملرأل ل‬ ‫ضلر ل‬ ‫قال تعالى‪ +:‬ل‬
‫ل لشكيْحئاً لورقيْلل اًكديخلل اًللناًلر لملع اًللداًرخرليْلنَ"‬ ‫رعباًردلنَاً صاًلرحكيْرنَ فللخاًنَليلتاًيهماً فلي لمُ ييغكنريْاً لع كنييهماً رمنَ اً ر‬
‫ل ل‬ ‫ل كي ل‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ب إن اًبكنيِ مكنَ ألكهليِ لوإن لوكعلدلك‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ح لربلهي فليلقاًلل لر ب‬
‫]التحريم‪ ،[10 :‬وقال تعالى‪+:‬لولنَاًلدىَ ينَوُ ر‬

‫‪39‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ت ألكحلكيمُ اًلكلحاًكررميْلنَ" ]هود‪ ،[45 :‬وقال تعالى‪+ :‬قييكللناً اًكحرمكل رفيْلهاً رمنَ يكلل لزكولجكيْرنَ‬ ‫اًلكلحمق لوألنَ ل‬
‫ر‬
‫ك إرلل لمنَ لسبللق لع لكيْه اًلكلقكوُيل لولمكنَ آلملنَ لولماً آلملنَ لملعهي إرلل قلليْرل" ]هود‪ .[40 :‬وفي‬ ‫ر‬ ‫اًثكينليكيْرنَ لوألكه ل ل‬
‫نهاية المطاف وفي آخر مراحل الدعوة وبعد أن علم استحالة‬
‫استجابة قومه لدعوة التوحيد‪ ،‬قال كما حكى عنه القرآن الكريم‬
‫ب إرلن قليكوُرميِ لكلذيبوُرن ‪ ‬لفاًفكيتلكح بليكيْرنيِ لوبل كييْينلييهكمُ فليكتححاً لونَلبجرنيِ لولمنَ لمرعليِ‬ ‫في قوله تعالى‪+:‬لقاًلل لر ب‬
‫ب فلاًنَتل ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫صكر"‬ ‫ملنَ اًلكيمكؤمرنيْلنَ" ]الشعراء‪ ،[118 ،117 :‬وقوله تعالى‪+:‬فللدلعاً لربلهي ألبنَيِ لمغكيلوُ ر‬
‫ك‬ ‫ض رملنَ اًلكلكاًفررريلنَ لدلياًحراً ‪ ‬إرنَل ل‬ ‫ب لل تللذكر لعللىَ اًللكر ر‬ ‫ح لر ب‬ ‫]القمر‪ ،[10 :‬وقال تعالى‪+:‬لولقاًلل ينَوُ ر‬
‫ضلموُاً رعلباًلدلك لولل يللريدواً إرلل لفاًرجحراً لكلفاًحراً" ]نوح‪.[27 ،26 :‬‬ ‫رإن تللذريهمُ ي ر‬
‫ك كي‬
‫لقد استجابا الله لدعوة نوح عليه السلما‪ ,‬ولقد أحسن نوح‬
‫عليه السلما استعمال هذا السلح العظيم الذي يغفل عنه الكثير‬
‫من الدعاة العاملين‪.‬‬
‫مةر ‪‬‬ ‫سماًرء برماًةء م كنيله ر‬ ‫ر‬ ‫قال تعالى‪+:‬فللدلعاً لربلهي ألبنَيِ لمغكيلوُ ر‬
‫ب اًل ل ل ل‬ ‫ب فلاًنَتلصكر ‪ ‬فليلفتلكحلناً لأبكيلوُاً ل‬
‫ت أللكلوُاًةح لويديسةر ‪ ‬تلكجرريِ‬ ‫ر‬
‫ض عييْوُحنَاً لفاًكلتليلقىَ اًلكماًء لعللىَ ألكمةر قلكد قيدر ‪ ‬وحمكللناًهي لعللىَ لذاً ر‬
‫ل للل‬ ‫ل ي‬ ‫لوفللجكرلنَاً اًللكر ل ي‬
‫برألكعيْينرلناً لجلزاًءح لبلمكنَ لكاًلن يكرفلر ‪ ‬لوللقد تليلرككلناًلهاً آيلةح فليلهكل رمنَ ملدكرةر" ]القمر‪ ،[15 -10 :‬لقد لبث‬
‫قرابة عشرة قرون‪ ،‬وكانت النتيجة‪:‬‬
‫‪ -1‬لم يؤمن من قومه إل قليل‪.‬‬
‫‪ -2‬لم تؤمن زوجته ول أحد أبنائه وهم أقربا الناس إليه‪ ,‬ومع‬
‫ذلك فإنه يعد منتصلرا‪ ،‬بل إنه حقق أعظم النتصارات وتمثل ذلك‬
‫في‪:‬‬
‫‪ -1‬صبره وثباته طوال هذه القرون‪ ،‬وعدما ميله إلى محاولت‬
‫قومه ‪ -‬وحاشاه من ذلك ‪ -‬أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم‪.‬‬
‫ك لويك للماً لملر لع لكيْره لملر بمنَ قليكوُرمره لسرخيرواً رمكنهي لقاًلل رإن تلكسلخيرواً رملناً‬ ‫صنليع اًلكيفكل ل‬
‫قال تعالى‪+:‬لويل ك‬
‫ن" ]هود‪.[38 :‬‬ ‫فلرإلنَاً نَلكسلخير رمكنيككمُ لكلماً تلكسلخيرو ل‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ح‬‫‪ -2‬حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم‪+:‬لقاًليوُاً لئنَ لكمُ تليكنتله لياً ينَوُ ي‬
‫لمكريجوُرميْلنَ" ]الشعراء‪ ،[116 :‬ولم ينته نوح عن دعوة التوحيد‬ ‫لتليكوُنَللنَ رملنَ اً ك ل‬
‫ل‪.‬‬‫وتحقيق معاني العبادة لله ومع ذلك ما استطاعوا إليه سبي ل‬
‫‪ -3‬إهلك قومه الذين كذبوا بالغرق‪+:‬لوألكغلرقكيلناً اًلرذيلنَ لكلذبيوُاً ربآِلياًترلناً إرنَلييهكمُ لكاًنَيوُاً‬
‫نَ" ]العراف‪.[64 :‬‬ ‫ر‬
‫قليكوُحماً لعميْ ل‬
‫ك" ]العراف‪:‬‬ ‫جيْيلناًهي واًلرذينَ معهي رفيِ اًلكيفكل ر‬
‫‪ -4‬نجاة نوح ومن آمن معه‪+‬فلألنَك ل ك ل ل ل ل‬
‫‪40‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫]القمر‪،13 :‬‬ ‫ت أللكلوُاًةح لويديسةر ‪ ‬تلكجرريِ برألكعيْينرلناً لجلزاًءح لبلمكنَ لكاًلن يكرفلر "‬
‫‪+.[64‬وحمكللناًهي لعللىَ لذاً ر‬
‫للل‬
‫‪.[14‬‬
‫‪ -5‬إن قصة انتصار نوح وإهلك قومه أصبحت آية يعتبر بها‪،‬‬
‫وجعل الله لنوح لسان صدق في الخرين‪+:‬لوللقد تليلرككلناًلهاً آيلةح فليلهكل رمنَ ملدكرةر"‬
‫]القمر‪+ .[15 :‬ذيبريلةل لمكنَ لحلمكللناً لملع ينَوُةح إرنَلهي لكاًلن لعكبحداً لشيكوُحراً" ]السراء‪+ .[3 :‬لسللمر لعللىَ‬
‫صطللفىَ آلدلم لوينَوُححاً لوآلل رإبكيلراًرهيْلمُ لوآلل رعكملراًلن لعللىَ‬ ‫ر‬
‫ينَوُةح فيِ اًلكلعاًلرميْلنَ" ]الصافات‪+.[79 :‬إرلن اًلل اً ك‬
‫نَ" ]آل عمران‪.[33 :‬‬ ‫ر‬
‫اًلكلعاًلميْ ل‬
‫وهكذا تتضح حقيقة النصر من خلل قصة نوح عليه السلما‪..‬‬
‫إن قوما نوح لم يكن في زمانهم على وجه البسيطة إل هم‪ ،‬وقد‬
‫كفروا بالله‪ ،‬وتمردوا على رسوله‪ ،‬سوى فئة قليلة هي التي آمنت‬
‫به‪ ،‬فإن الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أهلك جميع من في الرض‪ ،‬يومئذ سوى‬
‫نوح ومن آمن معه‪ ،‬حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض‬
‫للزوال إن بقى هؤلء‪.‬‬
‫ضلموُاً رعلباًلدلك لولل يللريدواً إرلل لفاًرجحراً لكلفاًحراً" ]نوح‪.[27 :‬‬ ‫ك رإن تللذريهمُ ي ر‬
‫ك كي‬ ‫قال تعالى‪+:‬إرنَل ل‬
‫فأهلك هؤلء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون‬
‫الحق ويدافعون عنه‪ ،‬لقد أهلك الله تعالى أهل الكفر والطغيان‪،‬‬
‫ومكن لهل التوحيد واليمان‪ ,‬وأصبحوا على وجه البسيطة‬
‫موحدين محققين لمعاني العبادة في الحياة )‪.(1‬‬
‫قال تعالى‪+:‬ذيبريلةل لمكنَ لحلمكللناً لملع ينَوُةح" ]السراء‪ ،[13 :‬قال الماما الطبري‬
‫)‪ (2‬رحمه الله‪) :‬وذلك أن كل من على الرض من بنى آدما فهم من‬
‫ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة‪ ،‬قال قتادة )‪ :(3‬والناس‬
‫كلهم ذرية من أنجى الله من تلك السفينة‪ ،‬قال مجاهد )‪ :(4‬بنوه‬
‫ونساؤهم ونوح( )‪.(5‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬حقيقة الناتصار للدكتور نااصأر العمر ص )‪.(39 ،38‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو المام التهد أبو جعفر ممد بن جرير بن يزيد بن كثي بن غالب الآملى الطبي البغدادي‪ ،‬ولد سنة ‪224‬هـ‪ ,‬حفظ‬
‫القرآن ورحل ف طلب العلم وعمره ‪ 12‬سنة‪ ,‬ول يزلا طالببا للعلم مولبعا به إل أن مات‪ .‬واشتهر بالتفسي والفقه والتاريخ ت‬
‫‪310‬هـ اناظر‪ :‬سي أعلم البنلء )‪.(14/267‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هو قتادةر بن دعامة بن عزيز أبو الطاب السدوسى العمى الافظ الفسر‪ ،‬عال أهل البصرةر‪ ,‬مات بواسط سنة ‪117‬هـ ‪،‬‬
‫اناظر‪ :‬تذكرةر الفاظ )‪.(1/122‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو ماهد بن جب الكي أبو الجاج الخزومي القرئ الفسر الافظ مول السائب بن أب السائب‪ ،‬كان فقيبها وربعا عاببدا‪،‬‬
‫قالا ماهد‪ :‬عرضت القرآن على ابن عباس ثلثا عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نازلت وكيف كانات‪ ،‬توف سنة ‪103‬هـ‪.‬‬
‫اناظر‪ :‬طبقات الفاظ للسيوطي ‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪5‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي الطبي )‪.(215 /8‬‬

‫‪41‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ك اًلرذيلنَ ألنَكيلعلمُ اًلي لع لكيْرهمُ بملنَ اًلنلبريْبيْلنَ رمنَ ذيبريلرة آلدلم لورملمكنَ لحلمكللناً لملع‬
‫قال سبحانه‪+:‬يأولئر ل‬
‫]مريم‪.[58 :‬‬ ‫ينَوُةح"‬
‫إن التمكين الفعلي والنتصار العظيم والعزاز الكريم عندما‬
‫يتمكن منهج ربا العالمين من نفوس أهل اليمان‪ ،‬وإن كانوا قلة‪،‬‬
‫فالعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق‪ ،‬وإنما في‬
‫صفاء المنهج الرباني الذي يعتقده أولئك الفراد سواء أقلوا أما‬
‫كثروا‪ ،‬ولذلك فإن بضعة نفر أو يزيدون‪ ،‬ول يتجاوزون ثلثة عشر‬
‫دا يحملون معنى التوحيد‪ ،‬ويحققون معنى العبودية‪ ،‬يهلك أهل‬ ‫فر ل‬
‫الرض جميلعا حماية لهؤلء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه‪ ،‬ما داما‬
‫هناك خطر يهدد بزوالهم‪ ،‬ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه‪:‬‬
‫ضلموُاً رعلباًلدلك لولل يللريدواً إرلل لفاًرجحراً لكلفاًحراً" ]نوح‪.[27 :‬‬
‫ك رإن تللذريهمُ ي ر‬
‫ك كي‬ ‫‪+‬إرنَل ل‬
‫إن هلك الكافرين ونجاة المؤمنين‪ ،‬وسلمة المنهج الرباني‬
‫القائمين عليه وما بذلوه من الصبر والثبات على ذلك نوع من‬
‫أنواع التمكين التي يكرما الله بها من يشاء من عباده‪.‬‬
‫إن الله مكن لنوح عليه السلما ومن آمن به على وجه الرض‪،‬‬
‫فأمر السماء أن تقلع والماء أن يغيض في الرض‪ ,‬والسفينة أن‬
‫تستوي على جبل الجودي تمكيلنا لسفينة اليمان وأهلها )‪.(1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬حقيقة الناتظار‪ ،‬ص )‪.(40‬‬

‫‪42‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫قصة موسى ‪ ‬مع فرعون‬
‫ض لونَلكجلع ليهكمُ ألئرلمةح‬ ‫ضرعيفوُاً رفيِ اًللكر ر‬ ‫قال تعالى‪+:‬لونَيررييد لأن نَليملنَ لعللىَ اًلرذيلنَ اًكستي ك‬
‫يِ فركرلعكوُلن لولهاًلماًلن لويجينوُلديهلماً رم كنييهمُ لماً لكاًنَيوُاً يلكحلذرولن"‬ ‫لونَلكجلع ليهيمُ اًلكلوُاً ررثيْلنَ ‪ ‬لونَيلمبكلنَ ليهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ض لونَيرر ل‬
‫]القصص‪.[6 ،5 :‬‬
‫لقد تطاول فرعون وعل وأسرف في الرض وأذل بنى‬
‫وا واستكبالرا في‬
‫ما وعل ل‬
‫إسرائيل‪ ،‬فقتل الولد واستحيا النساء ظل ل‬
‫الرض‪ ،‬وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بنى‬
‫كا وولة ويجعلهم يرثون الرض من بعد‬ ‫إسرائيل ويجعلهم ملو ل‬
‫فرعون‪ ,‬ويمكن لهم بعد الذل والصغار‪ ,‬وينتقم من فرعون‬
‫وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على‬
‫رجل من بنى إسرائيل )‪.(1‬‬
‫وقال الماما ابن كثير )‪ (2‬في تفسيره‪) :‬لقد سلط على بنى‬
‫إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد )فرعون( يستعملهم في أخس‬
‫العمال‪ ،‬ويكدهم ليل ل ونهالرا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا‬
‫أبناءهم ويستحيى نساءهم إهانة لهم واحتقالرا لهم‪ ,‬وخولفا من أن‬
‫يوجد منهم الغلما الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون‬
‫سبب هلكه وذهابا دولته على يديه‪ ،‬وكانت القبط قد تلقوا هذا‬
‫من بنى إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل‬
‫عليه السلما حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى‬
‫حين أخذ سارة ليتخدها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته‬
‫وسلطانه‪ ،‬فبشر إبراهيم عليه السلما ولده أنه سيولد من صلبه‬
‫وذريته من يكون هلك مصر على يديه‪ ،‬فكانت القبط تحدث بهذا‬
‫عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بنى‬
‫إسرائيل‪ ،‬ولن ينفع حذر من قدر‪ ،‬لن أجل الله إذا جاء ل يؤخر‬
‫ولكل أجل كتابا‪.‬‬
‫أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من‬
‫ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي ل يخالف أمره القدري ول‬
‫يغلب‪ ،‬بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدما بأن يكون هلك‬
‫فرعون على يديه‪ ,‬بل يكون هذا الغلما الذي احترزت من وجوده‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي الطبي )‪.(29 ،11/28‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو الافظ الؤمرخ الفقيه الفسر إساعيل بن عمر بن كثي بن درع القرشي الدمشقي أبو الفداء‪ ،‬ولد سنة ‪701‬هـ‪ ,‬طلب العلم من‬
‫صأغره ورحل من أجله‪ ،‬توف ف دمشق سنة ‪774‬هـ‪ .‬اناظر‪ :‬شذرات الذهب )‪.(6/231‬‬

‫‪43‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وقتلت بسببه ألولفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه فراشك وفي‬


‫دارك‪ ,‬وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدللـه‪ ,‬وحتفك وهلكك‬
‫وهلك جنودك على يديه‪ ،‬لتعلم أن ربا السموات العل هو القاهر‬
‫الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان‬
‫وما لم‬
‫يشأ لم يكن( )‪.(1‬‬
‫وقال البيقاعى )‪ (2‬رحمه الله‪) :‬ونمكن أي نوقع التمكين لهم‬
‫في الرض أي كلها ل سيما أرض مصر والشاما‪ ،‬بإهلك أعدائهم‬
‫وتأييدهم بكليم الله‪ ،‬ثم النبياء من بعده عليهم الصلة والسلما‬
‫بحيث سلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من‬
‫الملئكة وتظهر لهم من الخوارق‪ ،‬ولما ذكر التمكين‪ ،‬ذكر أنه‬
‫ما بأنه أضخم تمكين( )‪.(3‬‬ ‫مع مغالبة الجبابرة إعل ل‬
‫وقال الشيخ محمد المين )‪ (4‬في تفسيره لهذه الية‪ ،‬قوله‬
‫ضرعيفوُاً" ]القصص‪ ،[5 :‬هو الكلمة في قوله‬ ‫تعالى‪+ :‬لونَيررييد لأن نَليملنَ لعللىَ اًلرذيلنَ اًكستي ك‬
‫ك اًلكيحكسلنىَ لعللىَ بلرنيِ إركسلراًرئيْلل" ]العراف‪ ،[137 :‬ولم يبين‬ ‫ت لرب ل‬ ‫ت لكلرلم ي‬ ‫تعالى‪+:‬لوتللم ك‬
‫هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إماما‪ ،‬أي قادة في الخير‬
‫ضا الشيء الذي‬ ‫دعاة إليه على أظهر القولين‪ ،‬ولم يبين هنا أي ل‬
‫جعلهم وارثيه‪ ،‬ولكنه بين جميع ذلك في غير هذا الموضع‪ ،‬فبين‬
‫السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى‪+ :‬لولجلعكللناً رم كنييهكمُ ألئرلمةح يليكهيدولن‬
‫صبلييرواً لولكاًنَيوُاً ربآِلياًترلناً ييوُقرينوُلن" ]السجدة‪ ،[24 :‬فالصبر واليقين‪ ،‬هما‬ ‫برألكمررلنَاً للماً ل‬
‫السبب في ذلك‪ ،‬وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين‪+ :‬فلألكخلركجلناًيهمُ‬
‫ت لوعيييْوُةن ‪ ‬لويكينوُةز لولملقاًةم لكرريةمُ ‪ ‬لكلذلر ل‬
‫ك لوألكولرثكيلناًلهاً بلرنيِ إركسلراًرئيْلل"]الشعراء‪.(5)[59 -57 :‬‬ ‫بمنَ جلناً ة‬
‫ل‬
‫قال محمد الطاهر بن عاشور )‪ (6‬رحمه الله‪) :‬إن الله وصف‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي ابن كثي )‪.(3/392‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو برهان الدين أبو السن إبراهيم بن عمر البيقاعى صأاحب ناظم الدرر ف تناسب اليات والسور‪ ،‬توف عام ‪885‬هـ ‪.‬‬
‫اناظر‪ :‬مقدمة تفسيه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسي البيقاعي )‪.(465 ،5/464‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو الشيخ ممد المي بن ممد الختار الشنقيطى اشتهر بعلم الصأولا والتفسي‪ ،‬درس ف جامعة الدينة والسجد النبوي‪،‬‬
‫توف عام ‪1393‬هـ‪ .‬اناظر‪ :‬أضواء البيان )‪.(99 -1/3‬‬
‫‪5‬‬
‫)( اناظر‪ :‬أضواء البيان )‪.(6/451‬‬
‫‪6‬‬
‫)( هو ممد الطاهر بن عاشور ولد بتوناس ‪ 1879‬هـ وكان من كبار علماء الزيتوناة له مؤملفات كثيةر من أشهرها التحرير والتنوير‬
‫ف التفسي‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ل على شدة تمكين الفساد من خلقه‪+‬إرنَلهي لكاًلن رملنَ‬


‫فا د ل‬
‫فرعون وص ل‬
‫اًلكيمكفرسرديلنَ" ]القصص‪ [4 :‬فحصل تأكيد لمعنى تمكن الفساد من‬
‫فرعون‪ ،‬لن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة‬


‫الشر من النفوس‪ ,‬وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط‬
‫على الناس‪ ,‬ومحاولة استعبادهم واستغللهم لتحقيق مصالح‬
‫شخصية‪ ,‬فالنحطاط الخلقي أضر شيء بالحياة النسانية‪.‬‬
‫إن الحضارة الربانية متكاملة‪ ,‬وقابلة للبناء في أي وقت كان‬
‫فيه التزاما بالمنهج الرباني وأحكامه‪ ,‬لن المنهج الرباني وأحكامه‬
‫فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلقية وعلمية‬
‫وإبداعية‪ ,‬وعناصر مادية تشمل التقدما العمراني والصناعي‬
‫والزراعي والتجاري‪ ,‬وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة‬
‫طا بجميع جوانب الحضارة ولذلك‬ ‫الفرد والمجتمع والدولة‪ ,‬مرتب ل‬
‫تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدما لصالح البشرية ولنشر‬
‫الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من‬
‫العقلية والخلق‪ ,‬والفكار الصحيحة‪ ,‬والتصورات السليمة قبل بناء‬
‫المباني وتجميل المدن‪ ,‬وصناعة السلحة‪.‬‬
‫وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها‪ ,‬من‬
‫الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس‬
‫الشريف‪ ,‬وإسعاد البشرية‪ ,‬وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل‬
‫مسئولياتها الحضارية‪.‬‬
‫إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه‬
‫تعطينا صورة مشرقة للنسان القوي المؤمن العالم‪ ,‬الذي يسخر‬
‫كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز‬
‫شرع الله وتمكين دينه وخدمة النسانية وإعلء كلمة الله‪ ,‬وإخراج‬
‫الناس من الظلمات إلى النور‪ ,‬ومن عبادة الناس والمادة إلى‬
‫عبادة الله)‪ ,(1‬ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلة والسلما والخلفاء‬
‫الراشدون من بعده‪ ,‬على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن‬
‫الكريم‪ ,‬ولقد طبقوا قول الله تعالى‪+:‬اًلرذيلنَ رإن لملكلناًيهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ض أللقاًيموُاً‬
‫ل لعاًقربلةي اًلييموُر" ]الحج‪:‬‬ ‫ر‬
‫ف ونَليلهوُاً لعرنَ اًلكمكنلكرر و ر‬
‫ل‬ ‫ي‬ ‫صلللة لوآتلييوُاً اًللزلكاًلة لوأللميرواً رباًلكلمكعيرو ل ك‬
‫اًل ل‬
‫‪.[41‬‬
‫إن اليمان الراسخ‪ ,‬والعمل الصالح‪ ,‬والسيرة الفاضلة‪,‬‬
‫والمقاصد الخيرة‪ ,‬والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخداما كل ما‬
‫أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة‬
‫الصحيحة‪ ,‬والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلق ربانية تسعد من‬
‫دخل في منهجها في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ذو القرناي القائد الفاتح لمد خأي رمضان‪ ,‬ص ‪.390‬‬

‫‪46‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫إن الحضارة النسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين السلما‪,‬‬


‫وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها‪» :‬تفاعل النشطة‬
‫النسانية للجماعة الموحدة لخلفة الله في الرض عبر الزمن‪,‬‬
‫وضمن المفاهيم السلمية عن الحياة والكون والنسان«)‪.(1‬‬
‫وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية‬
‫المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ‪ ,‬عبر النبياء والرسل‬
‫والمؤمنين بهم‪ ,‬حتى الحلقة الوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر‬
‫النبي × وما تبعه من تفاعلت وأحداث‪.‬‬
‫وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية‪ ,‬التي تضم‬
‫بين أرجائها تفاعلت المم والشعوبا المندرجة تحت شرع الله‬
‫تعالى‪ ,‬وتقبل في عضويتها العالم بأسره‪ ,‬أسوده وأصفره وأبيضه‬
‫وفق المنهج الرباني وأحكامه‪.‬‬
‫وتسعى لخدمة النسان وإسعاده‪ ,‬ليكون مع سائر الكوان‬
‫المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله‬
‫تعالى‪ ,‬وفي تسبيح أصيل للخلق العليم خالق الوجود كله)‪ ,(2‬قال‬
‫ة ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ح‬ ‫ض لولمنَ فيْرهلنَ لوإن بمنَ لشكيِء إلل يي ل‬
‫سب ي‬ ‫سكبيع لواًللكر ي‬ ‫ت اًل ل‬
‫سلماًلواً ي‬
‫ح لهي اًل ل‬‫سب ي‬
‫تعالى‪+ :‬تي ل‬
‫حرليْحماً غليفوُحراً" ]السراء‪.[44 :‬‬ ‫رر ر‬
‫برلحكمده لولكنَ لل تليكفلقيهوُلن تلكسربيْلحيهكمُ إرنَلهي لكاًلن ل‬
‫ساًلن لرفيِ يخكسةر‬ ‫ر‬
‫صرر ‪ ‬إلن اًرلنَك ل‬ ‫إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى‪+ :‬لواًلكلع ك‬
‫ر‬ ‫‪ ‬إرلل اًلرذينَ آمنيوُاً ولعرمليوُاً اًل ل ر ر‬
‫صكبرر" ]العصر‪.[3-1:‬‬ ‫صكوُاً رباًلكلحبق لوتليلوُاً ل‬
‫صكوُاً باًل ل‬ ‫صاًللحاًت لوتليلوُاً ل‬ ‫ل ل ل‬
‫لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها‬
‫وعناصرها‪ ,‬فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل‪:‬‬
‫النسان‪ ,‬التجمع‪ ,‬صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات‬
‫‪ -‬الزمن‪ -‬الصبغة‪ ,‬كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل‬
‫والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم‪.‬‬
‫إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في‬
‫حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار)‪.(3‬‬
‫إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس‬
‫عقدية وأخلق ربانية‪ ,‬وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت‪ :‬وترك لنا‬
‫‪1‬‬
‫)( )‪ (2‬السلم والضارةر للندوةر العالية للشباب )‪.(1/490‬‬
‫‪3‬‬
‫‪2‬‬

‫)( السلم والضارةر للندوةر العالية للشباب )‪.(1/491‬‬

‫‪47‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوبا وتحريكها باليمان‬


‫والعلم والعمل والعدل والصلح والتعمير‪.‬‬
‫با‪ -‬الدروس والعبر والحكم‪:‬‬
‫إن قصة ذي القرنين مليئة باليات والعبر والحكاما والدابا‬
‫والثمرات والفوائد‪.‬‬
‫نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -1‬العتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض‪ ,‬ورزقه‬
‫كا ومال ل لما له من خفي الحكم وباهر‬ ‫من يشاء بغير حسابا مل ل‬
‫القدرة‪ ,‬فل إله سواه‪.‬‬
‫‪ -2‬الشارة إلى القياما بالسبابا‪ ,‬والجري وراء سنة الله في‬
‫الكون من الجد والعمل‪ ,‬وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر‪,‬‬
‫فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الرض إلى‬
‫مغربا الشمس‪ ,‬ومطلعها وشمالها وعدما فتوره‪ ,‬ووجدانه اللذة‬
‫في مواصلة السفار وتجشم الخطار‪ ,‬وركوبا الوعار والبحار ثم‬
‫إحرازه ذلك الفخار‪ ,‬الذي ل يشق له غبار‪ ,‬أكبر عبرة لولي‬
‫البصار‪.‬‬
‫‪ -3‬ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق‪ ,‬وأنه متى ما تيسرت‬
‫السبابا‪ ,‬فل ينبغي أن يعد ركوبا البحر ول اجتياز القفر‪ ,‬عذلرا في‬
‫الخمول‪ ,‬والرضاء بالدون‪ ,‬بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته‬
‫حلوة عقباه من الراحة والهناء‪.‬‬
‫‪ -4‬وجوبا المبادرة إلى معالي المور‪.‬‬
‫‪ -5‬إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم‪ ,‬فل ينبغي له أن‬
‫تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الذلل‪ ,‬وتجريعهم غصص‬
‫الستعباد والنكال‪ ,‬بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر‬
‫إساءته‪.‬‬
‫‪ -6‬إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين‪ ,‬أن يبذل‬
‫عا عن الوطن العزيز‪ ,‬وصيانة للحرية‬ ‫وسعه في الراحة والمن دفا ل‬
‫ما بفريضة دفع‬‫والتمدن من مخالب التوحش والخرابا‪ ,‬قيا ل‬
‫المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين‪.‬‬
‫‪ -7‬إن على الملك التعفف عن أموال رعيته‪ ,‬والزهد في أخذ‬
‫أجر في مقابل عمل يأتيه‪ ,‬ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف‬
‫بمحبته‪.‬‬
‫‪ -8‬التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقاما‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫البابا الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -9‬تدعيم السوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس‬


‫علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة‪ ,‬لتنتفع به الجيال على مر‬
‫العصور وكر الدهور‪.‬‬
‫‪ -10‬مشاركة الحاكم العمال في العمال‪ ,‬والشراف بنفسه‬
‫إذا تطلب المر‪ ,‬لكي تنشط الهمم‪.‬‬
‫‪ -11‬تذكير الغير وتعريفهم ثمار العمال المهمة لكي‬
‫يستشعروا رحمة الله تعالى‪.‬‬
‫‪ -12‬استحضار القدوما على الله‪ ,‬واستشعار زوال هذه الدنيا‬
‫والتطلع إلى ما عند الله‪.‬‬
‫‪ -13‬العتبار بتخليد جميل الثناء‪ ,‬وجليل الثار‪ ,‬حيث نجد أن‬
‫اليات الكريمة أوضحت أخلق ذي القرنين الكريمة من شجاعة‬
‫وعفة وعدل وحرص على توطيد المن والحسان للمحسنين‬
‫ومعاقبة الظالمين‪.‬‬
‫ما متباينة‪ ,‬كما كان‬
‫‪ -14‬الهتماما بتوحيد الكلمة لمن يملك أم ل‬
‫يرمي إليه سعي ذي القرنين‪ ,‬فإنه دأبا على توحيد الكلمة بين‬
‫الشعوبا ومزج تلك المم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني‬
‫والشرع السماوي)‪.(1‬‬
‫وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص‬
‫القرآني الكريم‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي المام القاسي )‪.(90-11/87‬‬

‫‪49‬‬
‫شــــــــروط‬
‫التمكــــين‬
‫وأسبابـــــــه‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫‪51‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫إن الستخلف في الرض‪ ,‬والتمكين لدين الله‪ ,‬وإبدال الخوف‬
‫أملنا‪ ,‬وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه‪ .‬ولقد‬
‫أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين‪ ,‬ولوازما‬
‫الستمرار فيه‪.‬‬
‫ت ليْلكستلكخلرلفنلييهكمُ رفيِ‬ ‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬لولعلد اًلي اًلذيلنَ آلمنيوُاً مكنيككمُ لولعمليوُاً اًل ل ل‬
‫ضىَ ليهكمُ‬ ‫ف اًلرذيلنَ رمنَ قليكبلررهكمُ لوليْيلمبكنللنَ ليهكمُ ردينلييهيمُ اًلرذيِ اًكرتل ل‬‫ض لكلماً اًكستلكخ ل ل‬ ‫اًللكر ر‬
‫ك‬‫لوليْيبلبدلنلييهمُ بمنَ بليكعرد لخكوُفررهكمُ ألكمحناً يليكعبييدونَلرنيِ لل ييكشرريكوُلن ربيِ لشكيْحئاً لولمنَ لكلفلر بليكعلد لذلر ل‬
‫صلللة لوآتيوُاً اًللزلكاًلة لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل للع ليككمُ تييكرلحيموُلن"‬ ‫ك يهيمُ اًلكلفاًرسيقوُلن ‪ ‬لوألرقيْيموُاً اًل ل‬
‫فليأولئر ل‬
‫]النور‪.[56،55:‬‬
‫لقد أشارت اليات الكريمة إلى شروط التمكين وهي‪ :‬اليمان‬
‫بكل معانيه وبكل أركانه‪ ,‬وممارسة العمل الصالح‪ ,‬بكل أنواعه‪,‬‬
‫والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر‪ ,‬وتحقيق العبودية‬
‫الشاملة‪ ,‬ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه‪ ,‬وأما‬
‫لوازما استمرار التمكين فهي‪ :‬إقامة الصلة‪ ,‬وإيتاء الزكاة‪ ,‬وطاعة‬
‫الرسول ×‪.‬‬
‫وأما ما يتعلق بأسبابا التمكين‪ ,‬فقد أمر الله تعالى بالعداد‬
‫الشامل في قوله تعالى‪+ :‬لوألرعمدواً ليهكمُ لماً اًكستلطلكعيتمُ بمنَ قييلوُةة لورمنَ برلباًرط‬
‫خكيْرل" ]النفال‪.[60:‬‬
‫اًلك ل‬
‫والعداد في حقيقته أخذ بالسبابا‪ ,‬فالعداد المطلوبا من‬
‫خلل مفهوما الية إعداد شامل؛ لن كلمة قوة جاءت نكرة في‬
‫سياق المر‪ ,‬فيشمل قوة العقيدة واليمان‪ ,‬وقوة الصف والتلحم‪,‬‬
‫وقوة السلح والساعد‪.‬‬
‫إن الية الكريمة تفتح أذهان المسلمين على العداد‬
‫الشامل؛ المعنوي والمادي‪ ,‬العلمي والفقهي على مستوى‬
‫الفراد والجماعات‪ ,‬وتدخل في طياتها‬
‫العداد التربوي والسلوكي والعداد المالي‪ ,‬والعلمي‬
‫والسياسي والمني‪,‬‬
‫والعسكري‪ ....‬إلخ‪.‬‬
‫وفي هذا البابا سنتعرض لبيان شروط التمكين في فصل‬
‫مستقل وبيان أسبابه في فصل آخر بإذن الله تعالى‪ ,‬لكي يستفيد‬
‫منها المسلمون في حركتهم الجادة لتمكين شرع الله في الرض‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫الفصل الول‬
‫شــــــــــروط التمكـــــــــين‬
‫المبحث الول‬
‫اليمان بالله والعمل الصالح‬
‫لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة اليمان الذي يقبل الله به‬
‫العمال ويتحقق به وعد الله للمؤمنين‪.‬‬
‫فمن شروط الستخلف في الرض تحقيق اليمان بكل معانيه‬
‫واللتزاما بشروطه والبتعاد عن نواقضه‪.‬‬
‫وقد فصل القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع اليمان‬
‫وأركانه وشروطه ولوازمه‪.‬‬
‫وقد بين علماء أهل السنة في تعاريفهم بيان حقيقة اليمان‬
‫فقالوا‪ :‬بأن اليمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين‬
‫والعمل بالجوارح والركان‪ ,‬أي هو‪ :‬اعتقاد وقول وعمل‪ ,‬فهذه‬
‫الثلثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته‪.‬‬
‫وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة‪,‬‬
‫واستدلوا بأدلة كثيرة من اليات القرآنية والحاديث النبوية على‬
‫صحة هذا القول في حقيقة اليمان)‪.(1‬‬
‫ت‬‫ت قيييلوُبيييهكمُ لوإرلذاً تيلريْل ك‬‫قال تعالى‪+ :‬إرنَللماً اًلكيمكؤرمينوُلن اًلرذيلنَ إرلذاً ذيكرلر اًلي لورج ل ك‬
‫صللةل لورملماً لرلزقكيلناًيهكمُ‬ ‫لع لكيْرهكمُ آلياًتيهي لزاًلدتكييهكمُ رإيلماًحنَاً لولعللىَ لربرهكمُ يليتليلوُلكيلوُلن ‪ ‬اًلرذيلنَ ييرقيْيموُلن اًل ل‬
‫حققاً" ]النفال‪.[4-2 :‬‬ ‫ر‬ ‫يييكنرفيقوُلن ‪ ‬يأولئر ل‬
‫ك يهيمُ اًلكيمكؤمينوُلن ل‬
‫فقد جمعت هذه اليات ‪-‬وهي تعرض صفات المؤمنين‪ -‬بين‬
‫عمل القلب وعمل الجوارح‪ ,‬واعتبرت هذا كله إيمالنا‪ ,‬وقصرت‬
‫اليمان عليه بأداة القصر والحصر ‪+‬إرنَللماً" وعرفت المؤمنين بتلك‬
‫ك يهيمُ اًلكيمكؤرمينوُلن لحققاً"‬
‫الصفات مجتمعة‪ ,‬عندما ضمنتها بعبارة ‪+‬يأولئر ل‬
‫وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي‪ :‬إقامة الصلة والنفاق في‬
‫سبيل الله‪.‬‬
‫ومنها قوله تعالى‪+ :‬إرنَللماً يييكؤرمينَ ربآِلياًترلناً اًلرذيلنَ إرلذاً ذيبكيرواً برلهاً لخمرواً يسلجحداً‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ف ظللا اليإان للخالدي‪ ,‬ص ‪.23‬‬

‫‪53‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لولسبليحوُاً برلحكمرد لربرهكمُ لويهكمُ لل يلكستلككبريرولن" ]السجدة‪ ,[15:‬فسجود المؤمنين‬


‫كرون بآيات الله‪ ,‬عبادة عملية بدنية‪ ,‬وتسبيحهم بحمد‬ ‫عندما يذ ز‬
‫ربهم عبادة عملية لسانية‪ ,‬وعدما استكبارهم عبادة عملية سلوكية‬
‫أخلقية قلبية‪ ..‬وهذه كلها أعمال مندرجة في حقيقة اليمان‪.‬‬
‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫صلللة‬‫ت لوأللقاًيموُاً اًل ل‬ ‫ومنها قوله تعالى‪+ :‬إرلن اًلذيلنَ آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل ل‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫ف لعلكيْرهكمُ لولل يهكمُ يلكحلزينَوُ ل‬ ‫لوآتلييوُاً اًللزلكاًلة ليهكمُ ألكجيريهكمُ رعكنلد لربرهكمُ لولل لخكوُ ر‬
‫‪ ,[277‬فمن حقيقة اليمان في الية عمل الصالحات على عمومها‪,‬‬
‫وخصصت اثنتين منها بالذكر وهما الصلة والزكاة‪ ,‬واعتبرت‬
‫أداءهما عملليا من اليمان‪.‬‬
‫إن آيات القرآن التي قرنت بين اليمان وعمل الصالحات‬
‫واعتبرت المرين من حقيقة اليمان ومن صفات المؤمنين كثيرة‪,‬‬
‫ك يلكديخيلوُلن اًلكلجنلةل لولل‬ ‫صاًلرححاً فليأولئر ل‬
‫ب لوآلملنَ لولعرملل ل‬ ‫منها قوله تعالى‪+ :‬إرلل لمنَ لتاً ل‬
‫شكيْحئاً" ]مريم‪.[60:‬‬ ‫ييظك ليموُلن ل‬
‫ف‬‫ضكع ر‬
‫ك ليهكمُ لجلزاًءي اًل ب‬ ‫صاًلرححاً فليأولئر ل‬
‫وفي قوله تعالى‪+ :‬إرلل لمكنَ آلملنَ لولعرملل ل‬
‫ت آرمينوُلن" ]سبأ‪ .[37 :‬وكقوله تعالى‪+ :‬إرلن اًلرذيلنَ‬ ‫برماً لعرمليوُاً ويهمُ رفيِ اًلكغيرلفاً ر‬
‫ي‬ ‫ل ك‬ ‫ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫نَ لعلملح" ]الكهف‪.[30:‬‬ ‫صاًللحاًت إلنَاً لل نَيضيْيع ألكجلر لمكنَ ألكح ل‬
‫سل‬ ‫آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل‬
‫هذا وقد أطلق القرآن لفظ )اليمان( على العمل في بعض‬
‫ب‬
‫ك لجلعكللناًيككمُ أيلمةح لولسحطاً لتليكوُنَيوُاً يشلهلداًءل‬ ‫اليات ومن ذلك قوله تعالى‪+ :‬لولكلذلر ل‬
‫ت لع لكليْيلهاً إرلل‬ ‫س لويليكوُلن اًللريسوُيل لع لكيْيككمُ لشرهيْحداً لولماً لجلعكللناً اًلك ر كقبي لةل اًلرتيِ يكن ل‬ ‫لعللىَ اًللناً ر‬
‫ت للكربيْلرحة إرلل لعللىَ اًلرذيلنَ‬ ‫ب لعللىَ لعرقبليكيْره لورإن لكاًنَل ك‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫لنليكع للمُ لمنَ يليتلبيع اًللريسوُلل ملمنَ يلي كنيلقل ي‬
‫ف لررحيْرمُ" ]البقرة‪:‬‬ ‫س للريؤو ر‬ ‫ضيْلع رإيلماًنَليككمُ إرلن اًلل رباًللناً ر‬ ‫لهلدىَ اًل وماً لكاًلن اًل لريْ ر‬
‫ي ي‬ ‫ي لل‬
‫‪ ,[143‬واليمان هنا يراد به الصلة‪ ,‬وقد ذهب جمهور المفسرين‬
‫إلى هذا‪ ,‬بل إن الصحابة فهموا هذا وتضافرت الروايات عنهم في‬
‫سبب نزول الية‪.‬‬
‫روى إماما المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة‪,‬‬
‫قال‪) :‬كانت القبلة فيها بلء وتمحيص‪ ,‬صلت النصار نحو بيت‬
‫المقدس حولين قبل قدوما نهي نبي الله ×‪ ,‬وصلى نبي الله ×‬
‫بعد قدومه المدينة مهاجلرا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهلرا‪..‬‬
‫ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحراما‪ ..‬فقال في‬
‫ذلك قائلون من الناس‪ :‬ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‪ ,‬لقد‬

‫‪54‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ر‬
‫اشتاق الرجل إلى مولده‪ ,‬قال الله عز وجل‪+ :‬يقل ل اًلكلمكشرريق لواًلكلمغكرر ي‬
‫ب‬
‫صرفت‬ ‫صلراًةط مكستلرقيْةمُ" ]البقرة‪ ,[142:‬فقال أناس ‪-‬لما ع‬ ‫شاًء إرللىَ ر‬ ‫ر‬
‫يليكهديِ لمنَ يل ل ي‬
‫القبلة نحو البيت الحراما‪ :-‬كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا‬
‫ضيْلع رإيلماًنَليككمُ" ]البقرة‪ ,[143:‬ثم أورد‬ ‫الولى؟ فأنزل الله‪+ :‬وماً لكاًلن اًل لريْ ر‬
‫ي ي‬ ‫لل‬
‫الماما الطبري إحدى عشرة رواية عن الصحابة والتابعين في أن‬
‫المراد باليمان في الية الصلة‪ ,‬وأنها نزلت جوالبا على تساؤل لبعض‬
‫الصحابة عن مصير الصلة التي صلوها إلى بيت المقدس‪ ,‬وتساؤل‬
‫آخرين منهم عن مصير صلة إخوانهم إلى بيت المقدس الذين ماتوا‬
‫قبل تحويل القبلة إلى الكعبة)‪.(1‬‬
‫ضيْلع رإيلماًنَليككمُ" على ما تضافرت به‬ ‫فمعنى قوله‪+ :‬وماً لكاًلن اًل لريْ ر‬
‫ي ي‬ ‫لل‬
‫الرواية من أنه الصلة‪ ,‬وما كان الله ليضيع تصديق رسول الله ×‬
‫بصلتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره‪ ,‬لن ذلك كان‬
‫عا لمري‪ ,‬وطاعة منكم لي( )‪.(2‬‬ ‫منكم تصديلقا لرسولي‪ ,‬واتبا ل‬
‫وقد التفت الماما الطبري إلى الربط بين اليمان والصلة‪ ,‬ولحظ‬
‫وجود التصديق في ممارسة الصلة والتوجه فيها إلى بيت المقدس‬
‫ثم إلى الكعبة المشرفة‪ ,‬وهذه اللفتة من الطبري لطيفة‪ ,‬وهذا الربط‬
‫منه رائع‪ ,‬يشير إلى موهبته الفذة في التفسير واللغة وغيرهما)‪.(3‬‬
‫ومن اليات التي أطلقت كلمة اليمان على العمال قوله‬
‫ت يليكهرديرهكمُ لربمييهكمُ بررإيلماًنَررهكمُ تلكجرريِ رمنَ‬‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫تعالى‪+ :‬إرلن اًلذيلنَ آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل ل‬
‫ت اًلنلرعيْرمُ" ]يونس‪.[9:‬‬ ‫تلكحتررهمُ اًلنَكيلهاًر رفيِ جلناً ر‬
‫ل‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد باليمان هنا‬
‫العمال التي كانوا يعملونها في الدنيا‪ ..‬وقد أورد الماما الطبري‬
‫أقوال مجموعة من التابعين في هذا المعنى‪ ,‬منها قول ابن جريج‪:‬‬
‫)يهديهم ربهم بإيمانهم قال‪ :‬يمثل له عمله في صورة حسنة وريح‬
‫طيبة‪ ,‬يعارض صاحبه ويبشره بكل خير‪ ,‬فيقول له‪ :‬من أنت؟‬
‫فيقول‪ :‬أنا عملك! فيجعل له نولرا من بين يديه حتى يدخله الجنة‪,‬‬
‫فذلك قوله‪+ :‬يليكهرديرهكمُ لربمييهكمُ بررإيلماًنَررهكمُ" والكافر يمثل له عمله في صورة‬
‫سيئة وريح منتنة‪ ,‬فيلزما صاحبه ويلزمه حتى يقذفه في النار( )‪.(4‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي الطبي )‪.(169-3/167‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(3/169‬‬
‫‪3‬‬
‫)( ف ظللا اليإان‪ ,‬د‪ .‬الالدي‪ ,‬ص ‪.26‬‬
‫‪4‬‬
‫)( تفسي الطبي )‪.(15/28‬‬

‫‪55‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهناك آيات أخرى أطلقت على اليمان عبارات أخرى تشير إلى‬
‫العمل وتتضمنه‪ ,‬أورد الماما البخاري في صحيحه بعضها‪.‬‬
‫ككمُ" ]الفرقان‪.[77:‬‬ ‫منها قوله تعالى‪+ :‬قيكل لماً يليكعبلأي بريككمُ لرببيِ لكوُلل يدلعاًيؤي‬
‫قال البخاري‪) :‬دعاؤكم‪ :‬إيمانكم‪ ...‬ومعنى الدعاء في اللغة‪:‬‬
‫)اليمان(‪.‬‬
‫وجعل ابن عباس رضي الله عنهما الدعاء بمعنى اليمان قال‪) :‬لول‬
‫دعاؤكم‪ :‬إيمانكم( )‪.(1‬‬
‫س اًلكبرلر لأن تييلوُلموُاً يويجوُلهيككمُ قربللل‬ ‫اليات قوله تعالى‪+ :‬لكيْ رل‬ ‫ومن هذه‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ب لولكلنَ اًلكبلر لمكنَ آلملنَ باًل لواًكليْليكوُم اًللخرر لواًلكلمللئلكة لواًلككلتاًب لواًلنلببيْيْلنَ‬‫ر‬ ‫ر‬ ‫اًلكلمكشرررق لواًلكلمغكرر ر‬
‫ساًئررليْلنَ لورفيِ‬ ‫ساًركيْلنَ لواًبكلنَ اًل ل‬
‫سربيْرل لواًل ل‬ ‫ر‬
‫لوآلتىَ اًلكلماًلل لعللىَ يحبه لذرويِ اًلكيقكرلبىَ لواًلكيْللتاًلمىَ لواًلكلم ل‬
‫صاًبررريلنَ رفيِ اًلكبلأكلساًرء‬‫صلللة لوآلتىَ اًللزلكاًلة لواًلكيموُيفوُلن برلعكهردرهكمُ إرلذاً لعاًلهيدواً لواًل ل‬ ‫ب لوأللقاًلم اًل ل‬ ‫اًلبرلقاً ر‬
‫ك يهيمُ اًلكيمتلييقوُلن" ]البقرة‪.[177 :‬‬ ‫صلدقيوُاً لويأولئر ل‬ ‫س يأولئر ل ر‬
‫ك اًلذيلنَ ل‬ ‫ضلراًرء لورحيْلنَ اًلكبلأك ر‬‫لواًل ل‬
‫قا وإيمالنا‪ ,‬وجعلت أعمال البر‬ ‫فالية اعتبرت هذه الخصال تصدي ل‬
‫هذه من اليمان‪ .‬ووجه الدللة من الية ما فسره رسول الله ×‬
‫حيث روى عبد الرزاق)‪ (2‬وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه‬
‫س اًلكبرلر‬
‫أنه سأل رسول الله × عن اليمان فتل عليه هذه الية ‪ +‬لكيْ ل‬
‫لأن تييلوُلموُاً يويجوُلهيككمُ‪ " .....‬إلى آخرها‪ ..‬والحديث رجاله ثقات)‪.(3‬‬
‫ومن فقه الماما البخاري وفطنته ‪-‬وهو البصير في الحديث‬
‫والتفسير‪ -‬أنه جعل هذه الية وما فيها من خصال البر من أمور‬
‫اليمان‪ ,‬وضمن بابا أسماه »بابا أمور اليمان« وقرنها مع اليات‬
‫الولى من سورة »المؤمنون« التي تتحدث عن صفات المؤمنين‪,‬‬
‫ومع الحديث الذي يقرر أن اليمان بضع وستون شعبة)‪.(4‬‬
‫ومن هذه اليات‪ :‬ثلث آيات أوردها الماما البخاري في صحيحه‬
‫ضمن بابا‪» :‬من قال إن اليمان هو العمل« وهي قوله تعالى‪:‬‬
‫ك اًلكلجنلةي اًلرتيِ يأورثكيتييموُلهاً برلماً يككنتيكمُ تليكعلميلوُلن" ]الزخرف‪ [72 :‬قال ابن حجر‬
‫‪+‬لوتركل ل‬

‫‪1‬‬
‫)( صأحيح البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب دعاؤكم إيإاناكم )‪.(1/9‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو المام العلمة الافظ عبد الرزاق بن هام الصنعان‪ ,‬صأاحب الصنف‪ ,‬رحل الئمة إليه‪ ,‬من اليمن‪ ,‬وله أوهام مغمورةر ف‬
‫سعة علمه‪ ,‬توف ‪211‬هـ‪ ,‬العب )‪.(1/283‬‬
‫‪3‬‬
‫)( فتح الباري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب أمور اليإان )‪.(1/74‬‬
‫‪4‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(1/74‬‬

‫‪56‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫في الفتح‪» :‬وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا ‪+‬تليكعلميلوُلن"‬


‫ك لنلكسأللنلييهكمُ ألكجلمرعيْلنَ ‪ ‬لعلماً‬
‫معناه‪ :‬تؤمنون« والثانية قوله تعالى‪+ :‬فليلوُلرب ل‬
‫)‪(1‬‬

‫ن" ]الحجر‪.[93،92:‬‬
‫لكاًنَيوُاً يليكعلميلوُ ل‬
‫قال البخاري عن‪» :‬ل إله إل الله« قال ابن حجر في الشرح‪:‬‬
‫يدخل فيها المسلم والكافر‪ ,‬فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بل‬
‫خلف‪ ,‬بخلف باقي العمال ففيها الخلف‪ ..‬فالسؤال عن التوحيد‬
‫متفق عليه‪ ,‬فهذا هو دليل التخصيص‪ ,‬وحمل الية عليه أولى‪,‬‬
‫بخلف الحمل على جميع العمال لما فيه من الختلف)‪.(2‬‬
‫من هذه اليات التي أوردناها يتبين لنا أن اليمان في القرآن‬
‫عا‬
‫شامل للعتقاد وللنطق وللعمل‪ ,‬ولبد من القول بهذا اتبا ل‬
‫للقرآن الكريم‪ ,‬الذي يجب أن تؤخذ منه القوال والراء‪ ,‬وأن‬
‫يعتمد عليه في الستدلل والستنباط‪ ,‬وأن يدخله المتأمل‬
‫والباحث دون مقررات مسبقة‪ ..‬فما قرره القرآن قبل‪ ,‬وما عرضه‬
‫أخذ به‪ ,‬وما قال به لزما المؤمنين القول به‪ ..‬وإليك أخي القارئ‬
‫طائفة من أحاديث رسول الله × التي اعتبرت اليمان شامل ل‬
‫للقول والعمل والعتقاد‪ :‬روى الماما البخاري في صحيحه عن أبي‬
‫هريرة رضي الله عنه عن النبي × قال‪» :‬اليمان بضع وستون‬
‫شعبة‪ ..‬والحياء شعبة من اليمان« )‪.(3‬‬
‫وفي رواية للماما مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن‬
‫النبي × قال‪» :‬اليمان بضع وسبعون شعبة‪ ,‬أفضلها قول ل إله إل‬
‫الله‪ ,‬وأدناها إماطة الذى عن الطريق‪ ..‬والحياء شعبة من‬
‫اليمان‪ (4) «..‬والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله ×‪,‬‬
‫فالشهادة قول وإماطة الذى عن الطريق عمل‪ ,‬والحياء خلق‬
‫وسلوك‪ ,‬وجعل الثلثة من اليمان دليل على حقيقته‪ ,‬ومعظم‬
‫شعب اليمان هي أعمال)‪.(5‬‬
‫وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي‬
‫× قال‪» :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه«)‪.(6‬‬

‫‪1‬‬
‫)( فتح الباري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬من قالا إن اليإان هو العمل )‪.(1/109‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(1/110‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬أمور اليإان )‪ (1/10‬رقم ‪.9‬‬
‫‪4‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬بيان عدد شعب اليإان )‪ (1/63‬رقم ‪.57‬‬
‫‪5‬‬
‫)( ف ظللا اليإان‪ ,‬ص ‪.30‬‬

‫‪57‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وروى البخاري عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي‬


‫× قال‪» :‬والذي نفسي بيده ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه‬
‫من والده وولده والناس أجمعين« )‪.(1‬‬
‫وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله‬
‫× سئل أي العمل أفضل؟ قال‪» :‬إيمان بالله ورسوله«‪ ,‬قيل‪ :‬ثم‬
‫ماذا؟ قال‪» :‬الجهاد في سبيل الله«‪ ,‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪» :‬حج‬
‫مبرور«)‪.(2‬‬
‫وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله‬
‫× أمر وفد عبد القيس عندما قدموا عليه باليمان بالله وحده‪.‬‬
‫قال‪» :‬هل تدرون ما اليمان؟« قالوا‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ .‬قال‪:‬‬
‫دا رسول الله‪ ,‬وإقاما الصلة‬ ‫»شهادة أن ل إله إل الله‪ ,‬وأن محم ل‬
‫سا من المغنم«)‪.(3‬‬‫ل‬ ‫خم‬ ‫تؤدوا‬ ‫وإيتاء الزكاة‪ ,‬وصوما رمضان‪ ,‬وأن‬
‫هذه الحاديث وغيرها من الحاديث تجعلها شاملة للعتقاد‬
‫والعمل‪ ,‬وأما أقوال السلف فقد تواترت في بيان حقيقة اليمان‪.‬‬
‫قال شارح الطحاوية‪» :‬ذهب مالك والشافعي وأحمد‬
‫والوزاعي)‪ (4‬وإسحاق)‪ (5‬بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل‬
‫المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين‪ :‬إلى أنه‬
‫تصديق بالجنان‪ ,‬وإقرار باللسان‪ ,‬وعمل بالركان«)‪.(6‬‬
‫وقال الماما سهل بن عبد الله التستري)‪» :(7‬اليمان‪ :‬قول‬
‫وعمل ونية وسنة‪ ..‬لن اليمان إذا كان قول ل بل عمل فهو كفر‪,‬‬
‫وإذا كان قول ل وعمل ل بل نية فهو نفاق‪ .‬وإذا كان قول ل وعمل ل ونية‬

‫‪6‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬من اليإان أن يب لخأيه )‪ (1/11‬رقم ‪.13‬‬
‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬حب الرسولا × من اليإان )‪ (1/11‬رقم ‪.14‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪+ :‬فلرإن لتاًبيوُاً لوأللقاًيموُاً اًل ل‬
‫صلللة" )‪ (1/14‬رقم ‪.26‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬أداء المس من اليإان )‪ (1/23‬رقم ‪.53‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو المام العابد الجة الثقة عبد الرحن بن عمر الوزاعي الفقيه‪ ,‬روى عن خألق كثي من التابعي‪ ,‬وكان رأبسا ف العلم‬
‫والعمل والتباع‪ ,‬باربعا ف الكتابة‪ ,‬كان يكثر من الصلةر والعبادةر وقيام الليل‪ ,‬توف ف بيوت عام ‪158‬هـ‪ ,‬تذيب التهذيب )‬
‫‪ ,(6/238‬شذرات الذهب )‪.(1/341‬‬
‫‪5‬‬
‫)( هو إمام الشرق إسحاق بن إبراهيم الروزي ث النيسابوري الافظ ابن راهويه‪ ,‬عال خأراسان والعراق ف عصره‪ ,‬توف سنة‬
‫‪238‬هـ‪ ,‬حلية الولياء ‪.9/234‬‬
‫‪6‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الطحاوية‪ ,‬ص ‪.373‬‬
‫‪7‬‬
‫)( من الزهاد الكبار والعباد الشهورين اشتهر بالتصوف السن وبالكم الميلة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫بل سنة فهو بدعة«)‪.(1‬‬


‫وقال الماما عبد الرزاق‪ :‬سمعت من أدركت من شيوخنا‬
‫وأصحابنا سفيان الثوري)‪ (2‬ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر‬
‫والوزاعي‪ ,‬ومعمر بن راشد)‪ (3‬وسفيان بن عيينة)‪ (4‬يقولون‪:‬‬
‫اليمان قول وعمل‪ ,‬يزيد وينقص‪.‬‬
‫وهذا قول ابن مسعود وحذيفة)‪ (5‬والنخعي)‪ (6‬والحسن‬
‫البصري)‪ (7‬وعطاء)‪ (8‬وطاوس)‪ (9‬ومجاهد وعبد الله بن المبارك)‪..(10‬‬
‫فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولية من المؤمنين هو‬
‫إتيانه بهذه المور الثلثة‪ :‬التصديق بالقلب والقرار باللسان‬
‫والعمل بالجوارح)‪.(11‬‬
‫فهؤلء مصابيح الهدى وأئمة الدين وعلماء المة من أهل‬
‫الحجاز والعراق والشاما وخراسان يرون أن اليمان قول باللسان‬
‫وعمل بالركان واعتقاد بالجنان‪.‬‬
‫وقال الماما البخاري في كتابا اليمان في صحيحه »هو قول‬
‫وفعل يزيد وينقص والحب في الله والبغض في الله من اليمان‪,‬‬
‫وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬إن لليمان فرائض وشرائع وحدولدا وسنلنا‪,‬‬
‫فمن استكملها استكمل اليمان‪ ,‬ومن لم يستكملها لم يستكمل‬
‫اليمان‪ ,‬فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها‪ ,‬وإن أمت فما أنا‬
‫على صحبتكم بحريص)‪.(12‬‬

‫‪1‬‬
‫)( اليإان لابن تيمية‪.163 :‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو سفيان بن مسروق شيخ السلم من أهل الديث‪ ,‬توف ‪161‬هـ‪ ,‬سي أعلم النبلء )‪.(7/229‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هو معمر بن راشد أبو عمر البصري من تلميذ عبد الرزاق الصنعان ت ‪153‬هـ‪ ,‬ميزان العتدالا ‪.4/154‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو ممد أبو ممد بن عيينة بن أب عمران اللل‪ ,‬توف ‪198‬هـ‪ ,‬تذيب التهذيب )‪.(4/117‬‬
‫‪5‬‬
‫)( حذيفة بن اليمان صأحاب جليل صأاحب سر رسولا ال ×‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫)( هو إبراهيم بن يزيد النخعي‪ ,‬توف ‪96‬هـ‪ ,‬تذيب التهذيب )‪.(1/177‬‬
‫‪7‬‬
‫)( من سادات التابعي اشتهر بالعلم والعبادةر والزهد‪ ,‬توف ‪110‬هـ بالبصرةر‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫)( هو عطاء بن أب رباح فقيه أهل الجاز‪ ,‬أفضل أهل زماناه‪ ,‬توف ‪114‬هـ‪ ,‬العب )‪.(1/108‬‬
‫‪9‬‬
‫)( طاوس بن كيسان اليمان أبو عبد الرحن أحد العلم علبما وأدببا )ت ‪106‬هـ(‪ ,‬العب )‪.(1/99‬‬
‫‪10‬‬
‫)( كان من الاهدين العاملي جعت فيه خأصالا الي توف ‪181‬هـ‪ ,‬وفيات العيان )‪.(3/32‬‬
‫‪11‬‬
‫)( مسلم مع شرح النووي‪ ,‬كتاب اليإان )‪.(147-1/146‬‬
‫‪12‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬قولا النب ×‪» :‬بن السلم على خس« )‪.(1/9‬‬

‫‪59‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وبهذا يتبين لنا أن مفهوما اليمان وحقيقته في القرآن والسنة‪,‬‬


‫وفي مفهوما السلف‪ ,‬تصديق بالجنان‪ ,‬وإقرار باللسان‪ ,‬وعمل‬
‫بالركان‪ ,‬قال سيد قطب رحمه الله في ظلله‪» :‬إن حقيقة‬
‫اليمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط‬
‫النساني كله‪ ,‬وتوجه النشاط النساني كله‪ ,‬فما تكاد تستقر في‬
‫القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء‬
‫موجه كله إلى الله‪ ,‬ل يبتغي به صاحبه إل وجه الله‪ ,‬وهي طاعة‬
‫لله واستسلما لمره في الصغيرة والكبيرة‪ ,‬ل يبقى معها هوى في‬
‫النفس‪ ,‬ول شهوة في القلب‪ ,‬ول ميل في الفطرة إل وهو تبع لما‬
‫جاء به رسول الله × من عند الله‪.‬‬
‫فهو اليمان الذي يستغرق النسان كله‪ ,‬بخواطر نفسه‪ ,‬وخلجات‬
‫قلبه وأشواق روحه‪ ,‬وميول فطرته‪ ,‬وحركات جسمه‪ ,‬ولفتات جوارحه‬
‫وسلوكه مع ربه في أهله‪ ,‬ومع الناس جميلعا‪ ..‬يتمثل هذا في قول الله‬
‫سبحانه في الية نفسها تعليل ل للستخلف والتمكين والمن«)‪.(1‬‬
‫لقد تقرر أن اليمان عند علماء السلف قول باللسان واعتقاد‬
‫بالجنان وفعل بالركان‪.‬‬
‫والقول باللسان هو النطق بشهادة الحق وهي كلمة التوحيد‬
‫)ل إله إل الله محمد رسول الله(‪.‬‬
‫ومعناها‪ :‬ل معبود بحق إل الله‪ ,‬وبذلك تنفي اللهية عما سوى الله‬
‫وتثبتها لله وحده)‪.(2‬‬
‫يقول شيخ السلما ابن تيمية رحمه الله‪) :‬ليس للقلوبا سرور‬
‫ول لذة تامة إل في محبة الله‪ ,‬والتقربا إليه بما يحبه‪ ,‬ول تمكن‬
‫محبته إل بالعراض عن كل محبوبا سواه‪ ,‬وهذا حقيقة »ل إله إل‬
‫الله«‪ ,‬وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلما وسائر النبياء‬
‫والمرسلين صلة الله وسلمه عليهم أجمعين( )‪ ,(3‬أما شقها‬
‫الثاني‪ :‬محمد رسول الله‪ ,‬فمعناه تجريد متابعته × فيما أمر‬
‫والنتهاء عما نهى عنه وزجر‪.‬‬
‫ومن هنا كانت »ل إله إل الله« ولء وبراء‪ ,‬نفليا وإثبالتا‪.‬‬
‫سزنة نبيه وعباده الصالحين‪ ,‬وبراء من‬ ‫ولء لله ولدينه وكتابه و ع‬
‫‪1‬‬
‫)( ظللا القرآن )‪.(4/2528‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬فتح اليد‪ ,‬ص ‪.36‬‬
‫‪3‬‬
‫)( مموع فتاوى السلم )‪.(28/32‬‬

‫‪60‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ك رباًلكعيكرلوةر اًلكيوُثكيلقىَ"‬
‫سل‬ ‫ر ر ر ر‬ ‫ر ل ر‬
‫كل طاغوت ‪+‬فللمكنَ يلككيفكر باًلطاًيغوُت لويييكؤمنَ باًل فليلقد اًكستلكم ل‬
‫]البقرة‪.[256 :‬‬
‫وبهذه الية يتضح أن النسان ل يكون مؤملنا إل بالكفر‬
‫بالطاغوت‪.‬‬
‫إرلكيْيكمُ‬ ‫وكلمة التوحيد ولء لشرع الله‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬اًتلبرعيوُاً لماً أينَكرزلل‬
‫ن" ]العراف‪.[3:‬‬ ‫بمنَ لربيككمُ لولل تليتلبرعيوُاً رمنَ يدونَرره ألكولرليْاًءل قلرليْلح لماً تللذلكيرو ل‬
‫لع لكليْيلهاً"‬ ‫س‬ ‫ك رللبديرنَ حرنيْحفاً فرطكر ل ر لر‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬فلألقركمُ لوكجله ل‬
‫ت اًل اً تيِ فلطللر اًللناً ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫]الروما‪.[30 :‬‬

‫وبراء من حكم الجاهلية‪ :‬قال تعالى‪+ :‬ألفليحككلمُ اًلكلجاًرهلريْلرة يل كيبييغوُلن لولمكنَ‬


‫ة‬ ‫ألكحسنَ رمنَ اً ر‬
‫ل يحككحماً لبلقكوُم ييوُرقينوُ ل‬
‫ن" ]المائدة‪.[50 :‬‬ ‫لي ل‬
‫غيْيلر‬
‫ويراء من كل دين غير دين السلما‪ :‬قال تعالى‪+ :‬لولمنَ يليكبتلرغ لك‬
‫ر‬ ‫ر ر ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫نَ" ]آل عمران‪.[85 :‬‬ ‫اًرلكسللرم ديحناً فلي لكنَ يييكقبللل مكنهي لويهلوُ فيِ اًللخلرة ملنَ اًلكلخاًسرري ل‬
‫ثم هي نفي وإثبات‪ ,‬تنفي أربعة أمور)‪ (1‬وتثبت أربعة أمور‪.‬‬
‫تنفي اللهة‪ ,‬والطواغيت‪ ,‬والنداد‪ ,‬والربابا‪.‬‬
‫فاللهة‪ :‬ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر‪ ,‬فأنت‬
‫متخذه إللها‪.‬‬
‫ض‪ ,‬أو عرشح للعبادة‪.‬‬ ‫عبد وهو را ض‬ ‫والطواغيت‪ :‬من ع‬
‫والنداد‪ :‬ما جذبك عن دين السلما‪ ,‬من أهل‪ ,‬أو مسكن‪ ,‬أو‬
‫س منَ ييتلرخيذ رمنَ يدورن اًلر‬ ‫ر‬
‫عشيرة‪ ,‬أو مال فهو ند لقوله تعالى‪+ :‬لوملنَ اًللناً ر ل ل‬
‫ل" ]البقرة‪.[165 :‬‬ ‫ب اً ر‬ ‫ألنَكلداًحداً ييرحبموُنَلييهكمُ لكيح ب‬
‫والربابا‪ :‬من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته مصدالقا لقوله‬
‫ل‪] "....‬التوبة‪.[31:‬‬ ‫تعالى‪+ :‬اًتللخيذواً ألكحباًريهمُ وركهباًنَلييهمُ ألرباًباً بمنَ يدورن اً ر‬
‫ل ل ك ل ي ل ك كل ح‬
‫وتثبت أربعة أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬القصد‪ :‬وهو كونك ما تقصد إل الله‪.‬‬
‫ل"‬‫‪ -2‬والتعظيم والمحبة‪ :‬لقوله تعالى‪+ :‬واًلرذينَ آمنيوُاً أللشمد حقباً ر‬
‫ي‬ ‫ل ل ل‬
‫]البقرة‪.[165 :‬‬

‫ك اًلي بر ي‬
‫ضلر فللل‬ ‫سكس ل‬ ‫ر‬
‫‪ -3‬والخوف والرجاء لقوله تعالى‪+ :‬لوإن يلكم ل‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الولء والباء ف السلم لمد سعيد القحطان‪ ,‬ص ‪.25‬‬

‫‪61‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫شاًء رمنَ رعباًردهر‬ ‫ر‬ ‫ف لهي إرلل هوُ ورإن يمرركدلك برلخيْةر فللل راًلد لرلف ك ر ر‬‫لكاًرش ل‬
‫ب بره لمنَ يل ل ي ك ل‬
‫ضله ييصيْ ي‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫يل ل‬
‫لويهلوُ اًلكغليفوُير اًللررحيْيمُ" ]يونس‪.[107 :‬‬

‫ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى ل إله إل الله‪,‬‬
‫ينفي الشرك وتوابعه ويقرر الخلص وشرائعه‪ ,‬فكل قول وعمل‬
‫صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلولت كلمة الخلص‪ ,‬لن‬
‫ما)‪,(3‬‬
‫ل‬ ‫التزا‬ ‫دللتها على الدين كله إما مطابقة)‪ ,(1‬وإما تضملنا)‪ ,(2‬وإما‬
‫يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى‪.‬‬
‫‪ -4‬والتقوى‪ :‬أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك‬
‫والمعاصي‪ ,‬وإخلص العبادة لله‪ ,‬واتباع أمره على ما شرعه‪ ,‬كما‬
‫قال ابن مسعود رضي الله عنه‪» :‬أن تعمل بطاعة الله‪ ,‬على نور‬
‫من الله‪ ,‬ترجو ثوابا الله‪ ,‬وأن تترك معصية الله‪ ,‬على نور من‬
‫الله‪ ,‬تخاف‬
‫عقابا الله«)‪.(4‬‬
‫لقد تم لصحابا رسول الله × معرفة هذه الكلمة والتزاما‬
‫أحكامها والعمل بمقتضاها ولوازمها‪.‬‬
‫قال سفيان بن عيينة عندما سأله رجل عن اليمان فقال‪ :‬قول‬
‫وعمل‪ ,‬قال‪ :‬يزيد وينقص؟ قال‪ :‬يزيد ما شاء الله‪ ,‬وينقص حتى ل‬
‫يبقى منه مثل هذه‪ ,‬وأشار سفيان بيده‪ ,‬قال الرجل‪ :‬كيف نصنع‬
‫بقوما عندنا يزعمون‪ :‬أن اليمان قول ل عمل؟ قال سفيان‪ :‬كان‬
‫القول قولهم قبل أن تقرر أحكاما اليمان وحدوده‪ ,‬إن الله عز‬
‫دا × إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا‪ :‬ل إله‬ ‫وجل بعث نبينا محم ل‬
‫إل الله‪ ,‬وأنه رسول الله‪ .‬فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم‬
‫إل بحقها وحسابهم على الله عز وجل‪ ,‬فلما علم الله عز وجل‬
‫صدق ذلك من قلوبهم‪ ,‬أمره أن يأمرهم بالصلة‪ ,‬فأمرهم ففعلوا‪,‬‬
‫فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم القرار الول ول صلتهم‪ ,‬فلما علم‬
‫الله جل وعل صدق ذلك من قلوبهم‪ ,‬أمره أن يأمرهم بالهجرة‬
‫إلى المدينة‪ ,‬فأمرهم ففعلوا‪ ,‬فوالله لو لم يفعلوا ما نفهم القرار‬
‫الول ول صلتهم‪ ,‬فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من‬
‫قلوبهم‪ ,‬أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم‪ ,‬حتى‬
‫‪1‬‬
‫)( دللة الطابقة‪ :‬هي دللة اللفظ على معناه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( دللة التضمي‪ :‬هي دللة اللفظ على جزء من معناه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫)( دللة اللتزام‪ :‬هي دللة اللفظ على معن خأارج عنه لكنه لزم له‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الورد العذب الزللا‪ .‬مموعة الرسائل النجدية )‪.(4/99‬‬

‫‪62‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫يقولوا كقولهم‪ ,‬ويصلوا صلتهم‪ ,‬ويهاجروا هجرتهم‪ ,‬فأمرهم‬


‫ففعلوا‪ ,‬فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم القرار الول ول صلتهم ول‬
‫هجرتهم‪ ,‬ول قتالهم‪ ,‬فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من‬
‫دا‪ ,‬وأن يحلقوا‬ ‫قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعب ل‬
‫رءوسهم تذلل ل ففعلوا‪ ,‬فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم القرار الول‪,‬‬
‫ول صلتهم‪ ,‬ول هجرتهم‪ ,‬ول قتلهم آباءهم‪ ,‬فلما علم الله عز وجل‬
‫صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم‬
‫بها‪ ,‬فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها‪ ,‬فوالله لو لم‬
‫يفعلوا ما نفعهم القرار الول ول صلتهم‪ ,‬ول هجرتهم‪ ,‬ول قتالهم‬
‫آباءهم ول طوافهم‪ ,‬فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من‬
‫قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع اليمان وحدوده قال عز وجل‪:‬‬
‫ت ليكيمُ اًرلكسلللم‬
‫ضيْ ي‬ ‫ك ل لل‬ ‫ت ليككمُ ردينليككمُ لوألتكلمكم ي‬
‫ت لع لكيْيكمُ نَركعمرتيِ ور ر‬ ‫قل لهم‪+ :‬اًكليْليكوُلم ألككلمكل ي‬
‫رديحناً" ]المائدة‪.[3:‬‬

‫قال سفيان الثوري‪ :‬فمن ترك خلة من خلل اليمان كان بها‬
‫عندنا كافلرا ومن تركها كسل ل أو تهاولنا بها‪ ,‬أدبناه وكان بها عندنا‬
‫سنة أبلغها عني من سألك‬ ‫صا‪ ,‬هكذا ال ن‬ ‫ناق ل‬
‫)‪(1‬‬
‫من الناس ‪.‬‬
‫طا سبعة لـ»ل إله إل الله«‬ ‫وقد ذكر العلماء رحمهم الله شرو ل‬
‫ل تنفع صاحبها إل باجتماع هذه الشروط‪ .‬وإليك شرحها‪:‬‬
‫شروط كلمة التوحيد‪:‬‬
‫لبد أن تعلم أنه‪) :‬ليس المراد من هذا عد ز ألفاظها وحفظها‪,‬‬
‫فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها‪ ,‬ولو قيل له أعدها لم يحسن‬
‫ذلك‪ ,‬وكم حافظ للفاظها يجري فيها كالسهم‪ ,‬وتراه يقع كثيلرا‬
‫فيما يناقضها والتوفيق بيد الله‪ ,‬والله المستعان( )‪.(2‬‬
‫وقد قال وهب بن منبه )‪ (3‬لمن سأله‪) :‬أليس »ل إله إل الله«‬
‫مفتاح الجنة؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬ولكن ما من مفتاح إل وله أسنان‪ ,‬فإن جئت‬
‫بمفتاح له أسنان فتح لك‪ ,‬وإل لم يفتح لك( )‪.(4‬‬
‫وأسنان هذا المفتاح هي شروط »ل إله إل الله« التية‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( كتاب الشريعة لب بكر ممد بن السي الجري‪ ,‬ص ‪.104‬‬
‫‪2‬‬
‫)( معارج القبولا للشيخ الافظ الكمي )‪.(1/418‬‬
‫‪3‬‬
‫)( وهب بن منبه بن كامل اليمان الصنعان روى عن أب هريرةر وأب سعيد وابن عباس وابن عمر‪ ,‬توف ‪110‬هـ‪ ,‬اناظر‪ :‬تذيب‬
‫التهذيب )‪.(1/167‬‬
‫‪4‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب النائز‪ ,‬باب‪ :‬من كان آخأر كلمه‪ :‬ل إله إل ال )‪.(2/87‬‬

‫‪63‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الشرط الول‪ :‬العلم بمعناها المراد منها نفليا وإثبالتا‪ ,‬المنافي‬


‫للجهل بذلك‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لفاًكعلكمُ ألنَلهي لل إرلهل إرلل اًلي" ]محمد‪ .[19:‬وقال تعالى‪+ :‬إرلل‬
‫لمنَ لشرهلد رباًلكلحبق لويهكمُ يليكعليموُلن" ]الزخرف‪ [86:‬أي بـ »ل إله إل الله«‪» ,‬وهم‬
‫يعلمون« بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم‪ .‬وقال تعالى‪+ :‬لشرهلد اًلي أللنَهي‬
‫لل إرلهل إرلل يهلوُ لواًلكلمللئرلكةي لويأويلوُ اًلكرعكلرمُ لقاًئرحماً رباًلكرقكسرط لل إرلهل إرلل يهلوُ اًلكلعرزييز اًلكلحركيْيمُ"‬
‫]آل عمران‪.[18:‬‬
‫وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫×‪» :‬من مات وهو يعلم أنه ل إله إل الله دخل الجنة« )‪.(1‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬اليقين المنافي للشك‪:‬‬
‫ومعنى ذلك‪ :‬أن يكون قائلها مستيقلنا بمدلولت هذه الكلمة‪,‬‬
‫ما‪ ,‬فإن اليمان ل يغني فيه إل علم اليقين ل علم‬ ‫جاز ل‬ ‫يقيلنا‬
‫)‪(2‬‬
‫الظن ‪.‬‬
‫ل لولريسوُلرره ثيلمُ لكمُ يليكرلتاًبيوُاً لولجاًلهيدواً‬
‫قال تعالى‪+ :‬إرنَلماً اًلكمكؤرمينوُلن اًلرذينَ آمنيوُاً رباً ر‬
‫ل ل‬ ‫ل ي‬
‫ن" ]الحجرات‪.[15:‬‬ ‫صاًرديقوُ ل‬ ‫ل يأولئر ل‬
‫ك يهيمُ اًل ل‬ ‫برألكموُاًلررهمُ وألنَكييفرسرهمُ رفيِ سربيْرل اً ر‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫ل ك ل‬
‫وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ×‪» :‬أشهد أن ل إله إل الله وأني رسول الله‪ ,‬ل يلقى‬
‫بهما عبد غير شاك فيهما إل دخل الجنة« )‪.(3‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه‬
‫ولسانه‪:‬‬
‫وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء‬
‫من قبلها‪ ,‬وانتقامه‬
‫ممن ردها وأباها‪.‬‬
‫ك رفيِ قليكريلةة بمنَ نَلرذيةر إرلل لقاًلل‬ ‫ك لماً ألكرلسكللناً رمنَ قليكبلر ل‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لولكلذلر ل‬
‫ي كمتيلريفوُلهاً إرلنَاً لولجكدلنَاً آلباًءللنَاً لعللىَ أيلمةة لوإرلنَاً لعللىَ آلثاًررهمُ مكقتليدولن ‪ ‬قلاًلل أللولكوُ رجكئتييككمُ‬
‫برألكهلدىَ رملماً لولجدتمكمُ لع لكيْره آلباًلءيككمُ لقاًليوُاً إرلنَاً برلماً أيكررسكلتيكمُ برره لكاًفريرولن ‪ ‬فلاًنَكيتليلقكملناً رم كنييهكمُ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫نَ" ]الزخرف‪.[25-23 :‬‬ ‫ف لكاًلن لعاًقبلةي اًلكيملكبذبيْ ل‬ ‫لفاًنَكظيكر لككيْ ل‬
‫‪1‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬الدليل من مات على التوحيد )‪ (1/55‬رقم ‪.43‬‬
‫‪2‬‬
‫)( معارج القبولا )‪.(2/419‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬الدليل من مات على التوحيد )‪ (1/57،56‬رقم ‪.27‬‬

‫‪64‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ك رسلح إرللىَ قليوُرمرهمُ فلجاًءويهمُ رباًكلبييْبيلناً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬


‫ت‬ ‫ل‬ ‫ك ك ل ي‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬لوللقكد ألكرلسكللناً مكنَ قليكبل ل ي ي‬
‫نَ" ]الروما‪.[47:‬‬ ‫رر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫فلاًنَكيتليلقكملناً ملنَ اًلذيلنَ ألكجلريموُاً لولكاًلن لحققاً لع لكليْيلناً نَل ك‬
‫صير اًلكيمكؤمنيْ ل‬
‫وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن‬
‫النبي × قال‪» :‬مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل‬
‫ضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكل‬ ‫الغيث الكثير أصابا أر ل‬
‫والعشب الكثير‪ ,‬وكانت منها أجادبا أمسكت الماء فنفع الله بها‬
‫الناس فشربوا وسقوا وزرعوا‪ ,‬وأصابا منها طائفة أخرى إنما هي‬
‫قيعان ل تمسك ماء ول تنبت كل‪ ,‬فذلك مثل من فقه في دين الله‬
‫سا‬
‫ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم‪ ,‬ومثل من لم يرفع بذلك رأ ل‬
‫ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به«)‪.(1‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬النقياد لما دلت عليه‪ ,‬المنافي لترك ذلك‪:‬‬
‫سلريموُاً لهي‪] " ...‬الزمر‪.[54:‬‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لوألرنَيْبيوُاً إرللىَ لربيككمُ لوأل ك‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر ر‬
‫سينَ ديحناً ملمكنَ ألكس للمُ لوكجلههي ل لويهلوُ يمكحس ر‬
‫نَ" ]النساء‪:‬‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬لولمكنَ ألكح ل‬
‫‪.[125‬‬
‫ك رباًلكعروةر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫س ل يك ل‬ ‫وقال تعالى‪+:‬لولمنَ ييكسلكمُ لوكجلههي إللىَ اًل لويهلوُ يمكحسرنَ فليلقد اًكستلكم ل‬
‫اًلكيوُثكيلقىَ"‬
‫]لقمان‪.[22:‬‬

‫ك لل يييكؤرمينوُلن لحلتىَ ييلحبكيموُلك رفيْلماً لشلجلر بلي كيْينلييهكمُ ثيلمُ لل‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬فللل لولرب ل‬
‫ر‬ ‫يلرجيدواً رفيِ ألنَكييفرسرهكمُ لحلرحجاً بملماً قل ل‬
‫سليْحماً" ]النساء‪.[65 :‬‬ ‫سلبيموُاً تل ك‬
‫ت لويي ل‬
‫ضكيْ ل‬
‫قال ابن كثير في تفسيرها‪) :‬يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة‬
‫كم الرسول × في جميع المور‪,‬‬ ‫المقدسة أنه ل يؤمن أحد حتى عيح ل‬
‫فما حكم به فهو الحق الذي يجب النقياد له باطلنا وظاهلرا‪ ,‬ولهذا‬
‫سلبيموُاً تلكسرليْحماً" أي‪ :‬إذا‬ ‫ت لويي ل‬ ‫قال‪+ :‬ثيلمُ لل يلرجيدواً رفيِ ألنَكييفرسرهكمُ لحلرحجاً بملماً قل ل‬
‫ضكيْ ل‬
‫جا مما‬ ‫حكموك يطيعونك في بواطنهم فل يجدون في أنفسهم حر ل‬
‫حكمت به‪ ,‬وينقادون لك في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك‬
‫ما كلليا من غير ممانعة ول مدافعة‪ ,‬ول منازعة‪ ,‬كما ورد في‬ ‫تسلي ل‬
‫الحديث‪» :‬والذي نفسي بيده ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبلعا‬
‫لما جئت به« )‪.(1)((2‬‬

‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب العلم‪ ,‬باب‪ :‬فضل من ععللم وعلم )‪ (1/32‬رقم ‪.79‬‬

‫‪65‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الشرط الخامس‪ :‬الصدق المنافي للكذبا‪:‬‬


‫وهو أن يقولها صدلقا من قلبه‪ ,‬يواطئ قلبه لسانه‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫س لأن يي كيتيلريكوُاً لأن يلييقوُليوُاً آلملناً لويهكمُ لل يييكفتليينوُلن ‪ ‬لوللقكد فليتليلناً اًلرذيلنَ‬ ‫ب اًللناً ي‬
‫ر‬
‫‪+‬اًلمُ ‪ ‬أللحس ل‬
‫رر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫نَ" ]العنكبوت‪.[3-1:‬‬ ‫منَ قليكبلرهكمُ فليلليْليكع للملنَ اًلي اًلذيلنَ ل‬
‫صلدقيوُاً لوليْليكع للملنَ اًلكلكاًذبيْ ل‬
‫ل لورباًكليْليكوُرم اًللرخرر لولماً يهمُ‬ ‫س منَ يييقوُيل آملناً رباً ر‬
‫ل‬
‫ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لوملنَ اًللناً ر ل ل‬
‫سيهكمُ لولماً يلكشعييرولن ‪ ‬رفيِ‬ ‫ر‬ ‫لر‬ ‫ر‬ ‫ر رر‬
‫بيمكؤمنيْلنَ ‪ ‬ييلخاًديعوُلن اًلل لواً ذيلنَ آلمنيوُاً لولماً يلكخلديعوُلن إلل ألنَكييف ل‬
‫ن" ]البقرة‪-8 :‬‬ ‫ب أللريْرمُ برلماً لكاًنَيوُاً يلككرذيبوُ ل‬ ‫ضاً لوليهكمُ لعلذاً ر‬ ‫ض فليلزاًلديهيمُ اًلي لملر ح‬ ‫قيييلوُبررهمُ لملر ر‬
‫‪.[10‬‬
‫وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي ×‪:‬‬
‫دا عبده ورسوله‬ ‫»ما من أحد يشهد أن ل إله إل الله وأن محم ل‬
‫صدلقا من قلبه إل حرمه الله على النار« )‪.(1‬‬
‫قال العلمة ابن القيم‪» :‬والتصديق بل إله إل الله يقتضي‬
‫الذعان والقرار بحقوقها وهي شرائع السلما التي هي تفصيل‬
‫هذه الكلمة‪ ,‬بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتنابا‬
‫نواهيه‪ ..‬فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله‪,‬‬
‫ومعلوما أن عصمة المال والدما على الطلق لم تحصل إل بها‬
‫وبالقياما بحقها‪ ,‬وكذلك النجاة من العذابا على الطلق لم تحصل‬
‫إل بها وبحقها«)‪.(2‬‬
‫وقال ابن رجب‪) :‬أما من قال‪ :‬ل إله إل الله بلسانه‪ ,‬ثم أطاع‬
‫الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذبا فعله قوله‪,‬‬
‫ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان‬
‫ل" ]ص‪. ([26:‬‬
‫)‪(3‬‬ ‫ك لعنَ سربيْرل اً ر‬ ‫والهوى‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ولل تليتلبررع اًلكلهوُىَ فلييْ ر‬
‫ضل ل‬
‫ل‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫الشرط السادس‪ :‬الخلص‪:‬‬
‫وهو تصفية بصالح النية عن جميع شوائب الشرك)‪.(4‬‬

‫‪2‬‬
‫)( الديث مروي ف الربعي النووية ص ‪ ,134‬قالا فيه النووي‪ :‬وهو حديث حسن صأحيح رويناه ف كتاب الجة بإسناد‬
‫صأحيح‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( تفسي ابن كثي )‪.(1/533‬‬
‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب العلم‪ ,‬باب‪ :‬من خأص بالعلم قوبما )‪ (1/47‬رقم ‪.128‬‬
‫‪2‬‬
‫)( التبيان ف أقسام القرآن لبن القيم‪ ,‬ص ‪.43‬‬
‫‪3‬‬
‫)( كلمة الخألص لبن رجب‪ ,‬ص ‪.28‬‬

‫‪66‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ر‬ ‫ر‬
‫]الزمر‪.[3 :‬‬ ‫ص"‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أللل ل اًلبديينَ اًلكلخاًل ي‬
‫وقال تعالى‪+ :‬وماً أيرمرواً إرلل لريْيكعبيدواً اًل مكخلر ر‬
‫صيْلنَ لهي اًلبديلنَ يحنليلفاًءل"‬
‫]البينة‪:‬‬ ‫ل ي‬ ‫لي‬ ‫لل ي‬
‫‪.[5‬‬

‫وفي »الصحيح« عن أبي هريرة عن النبي ×‪» :‬أسعد اًلناًس‬


‫صاً منَ قلبه«‪» ,‬أو نفسه«)‪.(1‬‬
‫بشفاًعتيِ منَ قاًل‪ :‬ل إله إل اًل خاًل ح‬
‫وقال الفضيل بن عياض)‪-(2‬رحمه الله‪» :-‬إن العمل إذا كان‬
‫صا لم‬ ‫صا ولم يكن صوالبا لم يقبل‪ ,‬وإذا كان صوالبا ولم يكن خال ل‬ ‫خال ل‬
‫صا صوالبا‪ ,‬والخالص أن يكون لله‪ ,‬والصوابا‬ ‫عيقبل‪ ,‬حتى يكون خال ل‬
‫)‪(3‬‬
‫أن يكون على السنة« ‪.‬‬
‫الشرط السابع‪ :‬المحبة لهذه الكلمة‪ ,‬ولما اقتضته ودلت‬
‫عليه‪ ,‬ولهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها‪ ,‬وبغض ما‬
‫ناقض ذلك‪:‬‬
‫ب اً ر‬ ‫ل ألنَكلداًحداً ييرحبموُنَلييهكمُ لكيح ب‬‫س منَ ييتلرخيذ رمنَ يدورن اً ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لوملنَ اًللناً ر ل ل‬
‫ل" ]البقرة‪ ،[165:‬وقال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً‬ ‫واًلرذينَ آمنيوُاً أللشمد حقباً ر‬
‫ي‬ ‫ل ل ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬
‫ف يلأكتيِ اًلي برلقكوُم ييحبمييهكمُ لوييحمبوُنَلهي ألذلة لعللىَ اًلكيمكؤمنيْلنَ‬‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫لمنَ يليكرتللد مكنيككمُ لعنَ دينه فل ل‬
‫سكوُ ل‬
‫ن لكوُلمةل لئرةمُ" ]المائدة‪.[54 :‬‬ ‫ألرعلزةة لعللىَ اًلكلكاًفرررينَ يجاًرهيدولن رفيِ سربيْرل اً ر‬
‫ل لولل يللخاًيفوُ ل‬ ‫ل‬ ‫ل يل‬
‫وفي الحديث الصحيح‪» :‬ثلث من كن فيه وجد بهن حلوة‬
‫اليمان‪ :‬أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ,‬وأن يحب‬
‫المرء ل يحبه إل لله‪ ,‬وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه‬
‫الله منه كما يكره أن يقذف في النار« )‪.(4‬‬
‫وقال الشيخ حافظ الحكمي)‪(5‬رحمه الله‪) :‬وعلمة حب العبد‬
‫‪4‬‬
‫)( معارج القبولا )‪.(2/423‬‬
‫‪1‬‬
‫)( صأحيح البخاري‪ ,‬كتاب العلم‪ ,‬باب الرص على الديث )‪ (3/38‬رقم ‪.99‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود الطالقان الصأل‪ ,‬الزاهد العابد الثقة المام الشهور‪ ,‬كان أولا أمره من قطاع‬
‫الطرق‪ ,‬ث تنسك وسع الديث بالكوفة‪ ,‬مات سنة ‪ 187‬هـ‪ ,‬حلية الولياء ‪ ,8/84‬سي أعلم النبلء )‪.(8/421‬‬
‫‪3‬‬
‫)( مموع الفتاوى )‪.(3/124‬‬
‫‪4‬‬
‫)( صأحيح البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬حلوةر اليإان )‪ (1/11‬رقم ‪.16‬‬
‫‪5‬‬
‫)( هو الشيخ العلمة حافظ أحد الكمي‪ ,‬عال سلفي من منطقة تامة‪ ,‬ولد سنة ‪1342‬هـ‪ ,‬بقرية السلم بالقرب من جيزان‪,‬‬
‫كان آية ف الذكاء وسرعة الفظ والفهم‪ ,‬تتلمذ على يد الشيخ الداعية عبد ال القرعاوي توف سنة ‪1377‬هـ‪ ,‬وعمره ‪,35‬‬
‫اناظر ترجته ف مقدمة معارج القبولا بقلم ابنه‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ربه‪ :‬تقديم محابه وإن خالفت هواه‪ ,‬وبغض ما يبغض ربه وإن مال‬
‫إليه هواه‪ ,‬وموالة من والى الله ورسوله‪ ,‬ومعاداة من عاداه‪,‬‬
‫واتباع رسوله ×‪ ,‬واقتفاء أثره‪ ,‬وقبول هداه( )‪.(1‬‬
‫ويقول ابن القيم في »النونية«‪:‬‬
‫على محبته بل عصيان‬ ‫شرط المحبة أن توافق من‬
‫تحب‬
‫فك ما يحب فأنت ذو بهتان‬ ‫فإذا ادعيت له المحبة من‬
‫خل‬
‫حلبا له ما ذاك في إمكان‬ ‫أتحب أعداء الحبيب وتدعي‬
‫أين المحبة يا أخا‬ ‫دا أحبابه‬
‫وكذا تعادي جاه ل‬
‫الشيطان؟‬
‫)‪(2‬‬
‫والركان‬ ‫ليس العبادة غير توحيد‬
‫المحبة‬
‫وبعد أن بينت حقيقة اليمان وشروطه التي يتحقق بها التمكين‬
‫لدين الله والنصرة على العداء يتضح لنا‪ :‬أن الفرد بغير اليمان‬
‫الحقيقي بالله‪ ,‬ريشة في مهب الريح‪ ,‬ل تستقر على حال‪ ,‬ول‬
‫تسكن إلى قرار‪ ,‬والنسان بغير الدين السلمي يتحول إلى حيوان‬
‫شره‪ ,‬أو وحش مفترس‪ ,‬ل تستطيع الثقافة الوضعية ول القانون‬
‫الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الفتراس‪.‬‬
‫والمجتمع بغير دين صحيح‪ ,‬وإيمان قوي‪ ,‬مجتمع متوحش‬
‫مظلم متألم‪ ,‬وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتل‬
‫بأدوات الرفاهية وأسبابا النعيم الحسي‪ ,‬فهو مجتمع البقاء فيه‬
‫للقوى‪ ,‬ل للفضل والتقى‪ ,‬مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في‬
‫وجوه أصحابه‪ ,‬وإن زينوا وجوههم بأنواع الصباغا والمحسنات‪,‬‬
‫وركبوا الطائرات‪ ,‬وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات‪ ,‬فهو‬
‫مجتمع تافه رخيص هزيل‪ ,‬لن غايات أهله غايات ساذجة‪ ,‬سطحية‬
‫هزيلة ل تتجاوز شهوات البطون والفروج‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لواًلرذيلنَ لكلفيرواً‬
‫ل اًلنَكيلعاًيم لواًللناًير لمثكيحوُىَ ليهكمُ" ]محمد‪.[12 :‬‬
‫يليتللمتلييعوُلن لويلأكيكيلوُلن لكلماً تلأكيك ي‬
‫بخلف مجتمع اليمان والسلما المبني على الحب في الله والرضا‬
‫بكل ما صدر عن الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق‪ ,‬وصاحب‬
‫المر والنهي المطلق في الوجود كله‪ ,‬وهذا أمر طبيعي‪ ,‬في أن يحب‬
‫النسان ربه‪ ,‬وخالقه ورازقه‪ ,‬لن النفوس مجبولة على حب من أحسن‬
‫‪1‬‬
‫)( معارج القبولا )‪.(2/424‬‬
‫‪2‬‬
‫)( النوناية‪ ,‬ص ‪.158‬‬

‫‪68‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إليها‪ ,‬وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر‪ ,‬وجعل النسان‬
‫في أحسن تقويم‪ ,‬ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما ل عين‬
‫رأت ول أذن سمعت‪ ,‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫لهذا كله ولكثر منه‪ ,‬أحب المؤمنون ربهم حلبا ل يقاس بغيره‬
‫مما هو دونه‪ ,‬فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله‪,‬‬
‫بل تردد أو منة‪ ,‬بل اعتبروا ذلك تفضل ل من الله عليهم‪ ,‬أن فتح لهم‬
‫بابا الجهاد والستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه‪ ,‬فقاموا بذلك‬
‫الواجب خير قياما)‪.(1‬‬
‫إن اليمان الحقيقي بالله‪ ,‬هو الذي ينبعث منه الحب في الله‬
‫الذي يحرك إرادة القلب‪ ,‬ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات‪,‬‬
‫وكلما ازداد اليمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في‬
‫الله لديه قوة وصلبة‪ ,‬وتحول المر حللوا‪ ,‬والكدر صفاء‪ ,‬واللم شفاء‪,‬‬
‫والنصرة جهالدا‪ ,‬والبتلء رحمة‪ ,‬والحجاما عن نصرة أهل الحق خيانة‪,‬‬
‫وتراجلعا عن السلما‪.‬‬
‫فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثلرا حيث إنه الضمان‬
‫الوحيد لترابط المجتمع واحتراما حقوقه)‪ ,(2‬ولذلك ورد في الحديث‬
‫الشريف‪ » :‬ل تدخلوُاً اًلجنة حتىَ تؤمنوُاً‪ ,‬ول تؤمنوُاً حتىَ تحاًبوُاً‪ ,‬أول أدلكمُ علىَ‬
‫شيِء إذاً فعلتموُه تحاًببتمُ؟ أفشوُاً اًلسلم بيْنكمُ«)‪.(3‬‬
‫فحقيقة المحبة في الله ل تتم إل بموافقة الباري جل وعل في‬
‫حب ما يحب‬
‫)‪(4‬‬
‫وبغض ما يبغض ‪.‬‬
‫ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلهم إيمالنا من كان أقربهم‬
‫إلى الله في محبته‪ ,‬وأقواهم في طاعته‪ ,‬وأتمهم عبودية له)‪.(5‬‬
‫وهذه الصفات تستلزما محبة الرسول × ومحبة ما جاء به من‬
‫عند الله‪ ,‬ومحبة المؤمنين بهذا الدين‪ ,‬وإيثارهم على النفس‬
‫بالمال والنصرة والتأييد والنضماما في حزبهم حيث إنهم حزبا‬
‫الله من انضم إلى حزبا الله فقد أفلح في دنياه وأخراه‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬كتاب اليإان وأثره ف الياةر‪ ,‬د‪ .‬القرضاوي‪ ,‬ص ‪.12-5‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الوالةر والعاداةر للجلعود )‪.(1/245‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬بيان ل يدخأل النة إل الؤممنون )‪ (1/74‬رقم ‪.93‬‬
‫‪4‬‬
‫)( اناظر‪ :‬مموعة التوحيد‪ ,‬ص ‪.423-422‬‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬مموعة التوحيد‪ ,‬ص ‪.423 ،422‬‬

‫‪69‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن اليمان بالله‪ ,‬والحب في الله‪ ,‬وما يترتب عليهما قواعد‬


‫متلزمة ينبني بعضها على البعض الخر‪ ,‬ويتأثر اللحق منها‬
‫بالسابق‪ ,‬فإذا قوي اليمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في‬
‫الله‪ ,‬وازدادت الفعال المترتبة على ذلك‪ ,‬حتى تصبح الجماعة‬
‫المسلمة‪ ,‬كخليا الدما في الجسم تعمل لغرض واحد‪ ,‬وهدف‬
‫واحد‪ ,‬وفي إطار واحد‪ ,‬عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية‬
‫قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق‬
‫نفسها‪ ,‬وفي حق البشرية جمعاء)‪.(1‬‬
‫ولذلك جعل الله تعالى رابطة الدين واليمان فوق كل الروابط‬
‫الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدما‪ ,‬ورابطة اللون أو اللغة‪ ,‬أو‬
‫رابطة الوطن أو القليم أو رابطة الحرفة‪ ,‬أو الطبقة‪ ,‬أو غير ذلك‬
‫من الروابط الجاهلية التي تختلف اختللفا جذرليا مع أصول‬
‫السلما ومنطلقاته في الموالة والمعاداة والحب والبغض‪ ,‬قال‬
‫س إرلنَاً لخ لكقلناًيكمُ بمنَ ذللكةر لوأينَكيلثىَ لولجلعكللناًيككمُ يشيعوُحباً لوقليلباًئرلل رلتليلعاًلرفيوُاً‬ ‫تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًللناً ي‬
‫خربيْرر" ]الحجرات‪.[13:‬‬ ‫ل ألتكيلقاًيككمُ إرلن اًلل لعرليْرمُ ل‬ ‫إرلن ألككرميكمُ رعكنلد اً ر‬
‫لل ك‬
‫فالمقياس لتفاوت الفراد في السلما هو التقوى والعمل‬
‫الصالح‪ ,‬وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه‪,‬‬
‫ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل‬
‫الصالح)‪.(2‬‬
‫إن اليمان الحقيقي يجعل من أتباعه أخوة متحابين يعملون‬
‫ل لجرميْحعاً لولل‬ ‫صموُاً برحكبرل اً ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫على رضا مولهم العظيم‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لواًكعتل ي‬
‫صبلكحتيكمُ برنركعلمترره‬ ‫ف بليكيْلنَ قيييلوُبريككمُ فلأل ك‬‫ل لع لكيْيككمُ إركذ يككنتيكمُ ألكعلداًءح فلألل ل‬ ‫ت اً ر‬ ‫تليلفلرقيوُاً لواًكذيكيرواً نَركعلم ل‬
‫ك يييبلييْبينَ اًلي ليككمُ آلياًترره‬ ‫إركخلوُاًحنَاً لويككنتيكمُ لعللىَ لشلفاً يحكفلرةة بملنَ اًللناً ر فلألنَلقلذيككمُ بم كنيلهاً لكلذلر ل‬
‫ن" ]آل عمران‪.[103:‬‬ ‫للع ليككمُ تليكهتليدو ل‬
‫إن الفهم الصحيح لحقيقة اليمان وكلمة التوحيد لها آثار في‬
‫حياة النسان‪ ,‬وتلك الثار لها أثر في التمكين‪ ,‬فمن أهم هذه‬
‫الثار‪:‬‬
‫‪ -1‬ما تنشئه في النفس من النفة وعزة النفس بحيث ل يقوما‬
‫دونه شيء لنه ل نافع إل الله‪ ,‬وهو المحيي والمميت‪ ,‬وهو صاحب‬
‫الحكم والسلطة والسيادة‪ .‬ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إل‬
‫منه سبحانه‪ ,‬فل يطاطئ الرأس أماما أحد من الخلق‪ ,‬ول يتضرع‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الوالةر والعاداةر )‪.(1/246‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(1/246‬‬

‫‪70‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إليه‪ ,‬ول يتكفف له‪ ,‬ول يرتع من كبريائه وعظمته‪ ,‬لن الله هو‬
‫العظيم القادر‪ ,‬وهذا بخلف المشرك والكافر‪.‬‬
‫‪ -2‬ينشأ من اليمان بهذه الكلمة من أنفة النفس وعزتها‪:‬‬
‫تواضع من غير ذل‪ ,‬وترفع من غير كبر‪ ,‬فل يكاد ينفخ أوداجه‬
‫شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته لنه يعلم ويستيقن أن الله‬
‫الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء‪ ,‬أما الملحد‬
‫فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة‪.‬‬
‫‪ -3‬المؤمن بهذه الكلمة‪ :‬يعلم علم اليقين أنه ل سبيل إلى‬
‫النجاة والفلح إل بتزكية النفس والعمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -4‬من آثار اليمان الصحيح عدما تسربا اليأس‪ ,‬والبعد عن‬
‫القنوط‪ ,‬لنه يؤمن أن الملك والخزائن لله ربا العالمين‪ ,‬لذلك‬
‫فهو على طمأنينة وسكينة‪ ,‬وأمل‪ ,‬حتى ولو طرد العبد أو أهين‬
‫وضاقت عليه سبل العيش‪.‬‬
‫‪ -5‬من آثار كلمة اليمان والتوحيد في نفس العبد إعطاء قوة‬
‫عظيمة من العزما والقداما والصبر والثبات والتوكل والتطلع إلى‬
‫معالي المور ابتغاء مرضاة الله تعالى‪ ,‬مع شعوره أن وراءه قوة‬
‫مالك السماء والرض‪ ,‬فيكون ثباته ورسوخه وصلبته التي يستمدها‬
‫من هذا التصور‪ ,‬كالجبال الراسية‪ ,‬وأنى للكفر والشرك بمثل هذه‬
‫القوة والثبات؟‪.‬‬
‫‪ -6‬من آثار اليمان الحقيقي تشجيع النسان وامتلء قلبه جرأة؛‬
‫لن الذي يجبن النسان ويوهن عزمه شيئان‪ :‬حبه للنفس والمال‬
‫دا غير الله يميت النسان‪ ,‬فإيمان‬‫والهل‪ ,‬أو اعتقاده أن هناك أح ل‬
‫المرء بل إله إل الله يرفع عن قبله كل ل من هذين السببين‪ ,‬فيجعله‬
‫موقلنا بأن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله‪ ,‬فعندئذ يضحي في‬
‫سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده‪ .‬وينزع الثاني بأن يلقي في‬
‫روعه أنه ل يقدر على سلب الحياة منه إنسان ول حيوان ول قنبلة ول‬
‫مدفع‪ ,‬ول سيف ول حجر‪ ,‬وإنما يقدر ذلك الله وحده‪ .‬من أجل ذلك ل‬
‫يكون في الدنيا أشجع ول أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى‪ ,‬فل يكاد يخيفه‬
‫أو يثبت في وجهه زحف الجيوش‪ ,‬ول السيوف المسلولة‪ ,‬ول مطر‬
‫الرصاص والقنابل‪.‬‬
‫‪ -7‬ومن ثمار اليمان الصحيح‪ ,‬التحلي بالخلق الرفيعة والتطهر من‬
‫الخلق الوضيعة‪.‬‬
‫صا على التمسك‬ ‫‪ -8‬ومن ثمار اليمان على العبد تجعله حري ل‬
‫بشرع الله تعالى ومحاف ل‬
‫ظا عليه‪.‬‬
‫‪ -9‬ومن ثمار اليمان تربية العبد على أن يكون جندليا من جنود‬
‫‪71‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الدعوة التي تسعى لتحكيم شرع الله وتمكين دينه سبحانه‬


‫وتعالى‪.‬‬
‫إن من شروط التمكين لدين الله تعالى في الرض تحقيق‬
‫اليمان الذي يريده الله وبزينه رسوله × وتجسد في حياة أصحابه‪.‬‬
‫إن اليمان المطلوبا هو الذي يبعثنا على الحركة والهمة‪,‬‬
‫والنشاط والسعي‪ ,‬والجهد والمجاهدة‪ ,‬والجهاد والتربية‪,‬‬
‫والستعلء والعزة‪ ,‬والثبات واليقين)‪.(1‬‬
‫يقول الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى مفرلقا بين إيمان‬
‫خامل وإيمان عامل‪ ,‬إيمان المسلم القاعد وإيمان المسلم الداعية‬
‫تحت عنوان »إيماننا«‪:‬‬
‫»والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في اليمان بهذا المبدأ‪,‬‬
‫أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم‪ ,‬ل يريدون أن ينزلوا‬
‫على حكمه ول أن يعملوا بمقتضاه‪ ..‬على أنه إيمان ملتهب‬
‫مشتعل قوي يقظ في نفوس الخوان المسلمين‪ ,‬ظاهرة نفسية‬
‫عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين‪ :‬أن‬
‫نؤمن بالفكرة إيمالنا يخيل للناس حيث نتحدث إليهم عنها أنها‬
‫ستحملنا على نسف الجبل وبذل النفس والمال واحتمال‬
‫المصاعب ومقارعة الخطوبا حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا‪ ,‬حتى إذا‬
‫هدأت ثائرة الكلما وانفض نظاما الجمع‪ ,‬نسي كل إيمانه وغفل عن‬
‫فكرته‪ ,‬فهو ل يفكر في العمل لها‪ ,‬ول يحدث نفسه بأن يجاهد‬
‫أضعف الجهاد في سبيلها‪ ,‬بل قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا‬
‫النسيان‪ ,‬حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو ل يشعر‪ ..‬أو لست‬
‫تضحك عجلبا حين ترى رجل ل من رجال الفكر والعمل والثقافة في‬
‫دا من‬‫ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار‪ :‬ملح ل‬
‫دا مع العابدين«)‪.(2‬‬
‫الملحدين‪ ,‬وعاب ل‬
‫إن اليمان الذي جاء به القرآن الكريم وبينه سيد الخلق‬
‫دا حبيس‬ ‫أجمعين عليه أفضل الصلة والتسليم ليس إيمالنا مجر ل‬
‫دائرة الذهن والتصور؛ بل هو تصديق يتبعه عمل‪ ,‬وإقرار يتبعه‬
‫التزاما‪ ,‬واعتقاد يتبعه خضوع‪.‬‬
‫فحقيقة اليمان في القرآن الكريم تدفع العبد المؤمن إلى‬
‫ص‬
‫ص بالحق وثبات عليه‪ ,‬وتوا ض‬ ‫جهاد ودعوة‪ ,‬والتزاما وحركة‪ ,‬وتوا ض‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ف ظللا اليإان‪ ,‬ص ‪.63‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رسائل حسن البنا‪ ,‬ص ‪.16‬‬

‫‪72‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫بالصبر وحث عليه)‪.(1‬‬


‫يقول سيد قطب رحمه الله‪) :‬والعمل الصالح هو الثمرة‬
‫الطيبة لليمان‪ ,‬والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي‬
‫تستقر فيها حقيقة اليمان في القلب‪ ,‬فاليمان حقيقة إيجابية‬
‫متحركة‪ ,‬ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق‬
‫ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح‪ ..‬هذا هو اليمان‬
‫دا ل يتحرك‪ ,‬كاملنا ل يتبدى في‬ ‫السلمي‪ ..‬ل يمكن أن يظل خام ل‬
‫صورة حية خارج ذات المؤمن‪.‬‬
‫فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت‪ ,‬شأنه‬
‫شأن الزهرة ل عتمسك أريجها‪ ,‬فهو ينبعث منها انبعالثا طبيعليا‪ ,‬وإل‬
‫فهو غير موجود‪.‬‬
‫ومن هنا قيمة اليمان‪ ..‬إنه حركة وعمل وبناء وتعمير‪ ..‬يتجه‬
‫شا وسلبية وانزواء في مكنونات‬ ‫إلى الله‪ ..‬إنه ليس انكما ل‬
‫الضمير‪ ..‬وليس مجرد النوايا الطيبة التي ل تتمثل في حركة‪,‬‬
‫وهذه طبيعة السلما البارزة التي تجعل منه قوة كبرى في صميم‬
‫الحياة)‪.(2‬‬
‫إن اليمان قوة دافعة وطاقة مجمعة‪ ,‬فما كادت حقيقته تستقر‬
‫في القلب حتى تتحرك لتعمل‪ ,‬ولتحقق ذاتها في الواقع‪ ,‬ولتوائم‬
‫بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة‪ ,‬كما أنها تستولي على‬
‫مصادر الحركة في الكائن البشري كلها‪ ,‬وتدفعها في الطريق‪.‬‬
‫»ذلك سر قوة العقيدة في النفس‪ ,‬وسر قوة النفس بالعقيدة‪,‬‬
‫سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الرض‪ ,‬وما تزال في كل‬
‫يوما تصنعها الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوما إلى يوما‪ ,‬وتدفع‬
‫بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل‬
‫الحياة الكبرى التي ل تفنى‪ ,‬وتقف بالفرد القليل الضئيل أماما قوى‬
‫السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار‪ ,‬فإذا هي كلها تنهزما أماما‬
‫العقيدة الدافعة في روح فرد المؤمن‪ ,‬وما هو الفرد الفاني المحدود‬
‫الذي هزما تلك القوى جميلعا‪ ,‬ولكنها القوى الكبرى الهائلة التي‬
‫استمدت منها تلك الروح‪ ,‬والينبوع المتفجر الذي ل ينضب ول ينحسر‬
‫ول يضعف«)‪.(3‬‬
‫»تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الفراد وفي‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ف ظللا اليإان‪ ,‬ص ‪.64‬‬
‫‪2‬‬
‫)( ف ظللا القرآن )‪.(6/3967،3966‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ف ظللا القرآن )‪.(6/3353‬‬

‫‪73‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫حياة الجماعات ل تقوما على خرافة غامضة‪ ,‬ول تعتمد على التهويل‬
‫والرؤى‪ ,‬إنها تقوما على أسبابا مدركة وعلى قواعد ثابتة‪ ,‬إن العقيدة‬
‫الدينية فكرة كلية تربط النسان بقوى الكون الظاهرة والخصبة‪,‬‬
‫وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة‪ ,‬وتمنحه القدرة على مواجهة القوى‬
‫الزائلة والوضاع الباطلة‪ ,‬بقوة اليقين في النصر‪ ,‬وقوة الثقة في الله‪,‬‬
‫وهي تفسر للفرد علقاته بما حوله من الناس والحداث والشياء‪,‬‬
‫وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه‪ ,‬وتجمع القوى والطاقات حول‬
‫محور واحد‪ ,‬وتوجيهها في اتجاه واحد‪ ,‬تمضي إليه مستنيرة الهدف‪,‬‬
‫في قوة وفي ثقة وفي يقين«‪.‬‬
‫ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه‬
‫الكون كله ظاهرة وخافية‪ ,‬وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة‬
‫ها إيمانليا‪ ,‬فيلتقي المؤمن في طريقه‪ ,‬وينضم إلى زحفها‬ ‫تتجه اتجا ل‬
‫الهائل لتغليب الحق على الباطل مهما يكن للباطل من قوة‬
‫ظاهرة لها في العيون بريق«)‪.(1‬‬
‫وبهذا لعلي أكون قد أوضحت حقيقة اليمان التي نسعى‬
‫ليجادها في أفراد المة والجماعة المسلمة لنقطع خطوة نحو‬
‫التمكين المنشود‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(6/3353‬‬

‫‪74‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫المبحث الثاني‬
‫تحقيـــــــــق العبـــــــادة‬
‫ل‪ :‬معنى العبادة في اللغة والشرع‪:‬‬ ‫أو ل‬
‫أ‪ -‬في اللغة‪ :‬العبادة والعبدية والعبودية‪ :‬الطاعة)‪.(1‬‬
‫وفي لسان العربا‪ :‬أصل العبودية‪ :‬الخضوع والتذلل‪.‬‬
‫والتعبد‪ :‬التنسك‪ ,‬والعبادة‪ :‬الطاعة‪.‬‬
‫والتعبد‪ :‬التذلل‪ ,‬والتعبيد‪ :‬التذليل‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫بعير معبد‪ :‬مذلل‪ ,‬وطريق معبد‪ :‬مسلوك مذلل ‪.‬‬
‫دا إلى‬‫ويرى أبو العلى المودوي في معنى العبادة استنا ل‬
‫الستعمال اللغوي لمادة )ع با د( أن أصل معنى العبادة هو‬
‫الذعان الكلي‪ ,‬والخضوع الكامل والطاعة المطلقة)‪.(3‬‬
‫با‪ -‬العبادة في الشرع‪ :‬خضوع وحب)‪ ,(4‬والعبادة المأمور بها‬
‫العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله‪ ,‬ومعنى الحب فهي تتضمن‬
‫غاية الذل لله بغاية المحبة له)‪.(5‬‬
‫قال ابن تيمية ‪-‬رحمه الله‪) :-‬والله هو المعبود الذي يستحق‬
‫غاية الحب والعبودية والجلل والكراما والخوف والرجاء‪.(6) (.....‬‬
‫وينص ابن القيم ‪-‬رحمه الله‪ :-‬على أن )العبادة تجمع أصلين‬
‫غاية الحب بغاية الذل والخضوع()‪ .(7‬ودعائم هذه العبادة التي‬
‫تنتظم أعمال النسان كلها القلبية‪ ,‬والعملية الفردية والجماعية‪:‬‬
‫المحبة والخوف والرجاء‪ ,‬وقد جعل ابن القيم هذه الثلث في قلب‬
‫المؤمن‪) :‬بمنزلة الطائر‪ ,‬فالمحبة رأسه‪ ,‬والخوف والرجاء جناحاه‬
‫فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران‪ ,‬ومتى قطع‬
‫الرأس مات الطائر‪ ,‬ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد‬
‫‪1‬‬
‫)( القاموس اليط كتاب )الدالا(‪ ,‬فصل )العي( ‪.378‬‬
‫‪2‬‬
‫)( لسان العرب‪ ,‬كتاب الدالا‪ ,‬فصل العي الهملة ‪.3/271‬‬
‫‪3‬‬
‫)( الصطلحات الربعة ف القرآن للمودودي‪ ,‬ص ‪.97‬‬
‫‪4‬‬
‫)( العبادةر ف السلم للقرضاوي‪ ,‬ص ‪.31‬‬
‫‪5‬‬
‫)( اناظر‪ :‬مموع الفتاوى )‪.(1/207‬‬
‫‪6‬‬
‫)( الصدر نافسه )‪.(28/35‬‬
‫‪7‬‬
‫)( مدارج السالكي )‪.(1/74‬‬

‫‪75‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وكاسر( )‪ ,(1‬وبهذا يتضح مفهوما العبادة في الشرع‪.‬‬


‫ثانليا‪ :‬حقيقة العبادة‪:‬‬
‫إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة لله في دنيا‬
‫الناس وعلى الجماعة المسلمة أن تفهم حقيقة العبادة في القرآن‬
‫الكريم وسنة سيد المرسلين ×‪ ,‬وأن تعمل على نشر المفهوما‬
‫الصحيح لمعنى العبادة في شرايين المة حتى تخرج من الوهاما‬
‫والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان‪.‬‬
‫لقد ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة‪ ,‬صرفت عقولهم‬
‫وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله‬
‫النسان من أجلها‪ ,‬وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من‬
‫حوله‪ ,‬ليقوما بها وفق أمر خالقه‪ ,‬وعند تأمل القرآن الكريم‬
‫والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواه ووعد ووعيد‪ ,‬نجد‬
‫كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية النسان‬
‫له‪.‬‬
‫فإذا كان خلق النسان وتسخير الكون له‪ ,‬وإيجاد العقل‬
‫والقلب والرادة فيه‪ ,‬وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة‬
‫والنار‪ ,‬وقبيل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري ‪-‬جل وعل‪ -‬من‬
‫ما‪ ,‬خلق كل شيء‬ ‫ما علي ل‬
‫كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكي ل‬
‫فقدره تقديلرا‪ ,‬ولم يخلق شيلئا عبلثا ولم يوجد شيلئا لغير حكمة‪,‬‬
‫وإذا كان القرآن المجيد‪ ,‬وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد‬
‫جاء لجل هذه المهمة العظيمة‪ ,‬أل وهي تعبيد الخلق كلهم لله‬
‫سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية‬
‫وحسب‪ ,‬أو أنها الشعائر التعبدية فقط‪ ,‬أو أنها لبعض نشاطات‬
‫النسان دون بعض‪ ,‬أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض‪.‬‬
‫بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها النسان‪ ,‬وجعلها غايته‬
‫في الحياة‪ ,‬ومهمته في الرض‪ ,‬دائرة رحبة واسعة‪ ,‬إنها تشمل‬
‫شئون النسان كلها‪ ,‬وتستوعب حياته جميلعا‪ ,‬وتستغرق كل‬
‫مناشطه وأعماله)‪ ,(2‬وبهذا المعنى الشامل‪ ,‬فهم السلف الصالح‬
‫دا كان أو جماعة‪ ,‬وقد لخص هذا المعنى الشامل‬ ‫عبادة النسان فر ل‬
‫للعبادة وحدد ماهيتها شيخ السلما ابن تيمية ‪-‬رحمه الله تعالى‪-‬‬
‫حين قال‪) :‬العبادة‪ :‬هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه‪ :‬من‬
‫القوال والعمال الباطنة والظاهرة‪ ,‬فالصلة والزكاة والصياما‬
‫‪1‬‬
‫)( مدارج السالكي )‪.(1/517‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬العبادةر ف السلم للقرضاوي ص ‪.53‬‬

‫‪76‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫والحج‪ ,‬وصدق الحديث‪ ,‬وأداء المانة‪ ,‬وبر الوالدين‪ ,‬وبر الوالدين‪,‬‬


‫وصلة الرحاما‪ ,‬والوفاء بالعهود‪ ,‬والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬والجهاد للكفار والمنافقين‪ ,‬والحسان إلى الجار واليتامى‬
‫والمسكين وابن السبيل والمملوك من الدميين والبهائم‪ ,‬والدعاء‬
‫والذكر والقراءة‪ ,‬وأمثال ذلك من العبادة‪ ,‬وكذلك حب الله‬
‫ورسوله وخشية الله والنابة إليه وإخلص الدين له‪ ,‬والصبر‬
‫لحكمه‪ ,‬والشكر لنعمه‪ ,‬والرضا بقضائه‪ ,‬والتوكل عليه‪ ,‬والرجاء‬
‫لرحمته‪ ,‬والخوف لعذابه‪ ,‬وأمثال ذلك هي من العبادة لله‪.(1) (..‬‬
‫وبهذا التعريف الجامع ل يمكن أن يخرج أي شيء من‬
‫نشاطات النسان وأعماله‪ ,‬سواء كان ذلك في العبادات المحضة‪,‬‬
‫أو في المعاملت المشروعة‪ ,‬أو في العادات التي طبع النسان‬
‫على فعلها‪.‬‬
‫أما في العبادات والمعاملت المشروعة فإنها مما يحبه الله‬
‫ويرضاه‪ ,‬وهذا أمره الشرعي الدائر بين الحكاما الخمسة التي‬
‫اصطلح عليها الفقهاء وهي‪) :‬الواجب‪ ,‬والمحرما‪ ,‬والمستحب‪,‬‬
‫والمكروه‪ ,‬والمباح( أما في العادات فالذي لم يحدد منها بأوامر‬
‫الشرع‪ ,‬ولم يتقيد بأحكامه على وجه الخصوص‪ ,‬فإنه ل يخرج عن‬
‫كونه داخل ل تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية النسان في كل‬
‫أحواله لله سبحانه‪ ,‬وباعتبار أن )العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه‬
‫ضا جاءت الشريعة بلزوما عادات‬ ‫الله‪ ,‬أو فيما يكرهه‪ ,‬فلهذا أي ل‬
‫السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها‬
‫من غير حاجة( )‪.(2‬‬
‫وإن كان ينبغي لنا هنا الشارة إلى أن الصل في العبادات‬
‫المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها‪ ,‬وأن أصل‬
‫العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها‪ ,‬وذلك مبني على )أن‬
‫تصرفات العباد من القوال والفعال نوعان‪ :‬عبادات يصلح بها‬
‫دينه‪ ,‬وعادات يحتاجون إليها في دنياهم‪ ,‬فباستقراء أصول‬
‫الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله‪ ,‬أو أحبها ل يثبت المر‬
‫بها إل بالشرع‪ ,‬وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما‬
‫يحتاجون إليه‪ ,‬والصل فيه عدما الحظر‪ ,‬فل يحظر منه إل ما‬
‫حظره الله سبحانه وتعالى‪ ,‬وذلك لن المر والنهي هما شرع الله‪,‬‬
‫والعبادة لبد أن يكون مأمولرا بها‪ ,‬فما لم يثبت أنه مأمور به‪ ,‬كيف‬

‫‪1‬‬
‫)( مموع الفتاوى )‪.(10/150‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اقتضاء الصراط الستقيم )‪.(1/399‬‬

‫‪77‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يحكم عليه بأنه عبادة؟!‪.‬‬


‫وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه‪ ,‬كيف يحكم عليه أنه‬
‫محظور؟ والعادات الصل فيها العفو‪ ,‬فل يحظر منها إل ما حرما(‬
‫)‪.(1‬‬
‫وهذا التقسيم في الحظر والباحة ل يخرج شيلئا من أفعال‬
‫النسان العادية من دائرة العبادة لله‪ ,‬ولكن ذلك يختلف في‬
‫درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة‪ ,‬وعادة تتحول‬
‫بالنية والقصد إلى عبادة‪ ,‬لن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد‬
‫الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة‪ ,‬أو المندوبة أو تكميل ل‬
‫لشيء منهما( )‪.(2‬‬
‫وقال النووي في شرحه لحديث »فيِ بضع أحدكمُ صدقة«)‪) :(3‬وفي‬
‫هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة( )‪.(4‬‬
‫ومن ذلك يتضح‪) :‬أن الدين كله داخل في العبادة‪ ,‬والدين‬
‫منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها‪ ,‬وينظم جميع أمورها من أدبا‬
‫الكل والشربا وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة‪ ,‬وسياسة الحكم‪,‬‬
‫وسياسة المال‪ ,‬وشئون المعاملت والعقوبات‪ ,‬وأصول العلقات‬
‫الدولية في السلم والحربا‪.‬‬
‫إن الشعائر التعبدية من صلة‪ ,‬وصوما‪ ,‬وزكاة‪ ,‬لها أهميتها‬
‫ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها؛ بل هي جزء من العبادة التي‬
‫يريدها الله تعالى‪.‬‬
‫إن مقتضى العبادة المطالب بها النسان‪ ,‬أن يجعل المسلم‬
‫أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلقاته مع الناس وفق المناهج‬
‫والوضاع التي جاءت بها الشريعة السلمية‪ ,‬يفعل ذلك طاعة لله‬
‫ما لمره‪.(5) (..‬‬ ‫واستسل ل‬
‫والدليل على المفهوما الشامل للعبادة‪ ,‬من الكتابا والسنة‬
‫وفعل الصحابة رضي الله عنهم‪ :‬فأما من القرآن الكريم فقوله‬
‫س إرلل رليْليكعبييدورن" ]الذاريات‪+ ،[56:‬لولماً أيرميرواً إلل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫تعالى‪+ :‬وماً لخ لكق ي ر‬
‫ت اًلكجلنَ لواًلنَك ل‬ ‫لل‬

‫‪1‬‬
‫)( مموع الفتاوى )‪.(117-29/116‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي )‪.(1/19‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب الزكاةر‪ ,‬باب أن اسم الصدقة يقع على كل ناوع من العروف )‪.(1/697‬‬
‫‪4‬‬
‫)( شرح النووي مع مسلم‪ ,‬كتاب الزكاةر‪ ,‬باب كل ناوع من العروف صأدقة )‪.(7/97‬‬
‫‪5‬‬
‫)( مقاصأد الكلفي‪ ,‬د‪ .‬عمر الشقر ص ‪.47-46‬‬

‫‪78‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫رليْليكعبييدواً إرلحهاً لواًرححداً لل إرلهل إرلل يهلوُ يسكبلحاًنَلهي لعلماً ييكشرريكوُلن" ]التوبة‪+ ,[31:‬قيكل إرلن‬
‫ت لوأللنَاً‬ ‫ك أيرمكر ي‬ ‫ك لهي لوبرلذلر ل‬
‫ب اًلكلعاًلرميْلنَ ‪ ‬لل لشرري ل‬
‫ل لر ب‬‫صللرتيِ ونَيسركيِ ومكحيْاًيِ ومماًرتيِ ر‬
‫لل ل ل لل ل‬ ‫ل ي‬ ‫ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫أللويل اًلكيمكسلميْلنَ" ]النعاما‪+ ,[163،162:‬لولماً أيميرواً إلل ليْليكعبييدواً اًلل يمكخلصيْلنَ لهي اًلبديلنَ‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫نَ اًللقيْبلمرة" ]البينة‪.[5:‬‬ ‫صلللة وييكؤتيوُاً اًللزلكاًلة ولذلر ل ر‬ ‫ر‬
‫ك دي ي‬ ‫ل‬ ‫يحنليلفاًءل لوييقيْيموُاً اًل ل ل ي‬
‫ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموما العادات بدون‬
‫تخصيص وبعضها الخر في أفراد السلوك العادي‪ ,‬وفي هذا الخير‬
‫دليل وتشبيه على المعنى العاما المقصود إثباته هنا فمن ذلك‪:‬‬
‫قوله ×‪» :‬إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة‪ ,‬وهو يحتسبها‬
‫كانت له صدقة« )‪.(1‬‬
‫قوله ×‪» :‬كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم«)‪.(2‬‬
‫قوله ×‪» :‬ديناًر أنَفقته فيِ سبيْل اًل‪ ,‬وديناًر أنَفقته فيِ رقبة‪ ,‬وديناًر تصدقت‬
‫به علىَ اًلمسكيْنَ‪ ,‬وديناًر أنَفقته علىَ أهلك‪ ,‬أعظمهاً أجحراً اًلذيِ أنَفقته علىَ أهلك«‬
‫)‪.(3‬‬
‫سلمي من الناس عليه صدقة‪ ,‬كل يوما تطلع فيه‬ ‫وقال ×‪» :‬كل ع‬
‫الشمس تعدل بين الثنين صدقة‪ ,‬وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها‪,‬‬
‫أو ترفع له متاعه صدقة‪ ,‬والكلمة الطيبة صدقة‪ ,‬وكل خطوة تخطوها‬
‫إلى الصلة صدقة‪ ,‬ودل الطريق صدقة‪ ,‬وتميط الذى عن الطريق‬
‫صدقة«)‪.(4‬‬
‫وأما الستدلل على عموما العبادة وشمولها لحياة النسان‬
‫بفعل السلف وفهمهم ففيما روى البخاري في صحيحه عن أبي‬
‫بردة)‪ (5‬في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن‪ ,‬وفي آخره‬
‫قال أبو موسى لمعاذ‪ :‬فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال‪» :‬أناما أول‬
‫الليل فأقوما وقد قضيت جزئي من النوما فأقرأ ما كتب الله لي‪,‬‬
‫فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي«)‪ .(6‬وفي كلما معاذ رضي‬

‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬ما جاء أن العمالا بالنيات )‪ (1/24‬رقم ‪.55‬‬
‫‪2‬‬
‫)( سلسلة الحاديث الصحيحة لللبان )‪.(3/22‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب الزكاةر‪ ,‬باب‪ :‬النفقة على العيالا والملوك )‪.(1/191‬‬
‫‪4‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب الصلح‪ ,‬باب‪ :‬فضل الصألح بي الناس )‪ (3/227‬رقم ‪.2707‬‬
‫‪5‬‬
‫)( هو التابعي الثقة أبو بردةر حارثا‪ ,‬وقيل عامر بن أب موسى عبد ال بن قيس الشعري‪ ,‬ثقة كثي الديث‪ ,‬تول قضاء الكوفة‬
‫للحجاج‪ ,‬ث عزله‪ ,‬ت ‪107‬هـ‪ ،‬اناظر‪ :‬سي أعلم النبلء )‪.(4/343‬‬
‫‪6‬‬
‫)( البخاري‪ ,‬كتاب الغازي‪ ,‬باب‪ :‬بعثة أب موسى ومعاذ إل اليمن )‪ (5/156‬رقم ‪.43،42‬‬

‫‪79‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الله عنه‪ ,‬دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية‪.‬‬


‫وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شئون الحياة كلها وكله‬
‫ما بالشروط التية‪:‬‬ ‫حرص على إتقانها لكونها عبادة لله تعالى ملتز ل‬
‫عا في نظر السلما‪ ,‬أما العمال‬ ‫‪ -1‬أن يكون العمل مشرو ل‬
‫التي ينكرها الدين‬
‫فل تكون عبادة بأي حال من الحوال‪ ,‬قال الرسول ×‪ ..» :‬إن‬
‫الله تعالى طيب ل يقبل‬
‫إل طيلبا‪.(1) «..‬‬
‫‪ -2‬أن تصحبه النية الصالحة‪ ,‬فينوي المسلم إعفاف نفسه‪,‬‬
‫وإغناء أسرته‪ ,‬ونفع أمته‪ ,‬وعمارة الرض كما أمره الله ربا‬
‫العالمين‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان‪ ,‬قال النبي ×‪» :‬إن الله‬
‫كتب الحسان على‬
‫كل شيء‪.(2) «..‬‬
‫‪ -4‬أن يلتزما في عمله حدود الله تعالى‪ ,‬فل يظلم‪ ,‬ول يخون‪,‬‬
‫ول يغش‪ ,‬ول يجور‪.‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ -5‬أل يشغله عمله لمعاشه عن واجباته الدينية ‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ك‬‫ل لولمنَ يليكفلعكل لذلر ل‬
‫‪+‬ياً أليميلهاً اًلرذينَ آمنيوُاً لل تييكلرهيكمُ ألكموُاًلييكمُ ولل ألولليديكمُ لعنَ رذككرر اً ر‬
‫ك ل ك ل ك ك ك‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫ن"]المنافقون‪.[9:‬‬ ‫ر‬
‫فليأول ل ي ي ل ي ل‬
‫رو‬‫س‬ ‫خاً‬‫ك‬
‫ل‬ ‫اً‬ ‫مُ‬ ‫ه‬ ‫ك‬ ‫ر‬
‫ئ‬
‫إن من أخطر النحرافات التي وقعت فيها الجيال المتأخرة‬
‫من المسلمين انحرافهم في تصور مفهوما معنى العبادة‪ ..‬وحين‬
‫يعقد النسان مقارنة بين المفهوما الشامل الواسع العميق الذي‬
‫كانت الجيال الولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة‪,‬‬
‫والمفهوما الهزيل الضئيل الذي تفهمه الجيال المعاصرة‪ ,‬ل‬
‫يستغربا كيف هوت هذه المة من عليائها لتصبح في هذا‬
‫الحضيض الذي نعيشه اليوما‪ ,‬وكيف هبطت من مقاما الريادة‪,‬‬
‫والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه المم‬
‫با)‪.(4‬‬ ‫ة الذئا ع‬‫تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريس ع‬

‫‪1‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب الزكاةر‪ ,‬باب‪ :‬قبولا الصدقة من الكسب الطيب )‪.(2/703‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم شرح النووي‪ ,‬كتاب العبد‪ ,‬باب‪ :‬المر بإحسان الذبح )ملد ‪ (5‬ج ‪ ,13‬ص ‪.106‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬العبادةر ف السلم‪ ,‬د‪ .‬القرضاوي‪ ,‬ص ‪.63،62‬‬
‫‪4‬‬
‫)( اناظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح لمد قطب‪ ,‬ص ‪.173‬‬

‫‪80‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إن من شروط التمكين أن يكون مفهوما العبادة في حس‬


‫الجيل‪ ,‬إن عبادة الله هي غاية الوجود النساني كله‪ ,‬ما نفهم من‬
‫لنَكس إرلل لريْليكعبييدورن" ]الذاريات‪.[56:‬‬
‫ر‬ ‫قول الله سبحانه‪+ :‬وماً لخ لكق ي ر‬
‫ت اًلكجلنَ لواً ل‬ ‫لل‬
‫لقد كان الجيل الول لهذه المة يفهم الحياة كلها على أنها‬
‫عبادة تشمل الصلة والنسك‪ ,‬وتشمل العمل كله‪ ,‬وتشمل لحظة‬
‫الترويح كذلك‪ ,‬فل شيء في حياة النسان كلها خارج من دائرة‬
‫العبادة‪ ,‬وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة‪,‬‬
‫كلها عبادة وإن اختلفت أنواعها ومجالتها)‪.(1‬‬
‫وبهذا الفهم العميق لمفهوما العبادة حققت تلك المة في‬
‫سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه‪ ,‬فحين كانت‬
‫تمارس المة إيمانها الحق‪ ,‬وعبادتها الحقة‪ ,‬وكانت الخلق في‬
‫حسها جزلءا من العبادة المفروضة على المسلم‪ ,‬حدثت إنجازات‬
‫هائلة لم تتكرر في التاريخ‪ ,‬ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح‬
‫السلمي من الهند شرلقا إلى المحيط غرلبا‪ ,‬وهي سرعة مذهلة ل‬
‫مثيل لها في التاريخ كله‪ ,‬ولم يكن الكسب هو الرض‬
‫التي فتحت‪ ,‬وإنما كان الكسب العظم هو القلوبا التي اهتدت‬
‫جا)‪.(2‬‬‫بنور الله فدخلت في دين الله أفوا ل‬
‫وما كانت تلك المة لتقدر على دك حصون الشرك‪ ,‬واقتلعها‬
‫بمثل هذه السهولة‪ ,‬وبمثل هذه السرعة‪ ,‬وما كانت لتقدر على‬
‫إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع‪ ,‬من إقامة‬
‫العدل الرباني في الرض‪ ,‬ونظافة التعامل‪ ,‬والوفاء بالمواثيق‪,‬‬
‫وشجاعة النفس‪ ,‬والبطولة الفذة في ميدان الحربا والسلم‬
‫سواء‪ ,‬وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة‪ ,‬ول‬
‫حركتها الحضارية السامقة‪ ..‬ما كانت لتقدر على ذلك كله‪ ,‬ول‬
‫على شيء منه‪ ,‬لول هذا الحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله‬
‫تقوما بالعبادة التي خلق الله النسان من أجلها وتقوما به بذات‬
‫الحس الذي تؤدي به الصلة)‪.(3‬‬
‫ما وعمل ل عند الجيال المسلمة‬ ‫هكذا كانت العبادة تصولرا وفه ل‬
‫الولى)‪ ,(4‬ولن يصلح آخر هذه المة إل بما صلح به أولها؛ تصحيح‬
‫ل‪ ,‬ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة‬ ‫المفاهيم أو ل‬
‫‪1‬‬
‫)( الصدر السابق نافسه‪ ,‬ص ‪.204-203‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الصدر السابق نافسه‪ ,‬ص ‪.222‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ,‬ص ‪.192‬‬
‫‪4‬‬
‫)( اناظر‪ :‬التمكي للمة السلمية‪ ,‬ص ‪.59‬‬

‫‪81‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫للسلما)‪.(1‬‬
‫إن قضية العبادة ليست قضية شعائر‪ ,‬وإنما هي قضية دينونة‬
‫واتباع‪ ,‬وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالت‪ ,‬وكل هذا‬
‫الهتماما)‪.(2‬‬
‫وحتى تستحق المة السلمية اليوما وعد الله بالتمكين فإن‬
‫عليها أن تصيغ حياتها كلها صياغة جديدة على منهج الله ربا‬
‫العالمين‪ ,‬لتصبح كلها عبادة من لحظة التكليف إلى لحظة الموت‪,‬‬
‫ل تند ل عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي‪ ,‬ول لمحة‪ ,‬ول خاطر‪,‬‬
‫قا لقول الله تعالى‪:‬‬ ‫ول لون من ألوان النشاط)‪ ,(3‬امتثال ل وتحقي ل‬
‫نَ" ]النعاما‪.[162:‬‬ ‫ر‬ ‫‪+‬قيل إرلن صللرتيِ ونَيسركيِ ومكحيْاًيِ ومماًرتيِ ر‬
‫ب اًلكلعاًلميْ ل‬
‫ل لر ب‬ ‫لل ل ل لل ل‬ ‫ل ي‬ ‫ل‬ ‫ك‬
‫إن من أسبابا ضياع المة وضعفها‪ ,‬وانهزامها أماما أعدائها‬
‫فقدها لشرط مهم من شروط التمكين أل وهو تحقيق العبودية‬
‫بمفهومها الشامل الصحيح‪.‬‬
‫ثاللثا‪ :‬أهمية الجانب العبادي في حياة النسان‪:‬‬
‫إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شامل مشرق‪ ,‬ولها‬
‫أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالت اللهية‪,‬‬
‫وتحقيق الفطرة النسانية على وجهها الصحيح المستقيم‪ ,‬طالما‬
‫تمثلت فيها عناصر الحب والذل‪ ,‬والرجاء والخوف ونحوها‪,‬‬
‫دا أصلليا‪ ,‬وهو التوجه إلى‬ ‫ومعلوما لدى العلماء أن للعبادة مقص ل‬
‫الواحد الصمد‪ ,‬وإفراده بالعبادة في كل حال‪ ,‬طللبا لرضا الله‪,‬‬
‫والفوز بالدرجات العل‪ ,‬وهناك مقاصد تابعة للعبادة‪ :‬صلح النفس‪,‬‬
‫واكتسابا الفضيلة‪ ,‬فالصلة مثل ل أصل مشروعيتها الخضوع لله‬
‫تعالى‪ ,‬وإخلص التوجه إليه‪ ,‬والنتصابا على قدما الذلة والصغار‬
‫صلللة لررذككرريِ"‬‫بين يديه‪ ,‬وتذكير النفس بذكره‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لوألقررمُ اًل ل‬
‫شاًرء واًلكمكنلكرر ولرذككر اً ر‬ ‫]طه‪ ,[14:‬وقال‪+ :‬إرلن اًل ل‬
‫ل ألككبليير"‬ ‫ل ي‬ ‫صلللة تلي كنيلهىَ لعرنَ اًلكلفكح ل ل ي‬
‫]العنكبوت‪ [45:‬يعني أن اشتمال الصلة على التذكير بالله هو‬
‫المقصود الصلي‪ ,‬ثم إن لها مقاصد تابعة كالستراحة إليها من‬
‫أنكاد الدنيا وإنجاح الحاجات كصلة الستخارة وصلة الحاجة‪,‬‬
‫وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة‪ ,‬وفوائد دنيوية‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ,‬ص ‪.251-250‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ف ظللا القرآن )‪.(4/1943‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬التمكي للمة السلمية‪ ,‬ص ‪.59‬‬

‫‪82‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫وهي كلها تابعة للفائدة الصلية وهي النقياد والخضوع لله)‪.(1‬‬


‫وإذاً تأملناً فيِ مهمة اًلعباًدة يمكنناً أن نَستخلص اًلتيِ‪:‬‬
‫‪ -1‬تثبيت العتقاد‪:‬‬
‫إن روح العبادة هو إشرابا القلب حب الله تعالى‪ ,‬وهيبته‪,‬‬
‫ما بما‬‫وخشيته والشعور الغامر بأنه ربا الكون ومليكه‪ ,‬والتوجه دائ ل‬
‫شرع من شعائر ونسك‪ ,‬باعتبارها مظهلرا عملليا دائلبا لصدق‬
‫النسان في دعوى اليمان‪ ,‬وتذكيلرا مستملرا بسلطان الله‬
‫دا لجذوة اليقين في الله‪ ,‬ورجاء فضله وثوابه‪.‬‬ ‫العلى‪ ,‬وإلهالبا متجد ل‬
‫ولنأخذ مثال ل عبادليا لتثبيت معنى التوحيد‪ ,‬وإجلل الله تعالى‪,‬‬
‫وهو )الذان( وقد شرع بدخول أوقات الصلة المفروضة‪ ,‬فهو‬
‫يتكرر في اليوما والليلة خمس مرات‪ ,‬وينادي به منادي المسلمين‬
‫صولتا في كل مكان يوجد به تجمع إسلمي‪ ,‬ولو كان أدنى الجمع‬
‫من المسلمين‪ ,‬بل شرع مع ذلك للمسافر‪ ,‬والمنفرد‪ ,‬ولو كان في‬
‫ن عظيمة ليس مجرد العلما بدخول‬ ‫بادية لما يمثله من معا ض‬
‫الوقت‪.‬‬
‫إن المؤذن حين ينادي بصوته العلى‪) :‬الله أكبر الله أكبر( ثم‬
‫عا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين‬ ‫يكررها‪ ,‬يطلب شر ل‬
‫يسمعون هذا القول الجل‪ ,‬لينسكب في مشاعر الجميع وفي‬
‫أوقات متكررة متقاربة‪ ,‬معنى الكبرياء المطلق لله ربا العالمين‪,‬‬
‫وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء‪ ,‬فينبغي أن يعتز به‬
‫وحده‪ ,‬ويلوذ بحماه وكنفه‪ ,‬ويستعلي فوق أعناق الطواغيت‬
‫والجبارين بهذا النداء الجهير‪ ,‬الذي أراد الله عز وجل أن يتواطأ‬
‫عليه المجتمع كله‪ ,‬وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به‪.‬‬
‫فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء الجل ليمل الفاق‪) :‬أشهد أن‬
‫ل إله إل الله( وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد‬
‫لربه بأن ل يعبد ول يطيع إل ربه الكبر‪ ,‬المنفرد بالكبرياء في‬
‫السموات والرض‪.‬‬
‫دا رسول‬ ‫ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة‪) :‬أشهد أن محم ل‬
‫ضا بالطريق الذي تؤخذ عنه‬ ‫الله( وهو كما علمت إقرار متكرر أي ل‬
‫العبادة المشروعة‪ ,‬والتي ل تصح إل بالتلقي عن الوحي اللهي‬
‫الذي جاء به المعصوما ×‪.‬‬
‫ثم تأتي رابلعا‪ :‬الدعوة إلى الصلة نفسها في جملتين فقط‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬العبادةر ف السلم للقرضاوي‪.49-48 :‬‬

‫‪83‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫)حي على الصلة‪ ,‬حي على الصلة( لن الذان كما قلنا أبعد مدى‪,‬‬
‫وأشمل آثالرا‪.‬‬
‫سا‪ :‬الدعوة العامة إلى الصلح المطلق‪ ,‬المتمثل‬ ‫ثم تأتي خام ل‬
‫في الستجابة لهذا الدين اللهي الغر‪ ,‬ومثله وتعاليمه‪ ,‬وفي‬
‫مقدمتها الصلة بداهة)‪.(1‬‬
‫ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البدء ليكبر في الختاما‬
‫التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء‪ ,‬وإعلن التوحيد بصيغة القرار‬
‫والثبات بعد صيغة الشهادة السابقة )الله أكبر‪ ,‬الله أكبر‪ ,‬ل إله إل‬
‫الله( معنى هذا أن الذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين‪,‬‬
‫ويسكب في ضمائرهم‪ ,‬ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله‬
‫تعالى بالكبرياء )ثلثين( مرة يومليا‪ ,‬وإفراده تعالى بصفة اللوهية‬
‫الذي تفرده بالعبادة والطاعة »خمس عشرة« مرة‪ ,‬وهو نداء ل‬
‫يتقيد بحدود معبد‪ ,‬أو مسجد‪ ,‬وإنما ينطلق ليدخل كل بيت‪,‬‬
‫ويصافح كل سمع‪ ,‬ويطرق كل قلب يريد الهدى‪.‬‬
‫وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الصول العليا فإن القصد‬
‫الذي تؤدي إليه )وهي الصلة( أعظم شألنا‪ ,‬وأتم مظهلرا‪ ,‬فقد فرضها‬
‫الله على كل بالغ من الذكور والناث خمس مرات في اليوما والليلة‪,‬‬
‫وهي تبدأ بالتكبير ويطلب من المصلي تكرار هذه الجملة )الله أكبر(‬
‫في صلوات الفرض فقط )أربلعا وتسعين مرة( عدا ما يقرع سمعه‬
‫بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة‪ ,‬فضل ل عن السنن الراتبة‬
‫والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك‪.‬‬
‫ثم إن العبد يتلو كتابا ربه في صلته‪ ,‬ويحني له ظهره راكلعا‪,‬‬
‫دا‪ ,‬وداعليا‪,‬‬ ‫حا‪ ,‬وحام ل‬ ‫ما‪ ,‬ومسب ل‬ ‫دا‪ ,‬ويناجي موله معظ ل‬ ‫ويخر بجبهته ساج ل‬
‫وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد‬
‫بهذا السلطان اللهي‪ ,‬وإلهابا نفسه بمعاني عظمته وسموه)‪.(2‬‬
‫إن الصلة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح ‪-‬واحة وراحة‪-‬‬
‫يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها‪ ,‬وهذا‬
‫شمر لجيزوحعاً‬‫سهي اًل ل‬ ‫ساًلن يخلرلق لهيلوُحعاً ‪ ‬إرلذاً لم ل‬ ‫ر‬
‫مصداق قول الله تعالى‪+ :‬إلن اًرلنَك ل‬
‫صللتررهكمُ لداًئريموُلن"‬ ‫ر‬
‫صبليْلنَ ‪ ‬اًلذيلنَ يهكمُ لعللىَ ل‬‫خيْيير لمينوُحعاً ‪ ‬إرلل اًلكيم ل‬ ‫‪ ‬لوإرلذاً لم ل‬
‫سهي اًلك ل ك‬
‫]المعارج‪.[23-19 :‬‬
‫‪ -2‬تثبيت القيم الخلقية‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( وسطية القرآن ف العبادةر والخألق والتشريع‪ ,‬ص ‪.40‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬النهاج القرآن ف التشريع‪ ,‬ص ‪.458‬‬

‫‪84‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارما الخلق‪,‬‬


‫ويدعو الناس إلى المثل العليا‪ ,‬والفضائل الكريمة كالصبر‪,‬‬
‫والمثابرة‪ ,‬والسماحة‪ ,‬والسخاء‪ ,‬والصدق‪ ,‬والتي تحقق للنسان‬
‫سعادته في الدنيا فضل ل عن الخرة‪ ,‬وللعبادات بأنواعها مهمة‬
‫عظيمة في تثبيت هذه الخلق‪ ,‬وتدعيمها‪ ,‬وغرسها في نفس‬
‫المؤمن ووجدانه‪) ,‬فالصلة( مثل ل تعود المؤمن الصبر‪ ,‬والدأبا‪,‬‬
‫خا في النفس‪,‬‬ ‫قا راس ل‬ ‫والخلص والنظاما‪ ,‬حتى تصبح جميلعا خل ل‬
‫فالمسلم النائم حين يقوما من لذة النوما على نداء المؤذن‬
‫»الصلة خير من النوما«‪ ,‬وكذلك حين ينسحب من ضجيج السواق‬
‫والبيع والشراء ملبليا لنداء »حي على الصلة«‪ ,‬ثم ل يزال دأبه‬
‫هكذا عبر الساعات‪ ,‬والياما‪ ,‬والعواما‪ ,‬فهذا وأمثاله لبد أن تتربى‬
‫فيهم هذه المعاني الخلقية العالية)‪.(1‬‬
‫و)الزكاة( التي أخذت من معنى الزيادة‪ ,‬والنماء‪ ,‬والتطهير‪ ,‬لها‬
‫‪-‬هي الخرى‪ -‬أكبر الثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل‬
‫والمساك‪ ,‬وفي طبعه بطبائع البذل‪ ,‬والعطاء والسخاء‪ ,‬كذلك‬
‫تستل صدور المحتاجين‪ ,‬وتبدل به شيلئا من خلق الحب‪ ,‬والمودة‪,‬‬
‫أو على القل سلمة الصدور‪ ,‬فتشيع في المجتمع تبلعا لذلك كل‬
‫علئق التداني والتقاربا‪ ,‬وتتداخل صلت الناس بمشاعر اللفة‪,‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى‪+ :‬يخكذ مكنَ ألكملوُاًلرهكمُ ل‬
‫صلدقلةح تيطلبهيريهكمُ لوتييلزبكيْهكمُ‬
‫نَ ليهكمُ" ]التوبة‪.[103 :‬‬ ‫ك لسلك ر‬ ‫برلهاً لو ل‬
‫صبل لع لكيْرهكمُ إرلن ل‬
‫صللتل ل‬
‫و)الصوما( له عمله الساسي في تربية الرادة النسانية‪,‬‬
‫والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله‬
‫تعالى له‪ ,‬واطلعه عليه‪ ,‬فضل ل عن غرس خليقة الصبر‪ ,‬والضبط‬
‫النفسي بالمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج وبالكف عن‬

‫اللغو‪ ,‬والصخب‪ ,‬والقدرة على تغيير عاداته حتى ل يتعود الجمود‪,‬‬


‫أوتستعبده‬
‫عاداته وتقاليده)‪.(2‬‬
‫ثاللثا‪ :‬إصلح الجانب الجتماعي‪:‬‬
‫ويظهر ذلك في الصلة ودورها في إيجاد العلقات الجتماعية‪,‬‬
‫وذلك واضح في الحكمة من صلة الجماعة‪ ,‬لن اجتماع المسلمين‬
‫‪1‬‬
‫)( وسطية القرآن ف العبادةر والخألق والتشريع‪ ,‬ص ‪.42‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬النهاج القرآن ف التشريع‪ ,‬ص ‪.460‬‬

‫‪85‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫راغبين في الله‪ ,‬راجين‪ ,‬راهبين‪ ,‬مسلمين وجوههم إليه خاصية‬


‫عجيبة في نزول البركات‪ ,‬وتدلي الرحمة‪ ,‬فيحدث التعاون‪,‬‬
‫والتعارف‪ ,‬والوحدة والجتماع على الخير‪.‬‬
‫ثم تأتي صلة الجمعة‪ :‬فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر‬
‫من ذلك في كل يوما جمعة‪ ,‬حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيلرا‬
‫ما للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم‪ ,‬كحد أدنى للتثقيف‬‫وتعلي ل‬
‫العاما في أمور الدين‪ ,‬ثم تأتي صلة العيد‪ ,‬فتجمع أهل المدينة‬
‫كلها مرتين في السنة في عيد الفطر والضحى‪ ,‬يخرجن البكار‬
‫والعواتق)‪ ,(1‬بل والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين‪ ,‬ويعتزلن‬
‫)‪(2‬‬
‫المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أما عطية‬
‫رضي الله عنها قالت‪» :‬أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور«)‪.(3‬‬
‫)‪(4‬‬

‫هذا عدا ما شرعه الله تعالى لنا من صلوات جامعة في‬


‫مناسبات شتى‪ ,‬كالستسقاء والخسوف والكسوف والجنائز‪,‬‬
‫والتراويح في رمضان‪ ,‬إن الصلة ‪-‬لو وعى المسلمون حقيقتها‪-‬‬
‫لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل‪ ,‬يتمثل فيه المجتمع الكبير‪,‬‬
‫وبقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلة‪ ,‬وما تعنيه من معان‬
‫وتوجيهات‪ ,‬بقدر ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم‪ ,‬ول‬
‫فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع‪ ,‬فكلهما تجمع يجب‬
‫أن يخضع لدين الله وتعاليمه)‪.(5‬‬
‫أما الزكاة‪ :‬في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الغنياء ليرد‬
‫على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين والرقاء وغيرهم‪ ,‬وهي‬
‫ضا للتعاون الجتماعي‪,‬‬‫بذلك تمثل الحد الدنى المفروض فر ل‬
‫والتكافل القتصادي بين أبناء المة الواحدة‪ ,‬لذلك جعل الله تعالى‬
‫معظم مصارفها اجتماعية بحتة‪ ,‬بأوسع المدلولت الجتماعية في‬
‫القديم أو الحديث على السواء‪ ,‬وكما جاءت صلة العيد لتوسع‬
‫ضا »زكاة الفطر« لتوسع‬ ‫دائرة الجتماع في الصلة‪ ,‬تأتي هنا أي ل‬
‫قاعدة التكافل والتعاون إلى أقصى حد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( العواتق‪ :‬جع عاتقة وهي الت عتقت من الدمة أو من قهر أبويها‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هي ناسيبة بنت الارثا وقيل بنت كعب من فقهاء الصحابة ت ‪70‬هـ‪ ,‬اناظر‪ :‬سي أعلم النبلء )‪.(2/318‬‬
‫‪3‬‬
‫)( ذوات الدور‪ :‬الستور‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب العيدين‪ ,‬باب‪ :‬خأروج النساء واليض إل الصلى )‪.(2/9‬‬
‫‪5‬‬
‫)( اناظر‪ :‬النهاج القرآن ف التشريع‪.462 :‬‬

‫‪86‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫أما الثر الجتماعي لفريضة )الحج( فواسع شامل‪ ,‬ول زالت‬


‫آثاره تظهر كل يوما بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه‪ ,‬وقد‬
‫س لع لكيْيككمُ‬
‫أشار القرآن الكريم إلى كثير من ذلك‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لكيْ ل‬
‫ت لفاًكذيكيرواً اًلل رعكنلد اًلكلمكشلعرر‬
‫ضيتمُ بمنَ لعرلفاً ة‬
‫ك ل‬ ‫ضلح بمنَ لربيككمُ فلرإلذاً ألفل ك‬
‫ح لأن تليكبتليغيوُاً فل ك‬
‫يجلناً ر‬
‫حلراًرم" ]البقرة‪.[198 :‬‬ ‫اًلك ل‬
‫روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال‪) :‬كانت عكاظ‪,‬‬
‫ومجنة‪ ,‬وذو المجاز أسوالقا في الجاهلية‪ ,‬فتأتموا أن يتجروا في‬
‫ح"‬
‫س لع لكيْيككمُ يجلناً ر‬‫موسم الحج‪ ,‬فسألوا رسول الله فنزلت الية‪+ :‬لكيْ ل‬
‫س رباًلكلحبج يلأكيتوُلك رلجاًلح لولعللىَ يكبل‬‫]البقرة‪ ,(1)[198 :‬وقال تعالى‪+ :‬لوألبذن رفيِ اًللناً ر‬
‫ل" ]الحج‪:‬‬ ‫ضاًرمةر يأكرتيْنَ رمنَ يكبل فللج لعميْرةق ‪ ‬لريْكشلهيدواً ملناًفرع ليهمُ ويكذيكرواً اًكسمُ اً ر‬
‫ل‬ ‫ل ل ك لل ي‬ ‫ل‬ ‫ل ل ل‬
‫‪.[28،27‬‬
‫والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل المنافع الروحية‬
‫والمادية والجتماعية والسياسية والثقافية‪ ,‬والقتصادية وسائر ما‬
‫يطلق عليه اسم )المنفعة(‪ ,‬وقد جعلت غاية من غايات الحج‬
‫وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان ببالغ أهميتها في مراتب‬
‫المنافع والحكم الشرعية‪ ,‬وإن من أعظم هذه الفوائد جمع‬
‫أطراف المة المسلمة كل عاما‪ ,‬وما يحققه من استنفار جزء من‬
‫كل إقليم سنوليا ليركبوا الخطار والسفار‪ ,‬ويقطعوا السهول‬
‫والقفار‪ ,‬أو يمتطوا الجواء والبحار‪ ,‬ويتركوا الولد والهل والديار‬
‫فيجتمع المسلمون من أطراف الرض‪ ,‬ويلتقي الشرقي‬
‫بالمغربي‪ ,‬والمصري بالهندي‪ ,‬في مؤتمر جامع‪ ,‬ورحلة مباركة‪,‬‬
‫وليحققوا عملليا دعوة القرآن بالسير في الرض‪ ,‬والسياحة في‬
‫الفاق‪ ,‬ومطالعة المشاهد المقدسة‪ ,‬ومنازل الوحي‪ ,‬وآثار النبوة‬
‫منذ أبي النبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد × ثم مدارج الصحابة‬
‫رضي الله عنهم‪ ,‬التي تهب على المسلمين منها روح الخلص‪,‬‬
‫والبذل‪ ,‬والعطاء والنقياد المطلق لمر الله عز وجل)‪.(2‬‬
‫دا‪,‬‬
‫ومن ناحية أخرى فالحج نظاما يوجب على الجميع زليا واح ل‬
‫وحركة واحدة‪ ,‬وكلمة واحدة‪ ,‬وطاعة واحدة‪ .‬وبتثبيت العتقاد‪,‬‬
‫والخلق وإصلح الجتماع تأخذ العبادات السلمية دورها العظيم‬
‫في بناء الحياة النسانية على أرفع القواعد‪ ,‬وأنبل الغايات‪,‬‬
‫وأكرمها وأطهرها‪ ,‬وتأخذ بالنسان إلى أفق أرفع من الترابا‬
‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب التفسي‪ ,‬باب‪ :‬ليس عليكم جناح )‪ (5/186‬رقم ‪.4519‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬النهاج القرآن ف التشريع‪.465 :‬‬

‫‪87‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والطين‪ ,‬ومتاع الحياة الفانية‪ ,‬حيث تربطه بالحي الباقي‪ ,‬وبالنعيم‬


‫الخالد‪ ,‬فهي غسيل مستمر لدران المادة‪ ,‬وتهذيب لطغيانها‪,‬‬
‫وعبادات السلما تقوما في أساسها على مراعاة الرقابة اللهية‪,‬‬
‫وابتغاء الخرة‪ ,‬دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها‬
‫وتحرر النسان من عبودية الكهنوت وطقوسها ورسومها)‪.(1‬‬
‫ما باللغا ببيان حقيقة العبودية‬
‫إن القرآن الكريم اهتم اهتما ل‬
‫ودعوة الناس إلى تحقيقها كما ينبغي‪ ,‬كما بلين شروط قبول‬
‫العبادة وأمر المسلمين باللتزاما بها‪ ,‬ووجه الناس إلى مفاهيم‬
‫أصيلة في العبودية وحذرهم من الشرك ومن النحراف عن معنى‬
‫العبودية الصحيح‪ ,‬كما أشار إلى أهمية الجانب العبادي في حياة‬
‫الناس في تثبيت العتقاد‪ ,‬وتأسيس القيم والخلق وزرعها‬
‫وغرسها في نفوس المؤمنين‪ ,‬كما اهتم ببيان الجانب العبادي في‬
‫إصلح النواحي الجتماعية‪ ,‬وركز القرآن في توجيهاته الكريمة في‬
‫مجال العبادة على إفراد الله وحده في العبادة وتحرير العبادة من‬
‫رق الكهنوت‪ ,‬واهتم بمسألة التوازن بين الروح والجسد‪ ,‬وفتح‬
‫مجال الرخص والتخفيضات في العبادة‪ ,‬هذا كله من أجل أن‬
‫تحقق المة عبوديتها لخالقها سبحانه وتعالى من أيسر الطرق‬
‫وأسهل السبل وأخف التكاليف‪ ,‬وجعل طريق تحقيق العبودية‬
‫طا من شروط التمكين لهذه المة العظيمة‪.‬‬ ‫شر ل‬
‫إن تقرير حقيقة العبودية في حياة الناس يصحح تصوراتهم‬
‫ومشاعرهم‪ ,‬كما يصحح حياتهم وأوضاعهم‪ ,‬فل يمكن أن تستقر‬
‫التصورات والمشاعر‪ ,‬ول أن تستقر الحياة والوضاع‪ ,‬على أساس‬
‫سليم قويم‪ ,‬إل بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار‪ ,‬وما يتبع القرار‬
‫من آثار عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس‬
‫وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته ويستشعرون العزة أماما‬
‫المتجبرين والطغاة‪ ,‬حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه ول‬
‫دا إل الله تصلح حياتهم وترقى وتكرما على‬ ‫يذكرون أح ل‬
‫هذا الساس‪.‬‬
‫إن استقرار هذه الحقيقة الكبيرة في نفوس المسلمين وتعليق‬
‫أنظارهم بالله وحده‪ ,‬وتعليق قلوبهم برضاه‪ ,‬وأعمالهم بتقواه‪,‬‬
‫ونظاما حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه‪ ..‬في هذه الحياة‪..‬‬
‫فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين‬
‫للصالحات في الخرة‪ ,‬فهو كرما منه وفضل في حقيقة المر‬

‫‪1‬‬
‫)( الصدر نافسه‪.468 :‬‬

‫‪88‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫وفيض من عطاء الله)‪.(1‬‬


‫إن الذين يستنكفون عن عبودية الله‪ ,‬يذلون لعبوديات من هذه‬
‫الرض ل تنتهي‪.‬‬
‫يذلون لعبودية الهوى والشهوة‪ ,‬أو عبودية الوهم والخرافة‪,‬‬
‫ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم‪ ,‬ويحنون لهم الجباه‪ ..‬ويحكمون‬
‫في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم‬
‫دا من البشر هم وهم سواء أماما الله‪.‬‬ ‫عبي ل‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( ف ظللا القرآن )‪.(2/820‬‬

‫‪89‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫محاربــــــــــة الشـــــــرك‬
‫ومن شروط التمكين المهمة؛ محاربة الشرك بجميع أشكاله‬
‫وأنواعه؛ ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع‬
‫الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلنه‬
‫وأنواعه وأن تنقي صفها منه بجميع الساليب الشرعية‪ ,‬ول يمكن‬
‫للنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إل إذا عرفه وعرف‬
‫خطره‪.‬‬
‫ومعرفة الشرك وما يتعلق به له فوائد عديدة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن النسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع‬
‫فيه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه يمكنه أن يحذر غيره‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه يظهر له بذلك حسن السلما والتوحيد‪ ,‬وذلك أنه‬
‫إذا عرف الشرك وظهر له بطلنه‪ ,‬عرف أن ضده وهو التوحيد‬
‫أفضل العمال‪ ,‬وبضدها تتميز الشياء إلى غير ذلك من الفوائد‪.‬‬
‫ولهذه السبابا وغيرها فقد اهتم الدعاة الصادقون والعلماء‬
‫المخلصون والقادة الربانيون ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه‬
‫وخطره وجميع ما يتعلق به‪ ,‬وبينوا أن تحقيق اليمان الصحيح ل‬
‫يتم ول يقبل من صاحبه إل بترك الشرك والبعد عنه‪.‬‬
‫يقول الشيخ السعدي ‪-‬رحمه الله‪) :-‬ول يتم توحيد العبادة حتى‬
‫يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله‪ ,‬وحتى يدع‬
‫عا‬
‫الشرك الكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة‪ ,‬وهو أن يصرف نو ل‬
‫من العبادة لغير الله تعالى‪ ,‬وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع‬
‫الشرك الصغر وهو‪ :‬كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الكبر‬
‫كالحلف بغير الله‪ ,‬ويسير‬
‫الرياء ونحو ذلك( )‪.(1‬‬
‫أما حقيقة الشرك بالله‪) :‬أن يعبد المخلوق كما يعبد الله‪ ,‬أو‬
‫يعظم كما يعظم الله‪ ,‬أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية‬
‫واللوهية( )‪.(2‬‬
‫‪1‬‬
‫)( الفتاوى السعدية للعلمة عبد الرحن السعدي‪ ,‬ص ‪.13‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الشيخ عبد الرحن السعدي وجهوده ف توضيح العقيدةر لعبد الرزاق العباد‪ ,‬ص ‪.178‬‬

‫‪90‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫أما أقساما الشرك فقسمه العلماء إلى نوعين‪ :‬شرك في‬


‫الربوبية‪ ,‬وشرك في اللوهية قال السعدي ‪-‬رحمه الله‪) :-‬الشرك‬
‫قا‬‫نوعان‪ :‬شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خال ل‬
‫مع الله‪ ,‬وشرك في ألوهيته‪ ,‬كشرك المشركين الذين يعبدون الله‬
‫ويعبدون غيره ويشركون بينه وبين المخلوقين‪ ,‬ويسوونهم مع الله‬
‫في خصائص ألوهيته( )‪.(1‬‬
‫لقد وردت النصوص الكثيرة في الكتابا والسنة في التحذير‬
‫من الشرك‪ ,‬وبيان خطره‪ ,‬وأنه أعظم ذنب عصى الله به‪ ,‬وأنه ل‬
‫دا ل نصير له ول حميم ول‬ ‫أضل من فاعله‪ ,‬وأنه مخلد في النار أب ل‬
‫ك‬ ‫ر‬
‫شفيع يطاع‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬إرلن اًلل لل يليغكرفير لأن ييكشلرلك به لويليغكفير لماً يدولن لذل ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ظيْحماً" ]النساء‪.[48:‬‬ ‫ل فليلقرد اًفكيتيرىَ إرثكماً لع ر‬‫شاًء ومنَ يمكشرركك رباً ر‬ ‫ر‬
‫ح‬ ‫لل‬ ‫للمنَ يل ل ي ل ل‬
‫ك لرلمنَ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬إرلن اًلل لل يليغكرفير لأن ييكشلرلك برره لويليغكرفير لماً يدولن لذلر ل‬
‫ضلللح بلرعيْحداً" ]النساء‪ ،[116:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ضلل ل‬ ‫ل فليلقكد ل‬ ‫شاًء ومنَ يكشرركك رباً ر‬
‫يل ل ي ل ل ي‬
‫ح رفيِ‬ ‫رر‬ ‫ل فللكألنَلماً لخلر رمنَ اًل ل ر‬ ‫‪+‬ومنَ يكشرركك رباً ر‬
‫سلماًء فليتلكخطليفهي اًل لك‬
‫طيْيير ألكو تليكهروُيِ به اًلبري ي‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫لل ي‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫ك لوإللىَ اً ذيلنَ منَ‬ ‫ر‬
‫لملكاًةن لسحيْةق" ]الحج‪ ،[31 :‬وقال تعالى‪+ :‬لوللقكد يأوحليِ إلكيْ ل‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫قليكبلر ل‬
‫ك لئركنَ ألكشلركك ل‬
‫نَ" ]الزمر‪.[65 :‬‬ ‫ك لولتليكوُنَللنَ ملنَ اًلكلخاًسرري ل‬ ‫ت ليْلكحبلطللنَ لعلملي ل‬
‫والحاديث الواردة في ذما المشركين كثيرة منها‪:‬‬
‫حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‪ :‬سمعت رسول‬
‫الله × يقول‪» :‬من مات يشرك بالله شيلئا دخل النار« )‪.(2‬‬
‫وحديث جابر بن عبد الله قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪:‬‬
‫»من لقى الله ل يشرك به شيلئا دخل الجنة« )‪.(3‬‬
‫وحديث أبي بكرة)‪ (4‬رضي الله عنه قال‪ :‬كنا عند رسول الله‬
‫× فقال‪» :‬أل أنبئكم بأكبر الكبائر« ثللثا »الشراك بالله وعقوق‬
‫الوالدين وشهادة الزور« وكان رسول الله × متكلئا فجلس‪ ,‬فما‬
‫زال يكررها حتى قلنا ليته سكت«)‪.(5‬‬
‫‪1‬‬
‫)( الرياض الناضرةر للسعدي‪ ,‬ص ‪.244‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬من مات ل يشرك بال شيبئا )‪ (1/94‬رقم ‪.92‬‬
‫‪3‬‬
‫)( الصدر السابق نافسه‪ ,‬رقم ‪.92‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو نافيع بن الارثا بن كلدةر بن عمرو أبو بكرةر الثقفي‪ ,‬تدل إل رسولا ال × من حصن الطائف ف )بكرةر( فاشتهر بأب‬
‫بكرةر وأسلم وأعتقه رسولا ال × يومئذ‪ ,‬وكان من فضلء الصحابة وسكن البصرةر توف بالبصرةر سنة ‪50‬هـ‪ ,‬اناظر‪ :‬أسد الغابة )‬
‫‪ ,(5/38‬الصأابة )‪.(3/542‬‬
‫‪5‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب اليإان‪ ,‬باب‪ :‬بيان الكبائر )‪ (1/91‬رقم ‪.143‬‬

‫‪91‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن تفشي الشرك في المجتمعات السلمية سبب في ضياعها‬


‫وانحرافها عن هدى المولى عز وجل‪ ,‬فمن أعظم الظلم‪ ,‬وأبعد‬
‫الضلل‪ ,‬عدما إخلص العبادة لربا العالمين وتسوية المخلوق مع‬
‫الخلق العليم‪.‬‬
‫فالله وحده المتفرد بالعبودية فهو مالك النفع والضر‪ ,‬الذي ما‬
‫من نعمة إل منه‪ ,‬ل يدفع النقم إل هو الذي له الكمال المطلق من‬
‫جميع الوجوه‪ ,‬والغنى التاما لجميع وجوه العتبارات‪.‬‬
‫إن الشرك هو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوبا بعدما‬
‫المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه‪ ,‬وأما بقية الذنوبا فإن‬
‫صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه‬
‫وإن شاء غفر له‪.‬‬
‫إن الذنوبا التي دون الشرك جعل الله لمغفرتها أسبالبا كثيرة‬
‫كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوما‬
‫القيامة‪ ,‬وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين‪ ,‬ومن‬
‫دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل اليمان والتوحيد‪ ,‬وهذا‬
‫بخلف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبوابا المغفرة‪,‬‬
‫وأغلق دونه أبوابا الرحمة‪ ,‬فل تنفعه الطاعات دون التوحيد‪ ,‬ول‬
‫تفيده الشدائد والمحن شيلئا‪.‬‬
‫إن الشرك بالله تمجه وترفضه الفطرة السليمة‪ ,‬ولقد بقى‬
‫البشر بعد آدما قرولنا طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدي‪,‬‬
‫ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة‪ ,‬فكان‬
‫قوما نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم‬
‫إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم‪ ,‬فكان هذا‬
‫بابا الشر العظيم‪.‬‬
‫فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى خلف من بعدهم خلف‬
‫قل فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في‬
‫حا عليه السلما يعرفونه ويعرفون‬ ‫الشرك‪ ,‬ثم بعث الله فيهم نو ل‬
‫صدقه وأمانته وكمال أخلقه فقال‪+ :‬ياً قليوُرم اًكعبيدواً اًل ماً ليكمُ بمنَ إرلهة‬
‫ك‬ ‫ل ل‬ ‫ي‬ ‫ل ك‬
‫غيْييرهي" ]العراف‪ .[59:‬إل أنهم عصوه وما آمن معه إل قليل‪.‬‬ ‫لك‬
‫إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت‬
‫الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو الوثنية المظلمة‬
‫ث اًلي اًلنلبربيْيْلنَ‬‫س أيلمةح لواًرحلدحة فليبليلع ل‬
‫والشرك العظيم‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لكاًلن اًللناً ي‬
‫ر‬
‫شرريلنَ لويمنذري ل‬
‫نَ" ]البقرة‪.[213:‬‬ ‫يمبل ب‬

‫‪92‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫أي‪ :‬أن الناس كانوا على ملة آدما عليه السلما حتى عبدوا‬
‫حا عليه السلما فكان أول رسول بعثه‬ ‫الصناما فبعث الله إليهم نو ل‬
‫الله إلى أهل الرض)‪.(1‬‬
‫س لع لكليْيلهاً‬ ‫ك رللبديرنَ حرنيْحفاً فرطكر ل ر لر‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬فلألقركمُ لوكجله ل‬
‫ت اًل اً تيِ فلطللر اًللناً ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ن" ]الروما‪.[30:‬‬ ‫ك اًلبديينَ اًلكلقيْبيمُ لولركلنَ ألككثليلر اًللناً ر‬
‫س لل يليكع ليموُ ل‬ ‫ل ذللر ل‬
‫لل تليكبرديل لرلخكلرق اً ر‬
‫ل‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لوللقكد بليلعثكيلناً رفيِ يكبل أيلمةة لريسوُلح ألرن اًكعبييدواً اًلل لواًكجتلنربيوُاً‬
‫ت" ]النحل‪ .[36:‬وقال ×‪» :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه‬ ‫اًللطاًيغوُ ل‬
‫يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه« )‪.(2‬‬
‫وهذه الدلة الدامغة التي ذكرناها تدل على أن الناس كانوا‬
‫على التوحيد وأن الشرك طارئ وحادث فيهم‪.‬‬
‫إن الجماعة المسلمة التي رضيت بالله رلبا وبالسلما ديلنا‬
‫وبمحمد × رسول ل تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك‬
‫وهي تسعى لتحكيم شرع الله‪ ,‬لنها تعلم علم اليقين أن من‬
‫شروط التمكين وإقامة دولة السلما تحقيق التوحيد وتهذيبه‬
‫وتصفيته من الشرك الكبر والصغر‪ ,‬ومن البدع القولية‬
‫والعتقادية‪ ,‬والبدع الفعلية العملية‪ ,‬ومن المعاصي وذلك بكمال‬
‫الخلص لله في القوال والفعال والرادات‪ ,‬وبالسلمة من‬
‫الشرك الكبر المناقض لصل التوحيد‪ ,‬ومن الشرك الصغر‬
‫المنافي لكماله وبالسلمة من البدع)‪ ,(3‬وتربي الناس على‬
‫الستعانة بالله في جميع أمور حياتهم والستعانة به والنذر له‬
‫والذبح له وحده سبحانه وتعالى وأن تكون الحاكمية لله ربا‬
‫العالمين‪.‬‬
‫وهي تحاربا شرك القبور‪ ,‬وكذلك شرك القوانين الوضعية‬
‫وتدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة‬
‫صللرتيِ‬ ‫النسانية‪ ,‬ولسان حالها ومقالها قول الله تعالى‪+ :‬قيكل إرلن ل‬
‫ك لهي" ]النعاما‪.[162،163:‬‬ ‫ب اًلكلعاًلرميْلنَ ‪ ‬لل لشرري ل‬ ‫ل لر ب‬ ‫ونَيسركيِ ومكحيْاًيِ ومماًرتيِ ر‬
‫لل ل ل لل ل‬ ‫ل ي‬
‫لذلك لبد من محاربة الشرك ومداخله وألوانه وجميع طرقه‬
‫لن الشرك ذلة في الدنيا وعذابا أليم في الخرة‪ ,‬ولن من‬
‫متطلبات اليمان ولوازمه محاربة ضده أل وهو الشرك‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬تفسي ابن كثي )‪.(1/250‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب القدر‪ ,‬باب‪ :‬كل مولود يولد على الفطرةر )‪ (4/2047‬رقم ‪.2658‬‬
‫‪3‬‬
‫)( اناظر‪ :‬الشيخ عبد الرحن السعدي وجهوده ف توضيح العقيدةر‪ ,‬ص ‪.191‬‬

‫‪93‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المثل العليا والقيم الرفيعة‪ ,‬وإلى الترفع عن الدنس في كل صوره‬


‫ما‬
‫وأشكاله‪ ,‬سواء أكان فاحشة من الفواحش التي حرمها الله‪ ,‬أو ظل ل‬
‫سا يقفه النسان من أجل شهوة رخيصة‬ ‫يقع على الناس‪ ,‬أو موقلفا خسي ل‬
‫أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا‪.‬‬
‫ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشيها الشرك‬
‫فإن النفس تنحط فتشغلها الرض‪ ,‬يشغلها المتاع الزائل فتتكالب‬
‫عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها‪,‬‬
‫سا على هذا المتاع الزائل يتقاتل من‬ ‫عا خسي ل‬ ‫ويكون جهادها صرا ل‬
‫أجله الفراد والدول والشعوبا‪ ,‬وتصبح الحياة البشرية محكومة‬
‫بقانون الغابا‪ ,‬القوي يأكل الضعيف‪ ,‬والغلبة للقوة ل لصاحب‬
‫دا في الجاهلية المعاصرة في كل‬ ‫الحق‪ ..‬وهو المر الذي نراه سائ ل‬
‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫منحى من مناحي الحياة)‪ .(2‬قال تعالى‪+ :‬لولمنَ ييكشركك باًل فللكألنَلماً لخلر ملنَ‬
‫حيْةق" ]الحج‪.[31:‬‬ ‫سماًرء فليتلكخطليفهي اًللطيْير ألو تليكهروُيِ برره اًلبريح رفيِ ملكاًةن س ر‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫كي ك‬ ‫اًل ل ل‬
‫‪ -3‬القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في‬
‫العبودية الذليلة‪:‬‬
‫إن العزة الحقيقية تستمد من اليمان بالله وحده‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫ل اًلكرعلزةي لولرلريسوُلرره لولركليمكؤرمرنيْلنَ" ]المنافقون‪ ,[8:‬ولكن المشرك ل يعرف‬ ‫‪+‬و ر‬
‫ل‬
‫هذه العزة ول يتذوقها‪ ,‬إنه عبد؛ ولكنها عبودية ذليلة لنها ليست‬
‫عبودية لله‪ ,‬الكريم الرحيم‪ ,‬الذي عيعز عباده بعزته‪ ,‬إنه عبد لبشر‬
‫مثله يتحكم فيه فيذله‪ ,‬أو عبد لشهواته‪ :‬شهوة المال أو شهوة‬
‫الجنس أو شهوة السلطان‪ ..‬كلها عبودية ذليلة وإن بدت لول‬
‫عا وتمكلنا وتجبلرا في الرض‪.‬‬ ‫وهلة متا ل‬
‫ثم يذهب هذا المتاع الزائل الذي تذل له أعناق الرجال‪ ,‬ويأتي‬
‫اليوما الذي يقفون فيه موقف الخزي الكبر أماما العزيز الجبار‪:‬‬
‫ت رإن لمتليكعلناًيهكمُ رسرنيْلنَ ‪ ‬ثيلمُ لجاًءليهمُ لماً لكاًنَيوُاً ييوُلعيدولن ‪ ‬لماً ألكغلنىَ لع كنييهمُ لماً‬ ‫‪+‬ألفليلرأليك ل‬
‫ن" ]الشعراء‪.[207-205 :‬‬ ‫لكاًنَيوُاً ييلمتلييعوُ ل‬
‫‪ -4‬تمزيق وحدة النفس البشرية‪:‬‬
‫إن الشرك يشتت وحدة النفس البشرية ويمزقها‪ ,‬فيصلي‬
‫النسان ‪-‬إذا صلى‪ -‬لله ويبيع ويشتري ويبتغي الرزق باسم إله آخر‬
‫يحل له الربا ويحل له الغش والخداع بغية الربح‪ ,‬ويمارس شهواته‬
‫حل له العلقات غير المشروعة ويزين له‬‫‪1‬باسم إله ثالث ي ع ق‬
‫)( ف ظللا القرآن )‪.(4/2530‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ركائز اليإان لمد قطب‪ ,‬ص ‪.141،140‬‬

‫‪94‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫تتشتت نفسه في محاولة استرضاء هذه الربابا المتعددة التي‬


‫كثيلرا ما يكون لكل منها مطالب تخالف مطالب الخرى وتعارضها‪.‬‬
‫ب‬
‫ضلر ل‬
‫‪+‬ل‬
‫)‪(1‬‬
‫وفي النهاية يفقد نفسه بعد أن يفقد أمنه وطمأنينته‪:‬‬
‫لمثللح لريجلح‬ ‫اًلي‬
‫شاًكرسوُلن ورجلح س لماً لبرجةل لهل يستلروُياًرن مثللح اًلكحميد ر‬
‫ل بلكل ألككثلييريهكمُ لل‬ ‫رفيْره‬
‫لك‬ ‫ك لك ل ل‬ ‫يشلرلكاًءي يمتل ل ي ل ل ي ل ح ل ي‬

‫]الزمر‪.[29:‬‬ ‫يليكعليموُلن"‬
‫‪ -5‬إحباط العمل‪:‬‬
‫ك لوإرللىَ اًلرذيلنَ رمنَ قليكبلر ل‬
‫ك لئركنَ ألكشلركك ل‬
‫ت ليْلكحبلطللنَ‬ ‫قال تعالى‪:‬‬ ‫‪+‬لوللقكد يأورحليِ إرلكيْ ل‬
‫ك لولتليكوُنَللنَ رملنَ‬
‫اًلكلخاًرسرريلنَ" ]الزمر‪.[65 :‬‬
‫لعلملي ل‬
‫هذه بعض الثار التي تحدث للنسان الذي يقع في الشرك ول‬
‫شك أن تلك الثار تبعد المجتمع من التمكين الرباني‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ركائز اليإان‪ ,‬ص ‪.145-144‬‬

‫‪95‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الرابع‬
‫تقـــــوى الله عز وجـــــل‬
‫قال تعالى‪+ :‬ولوُ أللن ألكهل اًلكيقرىَ آمنيوُاً واًتليلقوُاً للفتلكحلناً لعلكيْرهمُ بيرلكاً ة‬
‫ت بملنَ‬ ‫ك لل‬ ‫ل ل ل ل ك‬ ‫لك‬
‫ض ول ر‬ ‫اًل ل ر‬
‫كنَ لكلذبيوُاً‪] "...‬العراف‪.[96:‬‬ ‫سلماًء لواًللكر ر ل‬
‫إن من شروط التمكين المهمة ‪-‬التي نضيفها إلى المباحث‬
‫السابقة‪ -‬تقوى الله عز وجل‪ ,‬لن تقوى الله لها ثمرات عظيمة‬
‫م‬‫في الدنيا والخرة‪ ,‬وهذه الثمرات تظهر على الفراد‪ ,‬ومن ث ز‬
‫على الجماعة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين‬
‫لدينه‪ .‬إن تقوى الله تعالى تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه‬
‫ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك‪ ,‬وهي أن تعمل‬
‫بطاعة الله على نور من الله ترجو ثوابا الله‪ ,‬وأن تترك معصية‬
‫الله على نور من الله تخاف عقابا الله‪.‬‬
‫ل‪ :‬ثمرات التقوى العاجلة والجلة‪:‬‬ ‫أو ل‬
‫‪ -1‬المخرج من كل ضيق والرزق من حيث ل يحتسب‬
‫العبد‪:‬‬
‫ب"‬ ‫ر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لولمنَ يليتلرق اًلل يلكجلعل لهي لمكخلرحجاً‪ ‬لويليكريزقكهي رمكنَ لحكيْ ي‬
‫ث لل يلكحتلس ي‬
‫]الطلق‪.[3،2 :‬‬
‫‪ -2‬السهولة واليسر في كل أمر‪:‬‬
‫ر‬ ‫ل ر‬
‫سحراً" ]الطلق‪.[4:‬‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لولمنَ يليتلرق اًلل يلكجلعل هي مكنَ ألكمرره يي ك‬
‫قال سيد قطب رحمه الله‪» :‬واليسر في المر غاية ما يرجوه‬
‫النسان‪ ,‬وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله المور ميسرة لعبد من‬
‫عباده؛ فل عنت ول مشقة ول عسر ول ضيق يأخذ المور بيسر‬
‫في شعوره وتقديره‪ ,‬وينالها بيسر في حركته وعمله‪ ,‬ويرضاها‬
‫ي ن عد قيل‬
‫خ ل‬‫بيسر في حصيلتها ونتيجتها‪ ,‬ويعيش من هذا في يسر عر ق‬
‫حتى يلقى الله«)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬تيسير العلم النافع‪:‬‬
‫شيِةء لعرليْرمُ" ]البقرة‪:‬‬ ‫ر‬ ‫ب‬
‫قال تعالى‪+ :‬لواًتلييقوُاً اًلل لويييلعليميكيمُ اًلي لواًلي بيكبل ل ك‬
‫‪.[282‬‬

‫‪1‬‬
‫)( ف ظللا القرآن )‪.(6/3602‬‬

‫‪96‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫قال العلمة محمد رشيد رضا‪) :‬أي اتقوا لله في جميع ما‬
‫أمركم به ونهاكم عنه‪ ,‬وهو يعلمكم ما فيه قياما مصالحكم وحفظ‬
‫أموالكم وتقوية رابطتكم‪ ,‬فإنكم لول هدايته ل تعلمون ذلك‪ ,‬وهو‬
‫سبحانه العليم بكل شيء‪ ,‬فإذا شرع شيلئا فإنما يشرعه عن علم‬
‫محيط بأسبابا درء المفاسد وجلب المصالح لمن تبعه شرعه‪,‬‬
‫وكرر لفظ الجللة لكمال التذكير وقوة التأثير( )‪ ,(1‬لقد تكرر لفظ‬
‫الجللة في قوله تعالى‪+ :‬لواًتلييقوُاً اًلل لويييلعلبيميكيمُ اًلي لواًلي بريكبل لشكيِةء لعرليْرمُ"‬
‫ثلث مرات‪ ,‬فالولى حث على التقوى‪ ,‬والثانية وعد د بإنعامه‪,‬‬
‫والثالثة تعظيم شأنه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ -4‬إطلق نور البصيرة‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬رإن تليتلييقوُاً اًلل يلكجلعل ليككمُ فييكرلقاًحنَاً" ]النفال‪ .[29:‬إن تقوى‬
‫الله تعالى في المور كلها تعطي صاحبها نولرا يفرق به بين الحق‬
‫والباطل‪ ,‬وبين دقائق الشبهات التي ل يعلمهن كثير من الناس‪,‬‬
‫وعندما تسيطر تقوى الله على الصف المسلم يصبح يتحرك بفرقان‬
‫رباني‪.‬‬
‫‪ -5‬محبة الله عز وجل ومحبة ملئكته والقبول في الرض‪:‬‬
‫نَ" ]آل‬ ‫ر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬بليللىَ لمكنَ ألكولفىَ برلعكهردهر لواًتليلقىَ فلرإلن اًلل ييرح م‬
‫ب اًلكيمتلقيْ ل‬
‫عمران‪.[76 :‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله × أنه قال‪:‬‬
‫»إذا أحب الله العبد قال لجبريل‪ :‬قد أحببت فللنا فأحبه‪ ,‬فيحبه‬
‫جبريل عليه السلما‪ ,‬ثم ينادي في أهل السماء‪ ,‬إن الله قد أحب‬
‫فللنا فأحبوه‪ ,‬فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في‬
‫الرض«)‪.(2‬‬
‫‪ -6‬نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده‪:‬‬
‫وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل‪+ :‬لواًتلييقوُاً اًلل لواًكع ليموُاً‬
‫أللن اًلل لملع اًلكيمتلرقيْلنَ" ]البقرة‪ .[194:‬فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة‬
‫والتسديد‪ ,‬وهي معية الله عز وجل لنبيائه وأوليائه‪ ,‬ومعيته‬
‫للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ والعانة كما قال‬
‫تعالى لموسى عليه السلما وهارون‪+ :‬لل تللخاًلفاً إرنَلرنيِ لملعيكلماً ألكسلميع لوأللرىَ"‬
‫]طه‪.[46:‬‬

‫‪1‬‬
‫)( تفسي النار )‪.(3/128‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب الب والصلة والداب‪ ,‬باب‪ :‬إذا أحب ال تعال )‪ (4/2030‬رقم ‪.2637‬‬

‫‪97‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أما المعية العامة مثل قوله تعالى‪+ :‬لويهلوُ لملعيككمُ أليكلنَ لماً يككنتيكمُ"‬
‫ل لويهلوُ لملعيهكمُ إركذ‬ ‫س ولل يستلكخيفوُلن رمنَ اً ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫]الحديد‪ .[4 :‬وقوله‪+ :‬يلكستلكخيفوُلن ملنَ اًللناً ر ل ل ك‬
‫ضىَ رملنَ اًلكلقكوُرل" ]النساء‪ .[108:‬فتستوجب من العبد الحذر‬ ‫يييبلييْبيتوُلن لماً لل يليكر ل‬
‫والخوف ومراقبة الله عز وجل‪.‬‬
‫‪ -7‬البركات من السماء والرض‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬ولوُ أللن ألكهل اًلكيقرىَ آمنيوُاً واًتليلقوُاً للفتلكحلناً لع لكيْرهمُ بيرلكاً ة‬
‫ت بملنَ‬ ‫ك لل‬ ‫ل ل ل ل ك‬ ‫لك‬
‫ض‪] "....‬العراف‪.[96 :‬‬ ‫سلماًرء لواًللكر ر‬
‫اًل ل‬
‫قال القاسمي رحمه الله‪+ :‬لولكوُ أللن ألكهلل اًلكيقلرىَ" أي‪ :‬القرى‬
‫مهنعلكة ‪+‬آلمنيوُاً" أي‪ :‬بالله ورسله ‪+‬لواًتليلقكوُاً" أي‪ :‬الكفر والمعاصي‬ ‫ال ع‬
‫ض" أي‪ :‬لوسعنا عليهم الخير‬ ‫ر‬
‫سلماًء لواًللكر ر‬ ‫‪+‬للفتلكحلناً لعلكيْرهمُ بيرلكاً ة‬
‫ت بملنَ اًل ل‬ ‫ك لل‬
‫ويسرناه لهم من كل جانب‪ ,‬مكان ما أصابهم من فنون العقوبات‬
‫التي بعضها من السماء وبعضها من الرض( )‪.(1‬‬
‫ويدل على هذا المعنى قوله عز وجل‪+ :‬لولأن لروُ اًكستليلقاًيموُاً لعللىَ‬
‫ر‬
‫اًلطلرريلقة لكس ل ك‬
‫قيْيلناًيهمُ لماًءح غللدحقاً" ]الجن‪.[16:‬‬

‫فانظر إلى بركات التقوى‪ ,‬واعلم أن ما نحن فيه من قلة‬


‫البركة ونقص الثمار وكثرة الفات والمراض إنما هو نتيجة حتمية‬
‫ساًيد‬
‫لضعف وازع التقوى وكثرة المعاصي‪ ,‬كما يقول تعالى‪+ :‬ظللهلر اًلكلف ل‬
‫ض اًلرذيِ لعرمليوُاً للع ليهكمُ يليكررجيعوُلن"‬ ‫ت أليرديِ اًللناً ر ر ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫س ليْيذيلقيهكمُ بليكع ل‬ ‫فيِ اًكلبليبر لواًلكبلكحرر بلماً لك ل‬
‫سبل ك ك‬
‫]الروما‪.[41:‬‬
‫‪ -8‬البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم‪:‬‬
‫اًلرذيلنَ‬ ‫ف لع لكيْرهكمُ‬
‫لولل يهكمُ يلكحلزينَوُلن‬ ‫ل لل لخكوُ ر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أللل إرلن ألولريْاًء اً ر‬
‫‪‬‬
‫كلل‬
‫اًللرخلرةر‪] "...‬يونس‪.[64-62:‬‬
‫آلمنيوُاً لولكاًنَيوُاً يليتلييقوُلن ‪ ‬ليهيمُ اًلكبيكشلرىَ رفيِ اًلكلحليْاًةر اًلمدنَكيليْاً لورفيِ‬
‫والبشرى في الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين‬
‫في غير مكان من كتابه‪ ,‬وعن النبي ×‪» :‬الرؤيا الصالحة من الله«‬
‫)‪ .(2‬وعنه ×‪» :‬لم يبق من النبوة إل المبشرات« قالوا‪ :‬وما‬

‫‪1‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ماسن التأويل )‪.(7/221‬‬
‫‪2‬‬
‫)( البخاري‪ ,‬كتاب الرؤيا‪ ,‬باب‪ :‬رؤيا الصالي )‪ (8/88‬رقم ‪.6986‬‬

‫‪98‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫المبشرات؟ قال‪» :‬الرؤيا الصالحة« )‪.(1‬‬


‫وعن أبي ذر ‪ :×    : ‬الرجل يعمل العمل لله‬
‫ويحبه الناس فقال‪» :‬تلك عاجل بشرى المؤمن« )‪ .(2‬وقد رأينا من‬
‫الموفقين في العمل السلمي ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا‪.‬‬
‫‪ -9‬الحفظ من كيد العداء ومكرهم‪:‬‬
‫ضمريككمُ لككيْيديهكمُ لشكيْحئاً إرلن اًلل برلماً يليكعلميلوُلن‬
‫صبريرواً لوتليتلييقوُاً لل يل ي‬
‫قال تعالى‪+ :‬لورإن تل ك‬
‫ط"‬‫يمرحيْ ر‬
‫]آل عمران‪.[120 :‬‬
‫قال ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪) :-‬يرشدهم تعالى إلى السلمة من‬
‫شر الشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على‬
‫الله الذي هو محيط بأعدائهم‪ ,‬فل حول ول قوة لهم إل به‪ ,‬وهو‬
‫الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن( )‪.(3‬‬
‫إنه تعليم من الله تعالى للمسلمين في كيفية الستعانة على‬
‫أعداء الله وكيدهم‪.‬‬
‫‪ -10‬حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬ولكيْكخش اًلرذينَ لوُ تليريكوُاً رمنَ لخكلرفرهمُ ذيبريلةح ر‬
‫ضلعاًحفاً لخاًفيوُاً لع لكيْرهكمُ‬ ‫ك‬ ‫ك‬ ‫ل ك ل‬ ‫لل ل‬
‫فليكليْلتلييقوُاً اًلل لوكليْلييقوُليوُاً قليكوُلح لسرديحداً" ]النساء‪ ,[9:‬وفي الية إشارة إلى إرشاد‬
‫المسلمين الذي يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر‬
‫شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلوا تحت حفظ‬
‫الله وعنايته‪ ,‬ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولدهم إن فقدوا‬
‫تقوى الله‪ ,‬وإشارة‬
‫إلى أن تقوى الصول تحفظ الفروع‪ ,‬وأن الرجال الصالحين‬
‫ر‬
‫يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية‪+ :‬لوأللماً اًلكرجلداًير فللكاًلن لغيلللمكيْرنَ‬
‫صاًلرححاً" ]الكهف‪ .[82:‬فإن‬ ‫ر ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫يلتيْلمكيْرنَ فيِ اًلكلمدينلة لولكاًلن تلكحتلهي لك كنيرز ليهلماً لولكاًلن أليبوُيهلماً ل‬
‫الغلمين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما)‪.(4‬‬
‫‪ -11‬سبب لقبول العمال التي بها سعادة العباد في الدنيا‬
‫والخرة‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫)( البخاري‪ ,‬كتاب الرؤيا‪ ,‬باب البشرات )‪ (8/89‬رقم ‪.6990‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب الرؤيا‪ ,‬باب البشرات )‪.(4/2034‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسي القرآن العظيم )‪.(1/329‬‬
‫‪4‬‬
‫)( اناظر‪ :‬ماسن التأويل للقاسي )‪.(5/47‬‬

‫‪99‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قال تعالى‪+ :‬إرنَللماً يليتليلقبليل اًلي رملنَ اًلكيمتلرقيْلنَ"‬


‫]المائدة‪.[27:‬‬
‫ولهذا لبد من الدعاة العاملين والعلماء الراسخين من‬
‫استحضار هذه المعاني العظيمة‪ ,‬فإن أعمالنا مهما كان حجمها‬
‫وتضحياتنا مهما كانت ضخامتها ل تقبل إل من المتقين‪ ,‬لنهم هم‬
‫الذين يستشعرون أن كل خير هو من الله وحده‪.‬‬
‫‪ -12‬سبب النجاة من عذابا الدنيا‪:‬‬
‫قال الله تعالى‪+ :‬لوأللماً ثليموُيد فليلهلديكيلناًيهكمُ لفاًكستللحبموُاً اًلكلعلمىَ لعللىَ اًلكيهلدىَ‬
‫جيْيلناً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً لولكاًنَيوُاً‬ ‫ر‬ ‫صاًرعلقةي اًلكلعلذاً ر‬
‫ب اًلكيهوُرن برلماً لكاًنَيوُاً يلككسيبوُلن ‪ ‬لونَل ل ك‬ ‫فلأللخلذتكييهكمُ ل‬
‫ن" ]فصلت‪.[18،17 :‬‬ ‫يتلييقوُ ل‬
‫إن الله تعالى سلم أهل اليمان والتقوى من بين أظهر‬
‫الكافرين دون أن يمسهم سوء أو أن ينالهم من ذلك ضرر‪ ,‬بسبب‬
‫إيمانهم وتقواهم لله تعالى‪.‬‬
‫‪ -13‬تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار‪ ,‬وعظم الجر‬
‫وهو سبب الفوز بدرجة الجنة‪:‬‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫جحراً" ]الطلق‪.[5:‬‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لولمنَ يليتلرق اًلل ييلكبفكر لعكنهي لسيْبلئاًتره لويييكعظكمُ لهي أل ك‬
‫قال ابن كثير رحمه الله‪):‬أي يذهب عنهم المحظور‪ ,‬ويجزل لهم‬
‫الثوابا على العمل اليسير()‪.(1‬‬
‫‪ -14‬ميراث الجنة‪ ,‬فهم أحق الناس بها وأهلها‪ ,‬بل ما أعد‬
‫الله الجنة إل لصحابا هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية‪:‬‬
‫ث رمكنَ رعلباًردلنَاً لمنَ لكاًلن تلرققيْاً" ]مريم‪,[63:‬‬ ‫ك اًلكلجنلةي اًلرتيِ ينَوُر ي‬ ‫قال تعالى‪+ :‬تركل ل‬
‫فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل‪.‬‬
‫‪ -15‬وهم ل يذهبون إلى الجنة سيلرا على أقدامهم بل‬
‫يحشرون إليها ركبالنا‪:‬‬
‫مع أن الله عز وجل يقربا إليهم الجنة تحية لهم ودفلعا‬
‫غيْيلر بلرعيْةد" ]ق‪.[31:‬‬ ‫ر ر‬
‫ت اًلكلجنلةي لكليمتلقيْلنَ لك‬ ‫لمشقتهم‪ ,‬كما قال تعالى‪+ :‬وأيكزلرلف ر‬
‫ل‬
‫نَ لوفكحداً" ]مريم‪.[85:‬‬ ‫شير اًلكيمتلرقيْلنَ إرللىَ اًللركحلم ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬يليكوُلم نَلكح ي‬
‫‪ -16‬وهي تجمع بين المتحابين من أهلها حين تنقلب‬
‫كل صداقة ومحبة إلى عداوة ومشقة‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( تفسي ابن كثي )‪.(4/382‬‬

‫‪100‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫]الزخرف‪:‬‬ ‫ض لعيدو إرلل اًلكيمتلرقيْلنَ"‬ ‫قال تعالى‪+ :‬اًلرخللءي يليكوُلمئرةذ بليكع ي‬


‫ضيهكمُ رلبليكع ة‬
‫‪.[67‬‬
‫ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم‬
‫من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم‪ ,‬قال‬
‫سللةم آرمرنيْلنَ ‪ ‬لونَليلزكعلناً لماً رفيِ‬ ‫ر‬ ‫ة‬ ‫ة‬ ‫ر ر‬
‫تعالى‪+:‬إلن اًلكيمتلقيْلنَ فيِ لجلناًت لوعيييْوُن ‪ ‬اًكديخيلوُلهاً ب ل‬
‫ر‬
‫رر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫نَ"]الحجر‪.[47-45:‬‬ ‫صيدورهمُ بمكنَ غلل إركخلوُاًحنَاً لعللىَ يسيرةر ممتليلقاًبليْ ل‬ ‫ي‬
‫إن هذه الثمار العظيمة عندما تمس شغاف قلوبا العاملين‬
‫طا ربانليا موصول ل‬ ‫في الدعوة السلمية تضفي على العمل محي ل‬
‫بالله‪ ,‬متصلة حلقة الدنيا بالخرة‪ ,‬كما أن الحرص على تقوى الله‬
‫تعالى يكسب الصف السلمي صفات رفيعة وأخللقا حميدة‪,‬‬
‫ومكارما نفيسة تجعله أهل ل لتمكين شرع الله على يديه‪ .‬ومن أهم‬
‫كا في حركته‬ ‫هذه الصفات التي تجعل الصف المسلم متماس ل‬
‫الدءوبة نحو تحكيم شرع الله‪:‬‬
‫ثانليا‪ :‬صفات المتقين‪:‬‬
‫‪ -1‬الصدق‪ ,‬فهم أصدق الناس إيمالنا‪ ,‬وأصدقهم أقوال ل وأعما ل‬
‫ل‪,‬‬
‫صلدقيوُاً لويأولئر ل‬ ‫دقوا المرسلين قال تعالى‪+ :‬يأولئر ل ر‬
‫ك‬ ‫ك اًلذيلنَ ل‬ ‫ص ز‬‫وهم الذين ع‬
‫ن" ]البقرة‪.[177 :‬‬ ‫يهيمُ اًلكيمتلييقوُ ل‬
‫قال القاسمي ‪ -‬رحمه الله ‪+ :-‬يأولئر ل ر‬
‫صلدقيوُاً‪ "...‬في إيمانهم‬ ‫ك اًلذيلنَ ل‬
‫لنهم حققوا اليمان القلبي بالقوال والفعال‪ ،‬فلم تغيرهم الحوال‬
‫ولم تزلزلهم الهوال‪ ،‬وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم‬
‫ك يهيمُ اًلكيمتلييقوُلن" عن الكفر وسائر‬ ‫يصدق في دعوة اليمان‪+ :‬لويأولئر ل‬
‫الرذائل‪ ،‬وتكرير الشارة لزيادة تنويه بشأنهم وتوسيط الضمير‬
‫للشارة إلى انحصار التقوى فيهم)‪ .(1‬وقد رغب النبي × في هذه‬
‫الخصلة النبيلة والرتبة الجليلة فقال ×‪» :‬وما يزال الرجل يصدق‬
‫ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا« )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬ومن صفاتهم‪ ،‬أنهم يعظمون شعائر الله عز وجل‪ :‬قال الله‬
‫ب" ]الحج‪.[32 :‬‬ ‫ل فلرإنَليلهاً رمنَ تليكقلوُىَ اًلكيقيلوُ ر‬
‫ك ومنَ ييعظبمُ لشعاًئرر اً ر‬ ‫ر‬
‫تعالى‪+ :‬لذل ل ل ل ي ل ك ل ل‬
‫إن المتقين يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى‬
‫طاعته‪ ,‬ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن‬
‫معصيته‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(3/54‬‬
‫صاًردرقيْلنَ" )‪.(7/124‬‬
‫)( البخاري‪ ,‬كتابا الدبا‪ ,‬بابا قول الله تعالى‪+ :‬يكوُنَيوُاً لملع اًل ل‬ ‫‪2‬‬

‫‪101‬‬
‫‪ -3‬ويتحرون العدل ويحكمون به‪ ،‬ول يحملنهم بغض أحد على‬
‫ب رللتليكقلوُىَ‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬
‫تركه‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لولل يلكجررلمنليككمُ لشلنآِين قليكوُم لعللىَ أللل تليكعدليوُاً اًكعدليوُاً يهلوُ ألقكيلر ي‬
‫لواًتلييقوُاً اًلل إرلن اًلل لخربيْرر برلماً تليكعلميلوُلن" ]المائدة‪.[8 :‬‬
‫وفي الية تعليم وإرشاد على وجوبا العدل مع الكفار الذين‬
‫هم أعداء الله‪ ،‬فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه‬
‫وأحباؤه‪.‬‬
‫‪ -4‬يتبعون سبيل الصادقين من النبياء والمرسلين وصحابة‬
‫سيد الولين والخرين ×‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً اًتلييقوُاً اًلل لويكوُنَيوُاً لملع‬
‫صاًردرقيْلنَ" ]التوبة‪.[119 :‬‬ ‫اًل ل‬
‫فل شك أن من صفات المتقين أنهم ينتهجون منهج الصحابة‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬لنهم أولى الناس بهذه الصفات التي أمرنا الله‬
‫أن نكون مع أهلها‪ ،‬فقد شهد الله لهم الصدق‪ ،‬وشهد لهم رسوله‬
‫×‪ ،‬فل يجوز لحد أن يلزمهم بشيء‪ ،‬أو يتهمهم بما برأهم الله عز‬
‫وجل منه ورسوله ×‪ ،‬فالصحابة كلهم عدول‪ ،‬وظهرت فيهم من‬
‫علمات الصدق واليمان واليقين ما يجعل العاقل يقطع بتعديلهم‪،‬‬
‫فمن تقوى الله عز وجل موالتهم ومحبتهم ونصرتهم والحتجاج‬
‫بإجماعهم‪ ،‬وفهم الكتابا والسنة على منهجهم وطريقتهم‪ ،‬وبغض‬
‫من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم)‪.(1‬‬
‫دعون ما ل بأس به حذلرا مما به بأس ويتقون الشبهات‪،‬‬ ‫‪ -5‬ي ع ع‬
‫إن المتقين يتورعون عن الشبهات وعما يرتابون فيه مما ليس‬
‫حلل بينلا‪ ،‬وذلك أدعى أن يتورعوا عن الحراما البين‪ ،‬ومن اجترأ‬ ‫ل‬
‫على الشبهة اجترأ كذلك على الحراما‪.‬‬
‫ولهذا قال رسول الله ×‪» :‬إن الحلل بلين وإن الحراما بين‬
‫وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى‬
‫الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات وقع‬
‫في الحراما« )‪.(2‬‬
‫ولبد من التنبه لمر مهم وهو أن التدقيق في التوقف عن‬
‫الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في‬
‫التقوى والورع‪ ،‬فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد‬
‫أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهات فإنه ل يحتمل ذلك‪ ،‬بل ينكر‬
‫عليه‪ ،‬كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله من أهل العراق‪:‬‬
‫)( انظر‪ :‬الجامع لحكاما القرآن للقرطبي )‪.(8/289‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬من استبرأ لدينه )‪ (1/22‬رقم ‪.22‬‬ ‫‪2‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫عن دما البعوض يسألونني عن دما البعوض وقد قتلوا الحسين‪،‬‬


‫وسمعت رسول الله × يقول‪»:‬هما ريحانتاي من الدنيا« )‪.(1‬‬
‫ب رللتليكقلوُىَ"‬‫‪ -6‬إنهم يعفون ويصفحون‪ :‬قال تعالى‪+ :‬لوألكن تليكعيفوُاً ألقكيلر ي‬
‫صلح فلألكجرهي لعللىَ اً ر‬ ‫ة‬
‫ل‬ ‫]البقرة‪ .[237 :‬وقال تعالى‪+:‬لولجلزاًءي لسيْبئلة لسيْبئلةر بمثكيليلهاً فللمكنَ لعلفاً لوأل ك ل ي‬
‫إرنَلهي لل ييرح م‬
‫ب‬
‫اًللظاًلررميْلنَ" ]الشورى‪.[4 :‬‬
‫فأخبر عز وجل أن من اتصف بهذه الصفة فأجره في ذلك‬
‫على الله عز وجل كما رغبهم الله عز وجل في مغفرته إذا فعلوا‬
‫صلفيحوُاً أللل تيرحمبوُلن لأن يليغكرفلر اًلي ليككمُ لواًلي غليفوُرر‬
‫ذلك‪ ,‬فقال عز وجل‪+ :‬لولكيْليكعيفوُاً لولكيْل ك‬
‫لررحيْرمُ" ]النور‪.[22 :‬‬

‫س لواًلي‬ ‫وقال تعالى في وصف المتقين‪+ :‬لواًلكلكاًرظرميْلنَ اًلكغلكيْ ل‬


‫ظ لواًلكلعاًرفيْلنَ لعرنَ اًللناً ر‬
‫ب اًلكيمكحرسرنيْلنَ" ]آل عمران‪ .[134 :‬فالحسان وصف من أوصاف‬ ‫ييرح م‬
‫المتقين‪ ،‬ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات‪ ،‬بل صاغه بهذه‬
‫الصيغة تمييلزا له بكونه محبولبا عند الله تعالى)‪.(2‬‬
‫‪ -7‬ومن صفاتهم أنهم غير معصومين من الخطايا إل من‬
‫عصمه الله عز وجل من النبياء غير أنهم ل يفارقون الكبائر‪ ،‬ول‬
‫يصرون على الصغائر‪ ،‬بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله‬
‫بالتوبة والستغفار والعمل الصالح عمل بقول الله تعالى‪+ :‬إرلن اًلرذيلنَ‬
‫صيرولن" ]العراف‪.[201 :‬‬ ‫شكيْلطاًرن تللذلكرواً فلرإلذاً يهمُ مكب ر‬ ‫سيهكمُ لطاًئر ر‬
‫ف بملنَ اًل ل‬ ‫اًتليلقكوُاً إرلذاً لم ل‬
‫ي‬
‫شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان‬
‫لحملهم على محاكاة الجاهلين والخوض معهم وعلى غير ذلك من‬
‫المعاصي والفساد تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا‪ ،‬وإن زلوا تابوا‬
‫وأنابوا)‪.(3‬‬
‫إن هذه الصفات عندما تتغلغل في نفوس الدعاة والعلماء وأبناء‬
‫المسلمين تكون المة المسلمة جديرة بنصر الله وتوفيقه‪ ،‬وبهذا نكون‬
‫قد فصلنا أهم شروط التمكين المتمثلة في اليمان بالله والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬والعبادة‪ ،‬ومحاربة الشرك وتقوى الله عز وجل‪.‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬فضائل الصحابة‪ ،‬بابا مناقب الحسن والحسين )‪.(4/261‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(135 ،4/134‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( نفس المصدر السابق )‪.(9/550‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪103‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫أســـــــبابا التمكــــــــــين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن الخذ بالسبابا التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وحثنا على الخذ بها سيد المرسلين ×‪ ،‬وقد أمر‬
‫الله تعالى بالعداد الشامل فقال‪+ :‬لوألرعمدواً ليهكمُ لماً اًكستلطلكعيتمُ بمنَ قييلوُةة لورمنَ برلباًرط‬
‫اًلكلخكيْرل" ]النفال‪.[60 :‬‬
‫والعداد في حقيقته أخذ بالسبابا‪.‬‬
‫وأشارت الية الكريمة إلى المر بإعداد‪:‬‬
‫‪ -2‬ومن رباط الخيل‪.‬‬ ‫‪ -1‬ما استطعتم من قوة‪.‬‬
‫والغاية‪:‬‬
‫‪ -1‬ترهبون به عدو الله وعدوكم‪ -2 .‬وآخرين من دونهم ل‬
‫تعلمونهم‪.‬‬
‫وإعداد القوة‪ ،‬لفظ عاما يشمل كل قوة‪ ،‬فقوة العقيدة‬
‫واليمان قوة‪ ،‬وقوة الصف والتلحم قوة‪ ،‬وقوة السلح والساعد‬
‫قوة‪ .‬ورباط الخيل إشارة إلى السلح الثقيل‪ ،‬وإشارة إلى وجوبا‬
‫وجوده في أيدي المسلمين ل تأخذه شراء أو هبة من أحد‪.‬‬
‫ول يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من العداد السلمي‪،‬‬
‫لنها عند اللتحاما أقوى من التحاما الفراد بغير أفراس‪ ،‬وقد أثبتت‬
‫الحروبا الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال‬
‫الفغان ضد الشيوعيين‪ ،‬وفي جنوبا السودان ضد النصارى‪.‬‬
‫إن الية الكريمة تضع أذهان المسلمين على العداد الشامل‪،‬‬
‫المعنوي والمادي‪ ،‬العلمي والفقهي على مستوى الفراد‬
‫والجماعات‪ ،‬وتدخل في طياتها‪ ،‬العداد التربوي‪ ،‬والسلوكي‪،‬‬
‫والعداد المالي‪ ،‬والعداد العلمي‪ ،‬والسياسي والمني‬
‫والعسكري‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫كما أن الية الكريمة وضحت أن العداد يحتاج إلى إنفاق هائل‬
‫ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الخرة لتحفز المسلمين‬
‫ف إرلكيْيككمُ‬ ‫وتحثهم على ذلك‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬وماً تييكنرفيقوُاً رمنَ لشيِةء رفيِ سبريْرل اً ر‬
‫ل يييلوُ ل‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫لل‬
‫لوألنَكيتيكمُ لل تيظك ليموُلن" ]النفال‪.[60 :‬‬
‫المبحث الول‬
‫سنة الخذ بالسبابا وإرشاد القرآن للعداد‬
‫أولل‪ :‬سنة الخذ بالسبابا‪:‬‬
‫إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلقة مباشرة مع سنن‬
‫التمكين سنة الخذ بالسبابا‪ ،‬ولذلك يجب على الفراد والجماعات‬
‫العاملة للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض‬
‫الواقع‪.‬‬
‫قال الماما الرازي‪ :‬أصل السبب في اللغة‪ :‬الحبل‪ ،‬قالوا‪ :‬ول‬
‫يدعي الحبل سبلبا حتى ينزل ويصعد به‪ ,‬ومنه قوله تعالى‪+ :‬فليكليْلكميدكد‬
‫سلماًرء ثيلمُ كليْليكقطلكع‪] "...‬الحج‪ .[15 :‬ثم قيل لكل شيء سبب لنك‬ ‫ب إرللىَ اًل ل‬‫سبل ة‬ ‫بل‬
‫ر‬
‫سبلحباً" ]الكهف‪:‬‬ ‫بسلوكه تصل الموضع الذي تريده‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬فلألتكيبللع ل‬
‫‪ [85‬أي طريقا‪ ،‬وأسبابا السموات أبوابها‪ ،‬لن الوصول إلى‬
‫السماء يكون بدخولها‪ ،‬قال تعالى مخبرا عن فرعون‪+ :‬للعبليِ لأبكيلييغ‬
‫سماًواً ر‬
‫ت" ]غافر‪ [37 - 36 :‬والمودة بين القوما تسمى سببا‬ ‫ب ‪ ‬ألكسلباً ل‬
‫ب اًل ل ل ل‬ ‫اًلكسلباً ل‬
‫لنهم بها يتواصلون‪ .‬والسبب في اصطلح الشرع‪ :‬ما يوصل إلى‬
‫الشيء ول يؤثر فيه كالوقت للصلة)‪.(1‬‬
‫واستعير السبب لكل ما يتوصل به إلى أمر من المور)‪ ،(2‬إن‬
‫سنة الخذ بالسبابا مقررة في كتابا الله تعالى‪ ،‬ولقد وجه الله‬
‫عباده المؤمنين إلى وجوبا مراعاة هذه السنة في كل شئونهم‬
‫الدنيوية والخروية سواء‪.‬‬
‫ن" ]التوبة‪[105 :‬‬ ‫سيْليلرىَ اًلي لعلم ليككمُ لولريسوُليهي لواًلكيمكؤرمينوُ ل‬
‫قال تعالى‪+ :‬لوقيرل اًكعلمليوُاً فل ل‬
‫شوُاً رفيِ ملناًكربرهاً ويكليوُاً رمنَ بركزقرره وإرليْهر‬ ‫ر‬
‫ل ك‬ ‫ل ل ل‬ ‫وقال سبحانه‪+ :‬يهلوُ اًلذيِ لجلعلل ليكيمُ اًللكر ل‬
‫ض ذليلوُلح لفاًكم ي‬
‫شوُير" ]الملك‪..[15 :‬‬ ‫اًلنم ي‬
‫ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة‬
‫مريم أن تباشر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫السبابا وهي في أشد حالت ضعفها‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لويهبزيِ إلكيْك بجكذرع‬
‫ساًقركط‬ ‫ر‬
‫اًلنلكخلة تي ل‬
‫ك يرطلحباً لجنرقيْاً" ]مريم‪.[25 :‬‬ ‫لع لكيْ ر‬

‫)( انظر‪ :‬مفاتيح الغيب )‪.(2/626‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مفردات القرآن كتابا السين‪ ،‬ص ‪ ،220‬المعجم الوسيط‪ ،‬ص ‪.426‬‬ ‫‪2‬‬
‫وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة السبابا في كل‬
‫المور والحوال)‪.(1‬‬
‫»ولقد قدر الله سبحانه وتعالى لدينه أن ينتصر‪ ،‬وللمسلمين‬
‫أن عيمكنوا‪ ،‬وللمشركين أن ينهزموا‪ ،‬ومع ذلك فهل قال الله تعالى‬
‫للمسلمين‪ :‬ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا‬
‫إنفاذي قدري‪ ،‬وهو لبد نافذ؟ كل‪ ،‬وإنما قال لهم‪+ :‬لوألرعمدواً ليهكمُ لماً‬
‫ل لولعيدلويككمُ‪] "...‬النفال‪ [60 :‬وقال‬ ‫اًكستلطلكعيتمُ بمنَ قييلوُةة ورمنَ برباًرط اًلكلخكيْرل تييررهبوُلن برره لعيدلو اً ر‬
‫ك ي‬ ‫ل ل‬
‫ض" ]محمد‪.[4 :‬‬ ‫ضيككمُ رببليكع ة‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫صلر م كنييهكمُ لولكنَ لبلكيْبيليلوُ بليكع ل‬ ‫تعالى‪+ :‬لذلر ل‬
‫شاًءي اًلي للنَكيتل ل‬‫ك لولكوُ يل ل‬
‫ت ألقكلداًلميككمُ" ]محمد‪ [7 :‬فلبد‬
‫صكريككمُ لويييثلب ك‬ ‫وقال عز وجل‪+ :‬رإن تليكن ي‬
‫صيرواً اًلل يليكن ي‬
‫من اتخاذ السبابا للنصر والتمكين‪ ،‬وإن كان ذلك قدلرا مقدولرا‬
‫من عند الله)‪.(2‬‬
‫»وليس الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عاجزا عن نصرة الحق بغير‬
‫الدوات البشرية‪ ،‬وهو الذي يقول للشيء كن فيكون‪ ،‬ولكن هكذا‬
‫اقتضت مشيئته وهكذا تجري سننه«)‪.(3‬‬
‫ورسول الله × وهو أفضل المتوكلين كان أوعى الناس لهذه‬
‫السنة الربانية‪ ،‬فكان وهو يؤسس لبناء الدولة السلمية يأخذ بكل‬
‫ما في وسعه من أسبابا‪ ،‬ول يترك شيئا يسير جزافا‪ ،‬والمتتبع‬
‫للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما‪» ..‬ففي الهجرة ‪ -‬على سبيل‬
‫المثال ‪ -‬لم يترك رسول الله × أمرا من المور إل أعد له عدته‪،‬‬
‫وحسب له حسابه‪ ،‬ورسم له خطته على نحو يستوعب كل‬
‫الطاقات والوسائل‪.‬‬
‫فقد أعد النبي × الرواحل والدليل‪ ،‬واختار الرفيق والمكان‬
‫الذي سيتوارى فيه ‪ -‬هو وصاحبه ‪ -‬حتى يهدأ الطلب‪ ،‬ويفتر‬
‫الحماس‪ ،‬وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر‪،‬‬
‫والكتمان‪ ،‬وأسبابا الحتياط‪ ،‬وترك للرادة اللهية ‪ -‬بعد ذلك ‪ -‬ما‬
‫ل حيلة له فيه)‪.(4‬‬
‫وكذلك المر بالنسبة لغزوة بدر‪ ،‬وأحد‪ ،‬والحزابا‪ ...‬وجميع‬
‫غزواته ×‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن لمحمد سيد‪ ،‬ص ‪.248‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪ 263 ،262‬بتصرف يسير‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حول التفسير السلمي للتاريخ محمد قطب‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أولويات الحركة السلمية في المرحلة المقبلة‪ ,‬د‪ .‬القرضاوي‪ ،‬ص ‪.18 ،17‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫وكل أموره‪.‬‬
‫وكان × يوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية‪،‬‬
‫في أمورهم الدنيوية والخروية على السواء‪ ,‬ففي أمورهم كان‬
‫النبي × يرشدهم دائما إلى الخذ بما يمكن من أسبابا للوصول‬
‫إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة‪ ،‬روى‬
‫أبو داود والترمذي عن أنس ‪ ×       ‬فسأله‬
‫عطاء‪ ،‬فقال الرسول ×‪ :‬أماً فيِ بيْتك شيِء؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬حلس نلبس‬
‫بعضه‪ ،‬ونبسط بعضه‪ ،‬وقعب نشربا فيه‪ ،‬قال‪ :‬اًئتنيِ بهماً‪ ،‬فأتاه‬
‫بهما‪ ،‬فأخذهما رسول الله × بيده وقال‪ :‬منَ يشتريِ منيِ هذينَ؟ قال‬
‫رجل‪ :‬أنا آخذهما بدرهم‪ ،‬قال رسول الله ×‪ :‬منَ يزيد علىَ درهمُ؟‬
‫مرتين أو ثلثا‪ ،‬فقال رجل‪ :‬أنَاً آخذهماً بدرهميْنَ‪ ،‬فأعطاهما إياه فأخذ‬
‫الدرهمين‪ ،‬وأعطاهما النصاري‪ ،‬وقال له‪ :‬اًشتر بأحدهماً طعاًحماً فاًنَبذه إلىَ‬
‫أهلك‪ ،‬واًشتر باًلخر قدوماً فاًئتنيِ به‪ ،‬فأتاه به‪ ،‬فشد فيه رسول الله ×‬
‫عودا بيده‪ ،‬ثم قال‪ :‬اًذهب فاًحتطب وبع‪ ،‬ول أرينك خمسة عشر يوُماً‪ ,‬فجاء‬ ‫ل‬
‫ثوبا‪ ،‬وببعضها طعاملا‪,‬‬ ‫وقد أصابا عشرة دراهم‪ ،‬فاشترى ببعضها ل‬
‫فقال له رسول الله ×‪ :‬هذاً خيْر لك منَ أن تجئ اًلمسألة نَكتة سوُداًء فيِ‬
‫وجهك يوُم اًلقيْاًمة)‪.(1‬‬
‫»وهذا نفس المعنى الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن‬
‫الخطابا ‪   :        ‬‬
‫‪       « » :    ‬‬
‫ض لواًبكيتليغيوُاً رمكنَ‬
‫صللةي فلاًنَكيتلرشيرواً رفيِ اًللكر ر‬ ‫ر‬
‫ضيْ ر‬
‫ت اًل ل‬ ‫‪+ :     ‬فلرإلذاً قي ل‬
‫ضرل اً ر‬
‫ل‪] "...‬الجمعة‪.[10 :‬‬ ‫فل ك‬
‫نعم‪ ،‬لبد من بذل الجهد‪ ،‬لن الخذ بالسبابا والكدح للحصول‬
‫على ما يرغب النسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله‬
‫تعالى‪.(2) «...‬‬
‫وكذلك بالنسبة لمر الخرة‪ ،‬لبد من الخذ بالسبابا حتى يصل‬
‫النسان إلى ما يرجو من رحمة الله وجنته‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لولمكنَ أللراًلد‬
‫اًللرخلرلة لولسلعىَ للهاً لسكعيْليلهاً لويهلوُ يمكؤرمرنَ فليأولئر ل‬
‫ك لكاًلن لسكعيْيييهمُ لمكشيكوُحراً" ]السراء‪ [19 :‬لقد كان‬

‫)( رواه أبو داود‪ ،‬كتابا الزكاة‪ ،‬بابا‪ :‬ما تجوز فيه المسألة )‪.(2/120‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( حول تفسير التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪107‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫في وجدان المة السلمية في عصرها الزاهر أن إيمانها بقدرة‬


‫الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬المطلقة‪ ،‬وقضائه وقدره ل يتعارض مع اتخاذ‬
‫السبابا‪.‬‬
‫لقد كانوا يدركون أن لله ‪ -‬تعالى ‪ -‬سننا في هذا الكون وفي‬
‫حياة البشر غير قابلة للتغيير‪ ،‬ومع أن لله تعالى سننا خارقة تملك‬
‫أن تصنع كل شيء ول يعجزها شيء إل أن الله جلت قدرته قد‬
‫قضى أن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا‪ ،‬وأن تكون‬
‫سننه الخارقة استثناء لها‪ ،‬وكلتاهما معلقة بمشيئة الله‪.‬‬
‫لذلك كان في حسهم أنه لبد لهم من مجاراة السنن الجارية‬
‫إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم‪ ،‬أي أنه‬
‫لبد من اتخاذ السبابا المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن‬
‫الجارية)‪.(1‬‬
‫ولقد أصابا المسلمين في أحد ما أصابهم‪ ،‬لنهم لم يستجمعوا‬
‫المقدمات التي تنتج النصر ولم يكن المشركون أولى بالله منهم‪،‬‬
‫ولكن هذه سنة الله‪ ،‬فالله ‪ -‬تعالى ‪ -‬قد وضع للنصر أسبابا كثيرة‪،‬‬
‫وأوجب على عباده رعايتها‪ ،‬فمن أبى فل يلومن إل نفسه‪.‬‬
‫وإن تأخر المسلمين اليوما عن القيادة العالمية لشعوبا الرض‬
‫لم يكن ظلما وقع بهم‪ ،‬بل كان نتيجة طبيعية لقوما نسوا رسالتهم‪،‬‬
‫وحطوا مكانتها‪ ،‬وشابوا معدنها بركاما هائل من الوهاما في مجال‬
‫العلم والعمل على سواء‪ ،‬وأهملوا السنن الربانية‪ ,‬وظنوا أن‬
‫التمكين قد يكون بالماني والحلما‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬بل هذا من‬
‫ل‬ ‫ك برماً قللدم ك ر‬‫ر‬
‫ت أليكدييككمُ لوألن اًلل لكيْ ل‬
‫س‬ ‫صميم العدل اللهي ‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لذل ل ل ل‬
‫)‪(2‬‬

‫برظلللةم لبكللعربيْرد" ]آل عمران‪.[182 :‬‬


‫ولكن إذا كان هذا عقابا الله للمؤمنين الذين عصوه‪ ،‬فما بال‬
‫الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة‪ ،‬ومع ذلك فإنهم متمكنون‬
‫في الرض ‪ -‬من الناحية المادية غاية التمكين؟‬
‫إن هؤلء الكفار لم يبلغوا ما بلغوه لنهم أقربا من الله أو أرضى‬
‫له‪ ،‬ولم يبلغوا ما بلغوا بسحر أو بمعجزة أو لنهم خلق آخر متميز‪،‬‬
‫ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار‪ ،‬أو يخترقوا أجواء الفضاء لن‬
‫عقيدتهم حق‪ ،‬أو لن فكرهم سليم‪ ،‬إنهم بلغوا ذلك لن السبيل إلى‬
‫هذا التقدما دربا مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬برهم‬

‫)( انظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ،‬ص ‪.263 ،262‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الغزو الثقافي يمتد من فراغنا للغزالي‪ ،‬ص ‪.150 :147‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪108‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ف إرلكيْرهكمُ ألكعلماًليهكمُ رفيْلهاً لويهكمُ‬


‫وفاجرهم‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لمنَ لكاًلن ييررييد اًلكلحيْلاًلة اًلمدنَكييْلاً لورزيلنتليلهاً نَييلوُ ب‬
‫رفيْلهاً لل يييكبلخيسوُلن" ]هود‪.[15 :‬‬
‫إن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬جعل التمكين في الحياة يمضي‬
‫بالجهد البشري‪ ،‬وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة‪ ،‬وقوانين‬
‫ل تتبدل ول تتحول‪ ،‬فمن يقدما الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة‬
‫يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه‪.‬‬
‫إنها السنة التي أرادها الله في هذه الحياة‪ ،‬إنها مشيئته وسننه‬
‫وإرادته)‪.(1‬‬
‫با‪ -‬التوكل على الله والخذ بالسبابا‪:‬‬
‫التوكل على الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يمنع من الخذ‬
‫بالسبابا‪ ،‬فالمؤمن يتخذ السبابا من بابا اليمان بالله وطاعته‬
‫فيما أمر به من اتخاذها‪ ،‬ولكنه ل يجعل السبابا التي تنشئ‬
‫النتائج فيتوكل عليها)‪.(2‬‬
‫ولقد أرشدنا النبي × في أحاديث كثيرة ضرورة الخذ‬
‫بالسبابا مع التوكل على الله تعالى‪ ،‬كما نبه ‪ -‬عليه السلما ‪ -‬على‬
‫عدما تعارضها‪.‬‬
‫‪ -1‬عن أنس بن مالك ‪ ×     : ‬على ناقة له‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال‪) :‬اًعقلهاً وتوُكل( )‪.(3‬‬
‫وهذا الحديث أصل في التوكل وفيه المر باتخاذ السبابا‬
‫والحتراز مع‬
‫)‪(4‬‬
‫المر بالتوكل ‪.‬‬
‫‪ -2‬وعن عمر بن الخطابا ‪ ×   ‬قال‪» :‬لو أنكم توكلتم‬
‫على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير‪ ،‬تغدو خماصا‪ ،‬وتعود‬
‫بطانا« )‪.(5‬‬
‫وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل على الله مع‬
‫الشارة إلى أهمية الخذ بالسبابا حيث أثبت الغدو والرواح للطير‬
‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.252‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ :‬ص ‪.253‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( رواه الترمذي في صفة القيامة بابا )‪ (4/668) (60‬رقم ‪.537‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬التوكل على الله تعالى وعلقته بالسبابا‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الدميجي‪ ،‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪.179‬‬
‫)( الترمذي‪ ،‬كتابا الزهد‪ ،‬بابا التوكل على الله )‪ (4/573‬رقم ‪ ،2344‬حسن‬ ‫‪5‬‬

‫صحيح‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مع ضمان الله تعالى الرزق لها)‪.(1‬‬


‫إن العمل بسنة الخذ بالسبابا من صميم تحقيق العبودية لله‬
‫تعالى‪ ،‬وهو المر الذي خلق له العبيد‪ ،‬وأرسلت به الرسل‪،‬‬
‫وأنزلت لجله الكتب‪ ،‬وبه قامت السموات والرض‪ ،‬وله وجدت‬
‫الجنة والنار‪ ،‬فالقياما بالسبابا المأمور بها محض العبودية)‪.(2‬‬
‫إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الخذ بالسبابا وأرشدنا أل‬
‫نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الخذ بها‪ ,‬وعلى‬
‫المسلم أن يتقي في بابا السبابا أمرين‪:‬‬
‫‪ -1‬العتماد عليها‪ ،‬والتوكل عليها‪ ،‬والثقة بها ورجاؤها وخوفها‪,‬‬
‫فهذا شرك يرق ويغلظ‪ ،‬وبين ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬ترك ما أمر الله به من السبابا‪ ،‬هذا أيضا قد يكون كفرا‬
‫وظلما وبين ذلك‪ ,‬بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من‬
‫المر‪ ،‬ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن المر كله بمشيئة الله‪،‬‬
‫سبق بها علمه‪ ،‬وحكمه‪ ،‬وأن السبب ل يضر ول ينفع ول يعطي ول‬
‫يمنع‪ ,‬ول يقضي ول يحكم‪ ،‬ول يحصل للعبد ما ل تسبق له به‬
‫المشيئة اللهية ول يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم‪ ،‬فيأتي‬
‫بالسبابا إتيان من ل يرى النجاة والفرح والوصول إل بها‪ ،‬ويتوكل‬
‫على الله توكل من يرى أنها ل تنجيه ول تحصل له فلحا ول توصله‬
‫إلى المقصود‪ ،‬فيجرد عزمه للقياما بها حرصا واجتهالدا‪ ,‬ويضرع‬
‫قلبه من العتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على‬
‫الله وحده)‪ .(3‬وقد جمع النبي × بين هذين الصلين في الحديث‬
‫الصحيح‪ ،‬حيث يقول‪» :‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن بالله‬
‫ول تعجز‪.(4) «...‬‬
‫فأمره بالحرص على السبابا والستعانة بالمسبب ونهاه عن‬
‫العجز وهو نوعان‪:‬‬
‫‪ -1‬تقصير في السبابا وعدما الحرص عليها‪.‬‬
‫‪ -2‬وتقصير في الستعانة بالله وترك تجريدها‪.‬‬
‫فالدين كله ظاهره وباطنه‪ ،‬وشرائعه وحقائقه تحت هذه‬
‫الكلمات النبوية)‪.(5‬‬
‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.254‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/130‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مدارج السالكين )‪.(3/501‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم‪ :‬كتابا القدر بابا المر بالقوة )‪ (4/2052‬رقم ‪.2664‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(3/501‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪110‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إن استيعابا وفهم سنة الخذ بالسبابا لفراد المة السلمية‬


‫وجماعتها من ضروريات فقه التمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫ثانليا‪ :‬إرشاد القرآن للعداد‪:‬‬
‫إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى‪ ،‬على‬
‫اختلفها وتنوعها‪ ،‬ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في‬
‫إرشاد المة للخذ بأسبابا القوة وأوجب الله تعالى على المة‬
‫الخذ بأسبابها‪ ،‬لن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى‬
‫بمفهومها الشامل‪ ،‬وقد قال الصوليون‪» :‬وما ل يتم الواجب إل به‬
‫فهو واجب«)‪.(1‬‬
‫إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة‬
‫واضحة‪ ,‬قال تعالى‪+:‬لوألرعمدواً ليهكمُ لماً اًكستلطلكعيتمُ بمنَ قييلوُةة لورمنَ برلباًرط اًلكلخكيْرل تييكررهيبوُلن به لعيدلو‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ل يييلوُ ل‬
‫ف‬ ‫ل ولعيدلويكمُ وآلخررينَ رمنَ يدونَررهمُ لل تليكعلموُنَلييهمُ اًل ييكعلميهمُ وماً تييكنرفيقوُاً رمنَ لشيِةء رفيِ سربيْرل اً ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫ي ي ي ل ي ك لل‬ ‫ك‬ ‫كل ل‬ ‫اً ل‬
‫إرلكيْيككمُ لوألنَكيتيكمُ لل تيظك ليموُلن"]النفال‪.[60 :‬‬
‫شرح الية الكريمة‪:‬‬
‫العداد‪ :‬تهيئة الشيء للمستقبل)‪ .(2‬والضمير في »لهم« راجع‬
‫إلى الكفار‪.‬‬
‫وقوله‪+ :‬لماً اًكستلطلكعيتمُ" قال ابن كثير‪ :‬أي مهما أمكنكم)‪ ،(3‬وهذا‬
‫التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة‪ ،‬بحيث ل تقعد‬
‫)‪(4‬‬
‫العصبة المسلمة عن سبب من أسبابا القوة يدخل في طاقتها ‪.‬‬
‫والمراد بالقوة هنا‪ :‬ما يكون سببا لحصول القوة‪ ،‬وذكر الفخر‬
‫الرازي فيه وجوها‪:‬‬
‫‪ -1‬المراد من القوة أنواع السلحة‪.‬‬
‫‪ -2‬ورد أن النبي × قرأ الية الكريمة على المنبر وقال‪» :‬أل إن‬
‫اًلقوُة اًلرميِ« قالها ثلثا)‪.(5‬‬
‫‪ -3‬قال بعضهم‪ :‬القوة هي الحصون‪.‬‬
‫‪ -4‬قال أصحابا المعاني‪ :‬الولى أن يقال‪ :‬هذا عاما في كل ما‬

‫في ظلل القرآن )‪ (2/919‬تفسير آية ‪ 54‬من سورة المائدة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير المنار )‪.(5/53‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير القرآن العظيم )‪.(2/122‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫في ظلل القرآن )‪.(2/1553‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫مسلم مع شرح النووي‪ ،‬كتابا الجهاد‪ ،‬بابا‪ :‬فضل الرمي )‪.(13/64‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪111‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يتقوى به على‬
‫حربا العدو‪ ،‬وكل ما هو آلة للغزو والجهاد‪ ،‬فهو من جملة‬
‫القوة‪ ،‬وقوله عليه السلما‪» :‬القوة الرمي« ل ينفي كون‬
‫غير الرمي معتبرا كما أن قوله‪:‬‬
‫»الحج عرفة« )‪ .(1‬وقوله‪» :‬الدين النصيحة« ل ينفي‬
‫)‪(2‬‬

‫اعتبار غيره‪ ،‬بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من‬
‫المقصود وكذا هنا)‪.(3‬‬
‫كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة »قوة« هنا نكرة ل‬
‫معرفة‪ ,‬فهي تشمل كل سلح معروف أو سيعرف مع الزمن‬
‫المتجدد فهي تتسع لعداد الطائرات والصواريخ والدبابات‪ ..‬وكل‬
‫السلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة)‪.(4‬‬
‫ومعنى »رباط الخيل« قال النسفي‪ :‬هي اسم للخيل التي‬
‫ترابط في سبيل الله تعالى)‪ ،(5‬وقال صاحب تفسير المنار‪ :‬الرباط‬
‫في أصل اللغة‪ :‬الحبل الذي يربط به الدابة‪،‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ورباط الخيل‪ :‬حبسها واقتناؤها)‪ ,(6‬ومعنى ‪+‬تييكرهيبوُلن به" أي‪ :‬تخزون‪،‬‬
‫كما قال الطبري)‪ ،(7‬وقال ابن كثير‪ :‬تخوفون به)‪ ،(8‬وقال الشيخ‬
‫المراغي‪ :‬الرهبة‪ :‬هي الخوف‬
‫المقترن بالضطرابا)‪.(9‬‬
‫ومعنى ‪+‬لوآلخرريلنَ رمنَ يدونَررهكمُ" قال الطبري‪ :‬هم كل عدو للمسلمين‬
‫غير الذي أمر النبي ×؛ أن يشرد بهم من خلفه)‪ ،(10‬وذكر الفخر‬
‫الرازي فيه وجوها ثم قال‪ :‬وأصح ما قيل في المقصود منهم‪:‬‬
‫»أنهم المنافقون«)‪.(11‬‬
‫ذكر الله تعالى في هذه الية الكريمة ما لجله أمر بإعداد هذه‬
‫الشياء‪ ,‬فقال جل شأنه‪+ :‬تييررهبوُلن برره لعيدلو اً ر‬
‫ل لولعيدلويككمُ لوآلخرريلنَ‪ "...‬ذلك أن‬ ‫ك ي‬
‫الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له‬
‫)‪ (3،‬مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬إن الدين النصيحة )‪.(1/74‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( تفسير المنار )‪.(5/53‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬تفسير النسفي‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( تفسير المنار )‪.(10/16‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( تفسير الطبري )‪(6/22‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( تفسير ابن كثير )‪(2/322‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( تفسير المراغي )‪(4/23‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( تفسير الطبري )‪(6/22‬‬ ‫‪10‬‬

‫)( مفاتيح الغيب )‪.(7/533‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪112‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ومستكملين لجميع السلحة واللت خافوهم وذلك الخوف يفيد‬


‫أمولرا كثيرة‪:‬‬
‫‪ -1‬أنهم ل يتجرءون على دخول دار السلما‪.‬‬
‫‪ -2‬أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع‬
‫الجزية‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه ربما صار ذلك داعيا إلى اليمان لما يرون من قوة أهله‬
‫وعزته‪.‬‬
‫‪ -4‬أنهم ل يعينون سائر الكفار‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار السلما)‪.(1‬‬
‫ويقول صاحب الظلل‪ :‬السلما يأمر بأعداد القوة على اختلف‬
‫صنوفها وألوانها وأسبابها‪ ،‬فلبد للسلما من قوة ينطلق بها في‬
‫الرض لتحرير النسان‪.‬‬
‫وأهمية القوة بالنسبة للدعوة السلمية تتلخص في أمور‪:‬‬
‫من الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم‬ ‫اًلمر اًلول‪ :‬أن تؤ س‬
‫في اختيارها فل عيصدون عنها‪ ،‬ول يفتنون كذلك بعد اعتناقها‪.‬‬
‫اًلمر اًلثاًنَيِ‪ :‬أن ترهب هذه القوة أعداء السلما‪ ،‬فل يفكروا في‬
‫العتداء على حرمات السلما‪.‬‬
‫اًلمر اًلثاًلث‪ :‬أن يبلغ الرعب بهؤلء العداء أل يفكروا في الوقوف‬
‫في وجه الدين السلمي وهو ينطلق لتبليغ كلمة الله إلى النسان‬
‫في كل الرض‪.‬‬
‫اًلمر اًلراًبع‪ :‬أن تحطم هذه القوة كل قوة في الرض تتخذ‬
‫لنفسها صفة »اللوهية« من دون الله ربا العالمين)‪.(2‬‬
‫وبما أن المة السلمية أمة مجاهدة‪ ،‬فلبد أن تكون هذه المة‬
‫قوية حتى تستطيع أن تنهض بهذه الرسالة التي أنيطت بها‪ ،‬ولذلك‬
‫حث النبي × المؤمنين أن يكونوا أقوياء‪ ،‬وعلى أن يحصلوا كل‬
‫أسبابا القوة‪ ،‬فقال ×‪» :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من‬

‫)( المصدر نفسه )‪ (7/324‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪ (3/3154‬مع تصرف‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪113‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المؤمن الضعيف«)‪.(1‬‬
‫وما أحوج المسلمين اليوما إلى أن يحصلوا كل أسبابا القوة‪،‬‬
‫فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية ل تعرف إل لغة القوة‪,‬‬
‫فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد‪ ،‬ويقابلوا الريح بالعصار‪،‬‬
‫ويقاتلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه‪ ،‬وبكل ما امتدت إليه‬
‫يدهم وبكل ما اكتشف النسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر‬
‫من سلح وعتاد واستعداد حربي‪ ،‬ل يقصرون في ذلك ول‬
‫يعجزون)‪.(2‬‬
‫إن هذا العداد الشامل من أجل تمكين الله يدخل تحت‬
‫مسمى الجهاد والذي بدونه يستحال التمكين لشرع الله‬
‫وإقامة دولة تحكم بمنهج الله‪ ،‬يقول الشيخ محمد الغزالي‪:‬‬
‫»إن التغيير السلمي الذي تنشده المة السلمية ل يمكن‬
‫تحقيقه من غير جهاد‪ ،‬وبدون صياغة جيل مجاهد‪ ،‬فالمهمة‬
‫التغييرية مهمة شاقة‪ ،‬فالقوى الظاهرة والخفية القابضة‬
‫على الزماما في عالمنا قوى شريرة‪ ،‬وقد هيأها أعداء لهذا‬
‫الدور من زمن بعيد‪ ،‬وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت‬
‫السلما بشتى الطرق والوسائل‪ ,‬وإزالة هذه القوى‪ ،‬وإقامة‬
‫السلما مكانها ليس بالمر السهل‪ ،‬فهي ستتشبث بمواقعها‬
‫حتى النفس الخير وذلك يحتاج أول وقبل كل شيء إلى‬
‫تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين‪ ،‬يحبون الموت‬
‫م السلما وقضاياه‬ ‫كما يحب الناس الحياة‪ ،‬ويعيشون ه ز‬
‫ليلهم ونهارهم‪ .‬لبد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن‬
‫تصمد في هذا الصراع الجبار‪ ,‬وتقف في وجه المؤامرات‪،‬‬
‫وتجاهد في كل المجالت والجبهات‪ ،‬وتدفع ثمن التمكين‬
‫لدين الله في الرض من زهرة‬
‫أبنائها الشهداء)‪.(3‬‬
‫»إن الواجب على المة السلمية اليوما لتنهض وتتقدما وتترقى‬
‫في مصاعد المجد أن تجاهد ‪-‬بمالها ونفسها‪ -‬الجهاد الذي أمرها‬
‫الله به في القرآن الكريم مرارا عديدة‪ ،‬فالجهاد بالمال والنفس‬
‫هو العلم العلى الذي يهتف بالعلوما كلها‪ ،‬فإذا تعلمت المة هذا‬

‫)( مسلم مع شرح النووي كتابا ‪(215 /16) ،6‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لبي الحسن الندوي‪ ،‬ص ‪.225‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( ركائز اليمان بين العقل والقلب‪ ،‬ص ‪ 75‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪114‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫العلم وعملت به دانت لها سائر العلوما والمعارف«)‪.(4‬‬


‫***‬

‫)( انظر‪ :‬لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدما غيرهم؟ المير شكيب أرسلن‪ ،‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪.164‬‬

‫‪115‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫الســــــــبابا المعنــــــوية‬
‫ويحتل العداد المعنوي المكانة الولى‪ ،‬حتى إن التمكين‬
‫ليرتبط بالدرجة الولى بمدى الخذ بهذه السبابا ومن أهمها‪:‬‬
‫أولل‪ :‬إعداد الفراد الربانيين‪:‬‬
‫ولقد رسم لنا النبي × منهجا متميزا في تربية الفراد على‬
‫معاني الربانية وتحمل أداء رسالة ربا البرية‪ ،‬وكان × مهتما ببناء‬
‫القاعدة الصلبة وتربية أتباعه على معاني العقيدة الصحيحة‪ ،‬فقد‬
‫حرص × منذ اليوما الول من بعثته على أن يعطي الناس التصور‬
‫الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم‪ ،‬مدركا أن هذا التصور سيورث‬
‫التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم‪ ،‬واستقامت فطرتهم‪،‬‬
‫ولقد ركز النبي × في تربيته لصحابه على عدة جوانب منها‪:‬‬
‫أن الله منزه عن النقائص‪ ،‬موصوف بالكمالت التي ل‬ ‫‪-1‬‬
‫تتناهى فهو سبحانه واحد ل شريك له‪ ،‬ولم يتخذ صاحبة ول ولدا‪.‬‬
‫وأنه سبحانه خالق كل شيء‪ ،‬ومالكه‪ ،‬ومدبر أمره ‪+‬أللل‬ ‫‪-2‬‬
‫لهي اًلكلخكليق‬
‫لواًلكمير" ]العراف‪.[54 :‬‬
‫وأنه تعالى جده مصدر كل نعمة في هذا الوجود‪ ،‬دقت‬ ‫‪-3‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫أو عظمت‪ ،‬ظهرت أو خفيت ‪+‬لولماً بيكمُ بمنَ نَبيكعلمة فلملنَ اًل" ]النحل‪.[53 :‬‬
‫وأن علمه محيط بكل شيء‪ ،‬فل تخفى عليه خافية في‬ ‫‪-4‬‬
‫ل‬
‫الرض‪ ،‬ول في السماء‪ ،‬ول ما يخفى النسان وما يعلن‪+:‬لوألن اًلل قلكد‬
‫أللحاًلط بريكبل لشكيِةء رعكلحماً" ]الطلق‪.[12 :‬‬
‫وأنه سبحانه يقيد على النسان أعماله بواسطة ملئكته‪،‬‬ ‫‪-5‬‬
‫في كتابا ل يترك صغيرة ول كبيرة إل أحصاها‪ ،‬وسينشر ذلك في‬
‫ب لعرتيْرد"‬ ‫ر ر‬ ‫اللحظة المناسبة والوقت المناسب ‪+‬ماً ييكلرف ي ر‬
‫ظ منَ قليكوُةل إرلل للديكه لرقيْ ر‬ ‫ل ل‬
‫]ق‪.[18 :‬‬
‫وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون‪ ،‬وما‬ ‫‪-6‬‬
‫يهوون‪ ،‬ليعرف الناس معادنهم‪ ،‬من منهم يرضى بقضاء الله‬
‫وقدره‪ ،‬ويسلم له ظاهرا وباطنا‪ ،‬فيكون جديرا بالخلفة والمامة‬

‫‪116‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫والسيادة‪ ،‬ومن منهم يغضب ويسخط‪ ،‬فل يساوي شيئا‪ ،‬ول يسند‬
‫ر‬ ‫إليه شيء‪+ :‬اًلرذيِ لخ للق اًلكلمكوُ ل‬
‫ت لواًلكلحليْاًةل للكيْبيليلوُيككمُ أليميككمُ ألكح ل‬
‫سينَ لعلملح" ]الملك‪.[2 :‬‬
‫وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه‪ ،‬ولذ‬ ‫‪-7‬‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫بحماه‪ ،‬ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر‪+ :‬إرلن لوليْلليِ اًلي اًلذيِ‬
‫صاًلررحيْلنَ" ]العراف‪.[196 :‬‬
‫ب لويهلوُ يليتليلوُللىَ اًل ل‬ ‫ر‬
‫نَليلزلل اًلككلتاً ل‬
‫وأنه وأن حقه سبحانه وتعالى على العباد أن يعبدوه‪،‬‬ ‫‪-8‬‬
‫ر‬
‫شاًكرري ل‬
‫نَ" ]الزمر‪:‬‬ ‫ويوحدوه‪ ،‬فل يشركوا به شيئا‪+ :‬بلرل اًلل لفاًكعبيكد لويكنَ بملنَ اًل ل‬
‫‪.[66‬‬
‫وأنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬حدد مضمون هذه العبودية‪ ،‬وهذا‬ ‫‪-9‬‬
‫التوحيد في القرآن العظيم‪.‬‬
‫وظل × يطرق معهم هذه الجوانب‪ ،‬ويكرر على أصحابه ومن‬
‫آمن به‪ ,‬ويفتح عيونهم عليها من خلل الكتابا المنظور‪ ،‬والكون‬
‫المسطور حتى خشعت قلوبهم وسمت أرواحهم‪ ,‬وطهرت‬
‫نفوسهم‪ ،‬ونشأ لديهم تصور وإدراك لحقيقة ومضمون اللوهية‬
‫يخالف تصورهم الول‪ ،‬وإدراكهم القديم)‪.(1‬‬
‫واهتم × بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لصحابه موقنا‬
‫أن من عرف منهم عاقبته‪ ،‬وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة‪،‬‬
‫سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل‪ ،‬حتى‬
‫يظفر غدا بهذه النجاة‪ ,‬وذلك الفوز‪ ،‬وركز × في هذا البيان على‬
‫الجوانب التالية‪:‬‬
‫أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال‪ ،‬وأن‬ ‫‪-1‬‬
‫ر‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫متاعها مهما عظم‪ ،‬فإنه قليل حقير‪+ :‬إنَلماً لمثليل اًلكلحليْاًة اًلمدنَكيليْاً لكلماًء ألنَكيلزلكلناًهي ملنَ‬
‫ض يزكخيرفليلهاً لواًلزيلينل ك‬
‫ت‬ ‫ت اًللكر ي‬ ‫ض رملماً يأكيكل اًللناًس واًلنَكيعاًم حلتىَ إرلذاً أللخلذ ر‬
‫ل ي ي ل لي ل‬ ‫ت اًللكر ر‬ ‫سلماًرء لفاًكختلي ل ل‬
‫ط برره نَليلباً ي‬ ‫اًل ل‬
‫لوظللنَ ألكهليلهاً ألنَلييهكمُ لقاًرديرولن لع لكليْيلهاً أللتاًلهاً‬
‫ت لرلقكوُةم يليتليلفلكيرولن"‬ ‫صل اًللياً ر‬
‫ك نَييلف ب ي ل‬ ‫س لكلذلر ل‬
‫صيْحداً لكلأن لكمُ تليغكلنَ رباًلكم ر‬ ‫ألكمرلنَاً لكيْلح ألو نَليلهاًراً فلجعكللناًلهاً ح ر‬
‫ل‬ ‫ك ح لل‬ ‫ي‬
‫ر‬
‫]يونس‪+ .[24 :‬قيكل لملتاًعي اًلمدنَكيليْاً قلليْرل" ]النساء‪.[77 :‬‬
‫وأن كل الخلق إلى الله راجعون‪ ،‬وعن أعمالهم‬ ‫‪-2‬‬
‫ب‬‫س ي‬ ‫مسئولون ومحاسبون‪ ,‬وفي الجنة أو في النار مستقرون‪+:‬أليلكح ل‬

‫)( انظر‪ :‬منهج الرسول × في غرس الروح الجهادية‪ ،‬د‪ .‬سيد نوح‪ ،‬ص ‪.160 :10‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪117‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ساًين لأن يي كيتيلرلك يسحدىَ" ]القيامة‪.[36 :‬‬ ‫اًرلنَك ل‬


‫وأن نعيم الجنة ينسى كل تعب ومرارة في الدنيا‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫وكذلك عذابا النار ينسي كل راحة وحلوة في هذه الدنيا‪+ :‬ألفليلرأليك ل‬
‫ت‬
‫ن" ]الشعراء‪:‬‬ ‫رإن لمتليكعلناًيهكمُ رسرنيْلنَ ‪ ‬ثيلمُ لجاًءليهمُ لماً لكاًنَيوُاً ييوُلعيدولن ‪ ‬لماً ألكغلنىَ لع كنييهمُ لماً لكاًنَيوُاً ييلمتلييعوُ ل‬
‫‪.[207 - 205‬‬

‫‪+‬يكليوُاً لواًكشلربيوُاً لهنريْحئاً برلماً ألكس لكفتيكمُ رفيِ اًللياًرم اًلكلخاًلريْلرة" ]الحاقة‪.[24 :‬‬
‫وأن الناس مع زوال الدنيا‪ ،‬واستقرارهم في الجنة‪ ،‬أو‬ ‫‪-4‬‬
‫في النار‪ ،‬سيمرون بسلسلة طويلة من الهوال والشدائد‪+ :‬لياً أليميلهاً‬
‫ضيع‬ ‫ت لوتل ل‬ ‫ضلعةة لعلماً ألكر ل‬
‫ضلع ك‬ ‫ساًلعرة لشيِء لعرظيْمُ ‪ ‬ييوُم تليرونَليلهاً تلكذلهل يكمل مر ر‬ ‫س اًتلييقوُاً لربليككمُ إرلن لزلكلزلةل اًل ل‬
‫ي يك‬ ‫ك ر ر لك ل لك‬ ‫اًللناً ي‬
‫شرديرد" ]الحج‪:‬‬ ‫ل ل‬ ‫ت حمةل حمللهاً وتليرىَ اًللناًس سلكاًرىَ وماً يهمُ برسلكاًرىَ ولركلنَ لعلذاًب اً ر‬
‫ل‬ ‫ي ل ل‬ ‫ل ي ل لل‬ ‫يكمل لذاً ل ك ل ك ل ل‬
‫ر‬
‫‪.[1،2‬‬
‫سلماًءي يمنلفرطرر برره لكاًلن‬
‫ف تليتلييقوُلن رإن لكلفكرتيكمُ يليكوُحماً يلكجلعيل اًلكروُلكلداًلن رشيْحباً ‪ ‬اًل ل‬
‫وقال تعالى‪+ :‬فللككيْ ل‬
‫لوكعيدهي لمكفيعوُلح" ]المزمل‪.[18 ،17 :‬‬
‫وسبيل النجاة من شر هذه الهوال‪ ،‬ومن تلك الشدائد‪،‬‬ ‫‪-5‬‬
‫)‪(1‬‬
‫والظفر بالجنة والبعد عن النار ‪ ،‬باليمان بالله تعالى وعمل‬
‫ر‬ ‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت تلكجرريِ منَ‬
‫ت ليهكمُ لجلناً ر‬ ‫الصالحات ابتغاء مرضاته ‪+‬إرلن اًلذيلنَ آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل ل‬
‫تلكحترلهاً اًلنَكيلهاًير لذلر ل‬
‫ك اًلكلفكوُيز اًلكلكربيْير" ]البروج‪.[11 :‬‬
‫ومضى × كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في‬
‫الرض‪ ،‬ومنزلتهم ومكانتهم عند الله‪ ،‬وظل × معهم على هذه‬
‫الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند‬
‫الله‪ ،‬وما دورهم‪ ،‬ورسالتهم في الرض‪ ،‬وتأثرا بتربيته الحميدة‬
‫تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه‪ ،‬فانطلقوا عاملين‬
‫بالليل والنهار بكل ما في وسعهم‪ ،‬وما في طاقتهم دون فتور أو‬
‫توان‪ ،‬ودون كسل أو ملل‪ ،‬ودون خوف من أحد إل من الله‪ ،‬ودون‬
‫طمع في مغنم أو جاه إل أداء هذا الدور وهذه الرسالة‪ ،‬لتحقيق‬
‫السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الخرة)‪.(2‬‬
‫دا ربانيا وكانت‬‫وكان × يحرص على إعداد أصحابه إعدا ل‬
‫خطواته تتم بكل هدوء وتدرج وسرية‪ ،‬وانصبت أهدافه التربوية‬
‫على تعليم الكتابا والسنة وتلوة القرآن الكريم وتطهير النفوس‬
‫)( انظر‪ :‬منهج الرسول × في غرس الروح الجهادية‪ ،‬د‪ .‬سيد نوح ص ‪.34 :19‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪118‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫من أمراضها‪ ،‬وإعداد الفراد لتحمل تكاليف الدعوة والرسالة‪،‬‬


‫وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل لنبيه ×‬
‫ر‬
‫صبكر‬ ‫والدعاة من بعده ذلك التوجيه المتمثل في قوله تعالى‪+ :‬لواً ك‬
‫ك مع اًلرذينَ يكديعوُلن ربليهمُ رباًلكغللداًةر واًلكعرشيِ يررييدولن وجهه ولل تليعيد لعيْيلناًلك لع كنيهمُ تيررييد رزينلةل اًلكحيْاًةر‬
‫لل‬ ‫يك‬ ‫ل كلي ل ك ك‬ ‫ل ل بي‬ ‫لي‬ ‫س ل لل ل ل‬ ‫نَليكف ل‬
‫اًلمدنَكيليْاً لولل تيرطكع لمكنَ ألكغلفكللناً قليكلبلهي لعنَ رذككررلنَاً لواًتليبللع لهلوُاًهي لولكاًلن ألكميرهي فيييرحطاً" ]الكهف‪.[28 :‬‬
‫فالية الكريمة تأمر النبي × بأن يصبر على تقصير وأخطاء‬
‫المستجيبين لدعوته‪ ،‬وأن يصبر على كثرة تساؤلتهم خاصة إن‬
‫كانت خاطئة‪ ،‬وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات‪ ،‬وأن‬
‫يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة‪ ،‬وأن يوضح لهم‬
‫طبيعة طريق الدعوة‪ ،‬وأنها شاقة‪ ,‬وأن ل يغرر مغرر ليبعده عنهم‪،‬‬
‫وأن ل يسمع فيهم منتقصا‪ ،‬ول يطيع فيهم متكبرا أغفل الله قلبه‬
‫عن حقيقة المور وجوهرها)‪.(1‬‬
‫هذه المنهجية التي رسمها رسول الله × في إعداد الفراد‬
‫إعدادا ربانيا على زعماء وقادة الحركات السلمية أن يسيروا‬
‫على نفس المنهج الذي سار عليه رسول الله ×‪ ,‬والذي في‬
‫حقيقته تفسير للقرآن الكريم‪ ،‬وإن اليات الكريمة السابقة من‬
‫سورة الكهف تصف لنا الشخصية الربانية في عدة صفات منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬الصبر‪:‬‬
‫ك" ‪.‬‬
‫سل‬ ‫في قوله تعالى‪+ :‬واً ك ر‬
‫صبكر نَليكف ل‬ ‫ل‬
‫إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي ×‬
‫ويوصى الناس بعضهم بعضا وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع‬
‫للفئة الناجية من الخسران‪.‬‬
‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت‬ ‫ساًلن لفيِ يخكسةر ‪ ‬إرلل اًلذيلنَ آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل ل‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لواًلكلع ك ر‬
‫صرر ‪ ‬إلن اًرلنَك ل‬
‫صكبرر" ]العصر‪ [3-1 :‬فحكم المولى عز وجل على‬ ‫صكوُاً رباًل ل‬
‫صكوُاً رباًلكلحبق لوتليلوُاً ل‬
‫لوتليلوُاً ل‬
‫جميع الناس بالخسران إل من أتى بهذه المور الربعة‪.‬‬
‫‪ -1‬اليمان بالله‪.‬‬
‫‪ -2‬العمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -3‬التواصي بالحق‪.‬‬
‫‪ -4‬التواصي بالصبر‪.‬‬
‫لن نجاة النسان ل تكون إل إذا أكمل النسان نفسه باليمان‬
‫)( انظر‪ :‬الطريق إلى جماعة المسلمين‪ ،‬ص ‪.170‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪119‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والعمل الصالح وكمل غيره بالنصح والرشاد‪ ،‬فيكون قد جمع بين‬


‫حق الله‪ ،‬وحق العباد‪ ،‬والتواصي بالصبر ضرورة لن القياما على‬
‫اليمان والعمل الصالح‪ ،‬وحراسة الحق والعدل من أعسر ما‬
‫يواجه الفرد والجماعة‪ ،‬ولبد من الصبر على جهاد النفس‪ ،‬وجهاد‬
‫الغير‪ ،‬والصبر على الذى والمشقة‪ ،‬والصبر على تبجح الباطل‪،‬‬
‫والصبر على طول الطريق وبطء المراحل‪ ،‬وانطماس المعالم‬
‫وبعد النهاية)‪.(1‬‬
‫إن كلمة الصبر قصيرة سهلة ل تجاوز ثلثة حروف‪ ,‬يستطيع‬
‫كل إنسان أن ينطقها‪ ،‬وأن يوصي بها‪ ،‬ولكن معاناتها أمر آخر‪,‬‬
‫والصبر في حقيقته أنواع منها‪ ،‬صبر عن المعاصي وهو واجب على‬
‫كل مؤمن فضل عن الدعاة‪ ،‬وصبر على الطاعات‪ ،‬وهو واجب كل‬
‫مؤمن فضل عن الدعاة وإن كان عليهم أن يستزيدوا من‬
‫الطاعات‪ ،‬لن اليمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي‪.‬‬
‫وصبر على البلء‪ ،‬وهو وإن كان واجبا على المؤمن‪ ،‬إل أنه‬
‫بالنسبة للداعية أوجب لما يترتب على الدعوة من تعرض للبلء‪.‬‬
‫با‪ -‬كثرة الدعاء واللحاح على الله‪:‬‬
‫وهذا يظهر في قوله تعالى‪+ :‬يلكديعوُلن لربلييهكمُ رباًلكغللداًةر لواًلكلعرشبيِ" ]النعاما‪,[52 :‬‬
‫فالدعاء بابا عظيم‪ ،‬فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات‪ ،‬وانهالت‬
‫عليه البركات‪ ،‬فلبد من تربية الفراد الذين يعدون لحمل الرسالة‬
‫وأداء المانة على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء‪ ،‬لن ذلك من‬
‫أعظم وأقوى عوامل النصر‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬وإرلذاً سألل ل ر ر‬
‫ك علباًديِ لعبنيِ فلرإبنَيِ قلري ر‬
‫ب‬ ‫ر‬ ‫ل ل‬
‫ب لدكعلوُلة اًللداًرع إرلذاً لدلعاًرن فليكليْلكستلرجيْبيوُاً رليِ لوكليْييكؤرمنيوُاً ربيِ للع ليهكمُ يليكريشيدولن" ]البقرة‪.[186 :‬‬ ‫ر‬
‫أيجيْ ي‬
‫ب ليككمُ إرلن اًلرذيلنَ يلكستلككبريرولن لعكنَ رعلباًلدرتيِ لسيْلكديخيلوُلن لجلهنللمُ‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫‪+‬لولقاًلل لربميككمُ اًكديعوُنَيِ ألكستلج ك‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ب ليككمُ" ]النفال‪.[9 :‬‬ ‫لداًخرريلنَ" ]غافر‪+ .[60 :‬إركذ تلكستلغيْيثوُلن لربليككمُ لفاًكستللجاً ل‬
‫وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدو‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً‬
‫اًلرذيلنَ آلمنيوُاً إرلذاً لرقيْتيكمُ فرئلةح لفاًثكيبيتيوُاً لواًكذيكيرواً اًلل لكثريْحراً للع ليككمُ تييكفلريحوُلن" ]النفال‪.[45 :‬‬
‫لنه سبحانه النصير‪ ,‬فنعم المولى ونعم النصير‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫صر إرلل رمنَ رعكنرد اً ر‬
‫ل اًلكلعرزيرز اًلكلحركيْرمُ" ]آل عمران‪ ,[126 :‬ولهذا كان النبي ×‬ ‫ك‬ ‫‪+‬لولماً اًلنل ك ي‬
‫يدعو ربه في معاركه ويستغيث به‪ ،‬فينصره ويمده بجنوده‪ ،‬ومن‬
‫ذلك أنه نظر × يوما بدر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه‬
‫)( انظر‪ :‬الظلل )‪.(6/3968‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪120‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ثلثمائة وتسعة عشر رجل‪ ,‬فاستقبل × القبلة ورفع يديه واستغاث‬


‫بالله‪ ،‬وما زال يطلب المدد من الله وحده مادا يديه حتى سقط‬
‫رداؤه عن منكبيه‪ ،‬فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه‪،‬‬
‫ثم التزمه من ورائه وقال‪ :‬يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك‪ ,‬فإنه‬
‫ر‬
‫سينجز لك ما وعدك‪ ،‬فأنزل الله عز وجل‪+ :‬إركذ تلكستلغيْيثوُلن لربليككمُ لفاًكستللجاً ل‬
‫ب‬
‫ف بملنَ اًلكلملئرلكرة يمكرردرفيْلنَ" ]النفال‪ [9 :‬فأمده الله بالملئكة)‪..(1‬‬
‫ليكمُ ألبنَيِ مرممديكمُ برأللك ة‬
‫ك ي ك‬
‫وهكذا كان يدعو الله في جميع معاركه ومن ذلك قوله‪» :‬اللهم‬
‫منزل الكتابا‪ ،‬سريع الحسابا‪ ،‬مجري السحابا‪ ،‬هازما الحزابا‪،‬‬
‫اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم« وكان يقول عند لقاء العدو‬
‫»اللهم أنت عضدي‪ ،‬وأنت نصيري‪ ،‬بك أجول‪ ،‬وبك أصول‪ ،‬وبل‬
‫أقاتل« )‪.(2‬‬
‫ج‪ -‬الخلص‪:‬‬
‫ويظهر في قوله تعالى‪+ :‬ييررييدولن لوكجلههي" ]الكهف‪ [28 :‬ولبد عند‬
‫إعداد الفراد إعدادا ربانيا أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله‬
‫وأعماله وجهاده كلها لوجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته‪ ،‬من‬
‫غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو تقدما أو تأخر‪ ,‬وحتى يصبح‬
‫جنديا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى‪:‬‬
‫ك أيرمكر ي‬
‫ت" ]النعاما‪:‬‬ ‫ك لهي لوبرلذلر ل‬
‫ب اًلكلعاًلرميْلنَ ‪ ‬لل لشرري ل‬ ‫‪+‬قيل إرلن صللرتيِ ونَيسركيِ ومكحيْاًيِ ومماًرتيِ ر‬
‫ل لر ب‬ ‫ل ي لل ل ل لل ل‬ ‫ل‬ ‫ك‬
‫‪.[162‬‬
‫إن الخلص ركن من أركان قبول العمل‪ ،‬ومعلوما أن العمل‬
‫عند الله تعالى ل يقبل إل بالخلص وتصحيح النية وبموافقة السنة‬
‫والشرع‪.‬‬
‫وبالخلص تتحقق صحة الباطن‪ ،‬وقد جاء فيه قوله ×‪» :‬إنَماً‬
‫اًلعماًل باًلنيْاًت«)‪ (3‬فهذا هو ميزان الباطن‪ ،‬وأما في موافقة السنة‪،‬‬
‫عمل ليس عليه أمرنا فهو رد« )‪.(4‬‬ ‫ل‬ ‫فقد قال ×‪» :‬من عمل‬
‫وقد جمع الله المرين في أكثر من آية‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لولمنَ ييكسلركمُ‬
‫ك رباًلكعيكرلورة اًلكيوُثكيلقىَ" ]لقمان‪ ،[22 :‬فإسلما الوجه‬
‫سل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر ر‬
‫لوكجلههي إللىَ اًل لويهلوُ يمكحسرنَ فليلقد اًكستلكم ل‬
‫)( مسلم )‪ (3/1383‬كتابا الجهاد والسير‪ ،‬بابا المداد بالملئكة )‪ (3/1383‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.1763‬‬
‫)( صحيح أبي داود )‪ (2/499‬كتابا الجهاد‪ ،‬بابا‪ :‬ما يدعي عند اللقاء )‪(2/499‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.2291‬‬
‫)( صحيح أبي داود )‪.(2/286‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري )‪ ،(5/172‬كتابا آيات القرآن‪ ،‬بابا‪ :‬إن الناس قد جمعوا )‪.(5/203‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪121‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لله‪ ،‬إخلص القصد والعمل له‪ ،‬والحسان فيه‪ ،‬ومتابعة الرسول ×‬


‫وسنته‪.‬‬
‫د‪ -‬الثبات‪:‬‬
‫عيْيلناًلك لع كنييهكمُ تيررييد رزينلةل اًلكلحليْاًرة اًلمدنَكيليْاً"‬
‫ويظهر في قوله تعالى‪+ :‬لولل تليكعيد ل ك‬
‫]الكهف‪ .[28 :‬وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم ينبغي أن‬
‫رر‬ ‫ر‬
‫صلدقيوُاً لماً لعاًلهيدواً‬ ‫يتسم به الداعية الرباني‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ملنَ اًلكيمكؤمنيْلنَ رلجاًرل ل‬
‫ضىَ نَلكحبلهي لورم كنييهمُ لمنَ لينتلرظير لولماً بللدليوُاً تليكبرديلح" ]الحزابا‪.[23 :‬‬ ‫اًلل لع لكيْره فلرم كنييهمُ لمنَ قل ل‬
‫ففي الية الكريمة ثلثة صفات‪ ،‬إيمان ورجولة وصدق‪ ,‬ترتب‬
‫ضىَ نَلكحبلهي لورم كنييهمُ لمنَ لينتلرظير لولماً بللدليوُاً تليكبرديلح"‪.‬‬
‫عليها أن منهم ‪+‬لمنَ قل ل‬
‫وعلى ذلك يتضح أن الثبات يحتاج إلى ثلثة عناصر‪ :‬إيمان‪،‬‬
‫ورجولة‪ ،‬وصدق‪ .‬إيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة‬
‫والتثبت بها‪ ،‬وباعث على التضحية بالنفس ليبقي المبدأ الرفيع‪،‬‬
‫ورجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف‪ ،‬غير مهتمة بالصغائر‬
‫والصغار‪ ،‬وإنما دائما دافعة نحو الهدف السمى والمبدأ الرفيع‪.‬‬
‫وصدق يحول دون التحول أو التغير أو التبديل‪ ،‬ومن ثم يورث‬
‫هذا كله‪ ،‬الثبات الذي ل يتلون معه النسان وإن رأى شعاع‬
‫السيف على رقبته أو رأى حبل المشنقة ينتظره أو رأى دنيا‬
‫يصيبها أو امرأة ينكحها‪.‬‬
‫ول شك أن اللبنات التي تعد لحمل أعباء الجهاد تحتاج إلى‬
‫الثبات الذي يعين على تحقيق الهداف السامية والغايات الجميلة‬
‫والقيم الرفيعة)‪.(1‬‬
‫هـ‪ -‬تربية الفراد على اليمان بالقضاء والقدر‪:‬‬
‫إن استيعابا حقيقة القضاء والقدر واليمان بها كما جاءت في‬
‫القرآن والسنة تجعل أفراد المسلمين ينطلقون في هذه الحياة‬
‫انطلقة هادفة نحو المقاصد النبيلة‪.‬‬
‫وقد جاءت الدلة من القرآن الكريم توضح قضية القدر‪ ,‬قال‬
‫ل قللدراً لمكقيدوراً" ]الحزابا‪ ,[38 :‬وقال تعالى‪+ :‬إرلنَاً يكلل لشيِءة‬‫تعالى‪+ :‬ولكاًلن ألكمر اً ر‬
‫ك‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫ر‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫لخ لكقلناًهي بلقلدةر" ]القمر‪ ,[49 :‬وقال تعالى‪+ :‬لولخ للق يكلل ل ك‬
‫شيِء فليلقدلرهي تليكقديحراً" ]الفرقان‪:‬‬
‫‪ .[2‬وأما أدلة السنة‪ ،‬فقد قال ×‪» :‬وتؤمن بالقدر خيره وشره«‬

‫)( دعوة الله بين التكوين والتمكين‪ ،‬د‪ .‬علي جريشة‪ ،‬ص ‪.92 ،91‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪122‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫)‪.(1‬‬
‫وروى مسلم في الصحيح عن طاوس قال‪» :‬أدركت ناسا من‬
‫أصحابا رسول الله × يقولون‪ :‬كل شيء بقدر‪ ،‬قال‪ :‬وسمعت‬
‫عبد الله بن عمر يقول‪» :‬كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو‬
‫الكيس والعجز«)‪.(2‬‬
‫وقال ×‪» :‬وإن أصابك شيء فل تقل لو أني فعلت كذا كان‬
‫كذا وكذا‪ ,‬ولكن قل قدر الله وما شاء فعل« )‪.(3‬‬
‫إن اليمان بالقضاء والقدر يجعل الفراد العاملين في الدعوة‬
‫والذين يسعون لتحكيم شرع الله تعالى يتذوقون ثمارا كثيرة‬
‫تجعلهم يبذلون الغالي والرخيص من أجل عقيدتهم ودينهم وكتابا‬
‫ربهم وسنة نبيهم‪.‬‬
‫ويستفيدون من تلك الثمار اليانعة في مسيرتهم الدعوية‬
‫المباركة‪ ،‬بل هذه الثمرات تعود بالخير العميم على الفراد‬
‫والمجتمعات في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ومن أهم هذه الثمرات‪:‬‬
‫‪ - 1‬أداء عبادة الله عز وجل‪ ،‬فالقدر مما تعبدنا الله سبحانه‬
‫وتعالى باليمان به‪.‬‬
‫‪ - 2‬اليمان بالقدر طريق الخلص من الشرك‪ ،‬لن الذي يؤمن‬
‫بالقدر على الوجه الصحيح يتخلص من آفات ربما توقعه في‬
‫الشرك بالله‪ ،‬أما اليمان الصحيح بالقدر فهو طريق توحيد الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫‪ - 3‬الشجاعة والقداما‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت‬
‫ل‬
‫إل إذا جاء أجله ول يناله إل ما كتب له‪ ،‬فيقدما غير هيابا‪ ،‬ول مبا ض‬
‫بما يناله من الذى والمصائب في سبيل الله‪ ،‬كما قال أمير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب ‪:‬‬
‫‪     ‬‬ ‫‪    ‬‬
‫)‪( ‬‬
‫‪    ‬‬ ‫‪    ‬‬

‫)( مسلم‪ ,‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا ما جاء في القدر )‪ (1/38‬رقم ‪.8‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ,‬كتابا القدر‪ ،‬بابا كل شيء بقدر )‪ (4/2045‬رقم ‪.2655‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ,‬كتابا القدر‪ ،‬بابا المر بالقوة وترك العجز )‪ (4/2053‬رقم ‪.2664‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪123‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪           - ‬‬
‫‪.          ‬‬
‫‪          - ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪  ,     ,    ‬‬
‫‪.( )       ‬‬
‫ل ومنَ ييكؤرمنَ رباً ر‬
‫ل يليكهرد‬ ‫ر ر‬ ‫‪+ :    - ‬ماً ألصاً ر ر ة‬
‫ب منَ مصيْبلة إرلل بررإكذن اً ل ل ي ك‬
‫ل ل ل‬
‫قليكلبلهي" ]التغابن‪.[11 :‬‬
‫‪ - ‬الكرما‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر‪ ،‬وأن الفقر والغنى بيد الله‪ ,‬وأنه‬
‫ل يفتقر إل إذا قدر الله له ذلك‪ ،‬فإنه ينفق ول يبالي‪.‬‬
‫‪ - ‬الخلص‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر ل يعمل لجل الناس‪ ،‬لعلمه‬
‫أنهم ل ينفعونه إل بشيء قد كتبه الله له‪.‬‬
‫‪ - ‬إحسان الظن بالله وقوة الرجاء‪ ،‬فالمؤمن بالقدر حسن‬
‫الظن بالله‪ ،‬قوى الرجاء به في كل أحواله‪.‬‬
‫‪- ‬الخوف والحذر من الله‪ ،‬فالمؤمن بالقدر على حذر من الله‬
‫تعالى‪ ،‬إذ ل يأمن مكر الله إل القوما الخاسرون‪ ،‬فل يغتر بعمله‬
‫مهما كان كثيرا‪ ،‬فإن القلوبا بين أصبعين من أصابع الرحمن‬
‫يقلبها حيث يشاء والخواتيم علمها عند الله‪.‬‬
‫‪ -‬اليمان بالقدر يقضي على كثير من المراض التي تفتك‬
‫بالمجتمعات وتزرع الحقاد بينهم‪ ,‬وذلك مثل رذيلة الحسد‪،‬‬
‫فالمؤمن ل يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله‪ ،‬فاليمان‬
‫منه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك‪ ،‬فأعطى من شاء‬
‫ومنع من شاء ابتلء وامتحانا منه عز وجل‪ ،‬وأنه حين يحسد غيره‪،‬‬
‫إنما يعترض على القدر)‪.(2‬‬
‫‪ -‬التوكل واليقين والستسلما لله‪ ،‬والعتماد عليه كما قال‬

‫)( ديوان الماما علي ص)‪.(80 ،79‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬اليمان بالقضاء والقدر لمحمد إبراهيم‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مجلة البحوث السلمية‪ ،‬عدد ‪ ،34‬ص ‪ ،250‬مبحث وسطية أهل السنة‬ ‫‪2‬‬

‫في القدر‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ل ر‬
‫تعالى‪+ :‬يقل لنَ يمصيْبليلناً إرلل لماً لكتل ل‬
‫ب اًلي للناً" ]التوبة‪.[51 :‬‬
‫‪ - ‬عدما العتماد على الكهان والمنجمين والمشعوذين والتمسح‬
‫بأتربة القبور ودعاء غير الله‪ ،‬وصرف شيء من أنواع العبادة لغير‬
‫الله‪ ،‬لنها ل تملك لنفسها نفعا ول ضرا‪.‬‬
‫‪ -‬التواضع‪ ،‬فالمؤمن بالقدر إذا رزقه الله بمال‪ ،‬أو جاه‪ ،‬أو‬
‫علم‪ ،‬أو غير ذلك تواضع لله‪ ،‬لعلمه أن هذا من الله‪ ،‬ولو شاء الله‬
‫لنتزعه منه‪ ،‬وإنه على كل شيء قدير‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ثمرات اليمان بالقدر‪ ،‬السلمة من العتراض على‬
‫أحكاما الله الشرعية‪ ،‬وأقداره الكونية والتسليم لله في ذلك كله‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ثمراته الجد والحزما في المور‪ ,‬والحرص على كل‬
‫خير ديني أو دنيوي‪ ،‬كما في قوله ×‪» :‬اًحرص علىَ ماً ينفعك واًستعنَ باًل‬
‫ول تعجز‪ ،‬وإن أصاًبك شيِء فل تقل لوُ أنَيِ فعلت كذاً كاًن كذاً وكذاً ولكنَ قل‬
‫قدر اًل وماً شاًء فعل«)‪.(1‬‬
‫‪ -‬الشكر‪ ،‬فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فمن الله‬
‫وحده‪ ،‬وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة‪ ،‬فينبعث بسبب ذلك‬
‫إلى شكر الله إذ هو المنعم المتفضل الذي قدر له ذلك وهو‬
‫المستحق للشكر‪ ،‬وهذا ل يعني أل يشكر الناس‪.‬‬
‫‪ -‬الرضا‪ ،‬فيرضى بالله ربا مدبرا مشرعا‪ ،‬فتمتلئ نفسه‬
‫بالرضا عن ربه فإذا رضي بالله أرضاه الله عز وجل‪» ،‬فالرضا بابا‬
‫الله العظم وجنة الدنيا‪ ،‬ومستراح العابدين «)‪.(2‬‬
‫حرمت منه أمم‬ ‫‪ -‬فرح المؤمن بذلك اليمان بالقدر الذي ع‬
‫خيْيرر بملماً يلكجلميعوُلن"‬ ‫ل لوبرلركحلمترره فلبرلذلر ل‬
‫ك فليكليْليكفلريحوُاً يهلوُ ل ك‬ ‫ضرل اً ر‬
‫كثيرة‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬قيكل برلف ك‬
‫]يونس‪.[58 :‬‬
‫‪ -‬الستقامة على المنهج سواء في السراء والضراء‪ ،‬فالعباد‬
‫فيهم قصور‪ ،‬ونقص وضعف ل يستقيمون على منهج سواء إل من‬
‫آمن بالقدر‪ ،‬فإن النعمة ل تبطره والمصيبة ل تقنطه‪.‬‬
‫‪ -‬عدما اليأس من انتصار الحق‪ ,‬فالمؤمن بالقدر يعلم علم‬
‫اليقين أن العاقبة للمتقين‪ ،‬وأن قدر الله في ذلك نافذ ل محالة‪،‬‬
‫فل يدبا اليأس إلى قلبه‪ ،‬ول يعرف إليه طريقا مهما احلولكت‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتابا القدر‪ ،‬بابا المر بالمعروف والنهي عن المنكر )‪ (4/2052‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.2664‬‬
‫)( جامع العلوما والحكم لبن رجب )‪.(2/476‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪125‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ظلمة الباطل‪.‬‬
‫‪ -‬علو الهمة وعدما الرضا بالدون‪ ،‬وعدما الرضا بالواقع الليم‪،‬‬
‫فالمؤمن بالقدر تجده عالي الهمة ل يرضى بالدون ول بالواقع‬
‫الليم المر‪ ،‬ول يستسلم له محتجلا بالقدر‪ ،‬إذ أن هذا ليس مجال‬
‫الحتجاج بالقدر‪ ،‬لنه ليس من المصائب‪ ،‬والحتجاج بالقدر إنما‬
‫يسوغا عند المصائب دون المعائب‪ ،‬بل إن إيمانه بالقدر يحتم عليه‬
‫حثيثا لتغيير هذا الواقع حسب قدرته‬ ‫ل‬ ‫سعيا‬
‫ل‬ ‫أن يسعى‬
‫)‪(1‬‬
‫واستطاعته ‪.‬‬
‫‪ -‬اليمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للنسان حكمة‬
‫سىَ لأن‬
‫الله عز وجل فيما يقدره من خير أو شر‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لولع ل‬
‫سىَ لأن تيرحبموُاً لشكيْحئاً لويهلوُ لشور ليككمُ لواًلي يليكع ليمُ لوألنَكيتيكمُ لل تليكع ليموُلن"‬ ‫تلككريهوُاً لشكيْحئاً ويهوُ ل ك ل‬
‫خيْيرر يككمُ لولع ل‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫]البقرة‪.[216 :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫كامنة‬ ‫كم نعمة ل تستقل‬
‫بشكرها‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫طي الحوادث محبوبا‬ ‫تجري المور على حكم‬
‫ومكروه‬ ‫القضاء وفي‬
‫)‪(3‬‬
‫أرجوه‬ ‫وربما سرني ما كنت‬
‫أحذره‬
‫‪ -‬ومن ثمراته‪ :‬عزة النفس والقناعة والتحرر من رق‬
‫المخلوقين‪ ،‬فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه مكتوبا‪ ،‬وأنه لن يموت‬
‫حتى يستوفي رزقه‪ ،‬ويدرك أن الله كافيه وحسبه ورازقه‪ ،‬وأن‬
‫العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له‪ ،‬أو منعه عنه فلن يستطيعوا‬
‫إل بشيء قد كتبه الله‪ ،‬فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس‬
‫والجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق‬
‫المخلوقين‪ ،‬وقطع الطمع مما في أيديه‪ ,‬والتوجه بالقلب إلى ربا‬
‫العالمين‪ ،‬وهذا أساس فلحه ورأس نجاحه)‪.(4‬‬
‫‪ -‬سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال‪ ،‬فهذه المور‬
‫من ثمرات اليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬وهي هدف منشود‪ ،‬فكل من‬
‫على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها‪ ،‬وإنك لتجد عند خواص‬

‫)( انظر‪ :‬اليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (2) ,‬انظر‪ :‬جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى‪ ،‬للغرناطي )‪.(3/52‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى‪ ،‬للغرناطي ) ‪3/529‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪(30 ،29‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪126‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫المسلمين من العلماء العاملين‪ ،‬والعباد القانتين المتبعين‪ ،‬من‬


‫سكون القلب‪ ،‬وطمأنينة النفس ما ل يخطر على بال‪ ،‬ول يدور‬
‫حول ما يشبهه خيال فلهم في ذلك الشأن القدما المعلي والنصيب‬
‫الوفى‪ ,‬فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ‪ » : ‬‬
‫‪.()«      ‬‬
‫‪    ) : -   -     ‬‬
‫‪.( ) (     ‬‬
‫‪ ) :        ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪.( ) (       ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪  ,         ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪.        ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪.       ‬‬
‫ثانليا‪ :‬القيادة الربانية‪:‬‬
‫إن من أخطر عوائق التمكين غيابا القيادة الربانية‪ ,‬وذلك أن‬
‫قادة المة هم عصب حياتها‪ ،‬وبمنزلة الرأس من جسدها‪ ،‬فإذا‬
‫صلح القادة صلحت المة‪ ,‬وإذا فسد القادة صار هذا الفساد إلى‬
‫المة‪ ،‬ولقد فطن أعداء السلما لهمية القيادة في حياة المة‬
‫السلمية‪ ،‬ولذلك حرصوا كل الحرص على أل يمكنوا القيادات‬
‫الربانية من امتلك نواصي المور وأزمة الحكم في المة‬
‫السلمية‪ ,‬ففي خطة لويس التاسع أوصى بـ »عدما تمكين البلد‬
‫السلمية والعربية من أن يقوما بها حاكم صالح« كما أوصى بـ‬
‫»العمل على إفساد أنظمة الحكم في البلد السلمية بالرشوة‬
‫والفساد والنساء‪ ،‬حتى تنفصل القاعدة عن القمة«)‪.(4‬‬
‫وصرح المستشرق البريطاني »مونتجومري وات« في جريدة‬
‫)( جامع العلوما والحكم )‪.(1/287‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الشهادة الزكية في ثناء الئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( شيخ السلما ابن تيمية جهاده ودعوته وعقيدته‪ ،‬أحمد القطان ومحمد الزين‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص ‪.101‬‬
‫)( قادة الغربا يقولون‪ ،‬جلل العالم ص ‪.63‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪127‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫التايمز اللندنية قائل‪» :‬إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلما‬
‫المناسب عن السلما فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر‬
‫كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى«)‪ ،(1‬وقال‬
‫المستشرق الصهيوني‪» :‬برنارد لويس« تحت عنوان‪» :‬عودة‬
‫السلما« في دراسة نشرها عاما ‪1976‬ما‪ ...» :‬إن غيابا القيادة‬
‫العصرية المثقفة؛ القيادة التي تخدما السلما بما يقتضيه العصر‬
‫من علم وتنظيم‪ ،‬إن غيابا هذه القيادة قد قيدت حركة السلما‬
‫كقوة منتصرة‪ ،‬ومنع غيابا هذه القيادات الحركات السلمية من‬
‫أن تكون منافسا خطيرا على السلطة في العالم السلمي‪ ,‬لكن‬
‫هذه الحركات يمكن أن تتحول إلى قوى سياسية هائلة إذا تهيأ‬
‫لهذا النوع من القيادة«)‪.(2‬‬
‫ويظهر للباحث أهمية القيادة الربانية في فقه التمكين‪ ،‬وقد‬
‫تكلم العلماء عن صفات القائد الرباني ونجملها في أمور ونركز‬
‫على بعضها بالتفصيل‪ ،‬فمن أهم هذه الصفات‪ :‬سلمة المعتقد‪،‬‬
‫والعلم الشرعي‪ ،‬والثقة بالله‪ ،‬والقدوة‪ ،‬والصدق‪ ،‬والكفاءة‪،‬‬
‫والشجاعة‪ ،‬والمروءة‪ ،‬والزهد‪ ،‬وحب التضحية‪ ،‬وحسن اختياره‬
‫لمعاونيه‪ ،‬والتواضع‪ ،‬وقبول التضحية‪ ،‬والحلم‪ ،‬والصبر وعلو الهمة‪،‬‬
‫و التميز بخفة الروح والدعابة‪ ،‬والحزما والرادة القوية‪ ،‬والعدل‬
‫والحتراما المتبادل والقدرة على حل المشكلت‪ ،‬والقدرة على‬
‫التعليم وإعداد القادة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‪.‬‬
‫إن من أهم أسبابا التمكين أن يتولى أمور الدعوة وقيادة‬
‫المسلمين قيادة ربانية قد جرى اليمان في قلبها وعروقها‬
‫وانعكست ثماره على جوارحها وتفجرت صفات التقوى في‬
‫أعمالها وسكناتها وأحوالها‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية تستطيع أن تنتقل بفضل الله وتوفيقه‬
‫بالحركة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة‪ ,‬ولبد أن يكون‬
‫العلماء الربانيون هم قلب القيادة الربانية وعقلها المفكر حتى‬
‫تسير الحركة والمة على بصيرة وهدى وعلم‪.‬‬
‫ولبد أن نحدد من هم العلماء الذين يكونون على رأس القيادة‬
‫الربانية‪.‬‬
‫والعلماء المقصودون هم‪ :‬العارفون بشرع الله‪ ،‬المتفقهون في‬
‫دينه‪ ،‬العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة‪ ،‬الذين وهبهم الله‬

‫)( قادة العالم يقولون‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.185‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪128‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫خيْيراً لكرثيْراً لولماً يللذلكر إرلل يأويلوُ اًللكلباً ر‬ ‫ر‬ ‫الحكمة ‪+‬ومنَ ييكؤ ل ر‬
‫]البقرة‪:‬‬ ‫ب"‬ ‫ي‬ ‫ت اًلكحككلمةل فليلقكد يأوتليِ ل ك ح ح‬ ‫لل ي‬
‫‪.[269‬‬
‫والعلماء هم‪ :‬الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في‬
‫الفقه‪ ،‬والعلم‪ ,‬وأمور الدين والدنيا)‪.(1‬‬
‫والعلماء هم‪) :‬فقهاء السلما‪ ،‬ومن دار الفتيا على أقوالهم بين‬
‫عنوا بضبط قواعد الحلل‬ ‫الناما الذين خصوا باستنباط الحكاما‪ ،‬و ع‬
‫والحراما( )‪.(2‬‬
‫والعلماء هم‪ :‬أئمة الدين‪ ،‬نالوا هذه المنزلة العظيمة بالجتهاد‬
‫صبلييرواً لولكاًنَيوُاً ربآِلياًترلناً ييوُقرينوُلن"‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫والصبر واليقين ‪+‬لولجلعكللناً م كنييهكمُ ألئلمةح يليكهيدولن برألكمررلنَاً للماً ل‬
‫]السجدة‪.[24 :‬‬
‫والعلماء هم‪ :‬ورثة النبياء‪ ،‬ورثوا عنهم العلم‪ ،‬فهم يحملونه في‬
‫صدورهم وينطبع في الجملة ‪ -‬على أعمالهم ‪ -‬ويدعون الناس‬
‫إليه‪ ،‬والعلماء هم‪ :‬الفرقة التي نفرت من هذه المة لتتفقه في‬
‫دين الله‪ ،‬ثم تقوما بواجب الدعوة‪ ،‬ومهمة النذار ‪+‬لولماً لكاًلن اًلكيمكؤرمينوُلن‬
‫لرليْنرفيرواً لكاًفلةح فلي لكوُلل نَليلفلر رمنَ يكبل فركرقلةة بم كنييهكمُ لطاًئرلفةر لرليْتليلفلقيهوُاً رفيِ اًلبديرنَ لولرييْنرذيرواً قليكوُلميهكمُ إرلذاً لرلجعيوُاً إرلكيْرهكمُ‬
‫للع ليهكمُ يلكحلذيرولن" ]التوبة‪.[122 :‬‬
‫والعلماء هم هداة الناس الذين ل يخلو زمان منهم حتى يأتي‬
‫أمر الله‪ ،‬فهم رأس الطائفة المنصورة إلى قياما الساعة‪ ,‬يقول‬
‫الرسول ×‪) :‬ل تزاًل طاًئفة منَ أمتيِ قاًئمة بأمر اًل ل يضرهمُ منَ خذلهمُ‪ ،‬أو‬
‫خاًلفهمُ حتىَ يأتيِ أمر اًل وهمُ ظاًهرون علىَ اًلناًس( )‪.(3‬‬
‫كيف يعرف العلماء؟‬
‫إن العلماء يعرفون بعلمهم‪ ،‬فالعلم هو الميزة التي تميزهم‬
‫عن غيرهم‪ ،‬فهم إن جهل الناس نطقوا بالعلم الموروث عن إماما‬
‫المرسلين × )ويعرفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبهة‪،‬‬
‫حيث تزيغ الفهاما فل يسلم إل من آتاه الله العلم‪ ،‬أو من اتبع‬
‫أهل العلم(‪.‬‬
‫فالعلماء أطواد ثابتة‪ ،‬لنهم أهل اليقين الراسخ الذي اكتسبوه‬

‫)( تفسير الطبري )‪.(3/327‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( ابن القيم‪ ،‬أعلما الموقعين )‪.(1/7‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا العتصاما‪ ،‬بابا قول النبي ×‪» :‬ل تزال‪ (8/189) «...‬رقم‬ ‫‪3‬‬

‫‪.7311‬‬

‫‪129‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بالعلم‪ ،‬يقول الماما ابن قيم الجوزية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬إن الراسخ‬
‫في العلم لو وردت عليه من الشبهة بعدد أمواج البحر ما أزالت‬
‫يقينه‪ ،‬ول قدحت فيه شكا‪ ،‬لنه قد رسخ في العلم فل تستفزه‬
‫س العلم وجيشه مغلولة‬ ‫الشبهات‪ (1،‬بل إذا وردت عليه ردها حر ع‬
‫مغلوبة( ) ‪.‬‬
‫إن العلماء يعرفون ‪-‬أيضا‪ -‬بجهادهم‪ ،‬ودعوتهم إلى الله عز‬
‫وجل‪ ,‬وبذلهم الوقات‪ ،‬والجهود في سبيل الله‪.‬‬
‫ويعرفون بنسكهم وخشيتهم لله‪ ،‬لنهم أعرف الناس بالله‪,‬‬
‫شىَ اًلل رمكنَ رعلباًردره اًلكعي للماًءي إر ل‬
‫ن اًلل لعرزيرز غليفوُرر" ]فاطر‪:‬‬ ‫يقول الله عز وجل‪+ :‬إرنَللماً يلكخ ل‬
‫‪.[28‬‬
‫وقال الماما ابن تيمية رحمه الله‪» :‬ومن له في المة لسان‬
‫صدق عاما بحيث يثني عليه ويحمد في جماهير أجناس المة‪،‬‬
‫فهؤلء أئمة الهدى ومصابيح الدجى«)‪.(2‬‬
‫وهذا حق‪ ،‬فالمسلمون شهداء الله في أرضه)‪.(3‬‬
‫وعن أنس بن مالك ‪       : ‬‬
‫×‪» :‬وجبت«‪ .‬ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا‪ ،‬فقال‪» :‬وجبت«‪.‬‬
‫فقال عمر بن الخطابا ‪  :‬‬
‫‪» :‬هذاً أثنيْتمُ عليْه خيْراً‪ ،‬فوُجبت له اًلجنة‪ ،‬وهذاً أثنيْتمُ عليْه شراً‪ ،‬فوُجبت‬
‫له اًلناًر‪ ,‬أنَتمُ شهداًء اًل فيِ اًلرض«)‪.(4‬‬
‫ومما يعرف به العالم شهادة مشايخه له بالعلم‪ ،‬فقد دأبا‬
‫علماء المسلمين من سلف هذه المة ومن تبعهم بإحسان على‬
‫توريث علومهم‪ ،‬الذين يتبوؤون من بعدهم منازلهم وتصبح لهم‬
‫الريادة‪ ،‬والمامة في المة‪ ،‬ول يتصدر هؤلء التلميذ حتى يروا‬
‫إقرار مشايخهم لهم بالعلم‪ ،‬وإذنهم لهم بالتصدر‪ ،‬والفتاء‬
‫والتدريس‪.‬‬
‫قال الماما مالك ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬ل ينبغي لرجل يرى نفسه‬
‫أهل لشيء حتى‬

‫مفتاح دار السعادة )‪.(1/140‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الفتاوى )‪.(11/43‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬د‪ .‬اللويحق‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتابا الجنائز‪ ،‬بابا‪ :‬ثناء الناس على الميت )‪ (2/132‬رقم ‪.1367‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪130‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬
‫)‪(1‬‬
‫ويحيى‬ ‫يسأل من كان أعلم منه‪ ،‬وما أفتيت حتى سألت ربيعة‬
‫)‪(2‬‬
‫بن سعيد‬
‫فأمراني بذلك‪ ،‬ولو نهياني لنتهيت( )‪.(3‬‬
‫وقال‪ ...) :‬ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للتحديث‬
‫والفتيا جلس‪ ،‬حتى يشاور فيه أهل الصلح والفضل‪ ،‬وأهل الجهة‬
‫من المسجد‪ ،‬فإن رأوه أهل لذلك جلس‪ ,‬وما جلست حتى شهد‬
‫لي سبعون شيخلا من أهل العلم أني موضع ذلك( )‪.(4‬‬
‫هذه بعض الدلئل الدالة على علم العالم‪ ،‬أما المناصب ونحوها‬
‫ليست الدليل على العلم‪.‬‬
‫إن العلماء ل يحددون ويختارون عن طريق النتخابات‪ ،‬ول عن‬
‫طريق التعيين الوظيفي‪ ،‬أو الشهادات الجامعية والدرجات‬
‫واللقابا العلمية‪ ،‬فكأين من عالم في تاريخ المة تصدر وعل‬
‫ذكره‪ ،‬وأصبح إماما للمة كلها‪ ،‬وهو لم يعرف المناصب‪ ،‬وما الماما‬
‫أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية إل مثل من هذا التاريخ الطويل‪.‬‬
‫وهذا ل يعني أن كل من عين في منصب علمي ليس بعالم‪،‬‬
‫بل المراد أن المنصب ليس دليل على العلم‪ ،‬وإل فإن الشأن‬
‫عندما يكون الحاكم خيرا‪ ،‬أن يكون الولة‪ ،‬والقضاة‪ ،‬والمفتون‬
‫كذلك‪ ،‬بل قد يوجد في عهد ظالم قضاة عادلون ومفتون ثقات)‪.(5‬‬
‫وهناك ملحظة مهمة جدا أل وهي التفريق بين العلماء وبين ما‬
‫قد يشتبه بهم‪.‬‬
‫فلبد من التفريق بين العلماء والقراء‪:‬‬
‫شاسعا بين القارئ للعلوما الشرعية والفقيه فيها‪.‬‬
‫ل‬ ‫إن هناك بونلا‬
‫إن القارئ لديه نتف وجزئيات أمسك بها من خلل قراءته‬
‫لبعض الكتب‪ ،‬وإطلعه على أقوال أهل العلم فهو لم يعان العلم‪،‬‬
‫حعلق‪ ،‬ولذلك فإنه‬‫ولم يشافه العلماء‪ ،‬ولم يزاحمهم بالركب في ال ق‬
‫وإن رأيته متضلعا في موضوع من موضوعات الفقه والشريعة إل‬
‫أنه يغلق عليه عندما يسأله في مسألة من مسائل العلم)‪.(6‬‬
‫)( هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ الماما المفتي‪ ،‬عالم الوقت مفتي المدينة‬ ‫‪1‬‬

‫المشهور بربيعة الرأي‪ ،‬كان من أهل الجتهاد )ت ‪136‬هـ(‪ ,‬سير أعلما النبلء )‬
‫‪.(6/89‬‬
‫)( هو الماما يحيى بن سعيد أبو سعيد القطان توفي )‪198‬هـ(‪ ,‬تهذيب التهذيب‬ ‫‪2‬‬

‫‪.11/16‬‬
‫)( صفة الفتوى والمستفتي لبن حمدان )‪.(7‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( ابن فرحون الديباج ص )‪.(21‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ ,‬ص ‪.32‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪131‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أما العالم الفقيه فليس كأولئك‪ ،‬بل هو ذو فهم شامل عاما‬


‫للسلما‪ ،‬وإطلع على مجمل الحكاما الشرعية‪ ،‬فهو لم يقرأ نتفا‪،‬‬
‫بل درس العلوما الشرعية دراسة شمولية عامة‪ ،‬فمر على مسائل‬
‫العلم واستطاع تخريجها على أصولها وأصبحت لديه ملكة فهم‬
‫النصوص‪ ،‬وعرف مقاصد الشريعة وأهدافها‪.‬‬
‫إن علمه لم يأته من قراءة ليلة‪ ،‬بل من سهر الليالي ومعاناة‬
‫الياما‪ ،‬فشأن العلماء أنهم ل يقفون عند حد في التعلم‪ ،‬بل هم‬
‫دائمو الطلب‪ ،‬دائبو التعلم)‪.(1‬‬
‫ولبد ‪ -‬أيضا ‪ -‬من التفريق بين العلماء والمفكرين والمثقفين‪،‬‬
‫إن مفكري المة لهم مكانتهم‪ ،‬وبعضهم قد نفع الله عز وجل بهم‬
‫نفعا كبيرا‪ ،‬ولكنهم مع ذلك لن يغنوا عن العلماء شيئا إل في حدود‬
‫علمهم وقدرتهم‪ .‬كما أن المثقفين وهم فئة من الخيار الصالحين‬
‫ذوي تخصصات علمية برزوا فيها سواء في العلوما التجريبية مثل‪:‬‬
‫الطب والهندسة والكيمياء أو في العلوما المسماة بـ‪» :‬العلوما‬
‫النسانية« مثل علم النفس‪ ،‬وعلم التربية‪ ،‬وعلم الجتماع‪ ,‬فهؤلء‬
‫حمد لهم تخصصهم في مثل هذه العلوما فصاروا مرجعلا فيها‬ ‫وإن ع‬
‫فإنهم غير مختصين في العلوما الشرعية‪ ،‬وهم في الصطلح‬
‫العلمي الشرعي جمهور المسلمين‪ ،‬وعوامهم الذين يجب أن‬
‫يكونوا وراء العلماء‪.‬‬
‫عونا لهم‬
‫ل‬ ‫ويجب أن يرجعوا للعلماء في أمور الشريعة‪ ،‬ويكونوا‬
‫في شرح واقع تخصصاتهم‪ ،‬فالطبيب يشرح المور الطبية‪،‬‬
‫والقتصادي يشرح الجوانب القتصادية العصرية وهكذا‪ ،‬وإن كلما‬
‫هؤلء )المفكرين( والمثقفين يجب أن يكون محكوملا بالشرع‪ ،‬وأما‬
‫إذا بنى هؤلء المثقفون و)المفكرون( كلمهم في أمور الشريعة‪،‬‬
‫وأحوال المة العامة على أساس من العقول والهواء‪ ،‬وإطلق‬
‫القول بالمصالح دون نظر في كتابا الله وسنة رسوله × وأقوال‬
‫العلماء الراسخين‪ ،‬فإنهم بذلك يكونون أشبه بأهل الكلما وقد‬
‫)أجمع أهل الفقه والثار من جميع المصار أن أهل الكلما أهل بدع‬
‫وزيغ ول يعدون عند الجميع في جميع المصار في طبقات العلماء‪،‬‬
‫وإنما العلماء أهل الثر والفقه ويتفاضلون فيه بالتقان والفهم( )‪.(2‬‬
‫ولبد من التفريق بين العلماء والخطباء والوعاظ‪:‬‬

‫)( قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( جامع بيان العلم لبن عبد البر )‪(2/96‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪132‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫قال ابن مسعود ‪       » :‬‬
‫‪.()«      ‬‬
‫‪  -  -          ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪. ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪.          ‬‬
‫إن الشريعة السلمية أعطت اعتبارا للعلماء وبنته على‬
‫أمرين مهمين‪:‬‬
‫‪ -1‬أن طاعتهم طاعة لله عز وجل ولرسوله × فالتزاما أمرهم‬
‫واجب‪.‬‬
‫‪ -2‬أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها‪ ،‬بل هي تبع لطاعة الله‬
‫ورسوله ×‪.‬‬
‫والدلة على هذه المنزلة وهذا العتبار للعلماء في الشريعة‬
‫غير منحصرة فمنها‪:‬‬
‫اًلدليْل اًلول‪ :‬قوله تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً ألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل لويأورليِ‬
‫اًلكمرر رمكنيككمُ" ]النساء‪.[59 :‬‬
‫وقد اختلف المفسرون في أولي المر منهم على أقوال‪:‬‬
‫فقيل‪ :‬هم السلطين وذوو القدرة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هم أهل العلم‪.‬‬
‫قال ابن عباس رضي الله عنهما‪» :‬يعني أهل الفقه والدين‪،‬‬
‫وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم‪ ،‬ويأمرونهم‬
‫بالمعروف‪ ،‬وينهونهم عن المنكر فأوجب الله سبحانه طاعتهم‬
‫على عباده«)‪.(2‬‬
‫ويقول ابن كثير ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬والظاهر والله أعلم أنها عامة‬
‫في كل أولي المر من المراء والعلماء«)‪.(3‬‬
‫يقول الماما ابن قيم الجوزية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬والتحقيق أن‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الدبا المفرد‪ ،‬ص ‪ ،346‬ح ‪.789‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير الطبري )‪.(5/149‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير ابن كثير )‪(1/518‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪133‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم‪ ،‬فطاعتهم تبع‬


‫لطاعة العلماء‪ ،‬فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه‬
‫العلم‪ ،‬فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول ×‪ ،‬فطاعة‬
‫المراء تبع لطاعة لعلماء‪ ،‬ولما كان قياما السلما بطائفتي العلماء‬
‫والمراء‪ ،‬وكان الناس لهم تبعا‪ ،‬كان صلح العالم بصلح هاتين‬
‫الطائفتين‪ ،‬وفساده بفسادهما«)‪.(1‬‬
‫اًلدليْل اًلثاًنَيِ‪ :‬أن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أوجب الرجوع إليهم‬
‫وسؤالهم عما أشكل قال تعالى‪+ :‬لفاًكسألليوُاً ألكهلل اًلبذككرر رإن يككنيتمُ لل تليكع ليموُلن"‬
‫]النبياء‪.[7 :‬‬
‫يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫)وعموما هذه الية‪ ،‬فيها مدح أهل العلم‪ ،‬وأن أعلى أنواعه‪ :‬العلم‬
‫بالكتابا المنزل‪ ،‬فإن الله أمر من ل يعلم بالرجوع إليهم في جميع‬
‫الحوادث‪ ,‬وفي ضمنه تعديل لهل العلم وتزكية لهم حيث أمر‬
‫بسؤالهم وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعية( )‪.(2‬‬
‫اًلدليْل اًلثاًلث‪ :‬أن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عظم قدرهم فأشهدهم‬
‫دون غيرهم على أعظم مشهود‪.‬‬
‫ر‬
‫يقول سبحانه‪+:‬لشرهلد اًلي ألنَلهي لل إرلهل إرلل يهلوُ لواًلكلمللئرلكةي لويأويلوُ اًلكرعكلرمُ لقاًئرحماً رباًلكرقكسط لل إرلهل‬
‫إرلل يهلوُ اًلكلعرزييز اًلكلحركيْيمُ" ]آل عمران‪.[18 :‬‬
‫قال العلمة السعدي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره لهذه الية‪:‬‬
‫)وفي هذه الية فضيلة العلم والعلماء‪ ،‬لن الله خصهم بالذكر من‬
‫دون البشر‪ ،‬وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملئكته‪ ،‬وجعل‬
‫شهادتهم من أكبر الدلة والبراهين على توحيده ودينه‪ ،‬وجزائه‪,‬‬
‫وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة‪.‬‬
‫وفي ضمن ذلك تعديلهم‪ ،‬وأن الخلق تبع لهم‪ ،‬وأنهم هم الئمة‬
‫المتبوعون‪ ،‬وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما ل‬
‫يقادر قدره( )‪.(3‬‬
‫اًلدليْل اًلراًبع‪ :‬أنهم أهل الفهم عن الله عز وجل‪:‬‬
‫]العنكبوت‪:‬‬ ‫س لولماً يليكعرقليلهاً إرلل اًلكلعاًلريموُلن"‬
‫ضرربييلهاً رلللناً ر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لوتركل ل‬
‫ك اًلكملثاًيل نَل ك‬
‫‪.[43‬‬
‫)( أعلما الموقعين )‪ (1/10‬بتحقيق عبد الرؤوف سعد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(4/206‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(1/265‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪134‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إن المثال تضربا للناس كلهم ولكن تعقلها وفهمها خاص بأهل‬
‫العلم‪ ,‬قال ابن كثير ‪ -‬رحمه الله‪) :‬وما يفهمها ويتدبرها إل‬
‫الراسخون في العلم المتضلعون منه( )‪.(1‬‬
‫وقال الشيخ ابن سعدي ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وما يعقلها( أي‪:‬‬
‫بفهمها وتدبرها وتطبيقها على ما ضربت له‪ ،‬وعقلها في القلب‪،‬‬
‫)إل العالمون(‪ :‬أي‪ :‬أهل العلم الحقيقي الذي وصل العلم إلى‬
‫قلوبهم‪.‬‬
‫وهذا مدح للمثال التي يضربها‪ ،‬وحث على تدبرها وتعقلها‪،‬‬
‫ومدح لمن يعقلها‪ ،‬وأنه عنوان على أنه من أهل العلم‪ ،‬فعلم أن‬
‫من لم يعقلها ليس من العالمين)‪.(2‬‬
‫اًلدليْل اًلخاًمس‪ :‬أن أهل العلم أبصر الناس بالبشر ومداخل الشر‪،‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫لر‬
‫نَ" ]النحل‪:‬‬ ‫سوُءل لعللىَ اًلكلكاًفرري ل‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لقاًلل اً ذيلنَ يأوتيوُاً اًلكعكللمُ إرلن اًلكخكز ل‬
‫يِ اًلكيْليكوُلم لواًلك م‬
‫‪.[27‬‬
‫قال الشيخ العلمة ابن سعدي ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫لر‬
‫‪+‬لقاًلل اً ذيلنَ يأوتيوُاً اًلكعكللمُ" أي‪ :‬العلماء الربانيون ‪+‬إرلن اًلكخكز ل‬
‫يِ اًلكيْليكوُلم" أي‪ :‬يوما‬
‫سوُءل" أي‪ :‬سوء العذابا ‪+‬لعللىَ اًلكلكاًفررريلنَ"‪.‬‬ ‫القيامة ‪+‬لواًلك م‬
‫وفي هذه فضيلة أهل العلم‪ ،‬وأنهم الناطقون بالحق في هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬ويوما يقوما الشهاد‪ ،‬وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند‬
‫خلقه)‪.(3‬‬
‫ويقول سبحانه في سياق قصة قارون‪+ :‬لولقاًلل اًلرذيلنَ يأوتيوُاً اًلكرعكللمُ لويكيليككمُ‬
‫خيْيرر‪] "....‬القصص‪.[80 :‬‬ ‫ثليوُاًب اً ر‬
‫ل لك‬ ‫ل ي‬
‫فأهل العلم هنا كانوا متميزين عن غيرهم‪ ،‬فهم بصراء بالشر‬
‫وعلماء بالخير‪ ،‬فلما رأوا الناس يتمنون مثل ما أوتي قارون‪،‬‬
‫حذروهم من الشر‪ ،‬وبينوا لهم الخير‪ ،‬وأن الدار الخرة خير لمن‬
‫آمن وعمل صالحا‪.‬‬
‫ولم يعرف هؤلء الذين تمنوا حظوظ الدنيا أن العلماء على‬
‫صبللح اًلرذيلنَ تللمنليكوُاً‬ ‫الحق إل حينما حلت عقوبة الله بقارون عندها‪+ :‬لوأل ك‬
‫ط‬
‫سي‬ ‫لملكاًنَلهي رباًلكم ر‬
‫س يلييقوُيلوُلن لويكلكأللن اًلل يليكب ي‬
‫)( تفسير القرآن العظيم )‪.(3/414‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(6/89‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪(4/196‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪135‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ر‬ ‫شاًء رمكنَ رعلباًردره ويليكقردر لكوُلل لأن لملنَ اًلي لع لكليْيلناً للخس ل ر‬ ‫ر‬
‫ف بلناً لويكلكألنَلهي لل يييكفل ي‬
‫ح‬ ‫ل‬ ‫ل ي‬ ‫اًلبركز رلق للمنَ يل ل ي‬
‫اًلكلكاًفيرولن"]القصص‪.[82 :‬‬
‫ولما كان العلماء هم العارفين بالشر صاروا هم الذين ينهون‬
‫الناس عن الوقوع فيه‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لكوُلل يلي كنيلهاًيهيمُ اًللرلباًنَرميْوُلن لواًلكحلباًير لعنَ قليكوُلرهيمُ‬
‫ر‬
‫صنلييعوُلن" ]المائدة‪.[63 :‬‬ ‫س لماً لكاًنَيوُاً يل ك‬ ‫سكح ل ر‬
‫ت لبكئ ل‬ ‫اًرلثكلمُ لوألككلررهيمُ اًل م‬
‫أي‪ :‬هل نهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس عن هذه الشرور‬
‫العظيمة‪ ،‬وهم ‪ -‬أي‪ :‬العلماء ‪ -‬العارفون بالشر ومداخل الشر‬
‫فكان لزاما أن يبينوا للناس‪.‬‬
‫والناس عليهم لزوما طاعة العلماء والستجابة لتحذيرهم من الشر‬
‫ونهيهم عن المعاصي)‪.(1‬‬
‫هذه بعض الدلة في القرآن الكريم‪ ،‬وأقوال المفسرين فيها‬
‫ترشدنا إلى أهمية العلماء في قيادة المة وقيادة الصفوة التي‬
‫تقود المة‪.‬‬
‫وقد جاءت الحاديث النبوية في إرشاد المة إلى منزلة‬
‫العلماء‪:‬‬
‫اًلدليْل اًلول‪ :‬أن اًلعلماًء ورثة اًلنَبيْاًء‪ ،‬وهمُ اًلمفضلوُن بعد اًلنَبيْاًء علىَ ساًئر‬
‫اًلبشر‪:‬‬
‫عن أبي الدرداء)‪ ×    :  (2‬يقول‪» :‬فضل اًلعاًلمُ علىَ‬
‫اًلعاًبد كفضل اًلقمر ليْلة اًلبدر علىَ ساًئر اًلكوُاًكب‪ ،‬وإن اًلعلماًء ورثة اًلنَبيْاًء‪ ،‬وإن‬
‫اًلنَبيْاًء لمُ يوُرثوُاً ديناًراً ول درهماً‪ ،‬ولكنهمُ ورثوُاً اًلعلمُ‪ ,‬فمنَ أخذه أخذ بحظ واًفر«‬
‫)‪.(3‬‬
‫قال الماما ابن رجب)‪ - (4‬رحمه الله ‪» :-‬يعني أنهم ورثوا ما‬
‫جاء به النبياء من العلم‪ ،‬فهم خلفوا النبياء في أممهم بالدعوة‬
‫إلى الله وإلى طاعته‪ ،‬والنهي عن معاصي الله والذود عن دين‬
‫الله«)‪.(5‬‬
‫اًلدليْل اًلثاًنَيِ‪ :‬إن اًلعلماًء همُ اًلمبلغوُن عنَ اًلنَبيْاًء‪:‬‬
‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص)‪(53‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو الصحابي الجليل عويمر بن عامر الخزرجي النصاري‪ ،‬توفي عاما ‪133‬هـ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫الصابة )‪.(3/46‬‬
‫)( رواه أبو داود‪ ،‬كتابا العلم‪ ،‬بابا الحث على طلب العلم )‪ (317/3‬رقم ‪.3641‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي‪ ،‬توفي ‪795‬هـ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫شذرات الذهب )‪.(6/339‬‬


‫)( شرح حديث‪ :‬أبي الدرداء في طلب العلم‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪136‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫قال الرسول ×‪» :‬تسمعون ويسمع منكم‪ ،‬ويسمع ممن يسمع‬


‫منكم« )‪.(1‬‬
‫فبين × أن هذا العلم يؤخذ بالتلقي وكل جيل من أهل العلم‬
‫يبلغه لمن بعدهم‪.‬‬
‫وهؤلء المبلغون هم المستحقون لدعوة النبي ×‪» :‬نَضر اًل‬
‫عبداً سمع مقاًلتيِ‪ ،‬فحفظهاً ووعاًهاً‪ ،‬وأداًهاً‪ ،‬فرب حاًمل فقه غيْر فقيْه‪ ،‬ورب‬
‫ح‬
‫حاًمل فقه إلىَ منَ هوُ أفقه منه«‪.‬‬
‫ولقد جمع العلماء بين نقل أقوال الرسول × إلى من بعدهم‪،‬‬
‫وفقه تلك القوال وفهمها‪ ،‬فالعالم حامل فقه وفقيه‪.‬‬
‫اًلدليْل اًلثاًلث‪ :‬أن اًل أراًد بهمُ اًلخيْر‪:‬‬
‫عن ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫خيرا يفقهه في الدين« )‪.(2‬‬
‫ل‬ ‫×‪» :‬من يرد الله به‬
‫قال شيخ السلما ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪) :-‬وكل أمة ‪-‬‬
‫قبل مبعث نبينا‬
‫محمد × ‪ -‬فعلماؤها شرارها إل المسلمين فإن علماءهم خيارهم(‬
‫)‪.(3‬‬
‫إن الحاديث في مكانة العلماء كثيرة ونكتفي بهذا القدر‪ ،‬إن‬
‫الذين يقودون المة بغير علم يفسدون أكثر مما يصلحون‪ ،‬وإن‬
‫العلماء مثل الماء النافع حيثما سقطوا نفعوا‪ ،‬وليس للناس عوض‬
‫ألبتة عن العلماء إل أن يكون لهم عوض عن الشمس والعافية‪ ،‬ول‬
‫أقصد من كلمي هذا وإطنابي في مكانة العلماء ومنزلتهم في‬
‫الشريعة أن نقدس ذواتهم وأشخاصهم‪ ،‬فنصبح كبني إسرائيل‪:‬‬
‫ل لواًلكلمرسيْلح اًبكلنَ لمكريللمُ لولماً أيرميرواً إرلل لريْليكعبييدواً إرلحهاً لواًححداً‬
‫ر‬ ‫‪+‬اًتللخيذواً ألكحباًريهمُ وركهباًنَلييهمُ ألرباًباً بمنَ يدورن اً ر‬
‫ل ل ك ل ي ل ك كل ح‬
‫لل إرلهل إرلل يهلوُ يسكبلحاًنَلهي لعلماً ييكشرريكوُلن" ]التوبة‪.[31 :‬‬
‫إن الطاعة عندنا‪ ،‬واعتبار العلماء في شرعنا ليس مقصودا‬
‫لذاته‪ ،‬بل لما قاما فيهم من العلم بالله والعلم عن الله عز وجل‪,‬‬
‫وليس سؤال العامي إياهم سؤال عن رأيهم الشخصي‪ ،‬ول عن‬
‫)( أبو داود‪ ،‬كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬فضل نشر العلم )‪ (3/322‬رقم ‪.3660‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا فرض الخمس‪ ،‬بابا‪ :‬قول الله ‪+‬فلله خمسه" )‪ (4/60‬رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪.3116‬‬
‫)( رفع الملما عن الئمة العلما )ص ‪.(11‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪137‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫حكمهم الذاتي‪ ،‬بل سؤال عما يفهمون عن الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عن‬
‫رسوله ×‪.‬‬
‫ولبد أن ننبه إلى أمر عظيم أل وهو أن بعض المنسوبين إلى‬
‫الخير والصلح اليوما يعتبرون للعلماء منزلة وطاعة في بعض‬
‫جوانب الحياة‪ ،‬ويرون أن هناك جوانب أخرى ليس للعلماء فيها‬
‫اعتبار‪ ،‬وإنما العتبار لغيرهم من المفكرين أو الساسة أو الدعاة‬
‫أو قادة الجماعات أو غيرهم‪ ,‬وهذا أمر ل شك أنه غير صحيح‪ ،‬لن‬
‫العلماء يفهمون السياسة الشرعية‪ ،‬وأمور الجهاد‪ ،‬والهدنة‬
‫والمصالح والمفاسد وغير ذلك من الحكاما التي تتناول مظاهر‬
‫الحياة جميعا‪.‬‬
‫وعلى المختصين في جوانب الحياة من الكوادر القتصادية‪،‬‬
‫والسياسية‪ ،‬والطبية‪ ،‬والعسكرية أن يبينوا واقع تخصصاتهم إلى‬
‫العلماء الربانيين حتى يطبق العلماء الحكم الشرعي على الوقائع‬
‫المتجددة‪.‬‬
‫وهناك ملحظة مهمة‪ ،‬أل وهي أن العلماء جاء اعتبارهم عن‬
‫طريق الشرع فإنه ل يرفع هذا العتبار إل الشرع‪ ,‬فإذا قارف‬
‫العالم عمل أو قال قول يخرما دينه‪ ،‬ويجعله غير أهل لمامة المة‪،‬‬
‫ول يستحق أن يكون على رأس قيادتها فإنه يزال عنه اعتبار‬
‫طاعته وأخذ قوله‪ ،‬وأما إذا كان رفع اعتبار هذا العالم جاء من جهة‬
‫عدما رضا الناس برأيه أو عزله‪ ،‬أو حسد قرنائه له‪ ،‬فإن ذلك ليس‬
‫هادما لعتباره‪ ،‬وإل لهدمنا اعتبار أئمة الهدى‬
‫‪ -‬من أمثال‪ :‬أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وغيرهما رحمهم الله ‪-‬‬
‫الذين مروا بأحوال وأزمان لم يعتبر الناس لهم فيها رأيا حتى‬
‫أيدهم الله بتأييده)‪.(1‬‬
‫إن العلماء في مسيرة الحياة السلمية دائما وأبدا يتصدرون‬
‫شعوبهم وأممهم‪ ,‬وبهم تقاما الدول ويمكن لشرعه على أيديهم‬
‫وإليهم المرجع عند الفتن والملحم والمحن‪ ،‬فلبد من إعطاء‬
‫العلماء الربانيين المستوعبين لواقعهم العاملين بكتابا ربهم وسنة‬
‫نبيهم × والملمين بتاريخ المم والدول والشعوبا دورهم الطبيعي‬
‫في المة عموما وفي الحركات السلمية خصوصا فهذا من فقه‬
‫التمكين‪.‬‬
‫ول شك أننا اليوما في محنة عظيمة وفتن أليمة كقطع الليل‬

‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪138‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫المظلم ومن شأن الفتن أن تشتبه المور فيها‪ ،‬ويكثر الخلط‬


‫وتزيغ الفهاما والعقول‪ ,‬والحكمة حينذاك إنما هي للجماعة التي‬
‫يمثل العلماء رأسها‪ ،‬فالواجب على الناس‪ :‬الراعي والرعية الخذ‬
‫برأي العلماء والصدور عن قولهم‪ ،‬لن اشتغال عموما الناس‬
‫بالفتن وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرق للمة‪ ،‬فالمور‬
‫العامة من المن أو الخوف مردها إلى أهل العلم والرأي‪ ,‬يقول‬
‫ف أللذاًعيوُاً برره لولكوُ لرمدوهي إرللىَ اًللريسوُرل لوإرللىَ‬ ‫الله عز وجل‪+ :‬وإرلذاً جاًءهمُ ألمر بمنَ اًلمرنَ ألرو اًلكلخوُ ر‬
‫ك‬ ‫ل ل لي ك كر ل ك‬
‫شكيْلطاًلن إرلل‬ ‫ر‬
‫ضيل اًل لع لكيْيككمُ لولركحلمتيهي للتليبليكعتييمُ اًل ل‬ ‫طوُنَلهي رم كنييهكمُ لولكوُلل فل ك‬
‫يأورليِ اًلكمرر رم كنييهكمُ للعلرلمهي اًلرذيلنَ يلكستليكنبر ي‬
‫قلرليْلح" ]النساء‪.[83 :‬‬
‫إن الناس في الفتن يحتاجون إلى فقه المصالح والمفاسد‪،‬‬
‫والعلم بمراتبها فوق حاجتهم إلى العلم بآحاد النصوص الحاكمة‬
‫على القضايا المعينة‪ ,‬إذ ليست المنكرات العامة المتعلقة‬
‫بالسياسة الشرعية ‪-‬وهي في الغالب سبب الفتن‪ -‬كمسائل‬
‫الطهارة والصلة والحج والحوال الشخصية يقوما فيها الحق ‪-‬‬
‫غالبا ‪ -‬على الدلة التفصيلية‪ ،‬بل قياما العلم في ذلك على أسس‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الدلة الشرعية العامة والقواعد التي يدخل تحتها أمور‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫‪ -2‬مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫‪ -3‬الموازنة بين المصالح والمفاسد‪.‬‬
‫‪ -4‬الدلة التفصيلية‪.‬‬
‫ول يمكن للعواما‪ ،‬بل وصغار العلم فهم القضايا الكلية العامة‪،‬‬
‫وإن كان يمكنهم فهم النصوص الجزئية‪ ،‬وكذلك فهم مقاصد‬
‫الشريعة ل يكون إل باستقراء مجمل النصوص وتصرفات الشارع‪،‬‬
‫ففقه المقاصد فقه عزيز‪ ،‬ل يناله كل أحد بل ل يصل إليه إل من‬
‫ارتقى في مدارج العلم‪ ،‬واطلع على واقع الحال‪ ،‬وقلب النظر في‬
‫الحتمالت التي‬
‫يظن حدوثها‪.‬‬
‫والموازنة بين المصالح والمفاسد تحتاج إلى فهم للشريعة‬
‫ومقاصدها وفهم للواقع ومراتب المصالح والمفاسد وهذا كله ل‬
‫يكون إل للعلماء)‪ .(1‬إن تصدر العامة الذين ل يفهمون كتابا الله‬
‫وسنة رسوله × يشتت المسلمين ويفرق وحدتهم‪ ،‬لن العواما ل‬

‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪139‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يتصور اتفاقهم على أمر إذا لم يكن لهم سراة يصدرون عن‬
‫رأيهم‪ ،‬ولذلك كان الرد إلى أهل الحل والعقد‪.‬‬
‫إن قياما مسألة النكار في المور العامة هو على فهم مسألة‬
‫عظيمة هي‪ ،‬المكان وعدما المكان‪ ,‬وتحديد هذا المكان وعدمه‬
‫ليس إلى جمهور الناس وعوامهم‪ ،‬بل هو إلى العلماء بشرع الله‬
‫البصراء بواقع الناس)‪.(1‬‬
‫فلبد من وضع الثقة بالعلماء الربانيين‪ ،‬فكثير من الناس من‬
‫يطالب العلماء بعمل من العمال هم عنه ممتنعون‪ ،‬وما امتناعهم‬
‫عنه إل لنظرهم من مآلت المور وعواقبها‪.‬‬
‫إذ بعض المصالح قد يمتنع عنه لما يؤدي إليه من المآل من‬
‫المفاسد العظمى‪ ،‬والدين السلمي يراعي المصالح‪ ،‬فل يقر‬
‫اعتبار مصلحة دنيا على حسابا وقوع مفسدة عظمى‪.‬‬
‫أل ترى أن قتل المنافق الثابت نفاقه‪ ،‬المعروف باستهزائه‬
‫بآيات الله وبرسوله ×‪ ،‬وبالمؤمنين‪ ..‬أمر مشروع بل موجب‬
‫للقتل‪ ،‬وهو الردة ومفارقة الدين؟‬
‫فقد امتنع عنه النبي × لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد‪,‬‬
‫فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما)‪ (2‬أنه قال‪ :‬كنا مع النبي ×‬
‫في غزاة‪ ،‬فكسع رجل من المهاجرين رجل من النصار‪ ،‬فقال‬
‫النصاري‪ :‬يا للنصار‪ ،‬وقال المهاجري‪ ،‬يا للمهاجرين‪ ،‬فقال رسول‬
‫الله ×‪» :‬ما بال دعوى الجاهلية« قالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ,‬كسع رجل‬
‫من المهاجرين رجل من النصار‪ ,‬فقال‪» :‬دعوها فإنها منتنة«‬
‫فسمعها عبد الله بن أبي‪ ،‬فقال‪ :‬قد فعلوها‪ ،‬والله لئن رجعنا إلى‬
‫المدينة ليخرجن العز منها الذل‪ ,‬قال عمر‪ :‬دعني أضربا عنق‬
‫هذا المنافق‪ ،‬فقال‪» :‬دعه ل يتحدث الناس أن محمدا يقتل‬
‫أصحابه« )‪.(3‬‬
‫إن النبي × امتنع عن قتل المنافق خشية أن يتحدث الناس أن‬
‫رسول الله × يقتل أصحابه في وقت كانت الدعوة فيه في طور‬
‫النتشار‪ ،‬مما ينفر الناس عن اليمان برسالة محمد ×‪ ,‬وهذا‬
‫المحظور أعظم من المصلحة المتحققة بقتل هذا المنافق)‪.(4‬‬
‫إن وضع الثقة في العلماء الربانيين لخطوة مباركة نحو تحكيم‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو جابر بن عبد الله النصاري السلمي‪ ،‬من أهل بيعة الرضوان‪ ،‬شهد مع النبي‬ ‫‪2‬‬

‫× ‪ 19‬غزوة‪) ،‬ت ‪78‬هـ( وقيل غير ذلك‪ ،‬انظر‪ :‬الستيعابا )‪.(110 ، 2/109‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتابا التفسير‪ ،‬بابا تفسير سورة المنافقين )‪ (79-6‬رقم ‪.4907‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.180‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪140‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫شرع الله والتمكين لدينه‪.‬‬


‫إن القيادة الربانية والتي على رأسها العلماء الذين وصلوا إلى‬
‫درجة النظر في فقه السلما من كتابا الله وسنة رسوله × هم‬
‫الذين يجب أن يقودوا العمل السلمي والدعوة إلى الله‪.‬‬
‫إن أعداءنا من اليهود والنصارى والملحدة والعلمانيين أيقنوا‬
‫أن من أسبابا قوة المسلمين التفافهم حول علمائهم وقادتهم‪،‬‬
‫لذلك شنوا هجوما عنيفا من أجل زعزعة ثقة المة في علمائها‬
‫وقادتها‪ ,‬واستعملوا أساليب متنوعة للتشويه والطعن فيهم لن‬
‫العلماء هم الوصلة الحقيقية بين المة وقرآنها وسنة نبيها ×‪.‬‬
‫وقد لحظ الستعمار الوروبي الحديث ذلك‪ ،‬وما الثورات التي‬
‫فجرت الستعمار إل بقيادة العلماء والقادة الربانيين من المغربا‬
‫إلى المشرق في كل ديار المسلمين‪.‬‬
‫ولذلك قاما اليهود والنصارى والملحدة بتشويه صورة القادة‬
‫والعلماء بواسطة المسرح‪ ،‬والتلفاز‪ ،‬والمجلة والجريدة‪ ,‬والنوادي‪,‬‬
‫والغناء وكل وسائل العلما‪ .‬وإذا أردت أن تعرف هجومهم‬
‫العلمي ابتداء من العقود الماضية‪ ،‬فلتراجع كتابا المشايخ‬
‫والستعمار للستاذ حسني عثمان‪ ،‬فإنه أكد أن القيادة الحكيمة‬
‫وهي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى‪ ،‬وإقامة دولة السلما توقن‬
‫إيقانا جازما أن المجتمع لن يكون إسلميا بجرة قلم‪ ،‬أو بقرار‬
‫يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان‪.‬‬
‫إنما يتحقق ذلك بطرق التدرج‪ ،‬والعداد والتهيئة الفكرية‬
‫والنفسية والخلقية والجتماعية‪ ,‬وإقامة البدائل السلمية‬
‫للوضاع الجاهلية التي تأسست عليها مؤسسات عدة لزمنة‬
‫عديدة‪.‬‬
‫فهي تعين الهدف‪ ،‬وتضع الخطة وتحدد المراحل‪ ،‬بوعي‬
‫وصدق‪ ،‬بحيث تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بتخطيط وتنظيم‬
‫وإرادة قوية معتمدة على الله تعالى حتى تصل المسيرة إلى‬
‫مرحلة التمكين الفعلي لدولة السلما المنشودة‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية الحكيمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله‬
‫تعطي للعلوما بأنواعها أهمية وخصوصا علوما الشرع‪ ,‬وتركز على‬
‫علم المقاصد‪ ،‬وفقه الموازنات‪ ،‬وفقه الخلف‪ ،‬وفقه الولويات‪،‬‬
‫وفقه السنن الربانية لهميتها في زماننا هذا‪ ،‬بل هي من أفضل‬
‫العدة بعد تقوى الله تعالى للعاملين من أجل تحكيم شرع الله‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية الحكيمة هي التي تفجر طاقات المة وهي‬
‫‪141‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫التي تحتضن السلما وتنهجه قلبا وقالبا‪ ،‬جوهرا ومنظرا‪ ،‬وعقيدة‬


‫وشريعة‪ ,‬ودينا ودولة‪ ,‬وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها‬
‫وأمتها‪ ،‬وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها‬
‫وتعمل بكل جهد وإخلص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية‬
‫والخارجية‪.‬‬
‫ثاللثا‪ :‬محاربة أسبابا الفرقة‪:‬‬
‫إن النحراف عن كتابا الله وسنة رسوله × وهدى الصحابة‬
‫والتابعين‪ ،‬له أسبابا كثيرة‪ ،‬منها خارجية أجنبية ومنها داخلية ذاتية‪.‬‬
‫ومن أهم السبابا الخارجية‪:‬‬
‫‪ -1‬اتساع الفتوحات السلمية‪ ،‬واختلط المسلمين بالشعوبا‬
‫والمم الخرى‪ ،‬وتأثرهم بأفكارهم وثقافاتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬دخل كثير من أبناء الشعوبا الخرى في السلما ولم‬
‫ينصهروا في‬
‫عقيدة السلما‪ ،‬وتصوراته كما ينبغي‪ ،‬وحملوا معهم موروثاتهم‬
‫القديمة ونشروا شبهاتهم بين المسلمين‪.‬‬
‫‪ -3‬اندساس بعض الملحدة واليهود والمجوس وغيرهم من‬
‫أصحابا المعتقدات المنحرفة في السلما بقصد الكيد له‪ ،‬والنيل‬
‫منه‪ ,‬وبغية هدمه وتحريفه وتبديله‪ ,‬وذلك بإبعاد المسلمين عن‬
‫دينهم الصحيح بالتشكيك وإثارة الشبهات‪ ،‬وابتداع العقائد المخالفة‬
‫لهدى السلما الصحيح‪ ،‬ونشروا معتقدات فاسدة‪ ،‬ومناهج منحرفة‬
‫)‪(1‬‬
‫من أمثلة هؤلء‪:‬‬
‫)‪(2‬‬
‫‪ -‬عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالسلما في خلفة‬
‫عثمان ‪             ,‬‬
‫‪ ×  ‬وانتهاء بادعاء اللوهية‪ ,‬فيه وغير ذلك من العتقادات‬
‫التي كانت أساس الرفض)‪.(3‬‬
‫‪ -‬وبشر المريسى)‪ (4‬اليهودي الذي كان له دور كبير في فتنة‬

‫)( انظر‪ :‬وجوبا لزوما الجماعة وترك التفرق‪ ،‬د‪ .‬جمال بادي‪ ،‬ص ‪.136 ،135‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( عبد الله بن سبأ اليهودي قيل‪ :‬أصله من صنعاء وقيل غير ذلك رأس الطائفية‬ ‫‪2‬‬

‫السبئية التي كانت تقول بألوهية علي ‪ ,‬أظهر السلما ونشر الفتنة بين المسلمين‬
‫وتذرع بحب آل البيت وكانت له مصائب عظيمة على المسلمين‪ ,‬توفي ‪40‬هـ‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬مقالت السلميين للشعري )‪.(1/86‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي العدوي‪ ،‬فقيه معتزلي‪ ،‬عارف‬ ‫‪4‬‬

‫بالفلسفة‪ ،‬رمى بالزندقة‪ ,‬توفي ‪218‬هـ‪ ,‬ميزان العتدال )‪.(1/323‬‬

‫‪142‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫خلق القرآن‪ ،‬وتعطيل صفات ربا العالمين)‪ .(1‬وغيرهم كثير من‬


‫أهل الزيغ والضلل ممن نشروا البدع‪ ،‬والمعتقدات الفاسدة‪،‬‬
‫والتصورات المنحرفة‪ ،‬ول شك أن السبابا الخارجية ساهمت في‬
‫فرقة المة وتمزيق وحدتها وهي من الموضوعات المتشعبة‬
‫والطويلة والتي لبد من دراستها دراسة عميقة متأنية تكشف من‬
‫خللها أسبابها وأثرها في المة مثل‪ :‬غزو المغول‪ ،‬والحملت‬
‫الصليبية‪ ،‬وترجمة الفلسفات اليونانية والهندية‪ ...‬إلخ‪ ،‬ورغم أهمية‬
‫السبابا الخارجية فإن السبابا الداخلية كان لها الثر الكبر في‬
‫إحداث الفرقة وتقسيم صف الجماعة المسلمة‪ ..‬وتنقسم السبابا‬
‫الداخلية إلى أسبابا عامة)‪ (2‬وأسبابا منهجية‪ ،‬وأهم السبابا‬
‫العامة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬البتداع‪.‬‬
‫‪ -2‬الجهل‪.‬‬
‫‪ -3‬اتباع الهوى‪.‬‬
‫‪ -4‬تحكيم العقل وتقديمه على النصوص‪.‬‬
‫‪ -5‬الهجوما القبيح على أهل السنة‪.‬‬
‫وأما السبابا المنهجية فجامعها‪ ،‬مخالفة منهج أهل السنة‬
‫في النظر والستدلل)‪:(3‬‬
‫أ‪ -‬البتداع‪:‬‬
‫تعريف اًلبدعة لغة واًصطلححاً‪:‬‬
‫لغة‪ :‬تطلق البدعة في اللغة على الشيء المخترع على غير‬
‫مثال سابق‪ ،‬ويقال لمن أتى بأمر لم يسبقه إليه أحد‪ ،‬أبدع وتبدع‪:‬‬
‫أي‪ :‬أتى ببدعة)‪ ,(4‬فهي تطلق على المر المحدث سواء كان‬
‫محمودلا أو مذموملا‪.‬‬
‫اصطلحا‪ :‬طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة‬ ‫ل‬ ‫أما‬
‫يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫يتبين من التعريفات السابقة أن المعنى اللغوي أعم وأشمل‬

‫)( انظر‪ :‬وجوبا لزوما الجماعة وترك التفرق‪ ،‬ص ‪.136‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نص الشاطبي على أن أسبابا الوقوع في الختلف ثلثة أمور وهي‪ :‬الجهل‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫واتباع الهوى‪ ،‬والتصميم على اتباع العوائد وإن فسدت وإن كانت مخالفة للحق‬
‫)العتصاما‪.(180 – 2/172 :‬‬
‫)( انظر‪ :‬وجوبا لزوما الجماعة وذما التفرق‪ ،‬ص ‪.137‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( القاموس المحيط للفيروز آبادي )‪ ,(4 ،3/3‬الصحاح للجوهري )‪(3/1183‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪143‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من المعنى الشرعي‪.‬‬


‫ول شك أن البتداع في الدين من أعظم أسبابا التفرق‪ ،‬بل‬
‫هو أعظمها وكان من العوامل التي ساهمت في القضاء على‬
‫وحدة المة السلمية‪ ،‬وشتتت شملها وحادت بسببه فرق كثيرة‬
‫عما كان عليه رسول الله × وأصحابه‪ .‬إن المجتمع المسلم كان‬
‫متوحدا متآلفا‪ ،‬حتى خرجت البدع على الناس بسمومها وروائحها‬
‫الكريهة‪ ،‬فقوضت بنيان المة‪ ،‬وشتتت شملها‪ ،‬ونخرت في كيانها‪،‬‬
‫كما نخر السوس في الحب‪ ،‬وسرت في جسم المة كما يسري‬
‫السرطان في الدما‪ ،‬أو النار في الهشيم‪ ،‬فلذلك نرى من أسبابا‬
‫التمكين للمة ووحدة الصف محاربة البدع وذمها وتنفير المسلمين‬
‫منها‪ ،‬وبيان مضارها وأخطارها وسوء منقلب أهلها‪.‬‬
‫ولقد سار علماء المة على مر العصور‪ ،‬وكر الدهور‪ ،‬وتوالي‬
‫الزمان على هذا النهج في محاربة البدعة‪ ،‬وإماتتها‪ ،‬وإظهار السنة‬
‫وإحيائها‪.‬‬
‫ومن المور التي تظهر خطورة البدعة فيها‪ ،‬ما يصيب المة‬
‫بسببها من العداوة والبغضاء والشحناء‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬والبدعة مقرونة بالفرقة‪ ،‬كما‬
‫أن السنة مقرونة بالجماعة( )‪.(1‬‬
‫ويقول الدكتور توفيق الواعي‪» :‬ومن سمات أهل البدع‬
‫مفارقة الجماعة وشق عصا الطاعة على جماعة المسلمين‪ ،‬لن‬
‫الهواء نزعات وسبل تفرق الجادة«)‪.(2‬‬
‫إن البدع أصابت المة في وحدة صفها واجتماع شملها وقوة‬
‫بنيانها‪ ،‬ولقد أرشدنا القرآن الكريم وأرشدتنا السنة النبوية إلى‬
‫التمسك بحبل الله المتين ونوره المبين وترك البدع والحداث في‬
‫الدين‪.‬‬
‫صلراًرطيِ يمكستلرقيْحماً لفاًتلبريعوُهي لولل تليتلبرعيوُاً اًل م‬
‫سبيلل فليتليلفلرلق بريككمُ لعنَ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬وأللن لهلذاً ر‬
‫ل‬
‫لسربيْلرره" ]النعاما‪.[153 :‬‬
‫‪ -‬وعن عائشة رضي الله عنها قالت‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬من‬
‫أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« )‪.(3‬‬

‫)( الستقامة )‪.(1/42‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البدع والمصالح المرسلة‪ ،‬ص ‪.214‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الصلح‪ ،‬بابا‪ :‬إذا اصطلحوا على صلح )‪ (3/22‬رقم ‪.2697‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪144‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إن محاربة البدع والتمسك بما كان عليه رسول الله ×‬


‫وأصحابه والقتداء بهم طريق الوحدة واجتماع كلمة المة‪ ,‬وقوة‬
‫بنيانها ورصانة دعائمها‪ ،‬ومتانة قواعدها وإرجاع مجدها وعزتها‪,‬‬
‫ومن أهم السبابا للتمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫با‪ -‬الجهل‪:‬‬
‫إن الجهل من أعظم أسبابا الوقوع في المحرمات جميعها من‬
‫كفر وفسوق وعصيان‪ ،‬ومن أعظم الجهل القول على الله بغير‬
‫علم‪ ،‬وقد جعله الله عز وجل أعلى مراتب المحرمات وأعلى‬
‫ر ر‬
‫درجة من الشراك به سبحانه‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬قيكل لمكنَ لحلرلم رزينلةل اًل اًلتيِ ألكخلر ل‬
‫ج‬
‫صةح يليكوُلم اًلكرقليْاًلمرة لكلذلر ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر رر‬ ‫ر ر‬ ‫رر ر ر‬
‫صيل‬‫ك نَييلف ب‬ ‫لعلباًده لواًلكطليْبلباًت ملنَ اًلبركزرق قيكل هليِ ل لذيلنَ آلمنيوُاً فيِ اًلكلحليْاًة اًلمدنَكيليْاً لخاًل ل‬
‫ت لرلقكوُةم يليكع ليموُلن" ]العراف‪.[32 :‬‬ ‫اًللياً ر‬
‫ل‬
‫يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وأصل الشرك والكفر‪ ،‬هو القول‬
‫على الله بل علم()‪.(1‬‬
‫وقد نهى الله عباده أن ينسبوا إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه‬
‫من عند أنفسهم‪،‬‬
‫ر‬
‫ليس لديهم فيه حجة من الله ول برهان‪ ،‬فقال تعالى‪+ :‬لولل تلييقوُليوُاً للماً‬
‫ل اًلكلكرذب إرلن اًلرذينَ ييكفتليرولن لعللىَ اً ر‬
‫ل‬ ‫ف أللكرسنلتييكمُ اًلكلكرذب لهلذاً حللرل ولهلذاً حراًرم بلتليكفتليرواً لعللىَ اً ر‬ ‫ص ي‬ ‫تل ر‬
‫لل ي‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ل ل لل‬ ‫ل‬ ‫ي‬
‫حوُلن" ]النحل‪.[116 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ب لل يييكفل ي‬ ‫اًلكلكذ ل‬
‫فافتراء الكذبا على الله عز وجل أمر خطير وعظيم‪ ،‬فهو تعد‬
‫على جانب اللوهية‪ ،‬وتطاول على الله عز وجل‪ ،‬وفيه إضلل‬
‫للعباد‪ ،‬وصد د لهم عن دين الله الحق‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬فللمكنَ ألظك ليمُ رملمرنَ اًفكيتليلرىَ‬
‫س برغلكيْرر رعكلةمُ" ]النعاما‪.[144 :‬‬ ‫ر ر ر ر‬
‫لعللىَ اًل لكذحباً ليْيضلل اًللناً ل‬
‫ة‬
‫وقال تعالى‪+ :‬قيكل أللرلأيكييتمُ لماً ألنَكيلزلل اًلي ليكمُ بمنَ بركزق فللجلعكليتمُ بمكنهي لحلراًحماً لولحلللح قيكل آلي‬
‫ل تليكفتلييرولن" ]يونس‪.[59 :‬‬ ‫ألرذلن ليكمُ ألكم لعللىَ اً ر‬
‫ك‬
‫صاًردرقيْلنَ" ]البقرة‪.[111 :‬‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬قيكل لهاًتيوُاً بييكرلهاًنَليككمُ رإن يككنتيكمُ ل‬
‫صاًردرقيْلنَ"‬ ‫ة ر‬ ‫وقال تعالى‪+:‬اًئكييتوُرنَيِ برركلتاً ة‬
‫ب بمنَ قليكبرل لهلذاً ألكو أللثاًلرة بمكنَ عكلةمُ رإن يككنتيكمُ ل‬
‫]الحقاف‪.[4 :‬‬

‫)( مدارج السالكين )‪.(1/373‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪145‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهذه تربية للمؤمنين‪ ،‬ودعوة للناس أجمعين‪ ،‬بأن يأخذوا الحق‬


‫ويبحثوا عنه من مصدره الصحيح وهو الوحي فقط ل غير‪ ،‬وأن أي‬
‫شيء لم يقم عليه دليل ول برهان من وحي الله فإنه باطل‬
‫مرفوض‪ ,‬وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية‪ ،‬وجدنا إخبار النبي × أن‬
‫من أشراط الساعة قبض العلم وظهور الجهل‪ ،‬فعن أنس بن‬
‫مالك ‪  : ‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪» :× ‬إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل« ‪.‬‬
‫وقال ×‪» :‬إن اًل ل يقبض اًلعلمُ اًنَتزاًعاً ينتزعه منَ اًلعباًد‪ ،‬ولكنَ يقبض‬
‫سئلوُاً فأفتوُاً‬
‫اًلعلمُ بقبض اًلعلماًء‪ ،‬حتىَ إذاً لمُ يبق عاًلمحاً اًتخذ اًلناًس رءوساً جهاًلح ف ي‬
‫ضلموُاً وأضلوُاً« )‪.(2‬‬
‫بغيْر علمُ ف ل‬
‫وقال النووي رحمه الله‪) :‬هذا الحديث بين أن المراد بقبض‬
‫العلم في الحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور‬
‫حفاظه‪ ،‬ولكن معناه أن يموت حملته ويتخذ الناس جهال بجهالتهم‬
‫فيضلون ويضلون( )‪.(3‬‬
‫إن الجهل من السبابا المؤدية إلى الختلف والتفرق والبتعاد‬
‫عن الحق والبعد عنه ورده‪ ،‬وبالتالي تأخير نصر الله وتمكين دينه‬
‫في الرض‪ ،‬ولذلك لبد من معرفة أسبابا الجهل ومن ثم‬
‫معالجتها‪ ،‬ومن أخطر المور أن يكون على مقدمة الحركة‬
‫السلمية قيادة تجهل كتابا الله وسنة رسوله ×‪ ,‬ول تعطي‬
‫للعلماء أي وزن أو اهتماما‪ ،‬بل تعمل على تهميشهم والنيل منهم‪،‬‬
‫وتجعل من عقولهم وأهوائها مصادر للجتهادات الحركية والفكرية‬
‫والسلوكية‪ ،‬ومن المعلوما أن ما سوى الشرع موزون وليس‬
‫بميزان‪ ،‬ومحكوما وليس بحاكم‪ ،‬ولذلك وقع كثير من العقلنيين‬
‫ومن المتصوفة وغيرهم في‬
‫التخبط والضلل والبدع‪ ,‬وبالتالي ساهموا في تفريق المة‬
‫وتشتيتها وإبعادها عن تحكيم شرع ربها‪.‬‬
‫والدواء النافع للجهل هو العلم‪ ،‬وقد وردت نصوص كثيرة من‬
‫الكتابا والسنة في الحث على طلبه والثناء على أهله وذكر‬
‫فضله)‪.(4‬‬
‫)( البخاري كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬رفع العلم‪ ،‬وظهور الجهل )‪ (1/33‬رقم ‪.80‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬كيف يقبض العلم )‪ (1/39‬رقم ‪.100‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( شرح النووي‪ ،‬كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬رفع العلم وقبضه )‪ (337 ،2/336‬رقم‬ ‫‪3‬‬

‫‪.2136‬‬
‫)( انظر‪ :‬وجوبا لزوما الجماعة وترك التفرق ص ‪.171‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪146‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫جـ‪ -‬الهوى‪:‬‬
‫عرف أهل اللغة الهوى بأنه‪» :‬محبة النسان للشيء وغلبته‬
‫على قلبه«)‪.(5‬‬
‫وأما في الصطلح‪ :‬ميلن النفس إلى ما تستلذه من الشهوات‬
‫من غير داعية الشرع)‪.(1‬‬
‫ويعتبر اتباع الهوى من أهم السبابا في نشأة الكثير من‬
‫الفرق الضالة‪ ،‬والطوائف المنحرفة‪ ،‬لن أصحابا هذه الفرق‬
‫قدموا أهواءهم على الشرع أول‪ ،‬ثم حاولوا جاهدين أن يستدلوا‬
‫بالشريعة على أهوائهم‪ ،‬وحرفوا النصوص والدلة لتوافق ما هم‬
‫عليه من البدع‪ ،‬فلم يأخذوا الدلة الشرعية مأخذ الفتقار إليها‪ ،‬بل‬
‫اعتمدوا على آرائهم وعقولهم في تقرير ما هم عليه‪ ،‬ثم جعلوا‬
‫الشريعة مصدرا ثانويا‪ ،‬نظروا فيها بناء على ما قرروه وأصلوه‪،‬‬
‫ولجل ذلك كان علماء السلف الصالح يطلقون على أهل البدع‬
‫وفرق الضللة لفظة »أهل الهواء«)‪ ،(2‬بل كانوا يطلقونها على كل‬
‫من خرج عن موجب الكتابا والسنة من العلماء والعباد)‪.(3‬‬
‫ولذلك فكل مخالف لما بعث الله به رسوله × من الوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬والعبادات‪ ،‬والطاعات إنما يكون متبعا لهواه‪ ،‬ول يكون‬
‫متبعا لدين شرعه الله تبارك وتعالى)‪.(4‬‬
‫ل‬
‫والهوى من السبابا التي لجلها خالفت كثير من المم أنبياءها‬
‫فاستكبروا ولم يقبلوا الحق والهدى والنور الذي جاءتهم به‬
‫أنبياؤهم‪ ،‬عليهم السلما‪.‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬للقكد أللخكذلنَاً رميْلثاًلق بلرنيِ إركسلراًرئيْلل لوألكرلسكللناً إرلكيْرهكمُ يريسلح يك للماً لجاًءليهكمُ لريسوُرل برلماً‬
‫سيهكمُ فلرريحقاً لكلذبيوُاً لوفلرريحقاً يليكقتيييلوُلن" ]المائدة‪.[70 :‬‬ ‫لل تليكهلوُىَ ألنَكييف ي‬
‫إن الله تعالى ذكر داود عليه السلما وبزين في كتابه أسبابا‬
‫المحافظة على التمكين وذكر من ذلك البتعاد عن الهوى‪ ,‬قال‬
‫س رباًلكلحبق لولل تليتلبررع اًلكلهلوُىَ‬ ‫تعالى‪+ :‬لياً لداًيويد إرلنَاً لجلعكللناًلك لخرليْلفةح رفيِ اًللكر ر‬
‫ض لفاًكحيككمُ بليكيْلنَ اًللناً ر‬
‫ب لشردييد برلماً نَلسوُاً يليكوُلم اًلكرحساً ر‬
‫ب"‬ ‫ل ليهكمُ لعلذاً ر‬ ‫ضملوُلن لعنَ سبريْرل اً ر‬
‫ل‬
‫ل إرلن اًلرذينَ ي ر‬
‫لل‬
‫ك لعنَ سبريْرل اً ر‬
‫ل‬
‫فلييْ ر‬
‫ضل ل‬ ‫ي‬
‫ل‬ ‫ي‬
‫لسان العربا )‪.(15/371‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫التعريفات للجرجاني‪ ،‬ص ‪.257‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬العتصاما )‪.(2/176‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬الفتاوى )‪.(28/133‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬جامع العلوما والحكم لبن رجب‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪147‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫]ص‪.[26 :‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ونفس الهوى ‪ -‬وهو الحب‬
‫والبغض الذي في النفس‪ -‬ل يلما عليه‪ ،‬فإن ذلك قد ل يملك‪ ,‬وإنما‬
‫يلما على اتباعه«)‪.(1‬‬
‫وقال في موضع آخر‪» :‬ومجرد الحب والبغض هوى‪ ،‬لكن‬
‫المحرما اتباعه حبه وبغضه بغير هدى من الله «)‪.(2‬‬
‫إن اتباع الهوى من أسبابا الفرقة‪ ,‬والفرقة من أسبابا تأخر‬
‫التمكين‪ ،‬فإذن فعلى المخلصين من أبناء المة السلمية‪،‬‬
‫الحريصين على تحكيم شرع الله تعالى‪ ،‬محاربة الهوى وقلع‬
‫جذوره وأسبابه من النفوس‪.‬‬
‫إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم‬
‫به من الجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير‪ ،‬وأن ل‬
‫يموتوا إل وهم مستسلمين لمره منقادين لطاعته مبتعدين عن‬
‫معصيته‪.‬‬
‫إن محاربة الهواء طريق نحو الجتماع والئتلف‪ ،‬ونحو الخذ‬
‫بأسبابا التمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫جهودا ضخمة في العمل السلمي‪ ،‬وأمرض‬
‫ل‬ ‫إن اتباع الهواء شتت‬
‫قلوبا كانت حية‪.‬‬
‫ل‬
‫إن العلج الناجع والبلسم الشافي لمن ابتلى بشيء من‬
‫الهوى‪ ،‬إلزاما النفس بالكتابا والسنة‪ ،‬واتباع منهج السلف الصالح‬
‫وتربية النفس باستمرار على التقوى والخشية من الله تعالى‪،‬‬
‫واتهاما النفس ومحاسبتها دائما فيما يصدر منها وعدما الغترار‬
‫بأهوائها وتزييناتها وخداعها‪ ،‬والكثار من استشارة أهل العلم‬
‫واليمان واستجلء آرائهم حول ما يريد أن يقوله ويفعله‪ ،‬وكذلك‬
‫ترويض النفس على استنصاح الخرين وتقبل الراء الصحيحة‬
‫الصائبة وإن كانت مخالفة لما في النفس‪ ،‬وتعويدها على التريث‬
‫وعدما الستعجال في إصدار الحكاما وإمضاء العمال‪ ،‬والحذر من‬
‫ردود الفعال التي قد يكون فيها إفراط وتفريط وغلو أو تقصير‪،‬‬
‫وجهل وبغي وعدوان‪ ،‬وإكثار المرء من الدعاء والتضرع إلى الله‬
‫تعالى بأن يجنبه اتباع الهوى ومضلت الفتن‪ ,‬ويسأله تعالى أن‬
‫يوفقه لقول كلمة الحق في الغضب والرضا‪ ،‬ويكثر من الدعاء‬
‫)( الفتاوى )‪.(28/131‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الفتاوى )‪.(28/133‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪148‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫الذي علمه رسول الله × لمته‪» :‬وأسألك كلمة الحق في الرضا‬


‫والغضب«)‪ ،(1‬ومن قوله ×‪» :‬اًللهمُ إنَيِ اًعوُذ بك منَ منكراًت اًلخلق‬
‫واًلعماًل واًلهوُاًء«)‪.(2‬‬
‫د‪ -‬تقديم العقل وتحكيمه على النصوص‪:‬‬
‫إن المدرسة العقلية وعلى رأسها المعتزلة حكمت العقل‪،‬‬
‫وجعلته مصدرا أوليا للتلقي ودخلت بالعقل في غير مجاله‪ ,‬وركبوا‬
‫مسلك أهل الكلما ودخلوا في جدل مع الفلسفة في قضايا‬
‫اليمان‪ ،‬والسماء والصفات‪ ،‬والغيبيات‪ ,‬وابتعدت المة عن أوامر‬
‫الله‪ ،‬ودخلوا في مجال الترف الفكري‪ ,‬وتأثر كثير من العلماء‬
‫بكتب اليونان وعلومهم الفلسفية‪ ،‬وأعرضوا عن منهج الستدلل‬
‫المستمد من الكتابا والسنة الذي سار عليه السلف والئمة‬
‫الثقات‪ ,‬ونشأت فرق كلمية متعددة كل فرقة ترد على الخرى‬
‫وحادت عن الصراط المستقيم‪ ،‬ووقعت هي الخرى في أخطاء‬
‫كثيرة وجسيمة نتيجة استعمالها المنهج العقلني نفسه في الرد‬
‫على الخصوما‪ ،‬وعدما اعتمادها على المنهج الرباني الذي يقول الله‬
‫سلنَ تليكفرسيْحراً" ]الفرقان‪.[33 :‬‬ ‫ر‬ ‫فيه‪+ :‬ولل يأكيتوُنَل ل ر ر ر‬
‫ك بلمثلةل إلل ج كئيلناًلك باًلكلحبق لوألكح ل‬ ‫ل ل‬
‫ولو تمسك الجميع بالكتابا و السنة وجعلوهما المصدر الوحيد‬
‫للتلقي‪ ،‬وأعرضوا عما خالفهما‪ ،‬واتبعوا منهج سلف المة في فهم‬
‫أحكاما الدين‪ ،‬أصوله وفروعه‪ ،‬لما حصل الذي حصل‪ ،‬ولكن ما‬
‫وقعوا فيه كان نتيجة حتمية لتحكيم العقل في مجال غير المجال‬
‫الذي خلق له‪.‬‬
‫يقول الشاطبي‪) :‬إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي‬
‫سبيل إلى الدراك في كل مطلوبا(‬ ‫ل‬ ‫إليه ل تتعداه‪ ،‬ولم يجعل لها‬
‫)‪.(3‬‬
‫إن العاقل اللبيب هو الذي يعرف حقيقة ما أنعم الله عليه من‬
‫نعمة العقل فل يدخله في مسالك ودروبا لم يخلق لها‪ ،‬وإنما‬
‫يستعمل عقله في عمارة الرض والكون والحياة‪ ،‬ويتأمل ويتدبر‬
‫في كتابا الله وسنة رسوله ×‪ ,‬وينتهج منهج القرآن في معرفة‬
‫حقيقة العقل‪ ،‬ومكانته ودوره فل يتقدما على أحكاما الشرع أبدا‪،‬‬
‫)( النسائي‪ ،‬كتابا السهو‪ ،‬بابا‪ :‬الدعاء بعد الذكر )‪ (3/55‬صححه اللباني رحمه‬ ‫‪1‬‬

‫الله‪.‬‬
‫)( رواه الترمذي وصححه اللباني ‪-‬رحمه الله‪ -‬كما في صحيح سنن الترمذي )‬ ‫‪2‬‬

‫‪(3/183‬‬
‫)( العتصاما )‪.(2/318‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪149‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بل ينقاد إليها انقيادا حكيما رزينا مسترشدا بنور الوحي الذي يحرر‬
‫العقل من الخرافات والخزعبلت‪ ،‬ويحثه على النظر في الكون‬
‫والتحرر من التقليد والهوى والتعصب‪.‬‬
‫إن إقحاما العقل في غير مجاله كما فعل أهل الكلما والهواء‬
‫شتت المة وفرقها‪ ,‬وجعلها تبتعد عن كتابا ربها وسنة نبيها ×‪،‬‬
‫ولقد تخبط كثير من علماء الكلما في دياجير الظلما وحيرة‬
‫ن الله عليهم وألهمهم رشدهم في آخر حياتهم‬ ‫م ز‬
‫العقول حتى ع‬
‫فتابوا إلى الله عز وجل وندموا على ما كان منهم‪ ,‬وتحسروا على‬
‫إضاعة أعمارهم في القيل والقال‪ ،‬واعترفوا بخطأ الطريق الذي‬
‫ساروا فيه‪ ،‬وأن منهج القرآن والسنة الذي سلكه السلف الصالح‬
‫هو أفضل السبل على الطلق ونذكر من هؤلء العلما‪:‬‬

‫‪ -1‬اًلجوُينيِ)‪ - (1‬رحمه اًل‪:-‬‬


‫لقد ذما علم الكلما في آخر حياته ونصح المة أن يجتنبوه‪،‬‬
‫حيث قال‪» :‬ل تشتغلوا بعلم الكلما‪ ،‬فلو عرفت أن الكلما يبلغ بي‬
‫ما بلغ ما اشتغلت به «)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬أبوُ حاًمد اًلغزاًليِ )‪: (3‬‬
‫نصر مذهب السلف في آخر حياته وقال‪» :‬الدليل على أن‬
‫مذهب السلف هو الحق‪ ،‬أن نقيضه بدعة‪ ،‬والبدعة مذمومة‬
‫وضللة«)‪.(4‬‬
‫ذمه لعلم الكلما‪ ،‬حيث قال‪» :‬إن الصحابة رضي الله عنهم‬
‫كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد‬
‫× فما زادوا على أدلة القرآن شيئا‪ ،‬وما ركبوا ظهر اللجاج في‬
‫وضع المقاييس العقلية‪ ،‬وترتيب المقدمات‪ ,‬كل ذلك لعلمهم بأن‬
‫ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش‪ ,‬ومن ل يقنعه أدلة القرآن ل‬
‫يقمعه إل السيف والسنان‪ ،‬فما بعد بيان الله بيان«)‪.(5‬‬
‫إن المنهجية الخاطئة التي قدمت العقل على النقل أدت إلى‬
‫)( هو إماما الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي ركن الدين‪,‬‬ ‫‪1‬‬

‫كان من أذكياء العالم‪ ،‬توفي ‪478‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬العبر )‪.(2/339‬‬


‫)( طبقات الشافعية للسبكي )‪(3/260‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي له مائتا مصنف‪ ,‬توفي عاما ‪505‬هـ‪,‬‬ ‫‪3‬‬

‫شذرات الذهب )‪.(3/10‬‬


‫)( إلجاما العواما عن علم الكلما‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.90 – 89‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪150‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫فساد النتائج وبالتالي إلى ظهور الفرق واختلف المناهج‬


‫والتصورات والقيم والمعتقدات‪ ,‬وكل ذلك أثر في وحدة المة‬
‫وساهم في تمزيقها وتشتيتها وتفريقها وإضعافها‪ ،‬وزوال هيبتها‬
‫وملكها وسلطانها‪ ,‬ولذلك أرى أن محاربة المدارس الكلمية‬
‫والنزعات الفلسفية ودعوة الناس إلى اللتزاما بكتابا الله وسنة‬
‫سيد الناما × من أسبابا التمكين‪.‬‬
‫هـ‪ -‬التقليد والتعصب والحرص على اتباع العوائد‪:‬‬
‫‪ -1‬تعريف اًلتقليْد لغة واًصطلحاً‪:‬‬
‫‪ -‬التقليد لغة‪ :‬هو جعل القلدة في العنق)‪.(1‬‬
‫‪ -‬اصطلحا‪ :‬هو الرجوع إلى قوة ل حجة لقائله عليه)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬تعريف اًلتعصب لغة واًصطلحاً‪:‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ -‬التعصب لغة‪ :‬من العصبية‪ ،‬وتعصب‪ ،‬أي‪ :‬شد العصابة ‪.‬‬
‫‪ -‬أما اصطلحا‪ :‬بأن تجعل ما يصدر عن شخص ما من الرأي‬
‫وعيروى له من الجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد)‪.(4‬‬
‫إن التقليد والتعصب من أعظم أسبابا التفرق والنحراف عن‬
‫منهج الله الرباني‪ ،‬ومن أهم العوامل التي أدت إلى انتشار البدع‬
‫والهواء بين الناس‪ ،‬وفشت في أوساطهم‪ ،‬وحالت بينهم وبين‬
‫سماع الحق والهدى‪ ،‬وتركوا بسببها طريق الكتابا الكريم‬
‫والسنة المطهرة‪.‬‬
‫وقد ذما الله تعالى الذين يعرضون عن اتباع الحق والنقياد له‪،‬‬
‫ر‬
‫بحجة تقليد الباء والجداد‪ ,‬فقال تعالى‪+ :‬لوإرلذاً قيْلل ليهيمُ اًتلبرعيوُاً لماً ألنَكيلزلل اًلي‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫لقاًليوُاً بلكل نَليتلبريع لماً أللك ل كفيْيلناً لع لكيْره آلباًءللنَاً أللولكوُ لكاًلن آلباًيؤيهكمُ لل يليكعرقيلوُلن لشكيْحئاً لولل يليكهتليدو ل‬
‫‪.[170‬‬
‫إن التقليد المذموما إنما هو التقليد في الباطل‪ ،‬وأما التقليد‬
‫في الحق فهو في الحقيقة اتباع ل تقليد‪.‬‬
‫ومن اليات أيضا التي جاءت في ذما التقليد وأهله قوله تبارك‬
‫وتعالى‪+ :‬لوإرلذاً رقيْلل ليهكمُ تليلعاًلكوُاً إرللىَ لماً ألنَكيلزلل اًلي لوإرللىَ اًللريسوُرل لقاًليوُاً لحكسبييلناً لماً لولجكدلنَاً لع لكيْره آلباًءللنَاً‬

‫الصحاح للجوهري )‪.(2/527‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫جامع بيان العلم وفضله لبن عبد البر )‪.(2/117‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الصحاح للجوهري )‪.(1/182‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أدبا الطلب ومنتهى الدبا للشوكاني‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪151‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أللولكوُ لكاًلن آلباًيؤيهكمُ لل يليكع ليموُلن لشكيْحئاً لولل يليكهتليدولن" ]المائدة‪.[104 :‬‬
‫قال ابن كثير‪) :‬أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه‬
‫وترك ما حرمه قالوا‪ :‬يكفينا ما وجدنا عليه الباء والجداد من‬
‫الطرائق والمسالك( )‪.(1‬‬
‫فالتقليد العمى والتعصب‪ ،‬يؤديان إلى مهاوي الردى ويقودان‬
‫صاحبهما إلى مسالك الغواية والضلل‪ ،‬ويصدان عن اتباع النور‬
‫والهدى‪ ،‬فتكون النتيجة تخبطا وانتكاسا في الدنيا وهلكا وخسرانا‬
‫في الخرة)‪.(2‬‬
‫لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوبا المة السلمية‬
‫لسيما في العصور المتأخرة‪ ،‬وأصبح هو الساس والصل‪ ،‬ونتج‬
‫عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة‪.‬‬
‫يصف الماما الشوكاني ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬حال المة السلمية‬
‫عندما انقادت للتقليد واتبعت العوائد السيئة فيقول‪» :‬وبهذه‬
‫الذريعة الشيطانية‪ ،‬والوسيلة الطاغوتية بقى المشرك من‬
‫الجاهلية على شركه‪ ،‬واليهودي على يهوديته‪ ,‬والنصراني على‬
‫نصرانيته‪ ,‬والمبتدع على بدعته‪ ،‬وصار المعروف منكرا والمنكر‬
‫معروفا‪ ،‬وتبدلت المة بكثير من المسائل الشرعية وغيرها‪ ،‬وألفوا‬
‫ذلك ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم وأنسوا إليه‪ ,‬حتى لو أراد‬
‫من يتصدى للرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء‬
‫النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك‪ ،‬ولم تقبله طبائعهم‪،‬‬
‫ونالوا ذلك المرشد بكل المكروه‪ ،‬ومزقوا عرضه بكل لسان‪،‬‬
‫وهكذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق ل ينكره إل من هو‬
‫منهم في غفلة«)‪.(3‬‬
‫إن نتائج التعصب و التقليد جسيمة وخطيرة من أشدها عدما‬
‫قبول الحق‪ ،‬ورده إذا جاء من المخالف‪ ،‬وهذا إلى جانب كونه‬
‫مؤديا إلى العداوة والبغضاء والتفرق‪ ،‬فهو خصلة ذميمة من خصال‬
‫اليهود‪ ،‬والذين أمرنا الله تعالى ورسوله ×‪ ،‬بمجانبة طريقهم‬
‫وعدما التشبه بهم‪.‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لوإرلذاً قريْلل ليهكمُ آرمنيوُاً برلماً ألنَكيلزلل اًلي لقاًليوُاً نَييكؤرمينَ برلماً أينَكرزلل لع لكليْيلناً لويلككيفرولن برلماً‬
‫صبدحقاً لبلماً لملعيهكمُ" ]البقرة‪.[91 :‬‬ ‫لولراًءلهي لويهلوُ اًلكلحمق يم ل‬
‫)( تفسير القرآن العظيم لبن كثير )‪.(2/213‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن لسيد قطب )‪ (2/991‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الدر النفيس في إخلص كلمة التوحيد للشوكاني‪ ،‬ص)‪.(29 – 28‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪152‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إن محاربة التعصب والتقليد هو في حقيقته محاربة لسبابا‬


‫الفرقة وبالتالي خطوة نحو الخذ بأسبابا التمكين‪ ،‬فعلى العاملين‬
‫في مجال الدعوة أن يعالجوا هذه المراض المعضلة من التعصب‬
‫والتقليد واتباع العوائد السيئة التي كانت سببا في تفريق المة‬
‫شيعا وأحزابا‪.‬‬
‫هذه هي أهم السبابا التي كان لها أثر مباشر في فرقة المة‬
‫وهناك أسبابا أخرى ولكن اكتفينا بالهم خوفا من الطالة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬الخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع‪:‬‬
‫ل‬
‫إذا كانت الفرقة هي طريق النحطاط‪ ،‬فإن الوحدة هي سبيل‬
‫الرتقاء وتبوؤ المكانة الفاضلة من جديد‪.‬‬
‫إن اتحاد المة السلمية على أسس من ديننا العظيم أمل كل‬
‫المسلمين الصادقين في كل مكان‪ ،‬ذلك أن السلما هو الذي جعل‬
‫من العربا المتناحرين إخوة في دين الله ‪+‬إرنَللماً اًلكيمكؤرمينوُلن إركخلوُةر"‬
‫]الحجرات‪ .[10 :‬كما أن السلما بعقيدته الصحيحة وعبادته الصادقة‪،‬‬
‫وأخلقه الرفيعة‪ ،‬صهر المم والشعوبا والحضارات التي دخلت‬
‫فيه وجعل منهم أمة واحدة مترابطة ترابط الجسد الواحد‪ ,‬ل فرق‬
‫بين الفارسي ول البربري‪ ،‬ول الرومي ول العربي إل بالتقوى‪.‬‬
‫وأصبحت أمة السلما أمة واحدة في عقيدتها وتصوراتها‬
‫ومنهجها‪ ،‬وانعكس ذلك في توادهم وتراحمهم فيما بينهم وأصبحوا‬
‫كالجسد الواحد‪ ،‬الذي يخفق فيه قلب واحد‪ ,‬وتسري فيه روح‬
‫واحدة‪ ,‬ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية العضاء أو هو كالجدار‬
‫المتين الذي تجتمع لبناته لتشكل فيما بينها وحدة واحدة متماسكة‬
‫متراصة‪.‬‬
‫وفي اعتقادي أن من الهمية بمكان أن تهتم الحركات‬
‫السلمية في كل القطار بالصول المهمة التي يجتمع عليها‬
‫المسلمون في كل بلد‪ ،‬ومن ثم تجتمع عليها المة حتى يكون‬
‫التحاد على أصول قوية ثابتة‪.‬‬
‫ت اً ر‬
‫ل لع لكيْيككمُ إركذ يككنتيكمُ‬ ‫ل لجرميْحعاً لولل تليلفلرقيوُاً لواًكذيكيرواً نَركعلم ل‬
‫صموُاً برحكبرل اً ر‬
‫ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬لواًكعتل ي ل‬
‫صبلكحتيكمُ برنركعلمترره إركخلوُاًحنَاً" ]آل عمران‪.[103 :‬‬ ‫ف بليكيْلنَ قيييلوُبريككمُ فلأل ك‬
‫ألكعلداًءح فلألل ل‬
‫إن طريق الوحدة والتعاون والتآخي والجتماع على البر‬
‫والتقوى طريق أهل السنة والجماعة الذين التزموا في جميع‬

‫‪153‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أمورهم بما كان عليه رسول الله × وأصحابه في العقائد والخلق‬


‫والعبادة والمعاملت وكل شئون الحياة‪ .‬وأهم أسس وأصول أهل‬
‫السنة والجماعة هي‪:‬‬
‫العتصاما بالكتابا والسنة‪ ،‬وحصر التلقي لحكاما الدين؛ أصوله‬
‫وفروعه في هذا المصدر‪ ،‬وأن يرد الخلف إليهما عند التنازع‪ ،‬وأن‬
‫ل يعارضا بشيء من المعارضات‬
‫ل بمعقول ول رأي‪ ،‬ول قياس‪ ،‬ول ذوق‪ ،‬ول وجد ول مكاشفة‪ ،‬ول‬
‫مناما‪ ،‬ول‬
‫)‪(1‬‬
‫غير ذلك ‪.‬‬
‫إن الكتابا والسنة هما الميزان الذي توزن به القوال والعمال‬
‫والمعتقدات‪ ،‬وهما الحق الذي يجب اتباعه‪ ،‬وبه يحصل الفرقان‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬وما سواه من كلما الناس يعرض عليه‪ ،‬فإن‬
‫وافقه قبل‪ ،‬وإل رد على صاحبه)‪.(2‬‬
‫إن أهل السنة والجماعة يحتجون بالقرآن والسنة‪ ،‬ل يفرقون‬
‫بينهما‪ ,‬كما هو حال أهل البدع‪ ،‬فالسنة مبينة للقرآن موضحة له‪،‬‬
‫ول يمكن أن يستغنى عنهما بالقرآن وحده بحال من الحوال‪ ،‬وهي‬
‫حجة في العقائد كما أنها حجة في الحكاما‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة ‪» :×    : ‬إن اًل يرضىَ لكمُ ثلثاً‪ ،‬أن‬
‫جميْعاً ول تفرقوُاً‪ ،‬وأن تناًصحوُاً‬
‫ح‬ ‫تعبدوه ول تشركوُاً به شيْئاً‪ ،‬وأن تعتصموُاً بحبل اًل‬
‫منَ وله اًل أمركمُ«)‪.(3‬‬
‫إن طريق العتصاما بحبل الله أن نلتزما بكتابا الله وسنة‬
‫رسوله ×‪ ,‬وهذا الصل من آكد الصول في هذا الدين العظيم‪،‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫»وهذا الصل العظيم‪ :‬وهو السلما‪ ،‬ومما عظمت وصية الله‬
‫تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتابا‬
‫وغيرهم‪ ،‬ومما عظمت به وصية النبي ×‪ ،‬في مواطن عامة‬
‫وخاصة«)‪.(4‬‬
‫ولذلك أمر الله تعالى ورسوله × بكل ما يحفظ على‬
‫انظر‪ :‬مجموع الفتاوى )‪.(29 ،28 /13‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر السابق‪(468 -12/467) ،(11/582) ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أخرجه الماما أحمد )‪(26 ،1/8‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مجموع الفتاوى )‪.(22/359‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪154‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫المسلمين جماعتهم وألفتهم‪ ،‬ونهيا عن كل ما يعكر صفو هذا المر‬


‫العظيم‪ ،‬إن ما حصل من فرقة بين المسلمين وتدابر وتقاطع‪،‬‬
‫وتناحر‪ ،‬بسبب عدما مراعاة هذا الصل وضوابطه‪ ،‬مما ترتب عليه‬
‫شيعا وأحزابلا‬
‫ل‬ ‫تفرق في الصفوف‪ ،‬وضعف في التحاد‪ ،‬وأصبحوا‬
‫كل حزبا بما لديهم فرحون‪.‬‬
‫كونا‪ ،‬ووقع كما‬ ‫ل‬ ‫وهذا المر وإن كان مما قدره الله عز وجل‬
‫شرعا‪ ،‬فوحدة المسلمين‬ ‫ل‬ ‫قدر‪ ,‬إل أنه ‪-‬سبحانه‪ -‬لم يأمر به‬
‫واجتماعهم مطلب شرعي‪ ،‬ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة‪،‬‬
‫بل من أهم أسبابا التمكين لدين الله تعالى‪ ,‬ونحن مأمورون‬
‫بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر قال تعالى‪+ :‬إرلن اًل ل ييغيْبير ماً برلقوُمة‬
‫ل ل يل ي ل ك‬
‫لحلتىَ يييغليْبييرواً لماً برألنَكييفرسرهكمُ" ]الرعد‪.[11 :‬‬
‫فلبد من تضافر الجهود بين الدعاة وقادة الحركات السلمية‬
‫إصلحا‬
‫ل‬ ‫وبين علماء المسلمين‪ ،‬وطلبة العلم لصلح ذات البين‬
‫حقيقيا ل تلفيقليا لن أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح‪ ,‬قال‬‫ل‬
‫الشيخ السعدي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬الجهاد نوعان‪ :‬جهاد يقصد به‬
‫صلح المسلمين‪ ،‬وإصلحهم في عقائدهم وأخلقهم وآدابهم‪،‬‬
‫وجميع شئونهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وفي تربيتهم العلمية‪ ,‬وهذا النوع‬
‫هو الجهاد وقوامه‪ ،‬وعليه يتأسس النوع الثاني‪ ،‬وهو جهاد يقصد به‬
‫دفع المعتدين على السلما والمسلمين من الكفار والمنافقين‬
‫والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم‪ ,‬وهذا نوعان‪ :‬جهاد‬
‫بالحجة والبرهان واللسان‪ ،‬وجهاد بالسلح المناسب في كل وقت‬
‫وزمان« )‪.(1‬‬
‫ثم أفرد فصل بعنوان »الجهاد المتعلق بالمسلمين بقياما اللفة‬
‫واتفاق الكلمة«)‪ ،(2‬وبعد أن ذكر اليات والحاديث الدالة على‬
‫وجوبا تعاون المسلمين ووحدتهم قال‪» :‬فإن من أعظم الجهاد‬
‫السعي في تحقيق هذا الصل في تأليف قلوبا المسلمين‪،‬‬
‫واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية«)‪.(3‬‬
‫ولذلك نرى أن الخذ بالسبابا نحو تأليف قلوبا المسلمين‬
‫وتوحيد صفهم‬
‫من أعظم الجهاد لن هذه الخطوة مهمة جدا في إعزاز المسلمين‬
‫وإقامة دولتهم‪ ،‬وتحكيم شرع ربهم‪.‬‬
‫)( وجوبا التعاون بين المسلمين‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪155‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ومن أهم السبابا في تحقيق هذا الهدف المنشود أن‬


‫يجتمع المسلمون على أصول ثابتة‪:‬‬
‫أ‪ -‬وحدة العقيدة‪:‬‬
‫ل يمكن أن تقوما وحدة للمسلمين‪ ،‬ما لم تجمعهم عقيدة‬
‫واحدة‪ ،‬والعقيدة تشكل أساسا مهما في البناء الفردي‬
‫والجتماعي‪ ,‬وهي القاعدة التي تقوما عليها العمال والعلقات‬
‫والخلق‪ ،‬فإذا كانت العقيدة مشوهة أو مزورة فإن البناء ل‬
‫يستقيم‪ ،‬ول يستطيع أن يواجه العاصير والفتن حتى ينهار‪.‬‬
‫وإن العقيدة التي تصلح لجمع شتات المسلمين هي ما كان‬
‫منبعها كتابا الله وسنة رسوله ×‪ ,‬ويمكن التدليل على كل أصل‬
‫من أصولها‪ ،‬أو جزئية من جزئياتها‪ ،‬ثم إن السلف الصالح الذين‬
‫استقاموا على عقيدة السلما الحق دونوا هذه العقيدة تدوينا‬
‫يميزها عن عقائد أهل الفرق والضلل)‪.(1‬‬
‫إن سلمة العتقاد وصحته هي الطريق الوحيد لقامة المجتمع‬
‫المسلم المترابط المتآلف‪ ،‬ول سبيل إلى اجتماع المة السلمية‬
‫قاطبة‪ ،‬ووحدة صفها‪ ،‬وعزها وسعادتها في الدنيا والخرة إل‬
‫بالعودة الصحيحة إلى السلما الصافي‪ ،‬النقي‪ ،‬الخالص من‬
‫شوائب الشرك والبدع والهواء والتعصب واتباع العوائد الفاسدة‪،‬‬
‫وهذا يتطلب من كل مسلم أن ينبذ كل المذاهب والمناهج الحادثة‬
‫المخالفة لما كان عليه سلف المة‪ ،‬وأن تكون له عناية فائقة‬
‫بمذهب السلف الصالح‪ ،‬وعقيدتهم ومنهجهم‪.‬‬
‫يقول شيخ السلما ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وإذا تأمل اللبيب‬
‫الفاضل هذه المور)‪ (2‬تبين له أن مذهب السلف والئمة في غاية‬
‫الستقامة والسداد‪ ،‬والصحة والطراد‪ ،‬وأنه مقتضى المعقول‬
‫الصريح‪ ،‬والمنقول الصحيح‪ ،‬وأن من خالفه كان مع تناقض قوله‬
‫المختلف الذي يؤفك عنه من أفك‪ ,‬خارجلا عن موجب العقل‬
‫والسمع‪ ،‬مخالفا للفطرة والسمع( )‪.(3‬‬
‫إن طريق التمكين لبد فيه من وحدة الصف السلمي‪ ،‬ووحدة‬
‫الصف ليس لها من سبيل إل السلما الصحيح‪ ،‬والسلما الصحيح‬
‫مصدره القرآن والسنة‪ ,‬والطريق لفهم القرآن والسنة هي طريق‬
‫رسول الله × وأصحابه الكراما‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬ومن سار‬

‫)( كيف تستعيد المة السلمية مكانتها من جديد؟ د‪ .‬الشقر‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المر‪ ،‬يقصد اختلف أهل البدع في مسائل العتقاد‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مجموع الفتاوى )‪.(213 ، 5/212‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪156‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫على نهجهم وطريقتهم إلى يوما الدين‪.‬‬


‫‪ -1‬منَ اًلقرآن اًلكريمُ‪:‬‬
‫غيْيلر لسربيْرل اًلكيمكؤرمرنيْلنَ‬ ‫ر ر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ومنَ ي ل ر‬
‫شاًقرق اًللريسوُلل منَ بليكعد لماً تليبلييْللنَ لهي اًلكيهلدىَ لويليتلبركع لك‬ ‫لل ي‬
‫صيْحراً" ]النساء‪.[115 :‬‬ ‫تم ر‬ ‫نَييوُلبره ماً تليوُللىَ ونَي ر ر‬
‫صله لجلهنللمُ لولساًءل ل‬
‫ك‬ ‫ل ل ل ل ك‬
‫ساًةن‬ ‫رر‬ ‫لر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ساًبريقوُلن اًللويلوُلن ملنَ اًلكيملهاًجرريلنَ لواًلنَك ل‬
‫صاً ر لواً ذيلنَ اًتليبلييعوُيهمُ بإكح ل‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬لواًل ل‬
‫ضوُاً لعكنهي" ]التوبة‪.[100 :‬‬ ‫لر ر‬
‫ضليِ اًلي لع كنييهكمُ لولر ي‬
‫فوعد من اتبع غير سبيلهم بعذابا جهنم‪ ،‬ووعد متبعهم بالجنة‬
‫والرضوان‪.‬‬
‫‪ -2‬منَ اًلسنة‪:‬‬
‫عن عبد الله بن مسعود ‪» :×    : ‬خيْر اًلناًس قرنَيِ‬
‫ثمُ اًلذينَ يلوُنَهمُ‪ ،‬ثمُ اًلذينَ يلوُنَهمُ‪ ،‬ثمُ يجيِء قوُم تسبق شهاًدة أحدهمُ يميْنه‪ ،‬ويميْنه‬
‫شهاًدته« )‪.(1‬‬

‫‪ -3‬ومنَ أقوُاًل اًلسلف اًلصاًلح‪:‬‬


‫عن ابن مسعود ‪» :  ()«    » :‬‬
‫‪ ،×      ‬فإنهم كانوا أبر هذه المة‬
‫حال‪،‬‬
‫ل‬ ‫قلوبا‪ ،‬وأعمقها علما‪ ،‬وأقلها تكلفا‪ ،‬وأقومها هديا‪ ،‬وأحسنها‬
‫قوما اختارهم الله لصحبة نبيه‪ ،‬وإقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم فضلهم‬
‫واتبعوهم في آثارهم‪ ،‬فإنهم كانوا على الهدى المستقيم«)‪.(3‬‬
‫با‪ -‬تحكيم الكتابا والسنة‪:‬‬
‫إن المسلمين ل يكون لهم شأن‪ ,‬ول عز‪ ،‬ول نصير‪ ،‬ول فلح‬
‫في الدنيا ول نجاة في الخرة‪ ،‬إل بتحكيم كتابا الله وسنة رسوله‬
‫×‪ ،‬على مستوى الفراد‪ ،‬والسر والجماعات‪ ،‬والقبائل‪ ,‬ومن ثم‬
‫على مستوى الدولة عند الوصول إليها‪.‬‬
‫والدلة القرآنية الكريمة تدل على وجوبا التحاكم إلى شرع‬
‫الله على مستوى المحكومين‪ ،‬وكذلك أمرت الحكاما بذلك‪.‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا الصحابة‪ ،‬بابا فضل الصحابة )‪ (4/1963‬رقم ‪.2533‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أخرجه مالك في الموطأ‪ ،‬كتابا الجامع‪ ،‬بابا النهي عن القول بالقدر‪ ،‬رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪.1619‬‬
‫)( حلية الولياء )‪.(1/379‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪157‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -1‬منَ اًلقرآن اًلكريمُ‪:‬‬


‫قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً ألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل لويأورليِ اًلكمرر رمكنيككمُ فلرإن‬
‫ر‬ ‫ة‬
‫خيْيرر‬
‫ك لك‬ ‫ل لواًكليْليكوُم اًللرخرر لذلر ل‬ ‫ل واًللرسوُرل رإن يككنتيمُ تييكؤرمينوُلن رباً ر‬
‫ك‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫تليلناًلزكعتيكمُ فيِ لشكيِء فلييرمدوهي إرللىَ اً ل ي‬
‫سينَ تلأكرويلح" ]النساء‪.[59 :‬‬ ‫لوألكح ل‬
‫صلح لواًلرذيلنَ‬‫ب يملف ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬ألفلي لكغيْيلر اًل لأبكيتلغيِ لحلكحماً لويهلوُ اًلذيِ ألنَكيلزلل إرلكيْيكيمُ اًلككلتاً ل‬
‫صكدحقاً‬ ‫ك ر‬ ‫ت لكلرلمةي لرب ل‬ ‫ك رباًلكلحبق فللل تليكوُنَللنَ رملنَ اًلكيمكمتلرريلنَ ‪ ‬لوتللم ك‬ ‫ب يليكع ليموُلن ألنَلهي يمنليلزرل بمنَ لرب ل‬ ‫ر‬
‫آتل كييْيلناًيهيمُ اًلككلتاً ل‬
‫سرميْيع اًلكلعرليْيمُ" ]النعاما‪.[115 ،114 :‬‬ ‫لولعكدلح لل يمبلبدرل لرلكلرلماًترره لويهلوُ اًل ل‬
‫وقال تعالى‪+ :‬وماً اًكختلي لكفتيمُ رفيْره رمنَ لشيِةء فلحككمهي إرللىَ اً ر‬
‫ل لذلريكيمُ اًلي لرببيِ لع لكيْره تليلوُلككل ي‬
‫ت‬ ‫ك ي ي‬ ‫ك‬ ‫لل‬
‫ر ر‬
‫ب" ]الشورى‪.[10 :‬‬‫لوإرلكيْه أينَيْ ي‬
‫‪ -2‬ومنَ اًلسنة‪:‬‬
‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬خطب رسول الله × في‬
‫حجة الوداع فقال‪» :‬ياً أيهاً اًلناًس‪ :‬إنَيِ قد تركت فيْكمُ ماً إن اًعتصمتمُ به فلنَ‬
‫تضلوُاً أبداً‪ ،‬كتاًب اًل وسنتيِ« )‪.(1‬‬

‫‪ -3‬ومنَ أقوُاًل اًلسلف‪:‬‬


‫قال ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وكان من أعظم ما أنعم الله به‬
‫عليهم ‪ -‬أي السلف الصالح ‪ -‬اعتصامهم بالكتابا والسنة‪ ،‬فكان‬
‫من الصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه‬
‫ل يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن‪ ،‬ل برأيه ول بذوقه‪ ،‬ول‬
‫معقوله‪ ،‬ول قياسه‪ ،‬ول وجده‪ ،‬فإنهم ثبت عنهم بالبراهين‬
‫القطعيات واليات البينات أن الرسول × جاء بالهدى ودين الحق‪،‬‬
‫وأن القرآن يهدي للتي هي أقوما( )‪.(2‬‬
‫إن حرص كل مسلم على تحكيم شرع الله تعالى على نفسه‬
‫وأسرته ومجتمعه خطوة أصيلة نحو وحدة المة‪ ,‬والقترابا من‬
‫نصر الله تعالى‪ ،‬كما أن للتحاكم إلى شرع الله تعالى آثارا دنيوية‬
‫وآخروية‪.‬‬
‫الثار الدنيوية‪ :‬الستخلف والتمكين‪ ،‬والمن والستقرار‪ ،‬والنصر‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا الحج‪ ،‬بابا حجة النبي × )‪ (2/890‬رقم ‪.1218‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مجموع الفتاوى )‪.(13/28‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪158‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫والفتح‪ ،‬والعز والشرف‪ ،‬وبركة العيش ورغد الحياة والهداية والتثبيت‪،‬‬


‫وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل‪.‬‬
‫أما الثار الخروية‪ :‬فالمغفرة وتكفير السيئات‪ ،‬والثوابا‬
‫العظيم عند الله تعالى‪ ،‬والحياة الحقة الدائمة‪ ،‬وعلو المنزلة‬
‫ومعية التكريم‪.‬‬
‫جـ‪ -‬صدق النتماء إلى السلما‪:‬‬
‫ومن الصول المهمة في توحيد صفوف المسلمين أن يجتهد‬
‫الدعاة إلى الله في تحصين المسلمين من المناهج والنظريات‬
‫والدعوات الرضية التي تفنن أصحابها في تزويقها وتزيينها‪ ،‬وكانت‬
‫سببا مهما في تشتيت ولء المسلمين‪ ,‬وفقد كثير من أبناء‬
‫المسلمين هويتهم‪ ،‬ومسخ شخصيتهم بفعل التضليل المستمر‬
‫الذي يمارسه شياطين النس والجن بمختلف الوسائل‪ ،‬ومن‬
‫أسبابا جمع صفوف المة وتحقيق الوحدة بينها الدعوة إلى‬
‫اللتزاما بالسلما عقيدة وشريعة‪ ،‬ومنهج حياة‪ ،‬والعتزاز بالنتسابا‬
‫إلى هذا الدين‪ ،‬ونبذ كل ما يخالفه ويضاده‪.‬‬
‫إن السلما منهج حياة‪ ،‬والعبودية لله معلم كبير في حياة‬
‫المسلم‪ ,‬والمسلمون ‪-‬وفق هذا المنهج والفهم‪ -‬يشكلون أمة‬
‫واحدة في مقابلة التجمعات البشرية‪.‬‬

‫والمسلم الصادق يعتز بالنتسابا إلى السلما‪+ :‬لولمكنَ ألكح ل‬


‫سينَ قليكوُلح‬
‫صاًلرححاً لولقاًلل إرنَلرنيِ رملنَ اًلكيمكسلررميْلنَ" ]فصلت‪ [33 :‬نص المولى عز‬ ‫ر‬
‫بملمنَ لدلعاً إرللىَ اًل لولعرملل ل‬
‫وجل على أن أفضل الناس هم الذين يعلنون انتسابهم إلى‬
‫السلما‪.‬‬
‫وكثير من المسلمين اليوما فقدوا انتماءهم‪ ،‬فأخذوا يبحثون عن‬
‫عقائد ومذاهب وأقواما ينتسبون إليها‪ ،‬أل وإن الراية الحق هي راية‬
‫السلما‪ ،‬ل راية الوطان‪ ،‬أو القواما أو الحزابا‪ ،‬أو التجمعات‬
‫الضالة‪ ،‬والتوحيد والنتسابا إلى السلما ملة إبراهيم عليه السلما‪:‬‬
‫ك ألرن اًتلبركع رم لةل رإبكيلراًرهيْلمُ لحرنيْحفاً" ]النحل‪.[123 :‬‬
‫حيْيلناً إرلكيْ ل‬
‫‪+‬ثيلمُ ألكو ل ك‬
‫د‪ -‬طلب الحق والتحري في ذلك‪:‬‬
‫إن هذا الصل العظيم أل وهو طلب الحق والتحري للوصول‬
‫إليه يقوي وحدة صف العاملين لتحكيم شرع الله‪ ,‬وهو من أهم‬
‫سمات الربانيين الذين صفت نفوسهم وتطهرت قلوبهم بكتابا‬
‫الله وسنة رسوله ×‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن الله تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬بين أنه ل يوجد منزلة ثالثة بين‬
‫الحق والباطل‪ ,‬فقال سبحانه‪+ :‬فللماًلذاً بليكعلد اًلكلحبق إرلل اًل ل‬
‫ضلليل" ]يونس‪.[32 :‬‬
‫قال القرطبي ‪-‬رحمه الله ‪» :-‬قال علماؤنا‪ :‬حكمت هذه الية‬
‫بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسالة التي‬
‫هي توحيد الله تعالى‪ ،‬وكذلك هو المر في نظائرها‪ ،‬وهي مسائل‬
‫الصول فإن الحق فيها في طرف واحد«)‪.(1‬‬
‫والحق لبد فيه من اليقين‪ ،‬ول يكفي فيه مجرد الظن‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪+ :‬إرلن اًلظللنَ لل يييغكرنيِ رملنَ اًلكلحبق لشكيْحئاً إرلن اًلل لعرليْرمُ برلماً يليكفلعيلوُلن" ]يونس‪.[36 :‬‬
‫قال ابن كثير‪» :‬أي ل يجدي شيئا ول يقوما أبدا مقاما الحق«)‪,(2‬‬
‫وقد عد النبي × رد الحق وعدما قبوله‪ ،‬من الكبر الذي هو من‬
‫أشنع الخصال وأردأ الفعال‪.‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬اًلكبر بطر اًلحق وغمط اًلناًس« )‪.(3‬‬
‫إن بطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتكبرا واستعلء‪ ،‬وأما‬
‫غمط الناس فهو احتقارهم‪.‬‬
‫إن الحق هو ما دلت عليه نصوص الكتابا والسنة‪ ،‬وعلى كل‬
‫مسلم أن يتبع‬
‫ر‬
‫ف لع لكيْهكمُ‬‫يِ فللل لخكوُ ر‬ ‫ر‬
‫كل دليل شرعي علمه وتبينه‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬فللمنَ تلبلع يهلداً ل‬
‫لولل يهكمُ يلكحلزينَوُلن" ]البقرة‪.[38 :‬‬
‫ومن أهم الوسائل التي تعين على طلب الحق والتحري في‬
‫ذلك‪ ،‬تقوى الله عز وجل‪ ،‬والخلص والتجرد‪ ،‬واللجوء إلى الله عز‬
‫وجل والفتقار إليه‪ ،‬وتدبر الكتابا والسنة واتباع سبيل السابقين‬
‫الولين‪ ،‬والصحبة الطيبة‪.‬‬
‫هـ‪ -‬تحقيق الخوة بين أفراد المسلمين‪:‬‬
‫إن من الصول العظيمة التي تحقق وحدة الصف وقوة‬
‫التلحم‪ ،‬ومتانة التماسك بين أفراد المسلمين تحقيق الخوة في‬
‫أوساطهم‪ ،‬إن الخوة منحة من الله عز وجل‪ ،‬يعطيها الله‬
‫للمخلصين من عباده والصفياء والتقياء من أوليائه وجنده وحزبه‪.‬‬
‫ك اًل هوُ اًلرذيِ أليللدلك برنلصررهر‬
‫ك‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لورإن يمررييدواً لأن يلكخلديعوُلك فلرإلن لحكسبل ل ي ي ل‬
‫)( الجامع لحكاما القرآن )‪.(8/336‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرآن العظيم )‪.(4/255‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا تحريم الكبر )‪.(1/65‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪160‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ت بليكيْلنَ قيييلوُبررهكمُ لولركلنَ اًلل ألل ل‬


‫ف‬ ‫ت لماً رفيِ اًللكر ر‬
‫ض لجرميْحعاً لماً ألللف ك‬ ‫لورباًلكيمكؤرمرنيْلنَ ‪ ‬لوألل ل‬
‫ف بليكيْلنَ قيييلوُبررهكمُ لكوُ ألنَلفكق ل‬
‫بل كييْينلييهكمُ إرنَلهي لعرزيرز لحركيْرمُ" ]النفال‪.[63 ،62 :‬‬
‫وهي قوة إيمانية تورث شعورا عميقا بعاطفة صادقة ومحبة‬
‫وود‪ ،‬واحتراما‪ ،‬وثقة متبادلة‪ ،‬مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد‬
‫ومنهج السلما الخالد‪ ،‬يتبعها ويستلزمها تعاون وإيثار ورحمة وعفو‬
‫وتسامح‪ ،‬وتكافل وتآزر‪ ,‬وهي ملزمة لليمان قال تعالى‪+ :‬إرنَللماً‬
‫اًلكيمكؤرمينوُلن إركخلوُةر" ]الحجرات‪.[10 :‬‬
‫ول يوق حلوة اليمان إل من أشربا هذه الخوة‪ ،‬قال رسول‬
‫الله ×‪» :‬ثلث منَ كنَ فيْه وجد حلوة اًليماًن‪ ،‬أن يكوُن اًل ورسوُله أحب إليْه‬
‫مماً سوُاًهماً‪ ،‬وأن يحب اًلمرء ل يحبه إل اًل‪ ،‬وأن يكره أن يعوُد فيِ اًلكفر كماً‬
‫يكره أن يقذف فيِ اًلناًر«)‪.(1‬‬
‫إن القرآن الكريم يرسم لنا صورة جميلة لصحابا رسول الله‬
‫ل لواًلرذيلنَ لملعهي ألرشلداًءي لعللىَ اًلكيكلفاًر يرلحلماًءي بلي كيْينلييهكمُ تليلراًيهكمُ يرلكحعاً‬
‫×‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬محلمرد لرسوُيل اً ر‬
‫ي‬ ‫يل‬
‫سيجوُد" ]الفتح‪.[29 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ضلوُاًحنَاً سيْلماًيهكمُ فيِ يويجوُههمُ بمكنَ ألثلرر اًل م‬ ‫ضلح بمنَ اً ر‬
‫ل لور ك‬ ‫يسلجحداً يليكبتلييغوُلن فل ك ل‬
‫إن القرآن الكريم حين وضع بين دفتيه هذه الصورة‪ ،‬إنما‬
‫يخبرنا بتكريم الله عز وجل فهم ‪+‬ألرشلداًءي لعللىَ اًلكيكلفاًر يرلحلماًءي بل كييْينلييهكمُ"‪.‬‬
‫أشداء على الكفار ولو كان فيهم الباء والقرابة والبناء‪ ،‬رحماء‬
‫بينهم‪ ،‬وهذه الخوة في الحق‪ ،‬أخوة في الدين‪ ،‬إن الخوة في الله‬
‫من أهم السبابا التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن‬
‫التي تنزل بالمسلمين‪ ،‬كما أن الفهم المتبادل والكامل للخوة في‬
‫الله من أسبابا تماسك صفوف المسلمين وقوتهم‪ ,‬ومن أسبابا‬
‫شموخهم والتمكين لهم)‪ ،(2‬إن النبي × اعتمد على معاني الخوة‬
‫وعمل على تحقيقها وجعلها من الوسائل المهمة في بناء المجتمع‬
‫السلمي والدولة السلمية‪ ،‬وأن أهمية هذا الساس تظهر في‬
‫الجوانب التالية‪:‬‬
‫‪ -‬إن أي دولة ل يمكن أن تنهض وتقوما إل على أساس من‬
‫وحدة المة وتساندها‪ ،‬ول يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم‬
‫بغير التآخي والمحبة المتبادلة‪ ،‬فكل جماعة ل تؤلف بينها آصرة‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا حلوة اليمان )‪.(1/11‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬رسالة التعاليم‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد الله الخطيب‪ ،‬ص ‪.296‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪161‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المودة والتآخي الحقيقية‪ ،‬ل يمكن أن تتحد حول مبدأ ما‪ ،‬وما لم‬
‫يكن التحاد حقيقة قائمة في المة أو الجماعة‪ ،‬فل يمكن أن تتألف‬
‫منها الدولة‪ .‬على أن التآخي لبد أن يكون مسبوقا بعقيدة يتم‬
‫اللقاء عليها واليمان بها‪ ،‬فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما‬
‫بفكرة أو عقيدة مخالفة للخرى خرافة ووهم‪ ،‬خصوصا إذا كانت‬
‫تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في‬
‫الحياة العملية‪ ,‬ومن أجل ذلك فقد جعل رسول الله × أساس‬
‫الخوة التي جمع عليها أفئدة أصحابه‪ ،‬العقيدة السلمية التي جاء‬
‫بها من عند الله تعالى‪ ,‬والتي تضع الناس كلهم في مصاف‬
‫العبودية الخالصة لله تعالى دون العتبار لي فارق إل فارق‬
‫التقوى والعمل الصالح‪ ،‬إذ ليس من المتوقع أن يسود الخاء‬
‫والتعاون واليثار بين أناس شتتتهم العقائد والفكار المختلفة‬
‫فأصبح كل منهم ملكا لنانيته وأهوائه‪.‬‬
‫إن المجتمع ‪ -‬أي مجتمع ‪ -‬إنما يختلف عن مجموعة ما من‬
‫الناس منتشرة متفككة بشيء واحد هو قياما مبدأ التعاون‬
‫والتناصر فيما بين أشخاص هذا المجتمع‪ ،‬وفي كل نواحي الحياة‬
‫ومقوماتها‪ ،‬فإن كان هذا التعاون والتناصر قائمين دون ميزان‬
‫العدل والمساواة فيما بينهم‪ ،‬فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف‪.‬‬
‫وإذا كان المجتمع المسلم إنما يقوما على أساس من العدالة‬
‫في الستفادة من أسبابا الحياة والرزق‪ ،‬فما الذي يضمن سلمة‬
‫هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟‬
‫إن الضمانة الطبيعية والفطرية الولى لذلك‪ ،‬إنما هي التآخي‬
‫والتآلف‪.‬‬
‫إن تحقق مبادئ العدالة والمساواة بين الفراد‪ ،‬فإنها ل تحقق‬
‫ما لم تقم على أساس من التآخي والمحبة فيما بينهم‪ ،‬بل إن هذه‬
‫المبادئ ل تعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين‬
‫أفراد ذلك المجتمع‪ ,‬ومن شأن الحقاد والضغائن أن تحمل في‬
‫طيها بذور الظلم والطغيان في أشد الصور والشكال‪.‬‬
‫من أجل هذا اتخذ رسول الله × من حقيقة التآخي الذي أقامه‬
‫بين المهاجرين والنصار أساسا لمبادئ العدالة الجتماعية التي‬
‫قاما على تطبيقها أعظم وأروع نظاما اجتماعي في العالم‪ ،‬ولقد‬
‫تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكاما وقوانين شرعية‬
‫ملزمة‪.‬‬
‫ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك »الرضية« الولى‪،‬‬

‫‪162‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫أل وهي الخوة السلمية ولول هذه الخوة العظيمة التي تأسست‬
‫بدورها على حقيقة العقيدة السلمية لما كان لتلك المبادئ أي أثر‬
‫تطبيقي وإيجابي في شد أزر المجتمع السلمي ودعم كيانه)‪.(1‬‬
‫لم يكن ما أقامه الرسول × بين أصحابه من مبدأ التآخي‬
‫مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم‪ ،‬وإنما كان حقيقة‬
‫عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلقات القائمة بين النصار‬
‫والمهاجرين‪ ،‬ولذلك جعل النبي × من هذه الخوة مسئولية‬
‫حقيقية تشيع بين هؤلء الخوة‪ ,‬وكانت هذه المسئولية محققة‬
‫فيما بينهم على خير وجه‪ .‬لقد كانت رابطة الخوة بين الصحابة‬
‫الكراما من أسبابا قوتهم ونصرة الله لهم‪.‬‬
‫إن مناط الخوة وأساسها‪ ،‬إنما هو رابط السلما وعقيدته‬
‫الصحيحة وهي من أهم أسبابا وحدة الصف‪ ،‬وقوة البنيان بين‬
‫أفراد المة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى‪ ،‬كما ل‬
‫ننسى أن من أسبابا وحدة صفوف المة‪ :‬العلم النافع‪ ،‬والخلص‬
‫وتجريد المتابعة‪ ،‬وغير ذلك من السبابا المعنوية التي جاءت في‬
‫كتابا الله وسنة رسوله × لتوحيد صفوف المة إل أنني ذكرت‬
‫أهمها خوفا من الطنابا والطالة‪.‬‬
‫إن التحابب بين المسلمين والحرص على روابط الخوة‬
‫المستمدة من اليمان والعقيدة سر قوة المة‪ ،‬ومفتاح نجاحها‪.‬‬
‫***‬

‫)( انظر‪ :‬فقه السيرة‪ ,‬د‪ .‬البوطي‪ ،‬ص ‪.201‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪163‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫الســــــــبابا الماديـــــــة‬
‫بعد أن بينت أهم أسبابا التمكين المعنوية رأيت من المناسب‬
‫أن أتطرق إلى السبابا والوسائل المادية المهمة‪ ،‬من تدريب‪،‬‬
‫وإعداد عدة‪ ،‬وتوفير كوادر في كل مناشط الحياة‪ ،‬وهذا يحتاج إلى‬
‫تخطيط وإدارة واعية‪ ،‬وتنظيم متين يشرف على إعداد خطة بينة‬
‫المعالم‪ ،‬محددة الهداف‪ ،‬متطورة المناهج‪ ،‬شرعية في أسبابها‬
‫ووسائلها‪ ،‬ل تعتمد على الشخاص والفراد وإنما تهتم بنظاما‬
‫المؤسسات حتى يستمر النشاط ويتطور ويراعى الوصول إلى‬
‫المعلومات الصحيحة‪ ،‬والحصاءات الدقيقة‪ ،‬وتعتمد على‬
‫الدراسات والمكانات‪ ،‬والتحليلت العلمية‪ ،‬والمقارنات‬
‫الموضوعية والمكانات المادية والبشرية القائمة والمحتملة‪،‬‬
‫وتدرس جميع العوائق المادية والمعنوية‪ ،‬الداخلية والخارجية‪،‬‬
‫الواقعية والمتوقعة‪ ،‬دون تهويل أو تهوين‪ .‬ويشرف على وضع هذه‬
‫الفاق والخطط البعيدة جهاز متخصص متكامل من خبراء‬
‫ضا يستعينون بكل من‬ ‫متمكنين‪ ,‬متنوعي الثقافة يكمل بعضهم بع ل‬
‫يرون الستفادة منه برأي أو معلومة‪ ،‬من أفراد أو أجهزة أو لجان‬
‫متخصصة‪ ,‬ومن الضروري بمكان أن تهتم الحركة بمبدأ التفرغا‪،‬‬
‫والتخصص‪ ،‬ومراكز المعلومات وبالعداد المادي‪ ،‬والمني‬
‫والسياسي والعلمي والعسكري‪.‬‬
‫أولل‪ :‬التفرغا‪ ،‬والتخصص‪ ،‬ومراكز البحوث‪:‬‬
‫أ‪ -‬التفرغا‪:‬‬
‫إن من أسبابا التمكين لهذا الدين والنطلق بدعوة الله بين‬
‫الناس أن تهتم الحركات السلمية على المستوى القطري‪،‬‬
‫والقليمي والدولي بمبدأ التفرغا لصحابا القدرات المتميزة في‬
‫المواقع المهمة‪ ,‬وخصوصا في مجال العلم والفكر‪ ،‬ومجال التربية‬
‫والتكوين‪ ،‬ومجال الدعوة والعلما‪ ،‬ومجال السياسة والتخطيط‪،‬‬
‫ومجال القتصاد والمال‪ ،‬ومجال المن والستخبارات‪ ،‬وكل‬
‫مجالت الحياة اللزمة لتحكيم شرع الله على جميع أفراد الشعب‬
‫ومؤسسات الدولة‪.‬‬
‫إن العمال العظيمة تحتاج إلى أوقات كبيرة وجهود ضخمة‬
‫وهمم عالية‪ ،‬ولذلك تضطر الحركة السلمية إلى مبدأ التفرغا مع‬

‫‪164‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫التنوع والتكامل‪ ،‬حتى تسد كل الثغرات في العمل السلمي‪ ،‬ول‬


‫يقع تركيز في جانب فيتضخم على جانب آخر فيهمل‪ ،‬ول بد من‬
‫توفير المال اللزما لهذه المشاريع لنها من أعظم القربات إلى‬
‫الله تعالى‪ ,‬كما يجوز أخذ مال الزكاة أو الصدقة أو الوقف أو‬
‫الوصية أو الهبة أو الهدية لسد هذه الثغرات المهمة‪.‬‬
‫كما ينبغي توفير كل ما يحتاجه المتفرغا وذووه من الجر‬
‫الكافي حتى يتفرغا للعطاء والبذل مع مراعاة عدما السراف‬
‫والبذخ‪ ,‬ولبد من الخوف من الله تعالى عند اختيار المتفرغا بحيث‬
‫يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب دون محاباة لعمرو أو‬
‫يِ اًللرميْينَ" ]القصص‪.[26 :‬‬
‫ت اًلكلقروُ م‬ ‫زيد ‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬إرلن ل ك‬
‫خيْيلر لمرنَ اًكستلأكلجكر ل‬
‫)‪(1‬‬

‫با‪ -‬إعداد المختصين‪:‬‬


‫من الضرورات اللزمة التوجه لعداد متخصصين في جوانب‬
‫الحياة كافة‪ ،‬إن عصرنا في حاجة شديدة للتخصص الدقيق‪ ،‬فإن‬
‫الذكاء وحده والعقل اللمعي وحده ل يكفي والمواهب وحدها ل‬
‫تكفي‪ ،‬والموسوعية في كل فن والفتاء في كل علم ل يفيد‪.‬‬
‫فالذي يفيد الدراسة العلمية المتخصصة‪ ،‬القادرة على أن‬
‫تساير العصر‪ ،‬وتلبي الحاجة وتتقن العمل الذي يسند إليها‪ ,‬وهذا‬
‫الحسان أو التقان ل يتم في عصرنا إل بالتخصص‪ ،‬وما ل يتم‬
‫الواجب إل به فهو واجب‪.‬‬
‫موضوعا‬
‫ل‬ ‫يقول الدكتور القرضاوي في هذا البابا‪) :‬خذ مثل‬
‫كالعلما‪ ،‬وما يتطلبه من تخصصات متنوعة‪ ,‬إن كتابة النص علم‪،‬‬
‫وكتابته في صورة حوار علم‪،‬وإخراجه علم‪ ،‬وأداؤه وتنفيذه علم‪،‬‬
‫وتسويقه علم‪ ،‬والخراج الذاعي غير الخراج التلفزيوني‪ ،‬غير‬
‫الخراج المسرحي‪.(2) (...‬‬
‫إن الحركات السلمية غنية بالنوابغ والقدرات والكفاءات‬
‫القادرة على أسلمة كل المواقع الحيوية والمفصلية في الحياة‬
‫وإنما تحتاج إلى ترتيب أولوياتها وتوجيه طاقاتها بحيث ل تتكدس‬
‫ول تتراكم النوابغ في مجالت الهندسة والطب والصيدلة‪ ،‬وإنما‬
‫تتوزع على مواقع أخرى في الدراسات النسانية والجتماعية من‬
‫علوما النفس والتربية والجتماع والقتصاد والعلوما السياسية‬
‫بحيث تدخل أدمغة الحركات السلمية في صميم مجتمعاتها ول‬
‫)( انظر‪ :‬أولويات الحركة السلمية للقرضاوي‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.195‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪165‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تترك أي مجال حيوي يؤثر في الحياة النسانية‪.‬‬


‫إن مبدأ التخصص يعين الحركات السلمية على سد الثغرات‬
‫المتعددة في جوانب الحياة المتنوعة والتي لبد من دخولها من‬
‫أجل التمكين لدين الله تعالى‪.‬‬
‫إن اليهود والنصارى والملحدة تسابقوا للهيمنة على الدراسات‬
‫النسانية والجتماعية من علوما النفس والتربية والقتصاد‪،‬‬
‫والعلوما السياسية والعلمية والقتصادية لعلمهم أن ذلك يمكنهم‬
‫من الصدارة في توجيه المم والمجتمعات ولم يتركوا حتى مجال‬
‫الدبا والقصة والنقد )‪..(1‬إلخ‪.‬‬
‫جـ‪ -‬الهتماما بمراكز المعلومات والبحوث‪:‬‬
‫إن الهتماما بمراكز البحوث وتطوير مراكز المعلومات من أهم‬
‫حاجات العصر وأولوياته‪ ,‬وإسناد هذه المور إلى متخصصين ذوي‬
‫كفاءات عالية يشرفون على تسيير أجهزة متطورة تلئم العصر‬
‫وتطوراته واحتياجاته ومشاكله وهمومه‪.‬‬
‫لقد تعددت مصادر المعلومات والثقافات‪ ،‬وتقدمت وسائل‬
‫الحصول عليها‪ ،‬ووسائل تخزينها ثم تصنيفها‪ ،‬ثم الستفادة منها‬
‫عند الحاجة والفائدة‪ ،‬ولذلك لبد من الستفادة منها حتى نملك‬
‫معلومات كافية عن أعدائنا‪ ،‬وأصدقائنا وأنفسنا‪.‬‬
‫ولقد ساهمت بعض المراكز في توعية المة وترشيدها‪،‬‬
‫وتوضيح الخطار المحيطة بها وعالجت بعض المشاكل الواقعة‬
‫فيها ومن هذه المراكز‪:‬‬
‫‪ -1‬معهد اًلدراًساًت اًلسيْاًسيْة فيِ باًكستاًن‪:‬‬
‫تأسس المعهد في إسلما آباد عاما ‪1399‬هـ ‪1979 -‬ما مع بداية‬
‫القرن الخامس عشر الهجري‪ ،‬ليكون أول معهد من نوعه في‬
‫العالم السلمي لتبني قضايا المة السلمية ووحدتها‪ ،‬وهو معهد‬
‫بحثي تدريبي يقوما بالبحوث والدراسات التي تتعلق بالسياسات‬
‫العامة ورسم الستراتيجيات‪.‬‬
‫قاما المعهد بحوارات متخصصة حول القضية الفغانية والنظاما‬
‫العالمي الجديد والحكومة السودانية والقضية الفلسطينية‪،‬‬
‫والخطار المحدقة بباكستان‪ ،‬وعقد ندوات ومؤتمرات لخدمة‬
‫قضايا المة في المحيط المحلي‪ ،‬والقليمي والعالمي‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬أولويات الحركة السلمية للقرضاوي ص ‪.195‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪166‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫كما ضم المعهد العديد من الوحدات والقساما أهمها‪ :‬وحدة‬


‫الشئون العالمية للعالم السلمي‪ ،‬وحدة الشئون القتصادية‪،‬‬
‫دراسات المرأة‪ ،‬التعليم‪ ،‬تنمية الموارد البشرية‪ ،‬الشئون‬
‫الباكستانية والكشميرية‪ ،‬القسم العربي‪ ،‬وحدة المعلومات‪.‬‬
‫أصدر هذا المعهد تقريرا سياسيا أسبوعيا )قضايا دولية( ساهم‬
‫في رفع مستوى الوعي السياسي بين أفراد المة‪.‬‬
‫‪ -2‬مركز اًلبحوُث واًلدراًساًت فيِ قطر‪:‬‬
‫تشرف وزارة الوقاف والشئون السلمية في قطر عليه‬
‫ويهتم بتشجيع العلماء والباحثين الذين يهتمون بمعالجة قضايا‬
‫الحياة المعاصرة‪ ،‬ومشكلتها‪ ،‬ويهتمون بالتحصين الثقافي والتغيير‬
‫الحضاري‪ ،‬وترشيد الصحوة في ضوء القيم السلمية‪ ،‬واستطاع‬
‫المركز أن يقدما للمة مجموعة من البحوث اتسمت بالصالة‬
‫والحاطة والموضوعية والمنهجية‪ ,‬وأضافت هذه البحوث شيئا‬
‫جديدا للقارئ المسلم وأصدرت هذه البحوث في كتب نافعة تحت‬
‫سلسلة كتابا المة ساهمت مساهمة فعلية في توجيه أبناء المة‬
‫نحو الخير والرشاد والسداد ومن أهم هذه الكتب‪:‬‬
‫‪ -1‬مشكلت في طريق الحياة السلمية‪ ،‬لمحمد الغزالي‪.‬‬
‫‪ -2‬الصحوة السلمية بين الجمود والتطرف‪ ،‬د‪ .‬يوسف‬
‫القرضاوي‪.‬‬
‫‪ -3‬حول إعادة تشكيل العقل المسلم‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خليل‪.‬‬
‫‪ -4‬الستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري‪ ،‬د‪ .‬محمود‬
‫حمدي‪.‬‬
‫‪ -5‬الحرمان والتخلف في ديار المسلمين‪ ،‬د‪ .‬نبيل صبحي‬
‫الطويل‪.‬‬
‫‪ -6‬البنوك السلمية‪ ،‬د‪ .‬جمال الدين عطية‪.‬‬
‫‪ -7‬المدخل إلى الدبا السلمي‪ ،‬د‪ .‬نجيب الكيلني‪.‬‬
‫‪ -8‬إخراج المة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها‪ ،‬د‪ .‬ماجد‬
‫عرسان‪.‬‬
‫‪ -9‬اليهود والتحالف مع القوياء‪ ،‬د‪ .‬نعمان السامرائي‪.‬‬
‫‪ -10‬وثيقة مؤتمر السكان والتنمية‪ ،‬د‪ .‬الحسيني جاد‪.‬‬
‫‪-11‬في الغزو الفكري‪ ،‬د‪ .‬أحمد السايح‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -12‬الصياغة السلمية لعلم الجتماع‪ ،‬منصور زويد‪.‬‬


‫‪ -13‬المسلمون في السنغال‪ ،‬معالم الحاضر وآفاق المستقبل‬
‫للستاذ عبد القادر محمد سيل‪.‬‬
‫‪ -14‬المخدرات من القلق إلى الستعباد‪ ،‬د‪ .‬محمد الهواري‪،‬‬
‫وغير ذلك من الكتب النافعة والمؤصلة التي أفادت المة‪.‬‬
‫إن هذه الدراسات المنهجية المدروسة والتي يقوما عليها أهل‬
‫التخصص لها أثرها في نهضة المة والخذ بيدها نحو الرقى‬
‫والتقدما والزدهار والتمكين لدين الله تعالى‪.‬‬
‫‪ -3‬مركز اًلدراًساًت اًلستراًتيْجيْة فيِ اًلسوُداًن‪:‬‬
‫أصدر هذا المركز كتابا الستراتيجية القومية الشاملة )‪1992‬‬
‫‪2002 -‬هـ( ودل الكتابا على جهد مشكور‪ ،‬وعمل متواصل‪،‬‬
‫وإحكاما دقيق من حيث التخطيط‬
‫ووضوح الهداف‪ ،‬وبيان الوسائل وتحديد المراحل لكل شئون‬
‫الدولة السلمية في السودان فمثل‪:‬‬
‫‪ -‬وضع المركز أبحاثا قيمة في قطاع التنمية الجتماعية‪ ,‬واهتم‬
‫بالجوانب الخلقية‪ ,‬وبالرقي الجتماعي‪ ،‬والرعاية الجتماعية‪،‬‬
‫ورعاية الطفولة‪ ،‬والشبابا والمرأة‪ ،‬والتكافل‪ ،‬والعمل التطوعي‬
‫والخيري‪ ،‬والتعليم العالي‪ ،‬والتعليم العاما‪ ،‬والتخطيط العمراني‬
‫والسكان‪ ،‬وتنمية السياحة والرياضة والبيئة‪.‬‬
‫ولقد ظهرت آثار طيبة في المجتمع السوداني بفضل الله ثم‬
‫بالجهود المشكورة والتخطيط السليم الذي أشرف على تنفيذه‬
‫قطعت أشواط في توسيع التعليم‬ ‫أبناء المسلمين في السودان‪ ،‬ف ع‬
‫وإنشاء الجامعات‪ ,‬وظهرت الخدمات الجتماعية لكل قطاعات‬
‫الشعب مع ما تمر به الدولة من تضييق عالمي ومحاربة علنية‬
‫لمشروعها الحضاري السلمي الذي قامت من أجله‪.‬‬
‫‪ -‬وفي قطاع الثقافة والعلما‪ ،‬بين المركز الهداف والدوار‬
‫والدوات والمراحل اللزمة للسياسة الثقافية‪ ،‬وتشريعاتها‬
‫معتمدين في ذلك على التخطيط الحديث والعبقرية السلمية‬
‫والعقلية اليمانية‪ .‬واستطاع العلما في السودان أن يحقق بعض‬
‫أهدافه وكانت له مساهمات واضحة في إحياء روح الجهاد وكشف‬
‫مخططات العداء بواسطة وكالت النباء وشبكات التصال‬
‫ومجال العلما اللكتروني والعلما الداخلي والخارجي‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫‪ -‬أما في مجال العلوما والتقنية فبين المركز المواجهات‬


‫والهداف ومراحل التنفيذ والوسائل من معلومات وبحوث‬
‫ومؤسسات وطاقات بشرية‪ ,‬ونظم قانونية‪ ،‬وإمكانات مادية‪,‬‬
‫وبرمج ذلك في برامج واضحة للعالم‪.‬‬
‫وظهرت للوجود الكوادر السودانية في مجال النفط والتنقيب‬
‫عن المعادن‪ ,‬وأصبح السودان ينتج النفط وبعد قليل بإذن الله‬
‫تعالى سيصدره‪.‬‬
‫‪ -‬أما قطاع السياسة والنظاما العالمي‪ ،‬فقد وضح معنى الحكم‬
‫التحادي والنظاما السياسي‪ ،‬والعمل النقابي والفئوي‪ ،‬والنظاما‬
‫العدلي‪ ،‬وتعرض للجبهة الداخلية الجنوبية ومحاور التحرك لتحقيق‬
‫السلما ووضع خطة لعادة التأهيل والستيعابا والتعمير لبناء‬
‫الجنوبا‪.‬‬
‫وبفضل الله تعالى ثم بالتخطيط السليم استطاع السودان أن‬
‫يفشل مخططات العداء وأن يقطع شوطا بعيدا في قضاياه‬
‫السياسية والداخلية‪ ،‬وظهر من أبنائه أداء سياسي متميز ونبوغا فذ‬
‫أقنع الصدقاء والعداء بقدرتهم في إدارة اللعبة السياسية‪.‬‬
‫‪ -‬وفي قطاع العلقات الخارجية‪ ،‬تعرض المركز للتغييرات‬
‫السياسية الدولية للعقد المقبل‪ ،‬وطبيعة القوى السياسية في‬
‫الحياة الدولية‪ ،‬وتوازن المصالح وتوازن القوى‪ ،‬ووضع الهداف‬
‫العليا لسياسة السودان الخارجية في السياسة القليمية والدولية‪،‬‬
‫وتعرض للمواجهات وللوسائل في تحقيق العلقات الخارجية‪،‬‬
‫ووضع خططا وبرامج لتدعيم وزارة الخارجية وتطوير الوزارة في‬
‫مجالتها البشرية والمادية وأجهزتها ومعداتها‪.‬‬
‫وحقق السودان بفضل الله تعالى انتصارات رائعة في‬
‫السياسة الدولية واستطاع أن يعقد علقات متينة مع دول قوية‬
‫مثل الصين‪ ،‬وروسيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬كما استطاع أن يشكل علقات‬
‫حيوية مع جنوبا إفريقيا‪ ،‬ونيجيريا وغيرها من الدول السلمية‬
‫والعربية والسيوية والفريقية‪.‬‬
‫إن السودان اليوما يمثل تجربة رائعة وفريدة من نوعها لنصار‬
‫المشروع السلمي الحضاري‪ ،‬وسوف نتعرض للتجربة السودانية‬
‫عند تكلمنا عن مراحل التنفيذ واختيار السلميين لخيار القوة في‬
‫الوصول للحكم‪.‬‬
‫‪ -‬أما في قطاع المن والدفاع‪ ،‬فبزين المواجهات والهداف‪،‬‬

‫‪169‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ووضع المبادئ الساسية للشرطة والبرامج الرئيسية في مجال‬


‫منع الجريمة واكتشاف ما يقع منها‪ ،‬ووضع قانونا للوراق الثبوتية‬
‫والهجرة وتأهيل رجال الشرطة على مستوى الضباط وضباط‬
‫الصف‪ ،‬وتزويدهم بكل الوسائل الحديثة لداء مهمتهم على أكمل‬
‫وجه‪.‬‬
‫إن الشعب السوداني بكل فصائله عندما يقارن بين الحالة‬
‫المنية في عهد النقاذ ومن قبلهم يسلم بأن الدولة السلمية‬
‫استطاعت بفضل الله أن تحقق المن والسلمة لمواطنيها‬
‫والفضل ما شهدت به العداء‪.‬‬
‫إن من أهم السبابا المادية التي يجب علينا أن نهتم بها في عملنا‬
‫الدءوبا لتمكين دين الله الهتماما بالتفرغا وإعداد المتخصصين‪،‬‬
‫وإنشاء المراكز التي تهتم بالبحاث والعلوما‪.‬‬
‫ثانيلا‪ :‬التخطيط والدارة‪:‬‬
‫إن التخطيط السليم والدارة الناجحة في العمل السلمي من‬
‫السبابا الكيدة في التمكين لدين الله تعالى‪ ،‬ولقد عرف بعض‬
‫الباحثين التخطيط بأنه »جسر الحاضر والمستقبل«)‪.(1‬‬
‫إن التخطيط في المفهوما القرآني هو الستعداد في الحاضر‬
‫لما يواجه النسان في عمله أو حياته في المستقبل‪ ،‬وعلى هذا‬
‫فإن الداري المسلم يكون قد عرف التخطيط لن الله تبارك‬
‫وتعالى قد وجه إلى ذلك في آيات كثيرة‪.‬‬
‫ك رملنَ اًلمدنَكيليْاً"‬ ‫قال تعالى‪+ :‬واًبكيتلرغ فريْماً آلتاًلك اًل اًللداًر اًللرخرلة ولل لتنس نَل ر‬
‫صيْبل ل‬ ‫ل‬ ‫ي ل ل ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫]القصص‪.[77 :‬‬
‫إنه توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الخرة‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لوألرعمدواً ليهكمُ لماً اًكستلطلكعيتمُ بمنَ قييلوُةة لورمنَ برلباًرط اًلكلخكيْرل‪] "..‬النفال‪.[60 :‬‬
‫يقول الدكتور عبد الرحمن الضحيان‪) :‬هذه الية دعوة للدارة‬
‫السلمية بالعمل والتخطيط والستعداد بقوة لمواجهة أمر‬
‫مستقبلي قد يحدث لدار السلما وأمته‪ ،‬والقوة هنا تفهم بمفهوما‬
‫العصر‪ ،‬فقد تفهم بالقوة البدنية‪ ،‬وذلك ببناء الرجال الشداء‪،‬‬
‫القوياء في إيمانهم وأبدانهم وقوة السلح بكل أنواعه‪ ،‬وحسب ما‬
‫تخرجه المصانع من أنواع السلحة حتى القوة والطاقة الذرية‬
‫وذلك ببناء المصانع النووية السلمية وحمايتها من ضربا العداء‬
‫لها‪ ،‬وذلك كله لرهابا عدو الله وأعداء النسانية‪ ,‬وحماية دار‬
‫)( التخطيط والرقابة أساس نجاح الدارة‪ ،‬د‪ .‬عبد الفتاح ديابا حسين‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪170‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫السلما من العداء‪ ،‬كما في آية ‪+‬لوألرعمدواً ليهكمُ"‪ ,‬مفهوما التخطيط‬


‫الطويل الجل الذي يجب أن تأخذ به الدولة السلمية وإدارتها‬
‫الحكيمة حتى تحمي شوكة وقوة السلما( )‪.(1‬‬
‫إن المثلة في القرآن الكريم على أهمية التخطيط كثيرة‬
‫فمنها‪:‬‬
‫أ‪ -‬يوسف عليه السلما‪:‬‬
‫ضربا القرآن الكريم مثل للتخطيط السليم الذي قاما على‬
‫أسس منطقية فأمكن بذلك تلفي مجاعة كانت تهدد الناس جميعا‬
‫بالهلك ‪ -‬بسبب التخطيط السليم الذي قاما به يوسف عليه‬
‫السلما وهو أمين على الخزائن ‪ -‬وذلك حين فسر الرؤيا التي‬
‫ك إربنَيِ أللرىَ لسكبلع‬ ‫جاءت على لسان ملك مصر في قوله تعالى‪+ :‬لولقاًلل اًلكلملر ي‬
‫ضةر" ]يوسف ‪ [43‬وتولى‬ ‫ف وسكبع سكنبلل ة‬ ‫ر‬ ‫ة ر ة‬
‫ت يخ ك‬ ‫بليلقلراًت سلماًن يلأكيكلييهلنَ لسكبرع علجاً ر ل ل ل ي ي‬
‫يوسف عليه السلما تفسير الرؤيا فقال‪+ :‬تليكزلريعوُلن لسكبلع رسرنيْلنَ لدألحباً فللماً‬
‫صدتمكمُ فللذيروهي رفيِ يسنبيلرره إرلل قللريْلح بملماً تلأكيكيلوُلن" ]يوسف‪.[47 :‬‬
‫لح ل‬
‫إن يوسف عليه السلما فسر الرؤيا وزاد عليها أن قدما خطة‬
‫عملية تستغرق القطر كله والشعب المصري كله‪ ،‬أي أن خطته‬
‫اعتمدت على التشغيل الكامل للمة والبرمجة الكاملة للوقت‪ ،‬ثم‬
‫التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في المة‪ ،‬وهذا الذي أراده يوسف‬
‫عليه السلما وعبر عنه بقوله ‪+‬تليكزلريعوُلن" إن الذي يخطط له يوسف‬
‫عليه السلما هو مضاعفة النتاج وتقليل الستهلك‪ ،‬لن الزمات‬
‫والظروف الستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي‪ ،‬ولن سلوك‬
‫الناس في الزمات غير سلوكهم في الظروف العادية‪ ،‬استرخاء‬
‫وبطالة‪ ،‬فإن هذه المة تكون في حالة خلل خطير يحتاج إلى علج‬
‫ومعالج خبير)‪.(2‬‬
‫إن يوسف عليه السلما قسم خطته إلى ثلث مراحل‪:‬‬
‫‪ -1‬تزرعون سبع سنين دأبا‪.‬‬
‫‪ -2‬ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد‪.‬‬
‫‪ -3‬ثم يأتي عاما يغاث فيه الناس‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬الدارة في السلما نقل عن التخطيط والرقابة أساس نجاح الدارة ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.97‬‬
‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوفل‪ ،‬ص ‪.409‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪171‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وتظهر ملمح هذه الخطة في التي‪:‬‬


‫‪ -1‬الطابع الغالب على المرحلة الولى هو النتاج والدخار مع‬
‫استهلك محدود‪ ،‬فيوسف عليه السلما حدد خطط النتاج بالزراعة‬
‫وحدد استمرار النتاج الزراعي سبع سنين العمل فيها دائب ل‬
‫ينقطع‪ ،‬ومع هذا الجهد الكبير في النتاج المستمر كان هناك تحديد‬
‫واضح للستهلك يبدو في قوله‪+ :‬إرلل قلرليْلح بملماً تلأكيكيلوُلن" وأمر يوسف‬
‫بحفظ السنابل المخزونة من الغلل كاملة كما هي ‪+‬فللذيروهي رفيِ يسنبيلرره"‪.‬‬
‫‪ -2‬فإذا ما انتهت سنوات النتاج السبع‪ ،‬بما فيها من جهد‬
‫متصل دائب‪ ،‬واستهلك محدود كان على الخطة أن تقابل تحديلا‬
‫ضخما هو توفير القوات سبع سنين عجاف‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬بعد‬ ‫ل‬
‫النتاج والجهد الدائب في المرحلة الولى سيأتي تحمل أيضا في‬
‫المرحلة الثانية وهو تحمل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه‬
‫الطعاما إلى كل فم‪.‬‬
‫‪ -3‬ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق‪ ،‬ينبغي أل تأتي هذه‬
‫السنوات العجاف على كل المدخرات‪ ،‬وإنما كان يوسف عليه‬
‫صينوُلن" فكان هذا الجزء‬‫السلما واضحا في قوله ‪+‬إرلل قلرليْلح بملماً تيكح ر‬
‫المدخر هو »الخميرة« التي تستطيع بها المة أن تقابل متطلبات‬
‫البذر الجديد بعد السنوات العجاف‪ ،‬أي إعادة استثمار المدخرات‪.‬‬
‫كان على يوسف عليه السلما أن يوازن بين ثلثة جوانب‪،‬‬
‫الول النتاج‪ ،‬والثاني الستهلك‪ ،‬والثالث الدخار‪ ،‬وأن يعيد‬
‫استثمار المدخرات‪.‬‬
‫ومن طبيعة التطور أن تختلف »تفاصيل الصورة« ولكن‬
‫أساسها سيظل قائما عميقا في ديننا وتراثنا‪.(1) ..‬‬
‫وتظهر معالم التخطيط والدارة في كلمات يوسف عليه‬
‫السلما حيث إن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف‬
‫الدارة التي ل يمكن لها أن تكون فعالة بدونها‪ ،‬كما أن التخطيط‬
‫في حقيقته يعتمد على دعامتين وخمسة عناصر‪ ،‬أما الدعامتان‬
‫فهما‪ :‬التنبؤ والهداف‪ ،‬وأما العناصر فهي‪ :‬السياسات والوسائل‬
‫والدوات والموارد المادية والبشرية والجراءات والبرامج الزمنية‬
‫والموازنة التخطيطية التقديرية)‪.(2‬‬

‫)( مواقف إسلمية‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز كامل‪ ،‬ص)‪.(86 – 83‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف‪ ..‬دراسة تحليلية ص)‪(416 ، 415‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪172‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إن كتب علم الدارة والتخطيط الحديث تقول‪ :‬إنه ل إدارة‬


‫فعالة إل بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق‪ ,‬وهذا عين الذي‬
‫زاوله يوسف عليه السلما‪ ،‬لقد جاء الحكم يوما جاء وبرنامجه‬
‫الصلحي السياسي والقتصادي والجتماعي والثقافي والتربوي‬
‫والعلمي والزراعي كل ذلك في ذهنه قد أعد إعدادا كامل دقيقا‪.‬‬
‫إن دعاًمتيِ اًلتخطيْط‪ :‬اًلتنبؤ‪ ،‬واًلهداًف‪:‬‬
‫أما التنبؤ فاستشراف المستقبل واستشفاف التي‪ ،‬وهذا عين‬
‫ما كان من يوسف بما علمه الله تعالى‪ ,‬ثم نجده أيضا قد حدد‬
‫الهداف في مضاعفة النتاج وتقنين الستهلك أو ترشيده‪ ،‬ثم‬
‫تخزين الطعاما وهذا يقتضي خطة تفصيلية لن الهدف العاما الكبير‬
‫ليس شيئا إن لم يقترن بخططه التفصيلية‪ ,‬وهنا يأتي دور‬
‫السياسات والوسائل والدوات والموارد البشرية والجراءات‬
‫والبرامج الزمنية والموازنة التقديرية‪.‬‬
‫هذا هو ما فعله يوسف عليه السلما على ضوء علم الدارة‬
‫الحديث‪ ,‬وإن كان القرآن الكريم حصر كلما يوسف عليه السلما‬
‫في جمل جامعة وجيزة ولم يشر إلى تنمية النسان‪ ،‬لكنها‬
‫متضمنة قطعلا ضمن الخطة‪ ،‬لن القرآن الكريم علمنا أن النسان‬
‫إنما هو نفسيته ومضمونه ومحتواه وأن تغيير الخارج بدون تغيير‬
‫نقيرا‪.‬‬
‫ل‬ ‫الداخل ل يغير‬
‫لقد وضع يوسف عليه السلما العنصر البشري في خطته لعلمه‬
‫أنه ل تنجح خطة ليس وراءها النسان الذي ينفذها‪ ،‬وأما منهجه‬
‫في التعامل مع النسان فقد ظهر في دعوته للسجينين للتوحيد‬
‫وبذلك يكون منهجه في الرتقاء بالنسان الذي هو عدة الحضارة‬
‫ومحرك النهضة ومنفذ البرامج ومنجز المشاريع دعوته للتوحيد‬
‫وتعليمه حقيقة اليمان بالله وهذا الكون وهذه الحياة‪.‬‬
‫إن فائدة التغيير الخارجي تزول إذا لم يكن هناك إنسان أمين‬
‫على منجزات التغيير الخارجي ويحمل القيم الداخلية التي تضمن‬
‫استمرارية التغيير الخارجي‪ ،‬صحته وصدقه وأمانته‪ ،‬إن التغيير‬
‫يجب أن يمارسه النسان في المحتوى النفسي‪ ،‬فيطور وينمي‬
‫ذاته باتجاه الفضل ثم يجسد محتواه النفسي تغييرلا خارجيّا‪،‬‬
‫ويحوله إلى ممارسة وتطبيق و تحقيق‪ ،‬لن أحوال الناس‬
‫وأوضاعها الجتماعية من الفساد أو الخير ل تتغير إل إذا تغير‬
‫محتوى النسان‪ ،‬وما هو عليه من الحق أو الباطل‪ ,‬هذا هو منطق‬
‫القرآن والحياة‪ ،‬لكي يرسي نظاما لبد أن يهيئ له إنسانا أول‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إذ طورنا النظاما ومفاهيمه دون النسان ومفاهيمه فسرعان‬


‫ما يتسربا الفساد من النسان إلى النظاما‪ ،‬فيقوضه أكثر مما‬
‫يتسربا الصلح من النظاما إلى النسان فيصلحه‪ ،‬لن النانية‬
‫وحب الذات والجشع أقوى من نصوص القوانين والنظمة ما لم‬
‫تذهبها التربية الداخلية العميقة‪ ,‬والخلق الكريمة المبنية على‬
‫معرفة الله وحبه والخوف منه)‪.(1‬‬
‫إن اليات القرآنية الكريمة أشارت إلى جوانب أخرى ارتبط بها‬
‫نجاح الخطة ارتباطا مباشرا‪ ،‬وأهمها جانبان يجمعهما عنصر واحد‬
‫هو العنصر البشري وعلقته بنجاح الخطة‪:‬‬
‫‪ -1‬استعداد يوسف عليه السلما على أن يشرف على تنفيذ‬
‫هذه الخطة وكان هذا الستعداد بعد أن بدد ظلل الشك وأوهاما‬
‫التهم عن نفسه‪ ،‬وبذلك حدث التكامل القوي بين الخطة‬
‫والمخططين‪ ،‬بين حسابا الرقاما وحسابا الخلق‪ ،‬بين السس‬
‫المادية والقيم الروحية في المجتمع‪ ،‬بين الدين والحياة)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬الجانب الثاني‪ :‬يتجلى في اختيار المعاونين الذين ساعدوه‬
‫في عمله‪ ،‬فكان من رجال يوسف عليه السلما العون الصادق‬
‫على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء)‪.(3‬‬
‫كما أشارت اليات القرآنية إلى المعلومات اليقينية التي بنى‬
‫ك لسكبرع‬‫عليها يوسف عليه السلما خطته‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ثيلمُ يلأكرتيِ رمنَ بليكعرد لذلر ل‬
‫رشلداًرد يأكيككلنَ ماً قللدكمتيمُ ليهلنَ إرلل قللريْلح بملماً تيكح ر‬
‫صينوُلن" ]يوسف‪.[48 :‬‬ ‫ك‬ ‫ل لل‬
‫إن من معالم الخطة السياسية والقتصادية الناجحة أن تكون‬
‫مبنية على معلومات يقينية صادقة حقيقية ل على الخيال الشعري‬
‫المجنح الذي ل يرتبط بالواقع‪ ،‬ومن هنا صارح يوسف عليه السلما‬
‫الشعب بالشدائد التي تنتظره‪ ،‬لكنها ليست المصارحة التي تثبط‬
‫أو تقعد عن العمل‪ ,‬ولكنها التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتضاعف‬
‫من‬
‫الجهد والطاقة‪.‬‬
‫إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدبة ل تعطي بل تأخذ‬
‫وتأكل فهي تقتضي حرصا واحتياطا)‪.(4‬‬

‫انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص)‪.(418،419‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص ‪.420‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مواقف إسلمية‪ ،‬ص ‪.89 – 86‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص ‪.427‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪174‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪):-‬ثم يأتي من بعد ذلك سبع‬
‫شداد ‪ -‬ل زرع فيهن ‪ -‬يأكلن ما قدمتم لهن‪ ,‬وكأن هذه السنوات‬
‫ر‬
‫هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدما لها لشدة نهمها وجوعها‪+ :‬إرلل قلليْلح‬
‫صينوُلن" أي إل قليل مما تحفظونه وتصونونه من التهامها‪ ،‬ثم‬ ‫بملماً تيكح ر‬
‫تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة‪ ،‬التي تأتي على ما‬
‫خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب‪ ,‬تنقضي ويعقبها عاما رخاء‪،‬‬
‫يغاث الناس فيه بالزرع والماء‪ ،‬وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا‬
‫زيتا‪ .‬وهنا نلحظ أن هذا العاما‬ ‫وسمسمهم وخسهم فيعصرونها ل‬
‫الرخاء ل يقابله رمز في رؤيا الملك فهو إذن من العلم اللدني‬
‫الذي علمه الله يوسف عليه السلما‪ ،‬فبشر به الساقي ليبشر‬
‫الملك والناس‪ ،‬بالخلص من الجدبا والجوع بعاما رخي رغيد‪(...‬‬
‫)‪.(1‬‬
‫ونلحظ في اليات القرآنية الكريمة التي تكلمت عن خطة‬
‫يوسف عليه السلما عنصر المل والتفاؤل‪ ,‬وهذا المر مهم في‬
‫س لورفيْره‬ ‫الخطة الناجحة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ثيلمُ يلأكرتيِ رمنَ بليكعرد لذلر ل‬
‫ك لعاًرم رفيْره يييلغاً ي‬
‫ث اًللناً ي‬
‫صيرولن" ]يوسف‪.[49 :‬‬‫ييكع ر‬
‫ل‬
‫إن بعد الشدة التي أشار إليها يوسف انفراجا ورخاء‪ ،‬وستعود‬
‫المور بإذن الله تعالى إلى سيرتها الولى‪ ،‬ولكن بداية العودة‬
‫تكون عاما مباركا غير معهود العطاء وفرة وكثرة‪ ،‬وكأن الخير فيه‬
‫سيفيض بغير جهد‪ ،‬فهو عاما فيه يغاث الناس أي‪ :‬يسقون الغيث‪،‬‬
‫أو يغاثون‪ :‬ينجدون من الغوث‪ ،‬وكل ذلك متلزما‪» ،‬وفيه يعصرون«‬
‫إشارة أخرى إلى فيض الخير‪ ،‬فل يلجأ الناس إلى العصر للثمار إل‬
‫بعد أن تفيض عن حاجة الستهلك الساسية وهي الكل‪.‬‬
‫ولبد من المل والتفاؤل في أي خطة‪ ،‬وإل فإن كان ل أمل‬
‫فما الداعي إلى العمل‪ ،‬ولقد حرك يوسف عليه السلما دوافع‬
‫العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط‪ ،‬ثم حركها ثانية‬
‫بفتح نافذة المل)‪.(2‬‬
‫مظلوما مضطهدلا في سجن‬ ‫ل‬ ‫إن يوسف عليه السلما كان‬
‫الملك وهو يملك من المعلومات والخطط ما يجعله في محل قوة‬
‫عند المفاوضة إل أنه ل يشترط لنفسه شيئا‪ ،‬بل جادت نفسه‬
‫الزكية بالتفضل بالخير والعطاء والنصح والرشاد بدون أي مقابل‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/1994‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص ‪.428‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪175‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من الخلق‪ ،‬وهذه الخلق الكريمة والصفات الجميلة يكرما الله بها‬
‫من يريد أن يجعله قدوة لدينه ومعلما لدعوته‪ ،‬كما نلحظ أن‬
‫يوسف عليه السلما كان مستوعبا لفقه الخلف حيث إن الملك‬
‫وشعبه بعيدون عن منهج الله‪ ،‬منغمسون في مناهج الجاهلية‪ ,‬ومع‬
‫هذا التقى معهم في الخير المحض والسعي نحو إنقاذ البلد‬
‫والعباد من محنة المجاعة والقحط‪ ,‬وهذه السعة في الفهم‬
‫والستيعابا العميق يحتاجها من يتصدى لدعوة الناس ودفعهم نحو‬
‫تمكين دين الله في الرض‪.‬‬
‫لقد كان من ثمار تدبير يوسف عليه السلما وتخطيطه أن‬
‫حفظ شعلبا من الهلك والجوع وخرج من الشدائد وعاد إلى‬
‫الرخاء‪ .‬وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي‬
‫لكي ندرك أن السلما ل يقوما على التخمين أو التواكل‪ ،‬ولكنه‬
‫يهتم بأدق الساليب وأعمقها سواء في جوانب القتصاد أو‬
‫السياسة أو غيرها‪.‬‬
‫با‪ -‬من سيرة سيد الخلق × ‪:‬‬
‫إن سيرة الرسول × معلم بارز في جميع جوانب الحياة‬
‫ونلحظ من سيرته العطرة جانب التخطيط وإحكاما الدارة ودقة‬
‫التنظيم في كل مراحل دعوته‪ ،‬فإذا نظرنا مثل إلى الهجرة النبوية‬
‫نجد أن الرسول × وضع لها خطة احتوت على هذه العناصر‪:‬‬
‫تحديد الهدف‪ ،‬تنظيم الوسائل‪ ،‬رسم أسلوبا التنفيذ‪ ،‬محاولة التنبؤ‬
‫بالمستقبل‪ ،‬ولذلك‬
‫نلحظ التي‪:‬‬
‫‪ -‬تحديد اًلهدف‪:‬‬
‫لقد حدد النبي × هدفه من الهجرة‪ ،‬وهو مغادرته هو وأصحابه‬
‫مكة إلى المدينة آمنين‪ ،‬ثم نشر دعوة السلما في بيئة جديدة‬
‫تتطلع إلى رسالة ربا العالمين‪ ،‬وتدافع عن المؤمنين وتدفع عنهم‬
‫ل يلرجكد رفيِ اًللكر ر‬
‫ض يملراًغلحماً لكرثيْحراً لولسلعةح لولمنَ‬ ‫الذى‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ومنَ ييلهاًرجر رفيِ سربيْرل اً ر‬
‫ل‬ ‫لل ي ك‬
‫ر‬
‫ت فليلقكد لوقللع ألكجيرهي لعللىَ اًل لولكاًلن اًلي غليفوُحراً‬‫ل لولريسوُلرره ثيلمُ ييكدرككهي اًلكلمكوُ ي‬
‫يكخرج رمنَ بيكيْترره ملهاًرجراً إرللىَ اً ر‬
‫ل يك ل ي ح‬
‫لررحيْحماً" ]النساء‪.[100 :‬‬

‫‪ -‬تنظيْمُ اًلوُساًئل واًختيْاًر اًلمكاًن‪:‬‬


‫فحين أوحى الله إلى نبيه بالهجرة‪ ،‬كانت الوسيلة والسبيل إلى‬
‫تحقيق هذا المر‪ ،‬هو التخطيط والتدبير حتى يضمن نجاح مهمته‪،‬‬

‫‪176‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ولقد كان للهجرة مقدماتها ومنها‪:‬‬


‫‪ -1‬حسن اختيار الرسول × للمكان‪ ،‬وكان هذا بوحي من الله‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫‪ -2‬والمدينة لنها توفي بالمقصد‪ ،‬وتتناسب مع الهدف‪.‬‬
‫‪ -3‬وبها صلت القربى‪ ،‬بنو النجار أخوال جده عبد المطلب من‬
‫قبيلتي الوس والخزرج‪.‬‬
‫‪ -4‬الموقع القتصادي للمدينة حيث غنائها بمائها وزرعها‬
‫وثروتها التجارية‪.‬‬
‫‪ -5‬منيعة بحصونها ولها سيادة وسلطان بأهلها من الوس‬
‫والخزرج‪.‬‬
‫‪ -6‬تجارة مكة تمر عبرها إلى الشاما‪ ،‬لموقعها الستراتيجي‪.‬‬
‫‪ -7‬مجاورة أهلها لهل الكتابا وسماعهم منهم‪ ،‬يجعلهم أكثر‬
‫قربا للستماع للدعوة الجديدة‪.‬‬
‫* اًلتمهيْد للهجرة‪:‬‬
‫‪ -‬بيْعة اًلعقبة اًلولىَ‪:‬‬
‫كانت خير تمهيد لتنفيذ الهجرة ثم تلتها بيعة العقبة الثانية ثم‬
‫بيعة العقبة الكبرى‪ ،‬والعقبة مكان مرتفع شرقي مكة على يسار‬
‫الطريق للقاصد منى من مكة‪ ،‬ولقد لقى الرسول × في العقبة‬
‫الولى‪:‬‬
‫‪ -1‬ستة نفر كلهم من الخزرج‪.‬‬
‫‪ -2‬دعاهم وعرض عليهم السلما فاستجابوا‪.‬‬
‫‪ -3‬انصرفوا إلى المدينة وبدأوا ينشرون السلما فيها‪.‬‬
‫‪ -4‬لم تبق دار من دور النصار إل فيها ذكر لرسول الله ×‪.‬‬
‫‪ -5‬واعدوا النبي × أن يقابلوه في الموسم القادما في نفس‬
‫المكان‪.‬‬
‫‪ -‬بيْعة اًلعقبة اًلثاًنَيْة‪:‬‬
‫ولما حل الموسم جاء من المدينة اثنا عشر رجل من قبيلة‬
‫الخزرج منهم النفر الستة الذين بايعوه في العقبة الولى‪ ،‬واثنان‬

‫‪177‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من قبيلة الوس‪:‬‬


‫‪ -1‬التقى بهم رسول الله × وأسلموا جميعا‪.‬‬
‫‪ -2‬بايعوا رسول الله × على السمع والطاعة‪.‬‬
‫‪ -3‬سميت هذه العقبة ببيعة النساء لنهم لم يبايعوا على‬
‫القتال‪ ،‬وإنما على الدخول في السلما‪.‬‬
‫‪ -4‬أرسل معهم الرسول × ابن أما مكتوما ومصعب بن عمير‬
‫ليعلماهم القرآن ويفقهاهم في الدين‪.‬‬
‫‪ -5‬أسلم على يدي مصعب أكثر أهل المدينة ولذا يسمى فاتح‬
‫المدينة)‪.(1‬‬
‫بيْعة اًلعقبة اًلثاًلثة ‪ -‬أو اًلكبرىَ ‪:-‬‬
‫وفد على مكة في العالم الثالث في موسم الحج جماعة من‬
‫يثربا بلغت عدتهم ثلثة وسبعين رجل وامرأتين منهم أحد عشر‬
‫من الوس‪ ,‬فواعدهم الرسول × أن يلقاهم عند العقبة‪ ،‬فبايعهم‬
‫على السلما وعبادة الله‪ ،‬وأل يشركوا به شيئا‪ ،‬ثم على حمايته إن‬
‫قدما المدينة‪.‬‬
‫وتدل وقاًئع هذه اًلبيْعاًت اًلثلث علىَ اًلتيِ‪:‬‬
‫‪ -1‬على مبلغ ودقة الحكاما في التخطيط‪.‬‬
‫‪ -2‬نجحت هذه المرحلة التي تعتبر بمثابة العداد والتحضير‬
‫للهجرة‪.‬‬
‫‪ -3‬دقة اختيار الوقت المناسب لعقد المعاهدة وهو موسم‬
‫الحج‪ ،‬حتى ل يلفت النظار إليه من المشركين المتربصين‪.‬‬
‫‪ -4‬دقة الختيار في الموعد حيث جعل بعد ثلث الليل‪ ،‬حتى‬
‫يمكن اجتنابا العقبات التي تتوقع من المشركين‪ ،‬وكان هذا‬
‫الختيار مساعدا في نجاح الخطة‪.‬‬
‫‪ -5‬تنظيم النبي × في العقبة الثالثة للوس والخزرج وجعل‬
‫من بين السبعين اثني عشر نقيبا‪ ،‬تسعة من الخزرج وثلثة من‬
‫الوس‪ ,‬وهذا يدل على بعد نظر النبي × ومقدرته على ترتيب‬
‫وتنظيم الطاقات‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬الدعاة والتخطيط‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد الله الخطيب‪ ،‬ص ‪.61-59‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪178‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫‪ -6‬نلحظ مراعاة التدرج في تنفيذ الخطة‪ ,‬وهذا يدل على‬


‫رجاحة عقل المخطط ومراعاته لمقتضيات الحوال وسنة التدرج‬
‫للوصول إلى الهدف المنشود‪.‬‬
‫‪ -7‬مراعاة جميع الظروف المحيطة ووضع الوسائل المناسبة‪،‬‬
‫وترتب على هذا التخطيط الرشيد التي‪:‬‬
‫‪ -‬دخول بعض البشر دين السلما في البيعة الولى‪.‬‬
‫‪ -‬زيادة العدد إلى الضعف في الثانية وإرسال المربي الذي‬
‫يتعهد ويعلم ويربي النواة الولى في المدينة‪.‬‬
‫‪ -‬الوصول مع أهل يثربا إلى معاهدة دفاعية في البيعة‬
‫الخيرة‪.‬‬
‫‪ -‬تنفيذ أمر الهجرة‪.‬‬
‫تحرك المهاجرون من مكة إلى المدينة ويظهر عنصر التخطيط‬
‫الدقيق في التي‪:‬‬
‫‪ -1‬خروج المسلمين من مكة متفرقين‪.‬‬
‫‪ -2‬التزاما مبدأ السرية التامة‪.‬‬
‫‪ -3‬التحمل والصبر من أجل العقيدة والدين‪.‬‬
‫‪ -4‬كانت هجرة الصحابة رضي الله عنهم تمهيدا لخطة هجرة‬
‫النبي ×)‪.(1‬‬
‫وحان وقت الهجرة للنبي ×‪ ,‬وشرع النبي × في التنفيذ‬
‫ونلحظ التي‪:‬‬
‫‪ -1‬وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها‬
‫من صعابا وعقبات‪.‬‬
‫وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا دراسة وافية‬
‫بحيث لم عتترك ثغرة واحدة للعدو ينفذ منها‪ ,‬ولم عيترك شأن من‬
‫شئونها للمصادفة أو للحظوظ العمياء‪ ،‬فلقد تمت الرحلة المثيرة‬
‫التي لم يعرف أخطر منها في التاريخ في سبيل الحق بطريقة‬
‫سرية‪ ،‬لم يعلم بها أحد‪ ،‬وفي تكتم شديد وحرص بالغ‪ ،‬حتى لقد‬
‫قال الرسول × لبي بكر عندما أراد أن يفضي إليه بنبأ الهجرة‪:‬‬
‫»أخرج عنيِ منَ عندك؟« ول شك أن السرية في رسم الخطط هي‬

‫)( انظر‪ :‬الدعاة والتخطيط‪ ،‬ص ‪.63 -61‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪179‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ضمان النجاح وعدته‪ ،‬ولقد بلغ الحتياط مداه‪ ،‬باتخاذ طرق غير‬
‫مألوفة للقوما‪ ،‬والستعانة على ذلك بخبير يعرف مسالك البادية‬
‫ومساربا الصحراء‪ ..‬ولو كان ذلك الخبير مشركا ما داما يملك‬
‫خبرات جيدة ومحل ثقة في تنفيذ المهمة‪ ,‬واختياره × لشخصيات‬
‫عاقلة رزينة تتوقد ذكاء لتقوما بالمعاونة في شئون الهجرة‪ ،‬ووضع‬
‫× كل فرد في عمله المناسب‪ ،‬فقاما علي ‪     ‬‬
‫‪ ,×  ‬وحققت تلك الفكرة أهدافها وخرج رسول الله ×‬
‫والمشركون معلقة أبصارهم بمضجع الرسول ×‪ ،‬وأحكم × أموره‬
‫وأوصى عليا ‪            ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪ ×        ‬ليقتلوه‪ ،‬وعامر بن فهيرة‬
‫الراعي يسدد أقداما المسيرة التاريخية بأغنامه كيل يستدل بها‬
‫القوما‪ ,‬ويمد النبي × وصاحبه باللحم واللبن‪ ،‬وعبد الله بن أريقط‪،‬‬
‫دليل الهجرة المين‪ ،‬وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة‬
‫إشارة البدء من الرسول الكريم × ليأخذ الركب طريقه من الغار‬
‫إلى المدينة‪ ،‬فهذا تدبير للمور على نحو رائع دقيق‪ ،‬واحتياط‬
‫للظروف بأسلوبا حكيم‪ ،‬ووضع كل شخص في مكانه المناسب‪،‬‬
‫وسد لجميع الثغرات‪ ,‬وتغطية جميلة لكل‬
‫مطالب الرحلة‪ ،‬واقتصار على العدد اللزما من الشخاص من غير‬
‫زيادة ول إسراف‪ ،‬لقد أخذ × بالسبابا المعقولة أخذا قويا حسب‬
‫استطاعته مع توكله على الله‬
‫وتفويض أمره إليه)‪.(1‬‬
‫إن تخطيط الرسول × للهجرة النبوية المباركة دليل واضح‬
‫على أن التخطيط ضروري لمزاولة أي نشاط بشري مهما يكن‬
‫نوعه‪ ،‬يستوي في ذلك أن يكون القائم به فردا أو جماعة‪ ،‬وأن‬
‫يستهدف شأنا من شئون السلم أو في شئون الحربا‪ ،‬وإذا كان‬
‫التخطيط ‪ -‬اصطلحا ‪ -‬من مستحدثات العصر فإنه معنى يضربا‬
‫بجذوره في أعماق القدما‪ ،‬قد اقترن بحياة الفرد وحياة المجتمع‬
‫منذ كان النسان على الرض‪ ،‬فقد شاء الله‬
‫‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬أن يزوده بهذه القدرة المستمدة من العقل‬
‫لحفظ الجنس البشري حتى تستمر الحياة عبر مراحل نموها‬
‫المتعاقبة‪ ،‬وكل امرئ خلقه الله في هذه الحياة يباشر التخطيط‬
‫تلقائيا في جميع خطواته وفي مختلف تصرفاته دون أن يدري‬
‫المدلول العلمي‬

‫)( انظر‪ :‬الهجرة في القرآن‪ ،‬أحزمي سامعون جزولي‪ ،‬ص ‪.363 -361‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪180‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫لما يقوما به‪.‬‬


‫فالصانع والزارع والعامل كل منهم يخطط ليومه وغده‪ ،‬إذ‬
‫يحدد مطالبه والتزاماته ويحدد قدراته على الوفاء بها مستعينا في‬
‫ذلك بحصيلة تجاربه السابقة‪ ,‬ومقدرا للظروف الطارئة المحتملة‪،‬‬
‫وهكذا فالتخطيط لبد أن يكون النسان مستخدما له في سائر‬
‫حياته لكي يستطيع أن يصل إلى أهدافه المرجوة)‪.(1‬‬
‫إن التخطيط من الفطرة التي فطر الله الناس عليها‪ ،‬ولذلك‬
‫استخدما رسول الله × التخطيط في كل مراحل دعوته‪ ,‬إيمانه‬
‫منه بأن التخطيط أساس من السس في إنجاح أي عمل من‬
‫العمال‪ ،‬ولبد منه للبلوغا إلى المقصود وأنه ركيزة أساسية يقوما‬
‫عليها هذا الدين‪ ،‬ولذلك فإن السلما قد دعانا إلى الخذ به‪ ،‬بل‬
‫وجعله نظاما لحياة المسلمين لنه ضرورة لبد منها)‪ ،(2‬وهذا‬
‫ينسجم مع الفهم الصحيح لمعنى التوكل على الله‬
‫واليمان بالقدر‪.‬‬
‫)إن العمل السلمي اليوما يتصدى لتحقيق أشرف وأعظم‬
‫إنجاز في دنيانا‪ ,‬وهو التمكين لدين الله في الرض وإقامة الخلفة‬
‫السلمية على رأس دولة السلما العالمية‪ ،‬التي تجمع كلمة‬
‫المسلمين‪ ،‬وتحكم شرع الله في الرض‪ ،‬وتسترد كل شبر أرض‬
‫اغتصبت من الوطن السلمي‪ ،‬بل وتكسب أرضا جديدة للسلما‪،‬‬
‫وذلك بتبليغ هذا الدين الحق إلى الناس كافة حتى ل تكون فتنة‬
‫ويكون الدين كله لله‪ .‬فالمر الطبيعي أن يسير العمل لتحقيق هذا‬
‫الهدف العظيم بتخطيط دقيق‪ ،‬وأل يكون ارتجاليّا أو ردود أفعال‬
‫فيقسم الهدف الكبير إلى أهداف مرحلية‪ ،‬وتوضع الخطة لكل‬
‫منها‪ ،‬والوسائل اللزمة ويتابع التنفيذ وهكذا( )‪.(3‬‬
‫إن الهتماما بأصول وقواعد التخطيط وممارسته في الحياة‬
‫الدنيا وفق التصور السلمي الصحيح من السبابا المهمة لتمكين‬
‫دين الله‪.‬‬
‫ثالثـا‪ :‬العداد القتصادي‪:‬‬
‫إن من أسبابا التمكين أن تهتم الحركات السلمية بالجانب‬
‫القتصادي‪ ،‬لن القوة القتصادية هي عصب الحياة الدنيا وقوامها‪،‬‬
‫)( انظر‪ :‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.359‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.360‬‬ ‫‪2‬‬

‫نقل عن‬
‫ل‬ ‫)( انظر‪ :‬قضايا أساسية على طريق الدعوة للستاذ مصطفى مشهور‬ ‫‪3‬‬

‫الدعاة والتخطيط‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪181‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والضعيف فيها يقهر ول يحسب له حسابا إل في ظل شرع الله‬


‫حين يحكم‪ ،‬ولذلك ينبغي على الحركات السلمية أن تعتمد على‬
‫الذات في موارد ثابتة‪ ،‬وهذا من النفرة التي أمرنا الله )عز وجل(‬
‫بإعدادها لمواجهة العداء ونشر الدين‪ ،‬والستغناء عن مد يد‬
‫الستجداء‪ ،‬مما يوفر للدعوة والدعاة حرية التحرك‪ ،‬واتخاذ القرار‬
‫دون ضغوط كابحة للنشاط السلمي من أي جهة كانت‪ ,‬إضافة‬
‫إلى ما توفره القوة المادية من ثقل إعلمي واجتماعي وسياسي‬
‫هي بأمس الحاجة إليه)‪.(1‬‬
‫كما أن حاجات العمل المتعددة تحتاج إلى أموال طائلة‬
‫لتغطيتها‪ ،‬والمطلوبا من الحركات السلمية أن تعد من رجالها‬
‫من التجار المسلمين من تظهر على سلوكه أخلق السلما في‬
‫التعاملت التجارية‪ ,‬وتزوده بالخبرات الميدانية بحيث يقتحم مع‬
‫إخوانه مجالت التجارة الدولية والسواق العالمية‪ ,‬ويعمل على‬
‫توحيد جهود التجار المسلمين وإيجاد شبكات للتعاون المثمر بحيث‬
‫يقارعون الشركات اليهودية والشيوعية والنصرانية ويبذلون ما في‬
‫وسعهم من أجل هيمنة القتصاد السلمي على السواق العالمية‬
‫ويحررون شعوبا المسلمين من سيطرة الفكر الرأسمالي الدخيل‬
‫والشيوعي‪.‬‬
‫إن على التجار المسلمين أن يستوعبوا علم القتصاد السلمي‬
‫الذي ينسجم مع تصور السلما للكون والنسان والحياة‪ ،‬والذي‬
‫في طياته حل لمتطلبات العصر الحديث وبخاصة أن العالم‬
‫السلمي يمتلك من الطاقات البشرية والمادية ما يمكنه من بناء‬
‫اقتصاد سليم قوي يواجه التيارات القتصادية المتصارعة‪ ,‬وينقذ‬
‫البشرية من الويلت القتصادية التي تعيشها‪.‬‬
‫وعليهم أن يسعوا إلى أسلمة المؤسسات القتصادية بحيث‬
‫تنسجم مع النظاما السلمي على جميع المستويات‪ ،‬كما عليهم أن‬
‫يعمقوا فاعلية المؤسسات السلمية حتى يتم تطويرها ويستفاد‬
‫من أخطائها‪ ,‬وتعالج العوائق التي تحدث في طريقها‪ ،‬ولقد نجحت‬
‫الحركة السلمية في تركيا نجاحا جيدا وأصبحت لها مؤسسات‬
‫قوية ثابتة ولها تأثير وأداء متميز في الشارع التركي‪ ،‬ولقد‬
‫استطاعت الحركة السلمية في السودان أن تخوض تجاربا رائدة‬
‫في البنوك السلمية وفي المؤسسات القتصادية وتوظيف‬
‫فريضة الزكاة لحل مشاكل المسلمين‪ ،‬وكذلك الحركات السلمية‬
‫في اليمن والردن وماليزيا وأندونيسيا‪ ،‬وأصبح بحمد الله لها بنوك‬
‫)( البيان‪ :‬العدد ‪ 118‬جمادى الخرة ‪1418‬هـ‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪182‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫إسلمية ومستشفيات ومؤسسات عملقة إل أن العداء يضيقون‬


‫عليها ويحاربونها‪.‬‬
‫إن الحركات السلمية فهمت معادلة المال وهيمنة القتصاد‬
‫فهما جيدا وأصبحت ترى التاجر المسلم من صناع الحياة‪ ،‬بل هم‬
‫صناع الصناع‪ ,‬يقول الستاذ محمد أحمد الراشد في هذا الصدد‪:‬‬
‫حا من إسرافهم القديم‬ ‫)وعلى خطة الدعوة أن تتوبا توبة نصو ل‬
‫)‪(1‬‬
‫في تعليم الدعاة كراهة المال وحب الوظائف الحكومية‪. (..‬‬
‫وطلب في كتابا صناعة الحياة من الدعاة أن يهتموا بجمع‬
‫المال ولينزل منهم نفر إلى السوق‪ ،‬لن في ذلك مردود دعوي‪،‬‬
‫وذكر اليهود الذين استحوذوا على الموال والسواق ونحن ل نجيد‬
‫إل سبهم‪ ،‬ونضجر من المارون والقباط والبهرة والقاديانية‬
‫والمبتدعة والقليات إذ كان منهم السبق إلى المال‪ ،‬بتسهيل‬
‫الدوائر الستعمارية لهم ذلك في فترة الستعمار جزما‪،‬‬
‫وبمساعدة من قوى خفية أخرى‪ ،‬ولكننا لم نحسن غير‬
‫سبهم وشتمهم‪.‬‬
‫إن قوة القتصاد السلمي ووصول الموال إلى قبضة‬
‫المسلمين ستكون عامل من عوامل قوة الدعوة السلمية‪,‬‬
‫وستتحكم المنظومة السلمية على القتصاد العالمي وستعرض‬
‫سوقا إسلمية ومنظومة شركات إسلمية‪.‬‬ ‫ل‬ ‫على العالم‬
‫وسترتفع رايات المسلمين ومعنوياتهم عندما يرون رجال‬
‫المال المسلمين الذين ينفقون أموالهم سرا وعلنية ابتغاء مرضاة‬
‫الله‪ ,‬وينطلق الدعاة في كل مكان مبشرين ومنذرين وخلفهم‬
‫مؤسسات وشركات تدعمهم وتقف بجانبهم‪ ،‬كل على ثغر‪ ،‬وكل‬
‫يسعى لتمكين دين الله في الرض‪.‬‬
‫إن العداد المالي والقوة القتصادية ستكون في خدمة المة‬
‫والدعوة والسياسة والفكر‪ ،‬وسيسند حركة التغيير الشاملة من‬
‫أجل التمكين لدين الله في الرض‪.‬‬
‫ولبد أن تهتم الحركات السلمية بميدان الصناعة والزراعة‬
‫والعقار والستيراد والتصدير‪ ،‬وبخاصة في البلد الحرة التي ل ينال‬
‫أموالنا فيها ظلم‪ ،‬وفي العالم الكبير الفسيح متسع للستثمار)‪.(2‬‬
‫إن الهيمنة على القتصاد وتحكيم شرع الله فيه جهاد‬

‫)( صناعة الحياة‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( صناعة الحياة‪ ،‬ص ‪.47 ،46‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪183‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عظيم ولها آثار على المجتمعات البشرية من أهمها‪:‬‬


‫‪ -1‬إنقاذ البشرية وبخاصة المسلمون من مساوئ النظمة‬
‫الوضعية حتى إن علماء الغربا يقولون بذلك‪ ،‬يقول جاك أوستري‪:‬‬
‫إن طريق النتماء ليس محصورا في المذهبين المعروفين بل‬
‫هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو المذهب السلمي)‪ ،(1‬وبذلك‬
‫يتحرر المسلمون من التبعية القتصادية ويبرز للعالم هذا النظاما‪،‬‬
‫ومن هنا تأتي أهمية طريق النظاما القتصادي في السلما‪ ،‬وبيان‬
‫الحكاما الشرعية لمعالجة جميع مشاكل الحياة‪.‬‬
‫‪ -2‬استغلل الموارد البشرية والمادية السلمية استغلل‬
‫اقتصاديا يؤدي إلى الرفاهية العامة للشعوبا السلمية مما يساعد‬
‫المسلمين على قياما الصناعات الثقيلة‪ ,‬وبذلك تتحقق للمسلمين‬
‫القوة والمنعة التي تحرر أراضيهم المحتلة‪ ,‬كل ذلك وفق برامج‬
‫تنمية متكاملة‪ ،‬فالسلما ليس مجرد تراث‪ ،‬بل فيه طريق التنمية‬
‫السليم‪ ،‬وبذلك ل يبقى العالم السلمي مجرد سوق مالي وسلعي‬
‫للشرق أو الغربا‪.‬‬
‫‪ -3‬وجود القتصاد السلمي يؤدي إلى الوحدة السياسية بين‬
‫شعوبا السلما‪ ،‬حيث إن القتصاد ينطلق من الشريعة‪ ،‬والشريعة‬
‫تنادي بوحدة المسلمين‪ ،‬لن وحدة القتصاد تؤدي إلى وحدة‬
‫السياسة‪ ،‬وهذا ما تسعى إليه دول غير إسلمية مثل دول السوق‬
‫الوروبية المشتركة‪.‬‬
‫‪ -4‬تحقيق القوة القتصادية والسياسية يؤدي إلى عودة‬
‫السلما إلى أيامه الزاهرة ويؤدي بالتالي إلى سيطرة السلما‬
‫على مسرح السياسة والقتصاد في العالم‪ ،‬وتصبح المة السلمية‬
‫خير أمة وأقوى قوة فكرية وحضارية ومادية في العالم‪.‬‬
‫‪ -5‬إذا بنى الفكر وبخاصة الفكر القتصادي السلمي على‬
‫أساس سليم من العقيدة والسس التي وضحناها فإن الطريق‬
‫إلى الكتشافات والمخترعات الحديثة سيكون مفتوحا‪ ،‬وستوظف‬
‫المفاهيم إلى واقع حي عملي في معترك الحياة‪ ،‬وبذلك نبعد‬
‫جميع الفكار الدخيلة على المة السلمية من رأسمالية‬
‫واشتراكية‪.‬‬
‫إن العقيدة السلمية ما جاءت إل لهداية البشر إلى ما فيه‬
‫السعادة في الدارين)‪ ،(2‬والتي من ضمنها الجانب المادي‬
‫)( السلما والتنمية القتصادية‪ ,‬جاك أوستري‪ ،‬ترجمة نبيل الطويل‪ ،‬ص ‪.1000‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظاما القتصادي في السلما‪ ,‬محمود الخطيب‪ ،‬ص ‪.75 ،74‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪184‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫القتصادي‪.‬‬
‫ولقد اهتم السلما بالموارد المالية وبين طرق الكسب‬
‫المشروع‪ ،‬كالبيوع والميراث والوصايا والهبات وغيرها‪ ،‬ووضح‬
‫طرق الكسب غير المشروع‪ ،‬كالربا والغرر‪ ،‬والغش والحتكار‬
‫وغيرها‪ ,‬وكانت موارد الدولة السلمية في زمن النبي × والخلفاء‬
‫من بعده من الزكاة‪ ,‬والغنائم والفيء‪ ،‬والخراج والتجارة‪.‬‬
‫إن الحركات السلمية التي تسعى لتقوية جوانبها القتصادية‬
‫والمالية وتوظيفها في دعوة الله تعالى قد أخذت بسبب مهم من‬
‫أسبابا التمكين المادي‪.‬‬
‫إن من القواعد المهمة في القتصاد السلمي‪ :‬العمل على‬
‫تحقيق الكتفاء‬
‫الذاتي للمة‪.‬‬
‫بمعنى أنها يجب أن يكون لديها من الخبرات والوسائل والدوات‬
‫ما يجعلها قادرة على أن تنتج ما يفي بحاجاتها المادية والمعنوية‪،‬‬
‫ويسد ثغراتها المدنية والعسكرية‪ ،‬عن طريق ما يسميه الفقهاء‬
‫فروض الكفاية‪ ،‬وهي تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة‬
‫يقوما بها أمر الناس في دينهم أو دنياهم‪ ،‬فالواجب عليهم حينئذ‬
‫تعلمهما وتعليمها وإتقانها حتى ل يكون المسلمون عالة على غيرهم‪،‬‬
‫ول يتحكم فيهم سواهم من المم الخرى‪.‬‬
‫وبغير هذا الستغناء والكتفاء‪ ،‬لن يتحقق لهم العزة التي كتب‬
‫ل اًلكرعلزةي لولرلريسوُلرره لولركليمكؤرمنريْلنَ" ]المنافقون‪.[8 :‬‬ ‫الله لهم في كتابه‪+ :‬و ر‬
‫ل‬
‫وبغيره لن يتحقق لهم الستقلل والسيادة الحقيقية‪ ,‬وهو ما‬
‫ذكره القرآن‪+ :‬لوللنَ يلكجلعلل اًلي لركللكاًفررريلنَ لعللىَ اًلكيمكؤرمنريْلنَ لسربيْلح" ]النساء‪.[141 :‬‬
‫ولن يتحقق لهم مكان الستاذية والشهادة على المم‪ ،‬وهو‬
‫المذكور في قوله سبحانه‪+ :‬لولكلذلر ل‬
‫ك لجلعكللناًيككمُ أيلمةح لولسحطاً لبتليكوُنَيوُاً يشلهلداًءل لعللىَ اًللناً ر‬
‫س‬
‫لويليكوُلن اًللريسوُيل لع لكيْيككمُ لشرهيْحداً"‬
‫]البقرة‪.[143 :‬‬
‫فل عزة لمة يكون سلحها من صنع غيرها‪ ،‬يبيعها منه ما‬
‫يشاء‪ ،‬متى شاء‪ ،‬بالشروط التي يشاء ويكف يده عنها أنى شاء‬
‫وكيف شاء‪.‬‬
‫ول سيادة حقيقية لمة تعتمد على خبراء أجانب عنها في أخص‬

‫‪185‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أمورها‪ ،‬وأدق شئونها‪ ،‬وأخطر أسرارها‪.‬‬


‫ول استقلل لمة ل تملك زراعة قوتها في أرضها‪ ،‬ول تجد‬
‫الدواء لمرضاها‪ ،‬ول تقدر على النهوض بصناعة ثقيلة‪ ،‬إل باستيراد‬
‫اللة والخبرة من غيرها‪.‬‬
‫ول أستاذية لمة ل تستطيع أن تبلغ دعوتها عن طريق الكلمة‬
‫المقروءة أو المسموعة أو المصورة المرئية إل بشرائها من أهلها‬
‫القادرين عليها‪ ،‬مادامت ل تصنع مطبعة‪ ,‬ولبد لتجار المسلمين‬
‫ورجال الموال وأهل التخصص في القتصاد من حركات إسلمية‬
‫وعموما المة أن يسلكوا سبيل الكتفاء والتحرر من التبعية الغربية‬
‫أو الشرقية‪.‬‬
‫ومن المور التي تعين على الكتفاء‪:‬‬
‫‪ -1‬ضرورة التخطيط‪:‬‬
‫لبد من التخطيط القائم على الحصاء الدقيق‪ ،‬والرقاما‬
‫الحقيقية‪ ،‬والمعرفة اللزمة بالحاجات المطلوبة ومراتبها ومدى‬
‫أهميتها‪ ،‬والمكانات الموجودة‪ ،‬ومدى القدرة على تنميتها‬
‫والوسائل الميسورة لتلبية الحاجات والتطلع إلى الطموحات‪.‬‬
‫‪ -2‬تهيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها‪:‬‬
‫ويكون ذلك بتطوير النظاما التعليمي والتدريبي‪ ،‬بحيث يهيئ لها‬
‫الطاقات والكفايات البشرية المتنوعة في كل مجال تحتاج إليه‪،‬‬
‫وأن تطور نظامها الداري والمالي بحيث تنمي هذه الطاقات‪،‬‬
‫وتحسن تجنيدها‪ ،‬وتوزيعها على شتى الختصاصات بالعدل‪ ،‬اهتداء‬
‫بقوله تعالى‪+ :‬لولماً لكاًلن اًلكيمكؤرمينوُلن لرليْنرفيرواً لكاًفلةح فلي لكوُلل نَليلفلر رمنَ يكبل فركرقلةة بم كنييهكمُ لطاًئرلفةر لرليْتليلفلقيهوُاً‬
‫رفيِ اًلبديرنَ لولرييْنرذيرواً قليكوُلميهكمُ إرلذاً لرلجعيوُاً إرلكيْرهكمُ للع ليهكمُ يلكحلذيرولن" ]التوبة‪ ,[122 :‬وملء‬
‫الثغرات التي تهمل ‪ -‬عادة أو غفلة ‪ -‬بالحوافز أو باللتزاما‪.‬‬
‫ووضع كل إنسان في المكان المناسب له‪ ،‬والحذر من إسناد‬
‫المر لغير أهله »إذاً وسد اًلمر إلىَ غيْر أهله فاًنَتظر اًلساًعة«)‪ ،(1‬ومن ثم‬
‫كان حرص السلما على الثروة البشرية والمحافظة عليها والعمل‬
‫على تنميتها‪ :‬جسميا وعقليا وروحيا وعلميا ومهنيا‪.‬‬
‫‪ -3‬حسن استغلل الموارد المتاحة‪:‬‬
‫بحيث ل نهدر شيئا منها ونحافظ عليها باعتبارها أمانة يجب أن‬
‫)( البخاري في صحيحه‪ ،‬وفي مشكاة المصابيح رقم )‪.(5439‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪186‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫عترعى‪ ،‬ونعمة يجب أن عيشكر الله تعالى باستخدامها أحسن‬


‫استخداما‪ ،‬وأمثله‪.‬‬
‫ويحسن بنا هنا إلى أن نشير إلى قوله تعالى في الوصية بمال‬
‫ر ر ر لر ر‬
‫اليتيم‪+ :‬لولل تليكقلربيوُاً لماًلل اًلكيْلتيْرمُ إلل باً تيِ هليِ ألكح ل‬
‫سينَ لحلتىَ يل كيبيليلغ أليشلدهي" ]السراء‪.[34 :‬‬
‫وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم بهذه الصيغة نفسها‪ ،‬فلم‬
‫يكتف القرآن منا أن نقربا مال اليتيم بطريقة حسنة وحسب‪ ،‬بل‬
‫بالتي هي أحسن‪ ،‬فإذا كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم‬
‫والمحافظة عليه‪ ،‬إحداهما حسنة جيدة والخرى أحسن منها‬
‫وأجود‪ ،‬كان الواجب علينا أن نستخدما التي هي أحسن وأجود‪ ،‬بل‬
‫حراما علينا أل نستخدما إل التي هي أحسن‪ ،‬كما هو مفهوما التعبير‬
‫بالنهي وأسلوبا القصر‪.‬‬
‫ومال المة في مجموعه أشبه بمال اليتيم‪ ،‬والمؤسسات التي‬
‫ترعاه أشبه بولي اليتيم ولهذا يجب أن نحافظ عليه وننميه بالتي‬
‫هي أحسن‪.‬‬
‫‪ -4‬التنسيق بين فروع النتاج‪:‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬إذاً تباًيعتمُ باًلعيْنة )‪ ، (1‬ورضيْتمُ باًلزرع‪ ،‬وتبعتمُ أذنَاًب‬
‫اًلبقر‪ ،‬وتركتمُ اًلجهاًد فيِ سبيْل اًل سلط اًل عليْكمُ ذلق ل ينزعه عنكمُ حتىَ‬
‫تراًجعوُاً دينكمُ« )‪ ،(2‬ففي هذا الحديث إشارة إلى أن الكتفاء بالزراعة‬
‫وحدها‪ ،‬وما يتبعها من الخلد إلى الحياة الخاصة المعبر عنها باتباع‬
‫أذنابا البقر‪ ،‬وترك الجهاد في سبيل الله وما يتطلبه من إعداد‬
‫القوة‪ ،‬يعرض المة لخطر الذل والستعمار‪ ،‬وهذا بالضرورة يحتاج‬
‫إلى نوع من الصناعات لبد أن يتوافر في المة‪ ،‬إذ ما ل يتم‬
‫الواجب إل به فهو واجب‪.‬‬
‫ولقد أنزل في كتابه سورة الحديد تنبيها منه على أهمية هذا‬
‫س"‬ ‫س لشرديرد لولملناًفريع رلللناً ر‬ ‫ر رر‬
‫المعدن الخطير‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لوألنَكيلزلكلناً اًلكلحديلد فيْه بلأك ر‬
‫س لشرديرد" إشارة إلى الصناعات‬ ‫رر‬
‫]الحديد‪ .[25 :‬ففي قوله‪+ :‬فيْه بلأك ر‬
‫س" إشارة إلى الصناعات المدنية‬ ‫الحربية‪ ،‬وفي قوله‪+ :‬لولملناًرفيع رلللناً ر‬
‫وبهذا تكتمل قوة المة في سلمها وحربها‪.‬‬
‫‪ -5‬تشغيل الثروة النقدية‪:‬‬
‫بحيث تخرج النقود من قمقم »الكنز« إلى ساحة الحركة‪ ،‬والعمل‪،‬‬
‫)( العينة‪ :‬أن يبيع السلعة بثمن معلوما لجل ثم يشتريها منه في الحال بأقل‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( صحيح الجامع الصغير‪ ،‬ص ‪.433‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪187‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فإن النقود لم تخلق لتحبس وتكتنز‪ ،‬إنما خلقت لتتداول وتنتقل من يد‬
‫إلى يد؛ ثمنا لبيع أو أجرا لعمل‪ ،‬أو عيلنا ينتفع بها‪ ،‬أو رأس مال لشركة أو‬
‫مضاربة‪ ،‬فهي وسيلة لغراض شتى‪ ،‬وليست غرضا في ذاتها‪.‬‬
‫هذه بعض الخطوط العريضة للوصول إلى الكتفاء الذاتي‬
‫وتحرير المة من العبودية القتصادية لغيرها‪ ،‬والقترابا بها نحو‬
‫تمكين دينها‪ ،‬كما ننبه على أهمية توزيع الزكاة ورعاية أموال‬
‫الوقاف ووضعها في محلها الصحيح فيه من الثروات الهائلة‪ ,‬فلبد‬
‫من تحرير الوقاف فإنها تصل إلى المليين في البلدان السلمية‬
‫ولم تستثمر كما ينبغي من أجل تقوية دعوة الله والتمكين في‬
‫الرض‪.‬‬
‫رابلعا‪ :‬العداد العلمي‪:‬‬
‫للعلما أهميته الخطيرة في العصر الحديث‪ ،‬وقد نال اهتماما‬
‫بالغا من كل الدول حتى أنشئت له كليات خاصة وهي »كليات‬
‫العلما«‪ ,‬وأنشئت له وزارات خاصة وهي »وزارات العلما« التي‬
‫تشرف على مختلف وسائل ونواحي العلما في الدولة‪ ,‬ويعين‬
‫وزير لها من أكفأ الوزراء وأشدهم ولء لنظاما الحكم القائم في‬
‫الدولة‪ ،‬وذلك لخطره الكبير وأهميته في هذا العصر الذي انتشرت‬
‫فيه وتقدمت العلوما الحديثة والمخترعات المتعددة والنظريات‬
‫المختلفة‪ ،‬فللعلما تأثيره على الفرد والسرة والمجتمع والدولة‬
‫والمجتمع الدولي كله‪.‬‬
‫وتتضح أهمية العلما في التي‪:‬‬
‫‪ -1‬تزويد الناس بالمعلومات والحقائق وغيرها من ضروبا‬
‫المعرفة وآخر الحداث والخبار‪ ،‬لتشبع رغبتهم الملحة للمعرفة‪،‬‬
‫ويقسوموا المور التي حولهم في المجتمع تقويما عادل ويفهموا طبيعة‬
‫البيئة التي يعيشون فيها ويتمكنوا من التكيف معها والتجاوبا مع‬
‫أفرادها‪.‬‬
‫‪ -2‬نشر الوعي والحقائق الثابتة وتثقيف العقول وتنوير‬
‫الذهان‪ ،‬ومحاربة الخرافات والساطير والبدع الضارة حتى يتغير‬
‫أسلوبا الحياة وتتغير الفكار إلى الفضل والحسن وذلك بعرض‬
‫الجوانب اليجابية من الحياة عرضا إعلميا مناسبا وعرض‬
‫المعلومات والفكار الحديثة والعصرية التي تؤدي لنهضة المة‬
‫وزيادة وعيها وثقافتها‪.‬‬
‫‪ -3‬دفع عجلة التنمية القتصادية والجتماعية والسياسية‬
‫وإحداث التغيير فيها للفضل‪ ،‬وذلك بتخطيط إعلمي سليم يتم به‬

‫‪188‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫نقل التقنية الحديثة إلى أقصى مدى من البث والدعاية‪ ,‬ويلزما‬


‫هذا العلما ويواكب خطوات التقدما القتصادي والجتماعي‬
‫والسياسي وشرح حقائقه وأهدافه‪.‬‬
‫‪ -4‬المحافظة على شخصية المجتمع بكل معتقداته وآدابه‬
‫وتراثه وتاريخه‪ ,‬وتعميق كل هذا بوسائل العلما المختلفة حتى‬
‫يظل المجتمع متماسكا بشخصيته المعروفة باستمرار‪.‬‬
‫‪ -5‬تحقيق الترابط التاما بين الحاكم والمحكوما بحيث تنسجم‬
‫وتتوافق القاعدة العريضة من المجتمع مع القمة مما يدفع‬
‫المجتمع إلى التقدما السريع والعمل البناء‪.‬‬
‫‪ -6‬قلب الحكومات وإيجاد الضطرابات‪ :‬فقد يقوما العلما‬
‫بذلك نتيجة للصراع الفكري أو الصراع الجتماعي أو الصراع‬
‫السياسي‪ ,‬فتذاع أخبار وحقائق تثير الناس مما يخلق الفوضى في‬
‫المجتمع‪ ,‬ويكون من نتيجة ذلك تغيير الوزارات أو قلب الحكومات‬
‫أو تقرير مصائر الدول أو إيجاد الحقد والكراهية نحو طبقة معينة‬
‫أو مجتمع معين)‪ (1‬إلى غير ذلك من المور‪.‬‬
‫ولقد أرشد القرآن الكريم المة إلى الخذ بأسلوبا العلما في‬
‫دعوة الخلق ونهج نهجا متميزا في إيصال الحقائق إلى الناس؛ فمثل‬
‫نرى القرآن الكريم جعل الحداث مدخل إلى قلوبا الناس وعقولهم‬
‫لرشادهم وتوجيههم لما فيه السعادة والفلح في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫فنجده ينزل في كثير من الحيان إثر حادثة أو سؤال مراعيا‬
‫في ذلك الوقت المناسب وما نزل منه ابتداء فأسبابه قائمة في‬
‫الواقع وإن لم يكن لحادثة معينة‪.‬‬
‫وقد سأل اليهود الرسول × عن هذه الظاهرة الغريبة‪ ،‬التي ما‬
‫عهدوها من قبل في الكتب السماوية السابقة والتي كانت تنزل‬
‫جملة واحدة‪.‬‬
‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪) :‬قالت اليهود‪ :‬يا أبا‬
‫القاسم لول أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على‬
‫موسى‪ ،‬فنزل قوله تعالى ردا على سؤالهم ‪+ :‬لولقاًلل اًلرذيلنَ لكلفيرواً لكوُلل‬
‫)‪(2‬‬

‫ر‬
‫ت برره فييلؤاًلدلك لولرتليكللناًهي تليكرتيْلح ‪ ‬لولل يلأكيتوُنَل ل‬
‫ك برلمثلةل إرلل رج كئيلناًلك‬ ‫نَييبزلل لع لكيْره اًلكيقكرآين يجكم لةح لواًرحلدحة لكلذلر ل‬
‫ك لرنيثلب ل‬
‫سلنَ تليكفرسيْحراً" ]الفرقان‪.[33 ،32 :‬‬ ‫باًلكلحبق لوألكح ل‬
‫ر‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة السلمية والعلما عند المودودي لفاروق الصاوي‪ ،‬ص ‪،20‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.21‬‬
‫)( التقان في علوما القرآن للسيوطي )‪(1/42‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪189‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن نزول القرآن الكريم منجما حسب الحداث والوقائع كان له‬
‫أهداف إعلمية عظيمة ل يمكن تحقيقها في مدة قصيرة من‬
‫الزمن إل بهذا السلوبا المعجز‪.‬‬
‫ومن أهم هذه الهداف العلمية‪:‬‬
‫‪ -1‬مساعدة الرسول × على حل المشاكل الجتماعية‬
‫المتجددة‪ ،‬فمن ذلك أن عبد الله بن رواحة تزوج من أمة له‬
‫سوداء بعد أن أعتقها إثر ضربه لها وهي أمة مؤمنة‪ ,‬فطعن عليه‬
‫ناس من المسلمين فقالوا‪ :‬تزوج أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا‬
‫إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم‪ ,‬فنزل قوله تعالى‪:‬‬
‫خيْيرر بمنَ مكشررلكةة لولكوُ ألكعلجبلكتيككمُ لولل تييكنركيحوُاً‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫‪+‬ولل تليكنركحوُاً اًلكمكشررلكاً ر‬
‫ت لحلتىَ يييكؤملنَ لولللمةر مكؤمنلةر ل ك‬ ‫ي ي‬ ‫ل‬
‫ك يلكديعوُلن إرللىَ اًللناًر لواًلي يلكديعوُ‬ ‫ر‬‫ئ‬ ‫ي‬
‫أو‬ ‫مُ‬ ‫ل‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫اًلكيم ك ل ل ي ك ي ل ل ك ر ك ر ل ك ر ب ك ل ك ك ل ل ي ك‬
‫ك‬‫ب‬ ‫ج‬ ‫ع‬‫أ‬ ‫وُ‬‫ل‬‫و‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫منَ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫خيْ‬ ‫نَ‬ ‫م‬‫ؤ‬ ‫م‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ع‬‫ل‬‫و‬ ‫اً‬
‫وُ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ؤ‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫تىَ‬
‫ل‬ ‫ح‬ ‫نَ‬ ‫كيْ‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫س للع ليهكمُ يليتللذلكيرولن" ]البقرة‪.[221 :‬‬ ‫إرللىَ اًلكلجنلرة لواًلكلمغكرفلرةر بررإكذنَرره لويييبلييْبينَ آلياًترره رلللناً ر‬
‫فكان العرف السائد في الجاهلية وحتى ظهور السلما أن‬
‫التفاضل بين الناس بالنسابا والحسابا فقط‪ ،‬وكان هذا الحدث‬
‫وما حصل فيه من استغرابا وقيل وقال قد أتاح الفرصة لعلما‬
‫الناس بمقياس السلما الحقيقي في التفاضل بين الناس؛ وهو‬
‫تقوى الله عز وجل واليمان به وبرسوله ×‪ .‬وهذا المقياس فيه‬
‫رفع من شأن المؤمن وإعلما بشرفه على الكافر‪ ،‬ولو كان هذا‬
‫المؤمن عبدا أو أمة‪ ،‬وكما ل يخفى فإن فيه تصغيرا لشأن الكافر‬
‫وإعلما بتفاهته ولو كان أشرف الناس في حسبه ونسبه‪ .‬ونزول‬
‫هذه اليات عقب هذا الحدث الذي هيأ النفوس وأثار انتباهها إعلما‬
‫لكل الطرفين بذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬مساعدة الرسول × في الجابة الموجهة إليه من قبل‬
‫المؤمنين أو الكافرين؛ عندما بعث المشركون إلى اليهود بالمدينة‬
‫يسألونهم عن أمره فقالت اليهود عنه أشياء ثلثة‪ ،‬فإن لم يجب‬
‫عنها أو أجابا عنها جميعا فهو ليس بنبي‪ ,‬وإن أجابا عن اثنين ولم‬
‫يجب عن الثالث فهو نبي وهذه المور الثلثة هي‪:‬‬
‫* فتية فقدوا في الزمن الول ما كان من أمرهم؟‬
‫* رجل بلغ شرق الرض وغربها‪ ..‬ما خبره؟‬
‫* وعن الروح؟‬
‫فسأله القرشيون عن هذه الشياء فوعدهم بالجابة عليها في‬
‫اليوما التالي ولم يقل إن شاء الله »قال مجاهد‪ :‬إن الوحي تأخر عنه‬

‫‪190‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫اثنتي عشرة ليلة«)‪ ,(1‬وقيل غير ذلك حتى كثر القيل والقال بين‬
‫غدا وقد أصبحنا ل يخبرنا‬‫محمدا ل‬ ‫ل‬ ‫الناس‪ ،‬وقال قائل قريش‪ :‬وعدنا‬
‫بشيء‪ .‬واشتد الحزن على الرسول × بسبب ذلك حتى إذا تهيأت‬
‫نفوس الناس وتوترت أعصابهم والتفتت أنظارهم لنتيجة هذا الحدث‬
‫العظيم الذي يعتبر من أهم الدلة والبراهين على صدق الرسول ×‬
‫وأنه مرسل من عند الله نزل الوحي من الله يقول بشأن الفتية‪:‬‬
‫ف لواًللررقيْرمُ لكاًنَيوُاً رمكنَ آلياًترلناً لعلجحباً" ]الكهف‪.[9 :‬‬
‫ب اًلكلككه ر‬ ‫‪+‬ألكم لحرسكب ل‬
‫ت أللن أل ك‬
‫صلحاً ل‬
‫]الكهف‪:‬‬‫ك لعنَ رذيِ اًلكلقكرنَليكيْرنَ"‬
‫ونزل فيمن بلغ الشرق والغربا ‪+‬لويلكسأليلوُنَل ل‬
‫‪.[83‬‬
‫ح رمكنَ ألكمرر لرببيِ" ]السراء‪.[85 :‬‬ ‫ك لعرنَ اًلمرورح قيرل اًلمرو ي‬
‫ونزل في الروح ‪+‬لويلكسأليلوُنَل ل‬
‫فأجابا عن اثنين من السئلة ولم يجب عن واحد‪ ،‬المر الذي جعل‬
‫القرشيين وغيرهم يوقنون بصدق دعوى الرسول × بأنه مرسل وأنه‬
‫صادق أمين كما عهدوه‪ .‬وهكذا كان القرآن الكريم يجيب عن كل‬
‫سؤال يوجه إلى الرسول × سواء كان هذا السؤال من المؤمنين أو‬
‫الكافرين‪ ،‬أو كان لغرض التثبت والتأكد أو للسترشاد والمعرفة)‪.(2‬‬
‫ولقد تعددت الغراض العلمية من نزول القرآن منجما‬
‫فبالضافة إلى ما ذكرنا ثمت أغراض أخرى منها‪ :‬رفع معنوية‬
‫الرسول × من وقت لخر بتبشيره بالنصر على العداء وحمايته‪،‬‬
‫وفضح أعداء هذا الدين من المشركين والمنافقين وأهل الكتابا‪,‬‬
‫تنبيه الرسول × وأصحابه من وقت لخر على أخطائهم‪ ,‬من ذلك‬
‫ما وقع للرسول × مع أسرى المشركين يوما بدر)‪.(3‬‬
‫ولقد أرشد القرآن الكريم إلى الدستور العلمي في القرآن‬
‫في قوله تعالى‪:‬‬
‫صكوُاً رباًلكلحبق‬ ‫صرر ‪ ‬إرلن اًرلنَكساًلن لرفيِ يخسةر ‪ ‬إرلل اًلرذينَ آمنيوُاً ولعرمليوُاً اًل ل ر ر‬
‫صاًللحاًت لوتليلوُاً ل‬ ‫ل ل ل‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫‪+‬لواًلكلع ك‬
‫صكبرر" ]العصر‪ [3 -1 :‬حيث استنبط متخصصو العلما من هذه‬ ‫صكوُاً رباًل ل‬
‫لوتليلوُاً ل‬
‫السورة الدستور العلمي المكون من‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم واليمان‪.‬‬
‫‪ -2‬العمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -3‬تبليغ الرسالة‪.‬‬
‫)( تفسير البغوي بهامش الخازن )‪.(4/181‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪2‬‬

‫)(المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.21 – 18‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪191‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫واستنبطوا قواعد السلوبا العلمي في القرآن من قوله‬


‫سينَ إرلن لربل ل‬ ‫ك رباًلكرحككمرة واًلكموُرعظلرة اًلكح ر ر ر لر ر‬ ‫تعالى‪+ :‬اًكدعي إرللىَ لسبريْرل لرب ل‬
‫ك‬ ‫سنلة لولجاًدلكيهكمُ باً تيِ هليِ ألكح ل‬ ‫لل‬ ‫ل ل لك‬
‫ضلل لعنَ لسربيْلرره لويهلوُ ألكع ليمُ رباًلكيمكهتلرديلنَ ‪ ‬لوإركن لعاًقليكبتيكمُ فليلعاًقربيوُاً بررمثكرل لماً يعوُقركبتيكمُ برره لولئركنَ‬ ‫يهلوُ ألكع ليمُ برلمكنَ ل‬
‫ك رفيِ ل‬
‫ضكيْةق بملماً‬ ‫ل لولل تلكحلزكن لع لكيْرهكمُ لولل تل ي‬ ‫صبيرلك إرلل رباً ر‬
‫صبكر لولماً ل ك ي‬
‫صاًبررينَ ‪ ‬واً ك ر‬
‫خيْيرر بلل ل ل ل‬ ‫صبليكرتيكمُ ليهلوُ ل ك‬
‫ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬
‫يلكميكيرولن ‪ ‬إلن اًلل لملع اً ذيلنَ اًتليلقكوُاً لواً ذيلنَ يهمُ مكحسينوُلن" ]النحل‪.[128 -125 :‬‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫فهذه اليات وضعت قواعد وأسس واضحة للسلوبا العلمي‬
‫القولي منه والعملي التي لبد للمسلمين أن يلتزموا بها عند‬
‫قيامهم بتبليغ هذه الرسالة إلى الناس‪ ,‬إذا أرادوا تحقيق أهدافهم‬
‫وغايتهم)‪.(1‬‬
‫ومن أهم هذه القواعد‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكمة‪:‬‬
‫هي حسن اختيار السلوبا العلمي المناسب للمخاطبين‬
‫وتنويعه حسب الظروف والزمان والتدرج في إيصال الرسالة‬
‫العلمية حتى ل يشق على المخاطبين استيعابها‪.‬‬
‫‪ -2‬الموعظة الحسنة‪:‬‬
‫هي التوجيهات التي يقدمها صاحب الرسالة للناس عن طريق‬
‫الوامر والنواهي المقرونة بالترغيب والترهيب بقصد نصحهم‬
‫وإرشادهم معتمدا على إيقاظ شعورهم ومحاولة إثارة انفعالتهم‬
‫نحو ما يدعو له بعد اطمئنانهم له نفسيا واقترابهم منه)‪.(2‬‬
‫‪ -3‬الجدال بالتي هي أحسن‪:‬‬
‫فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعية إلى‬
‫باطل يجادل باللين واللطف بل تحامل عليه ول تقبيح له حتى‬
‫يطمئن إلى صاحب الرسالة ويشعر أن هدفه هو الوصول إلى‬
‫الحقيقة ل غير‪.‬‬
‫‪ -4‬الجهاد‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لوإركن لعاًقليكبتيكمُ فليلعاًقربيوُاً بررمثكرل لماً يعوُقركبتيكمُ برره" ]النحل‪ ,[126 :‬فلبد من‬
‫الدفاع عن هذه العقيدة وعن حريتها وحرية القائمين على تبليغها‬
‫»لكي ل تهون في نفوس الناس‪ ,‬فالدعوة المهينة ل يعتنقها‬

‫)( انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مذكرات في الدعوة السلمية‪ ،‬عبد الغفار عزيز‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪192‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫أحد«)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬القدوة الحسنة‪:‬‬
‫صاًبرريلنَ" ]النحل‪ ,[126 :‬فالعفو عند المقدرة في‬ ‫خيْيرر بلل ل‬
‫صبليكرتيكمُ ليهلوُ ل ك‬ ‫ر‬
‫‪+‬لولئكنَ ل‬
‫بعض الحيان يكون أعمق أثرا وأكثر فائدة من النتقاما والضربا‬
‫بيد من حديد على يد الظالم يصبح حتميا‪ ،‬لن فيه دفع الضرر‬
‫وإعلما لمن خلفهم ولكل من سولت له نفسه الضرار بهذه‬
‫الدعوة وأهلها أن هذا هو المصير الذي ينتظره‪ ،‬والجدير بالذكر أن‬
‫هاتين القاعدتين )أعني)‪(2‬الجهاد والقدوة الحسنة( تمثلن السلوبا‬
‫العلمي العملي في السلما‪ ..‬وبعد أن أرشدنا القرآن الكريم إلى‬
‫القواعد الساسية للسلوبا العلمي الناجح الذي تنتهجه في نشر‬
‫هذه الدعوة الخالدة‪ ،‬أشار إشارة واضحة إلى ما سيلقيه الرسول‬
‫× والمسلمون من أساليب إعلمية مضادة شيطانية للقضاء على‬
‫هذه الرسالة والنيل منها‪ ,‬فحثهم على الصبر في هذا الصراع‬
‫العلمي المرير بين الحق والباطل وأن العاقبة ستكون له‬
‫ك‬‫وللمؤمنين‪ ,‬والخزي والفشل لعداء هذا الدين قال تعالى‪+ :‬لولل تل ي‬
‫ضكيْةق بملماً يلكميكيرولن ‪ ‬إرلن اًلل لملع اًلرذيلنَ اًتليلقكوُاً لواًلرذيلنَ يهمُ مكحرسينوُلن" ]النحل‪.[128 ،127:‬‬ ‫رفيِ ل‬
‫ومن الملحظ أن القرآن الكريم قد انتهج هذا الدستور مع‬
‫الرسول ×‪ ,‬فأول ما نزل من القرآن الكريم هو إعلما الرسول ×‬
‫بحقيقة »قاعدة التصور اليماني العريض«)‪ ,(3‬قال تعالى‪+ :‬اًقكيلرأك رباًكسرمُ‬
‫ساًلن رمكنَ لع لةق ‪ ‬اًقكيلرأك لولربم ل‬
‫ك اًلككلريم ‪ ‬اًلرذيِ لع للمُ رباًلكلق لرمُ ‪ ‬لع للمُ‬ ‫ك اً ذيِ لخ للق ‪ ‬لخ للق اًرلنَك ل‬
‫رب ل ل ر‬
‫ل‬
‫ن لماً لكمُ يليكع لكمُ" ]العلق‪.[5-1 :‬‬ ‫ساً ل‬ ‫ر‬
‫اًلنَك ل‬
‫»فالله هو الذي خلق وهو الذي علم‪ ,‬فمنه البدء والنشأة‪ ,‬ومنه‬
‫التعليم والمعرفة‪ ..‬والنسان يتعلم ما يتعلم ويعلم ما يعلم‪..‬‬
‫فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق‬
‫والذي علم«)‪.(4‬‬
‫وكانت هذه هي البداية مع الرسول × فأول ما نزل عليه من‬
‫القرآن الكريم كان الهدف منه إعلما الرسول × بقاعدة التصور‬
‫اليماني واليمان بها‪ ،‬فلما علم هذه القاعدة وآمن بها أمره الله‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/2202‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (3) ,‬انظر السلوبا العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬محمد الطلبي‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(6/3939‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪193‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تعالى »بالعبادات الفاضلة والقاصرة«)‪ (1‬عليه ×‪ ,‬ومن أهمها‬


‫ملزبمل ‪ ‬قيرمُ اًل لكيْل إرلل قلرليْلح ‪‬‬
‫ل‬ ‫قراءة القرآن وصلة الليل‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلك ي ي‬
‫ص رمكنهي قللريْلح ‪ ‬ألكو رزكد لع لكيْره لولرتبرل اًلكيقكرآلن تليكررتيْلح" ]المزمل‪.[4-1 :‬‬ ‫نَر ك‬
‫صلفهي ألرو اًنَيق ك‬
‫ولما علم الرسول × حقيقة قاعدة »التصور اليماني« وعمل‬
‫بمقتضاها‪ ،‬صار عنده استعداد ذاتي لتصدير هذه الرسالة إلى‬
‫الناس‪ ،‬فعندها أمره الله تعالى »بإعلن هذه الدعوة والصدع‬
‫كبيكر" ]المدثر‪.[3 - 1 :‬‬ ‫ك فل ل‬ ‫بها« قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلكيملدثبيير ‪ ‬قيكمُ فلألنَكرذكر ‪ ‬لولربل ل‬
‫)‪(2‬‬

‫كما أن القرآن الكريم غني بالساليب العلمية سواء كانت‬


‫قولية أو عملية‪ ،‬فمن القولية مثل‪ :‬أسلوبا الهدما والبناء‪ ،‬والتقابل‪،‬‬
‫التبشير بغد أفضل‪ ،‬الجدل‪ ،‬التهديد‪ ،‬تشويه الصورة‪ ،‬تحسين‬
‫الصورة‪ ،‬ومن الساليب العلمية العملية‪ ،‬القدوة الحسنة‪ ،‬العفو‬
‫عند المقدرة‪ ،‬الثبات على الحق)‪.(3‬‬
‫ولقد مارس الرسول × المنهج القرآني العلمي‪ ،‬وقاما ببعض‬
‫العمال العظيمة التي حققت أهدالفا إعلمية وساهمت في انتشار‬
‫هذا الدين والتمكين له في قلوبا العباد وفي البلد فمثل‪:‬‬
‫‪ -1‬الهجرة‪:‬‬
‫اضطهد المكيون الرسول × حتى وصل بهم المر إلى التفكير‬
‫ك اًلرذيلنَ لكلفيرواً لريْيثكبريتوُلك ألكو يليكقتيييلوُلك ألكو‬‫في التخلص منه‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لوإركذ يلكميكير بر ل‬
‫خيْيير اًلكلماًكررريلنَ" ]النفال‪ ,[30 :‬فأمره الله تعالى‬ ‫ييكخرريجوُلك لويلكميكيرولن لويلكميكير اًلي لواًلي ل ك‬
‫صلرهي اًلي إركذ ألكخلرلجهي اًلرذيلنَ‬ ‫بالهجرة إلى المدينة قال تعالى‪+ :‬إرلل لتن ي‬
‫صيروهي فليلقكد نَل ل‬
‫صاًرحبرره لل تلكحلزكن إرلن اًلل لملعلناً" ]التوبة‪.[40 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫لكلفيرواً لثاًنَليِ اًثكينليكيْرنَ إركذ يهلماً فيِ اًلكلغاًر إركذ يلييقوُيل ل ل‬
‫فخرج الرسول × ومعه أبو بكر الصديق متوجها إلى المدينة‬
‫تنفيذا لمر الله تعالى له‪ ,‬ولم يكن خروج الرسول × من مكة إلى‬
‫المدينة خوفا ول هربا من المشركين »بل تعليم للمة ضرورة أخذ‬
‫الحيطة في الزمات وليقف على تحركات قريش ويعلم مقاصدهم‬
‫ولينكشف ما اعتزموا عليه«)‪.(4‬‬
‫وكان هذا العمل من الرسول × من أبلغ الساليب العلمية في‬
‫السلما وكانت له آثار إعلمية في داخل مكة وخارجها‪ ،‬فأهل مكة‬

‫)(‪ (2) ,‬تفسير السعدي‪.(7/508) ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫)( تفسير السعدي ) ‪.(7/508‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن‪ ،‬ص ‪.60 :36‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(2/236‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪194‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫شعروا بأن هؤلء لم يتركوا أهلهم ووطنهم وأموالهم إل من أجل قوة‬


‫إيمانهم بصدق ما هم عليه من حق‪ .‬كما أن هذه الهجرة »أوجدت‬
‫فراغا كبيرلا في مكة‪ ,‬ولفت هذا الفراغا المكيين للتغييرات التي حدثت‬
‫ل‬
‫في مجتمعهم ومن أهمها‪ ..‬ظهور هذا الدين)‪ (1‬ولم تقتصر آثار الهجرة‬
‫على مكة وحدها »فإن وجود عناصر مكية في المدينة لفت انتباه‬
‫جميع من فيها وفي ذلك إعلن كبير‪ ..‬عن هذا الدين«)‪.(2‬‬
‫إعلميا فريدلا قل أن يكون له‬
‫ّ‬ ‫ومن هنا كانت الهجرة أسلوبلا‬
‫مثيل في التاريخ)‪.(3‬‬
‫‪ -2‬بناء المسجد‪:‬‬
‫س لعللىَ اًلتليكقلوُىَ رمكنَ أللورل يليكوُةم أللحمق لأن تلييقوُلم رفيْره‬ ‫رر ل ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬لل تلييقكمُ فيْه ألبلحداً لمكسجرد أيبس ل‬
‫ب اًلكيمطلبهرريلنَ" ]التوبة‪.[108 :‬‬ ‫رفيْره رلجاًرل يمرحمبوُلن لأن يليتلطللهيرواً لواًلي ييرح م‬
‫سواء كانت هذه الية نزلت في قباء أو المسجد النبوي‬
‫الشريف فإن الملحظ أن أول عمل قاما به الرسول × عند‬
‫قدومه إلى المدينة هو بناء مسجد‪ ,‬ولم يكن الهدف الوحيد من‬
‫مركزا إسلمليا عاما يجتمع فيه‬ ‫ل‬ ‫هذا المسجد هو الصلة‪ ،‬بل كان‬
‫المسلمون من جميع القبائل ليتعلموا فيه أمور دينهم)‪ .(4‬ويقول‬
‫الدكتور إبراهيم إماما‪» :‬أراد النبي × فيما يبدو أن يبني مكانا ل‬
‫ينتمي إلى هذه القبيلة أو تلك‪ ,‬ول يجتمع فيه أفراد من أسرة‬
‫خاصة بل أن يشيد مكانا للجميع وهو بيت الله«)‪.(5‬‬
‫وفي هذا إعلما لجميع المسلمين الموجودين في المدينة‬
‫وغيرها أن هذا الدين دين الله وأنه يقضي على العصبيات مهما‬
‫كانت وعلى أي أساس وجدت‪ ،‬وأن مقياس التفاضل فيه إنما هو‬
‫ككمُ" ]الحجرات‪:‬‬ ‫بتقوى الله عز وجل‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬إرلن ألككرميكمُ رعكنلد اً ر‬
‫ل ألتكيلقاً ي‬ ‫لل ك‬
‫‪ ,[13‬فلو أقاما المسجد في بيت من بيوت إحدى القبيلتين‬
‫الموجودتين في المدينة لوجدت القبيلة الخرى في نفسها شيئا‬
‫تفضيل لها‪ ,‬فكان هذا العمل من الرسول × فيه‬ ‫ل‬ ‫من ذلك واعتبرته‬
‫من الحكمة ما ل يخفى‪.‬‬
‫والحقيقة أنه ما من مكان في الرض يستطيع تحقيق ما‬
‫يحققه المسجد من توحيد في الكلمة والجهود والقضاء على‬
‫العلما في صدر السلما‪ ,‬عبد اللطيف حمزة‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫العلما والسلما‪ ,‬إبراهيم إماما‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪195‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫العصبيات إذا وجد من يحسن الستفادة منه من الناحية‬


‫العلمية)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬بيعة الرضوان‪:‬‬
‫شلجلررة فليلعلرلمُ لماً رفيِ‬
‫ت اًل ل‬ ‫ضليِ اًلي لعرنَ اًلكيمكؤرمرنيْلنَ إركذ يييلباًيريعوُنَل ل‬
‫ك تلكح ل‬ ‫قال تعالى‪+ :‬للقكد ر ر‬
‫ل‬
‫سركيْنلةل لع لكيْرهكمُ لوأللثاًبلييهكمُ فليكتححاً قلرريحباً" ]الفتح‪.[18 :‬‬
‫قيييلوُبررهكمُ فلألنَكيلزلل اًل ل‬
‫خرج رسول الله × مع بعض أصحابه وكانوا نحوا من ألف‬
‫وخمسمائة من المدينة قاصدين بيت الله الحراما للزيارة‪ ,‬وكان‬
‫هذا بعد غزوة الحزابا بعاما »فلما اقتربوا من مكة وجدوا قريشا‬
‫تستعد لقتالهم‪ ،‬فبعث إليهم الرسول × عثمان بن عفان يقترح‬
‫عليهم عقد صلح بين الفريقين وسرت شائعة بأن عثمان قد‬
‫قتل«)‪.(2‬‬
‫فلجأ الرسول × إلى أسلوبا إعلمي يشعر القرشيين بقوة‬
‫المسلمين وأنهم على استعداد لقتالهم والنتصار عليهم فجمع‬
‫أصحابه ودعاهم إلى المبايعة »فبايعوه تحت شجرة على قتال‬
‫المشركين وأن ل يفروا حتى يموتوا« فلما علمت قريش بهذه‬
‫البيعة وأن المسلمين عازمون على الدخول في الحربا معهم‬
‫دخل الرعب في قلوبهم‪ ,‬واضطروا في الدخول في المفاوضات‬
‫السلمية التي كانت الهدف الساسي للرسول × من استخداما‬
‫هذا السلوبا‪ .‬وكانت قريش ترفض هذه المفاوضات فعقد معهم‬
‫»هدنة الحديبية« التي اعتبرها الله ‪-‬تعالى‪ -‬فتحا للمؤمنين وامتن‬
‫ك فليكتححاً مربيْحناً" ]الفتح‪.[1 :‬‬ ‫بها على رسوله × بقوله‪+ :‬إرلنَاً فليتلكحلناً ل ل‬
‫‪ -4‬البعثات النبوية‪:‬‬
‫نَ نَلرذيحراً" ]الفرقان‪:‬‬ ‫ر ر‬ ‫رر ر‬ ‫لر‬
‫قال تعالى‪+ :‬تليلباًلرلك اً ذيِ نَليلزلل اًلكيفكرلقاًلن لعللىَ لعكبده ليْليكوُلن لكللعاًلميْ ل‬
‫‪.[1‬‬
‫في هذه الية الغاية التي من أجلها أنزل القرآن على الرسول‬
‫×‪ ,‬وهي إنذار العالمين وتخويفهم من بأس الله ونقمته‪ ,‬وبيان‬
‫رضا الله من سخطه‪ ،‬وفي هذا دللة واضحة على أن هذه الرسالة‬
‫عالمية »وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد‪ ,‬ومن‬
‫نهج إلى نهج عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده‬

‫)( انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( العلما في صدر السلما‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪196‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ليكون للعالمين نذيرا«)‪.(1‬‬


‫وإذا كانت هذه الدعوة عالمية فلبد أن يكون إعلمها كذلك‪،‬‬
‫فالرسول × والمسلمون مكلفون بتبليغ هذه الرسالة إلى جميع‬
‫الناس بشتى الساليب العلمية‪.‬‬
‫ولذا فإننا نرى الرسول × عند أول فرصة وجدها بعد صلح‬
‫الحديبية قاما بإرسال البعوث الدينية إلى القبائل العربية المجاورة‪,‬‬
‫وإلى المم خارج الجزيرة العربية للتبشير بهذه الرسالة تنفيذا‬
‫لمر الله تعالى بتعميم هذه الرسالة‪.‬‬
‫ولقد حقق هذا النوع من الساليب عدة أهداف من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬إشعار العربا والعجم وغيرهم »أن السلما ليس خاصا‬
‫بالعربا وحدهم ولكنه عاما لجميع الناس«)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬قبول هذه الدعوة والترحيب بها من قبل بعض المراء‬
‫والملوك الموجهة إليهم كما فعل المقوقس والنجاشي‪ ,‬وإن كان‬
‫البعض رفضها وأساء الرد على صاحبها كما فعل كسرى‪.‬‬
‫وهذا النوع من الساليب ليستخدما في عصرنا هذا لتوثيق‬
‫الروابط السياسية والقتصادية والجتماعية بين الدول عن طريق‬
‫السفارات والمبعوثين الدبلوماسيين)‪.(3‬‬
‫ومن خلل هذه المعالم القرآنية والممارسة النبوية الشريفة نتيقن‬
‫أن الهتماما بالعلما وتوظيفه لخدمة الدعوة والتمكين لدين الله من‬
‫الوسائل المهمة واللزمة للحركات السلمية المعاصرة‪ ،‬ولقد‬
‫استطاعت بعض الحركات السلمية مثل التركية أن تستخدما القنوات‬
‫الفضائية والذاعية والتلفزيونية والجرائد والمجلت لخدمة الدعوة‬
‫السلمية‪ ,‬وحققت نتائج مبشرة في هذا الميدان‪ .‬وكذلك الحركة‬
‫السودانية التي تحاول أن تجعل من وسائل العلما وسيلة لخدمة‬
‫السلما في العالم‪ ,‬وأثبتت للعالم أجمع أن الكوادر السلمية قادرة‬
‫على أن تقدما للعالم أروع المثلة في العيش للقضايا النسانية من‬
‫خلل التصور السلمي‪.‬‬
‫إن الخذ بالوسائل العلمية المعاصرة يساعد الحركات‬
‫السلمية والدعاة إلى السلما عموما بالتعريف بأهداف الدعوة‬
‫ومقاصدها‪ ،‬ليعلم الناس أن قضية السلما قضية عادلة‪ ،‬ل كما‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(5/2548‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( العلما في صدر السلما‪ ،‬ص ‪.155‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوبا العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪197‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يصورها العداء بنعوت وأسماء زائفة تخالف الحقيقة‪ ،‬إن في‬


‫عصرنا يمكن توظيف وسائل العلما المقروءة والمسموعة‬
‫والمرئية للقياما بوظيفة البلغا المبين‪ ،‬وإيصال رسالة السلما إلى‬
‫جميع الفئات الجتماعية‪ ،‬حيث يستفيد الدعاة من التطور التقني‬
‫الهائل في مجالت التصال لتبليغ دعوتهم ونشر أفكارهم‬
‫وعقيدتهم)‪.(1‬‬
‫ولقد ترك لنا الداعية الكبير والعالم القدير زعيم الجماعة‬
‫السلمية في باكستان العلمة أبو العلي المودودي تجربة رائعة‬
‫في توظيف المجال العلمي للدعوة السلمية تركت آثارا على‬
‫المحيط المحلي للدعوة والمحيط العالمي‪ ,‬واستفاد من جميع‬
‫الوسائل العلمية المتاحة لديه من صحافة‪ ،‬ومؤلفات‪،‬‬
‫ومحاضرات‪ ،‬ومجالس‪ ،‬ومراسلت ومكاتبات‪ ،‬وفتاوى وتفسير‬
‫وقدوة حسنة وخدمات اجتماعية ولقاءات في الذاعة‪ ,‬وأثمرت‬
‫تلك الجهود عن ظهور آثار عالمية ونجحت في تحقيق بيان السلما‬
‫للناس‪:‬‬
‫أ‪ -‬اًلثاًر اًلمحليْة‪:‬‬
‫‪ -1‬إنقاذ المسلمين من خدعة القومية الهندية الواحدة‪.‬‬
‫‪ -2‬هدما سيطرة الحضارة الغربية على المسلمين‪.‬‬
‫‪ -3‬جمع الرأي العاما على المطالبة بتطبيق الشريعة‪.‬‬
‫‪ -4‬المساهمة الفعالة في قياما باكستان‪.‬‬
‫‪ -5‬إزالة الجمود الديني والمزج بين القديم والحديث‪.‬‬
‫‪ -6‬تكوين عمل منظم لعادة السلما عن طريق الجماعة‬
‫السلمية‪.‬‬
‫‪ -7‬إبراز أخلق السلما السياسية ونظافتها على عكس‬
‫السياسة المعاصرة‪.‬‬
‫‪ -8‬إثراء الدبا والفكر السلمي‪.‬‬
‫‪ -9‬جمع شمل العلماء على معالي المور‪.‬‬
‫‪ -10‬اتساع دائرة التعاون وخدمة الخلق‪.‬‬
‫‪ -11‬إبراز الوجه الشمولي للسلما)‪.(2‬‬

‫)( البيان‪ ،‬العدد‪ ،118 :‬ص ‪.10‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة السلمية والعلما عند المودودي‪ ،‬ص ‪.389 :383‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪198‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ب‪ -‬آثاًر إعلم اًلموُدوديِ اًلعاًلميْة‪:‬‬


‫توعية العربا والمسلمين بحقيقة السلما‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫فضح التآمر الصليبي وغاراته على العالم السلمي‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫تنشيط وإثراء البحوث والدراسات السلمية على العالم‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫إقناع الناس بالسلما)‪.(1‬‬ ‫‪-4‬‬
‫إن اًلخذ بوُساًئل اًلعلم اًلحديثة يعيْيْنَ اًلدعاًة إلىَ اًل علىَ توُصيْل اًلموُر اًلتيْة‬
‫إلىَ اًلناًس‪:‬‬
‫‪ -1‬الدعوة إلى الله‪:‬‬
‫بتعريف الناس بحقيقة السلما ونظرته للخلق العليم والكون‬
‫والحياة والنسان‪.‬‬
‫‪ -2‬تعريف المسلمين بحقائق الدين‪:‬‬
‫من عقائد ومعاملت وسلوك وأخلق‪ ،‬وتربيتهم تربية صالحة‬
‫وإعدادهم إعدادا يتناسب مع رسالتهم السلمية‪ ،‬ومسئوليتهم في‬
‫الحياة‪.‬‬
‫‪ -3‬إبراز دور السلما‪:‬‬
‫وكيف أنه قاما بإخراج الناس من الظلمات إلى النور‪ ,‬ومن‬
‫ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة‪ ،‬وكيف انتصرت القلة المؤمنة‬
‫بتمسكها بدين الله‪.‬‬
‫‪ -4‬استنفار المة للدعوة والجهاد‪:‬‬
‫صفا واحدلا متينلا‪،‬‬
‫ل‬ ‫وحشد الطاقات حتى تقوى المة وتصبح‬
‫وتكون مرهوبة الجانب فل يطمع فيها العداء‪ ،‬ول يستخف بقوتها‬
‫الكفار‪ ،‬بل يعملون لها ألف حسابا‪.‬‬
‫‪ -5‬الرد على الشبهات‪:‬‬
‫التي يثيرها أعداء السلما التقليديون من يهود ونصارى ودحض‬
‫مفترياتهم وإبطال حججهم الزائفة‪.‬‬
‫‪ -6‬الرد على النظريات والمذاهب المادية الحديثة‪:‬‬
‫كالشيوعية والشتراكية والرأسمالية والفاشية والنازية‬
‫والوجودية والماسونية واليهودية‪ ...‬إلخ‪ ،‬ودحض مفترياتها وبيان‬

‫)( المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.407 :403‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪199‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫دين الله الحق عنها)‪ ,(1‬وغير ذلك من المور‪.‬‬


‫إن من الهمية بمكان الخذ بوسائل العلما بحيث يوظفها‬
‫العاملون في الدعوة السلمية لخدمة السلما والتمكين له في‬
‫دنيا الناس‪.‬‬
‫سا‪ :‬العداد المني‪:‬‬ ‫خام ل‬
‫إن من أهم أسبابا التمكين أن ينشأ الحس المني للفراد‬
‫العاملين منذ دخولهم في العمل الجماعي‪ ,‬وأن تشكل لجان‬
‫ومكاتب‪ ,‬وتتحول مع توسع الحركة إلى مؤسسات ثم إلى وزارة‬
‫بعد وصول السلميين إلى الحكم‪.‬‬
‫أ‪ -‬ولقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا الجانب في‬
‫آيات عديدة منها‪:‬‬
‫ح" ]التوبة‪:‬‬ ‫‪ -1‬قوله تعالى‪+ :‬ولل ييلناًيلوُلن رمنَ لعيدلو نَلييْلح إرلل يكترب لهمُ برره لعمل ر‬
‫صاًل ر‬‫لر ل‬ ‫ل يك‬ ‫ك‬ ‫ك‬ ‫ل ل‬
‫‪.[120‬‬
‫وتشير الية الكريمة على أن كل نيل من العدو عليه جزاء)‪,(2‬‬
‫وإن استطلع أخبار العدو ومعرفة مواطن الضعف فيه‪ ،‬ومواقع‬
‫آلياته ومنشآته يعتبر نيل لن ذلك يوصل للتخطيط السليم المؤدي‬
‫إلى الظفر به‪.‬‬
‫ف وألرخيْره ولل تليكيْألسوُاً رمنَ لرورح اً ر‬
‫ل إرنَلهي‬
‫س ر‬ ‫ر‬
‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫سوُاً منَ ميوُيس ل ل‬‫‪ -2‬قال تعالى‪+ :‬لياً بلنليِ اًكذلهبيوُاً فليتللح ل ي‬
‫ل إرلل اًلكلقكوُيم اًلكلكاًفريرولن" ]يوسف‪.[87 :‬‬ ‫لل ييكيْألس رمنَ لرورح اً ر‬
‫ك‬ ‫ل ي‬
‫وجه الستدلل‪ :‬أن يعقوبا عليه السلما قد طلب من أبنائه‬
‫أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه‪ ،‬وفي هذا إقرار من أحد‬
‫أنبياء الله في جمع المعلومات عن الخرين‪ ،‬ويعتبر جمع‬
‫المعلومات من العناصر الساسية في علم الستخبارات‪ ،‬ويؤكد‬
‫على مبدأ جمع المعلومات ‪+‬لولل تليكيْأليسوُاً")‪.(3‬‬

‫ك رمنَ لسبلةأ برنلبلةأ‬


‫ت برلماً لكمُ تيرحكط برره لورجكئتي ل‬
‫غيْيلر بلرعيْةد فليلقاًلل أللحط ي‬
‫ث لك‬‫‪ -3‬قال تعالى‪+ :‬فللملك ل‬
‫يلرقيْةنَ" ]النمل‪.[22 :‬‬
‫إن الية الكريمة ذكرت مبدأ من مبادئ الستخبارات وهو مبدأ‬
‫جمع المعلومات‪ ,‬حيث إن الظروف التي جمعت فيها المعلومات‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة السلمية والعلما عند المودودي‪ ،‬ص ‪.27 ،26‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪(4/11‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلما‪ ,‬عبد الله علي‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪200‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫هي ظروف حربا بدليل قوله تعالى‪+ :‬لويحرشلر لركس لكيْلماًلن يجينوُيدهي رملنَ اًلكرجبنَ‬
‫س لواًلطلكيْرر فلييهكمُ ييوُلزيعوُلن" ]النمل‪ ,[17 :‬نلحظ في هذه الية تطبيق عناصر‬ ‫لواًرلنَك ر‬
‫الستخبارات التي هي‪:‬‬
‫‪ -‬إقرار مبدأ الحصول على المعلومات‪:‬‬
‫ت ألكم‬ ‫صلدقك ل‬ ‫إذ أقر سليمان الهدهد ثم أرسله مرة أخرى‪+ :‬لقاًلل لسلننظيير أل ل‬
‫ت رملنَ اًلكلكاًرذربيْلنَ" ]النمل‪ [27 :‬ثم قال‪+ :‬اًكذلهب بركلتاًربيِ لهلذاً فلأللكرقكه إرلكيْرهكمُ ثيلمُ تليلوُلل لع كنييهكمُ‬‫يكن ل‬
‫لفاًنَكظيكر لماًلذاً يليكررجيعوُلن" ]النمل‪.[28 :‬‬
‫‪ -‬عرض المعلومات المجمعة‪:‬‬
‫مُ ‪‬‬ ‫ت رمنَ يكبل لشيِةء ولهاً لعر ر‬ ‫ت اًكملرألحة تلكملريكيهكمُ لويأوتريْل ك‬
‫قال تعالى‪+ :‬إربنَيِ لولجد م‬
‫ش لعظيْ ر‬‫ك لل ك ر‬
‫سربيْرل‬
‫صلديهكمُ لعرنَ اًل ل‬ ‫س رمنَ يدون اًل لولزيللنَ ليهيمُ اًل ل‬
‫شكيْلطاًين ألكعلماًليهكمُ فل ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫شكم ر‬‫لولجدتميلهاً لوقليكوُلملهاً يلكسيجيدولن رلل ل‬
‫فلييهكمُ لل يليكهتليدولن‪] " ...‬النمل‪.[24 ،23 :‬‬
‫‪ -‬تقييم المعلومات المعروضة وتقرير مدى صحتها‪:‬‬
‫ت رملنَ اًلكلكاًرذربيْلنَ" ]النمل‪.[27 :‬‬ ‫ت ألكم يكن ل‬‫صلدقك ل‬ ‫‪+‬لقاًلل لسلننظيير أل ل‬
‫‪ -‬تحليل ودراسة المعلومات واستخلص النتائج المفيدة‬
‫منها‪.‬‬
‫‪ -‬إمداد المسئولين وإطلع القادة على المعلومات‪:‬‬
‫فالهدهد كجندي من جنود سليمان رأى أن من واجبه أن يأتي‬
‫بما حصل عليه من معلومات إلى مسئوله وهو سليمان)‪ (1‬عليه‬
‫ك رمنَ لسبلةأ برنلبلةأ يلرقيْةنَ"]النمل‪.[22 :‬‬ ‫السلما‪+ :‬لورجكئتي ل‬
‫‪ -‬المباغتة والمفاجأة في جمع المعلومات وتوصيلها وغير‬
‫ذلك من الدروس والعبر‪:‬‬
‫‪ -4‬قال تعالى‪+ :‬لويحرشلر لركس لكيْلماًلن يجينوُيدهي رملنَ اًلكرجبنَ لواًرلنَك ر‬
‫س لواًلطلكيْرر فلييهكمُ ييوُلزيعوُلن ‪ ‬لحلتىَ‬
‫ساًكرنليككمُ لل يلكحرطلمنليككمُ يس لكيْلماًين لويجينوُيدهي‬ ‫إرلذاً ألتليكوُاً لعللىَ لواًرديِ اًلنلكمرل لقاًل ك‬
‫ت نَلكم لةر لياً أليميلهاً اًلنلكميل اًكديخليوُاً لم ل‬
‫لويهكمُ لل يلكشعييرولن" ]النمل‪.[18 ،17 :‬‬
‫نلحظ في هذه اليات الكريمة أن المعلومات السابقة ل تقتصر‬
‫على بني البشر‪ ,‬فقد يستفيد منها الحيوان والطير‪ ،‬إذ استفاد‬
‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلما‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪201‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫النمل من المعلومات السابقة‪ ،‬فاستعمل وسائل النذار المبكر‪ ،‬إذ‬


‫قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات‪:‬‬
‫ادخلوا مساكنكم حفاظا على حياتكم لن سليمان وجنوده ربما‬
‫يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير قصد‪ ،‬فقد بينت السبب‬
‫في توجيه هذا النذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات‬
‫المسبقة التي حصلت عليها)‪.(1‬‬
‫ب لويهكمُ لل يلكشعييرولن ‪ ‬لولحلركملناً‬ ‫ت برره لعنَ يجني ة‬ ‫صلر ك‬ ‫ت ليكخترره قي ب ر‬
‫صيْه فليبل ي‬ ‫‪ -5‬قال تعالى‪+ :‬لولقاًل ك‬
‫ر‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ضلع رمنَ قليكبيل فليلقاًل ك‬
‫ت لهكل أليدليككمُ لعللىَ ألكهل بليكيْت يلككيفيلوُنَلهي ليككمُ لويهكمُ لهي لنَاًصيحوُلن"‬ ‫لع لكيْره اًلكمراً ر‬
‫لل‬
‫]القصص‪.[12،11:‬‬
‫ونلحظ في اليات التي‪:‬‬
‫‪ -‬استخداما أما موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها‬
‫صيْره" والتقصي إنما هو تتبع الثر‬ ‫ت ليكخترره قي ب‬‫في حفاظها على ابنها ‪+‬لولقاًل ك‬
‫وجمع المعلومات‪.‬‬
‫‪ -‬اختيار العنصر المين والحريص في جمع المعلومات لتكون‬
‫صحيحة وموثقة وأمينة‪ ،‬وقبل ذلك حريصة على تلك المعلومات‬
‫ت ليكخترره"‪.‬‬‫‪+‬لولقاًل ك‬
‫فأما موسى لم تختر غير أخته‪ ،‬لن الخت تعتبر من الحريصين‬
‫والمناء على تلك المصلحة‪ ,‬وهي تندفع من ذاتها في جمع‬
‫المعلومات وتحصيل الخبار‪ ،‬والمهم بمكان أن يكون العنصر‬
‫مندفعا من ذاته حريصلا على‬
‫ل‬ ‫المرسل في عملية الستخبارات‬
‫المصلحة المرسل إليها‪.‬‬
‫صيْره" ]القصص‪:‬‬ ‫‪ -‬التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار ‪+‬قي ب‬
‫‪.[11‬‬
‫إذ نفهم من كلمة التقصي النتباه وعدما إثارة النظار‪ ،‬ودليل‬
‫ذلك أنها بصرت به دون أن يشعروا بها‪.‬‬
‫ت برره‬
‫صلر ك‬
‫‪ -‬دقة الملحظة وقوة الفراسة أثناء جمع المعلومات ‪+‬فليبل ي‬
‫لعنَ يجني ة‬
‫ب لويهكمُ لل يلكشعييرولن" ]القصص‪.[11 :‬‬
‫‪ -‬استعملت أخت موسى شكل من أشكال الستخبارات‬
‫العصرية وهو التخريب الفكري‪ ،‬فبعد أن نظرت إليهن وهن غير‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/141‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪202‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫ت لهل أليدلميكمُ لعللىَ ألكهرل بيكيْ ة‬


‫ت يلككيفيلوُنَلهي ليككمُ لويهكمُ لهي‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫قادرات على إرضاعه ‪+‬فليلقاًل ك ك‬
‫لنَاً ر‬
‫صيحوُلن" ]القصص‪.[12 :‬‬
‫وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع‪ ،‬ليخلص إلى أمها دون‬
‫إشعارهم أنها منه بسبيل‪.‬‬
‫‪ -‬محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات‪ ،‬فأخت موسى‬
‫لم تكتف بأن تعرف مكان موسى لتخبر أمها بمكانه‪ ،‬وإنما هي‬
‫تقصت الخبار‪ ،‬وتوصلت إلى مكانه‪ ,‬وحاولت إعادته إلى أمه‪ ،‬وقد‬
‫نجحت في هذا)‪.(1‬‬
‫‪ -6‬قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً يخيذواً رحكذلريككمُ" ]النساء‪ ,[71 :‬وقال‬
‫تعالى ‪+‬لوألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل لواًكحلذيرواً" ]المائدة‪ ,[92 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫‪+‬لولكيْلأكيخيذواً رحكذلريهكمُ لوألكسلرلحتلييهكمُ لولد اًلرذيلنَ لكلفيرواً لكوُ تليغكيفيلوُلن لعكنَ ألكسلرلحتريككمُ لوألكمترلعتريككمُ فلييْلرميْيلوُلن لع لكيْيكمُ‬
‫ل كميْي لةح لواًرحلدحة" ]النساء‪.[102 :‬‬
‫إن العداد المني والستخباراتي في العمل السلمي من‬
‫مظاهر الحذر واليقظة‪ ،‬لنها تحول دون مفاجآت العداء‪ ,‬وتطبيق‬
‫ليات القرآن السابقة‪ ،‬كما أن السعي للحصول على المعلومات‬
‫عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساس‬
‫من أسبابا القوة ومظاهرها التي أمر السلما بإعدادها من أسبابا‬
‫التمكين التي ذكرت في قوله تعالى‪+ :‬لوألرعمدواً ليهكمُ لماً اًكستلطلكعيتمُ بمنَ قييلوُةة لورمنَ‬
‫برباًرط اًلكلخكيْرل تييررهبوُلن برره لعيدلو اً ر‬
‫ل لولعيدلويككمُ" ]النفال‪.[60 :‬‬ ‫ك ي‬ ‫ل‬
‫هذه بعض الرشادات القرآنية إلى الخذ بهذا المبدأ والعداد له‬
‫والهتماما به‪.‬‬
‫با‪ -‬أما السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلة والتسليم‬
‫فقد تركت لنا معالم مهمة وخطوطا عريضة في هذا الجانب‬
‫المهم في حياة المسلمين‪ ،‬فنجد في الفترة المكية من معالمها‬
‫الكتمان والسرية‪ ،‬ولذلك نجد أن الرسول × اختار دار الرقم بن‬
‫أبي الرقم كمقر سري للدعوة‪ ,‬وكان رسول الله × يربي أتباعه‬
‫على العقيدة والخلق الرفيعة استعدادا لمرحلة قادمة‪ ،‬وكان‬
‫اختياره دار الرقم بسبب‪:‬‬
‫‪ -1‬إن الرقم لم يكن معروفا بإسلمه‪ ،‬فما كان يخطر ببال أحد أن‬
‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلما‪ ،‬ص ‪.112 ،111‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪203‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يتم لقاء محمد × بداره‪.‬‬


‫‪ -2‬إن الرقم بن أبي الرقم ‪    ,   ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪                ‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ -3‬إن الرقم بن أبي الرقم كان فتى عند إسلمه‪ ،‬فلقد كان‬
‫في حدود السادسة عشرة من عمره‪ ،‬ويوما تفكر قريش في‬
‫البحث عن التجمع السلمي فلن يخطر في بالها أن تبحث في‬
‫بيوت الفتيان الصغار من أصحابا محمد ×‪ ,‬بل يتجه نظرها وبحثها‬
‫إلى بيوت كبار أصحابه‪ ،‬أو بيته هو نفسه عليه الصلة والسلما‪،‬‬
‫فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الغلب في‬
‫أحد دور بني هاشم‪ ،‬أو في بيت أبي بكر ‪      ‬‬
‫‪ ×  ‬هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية المنية‪،‬‬
‫ولم نسمع أبدا أن قريشا داهمت ذات يوما هذا المركز وكشفت‬
‫مكان اللقاء)‪.(1‬‬
‫ونلحظ أن النبي × يهتم ببناء الجهاز المني لدعوته ويزرع‬
‫أتباعه في وسط القبائل من أجل السعي لتمكين دعوة السلما‪،‬‬
‫فعندما أسلم عمرو بن عنبسة أمره النبي × أن يكتم إسلمه‬
‫ويلتحق بأهله‪ ،‬وإذا نظرنا في قصة إسلما أبي ذر رأيت الجوانب‬
‫المنية بارزة في تلك السيرة العطرة‪.‬‬
‫وفي بيعة العقبة الثانية نلحظ أن المسلمين رتبوا هذا اللقاء‬
‫ترتيبا رفيعا‪ ،‬فأخذوا بجميع الحتياطات المنية من حيث الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وعقدوا التفاق عقدا متينا وحققوا ما أرادوا‪،‬‬
‫والمشركون في غفلة عما يحدث‪ ،‬وفي هجرة النبي × قمم‬
‫شامخة في مجال الترتيب المني والتخطيط الستخباراتي‪ ،‬وبعد‬
‫أن انتقل النبي × إلى المدينة نجده يهتم بجمع المعلومات عن‬
‫أعدائه‪ ,‬ويربي أصحابه تربية أمنية فريدة من نوعها‪:‬‬
‫‪ -1‬روي عن الرسول × أنه بعث عبد الله بن جحش ‪  ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪              ‬‬
‫‪      »        ‬‬
‫‪   ,          ‬‬
‫)( المنهج الحركي للسيرة النبوية )‪.(1/49‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪204‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫‪.( )«           ‬‬
‫نلحظ في هذه المهمة أمورا منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إن هذه السرية كانت سرية استطلع‪ ،‬غايتها مراقبة العدو‬
‫واستطلع أخباره على نحو السرايا الستكشافية التي تضعها‬
‫الجيوش أمامها‪ ،‬أو على جانبها‪ ،‬أو على نحو المغافر المامية في‬
‫جهة القتال‪ ،‬وكانت مهمتها المراقبة‪ ،‬والستطلع فقط دون‬
‫التعرض للعداء بالتحرش أو الحتكاك أو القتال‪ ،‬وهذا ما يسمى‬
‫الستخبارات الهجومية‪ ،‬هدفها جمع المعلومات عن العدو فقط‬
‫لمصلحة الدولة السلمية‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الرسول × أمر أن تبقى سرية حتى على من يحملها‬
‫وسينفذها أخذا بالحتياط اللزما وخوفا من تسربا أدنى معلومة‬
‫للعدو‪ ،‬وتربية لصحابه أن المعلومة تكون على قدر الحاجة)‪.(2‬‬
‫وحكما لجمع‬‫ل‬ ‫وعبرا‬
‫ل‬ ‫وفي غزوة بدر ترك النبي × دروسلا‬
‫المعلومات عن العداء وتوظيفها لنزع النصر من المشركين‪،‬‬
‫فنلحظ أن النبي × جمع معلومات متكاملة عن العداء‪ ،‬وقاما ×‬
‫بالشراف على جهاز الستخبارات وساهم بنفسه وبغيره في جمع‬
‫المعلومات عن مشركي مكة‪ ،‬ويمكن لنا أن نحصر أساليب‬
‫الستطلع التي قاما بها النبي × للحصول على المعلومات من‬
‫مشركي مكة‪:‬‬
‫‪ -‬أرسل بسيسة بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء حتى يأتياه‬
‫بخبر عير أبي سفيان فعادا وأخبراه بموعد وصول العير)‪.(3‬‬
‫‪ -‬قيامه ×‪ ،‬وبصحبته أبو بكر الصديق ‪     ‬‬
‫‪               ‬‬
‫‪.  ‬‬
‫‪ ×  ,      -‬من‬
‫استنطاق هذين السيرين أمورا مهمة جدا منها‪:‬‬
‫‪ -‬عدد أفراد جيش المشركين‪ ،‬موقع قريش‪ ،‬قيادة جيش‬
‫المشركين‪ ،‬ومن فيه من أشراف مكة)‪.(4‬‬
‫وعتم النبي × على المشركين أخبار المسلمين‪ ,‬وقاما بأمر‬
‫سنن البيهقي )‪.(9/12‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلما‪ ،‬ص ‪.114‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا المارة‪ ،‬بابا ثبوت الجنة للشهيد )‪ (3/1510‬رقم ‪.1501‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬العبقرية العسكرية‪ ،‬لواء محمد فرج‪ ،‬ص ‪.58 ،57‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪205‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الكتمان خير قياما‪ ،‬وكان صفة بارزة له في غزواته كلها‪ ،‬فعن‬


‫كعب بن مالك ‪ ×   ) : ‬قلما يريد غزوة إل ورى‬
‫بغيرها‪.(1) (...‬‬
‫وفي غزوة بدر مارس رسول الله × هذا العمل المني ليرشد‬
‫الجيال على مر العصور وكر الدهور إلى أهميته وتجلي ذلك في‬
‫التي‪:‬‬
‫‪ -‬سؤاله × الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه وعن‬
‫قريش وجيشها‪.‬‬
‫‪ -‬تورية الرسول × في إجابته عن سؤال الشيخ‪» :‬مم أنتما؟«‬
‫بقوله‪» :‬نحن من ماء« وهو جوابا يقتضيه المقاما‪ ،‬فقد أراد به‬
‫الرسول × كتمان أخبار جيش المسلمين‪.‬‬
‫وفي انصرافه فور استجوابه كتمان ‪ -‬أيضا ‪ -‬وهو دليل على ما‬
‫يتمتع به رسول‬
‫الله × من الحكمة‪ ،‬فلو أنه أجابا هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان‬
‫هذا سببلا في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله ×‪» :‬من ماء«‬
‫)‪.(2‬‬
‫‪ -‬أمره × بقطع الجراس من البل يوما بدر‪ ،‬فعن عائشة‬
‫رضي الله عنها أن رسول الله × أمر بالجراس أن تقطع من‬
‫أعناق البل يوما بدر‪.‬‬
‫‪ -‬كتمانه × خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى‬
‫بدر‪ ،‬حيث قال ×‪ ...» :‬إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضلرا‬
‫فليركب معنا‪.(3) «...‬‬
‫وقد استدل الماما النووي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬بهذا الحديث على‬
‫استحبابا التورية‬
‫في الحربا‪ ،‬وأن ل يبين القائد الجهة التي يقصدها‪ ،‬لئل يشيع هذا‬
‫الخبر‬
‫)‪(4‬‬
‫فيحذرهم العدو( ‪.‬‬
‫وكان × يهتم بحركة عدوه ولذلك كانت حركة الختراق في‬
‫القبائل المعادية واسعة جدا‪ ،‬ولذلك باغت × أعداءه مرات عديدة‪،‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا الجهاد والسير‪ ،‬بابا‪ :‬المداد بالملئكة )‪ (3/1383‬رقم ‪.1767‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬ابن هشاما )‪.(1/616‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا المارة‪ ،‬بابا ثبوت الجنة للشهيد )‪.1901 (3/1501‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬شرح النووي لصحيح مسلم )‪.(13/45‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪206‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫وأفشل خططهم العدائية‪ ،‬ولما أرادت قريش أن تباغت رسول‬


‫الله × بعد بدر كان مكتب استخبار مكة التابع للقيادة في المدينة‬
‫يبعث بالمعلومات أول بأول إلى قيادته‪.‬‬
‫لقد حرص الرسول × على استطلع أخبار قريش‪ ،‬وكان‬
‫يستعين بعمه العباس‪ ،‬قال ابن عبد البر)‪ - (1‬رحمه الله ‪) :-‬وكان ‪‬‬
‫‪ ×      ‬وكان المسلمون يتقوون به‬
‫بمكة‪ ،‬وكان يحب أن يقدما على رسول الله × فكتب إليه رسول‬
‫الله × أن مقامك في مكة خير( )‪.(2‬‬
‫لقد كان جهاز الستخبارات السلمية في مكة دقيقا جدا وحقق‬
‫نجاحات مهمة‪ ،‬ولقد قاد العباس بن عبد المطلب هذا الجهاز بكل‬
‫جدارة ونشاط‪ ،‬وكانت معلوماته دقيقة وبياناته صحيحة‪ ,‬فمن هذه‬
‫قريشا قد‬
‫ل‬ ‫المعلومات التي وصلت رسالته إلى النبي ×‪) :‬إن‬
‫صانعا إذا حلوا بك فاصنعه‪ ،‬وقد‬
‫ل‬ ‫أجمعت المسير إليك فما كنت‬
‫توجهوا إليك في ثلثة آلف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة درع‬
‫وثلثة آلف بعير وأوعبوا)‪ (3‬من السلح()‪.(4‬‬
‫لقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة‪،‬‬
‫ولذلك استعد النبي × وشرع في أخذ العدة لمواجهة هذا الجيش‬
‫العرمرما‪.‬‬
‫‪ -2‬حجم الجيش وقدرته القتالية وهذا يعين على وضع خطة تواجه‬
‫هذه القوات الزاحفة‪.‬‬
‫إن النبي × لم يكتف بمعلومات المخابرات المكية‪ ،‬بل حرص‬
‫على أن تكون معلوماته على هذا العدو متجددة مع تلحق الزمن‪،‬‬
‫وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين إلى أهمية متابعة الخبار التي‬
‫يتولد عنها وضع خطط واستراتيجيات نافعة‪ ،‬فحين وصل جيش‬
‫المشركين إلى مكان يقال له العرض)‪ ،(5‬أرسل الرسول ×‬
‫عدده‪ ،‬ورجع‬‫عدده و ع‬
‫الحبابا بن المنذر فدخل بين جيش مكة وحزر ع‬
‫وأخبر النبي ×‪ ,‬ولما بلغ الجيش ذا الحليفة أرسل الرسول ×‬
‫)( هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر‪ ,‬توفي ‪463‬هـ‪ ،‬تذكرة الحفاظ )‬ ‫‪1‬‬

‫‪.(3/1128‬‬
‫)( الستيعابا )‪.(2/812‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( استوعبه‪ :‬إذا أخذه أجمع‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مغازي الواقدي )‪.(1/204‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( العقنرض‪ :‬هو الجرف‪ ،‬موضع في المدينة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪207‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عينين له وهما‪ :‬ابنا فضالة‪ ،‬فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم‬


‫حتى نزلوا بالوطاء ثم رجعا إلى المدينة وأخبرا الرسول ×‬
‫بذلك)‪.(1‬‬
‫ولقد حرص النبي × على حصر تلك المعلومات على المستوى‬
‫القيادي خوفا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل‬
‫ي الرسالة‬‫إعداد العدة من تخطيط وترتيب‪ ،‬ولذلك حين قرأ أب ل‬
‫على النبي × استكتمه ما فيها وحينما دخل بيت سعد بن الربيع‬
‫قال‪) :‬أفي البيت أحد؟( فقال سعد‪ :‬ل‪ ،‬فتكلم بحاجتك‪ ،‬فأخبره‬
‫بكتابا العباس بن عبد المطلب‪ ،‬فانصرف رسول الله × واستكتم‬
‫سعدا الخبر)‪.(2‬‬
‫وفي هذا تعليم للقيادة السلمية على أهمية كتم السرار وما‬
‫يتصل بها حتى عن أقربا الناس إليهم من زوجات وأولد ومن في‬
‫حكمهم‪ ،‬وإذا دعت الضرورة إلى نشر شيء من ذلك‪ ،‬فينبغي أن‬
‫يكون لمن يحفظ السر حتى ل يلحق المسلمين بسبب ذلك ضرر‪.‬‬
‫وبعد أن عقد × المجلس الستشاري وعوضعت الخطة‬
‫المناسبة‪ ،‬اختار × الوقت المناسب للتحرك والطريق التي تناسب‬
‫خطته‪ ،‬فقد تحرك بعد منتصف الليل‪ ،‬حيث يكون الجو هادئا‪،‬‬
‫والحركة قليلة وفي هذا الوقت بالذات يكون العداء ‪ -‬غالبلا‪ -‬في‬
‫كبيرا‪.‬‬
‫ل‬ ‫مجهودا‬
‫ل‬ ‫نوما عميق‪ ،‬لن العياء ومشقة السفر قد أخذا منهم‬
‫ومن المعروف من ناما بعد تعب يكون ثقيل النوما‪ ،‬فل يشعر‬
‫بالصوات العالية والحركة الثقيلة‪.‬‬
‫قال الواقدي ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وناما رسول الله × حتى أدلج‪،‬‬
‫فلما كان من السحر قال‪» :‬أين الدلء؟« ( )‪ (3‬ثم إنه × اختار‬
‫الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة‪,‬‬
‫وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهو السرية‪ ،‬حتى ل‬
‫يرى العداء جيش المسلمين‪ ،‬فقال × لصحابه‪» :‬من رجل يخرج‬
‫بنا على القوما من طريق ل يمر بنا عليهم؟« فأبدى أبو خيثمة ‪‬‬
‫‪ .( )          : ‬‬
‫‪ ×   ‬بين الشجار والبساتين يدلنا على حرصه × على‬
‫الخذ بالحتياطات المنية المناسبة في أثناء السير‪ ،‬لن الطرق‬
‫انظر‪ :‬المغازي للواقدي )‪.(208 ،1/206‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المغازي للواقدي )‪.(205 ،1/204‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/206،208‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬ابن هشاما )‪.(3/65‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪208‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫العامة تكشف للعداء عن مقدار قوات المسلمين وهذا أمر‬


‫محذور‪.‬‬
‫فالرسول × يعلم المة الخذ بالسرية من حيث المكان‪ ,‬ومن‬
‫حيث الزمان‪ ،‬لئل يتمكن العداء من معرفة قواتهم فيضعوا‬
‫الخطط المناسبة لمجابهتها‪ ،‬وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم‬
‫مهب الرياح)‪.(1‬‬
‫بارزا‪,‬‬
‫ل‬ ‫وفي غزوة الخندق يظهر دور جهاز أمن الدولة السلمية‬
‫فقد كان يتابع أخبار الحزابا ويرصد تحركاتهم ويزود القيادة‬
‫بجميع المعلومات‪ ،‬فقاما فرع مكة المني بإرسال معلومات دقيقة‬
‫ساعدت القيادة في رسم الخطط قبل وصول العداء للمدينة‪،‬‬
‫وأرسل × طليعة تتابع المور على كثب وترسل المعلومات‬
‫الدقيقة‪ ،‬ولقد كان حفر الخندق مفاجأة مذهلة لعداء السلما‬
‫وأبطل خطتهم التي رسموها‪ ,‬وكان من عوامل تحقيق هذه‬
‫المفاجأة ما قاما به المسلمون من إتقان رفيع لسرية الخطة‬
‫وسرعة إنجازها‪ ،‬وكان هذا السلوبا الجديد في القتال له أثر في‬
‫إضعاف معنويات الحزابا وتشتيت قواتهم ومارس × سلح‬
‫التشكيك والدعاية لتمزيق ما بين الحزابا من ثقة وتضامن بعد‬
‫أن ساق المولى عز وجل نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول‬
‫الله × ليعلن إسلمه وقال له‪ :‬يا رسول الله إن القوما لم يعلموا‬
‫بإسلمي فمرني بما شئت‪ ،‬فقال له رسول الله ×‪ :‬إنما أنت فينا‬
‫رجل واحد فخذل عنا إن استطعت‪ ،‬فإن الحربا خدعة‪.(2) ..‬‬
‫فقاما نعيم بن مسعود بزرع الشك بين الطراف المتحالفة بأمر‬
‫من رسول الله ×‪ ،‬فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئل تدعهم‬
‫وتنصرف عن الحصار‪ ،‬وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن‬
‫لتسليمها للمسلمين ثمنا لعودتها إلى صلحهم‪ ،‬لقد اشتهرت قصة نعيم‬
‫بن مسعود في كتب السيرة وإن كانت ل تثبت من الناحية الحديثية إل‬
‫إنها ل تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحربا خدعة)‪ .(3‬وقد‬
‫نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما نجاح‪ ،‬فغرست روح التشكيك‬
‫وعدما الثقة بين قادة الحزابا‪ ،‬مما أدى إلى كسر شوكتهم وتهبيط‬
‫عزمهم‪ ،‬وكان من أسبابا نجاح مهمة نعيم قيامها على السس‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه أخفى إسلمه عن كل الطراف‪ ،‬بحيث وثق كل طرف فيما‬
‫)( انظر‪ :‬القيادة العسكرية في عهد الرسول ×‪ ،‬ص ‪.468‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(4/13‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية الصحيحة )‪.(2/530‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪209‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قدمه له من نصح‪.‬‬
‫كر بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير‬‫‪ -2‬أنه ذ ز‬
‫صرهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم استمروا في حربهم‬ ‫وب ز‬
‫للرسول ×‪ .‬فكان هذا الساس سببلا في تغيير أفكارهم وقلب‬
‫مخططاتهم العدوانية‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه نجح في إقناع كل الطراف بأن يكتم كل طرف ما قاله‬
‫له‪ ,‬وفي استمرار هذا الكتمان نجاح في مهمته‪ ،‬فلو انكشف أمره‬
‫لدى أي طرف من الطراف لفشلت مهمته‪ ،‬وقد حققت مساعي‬
‫نعيم في تخذيل بني قريظة أمرين مهمين لجيش النبي × وهما‪:‬‬
‫‪ -1‬أن المسلمين بعد انسحابا بني قريظة من التحالف مع‬
‫الحزابا أصبحوا في أمان لن هؤلء اليهود كانوا يسكنون المدينة‬
‫فلو بقوا في هذا التحالف لما أمن المسلمون من توجيه طعنة لهم‬
‫من الخلف لنهم مشغولون بمواجهة خصمهم من الماما‪.‬‬
‫‪ -2‬أن المسلمين اطمأنوا إلى أن بني قريظة سيتسمرون في‬
‫إمدادهم بالمؤن التي يتطلبها الموقف‪ ،‬وذلك لشدة حاجتهم إليها‪,‬‬
‫وانشغالهم عن توفيرها بمواجهة العداء)‪.(1‬‬
‫وكلف × الزبير بتتبع أحوال بني قريظة وجمع المعلومات عن‬
‫نواياهم‪ ،‬ومدى التزامهم بالعهد‪ ،‬ورصد تحركهم المريب)‪ .(2‬ومع‬
‫أخذه × بكل السبابا إل أنه × كان كثير التضرع والدعاء‬
‫والستعانة بالله وخصوصا في مغازيه وعندما اشتد الكربا على‬
‫المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوبا الحناجر وزلزلوا‬
‫زلزال شديدا وجاء المسلمون إلى النبي × وقالوا‪ :‬يا رسول الله‬
‫هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوبا الحناجر؟ قال‪ :‬نعم‪» :‬اللهم‬
‫استر عوراتنا وآمن روعاتنا«)‪.(3‬‬
‫ودعا ×‪» :‬اًللهمُ منزل اًلكتاًب سريع اًلحساًب‪ ،‬اًهزم اًلحزاًب‪ ،‬اًهزمهمُ‬
‫وزلزلهمُ«)‪.(4‬‬
‫وقال ×‪» :‬ل إله إل الله وحده‪ ،‬أعز جنده ونصر عبده وغلب‬

‫انظر‪ :‬القيادة العسكرية في عهد الرسول ص )‪(477‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلما‪ ،‬ص ‪.119‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري عن أبيه )‪.(8/18‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتابا المغازي‪ ،‬بابا‪ :‬غزوة الخندق‪ (5/59) ،‬رقم ‪.4115‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪210‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫الحزابا وحده فل شيء بعده«)‪.(1‬‬


‫فاستجابا الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬دعاء نبيه ×‪ ,‬فأقبلت بشائر الفرج‪،‬‬
‫فقد صرفهم الله بحوله وقوته‪ ,‬وزلزل أبدانهم وأنزل الرعب في‬
‫قلوبهم وشتت جمعهم بالخلف‪ ،‬ثم أرسل عليهم الريح الباردة‬
‫الشديدة‪ ,‬وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل جنودا من عنده سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وكان × يتابع المر وأحب أن يتحرى عما حدث عن قربا‬
‫فقال‪» :‬أل رجل يأتينا بخبر القوما‪ ،‬جعله الله معي يوما القيامة«‬
‫)‪ ،(2‬فاستعمل × أسلوبا الترغيب وكرره ثلث مرات‪ ,‬وعندما لم‬
‫يجد ق هذا السلوبا لجأ إلى أسلوبا الجزما والحزما في المر‪ ،‬فعين‬
‫واحدا بنفسه فقال‪» :‬قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوما‪ ،‬ول تذعرهم‬ ‫ل‬
‫ي«‪.‬‬ ‫عل ل‬
‫وفي هذا معنى تربوي وهو أن القيادة الناجحة هي التي توجه‬
‫جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع‪ ،‬ول تلجأ إلى‬
‫المر والحزما إل عند الضرورة‪.‬‬
‫قال حذيفة ‪         » :‬‬
‫‪ :×              ‬ل‬
‫تذعرهم علي‪ ,‬ولو رميته لصبته فرجعت كأنما أمشي في حماما‪،‬‬
‫فأتيت النبي × وأصابني البرد حين رجعت وقررت‪ ,‬فأخبرت رسول‬
‫الله × فألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها‪ ،‬فلم أبرح نائما‬
‫حتى الصبح‪ ،‬فلما أن أصبح قال رسول الله ×‪» :‬قم يا نومان« )‪.(3‬‬
‫دروسا مهمة منها‪:‬‬‫ل‬ ‫ونستنبط من هذا الموقف‬
‫‪ -1‬اختيار الرسول × حذيفة ‪      ‬‬
‫‪ ×  ‬بمعادن الرجال‪ ،‬وأن معدن حذيفة معدن ثمين)‪ ,(4‬فهو‬
‫شجاع ول يقوما بهذه العمال إل من كان ذا شجاعة نادرة‪ ،‬فهذا‬
‫العمل يكلفه حياته فلو اكتشفه العداء لكانت عقوبته الموت‬
‫صلبا‪ ،‬ومع هذا أقدما على تنفيذ الوامر‪.‬‬
‫‪ -2‬وضوح المر العسكري الذي وجهه الرسول × إلى حذيفة‪.‬‬
‫‪ -3‬النضباط العسكري الذي كان يتحلى به حذيفة في تنفيذ‬
‫الوامر ونجاحه في الدور الذي أمر به وقيامه بالمهمة خير قياما‪،‬‬
‫ورجع وقدما المعلومات اليقينية الصادقة للرسول ×‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتابا المغازي‪ ،‬بابا‪ :‬غزوة الخندق‪ (5/59) ،‬رقم ‪.4115‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا الجهاد والسير‪ ,‬بابا غزوة الحزابا )‪ (3/1414‬رقم ‪.1788‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫السيرة النبوية دراسة تحليلية‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.366‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪211‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وفي فتح مكة لما قرر النبي × فتحها حرص على مباغتة‬
‫قريش‪ ,‬وكتم المر حتى ل يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة‬
‫لمجابهته وتصده قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه‪ ,‬وشرع في الخذ‬
‫بالسبابا التية لتحقيق مبدأ المباغتة‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه كتم أمره حتى عن أقربا الناس إليه‪:‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬إن أبا بكر دخل على عائشة‬
‫وهي تغربل حنطة فقال‪ :‬ما هذا؟ أمركم رسول الله × بالجهاز؟‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وإلى أين؟ قالت‪ :‬ما سمى لنا شيئلا‪ ،‬غير أنه قد‬
‫أمرنا بالجهاز( )‪.(1‬‬
‫ضم‪:‬‬ ‫‪ -2‬أنه بعث سرية بقيادة أبي قتادة إلى بطن إ ع‬
‫بعث النبي × قبل مسيرة مكة سرية مكونة من ثمانية رجال‬
‫وذلك لسدال الستار على نيته الحقيقية‪ ،‬وفي ذلك يقول ابن‬
‫سعد‪) :‬لما هم رسول الله × بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن‬
‫ضم)‪ ،(2‬ليظن ظان أن‬ ‫ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إ ع‬
‫رسول الله × توجه إلى تلك الناحية ولن تذهب بذلك الخبار‪...‬‬
‫شب)‪،(3‬‬ ‫خ ع‬‫فمضوا ولم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي ع‬
‫فبلغهم أن رسول الله × قد توجه إلى مكة‪ ،‬فأخذوا على »بيبن«‬
‫حتى لقوا النبي × بالسقيا)‪.(5) .(4‬‬
‫‪ -3‬أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى العداء‪:‬‬
‫بث رسول الله × عيونه داخل المدينة وخارجها حتى ل تنتقل‬
‫أخباره إلى قريش وأخذ رسول الله × بالنقابا)‪ ،(6‬فكان عمر بن‬
‫الخطابا ‪    » :      ‬‬
‫‪            ..  ‬‬
‫‪.«‬‬
‫‪ -4‬دعاؤه × بأخذ العيون والخبار عن قريش‪:‬‬
‫فعندما أعلم رسول الله × الناس أنه سائر إلى مكة وأمر‬
‫بالجد والتهيؤ قال‪) :‬اًللهمُ خذ اًلعيْوُن واًلخباًر عنَ قريش حتىَ نَبغتهاً فيِ‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(4/282‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( بطن إضم‪ :‬وادي المدينة الذي تجتمع فيه الوديان الثلثة‪ :‬بطحان‪ ،‬وقناة‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫والعقيق‪.‬‬
‫ميل عن المدينة‪.‬‬
‫ل‬ ‫)( ذو خشب‪ :‬موضع على مرحلة من المدينة إلى الشاما يبعد ‪35‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( السقيا‪ :‬موضع يقع في وادي القرى‪ :‬معجم البلدان )‪.(3/288‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الطبقات الكبرى لبن سعد )‪.(2/132‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( النقابا جمع نقب وهو كالعريف على القوما‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪212‬‬
‫الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬ ‫البابا‬

‫بلدهاً( )‪.(1‬‬
‫وهذا شأن النبي × في أموره يأخذ بكل السبابا البشرية ول‬
‫ينسى التضرع والدعاء لربا البرية ليستمد منه التوفيق والسداد‪.‬‬
‫‪ -5‬إحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش‪:‬‬
‫عندما أكمل النبي × استعداده للسير إلى فتح مكة‪ ،‬كتب‬
‫حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي ×‬
‫إليهم‪ ،‬ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه × عن طريق الوحي‬
‫على هذه الرسالة‪ ،‬فقضى × على هذه المحاولة وهي في مهدها‪،‬‬
‫فأرسل النبي × عليا والمقداد فأمسكا بالمرأة في روضة خاخ‬
‫على بعد اثني عشر ميل من المدينة‪ ،‬وهدداها أن يفتشاها إن لم‬
‫فسلمته لهما‪ ،‬ثم استدعى حاطب ‪) :  ‬‬ ‫‪‬‬ ‫تخرج الكتابا‬
‫‪‬‬
‫‪-   : -           ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪ .           ‬‬
‫‪) :×  ‬أماً إنَه قد صدقكمُ( فقال عمر ‪     :‬‬
‫‪» :   ‬إنَه قد شهد بدراً‪ ،‬وماً يدريك لعل اًل اًطلع علىَ منَ‬
‫شهد بدراً فقاًل‪ :‬اًعملوُاً ماً شئتمُ فقد غفرت لكمُ)‪ .(2‬فأنزل الله‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ‬
‫آلمنيوُاً لل تليتلرخيذواً لعيدبويِ لولعيدلويككمُ ألكولرليْاًءل تييكليقوُلن إرلكيْرهكمُ رباًلكلملوُلدرة لوقلكد لكلفيرواً برلماً لجاًلءيكمُ بملنَ اًلكلحبق‬
‫ضاًرتيِ‬‫ل لربيككمُ رإن يككنتيكمُ لخلركجتيكمُ رجلهاًحداً رفيِ لسربيْرليِ لواًبكترلغاًءل لمكر ل‬ ‫يكخررجوُلن اًللرسوُلل وإرلياًيكمُ لأن تييكؤرمنيوُاً رباً ر‬
‫ي ل ك‬ ‫ي ي‬
‫ر‬
‫سبيْل"‬ ‫ر‬ ‫ضلل لسلوُاًءل اًل ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫تيرسمرولن إلكيْهكمُ باًلكلملوُلدة لوأللنَاً ألكع ليمُ بلماً ألكخلفكيْتيكمُ لولماً ألكع لكنتيكمُ لولمنَ يليكفلعكلهي مكنيككمُ فليلقكد ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫]الممتحنة‪.[1 :‬‬
‫نجد من خلل قصة حاطب أن النبي × له فقه عميق في‬
‫معاملة أصحابه وحرص شديد على الوفاء لهم وإقالة عثرات ذوي‬
‫السوابق الحسنة‪ ،‬لقد جعل × من ماضي حاطب ‪   ‬‬
‫‪. ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪ ,        ‬‬
‫‪           ‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(4/282‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا المغازي‪ ،‬بابا غزوة الفتح )‪ (5/105‬رقم ‪.4274‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪213‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

         


       ,    
          
.   
»   ,       
:   «
            »
            
.()« 
          
              
. 
           
.        
           
.           

.311 ‫ ص‬،‫ الستخبارات العسكرية في السلما‬:‫)( انظر‬ 1

214
‫مراحـــــــــل التمكـــين‬
‫وأهدافـــــه‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪216‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫إن التمكين لدين الله في الرض يمر بمراحل لبد منها‪ ,‬وهذه‬
‫المراحل هي‪ :‬مرحلة التعريف‪ ،‬ومرحلة العداد والتربية‪ ،‬ومرحلة‬
‫المغالبة‪ ،‬ومرحلة الظهور‪ ,‬وكل هذه المراحل سنستعرضها في‬
‫مباحث مستقلة في هذا البابا ‪ -‬إن شاء الله ‪ -‬ونركز على السنن‬
‫الربانية التي تمر بها حركة التمكين لدين الله تعالى‪.‬‬
‫وأما أهداف التمكين فجامعها قول الله تعالى‪:‬‬
‫صللةل وآتليوُاً اًللزلكاًلة وألمرواً رباًلكمعرو ر‬
‫ف لونَليلهكوُاً لعرنَ اًلكيمكنلكرر‬ ‫‪+‬اًلرذيلنَ رإن لملكلناًيهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ل لي ل كي‬ ‫ض أللقاًيموُاً اًل ل ل ي‬
‫ل لعاًقربلةي اًلييموُر" ]الحج‪.[41 :‬‬ ‫ور‬
‫ل‬
‫ويدخل تحت مفهوما هذه الية الكريمة أهداف الدولة السلمية‬
‫التي تسعى لتحقيقها‪ ,‬وهي في حقيقتها تحقيق العبودية لله بحيث‬
‫ل يعبد في الرض سواه‪ ,‬ومحاربة الباطل بأشكاله وأنواعه‪،‬‬
‫ومناصرة الحق وأتباعه‪ .‬ففي هذا البابا نحاول أن نبين أهداف‬
‫التمكين التي تسعى الدولة لتحقيقها من ترسيخ دعائم الدولة‪،‬‬
‫ونظاما الحكم الشرعي‪ ،‬وإيجاد الحاكم الصالح‪ ،‬والرعية الصالحة‪،‬‬
‫ووضع نظاما عاما للدولة‪ ،‬ونشر دعوة الله في العالم كله وإقامة‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬وجلب المصالح للمة ودفع‬
‫المفاسد وإحياء الخلق الكريمة وإحياء فريضة الجهاد وغير ذلك‬
‫من المور التي سنوضحها في هذا البابا تحت مباحث متعددة‬
‫بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫***‬

‫‪217‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الفصل الول‬
‫مراحــــــــل التمكـــــــين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن دعوة الله أمانة يتحملها أهل اليمان الصحيح‪ ،‬وهذه المانة‬
‫ثقيلة في حد ذاتها‪ ،‬وكذلك حملها وأداؤها‪ ،‬والوفاء بها‪ ،‬فكيف وهي‬
‫متعلقة بدين الله تعالى؟‬
‫ولذلك من أعظم المانات وأشدها ثقل أمانة الدعوة التي‬
‫تحتاج إلى رجال مؤمنين يتخلقون بأفضل الخلق الربانية‬
‫ونفوسهم مليئة باليمان العميق‪ ،‬فهم على استعداد تاما لتبليغ دين‬
‫الله‪ ,‬ولذلك يسعون بدين الله حتى يتمكن من قلوبا الناس‬
‫وإقامة دولة اليمان والسلما‪.‬‬
‫إن مرحلة التمكين أو إقامة دولة اليمان تسبقها مراحل‬
‫استخلصها العلماء من دراسة كتابا الله ودراسة التاريخ المتأنية‪،‬‬
‫ولعل من أهم هذه المراحل‪:‬‬
‫‪ -‬مرحلة الدعوة والتعريف بالسلما‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة المغالبة‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة الظهور‪.‬‬
‫وسنحاول خلل هذا الفصل دراسة هذه المراحل وتحديد السمات‬
‫التي تتميز بها كل مرحلة وكيفية تحقيقها والنتقال بها إلى المرحلة التي‬
‫تليها لسيما المرحلة الخيرة مرحلة التمكين‪.‬‬
‫إن استيعابا مراحل التمكين يعين الدعاة إلى الله على تحقيق‬
‫هدفهم المنشود من التمكين لهذا الدين كما يبصرهم بحقيقة‬
‫الطريق‪ ,‬ومعرفة عوائق التمكين التي تعترض تحقيق أهدافهم‬
‫وكيفية التغلب عليها من خلل القرآن الكريم وسيرة سيد‬
‫المرسلين‪ ,‬وتاريخ المة المجيد والتعامل مع سنن الله الربانية‬
‫المبثوثة في الكون والحياة والشعوبا والمجتمعات‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الول‬
‫مرحلة الدعوة والتعريف بالسلما‬
‫إن الخطوة الولى في سبيل إقامة الدولة المسلمة أو التمكين‬
‫للسلما هو التعريف به والدعوة إليه‪ ،‬وقد كان هذا نهج النبياء‬
‫والمرسلين ومنهج القرآن‪ ،‬والدعاة إلى الله هم ورثة النبياء‪،‬‬
‫والنبياء عليهم السلما ل يورثون مال ول عقارا‪ ،‬ولكنهم يورثون‬
‫علما ودعوة ومبادئ وقيما وأخلقا وعقيدة صحيحة وتصورا سليما‬
‫للكون والحياة والنسان والخلق العليم‪.‬‬
‫إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا في كتابه وظيفة رسل الله‬
‫والدعاة إليه كما في قوله تعالى‪+ :‬لكلماً ألكرلسكللناً رفيْيككمُ لريسوُلح بمكنيككمُ يل كيتييلوُ لع لكيْيككمُ‬
‫ب لواًلكرحككلمةل لويييلعلبيميكمُ لماً لكمُ تليكوُنَيوُاً تليكع ليموُلن" ]البقرة‪.[151 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫آلياًتلناً لويييلزبكيْيككمُ لويييلعلبيميكيمُ اًلككلتاً ل‬
‫وتمثل هذه الواجبات المور التية‪:‬‬
‫أولل‪ :‬تبليغ وحي الله إلى الناس‪ ،‬وتعريفهم به ‪+‬يلي كتييلوُ لعلكيْيككمُ آلياًترلناً"‬
‫ويكون هذا التبليغ بالمور التية‪:‬‬
‫‪ -1‬شرح أصول السلما وقواعده للناس‪.‬‬
‫‪ -2‬تفسير نصوص القرآن والسنة تفسيرا متبعا لمنهج السلف‬
‫وملئما للعصر الذي يتم فيه التفسير من حيث السلوبا‬
‫والوسيلة‪.‬‬
‫‪ -3‬جمع الناس على السلما ومبادئه وأخلقه وتوجيههم نحو‬
‫الفهم والعمل‪.‬‬
‫‪ -4‬استهداف كل الناس بالدعوة سواء كانوا مشركين أو‬
‫نصارى أو يهودا أو ملحدة أو علمانيين أو منافقين أو‬
‫فاسقين أو عصاة مع إعطاء الولوية للصف الداخلي‬
‫للمة)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬بيان الخطار التي تواجهها المة السلمية من أعدائها‬
‫والعمل على اجتيازها في حدود ما تتطلبه المرحلة‪.‬‬
‫ثانيلا‪ :‬تزكية الناس‪ ،‬أي تزكية نفوسهم وتطهير وتنميتها‬
‫بالخيرات والبركات في الدنيا والخرة‪ ،‬بحيث يصير النسان في‬
‫الدنيا مستحقلا للوصاف المحمودة‪ ،‬وفي الخرة الجر والمثوبة‪،‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة الدعوة إلى الله‪ ,‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/263‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪219‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وذلك في قوله سبحانه وتعالى‪+ :‬لويييلزبكيْيككمُ" والتزكية بهذا المعنى‪،‬‬


‫تارة تنسب إلى الله تعالى‪+ :‬بلرل اًلي يييلزبكيِ لمنَ يل ل‬
‫شاًءي‪] "...‬النساء‪ [49 :‬وتارة‬
‫تنسب إلى النبي × لكونه واسطة في وصول ذلك إلى الناس كما‬
‫في هذه الية ‪+‬لويييلزبكيْيككمُ"‪.‬‬
‫فالداعية إلى الله يطهر نفوس الناس بوحي الله‪ ،‬وينمي‬
‫أرواحهم وعقولهم وأبدانهم‪ ،‬ويرتفع بهم إلى المستوى الذي كرمه‬
‫ربه وفضله على كثير من خلقه‪.‬‬
‫وهذه التزكية تربية ذات منهج ووسائل تنقل النسان من واقعه‬
‫إلى ما هو أفضل وأكرما وأحسن له في أمر دينه ودنياه‪.‬‬
‫ثالثلا‪ :‬التعليم‪ ،‬تعليم الناس العلم النافع‪ ،‬أي القرآن والحكمة‪،‬‬
‫ب لواًلكرحككلمةل" فهو‬ ‫ر‬
‫وذلك في قوله سبحانه من هذه الية‪+ :‬لويييلعلبيميكيمُ اًلككلتاً ل‬
‫ب"‬ ‫ر‬
‫واجب النبي ×‪ ,‬وواجب الدعاة إلى الله إلى يوما الدين و‪+‬اًلككلتاً ل‬
‫هو القرآن الكريم‪ ،‬وهو هدى للناس كل الناس‪ ،‬فما من خير‬
‫للبشرية في دينها ودنياها إل نوه عنه القرآن الكريم‪ ،‬وما من‬
‫ر‬
‫شيء من هذا وذاك إل اشتمل عليه القرآن الكريم‪+ :‬لماً فليلرطكلناً فيِ‬
‫صيْلل يكبل لشكيِةء" ]يوسف‪ [111 :‬و ‪ +‬ركتبيليْاًحنَاً لبيكبل‬ ‫ب رمنَ لشيِةء" ]النعاما‪+ ,[28 :‬وتليكف ر‬
‫ل‬ ‫ك‬
‫اًلكركلتاً ر‬
‫لشكيِةء" ]النحل‪.[89 :‬‬
‫إن تعليم الناس كتابا الله وسنة رسوله × ينقلهم من ظلما‬
‫الجهل إلى نور العلم‪ ،‬ومن ضلل الباطل إلى هداية الحق‪ ،‬وهذا‬
‫يظهر في قوله تعالى‪+ :‬لويييلعلبيميكمُ لماً لكمُ تليكوُنَيوُاً تليكع ليموُلن" أي يبصركم‬
‫بحاضركم‪ ،‬ويرسم لكم أسلم طريق لمستقبلكم‪.‬‬
‫إن هذه الواجبات المنوطة بالدعاة تحتاج إلى تميز إيماني‬
‫وتفوق روحاني‪ ،‬ورصيد علمي وزاد ثقافي ورجاحة عقل وقوة‬
‫حجة‪ ،‬ورحابة صدر وسماحة نفس حتى يستطيع الدعاة تحقيق‬
‫واجباتهم المذكورة‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم قد بزين واجبات الدعاة في آيات كثيرة‪ ,‬ومن‬
‫اليات الجامعة في هذا البابا قوله تعالى‪+ :‬اًلرذينَ ييبيلبيغوُلن رساًلل ر‬
‫ت اً ر‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل يل‬
‫ل لحرسيْحباً" ]الحزابا‪.[29 :‬‬
‫شوُلن ألححداً إرلل اًل ولكلفىَ رباً ر‬
‫لل‬ ‫شكوُنَلهي لولل يلكخ ل ك ل‬
‫لويلكخ ل‬
‫إن التقصير في القياما بهذا الواجب‪ ،‬إثم ومعصية‪ ,‬ولقد بزين‬

‫‪220‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المولى عز وجل ذلك في قوله تعالى‪+ :‬إرلن اًلرذينَ يككتيموُلن ماً ألنَكيزلكلناً رمنَ اًكلبييْبيلناً ر‬
‫ت‬ ‫لل ي ل ل ل ل‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫ك ليللعنيييهيمُ اًلي لويليكللعنيييهيمُ اًلللرعينوُ ل‬‫ب يأولئر ل‬ ‫س رفيِ اًلكركلتاً ر‬‫لواًلكيهلدىَ رمنَ بليكعرد لماً بلييْليلناًهي رلللناً ر‬
‫‪.[159‬‬
‫والمعنى أن من عرف الحق‪ ،‬فقد وجب عليه أن يبينه للناس‪،‬‬
‫ومن لم يفعل فقد أثم‪.‬‬
‫كما نعى الله ذلك الكتمان على أهل الكتابا في قوله تعالى‪:‬‬
‫س لولل تلككتييموُنَلهي فلينلبليذوهي لولراًءل ظييهوُررهكمُ لواًكشتليلركواً‬ ‫ب ليتبلييْبينيينلهي رلللناً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫‪+‬لوإركذ أللخلذ اًلي ميْلثاًلق اًلذيلنَ يأوتيوُاً اًلككلتاً ل‬
‫س لماً يلكشتلييرولن" ]آل عمران‪.[187 :‬‬ ‫ر ر‬ ‫رر‬
‫به ثللمحناً قلليْلح فلبكئ ل‬
‫وإذا كانت آيات القرآن الكريم قد أوجبت على الدعاة‪ ،‬وأهل‬
‫العلم‪ ،‬أن يبلغوا الناس بهذا العلم‪ ,‬فإن السنة المطهرة شارحة‬
‫القرآن قد فاضت بالحاديث في هذا المجال‪.‬‬
‫روى الماما البخاري بسنده‪ ،‬عن ابن عباس رضي الله عنهما‪،‬‬
‫بابا تحريض النبي × وفد عبد القيس)‪ (1‬على أن يحفظوا اليمان‬
‫والعلم‪ ،‬ويخبروا من وراءهم‪ ,‬قال مالك بن الحويرث)‪ ،(2‬وهو من‬
‫بني عبد قيس‪ :‬قال لنا النبي ×‪» :‬ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم«‪.‬‬
‫وعن ابن عباس قال‪ :‬قال النبي ×‪ ،‬لما قدما إليه وفد عبد القيس‪:‬‬
‫ن الوفد ‪ -‬أو من القوما؟ قالوا‪ :‬ربيعة‪ ,‬فقال‪» :‬مرحباً باًلقوُم ‪ -‬أو‬ ‫م ن‬‫» ع‬
‫الوفد ‪ -‬غيْر خزاًياً ول نَداًمىَ«‪ ,‬قالوا‪ :‬إنا نأتيك من شقة بعيدة‪ ،‬وبيننا‬
‫وبينك هذا الحي من كفار مضر‪ ،‬ول نستطيع أن نأتيك إل في شهر‬
‫حراما‪ ،‬فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا‪ ،‬ندخل به الجنة‪ ،‬فأمرهم‬
‫بأربعة ونهاهم عن أربعة‪ :‬أمرهم باليمان بالله عز وجل وحده‬
‫قال‪» :‬هل تدرون ما اليمان بالله وحده؟« قالوا‪ :‬الله ورسوله‬
‫أعلم‪ ،‬قال‪» :‬شهادة أن ل إله إل الله‪ ،‬وأن محمدلا رسول الله‪،‬‬
‫وإقاما الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوما رمضان‪ ،‬وتعطوا الخمس من‬
‫المغنم«‪.‬‬

‫)( عبد قيس‪ :‬من القبائل التي كانت تسكن الجزيرة العربية وهي من بطون‬ ‫‪1‬‬

‫ربيعة‪.‬‬
‫)( هو مالك بن الحويرث‪ ،‬أبو سليمان الليثي‪ ،‬صحابي نزل البصرة‪ ،‬مات سنة أربع‬ ‫‪2‬‬

‫وسبعين‪ ،‬انظر‪ :‬تقريب التهذيب‪ ،‬ص)‪.(516‬‬

‫‪221‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -‬قال شعبة)‪ :(4‬ربما‬ ‫)‪(3‬‬


‫ونهاهم عن الدباء)‪ (1‬والحنتم)‪ (2‬والمزفت‬
‫قال‪ :‬النقير)‪ (5‬وربما قال‪ :‬المقير)‪.(6‬‬
‫قال‪» :‬احفظوه وأخبروه من وراءكم« )‪.(7‬‬
‫وروى البخاري بسنده‪ ،‬عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‬
‫الله عنهما‪ ،‬أن رسول الله × قال‪» :‬بلغوا عني ولو آية‪ ،‬وحدثوا‬
‫ي متعمدا‪ ،‬فليتبوأ مقعده‬‫إسرائيل ول حرج‪ ,‬ومن كذبا عل ل‬ ‫عن بني‬
‫)‪(8‬‬
‫من النار« ‪.‬‬
‫وخلصة اليات الكريمة والسنة النبوية الشريفة فرضية العين‬
‫على من توافرت فيه الهلية لممارسة العمل في هذه المرحلة أل‬
‫وهي مرحلة التعريف‪.‬‬
‫وعندما يكون المتصدرون لمرحلة التعريف دعاة ربانيين‬
‫يمكنهم أن يحققوا هذه الهداف‪:‬‬
‫تعريفا صحيحلا‪:‬‬
‫ل‬ ‫‪ -1‬التعريف بالسلما‬
‫ويكون ذلك بشرح أصول السلما وقواعده‪ ،‬وآدابه‪ ،‬وأخلقه‪،‬‬
‫ومنهجه ونظامه في حياة الناس‪ ،‬ويفسر للمدعو كل مجمل‪،‬‬
‫ويوضح له كل غامض‪ ,‬وييسر له كل ما يتصور أنه عسير أو صعب‪،‬‬
‫ويكون ذلك وفق تخطيط وتنظيم وتنسيق بين الدعاة‪ ،‬كما‬
‫يستدعي هذا العمل تخصصا يوزع بين الدعاة حتى يصل السلما‬
‫إلى كل إنسان مهما كان مستواه التعليمي أو الثقافي‪ ،‬أو‬
‫الجتماعي‪.‬‬
‫‪ -2‬تكوين قاعدة عريضة من المدعوين‪:‬‬
‫تكون هذه القاعدة على أسس من الفهم السليم والستيعابا‬
‫العميق لحقيقة السلما وأخلقه وآدابه بحيث تكون هذه القاعدة‬
‫من شرائح المجتمع المتنوعة‪ ،‬من فلحين وأصحابا حرف ومصانع‬
‫)( الدباء‪ :‬القرع‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجرة أو الجرار الخضر تعمل من الطين‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( ما طلي بالزفت‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو شعبة بين الحجاج الوردي أبو بسطاما الواسطي‪ ،‬ثقة‪ ،‬حافظ متقن‪ ,‬كان‬ ‫‪4‬‬

‫مدافعا عن السننة‪ ،‬ت ‪ 160‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬تقريب التهذيب‪ ،‬ص ‪.266‬‬ ‫ل‬
‫)( أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( ما طلي بالقار‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬أداء الخمس )‪ (1/23‬رقم ‪.53‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا أحاديث النبياء‪ ،‬بابا ما ذكر من بني إسرائيل )‪ (4/175‬رقم‬ ‫‪8‬‬

‫‪.4361‬‬

‫‪222‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وعمال‪ ،‬وتلميذ في المدارس وطلبا في الجامعات وموظفين‬


‫في الحكومة أو القطاع العاما أو الخاص‪ ,‬ومن المثقفين أصحابا‬
‫الثقافات المتعددة وأعضاء النقابات المهنية والمنتمين للحزابا‬
‫السياسية‪ ،‬وأصحابا الرأي والفكر‪ ،‬وأعضاء هيئات التدريس في‬
‫الجامعات وغير ذلك من شرائح المجتمع‪ .‬والواجب على الدعاة‬
‫في مرحلة الدعوة والتعريف بالسلما أن يعملوا على إيصال‬
‫الدعوة السلمية إليهم بصورة قادرة على مواكبة العصر‬
‫ومتطلباته والمتغيرات وظروفها‪ ،‬وأن يضعوا لهم تصورات دقيقة‬
‫لمشكلت الحياة من منظور إسلمي يدل على شمولية هذا الدين‪,‬‬
‫وأنه يتناول مظاهر الحياة جميعا من دولة ووطن‪ ,‬وحكومة وأمة‪,‬‬
‫وخلق وقوة‪ ،‬وعدالة ورحمة‪ ،‬وثقافة وقانون‪ ,‬وعلم وقضاء‪,‬‬
‫وعقيدة صادقة‪ ,‬وعبادة صحيحة سواء بسواء‪ ,‬ويكون تكوين‬
‫القاعدة الصلبة التي تحمل السلما بالتنسيق والتعاون بين الدعاة‬
‫أنفسهم فتهتم مجموعة من الدعاة بتثقيف المزارعين وتربيتهم‪،‬‬
‫وأخرى في أوساط أصحابا الصناعات والحرف‪ ،‬ودعاة يعملون‬
‫في مجال طلبا العلم‪ ,‬ودعاة في أوساط النتماءات الموالية أو‬
‫المعادية للسلما‪ ,‬وآخرون في مجال النقابات‪ ،‬وفي مجال أصحابا‬
‫النتماءات السياسية والحزبية‪ ،‬وفي مجال أصحابا الفكر والرأي‬
‫وفي هيئات التدريس في الجامعات‪ ،‬ويكون بين الدعاة تعاون‬
‫وثيق وتنسيق مستمر وتنظيم دقيق وتخطيط رشيد وإدارة واعية‬
‫وقيادة حازمة‪ ,‬ولبد من توافر صفات الدعاة فيهم وإل عاد ذلك‬
‫الجهد بمردود سيئ على الدعوة والمدعوين وعلى العمل‬
‫السلمي كله‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن أمر التعاون بين الدعاة واجب شرعي‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لوتليلعاًلونَيوُاً‬
‫لعللىَ اًكلببر لواًلتليكقلوُىَ لولل تليلعاًلونَيوُاً لعللىَ اًرلثكرمُ لواًلكعيكدلواًرن" ]المائدة‪.[2 :‬‬
‫إن الدعوة ليست محصورة في مجال معين‪ ،‬أو وسيلة واحدة‪،‬‬
‫بل هي ميدان رحب ولها وسائل شتى‪ ,‬وذلك يعني أنه لبد من‬
‫بذل جهود عظيمة ولبد من إدراك أن الداعية مهما تعددت مواهبه‬
‫فإنها تقصر عن البداع والتقان في كل مجال‪ ،‬فهناك من يستطيع‬
‫الخطابة ويجيدها‪ ،‬وهناك من يحسن التأليف ويتقنه‪ ،‬وهناك من‬
‫ينشر العلم ويدرسه‪ ،‬وهناك من يعرف العمل السياسي‪ ،‬وآخر‬
‫يبدع في العمل الخيري‪ ،‬وهكذا ول يتصور أن تغطى هذه المجالت‬
‫إل باستفراغا كل داعية جهده في مجال إتقانه ليحصل التكامل‪،‬‬
‫ورحم الله الماما مالكا إماما دار الهجرة الذي نصب نفسه في‬

‫‪224‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ميدان من أعظم ميادين الدعوة وهو نشر العلم الشرعي‪ ,‬فكتب‬


‫إليه من يدعوه إلى غير ذلك)‪ (1‬فقال‪» :‬إن الله قسم العمال كما‬
‫قسم الرزاق‪ ,‬فربا رجل فتح له في الصلة ولم يفتح له في‬
‫الصوما‪ ،‬وآخر فتح له في الصدقة‪ ،‬ولم يفتح له في الصوما‪ ،‬وآخر‬
‫فتح له في الجهاد‪ ،‬فنشر العلم من أفضل أعمال البر‪ ,‬وقد رضيت‬
‫بما فتح الله لي فيه‪ ،‬وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه‪ ،‬وأرجو‬
‫أن يكون كلنا على خير وبر«)‪.(2‬‬
‫ول يشك أحد أن المة السلمية تشكو لخالقها قلة الدعاة‬
‫وغلبة الجهل‪ ،‬وضياع العلم‪ ،‬وتفشي المنكرات مما تحتاج معه إلى‬
‫جهود ضخمة لصلح الحوال‪ ,‬ول يكون ذلك إل بالتعاون لستثمار‬
‫هذه المكانات بأقصى ما يمكن والفادة من التجاربا‪ ،‬وتبادل‬
‫الخبرات‪.‬‬
‫إن أعداء السلما يحرصون على بث أسبابا الشقاق‪ ،‬وزرع‬
‫بذور النزاع بين المسلمين عموما‪ ،‬وأعيانهم من العلماء والدعاة‬
‫خصوصا‪ ،‬وهذا يحقق لهم من الهداف والغايات ما ل يستطيعون‬
‫بلوغه بجهدهم وكيدهم‪ ،‬وذلك أن الهدما من الداخل أشد فتكا‬
‫وأعظم ضررا‪ ،‬ولذا كان خطر المنافقين أكبر وأظهر‪ ,‬وإن عدما‬
‫إدراك هذه الحقيقة يجعل الداعية يخالف إخوانه من الدعاة بدل‬
‫من أعداء الله‪ ،‬ويتفرغا لتسقط أخطائهم وتتبع عثراتهم‪ ،‬فيفرح‬
‫بذلك أعداء الله‪ ،‬بل إنهم يسعون لذلك ويثيرونه‪ ،‬فعلى الداعية‬
‫الحصيف أن يفوت عليهم الفرصة وأن يخذلهم باتباع الحق‪ ,‬وفهم‬
‫حقيقة الختلف المبني على الجتهاد وإحسان الظن بإخوانه‪،‬‬
‫والتماس العذر لهم‪ ،‬والحرص على حماية أعراضهم وسمعتهم‪،‬‬
‫والحرص على التعاون‪ ،‬وإشاعة الخير)‪ ,(3‬وله في ذلك نماذج من‬
‫الئمة والعلماء‪ ,‬فهذا الماما أحمد بن حنبل جاء في سيرته أنه إذا‬
‫بلغه عن شخص صلح أو زهد وقياما بحق واتباع لمر سأل عنه‪،‬‬
‫وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة‪ ،‬وأحب أن يعرف أحواله‪ ،‬وهذا‬
‫الشافعي يناظر يونس الصدفي فيختلفان ويفترقان‪ ,‬قال يونس‪:‬‬
‫فلقيني )أي الشافعي( فأخذ بيدي ثم قال‪ :‬يا أبا موسى أل يستقيم‬
‫أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة)‪ ،(4‬وهذا ابن المبارك‬
‫سمع رجل ينال من آخر وينتقده فقال له ابن المبارك‪ :‬هل قاتلت‬
‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬د‪ .‬علي بادحدح‪ ،‬ص ‪.147‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نزهة الفضلء )‪.(2/625‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.149‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نزهة الفضلء‪ ،‬تهذيب سير أعلما النبلء‪ ،‬د‪ .‬محمد حسن عقيل‪.(2/734) ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪225‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الترك؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهل قاتلت الفرس؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهل‬
‫قاتلت الديلم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفسلم منك الترك والفرس والديلم‬
‫ول يسلم منك أخوك المسلم؟ )‪.(1‬‬
‫فكن أنت محتال لزلته عذرا‬ ‫إذا ما بدت من صاحب لك‬
‫زلة‬
‫كأن به عن كل فاحشة وقرا‬ ‫أحب الفتى ينفي الفواحش‬
‫سمعه‬
‫ول مانع خيرا ول قائل هجرا‬ ‫سليم دواعي الصدر ل‬
‫باسط أذى‬
‫إن في أعدائنا كفاية لستنفاد جهودنا في حربهم‪ ،‬ومواجهتهم‪,‬‬
‫فكيف نغفل عن هذا ونوجه سهامنا لبعضنا؟ )‪.(2‬‬
‫إن نجاح الدعاة في تنظيم جهودهم ووضعها وفق خطة‬
‫شاملة وتوحيد قيادتهم يعين العاملين في مجال الدعوة على‬
‫تحقيق أهدافهم‪ ,‬ويستطيعون أن يبذلوا طاقاتهم في البناء‬
‫وانتقاء العناصر الجيدة التي تعتز وتنتمي إلى السلما وتثبت‬
‫على هذا العتزاز وتتجرد ممن سواه‪ ،‬وتورثه إلى غيرها من‬
‫الناس‪ ،‬وممن يظهر حماسهم والتزامهم الحاسم بكل ما هو‬
‫إسلمي‪ .‬ويستطيع الدعاة أن يفرزوا قاعدة قوية بين الناس‬
‫تؤمن بالعمل الجماعي للسلما وتراه فرضا عليها‪ ،‬وعلى كل‬
‫المسلمين القادرين على العمل‪ ,‬وتكون تلك القاعدة طليعة‬
‫لقاعدة أوسع من العاملين للسلما‪ ،‬في عمل جماعي تشرف‬
‫عليه لجان مشكلة على جميع مستوياته الفكرية‪ ,‬والثقافية‪،‬‬
‫والجتماعية‪ ،‬والقتصادية والسياسية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬والحركية‬
‫والدعوية وفق خطط مجهزة‪ ،‬وتنظيم محكم‪ ،‬وإدارة واعية‬
‫وتربية عميقة‪ ,‬يشرف عليها علماء ربانيون وفقهاء عاملون‬
‫مستوعبون للحياة النسانية وقضاياها ومشكلتها‪.‬‬
‫وسائل الدعاة في هذه المرحلة‪:‬‬
‫لقد انتشر في هذا العصر العلم وكثرت فيه وسائل العلما‬
‫والتربية وازدهرت فيه الخطابة والكتابة وعمت الجامعات في كل‬
‫مكان‪ ،‬وكذلك المدارس في المدن والقرى والجبال والسهول‬
‫والرياف‪ ،‬وتدفقت السيول من المطبوعات والمنشورات من‬
‫المطابع ودور النشر‪ ،‬ونبغ فيها علماء باحثون‪ ،‬ووعاظ مرشدون‪،‬‬
‫فلهذا يجب على الدعاة أن يتبعوا كل أسلوبا يوصلهم إلى قلوبا‬
‫)(‪ (4) ,‬انظر مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.147‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫)( انظر مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.147‬‬

‫‪226‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الناس‪ ,‬ويحقق الهدف المطلوبا من نشر الدعوة‪ ،‬وعليهم أن‬


‫يعتمدوا الساليب الحديثة التي استغلها أعداء السلما في بث‬
‫عقائدهم‪ ،‬ونشر أفكارهم وعلمهم‪ ,‬وعليهم أن يطوروا هذه‬
‫)‪(1‬‬
‫الساليب حتى ل تتعارض مع دعوتهم ول تصدما بقواعد الدين ‪.‬‬
‫وقد حدد القرآن الكريم الساليب العامة للدعوة السلمية في آيات‬
‫سنلرة لولجاًردلكيهكمُ‬ ‫ر ر‬ ‫كريمة‪ ,‬منها قوله تعالى‪+ :‬اًكدعي إرللىَ سبريْرل رب ل ر ر ر‬
‫ك باًلكحككلمة لواًلكلمكوُعظلة اًلكلح ل‬ ‫ل ل‬
‫ر لر ر‬
‫باً تيِ هليِ ألكح ل‬
‫سينَ" ]النحل‪.[125 :‬‬

‫ك" ونشعر‬ ‫ولنستشعر إعجاز القرآن في قوله‪+ :‬اًكدعي إرللىَ لسربيْرل لرب ل‬
‫بمدى أبعاد الطلق الذي جاء في هذه الية‪ ،‬وأبعاد التقييد الذي‬
‫ك" ما حدد وما عين شيئا معينا‬ ‫جاء فيها فأطلق وقال‪+ :‬إرللىَ لسبريْرل لرب ل‬
‫خاصا‪ ،‬فيدخل في ذلك الحث على الصلة ودعوة الناس إلى‬
‫مكارما الخلق والفضيلة وإلى تطبيق شرع الله على أنفسهم‬
‫ك" يحوي كل شيء ويمتد على اتساع جميع‬ ‫وأهليهم‪+ ,‬لسربيْرل لرب ل‬
‫الفاق‪ ،‬وهو ل يختص بالخطابة ول يختص بالكتابة ول يختص‬
‫بالوعظ والنصيحة إنما قال ‪+‬اًكدعي" والدعوة عامة شاملة هذه‬
‫المعاني كلها‪ ،‬وهذه الساليب كلها )‪.(2‬‬
‫ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى‪) :‬إن الدعوة دعوة إلى‬
‫سبيل‪ ،‬ل لشخص الداعية ول لقومه‪ ،‬والدعوة بالحكمة والنظر في‬
‫أحوال المخاطبين وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة‬
‫حتى ل يثقل عليهم ول يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها‪،‬‬
‫والطريقة التي يخاطبهم بها والتنويع في هذه الطريقة حسب‬
‫مقتضياتها‪ ،‬فل تستبد به الحماسة والندفاع والغيرة فيتجاوز‬
‫الحكمة في هذا كله وفي سواه( )‪.(3‬‬
‫ويقول أيضا‪) :‬بالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوبا‬
‫برفق‪ ،‬وتتعمق المشاعر بلطف‪ ،‬ل بالزجر والتأنيب في غير‬
‫موجب‪ ،‬ول بفضح الخطاء التي قد تقع عن جهل أو عن حسن نية‪،‬‬
‫فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوبا الشاردة‪ ،‬ويؤلف‬
‫القلوبا النافرة‪ ،‬ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ( )‪.(4‬‬
‫ويقول أيضا في معنى الجدل بالتي هي أحسن‪) :‬أي بل تحامل‬
‫)( انظر‪ :‬أسس الدعوة‪ ،‬محمد سيد الوكيل‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬حكمة الدعوة وصفة الدعاة لبي الحسن الندوي‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( )‪ (2‬في ظلل القرآن )‪.(4/2198‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬
‫)( في ظلل القرآن ) ‪.(4/2198‬‬

‫‪227‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على المخالف ول ترذيل له ول تقبيح‪ ،‬حتى يطمئن الداعي ويشعر‬


‫أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل‪ ،‬ولكن القناع والوصول إلى‬
‫الحق( )‪.(1‬‬
‫وعليه تكون الساليب العامة للدعوة إلى الله ثلثة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكمة‪.‬‬
‫‪ -2‬الموعظة الحسنة‪.‬‬
‫‪ -3‬المجادلة بالتي هي أحسن)‪.(2‬‬
‫وعلى الدعاة أن ل يغفلوا الوسائل الحديثة التي ظهرت في‬
‫هذا العصر‪ ،‬وكان لها الثر الكبير في سلوك الناس ومعاملتهم‬
‫وأفكارهم ومن هذه الوسائل‪:‬‬
‫‪ -1‬وسائل العلما‪:‬‬
‫وهي بجميع أنواعها أسلوبا جيد إذا أحسن استغلله‪ ،‬فالصحف‬
‫اليومية والمجلت الشهرية أو السبوعية‪ ،‬والنشرات الدورية‪،‬‬
‫والوسائل السمعية )الذاعة( والوسائل البصرية )التلفاز ‪-‬‬
‫والتسجيل المرئي ‪ -‬الفيديو( وحتى )اللة الحاسبة الدقيقة(‬
‫)الكمبيوتر(‪ ,‬فكل هذه الوسائل يمكن أن تستخدما في مجال‬
‫الدعوة ويمكن استخداما القصة للتأثير في نفس السامع والقارئ‪,‬‬
‫والتمثيليات الهادفة التي تبعث في النفوس الطموح‪ ،‬وتثير فيها‬
‫حب الجهاد في سبيل الله وتدعو إلى الفضائل والخلق الحميدة‪،‬‬
‫وهناك الناشيد الحماسية التي تشعل في النفوس الحماس‬
‫والنطلق للدعوة في سبيل الله‪ ،‬وفي تاريخنا مادة دسمة تغذي‬
‫هذه الموضوعات‪.‬‬
‫لشك أننا إذا قدمنا للناس هذه اللوان من الساليب وهي‬
‫تحمل في معانيها ما تدعو إليه من العقيدة الصحيحة‪ ،‬واليمان‬
‫العميق‪ ،‬والخلق الفاضلة‪ ،‬والمثل العالية والدابا والتقاليد التي‬
‫نعتز بها‪ ،‬نكون قد ولجنا إلى قلوبهم من حيث يجب أن نلج‪,‬‬
‫ونكون قد قدمنا لهؤلء المولعين بهذه الساليب عوضا عما يلهثون‬
‫وراءه من هذه التفاهات التي استولت على عقولهم فأضلتها عن‬
‫الحق‪ ،‬فحينئذ نستطيع أن نتحكم في قلوبا الناس وعقولهم‪،‬‬
‫فنملها بالحق بدل الباطل‪ ,‬ونغذيها بالفضائل بدل الرذائل‪,‬‬
‫ونوجههم إلى الخير والصلح)‪.(3‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(4/2302‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الدعوة السلمية بين الفردية والجماعية‪ ،‬سليمان مرزوق‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬أسس الدعوة‪ ،‬د‪ .‬محمد السيد الوكيل‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪228‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -2‬الكتب والبحوث‪:‬‬
‫امتلت الدنيا بالمؤلفات‪ ،‬وأصبح في كل بيت مكتبة‪ ،‬بل في‬
‫كل مكتب مكتبة‪ ،‬وكثرت دور النشر‪ ،‬وشجع تقدما فن الطباعة‬
‫على مضاعفة المطبوعات بشكل هائل‪.‬‬
‫إن الكتب والمجلت الجنسية والروايات والقصص‪ ،‬وكتب‬
‫الجريمة والفساد‪ ،‬وكتب الفكار الهدامة والمنحرفة انتشرت‬
‫في دنيا الناس انتشار النار في الهشيم بكل اللغات والوسائل‪،‬‬
‫فيجب على الدعاة أن يكتبوا الكتب والبحوث بأسلوبا سهل‬
‫ممتع و جذابا يفهمه عامة الناس وخاصتهم‪ ،‬وتعرف الناس‬
‫بالسلما وتشرح لهم تعاليمه‪ ,‬وتقنعهم أنه منهج كامل يتناول‬
‫جميعا‪ ،‬وأنه كفيل بإسعاد الناس وجلب الرخاء‬ ‫ل‬ ‫شئون الحياة‬
‫والمن والسلما لهم جميعا‪ ,‬حيث إنه أوجد حضارة مشرقة‬
‫صحيحا‪ ،‬ويحسن أن تعرض‬ ‫ل‬ ‫طبق تطبيقا‬‫وتاريخا مجيدا يوما أن ع‬
‫هذه الفكار ونظيراتها في كتيبات يسهل حملها كما تسهل‬
‫قراءتها بحيث تكون كل فكرة أو بحث في كتيب على حدة‪،‬‬
‫وتتسلسل في ربط قوي‪ ،‬وجاذبية مؤثرة تجعل القارئ ل ينتهي‬
‫من كتيب حتى يجد نفسه مشدودا إلى قراءة الذي يليه)‪.(1‬‬
‫وهكذا يسعى الدعاة إلى توظيف كل الوسائل من الخطبة‬
‫والمحاضرة والدرس والمناظرة‪ ..‬إلخ للتعريف بدعوة السلما‪،‬‬
‫ولبد لهم من استيعابا فقه المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫ووسائله وأساليبه والهتماما بإقامة المنشآت والمؤسسات النافعة‬
‫التي تجلب الخير للناس وتدفع عنهم الشر‪ .‬ولبد أن يكون الدعاة‬
‫الذين يتصدون لتعليم الناس وتعريفهم بدعوة السلما قدوة بين‬
‫الناس‪ ،‬لن القدوة هي الصورة الحية للفكرة‪ ،‬والتطبيق العملي‬
‫للدعوة‪ ،‬والتوضيح الجلي للحجة‪ ،‬ولشك أنها من أعظم أسبابا‬
‫بذر المحبة في القلوبا‪ ،‬ووجود القناعة في العقول‪ ,‬وكثير من‬
‫المدعوين ينتفعون بالسيرة ولسيما العامة وأربابا العلوما‬
‫القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والخلق الفاضلة والعمال‬
‫الصالحة ما ل ينتفعون من القوال التي قد ل يفهمونها)‪.(2‬‬
‫ولله در ابن القيم حيث قال‪» :‬إن الناس قد أحسنوا القول‬
‫فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصابا حظه‪ ,‬ومن خالف قوله‬
‫فعله فذاك إنما يوبخ نفسه«)‪.(3‬‬
‫)( انظر‪ :‬كيف ندعو الناس‪ ،‬عبد البديع خضر‪ ،‬ص ‪.75‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن باز )‪.(3/110‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الفوائد‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪229‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ولبد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة وخطورة انعدامه‬


‫حيث »يستطيع النسان أن يكون عالما جهبذا في الكيمياء أو‬
‫العلوما أو الطب أو الهندسة أو غير ذلك من العلوما التي أمرنا الله‬
‫بتعلمها لتعمر الدنيا‪ ،‬ولكن هذه العلوما ل تتطلب منا قيدا سلوكيا‪،‬‬
‫فقد تكون عالما في أي فرع من هذه العلوما وسلوكك تبعا لهواك‪,‬‬
‫ولكن هذا ل يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك لن النبوغا ل يضع‬
‫قيدا على الخلق‪ ,‬إل علم الدين فإنك إن كنت من علمائه أو‬
‫الداعين إليه أو المتدينين المخلصين لبد أن تكون قدوة حسنة لما‬
‫تدعو إليه وإل لما استمع إليك أحد)‪.(1‬‬
‫قال شيخ السلما ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬قال غير واحد من‬
‫السلف‪:‬‬
‫الحكمة معرفة الدين والعمل به( )‪.(2‬‬
‫والعلم بل عمل حجة على صاحبه يوما القيامة‪ ،‬ولهذا حذر الله‬
‫المؤمنين أن يقولوا ما ل يفعلون‪ ,‬فقال عز وجل‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً لرلمُ‬
‫تلييقوُيلوُلن ماً لل تليكفعيلوُلن ‪ ‬لكبير مكقحتاً رعنلد اً ر‬
‫ل لأن تلييقوُليوُاً لماً لل تليكفلعيلوُلن" ]الصف‪.[3 ،2 :‬‬ ‫يل ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫هل لنفسك كان ذا التعليم‬ ‫يا أيها الرجل المعلم غيره‬

‫فإذا انتهت عنه فأنت‬ ‫ابدأ بنفسك فانهها عن غيها‬


‫حكيم‬
‫بالعلم منك وينفع التعليم‬ ‫فهناك يقبل ما تقول ويقتدى‬

‫كيما يصح به وأنت سقيم‬ ‫تصف الدواء لذي السقاما‬


‫من الضنا‬
‫نصحا وأنت من الرشاد‬ ‫أراك تلقح بالرشاد عقولنا‬
‫عديم‬
‫)‪(3‬‬
‫عظيم‬ ‫ل تنه عن خلق وتأتي مثله‬

‫عدة الدعاة القائمين على هذه المرحلة‪:‬‬


‫أولل‪ :‬التميز اليماني والتفوق الروحي‪:‬‬
‫إن التميز في مجال اليمان عقيدة صحيحة‪ ،‬ومعرفة جازمة‪،‬‬
‫)( الدعوة قواعد وأصول‪ ،‬جمعة أمين‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( درء تعارض العقل والنقل )‪.(23 ،9/22‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪230‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وتأثيلرا قوليا يعد ‪ -‬بل نزاع ‪ -‬أهم المقومات وأولى الولويات‬


‫بالنسبة للداعية‪ ،‬لكي يكون الداعية عظيم اليمان بالله‪ ،‬شديد‬
‫الخوف منه‪ ،‬صادق التوكل عليه‪ ،‬دائم المراقبة له‪ ،‬كثير النابة‬
‫إليه‪ ،‬لسانه رطب بذكر الله‪ ،‬وعقله مفكر في ملكوت الله‪ ،‬وقلبه‬
‫مستحضر للقاء الله‪ ،‬مجتهد في الطاعات‪ ،‬مسابق إلى الخيرات‪،‬‬
‫صواما بالنهار قواما بالليل‪ ،‬مع تحري الخلص التاما‪ ،‬وحسن الظن‬
‫بالله‪ ،‬وهذا هو عنوان الفلح وسمت الصلح‪ ،‬ومفتاح النجاح إذ هو‬
‫تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من‬
‫الله‪ ,‬فإذا بالداعية مسدد‪ ،‬إن عمل أجاد‪ ،‬وإن حكم أصابا‪ ،‬وإن‬
‫تكلم أفاد)‪.(1‬‬
‫يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬التزاما عبوديته من الذل‬
‫والخضوع والنابة وامتثال أمر سيده‪ ،‬واجتنابا نهيه‪ ،‬ودواما‬
‫الفتقار إليه‪ ،‬واللجوء إليه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬وعياذ‬
‫العبد به ولياذه به‪ ،‬وأن ل يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء‪،‬‬
‫حيا وميتلا‪،‬‬ ‫وفيه أيضا أنه عبد من جميع الوجوه‪ :‬صغيرلا وكبيرلا‪ ،‬ل‬
‫مطيعا وعاصيلا‪ ،‬معافى ومبتلى‪ ،‬بالروح والقلب واللسان‬
‫ل‬
‫والجوارح‪ ،‬وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما‬
‫ي بكل ما أنا‬ ‫أيضا أنك أنت الذي مننت عل ز‬ ‫ل‬ ‫يملك لسيده‪ ،‬وفيه‬
‫أيضا أني‬ ‫ل‬ ‫فيه من نعمة فذلك كله من إنعامك على عبدك‪ ,‬وفيه‬
‫ل أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إل بأمرك‪ ،‬كما ل‬
‫ضرا ول‬‫ل‬ ‫يتصرف العبد إل بإذن سيده‪ ,‬وإني ل أملك لنفسي‬
‫نشورا فإن صح له شهود ذلك فقد‬ ‫ل‬ ‫موتا ول حياة ول‬
‫ل‬ ‫نفعا‪ ،‬ول‬
‫ل‬
‫)‪(2‬‬
‫قال إني عبدك حقيقة« ‪.‬‬
‫ول يتصور للداعية نجاح وتوفيق‪ ،‬أو تمييز وقبول دون أن يكون‬
‫حظه من اليمان عظيملا »إذ كيف تدعو الناس إلى أحد وصلتك به‬
‫واهية ومعرفتك به قليلة«)‪.(3‬‬
‫وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوبا التي‬
‫تخفى على الناس ول يعلمها إل علما الغيوبا‪ ،‬إل أن آثار ذلك‬
‫تظهر بوضوح في القوال والفعال‪ ,‬فإن »عكوف القلب على الله‬
‫تعالى وجمعه عليه‪ ،‬والخلوة به‪ ،‬والنقطاع عن الشتغال بالخلق‬
‫والنتقال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه‪ ،‬والقبال عليه‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الفوائد‪ ،‬ص ‪.35 ،34‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مع الله‪ ,‬الشيخ محمد الغزالي‪ ،‬ص ‪.188‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪231‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫في محل هموما القلب وخطراته‪ ،‬فيستولي عليه بدلها‪ ،‬ويصير‬


‫الهم كله به‪ ،‬والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه‬
‫وما يقربا منه‪ ,‬فيصير أنسه بالله بدل عن أنسه بالخلق‪ ،‬فيعده‬
‫بذلك لنسه به يوما الوحشة في القبور حين ل أنيس‪ ,‬ول ما يفرح‬
‫به سواه«)‪.(1‬‬
‫كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته‬
‫آثار اليمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬التحرر من عبودية غير الله‪:‬‬
‫اليمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الرض‪،‬‬
‫وكل شهوات الدنيا ويصبح حرا ل سلطان لحد عليه إل لله‪ ،‬فل‬
‫يخاف إل الله‪ ،‬ول يذل إل لله‪ ،‬ول يطلب إل من الله‪ ,‬ول يأمل إل‬
‫من الله‪ ،‬ول يتوكل إل على الله‪ ،‬ولليمان تأثير كبير في أعظم‬
‫أمرين يسيطران على حياة البشر وهما‪ :‬الخوف على الرزق‪،‬‬
‫والخوف على الحياة‪.‬‬
‫أما الول‪ :‬فل يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال‪ ،‬وكم‬
‫يشغل الناس حب المال‪ ,‬وكم باع أناس مبادئهم‪ ،‬وخانوا أمتهم‬
‫وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذهب بأبصارهم وسبي قلوبهم‪ ،‬أما‬
‫المؤمن فحقائق اليمان تمل قلبه فل يتأثر بشيء من هذا لن في‬
‫سلماًرء ركزقييككمُ لولماً يتوُلعيدولن" ]الذاريات‪.[22 :‬‬ ‫قلبه قول الحق جل وعل‪+ :‬لورفيِ اًل ل‬
‫ولنه يعلم من بيده الرزق‪+ :‬لفاًبكيتليغيوُاً رعكنلد اً ر‬
‫ل اًلبركزلق لواًكعبييدوهي لواًكشيكيرواً لهي"‬
‫]العنكبوت‪ [17 :‬وأنه ل يملك أحد من البشر من ذلك شيئا ‪+‬إرلن اًلرذيلنَ‬
‫ل لل يلكملريكوُلن ليككمُ ركزحقاً" ]العنكبوت‪ ,[17 :‬وفوق ذلك يعلم حقيقة‬ ‫تليكعبيدولن رمنَ يدورن اً ر‬
‫ي‬
‫خيْيرر‬
‫ك لك‬ ‫الرزق في الدنيا وقيمته المحدودة ويرتبط بقوله‪+ :‬لوركزيق لرب ل‬
‫لولأبكيلقىَ" ]طه‪.[131 :‬‬
‫وقوله‪+:‬إرلن لهلذاً لرركزقييلناً لماً لهي رمنَ نَليلفاًةد" ]ص‪.[54 :‬‬
‫وحديث المصطفى ×‪» :‬لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح‬
‫كافرا منها شربة ماء« )‪.(2‬‬
‫ل‬ ‫بعوضة ما سقى‬
‫ومن هذه المنطلقات اليمانية قال الشافعي ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬

‫)( زاد المعاد )‪.(2/87‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الترمذي‪ ،‬كتابا الزهد‪ ،‬بابا‪ :‬ما جاء في هوان الدنيا على الله‪ ،‬حديث رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪.2320‬‬

‫‪232‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وإذا مت لست أعدما قبرا‬ ‫أنا إن عشت لست أعدما‬


‫قوتا‬
‫ل‬
‫)‪(1‬‬
‫قهرا‬ ‫همتي همة الملوك ونفسي‬

‫أما الثاني‪ :‬فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله‪ ،‬وأنه ل‬


‫ينجي حذر من قدر‪ ،‬وأن المة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء‬
‫ل يضروه إل بشيء قد كتبه الله عليه‪ ،‬وأن الموت ليس بالقداما‬
‫وأن السلمة ليست بالحجاما‪ ,‬كما قال تعالى‪+ :‬لأيكينللماً تليكوُنَيوُاً ييكدركمكيمُ‬
‫شيْللدةة" ]النساء‪ ,[78 :‬ومن هنا يتميز المؤمن عن‬ ‫ت لولكوُ يككنتيكمُ رفيِ بيييروةج م ل‬
‫اًلكلمكوُ ي‬
‫غيره فبينما ترتجف القلوبا وتنسكب الدموع‪ ،‬وتعلو التوسلت‪،‬‬
‫وتقدما التنازلت‪ ،‬حرصا على الحياة نجد المؤمن كالطود الشامخ‬
‫يهتف مع خبيب بن عدي قائل‪:‬‬
‫على أي جنب كان في الله‬ ‫ولست أبالي حين أقتل‬
‫مصرعي‬ ‫مسلما‬
‫ويتذكر قول علي بن أبي طالب‪:‬‬
‫يوما ل يقدر أو يوما قدر‬ ‫أي يومي من الموت أفر‬
‫)‪(2‬‬
‫ومن المقدور ل ينجو الحذر‬ ‫يوما ل يقدر ل أرهبه‬

‫ول ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهددوا بالموت هتفوا‬
‫ضيِ لهرذره اًلكلحليْاًلة اًلمدنَكيليْاً" ]طه‪.[72 :‬‬
‫ض إرنَلماً تليكق ر‬
‫ت لقاً ة ل‬ ‫قائلين‪+ :‬لفاًقك ر‬
‫ض لماً ألنَ ل‬
‫‪ -2‬الخشية من الله‪:‬‬
‫وهي من أعظم آثار اليمان وأبرز أوصاف المؤمنين ‪+‬اًلرذيلنَ‬
‫ساًلعرة يمكشرفيقوُلن" ]النبياء‪.[49 :‬‬ ‫شكوُلن لربلييهكمُ براًلكغلكيْ ر‬
‫ب لويهمُ بملنَ اًل ل‬ ‫يلكخ ل‬

‫شكوُلن أللححداً إرلل اًلل" ]الحزابا‪.[39 :‬‬


‫شكوُنَلهي لولل يلكخ ل‬
‫ل لويلكخ ل‬ ‫‪+‬اًلرذينَ ييبيلبيغوُلن رساًلل ر‬
‫ت اً ر‬
‫ل‬ ‫ل يل‬
‫وقدوتهم في ذلك النبي × حيث يقول‪» :‬إني لخشاكم لله‬
‫وأتقاكم له« )‪.(3‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا النكاح‪) ،‬الفتح ‪.(9/104‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪233‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫»والخشية أخص من الخوف‪ ،‬فهي خوف مقرون بمعرفة«)‪،(1‬‬


‫وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن‬
‫الغافلين والعابثين؛ لن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارما الله‪,‬‬
‫قال إبراهيم بن سفيان‪» :‬إذا سكن الخوف القلوبا أحرق مواضع‬
‫الشهوات منها وطرد الدنيا عنها«)‪.(2‬‬
‫وقال الفضيل بن عياض‪» :‬من خاف الله لم يضره أحد‪ ،‬ومن‬
‫خاف غير الله لم ينفعه أحد«)‪ ،(3‬وهذه الخشية دافعة للطاعة »وما‬
‫استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله«)‪ .(4‬والداعية له رتبة‬
‫عليا من اليمان »تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة‬
‫تخامر نفسه أماما ذي سلطان«)‪ .(5‬والخشية أساس مراقبة الله‬
‫ترقى بالمؤمن إلى درجة الحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم‬
‫يكن يراه فإن الله يراه)‪.(6‬‬
‫‪ -3‬حسن الصلة بالله‪:‬‬
‫والمقصود بها إقامة الفرائض‪ ،‬والستكثار من النوافل‪،‬‬
‫والشتغال بالذكار‪ ،‬والمداومة على الستغفار وكثرة التلوة‬
‫القرآنية‪ ،‬والحرص على المناجاة الربانية‪ ،‬وغير ذلك من القربات‬
‫والطاعات‪ ,‬لن العبادة زاد يتقوى به الداعية‪ ،‬فالصلة صلة بينه‬
‫وبين موله‪ ،‬ول مناص من تميزه في حرصه عليها‪ ،‬وتبكيره إليها‬
‫وخشوعه فيها‪ ،‬وتطويله لها‪ ،‬وشهودها مع الجماعة وله في ذلك‬
‫قدوات سالفة‪ ,‬فسعيد بن المسيب ما فاتته الصلة في جماعة‬
‫أربعين سنة)‪.(7‬‬
‫والربيع بن خيثم كان يقاد إلى الصلة وبه الفالج‪ ،‬فلما روجع‬
‫في ذلك قال‪» :‬إني أسمع حي على الصلة فإن استطعتم أن‬
‫تأتوها ولو حبوا«)‪ (8‬ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن‬
‫الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر والعشاء مع ما‬
‫ورد في أدائها من تعظيم الجر‪ ،‬وما جاء في فواتها من التحذير‬
‫من الثم والوزر‪ ،‬وقد ترخص كثيرون في ذلك فل يهمهم التبكير‪،‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬ص ‪.269‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬ص ‪.270‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫نزهة الفضلء‪.(2/661) ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/513‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫مع الله‪ ،‬ص ‪.190‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫نزهة الفضلء )‪.(1/370‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/381‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪234‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ول يعنيهم إدراك التكبير‪ ،‬ولست أدري ما يقول هؤلء إذا سمعوا‬
‫مقالة إبراهيم بن زيد التيمي‪» :‬إذا رأيت الرجل يتهاون في‬
‫التكبيرة الولى فاغسل يدك منه«)‪ ،(1‬وبماذا يعلقون إذا علموا أن‬
‫سعيد بن عبد العزيز التنوخي »كان إذا فاتته صلة الجماعة‬
‫بكى«)‪.(2‬‬
‫والحقيقة أن المر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض‬
‫الدعاة كثير وخطير‪ ،‬ونصوص الكتابا والسنة أشهر من أن تذكر‪.‬‬
‫والذكر عظيم المنزلة فهو »منشور الولية الذي من أعطيه‬
‫اتصل‪ ،‬ومن منعه عزل‪ ،‬وهو قوت قلوبا القوما الذي متى فارقها‬
‫صارت الجساد لها قبورا‪ ،‬وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه‬
‫صارت بورا‪ ،‬وهو سلحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق‪ ،‬وماؤهم‬
‫الذي يطفئون به التهابا الحريق‪ ،‬ودواء أسقامهم الذي متى‬
‫فارقهم انتكست به القلوبا«)‪ (3‬والذكر هو العبادة المطلوبة بل حد‬
‫ينتهي إليه ‪+‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً اًكذيكيرواً اًلل رذككحراً لكرثيْحراً" ]الحزابا‪ [41 :‬وبل وقت‬
‫ف اًلنليلهاً ر‬ ‫ر ل‬ ‫ر‬
‫تختص به ‪+‬لومكنَ آلنَاًء اًل كيْرل فل ل‬
‫سبكح لوألطكلراً ل‬
‫ضىَ" ]طه‪ [130 :‬وبل حال تستثنى منه ‪+‬اًلرذيلنَ يلكذيكيرولن اًلل قرليْاًحماً لوقيييعوُحداً‬ ‫للع ل ل‬
‫ك تليكر ل‬
‫لولعللىَ يجينوُبررهكمُ" ]آل عمران‪.[191 :‬‬
‫والذاكرون هم السابقون في رياض الجنة يرتعون‪ ,‬وبوصية‬
‫المصطفى × يعملون‪ ،‬وبمباهاة الملئكة يسعدون)‪.(4‬‬
‫والستغفار من أعظم الذكار وكان المصطفى × يستغفر في‬
‫اليوما والليلة سبعين مرة)‪.(5‬‬
‫وأخبر أمته أن »من لزما الستغفار جعل الله له من كل ضيق‬
‫مخرجا‪ ،‬ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث ل يحتسب« )‪ ،(6‬ولذا‬
‫فلبد للداعية من الذكار ليحيى الله قلبه‪ ،‬ولبد له من الستغفار‬
‫ليمحو الله ذنبه‪.‬‬
‫وأعظم الذكر تلوة القرآن التي هي من أقوى الصلت بالله‬
‫التي يحتاجها الدعاة‪ ،‬ولها أثرها في واقع الدعوة والحياة‪» ،‬ومن‬

‫نزهة الفضلء )‪(1/468‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬ص ‪.463‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.463‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.42 ،41‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتابا الدعوات‪ ،‬بابا استغفار النبي × )‪ (2/178‬رقم ‪.1518‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫أبو داود‪ ،‬كتابا الصلة‪ ،‬بابا‪ :‬الستغفار )‪ (2/178‬رقم ‪.1518‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪235‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الصلة بالله إعزاز كتابا الله وإدمان تلوته وتدبر معانيه‪ ،‬وعقد‬
‫مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها‪ ،‬والواقع الذي‬
‫ثوى الناس فيه‪ ،‬لتكون هذه المقارنة حافزا على تذكير الناس‬
‫بالحق‪ ،‬وقيادتهم إلى الله‪ ،‬وتأهليهم‪ ،‬وقربا الداعية من كتابا الله‬
‫يجب أن يكون متعة لروحه وسكنا لفؤاده وشعاعا لعقله‪ ،‬ووقودا‬
‫لحركته ومرقاة لدرجته«)‪ ،(1‬والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال‬
‫ابن مسعود ‪        » :‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪          ‬‬
‫)‪( ‬‬
‫‪. «           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪    »   ,     ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪.( )«      ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪  ,      ‬‬
‫‪.      ‬‬
‫ثانيا‪ :‬الرصيد العلمي والزاد الثقافي‪:‬‬
‫وهذا أساس لبد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة‬
‫للتساؤلت‪ ،‬وحلول للمشكلت‪ ,‬إضافة إلى ذلك هو العدة التي بها‬
‫يعلم الناس أحكاما الشرع‪ ،‬ويبصرهم بحقائق الواقع‪ ،‬وبه أيضا‬
‫يكون الداعية قادرا على القناع وتفنيد الشبهات‪ ،‬ومتقنا في‬
‫العرض‪ ،‬ومبدعا في التوعية والتوجيه)‪» .(4‬وإذا كانت الدعوة إلى‬
‫الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي ل تحصل إل بالعلم‬
‫الذي يدعو به وإليه‪ ،‬ولبد من كمال الدعوة من البلوغا في العلم‬
‫إلى حد يصل إليه السعي«)‪ .(5‬والخوض في غمار الدعوة وميادينها‬
‫لبد للداعي من علم وإل ترتب على ذلك آثار وخيمة لن »العامل‬
‫على غير علم كالسالك على غير طريق‪ ،‬والعامل على غير علم ما‬
‫مع الله‪ ،‬ص ‪.191‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الفوائد‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مع الله‪ ،‬ص ‪.190‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫مفتاح السعادة )‪(1/154‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪236‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يفسد أكثر مما يصلح«)‪.(1‬‬


‫وكما قال معاذ بن جبل ‪     » :‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪.()«‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪           »   ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪          ,  ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪.()«      ‬‬
‫‪        »     ‬‬
‫‪.( )«       ‬‬
‫‪,          ‬‬
‫ك" ]محمد‪.[19 :‬‬‫‪+ :  ‬لفاًكعلكمُ ألنَلهي لل إرلهل إرلل اًلي لواًكستليغكرفكر لرلذنَبر ل‬
‫وبالعلم يحوز الداعية الرفعة في الميزان الرباني وفق قوله‬
‫تعالى‪+ :‬ييرفلرع اًل اًلرذينَ آمنيوُاً رمكنيكمُ واًلرذينَ يأوتيوُاً اًلكرعكلمُ لدرجاً ة‬
‫ت" ]المجادلة‪.[11 :‬‬ ‫ل لل‬ ‫كل ل‬ ‫ي ل ل‬ ‫لك‬
‫والسعي في طلب العلم تحقيق للغاية التي أرادها الله ووجه‬
‫إليها في قوله‪+ :‬فليلكوُلل نَليلفلر رمنَ يكبل فركرقلةة بم كنييهكمُ لطاًئرلفةر لرليْتليلفلقيهوُاً رفيِ اًلبديرنَ لولرييْنرذيرواً قليكوُلميهكمُ إرلذاً‬
‫لرلجعيوُاً إرلكيْرهكمُ للع ليهكمُ يلكحلذيرولن"‬
‫]التوبة‪.[122:‬‬
‫فقد جعل الله المة فرقتين »أوجب على إحداهما الجهاد في‬
‫سبيله وعلى الخرى التفقه في دينه‪ ،‬لئل ينقطع جميعهم عن‬
‫الجهاد فتندرس الشريعة‪ ،‬ول يتوفروا على طلب العلم فتغلب‬
‫الكفار على الملة‪ ،‬فحرس بيضة السلما بالمجاهدين‪ ،‬وحفظ‬
‫شريعة‬
‫اليمان بالمتعلمين‪ ،‬وأمر بالرجوع إليهم في النوازل ومسألتهم‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/130‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مجموع فتاوى ابن تيمية )‪.(136 ،28/135‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أصول الدعوة‪ ،‬د‪ .‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أدبا الدنيا والدين للماوردي‪ ،‬ص ‪40‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪237‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫]النحل‪:‬‬ ‫عن الحوادث‪ ,‬فقال عز وجل‪+ :‬لفاًكسألليوُاً ألكهلل اًلبذككرر رإن يككنيتمُ لل تليكع ليموُلن"‬
‫‪ [43‬وقال تعالى‪+ :‬وإرلذاً جاًءهمُ ألمر بمنَ اًلمرنَ ألرو اًلكلخوُ ر‬
‫ف أللذاًعيوُاً برره ولكوُ رمدوهي إرللىَ اًللريسوُلر‬
‫ل ل‬ ‫ك‬ ‫ل ل لي ك كر ل ك‬
‫طوُنَلهي" ]النساء‪.[83 :‬‬ ‫لوإرللىَ يأورليِ اًلكمرر رم كنييهكمُ للعلرلمهي اًلرذيلنَ يلكستليكنبر ي‬
‫وإذا سلك الداعية طريق العلم حظى بالخيرية الربانية الثابتة‬
‫في حديث رسول‬
‫الله ×‪» :‬من سلك طريقلا يلتمس به علما سهل الله به طريقلا من‬
‫طرق الجنة« )‪.(1‬‬
‫وإذا نال الداعية حظا وافيا من العلم واندرج في سلك طلبة‬
‫العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراسا يهتدى به‪ ,‬كما قال ابن القيم‬
‫عن الفقهاء‪» :‬إنهم في الرض بمنزلة النجوما في السماء‪ ,‬بهم‬
‫يهتدي في الظلماء‪ ،‬حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى‬
‫الطعاما والشرابا‪ ،‬وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة المهات‬
‫والباء«)‪ .(2‬وعندما يتحرك الداعية ناشرا علمه ساعيا بين الناس‬
‫ناعيا عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف‬ ‫ل‬ ‫بالصلح‪,‬‬
‫الذي ذكره الماما أحمد حين قال‪» :‬الحمد لله الذي جعل في كل‬
‫فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى‬
‫ويصبرون منهم على الذى‪ ،‬يحيون بكتابا الله تعالى الموتى‪،‬‬
‫ويبصرون بنور الله أهل العمى‪ ،‬فكم من قتيل لبليس قد أحيوه‪،‬‬
‫وكم من ضال تائه قد هدوه‪ ،‬فما أحسن أثرهم على الناس وما‬
‫أقبح الناس عليهم«)‪ .(3‬وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد‬
‫التاريخ أنهم »هم من اهتدى بهم الحائر‪ ،‬وسار بهم الواقف‪ ،‬وأقبل‬
‫بهم المعرض‪ ،‬وكمل بهم الناقص‪ ،‬ورجع بهم الناكص‪ ،‬وتقوى‬
‫بهم الضعيف«)‪.(4‬‬
‫ومن أهم العلوما التي يجب أن يهتم بها الدعاة علم القدوما‬
‫على الخرة الذي قل وجوده بين الناس‪ ،‬وبين طلبا العلم‪ ،‬والذي‬
‫بدونه ل يعتبر العالم عالما وإن حفظ الشروح والمتون والحكاما‪,‬‬
‫ومل رأسه منها ورددها على لسانه‪ .‬إن هذا العلم لب العلوما‬
‫وغايته‪ ،‬وكل مسلم محتاج إليه‪ ,‬والعالم أشد حاجة إليه‪ ،‬والداعي‬
‫أحوج من الجميع إليه‪ .‬إن هذا العلم هو الذي فقهه الصحابة‬
‫الكراما وأشربت به قلوبهم وتنورت به عقولهم فضنوا بوقتهم أن‬
‫يذهب سدى من غير طاعة الله ودعوة إليه‪ ،‬فاجتهدوا في أمور‬
‫أبو داود‪ ،‬كتابا العلم‪ ،‬بابا الحث على العلم )‪ (4/57‬رقم ‪.3641‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أعلما الموقعين )‪.(1/9‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬أصول الدعوة‪ ،‬ص ‪.328‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مقومات الدعوة والداعية‪ ،‬ص ‪.52 ،51‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪238‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الخير وسارعوا في الخيرات‪ ،‬وحرصوا على الطاعات وتسابقوا‬


‫في الدرجات حتى‬
‫جاءتهم آجالهم)‪.(1‬‬
‫إن الداعية عندما يتصدر للوعظ والرشاد والتربية والتعليم‬
‫مطالب بقدر من العلم والثقافة التي تعينه على مهمته‪ ،‬وتؤهله‬
‫لها‪ ،‬والمهم من ذلك يتركز في جانبين‪:‬‬
‫أ‪ -‬الجانب الشرعي‪:‬‬
‫لبد للداعية أن يعرف »أن أولى العلوما وأفضلها علم الدين‪،‬‬
‫لن الناس بمعرفته يرشدون وبجهله يضلون«)‪ ,(2‬وعلى الداعية أن‬
‫يتعلم الحد الدنى من العلوما الشرعية الساسية ومن أهمها ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬علم العقيدة السلمية‪ :‬أن يتعلم أصول العقيدة من كتابا‬
‫معتمد مختصر على مذهب أهل السنة والجماعة ككتابا‪ :‬لمعة‬
‫العتقاد لبن قدامة‪ ،‬أو غيره‪.‬‬
‫‪ -2‬علم التفسير‪ :‬أن يطلع على تفسير موجز موثوق يشتمل‬
‫على معاني الكلمات وأسبابا النزول والمعنى الجمالي‪ ،‬ويفيد في‬
‫ذلك بعض المصاحف المطبوع على هامشها أسبابا النزول‬
‫ومعاني الكلمات‪ ،‬ثم يجعل له زادا في دراسة متأنية لتفسير بعض‬
‫السور والجزاء المكية والمدنية من كتابا معتمد متوسط مثل‬
‫»تفسير ابن كثير«‪.‬‬
‫‪ -3‬علم الحديث‪ :‬أن يدرس كتابلا من كتب الحديث الجامعة‬
‫المختصرة مثل »مختصر صحيح البخاري« أو »مختصر صحيح‬
‫مسلم« ويمكن أن يطالع كتابا من كتب الحديث العامة المصونة‬
‫في جملتها من الحاديث الضعيفة والمشتملة على أهم البوابا‬
‫التي يحتاج إليها في اليمان والفضائل والدابا مثل كتابا »رياض‬
‫الصالحين«‪ ,‬ويحسن أن يطلع على بعض كتب الحديث المختصة‬
‫بموضوعات معينة‪ ,‬ففي أحاديث الحكاما »بلوغا المراما« وفي‬
‫الذكار »أذكار النووي« وفي الشمائل »شمائل الترمذي« ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬علم الفقه‪ :‬أن يدرس مختصرا في فقه العبادات‬
‫والمعاملت‪ ،‬وقد يضيف ما يحتاجه من البوابا على مذهب من‬

‫)( انظر‪ :‬أصول الدعوة‪ ،‬ص ‪.328‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الدعوة والداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.53 -51‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪239‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المذاهب الربعة المشتهرة ول مانع من أن يهتم‬


‫بفقه الحديث‪.‬‬
‫‪ -5‬علم السيرة والتاريخ‪ :‬أن يدرس مختصرا في سيرة‬
‫الرسول × مثل »تهذيب سيرة ابن هشاما« ومن الكتب المعاصرة‬
‫النافعة »الرحيق المختوما« للمباركفوري‪ ،‬وأن يطالع على القل‬
‫على تاريخ الخلفاء الراشدين‪.‬‬
‫‪ -6‬مفاتيح العلوما‪ :‬أن يدرس مختصرا في أصول الفقه مثل‬
‫»الوجيز في أصول الفقه« د‪ .‬عبد الكريم زيدان‪» ،‬تيسير مصطلح‬
‫الحديث« للطحان‪» ،‬مباحث في علوما القرآن« للقطان‪» ،‬مقدمة‬
‫شيخ السلما ابن تيمية« في أصول التفسير‪.‬‬
‫‪ -7‬علوما اللغة‪ :‬أن يدرس مختصرا في النحو »كالجرومية« أو‬
‫»ملحة العرابا« وكذلك في البلغة والدبا يحتاج إلى دراسة‬
‫موجزة في مثل كتابا »البلغة الواضحة« لعلي الجارما)‪.(1‬‬
‫وهذه العلوما الساسية يحتاج الداعية فيها إلى إرشادات عامة‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬التدرج في كل علم من الدنى إلى العلى‪ ،‬ومن اليسر‬
‫إلى الصعب‪ ،‬وليعلم »أن للعلوما أوائل تؤدي إلى أواخرها‪،‬‬
‫ومداخل تفضي إلى حقائقها‪ ،‬فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي‬
‫إلى أواخرها‪ ،‬وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها‪ ،‬ول يطلب الخر قبل‬
‫الول‪ ،‬ول الحقيقة قبل المدخل‪ ،‬فل يدرك الخر ول يعرف الحقيقة‬
‫لن البناء على غير أساس ل يبنى والثمر من غير غرس ل‬
‫يجنى«)‪.(2‬‬
‫وهذا ابن خلدون‪ ،‬يوضح لك الطريق فيقول‪) :‬اعلم أن تلقين‬
‫العلوما للمتعلمين يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا‬
‫وقليل قليل( )‪.(3‬‬
‫وقال ابن شهابا الزهري المحدث الماما‪» :‬من راما العلم‬
‫جملة ذهب عنه جملة‪ ،‬ولكن الشيء بعد الشيء مع الياما والليالي‬
‫«)‪.(4‬‬
‫‪ -2‬الحرص على التلقي عن الشيوخ كل في فنه‪ ,‬وأل يعتمد‬
‫على الطلع المجرد وحده‪ ،‬فهذه العلوما ليست كالصحف‬
‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.53 -51‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أدبا الدنيا والدين‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص ‪.533‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ص ‪.138‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪240‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫والمجلت يكتفي فيها بالقراءة والطلع‪ ،‬وكما قيل‪» :‬من كان‬


‫شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه«)‪.(1‬‬
‫وصدق الشاعر حيث يقول‪:‬‬
‫أخا جهل لدراك العلوما‬ ‫يظن الغمر أن الكتب تهدي‬
‫مدارك قد تدق عن الفهيم‬ ‫وما علم الجهول بأن فيها‬
‫يضل عن الصراط المستقيم‬ ‫ومن أخذ العلوما بغير شيخ‬
‫)‪(2‬‬
‫وآفته من الفهم السقيم‬ ‫وكم من عائب قول صحيحا‬

‫وكتب السلف وتراجم العلماء مليئة بأسماء شيوخهم‪،‬‬


‫وسيرتهم مع من تلقوا عنهم‪ ،‬وكتب أهل العلم طافحة بآدابا‬
‫الطالب مع شيخه مما يدل على بدهية‬
‫ذلك عندهم)‪.(3‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية‬
‫التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتماما«)‪.(4‬‬
‫‪ -3‬الصبر والملزمة‪ ،‬وترك النتقال من علم إلى علم قبل‬
‫تمامه‪ ،‬ومن شيخ إلى شيخ قبل الستفادة منه‪ ،‬ومن كتابا إلى‬
‫كتابا قبل إحكامه‪ .‬قال الزرنوجي‪» :‬ينبغي أن يثبت ويصبر على‬
‫أستاذه‪ ،‬وعلى كتابا حتى ل يتركه أبتر‪ ،‬وعلى فن حتى ل يشغل‬
‫بفن آخر قبل أن يتقن الول‪ ،‬وعلى بلد حتى ل ينتقل إلى بلد آخر‬
‫من غير ضرورة‪ ,‬فإن ذلك كله يفرق المور ويشغل القلب ويضيع‬
‫الوقات ويؤذي العلم«)‪.(5‬‬
‫با‪ -‬الثقافة السلمية‪:‬‬
‫ل شك أن الداعية يحتاج بشكل ملح إلى الثقافة العامة وكذلك‬
‫الثقافة المعاصرة‪» :‬إن حركة الداعية حركة واسعة‪ ،‬وانتشاره‬
‫كبير واتصالته كثيرة وهو ل شك يلتقي بأنواع كثيرة من البشر‪,‬‬
‫كل له مزاجه وثقافته واطلعه‪ ,‬فلبد للداعية أن يشبع هذه‬
‫الثقافات ويلم بشيء منها حتى يشارك من يخاطبه كل حسب‬

‫مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الموافقات للشاطبي‪.(1/9) ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تعليم المتعلم للزرنوجي‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪241‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ثقافته كمدخل من مداخل الدعوة«)‪.(1‬‬


‫ولبد من العتراف بوجود الخلل في هذه الثقافات عند كثير‬
‫من الدعاة »فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع‬
‫المعاصر‪ ،‬وهناك جهل بالخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين‪ ,‬مع‬
‫أن الخرين يعرفون عنا كل شيء وقد كشفونا حتى النخاع‪ ،‬بل‬
‫هناك جهل بأنفسنا فنحن إلى اليوما ل نعرف حقيقة مواطن القوة‬
‫فينا ول نقاط الضعف لدينا‪ ،‬وكثيرا ما نضخم الشيء الهين‪ ،‬ونهون‬
‫الشيء العظيم‪ ،‬سواء في إمكاناتنا أما في عيوبنا«)‪.(2‬‬
‫إن من المهم بمكان أن يتمكن الداعية عند عرضه للسلما من‬
‫بيان محاسن الدين‪ ،‬ومقاصد الشريعة‪ ،‬ويفند مزاعم خصوما‬
‫السلما وشبهاتهم‪ ،‬وإظهار الكمال في أنظمة السلما الجتماعية‬
‫والقتصادية وغيرها‪ ،‬وأنها ترعى جميع المصالح وتسد أبوابا‬
‫الفساد‪ ،‬وأنها صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان‪ ,‬وأمثال هذه‬
‫الموضوعات‪ ,‬ومن المهم بمكان‪ ،‬أن يستوعب الداعية المذاهب‬
‫الفكرية المعاصرة كالشيوعية والرأسمالية‪ ،‬والقومية والبعثية‬
‫والماسونية‪ ،‬وأن يبين عوارها وبطلنها وما تعارض مع العقيدة‬
‫السلمية ودين السلما‪ ،‬وأن يكون على دراية بأساليب العداء‬
‫وغزوهم الفكري والدور العملي للصهيونية والماسونية‬
‫ومخططاتهم وأساليبهم‪ ،‬والتنصير ومؤسساته وأدواره‪ ،‬وأن يطالع‬
‫الكتب النافعة في هذا المجال مثل »الغارة على العالم‬
‫السلمي« تأليف أ‪.‬ل ‪ -‬شاتليه‪ ,‬وترجمة محب الدين الخطيب‬
‫ومساعد اليافي وأساليب الغزو الفكري للدكتور على جريشة‬
‫ومحمد شريف وغيرها من الكتب‪.‬‬
‫إذا توافر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان‬
‫ذلك سببا مهما في نجاح الداعية في مرحلة التعريف‪.‬‬
‫ثالثلا‪ :‬رجاحة العقل وقوة الحجة‪:‬‬
‫إن توافر الذهن الوقاد والعقل النير ميزة كبرى يتحلى بها‬
‫الداعية حتى يستطيع أن يرجح بين الراء المختلفة‪ ,‬ويحلل المور‬
‫ويدلل على الصوابا‪ ،‬ويرتب الولويات ويختار الوقات‪ ،‬وينتهز‬
‫الفرصة المناسبة‪ ،‬ويتخلص من المشكلت‪ ،‬ويقوى على الرد على‬
‫الشبهات‪ ،‬والتكيف مع الزمات‪ ،‬وربما يلتقي الداعية بأصناف من‬
‫المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية‪ ,‬ومن‬
‫)( الدعوة قواعد وأصول‪ ،‬ص ‪.71‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أولويات الحركة السلمية‪ ,‬ص ‪.21‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪242‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫هؤلء‪:‬‬
‫‪ -1‬الكافرون الذين ل يؤمنون بالكتابا والسنة‪.‬‬
‫‪ -2‬المعتدون بعقولهم المقدمون لها على النص النقلي‪.‬‬
‫‪ -3‬المخدوعون بالشبهات‪.‬‬
‫‪ -4‬المعاندون الذين يتبعون الباطل تبعا لمصالحهم ويسعون‬
‫إلى إضلل غيرهم‪.‬‬
‫‪ -5‬الواقعون تحت تأثير الوضاع والعراف الخاطئة حتى ألفوها‬
‫صوابا‪ ,‬وهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتابا والسنة في‬
‫ل‬ ‫ورأوها‬
‫إقامة الحجة العقلية واستخداما القيسة المنطقية وهي تعين الدعاة‬
‫على التأثير في الناس وخصوصا عند التفكر العميق والتأمل الهادئ‪.‬‬
‫ومن هذه الساليب المهمة‪:‬‬
‫أ‪ -‬أسلوبا المقارنة‪:‬‬
‫وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوبا الترغيب فيه‪،‬‬
‫والخر هو الشر المطلوبا الترهيب منه‪ ،‬وذلك باستثارة العقل‬
‫للتفكر في كل المرين وعاقبتهما للوصول ‪ -‬بعد المقارنة)‪ - (1‬ومن‬
‫أمثلة ذلك‪:‬‬
‫ضلوُاًةن ل ك‬
‫ل لور ك‬‫‪ -1‬قال جل وعل‪+:‬ألفلمنَ أللسس بي كنييْاًنَلهي لعللىَ تليكقوُىَ رمنَ اً ر‬
‫خيْيرر لأم لمكنَ أللس ل‬
‫س‬ ‫ل ل‬ ‫لك ل يل‬
‫ظاًلررميْلنَ"]التوبة‪.[109 :‬‬ ‫ل‬
‫بي كنييْاًنَله لعللىَ لشلفاً جر ة‬
‫ف لهاًةر فلاًنَكيلهاًلر برره رفيِ لنَاً ر لجلهنلمُ لواًلي لل يليكهرديِ اًلكلقكوُلم اًل ل‬
‫يي‬ ‫يل ي‬
‫قال القرطبي‪» :‬وهذه الية ضربا مثل لهم‪ ،‬أي من أسس‬
‫بنيانه على السلما خير أما من أسس بنيانه على الشرك والنفاق‪,‬‬
‫وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها‪ ،‬وفي‬
‫هذه الية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى‬
‫والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد‬
‫إلى الله ويرفع إليه«)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬ومن المثلة النبوية التي تبين استخداما النبي × لسلوبا‬
‫المقارنة قوله ×‪» :‬إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء‬
‫كحامل المسك‪ ،‬ونافخ الكير‪ ,‬فحامل المسك إما أن يحذيك وإما‬
‫ريحا طيبة‪ ،‬ونافخ الكير إما أن‬
‫ل‬ ‫أن تبتاع منه‪ ،‬وإما أن تجد منه‬
‫يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحلا خبيثة« )‪.(3‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات ا لداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.60 ،59‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرطبي )‪.(8/265‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪،‬كتابا البر والصلة‪ ،‬بابا‪ :‬استحبابا مجالسة الصالحين‪)،‬النووي( )‬ ‫‪3‬‬

‫‪(6/178‬‬

‫‪243‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قال النووي‪» :‬وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير‬


‫والمروءة ومكارما الخلق والعلم والدبا والنهي عن مجالسة أهل‬
‫الشر والبدع‪ ,‬ومن يغتابا الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك‬
‫من النواع المذمومة«)‪.(1‬‬
‫با‪ -‬أسلوبا التقرير‪:‬‬
‫وهو أسلوبا يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى القرار‬
‫بالمطلوبا الذي هو‬
‫مضمون الدعوة‪.‬‬
‫‪ -1‬ومن المثلة القرآنية على ذلك‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لواًتكلي لع لكيْرهكمُ نَليبلأل رإبكيلراًرهيْلمُ ‪ ‬إركذ لقاًلل للربيْره لوقليكوُرمره لماً تليكعبييدولن ‪ ‬لقاًليوُاً نَليكعبييد‬
‫ضمرولن ‪ ‬لقاًليوُاً بلكل لولجكدلنَاً‬ ‫صلناًحماً فلينلظللل للهاً لعاًكررفيْلنَ ‪ ‬لقاًلل لهكل يلكسلميعوُنَليككمُ إركذ تلكديعوُلن ‪ ‬ألكو لينلفيعوُنَليككمُ ألكو يل ي‬ ‫أل ك‬
‫ك يليكفلعيلوُلن ‪ ‬لقاًلل ألفليلرلأيكييتمُ لماً يككنتيكمُ تليكعبييدولن ‪ ‬ألنَكيتيكمُ لوآلباًيؤيكيمُ اًلقكلديموُلن ‪ ‬فلرإنَلييهكمُ لعيدو رليِ إرلل‬
‫آلباًءللنَاً لكلذلر ل‬
‫ت فلييهلوُ يلكشرفيْ ر‬
‫نَ ‪‬‬ ‫ض ي‬ ‫ب اًلكلعاًلرميْلنَ ‪ ‬اًلرذيِ لخ للقرنيِ فلييهلوُ يليكهرديرنَ ‪ ‬لواًلرذيِ يهلوُ ييطكرعيمرنيِ لويلكسرقيْرنَ ‪ ‬لوإرلذاً لمرر ك‬ ‫لر ل‬
‫لواًلرذيِ ييرميْتيرنيِ ثيلمُ ييكحريْيْرنَ" ]الشعراء‪ .[81 -69 :‬وهنا ستكون الجابات بالنفي‪,‬‬
‫فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إن أصنامهم تسمع دعاءهم أو تجيب‬
‫رجاءهم‪ ،‬وهذا يؤدي إلى عدما جدوى هذه الصناما‪ ,‬وبالتالي‬
‫الستسلما العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي جاء في هذه اليات‬
‫وصف أفعاله سبحانه وتعالى)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬ومن المثلة الحديثية‪:‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ×     ‬فقال مستنكرلا‬
‫ومسترشدلا‪ :‬يا رسول الله ولد لي غلما أسود ! فقال‪ :‬هل لك من‬
‫إبل؟ قال‪ :‬نعم! قال ما ألوانها؟ قال‪ :‬حمر‪ ،‬قال‪ :‬هل فيها من‬
‫أورق؟ )‪ (3‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فأنى ذلك؟ قال‪ :‬لعله نزعه عرق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فلعل ابنك نزعه عرق)‪.(4‬‬
‫فهذا الرجل جاء سائلل مستفتيلا عما وقع له من الريبة‪ ،‬فلما‬
‫ضربا له المثل أذعن‪ ،‬وقال ابن العربي‪» :‬فيه دليل على صحة‬
‫القياس والعتبار بالنظر«)‪.(5‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(6/178‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أورق‪ :‬أي أسمر )النهاية في غريب الحديث( )‪.(5/175‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪،‬كتابا الطلق‪ ،‬بابا‪ :‬إذا عزرض بنفي الولد‪ ،‬الفتح )‪.(9/442‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫فتح الباري )‪.(9/444‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪244‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫جـ‪ -‬أسلوبا المرار والبطال‪:‬‬


‫وهو أسلوبا قوي في إفحاما المعاندين أصحابا الغرور‬
‫والصلف بإمرار أقوالهم وعدما العتراض على بعض حججهم‬
‫الباطلة منعا للجدل والنزاع خلوصا إلى حجة قاطعة تدمغهم‬
‫وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الولى بالتبع‪.‬‬
‫ومن المثلة القرآنية‪:‬‬
‫قال تعالى في قصة إبراهيم مع النمرود‪+ :‬أللكمُ تليلر إرللىَ اًلرذيِ لحاً ل‬
‫ج‬
‫ت لقاًلل أللنَاً أيكحريْيِ لوأيرميْ ي‬
‫ت لقاًلل‬ ‫ك إركذ لقاًلل رإبكيلراًرهيْيمُ لربليِ اًلرذيِ ييكحريْيِ لوييرميْ ي‬
‫رإبكيلراًرهيْلمُ رفيِ لربره ألكن آلتاًهي اًلي اًلكيمكل ل‬
‫ر‬
‫رإبكيلراًهيْيمُ فلرإلن اًلل‬
‫ت اًلرذيِ لكلفلر لواًلي لل يليكهرديِ اًلكلقكوُلم‬ ‫ب فليبيره ل‬ ‫ت برلهاً رملنَ اًلكلمغكرر ر‬‫س رمنَ اًلكمكشرررق فلأك ر‬
‫شكم ر ل ل‬ ‫يلأكرتيِ رباًل ل‬
‫اًللظاًلررميْلنَ" ]البقرة‪.[258 :‬‬
‫وقد أحسن صاحب الظلل في توضيح هذا السلوبا حيث قال‪:‬‬
‫»عزرف إبراهيم بالصفة التي ل يمكن أن يشاركه فيها أحد‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن يزعمها أحد‪ ...‬وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية‪،‬‬
‫ت" فهو‬ ‫ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره‪ ،‬قال ‪+‬لربليِ اًلرذيِ ييكحريْيِ لوييرميْ ي‬
‫من ثم الذي يحكم ويشرع‪ ،‬ثم قال تعليقا على قوله تعالى‪+ :‬أللنَاً‬
‫ت" لم يرد إبراهيم عليه السلما أن يسترسل معه في جدل‬ ‫أيكحريْيِ لوأيرميْ ي‬
‫حول معنى الحياء والماتة مع رجل يماري ويداور في تلك‬
‫الحقيقة الهائلة‪ ،‬حقيقة منح الحياة وسلبها‪ ،‬هذا السر الذي لم‬
‫تدرك منه البشرية حتى اليوما شيئا‪ ،‬وعندئذ عدل عن هذه السنة‬
‫الكونية الحقيقية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية‪ ،‬وعدل عن طريقة‬
‫العرض المجرد للسنة الكونية والصفة اللهية في قوله‪+ :‬لربليِ اًلرذيِ‬
‫ت" إلى طريقة التحدي‪ ,‬وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر‬ ‫ييكحريْيِ لوييرميْ ي‬
‫وتنعت ويجادل في الله «)‪.(1‬‬
‫وعلق بمثل قوله السعدي في تفسيره فقال‪» :‬فلما رآه‬
‫الخليل مموها تمويها ربما راج على الهمج والرعاع قال إبراهيم‬
‫س رملنَ‬‫شكم ر‬ ‫ملزما بتصديق قوله‪ :‬إن كان كما يزعم ‪+‬فلرإلن اًلل يلأكرتيِ رباًل ل‬
‫اًلكلمكشرررق‪ "...‬الية فأتى )أي إبراهيم( بهذا الذي ل يقبل الترويج‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/298‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪245‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والتزوير والتمويه«)‪.(1‬‬
‫ول ريب أن الداعية مطالب بتفهم هذه الساليب والفادة منها‬
‫ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة‬
‫وسرعة البديهة‪.‬‬
‫ولقد كان لئمة الدعاة أقوال ومواقف دلت على رجاحة‬
‫عقولهم وقوة حجتهم‪ ،‬فهذا القاضي أبو بكر الباقلني سأله بعض‬
‫النصارى بحضرة ملكهم فقال‪ :‬ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من‬
‫أمرها بما رميت من الفك؟ فقال الباقلني على البديهة‪ :‬هما‬
‫امرأتان ذكرتا بسوء‪ ،‬مريم وعائشة فبرأهما الله عز وجل‪ ,‬وكانت‬
‫عائشة ذات زوج ولم تأت بولد‪ ،‬وأتت مريم بولد ولم يكن لها‬
‫زوج)‪.(2‬‬
‫فكان هذا الجوابا في غاية الروعة والفحاما‪ ،‬لن ذلك الخبيث‬
‫أراد التعريض والحراج بقصة حادثة الفك التي اتهمت فيها عائشة‬
‫رضي الله عنها‪ ،‬فأجابا الباقلني بأن هذه فرية برأها الله منها‬
‫ولكنه قرن ذلك بذكر مريم‪ ،‬ليشير إلى أن براءة عائشة عقل‬
‫أولى‪ ،‬لن لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم‬
‫أعظم‪ ،‬فإن قبلتم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة‬
‫عائشة من بابا أولى)‪.(3‬‬
‫رابعا‪ :‬رحابة الصدر وسماحة النفس‪:‬‬ ‫ل‬
‫إن الداعية الرباني في العادة يتحلى برحابة الصدر وسماحة‬
‫النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق‪» ,‬فالناس في‬
‫حاجة إلى كنف رحيم‪ ،‬وإلى رعاية فائقة‪ ،‬وإلى بشاشة سمحة‪،‬‬
‫وإلى ود يسعهم‪ ،‬وحلم ل يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم‪ ،‬في‬
‫حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ول يحتاج منهم إلى عطاء ويحل‬
‫همومهم ول يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائما الهتماما والرعاية‬
‫والعطف والسماحة والود والرضا«)‪.(4‬‬
‫وهكذا كان قلب رسول الله ×‪ ,‬وهكذا كانت حياته مع الناس‬
‫»ما غضب لنفسه قط ول ضاق صدره بضعفهم البشري‪ ،‬ول‬
‫احتجز لنفسه شيئا من أغراض هذه الحياة‪ ،‬بل أعطاهم كل ما‬
‫ملكت يداه في سماحة ندية‪ ،‬ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(1/320‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(9/135‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪ (4) ,‬في ظلل القرآن )‪.(501 – 1/500‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪246‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الكريم‪ ،‬وما من واحد منه عاشره‪ ،‬أو رآه إل امتل قلبه بحبه‪ ،‬نتيجة‬
‫لما أفاض عليه × من نفسه الكبيرة والرحيبة«)‪.(1‬‬
‫إن هذه الخلق مهمة في تكوين الداعية يحتاج أن يجتهد في‬
‫اكتسابها لنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة‬
‫القبول‪ ،‬وتكبح جماح النفعالت النفسية ذات الثار السلبية‪،‬‬
‫وتتجلى هذه الخلق في عدد من الصفات توضحها وتبين أثرها‬
‫ومن أهمها‪:‬‬
‫أ‪ -‬الرحمة والشفقة‪:‬‬
‫»إن الداعي لبد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة‬
‫على الناس‪ ،‬وإرادة الخير لهم والنصح لهم‪ ،‬ومن شفقته عليهم‬
‫دعوتهم إلى السلما‪ ،‬لن في هذه الدعوة نجاتهم من النار‬
‫وفوزهم برضوان الله تعالى‪ ،‬وأن يحب لهم ما يحب لنفسه‬
‫)‪(2‬‬
‫وأعظم ما يحبه لنفسه اليمان والهدى فهو يحب ذلك إليهم« ‪.‬‬
‫وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس‬
‫الحزن والسى على حال المعرضين والعاصين‪ ،‬ويتولد إثر ذلك‬
‫قوة نفسية دافعة لستنقاذهم من الخطر المحدق بهم‪ ،‬والهلك‬
‫القادمين إليه‪ ،‬وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفة‬
‫ك لعللىَ آلثاً ررهكمُ رإن لكمُ يييكؤرمنيوُاً برلهلذاً‬
‫سل‬ ‫عند الرسول الكريم ×‪+ :‬فلي لع ل ل ر‬
‫ك لباًخرع نَليكف ل‬ ‫ل‬
‫اًلكحردي ر‬
‫ث أللسحفاً" ]الكهف‪.[6 :‬‬ ‫ل‬
‫تأمل هذه اليات فإنه‪» :‬من فرط شفقته × داخله الحزن‬
‫لمتناعهم عن اليمان‪ ،‬فهون الله سبحانه عليه الحال‪ ،‬بما يشبه‬
‫م كل هذا؟ ليس في امتناعهم ‪-‬‬ ‫العتابا في الظاهر كأنه قال له‪ :‬ل ق ع‬
‫في عدنا ‪ -‬أثر‪ ،‬ول في الدين من ذلك ضرر)‪.(3‬‬
‫فالرحمة ‪ -‬كما ترى ‪ -‬باعث دافع ومحرك للدعوة استنقاذا‬
‫للناس من الهلك‪ ،‬وهي في الوقت نفسه عامل استمرار واطراد‬
‫وتوسيع لدائرة الستيعابا والتأثير رغم الصد والعراض)‪.(4‬‬
‫با‪ -‬الحلم والناة‪:‬‬
‫إن الحلم‪» :‬فضيلة خلقية نافعة‪ ..‬تقع في قمة عالية دونها‬
‫منحدرات‪ ،‬فهو أناة حكيمة بين التسرع والهمال أو التواني‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن ) ‪.(501 – 1/500‬‬

‫)( أصول الدعوة‪ ،‬ص ‪.344 ،343‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( لطائف الشارات للقشيري )‪.(1/377‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الخلق السلمية لعبد الرحمن حبنكة )‪.(2/325‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪247‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وضبط للنفس بين الغضب وبلدة الطبع‪ ،‬ورزانة بين الطيش‬


‫وجمود الحساس«)‪.(1‬‬
‫والناة عند الداعية إلى الله تعالى »تسمح له بأن يحكم أموره‪،‬‬
‫ويضع الشياء في مواضعها‪ ،‬بخلف العجلة فإنها تعرضه للكثير من‬
‫الخطاء‪ ،‬والخفاق‪ ،‬وتعرضه للتعثر والرتباك‪ ،‬ثم تعرضه للتخلف‬
‫من حيث يريد السبق‪ ،‬ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب‬
‫بحرمانه‪ ،‬وبخلف التباطؤ والكسل فهو أيضا يعرض للتخلف‬
‫والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها«)‪ ،(2‬وقد امتدح النبي ×‬
‫الشج فقال‪» :‬إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله‪ :‬الحلم‬
‫والناة« )‪.(3‬‬
‫ومن المثلة من سيرة النبي × ما رواه أنس بن مالك حيث‬
‫قال‪» :‬جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس‪،‬‬
‫فنهاهم النبي ×‪ ,‬فلما قضى بوله أمر النبي × بذنوبا ماء أهريق‬
‫عليه«)‪.(4‬‬
‫لقد كانت مواقف النبي × التي تبين حلمه كثيرة جدا‪.‬‬
‫جـ‪ -‬العفو والصفح‪:‬‬
‫ومن مستلزمات الحلم الذي فيه كظم للغيظ وضبط للغضب‪،‬‬
‫ثم الناة التي فيها تبصر بالمور وتأن في التصرف مع الستناد‬
‫للرحمة بالجاهلين‪ ,‬كل ذلك يثمر العفو والصفح »لن القلوبا‬
‫الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبدا إلى الصفح‬
‫والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والضغان«)‪ .(5‬وما داما الداعي‬
‫المسلم ينظر إلى من يدعوه نظرة الرحمة والشفقة عليهم فإنه‬
‫ف‬‫يعفو ويصفح عنهم في حق نفسه‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬يخرذ اًلكعكفوُ وأكمر رباًلكعر ر‬
‫ل ل ل ي ك يك‬
‫ض لعرنَ اًلكلجاًرهلريْلنَ" ]العراف‪.[199 :‬‬‫لوألكعرر ك‬
‫فإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنسبة لمن يدعوهم‬
‫ويحتمل صدور الذى منهم فإن عفو الداعي وصفحه عن أصحابه‬
‫شاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر" ]آل عمران‪:‬‬
‫ف لع كنييهكمُ لواًكستليغكرفكر ليهكمُ لو ل‬
‫أوسع‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لفاًكع ي‬
‫‪.[159‬‬

‫)(‪(2) ,‬الخلق السلمية )‪.(2/353‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫)( الخلق السلمية ) ‪.(2/353‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬المر باليمان بالله ورسوله )‪.(1/48‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الطهارة‪ ،‬بابا‪ :‬صب الماء على البول في المسجد )الفتح( )‬ ‫‪4‬‬

‫‪.(1/324‬‬
‫)( خلق المسلم‪ ،‬ص ‪.204‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪248‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وعندما وقعت حادثة الفك‪ ،‬كان وقعها على آل أبي بكر شديدا‬
‫فلما نزلت البراءة حلف أبو بكر ‪ ,      ‬‬
‫سلعرة لأن يييكؤتيوُاً يأورليِ اًلكيقكرلبىَ‬
‫ضرل رمنيككمُ لواًل ل‬
‫‪+ :    ‬لولل يلأكتلرل يأويلوُ اًلكلف ك‬
‫صلفيحوُاً أللل تيرحمبوُلن لأن يليغكرفلر اًلي ليككمُ لواًلي غليفوُرر‬ ‫واًلكمساًركيْنَ واًلكملهاًرجررينَ رفيِ سربيْرل اً ر‬
‫ل لولكيْليكعيفوُاً لولكيْل ك‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل لل لل ي‬
‫لررحيْرمُ" ]النور‪ .[22 :‬فصفح الصديق وعفا واستمر في نفقته على‬
‫مسطح‪.‬‬
‫إن رحابة الصدر وسماحة النفس تتضمن الرحمة التي تدعو‬
‫إلى الحلم الذي يقود إلى العفو‪ ,‬فيكون من وراء ذلك التأثير‬
‫سينَ فلرإلذاً اًلرذيِ بل كييْينل ل‬ ‫ر لر ر‬
‫ك‬ ‫التلقائي لن النسان يتأثر بالحسان ‪+‬اًكدفلكع باً تيِ هليِ ألكح ل‬
‫لوبل كييْينلهي لعلداًلوةر لكألنَلهي لولرويِ لحرميْرمُ" ]فصلت‪.[34 :‬‬
‫وهذا أمر مشاهد حيث نرى أن من كان سمح النفس يستطيع‬
‫»أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له‪ ،‬وثقة الناس به‪ ،‬لنه‬
‫يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب‪ ،‬والتغاضي عن السيئات‬
‫والنقائص‪ ،‬فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه‬
‫رقيقا لينا‪ ،‬سمحا‪ ،‬يسر بالنصيحة ول يريد الفضيحة‪ ،‬يسد الثغرات‬
‫ول ينشر الزلت والعثرات«)‪.(1‬‬
‫هذه يعض العدة التي لبد منها للدعاة الذين يتصدرون الناس‬
‫لدعوتهم إلى السلما‪.‬‬
‫المراعاة والتدرج في السلما‪:‬‬
‫إن المراعاة والتدرج لزمان للتغيير وحصول الستجابة‪ ،‬لن‬
‫تغيير النفوس وإزاحتها عن مألوفاتها‪ ،‬ونقلها من ميولها أمر ليس‬
‫سهل‪ ،‬كما أن تغيير العراف التي تجذرت في النفوس‪ ،‬واستقرت‬
‫في العقول وتواطأ الناس عليها ل تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجه‪،‬‬
‫ولذلك لبد في الدعاة من مراعاة الطبائع والفهاما‪ ،‬والمقاصد‬
‫والنيات‪ ،‬والحوال الخاصة‪ ،‬والعراف والعوائد العامة‪ ،‬والولويات‪،‬‬
‫والمصالح والمفاسد‪ ،‬والوقات عندما يتصدرون لدعوة الناس‬
‫وتعريفهم بالسلما‪.‬‬
‫إن التدرج سنة ربانية من سنن الله تعالى في خلقه وكونه‪،‬‬
‫وهو من السنن الهامة التي يجب على المة أفرادا وجماعات أن‬
‫تراعيها وهي تعمل للتمكين‪.‬‬

‫)( الخلق السلمية )‪.(2/443‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪249‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ومراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين يعني أن تتدرج المة‬


‫في عملها للتمكين من السهل إلى الصعب‪ ،‬ومن الصعب إلى‬
‫الصعب‪ ,‬ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد‪ ،‬ومن الخطة‬
‫الجزئية إلى الخطة الكلية)‪ ...(1‬وهكذا‪.‬‬
‫فلقد بدأت الدعوة السلمية في زمن النبي × متدرجة تسير‬
‫بالناس سيرا دقيقا‪ ،‬حيث بدأت بمرحلة الصطفاء والتأسيس ثم‬
‫مرحلة المواجهة والمقارنة ثم مرحلة النصر والتمكين‪ ،‬وما كان‬
‫يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد وإل كانت المشقة‬
‫والعجز‪ ،‬وما كان يمكن كذلك أن يقدما واحد منها على الخرى‪،‬‬
‫وإل كان الخلل والرباك)‪.(2‬‬
‫واعتبار هذه السنة في غاية الهمية »ذلك أن بعض العاملين‬
‫في حقل الدعوة السلمية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق‬
‫بين عشية وضحاها‪ ،‬ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه المة‬
‫السلمية في طرفة عين‪ ،‬دون نظر في العواقب‪ ،‬ودون‬
‫فهم للظروف والملبسات المحيطة بهذا الواقع‪ ،‬ودون إعداد جيد‬
‫للمقدمات‪ ،‬أو‬
‫)‪(3‬‬
‫للساليب والوسائل« ‪.‬‬
‫وقد وجه الله تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من‬
‫موقع‪ ،‬فالله تعالى خلق السموات والرض في ستة أياما‪ ،‬يعلمها‬
‫سبحانه ويعلم مقدارها‪ ،‬وكان ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬قادرا على خلقها في‬
‫أقل من لمح البصر‪.‬‬
‫وكذلك بالنسبة لطوار خلق النسان والحيوان والنبات كلها‬
‫تندرج في مراحل حتى تبلغ نماءها وكمالها ونضجها وفق سنة الله‬
‫تعالى الحكيمة‪.‬‬
‫وسنة التدرج ثابتة في التشريع السلمي بصورة بينة ملموسة‪،‬‬
‫وهذا من تيسير السلما على البشر‪ ،‬إنه راعى معهم سنة التدرج‬
‫فيما يشرعه لهم إيجابا وتحريما‪ ،‬فتجده حين فرض الفرائض‬
‫كالصلة والصياما والزكاة فرضها على مراحل‪ ،‬ودرجات حتى‬
‫انتهت إلى الصورة الخيرة التي استقرت عليها)‪.(4‬‬
‫ولقد أشارت السيدة عائشة رضي الله عنها إلى سنة التدرج‬
‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.226‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير‪ ،‬ص ‪ 69 ،68‬بتصرف‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫آفات على الطريق – السيد محمد نوح )‪.(1/27‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.127‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪250‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫في التشريع ونزول القرآن فقالت‪» :‬إنما أنزل القرآن سورا فيها‬
‫ذكر الجنة والنار‪ ،‬حتى إذا ثابا الناس إلى السلما نزل الحلل‬
‫والحراما‪ ،‬ولو نزل أول شيء ل تشربوا الخمر ول تزنوا لقالوا‪ :‬ل‬
‫ندع الخمر ول الزنا أبدا«)‪.(1‬‬
‫وأوضح مثال معروف في هذه القضية هو التدرج في تحريم‬
‫الخمر‪ :‬فلقد كانت متغلغلة في نفوس الناس بصورة كبيرة‪ ،‬فكان‬
‫من الحكمة أن يفطموا عنها‬
‫بطريقة تدريجية)‪.(2‬‬
‫وكان القضاء على الرق خاضعلا لسنة التدرج‪ .‬يقول الدكتور‬
‫القرضاوي‪» :‬ولعل رعاية السلما للتدرج هي التي جعلته ل يقدما‬
‫على إلغاء نظاما الرق الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند‬
‫ظهور السلما‪ ،‬وكان محاولة إلغائه تؤدي إلى زلزلة في الحياة‬
‫الجتماعية والقتصادية‪ ,‬فكانت الحكمة في تضييق روافده‪ ،‬بل‬
‫ردمها كلها‪ ،‬ما وجد إلى ذلك سبيل‪ ،‬وتوسيع مصارفه إلى أقصى‬
‫حد‪ ،‬فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرق‬
‫بطريق التدرج«)‪.(3‬‬
‫يقول أبو العلي المودودي‪» :‬إننا درسنا القرآن الكريم والسنة‬
‫المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف وبأي تدرج وانسجاما تم التغيير‬
‫السلمي في بلد العربا‪ ،‬ومنها إلى العالم كله على يد النبي ×‪,‬‬
‫فلقد كانت المور تسير رويدا رويدا حسب مجراها الطبيعي حتى‬
‫تستقر في مستقرها الذي أراده الله ربا العالمين‪.(4) «...‬‬
‫إن المة السلمية التي تتطلع اليوما إلى تمكين الله تعالى لها لبد‬
‫أن تراعي في عملها سنة التدرج‪ ،‬فما هدما في أعواما ل يمكن أن‬
‫يبنى في أياما‪ ,‬فعليها أن تتبنى سياسة النفس الطويل والصبر‬
‫الجميل‪ ،‬فتصبر على البذرة حتى تنبت‪ ،‬وعلى النبتة حتى تورق‪ ،‬وعلى‬
‫الورقة حتى تزهر‪ ،‬وعلى الزهرة حتى تثمر‪ ،‬وعلى الثمرة حتى تنضج‪،‬‬
‫وتؤتي أكلها بإذن ربها)‪.(5‬‬
‫وينبغي للدعاة العاملين اليوما للسلما أن‪» :‬يراعوا في عملهم‬
‫سنة التدرج في تحقيق ما يريدون من أهداف‪ ،‬آخذين في العتبار‬
‫سمو الهدف ومبلغ المكانات وكثرة المعوقات‪ ,‬فل ينبغي أن‬
‫رواه البخاري‪ ،‬كتابا فضائل القرآن‪ ،‬بابا‪ :‬تأليف القرآن‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ,‬ص ‪.228‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الخصائص العامة للسلما للقرضاوي‪ ،‬ص ‪ 166‬وما بعدها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.229‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬جيل النصر المنشود‪ ،‬للقرضاوي ص ‪.23‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪251‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يستعجل الشيء قبل أن يبلغ الجل المقدور لمثله‪ ،‬فإن الزرع إذا‬
‫حصد قبل إبانه‪ ،‬والثمر إذا قطف قبل أوانه ل ينتفع به النفع‬
‫المرجو‪ ،‬بل قد يضر ول ينفع‪ ,‬فإذا كان النبات ل يؤتي أكله إل بعد‬
‫أشهر أو سنة‪ ,‬وبعض الشجر ل يثمر قبل سنوات عدة فإن بعض‬
‫العمال الكبيرة ل تقطع ثمارها إل بعد عقود من السنين‪ ,‬وكلما‬
‫كان العمل عظيما وقاعدته متسعة كانت ثمرته أبطأ‪.‬‬
‫وقد يبدأ جيل عمل تأسيسيا ذا شأن فل يستفيد منه الجيل‬
‫الثاني‪ ،‬أو الثالث‪ ،‬أو ما بعد ذلك‪ ،‬ول ضير في ذلك ما داما كل‬
‫شيء يسير في خطه المعلوما وطريقه المرسوما«)‪.(1‬‬
‫نعم فالقدار طويلة النفاس‪ ،‬والصراع بين الحق والباطل ل‬
‫تنكشف عقباه في سنة أو سنتين‪ ,‬ول في جولة أو جولتين‪ ,‬إنه قد‬
‫ف لسنلةة بملماً تليعيمدولن"‬ ‫يستوعب السنين والقرون ‪+..‬لوإرلن يليكوُحماً رعكنلد لرب ل‬
‫ك لكأللك ر‬ ‫)‪(2‬‬

‫]الحج‪.[47 :‬‬
‫إن استيعابا سنة التدرج يعين الدعاة على التعامل الصحيح مع‬
‫الناس ولبد للدعاة الذين يعرفون الناس بالسلما أن تكون لهم‬
‫قدرة على التخطيط والتنظيم وحسن الدارة‪ ،‬ول يخفى أن هذه‬
‫المور المذكورة من صميم كل مرحلة من مراحل التمكين بل هي‬
‫من صميم أي عمل يراد له أن يحقق أهدافه‪ ،‬وأن يصل إلى غايته‪.‬‬
‫إن مرحلة التعريف تحتاج إلى الدعاة أن يهتموا بالتخطيط‬
‫والتنظيم وحسن الدارة‪.‬‬
‫فبالتخطيط يمكن أن يستفاد من الموارد المادية والمعنوية‬
‫والبشرية‪ ،‬على أفضل وجه ممكن‪ ،‬وبأقل تكاليف ممكنة‪ ،‬وفي‬
‫الوقت المناسب‪.‬‬
‫وبالتنظيم‪ :‬يمكن تحديد الواجبات والختصاصات بين الفراد‬
‫ويمكن تحديد الوقات التي تؤدي فيها العمال‪ ،‬بغية الوصول إلى‬
‫الهداف التي حددت من ذي قبل‪ ،‬وهو عمل يجب أن يمارسه‬
‫الدعاة إلى الله‪ ،‬بل يتمرسوا به‪ ،‬ويجيدوه‪ ،‬لنه ل ينجح عمل بدون‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وبحسن الدارة‪ :‬يمكن إخراج التخطيط والتنظيم إلى حيز‬
‫الوجود للعمل والتنفيذ‪ ،‬وتحدد الطاقات وتوظف مهماتها في‬
‫العمل‪ ،‬وفق ما تقتضيه الخطة وما يتطلبه النظاما ويمكن تأمين‬

‫)( الصحوة السلمية بين الجمود والتطرف‪ ،‬ص ‪.107 ،106‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( علل وأدوية للغزالي‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪252‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الموارد المالية اللزمة في هذه المرحلة‪ ،‬بحيث تكون موارد ثابتة‬


‫يمكن على ضوء ثباتها هذا أن توضع ميزانية للعمل‪ ،‬وأن يخضع‬
‫لجدولية مالية وزمانية‪ ,‬ويمكن تنسيق جهود الفراد أو المجموعات‬
‫المشاركة في العمل‪ ،‬بحيث تغطي احتياجات العمل في هذه‬
‫المرحلة‪ ،‬وتحقق أهدافه مع تحديد الجهد المطلوبا من كل فرد أو‬
‫وما العمل‬‫مجموعة أيا كان هذا الجهد‪ ،‬وبحسن الدارة يمكن أن يق ز‬
‫في كل مرحلة من مراحله‪ ،‬والستفادة من هذا التقويم للوصول‬
‫إلى الحسن‪ ،‬وتقويم الداء في الزمان والمكان‪ ،‬و تقويم النتائج‬
‫التي حققها العمل‪ ،‬وتقويم الفراد والمجموعات‪.‬‬
‫إن تقويم العمل وفق إدارة محكمة ينتج عنه‪ :‬تجويد العمل على‬
‫قدر المستطاع‪ ،‬والمحافظة عليه من النحراف عن أهدافه‪،‬‬
‫والمحافظة على الستمرارية‪ ،‬والمحافظة على النضباط‪.‬‬
‫ولبد من الشارة إلى موضوع مهم‪ ،‬أل وهو أن العمل الدعوي‬
‫في مكان قد يحتاج إلى خطة وتنظيم وإدارة‪ ،‬تختلف عن احتياجه‬
‫إليها في مكان آخر‪.‬‬
‫وهذا حق‪ ,‬وهو أمر تطلب فيه المرونة‪ ،‬وسعة الفق‪ ،‬وعمق‬
‫النظر إلى المور‪ ،‬لكن بغض النظر عن هذا الختلف‪ ،‬فليست‬
‫العبرة أبدا بنوعية العداد‪ ،‬هرميا كان أو رأسيا‪ ،‬أو رئاسيا أو‬
‫استشاريا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ,‬وإنما العبرة بضرورة ممارسة التنظيم‬
‫للعمل‪ ،‬وبضرورة اختيار النوع الملئم للناس والبيئات‪ ،‬التي يطبق‬
‫فيها أي نوع من أنواع التنظيم‪ ,‬كل ذلك ينظر إليه بمنظار الحتياج‬
‫من جانب‪ ،‬وبمنظار القدرة على تحقيق الهداف من جانب آخر‪,‬‬
‫ول بأس أبدا بأي نوع من أنواع التنظيم‪ ،‬التي ذكرنا أو سواها مما‬
‫يصل إليه أذهان الدعاة إلى الله‪ ،‬ما داما هذا التنظيم ل ينطوي‬
‫على شيء مما حرما الله)‪.(1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم‪.(302 -1/295) ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪253‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة‬
‫إن رسل الله الكراما عليهم أفضل الصلوات والسلما عندما‬
‫بلغوا رسالت الله إلى أقوامهم‪ ،‬اختاروا من الناس من استجابا‬
‫لدعوتهم وغرسوا في نفوسهم المعاني اليمانية والخلق الربانية‬
‫حتى يستطيعوا أن يحملوا معهم دعوة الله إلى الناس‪ ،‬فهذا‬
‫رسول الله موسى قاما بهذه المهمة الشاقة‪ ,‬وذاك رسول الله‬
‫عيسى الذي اختار أنصاره الحواريين الذين حملوا دعوته ورسالته‬
‫من بعده‪ ,‬وإن كان بعضهم انحرف عن المنهج الرباني الصحيح‪،‬‬
‫ومن سيرة النبي × نرى أن هذه المرحلة واضحة المعالم في‬
‫اختيار العناصر التي لها استعداد لتحمل تكاليف ومشاق ومصاعب‬
‫الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫وقد اهتم كثير من الدعاة إلى الله بهذه المرحلة وأعطوها‬
‫اهتماما خاصا على مر العصور‪ ،‬وكر الدهور‪ ،‬ول زال المهتمون‬
‫بأمر الدعوة والذين يسعون لتطبيق شرع الله تعالى يعطون هذه‬
‫المرحلة أوقاتهم وجهدهم‪ ،‬ولقد أرشد القرآن الكريم المة إلى‬
‫الهتماما بالعداد في قوله تعالى‪+ :‬وألرعمدواً لهمُ لماً اًستطلعتمُ بمنَ قييلوُةة ورمنَ برباًطر‬
‫ل ل‬ ‫ي ك ك ل كي‬ ‫ل‬
‫اًلكلخكيْرل تييررهبوُلن برره لعيدلو اً ر‬
‫ل لولعيدلويككمُ‪] "...‬النفال‪.[60 :‬‬ ‫ك ي‬
‫إن العداد في الية الكريمة كلمة عامة تبدأ بالعداد النفسي‪،‬‬
‫وتنتهي بكل أنواع العداد المادية التي قد تحتاج إليها المعركة‪،‬‬
‫والمسلم في هذه المرحلة بالذات عليه أن يعد نفسه للقاء أعداء‬
‫الله‪ ،‬فيأخذ نفسه بكل أسبابا القوة‪ ،‬ويحول بينه وبين أي سبب‬
‫من أسبابا الضعف‪ ،‬ويعيش منتظرا ذلك اليوما الذي يجاهد فيه‬
‫في سبيل الله‪ ،‬ويقاتل أعداءه‪ ،‬ويسعى لزالة الحواجز التي تمنع‬
‫دخول الناس في السلما‪ ،‬وتمنع تحكيم شرع الرحمن)‪.(1‬‬
‫إن مرحلة اختيار العناصر اللزمة لتحمل الدعوة وتربيتهم على‬
‫الكتابا والسنة‬
‫من أهم المراحل في تمكين دين الله‪ ،‬كما أن أهدافها أكثر دقة‬
‫من أهداف المرحلة‬
‫التي قبلها‪.‬‬
‫أول‪ :‬أهم أهداف هذه المرحلة‪:‬‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/447‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪254‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الهدف الول‪ :‬الصطفاء‪:‬‬


‫وهو الختيار والنتقاء للعناصر التي أنهت مرحلة التعريف‬
‫بنجاح حتى يتأهلوا لحمل أعباء وتكاليف الجهاد في مرحة المغالبة‪،‬‬
‫والشروع لهيمنة السلما من خلل دولة محكمة)‪ .(1‬وهذا الصطفاء‬
‫له معايير أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬القدرة الروحية‪ :‬ويكون لدى الشخص المختار استعداد‬
‫في هذه المرحلة من الناحية الروحية إذا توافرت فيه بعض‬
‫الصفات من أهمها‪ :‬صفاء الروح‪ ،‬الشعور بمراقبة الله‪ ،‬أن يظهر‬
‫حبه لله في سلوكه‪ ،‬وكذلك ارتباطه الوثيق بالله‪.‬‬
‫‪ -2‬القدرة العقلية‪ :‬وأهم الصفات التي تؤهل الشخص من‬
‫الناحية العقلية‪ ،‬الذكاء الذي يساعده على العلم والتحصيل‪ ،‬ونبذ‬
‫المسلمات القائمة على الظنون والوهاما‪+ :‬إرلن اًلظللنَ لل يييغكرنيِ رملنَ اًلكلحبق‬
‫لشكيْحئاً" ]يونس‪ ,[36 :‬وأن يتصف في الحكم على الناس والشياء‬
‫بالتأني والتثبت في كل المور‪ ،‬لن التسرع يوقع في الخطأ من‬
‫جانب ويضيع كثيرا من الفرص للتعرف الحقيقي على الناس من‬
‫جانب آخر‪ ,‬قال تعالى ‪+‬ياً أليميلهاً اًلرذينَ آمنيوُاً رإن جاًءيكمُ لفاًرسيق برنلبةأ فليلتبييْلينيوُاً لأن تي ر‬
‫صيْبيوُاً‬ ‫ل ل‬ ‫لل ك‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫صبريحوُاً لعللىَ لماً فليلعكلتيكمُ نَلاًدميْلنَ" ]الحجرات‪ ,[6 :‬وأن يتصف بعمق‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬
‫قليكوُحماً برلجلهاًلة فليتي ك‬
‫النظر‪ ،‬وقدرته على التدبر واستنباط الحكم الكامنة في‬
‫المخلوقات‪ ،‬لن ذلك ينضج الفكر ويزيد اليمان‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لولماً‬
‫ض لولماً بل كييْينلييهلماً إرلل‬
‫ت لواًللكر ل‬‫سماًواً ر‬
‫لخ لكقلناً اًل ل ل ل‬
‫رباًلكلحبق" ]الحجر‪.[85 :‬‬
‫‪ -3‬القوة البدنية‪ :‬وذلك أن هذه المرحلة إعداد لمرحلة‬
‫الجهاد‪ ،‬فليس بأهل لها إل رجل ل قوي البدن‪ ,‬سليم الحواس‪ ،‬خالليا‬
‫من المراض والعاهات‪ ،‬ومن كان قادرا على أن يأخذ نفسه وبدنه‬
‫بأسبابا القوة‪ ،‬ويباعد بين نفسه وبدنه وبين أسبابا الضعف فذلك‬
‫شخص مطلوبا‪.‬‬
‫‪ -4‬القدرة الحركية‪ :‬وتتحقق القدرة الحركية في الشخص إذا‬
‫توافرت فيه صفات نذكر منها‪ :‬الرغبة في الختلط بالناس‪ ،‬وعقد‬
‫الصلت بهم‪ ،‬والقدرة على جذبا الناس إليه‪ ،‬والقدرة على التأثير‬
‫في الناس‪ ،‬وتصنيفهم‪ .‬وتكون هذه الصفات من مقومات‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/421‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪255‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الشخصية المختارة‪.‬‬
‫‪ -5‬القدرة النتاجية‪ :‬يكون قد استقطب وضم للصف السلمي‬
‫آخر أو آخرين‪ ،‬لصفوف العمل السلمي عموما‪ ،‬أو إلى صفوف‬
‫مرحلة الدعوة والتبليغ‪ ,‬وأن يتصف باليجابية الفعالة القادرة على‬
‫العمل وأن يكون متحمسا للعمل ل يفتر عنه‪ ،‬وأن يكون محسنا في‬
‫العمل الذي يسند إليه‪ ,‬وأن يكون ذا علقة جيدة بالناس‪ ،‬وأن يكون‬
‫قد فقه تماما معنى كونه داعية إلى الله‪ ،‬ومن لم تتوافر له هذه‬
‫الصفات‪ ،‬أو تلك الشروط‪ ،‬وفق تلك المعايير التي ذكرنا يكون له‬
‫انسجاما وملءمة لطاقته‬
‫ل‬ ‫موقع آخر في العمل السلمي أكثر‬
‫وقدراته‪ ،‬وأفيد للعمل‪ ،‬لن من المور التي تهلك العمال توسيدها‬
‫إلى غير أهلها‪.‬‬
‫الهدف الثاني‪ :‬التوظيف‪:‬‬
‫أي تحديد العمل للفرد‪ ،‬وتقديره في حدود إمكانات الفرد‬
‫وطاقته‪ ,‬ويحدد له الزمن المناسب لداء العمل‪ ,‬وإسناد العمل‬
‫المناسب للفرد المناسب يستوجب على من يشرف على العمل‬
‫أن يكون على علم ووعي وإدراك لما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬تحديد الهدف من كل عمل من العمال‪.‬‬
‫‪ -2‬تحديد الوسائل التي تكفل للعمل النجاح‬
‫‪ -3‬تحديد الفرد والفراد الملئمين للعمل‪.‬‬
‫‪ -4‬تحديد الطار الزمني للعمل‪.‬‬
‫الهدف الثالث‪ :‬العداد والتربية‪:‬‬
‫ونعني بهذا الهدف تهيئة الفراد وتجهيزهم وتنمية قواهم الجسدية‬
‫والخلقية والعقلية‪ ،‬ليكونوا أقوياء قادرين على حمل أعباء الجهاد في‬
‫سبيل الله‪ ،‬ولذلك تعتبر مرحلة العداد والتربية من أهم مراحل‬
‫الدعوة إلى الله‪ ،‬لنها تكون أفرادا متكاملي البناء‪ ،‬وحسبهم أنهم‬
‫قادرون على حمل أعباء الجهاد الذي كما هو معروف سناما السلما‪،‬‬
‫وأعلى منزلة بين منازله‪.‬‬
‫الهدف الرابع‪ :‬النضباط‪:‬‬
‫وذلك بالوصول بالفراد إلى النضباط وحفظهم بالحزما حفظا‬
‫جيدا‪ ،‬وإحكاما إعدادهم وتكوينهم والقياما على أمرهم خير قياما‪.‬‬
‫إن حياة المسلم العادي منضبطة في كل شيء‪ ،‬وفق القوانين‬

‫‪256‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫التي جاء بها السلما‪ ,‬فمن بابا أولى الذين يعدون لحمل تكاليف‬
‫الجهاد‪ ,‬فالمسلم منضبط وفق الشرع في العقيدة والفكر‪ ،‬وفي‬
‫العبادة‪ ،‬وفي الخلق والسلوك وفي المعاملت كلها‪ ،‬وفي الكلما‬
‫والصمت وفي الزي والمأكل والمشربا والمنكح‪ ،‬وفي النوما‬
‫واليقظة‪ ،‬وفي الحقوق والواجبات‪ ،‬وفي محاسبة النفس‪ ,‬وفي‬
‫الدعوة إلى الله والعمل من أجل السلما‪ ،‬وفي اللتزاما بوعده‬
‫وموعده‪ ،‬وفي النتماء والعتزاز بأنه مسلم‪.‬‬
‫وليس المسلمون في ذلك سواء فمنهم من ينضبط وفق هذه‬
‫المعايير‪ ،‬ومنهم من يقصر في بعضها‪ ،‬ومنهم من يلبس عليه‬
‫الشيطان أو الهوى أمره فل ينضبط‪ ,‬ولقد كان من حكمة الله‬
‫سبحانه ورحمته بالناس‪ ،‬أن جعل لعدما النضباط عقوبات مقدرة‬
‫»حدودا« ليلتزما الناس بأدبا السلما وخلقه‪ ،‬ومنهجه‪ ،‬ونظامه‪.‬‬
‫إن مرحلة العداد والتربية من أهدافها الصيلة‪ ،‬أن يتربى‬
‫المسلم على النضباط في كل شيء وفق المعايير والقوانين التي‬
‫شرعها الله سبحانه وتعالى ليحقق الخذ بها سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ومن أهم الوسائل لتحقيق هذه الهداف أن يتعهد الفراد‬
‫المستهدفون في هذه المرحلة من قبل مشرف مختص ليشرف‬
‫أسبوعيا‪ ،‬وفق دراسة معينة‪ ،‬وعيتعهدوا أيضا كل شهر‬ ‫ل‬ ‫على تربيتهم‬
‫ونصف ببرنامج مكثف‪ ,‬وتستخدما الدورات والندوات والمخيمات‬
‫والمعسكرات والرحلت لتحقيق هذه الهداف السامية‪ ،‬أما‬
‫البرنامج المعد لهذه المرحلة فيحتوي على تربية روحية وعقلية‬
‫وجسمية واجتماعية وخلقية‪.‬‬
‫ثانيلا‪ :‬التربية الروحية‪:‬‬
‫ح رمكنَ ألكمرر لرببيِ لولماً يأورتيْيتمُ بمنَ اًلكرعكلرمُ إرلل‬‫ك لعرنَ اًلمرورح قيرل اًلمرو ي‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لويلكسأليلوُنَل ل‬
‫ت فيْه منَ مروحيِ" ]ص‪ [72 :‬وقال‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫قلرليْلح" ]السراء‪ [85 :‬وقال تعالى‪+:‬لونَليلفكخ ي‬
‫صاًلر لواًللفكئرلدةل قلرليْلح لماً تلكشيكيرولن"‬ ‫سكملع لواًللبك ل‬ ‫تعالى‪+ :‬ثيلمُ لسلوُاًهي لونَليلفلخ رفيْره رمنَ مرورحره لولجلعلل ليكيمُ اًل ل‬
‫]السجدة‪ .[9 :‬ولتزكية الروح وتربيتها طرق عدة من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬التدبر في كون الله ومخلوقاته وفي كتابا الله تعالى حتى‬
‫تشعر بعظمة الخالق وحكمته سبحانه وتعالى‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬إرلن لربليكيمُ‬
‫ش يييغكرشيِ اًل لكيْلل اًلنليلهاًلر يلطكليبيهي‬ ‫ض رفيِ رستلرة أللياًةم ثيلمُ اًكستليلوُىَ لعللىَ اًلكلعكر ر‬ ‫سماًواً ر‬ ‫لر‬
‫ت لواًللكر ل‬ ‫اًلي اً ذيِ لخ للق اًل ل ل ل‬
‫ب اًلكلعاًلرميْلنَ"‬‫ت برألكمررهر أللل لهي اًلكلخكليق لواًلكمير تليلباًلرلك اًلي لر م‬ ‫شمس واًلكلقمر واًلنمجوُم مسلخراً ة‬
‫لحثيْحثاً لواًل ل ك ل ل ل ل ل ي ل ي ل ل‬
‫ر‬
‫]العراف‪.[54 :‬‬

‫‪257‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في‬


‫الكون‪ ،‬بل بما في عالم الغيب والشهادة‪ ،‬لن ذلك يمل الروح والقلب‬
‫بعظمة الله ويطهر النفس من الشكوك والمراض‪.‬‬
‫ب لل يليكع ليملهاً إرلل يهلوُ لويليكع ليمُ لماً رفيِ اًكلبليبر لواًلكبلكحرر لولماً‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لورعكنلدهي لملفاًتريح اًلكغلكيْ ر‬
‫ب مربيْةنَ ‪ ‬لويهلوُ‬ ‫س إرلل رفيِ كرلتاً ة‬ ‫ب لولل لياًبر ة‬ ‫ض لولل لرطك ة‬ ‫ت اًللكر ر‬ ‫ط رمنَ ورقلةة إرلل ييكع لملهاً ولل حبلةة رفيِ ظيليماً ر‬
‫ل‬ ‫ل ي ل ل‬ ‫تلكسيق ي ل ل‬
‫سقمىَ ثيلمُ إرلكيْره لمكررجعييككمُ‬ ‫ضىَ أللجلر م ل‬ ‫اًلرذيِ يليتليلوُلفاًيكمُ براًل لكيْرل لويليكع ليمُ لماً لجلركحيتمُ رباًلنليلهاًر ثيلمُ يل كيبيلعثييككمُ رفيْره رليْييكق ل‬
‫ثيلمُ ييينلبئييكمُ برلماً يككنتيكمُ تليكعلميلوُلن" ]النعاما‪.[60 ،59 :‬‬
‫‪ -3‬عبادة الله من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا‪ ،‬إذ‬
‫العبادة هي غاية التذلل لله سبحانه‪ ,‬ول يستحقها إل الله وحده‪،‬‬
‫ر ر ر ر ر‬
‫ساًحنَاً" ]السراء‪:‬‬ ‫ك أللل تليكعبييدواً إلل إلياًهي لوباًلكلوُاًللديكرنَ إكح ل‬ ‫ضىَ لربم ل‬ ‫ولذلك قال سبحانه‪+ :‬لوقل ل‬
‫‪.[23‬‬
‫والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان‪:‬‬
‫النوع الول‪ :‬العبادات المفروضة كالطهارة‪ ،‬والصلة‪،‬‬
‫والصياما‪ ،‬والزكاة‪،‬‬
‫والحج وغيرها‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬العبادات بمعناها الواسع‪ ،‬الذي يشمل كل عمل‬
‫يعمله النسان أو يتركه‪ ،‬بل كل شعور يقبل عليه النسان تقرلبا به‬
‫إلى الله تعالى‪ ،‬بل يدخل فيها كل شعور يطرده النسان من‬
‫نفسه تقربا به إلى الله تعالى‪ ،‬مادامت نية المتعبد بهذا العمل هي‬
‫إرضاء الله سبحانه وتعالى‪ ،‬فكل المور‪ ،‬مع نية التقربا إلى الله‬
‫سبحانه وتعالى عبادة يثابا صاحبها‪ ،‬وتربى روحه تربية حسنة)‪.(1‬‬
‫إن أثر تربية الروح يتمثل في أمور عديدة نشير إلى أهمها فيما‬
‫يلي‪ :‬توثيق صلة النسان بربه سبحانه وتعالى‪ ،‬وتوضيح صلة‬
‫النسان بالكون وما فيه‪ ،‬وترشيد هذه الصلة‪ ،‬وتحبيب النسان‬
‫لخيه المسلم‪ ،‬وحرصه على هدايته وحب الخير له‪ ,‬وتحبيب‬
‫النسان لمخلوقات الله كلها‪ ،‬والتعامل معها‪ ،‬وفق منهج السلما‬
‫ونظامه‪ ،‬وتحبيب النسان في الخير عموما والتقربا به إلى الله‪,‬‬
‫واستعلء النسان على شهواته‪ ،‬وسيطرته على نزعاته‪ ،‬وتوجيه‬
‫ذلك كله‪ ،‬وفق منهج الله‪ ،‬ونظامه في الحياة الدنيا‪ ،‬واستعلء‬
‫النسان على القوة المادية‪ ،‬وعدما الوقوع في أسرها‪ ،‬بل إعطاؤها‬
‫حجمها الصحيح‪ ،‬ومكانها المناسب‪ ،‬وتتكون في العبد ملكة يستمد‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/472،471‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪258‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بها القوة من الله وحده)‪.(2‬‬


‫ثالثلا‪ :‬التربية العقلية‪:‬‬
‫ونعني بها تربية المخ وتنمية قدرته على النظر والتأمل والتفكر‬
‫والتدبر‪ ،‬وذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله‪ ،‬وهذا‬
‫المطلب القرآني أرشد إليه ربنا سبحانه وتعالى في محكم تنزيله‪،‬‬
‫سماًواً ر‬
‫ت لواًللكر ر‬ ‫ر‬
‫ض‬ ‫أمرا لكل إنسان‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬قيرل اًنَكظييرواً لماًلذاً فيِ اًل ل ل ل‬ ‫ل‬ ‫وجعله‬
‫ت لواًلنميذير لعنَ قليكوُةم لل يييكؤرمينوُلن" ]يونس‪.[101 :‬‬
‫لولماً تييغكرنيِ اًلللياً ي‬
‫ف لكاًلن لعاًقربلةي‬ ‫ض لفاًنَكظييرواً لككيْ ل‬ ‫ت رمنَ قليكبلريككمُ يسنلرنَ فلرسيْيرواً رفيِ اًللكر ر‬ ‫وقوله تعالى‪+ :‬قلكد لخ ل ك‬
‫ف‬ ‫ض لفاًنَكظييرواً لككيْ ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫اًلكيملكبذربيْلنَ" ]آل عمران‪ .[137 :‬وقوله سبحانه‪+ :‬قيكل سيْيرواً فيِ اًللكر ر‬
‫بللدأل اًلكلخكللق ثيلمُ اًلي يينرشيئ اًلنلكشأللة اًللرخلرلة إرلن اًلل لعللىَ يكبل لشكيِةء قلرديرر" ]العنكبوت‪.[20 :‬‬

‫ك يملباًلررك لبيْللدبلييرواً آلياًترره لولريْلتللذلكلر يأويلوُ‬‫ب ألنَكيلزلكلناًهي إرلكيْ ل‬ ‫ر‬


‫وقوله سبحانه وتعالى‪+ :‬كلتاً ر‬
‫ب"‬ ‫اًللكلباً ر‬
‫]ص‪.[29 :‬‬
‫رر‬
‫صقباً ‪ ‬ثيلمُ لشلقكقلناً‬
‫صلكببيلناً اًلكلماًءل ل‬‫ساًين إرللىَ طللعاًمه ‪ ‬أللنَاً ل‬ ‫وقوله جل شأنه‪+ :‬فليكلليْنظيرر اًرلنَك ل‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ضحباً ‪ ‬لولزيكييتوُحنَاً لونَلكخلح ‪ ‬لولحلداًئلق غيكلحباً ‪ ‬لولفاًكلهةح لوألقباً ‪ ‬لملتاًحعاً ليككمُ‬ ‫ض لشققاً ‪ ‬فلألنَكيلكبتيلناً رفيْلهاً لحقباً ‪ ‬لورعنلحباً لوقل ك‬ ‫اًللكر ل‬
‫ككمُ" ]عبس‪.[32 -24 :‬‬ ‫لوللنَكيلعاًرم ي‬
‫والعقل إحدى طاقات النسان المهمة‪ ,‬ولذلك اهتمت التربية‬
‫السلمية بالنظر إليه وجعله المولى عز وجل مناط التكليف عند‬
‫النسان‪ ،‬فمن حرما العقل لجنون أو غيره‪ ،‬فهو غير مكلف‪ ،‬أو قد‬
‫صلر‬ ‫ك برره رعكلرمُ إرلن اًل ل‬
‫سكملع لواًلكبل ل‬ ‫سل ل‬
‫ف لماً لكيْ ل‬
‫سقط عنه التكليف‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لولل تليكق ي‬
‫ك لكاًلن لعكنهي لمكسيؤولح" ]السراء‪ [36 :‬كما يعتبر العقل نعمة من‬ ‫لواًلكيفلؤاًلد يكمل يأولئر ل‬
‫الله على النسان‪ ،‬يتمكن بها من قبول العلم واستيعابه‪.‬‬
‫منهجا يتمثل في عدد‬ ‫ل‬ ‫ولذلك وضع السلما لتربية العقل‬
‫من النقاط من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين‪،‬‬
‫أو التبعية والتقليد‪ ,‬فقد حذر القرآن الكريم من ذلك‪ ،‬في اليات‬
‫الكريمة التالية‪:‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/472،471‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪259‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قوله تعالى‪+ :‬رإن يليتلبريعوُلن إرلل اًلظللنَ لوإرلن اًلظللنَ لل يييغكرنيِ رملنَ اًلكلحبق لشكيْحئاً" ]النجم‪.[28 :‬‬
‫وقوله سبحانه‪+ :‬لقاًليوُاً بلكل نَليتلبريع لماً أللك ل كفيْيلناً لع لكيْره آلباًءللنَاً أللولكوُ لكاًلن آلباًيؤيهكمُ لل يليكعرقيلوُلن لشكيْحئاً‬
‫لولل يليكهتليدولن" ]البقرة‪.[170 :‬‬

‫‪ -2‬إلزاما العقل بالتحري والتثبت‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً رإن‬
‫نَ" ]الحجرات‪:‬‬ ‫رر‬ ‫صيْبيوُاً قليكوُحماً برلجلهاًلةة فليتي ك ر‬ ‫جاًءيكمُ لفاًرسيق برنلبةأ فليلتبييْلينيوُاً لأن تي ر‬
‫صبيحوُاً لعللىَ لماً فليلعكلتيكمُ لنَاًدميْ ل‬ ‫ل ل‬ ‫لل ك‬
‫‪.[6‬‬
‫‪ -3‬دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون‪ ,‬قال‬
‫ض لولماً بل كييْينلييهلماً إرلل رباًلكلحبق" ]الحجر‪.[85 :‬‬ ‫سماًواً ر‬
‫ت لواًللكر ل‬ ‫تعالى‪+ :‬لولماً لخ لكقلناً اًل ل ل ل‬
‫‪ -4‬دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله لعباده من‬
‫عبادات‪ ،‬ومعاملت‪ ,‬وأخلق وآدابا‪ ،‬وأسلوبا حياة كامل‪ ،‬في‬
‫السلم والحربا‪ ،‬في القامة والسفر‪ ،‬لن ذلك فوق أن ينضج‬
‫العقل وينميه بتعرفه على تلك الحكم‪ ،‬يعطيه أحسن الفرص‬
‫ليطبق الشرع الرباني في حياته‪ ،‬ول يبغي عنه حول‪ ،‬لما فيه من‬
‫السكينة والطمأنينة والسعادة البشرية‪ ،‬ولن الله سبحانه وتعالى‬
‫إنما شرع ما شرع لذلك‪ ,‬قال سبحانه‪+ :‬ييررييد اًلي لرييْبلييْبلنَ ليككمُ لويليكهرديليككمُ يسنللنَ‬
‫ب لع لكيْيككمُ لوييررييد اًلرذيلنَ يليتلبريعوُلن‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر ر ر‬
‫اًلذيلنَ منَ قليكبليككمُ لويلييتوُ ل‬
‫ب لع لكيْيككمُ لواًلي لعليْرمُ لحكيْرمُ ‪ ‬لواًلي ييررييد لأن يلييتوُ ل‬
‫ضرعيْحفاً" ]النساء‪-26 :‬‬ ‫ر‬ ‫ت لأن تلرميْليوُاً لمكيْلح لعرظيْحماً ‪ ‬ييررييد اًلي لأن ييلخبف ل‬ ‫شلهوُاً ر‬
‫ساًين ل‬ ‫ف لعكنيككمُ لويخللق اًرلنَك ل‬ ‫اًل ل ل‬
‫‪.[28‬‬
‫ضطيرررتيمُ إرلكيْره وإرلن لكرثيْراً ليْ ر‬
‫ضملوُلن‬ ‫ح ي‬ ‫صلل ليكمُ لماً لحلرلم لع لكيْيككمُ إرلل لماً اً ك ك ك ل‬
‫وقال سبحانه‪+ :‬لوقلكد فل ل‬
‫ر‬ ‫برألكهلوُاًئررهمُ برغلكيْرر رعكلةمُ إرلن لربل ل‬
‫ك يهلوُ ألكع ليمُ رباًلكيمكعتلديلنَ" ]النعاما‪.[119 :‬‬
‫إن علماء المة وفقهاءها على مر العصور والزمان منذ بزوغا‬
‫السلما إلى عصرنا الحاضر غاصوا في حكم التشريع وحكمته‬
‫وتركوا للعالم كله رصيدا هائل ضخما في أبوابا الفقه السلمي‪،‬‬
‫والمعاملت بين الناس كان من أسبابا سعادة الدنيا والخرة لمن‬
‫التزما بالمنهج الرباني)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬دعوة العقل إلى النظر في سنة الله في الناس عبر التاريخ‬
‫البشري‪ ،‬ليتعظ الناظر في تاريخ الباء والجداد والسلف‪ ,‬ويتأمل‬
‫في سنن الله في المم والشعوبا والدول‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/475‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪260‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ض لماً لكمُ نَيلمبكنَ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أللكمُ يليلركواً لككمُ ألكه لككلناً رمنَ قليكبلررهمُ بمنَ قليكرةن لملكلناًيهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫شأكلنَاً رمنَ‬
‫سلماًءل لع لكيْرهمُ بمكدلراًحراً لولجلعكللناً اًلنَكيلهاًلر تلكجرريِ رمنَ تلكحتررهكمُ فلألكه لككلناًيهكمُ بريذينَوُبررهكمُ لوألنَك ل‬
‫ليككمُ لوألكرلسكللناً اًل ل‬
‫بليكعردرهكمُ قليكرحنَاً آلخرريلنَ" ]النعاما‪.[6 :‬‬

‫ت لولماً‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬وللقكد ألكه لككلناً اًلكيقرولن رمنَ قليكبلريكمُ للماً ظللموُاً وجاًءتكييهمُ رسلييهمُ رباًكلبييْبيلناً ر‬
‫ل‬ ‫ي ل ل ل ك يي‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫ف‬ ‫يْ‬
‫ل ل ك ل‬‫ك‬
‫ل‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫ظ‬ ‫نن‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫ر‬
‫همُ‬ ‫ر‬
‫د‬ ‫ع‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫منَ‬ ‫ر‬
‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫اً‬ ‫ر‬
‫فيِ‬ ‫ف‬ ‫ر‬
‫ئ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫مُ‬ ‫ك‬
‫ي‬ ‫ناً‬ ‫ل‬
‫ك‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫مُ‬‫ي‬‫ث‬ ‫نَ‬ ‫ر‬
‫ك نَلكجرزيِ اًلك ك ل ي ك ل ل ل ل ل ك ل ل ل‬
‫ميْ‬‫ر‬
‫ر‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫اً‬ ‫م‬‫وُ‬‫ق‬‫ل‬ ‫لكاًنَيوُاً لريْييكؤرمنيوُاً لكلذلر ل‬
‫لك‬ ‫ك‬ ‫‪‬‬

‫تليكعلميلوُلن" ]يونس‪.[14 ،13 :‬‬

‫ف لكاًلن لعاًقربلةي اًلرذيلنَ رمنَ قليكبلررهكمُ‬ ‫وقال سبحانه‪+ :‬أللو لكمُ ليسيْريرواً رفيِ اًللكر ر‬
‫ض فليليْنظييرواً لككيْ ل‬
‫ض ولعمرولهاً ألككثلير رملماً لعمرولهاً وجاًءتكييهمُ رسلييهمُ رباًكلبييْبيلناً ر‬ ‫ر‬
‫ت فللماً لكاًلن‬ ‫ل‬ ‫لي ل ل ل ك ي ي‬ ‫ل‬ ‫لكاًنَيوُاً أللشلد م كنييهكمُ قييلوُةح لوأللثاًيرواً اًللكر ل ل ل ي‬
‫سيهكمُ يلظكلريموُلن" ]الروما‪.[9 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر ر‬
‫اًلي ليْلظكللميهكمُ لولكنَ لكاًنَيوُاً ألنَكييف ل‬
‫وهذا هو المنهج الرباني للعقل لكي ل يضل في التيه‪ ،‬الذي‬
‫ضل فيه كثير من الفلسفة الذين قدسوا العقل وأعطوه أكثر مما‬
‫يستحق‪.‬‬
‫وأما الثار العملية من هذا التوجيه الرباني في العقل‬
‫فتتمثل في أمور من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬تنقية العقل من الوهم والخرافة‪ ،‬والدجل والمسلمات‬
‫المبنية على الظنون والوهاما وتربيته على التريث والتثبت‪ ،‬حتى ل‬
‫يتسرع فيظلم ويندما وحينئذ ل‬
‫ينفع الندما‪.‬‬
‫‪ -2‬تعويد العقل على إدراك حقيقة هذا الكون الذي يعيش فيه‬
‫وإلزامه بأن يتعرف على الحق عن قربا ويقين‪.‬‬
‫‪ -3‬إقدار العقل على التأمل والنظر في حكمة الله سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فيما شرعه للناس من منهج ونظاما‪ ،‬يحقق لهم سعادة‬
‫الدارين‪ ،‬وتمكين العقل من التأمل في تاريخ البشرية‪ ،‬وهذا‬
‫أبوابا وفصول ليخرج بفائدة جليلة‬
‫ل‬ ‫التاريخ هو أكبر كتابا وأوسعه‬
‫يستطيع أن يقارن بدقة وحسم بين الكفر واليمان‪ ،‬وأعمال‬
‫المؤمنين وضلل الكافرين‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬تربية الجسم‪:‬‬
‫ل‬
‫إن الله تعالى أخبرنا أنه خلق آدما عليه السلما من سللة من‬
‫طين‪ ،‬ثم سواه ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وجعل له السمع والبصر‬

‫‪261‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ساًرن رمنَ رطيْةنَ ‪ ‬ثيلمُ‬ ‫ة‬ ‫لر‬


‫سلنَ يكلل لشكيِء لخ للقهي لوبللدأل لخكللق اًرلنَك ل‬
‫تعالى‪+ :‬اً ذيِ ألكح ل‬ ‫ة‬
‫والفؤاد‪ ,‬قال‬
‫لجلعلل نَلكس لهي رمنَ يسلللة بمنَ لماًء لمرهيْةنَ ‪ ‬ثيلمُ لسلوُاًهي لونَليلفلخ فيْه منَ مروحه لولجلعلل ليكيمُ اًل ل‬
‫سكملع لواًللبك ل‬
‫صاًلر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬
‫ن" ]السجدة‪.[9 -7 :‬‬ ‫لواًللفكئرلدةل قلرليْلح لماً تلكشيكيرو ل‬
‫وهذه اليات إشارة إلى أن النسان يتكون من طاقات ثلث‬
‫منحها الله للنسان‪ :‬طاقة العقل‪ ،‬وطاقة الروح‪ ،‬وطاقة الجسم‪،‬‬
‫ثم استخلفه الله في الرض‪ ،‬وطلب منه أن يعمرها‪ ,‬قال سبحانه‪:‬‬
‫ض لواًكستليكعلملريككمُ رفيْلهاً" ]هود‪.[61 :‬‬ ‫شأليكمُ بملنَ اًللكر ر‬‫‪+‬يهلوُ ألنَ ل‬
‫وقد بينت منهج السلما في تربية الروح والعقل‪ ،‬ولبد من بيان‬
‫منهج القرآن الكريم في تربية الجسم البشري‪ ،‬بحيث يؤدي‬
‫وظيفته دون إسراف أو تقتير‪ ،‬ودون محاباة لطاقة من طاقاته‪،‬‬
‫على حسابا طاقة أخرى‪ ،‬ولذلك أرشد القرآن إلى ما أحله الله‬
‫من الطيبات‪ ،‬واجتنابا ما حرما الله من الخبائث‪ ,‬وأنكر على أولئك‬
‫الذين يحرمون أبدانهم من تلبية حاجاتها على الوجه المشروع‪،‬‬
‫ت رملنَ اًلبركزرق"‬ ‫ل اًلرتيِ ألكخرج لررعباًردهر واًلكطليْبباً ر‬
‫لل ل ل ل‬
‫فقد قال تعالى‪+ :‬قيل منَ حلرم رزينلةل اً ر‬
‫ك لك ل ل‬
‫]العراف‪.[32 :‬‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلذيلنَ آلمنيوُاً لل تيلحبريموُاً طليْبلباًت لماً أللحلل اًلي ليككمُ لولل تليكعتليدواً إرلن اًلل‬
‫ب اًلكيمكعتلرديلنَ ‪ ‬لويكليوُاً رملماً لرلزقليكيمُ اًلي لحلللح طليْبحباً لواًتلييقوُاً اًلل اًلرذيِ ألنَكيتيكمُ برره يمكؤرمينوُلن"‬
‫لل ييرح م‬
‫]المائدة‪.[88 ،87 :‬‬
‫ول شك أن تحقيق هذه الحاجات‪ ،‬يمكن النسان من أداء‬
‫وظائفه‪ ،‬التي وظفه الله لها في الرض من عبادة الله واستخلف‬
‫في الرض‪ ،‬وإعمارها‪ ،‬وتعارف وتعاون وتناصر وتمكن وأمر‬
‫بمعروف ونهي عن المنكر وجهاد في سبيل الله‪ ،‬وبغير تحقيقها ل‬
‫يكون شيء من ذلك)‪.(1‬‬
‫ولذلك ضبطت الشريعة ‪ -‬على نحو دقيق ‪ -‬حاجات الجسم‬
‫البشري على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ -1‬ضبط حاجته إلى الطعاما والشرابا بقول الله تعالى‪+ :‬ويكليوُاً‬
‫لواًكشلربيوُاً لولل تيكسررفيوُاً"‬
‫]العراف‪.[31 :‬‬
‫‪ -2‬وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى‪ ،‬بأن أوجب من اللباس‬
‫ما يستره العورة‪ ،‬ويحفظ الجسم‪ ،‬من عاديات الحر والبرد‪،‬‬
‫)( فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/487‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪262‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وأوجب ما يكون زينة عند الذهابا إلى المسجد قال تعالى‪+ :‬لياً بلرنيِ‬
‫آلدم يخيذواً رزينلتليكمُ رعكنلد يكبل مس ر‬
‫جةد" ]العراف‪[31 :‬‬ ‫لك‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫‪ -3‬وضبط الحاجة إلى المأوى بقوله تعالى‪+:‬لواًلي لجلعلل ليكمُ بمنَ بييييْوُتريككمُ‬
‫لسلكحناً" ]النحل‪.[8:‬‬
‫‪ -4‬وضبط حاجته إلى الزواج والسرة‪ ،‬بإباحة النكاح‪ ،‬بل إيجابه‬
‫في بعض‬
‫ر‬ ‫ل‬
‫الحيان‪ ،‬وتحريم الزنا والمخادنة‪ ،‬واللواط‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لواً ذيلنَ يهكمُ‬
‫ر‬ ‫ظوُلن ‪ ‬إرلل لعللىَ ألكزلواًرجرهكمُ ألكو لماً لم للك ك‬ ‫لريفيرورجرهكمُ لحاًفر ي‬
‫ت أليكلماًنَيييهكمُ فلرإنَلييهكمُ لك‬
‫غيْيير لميلوُميْلنَ ‪ ‬فللمرنَ اًبكيتليلغىَ لولراًءل‬
‫ن" ]المؤمنون‪.[7 -5 :‬‬ ‫ك يهيمُ اًلكلعاًيدو ل‬‫ك فليأولئر ل‬‫لذلر ل‬
‫‪ -5‬وضبط حاجته إلى التملك والسيادة‪ ،‬بأن أباح التملك للمال‬
‫والعقار‪ ،‬ولكن حرما الحتكار‪ ،‬واكتناز الموال‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬اًلكلماًيل‬
‫لواًكلبليينوُلن رزينلةي اًلكلحليْاًرة اًلمدنَكيليْاً"]الكهف‪.[46:‬‬
‫‪ -6‬وضبط السلما السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي‪,‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬إرنَلهي لل يييكفلريح اًللظاًلريموُلن" ]النعاما‪ [21 :‬وقال تعالى‪+ :‬لوألكعتلكدلنَاً‬
‫رلللظاًلررميْلنَ لعلذاًحباً" ]الفرقان‪ [37 :‬مع أنه سبحانه وتعالى جعل هذه المة‬
‫س" ]البقرة‪:‬‬ ‫ك لجلعكللناًيككمُ أيلمةح لولسحطاً لبتليكوُنَيوُاً يشلهلداًءل لعللىَ اًللناً ر‬ ‫وسطا قال تعالى‪+ :‬لولكلذلر ل‬
‫‪.[143‬‬
‫‪ -7‬وضبط حاجته إلى العمل والنجاح‪ ،‬بأن جعل من اللزما أن‬
‫يكون العمل مشروعا‪ ،‬وغير ضار بأحد من الناس‪ ،‬ونادى على‬
‫المسلمين أن يعملوا في هذه الحياة الدنيا ما يكفل لهم القياما‬
‫بعبء الدعوة والدين‪ ،‬وما يدخرون عند الله سبحانه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ف تليكعلميلوُلن" ]العراف‪ [129 :‬وربط العمل‬ ‫‪+‬لويلكستلكخلرلفيككمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ض فليليْنظيلر لككيْ ل‬
‫باليمان في كثير من آيات القرآن الكريم‪ ،‬وشرط في العمل أن‬
‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت إرلنَاً لل‬ ‫يكون صالحا‪ ،‬قال سبحانه وتعالى‪+ :‬إرلن اًلذيلنَ آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل ل‬
‫ر‬
‫سلنَ لعلملح" ]الكهف‪.[30 :‬‬ ‫نَيضيْيع ألكجلر لمكنَ ألكح ل‬
‫بل طالب بالحسان في العمل‪ ،‬فقال سبحانه‪+:‬إرلن اًلل يلأكيمير رباًلكلعكدرل‬
‫ساًرن"‬
‫لواًلكح ل‬
‫]النحل‪.[90:‬‬

‫‪263‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -8‬وضبط النجاح بأن يكون الهدف من العمل الناجح وجه الله‬


‫ر‬ ‫ر‬ ‫ورضاه‪ ,‬قال سبحانه‪+ :‬ومنَ ألح ر ر‬
‫نَ" ]النساء‪:‬‬ ‫سينَ ديحناً ملمكنَ ألكس للمُ لوكجلههي ل لويهلوُ يمكحس ر‬ ‫لل ك ك ل‬
‫‪.[125‬‬
‫‪ -9‬وضبط حاجة الجسم إلى الراحة والسترواح‪ ،‬بأن حذر من‬
‫السراف فيها‪ ،‬حتى ل تتحول إلى دعة وكسل‪ ,‬والصل في‬
‫الشريعة السلمية أنها خالية من كل إعنات‪ ،‬أو إرهاق للنسان‪,‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬ييررييد اًلي بريكيمُ اًلكيْيكسلر لولل ييررييد بريكيمُ اًلكعيكسلر" ]البقرة‪.[185 :‬‬

‫ضرعيْحفاً" ]النساء‪.[28 :‬‬ ‫ر‬


‫ساًين ل‬ ‫ف لعكنيككمُ لويخللق اًرلنَك ل‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬ييررييد اًلي لأن ييلخبف ل‬
‫وحذر سبحانه من الدعة والبطر‪ ،‬والغترار بالنعمة‪ ,‬قال‬
‫ر‬
‫ساًركنيييهكمُ لكمُ تيكسلكنَ بمنَ بليكعردهكمُ إرلل‬ ‫ك لم ل‬ ‫سبحانه‪+ :‬لولككمُ ألكه لككلناً رمنَ قليكريلةة بلرطلر ك‬
‫ت لمرعيْ ل‬
‫شتليلهاً فلتركل ل‬
‫قلرليْلح لويكلناً نَلكحينَ اًلكلوُاًررثيْلنَ"‬
‫]القصص‪.[58 :‬‬
‫صمدولن لعنَ‬ ‫س لويل ي‬ ‫وقال سبحانه‪+ :‬لولل تليكوُنَيوُاً لكاًلرذيلنَ لخلريجوُاً رمنَ ردلياًررهمُ بلطلحراً لورلئاًءل اًللناً ر‬
‫ط" ]النفال‪.[47 :‬‬ ‫ل لواًلي برلماً يليكعلميلوُلن يمرحيْ ر‬ ‫سربيْرل اً ر‬
‫ل‬
‫هذه بعض التعاليم من منهج السلما في تربية الجسم‪ ،‬حتى‬
‫يستطيع أن يتحمل أثقال الجهاد وهموما الدعوة وصعوبة الحياة‪.‬‬
‫ول شك أن كل هذه النواع من تربية السلما للجسم‪ ،‬يحتاج إليها‬
‫كل الناس‪ ،‬ولكن المنضمين إلى مرحلة العداد والتربية يحتاجون‬
‫إلى هذه المور احتياجا أساسيا‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬تربية الحس الجتماعي‪:‬‬ ‫ل‬
‫لقد اهتم القرآن الكريم بنزعة التربية الجتماعية في النسان‬
‫ووضع لها دعائم‪:‬‬
‫الدعامة الولى‪ :‬تنمية حب النسان لخيه النسان المؤمن‪:‬‬
‫وتلك القاعدة التي ترتكز عليها الحاسة الجتماعية في البشر‬
‫عموما‪ ،‬ويتضح هذا من سيرة النبي × عندما وصل إلى المدينة‬
‫فآخى بين المهاجرين والنصار في الله‪ ،‬وأصبحوا إخوة‪ ,‬وسجل‬
‫ذلك في وثيقة مكتوبة‪ ،‬نقشت في قلب كل مؤمن‪ ،‬بل صاروا‬
‫يتوارثون بمقتضى هذه الخوة‪ ،‬وظل هذا التوارث ساريا حتى نزل‬
‫ض رفيِ كرلتاً ر ر‬
‫ضيهكمُ ألكوللىَ رببليكع ة‬
‫ب اًل إرلن اًلل‬ ‫قول الله تبارك وتعالى‪+ :‬لويأويلوُ اًلكرلحاًرم بليكع ي‬
‫بريكبل لشكيِةء لعرليْرمُ" ]النفال‪ .[75 :‬فألغى التوارث‪ ،‬وبقيت الخوة في الله‬

‫‪264‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫على ما كانت عليه‪ ،‬من قوة ووثاقة‪ ,‬ول تزال بين الواعين من‬
‫المؤمنين حتى اليوما‪ ،‬ولقد تأكدت الخوة بين المؤمنين بقوله‬
‫سبحانه ‪+‬إرنَللماً اًلكيمكؤرمينوُلن إركخلوُةر" ]الحجرات‪.[10 :‬‬
‫ولقد كان من مقتضى فقه النصار للخوة في الله‪ ،‬أن حملوا‬
‫أعباء إخوانهم المهاجرين‪ ،‬ومدح الله سبحانه ذلك الفقه والعمل‪،‬‬
‫وأثنى عليه بقوله سبحانه‪+ :‬لواًلرذيلنَ تليبليلوُءيواً اًللداًلر لواًرليلماًلن رمنَ قليكبلررهكمُ ييرحمبوُلن لمكنَ لهاًلجلر‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫صةر لولمنَ‬ ‫صيدورهكمُ لحاًلجةح بملماً يأوتيوُاً لويييكؤثيرولن لعللىَ ألنَكييفسرهكمُ لولكوُ لكاًلن بررهكمُ لخ ل‬
‫صاً ل‬ ‫إرلكيْرهكمُ لولل يلجيدولن فيِ ي‬
‫ك يهيمُ اًلكيمكفلريحوُلن" ]الحشر‪.[9 :‬‬ ‫ييوُلق يشلح نَليكفرسره فليأولئر ل‬
‫الدعامة الثانية‪ :‬استجابة السلما لحاجات المجتمع‬
‫كاستجابته لحاجات الفرد‪:‬‬
‫وقد عمل على تحقق حاجات المجتمع في إطار ما أحل الله‪،‬‬
‫وبحيث ل يضر بأحد من الناس‪ .‬ومن حاجات المجتمع)‪:(1‬‬
‫‪ -1‬التعاون والتكافل‪:‬‬
‫لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتعاون وأوجبه عليهم‪,‬‬
‫ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬لوتليلعاًلونَيوُاً لعللىَ اًكلببر لواًلتليكقلوُىَ لولل تليلعاًلونَيوُاً لعللىَ اًرلثكرمُ لواًلكعيكدلواًن لواًتلييقوُاً اًلل إرلن اًلل‬
‫ب" ]المائدة‪.[2 :‬‬ ‫لشردييد اًلكرعلقاً ر‬
‫‪ -2‬التناصر والتواصي بالحق والصبر‪:‬‬
‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت‬ ‫ساًلن لفيِ يخكسةر ‪ ‬إرلل اًلذيلنَ آلمنيوُاً لولعمليوُاً اًل ل ل‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لواًلكلع ك ر‬
‫صرر ‪ ‬إلن اًرلنَك ل‬
‫صكبرر" ]العصر‪ [3 -1 :‬والتواصي بالحق يدفع عن‬ ‫صكوُاً رباًل ل‬
‫صكوُاً رباًلكلحبق لوتليلوُاً ل‬
‫لوتليلوُاً ل‬
‫الناس كل مصيبة ويقضي على المنكرات والثاما التي في‬
‫المجتمع ويجعلها تنحسر‪ ،‬والتواصي بالصبر يجعل المجتمع تسري‬
‫فيه العدالة ويرتفع الظلم وتسوده المودة وتزول العجلة‪.‬‬
‫‪ -3‬الحث على التراحم بين أفراد المجتمع‪:‬‬
‫ر‬ ‫ر ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬يملحلمرد لريسوُيل اًل لواًلذيلنَ لملعهي ألشلداًءي لعللىَ اًلكيكلفاً ر ير ل‬
‫حلماًءي بلي كيْينلييهكمُ" ]الفتح‪:‬‬
‫‪ .[29‬وأثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين المتراحمين في قوله‬
‫صكوُاً رباًلكلمكرلحلمرة ‪ ‬يأولئر ل‬ ‫صكوُاً رباًل ل‬ ‫ر ر‬
‫ب‬ ‫ك أل ك‬
‫صلحاً ي‬ ‫صكبرر لوتليلوُاً ل‬ ‫سبحانه‪+ :‬ثيلمُ لكاًلن ملنَ اًلذيلنَ آلمنيوُاً لوتليلوُاً ل‬
‫اًلكلمكيْلمنلرة" ]البلد‪.[18 ،17 :‬‬
‫وهذه اليات لم تحصر حاجات المجتمع‪ ،‬بل حثته بمفهومها‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/507‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪265‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫العاما على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وعلى جلب‬


‫المصالح ودفع المفاسد‪ ،‬والجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزاة‬
‫وعلى تأمين العيش الكريم لكل أفراده)‪.(1‬‬
‫الدعامة الثالثة‪ :‬تحديد الصفات التي يجب أن تسود‬
‫المجتمع‪:‬‬
‫خيْيرر لولأبكيلقىَ لرلرذيلنَ‬ ‫ل لك‬ ‫قال تعالى‪+ :‬فلماً يأوتريْيتمُ بمنَ لشيِةء فلملتاًعي اًلكحيْاًرة اًلمدنَكييْاً وماً رعكنلد اً ر‬
‫ل لل‬ ‫لل‬ ‫ك ل‬ ‫ل‬
‫ن‪‬‬ ‫رو‬ ‫ف‬ ‫غ‬‫ي‬ ‫ي‬ ‫مُ‬ ‫ه‬ ‫اً‬
‫وُ‬‫ب‬ ‫ر‬
‫ض‬ ‫غ‬ ‫اً‬‫م‬ ‫اً‬ ‫ذ‬ ‫ر‬
‫إ‬‫و‬ ‫ش‬ ‫ح‬‫ر‬
‫آلمنيوُاً لولعللىَ لربرهكمُ يليتليلوُلكيلوُلن ‪ ‬لواًلرذيلنَ يلكجتلنريبوُلن لكلباًئرلر اًرلثكرمُ لواً ل ل ل ل ل ل ل ي ي ك ل ك ي ل‬
‫ر‬ ‫اً‬
‫وُ‬‫ف‬‫ك‬
‫ل‬
‫صللةل لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بل كييْينلييهكمُ لورملماً لرلزقكيلناًيهكمُ يييكنرفيقوُلن ‪ ‬لواًلرذيلنَ إرلذاً‬‫لواًلرذيلنَ اًكستللجاًبيوُاً لرلربرهكمُ لوأللقاًيموُاً اًل ل‬
‫ل إرنَلهي لل ييرح م‬
‫ب‬ ‫ص لح فلألكجرهي لعللىَ اً ر‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫صاًبلييهيمُ اًكلبليغكييِ يهكمُ لينتلصيرولن ‪ ‬لولجلزاًءي لسيْبئلة لسيْبئلةر بمثكيليلهاً فللمكنَ لعلفاً لوأل ك ل ي‬ ‫أل ل‬
‫سربيْلي لعللىَ اًلرذيلنَ يلظكلريموُلن‬ ‫ك لماً لع لكيْرهمُ بمنَ لسربيْةل ‪ ‬إرنَللماً اًل ل‬ ‫صلر بليكعلد ظيكلرمره فليأولئر ل‬ ‫ر‬
‫اًللظاًلرميْلنَ ‪ ‬لوللمرنَ اًنَكيتل ل‬
‫ك لرمكنَ لعكزرم‬ ‫صبليلر لوغللفلر إرلن لذلر ل‬ ‫ب ألليْرمُ ‪ ‬لوللمكنَ ل‬
‫ك لهمُ لعلذاً ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ض برغلكيْرر اًلكلحبق يأولئ ل ي ك‬ ‫س لويل كيبييغوُلن رفيِ اًللكر ر‬ ‫اًللناً ل‬
‫اًلييموُر " ]الشورى‪.[43 -36 :‬‬

‫لقد ذكرت اليات الكريمة الصفات الرفيعة والتي إن سادت في‬


‫المجتمع يصبح سعيدا راشدا‪.‬‬
‫فقد أشارت إلى اليمان بالله‪ ،‬والتوكل عليه سبحانه‪ ،‬واجتنابا‬
‫كل إثم وفاحشة والصفح والتسامح‪ ،‬والستجابة لكل ما أمر الله‬
‫به‪ ،‬وإقاما الصلة‪ ،‬وممارسة الشورى في كل ما يعنيهم من أمر‪،‬‬
‫والنفاق في سبيل الله ووجوه الخير‪ ،‬والنتصاف من كل عدو‬
‫للسلما والمسلمين‪ ،‬وهو مقتضى العدل‪ ،‬والعفو والتسامح مع‬
‫القدرة على النتصاف‪ ،‬وهو مقتضى الحسان‪ ,‬والنتصار بعد‬
‫الظلم‪ ،‬والصبر على المظالم والتجاوز عن الظالم لعل الله يهديه‬
‫بشرط أل يكون ذلك مؤديا إلى الفساد والشر والدعوة للمعرفة‪,‬‬
‫وهكذا يكون المجتمع السلمي)‪.(2‬‬
‫الدعامة الرابعة‪ :‬تأكيد خيرية هذا المجتمع‪:‬‬
‫الذي انصهر في تعاليم السلما ووضعه في مقدمة المجتمعات‬
‫لقيادته كلها إلى اليمان والمنهج الرباني والحق والخير والصلح‬
‫س‬ ‫ت رلللناً ر‬ ‫خيْيلر أيلمةة أيكخررلج ك‬
‫والسعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬يككنتيكمُ ل ك‬
‫ف وتلي كنيلهوُلن لعرنَ اًلكمكنلكرر وتييكؤرمينوُلن رباً ر‬ ‫ر‬
‫ل" ]آل عمران‪.[110 :‬‬ ‫ي ل‬ ‫لتأيميرولن رباًلكلمكعيرو ل ك‬
‫وهذه خيرية تقوما على اليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬والمر‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/508‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/509‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪266‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬بعيدة كل البعد عن الخيرية‬


‫العرقية‪ ،‬والجنسية‪ ،‬والقومية‪ ,‬كما زعمت أمة اليهود‪ ،‬وانخدعت‬
‫أمة اللمان بالعرقية منذ خمسة عقود فكفلتها وكلفت العالم كله‬
‫حربا دامية مات فيها مليين من البشر‪.‬‬
‫هذه الدعائم التي يجب أن تسود في المجتمع‪ ,‬وينبغي أن يقوما‬
‫برنامج هذه المرحلة عليها‪ ,‬وأن يوزع على كل المشرفين في مرحلة‬
‫العداد في القرى والرياف والحواضر والبوادي والمدن والبلديات‪,‬‬
‫ولشك أن مرحلة العداد والتربية من أهم المراحل التي يبني عليها‬
‫الهداف في الوصول إلى التمكين وسيادة شرع الله على العالمين‬
‫وإقامة دولة اليمان والتوحيد‪.‬‬
‫سا‪ :‬عدة القائمين على مرحلة العداد والتربية‪:‬‬ ‫ساد ل‬
‫مما ل ريب فيه أن الذين يشرفون على مرحلة العداد والتربية‬
‫لهم مواصفات خاصة من التميز اليماني والتفوق الروحاني‪،‬‬
‫والرصيد العلمي والزاد الثقافي ورجاحة العقل وقوة الحجة‪،‬‬
‫ورحابة الصدر‪ ،‬وسماحة النفس‪ ،‬والخبرات والتجاربا الكثيرة‪،‬‬
‫والسياسة الحكيمة‪ ,‬وسوف نركز على أمرين خوفا من الطالة‪:‬‬
‫أ‪ -‬الخبرات والتجاربا‪:‬‬
‫إن التجربة لها الثر العظيم في اكتسابا المهارات والخبرات‬
‫وهي من أعظم اكتسابا الحكمة‪ ،‬والتجربة ل تخرج الحكمة عن‬
‫كونها فضل ل يؤتيه الله من يشاء‪ ،‬فإنه المعطي الوهابا ‪+‬لولماً بريكمُ بمنَ‬
‫ل" ]النحل‪ [53 :‬ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سببا يوصل‬ ‫نَبيكعمةة فلرمنَ اً ر‬
‫ل ل‬
‫إليه‪ ،‬والتجربة في العلم اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر يراد‬
‫ملحظتها ملحظة دقيقة منهجية للكشف عن نتيجة ما‪ ،‬أو تحقيق‬
‫غرض معين‪ ،‬وما يعمل أول لتلفي النقص في شيء وإصلحه)‪,(1‬‬
‫ويقال‪ :‬جربه تجربة‪ :‬اختبره‪ ،‬ورجل مجربا‪ ،‬أي‪ :‬عرف المور)‪،(2‬‬
‫تقول‪ :‬جربت الشيء تجريبا‪ :‬اختبرته مرة بعد أخرى‪ ،‬والسم‬
‫التجربة والجمع تجاربا)‪.(3‬‬
‫وعن معاوية)‪   ,()«    » :  (4‬‬
‫‪     » :        ‬‬
‫)( المعجم الوسيط‪ ،‬مادة‪ :‬جربا )‪.(1/114‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( القاموس المحيط‪ ،‬بابا فصل جيم‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المصباح المنير‪ ،‬مادة جربا‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو الصحابي كاتب الوحي وصهر الرسول ×‪ ,‬تولى خلفة المسلمين وتوفي‬ ‫‪4‬‬

‫عاما ‪60‬هـ‪ ،‬سير أعلما النبلء )‪.(3/119‬‬

‫‪267‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪.( )«   ‬‬


‫‪          ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪.( )‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪» :×             ‬نعم كنت‬
‫أرعاها على قراريط لهل مكة« )‪ (3‬والحكمة من ذلك ‪ -‬والله أعلم‬
‫‪ -‬أن الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يلهم النبياء قبل النبوة رعي الغنم‪ ،‬ليحصل‬
‫لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يكلفونه من القياما بأمر‬
‫أمتهم‪ ،‬ولن في مخالطتهم ما يحصل لهم الحلم‪ ،‬والشفقة كما‬
‫قال ×‪» :‬أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة‪ ,‬وألين قلولبا‪ ،‬اليمان‬
‫يمان‪ ،‬والحكمة يمانية‪ ،‬والفخر والخيلء في أصحابا البل‪،‬‬
‫والسكينة والوقار في أهل الغنم« )‪ ,(4‬ولنهم إذا صبروا على رعيها‬
‫وجمعها بعد تفرقها في المرعى‪ ،‬ونقلها من مسرح إلى مسرح‪،‬‬
‫ودفع عدوها‪ ،‬من سبع وغيره كالسارق‪ ،‬وعلموا اختلف طبائعها‪،‬‬
‫وشدة تفرقها مع ضعفها‪ ،‬واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك‬
‫الصبر على المة وعرفوا اختلف طبائعها وتفاوت عقولها‪ ،‬فجبروا‬
‫كسرها‪ ،‬ورفقوا بضعيفها‪ ،‬وأحسنوا التعاهد لها‪ ،‬فيكون تحملهم‬
‫المشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القياما بذلك من أول وهلة‪ ،‬لما‬
‫يحصل لهم من التدريب على ذلك برعي الغنم‪ ،‬وخصت الغنم‬
‫بذلك لكونها أضعف من غيرها‪ ،‬ولن تفرقها أكثر من تفرق البل‬
‫والبقر‪ ،‬لمكان ضبط البل والبقر بالربط دونها في العادة‬
‫المألوفة‪ ،‬ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها)‪.(5‬‬
‫ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس‪ ،‬وعرفوا طبائعهم‪ ،‬فازدادوا‬
‫)( البخاري مع الفتح‪ ،‬كتابا الدبا‪ ،‬بابا‪ :‬ل يلدغا المؤمن من جحر مرتين )‬ ‫‪5‬‬

‫‪.(10/529‬‬
‫)( الترمذي‪ ،‬كتابا البر والصلة‪ ،‬بابا‪ :‬ما جاء في التجاربا )‪.(4/379‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬هكذا علمتني الحياة‪ ،‬للسباعي‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الجارة‪ ،‬بابا‪ :‬رعي الغنم )‪.(3/65‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬تفاضل أهل اليمان )‪.(1/71‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪268‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫تجاربا إلى تجاربهم‪ ،‬ولهذا قال موسى × لمحمد × عندما‬


‫فرضت عليه الصلة خمسين صلة في كل يوما ليلة السراء‬
‫والمعراج‪» :‬إن أمتك ل تستطيع خمسين صلة كل يوما‪ ،‬وإني والله‬
‫جربت الناس قبلك‪ ،‬وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة‪ ،‬فارجع‬
‫إلى ربك فاسأله التخفيف لمتك‪ ,‬فما زال النبي × يراجع ربه‬
‫ويضع عنه حتى أمر بخمس صلوات كل يوما« )‪.(1‬‬
‫فموسى × قد جربا الناس‪ ،‬وعلم أن أمة محمد × أضعف‬
‫من بني إسرائيل أجسادا‪ ،‬وأقل منهم قوة‪ ،‬والعادة أن ما يعجز‬
‫عنه القوي فالضعيف من بابا أولى)‪.(2‬‬
‫فالداعية بتجاربه بالسفر‪ ،‬ومعاشرته الجماهير‪ ،‬وتعرفه على‬
‫عوائد الناس وعقائدهم‪ ،‬وأوضاعهم‪ ،‬ومشكلتهم‪ ،‬واختلف‬
‫طبائعهم وقدراتهم‪ ،‬سيكون له الثر الكبير في نجاح دعوته‬
‫وابتعاده عن الوقوع في الخطأ‪ ،‬لنه إذا وقع في خطأ في منهجه‬
‫في الدعوة إلى الله‪ ،‬أو أموره الخرى ل يقع فيه مرة أخرى‪ ،‬وإذا‬
‫خدع مرة لم يخدع مرة أخرى‪ ،‬بل يستفيد من تجاربه وخبراته‬
‫ولهذا قال ×‪» :‬ل يلدغا المؤمن من جحر واحد مرتين« )‪.(3‬‬
‫وقال‪» :‬كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون« )‪.(4‬‬
‫وسبيل الستفادة من التجاربا والخبرات هو خوضها‪ ,‬فمثل من‬
‫أراد إصلح المتدينين وتوجيههم فعليه أن يعيش معهم في‬
‫مساجدهم‪ ،‬ومجتمعاتهم‪ ،‬ومجالسهم‪ ،‬وإذا أراد إصلح الفلحين‬
‫والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم‪ ،‬وإذا أراد أن يصلح‬
‫المعاملت التجارية بين الناس‪ ،‬فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم‬
‫ومتاجرهم‪ ،‬وأنديتهم‪ ،‬ومجالسهم‪ ،‬وإذا أراد أن يصلح الوضاع‬
‫السياسية فعليه أن يختلط بالسياسيين ويتعرف إلى تنظيماتهم‬
‫ويستمع لخطبهم‪ ،‬ويقرأ لهم برامجهم‪ ,‬ثم يتعرف إلى البيئة التي‬
‫يعيشون فيها‪ ،‬والثقافة التي حصلوا عليها والتجاه الذي يندفعون‬
‫نحوه‪ ،‬ليعرف كيف يخاطبهم بما ل تنفر منه نفوسهم‪ ،‬وكيف‬
‫يسلك في إصلحهم بما ل يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس‬
‫واندفاع عاطفي‪ ,‬فيحرما نفسه من الدعوة إلى الله ويحرما الناس‬
‫من علم)‪ ،(5‬وهذا يؤهله إلى أن يحدث الناس بما يعرفون ول‬
‫البخاري مع الفتح‪ ،‬كتابا مناقب النصار‪ ،‬بابا‪ :‬المعراج )‪.(7/202‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري مع الفتح‪ ,‬كتابا مناقب النصار‪ ،‬بابا‪ :‬المعراج )‪.(7/202‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الترمذي‪ ،‬كتابا صفة القيامة‪ ،‬بابا‪ :‬حدثنا هناد )‪.(4/659‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬السيرة النبوية دروس وعبر‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪269‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يحدثهم حديثا ل تبلغه عقولهم‪ ،‬قال علي ‪   » :‬‬
‫‪.()«    ‬‬
‫‪         » :   ‬‬
‫‪.()« ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪.( )      ‬‬
‫با‪ -‬أن يكون ذا سياسة حكيمة‪:‬‬
‫إن النبي × هو أسوتنا وقدوتنا‪ ،‬وإماما الدعاة إلى الله‪ ،‬فقد‬
‫مسلكا عظيملا في سياسته الحكيمة فكان له عظيم النفع‬ ‫ل‬ ‫سلك‬
‫والثر في نجاح دعوته‪ ،‬وإنشاء دولته‪ ،‬وقوة سلطانه‪ ،‬ورفعة‬
‫مقامه‪ ،‬ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجل من‬
‫الساسة المصلحين في أي أمة من المم كان له مثل هذا الثر‬
‫من من المصلحين المبرزين ‪ -‬سواء كان قائدا محنكا‪ ،‬أو‬ ‫العظيم‪ ،‬و ع‬
‫مربيا حكيما ‪ -‬اجتمع لديه من رجاحة العقل‪ ،‬وأصالة الرأي‪ ،‬وقوة‬
‫العزما‪ ،‬وصدق الفراسة ما اجتمع في رسول الله ×؟ ولقد برهن‬
‫على وجود ذلك فيه‪ ،‬صحة رأيه‪ ،‬وصوابا تدبيره‪ ،‬وحسن تأليفه‪،‬‬
‫ومكارما أخلقه ×)‪.(4‬‬
‫وأهم الطرق في السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله‬
‫كثيرة منها ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬تحري أوقات الفراغا‪ ،‬والنشاط‪ ،‬والحاجة عند المدعوين‪:‬‬
‫حتى ل يملوا عن الستماع ويفوتهم من الرشاد والتعليم‬
‫النافع‪ ،‬والنصائح الغالية الشيء الكثير‪ ،‬وقد ثبت عن النبي × أنه‬
‫كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم‪ ،‬فعن عبد الله‬
‫بن مسعود ‪ ×  » : ‬يتخولنا بالموعظة في الياما كراهة‬
‫السآمة علينا«)‪.(5‬‬
‫ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة‪ ،‬فقد كان عبد الله بن‬
‫مسعود يذكر الناس في كل خميس‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬يا أبا عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬لوددت أنك ذكرتنا كل يوما‪ ،‬قال‪» :‬أما إنه يمنعني من‬
‫ما دون قوما )‪.(1/225‬‬‫البخاري مع الفتح‪ ،‬كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬من خص بالعلم قو ل‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ،‬في المقدمة‪ ،‬بابا‪ :‬النهي عن الحديث بكل ما سمع )‪.(1/111‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬الحكمة من الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬هداية المرشدين‪ ،‬للشيخ علي بن محفوظ‪ ،‬ص ‪.31 ،24‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫ما دون قوما )‪.(1/225‬‬


‫البخاري مع الفتح‪ ,‬كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬من خص بالعلم قو ل‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪270‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ذلك أني أكره أن أملكم‪ ،‬وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي‬
‫× يتخولنا بها مخافة السآمة علينا«)‪.(1‬‬
‫وقد ثبت عنه × أنه قال‪» :‬يسروا ول تعسروا‪ ،‬وبشروا ول‬
‫تنفروا« )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬أن يحرص على سلح التأليف بالعفو عند المقدرة‪:‬‬
‫فيعمل على أن يضع الحسان في مكان الساءة‪ ،‬واللين في‬
‫موضع المؤاخذة‪ ،‬والصبر على الذى‪ ،‬فيقابل الذى بالصبر‬
‫الجميل‪ ،‬ويقابل الحمق بالرفق والحلم‪ ،‬ويقابل العجلة والطيش‬
‫بالناة والتثبت‪ ،‬وبذلك يملك قلوبا إخوانه والمدعوين إلى السلما‬
‫عموما‪.‬‬
‫وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي × قلوبا أصحابه حوله‬
‫فتفانوا في محبته والدفاع عنه‪ ،‬وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته‪،‬‬
‫وقد مدح الله رسوله × وأمره بالعفو والصفح والستغفار لمن‬
‫ر‬
‫ضوُاً مكنَ‬ ‫ظ اًلكلقكل ر‬
‫ب للنَكيلف م‬ ‫ت فلقظاً غلرليْ ل‬ ‫ت ليهكمُ لولكوُ يكن ل‬‫ل رلن ل‬
‫تبعه من المؤمنين ‪+‬فلبرماً ركحمةة بمنَ اً ر‬
‫ل ل ل ل‬
‫ب‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت فليتليلوُككل لعللىَ اًل إن اًلل ييح م‬ ‫ل‬ ‫ف لع كنييهكمُ لواًكستليغكرفكر ليهكمُ لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمر فلإلذاً لعلزكم ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫لحكوُلر ل‬
‫ك لفاًكع ي‬
‫اًلكيمتليلوُبكرليْلنَ" ]آل عمران‪.[159 :‬‬

‫ف لررحيْرمُ"‬ ‫ص لع لكيْيككمُ رباًلكيمكؤرمرنيْلنَ لريؤو ر‬ ‫ر ر‬ ‫ر‬


‫‪+‬للقكد لجاًلءيككمُ لريسوُرل بمكنَ ألنَلييفسيككمُ لعرزيرز لع لكيْه لماً لعنتبكمُ لحرري ر‬
‫]التوبة‪.[128 :‬‬
‫‪ -3‬عدما مواجهة أحد بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره‬
‫ماداما يجد في الموعظة العامة كفاية‪:‬‬
‫وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة‪ ،‬ولهذا كان النبي‬
‫× يسلك هذا السلوبا الحكيم‪ ،‬فعندما فقد × ناسا في بعض‬
‫الصلوات‪ ،‬فقال‪» :‬واًلذيِ نَفسيِ بيْده لقد هممت أن آمر بحطب فيْحطب‪ ،‬ثمُ‬
‫آمر باًلصلة فيْؤذن لهاً‪ ،‬ثمُ آمر رجل يؤم اًلناًس‪ ،‬ثمُ أخاًلف إلىَ رجاًل يتخلفوُن‬
‫عنهاً فأحرق عليْهمُ بيْوُتهمُ«)‪.(3‬‬
‫وقال ×‪» :‬ما بال أقواما يرفعون أبصارهم إلى السماء في‬
‫الصلة« فاشتد قوله في ذلك حتى قال‪» :‬لينتهن عن ذلك أو‬

‫)( البخاري كتابا العلم‪ ،‬بابا‪ :‬كان النبي يتخولهم بالموعظة )‪.(1/3‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪ (1/3‬رقم ‪.69‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الذان‪ ،‬بابا‪ :‬وجوبا صلة الجماعة )‪ (1/179‬رقم ‪.644‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪271‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لتخطفن أبصارهم«)‪.(1‬‬
‫وقال ×‪» :‬ما بال أقواما قالوا كذا وكذا‪ ،‬لكني أصلي وأناما‪،‬‬
‫وأصوما وأفطر‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس‬
‫مني«)‪.(2‬‬
‫ولما بلغه أن قوما اشترطوا الولء بعد بيع المة فخطب الناس‬
‫فقال‪» :‬ما بال أناس يشترطون شروطلا ليست في كتابا الله‪ ،‬من‬
‫اشترط شرطلا ليس في كتابا الله فليس له‪ ،‬وإن شرط مائة‬
‫مرة‪ ،‬شرط الله أحق وأوثق« )‪.(3‬‬
‫وهذا إرشاد نبوي حكيم في عدما مواجهة الناس بالعتابا ستلرا‬
‫فا‪ ,‬ويستطيع أن يخاطب الناس عن طريق‬ ‫قا بهم‪ ،‬وتلط ل‬ ‫عليهم ورف ل‬
‫مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم‬
‫وهذا من أحكم الساليب‪.‬‬
‫‪ -4‬إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه‪:‬‬
‫كقوله ×‪» :‬من دل على خير فله مثل أجر فاعله«)‪.(4‬‬
‫فقد صور × الدللة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه‪،‬‬
‫وكقوله ×‪» :‬من جهز غازيا فقد غزا« )‪.(5‬‬
‫وقال ×‪» :‬إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه‪ ،‬قيل‪ :‬يا‬
‫رسول الله‪ ،‬وكيف يلعن الرجل والديه؟‪ ،‬قال‪ :‬يسب الرجل أبا‬
‫الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه«)‪.(6‬‬
‫وهذا أصل في سد الذرائع‪ ،‬ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى‬
‫محرما يحرما عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرما)‪ ،(7‬كما‬
‫سبموُاً اًلل لعكدحواً برغلكيْرر رعكلةمُ" ]النعاما‪:‬‬ ‫ر ر‬ ‫ر‬ ‫لر‬
‫سبموُاً اً ذيلنَ يلكديعوُلن منَ يدون اًل فلييْل ي‬
‫قال تعالى‪+ :‬لولل تل ي‬
‫‪.[108‬‬
‫فقد أعطى النبي × من يسب أبا الغير وأمه صورة من يسب‬
‫والديه‪ ،‬لنه تسبب في سبهما‪.‬‬
‫‪ -5‬أن تكون له مقدرة على ضربا المثال‪:‬‬
‫البخاري‪ ،‬كتابا الذان‪ ،‬بابا‪ :‬رفع البصر في الصلة )‪ (1/205‬رقم ‪.750‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا الفضائل‪ ،‬بابا‪ :‬علمه × وشدة خشيته )‪.(4/1829‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا العتق‪ ،‬بابا‪ :‬إنما الولء لمن أعتق )‪.(2/1142‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتابا المارة‪ ،‬بابا‪ :‬فضل إعانة الغازي في سبيل الله )‪.(3/1506‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر السابق نفسه )‪.(3/1507‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتابا الدبا‪ ،‬بابا‪ :‬ل يسب الرجل والديه )‪ (7/92‬رقم ‪.5973‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪272‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫قال ×‪» :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا‪ ،‬وشبك‬


‫بين أصابعه« )‪.(1‬‬
‫وقد مثل النبي × المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة‬
‫والعطف بالجسد في‬
‫روابطه العضوية‪ ،‬إذا مرض عضو مرضت باقي العضاء فقال‪:‬‬
‫»مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد‪ ،‬إذا‬
‫اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد‬
‫بالسهر والحمى«)‪.(2‬‬
‫وهذه من أهم الوسائل التي إذا وصل إليها الداعية أصبحت له‬
‫سياسة حكيمة في معرفة الناس وتربيتهم وإعدادهم‪ ،‬وعلى الخ‬
‫الداعية المربي أن يلم بفقه الدعوة وأسسها وأصولها التي تقوما‬
‫عليها حتى يسير في دعوته على بصيرة‪ ،‬ول شك أن فهم هذه‬
‫صيْلرةة أللنَاً لولمنَر‬ ‫ل‬
‫الركان يدخل في قوله تعالى‪+ :‬قيل لهرذهر سربيْرليِ ألكديعوُ إرللىَ اً ر‬
‫ل لعللىَ ب ر‬
‫ل‬ ‫ك‬
‫ل لولماً أللنَاً رملنَ اًلكيمكشررركيْلنَ" ]يوسف‪.[108 :‬‬
‫اًتليبيعرنيِ وسكبحاًلن اً ر‬
‫لل ل ي ل‬
‫إن فهم أساليب الدعوة ووسائلها يعطي الداعية كفاءة‬
‫وبصيرة وتزيده إتقانا وخبرة‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬صفات جيل التمكين‪:‬‬
‫في مرحلة العداد والتربية يهتم المشرفون عليها من الدعاة‬
‫بصفات جيل التمكين ويعملون على غرسها في نفوس العناصر‬
‫التي اختيرت لهذه المرحلة؛ لعلمهم اليقيني أن لجيل التمكين‬
‫صفات خاصة‪ ،‬تميزه عن غيره من الجيال وسمات يعرف بها‪,‬‬
‫ذلك أنه الجيل الذي يعد ليكون مؤهل لنصر الله وسببا لعادة مجد‬
‫المة التي اختارها الله لعلء كلمته ونصر دينه وعقيدته‪ ،‬وعندما‬
‫تبرز صفات جيل التمكين في الصف السلمي يكون مؤهل للتغلب‬
‫على التحديات التي تواجهه سواء كانت محلية‪ ،‬أو كانت داخلية‪ ،‬أو‬
‫كانت عالمية‪ ،‬ويمكننا تقسيم صفات جيل التمكين إلى‪ :‬صفات‬
‫إيمانية‪ ،‬صفات سلوكية أخلقية‪ ،‬صفات حركية ودعوية‪ ،‬صفات‬
‫نفسية‪.‬‬
‫أ‪ -‬صفات إيمانية‪:‬‬
‫‪ -1‬رباًنَيْة وإخلص‪ :‬يعيش جيل التمكين الرباني في الدنيا بقلوبا‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الصلة‪ ،‬بابا‪ :‬تشبيك الصابع )‪ (1/565‬رقم ‪.481‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الدبا‪ ،‬بابا‪ :‬رحمة الناس والبهائم‪ (1/103) ،‬رقم ‪.6011‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪273‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أهل الخرة‪ ,‬ويعيشون فوق الرض وقلوبهم تهفو إلى رضا المولى‬
‫عز وجل ودخول جناته‪ ,‬ورفقة النبيين والصديقين والشهداء‬
‫والصالحين‪ .‬وأبرز ما يميزهم عن غيرهم أنهم مخلصون لله ربا‬
‫العالمين‪ ،‬فإذا جاءتهم الدنيا جعلوها في أيديهم ولم يدخلوها في‬
‫قلوبهم‪ ،‬ل يعبدون الشخاص‪ ,‬ول الهواء‪ ,‬ول الطاغوت أيا كان‬
‫فقد تبين لهم الرشد من الغي‪ ,‬فكفروا بالطاغوت وآمنوا بالله‬
‫وحده فاستمسكوا بالعروة الوثقى ل انفصاما لها‪.‬‬
‫‪ -2‬اًلشعوُر بمعيْة اًل عز وجل‪ :‬وهذا الشعور يدفع العبد المؤمن إلى‬
‫الصدع بالحق ويطلق صاحبه الجبن والخوف والهلع‪ ,‬ويحدث في‬
‫النفس انقلبا نفسيا في حياة الداعية‪ ,‬ولنتذكر حين قال أصحابا‬
‫موسى‪ :‬إنا لمدركون قال موسى ‪ -‬عليه السلما ‪+ :-‬لكلل إرلن لمرعليِ لرببيِ‬
‫لسيْليكهرديرنَ" ]الشعراء‪.[62 :‬‬

‫‪ -3‬غرباًء فيِ هذه اًلدنَيْاً‪ :‬إن هذا الصنف هو الذي أشار إليه رسول‬
‫الله × حين قال‪» :‬بدأ السلما غريبلا وسيعود غريبلا كما بدأ فطوبى‬
‫للغرباء‪ ،‬قيل‪ :‬ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال‪ :‬الذين يصلحون إذا‬
‫فسد الناس« )‪.(1‬‬
‫والمسلم إذا شرح الله صدره للسلما ومل قلبه باليمان يستسهل‬
‫كل صعب ويستعذبا كل كدر‪ ،‬إن هذا الغريب يرسل للناس من‬
‫الشعة الهادية ما ينير لهم الطريق‪ ،‬فهي ليست غربة عزلة وفرار‪،‬‬
‫ولكنها غربة رفعة وسمو وحرص على إيصال دعوته للجميع‪ ،‬فهو ل‬
‫بعيدا عن الناس‪ ،‬بل يتفاعل معهم ويحمل‬
‫ل‬ ‫يعيش في برج عاج‬
‫همومهم ويعاونهم في حل مشاكلهم‪ ,‬فالناس جزء منه وهو جزء منهم‬
‫فل يتصور أن يتعالى عليهم‪.‬‬
‫‪ -4‬طلب آخرة‪ :‬لعلمهم بأن متاع الدنيا قليل وبأنه ينتهي ويزول‬
‫خيْيرر لبلمرنَ اًتليلقىَ لولل تيظك ليموُلن فلرتيْلح" ]النساء‪ [77 :‬ولذلك تنشئ سعة في‬ ‫ر‬
‫‪+‬لواًللخلرةي ل ك‬
‫نفوسهم‪ ،‬ورقة في مشاعرهم‪ ،‬وتحررا من المادة وظلمها‪.‬‬
‫‪ -5‬أواًبوُن توُاًبوُن‪ :‬يجب أن يتربى المسلمون على الحذر من‬
‫معصية الله أكثر مما نحذر من أعداء الله‪ ،‬ويجب أن نخاف‬
‫المعاصي‪ ،‬والمسالك التي تقربا منها سدا للذريعة وبعدا عن‬
‫الفتنة واتقاء للشبهة‪ ،‬ونستغفر الله ونذكره كثيرا إذا وقعنا في‬

‫غريبا )‪ (1/130‬رقم ‪.145‬‬


‫ل‬ ‫)( مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬بيان أن السلما بدأ‬ ‫‪1‬‬

‫‪274‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫شةح ألكو ظلليموُاً ألنَكييف ل‬


‫سيهكمُ ذللكيرواً‬ ‫معصية‪ ,‬فهذه ميزة الصالحين ‪+‬لواًلرذيلنَ إرلذاً فليلعليوُاً لفاًرح ل‬
‫ن" ]آل‬ ‫صمرواً لعللىَ لماً فليلعليوُاً لويهكمُ يليكع ليموُ ل‬ ‫اًل لفاًكستليغكلفرواً لريذينَوُبررهمُ ومنَ ييغكرفر اًلمذينَوُب إرلل اًل ولمُ ي ر‬
‫يل ك ي‬ ‫ل‬ ‫ك لل ل ي‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫عمران‪.[135 :‬‬
‫ورحم الله عمر الفاروق ‪         ‬‬
‫‪       ,  ...» :   ‬‬
‫‪ ()            ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪                ‬‬
‫‪+   -    - ‬فللجاًيسوُاً رخلللل اًلبدلياًر لولكاًلن لوكعحداً‬
‫لمكفيعوُلح" ]السراء‪ .[5 :‬وسلوا الله العون على أنفسكم‪ ،‬كما تسألونه‬
‫النصر على عدوكم‪.(2) «...‬‬
‫وهذه مفاهيم إيمانية يجب أن تعيشها المة‪:‬‬
‫‪ -1‬اليقين والثقة بمنهج الله وهو الحق وما عداه باطل‪.‬‬
‫‪ -2‬الوعي بدورها ومهمتها وهي الشهادة على العالمين ولن‬
‫تتحقق إل بالعيش مع الكتابا والسنة‪.‬‬
‫‪ -3‬اليقين بضخامة الجر وعظم المنزلة المترتبة على القياما‬
‫بالشهادة‪.‬‬
‫‪ -4‬اليقين بنصر الله وأنه لبد آت‪.‬‬
‫‪ -5‬اليقين بأن نصر الله ل يتنزل جزافا‪.‬‬
‫با‪ -‬صفات سلوكية وأخلقية‪:‬‬
‫ولبد لجيل التمكين من صفات أخلقية سلوكية يجب أن يتحلى‬
‫بها ومن أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬اًلصدق‪ :‬وهو سلوك وصف الله عز وجل به أنبياءه عليهم‬
‫سوُلح نَلبرقيْاً" ]مريم‪:‬‬ ‫ر‬ ‫ب إرسماًرعيْل إرنَلهي لكاًلن ر‬
‫ر ر ر‬
‫صاًدلق اًلكلوُكعد لولكاًلن لر ي‬
‫ل‬ ‫السلما‪+ :‬لواًكذيككر فيِ اًلككلتاً ك ل ل‬
‫)( المكيدة‪ :‬الخديعة‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( إتماما الوفاء للخضري‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪275‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ ,[54‬واتصف به حبيبنا × حتى قبل بعثته‪ ،‬ووصف به ربنا سبحانه‬


‫صلدقيوُاً لماً لعاًلهيدواً اًلل لع لكيْره‪"...‬‬ ‫رر‬ ‫ر‬
‫الرجال‪ ,‬فقال تعالى‪+ :‬ملنَ اًلكيمكؤمنيْلنَ رلجاًرل ل‬
‫]الحزابا‪.[23 :‬‬
‫ة‬
‫م ل‬ ‫‪ -2‬اًلصبر‪ :‬خلق وصف الله تعالى به الدعاة ‪+‬وجعل ننا منه ع‬
‫م أئ ق ز‬‫ع ع ع ع ق نع ن‬ ‫ع‬
‫صب ععروا‪] "...‬السجدة‪ [24 :‬وهو خلق لزما للداعية‬ ‫ما ع‬‫مرقعنا ل ع ز‬‫ن ب قأ ن‬
‫دو ع‬
‫ي عهن ع‬
‫ة‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫ويكفي أن يعلم الداعية جزاء الصبر ‪+‬إنَللماً يييلوُفىَ اًل ل‬
‫ساًب"‬ ‫صاًبيرولن ألكجلريهكمُ بغلكيْر ح ل‬
‫]الزمر‪.[10 :‬‬
‫ولنا في قدوتنا × أسوة حسنة في صبره على أهل مكة وما‬
‫لقاه عند عودته من الطائف وغيرها‪.‬‬
‫‪ -3‬اًلحب واًليثاًر‪ :‬أي يرى الخ أن إخوانه أولى به من نفسه‪ ،‬فهو‬
‫يحب لهم الخير ويعمل على هدايتهم‪ ,‬ولبد أن يفصح لهم عن حبه‬
‫لهم ويخبرهم به‪ ،‬وأن يترجمه لهم في تصرفاته‪ ،‬فإن هذا أدعى‬
‫إلى التفاف الناس حوله واستجابتهم له‪ .‬وأعلى مراتب الحب‬
‫اليثار وأدناها سلمة الصدر‪ ،‬وأن يكون لخوانه كالبنيان يشد بعضه‬
‫ك اًل هوُ اًلرذيِ أليللدلك برنلصررهر‬
‫بعضا ‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لورإن يمررييدواً لأن يلكخلديعوُلك فلرإلن لحكسبل ل ي ي ل‬
‫)‪(1‬‬
‫ك‬
‫لورباًلكيمكؤرمرنيْلنَ ‪ ‬لوألل ل‬
‫ف‬
‫ت بليكيْلنَ قيييلوُبررهكمُ لولركلنَ اًلل ألل ل‬
‫ف بل كييْينلييهكمُ إرنَلهي‬ ‫ض لجرميْحعاً لماً ألللف ك‬‫ت لماً رفيِ اًللكر ر‬
‫بليكيْلنَ قيييلوُبررهكمُ لكوُ ألنَلفكق ل‬
‫لعرزيرز لحركيْرمُ" ]النفال‪.[63 ،62 :‬‬

‫‪ -4‬اًلعطاًء واًلبذل واًلجوُد‪ :‬وهي صفة بارزة في حياة المؤمن فهي‬


‫قاعدة المجتمع المؤمن المتكافل المتضامن‪ ،‬عن أنس ‪  ‬‬
‫‪» × ‬لم يكن يسأل شيئا إل أعطاه‪ ،‬وقال‪ :‬فأتاه رجل فسأله‬
‫فأمر له بشياه كثيرة بين جبلين من شياه الصدقة‪ ،‬فرجع إلى‬
‫قومه فقال‪ :‬يا قوما أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من ل يخشى‬
‫الفقر«)‪ .(2‬ونعم العطاء هذا الذي يجعل البعض يحب السلما وأهله‬
‫ويفتح البوابا الموصدة والقلوبا المغلقة‪ ،‬إن اليثار على النفس‬
‫مع الحاجة قمة عليا يجب لمن وصل إلى مرحلة العداد والتربية‬
‫أن يكون له فيها نصيب كبير‪.‬‬
‫ومراتب الجود واليثار كثيرة منها‪:‬‬

‫)( انظر‪ :‬نظرات في رسالة التعليم‪ ،‬ص ‪.294‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا الفضائل‪ ،‬بابا‪ :‬كان رسول الله × أحسن الناس خلقا )‪(4/1804‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.2312‬‬

‫‪276‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -‬الجود بالنفس وهو أعلى المراتب‪.‬‬


‫‪ -‬الجود بالعلم وبذله‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالنفع بالجاه كالمشي في قضاء مصالح المسلمين‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالصبر والحتمال‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالراحة فيتعب في قضاء مصالح غيره‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بترك ما في أيدي الناس لهم‪ ,‬فل يلتفت إليه بقلبه ول‬
‫يتعرض له بحاله ول بلسانه وغير ذلك من أنواع الجود‪.‬‬
‫‪ -5‬اًلعفة واًلستغناًء عنَ اًلناًس‪ :‬إنه جيل مرتبط بالله عز وجل ل‬
‫يعمل إل لله‪ ,‬ول يسأل إل الله‪ ,‬فهو غني بالله ولذلك امتلت‬
‫نفوسهم عفة ل يتطلعون إل إلى فضل الله ول يرجون إل رحمة‬
‫ت إرلليِ رمكنَ لخكيْةر فلرقيْرر" ]القصص‪.[24 :‬‬
‫ب إربنَيِ لرلماً ألنَلزلك ل‬
‫الله‪+ :‬لر ب‬
‫ورضي الله عن ابن عوف عندما عرض عليه أخوه سعد بن‬
‫الربيع ‪    :         ‬‬
‫‪.()     ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪.    ‬‬
‫جـ‪ -‬الصفات الحركية والدعوية‪:‬‬
‫‪ -1‬يجب أن يتوُلد لدىَ جيْل اًلتمكيْنَ شعوُر ذاًتيِ بمسئوُليْة اًلعمل‬
‫للسلم‪ :‬واستعداد كامل لتلبية حاجات هذه المسئولية من النفس‬
‫والجهد‪ ،‬فهو ل ينتظر التكليف الحركي لينهض بالعباء‬
‫والمسئوليات‪ ،‬وإنما يتولد في أعماقه شعور بالمسئولية ويجري‬
‫في عروقه إحساس رباني بالتكليف‪.‬‬
‫فهذا أبو بكر الصديق ‪      ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪.          ‬‬
‫‪ -2‬يؤمنَ باًلوُاًقعيْة واًلعمليْة‪ :‬فهو بعيد عن الغوغائية ويحتكم إلى‬
‫الحقائق ل إلى الوهاما‪ ،‬ول ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقع‬
‫)( انظر‪ :‬أسد الغابة )‪.(2/196‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪277‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على الرض‪ ،‬فل يجري وراء خيال كاذبا ول أماني موهومة فيسبح‬
‫في غير ماء‪ ،‬ويطير بغير جناح‪ ،‬جيل كبير المال ولكنه واقعي‬
‫التفكير‪ ،‬ول ييأس من روح الله ول يقنط من رحمة ربه لكنه‬
‫يعرف حدود قدراته‪ ،‬ودوائر إمكاناته‪ ،‬يراعي سنن الله في كونه‬
‫كما يراعي أحكامه في شرعه ويتبنى سياسة النفس الطويل‬
‫والصبر الجميل‪ ،‬يؤمن بالعلم ويحترما العقل‪ ،‬ول يتبع الظن وما‬
‫تهوى النفس‪ ،‬ويرفض الخرافة‪.‬‬
‫‪ -3‬جيْل عمل وبناًء جماًعيِ‪ :‬فل يقف أبناؤه عند التغني بأمجاد‬
‫الماضي‪ ،‬ول عند النواح على هزائم الحاضر‪ ،‬ول عند التمني‬
‫لنتصارات المستقبل‪ ،‬إنما يؤمن بالعمل والعطاء والنتاج‪ ،‬وأن‬
‫اليمان الحق ما وقر في القلب وصدقه العمل‪ ،‬وما خلق الله‬
‫ر‬
‫الناس إل ليعملوا بل ما خلقهم إل ‪+‬للكيْبيليلوُيككمُ أليميككمُ ألكح ل‬
‫سينَ لعلملح" ]الملك‪.[2 :‬‬
‫وقد علموا من حقائق التاريخ وقراءة الواقع أن أهل الباطل‬
‫يتكتلون حول باطلهم فأولى بأهل الحق أن يتجمعوا حول حقهم‬
‫رر‬ ‫ر ر‬ ‫‪+‬إرلن اًل يرح م ر‬
‫ص" ]الصف‪.[4 :‬‬ ‫صوُ ر‬ ‫ب اًلذيلنَ يييلقاًتيلوُلن فيِ لسبريْله ل‬
‫صقفاً لكألنَلييهكمُ بيي كنيليْاًرن لمكر ي‬ ‫لي‬
‫لهذا صمموا على أن يبحثوا على أشباههم ممن ينشدون الحق‬
‫ويرفضون الباطل‪ ,‬ويدعون إلى الخير وينكرون الشر‪ ,‬ويأمرون‬
‫بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬فمضوا في طريق العمل الجماعي‬
‫يعملون في صمت‪ ،‬ويبنون في صبر ويجاهدون بل كلل‪ ،‬ول ملل‪،‬‬
‫وعزموا على أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى متكاتفين في‬
‫السراء والضراء‪.‬‬
‫‪ -4‬جيْل دعوُة وجهاًد‪ :‬كما كان الصحابة من المهاجرين والنصار ل‬
‫يشغلهم جهاد عن جهاد ول ميدان عن ميدان‪ ,‬فهم دائما في صراع‬
‫متواصل مع الفجرة في الداخل والكفرة في الخارج‪ ،‬ل يلقون‬
‫سلحهم ول يستريحون من كفاحهم حتى ل تكون فتنة ويكون‬
‫الدين كله لله‪.‬‬
‫قد ترى أحدهم وهو العربي يقاوما الزحف الشيوعي الحمر‬
‫في أفغانستان‪ ،‬وترى آخر وهو أفغاني يقاتل الصربا في البوسنة‪,‬‬
‫ضيهكمُ ألكولرليْاًءي بليكع ة‬
‫ض" ]النفال‪.[73 :‬‬ ‫فالكفر ملة واحدة ‪+‬لواًلرذيلنَ لكلفيرواً بليكع ي‬
‫ض" ]التوبة‪.[71 :‬‬ ‫ضيهكمُ ألكولرليْاًءي بليكع ة‬ ‫‪+‬لواًلكيمكؤرمينوُلن لواًلكيمكؤرملناً ي‬
‫ت بليكع ي‬
‫يجاهدون في سبيل الله في كل معركة تطلبهم وبكل سلح‬

‫‪278‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يمكنهم‪.‬‬
‫‪ -5‬جيْل توُاًزن واًعتداًل‪ :‬فهم متوازنون معتدلون على صراط‬
‫مستقيم ل يميلون إلى اليمين ول ينحرفون إلى الشمال‪ ,‬ل‬
‫يغرقون في الماديات ول يغرقون في الروحانيات‪ ،‬يعلمون أن‬
‫لربهم عليهم حقا وأن لنفسهم عليهم حقا‪ ،‬وأن لسرهم عليهم‬
‫حقا‪ ،‬ولمجتمعهم عليهم حقا‪ ,‬فهم يعطون كل ذي حق حقه‪ ،‬غير‬
‫جانحين إلى الفراط ول مائلين إلى التفريط‪ ،‬يأخذون بالعزائم ول‬
‫يغفلون الرخص‪ ,‬فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى‬
‫عزائمه‪ ..‬يبشرون ول ينفرون‪ ،‬وييسرون ول يعسرون‪ ،‬ويجادلون‬
‫سنلرة لولجاًردلكيهكمُ رباًلرتيِ رهليِ‬ ‫ر ر‬ ‫بالتي هي أحسن ‪+‬اًكدعي إرللىَ سربيْرل رب ل ر ر ر‬
‫ك باًلكحككلمة لواًلكلمكوُعظلة اًلكلح ل‬ ‫ل ل‬
‫سينَ" ]النحل‪ .[125 :‬يفرقون بين الصول والفروع‪ ،‬والكليات‬ ‫ألكح ل‬
‫والجزئيات‪ ،‬والقضايا المصيرية والمسائل الجانبية‪ ،‬ويمزجون بين‬
‫الروح والمادة‪ ،‬والعقل والقلب‪ ،‬وبين الثبات على الغايات والتطور‬
‫في الساليب‪ ،‬بين أداء الواجبات وطلب الحقوق‪ ،‬بين الحرص‬
‫على القديم والستفادة من الجديد‪ ،‬فل ينقطعون عن الماضي ول‬
‫ينعزلون عن الحاضر‪ ،‬فرسان بالنهار ورهبان بالليل‪ ،‬ل تلهيهم‬
‫نافلة عن فريضة ول فرض عن مثله‪.‬‬
‫‪ -6‬جيْل منضبط‪ :‬يعيش جو النطلقة بضوابطه فيتحرك بدعوته‬
‫وفكره بين الناس مراعيا الضوابط الحركية حتى ل تكون حركة‬
‫غوغاء‪ ,‬ول تمنعه الطاعة من إبداء آرائه في جو من الصراحة‬
‫والوضوح وتتسع صدوره لراء المخالفين‪ ،‬ول يجد غضاضة في‬
‫التنازل عن رأيه إذا استقر رأي الشورى على رأي آخر‪ ،‬يعرف ما‬
‫الذي يعلن من دعوته فل يتردد في الجهر به وتعليمه للناس‪ ,‬وما‬
‫الذي يسر فل يبوح به ول لقربا الناس إليه‪.‬‬
‫د‪ -‬الصفات النفسية‪:‬‬
‫من الصفات النفسية التي يجب أن يتحلى بها جيل التمكين‪:‬‬
‫‪ -1‬إراًدة قوُية ل يتطرق إليْهاً ليْنَ ول ضعف‪ :‬يقول تعالى‪+ :‬لولكألبينَ بمنَ‬
‫كاًنَيوُاً" ]آل‬
‫ضعييفوُاً لولماً اًكستل ل‬ ‫نَلبرليِ لقاًتلل معهي ربيميْوُلن لكرثيْر فلماً ولهنيوُاً لرماً ألصاًبييهمُ رفيِ سربيْرل اً ر‬
‫ل لولماً ل‬ ‫ل‬ ‫ل لل ك‬ ‫ر ل ل‬ ‫ل لل‬
‫عمران‪ [146 :‬ومن مظاهرها‪:‬‬
‫‪ -‬معرفة الهدف والصرار على تحقيقه والوفاء له‪.‬‬
‫‪ -‬الهمة العالية والعمل الدائب المتواصل‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫محاسبة النفس بشدة والنتصار عليها‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫مخالطة الناس والصبر على أذاهم‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الصبر وتحمل المشاق والصعابا والتغاضي عن الهفوات‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬الصراحة في الحق والنصياع له والعتراف بالخطأ وعدما‬
‫إفشاء السر‪.‬‬
‫‪ -‬استشراف المل وعدما اليأس وسياسة النفس الطويل‪.‬‬
‫‪ -2‬تضحيْة عزيزة ل يحوُل دونَهاً طمع ول بخل‪ :‬ومن مظاهر‬
‫التضحية العزيزة‪:‬‬
‫‪ -‬وضع الدعوة في قمة الولويات مع استصحابا نية‬
‫التضحية‪.‬‬
‫‪ -‬القدوة في بذل العزيز على النفس )المال ‪ -‬الراحة ‪-‬‬
‫النفس ‪ -‬فراق الهل‪(...‬‬
‫‪ -‬تربية من يعولهم على البذل والعطاء والتضحية‪.‬‬
‫‪ -‬ربط المصير بالمصير وأن يوطن ظروفه مع ظروف‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫‪ -‬تخليص النفس من كل مظاهر الطمع والبخل‪.‬‬
‫‪ -‬تقديم مصلحة الدعوة على المصلحة الفردية‪.‬‬
‫‪ -‬الستعداد الكامل لتنفيذ المر على أي حال وتحت أي‬
‫ظرف‪.‬‬
‫‪ -3‬وفاًء ثاًبت ل يعدو عليْه تلوُن ول غدر‪ :‬ومن أنواع الوفاء‪ :‬وفاء‬
‫مع الله ‪ -‬مع الدعوة ‪ -‬مع الخوة ‪ -‬مع النفس ‪ -‬مع الناس‪.‬‬
‫ومن مظاهر الوفاء الثابت‪:‬‬
‫‪ -‬العتراف بالجميل وتوريث الدعوة وفتح مجالت عمل‬
‫جديدة‪.‬‬
‫‪ -‬الستمرارية في العمل حتى في أحلك الظروف‪.‬‬
‫‪ -‬المصارحة والنصيحة بآدابها الشرعية‪.‬‬
‫‪ -‬حمل الهل والقاربا على احتراما الدعوة والتحمس لها‪.‬‬
‫‪ -‬تفقد الغائب والشعور بآلما الخرين‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إيثار المصلحة الدعوية على المصلحة الفردية‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫الذبا والدفاع عن السلما وقياداته وعلمائه‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -4‬ومعرفة باًلمبدأ وإيماًن به وتقدير له يعصمُ منَ اًلخطأ فيْه أو اًلنَحراًف‬
‫عنه أو اًلمساًومة عليْه أو اًلخديعة بغيْره‪:‬‬

‫‪ -‬إخلص الوجهة لله وتصحيح النية دائما‪.‬‬


‫‪ -‬وضوح الهدف وطبيعة الطريق وكيفية الوصول إلى‬
‫الهداف‪.‬‬
‫‪ -‬استشعار ثقل المانة والتبعة الملقاة على الدعاة‪.‬‬
‫‪ -‬التمسك بالقرآن والسنة وفهم السلف الصالح‪.‬‬
‫‪ -‬العمل الجاد والمتواصل الذي يؤدي إلى أفضل النتائج بأقل‬
‫مجهود‪.‬‬
‫‪ -‬عدما الجتهاد في الثوابت‪.‬‬
‫‪ -‬محاسبة النفس واتهامها عند الختلف‪.‬‬
‫‪ -5‬اًلتزاًن اًلنفسيِ »اًلنَفعاًليِ«‪ :‬وهي صفة مهمة يجب أن يتصف‬
‫بها صاحب الشخصية السوية المتزنة‪ ,‬ومن أهم مظاهر التزان‬
‫النفسي‪:‬‬
‫‪ -‬الثقة بالله عز وجل وفي نصره وتأييده لوليائه وحسن‬
‫التوكل عليه‪.‬‬
‫‪ -‬ملك النفس عند الغضب‪.‬‬
‫‪ -‬العاطفة المتزنة‪.‬‬
‫‪ -‬وضع المور في نصابها وحجمها دون تضخيم ول تصغير‪.‬‬
‫‪ -‬البعد عن الحساسية المفرطة وأن يؤخذ الكلما على أحسن‬
‫محمل‪.‬‬
‫‪ -‬النضباط والكتمان وعدما الثرثرة‪.‬‬
‫‪ -‬البعد عن النطوائية‪.‬‬
‫ذلكم هو الجيل الذي ننشده وتنشده معنا المة بكاملها‪ ،‬وهو‬
‫الجيل الذي تعمل القوى العالمية على إجهاضه‪ ،‬وشغله عن‬
‫معاركه ومعارك أمته الكبرى بمعارك جانبية تافهة‪ ،‬وإغراقه في‬
‫دوامة من الجدل ل يخرج منها‪ ،‬إن هذا الجيل هو جيل النصر الذي‬
‫تتحرر على يديه كل أرض دنسها الطواغيت والفجار‪ ،‬هو الذي‬

‫‪281‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ترتفع به راية الله في أرض الله‪ ،‬هذا الجيل هو الجدير بأن يتنزل‬
‫عليه نصر الله عز وجل‪ ،‬عندما كانت صفات جيل التمكين متمكنة‬
‫في الجيل السلمي الول استطاع ذلك الجيل‪:‬‬
‫‪ -‬أن يحرر الجزيرة العربية من دنس الصهيونية في بني‬
‫النضير وبني المصطلق وبني قينقاع وخيبر‪.‬‬
‫‪ -‬أن يستأصل شأفة الوثنية في بدر والحزابا وفتح مكة‪.‬‬
‫‪ -‬أن ينكس رايات الصهيونية في اليرموك وحطين‪.‬‬
‫‪ -‬أن يهزما المجوسية في القادسية‪.‬‬
‫نحن نحتاج اليوما إلى جيل كالجيل الذي كان منه‪:‬‬
‫‪ -‬الحاكم الذي ل يستنكف عن العتراف بالخطأ فيقول في‬
‫شجاعة كما قال عمر ‪.()«   » :‬‬
‫‪    ,        -‬‬
‫‪.()«          » :‬‬
‫‪          -‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪:  ‬‬
‫)‪(‬‬
‫‪   ‬‬ ‫‪    ‬‬
‫‪ ×  ‬حرص كل الحرص في طور الدعوة السرية أن‬
‫يربي أصحابه على صفات جيل التمكين‪ ,‬ونلحظ من خلل دراستنا‬
‫للسيرة أنه × قاما بإعلن الدعوة على قريش والمشركين بعد‬
‫العداد الجيد وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية‬
‫وأمنية وتنظيمية‪ ،‬وحان موعد إعلن الدعوة بنزول قوله تعالى‪:‬‬
‫ك اًلقكيلرربيْلنَ‪] "...‬الشعراء‪ [214 :‬فخرج رسول الله × حتى‬ ‫‪+‬لوألنَرذكر لعرشيْلرتل ل‬
‫صعد الصفا فهتف‪ :‬يا صباحاه‪ ,‬فاجتمعت إليه قريش‪ ،‬فقال‪» :‬ياً بنيِ‬
‫فلن‪ ،‬ياً بنيِ عبد مناًف‪ ،‬ياً بنيِ عبد اًلمطلب‪ ،‬أرأيتكمُ لوُ أخبرتكمُ أن خيْل تخرج‬
‫بسفح هذاً اًلجبل أكنتمُ مصدقيِ؟« قالوا‪ :‬ما جربنا عليك كذبا‪ ،‬قال‪» :‬فإنَيِ‬
‫)( سنن البيهقي )‪ (7/233‬قال البيهقي‪ :‬هذا منقطع ومع انقطاعه فيه مجالد وهو‬ ‫‪1‬‬

‫ضعيف‪.‬‬
‫)( الطبري في تاريخه )‪.(4/30‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬عبد الله بن المبارك الماما القدوة لمحمد عثمان‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪282‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫نَذير لكمُ بيْنَ يديِ عذاًب شديد«‪ ,‬فقال أبو لهب‪ :‬تبا لك‪ ،‬أما جمعتنا إل‬
‫ب" ]المسد‪:‬‬ ‫ت يللداً ألربيِ لله ة‬
‫ب لوتل ل‬ ‫لهذا ثم قاما ‪ ,‬فنزلت هذه السورة ‪+‬تليبل ك‬
‫)‪(1‬‬

‫‪.[1‬‬
‫»ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول × دعوته العلنية بإنذار‬
‫عشيرته القربين‪ ،‬إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية‪ ،‬فبدء‬
‫الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته‪ ،‬كما أن‬
‫القياما بالدعوة في مكة لبد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد‬
‫من مركز ديني خطير‪ ،‬فجلبها إلى حظيرة السلما لبد أن يكون‬
‫له وقع كبير على بقية القبائل‪ ،‬على أن هذا ل يعني أن رسالة‬
‫السلما كانت في أدوارها الولى محدودة بقريش‪ ،‬لن السلما كما‬
‫يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق‬
‫رسالته العالمية«)‪.(2‬‬
‫ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والعراض‬
‫والسخرية واليذاء والتكذيب‪ ،‬والكيد المدبر المدروس‪ ،‬ولقد اشتد‬
‫الصراع بين النبي × وصحبه‪ ،‬وبين شيوخ الوثنية وزعمائها‪ ,‬وأصبح‬
‫الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان‪ ،‬وهذا‬
‫في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة‪ ،‬ساهم فيه أشد وألد أعدائها‪،‬‬
‫ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها‪ ،‬فليس كل الناس‬
‫يسلمون بدعاوى القرشيين‪ ،‬بل كان يوجد من مختلف القبائل من‬
‫يتابع الخبار‪ ،‬ويتحرى الصوابا فيظفر به‪.‬‬
‫وكانت الوسيلة العلمية في ذلك العصر تناقل الناس للخبار‬
‫مشافهة وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول ×‪ ,‬وأصبح هذا‬
‫الحدث العظيم حديث الناس في كل مكان‪ ،‬وبدأ رسول الله ×‬
‫يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة‪ ،‬والنتقال بها‬
‫إلى مواقع جديدة بعد أن رفضت قريش الستجابة والنقياد للحق‬
‫المبين)‪ ,(3‬وكان موقفهم كموقف القواما السابقة من رسلهم‬
‫وتعرض النبي × وأصحابه لسنة البتلء‪.‬‬
‫ثامنلا‪ :‬سنة البتلء‪:‬‬
‫البتلء ‪ -‬بصفة عامة ‪ -‬سنة الله تعالى في خلقه‪ ,‬وهذا واضح‬
‫من اليات القرآنية الكريمة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لويهلوُ اًلرذيِ لجلع ليككمُ لخللئر ل‬
‫ف اًللكر ر‬
‫ض‬

‫)( دراسة في السيرة‪ ،‬عماد الدين خليل‪ ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الغرباء الولون‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬ص ‪.167‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الفوائد لبن القيم‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪283‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ت لبلكيْبيليلوُيككمُ رفيْلماً آلتاًيككمُ" ]النعاما‪ [165 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ض لدرجاً ة‬


‫ضيككمُ فليكوُلق بليكع ة ل ل‬ ‫لولرفللع بليكع ل‬
‫ر‬ ‫ل‬ ‫‪+‬إرلنَاً لجلعكللناً لماً لعللىَ اًللكر ر‬
‫سينَ لعلملح" ]الكهف‪ [7 :‬وقال جل‬ ‫ض رزينلةح لهاً للكنبيليلوُيهكمُ أليمييهمُ ألكح ل‬
‫ت لواًلكلحليْاًةل لرلكيْبيليلوُيككمُ‬‫شأنه‪+ :‬اًلرذيِ لخ للق اًلكلمكوُ ل‬
‫ساًلن رمنَ نَمطكلفةة‬ ‫ر‬
‫سينَ لعلملح لويهلوُ اًلكلعرزييز اًلكغليفوُير" ]الملك‪ [2 :‬وقال‪+ :‬إلنَاً لخ لكقلناً اًرلنَك ل‬ ‫أليميككمُ ألكح ل‬
‫شاًةج نَليكبتلرليْره" ]النسان‪.[2 :‬‬ ‫ألكم ل‬
‫والبتلء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا‪ ،‬فلقد جرت سنة الله ‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬أل يمكن لمة إل بعد أن تمر بمراحل الختبار المختلفة‪،‬‬
‫وإل بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الحداث‪ ،‬فيميز الله الخبيث‬
‫من الطيب‪.‬‬
‫وهي سنة جارية على المة السلمية ل تتخلف‪ ،‬فقد شاء الله‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬أن يبتلي المؤمنين‪ ،‬ويختبرهم ليمحص إيمانهم‪ ،‬ثم يكون‬
‫لهم التمكين في الرض بعد ذلك‪.‬‬
‫ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الماما الشافعي حين سأله‬
‫كن‪ ،‬أو يبتلى؟ فقال الماما‬ ‫رجل‪ :‬أيهما أفضل للمرء‪ ،‬أن يم ز‬
‫نوحا‬
‫ل‬ ‫كن حتى يبتلى‪ ،‬فإن الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬ابتلى‬‫الشافعي‪ :‬ل يم ز‬
‫وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدلا صلوات الله وسلمه عليهم‬
‫أجمعين‪ ,‬فلما صبروا مكنهم فل يظن أحد أن يخلص من اللم‬
‫البتة‪.‬‬
‫وابتلء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص‪،‬‬
‫ليقوما بنيانهم بعد ذلك على تمكن ورسوخ‪ ،‬وهذا البتلء للمؤمنين‬
‫ابتلء الرحمة ل ابتلء الغضب‪ ،‬وابتلء الختيار ل مجرد الختبار‪.‬‬
‫فلو أن قائدا أراد إعدادا للفوز في معركة ضارية‪ ،‬أيكون من‬
‫الرحمة بهم أن يخفف لهم التدريب ويهون عليهم العداد‪ ،‬أما‬
‫تكون الرحمة الحقيقية أن يشد عليهم في التدريب على قدر ما‬
‫تقتضيه المعركة الضارية التي يعدهم من أجلها؟‬
‫والمؤمنون هم حزبا الله وجنوده ‪ -‬ولله المثل العلى ‪-‬‬
‫والمعركة التي يعدهم من أجلها هي المعركة العظمى‪ ،‬معركة‬
‫الحق والباطل‪ ,‬والنتيجة المطلوبة من المعركة ليست مجرد‬
‫النصر‪ ،‬وإنما هي بعد ذلك إقرار المنهج الرباني في الرض بكل‬
‫المعاني والقيم التي يحملها ذلك المنهج‪ ،‬وهي المانة التي تعرض‬
‫لحملها النسان بقدر الله‪.‬‬
‫وحمل المانة ‪ -‬بعد النتصار على الباطل ‪ -‬ل يصلح له كل‬
‫‪284‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الناس‪ ،‬إنما يحتاج لقوما مختارين‪ ،‬يعدون إعدادا خاصا ليحسنوا‬


‫القياما به)‪.(1‬‬
‫وقد علم الله تعالى أن البتلء هو وسيلة العداد لهذه‬
‫المهمة العظيمة‪ ,‬وفي قصة طالوت شاهد على ذلك)‪(2‬؛‬
‫فطالوت كان مقدما على معركة ومعه جيش من أمة مغلوبة‪،‬‬
‫عرفت الهزيمة في تاريخها مرة بعد مرة‪ ،‬وهو يواجه أمة‬
‫ذا من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف أماما‬ ‫غالبة‪ ،‬فلبد إ ل‬
‫القوى الظاهرة الغالبة‪ ،‬هذه القوة الكامنة ل تكون إل في‬
‫الرادة التي تضبط الشهوات والنزوات‪ ،‬وتصمد للحرمان‬
‫والمشاق‪ ،‬وتستعلي على الضرورات والحاجات‪ ،‬وتؤثر الطاعة‬
‫ذا أن‬ ‫وتحتمل تكاليفها‪ ,‬فتجتاز البتلء بعد البتلء‪ .‬فلبد للقائد إ ل‬
‫يبلو جيشه وصموده وصبره‪ ،‬صموده أولل للرغبات والشهوات‬
‫وصبره ثانيلا على الحرمان والمتاعب‪ .‬ولقد اختار طالوت هذه‬
‫التجربة وهم عطاش ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على‬
‫عقبيه)‪.(3‬‬
‫س رمبنيِ لولمنَ لكمُ‬ ‫ت رباًلكجنوُرد لقاًلل إرلن اًل مبترليْيكمُ ربنيهةر فلمنَ لشرر ر‬
‫ب مكنهي فلي لكيْ ل‬
‫ل‬ ‫ل يكل ك ل ل ل‬ ‫صلل لطاًيلوُ ي ي ي‬ ‫‪+‬فلي للماً فل ل‬
‫ر‬
‫شرربيوُاً مكنهي إرلل قلليْلح" ]البقرة‪ .[249 :‬ولقد بين‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫يلطكلعكمهي فلرإنَلهي رمبنيِ إرلل لمرنَ اًكغتليلر ل‬
‫ف غيكرفلةح بريْلده فل ل‬
‫الله تعالى هذا المر للمة السلمية حتى تكون على بينة من‬
‫طريقها‪ ،‬ورسالتها وطبيعة هذا الطريق وتلك الرسالة‪.‬‬
‫وجاء ذلك في مواضع متعددة‪ ،‬وبأساليب مختلفة في القرآن‬
‫شيِةء بمنَ اًلكلخوُ ر‬
‫ع‪] "..‬البقرة‪:‬‬ ‫ف لواًلكيجوُر‬ ‫الكريم؛ من ذلك قوله تعالى‪+ :‬لوللكنبيليلوُنَليككمُ بر ل ك ل ك‬
‫‪ [155‬وقوله تعالى‪+ :‬ألكم لحرسكبتيكمُ لأن تلكديخليوُاً اًلكلجنلةل لوللماً يلأكتريكمُ لمثليل اًلرذيلنَ لخ لكوُاً رمنَ قليكبلريكمُ‬
‫صر اً ر‬ ‫ضلراًءي لويزلكرزليوُاً لحلتىَ يلييقوُلل اًللريسوُيل لواًلرذيلنَ آلمنيوُاً لملعهي لملتىَ نَل ك ر ر‬
‫ل‬ ‫صير اًل أللل إلن نَل ك ل‬ ‫ستييهيمُ اًلكبلأكلساًءي لواًل ل‬
‫لم ل ك‬
‫ب" ]البقرة‪.[214 :‬‬ ‫قلرري ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬ليكتبي ليوُلن رفيِ ألكملوُاًلريككمُ لوألنَكييفرسيككمُ" ]آل عمران‪ [186 :‬ومن‬
‫الملحظ من خلل اليات الكريمة أن تقرير سنة البتلء على المة‬
‫السلمية جاء في أقوى صورة من‬
‫الجزما والتأكيد)‪.(4‬‬
‫حول التفسير السلمي للتاريخ لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪.112 ،111‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.235‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫في ظلل القرآن )‪.(1/268‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.237‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪285‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهذه سنة الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في العقائد‪ ،‬والدعوات‪ ،‬لبد من بلء‪،‬‬


‫ولبد من أذى في الموال والنفس‪ ,‬ولبد من صبر ومقاومة‬
‫واعتزاما‪.‬‬
‫إنه الطريق إلى الجنة وقد )حفت اًلجنة باًلمكاًره‪ ،‬وحفت اًلناًر‬
‫باًلشهوُاًت( )‪ (1‬كما أخبر النبي ×‪ ,‬ثم إنه الطريق الذي ل طريق غيره‬
‫لنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة‪ ،‬وتنهض بتكاليفها‪ ،‬طريق‬
‫التربية للمة السلمية‪ ،‬وإخراج مكنوناتها من الخير‪ ،‬والقوة‬
‫والحتمال‪ ،‬وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف‪ ،‬والمعرفة‬
‫لحقيقة الناس‪ ،‬وحقيقة الحياة‪ ،‬وذلك ليثبت على هذه الدعوة‬
‫أصلب أصحابها عودا وأقواهم شكيمة‪ ،‬فهؤلء هم الذين يصلحون‬
‫لحملها‪ ،‬والصبر عليها‪ ،‬فهم عليها مؤتمنون)‪.(2‬‬
‫إن البتلء مكمل لحقيقة اليمان‪ ،‬لن اليمان أمانة الله ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫في الرض‪ ،‬وهذه المانة ل يحملها إل من هم أهل لها‪ ،‬وفيهم على‬
‫حملها قدرة‪ ،‬وفي قلوبهم تجرد لها وإخلص‪ ،‬والذين يؤثرونها على‬
‫الراحة والدعة‪ ،‬وعلى المن والسلمة‪ ،‬وعلى كل صنوف المتاع‬
‫والغراء)‪.(3‬‬
‫»وحقيقة اليمان ل يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض‬
‫للتجربة والمتحان والبتلء‪ ،‬وحتى يتعرف كل فرد فيها على‬
‫حقيقة طاقته‪ ،‬وعلى حقيقة غايته ثم تتعرف الجماعة على حقيقة‬
‫اللبنات التي تتألف منها‪ ،‬ومدى تماسك هذه اللبنات في ساعة‬
‫س لأن يي كيتيلريكوُاً لأن يلييقوُليوُاً‬ ‫ر‬
‫الشدة« ‪ .‬وفي هذا يقول الله تعالى‪+ :‬أللحس ل‬
‫ب اًللناً ي‬
‫)‪(4‬‬

‫صلدقيوُاً لوليْليكع للملنَ اًلكلكاًرذربيْلنَ"‬ ‫ر‬ ‫ر ر ر‬


‫آلملناً لويهكمُ لل يييكفتليينوُلن ‪ ‬لوللقكد فليتليلناً اًلذيلنَ منَ قليكبلرهكمُ فلي ليْليكع للملنَ اًلي اًلذيلنَ ل‬
‫]العنكبوت‪.[3 ،2 :‬‬
‫الفتنة‪ :‬المتحان بشدائد التكاليف من مفارقة الوطان‪،‬‬
‫ومجاهدة العداء‪ ,‬وسائر الطاعات الشاقة‪ ،‬وهجر الشهوات‪،‬‬
‫وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في النفس والموال ومصابرة‬
‫الكفار على أذاهم وكيدهم)‪.(5‬‬
‫وقال ابن كثير ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬والستفهاما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ر‬
‫س" إنكاري‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن الله سبحانه لبد أن يبتلي عباده‬ ‫ب اًللناً ي‬ ‫‪+‬أللحس ل‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا الجنة ‪ -‬وصف نعيمها وأهلها )‪.(4/2174‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(2/1090‬‬ ‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/593‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( تفسير النسفي )‪.(3/249‬‬ ‫)( المصدر نفسه )‪.(1/529‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫‪286‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المؤمنين بحسب ما عندهم من اليمان)‪ ,(1‬كما جاء في الحديث‬


‫الصحيح‪» :‬أشد اًلناًس بلءح اًلنَبيْاًيء‪ ،‬ثمُ اًلصاًلحوُن‪ ،‬ثمُ اًلمثل فاًلمثل‪ :‬يبتليِ اًلرجل‬
‫علىَ حسب دينه فإن كاًن فيِ دينه صلبة زيد له فيِ اًلبلء«)‪.(2‬‬
‫ولقد بين رسول الله × أن البتلء صفة لزمة للمؤمن‪ ،‬حيث‬
‫قال‪» :‬مثل المؤمن كمثل الزرع ل تزال الريح تميله‪ ،‬ول يزال‬
‫المؤمن يصيبه البلء‪ ،‬ومثل المنافق كمثل شجرة الرز ل تهتز حتى‬
‫تستحصد«)‪.(3‬‬
‫وفي ظلل الية الكريمة السابقة يقول سيد قطب ‪ -‬رحمه‬
‫الله ‪» :-‬إن اليمان ليس كلمة تقال‪ ،‬إنما هو حقيقة ذات تكاليف‪،‬‬
‫وأمانة ذات أعباء‪ ,‬وجهاد يحتاج إلى صبر‪ ،‬وجهد يحتاج إلى احتمال‪،‬‬
‫فل يكفي أن يقول الناس‪ :‬آمنا‪ ،‬وهم ل يتركون لهذه الدعوى حتى‬
‫يتعرضوا للفتنة‪ ،‬فيثبتوا‪ ،‬ويخرجوا من الفتنة صافية عناصرهم‪،‬‬
‫خالصة قلوبهم‪ ،‬كما تفتن النار الذهب‪ ،‬لتفصل بينه وبين العناصر‬
‫الرخيصة العالقة به‪ ،‬حتى يصبح خالصا ثمينا رفيعا‪ ،‬وهذا هو أصل‬
‫كلمة »الفتنة« اللغوي‪ ،‬وله دللته وظله‪ ،‬وإيحاؤه‪ ،‬وكذلك تصنع‬
‫الفتنة في قلوبا المؤمنين«)‪» (4‬حين تصهرهم بنار البتلء فتخرج‬
‫من نفوسهم ما قد يكون فيها من خبث وشهوات وأهواء‪ ،‬حتى‬
‫يكونوا خالصين لله متجردين له‪ ,‬صالحين لحمل المانة التي‬
‫أناطها الله بهم«)‪ (5‬أل وهي أمانة كريمة‪ ،‬وهي أمانة ثقيلة‪ ،‬ومن‬
‫ثم تحتاج إلى طراز خاص‪ ،‬يصبر على البتلء ويعلو فوق المحن)‪.(6‬‬
‫إن سنة البتلء جارية في المم والدول والشعوبا‬
‫والمجتمعات‪ ,‬والمة السلمية أمة من المم‪ ،‬فسنة الله تعالى‬
‫فيها جارية ل تتبدل ول تتغير‪ ،‬إن البتلء سنة الله العامة في‬
‫الحياة والحياء‪ ،‬وسنته سبحانه في الرسل والرسالت‪ ،‬ورسول‬
‫الله × ليس بدعا من الرسل‪ ،‬فكان لبد أن تجري عليه سنة‬
‫البتلء كما جرت على إخوانه المرسلين‪ ،‬ومع ما له × من عظيم‬
‫القدر ومنتهى الشرف‪ ،‬إل أنه قد حظي من البلء بالحمل الثقيل‬
‫والعناء الطويل)‪ ،(7‬وتعرض الصحابة الكراما ‪ -‬رضي الله عنهم ‪-‬‬
‫من البلء ما تنوء به الرواسي الشامخات‪ .‬لقد أجمع المشركون‬
‫)( سنن الترمذي )‪ (4/601‬حديث حسن‬ ‫)( تفسير ابن كثير )‪.(3/405‬‬ ‫‪1‬‬

‫صحيح‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم شرح النووي )مجلد ‪ (17/151) (6‬كتابا القيامة والجنة والنار‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(2/1090‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( حول التفسير السلمي للتاريخ‪ ،‬ص ‪.182 ،181‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(2/1090‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص)‪.(241 ،240‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪287‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على محاربة الدعوة السلمية لنها عرت واقعهم الجاهلي وعابت‬


‫آلهتهم وسفهت أحلمهم؛ آي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن‬
‫الحياة والنسان والكون‪ ،‬فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولت‬
‫ليقاف الدعوة‪ ،‬وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال‬
‫انتشارها‪.‬‬
‫ومن هذه الساليب‪:‬‬
‫‪ -1‬محاولة قريش لبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول‬
‫الله ×‪ ,‬فذهبت وفود قريش إلى أبي طالب للتنبيه والتهديد‬
‫بالمنازلة إن لم يكف ابن أخيه عن هذه الدعوة‪ ,‬ثم أرسلوا وفدا‬
‫للمساومة حيث يطلبون محمدلا × مقابل رجل منهم »عمارة بن‬
‫الوليد« ليقتلوا هذا الذي خالف دينهم وفرق جماعتهم وسفه‬
‫أحلمهم ‪ -‬كما يدعون ‪ -‬فكانت قولة أبي طالب البالغة الدللة‪:‬‬
‫»والله لبئس ما تساومونني‪ ،‬أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم‬
‫ابني فتقتلونه‪ ،‬هذا والله ما ل يكون أبدا«)‪ ,(1‬ومما جعل أبا طالب‬
‫يصر على موقفه صلبة الرسول × ووثوقه بالحق الذي عليه‪،‬‬
‫وعدما التنازل أو المداهنة في الحق الذي قامت عليه السموات‬
‫والرض‪.‬‬
‫‪ -2‬التجاه إلى إيذاء المسلمين؛ فوثبت كل قبيلة على من‬
‫فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم‪ ،‬ولم يقدموا‬
‫على هذه المحاولة إل حينما أدركوا وقوف أبي طالب ومن معه‬
‫من عشيرته إلى جوار النبي ×‪.‬‬
‫وكان الهدف من هذه المحاولة هو الضغط على رسول الله ×‬
‫كي يتراجع ويكف عما يدعو إليه‪ ,‬ولكن المحاولة فشلت حينما‬
‫أدركوا صلبة المؤمنين‪ ،‬وصلبة الرسول ×‪.‬‬
‫‪ -3‬عرض المغريات والمساومات‪ ،‬لقد تركت قريش المساند‬
‫لرسول الله × »أبا طالب« لن المحاولت فشلت معه‪ ،‬ولن‬
‫عصبته واقفة إلى صفه‪ ،‬ومن ثم لبد من مواجهة صاحب الدعوة‬
‫لصرفه عن دعوته‪ ،‬فعرض عليه المال والشرف والسيادة على‬
‫مكة‪ ,‬وجعله ملكا على قريش‪ ،‬وكان المفاوض للرسول ×‬
‫والعارض عليه تلك العروض هو عتبة بن ربيعة)‪ (2‬في بداية المر‪,‬‬
‫ثم عرضت عليه من قبل مجموعة من أشراف قريش‪ ,‬وبالرغم‬
‫من ذلك الغراء الذي تضعف أمامه القلوبا البشرية ومن أراد‬
‫)( انظر‪ :‬ابن هشاما )‪.(1/267‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية لبن كثير )‪.(504 ،1/503‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪288‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫حاسما‬
‫ل‬ ‫موقفا‬
‫ل‬ ‫الدنيا وطمع في مغانمها إل أن رسول الله × اتخذ‬
‫في وجه الباطل دون مراغمة أو مداهنة‪ ،‬أو الدخول في دهاء‬
‫سياسي أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء‬
‫قريش)‪ ،(1‬لن قضية العقيدة تقوما على الوضوح والصراحة والبيان‬
‫دا عن المداهنة والتنازل‪ ،‬ولذلك كان رد رسول الله ×‪» :‬ما بي‬ ‫بعي ل‬
‫ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم‪ ،‬ول الشرف‬
‫رسول‪ ،‬وأنزل علي‬‫ل‬ ‫فيكم‪ ،‬ول الملك عليكم‪ ،‬ولكن الله بعثني إليكم‬
‫كتابا‪ ,‬وأمرني أن أكون لكم بشيرلا ونذيرلا‪ ،‬فبلغتكم رسالة ربي‬ ‫ل‬
‫ونصحت لكم‪ ،‬فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا‬
‫ي أصبر لمر الله حتى يحكم الله بيني‬ ‫وإن تردوا عل ل‬ ‫والخرة‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫وبينكم« ‪.‬‬
‫بهذا الموقف اليماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم‪ ،‬وثبتت‬
‫قضية من أخطر قضايا العقيدة السلمية وهي خلوص العقيدة من‬
‫أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أما في الوسيلة الموصلة‬
‫إليها)‪.(3‬‬
‫‪ -4‬مطالب التحدي‪ :‬أخذ عناد المشركين يقوى ولجاجتهم‬
‫تشتد‪ ,‬وقد أرادوا إحراج الرسول × وتحديه بمطالبته بالتيان‬
‫بمعجزات تثبت نبوته‪.‬‬
‫قال عبد الله بن عباس‪ :‬قالت قريش للنبي‪ :‬ادع لنا ربك أن‬
‫يجعل الصفا ذهلبا ونؤمن بك‪ ،‬قال‪» :‬وتفعلون؟« قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فدعا فأتاه جبريل فقال‪» :‬إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلما‬
‫ذهبا‪ ،‬فمن كفر بعد ذلك منهم‬ ‫ل‬ ‫ويقول‪ :‬إن شئت أصبح لهم الصفا‬
‫أحدا من العالمين‪ ،‬وإن شئت فتحت لهم بابا‬ ‫ل‬ ‫عذابا ل أعذبه‬
‫ل‬ ‫عذبته‬
‫التوبة والرحمة« قال‪» :‬بل بابا التوبة والرحمة« )‪.(4‬‬
‫قال ابن عباس‪» :‬فأنزل الله عز وجل هذه الية‪+ :‬لولل تلكجلعكل يللدلك‬
‫سوُحراً" ]السراء‪.«[29 :‬‬ ‫ر‬ ‫لمغكيلوُلةح إرللىَ عينيرق ل‬
‫سطكلهاً يكلل اًلكبلكسط فليتليكقعيلد لميلوُحماً لمكح ي‬
‫ك لولل تليكب ي‬
‫لقد كان الهدف من تلك المطالب هو شن حربا إعلمية ضد‬
‫الدعوة والداعية وتآملرا على الحق كي تبتعد القبائل العربية عنه‬
‫×‪ ,‬لنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست من طبيعة هذه‬
‫الدعوة ولهذا أصروا عليها‪ ،‬بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من‬
‫ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة‪ ،‬وهذا كله محاولة منهم لظهار‬
‫انظر‪ :‬الوفود في العهد المكي‪ ،‬وأثره العلمي لعلي السطل‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬تاريخ صدر السلما‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫السيرة النبوية لبن كثير )‪ (1/483‬إسناده جيد‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪289‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عجز الرسول × واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه)‪,(1‬‬


‫وسيتضح هذا في المحاولت القادمة‪.‬‬
‫‪ -5‬المساومة لقتساما العبادة والزعامة‪ ،‬وهي محاولة لخماد‬
‫صوت الدعوة بالتفاق معا على حل وسط حتى يضمنوا بقاء‬
‫مكانتهم أماما القبائل الخرى‪ ،‬ومنعها أيضا من الدخول في هذا‬
‫الدين الجديد‪ ,‬وهي محاولة ماكرة لن السير في ركابا الباطل‬
‫خطوة واحدة معنى هذا سقوط صاحب الحق في هاوية النحراف‬
‫ونزلت سورة الكافرون »للمفاضلة الحاسمة بين عبادة وعبادة‪،‬‬
‫ومنهج ومنهج‪ ،‬وتصور وتصور‪ ،‬وطريق وطريق‪ ،‬نعم نزلت نفليا بعد‬
‫دا بعد توكيد‪ ،‬بأنه ل لقاء بين الحق‬‫ما بعد جزما‪ ،‬وتوكي ل‬
‫نفي‪ ،‬وجز ل‬
‫والباطل‪ ,‬ول اجتماع بين النور والظلما‪ ،‬والمر ل يحتاج إلى‬
‫مداهنة أو مراوغة أو مصالح مشتركة أو مسائل داخلية‪ ...‬إلخ«)‪.(2‬‬
‫‪ -6‬الستعانة باليهود‪ :‬لقد وجدت قريش نفسها عاجزة أماما‬
‫دعوة الحق‪ ,‬وكان المعبر عن هذا العجز النضر بن الحارث الذي‬
‫صرخ قائل‪» :‬يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم‬
‫له بحيلة بعد‪ ..‬فانظروا في شأنكم‪ ،‬فإنه والله لقد نزل بكم أمر‬
‫عظيم«)‪.(3‬‬
‫فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط‬
‫إلى اليهود لمعرفة حقيقة هذه الدعوة ل لكي يتبعوها ولكن‬
‫لدراكها أن رسول الله × لم يجب على مطالبهم التي طلبوها‪،‬‬
‫ولمعرفتهم بحقد اليهود المنصب على النبياء جميعا وأصحابا‬
‫الحق أينما كانوا ومعرفتهم بأخبار الولين‪ ،‬فقد يمدونهم بأشياء‬
‫تظهر عجز الرسول × فيحققوا بذلك هدفهم الدعائي أماما القبائل‬
‫العربية‪ ,‬ولم يدروا بسلوكهم هذا أنهم نقلوا أخبار الدعوة‬
‫السلمية إلى خارج مكة مهما كان غرضهم وهدفهم‪ ،‬وبالرغم من‬
‫فرحة قريش بالمور التعجيزية التي أتوا بها من عند يهود إل أن‬
‫الله أحبط محاولتهم بالجابة عليها كما جاء في سورة الكهف عن‬
‫أهل الكهف وذي القرنين ثم عن الروح في سورة السراء‪،‬‬
‫فأقيمت الحجة على المل من قريش وزعماء اليهود)‪.(4‬‬
‫‪ -7‬الدعاية العلمية في المواسم ضد النبي × بأنه ساحر‬
‫ليصرفوا الناس عنه‪.‬‬

‫الوفود في العهد المكي‪ ،‬ص ‪.51 -40‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الوفود في العهد المكي‪ ،،‬ص ‪.61 -58‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬تاريخ صدر السلما‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪290‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -8‬اليذاء النفسي في شخص رسول الله ×‪ ,‬وقد تمثل هذا‬


‫اليذاء بالعراض والتكذيب واتهامه بالشعر والسحر والكهانة‬
‫والجنون وغمزه بكل عيب والستهزاء به وشتمه وإيذائه بالكلمات‬
‫القبيحة‪ ,‬ورسول الله × صابر محتسب)‪ ،(1‬وكذلك من أنواع اليذاء‬
‫النفسي إيذاء وتعذيب أصحابه وهو ينظر‪ ،‬وحثو الترابا على رأسه‬
‫وهو يصلي‪ ،‬ووضع الوساخ والدماء على بابا بيته والشوك في‬
‫طريقه)‪.(2‬‬
‫‪ -9‬الحصار القتصادي والجتماعي‪ ،‬وقد تمثل هذا في محاربة تجار‬
‫المسلمين كما ذكرنا من تهديد أبي جهل لمن أسلم من التجار‬
‫بالضافة إلى الحصار العاما الذي تم في شعب أبي طالب‪ ،‬حيث تم‬
‫حصار بني عبد المطلب وبني هاشم للضغط على أبي طالب وقومه‬
‫للتخلي عن نصرة محمد ×‪ ,‬وكانت بنود التفاقية »الصحيفة« التي‬
‫كتبها زعماء قريش فيما بينهم على محاصرة بني هاشم وبني عبد‬
‫المطلب مسلمهم وكافرهم على السواء‪:‬‬
‫أ‪ -‬عدما الزواج منهم أو إليهم‪.‬‬
‫)‪(3‬‬
‫با‪ -‬وأل يبيعوهم شيئلا ول يبتاعوا منهم ‪.‬‬
‫وكانت اتفاقية قاسية عزموا على تنفيذ بنودها‪ ,‬ولذلك اتفقوا‬
‫على تعليقها في جوف الكعبة للزيادة في توثيقها‪ ,‬وإن كانت هذه‬
‫الوثيقة بهذه الكيفية تعطي ظلل عن عجز قريش واختلف كلمتها‬
‫ولهذا خافوا من أنهم إذا ما اتفقوا دون كتابة وتعليق في الكعبة قد‬
‫يحصل نكوص عن ذلك ولهذا فعلوا تلك الصحيفة وتعاقدوا‬
‫عليها)‪.(4‬‬
‫وبالرغم من أن الحصار القتصادي في شعب أبي طالب كان‬
‫يشمل بني هاشم وبني عبد المطلب مسلمهم وكافرهم على‬
‫السواء إل أن هناك نوعا آخر من الحصار القتصادي مارسه كفار‬
‫قريش على بقية المسلمين‪ ,‬فقد كان أبو لهب إذا ما قدمت‬
‫القوافل التجارية إلى مكة يطوف السواق ويقول‪ :‬يا معشر التجار‬
‫غالوا على أصحابا محمد ×‪ ..‬فأنا ضامن أن ل خسارة عليكم‪..‬‬
‫فيزيدون عليهم في السلعة أضعافا حتى يرجع المسلم إلى‬
‫أطفاله وهم يتصايحون من الجوع ليست في يديه شيء‪ ،‬ثم يذهب‬
‫التجار إلى أبي لهب فيعوضهم في تجارتهم)‪ ,(5‬ومع هذا فلم يتراجع‬
‫انظر‪ :‬الروض النف )‪.(2/33‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(128 ،127 ،103 ،2/48‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(2/101‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬تاريخ صدر السلما‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬الروض النف )‪.(128 ،2/127‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪291‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أحد منهم عن دينه‪ ،‬بل زاده ذلك العذابا صبلرا وتجلدا وعمل في‬
‫سبيل دينه)‪.(1‬‬
‫‪ -1‬اليذاء الجسدي‪:‬‬
‫فقوى البغي والطغيان حينما تجد الثبات والصلبة عند‬
‫المؤمنين قد بلغت مداها وأن اليذاء النفسي والحصار القتصادي‬
‫والجتماعي‪ ،‬والعزل‪ ..‬إلخ ل تجدي أماما صلبة اليمان في نفوس‬
‫الفئة المؤمنة‪ ،‬حينما تصبح تلك الصورة بارزة أماما قوى الطاغوت‬
‫يطيش عقلها وتلجأ إلى البطش الجسدي مهما كلفها ذلك من‬
‫عواقب)‪.(2‬‬
‫ونلحظ هنا من خلل ما سبق أن البطش قد وجه ضد المؤمنين‬
‫من أصحابا رسول الله ×‪ ,‬فتعرضوا للتنكيل والتعذيب وتولت كل‬
‫قبيلة شأن المسلمين من أبنائها سواء من الحرار أما من العبيد‪ ،‬أما‬
‫من النساء أما من الرجال‪ ،‬ومنهم من قتل تحت التعذيب كسمية أما‬
‫عمار رضي الله عنهما‪ ،‬ولقد ضربا المسلمون الوائل أروع المثل‬
‫في الصبر وقوة التحمل)‪.(3‬‬
‫وكان × وهو في تلك المحن والشدائد والبلء يربي أصحابه‬
‫على‪:‬‬
‫‪ -‬التأسي بالسابقين من النبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل‬
‫الذى في سبيل الله ويضربا لهم المثلة في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من‬
‫النعيم‪ ،‬وعدما الغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫‪ -‬التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه السلما في هذه الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬ويذل فيه أهل الشرك والعصيان‪.‬‬
‫ومع هذا كله كان × مع هذه الشياء كلها كان يخطط ويستفيد‬
‫من السبابا المادية المتعددة‪ ،‬لرفع الذى والظلم عن أتباعه‪،‬‬
‫وكف المشركين عن فتنتهم‪ ،‬وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل‬
‫الدين‪ ،‬وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث يشاء‪ ,‬وتزيل‬
‫الحواجز والعقبات والتي تعترض طريق الدعوة إلى الله)‪.(4‬‬
‫لقد فكر النبي × بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من‬
‫)( انظر‪ :‬تاريخ صدر السلما‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه ص ‪.44‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫)( تاريخ صدر السلما‪ ،‬ص ‪.44‬‬

‫)( الغرباء الولون‪ ،‬ص ‪.146‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪292‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم‪،‬‬
‫ويسلمون من أذى قريش وفتنتها حيث ل تطالهم يدها‪ ،‬ول يمتد‬
‫إليهم بطشها‪.‬‬
‫‪ -2‬البحث عن بيئة تقبل الدعوة‪ ،‬وتستجيب لها‪ ،‬في مقابل‬
‫عنت القرشيين وكنودهم‪ ،‬ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق‬
‫الرض‪ ،‬تحقيقا لمر الله بالتبليغ للعالمين)‪ (1‬وتم له ذلك × وهاجر‬
‫إلى المدينة ودخل مرحلة التمكين‪.‬‬
‫لقد تعرض أصحابا رسول الله × لشد أنواع التعذيب‪ ,‬فإذا‬
‫كان المشركون الولون يعذبون أولياء الله بالرمضاء والنار ‪ -‬في‬
‫بعض الحيان ‪ -‬فإن تعذيب آلت الكهرباء الطويل أشد‪ ،‬وإذا كان‬
‫الكفار السابقون يصلبون أولياء الله على الجدران والخشابا وفي‬
‫جذوع النخل‪ ,‬فإن أعداء الله يصلبون أولياءه الن على أعمدة‬
‫الحديد المتصلة بتيار الكهرباء‪ ،‬وإذا كان أعداء الله كانوا يقلبون‬
‫أولياء الله على حر الرمضاء ظهرا بربط أيديهم ويجرونهم‬
‫بالحبال‪ ،‬فإن أعداء الله الن يسحبون أولياءه باللت السريعة‬
‫كالسيارات في الشوارع ويدخلون الواحد منهم عجلة السيارة بعد‬
‫أن يضموا رأسه مع رجليه ويديرونها باللت وهو مكشوف العورة‪،‬‬
‫ويملون الحواض بالماء الساخن في شدة الحر أياما الصيف‬
‫ويقذفون فيها بالمؤمن مجردا من ثيابه ويبقى فيها الساعات حتى‬
‫ينسلخ جلده‪ ،‬ويملونها في أياما الشتاء والبرد القارس بالماء البارد‬
‫ويلقونه فيها كذلك‪ ,‬ويودعون ولي الله في حجرة ضيقة لنومه‬
‫وطعامه وشرابه وفضلته ويجيعون الكلبا المدربة ويضعونها معه‬
‫في حجرته لتنهش جسمه وتكثر من العواء والنباح على رأسه‪,‬‬
‫ويضربونه بالسياط حتى تسيل الدماء وقد تتجاوز دفعة الضربا‬
‫في المرة الواحدة خمسمائة سوط ويتركونه حتى يتورما جسمه‪،‬‬
‫ثم يلهبونه بالسياط في مواضع الضربا السابقة ويسيل قيحه‬
‫وينتن جسمه فل يسمحون لطبيب يداوي جراحه ويأمرونه مع‬
‫زملئه من أمثاله بالجري وهم في تلك الحال لمسافات طويلة‬
‫ومن أظهر التعب ضربوه حتى يغمى عليه أو يموت وهكذا)‪.(2‬‬
‫وهكذا تمر المحن والبتلءات على الفراد والجماعات لتصقل‬
‫العاملين في ساحة العمل السلمي على مستوى الفراد والجماعات‪,‬‬
‫وتمضي هذه السنة في كل الزمنة والمكنة إلى عصرنا الحاضر‪,‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.168‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله القادري )‪.(2/215‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪293‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ويتعرض الدعاة إلى البلء والمحن ويمضون في طريقهم المرسوما‬


‫باستعلء إيماني عظيم ل يبالون غير نصرة دينهم ورفع كلمة الله في‬
‫الرض‪ ,‬وينشد شاديهم في داخل السجون ومن وراء القضبان وهو يرى‬
‫أفواج رفاقه تشنق رقابهم كل يوما وينتظر نفس المصير فل يتزعزع‬
‫اليمان‪ ،‬وإنما يزداد صلبة وتشتاق النفس إلى خالقها‪ ,‬ورفقة النبيين‬
‫والصديقين والصالحين والشهداء‪ ،‬ويبين الشادي المؤمن أن الحرية هي‬
‫حرية القلب الذي خلقت عبوديته لخالقه وإن كبله أعداء الله بالقيود‬
‫وأحاطوه بأسوار السجون والمعتقلت فهو يقول‪:‬‬
‫أخي أنت حر بتلك القيود‬ ‫أخي أنت حر وراء السدود‬
‫فماذا يضيرك كيد العبيد‬ ‫إذا كنت بالله مستعصما‬

‫ول يخشى هذا الداعية الرباني على نفسه من الموت والعذابا‬


‫تحت سياط الجلدين إنما الخوف من أن يسأما من الجهاد ويترك‬
‫الكفاح فيطلق في إخوانه صرخته مذكرا لهم بواجب رفع الراية‬
‫ومواساة المجاهدين وضحاياهم فيقول‪:‬‬
‫وألقيت عن كاهليك السلح‬ ‫أخي هل تراك سئمت‬
‫الكفاح‬
‫ويرفع رايتها من جديد‬ ‫فمن للضحايا يواسي‬
‫الجراح‬
‫ويحث إخوانه بالستمرار في طريق الدعوة والجهاد والحرص‬
‫على رضا الله‪:‬‬
‫طريقك قد خضبته الدماء‬ ‫أخي فامض ل تلتفت‬
‫)‪(1‬‬
‫للوراء‬
‫ول تتطلع لغير السماء‬ ‫ول تلتفت ههنا أو هناك‬

‫إن طور البلء لبد منه قبل التمكين‪ ,‬وتخرج الدعوة والدعاة‬
‫بعد هذا الطور أصلب عودا وأقوى مما كانت عليه لتنطلق لتحطيم‬
‫عروش الطغاة وتبدد الظلما لتبني حياة إسلمية صحيحة راشدة‪.‬‬
‫***‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله )‪ (2/223‬وهذا الشادي هو سيد قطب رحمه الله‬ ‫‪1‬‬

‫تعالى‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الثالث‬
‫مرحـــــــلة المغالبــــــة‬
‫إن من أهم المراحل في العمل السلمي هي هذه المرحلة‪،‬‬
‫حيث هي مرحلة التركيز والتخصص‪ ،‬لسد ثغرات العمل السلمي‬
‫كله‪ ،‬من حيث الكم ومن حيث النوع ومن حيث الستجابة لكل‬
‫متطلبات الدعوة وأعبائها في كل مراحلها‪ ،‬كما أن هذه المرحلة‬
‫يعقبها التمكين لدين الله بإذنه سبحانه وتعالى‪ ،‬إن أجمع تعريف‬
‫لهذه المرحلة‪ :‬أنها مرحلة المؤمنين‪ ،‬الذين صدقوا ما عاهدوا الله‬
‫عليه‪ ،‬وأعدوا للعمل السلمي ما يحتاج إليه من حكمة وقوة‪ ،‬إنها‬
‫مرحلة المجاهدين في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء)‪.(1‬‬
‫إن أفراد هذه المرحلة اكتسبوا من المعارف والخبرات‬
‫والتجاربا والعلوما النافعة حتى وصلوا إلى النضج السليم‪ ،‬ولشك‬
‫أن لكل مرحلة من مراحل الدعوة السلمية أولويات تقدما على‬
‫غيرها‪ ،‬ومن أهم هذه الولويات أن يكون على رأس هذه المرحلة‬
‫فقهاء وعلماء قد بلغوا درجة النظر في الدين وفي معرفة كيف‬
‫تسعى لتحكيم شرع الله‪ ،‬إن العلماء هم‪ :‬هداة الناس الذين ل‬
‫يخلو زمان منهم حتى يأتي أمر الله‪ ,‬فهم رأس الطائفة المنصورة‬
‫إلى قياما الساعة‪ ,‬يقول الرسول ×‪» :‬ل تزال طائفة من أمتي‬
‫قائمة بأمر الله ل يضرهم من خذلهم‪ ،‬أو خالفهم حتى يأتي أمر‬
‫الله وهم ظاهرون على الناس«)‪.(2‬‬
‫ومن الولويات في هذه المرحلة‪:‬‬
‫الهتماما بالفراد المتخصصين القادرين على سد ثغرات العمل‬
‫السلمي في كل مجالته‪ ،‬بمعنى أن يختار من أفراد هذه المرحلة‬
‫مجموعات تتخصص في دراسة المجالت التي لبد منها في تكوين‬
‫الدول ليصبحوا علماء متخصصين في كل مجالت الحياة النسانية‪,‬‬
‫وتصبغ روح الشريعة عليها كلها‪ ،‬وعلى سبيل المثال في مجال علم‬
‫الجتماع‪ ،‬وفي مجال علم السياسة‪ ،‬وفي مجال القتصاد‪ ،‬وفي مجال‬
‫التربية‪ ،‬وفي مجال العلما‪ ،‬وفي مجال علوما الزراعة والمياه‪ ،‬وفي‬
‫مجال علوما طبقات الرض والتعدين‪ ،‬وفي مجال علوما الفضاء‪ ،‬وفي‬
‫مجال علوما الصناعة والتقنية‪ ،‬وفي كل مجال يحتاج إليه‪ ،‬وفي مجال‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/524‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا العتصاما‪ ،‬بابا‪ :‬قول النبي ×‪» :‬ل تزال طائفة‪(8/189) «..‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.7311‬‬

‫‪295‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فقه الدعوة والحركة والتنظيم‪ ،‬وفي مجال فن القيادة والتخطيط‪،‬‬


‫وفي مجال ظروف العالم السلمي واحتياجاته‪ ،‬وفي كل مجال علمي‬
‫أو فني من هذه المجالت‪ ،‬يتفرع إلى عشرات التخصصات الدقيقة‬
‫والكثر دقة)‪.(1‬‬
‫ومن الولويات‪:‬‬
‫تعميق النتماء للدين السلمي وللدعوة إلى الله‪ ,‬ويحرص‬
‫العاملون أن يتمثلوا السلما العملي في سلوكهم وأخلقهم بحيث‬
‫يصبحون أعلما حية للسلما ولدعوته‪ ،‬وكل ذلك طريقه عمق‬
‫النتماء إلى السلما‪ ،‬وعمق العتزاز به‪ ،‬ويحرص الخ العامل أن‬
‫يكون واسع الفق‪ ،‬عميق الفهم‪ ،‬متين الخلق قوي الجسم‪،‬‬
‫مستوعبا لقضايا العالم السلمي المعاصر‪ ،‬قادرا على تحليل هذه‬‫ل‬
‫القضايا‪ ،‬ومتصورا حل أو حلول لها في موضوعية وواقعية وتجريد‬
‫للحق‪ .‬إن أفراد هذه المرحلة حري بهم أن يكونوا متجذرين في‬
‫انتمائهم للسلما‪ ،‬ولدعوته ويعمقوا ولءهم لمنهج الرحمن ونظاما‬
‫الدين وشريعة السلما‪ ,‬ويكونوا هم جنود هذه المرحلة من العمل‬
‫والتنفيذ والممارسة والتطبيق لكل ما تعلموه في المراحل‬
‫السابقة‪ ,‬مستمرين في أعمالهم‪ ،‬دون ملل أو تراخ‪ ،‬وأن يكونوا‬
‫أصحابا عزيمة صادقة‪ ،‬وإصرار في بلوغا الهدف‪ ،‬مع التأني‬
‫والصبر والجادة والحسان مع عدما استعجال النصر من الله‪ ،‬لن‬
‫ذلك أمر متروك لله سبحانه‪ ،‬يجعله على يد من يشاء من عباده‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫ولكنه يقين سوف يتحقق ما دمنا بالحق عاملين مجاهدين‬
‫إن طبيعة مرحلة المغالبة تختلف عن سواها من المراحل‪،‬‬
‫ومجمل طبيعة هذه المرحلة يكمن في أنها‪ :‬مرحلة الجهاد‬
‫المتواصل‪ ،‬والصبر على البتلء‪ ،‬والصرار على مواصلة السعي‬
‫في الطريق‪ ،‬حتى تتحقق إحدى الحسنيين‪ :‬النصر‪ ،‬والتمكين لدين‬
‫الله في عباد الله‪ ،‬أو الحصول على الشهادة في سبيل الله‪ ،‬كما‬
‫لبد في هذه المرحلة من كمال الطاعة ولبد من اللتزاما بتحقيق‬
‫الهداف المرسومة‪ ،‬ويمكننا القول بأن طبيعة هذه المرحلة يكمن‬
‫في كلمة واحدة‪ :‬الجهاد‪ ،‬ونعني به‪ :‬الجهاد بكل أنواعه‪ :‬جهاد‬
‫اللسان‪ ،‬وجهاد العمل في كل مجالته‪ ،‬وجهاد قتال أعداء الله‪،‬‬
‫وجهاد المرابطة في سبيل الله‪ ،‬وجهاد الستعداد لكل معركة في‬
‫سبيل الله‪ ،‬وجهاد لكل عمل يتطلبه السلما‪ ،‬ولبد لكل فرد وصل‬
‫إلى هذه المرحلة أن يكون جهده ووقته وماله في سبيل الله)‪.(3‬‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(526 ،1/525‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(1/527‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( فقه الدعوة إلى الله )‪.(532 ،1/531‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪296‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وفي هذه المرحلة تكون الجماعة السلمية القائمة على أمر‬


‫الدعوة السلمية قد اقتفت سنة النبياء والرسل في دعوة المم‪,‬‬
‫فحرصت على غرس اليمان في النفوس وتوطيد العقيدة في‬
‫القلوبا‪ ,‬ففي الحرص على هذا الصل العظيم سعادة للناس في‬
‫الدنيا والخرة‪ ,‬قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ظل القرآن‬
‫المكي ينزل على رسول الله × ثلثة عشر عاما كاملة يحدثه فيها‬
‫عن قضية واحدة ل تتغير‪ ،‬ولكن طريقة عرضها ل تكاد تتكرر‪ ،‬لقد‬
‫كان يعالج القضية الولى‪ ،‬والقضية الكبرى‪ ،‬والقضية الساسية في‬
‫هذا الدين الجديد‪ ،‬قضية العقيدة‪ ،‬ممثلة في قاعدتها الرئيسية‪:‬‬
‫اللوهية والعبودية وما بينهما من علقة‪ ..‬ولم يتجاوز القرآن‬
‫المكي هذه القضية الساسية إلى شيء يقوما عليها من التعريفات‬
‫المتعلقة بنظاما الحياة إل بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما‬
‫استقرارا متينلا ثابتلا في قلوبا‬
‫ل‬ ‫تستحقه من البيان‪ ,‬وأنها استقرت‬
‫العصبة المختارة من بني النسان التي قدر الله أن يقوما هذا‬
‫الدين عليها‪ ،‬وأن تتولى هي إنشاء النظاما الواقعي الذي يتمثل فيه‬
‫هذا الدين«)‪ ،(1‬إن الهتماما بالجانب العقدي والمفهوما اليماني‬
‫وتربية المة عليه ينبغي أن يستمر إلى أن يلقى الله عز وجل‪،‬‬
‫فإنه مهما بلغ النسان من اليمان فإنه ل يستغنى عن التذكير به‬
‫والزدياد منه‪ ،‬ولبد من إعداد القاعدة الصلبة التي تلتحم مع‬
‫الجماهير وتتحرك نحو تطبيق شرع الله‪ ،‬والتمكين لدينه سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬قال سيد قطب رحمه الله وهو يقرر ضرورة إعداد هذه‬
‫القاعدة‪» :‬لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا المنهج‪ «...‬ثم تكلم‬
‫عن سنة البتلء‪ ،‬ثم قال‪» :‬فالتوسع الفقي قبل قياما هذه القاعدة‬
‫خطر ماحق يهدد وجود أية حركة ل تسلك طريق الدعوة الولى‬
‫من هذه الناحية ول تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي‬
‫الذي سارت عليه الجماعة«)‪.(2‬‬
‫وأجمل ذلك في مكان آخر بقوله‪» :‬لقد قامت كل عقيدة‬
‫بالصفوة المختارة ل بالزبد الذي يذهب جفاء ول بالهشيم الذي‬
‫تذروه الرياح«)‪.(3‬‬
‫لبد من الهتماما بتقوية اليمان وتزكية الخلق الفاضلة وكثرة‬
‫الطاعة لله ولرسوله ×‪ ,‬والبعد عن المعصية‪ ,‬والتوعية الكاملة‬
‫والفقه في الدين‪ ,‬ومعرفة مشكلت العصر وحلها‪ ،‬والتدريب‬

‫)( معالم في الطريق‪ ،‬ص)‪.(21 ،20‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/1577‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/1618‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪297‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫العملي على البذل والنفاق‪ ,‬وإيثار الدعوة السلمية بالنفس‬


‫والنفيس‪ ,‬والخلص الكامل‪ ،‬والتجرد لله وحده‪ ،‬وهذا العداد مع‬
‫صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة‬
‫في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها‪ ،‬عواطف‬
‫يظهر أصحابها الطاعة والحب والتفاني في سبيل العقيدة في‬
‫وقت الرخاء‪ ،‬أما وقت الشدة فإنها كالزبد الذي يذهب جفاء‬
‫والهشيم الذي تذروه الرياح)‪.(1‬‬
‫إن بناء القاعدة الصلبة على أسس من منهج أهل السنة‬
‫والجماعة يدخل ضمن الطائفة المنصورة التي تتحرك بهذا الدين‬
‫على جميع الثغرات‪.‬‬
‫ومن صفات الطائفة المنصورة من خلل الحاديث الصحيحة يتضح‬
‫التي‪:‬‬
‫أ‪ -‬أنها على الحق‪:‬‬
‫فهي طائفة من هذه المة تشربت المنهج الرباني الذي هو‬
‫)الحق( وما عداه الباطل‪ ،‬واستقرت على اللتزاما به استقرار‬
‫المتمكن الذي ل يتزحزح‪ ,‬وهي طائفة متخصصة بـ )خصائص‬
‫الفرقة الناجية( أهل السنة والجماعة والتي تحرص أن تكون على‬
‫ما كان عليه رسول الله × وأصحابه‪ ،‬فهي متحققة من العلم‬
‫الصحيح المبني على الدليل الشرعي‪ ،‬ومن عمل القلب وعمل‬
‫الجوارح المواطئ لهذا العلم‪.‬‬
‫وقد تعددت عبارات الحاديث‪ ،‬وتنوعت في بيان أن هذه‬
‫الطائفة تحمل الحق الذي جاء به محمد × وتلتزما به من غير‬
‫تحريف ول تبديل‪ ،‬فجاء الحديث بأنهم )على الحق(‪.‬‬
‫وأنهم »على أمر الله« وأنهم »على هذا المر« وأنهم »على‬
‫الدين«‪.‬‬
‫وهذه اللفاظ تجتمع في الدللة على استقامتهم على الدين‬
‫الصحيح الذي بعث به محمد ×‪ ,‬وقد عبر × عن تمسك الطائفة‬
‫المنصورة بالحق‪ ،‬والدين‪ ،‬والمر بلفظ‪» :‬على« الدال على‬
‫التمكن والستقرار)‪.(2‬‬
‫وللطائفة المنصورة من ملزمة الحق واتباعه ما ليس لسائر‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(1/1618‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪298‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المسلمين‪ ،‬وهي إنما استحقت الذكر والنصر‪ ،‬لتمسكها بالحق‬


‫الكامل حين أعرض عنه الكثرون‪ ،‬ومن الجوانب البارزة في الحق‬
‫الذي استمسكت به حتى صارت طائفة منصورة ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬الستقامة في العتقاد وملزمة ما كان عليه النبي ×‬
‫وأصحابه ومجانبة البدع وأهلها‪ ،‬فهم أصحابا السنة الذين ليس‬
‫لهم اسم يعرفون به وينتمون إليه إل السنة‪ ،‬ل جهمية ول معتزلة‪،‬‬
‫ول غير ذلك من السماء الدالة على البدع والهواء«)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬الستقامة في الهدى والسلوك الظاهر على المنهج النبوي‬
‫الموروث عن الصحابة رضي الله عنهم والسلمة من أسبابا‬
‫الفسق والريبة والشهوة المحرمة‪.‬‬
‫‪ -3‬الستقامة على الجهاد بالنفس والمال‪ ،‬والمر بالمعروف‪،‬‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الحجة على العاملين‪.‬‬
‫‪ -4‬الستقامة في الحرص على توفير أسبابا النصر المادية‬
‫والمعنوية‪ ،‬واستجماع المقومات التي يستنزل المؤمنون بها نصر‬
‫الله‪ ,‬ولشك أنهم إنما ينتصرون لملزمتهم للجادة المستقيمة من‬
‫جهة‪ ،‬ولبذلهم الجهد الواجب في تحصيل أسبابا النصر من جهة‬
‫ثانية‪.‬‬
‫وبذل الجهد في تحصيل تلك السبابا هو ‪-‬في الحقيقة ‪ -‬جزء‬
‫من الستقامة على الشريعة‪ ,‬إذ الشريعة تأمر بفعل السبابا‬
‫واتخاذ الوسائل المؤدية إلى النتائج‪ ،‬بإذن الله‪ ,‬فليس صحيحلا أن‬
‫يقعد المسلم عن استخداما الوسائل المادية الممكنة‪ ،‬من الصناعة‬
‫والسلح والتخطيط‪ ،‬والدارة وغيرها‪ ،‬متوهما أن النصر يجيء‬
‫بدونها لن تحقيق ذلك هو من مقتضيات الستقامة على أمر الله‪.‬‬
‫با‪ -‬أنها قائمة بأمر الله‪:‬‬
‫وهذه الخصيصة بارزة جدا في الوصف النبوي لهذه الطائفة‪،‬‬
‫فهم‪) :‬أمة قائمة بأمر الله( واسمهم‪» :‬الطائفة المنصورة« في‬
‫عدد من الحاديث وقيامهم بأمر الله يعني‪:‬‬
‫‪ -1‬أنهم تميزوا عن سائر الناس بحمل راية الدعوة إلى الله‪،‬‬
‫وإلى دينه‪ ،‬وشرعه وسنة نبيه ×‪ ,‬والقياما على نشر السنة بين‬
‫الناس بكل وسيلة ممكنة مشروعة‪ ،‬ودفع الشبهات عنها‪ ،‬وحمل‬

‫)( انظر‪ :‬العتصاما للشاطبي )‪ ،(1/58‬والنتقاء في فضائل الئمة الثلثة الفقهاء‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫لبن عبد البر‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪299‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الناس عليه ‪ -‬مهما أمكن ذلك ‪ -‬والرد على مخالفيها من الكفرة‬


‫والمرتدين والمارقين والمنافقين والجاهلين‪.‬‬
‫‪ -2‬أنهم قائمون بمهمة المر بالمعروف‪ ,‬والنهي عن المنكر‬
‫باليد‪ ,‬واللسان‪ ،‬والقلب‪ ،‬معارضون لكل انحراف يقع بين‬
‫اقتصاديا‪ ،‬أو‬ ‫ل‬ ‫اجتماعيا‪ ،‬أو‬‫ل‬ ‫المسلمين‪ ،‬أيا كان نوعه‪ :‬سياسيلا‪ ,‬أو‬
‫عمليا‪ ،‬أو اعتقاديلا‪ ،‬فهم »أولو البقية« الذين ينهون عن الفساد في‬ ‫ل‬
‫ر‬
‫الرض وهم الناجون حتى يهلك الظالمون‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬فلي لكوُلل لكاًلن ملنَ‬
‫جيْيلناً رم كنييهكمُ لواًتليبللع اًلرذيلنَ‬ ‫ر‬ ‫ساًرد رفيِ اًللكر ر‬
‫ض إرلل قلليْلح بملمكنَ ألنَ ل ك‬
‫رة‬ ‫رر ر‬
‫اًلكيقيرون منَ قليكبليككمُ يأويلوُ بلقيْلة يلي كنيلهكوُلن لعرنَ اًلكلف ل‬
‫ظلليموُاً لماً أيتكررفيوُاً فريْره لولكاًنَيوُاً يمكجرررميْلنَ" ]هود‪.[116 :‬‬
‫جـ‪ -‬أنها تقوما بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله‪:‬‬
‫وقد جاءت الحاديث النبوية في وصفهم بأنهم‪:‬‬
‫»يقاًتلوُن علىَ اًلحق«)‪.(1‬‬
‫أو »يقاًتلوُن علىَ أمر اًل«)‪.(2‬‬
‫وهذا يبين أنها لم تقف عند حد جهاد الكلمة ببيان‪ ،‬والدعوة‬
‫إليه بالحسنى‪ ،‬أو المر بالمعروف والنهي عن المنكر بين‬
‫المسلمين‪ ،‬بل تميزت ‪-‬مع ذلك ‪ -‬بالقياما بواجب الجهاد الشرعي‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وقتال أعداء الله من الكفار والمنافقين وغيرهم‪.‬‬
‫وهذا يعني استمرار الجهاد والمواجهة العسكرية مع أعداء الله‬
‫يوما القيامة‪ ،‬لن الطائفة القائمة به باقية إلى يوما القيامة)‪.(3‬‬
‫والمقصود أن الجهاد ل ينقطع انقطاعا دائما مستمرا‪ ،‬بل ل‬
‫يزال في المة طائفة منصورة تجاهد في سبيل الله أعداء الله‪،‬‬
‫ولكن هذا ل يعارض ما عوجد ويوجد في بعض المكنة وبعض‬
‫الزمنة من ترك الجهاد‪ ،‬مما أخبر به النبي × وحذر منه‪ ,‬فوقع في‬
‫المة كما أخبر‪ ،‬فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‪ :‬سمعت النبي‬
‫× يقول‪» :‬إذا تبايعتم بالعينة)‪ ,(4‬وأخذتم أذنابا البقر‪ ،‬ورضيتم‬
‫بالزرع‪ ،‬وتركتم الجهاد‪ ،‬سلط الله عليكم ذ عل ّ ل ينزعه حتى ترجعوا‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتابا الجهاد‪ ،‬بابا‪ :‬دواما الجهاد )‪ (3/11‬رقم ‪.2484‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا المارة‪ ،‬بابا‪ :‬قوله × » ‪ (1/1524) «..  ‬رقم ‪.176‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.177‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( العينة‪ :‬هي أن يشتري من رجل سلعة بثمن معلوما مؤجل ثم يبيعها له بأقل من‬ ‫‪4‬‬

‫الثمن‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إلى دينكم«)‪.(1‬‬
‫فقد تترك عامة المة الجهاد في سبيل الله‪ ،‬وتخلد إلى الرض‪،‬‬
‫وتشتغل بالزرع أو غيره من شئون دنياها‪ ،‬وتلهو به عما أخرجت له‬
‫من الجهاد وحربا أعداء الله بالسلح‪ ،‬وعملها على إزالة العوائق‬
‫والعقبات التي تحول دون الجهاد‪ ،‬فإنه إذا وجب عليها القتال‬
‫والحربا لعداء الدين‪ ،‬فقد وجب عليها الستعداد لهذه الحربا‬
‫بكل وسيلة ممكنة‪ ,‬ووجب عليها السعي لزالة الموانع الحائلة‬
‫دون قيامها بالواجب‪ ،‬ما استطاعت إلى ذلك سبيلل‪ ,‬وبجهود هذه‬
‫الطائفة ترجع المة ‪ -‬عامة ‪ -‬إلى الجهاد‪ ،‬وتخوض الغمرات إلى‬
‫أعدائها‪ ،‬حتى ينصرها الله‪ ،‬ويعيد لها عزتها ومجدها وكرامتها‪ ،‬إن‬
‫الجهاد الذي بدأ في عهد الرسول × ل ينتهي حتى آخر الدهر‪،‬‬
‫قبيل قياما الساعة‪ ،‬والطائفة التي أكرمها الله تعالى بحمل الراية‬
‫جيل بعد جيل‪ ،‬ورعيل بعد رعيل‪ ،‬هي الطائفة المنصورة القائمة‬
‫بأمر الله)‪.(2‬‬
‫د‪ -‬أنها المجددة للمة أمر دينها‪:‬‬
‫إن التجديد لهذا الدين هو الخط المقابل للغربة‪ ،‬والمجددون‬
‫هم الذين يدافعون غربة الدين‪ ،‬ويدفعونها‪ ،‬ويحيون ما اندرس‬
‫من الشرائع وهي بذلك تعمل على إحياء الدين‪ ،‬وتجديده‪ ،‬ودفع‬
‫الغربة عنه وعن أهله‪ ,‬وتتضاعف مسئولياتها وتعظم كلما ازداد‬
‫الشر والفساد في المة‪ ،‬واستفحل وتضاعف‪ ،‬فـ »التجديد إنما‬
‫يكون بعد الدروس وذاك هو غربة السلما«)‪.(3‬‬
‫وكما وعد رسول الله × بطائفة منصورة ظاهرة قائمة بأمر‬
‫الله إلى قياما الساعة‪ ،‬فقد وعد وعدا خاصا مندرجا في هذا الوعد‬
‫العاما‪ ،‬وهو البشارة ببعثة من يجدد لهذه المة أمر دينها‪ ،‬فعن أبي‬
‫هريرة ‪ ×    ‬قال‪» :‬إن الله يبعث لهذه المة على رأس‬
‫كل مائة سنة من يجدد لها دينها« )‪.(4‬‬
‫ولفظ )من( في الحديث يطلق على الفرد‪ ،‬وعلى الجماعة‪،‬‬
‫فيحتمل المعنى أن يكون المبعوث فردا‪ ،‬ويحتمل أن يكون جماعة‬
‫أو طائفة‪ ،‬فإن كان المجدد فردا‪ ،‬فلبد أنه من الطائفة المنصورة‪،‬‬
‫وهذا مما ل يحتاج إلى بيان‪ ,‬وإن كانت مهمة التجديد موكولة إلى‬
‫)( أبو داود‪ ،‬كتابا البيوع‪ ،‬بابا‪ :‬النهي عن العينة )‪ (3/740‬رقم ‪.3462‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.182 ،181‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الفتاوى لبن تيمية )‪.(18/297‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتابا الملحم‪ ،‬بابا‪ :‬ما يذكر في قرن المائة )‪ (4/280‬رقم ‪291‬‬ ‫‪4‬‬

‫إسناده صحيح‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فئة‪ ،‬فهي الطائفة المنصورة ‪ -‬بل ريب ‪ -‬وذلك لن خصائص هذه‬


‫الطائفة هي الخصائص التي يحتاج إليها في تجديد الدين لهذه‬
‫المة‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬أي‪ :‬التجديد ‪ -‬قد يكون بفرد‪ ،‬وقد يكون بطائفة وكونه‬
‫بطائفة أغلب وهو ما رجحه الحافظ ابن حجر)‪ (1‬حيث قال‪» :‬ل‬
‫يلزما أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط‪ ،‬بل يكون المر‬
‫فيه ذكر في الطائفة وهو متجه‪ ,‬فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى‬
‫تجديدها ل ينحصر في نوع من أنواع الخير‪ ،‬ول يلزما أن جميع‬
‫خصال الخير كلها في شخص واحد إل أن يدعي ذلك في عمر بن‬
‫عبد العزيز‪ ،‬فإنه كان القائم بالمر على رأس المائة الولى‪،‬‬
‫باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها‪ ،‬ومن ثم أطلق أحمد‬
‫أنهم كانوا يحملون الحديث عليه‪ ،‬وأما من جاء بعده‪ ،‬فالشافعي‬
‫وإن كان متصفا بالصفات الجميلة‪ ،‬إل أنه لم يكن القائم بأمر‬
‫الجهاد والحكم بالعدل‪ ،‬فعلى هذا‪ ،‬كل من كان متصفا بشيء من‬
‫ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أما ل«)‪ .(2‬وهناك‬
‫مجموعة من آراء الئمة تلتقي حول هذا الرأي كابن الثير‬
‫الجزري)‪ ،(3‬وابن كثير وغيرهما‪ ،‬ومن البديهي أن المجدد لهذا‬
‫الدين ‪ -‬لو كان فردا ‪ -‬ل يخرج من فراغا‪ ،‬ول يستطيع بمفرده ‪-‬‬
‫بحال من الحوال ‪ -‬أن يجدد الدين ‪ -‬كل الدين‪ -‬للمة ‪ -‬كل المة‪.-‬‬
‫إن من الواضح أن مثل هذا العمل الجبار التاريخي ل يضطلع‬
‫بمباشرة كل جوانبه فرد واحد‪ ،‬بل يحتاج إلى طائفة تتولى التجديد‬
‫في كل جوانب الحياة النسانية‪ ،‬فيكون منهم شجعان مقاتلون‪،‬‬
‫ومنهم فقهاء ومنهم محدثون‪ ،‬ومنهم زهاد‪ ،‬وآمرون بالمعروف‬
‫وناهون عن المنكر‪ ،‬ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير‪ ،‬ول يلزما‬
‫)‪(4‬‬
‫أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الرض ‪.‬‬
‫هـ‪ -‬أنها ظاهرة إلى قياما الساعة‪:‬‬
‫وقد وصفت الحاديث النبوية الكريمة هذه الطائفة بكونها‬
‫ظاهرة على الحق إلى يوما القيامة‪ ,‬وكلمة الظهور تشتمل على‬
‫عدة معان فيما يبدو‪:‬‬
‫‪ -1‬بمعنى الوضوح والبيان‪ ،‬وعدما الستتار‪ ،‬فهم معروفون‬
‫)( هو أ حمد بن علي بن محمد العسقلني أبو الفضل )ت ‪852‬هـ( انظر‪ :‬العلما )‬ ‫‪1‬‬

‫‪.(179 – 1/178‬‬
‫)( فتح الباري‪ ،‬كتابا العتصاما‪ ،‬بابا‪» :‬ل تزال طائفة‪ (13/12) «...‬رقم ‪.7312‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو أبو السعادات مبارك بن محمد بن الثير توفي عاما ‪606‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬جامع‬ ‫‪3‬‬

‫الصول‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.187‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪302‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بارزون مستعلون‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬في الجملة ‪ -‬وصف صحيح لهذه الطائفة‪ ،‬لن تصديقها‬
‫للدعوة‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد وإقامة الحجة‪،‬‬
‫يعني أنها ظاهرة‪ ،‬مشهورة‪ ,‬ولها مؤسساتها وأجهزتها ووسائلها‬
‫المعروفة‪ ،‬وقياما هذه الطائفة بواجب البلغا والدعوة‪ ،‬وحربا المنكر‪،‬‬
‫وقتال العداء‪ ،‬يقتضي أن تكون ظاهرة غير مستترة‪ ،‬حريصة على‬
‫التبليغ لصوت الحق لكل مسلم‪ ،‬بل ولكل إنسان وإن كان هذا ل يمنع‬
‫أن يستخفي بعض أفرادها بإسلمهم‪ ,‬أو بدعوتهم لملبسات خاصة‬
‫في مكان معين‪ ،‬وزمان معين‪ ،‬فالعبرة بالطائفة جملة‪ ،‬ل ببعض‬
‫أجزائها‪ ،‬أو بعض أفرادها‪ ،‬والعبرة بالحال العاما المستمر الثابت‪ ،‬ل‬
‫بالحال المؤقت الطارئ‪.‬‬
‫‪ -2‬ثباتهم على ما هم عليه من الحق والدين‪ ،‬والستقامة‪،‬‬
‫والقياما بأمر الله‪ ،‬وجهاد أعدائه‪ ،‬بحيث ل يثنيهم عن ذلك شيء‬
‫من العقبات والعوائق والمثبطات‪ ،‬وغلبتهم بالحجة والبيان‬
‫وسيطرة منطقهم على العقول والقلوبا‪ ،‬لما يعتمد عليه الحق‬
‫الصريح المقتبس من الكتابا والسنة‪ ،‬وهذا يدعو إلى اتباعهم‬
‫وموافقتهم‪ ،‬فالحق غلبا والباطل خلبا‪ ،‬وكلما كانت هذه الطائفة‬
‫أوسع علما‪ ،‬وأعظم فهما للوحي‪ ،‬وأكثر إدراكا لثقافة عصرها‪،‬‬
‫وأقدر على التعبير عن منهجها‪ ،‬كانت حجتها أغلب‪ ،‬وطريقتها‬
‫أصوبا)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬الظهور بمعنى الغلبة‪ ،‬وقد دلت النصوص على هذا المعنى‬
‫أوضح دللة‪ ،‬فقد وصفوا في الحاديث بكونهم ظاهرين‪ ،‬ول شك‬
‫أن الظهور يأتي كثيرا بمعنى الغلبة والتمكن والعلو والظفر‪ ،‬كما‬
‫في قوله تعالى‪+:‬يهلوُ اًلرذيِ ألكرلسلل لريسوُلهي براًلكيهلدىَ لورديرنَ اًلكلحبق لريْيظكرهلرهي لعللىَ اًلبديرنَ يكلبره"‬
‫صبليحوُاً لظاًرهرريلنَ"‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫]التوبة‪ .[33 :‬وكما قال تعالى‪+ :‬فلأليلكدلنَاً اًلذيلنَ آلمنيوُاً لعللىَ لعيدبوهكمُ فلأل ك‬
‫]الصف‪.[14 :‬‬
‫ل لويهكمُ لكاًريهوُلن" ]التوبة‪.[48 :‬‬ ‫وقوله ‪+‬حلتىَ جاًء اًلكحمق وظللهر ألكمر اً ر‬
‫ل لل ل ل ل ي‬
‫وقوله‪+ :‬إرنَلييهكمُ رإن يلظكلهيرواً لع لكيْيككمُ يليكريجيموُيككمُ ألكو ييرعيْيدويككمُ رفيِ رم لتررهكمُ" ]الكهف‪.[20 :‬‬
‫وقد أكد إرادة هذا المعنى مجيء روايات أخرى تكاد أن تكون‬
‫صريحة في ذلك‪ ،‬كقوله‪» :‬ظاًهرينَ لعدوهمُ«)‪.(2‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا المارة بابا قوله ×‪» :‬ل تزال طائفة‪ (3/1524) «...‬رقم ‪.176‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪303‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وقوله‪» :‬ظاًهرينَ علىَ منَ نَاًوأهمُ«)‪.(1‬‬


‫وقوله‪» :‬لعدوهمُ قاًهرينَ«)‪.(2‬‬
‫ولشك أن هذا وعد رباني على لسان محمد ×‪ ,‬وليس يشك‬
‫مسلم في ثبوته وتحققه ووقوعه‪ ،‬خاصة وأصل الحديث ثابت متواتر‬
‫كما سبق‪ ،‬وهو يشمل الغلبة والقهر بالحجة‪ ،‬ويشتمل الغلبة المادية‬
‫والنصر في القتال‪ ،‬ويجوز أن تكون معاني الظهور السابقة ‪ -‬كلها ‪-‬‬
‫واردة وصحيحة‪ ,‬فتكون الطائفة المنصورة ظاهرة معلنة غير مستترة‪،‬‬
‫وظاهرة على الدين بالثبات عليه والتمكين منه‪ ،‬وظاهرة على عدوها‬
‫بالحجة والبيان وبالقوة والسنان)‪.(3‬‬
‫و‪ -‬أنها صابرة‪:‬‬
‫صبلييرواً لولكاًنَيوُاً ربآِلياًترلناً ييوُقرينوُ ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ن"]السجدة‪:‬‬ ‫قال تعالى‪+:‬لولجلعكللناً م كنييهكمُ ألئلمةح يليكهيدولن برألكمررلنَاً للماً ل‬
‫‪.[24‬‬
‫ك اًلرذيلنَ لل ييوُقرينوُلن"]الروما‪.[60 :‬‬
‫ل لحوق لولل يلكستلرخلفنل ل‬
‫صبرر إرلن وكعلد اً ر‬
‫قال تعالى‪+ :‬لفاً ك ك ل‬
‫فقد خص الله الطائفة المنصورة من الصبر بخصيصة ليست‬
‫لغيرهم‪ ,‬فهم في هذا الخضم العنيف في الصراع بين الحق والباطل‬
‫يتسلحون بالصبر الجميل ويتحملون الشدائد والمصاعب من أذى‬
‫الكافرين والمنافقين والفاسقين والمخالفين عن سمته وطريقه‬
‫المستقيم‪ ،‬فل تستطيع القوة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم‬
‫وهدفهم الذي يسعون إليه‪ ،‬ولهذا وصف الرسول × هؤلء القوما‬
‫بأنهم‪» :‬ل يضرهم من كذبهم ول من خالفهم«)‪.(4‬‬
‫»ل يضرهم من خذلهم« )‪.(5‬‬
‫»ول يبالون من خالفهم« )‪.(6‬‬
‫وهذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى أن هؤلء العاملين‬
‫الذين عرفوا أهدافهم وسلكوا طريقهم‪ ،‬فلم ينظروا إلى خلف‬
‫المخالفين وعوائق المخذلين‪ ،‬ول تكذيب العداء الحاقدين‪ ،‬وكانوا‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتابا الجهاد‪ ،‬بابا‪ :‬دواما الجهاد‪ ،‬رقم )‪.(3/11) (2484‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الطبراني )الكبير( ترجمة أبي أمامة رقمها ‪.(8/171) 736‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.194 ،193‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا التوحيد‪ ،‬بابا‪ :‬قول الله تعالى‪+ :‬إرنَللماً قليكوُليلناً" الية )‪(8/189‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا المارة‪ ،‬بابا‪ :‬قول النبي ×‪» :‬ل تزال طائفة‪ (3/1523) «..‬رقم‬ ‫‪5‬‬

‫‪.170‬‬
‫)( رواه سعيد بن منصور‪ ،‬كتابا الجهاد‪ ،‬بابا‪ :‬من قال‪ :‬الجهاد ماض‪ ،‬رقم ‪2376‬‬ ‫‪6‬‬

‫وله طرق تقويه‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يواجهون كل المتاعب بصبر وثبات ويقين)‪.(1‬‬


‫هذه أهم الصفات التي جاءت في الحاديث النبوية لوصف‬
‫الطائفة المنصورة والتي تسعى لتحقيق شرع الله تعالى‪ ,‬فعلى‬
‫الجماعات السلمية أن تعمل على تربية أتباعها على هذه‬
‫الصفات الجميلة والتي هي من أسبابا النصر والتمكين الرباني‪.‬‬
‫إن القيادات السلمية التي تنهج منهج أهل السنة والجماعة‬
‫حريصة على صلة بعضها وخصوصا من يصل منهم إلى مرحلة‬
‫المغالبة حيث لبد أنه يحتاج إلى إخوانه حتى يعينوه على تحقيق‬
‫أهدافه‪.‬‬
‫إن تكالب العداء من أمم الكفر على أمتنا مزقها وحطم أخلقها‬
‫وهتك أعراضها‪ ،‬واستولوا على بلد المسلمين ونهبوا ثرواتهم‬
‫وخيراتهم‪ ،‬فهذه المصائب الجساما توجب على أهل السنة‪ ,‬ومن‬
‫اتصف بصفات الطائفة المنصورة أن يتعارفوا على إخوانهم من بلدان‬
‫شتى ويتعاونوا مع بعضهم في طريق العمل والدعوة والجهاد‪ ،‬فلبد‬
‫م الدعوة والجهاد من أهل السنة‬ ‫من تعارف وتعاون من يحملون ه ز‬
‫حتى تتوحد الجهود نحو تحقيق الهداف‪.‬‬
‫ويأتي دور العلماء الربانيين والقادة المخلصين في تنسيق‬
‫الجهود وتحقيق معنى النتسابا للطائفة المنصورة المجاهدة‪،‬‬
‫بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وتعلم العلم الشرعي‬
‫المبني على الدليل من الكتابا والسنة في مجال العتقاد‬
‫والحكاما والسلوك‪ ،‬والستعداد الدائم لتجاوز الخطاء وتصحيحها‪،‬‬
‫والتخلي عن كل ما ينافي حقيقة هذا النتسابا الشريف‪ ،‬ومن‬
‫الراء والقوال والخلق وغيرها‪ ،‬وهذا ل يتم إل في جو من الفرح‬
‫والغبطة بالنقد الصحيح‪ ،‬وترك أسلوبا التزكية المطلقة للقوال‬
‫والعمال والشخاص والجماعات‪ ،‬والسعي الدائم لتعديل المناهج‬
‫والمسالك على وفق الحق الذي تقتضيه شريعة الله‪ ,‬ويدل عليه‬
‫النص من القرآن والسنة‪ ،‬ووضع المسائل والقضايا في موقعها‬
‫الصحيح الذي تقتضيه الحكمة)‪.(2‬‬
‫وعلى القيادة الصالحة التي تقود العمل السلمي في بلد ما‬
‫ووصلت إلى مرحلة المغالبة أن تحرص على توثيق التعاون مع‬
‫القائمين على أمر الدعوة في بلدهم وغيرها من القطار‬
‫السلمية‪ ,‬ولبد من تنسيق الجهود‪ ،‬بحيث يكمل بعضها بعضا‪ ،‬ول‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.205‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬من وسائل دفع الفرية للشيخ سلمان العودة‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪305‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تتناقض ول تتعارض‪ ،‬والتعاون واجب شرعي‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬


‫‪+‬لوتليلعاًلونَيوُاً لعللىَ اًكلببر لواًلتليكقلوُىَ" ]المائدة‪.[2 :‬‬
‫والتعاون ثمرة من ثمار التعارف بين العاملين في الدعوة‬
‫السلمية ممن حرصوا أن يكونوا ضمن كتائب التغيير السلمي‪،‬‬
‫وثمرة من توحيد منهج السير المنضبط بالدليل الشرعي من‬
‫الكتابا والسنة‪ ،‬وبذلك تجتمع القلوبا وتزول أسبابا الخلف التي‬
‫ينفذ منها الشيطان وجنوده من النس والجن لزرع الفرقة‬
‫والشتات بين المسلمين‪ ,‬ويكلل هذا وهذا بالتآزر والتعاون‬
‫والتناصر‪ ،‬لتجتمع قدرات المسلمين وتتوحد في مواجهة المحن‬
‫والشدائد المتمثلة في التحديات الكبيرة التي يزخر بها العصر‪,‬‬
‫ولتتناوبا فئاتها في القياما بفروض الكفاية التي اضطلعت بها‪،‬‬
‫وشرفها الله لتحمل القياما بها من بين المسلمين‪ ،‬فتقوما كل فئة‬
‫بما تعجز عنه الخرى فالتعاون والتناصر يجعل الصف السلمي‬
‫أقوى في إمكاناته وقدراته‪ ،‬وأقدر على الستفادة من الفرص‬
‫المتنوعة التي تختلف بين مكان وآخر‪ ,‬وزمان وآخر‪ ،‬وأكثر دقة في‬
‫توزيع المهمات والواجبات وتوظيف الجهود والقدرات نحو‬
‫الهدف المنشود)‪.(1‬‬
‫فعلى الجماعة السلمية التي تربت على منهج أهل السنة‬
‫وتصورا‪ ،‬عبادة‬
‫ل‬ ‫فكرا‬
‫ل‬ ‫وأخلقا‪،‬‬
‫ل‬ ‫وفروعا‪ ،‬عقيدة‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫أصول‬ ‫والجماعة‬
‫ومعاملة‪ ،‬وحرصت أن تتصف بصفات الطائفة المنصورة‪ ,‬وجهزت‬
‫كوادرها المتنوعة ووصلت إلى مرحلة المغالبة أن تقود هذه‬
‫المرحلة بكل دقة وإحكاما‪ ،‬وتخطيط وإتقان مستعينة بالواحد‬
‫الديان‪ ,‬وأن تستوعب الجانب العملي الحركي في السلما وأن‬
‫تقود حركة الجهاد الشاملة وفق أحكاما الشريعة‪.‬‬
‫وأن تحسن إنزال أنواع الجهاد في ميادينها لسد الثغرات‬
‫المتنوعة وأن هذه النواع في مجموعها متكاملة‪ ،‬يقود بعضها إلى‬
‫بعض‪ ,‬وكل واحد مشروع لتحقيق الهدف السمى لدعوة السلما‪،‬‬
‫وهو تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى في‪:‬الفراد والجماعات‬
‫والمجتمعات‪ ،‬وفي داخل النفس وخارجها)‪ ،(2‬غي أن كل منها‬
‫يتعامل مع صنف آخر من العداء الذين يصدون عن تحقيق ذلك‬
‫الهدف‪ ،‬فيزيحه من الطريق أو يحد من فاعليته‪ ،‬والكل يلتقي عند‬
‫جعل العبودية خالصة لله تعالى‪ ،‬ورفع كلمة الله سبحانه في‬
‫الرض‪ ،‬وجعلها هي العليا‪ ،‬بأن تكون هي المرجع الوحيد للبشرية‬
‫)( المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجهاد ميادينه وأساليبه‪ ،‬د‪ .‬محمد نعيم ياسين‪ ،‬ص ‪.235‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪306‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫في جميع نشاطاتها‪ ,‬ومن هنا كان لكل نوع من تلك النواع أهميته‬
‫الخاصة وكانت حاجة المؤمنين إلى ممارسة كل منها حاجة ماسة‪.‬‬
‫والجماعة السلمية الواعية والتي تسعى أن يكون المجتمع‬
‫وربانيا لبد أن تجاهد في الله حق جهاده‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ل‬ ‫إسلميا‬
‫ّ‬
‫‪+‬لولجاًرهيدواً فيِ اًل لحلق جلهاًده" ]الحج‪ [78 :‬وحق الجهاد هو التصدي لكل عدو‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫يقف أماما دعوة الله‪ ،‬وممارسة جميع النواع الجهادية بكل حكمة‬
‫وعقل ورزانة‪ ,‬وتقدير للمصالح والمفاسد‪ ,‬ومعرفة تامة لمقاصد‬
‫الشريعة والموازنة بين أفضل المصلحتين وأقل الضررين بحيث‬
‫تسد كل الثغور‪ ،‬ويسد المجال أماما كل عدو‪ ،‬وهذه صفة من‬
‫الصفات الربانية اللزما ظهورها في الصف المتحرك لتمكين شرع‬
‫الله والذي يذبا ويجاهد من أجل هذا الدين‪.‬‬
‫لقد جاءت اليات القرآنية والحاديث النبوية‪ ،‬والرشادات‬
‫الفقهية تبين فضل الجهاد وضرورته وأنواعه‪.‬‬
‫والواقع العملي يدلنا على أن أشكال الجهاد مرتبطة بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬فجهاد النفس هو في حقيقته‪ ،‬أصل تلك النواع جميعلا‪،‬‬
‫وهي متفرعة عنه ومعتمدة عليه‪ ،‬فهو بذرتها‪ ،‬وهو شرطها‪ ،‬وهو‬
‫عدتها‪ ،‬يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ولما كان جهاد أعداء الله‬
‫في الخارج فرعا عن جهاد العبد نفسه في ذات الله‪ ،‬كما قال‬
‫النبي ×‪» :‬المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله‪ ,‬والمهاجر من‬
‫مقدما على جهاد‬
‫ل‬ ‫هجر ما نهى الله عنه« )‪ .(1‬كان جهاد النفس‬
‫العدو في الخارج وأصل له‪ ،‬فإنه من لم يجاهد نفسه أول‪ ،‬لتفعل‬
‫ما عأمرت به‪ ،‬وتترك ما عنهيت عنه‪ ،‬ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد‬
‫عدوه في الخارج «)‪.(2‬‬
‫‪ -‬وأما جهاد الشيطان فهو ضروري للتمكين من جهاد النفس‪،‬‬
‫وجهاد أعداء الله في الخارج‪ ،‬لن الشيطان عدو يثبط النسان عن‬
‫جهاد نفسه وجهاد الكفار والمنافقين والفاسقين‪ ،‬ولبد للعبد من‬
‫جهاده والتغلب عليه إذا أراد أن يتغلب على شهوات نفسه‪ ،‬وعلى‬
‫كل عدو يصد عن سبيل الله‪ :‬يقول ابن القيم بيانا لهذا المعنى بعد‬
‫أن بين أهمية جهاد النفس وجهاد أعداء الله في خارج النسان‪:‬‬
‫»وبينهما عدو ثالث ل يمكنه جهادهما إل بجهاده‪ ،‬وهو واقف بينهما‬
‫يثبط العبد عن جهادهما‪ ،‬ويخذله ويرجف به‪ ،‬ول يزال يخيل له ما‬
‫في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ‪ ،‬وفوت اللذات‬
‫)( زاد المعاد )‪.(2/38‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬أمور الدين )‪ (1/10‬رقم ‪.10‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪307‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والمشتبهات‪ ,‬ول يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إل بجهاده‪ ،‬فكان‬


‫جهاده هو الصل وهو الشيطان‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬إرلن اًل ل‬
‫شكيْلطاًلن ليككمُ لعيدو‬
‫لفاًتلرخيذوهي لعيدقواً" ]فاطر‪ [6 :‬والمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغا‬
‫الوسع في محاربته ومجاهدته‪.(1) «..‬‬
‫وأما جهاد الكفار والمنافقين وأهل المنكر فهو مشتمل على‬
‫جميع أنواع الجهاد‪ ،‬لنه جهاد النفس على التضحية باللذة العاجلة‬
‫في سبيل السعادة البدية‪ ،‬وهو في حقيقته مشتمل على جميع‬
‫أنواع العبادات الباطنة والظاهرة‪ ،‬فهو مشتمل على محبة الله عز‬
‫وجل والخلص له والتوكل عليه‪ ،‬وتسليم النفس والمال له‬
‫سبحانه‪ ,‬والصبر والزهد وغيرها«)‪ ،(2‬وكذلك جهاد الشيطان الذي‬
‫يزين القعود ويمني بالسلمة إل أنه من الجدير بالذكر أن هذا ل‬
‫يعني تساوي الجهاد وأشكاله من حيث الجر والفضل عند الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫والمعيار في ذلك أشارت إليه اليات والحاديث هو مقادير‬
‫التضحية التي يقدمها المؤمن في سبيل الله تعالى‪ ,‬فمن كان أشد‬
‫تضحية كان أفضل عند الله عز وجل وأثقل في ميزانه سبحانه‬
‫لدللته على قوة اليمان بالله‪ ،‬وشدة الثقة بما عنده‪ .‬ولشك في‬
‫أن التضحية بالنفس هي أعلى أنواع التضحية وأكرمها عند الباري‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬إذ أثمن ما يملك العبد نفسه‪ ،‬وهي أصل كل ثمين‪،‬‬
‫ومرجع كل لذة في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬فمن ضحى بها فقد بذل كل‬
‫ما يملك‪ ،‬ولم يستبق لنفسه شيئا‪ ،‬وإنما قدمها في سبيل ربه‪ ،‬فإن‬
‫كانت نيته خالصة لله تعالى‪ ،‬كان أكرما الشهداء عند ربا العباد‪،‬‬
‫ضلرر لواًلكيملجاًرهيدولن فيِ‬
‫ر‬ ‫غيْيير يأورليِ اًل ل‬ ‫ر‬ ‫ر ر‬
‫ولذلك قال تعالى‪+ :‬لل يلكستلروُيِ اًلكلقاًعيدولن ملنَ اًلكيمكؤمرنيْلنَ لك‬
‫ضلل اًلي اًلكيملجاًرهرديلنَ برألكملوُاًلررهكمُ لوألنَكييفرسرهكمُ لعللىَ اًلكلقاًرعرديلنَ لدلرلجةح لويكلق لولعلد‬
‫ل برألكملوُاًلررهكمُ لوألنَكييفرسرهكمُ فل ل‬
‫سربيْرل اً ر‬
‫ل‬
‫ضلل اًلي اًلكيملجاًرهرديلنَ لعللىَ اًلكلقاًرعرديلنَ ألكجحراً لعرظيْحماً" ]النساء‪ .[95 :‬وقال عز‬ ‫اًلي اًلكيحكسلنىَ لوفل ل‬
‫ل لواًلكيْليكوُرم اًللرخرر لولجاًلهلد رفيِ‬
‫ج ورعماًرلة اًلكمسرجرد اًلكحراًرم لكمنَ آمنَ رباً ر‬
‫لل ل ك ل ل‬
‫ر‬
‫وجل‪+ :‬أللجلعكلتيكمُ سلقاًيلةل اًلكلحاً ب ل ل ل ل ك‬
‫ل لواًلي لل يليكهرديِ اًلكلقكوُلم اًللظاًلررميْلنَ ‪ ‬اًلرذيلنَ آلمنيوُاً لولهاًلجيرواً لولجاًلهيدواً رفيِ‬ ‫ل لل يستليوُولن رعكنلد اً ر‬ ‫سربيْرل اً ر‬
‫لك ي‬ ‫ل‬
‫ك يهيمُ اًلكلفاًئيزولن" ]التوبة‪.[20 ،19 :‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫لسبيْرل اًل بألكملوُاًلهكمُ لوألنَكييفسهكمُ ألكعظليمُ لدلرلجةح عكنلد اًل لويأولئ ل‬ ‫ر‬
‫ضل رسول الله × الجهاد بالنفس على الحج‪ ،‬وجعله‬ ‫ولذلك ف ز‬

‫)( زاد المعاد )‪.(2/38‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪308‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بعد اليمان)‪ ،(1‬ففي الصحيحين عن النبي × أنه سئل‪ :‬أي العمال‬


‫أفضل؟ قال‪» :‬إيمان بالله ورسوله‪ ،‬ثم جهاد في سبيله« قيل‪ :‬ثم‬
‫ماذا؟ قال‪» :‬ثم حج مبرور« )‪.(2‬‬
‫وقد روى الماما مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي ‪ ‬‬
‫‪ × ‬قال‪» :‬رباط يوما وليلة في سبيل الله خير من صياما شهر‬
‫مرابطا مات مجاهدلا‪ ،‬وأجرى عليه رزقه من‬ ‫ل‬ ‫وقيامه‪ ،‬ومن مات‬
‫)‪(3‬‬
‫الجنة وأمن الفتان« ‪ ،‬ولذلك أجمع العلماء على أن المقاما في‬
‫ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلثة‪ ،‬لن‬
‫الرباط هو في الواقع‪ ،‬نوع من التضحية بالنفس أو الستعداد‬
‫لها)‪.(4‬‬
‫إن مرحلة المغالبة لبد لفرادها أن يكونوا قد استوعبوا مفهوما‬
‫الجهاد بعمومه وأن تكون كافة الكوادر في جميع المجالت‬
‫مستعدة للتحرك نحو تولي أمور الحكم وتحكيم شرع الله تعالى‪،‬‬
‫والتمكين لدينه‪.‬‬
‫إن حركة المسلمين في مرحلة المغالبة تهز عروش الطغاة‪،‬‬
‫وكلما قطعت الدعوة مرحلة من مراحلها ازداد فزع الظلمة‬
‫واقتربت نهاية الحكاما الجاهلية‪.‬‬
‫إن سهاما الدعاة موجهة إلى أسس تقوما عليها عروش‬
‫الطغاة‪ ,‬ومن أهم هذه السس التي تسعى الدعوة إلى نزعها‪:‬‬
‫‪ -1‬نزع مقاليد الحكم من أيديهم‪:‬‬
‫حتى تقف رغباتهم وأهواؤهم التي يمضونها بواسطة القوة‬
‫والسلح ويعذبون الناس‪ ،‬بل يقتلونهم من أجل أهوائهم‪ ،‬وكفرهم‬
‫سلحلرةي يسلجحداً لقاًليوُاً آلملناً‬ ‫كما فعل فرعون مع السحرة‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬فلأيلكرقليِ اًل ل‬
‫سكحلر فلليقلطبلعلنَ‬ ‫ب لهاًيرولن لويموُلسىَ ‪ ‬لقاًلل آلمكنتيكمُ لهي قليكبلل ألكن لآلذلن ليككمُ إرنَلهي للكبريْيريكيمُ اًلرذيِ لع للميكيمُ اًل ب‬
‫برلر ب‬
‫شمد لعلذاًحباً لولأبكيلقىَ" ]طه‪:‬‬ ‫صبلبلينليككمُ رفيِ يجيذورع اًلنلكخرل لوللتليكع ليملنَ أليميلناً أل ل‬ ‫ر ة‬ ‫ر‬
‫أليكديليككمُ لوألكريج ليكمُ بمكنَ خللف لولي ل‬
‫‪.[71 ،70‬‬
‫فلو لم تكن مقاليد الحكم بيد فرعون ما كان ليقدما على هذا‬
‫الفعل الشنيع‪ ,‬وهكذا كل الفراعنة لول أن القوة بأيديهم ما‬
‫استطاعوا أن يفرضوا باطلهم ويمنعوا الناس‬
‫فتح القدير للشوكاني )‪.(4/277‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري‪،‬كتابا الحج‪ ،‬بابا فضل الحج المبرور )‪ (2/172‬رقم ‪.1519‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مسلم‪،‬كتابا المارة‪ ،‬بابا فضل الرباط )‪ (1/1520‬رقم ‪.1913‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الجهاد ميادينه وأساليبه‪ ،‬د‪ .‬محمد ياسين‪ ،‬ص ‪.238‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪309‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من الحق‪.‬‬
‫‪ -2‬تحرير الناس من عبودية المناهج الكفرية وعبادة الحكاما‪:‬‬
‫الذين يضعون مناهج عقدية وسياسية واجتماعية واقتصادية‬
‫وعسكرية لتحقيق هدف واحد لهم‪ ،‬وهو إخضاع الناس عن طريق‬
‫الترغيب والغراء وعن طريق الترهيب واليذاء‪ ،‬ويستعين الحكاما‬
‫في تحقق هذه الهداف الخبيثة بأصحابا النفوس المريضة الذين‬
‫يبجلون الحكاما ويسعون لمرضاتهم من أجل مال زائل وجاه خادع‬
‫وحظوة مذمومة‪ ,‬ويحرص الحكاما على هذه الطبقة الذليلة‬
‫فيقدمون لهم ما يريدون من جاه ومال وسلطة قال ابن تيمية ‪-‬‬
‫رحمه الله ‪) :-‬وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الرض قلبه رقيق‬
‫لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم‪ ،‬فهو‬
‫في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الموال والوليات ويعفو‬
‫عنهم ليطيعوه ويعينوه‪ ،‬فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي‬
‫الحقيقة عبد مطيع لهم‪ ،‬والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للخر‪،‬‬
‫وكلهما تارك لحقيقة عبادة الله وإذا كان تعاونهما على العلو في‬
‫الرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع‬
‫الطريق‪ ,‬فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه‬
‫يستعبده الخر«)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬القضاء على القوانين والنظمة التي شرعوها لتخدما‬
‫أهواءهم‪:‬‬
‫والتي جعلوها بكيفية تجد لهم ما يريدون وتحريم ما ل‬
‫يشتهون‪،‬وتمكنهم من العتداء على النفوس والعراض والموال‪.‬‬
‫إن الطغاة ل يطيقون أن يقف أماما رغباتهم وأهوائهم أي‬
‫ة‬ ‫ر‬
‫قانون‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لوإرللىَ لمكديللنَ أللخاًيهكمُ يشلعكيْحباً لقاًلل لياً قليكوُم اًكعبييدواً اًلل لماً ليكمُ بمكنَ إله لك‬
‫غيْييرهي‬ ‫ر‬
‫ب يليكوُةم مرحيْةط ‪ ‬لولياً قليكوُرم ألكوفيوُاً‬ ‫ف لع لكيْيككمُ لعلذاً ل‬ ‫صوُاً اًلكرمككليْاًلل لواًلكرميْلزاًلن إربنَيِ أللراًيككمُ برلخكيْةر لوإربنَيِ أللخاً ي‬
‫لولل لتنيق ي‬
‫ل‬‫ت اً ر‬ ‫ض يمكفرسرديلنَ ‪ ‬بلرقيْل ي‬ ‫س ألكشليْاًءليهكمُ لولل تليكعثليكوُاً رفيِ اًللكر ر‬ ‫ر ر ر ر‬ ‫ر‬
‫سوُاً اًللناً ل‬
‫اًلكمككليْاًلل لواًلكميْلزاًلن باًلكقكسط لولل تليكبلخ ي‬
‫ك تلأكيميرلك لأن نَل كيتييرلك لماً يليكعبييد‬ ‫ر ر ة‬ ‫رر‬ ‫لك ل ر‬
‫صلتي ل‬ ‫ب أل ل‬ ‫خيْيرر يككمُ إن يككنيتمُ مكؤمنيْلنَ لولماً أللنَاً لع لكيْيككمُ بلحفيْظ ‪ ‬لقاًليوُاً لياً يشلعكيْ ي‬
‫ت اًلكلحرليْيمُ اًللررشيْيد" ]هود‪.[87 -84 :‬‬ ‫ك للنَك ل‬ ‫آلباًيؤلنَاً ألكو لأن نَليكفلعلل رفيِ ألكملوُاًلرلناً لماً نَل ل‬
‫شاًءي إرنَل ل‬
‫‪ -4‬كشف الحقائق للناس وبيان خداعهم للعواما وغشهم بقلب‬
‫الحقائق‪:‬‬
‫وبيان كذبهم في إظهار النصح والخوف على مصالح الناس من‬
‫)( الفتاوى )‪.(189-1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪310‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫خطر الدعاة إلى الله في إقامة حكم الله في الرض‪ ,‬كما قال‬
‫ر‬ ‫الله عن فرعون‪+ :‬لولقاًلل فركرلعكوُين لذيرورنَيِ ألقكيتيكل يموُلسىَ لولكيْلكدعي لربلهي إربنَيِ أللخاً ي‬
‫ف لأن يييبلبدلل دينليككمُ‬
‫ساًلد" ]غافر‪ [26 :‬يعني موسى يخشى فرعون أن‬ ‫ألكو لأن ييظكرهلر رفيِ اًللكر ر‬
‫ض اًلكلف ل‬
‫يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم‪ ،‬وهذا كما يقال في‬
‫كرا‪ ،‬يعني واعظا يشفق على الناس من‬ ‫مذ ع س‬‫المثل‪ :‬صار فرعون ع‬
‫)‪(1‬‬
‫موسى عليه السلما ‪.‬‬
‫وقال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬ولعله من الطريف أن نقف‬
‫ف لأن يييبلبدلل ردينليككمُ ألكو لأن ييظكرهلر‬ ‫أماما حجة فرعون في قتل موسى‪+ :‬إربنَيِ أللخاً ي‬
‫ساًلد" أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل‬ ‫رفيِ اًللكر ر‬
‫ض اًلكلف ل‬
‫داعية مصلح‪ ،‬أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه‬
‫الحق الجميل‪ ،‬أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لثارة‬
‫الخواطر في وجه اليمان الهادي؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما‬
‫التقى الحق والباطل واليمان والكفر والصلح والطغيان على‬
‫توالي الزمان واختلف المكان‪ ،‬والقصة قديمة مكررة تعرض بين‬
‫الحين والحين)‪.(2‬‬
‫‪ -5‬كشف خطط الطغاة في جعل الناس شيعا وأحزابا‪:‬‬
‫ودعوة الناس للجتماع على كتابا الله وسنة رسوله ×‪ ،‬قال‬
‫ح لأبكيلناًءليهكمُ‬ ‫ضرع ي ر‬
‫ف لطاًئلفةح بم كنييهكمُ ييلذ ب ي‬ ‫ض لولجلعلل ألكه للهاً رشيْليحعاً يلكستل ك‬
‫تعالى‪+ :‬إرلن فركرلعكوُلن لعلل رفيِ اًللكر ر‬
‫ساًءليهكمُ إرنَلهي لكاًلن رملنَ اًلكيمكفرسرديلنَ" ]القصص‪.[4 :‬‬ ‫ر ر‬
‫لويلكستلكحيْيِ نَ ل‬
‫هذه أهم السس التي تقوما عليها عروض الطغاة في الرض‪،‬‬
‫وأي أساس منها فقد كان جديرا بتحطيم تلك العروش ولسيما‬
‫الول منها والثاني)‪.(3‬‬
‫ولذلك يهتم الدعاة إلى الله في كل مراحل دعوتهم بتوجيه‬
‫السهاما إلى تلك السس وخصوصا في مرحلة المغالبة حيث تنشط‬
‫كتائب المجاهدين بتوجيه الضربات المسددة إلى تلك السس‬
‫الطاغوتية‪ ,‬وبعد تدميرها يصل الدعاة بإذن الله تعالى بدعوتهم إلى‬
‫مرحلة التمكين‪.‬‬
‫إن هذه المرحلة المهمة من مراحل الدعوة يكون أفراد‬
‫الجماعة السلمية العاملة يسعون بكل إخلص وصدق على تنفيذ‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(4/76‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(5/3078‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله أحمد القادري )‪.(2/235‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪311‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مخططات دعوتهم وتحقيق أهدافهم‪ ،‬والدعوة في هذا الطور جهاد‬


‫وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية‪ ،‬وامتحان وابتلء ل‬
‫يصبر عليهما إل الصادقون‪ ،‬ولبد أن نهتم بالفرد اهتمامنا بالجماعة‬
‫ونهتم بالقاعدة اهتمامنا بالقيادة حرصا على بناء الصفوف بناء‬
‫إسلميا صحيحا‪ ،‬إن مراحل الدعوة التي تسبق مرحلة التمكين‬
‫متداخلة فيما بينها فمقدار نضج الجماعة في مرحلة التعريف‬
‫والعداد والمغالبة‪ ،‬تكون المور سائرة في الطريق الصحيح‪،‬‬
‫وبمقدار ما يكون التعريف صحيحا يكون العداد أسهل‪ ،‬وبمقدار ما‬
‫يكون العداد صحيحا تكون مرحلة المغالبة أحكم وأقوى‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن النضج في هذه القضايا بشكل عاما هو مظهر النضج العملي‬
‫والنظري في الجماعة بقدر ما توجد عند الجماعة أجهزة مختصة‬
‫ناضجة في كل قضية من هذه القضايا يكون سيرنا قد أخذ مسراه‬
‫الكامل)‪.(1‬‬
‫وهناك ما يسمى مرحلة المغالبة بمرحلة التنفيذ ول مشاحة‬
‫في الصطلح‪ ,‬ويقول حسن البنا ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في هذه المرحلة‪:‬‬
‫»التنفيذ والدعوة في هذا الطور جهاد ل هوادة معه وعمل‬
‫متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية وامتحان وابتلء ل يصبر‬
‫عليهما إل الصادقون‪ ،‬ول يكفل النجاح في هذا الطور إل كمال‬
‫الطاعة«)‪.(2‬‬
‫وقال‪) :‬ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والنتاج وكثيرا‬
‫ما تسير هذه المراحل الثلث‪ :‬أي التعريف والتكوين والتنفيذ جنبا‬
‫إلى جنب نظرا لوحدة الدعوة وقوة الرتباط بينهما جميعا‪،‬‬
‫فالداعي يدعو‪ ،‬وهو في نفس الوقت يتخير ويربي‪ ,‬وهو في‬
‫الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك‪ ،‬ولكن ل شك في أن الغاية الخيرة‬
‫أو النتيجة الكاملة ل تظهر إل بعد عموما الدعاية‪ ،‬وكثرة النصار‬
‫ومتانة التكوين« )‪ ،(3‬ومن كلمه نفهم أن التنفيذ عنده نوعان‪:‬‬
‫تنفيذ يومي‪ ،‬وتنفيذ شامل‪ ،‬وأن التنفيذ اليومي مرتبط بموضوع‬
‫العمل المتواصل المكافئ‪ ,‬وأما التنفيذ الشامل فيرتبط بتحقيق‬
‫الهداف الكبرى)‪.(4‬‬
‫***‬

‫الدعوة إلى السلما‪ ،‬حسن أدهم جرار‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫آفاق التعلم‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬ص ‪.76‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪.76‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪.76‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪312‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الرابع‬
‫مرحــــلة التمكــــــــين‬
‫إن مرحلة التمكين هي ذروة العمل السلمي المنظم‪ ،‬وهي‬
‫تمثل الثمرة الناضجة إذا مثلت المراحل التي سبقتها التربة‬
‫الصالحة والبذرة الصالحة‪ ،‬والتعهد والرعاية‪ ،‬وأن الجهد الذي‬
‫أوصل إلى هذه المرحلة كله من توفيق الله‪ ،‬ويستطيع أن يمس‬
‫المؤمن أثر توفيق الله سبحانه وتعالى في الوصول إلى مرحلة‬
‫التمكين لدينه في الرض في دراسته القرآنية المتأنية‪ ،‬أو في‬
‫نظرته التاريخية المستوعبة للتاريخ السلمي المجيد ومرحلة‬
‫التمكين في الدعوة‬
‫إلى الله تعني أن الله تبارك وتعالى يمكن لدينه في الرض‪ ،‬عن‬
‫طريق المؤمنين الذين يعملون الصالحات‪ ،‬وأن هذا التمكين‬
‫يسبقه الستخلف والملك والسلطان‪ ,‬ويعقبه أمن بعد خوف‪ ،‬كما‬
‫أن الوصول إلى التمكين يكون بعد تحقق شروطه من إيمان‬
‫وعمل صالح‪ ،‬وتحقيق العبودية‪ ،‬ومحاربة الشرك‪ ،‬وتقوى الله‪ ،‬كما‬
‫طا منها إقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وطاعة‬ ‫أن لستمراره شرو ل‬
‫الرسول ×‪ ,‬وهذه الثلثة هي إجمال للسلما كله‪ ,‬فالصلة عماد‬
‫الدين وهي دليل السلما وعلمته‪ ،‬وهي تنهى عن الفحشاء‬
‫والمنكر‪ ،‬والزكاة تراحم وتكافل‪ ،‬ودفع لحاجات المحتاجين الذين‬
‫ت لركليفلقلراًرء" ]التوبة‪ [60 :‬كما‬ ‫حدد الله سبحانه أنواعهم في آية ‪+‬إرنَللماً اًل ل‬
‫صلدلقاً ي‬
‫هي طهارة لقلب المزكي‪ ،‬وطهارة لماله‪ ،‬وطاعة الرسول × هي‬
‫اللتزاما بكل ما أمر والنتهاء عن كل ما نهى‪ ,‬وذلك السلما كله‪,‬‬
‫صاًلرحاً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت‬ ‫وما ذكرته يوضحه قوله تعالى‪+ :‬لولعلد اًلي اًلذيلنَ آلمنيوُاً مكنيككمُ لولعمليوُاً اًل ل ل‬
‫ضىَ ليهكمُ‬ ‫ف اًلرذيلنَ رمنَ قليكبلررهكمُ لوليْيلمبكنللنَ ليهكمُ ردينلييهيمُ اًلرذيِ اًكرتل ل‬
‫ض لكلماً اًكستلكخ ل ل‬ ‫ليْلكستلكخلرلفنلييهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ك يهيمُ‬ ‫لوليْيبلبدلنلييهمُ بمنَ بليكعرد لخكوُفررهكمُ ألكمحناً يليكعبييدونَلرنيِ لل ييكشرريكوُلن ربيِ لشكيْحئاً لولمنَ لكلفلر بليكعلد لذلر ل‬
‫ك فليأولئر ل‬
‫صللةل لوآتيوُاً اًللزلكاًلة لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل للع ليككمُ تييكرلحيموُلن" ]النور‪.[56 ،55 :‬‬ ‫اًلكلفاًرسيقوُلن ‪ ‬لوألقريْيموُاً اًل ل‬
‫وستظل الطاعة للرسول × وإقاما الصلة وإيتاء الزكاة‪،‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬
‫مصاحبة للتمكين ل تنفك عنه‪ ،‬ول ينفك عنها‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬اً ذيلنَ إن‬
‫ل لعاًقربلةي‬‫ف ونَليلهوُاً لعرنَ اًلكمكنلكرر و ر‬ ‫ر‬ ‫لملكلناًيهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ي ل‬ ‫صلللة لوآتلييوُاً اًللزلكاًلة لوأللميرواً رباًلكلمكعيرو ل ك‬‫ض أللقاًيموُاً اًل ل‬
‫اًلييموُر " ]الحج‪.[41 :‬‬
‫وفي هذه الية النص على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬

‫‪313‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهو من صميم ما أمر الرسول × به)‪.(1‬‬


‫إن القرآن الكريم إذا تدبره المؤمنون وتفقهوا فيه رأوا حكما‬
‫وسننا تعين من أخذ بها للوصول إلى غايته النبيلة‪ ،‬ول شك أن‬
‫مرحلة التمكين وإن كانت قمة المراحل إل أنها ليست آخر‬
‫المراحل‪ ,‬فبعدها استمرار التمكين والمحافظة عليه‪ ،‬وإن من وراء‬
‫التمكين أمولرا عظيمة وأهوال ل جسيمة ومسئوليات كبرى أماما‬
‫التحديات الضخمة والعداء المتكالبين‪ .‬ولبد من استمرار الدعاة‬
‫إلى الله بواجبات مراحل التعريف والعداد والمغالبة والتمكين‬
‫إلى قياما الساعة‪ ،‬ويوما يعدل الدعاة عن هذا العمل الموازي‬
‫لمرحلة التمكين‪ ،‬فعندئذ يحدث التراجع والنتكاس وتنشأ الجيال‬
‫الجديدة فل تجد من يعسرفها‪ ،‬ول من يربيها ول من يفقهها ويعلمها‬
‫ويقودها‪.‬‬
‫إن بعض الناس قد يرون هذه المرحلة بعيدة المنال‪.‬‬
‫وإن بعضهم ليراها مستحيلة التحقيق‪.‬‬
‫وإن بعضهم ليراها قريبة جدا‪.‬‬
‫أما الذين يرونها بعيدة المنال‪ ،‬فهم على صوابا طالما بقي‬
‫المسلمون غير محققين لشروط التمكين‪ ،‬لن التمكين لدين الله‬
‫في الرض حقيقة قرآنية ثابتة‪ ،‬إذا توافرت‬
‫لها شروطها)‪.(2‬‬
‫إن التمكين لدين الله في الرض مطلب عزيز دعا إليه الدين‪،‬‬
‫وعمل صالح يؤجر عليه فاعله أعظم الثوابا‪ ،‬وليس العمل لتمكين‬
‫دين الله في الرض عسيرا‪ ،‬أو فوق مستوى طاقة المسلمين‪ ،‬لن‬
‫الله ل يكلف نفسا إل وسعها‪ ،‬بل ممكن وفي مقدور العاملين من‬
‫أجل السلما ولكونه ممكنا فقد وعد الله تعالى به المؤمنين الذين‬
‫يعملون الصالحات‪.‬‬
‫إن التمكين لدين الله في الرض إرادة إلهية كي يظهر هذا‬
‫الدين الخاتم على الدين كله يوما من الياما‪ ،‬قال الله تعالى‪+ :‬يهلوُ‬
‫اًلرذيِ ألكرلسلل لريسوُلهي رباًلكيهلدىَ لورديرنَ اًلكلحبق لريْيظكرهلرهي لعللىَ اًلبديرنَ يكلبره لولكوُ لكررله اًلكيمكشرريكوُلن" ]الصف‪,[9 :‬‬
‫وقد أمر الله نبيه × والمؤمنين أن يقيموا هذا الشرع أي يجعلوه‬
‫ع ليكمُ‬ ‫مستقرا‪ ,‬قال الله تعالى‪+ :‬لشلر ل‬ ‫ل‬ ‫مستمرا محفوظلا‬ ‫ل‬ ‫دائما‬
‫ل‬ ‫قائما‪،‬‬
‫ل‬
‫سىَ ألكن ألرقيْيموُاً‬ ‫ر‬ ‫ك وماً و ل ر ر ر ر‬ ‫ر‬ ‫بمنَ اًلبديرنَ ماً و ل ر‬
‫صيْيلناً به إبكيلراًهيْلمُ لويموُلسىَ لوعيْ ل‬ ‫صىَ بره ينَوُححاً لواًلذيِ ألكو ل ك‬
‫حيْيلناً إرلكيْ ل ل ل ل ك‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(2/715‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر السابق نفسه )‪.(2/716‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪314‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫شاًءي لويليكهرديِ إرلكيْره لمنَ‬


‫اًلبديلنَ لولل تليتليلفلرقيوُاً رفيْره لكبييلر لعللىَ اًلكيمكشررركيْلنَ لماً تلكديعوُيهكمُ إرلكيْره اًلي يلكجتلربيِ إرلكيْره لمنَ يل ل‬
‫ب" ]الشورى‪.[13 :‬‬ ‫ر‬
‫يينيْ ي‬
‫إن التمكين لدين الله هو الهدف الكبر لكل مفردات العمل‬
‫من أجل السلما‪.‬‬
‫الدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها‪.‬‬
‫والحركة‪ ،‬وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال‪.‬‬
‫والتنظيم‪ ،‬وما يستهدفه في الدعوة والحركة‪.‬‬
‫والتربة بكل أنواعها وأهدافها ووسائلها‪.‬‬
‫وعلى العاملين لدين الله أن يبينوا لجماهير المة العريضة‬
‫أهمية تحقيق هذا‬
‫الهدف النبيل)‪.(1‬‬
‫إن النبي × سار بخطوات ثابتة نحو تحقيق الهداف‪ ،‬فكانت‬
‫مسيرته تسير جنبا إلى جنب في بناء العقيدة وتطهير النفوس من‬
‫أمراضها‪ ،‬وتربيتها بالخلق الفاضلة مع الهتماما بالجوانب الحركية‪،‬‬
‫والتخطيطية والسياسية والعلمية والجهادية وبناء دولة تحكم‬
‫شرع الله تعالى‪ ،‬وتسعى لتمكين دينه‪ ،‬فمنذ دخوله المدينة شرع‬
‫× لتحقيق الهداف التي هاجر من أجلها‪ ،‬ولذلك رأى من‬
‫الضروري واللزما إنشاء »دولة إسلمية« على قواعد متينة‬
‫وأسس راسخة‪ ,‬فكانت أولى خطواته المباركة بناء المسجد‬
‫الجامع‪ ,‬ثم أصدر الوثيقة للمؤاخاة بين المهاجرين والنصار‬
‫والمعاهدة مع اليهود‪ ،‬ولم يمض الوقت طويل حتى شكل جيشا‬
‫إسلميا مجاهدا لحماية الدولة والسعي على تحقيق أهدافها‪ ،‬لقد‬
‫قدر رسول الله × ظرفه وزمانه ومكانه‪ ,‬واستطاع أن يقود‬
‫أصحابه نحو التمكين معتمدا على الله تعالى وشارعا في الخذ‬
‫بالسبابا المنية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والعلمية والقتصادية‪،‬‬
‫والعسكرية‪ ,‬وترك لنا معالم نيرة في مغازيه الميمونة‪ ،‬ودروسا‬
‫عظيمة في كيفية تحقيق النصر على العداء والتمكين لدين الله‬
‫تعالى‪ ،‬فبدأ بالسرايا فحققت أهدافها‪ ،‬ومضى يحاصر قوى البغي‬
‫والكفر والضلل حتى فتحت مكة‪ ,‬ومن ثم وحدت جزيرة العربا‬
‫وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان‬
‫وإلى اليهود الذين نقضوا العهود وإلى ملوك الرض بدعوتهم‬
‫للسلما‪ ،‬وتم الفتح الكبر بفتح مكة الذي ترتب عليه نتائج من‬

‫)( انظر‪ :‬فقه المسئولية‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪315‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬دخول مكة تحت نفوذ المسلمين وزوال دولة الكفر‬
‫وانطلقت كتائب السلما بعد ذلك لتحطيم بعض الجيوش في حنين‬
‫والطائف‪ ،‬ومن ثم إلى العالم أجمع‪.‬‬
‫‪ -2‬تطهير الكعبة من الصناما وإنهاء الوثنية في مكة بعد أن‬
‫دمرت أصناما القلوبا وأصلحت العقائد الفاسدة والتصورات‬
‫المنحرفة‪.‬‬
‫‪ -3‬استخدما النبي × أسلوبا العفو عند المقدرة فأعلن العفو‬
‫العاما وأحسن إلى أهل مكة مما كان سببا في دخول كثير من‬
‫زعمائهم السلما وتمكن اليمان من قلوبهم من أمثال عكرمة بن‬
‫أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪.‬‬
‫‪ -4‬أصبح المسلمون قوة عظمى في جزيرة العربا‪ ،‬وبعد فتح‬
‫مكة‪ ،‬وتحقق أمنية الرسول × بدخول قريش في السلما‪ ،‬برزت‬
‫قوة كبرى في الجزيرة العربية ل يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف‬
‫في وجهها وهي مؤهلة لتوحيد العربا تحت راية السلما ثم‬
‫النطلق إلى القطار المجاورة‪ ،‬لزالة حكومات الظلم والطغيان‪،‬‬
‫وتأمين الحرية لخلق الله كي يدخلوا في دين الله‪ ،‬ويعبدوه وحده‬
‫من دون سواه)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬تمكين الله للمؤمنين الصادقين بعدما ضحوا بالغالي‬
‫والنفيس وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه‪ ,‬ول ننسى تلك‬
‫مؤذنا للصلة بعد أن‬
‫ل‬ ‫الصورة الرائعة وهي وقوف بلل فوق الكعبة‬
‫عذبا في بطحاء مكة وهو يردد‪ :‬أحد أحد في أغلله وحديده‬
‫ويجروه الصبيان‪ ,‬ها هو اليوما قد صعد فوق الكعبة ويرفع صوته‬
‫الجميل بالذان وهو في نشوة اليمان‪ ،‬لقد قاما النبي × بتبليغ‬
‫المانة‪ ،‬وأداء الرسالة ولحق بالرفيق العلى فجزاه الله عنا وعن‬
‫السلما خير الجزاء‪ ،‬وجاء الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم‪،‬‬
‫فتسلموا الراية‪ ،‬وساروا والمسلمون معهم على دربا نبيهم × ما‬
‫غيروا وما بدلوا‪ ،‬بل ثبتوا على دينهم واندفعوا في مشارق الرض‬
‫ومغاربها يبلغون دعوة الله إلى البشرية‪ ,‬فهدى الله بهم من شاء‬
‫من عبادة العباد إلى عبادة ربا العباد‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى‬
‫سعتها‪ ،‬ومن ظلم الديان إلى عدل السلما‪.‬‬
‫وكانت فترة الخلفة الراشدة التي ما تجاوزت ثلثين عاما‬
‫قصيرة في عمر الزمن ولكنها في ميزان القيم أقل من عمر‬

‫)( انظر‪ :‬قيادة الرسول السياسية والعسكرية‪ ،‬ص ‪.129‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪316‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إمبراطورية ظلت قائمة في الرض عشرة قرون‪ ،‬فقد كانت تلك‬


‫السنوات القصيرة أعلى قمم صعدتها البشرية في تاريخها كله)‪.(1‬‬
‫وكان التمكين في هذه المرحلة في ذروتها التي لم تصل إليها‬
‫المة في أي وقت آخر‪ ،‬كما كان شامل‪ ،‬فكان يشمل تمكين الدين‬
‫والعشائر‪ ،‬وكان يشمل تمكين الدنيا‪ ،‬والسيادة السلمية برا‬
‫وبحرا‪ ،‬وسياسيا‪ ،‬واقتصاديا‪ ،‬وعلميا‪.‬‬
‫ردحا كبيرلا من الزمان وفتح الله عليها‬
‫ل‬ ‫ولقد سعدت المة السلمية‬
‫بركات‬
‫السماء والرض‪.‬‬
‫وانتهت الخلفة الراشدة بتنازل الماما الحسن بن علي عن‬
‫الخلفة لمعاوية بن أبي سفيان ‪-‬رضي الله عن الجميع‪ ،-‬عاما‬
‫‪41‬هـ‪ ،‬وبدأت في تاريخ المة السلمية مرحلة جديدة‪.‬‬
‫وفي هذه المرحلة لم تستقر حياة المة السلمية في كل‬
‫جوانبها ‪ -‬على الفق العلى الذي كان وقت حياة الرسول ×‬
‫وخلفائه الراشدين‪ -‬ولكنها ظلت مع ذلك عالية بالنسبة لكل ما‬
‫عرفته الرض من نظم وقيم وحضارات)‪» (2‬فليس صحيحا ما‬
‫اندس في أوهاما الكثيرين من أن السلما قد انتهى بعد فترة‬
‫الرسول × والخلفاء الراشدين‪ ،‬الصحيح ‪ -‬فقط ‪ -‬أن الفترة‬
‫المثالية قد انتهت وبدأت فترة عادية من تاريخ السلما«)‪.(3‬‬
‫ومع بداية الحكم الموي‪ ،‬بدأت مرحلة الملك العضوض‪ ،‬بنظامه‬
‫الوراثي ومظالمه‪ ،‬وبدأ أول كسر في المبادئ السلمية في سياسة‬
‫الحكم‪ ،‬وسياسة المال‪ ،‬رافق ذلك التخلي التدريجي من مجموع المة‬
‫عن مراقبة أعمال الحكاما‪ ،‬وانصرافها التدريجي إلى أمورها‬
‫الخاصة)‪.(4‬‬
‫وعلى الرغم من هذا كله فقد كان حجم النحراف على عهد‬
‫المويين محدودا على أي حال‪ ،‬وإن بدا مجسما غليظا حين يقاس‬
‫بعهد الذروة )العهد النبوي‪ ،‬والخلفة الراشدة( الذي يبدو كل شيء‬
‫صغيرا حين يقاس إليه‪ ،‬فقد كانت المة على عقيدتها الصحيحة‪،‬‬
‫وأخلقها المتينة‪ ،‬فاتسعت الفتوحات السلمية حتى وصل‬
‫المسلمون إلى أبوابا القسطنطينية‪ ،‬وامتدت دعوة السلما إلى‬
‫انظر‪ :‬حول التفسير السلمي للتاريخ‪ ،‬ص ‪.218‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬هل نحن مسلمون؟ لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪.100‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪ ،117‬وما بعدها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪317‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الهند شرقا‪ ،‬وإلى الشمال الفريقي غربا‪ ،‬وقويت دولة السلما‬


‫حتى غدت قوة يرهبها أعداؤها‪ ،‬ويعملون لها ألف حسابا)‪.(1‬‬
‫ثم جاء العباسيون‪ ،‬وركبوا الخط الذي بدأه المويون‪ ،‬وزادت‬
‫فجوة النحراف في عهدهم وأضيف إليها انحرافات من نوع جديد‪،‬‬
‫فقد بقي الملك الوراثي العضوض‪ ،‬زادت سوأته حين جعلوه بالدور‪،‬‬
‫ولو جاء الدور على صبي ل يتجاوز الثانية عشرة ‪ -‬مما أثر على قوة‬
‫الدولة السلمية‪ ،‬فضل عما جرى من المؤامرات الرهيبة من أجل‬
‫تولي الملك‪ ،‬ووصل العنف السياسي مداه حتى وصل إلى مذابح‬
‫بشعة ل يتصور حصولها من مسلمين‪ .‬وأما السرف في بيت المال‪،‬‬
‫فلقد كان الخليفة العباسي ل يجد حرجلا أن يعطي الشاعر لقاء أبيات‬
‫في مدحه مائة ألف من بيت مال المسلمين‪ ،‬هذا غير صور‬
‫النحرافات الخرى التي ليس هذا مجال حصرها‪ ،‬وأما مجموع المة‬
‫ساكنا)‪.(2‬‬
‫ل‬ ‫فقد صارت ترى هذا العبث ول تحرك‬
‫طبيعيا أن تنهار الدولة العباسية من وطأة هذه النحرافات‬ ‫ل‬ ‫وكان‬
‫مجتمعة‪ ،‬وجاء النهيار تحقيقا لسنن الله تعالى في الحياة البشرية‪،‬‬
‫ودخل التتار بغداد عاصمة الخلفة السلمية عاما ‪656‬هـ‪ ،‬فذبحوا‬
‫الخليفة المعتصم‪ ،‬وذبحوا المسلمين‪ ،‬وأحرقوا كتب العلم التي كانت‬
‫تعمر بها بغداد‪ ،‬وألقى معظمها في نهر دجلة‪ ،‬وكانت تضم أعظم‬
‫تراث العالم في ماضيه وفي حاضره)‪.(3‬‬
‫وقد أجمع المؤرخون على أن السبب في هذه النكبة هو الغفلة‬
‫والترف‪،‬‬
‫والستهانة بتعاليم السلما‪ ،‬وصدق الله العظيم إذ يقول‪+ :‬لولماً لكاًلن‬
‫ك‬
‫لربم ل‬
‫ر‬ ‫رليْييكهل ل‬
‫ر‬
‫صليحوُلن" ]هود‪.[117 :‬‬‫ك اًلكيقلرىَ برظيكلةمُ لوألكهليلهاً يم ك‬
‫وانهارت كذلك الدولة السلمية في الغربا‪ ،‬حيث استولى‬
‫الصليبيون على الندلس‪ ،‬وطردوا المسلمين منها بوحشية بالغة‪،‬‬
‫وانمحى الوجود السلمي من تلك البقعة من الرض التي كانت‬
‫مركزا للعلم والحضارة ردحا كبيرا من الزمان)‪.(4‬‬
‫وعلى الرغم من انهيار الدولة العباسية‪ ،‬إل أن المة السلمية‬
‫كانت ومازالت بخير كثير على الرغم من كل عناصر الفساد التي‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البداية والنهاية )‪.(7/183‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.138‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪318‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫تسربت خلل الحكم العباسي‪ ،‬ولم يكن انهيار الدولة العباسية هو‬
‫نهاية المة السلمية‪ ,‬فقد برزت إلى الوجود دولة إسلمية جديدة‪،‬‬
‫كنة في الرض زهاء‬ ‫فتية وهي الدولة العثمانية‪ ،‬والتي بقيت مم ز‬
‫خمسة قرون استطاعت خللها أن تحفظ كيان المسلمين وأن‬
‫تحميهم من غارات الصليبيين المتتالية‪ ،‬بل وتوغلت في أوروبا‬
‫الصليبية‪ ،‬وفتحت للسلما أراضي وقلوبلا‪ ،‬فدخل الناس في‬
‫السلما بعشرات المليين‪ ،‬كما منعوا قياما الدولة اليهودية على‬
‫أرض السلما‪ ،‬وغير ذلك الكثير‪.‬‬
‫ولكن هذا وغيره ل ينفي وجود انحرافات كثيرة‪ ،‬سواء في‬
‫الدولة أو في حياة المة في ظل الدولة‪ ،‬وقد آتت هذه النحرافات‬
‫ثمارها السيئة على مدى الياما)‪.(1‬‬
‫‪ -‬فكانت هذه أول دولة للخلفة لم تستعربا‪.‬‬
‫‪ -‬وكان الوالي في آخر عهد الدولة العثمانية على أي قطر‬
‫يتولى لفترة محدودة ثم يعزل‪ ,‬فكان يجعل من فترة وليته فرصة‬
‫لجمع ثروة من المال تكفيه مدى الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬وأصابا الدولة العثمانية في آخر أيامها الجمود والتخلف في‬
‫أرجائها‪.‬‬
‫‪ -‬وتسلل العداء إلى كيان الدولة وشرعوا في نخرها‪ ،‬ودخلت‬
‫اليدي الجنبية وكانت بدايتها المشئومة في عهد السلطان سليم‪،‬‬
‫والذي اشتهر باسم سليمان القانوني)‪.(2‬‬
‫وأما المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فقد كانت المة قد تخلت‬
‫عنه بالنسبة لحكامها منذ زمن بعيد‪ ،‬ولم يكن من المتوقع أن تعود إليه‬
‫في الجو العسكري الذي قامت فيه الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -‬وانشغل المسلمون عن دينهم الصحيح ببدع‪ ،‬وخرافات‪،‬‬
‫ص‪ ،‬وران عليهم جو التواكل والقعود عن الخذ بالسبابا‪.‬‬ ‫ومعا ض‬
‫ولكن على الرغم من ذلك لم يكن السلما ذاته في نفوسهم‬
‫موضع نقاش ل بوصفه عقيدة‪ ،‬ول بوصفه منهجا للحكم‪ ،‬بل ظل‬
‫حيا محفوظا من التحريف والتبديل‪ ،‬وظلت مشاعل الصلح‬
‫متسلسلة بعضها من بعض ل تطفئها العواصف)‪.(3‬‬
‫ودخل العالم مرحلة جديدة من تاريخه مع بداية القرن السابع‬
‫عشر الميلدي حيث شن الغربا النصراني حروبه على أنحاء المة‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.138‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تولي الحكم من سنة ‪1520‬ما إلى ‪1566‬ما‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪319‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫السلمية‪ ،‬وقد سماها بعض الباحثين‪» :‬الحملت الصليبية‬


‫الخيرة«)‪.(1‬‬
‫وفي هذه المرة كان الموقف قد تغير كثيرا عن ذي قبل‪ ،‬فقد‬
‫انحرف المسلمون انحرافا شديدا عن حقيقة السلما‪ ،‬سواء في‬
‫التصور أو السلوك‪ ،‬وفسدت المفاهيم لدى المة السلمية‪.‬‬
‫‪ -‬ففسد مفهوما العقيدة‪ ،‬وانحصر في مجرد النطق بالشهادتين‬
‫دون النظر إلى العمل وتبع ذلك‪ :‬التواكل المقيت‪ ،‬والسلبية‪،‬‬
‫والوهن‪ ،‬والعجز‪.‬‬
‫وفسد مفهوما العبادة الشامل‪ ،‬فانحصر في شعائر التعبد‬
‫المحدودة‪.‬‬
‫وفسد كذلك مفهوما العمل الصالح فانحصر في مجرد الركعات‬
‫والتسبيحات والوراد‪.‬‬
‫‪ -‬وتخلف المسلمون كثيرا في مجالت الحياة‪ ،‬بعد أن عجزوا عن‬
‫الخذ بأسبابا التقدما‪.‬‬
‫‪ -‬كما تقطعت أواصر الخاء بين المة السلمية‪ ،‬فضعفت قوتهم‪،‬‬
‫وذهبت هيبتهم)‪.(2‬‬
‫وقد ظلت هذه العوامل الرهيبة‪ ،‬وغيرها تساور العالم السلمي‪،‬‬
‫وتهدده‪ ,‬وتتسلل إلى قواعده في إصرار‪ ،‬ووراءها جميع قوى العالم‬
‫الجاهلي‪ ،‬ولكنها لم تبلغ أن تحطمه من أساسه‪ ،‬ولكنها مع تطاول‬
‫الزمان‪ ،‬ومع التجمع والترصد واستمرار ذلك ظلت تنقص منه شيئا‬
‫تهديدا‬
‫ل‬ ‫فشيئا‪ ،‬وتنحرف به عن أصوله رويدا حتى أثخنته فعل‪ ,‬وهددته‬
‫خطيرلا)‪.(3‬‬
‫لقد تجمعت انحرافات القرون الطويلة‪ ،‬وتفاعلت بعضها مع بعض‪،‬‬
‫فأدت في النهاية إلى زوال التمكين عن المة السلمية‪ ،‬وانهيارها من‬
‫الذروة السامقة إلى الهوة السحيقة)‪.(4‬‬
‫وحين جاءت الحروبا الصليبية الخيرة‪ ,‬والمسلمون على هذا‬
‫الوضع كان الحتمال الكبر أن ينهاروا‪ ،‬ويسلموا أنفسهم للضياع‪،‬‬
‫وسقط العالم السلمي فريسة للحتلل الجنبي‪ ،‬وتقطعت‬
‫أوصاله بين براثن المغيرين‪.‬‬

‫التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫هذا الدين لسيد قطب‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.163 ،162‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪320‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ول يعني هذا ‪ -‬بطبيعة الحال ‪ -‬أن المة قد خربت‪ ،‬ول أن‬
‫الساحة قد خلت من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ولكننا‬
‫حين نطلق ما نطلق من تعميمات نقصد بذلك الصورة الغالبة‪،‬‬
‫والصورة الغالبة هي التي تقرر الموقف العملي في الحقيقة‪،‬‬
‫وليست القلة المتميزة مهما يكن لها من تميز‪ ،‬إل أن يكون في‬
‫أيديها مقاليد المور)‪.(1‬‬
‫ويحفظ التاريخ السلمي كثيرا من أدوار البطولة في جهاد‬
‫المحتلين‪ ،‬لكنها كانت بطولت المنهزما‪ ،‬يضربا آخر ضرباته قبل‬
‫الستسلما‪ ,‬فقد كانت العقيدة قد توارت خلف الركاما‪ ،‬فكان حقا‬
‫على الناس أن ينتهوا إلى الهزيمة والستسلما)‪.(2‬‬
‫نعم حدث هذا وكان لبد أن يحدث‪ ،‬لن المسلمين فقدوا‬
‫أسبابا التمكين في الرض‪ ،‬فعصفت بهم الرياح الهوجاء‪ ،‬وأزالتهم‬
‫من مكان الريادة‪ ،‬لتلقي بهم في حضيض التخلف والتبعية ‪+‬لولماً‬
‫سيهكمُ يلظكلريموُلن" ]العراف‪ [160 :‬لقد مرت المة السلمية‬ ‫ر‬
‫ظلليموُلنَاً لولكنَ لكاًنَيوُاً ألنَكييف ل‬
‫بثلث فترات نوعية‪:‬‬
‫‪ -1‬فترة التطبيق الفائق للسلما‪ ،‬وما صاحبها من تمكين فائق‪.‬‬
‫‪ -2‬فترة التطبيق العادي للسلما‪ ،‬وما صاحبها من التمكين‬
‫العادي‪.‬‬
‫‪ -3‬فترة النحسار وتزايد البعد عن حقيقة السلما‪ ،‬وما صاحبها‬
‫من زوال التمكين وغلبة العداء)‪.(3‬‬
‫لقد كان لسبابا زوال التمكين عن المة عوامل عديدة منها‪:‬‬
‫انحراف كثير من المسلمين عن الفهم الصحيح‬ ‫‪-1‬‬
‫للسلما‪ ،‬وانصرافهم عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ‬
‫ومصطلحات‪.‬‬
‫إهمال كتابا الله تعالى وسنة رسوله ×‪ ،‬والخروج عن‬ ‫‪-2‬‬
‫السلما في نظاما الحياة‪.‬‬
‫تفرق المسلمين‪ ،‬واحتداما الخلفات السياسية‬ ‫‪-3‬‬
‫والعصبية‪ ،‬والدينية‪ ،‬في صفوف المة السلمية‪.‬‬
‫ضعف القيادة السلمية‪ ،‬واستغلل الرياسة لتحقيق‬ ‫‪-4‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.163‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪321‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الهواء والمصالح الشخصية بعيدا عن مصلحة السلما‬


‫والمسلمين‪.‬‬
‫موت روح الجهاد‪ ،‬وضعف أدواته‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫التخلي عن الخذ بأسبابا القوة الحسية‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫تخلي المة السلمية عن القياما برسالتها حق القياما‬ ‫‪-7‬‬
‫من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى الله‪.‬‬
‫الجمود والتخلي عن الجهاد‪.‬‬ ‫‪-8‬‬
‫إهمال العلوما العلمية النافعة‪ ،‬والنشغال بفلسفات‬ ‫‪-9‬‬
‫عقيمة‪ ،‬وعلوما سقيمة‪.‬‬
‫‪ -10‬انتشار الدواء الخلقية والجتماعية‪.‬‬
‫‪ -11‬تصدع بناء الفرد المسلم‪ ،‬والبيت المسلم‪ ،‬والمجتمع‬
‫المسلم)‪.(1‬‬
‫وهكذا صارت المة بعد أن زال عنها التمكين إلى الزمة‬
‫الحالية‪ ،‬والتي ل شبيه لها على مدار التاريخ‪ ،‬وهي أزمة ل يستطيع‬
‫القلم أن يصفها‪ ،‬أو يحدد معالمها وإنما ينطق به واقع المة‬
‫المرير‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬مجموعة الرسائل‪ ،‬ص ‪ ،132 ،131‬ومجلة الوعي الكويتية‪ ،‬عدد ربيع‬ ‫‪1‬‬

‫الخر ‪1414‬هـ بتصرف‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الخامس‬
‫الحركات السلمية ودورها في العودة إلى التمكين‬
‫بدأت بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره مع الحركات‬
‫السلمية منذ القرنين الماضيين‪ ,‬وتوارثت الجيال الحاضرة تلك‬
‫التجاربا التي تركت لنا معالم فقه التمكين‪ ,‬ومن أهم هذه‬
‫الحركات‪:‬‬
‫أولل‪ :‬حركة الشيخ محمد بن عبد الوهابا‪:‬‬
‫هو الشيخ محمد بن عبد الوهابا بن سليمان بن علي بن محمد‬
‫بن أحمد بن راشد التميمي‪ ،‬ولد سنة ‪1115‬هـ‪1703 ،‬ما في بلدة‬
‫العينية الواقعة شمال الرياض‪ ,‬بينها وبين الرياض مسيرة سبعين‬
‫كيلو مترا‪ ،‬أو ما يقاربا ذلك من جهة الغربا)‪.(1‬‬
‫ونشأ على حب العلم‪ ،‬فطلبه منذ صغره وظهر منه نبوغا‬
‫وتميز‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه الحنبلي والتفسير‬
‫والحديث‪ ،‬وتتلمذ على كتب ابن تيمية في الفقه والعقائد والرأي‬
‫وأعجب بها أيما إعجابا‪ ,‬وتأثر بكتب ابن القيم‪ ،‬وابن عروة‬
‫الحنبلي وغيرهم من فحول هذا المنهل السلفي)‪.(2‬‬
‫ورحل في طلب العلم إلى مكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬والبصرة‪،‬‬
‫والحساء‪ ،‬وتعرض لفتن عديدة عندها جاهر بآرائه في العراق ثم‬
‫رجع بعد ذلك إلى نجد‪.‬‬
‫أ‪ -‬إعلن دعوته‪:‬‬
‫وعندما رجع إلى حريملء ببلد نجد بدأ بدعوته بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر والشتغال بالعلم والتعليم‪ ،‬والدعوة إلى عقيدة‬
‫التوحيد الصافية‪ ،‬وحذر من الشرك ومخاطره وأنواعه‪ ,‬وتعرض‬
‫لمحاولة اغتيال من بعض السفهاء في حريملء وانتقل بعد ذلك‬
‫إلى بلدته العينية وتلقاه أميرها بالترحيب وشجعه على أمر‬
‫الدعوة‪ ،‬فأقاما الشرع ونفذ الحدود‪ ،‬وهدما القبابا ولم يستمر في‬
‫حريملء طويل بسب بضغط أمير الحساء على أمير حريملء لقتل‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهابا فخرج ماشيلا على القداما إلى‬
‫الدرعية‪.‬‬
‫با‪ -‬تحالفه مع محمد بن سعود‪:‬‬
‫)( انظر‪ :‬إماما التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهابا‪ ،‬أحمد القطان‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪323‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫استطاع محمد بن عبد الوهابا أن يتحالف مع المير محمد بن‬


‫سعود الذي قدما ماله ورجاله من أجل دعوة التوحيد‪ ،‬وكان هذا‬
‫التحالف على أسس متينة‪ ,‬واستطاع الشيخ أن يواصل دعوته‬
‫للناس بالتعليم والرسائل‪ ،‬والوعظ‪ ,‬واستمر على هذا الحال يعلم‬
‫الناس ويكتب الرسائل ويدبجها بالحجج والبراهين والدلة على‬
‫صحة دعواه‪ ،‬يدعو إلى إزالة المنكر وهدما قبابا القبور‪ ،‬وسد‬
‫ذرائع الشرك‪ ،‬وتحقيق العبودية لله وحده)‪ ،(1‬وظلت الدعوة‬
‫مسالمة متأنية‪ ،‬تطرق القلوبا برفق وأناة‪ ،‬وتدعو إلى الله‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬واستمر يعلم من يحضر دروسه‬
‫ويوضح عقيدته‪ ،‬ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والداني‪ ،‬ولكنه رأى‬
‫أن اللين يقابل بالشدة‪ ،‬وأن الصدق يقابل بالكذبا‪ ،‬والموعظة‬
‫الحسنة يرد عليها بالمؤامرات‪ ،‬فلم يكن بد من دخول مرحلة‬
‫الجهاد وتغيير المنكر بالقوة‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫فما حيلة المضطر إل ركوبها‬ ‫إذا لم يكن إل السنة مركبا‬

‫وبدأ الشيخ يعاونه المير محمد بن سعود بإعداد العدة من‬


‫الرجال والسلح للخروج بجموع المجاهدين من الدرعية إلى خارج‬
‫حدودها لنشر الدعوة وتثبيت أركانها في الجزيرة وخارجها‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ يشرف بنفسه على إعداد الرجال‪ ،‬وتجهيز الجيوش وبعث‬
‫السرايا‪ ,‬ويستمر مع ذلك على الدرس والتدريس‪ ،‬ومكاتبة الناس‪،‬‬
‫واستقبال الضيوف‪ ،‬وتوديع الوفود‪ ،‬فقد جمع الله له العلم والجاه‪،‬‬
‫والعزة والتمكين بعد جهاد طويل)‪ .(3‬وقد كان له نظر سياسي‬
‫ثاقب‪ ،‬وخبرة واسعة في أمور الحربا والسياسة ومما يذكر أنه‬
‫كان يشرف بنفسه على إعداد المجاهدين وتحضير الكتائب‬
‫وتسيير المقاتلين)‪.(4‬‬
‫واستمرت الحروبا بين أنصار الدعوة وأعدائها سنين عديدة‬
‫وكان النصر حليف أصحابا الدعوة في أغلب المواقف‪ ,‬وكانت‬
‫القرى تسقط واحدة تلو الخرى‪ ،‬وفي عاما ‪1178‬هـ ‪1773 -‬ما‪،‬‬
‫فتحت الرياض بقيادة المير عبد العزيز بن محمد بن سعود‪ ،‬وفر‬
‫منها حاكمها السابق دهاما بن دواس‪ ،‬وكان حاكما ظالما غشوما‪،‬‬
‫اعتدى على الدعاة مرارا‪ ،‬ونقض العهود التي أبرمها مع القائمين‬

‫انظر‪ :‬إماما التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهابا‪ ،‬ص ‪.46 ،45‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬استمرارية الدعوة‪ ،‬محمد السيد الوكيل )‪.(3/293‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬إماما التوحيد محمد بن عبد الوهابا‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪324‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫على الدعوة‪ .‬وبعد فتح الرياض اتسعت رقعة الرض التي تخضع‬
‫للدعوة ودخل كثير من الناس في الدعوة مختارين‪ ،‬فقد أزيلت‬
‫العوائق التي كانت تصدهم عنها‪ ،‬وانفرجت المور بعد ضيق‪ ،‬وجاء‬
‫اليسر بعد العسر‪ ،‬وكثرت الموال‪ ،‬وهدأت الحوال‪ ,‬وأمن الناس‬
‫في ظل الدولة السلمية الفتية‪ ،‬التي حرما الناس من نعمة المن‬
‫والستقرار مدة غيابها)‪.(1‬‬
‫لقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهابا بالسنن لتمكين دين الله‬
‫تعالى‪ ،‬فنلحظ في دعوته أخذه بشروط التمكين ودعوة الناس‬
‫وتربيتهم عليها من اليمان بالله‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وتحقيق العبودية‬
‫ومحاربة الشرك‪ ،‬وتقوى الله تعالى‪ ،‬وأخذه بأسبابا التمكين‬
‫ويظهر حرصه على الخذ بالسبابا في تحالفه مع المير محمد بن‬
‫سعود الذي وظف جيشه‪ ،‬وحكومته وماله وسلحه‪ ,‬ورجاله لخدمة‬
‫الدعوة‪ ،‬ومرت الدعوة بالمراحل الطبيعية من التعريف بها وإعداد‬
‫من يحملها‪ ،‬ومغالبة أعدائها والتمكين لها‪ ،‬ومر الشيخ بسنة‬
‫البتلء‪ ،‬ومارس سنة التدرج‪ ،‬وشرع في الخذ بسنة تغيير‬
‫النفوس‪ ،‬واستخداما سنة التدافع بين الحق والباطل‪ ،‬ولم يترك‬
‫سنة الخذ بالسبابا‪ ،‬وهذا كله يدخل تحت فقه التمكين الذي‬
‫مارسه الشيخ محمد بن عبد الوهابا رحمه الله‪.‬‬
‫ثانيلا‪ :‬حركة الشيخ أحمد بن عبد الحد السرهندي‪:‬‬
‫هو أحمد بن عبد الحد بن زين العابدين السرهندي يتصل نسبه‬
‫إلى سيدنا عمر بن الخطابا ‪-       ,‬‬
‫‪  « »       ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪  ,           ‬‬
‫‪       ,     ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪          ‬‬
‫)( انظر‪ :‬استمرارية الدعوة‪ ،‬د‪ .‬محمد الوكيل )‪.(3/294‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪325‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ ,        ‬‬
‫‪. ..     ,   ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪        , ,  ‬‬
‫‪. ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪    ,  ,  - - ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪.( )  ‬‬
‫منهج الماما السرهندي للوصول إلى مرحلة التمكين‪:‬‬
‫‪ -1‬اهتم بتعليم وتربية مجموعات هائلة من أفراد المة وأعدهم‬
‫إعدادا تربويا عمليا‪ ،‬دعويا رفيع المستوى ثم أرسلهم إلى القرى‬
‫والمدن لدعوة الناس‪.‬‬
‫‪ -2‬اهتم بنقد فكر الفلسفة المنحرف‪ ،‬والصوفية الباطلة من‬
‫أصحابا وحدة الوجود والحلول والتحاد‪ ,‬وبين الطريق الصحيح‬
‫لمعرفة الحق‪ ،‬والوصول اليقيني إلى معرفة الله الواحد من خلل‬
‫القرآن ومنهج أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪ -3‬حاربا كل أنواع الشرك ومن أقواله في ذلك‪» :‬إن تعظيم‬
‫مظاهر الشرك وأعياد الجاهلية من أعظم أنواع الشرك بالله ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬وإن من يعتقد بصحة دينين‪ ،‬وصلحيتهما في وقت واحد‪،‬‬
‫فهو مشرك‪ ،‬وإن من يعمل بأحكاما السلما وأعمال الكفر‬
‫والشرك فهو مشرك‪ ،‬ول يتم السلما إل بالبراءة من الشرك‬
‫ومحادته ومعاداته‪ ،‬وإن التوحيد هو الشمئزاز والتبرما من كل‬
‫شائبة من شوائب الشرك)‪.«(2‬‬
‫‪ -4‬اهتم بالدعوة إلى التوحيد الخالص‪ ،‬وخلود رسالة محمد ×‬
‫ودعم وحدة المسلمين وإعادتهم إلى حظيرة السلما‪ ،‬وكان سببا في‬
‫حماية المسلمين في بلد الهند من ردة محققة‪.‬‬
‫‪ -5‬قاوما المد الشيعي الذي اخترق البلط الملكي في عهد نور‬
‫)( استمرارية الدعوة والدعاة )‪.(207 – 3/205‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬رجال الفكر والدعوة للندوي )‪.(3/226‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪326‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الدين جهانكير بن الملك أكبر ورفع راية أهل السنة جهارا نهارا‪،‬‬
‫بل استطاع أن يصل إلى معسكر الملك وبلطه بواسطة تلميذه‬
‫بديع الدين السهارنبوري‪.‬‬
‫‪ -6‬اهتم بالمراء الذين ظهر منهم تدين‪ ،‬وفيهم شهامة وحب‬
‫للخير‪ ،‬فهذا المير خان جهان وكان الملك جهانكير يحبه حبا جما‪،‬‬
‫ويعتمد عليه في كثير من شئون الدولة كتب إليه السرهندي يحثه‬
‫على نصرة دين الله فيقول له‪» :‬لو جمعتم بين ما تتبوأون من‬
‫منصب كبير‪ ،‬وبين العمل على الشريعة السلمية‪ ،‬لديتم أمانة‬
‫النبياء ‪ -‬عليهم الصلوات والتسليمات‪ -‬وأوضحتم الدين المتين‬
‫أعواما‬
‫ل‬ ‫وأضأتموه وعممتموه‪ ،‬ولو جهدنا ‪ -‬نحن الفقراء ‪ -‬أنفسنا‬
‫طوال لما لحقنا بغبار أمثالكم من صقور السلما‪.‬‬
‫ل‬
‫)‪(1‬‬
‫وأعوان‬ ‫أبيات لهم همم‬
‫أل نفوس ز‬

‫وكانت لرسائله أثلرا طيلبا في التأثير على القادة والمراء‬


‫والتفافهم حول القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪ -7‬استطاع الماما السرهندي بعد جهاد مرير‪ ،‬وبلء عظيم أن‬
‫يصل إلى الملك نفسه وأصبح من حاشيته ولم يترك جلساء السوء‬
‫ينفردون به بل عمل على دعوة قواد الجيش وحاشية الملك إلى‬
‫السلما الصحيح‪ ،‬وتأثروا بالماما السرهندي لما رأوا فيه من حسن‬
‫الخلق وغزارة العلم‪ ،‬وإخلص للدين‪ ،‬وزهد وورع متين‪ ،‬وحكمة‬
‫في الدعوة إلى الله‪ ،‬ولقد تعاون أولئك القادة مع الماما‬
‫السرهندي من أجل التمكين لدين الله وما هي إل فترة وجيزة‬
‫حتى أزيل دين الملك أكبر‪ ،‬الذي فرضه على الرعية‪ ،‬وأعيد‬
‫للسلما‬
‫مكانته الرفيعة)‪.(2‬‬
‫لقد تأثر الملك جهانكير بمبادئ الماما السرهندي وأقواله‪،‬‬
‫فاستبدل باللحاد اليمان‪ ،‬وأحل السلما محل الزندقة‪ ،‬وجاهر‬
‫بذلك على رءوس المل من قومه‪.‬‬
‫لقد أظهر الملك شعائر السلما ورفع أحكامه‪ ،‬وأعز أهله وبكى‬
‫كثيرا على سابق تفريطه‪.‬‬
‫إن الماما السرهندي مدرسة مهمة في فقه التمكين وله‬
‫منهجية رائعة في أساليب الدعوة حققت نتائج عظيمة للمسلمين‬
‫)( انظر‪ :‬استمرارية الدعوة )‪.(3/255‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( استمرارية الدعوة )‪.(3/250‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪327‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫في الهند‪.‬‬
‫إن القترابا من رجال الدولة والملوك والمراء من أجل‬
‫دعوتهم إلى السلما وتمكين دينه قاما به العلماء والدعاة من‬
‫أمثال الماما السرهندي وحققت نتائج طيبة في نصرة دين الله‪.‬‬
‫***‬

‫‪328‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الفصل الثاني‬
‫أهـــــــــــداف التمكــــــــين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن من القضايا المهمة التي يجب بحثها أهداف التمكين‬
‫ومقاصده الساسية‪ ،‬وإذا رجعنا لنصوص القرآن والسنة نجد أن‬
‫من أهداف التمكين ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يتمكن المجتمع المسلم من إقامة سلطة سياسية‬
‫تستند على مبادئ واضحة وقواعد بينة وأصول متينة‪ ،‬وتستمد تلك‬
‫القواعد والصول من القرآن الكريم و نظاما الحكومة في عصر‬
‫النبي × والزمن الراشدي حيث ساد القانون اللهي‪ ،‬والعدل بين‬
‫الناس‪ ,‬والمساواة‪ ,‬وظهرت مسئولية الحاكم‪ ،‬والرعية‪ ،‬وطبق‬
‫نظاما الشورى‪ ،‬وإقامة نظاما الحياة السلمية على المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى الله‪ ،‬والجهاد في‬
‫سبيله‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ...‬إلخ‪ ،‬وقد كان ذلك كله ترجمة عملية‬
‫صللةل وآتليوُاً اًللزلكاًلة وألمرواً براًلكمعرو ر‬ ‫لقوله تعالى‪+ :‬اًلرذيلنَ رإن لملكلناًيهكمُ رفيِ اًللكر ر‬
‫ف‬ ‫ل لي ل كي‬ ‫ض أللقاًيموُاً اًل ل ل ي‬
‫ل لعاًقربلةي اًلييموُر" ]الحج‪.[41 :‬‬ ‫ونَليلهوُاً لعرنَ اًلكمكنلكرر و ر‬
‫ي ل‬ ‫ل ك‬
‫كما يقول الدكتور مصطفى السباعي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬إن الية‬
‫الكريمة تصرح بالنتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في هذا‬
‫القتال المشروع‪ ،‬فهي ليست استعمار الشعوبا‪ ،‬ول أكل خيراتها‪،‬‬
‫ول انتهابا ثرواتها‪ ،‬ول إذلل كرامتها‪ ،‬وإنما هي نتائج لمصلحة‬
‫النسانية‪ ،‬ولفوائد المجتمعات فهي‪:‬‬
‫‪ -1‬لنشر السمو الروحي في العالم عن طريق العبادة ‪+‬أللقاًيموُاً‬
‫صلللة"‬ ‫اًل ل‬
‫‪ -2‬ولنشر العدالة الجتماعية بين الشعوبا عن طريق الزكاة‬
‫‪+‬لوآتلييوُاً اًللزلكاًلة"‬
‫‪ -3‬ولتحقيق التعاون على خير المجتمع وكرامته ورقيه ‪+‬لوأللميرواً‬
‫ف"‬ ‫رباًلكمعرو ر‬
‫ل كي‬
‫‪ -4‬وللتعاون على مكافحة الشر والجريمة والفساد ‪+‬لونَليلهكوُاً لعرنَ‬
‫اًلكيمكنلكرر"‬
‫تلك هي النتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في قتالهم‬

‫‪329‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أعداءهم من إقامة دولة إسلمية تعمل على سمو الروح‪ ،‬وتكافل‬


‫المجتمع‪ ،‬ورقي النسان عن طريق الخير‪ ،‬ومنع انحداره عن‬
‫طريق الشر‪ ،‬فأية غاية إنسانية أنبل من هذه الغاية التي شرع من‬
‫أجلها القتال في السلما)‪.(1‬‬
‫ويؤكد هذا الهدف قوله تعالى‪+ :‬لوإرلذاً رقيْلل ليهكمُ تليلعاًلكوُاً إرللىَ لماً ألنَكيلزلل اًلي لوإرللىَ‬
‫ت أليكرديرهكمُ ثيلمُ‬
‫صيْبلةر برلماً قللدلم ك‬ ‫ف إرلذاً ألصاًبي كتييهمُ م ر‬
‫لل‬ ‫صيدوحداً ‪ ‬فللككيْ ل‬
‫ك ي‬ ‫صمدولن لعكن ل‬ ‫رر‬ ‫اًللريسوُرل لرأليك ل‬
‫ت اًلكيملناًفقيْلنَ يل ي‬
‫ساًحنَاً لوتليكوُرفيْحقاً" ]النساء‪.[61 ،60 :‬‬ ‫ر ر‬ ‫ر ر رر‬
‫لجاًيءولك يلكحليفوُلن باًل إكن أللركدلنَاً إلل إكح ل‬
‫فالله سبحانه وتعالى يبين هدف تمكين المة وغايته والذي‬
‫يتمثل في قيادة المة لنفسها وللبشرية بكتابا الله تعالى‪ ،‬الذي‬
‫نهى عن النحراف عن هذا النهج الرباني إلى تشريع آخر وهو‬
‫الطاغوت‪ ،‬هذه هي غاية وجود هذه المة والهدف من إقامة‬
‫ك يهيمُ اًلكلكاًفريرولن"‬ ‫دولتها‪ ،‬يقول الله تعالى‪+ :‬لولمنَ لكمُ يلكحيككمُ برلماً ألنَكيلزلل اًلي فليأولئر ل‬
‫ك يهيمُ اًللظاًلريموُلن" ]المائدة‪ [45 :‬وقال‬ ‫]المائدة‪+ .[44 :‬لولمنَ لكمُ يلكحيككمُ برلماً ألنَكيلزلل اًلي فليأولئر ل‬
‫ك يهيمُ اًلكلفاًرسيقوُلن" ]المائدة‪ [47 :‬وقال‬ ‫تعالى‪+ :‬لولمنَ لكمُ يلكحيككمُ برلماً ألنَكيلزلل اًلي فليأولئر ل‬
‫تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً ألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل لويأورليِ اًلكمرر رمكنيككمُ فلرإن تليلناًلزكعتيكمُ رفيِ‬
‫ر‬ ‫ة‬
‫سينَ تلأكرويلح"‬ ‫خيْيرر لوألكح ل‬
‫ك لك‬ ‫ل لواًكليْليكوُم اًللرخرر لذلر ل‬
‫ل واًللرسوُرل رإن يككنتيمُ تييكؤرمينوُلن رباً ر‬
‫ك‬
‫ر‬
‫لشكيِء فلييرمدوهي إرللىَ اً ل ي‬
‫]النساء‪ .[59 :‬فهذه اليات تحكم على من لم يحكم بما أنزل الله‬
‫بالكفر والفسق والظلم‪ ،‬وهي تدل على وجوبا إقامة شرع الله‬
‫في حياة الجماعة المسلمة‪ ،‬وأنه ل طاعة لولة المور إل إذا قاموا‬
‫بهذه الوظيفة‪ ،‬التي تتمثل في تطبيق الشريعة السلمية التي‬
‫أوصى الله تعالى بها‪ ,‬والسنة تقرر أن طاعة ولة المر منصبة‬
‫على تنفيذ الحكم الشرعي‪ ،‬لقد بين الرسول × الهداف السامية‬
‫من التمكين وهي تطبيق شريعة الله‪ ،‬والقضاء على الظلم‬
‫والنحراف في الرض‪ ،‬ونشر السلما والدعوة إليه عقيدة ونظاما‪،‬‬
‫وذلك لن الشريعة السلمية لم تأت لقوما دون قوما‪ ،‬أو مجتمع‬
‫دون مجتمع‪ ،‬بل جاءت خاتمة لما قبلها من الشرائع‪ ،‬ومخاطب بها‬
‫كل أفراد البشر من حين بعثة محمد × إلى أن تنتهي الدنيا)‪.(2‬‬
‫وفيما يلي مباحث تتناول هذا الهدف وما ينتج عنه من مبادئ‬
‫وأسس‪:‬‬

‫)( السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي‪ ،‬ص ‪.110 ،109‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬نظاما الحكم في السلما‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل أبو عيد‪ ،‬ص ‪.70 -68‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪330‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الول‬
‫إقامـــــة المجتمع المســـــــلم‬
‫إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع المسلم الذي تتحقق‬
‫فيه العبودية الشاملة لله تعالى‪ ،‬ولذلك لبد من إقامة دولة‬
‫السلما بدعائمها ودستورها‪ ،‬وقواعدها ومبادئها‪ ،‬ولبد من إقامة‬
‫فريضة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى مكارما‬
‫الخلق‪ ،‬وتطبيق الحدود‪ ،‬وتعليم المة ما ينفعها في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وممارسة قواعد النظاما السياسي السلمي من الشورى‬
‫والعدالة والمساواة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫أول‪ :‬إقامة دولة السلما ودعائمها ودستورها‪:‬‬
‫إن من الوسائل المهمة في تحقيق العبودية لله تعالى ‪-‬بحيث‬
‫ل يعبد في الرض سواه‪ -‬إقامة دولة إسلمية‪ ،‬تحاربا الباطل‬
‫بأشكاله وأنواعه‪ ،‬وتناصر الحق وأتباعه‪ ,‬وللدولة السلمية دعائم‬
‫مهمة تقوما عليها‪ ،‬ومبادئ تستند لها وأهداف تسعى لتحقيقها‪،‬‬
‫وقواعد تعمل على ترسيخها‪ ،‬إن السعي لقامة دولة إسلمية‬
‫ينبعث من كون الدولة جزلءا من تحقيق السلما الشامل‪ ،‬ولم تكن‬
‫هذه الدولة فكرة نظرية مجردة‪ ،‬بل كانت واقعا عاشه المسلمون‬
‫فترة طويلة من الزمان قامت في كنفها حضارة وانتشر خللها‬
‫السلما في شتى أنحاء العالم‪ ،‬ورغم أن الدولة مرت بفترات من‬
‫القوة والضعف ودبا الوهن في جسمها فإنها ظلت متمسكة‬
‫بالساس الذي قامت عليه‪ ،‬ولم تتنازل عن الميثاق الذي ربط‬
‫عراها وهو الكتابا والسنة‪ ،‬وتبلور من النظرية والتطبيق أسس‬
‫معينة ميزت الدولة السلمية وجعلتها نموذجا حاولت البشرية أن‬
‫ترتقي إليه من خلل نظمها النسانية ولكن هيهات‪.‬‬
‫أما تلك الدعائم التي قامت عليها الدولة السلمية وميزتها عن‬
‫غيرها فتتمثل‬
‫فيما يأتي‪:‬‬
‫القوة والضعف‪ ،‬والسلمة والمرض‪ ،‬ولكنها لم تتنازل أبدا عن‬
‫سر بقائها وهو دستورها الوحيد المتمثل في الكتابا والسنة‪ ،‬إن‬
‫أجيال المسلمين في الماضي البعيد‪ ،‬والحاضر القريب توقن إيقانا‬
‫راسخا بأن هناك ارتباطا وثيقا بين دولة السلما وعقيدة السلما‪،‬‬
‫فقوة الدولة رفعة للعقيدة‪ ،‬وحماية للعقيدة‪ ،‬ومما يدل على عمق‬
‫الشعور بالرتباط بين الدولة والعقيدة لدى جماهير المسلمين‬

‫‪331‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫خلل التاريخ السلمي أنه ‪-‬وكما هو موجود بكثرة في كتب‬


‫الحديث والسير والتاريخ‪ -‬كان علماء المسلمين وقواد جيوشهم‬
‫وأفاضل كل عصر‪ ،‬إذا بايعوا الخليفة منذ عهد أبي بكر فمن بعده‬
‫يبايعونه على كتابا الله وسنة رسول الله ×‪ ,‬فربطوا البيعة‬
‫بالكتابا والسنة لتظل الدولة قائمة عليهما‪ ،‬ولتستمد بقاءها ومبرر‬
‫وجودها من الحفاظ عليهما‪.‬‬
‫إن دولة السلما تمثل بين سائر الدول الدولة الصالحة القائمة‬
‫على العقيدة والشريعة ولبد لدولة الصلح أن تكون أركانها‬
‫ودعائمها صالحة كلها‪ ،‬ولذلك من أهداف التمكين تحقيق هذه‬
‫الدعائم المتمثلة في نظاما حكم شرعي ورعية صالحة ملتزمة‬
‫بشرع الله‪ ،‬وحاكم صالح يسهر ويجتهد من أجل تحكيم شرع الله‬
‫وإليك بيان هذه الدعائم‪.‬‬
‫أ‪ -‬نظاما الحكم الشرعي‪) :‬الحاكمية(‪:‬‬
‫إن النظاما السلمي في الحكم يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين‬
‫وأخلقه وعقيدته‪ ,‬فالواقع العملي يدل على ذلك‪ ،‬فخاصة‬
‫المسلمين في كل عصر منذ عهد أبي بكر ‪    ‬‬
‫‪ ،×        ‬ويجعلون ذلك‬
‫أساس الرتباط مع الدولة فكلما تمسك الولة بالشريعة قويت‬
‫الصرة بينهم وبين خاصة المة‪ ,‬وبالتالي عامتها‪ ،‬ولقد اقترنت‬
‫السياسة بالدين في السلما وارتبطت العقيدة الصحيحة‪ ،‬ولم يبق‬
‫في الرض عقيدة سليمة غيرها‪ ،‬وارتبطت بالمعايير الخلقية التي‬
‫ل تستمد إل من الدين‪ ،‬وما أحوج السياسة إلى عقيدة تنطلق منها‬
‫وأخلق تسير عليها)‪.(1‬‬
‫لقد جمع السلما بين الرسالة والخلفة‪ ،‬لن السلما غاية مراد‬
‫الله من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة‪ ،‬ولن امتزاج الدين والملك‬
‫هو أكمل مظاهر التمكين في الرض للمؤمنين قال تعالى‪+ :‬لولماً‬
‫ر‬
‫ل" ]النساء‪ [64 :‬ولذلك أجمع أصحابا رسول‬ ‫ألكرلسكللناً منَ لريسوُةل إرلل لريْيلطاً ل‬
‫ع بررإكذرن اً ر‬
‫الله × بعد وفاته على إقامة الخليفة لحفظ نظاما المة وتنفيذ‬
‫الشريعة‪ ,‬ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ول من العامة‪ ،‬إل‬
‫الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)‪.(2‬‬
‫إن تحقيق حاكمية الله على المة من خلل دولة مسلمة هو‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪ (2/537‬عبد العزيز مصطفى‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬تفسير التحرير والتنوير )‪.(1/707‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪332‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫محض العبودية لله‪ ،‬لن بذلك يتحقق التوحيد ويقوما الدين‪ ،‬قال‬
‫ن" ]يوسف‪:‬‬ ‫س لل يليكع ليموُ ل‬‫ك اًلبديينَ اًلكلقيْبيمُ لولركلنَ ألككثليلر اًللناً ر‬ ‫تعالى‪+ :‬أللملر أللل تليكعبييدواً إرلل إرلياًهي لذلر ل‬
‫‪ [40‬يعني‪» :‬ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات‬
‫والمعاملت إل لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله‪ ،‬ل يمكن‬
‫لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه‪ ،‬ول بعقله واستدلله‪ ,‬ول باجتهاده‬
‫واستحسانه‪ ،‬فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة‬
‫جميع رسله ل تختلف باختلف الزمنة والمكنة«)‪.(1‬‬
‫ويقول الستاذ سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬لقد رسم يوسف‬
‫عليه السلما بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل‬
‫معالم هذا الدين‪ ،‬وكل مقومات هذه العقيدة‪ ،‬كما هز بها كل‬
‫هزا شديدلا‪.‬‬ ‫قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية ّ‬
‫إن الطاغوت ل يقوما في الرض إل مدعيلا أخص خصائص‬
‫اللوهية‪ ،‬وهي الربوبية‪ ،‬أي حق تعبيد الناس لمره وشرعه‪،‬‬
‫ودينونتهم لفكره وقانونه‪ ,‬وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه‬
‫‪ -‬ولم ينطق بلسانه ‪ -‬فالعمل دليل أقوى من القول‪ ،‬وإن‬
‫الطاغوت ل يقوما إل في غيبة الدين القيم والعقيدة الصالحة عن‬
‫قلوبا الناس‪ ،‬فما يمكن أن يقوما وقد استقر في اعتقاد الناس‬
‫فعل أن الحكم لله وحده‪ ،‬لن العبادة ل تكون إل لله وحده‪،‬‬ ‫ل‬
‫والخضوع للحكم عبادة‪ ،‬بل هي)‪ (2‬أصل مدلول العبادة«)‪.(3‬‬
‫لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله‬
‫ك اًلكركلتاًب براًلكحبق لفاًكعبرد اًل مكخلرصاً لهي اًلبدينَ ‪ ‬أللل ر‬
‫ل‬ ‫تعالى‪ ،‬قال سبحانه‪+ :‬إرلنَاً ألنَكيلزلكلناً إرلكيْ ل‬
‫ل‬ ‫ي لي ح‬ ‫ل ل‬
‫ب رباًلكلحبق لرتلكحيكلمُ‬ ‫اًلبدينَ اًلكلخاًلرص" ]الزمر‪ [3 ،2 :‬وقال سبحانه‪+ :‬إرلنَاً ألنَكيزلكلناً إرليْ ل ر‬
‫ك اًلككلتاً ل‬ ‫ل ك‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫س بلماً أللراًلك اًلي" ]النساء‪ [105 :‬فكما أن تحقيق العبودية غاية من‬ ‫ر‬ ‫بليكيْلنَ اًللناً ر‬
‫إنزال الكتابا فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله‪ ،‬وكما أن‬
‫العبادة ل تكون إل عن وحي منزل‪ ،‬فكذلك ل ينبغي أن يحكم إل‬
‫منزل‪ ،‬أو بما له أصل في شرع منزل)‪.(4‬‬ ‫بشرع ع‬
‫ر ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫س‬ ‫قال تعالى‪+ :‬للقكد ألكرلسكللناً يريس للناً رباًكلبلييْبيلناًت لوألنَكيلزلكلناً لملعيهيمُ اًلككلتاً ل‬
‫ب لواًلكميْلزاًلن ليْلييقوُلم اًللناً ي‬
‫صيرهي لويريسلهي رباًلكغلكيْ ر‬ ‫رباًلكرقسرط وألنَكيزلكناً اًلكحرديلد رفيْره بأكس لشرديرد ومناًرفع رلللناً ر ر‬
‫ب إرلن اًلل‬ ‫س لوليْليكعللمُ اًلي لمنَ يليكن ي‬ ‫ل لل ي‬ ‫ل ر‬ ‫ك ل لل ل‬
‫صدقا‪ ،‬وما‬ ‫ل‬ ‫يِ لعرزيرز" ]الحديد‪ [25 :‬فالكتابا والميزان هما‪ :‬ما نقل‬ ‫قلروُ و‬
‫تفسير المنار )‪.(12/309‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫هكذا الضمير في الصل المطبوع )هي( ولعل الوفق للسياق )هو(‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫في ظلل القرآن )‪(4/1991‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(1/433‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪333‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عدل لقامة الناس على شريعة الحق اتباعلا للرسل‪ ،‬فمن‬ ‫ل‬ ‫شرع‬
‫)‪(1‬‬
‫رادعا لكل معاند بعد قياما الحجة ‪ .‬إن‬ ‫ل‬ ‫أبى فقد جعل الحديد‬
‫إقامة حكم الله على المجتمع من خلل الدولة عهد وميثاق ذكره‬
‫ل لع لكيْيككمُ لورميْلثاًقلهي اًلرذيِ لواًثليلقيكمُ برره إركذ قييكلتيكمُ لسرمكعلناً‬
‫الله تعالى في قوله‪+ :‬واًكذيكرواً نَركعمةل اً ر‬
‫ل ي ل‬
‫صيدور " ]المائدة‪ [7 :‬فهذا تذكير من الله‬ ‫ت اًل م‬ ‫وألطلكعلناً واًتلييقوُاً اًل إرلن اًل لعرليْمُ برلذاً ر‬
‫ل ر‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي شرعه لهم في‬
‫هذا الدين العظيم‪ ،‬المرسل به الرسول الكريم‪ ،‬وأخذ للعهد‬
‫والميثاق عليهم في متابعته ونصرته وإبلغه والقياما به‪ ،‬وهذا‬
‫مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها رسول الله ×‪،‬‬
‫على السمع والطاعة في المنشط والمكره‪ ،‬كما أن الخلل بعهد‬
‫ل يحككحماً‬‫الحاكمية جاهلية‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ألفلحككمُ اًلكجاًرهلريْلرة ي كيبييغوُلن ومنَ ألكحسنَ رمنَ اً ر‬
‫لل ك ل ي ل‬ ‫ل‬ ‫ي ل ل‬
‫لبلقكوُةم ييوُقرينوُلن" ]المائدة‪ [50 :‬ففي الية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجب من‬
‫حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغي حكم غيره‪ ،‬والية تعبير‬
‫لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتابا وعلم يبغون حكم الجاهلية التي‬
‫هي هوى وجهل ل يصدر عن كتابا ول يرجع إلى وحي)‪ .(2‬إن‬
‫تحقيق الحاكمية‪ ،‬تمكين للعبودية‪ ،‬وقياما بالغاية التي من أجلها‬
‫س إرلل رليْليكعبييدورن"‬ ‫ر‬ ‫خلق النسان والجان‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬وماً لخ لكق ي ر‬
‫ت اًلكجلنَ لواًلنَك ل‬ ‫لل‬
‫)‪(3‬‬
‫]الذاريات‪ [56 :‬أي ليطيعوه وحده ل شريك له ‪ .‬وإن المفهوما‬
‫الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علئق وأعمال كثيرة‪ ،‬منها ما‬
‫يمكن أن يقيمه الفراد ومنها ما ل يمكن تحقيقه على الوجه‬
‫الكمل إل في ظل دولة السلما‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ :‬منها ما يتم‬
‫بالتحاكم ومنها ما يتم بالحكم‪ ،‬ولشك أن دولة السلما تقصد إلى‬
‫تهيئة المجتمع السلمي للقياما بالعبادة بهذا المعنى الشامل‪،‬‬
‫ونحن عندما نقول إن الدولة في السلما تقصد إلى تحقيق‬
‫العبودية فالمراد أنها تحمي أصول هذه العبودية ول تمكن أحدا من‬
‫العتداء عليها كما يحدث في الدول التي ل تحكم بما أنزل الله‪.‬‬
‫وإذا كان للعبادة أصلن أحدهما‪ :‬أن ل عيعبد إل الله‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن عيعبد بما أمر وشرع)‪ ,(4‬فإنه مما ل شك فيه أن‬
‫دولة السلما مسئولة عن حماية هذين الصلين بمحاربة الشرك‬
‫في داخلها وتعمل على تقليص نفوذه خارجها‪ ،‬وهي تحمي الشرع‬
‫انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/315‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير ابن كثير )‪.(4/239‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مجموع الفتاوى )‪.(10/173‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪334‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ضد من يعتدي عليه بابتداع أو تحريف أو تغيير أو تبديل‪ ،‬وكل ذلك‬


‫يعين على تحقيق العبودية لله على الوجه المرضي‪ ،‬وعلى حماية‬
‫الدين من دخائل وانتحالت المضلين‪ ،‬وبهذا تكون الدولة إسلمية‬
‫بالمعنى الصحيح‪ ،‬فل ينبغي أبدا قصر مفهوما إقامة الدين على‬
‫العبادة بمعنى إقامة الشعائر‪ ،‬واعتبار الدولة التي تظهر بعض هذه‬
‫الشعائر مقيمة للدين‪ ،‬ومظهرة للعبودية بادعاء أنها تقيم من‬
‫السلما أهم ما فيه وهو العبادة‪.‬‬
‫يقول الشيخ أحمد شاكر‪» :‬فمن زعم أن الدين عبادة فقط‪،‬‬
‫فقد أنكر كل هذا)‪ ،(1‬وأعظم على الله الفرية‪ ،‬وظن أن لشخص‬
‫كائنا من كان‪ ،‬أو لهيئة كائنة من كانت أن تنسخ ما أوجب الله‬
‫من طاعته والعمل بأحكامه‪ ،‬وما قال هذا مسلم قط‪ ،‬ول‬
‫يقوله‪،‬ومن قال فقد خرج عن ملة السلما جملة ورفضه كله‪،‬‬
‫وإن صاما وصلى وزعم أنه مسلم«)‪.(2‬‬
‫إن كلمة التوحيد »ل إله إل الله « أقرت أن الحاكمية لله عز‬
‫وجل‪ ،‬وهي من أولى خصائص اللوهية‪ ،‬التي ينفرد بها سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وليس لحد من البشر كائنا من كان‪ ،‬أن يدعيها‪ ,‬فالمشرع‬
‫والمحل والمحرما هو الله عز وجل‪ ،‬ومما ل شك فيه أن مفهوما‬
‫الحاكمية يشمل جميع نواحي الحياة النسانية‪ ،‬فإلى جانب العلقة‬
‫بين النسان وخالقه من شعائر تعبدية‪ ،‬فإن هذا المفهوما يشمل‬
‫أيضا العلقات بين النسان ونفسه‪ ،‬والعلقة بين النسان وأسرته‬
‫وأقاربه‪ ،‬وما له عليهم وما لهم عليه من حقوق التربية والرعاية‬
‫مثل‪ ،‬وكذلك علقة النسان بأخيه النسان وأخيرا علقة النسان‬
‫بالسلطة الحاكمة‪ ،‬فيطيعها ما دامت مطبقة لشرع الله ومنفذة‬
‫لوامره)‪.(3‬‬
‫لقد كانت الشريعة الربانية مهيمنة على المجتمع النبوي‪،‬‬
‫والمجتمع الراشدي‪ ،‬وفي العصر الول يتجلى في زمن عمر بن‬
‫عبد العزيز الذي صبغ أوامر دولته وإجراءاته في كل شئون الدولة‬
‫بصبغة الله تبارك وتعالى‪ ,‬وذلك ما أعلنه ‪    ‬‬
‫‪       :  » :   ‬‬
‫‪              ‬‬
‫‪              ‬‬
‫‪             ‬‬
‫)( يقصد بقية أمور الشريعة المتعلقة بالسياسة والقتصاد والجتماع‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الكتابا والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪335‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪.()«...    ‬‬


‫‪            ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪.          ‬‬
‫‪+ :×     : » :     ‬رباًلكيهلدىَ‬
‫لورديرنَ اًلكلحبق لريْيظكرهلرهي لعللىَ اًلبديرنَ يكلبره لولكوُ لكررله اًلكيمكشرريكوُلن" ]التوبة‪ [33 :‬وإن دين الله الذي‬
‫بعث به محمد × كتابه الذي أنزل عليه أن يطاع الله فيه‪ ،‬ويتبع‬
‫أمره‪ ،‬ويجتنب ما نهى عنه‪ ،‬وتقاما حدوده‪ ،‬ويعمل بفرائضه‪ ,‬ويحل‬
‫حلله ويحرما حرامه‪ ،‬ويعترف بحقه‪ ،‬ويحكم بما أنزل فيه‪ ,‬فمن‬
‫سربيْرل" ]الممتحنة‪[1 :‬‬
‫ضلل لسلوُاًءل اًل ل‬
‫اتبع هدى الله اهتدى‪ ،‬ومن صد عنه ‪+‬فليلقكد ل‬
‫وأن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يفتح لهل السلما بابا‬
‫الهجرة‪ ،‬وأن توضع الصدقات والخماس على قضاء الله وفرائضه‪،‬‬
‫وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر‪ ،‬ل يمنعون ول‬
‫يحبسون« )‪.(2‬‬
‫ففي هذا الكتابا نقل عمر مفهوما مبدأ الحاكمية لله إلى‬
‫عماله‪ ،‬وأنه يرغب إليهم تطبيق ذلك المبدأ على حقيقته‪ ،‬حيث‬
‫يتبين أنه عزما أن يكون أي قرار أو إجراء يتخذ في كل أنحاء‬
‫الدولة‪ ،‬بالنسبة لي أمر كان‪ ،‬لبد أن يخضع لحكم الله عز وجل‬
‫وتجري عليه سنة رسوله ×‪ ،‬وبذلك يكون تطبيق هذا المبدأ‬
‫الساسي‪ ،‬من قبل كافة الولة والعمال‪ ،‬في كل أنحاء الدولة‬
‫السلمية‪ ،‬بل ونجده في آخر الكتابا أوضح أن هناك قرارات‬
‫إدارية شرع في اتخاذها في حينه‪ ،‬مثل فتح بابا الهجرة‪ ،‬وأن‬
‫تكون الجراءات المالية حسب قضاء الله‪ ،‬وأن تكون هناك حرية‬
‫استثمار الموال برا وبحرا‪ ،‬فكانت تأكيدا ودليل للولة‪ ،‬بأنه عازما‬
‫على إدارة الدولة في دائرة شرع الله وحكمه‪ ،‬وأن ذلك من طاعة‬
‫الله التي أنزل في كتابه الكريم‪ ،‬فأصدر أمر التنفيذ وقرنه‬
‫بالتطبيق)‪.(3‬‬
‫مستمدا من كتابا الله‬
‫ل‬ ‫إن الدولة السلمية تجعل دستورها‬
‫وسنة رسوله ×‪ ،‬وتستمد منهما أمهات الخلق وأساسيات‬
‫العقائد‪ ,‬فهو قانونهم الكبر الذي ترجع إليه كل القوانين الفرعية‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬سيرة عمر بن عبد العزيز لبن الحكم‪ ،‬ص ‪.36 ،35‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.88‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬محمد القحطاني‪ ،‬ص ‪.278‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪336‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إن من أهداف مرحلة التمكين وضع نظاما نابع من السلما‬


‫ومصادر الشريعة‪ ،‬يتناول كل مناشط حياة الناس‪ ،‬الفردية‬
‫والعامة‪ ،‬فلبد من وضع النظمة التالية على سبيل المثال‪:‬‬
‫‪ -1‬نظاما التعليم في كل مراحله المعروفة‪ ،‬بل التعليم‬
‫المستمد بعد المرحلة التعليمية‪ ،‬يتناول‪ :‬التعليم‪ ،‬والتدريب‪،‬‬
‫والتثقيف‪.‬‬
‫‪ -2‬ونظاما للعلما‪ ،‬ونظاما للقتصاد والتجارة‪ ،‬والمصارف‪.‬‬
‫‪ -3‬ونظاما لتنمية الثروة والموارد‪.‬‬
‫‪ -4‬ونظاما لتعامل الفرد مع الدولة وتعامل الدولة مع الفرد‪،‬‬
‫بحيث يحفظ للدولة هيبتها‪ ،‬وللفرد كرامته وإنسانيته‪.‬‬
‫‪ -5‬نظاما للجيش والتجنيد وما يتصل به‪.‬‬
‫‪ -6‬نظاما سياسي للدولة‪ ،‬يوضح السس التي تقوما عليها‬
‫سياسة الدولة الداخلية والخارجية‪ ،‬وما فيهما من تفريعات ضخمة‪.‬‬
‫‪ -7‬نظاما للعمل والعمال ونقاباتهم‪.‬‬
‫‪ -8‬ونظاما للخدمات التي تؤديها الدولة للمواطن مثل‪:‬‬
‫‪ -‬الخدمات الجتماعية العامة‪.‬‬
‫‪ -‬والخدمات الصحية‪.‬‬
‫‪ -‬والخدمات التي تقدمها المرافق العامة في الدولة‪.‬‬
‫‪ -9‬ونظاما الدعوة إلى الله ونشرها على مستوى العالم كله‪.‬‬
‫‪ -10‬ونظاما للتعامل مع الدول التي ل تدين بدين السلما‪.‬‬
‫‪ -11‬ونظاما للمساجد والوقاف‪.‬‬
‫‪ -12‬ونظاما للمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫وغير ذلك من النظمة التي تقتضيها مصالح الناس‪ ،‬أو دفع‬
‫المضار عنهم‪.‬‬
‫ولبد من أن تستقي هذه النظمة من مصادر الشريعة‬
‫السلمية وحدها‪.‬‬
‫ويشرف على تنفيذ هذه النظمة وكتابتها أهل التخصص ممن‬
‫تربوا في أحضان الدعوة وعاشوا للسلما وبالسلما)‪ .(1‬ولشك أن‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(2/741‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪337‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الدستور السلمي تستمد أصوله من القرآن الكريم‪ ،‬والسنة‬


‫النبوية الصحيحة التي تعتبر بيانا وتفصيل لما في الكتابا‪ ،‬وكذلك‬
‫أعمال الخلفاء الراشدين ومذاهب المجتهدين‪ ،‬وما أجمعوا عليه‬
‫في كل عصر‪ ،‬وإن كان التشريع بمعنى التحليل والتحريم‪ ،‬ل يؤخذ‬
‫إل من الكتابا والسنة‪.‬‬
‫وأهم مصادر الدستور السلمي‪ ،‬يمكن تعددها فيما‬
‫يلي‪:‬‬
‫ب رباًلكلحبق لرتلكحيكلمُ بليكيْلنَ‬ ‫‪ -1‬القرآن الكريم‪ :‬قال تعالى‪+ :‬إرلنَاً ألنَكيزلكلناً إرليْ ل ر‬
‫ك اًلككلتاً ل‬ ‫ل ك‬
‫س برلماً أللراًلك اًلي" ]النساء‪.[105 :‬‬
‫اًللناً ر‬
‫فهو المصدر الول الذي يشتمل على جميع الحكاما الشرعية‬
‫التي تتعلق بشئون الحياة البشرية‪ ،‬كما يتضمن مبادئ أساسية‬
‫وأحكاما قاطعة لصلح كل شعبة من شعب الحياة‪ ،‬كما بين‬
‫القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوما‬
‫عليها دولتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬السنة المطهرة‪ :‬هي المصدر الثاني الذي يستمد منه‬
‫الدستور السلمي أصوله ومن خللها يمكن معرفة الصيغ‬
‫التنفيذية والتطبيقية لحكاما القرآن ممثلة في قيادة الرسول ×‬
‫للمة‪ ,‬ومن خلل السنة يمكن التعرف على نوعية المجتمع‬
‫المثالي الذي ينشده السلما‪.‬‬
‫‪ -3‬إجماع المة‪ :‬وخاصة الصحابة‪ ،‬وفي مقدمتهم الخلفاء‬
‫ر ر‬ ‫الراشدون‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ومنَ ي ل ر‬
‫شاًقرق اًللريسوُلل منَ بليكعد لماً تليبلييْللنَ لهي اًلكيهلدىَ لويليتلبركع لك‬
‫غيْيلر‬ ‫لل ي‬
‫ر‬ ‫صلرره لجلهنللمُ لولساًءل ك‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت لمصيْحراً" ]النساء‪.[115 :‬‬ ‫لسربيْرل اًلكيمكؤمرنيْلنَ نَييلوُلبه لماً تليلوُللىَ لونَي ك‬
‫إن إجماع الصحابة ‪ -‬حكاما ومحكومين ‪ -‬في عصور الخلفة‬
‫الراشدة‪ ،‬ليس له إل معنى واحد‪ ،‬وهو الفهم الصحيح للكتابا‪،‬‬
‫والطريق السليم للعمل بالسنة‪ ،‬فهم الذين عاصروا عهد تنزيل‬
‫الكتابا‪ ،‬وعاشوا طريقة النبي × في إقامة حياة الناس عليه‪ ،‬فهم‬
‫أفهم الناس لروح الدين‪ ،‬وأعرف الناس بمقاصد الشرع‪ ،‬وأقدر‬
‫الناس على التمييز بين الحق والباطل‪ ،‬ومن المستبعد بل من‬
‫المحال أن يجتمعوا على باطل‪ ،‬لقول النبي ×‪» :‬إن أمتيِ ل تجتمع‬
‫علىَ ضللة«)‪ ,(1‬ولهذا كان إجماعهم حجة يسوغا أن تراعى وتوضع‬

‫)( ابن ماجه‪ ،‬كتابا الفتن‪ ،‬بابا السواد العظم )‪ (2/464‬رقم ‪.4014‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪338‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ضمن مصادر الدستور السلمي‪ ،‬وإجماع المة قد يكون على فهم‬


‫نص‪ ،‬ويجوز أن ينعقد الجماع عن اجتهاد وقياس‪ ،‬ويكون حجة)‪.(1‬‬
‫‪ -4‬مذهب العلماء والمجتهدين‪ :‬قال تعالى‪+ :‬لوإرلذاً لجاًءليهكمُ ألكمرر بملنَ‬
‫ف أللذاًعيوُاً برره لولكوُ لرمدوهي إرللىَ اًللريسوُرل لوإرللىَ يأورليِ اًلكمرر رم كنييهكمُ للعلرلمهي اًلرذيلنَ يلكستليكنبر ي‬
‫طوُنَلهي‬
‫اًلمرنَ ألرو اًلكلخوُ ر‬
‫ك‬ ‫ك‬
‫رم كنييهكمُ"]النساء‪.[83 :‬‬
‫والية دليل على الخذ بالجتهاد إذا عدما النص والجماع)‪,(2‬‬
‫ولن العلماء في أمة محمد × كالنبياء في بني إسرائيل‪ ،‬فهم‬
‫المؤتمنون على نقل العلم‪ ،‬والمفوضون في استنباط الحكاما‬
‫المتجددة في عمومات الشريعة‪ ،‬ل لعصمة اختصوا بها ‪ -‬فليس‬
‫في السلما كهنوت ‪ -‬ولكن لهليتهم في أن يسموا »أهل الذكر«‬
‫والله تعالى يقول‪+ :‬لفاًكسألليوُاً ألكهلل اًلبذككرر رإن يككنيتمُ لل تليكعليموُلن" ]النحل‪.[43 :‬‬
‫فما ذهب إليه العلماء المجتهدون في المة وإن لم يكن حجة‬
‫في ذاته‪ ،‬إل أنه يساعد كثيرا في فهم روح الشريعة وقواعدها‪،‬‬
‫ومعالجة ما يستجد من قضايا في ضوء هذا الفهم‪ ،‬ثم إن لهم‬
‫القدرة على ضبط المناط في الحكاما وقياس الفروع على‬
‫الصول فيها)‪.(3‬‬
‫وعلماء القرون الولى هم ‪ -‬ول شك ‪ -‬المقدمون في هذا‬
‫المضمار‪ ،‬ثم يقدما العالم كلما كان أكثر قربا من علماء السلف‬
‫في الهدى والسمت وعمق الفهم‪ ،‬وغزارة العلم‪ ،‬فمذاهب العلماء‬
‫المجتهدين هي رابع مصادر الدستور السلمي)‪.(4‬‬
‫إن الدستور السلمي للدولة الصالحة يشتمل على قواعد‬
‫ونظم توضح نظاما الحكم وتنظيم السلطات العامة وارتباط بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وتحديد كل سلطة من السلطات الثلث‪ ،‬التشريعية‬
‫والقضائية‪ ،‬والتنفيذية بكل دقة ووضوح‪ ،‬وتوضيح حقوق الفراد‬
‫على الدولة‪ ،‬وواجباتهم نحوها‪ ،‬والحقوق بكل تفصيلتها معنوية‬
‫ومادية‪ ،‬وكذلك الواجبات واللتزامات ووضع القوانين المفصلة‬
‫للدستور مثل‪:‬‬
‫القانون المدني‪ ،‬والقانون الجنائي‪ ،‬والقانون العاما بحيث يكون‬
‫ذلك كله مستمدا من المصادر المذكورة‪ ،‬إن هذه الدعامة عندما‬
‫روضة الناظر وجنة المناظر )‪.(1/385‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير القرطبي )‪.(5/292‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الدستور العلمي للمودودي‪ ،‬ص ‪.6 ،5‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(2/542‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪339‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تقوما على ما ينبغي تقوى الدولة المسلمة وتحمي أنظمة الحياة‬


‫من عبث العابثين الذين ل يدركون الحق في سياسة الرعية‪ ،‬أو‬
‫يدركونه لكنهم ينحرفون عنه‪ ،‬لقد جاءت هذه الشريعة لسد حاجة‬
‫المسلمين من الحكاما فما توفى رسول الله × إل وقد بزين لمته‬
‫كل شيء‪ ،‬ولم يبق للعلماء في ذلك من دور إل إظهار حكم الله‬
‫ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد السلما الكلية‪.‬‬
‫إن تطبيق الشريعة السلمية يحقق نتائج طيبة في حياة‬
‫المسلمين‪ ،‬ومن هذه النتائج تهذيب النفس من الشرور والثاما‬
‫وترويضها على الخير‪ ،‬لذا كان الوازع الديني ثمرة من ثمارها يمنع‬
‫من ارتكابا الجريمة‪ ،‬ويحاسب النفس عليها‪ ،‬ويكون ماثل أماما‬
‫العين مما يجعل النفس تخشى الله وتتقيه دائما وأبدا‪ ،‬كما أنها‬
‫تحقق المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات وتنشر‬
‫العدالة في الدولة السلمية لجميع ساكنيها‪ ،‬كما أن في تطبيقها‬
‫نزول البركة‪ ،‬وتوالي النعم‪ ،‬إذ ليس هنالك طريق مستقل لحسن‬
‫الجزاء في الخرة‪ ،‬وطريق مستقل لصلح الحياة في الدنيا إنما‬
‫هو طريق واحد‪ ،‬تصلح به الدنيا والخرة‪ ،‬وفي تطبيقها بركات في‬
‫النفوس وبركات في المشاعر وبركات في طيبات الحياة‪ ،‬فالبركة‬
‫قد تكون مع القليل إذا أحسن النتفاع به‪ ،‬ومن نتائج تطبيقها بناء‬
‫مجتمع إسلمي معتز بدينه وعقيدته بما التزمه من سلوك مصدره‬
‫كتابا الله وسنة رسوله ×‪ ,‬ففيهما المواد اللزمة لبناء الفرد‬
‫المسلم والجماعة المسلمة والمة المسلمة والدولة المسلمة‪،‬‬
‫كما أن من النتائج حفز الهمم‪ ،‬وبعث النفوس إلى الخذ بأسبابا‬
‫العلم والحضارة والرقي والتقدما لما تضمنته تلك الشريعة من‬
‫الدعوة إلى الحياة كما أنها تتضمن نبذ عفن الحياة الحضاري‬
‫لمجتمعات الرذيلة أيا كانت وأينما وجدت)‪.(1‬‬
‫با‪ -‬الحاكم الصالح‪:‬‬
‫إن الحاكم إذا كان صالحا‪ ،‬مستوفيا للصفات الشرعية‪ ،‬فإنه‬
‫يكون إحدى الدعائم القوية التي تشد من أزر دولة السلما وتعينها‬
‫على القياما بوظائفها السامية خير قياما‪ ،‬استجلبا للخير ودفعا‬
‫للشر‪.‬‬
‫وبقدر ما يأتي الخير ويكثر في وجود الماما الصالح‪ ،‬بقدر ما‬
‫يتفاعل الشر وتتفاقم الفتن في حالة خلو الزمان منه‪ ،‬يقول‬
‫الماما أحمد رحمه الله‪» :‬الفتنة إذا لم يكن إماما يقوما بأمر الناس‬

‫)( انظر‪ :‬تطبيق الشريعة السلمية‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الطريقي‪ ،‬ص ‪.61 ،60‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪340‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫« ويقول أيضا‪» :‬لبد للناس من حاكم‪ ،‬أتذهب حقوق الناس؟« )‪.(1‬‬


‫والصل في الماما أن يكون صالحا في نفسه‪ ،‬قدوة لغيره‪،‬‬
‫فكلمة )الماما( نفسها تدل على ذلك‪ ،‬فمعنى الماما‪ :‬القدوة‪ ،‬ومنه‬
‫قيل لخشبة البناء‪ :‬إماما‪ ،‬ويقال للطريق‪ :‬إماما‪ ،‬لنه يؤما فيه‬
‫المسالك‪ ،‬أي يقصد)‪.(2‬‬
‫س‬ ‫وقد قال الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلما‪+ :‬إربنَيِ لجاًرعلي ل‬
‫ك رلللناً ر‬
‫إرلماًحماً" ]البقرة‪ [124 :‬أي »جعلناك إماما للناس يأتمون بك في‬
‫الخصال‪ ،‬ويقتدي بك الصالحون «)‪.(3‬‬
‫ولهذا فإن الذين يفتقدون إلى الصلح ل يستحقون المامة‪،‬‬
‫فإبراهيم عليه السلما قال لربه بعد ما بشره بالمامة‪+ :‬لورمنَ ذيبريلتيِ"‬
‫ر‬
‫]البقرة‪ [124 :‬على جهة الستفهاما‪ ،‬أي ومن ذريتي يا ربا ماذا‬
‫يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عصاة ظالمين ل يستحقون‬
‫المامة‪ ,‬قال ‪+‬لل يليلناًيل لعكهرديِ اًللظاًلررميْلنَ" ]البقرة‪ [124 :‬والعهد المراد في‬
‫الية هو‪ :‬النبوة أو المامة‪ ،‬أو ولية المر)‪.(4‬‬
‫قال القرطبي في تفسيره‪+ :‬لل يليلناًيل لعكهرديِ اًللظاًلررميْلنَ" )استدل‬
‫جماعة من العلماء بهذه الية على أن الماما يكون من أهل العدل‬
‫والحسان‪ ،‬والفضل مع القوة على القياما بذلك‪ ,‬وهو الذي أمر‬
‫النبي × أل ينازعوا المر أهله‪ ،‬فأما أهل الفسوق والجور والظلم‬
‫فليسوا بأهله( )‪ ,(5‬وفي الية إشارة إلى أن المامة والعدل فيها‪،‬‬
‫أمانة وعهد‪ ،‬والجور والظلم فيها‪ ،‬خيانة لذلك العهد وهذا يقال في‬
‫كل ولية شرعية‪ ،‬يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره لهذه الية‪:‬‬
‫»الولية العامة الشرعية حق أهل اليمان والعدل‪ ،‬والله تعالى لن‬
‫يعهد بإمامة الناس وتولي أمورهم للظالمين‪ ،‬فكل حاكم ظالم‬
‫فهو ناقض لعهد‬
‫الله تعالى«)‪.(6‬‬
‫إن وجود الحاكم الصالح ضرورة إسلمية لتدعيم الدولة‬
‫الحاكمة بما أنزل الله‪ ،‬ولذلك نجد أن الشريعة السلمية قد‬
‫الحكاما السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬لسان العربا‪ ،‬مادة )أمم( )‪.(1/134‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير القرطبي )‪.(2/107‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تفسير الطبري )‪.(3/24‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تفسير القرطبي )‪.(2/108‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تفسير المنار )‪.(1/113‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪341‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أوجبت تنصيبه‪ ،‬بحيث توافر الجماع على ذلك منذ عهد‬


‫الصحابة)‪ ،(1‬بل خلف معتبر‪ ,‬والصل في وجوبا تنصيب الماما‪ ،‬أن‬
‫الصحابة لما اختلفوا في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬قالت النصار‪ :‬منا‬
‫أمير ومنكم أمير‪ ،‬دفعهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا‪:‬‬
‫إن العربا ل تدين إل لهذا الحي من قريش‪ ،‬ودارت بين الفريقين‬
‫محاورات ومناظرات انتهت إلى مبايعة أبي بكر ‪   ‬‬
‫×‪ ,‬فلول أن المامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة‪،‬‬
‫ولقال قائل‪ :‬ليست في قريش‬
‫ول غيرهم)‪.(2‬‬
‫لقد كان إجماع الصحابة على ضرورة تنصيب خليفة مستمدا من‬
‫نصوص الكتابا والسنة الواضحة الدللة على هذا الوجوبا)‪،(3‬‬
‫وحسمت الشريعة أمر المامة بكل وضوح‪ ،‬فجعلت شروطا في‬
‫المامة‪ ،‬وزادت الشريعة من ضبط هذا المر بأن جعلت أمر الترجيح‬
‫بهذه الشروط راجعا إلى خاصة المة المعروفين بـ )أهل الحل‬
‫والعقد(‪ .‬وأهل الحل والعقد ينظرون في الشروط التي حددتها‬
‫الشريعة لولي المر‪ ،‬وينوبون عن المة في اختيار رجل مستوف لتلك‬
‫الشرائط التي تعتبر المعيار الشرعي للصلح المطلوبا في الحاكم‪.‬‬
‫ومن الجدير ذكره هنا‪ ،‬أن أهل الحل والعقد أنفسهم يخضعون‬
‫لشروط حددها أهل العلم من أهمها‪ :‬العدالة‪ ،‬العلم الذي يتوصل‬
‫به إلى معرفة من يستحق المامة‪ ،‬والثالث أن يكون من أهل‬
‫الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للمامة أصلح)‪.(4‬‬
‫وهذه المور ينص عليها دستور الدولة المستمد من الكتابا‬
‫والسنة المطهرة‪ ،‬كما أن الدستور يتضمن شروط المامة‬
‫العظمى‪ .‬إن الشريعة السلمية انفردت بكثير من السرار‬
‫والحكم مؤادها في النهاية أل يقدما لهذا المنصب الجليل إل من‬
‫يغلب على الظن أنه أهل لقيادة خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬وهذه‬
‫الشروط منها ما هي شروط صحة‪ ،‬ومنها ما هي شروط كمال‪.‬‬
‫الشرط الول‪ :‬السلما‪:‬‬
‫والشارة إليه في قوله تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً ألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً‬
‫اًللريسوُلل لويأورليِ اًلكمرر رمكنيككمُ" ]النساء‪ ،[59 :‬أي ذوي أمركم ومن ولوه من‬
‫انظر‪ :‬مراتب الجماع للماما أبي محمد بن حزما‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الحكاما السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(2/482‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الحكاما السلطانية للقاضي أبي يعلي‪ ،‬ص ‪ 19‬وللماوردي‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪342‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المسلمين)‪.(1‬‬
‫وقال النووي رحمه الله‪) :‬أجمع العلماء على أن المامة ل‬
‫تنعقد لكافر‪ ،‬وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل‪ ،‬قال‪ :‬وكذا لو‬
‫ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها()‪.(2‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬العدالة‪:‬‬
‫والعدالة هي التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل مع ترك‬
‫المعاصي‪ ,‬وكل ما يخل بالمروءة‪ ،‬وهي تثبت بالستفاضة‬
‫والشهرة)‪.(3‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬الذكورة‪:‬‬
‫أجمع العلماء على أن المرأة ل يجوز أن تكون إماما)‪.(4‬‬
‫قال الشنقيطي رحمه الله‪) :‬من شروط الماما العظم كونه‬
‫ذكرا‪ ،‬ول خلف في ذلك بين العلماء‪ ،‬ويدل له ما ثبت في صحيح‬
‫البخاري وغيره أن النبي × لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى‪،‬‬
‫قال‪» :‬لنَ يفلح قوُم ولوُاً أمرهمُ اًمرأة«()‪.(5‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬القدرة وسلمة الحواس‪:‬‬
‫صطللفاًهي لع لكيْيككمُ لولزاًلدهي بلكسطلةح رفيِ اًلكرعكلرمُ لواًلكرجكسرمُ لواًلي يييكؤرتيِ يمكللكهي‬
‫قال تعالى‪+ :‬إرلن اًلل اً ك‬
‫شاًءي" ]البقرة‪.[247 :‬‬
‫لمنَ يل ل‬
‫قال الشنقيطي‪» :‬أي يكون سليم العضاء‪ ،‬غير زمن ول أعمى‬
‫ونحو ذلك«)‪.(6‬‬
‫الشرط الخامس‪ :‬القرشية‪:‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬إن هذا المر في قريش‪ ،‬ل يعاديها أحد‬
‫إل كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين«)‪ ،(7‬وشرط‬
‫القرشية قد اختلف في كونه شرط صحة أو شرط كمال‪ ،‬وذهب‬
‫الجمهور إلى أنه شرط صحة‪ ،‬وكما أن شرط القرشية قيد بشرط‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ (8/503‬تحقيق أحمد شاكر‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( شرح صحيح مسلم للنووي )‪.(12/229‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الحكاما السلطانية للفراء‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬الفصل بين الملل والنحل )‪ ,(4/110‬ومراتب الجماع‪ ،‬ص ‪.125‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الفتن‪ ،‬بابا‪ ،18 :‬حديث رقم ‪ ،7099‬فتح الباري )‪.(13/58‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( أضواء البيان )‪(1/57‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتابا الحكاما‪ ،‬بابا‪ :‬المراء من قريش‪ ،‬فتح الباري )‪ (13/122‬رقم‬ ‫‪7‬‬

‫‪.7139‬‬

‫‪343‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهو‪ :‬إقامة الدين الذي هو المطلب من وراء المامة‪.‬‬


‫الشرط السادس‪ :‬الحرية‪:‬‬
‫ل خلف بين العلماء في أن من شروط الماما العظم أن‬
‫يكون حرا‪ ،‬فل يجوز أن يكون قائد المة من العبيد‪ ،‬ونقل عنهم‬
‫الجماع على ذلك)‪.(1‬‬
‫الشرط السابع‪ :‬البلوغا‪:‬‬
‫لبد لمن يتولى أمر المسلمين أن يكون رجل‪ ،‬فالصبيان ل يليق‬
‫أن يلوا المور العظاما‪ ،‬والجماع منعقد على عدما جواز إمامة‬
‫الصبي لعدما قدرته على القياما بأعباء الحكم )‪.(2‬‬
‫الشرط الثامن‪ :‬العقل‪:‬‬
‫ل نزاع بين أهل العلم في أن المجنون أو المعتوه ل تجوز‬
‫إمامته »لن المامة تدبير‪ ،‬والعقل آلة التدبير‪ ،‬فإذا ذهب العقل‬
‫ذهب التدبير«)‪.(3‬‬
‫الشرط التاسع‪ :‬العلم المؤدي إلى الجتهاد‪:‬‬
‫وهو شرط عند علماء المسلمين في الماما‪ ،‬بحيث يصلح أن‬
‫يكون قاضيا من قضاة المسلمين وحتى يمكنه الستغناء عن‬
‫استفتاء غيره في الملمات والحوادث‪.‬‬
‫وصرح الشاطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬بعدما صحة عقد المامة لمن‬
‫لم ينل رتبة الجتهاد والفتوى‪ ،‬فقال‪» :‬إن العلماء نقلوا التفاق‬
‫على أن المامة الكبرى ل تنعقد إل لمن نال رتبة الجتهاد والفتوى‬
‫في علوما الشرع«)‪.(4‬‬
‫وذهب بعض العلماء إلى أن هذا شرط كمال وليس شرط‬
‫صحة‪ ،‬ومن رأى أنه شرط صحة أجاز ولية غير المجتهد عند‬
‫الضرورة‪ ,‬وهذا ما صرح به الشاطبي بقوله‪» :‬إذا فرض خلو‬
‫الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس‪ ،‬وافتقروا إلى إماما يقدمونه‬
‫لجريان الحكاما وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء‬
‫المسلمين وأموالهم‪ ،‬فلبد من إقامة المثل ممن ليس بمجتهد‪،‬‬
‫لنا بين أمرين‪ ،‬إما أن يترك الناس فوضى‪ ،‬وهو عين الفساد‬
‫والهرج‪ ،‬وإما أن يقدموه فيزول الفساد به‪ ،‬ول يبقى إل فوات‬

‫انظر‪ :‬الحكاما السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير القرطبي )‪ ،(1/270‬انظر‪ :‬الفصل بين الملل والنحل )‪(4/11‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪(2/494‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫العتصاما للشاطبي )‪.(2/126‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪344‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الجتهاد«)‪.(1‬‬
‫الشرط العاشر‪ :‬الحنكة في أمور الحربا والسلم‪:‬‬
‫فينبغي لولي أمر المسلمين أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف‬
‫في أمور الحربا مثل‪ :‬تدبير الجيوش‪ ،‬وسد الثغور وحماية بيضة‬
‫المسلمين ومنازلة العداء‪ ,‬وحسن الستفادة من الصدقاء‪،‬‬
‫وكذلك في أمور السلم بأن يملك زماما المة ويأخذ من ظالمها‬
‫لمظلومها ولضعيفها من قويها‪ ،‬ويقيمها على الحق ويقيم بها‬
‫الحق)‪.(2‬‬
‫وعد القاضي أبو يعلي من شرط الماما »أن يكون قيما بأمر‬
‫الحربا والسياسة وإقامة الحدود‪ ،‬ل تلحقه رأفة في ذلك«)‪ ،(3‬وهذا‬
‫الشرط من شروط الصحة عنده وعند الماوردي)‪ ,(4‬وكذلك ابن‬
‫خلدون)‪.(5‬‬
‫على أن الشروط المعتبرة‪ ،‬رغم نص العلماء عليها‪ ،‬ليست‬
‫ضربة لزبا كلها‪ ،‬بحيث لو وجد شخص فيه معظمها ل تنعقد له‬
‫المامة حتى توجد فيه كلها‪ ،‬ل‪ ،‬بل إن في المر مرونة تناسب‬
‫تغير الحوال بل قال القرطبي‪» :‬يجوز نصب المفضول مع وجود‬
‫الفاضل خوف الفتنة وأل يستقيم أمر المة‪ ,‬وذلك أن الماما إنما‬
‫نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل‪ ،‬واستخراج الحقوق‬
‫وإقامة الحدود‪ ،‬وجباية الموال لبيت المال وقسمتها على أهلها‪،‬‬
‫فإذا خيف بإقامة الفضل الهرج والفساد وتعطيل المور التي‬
‫لجلها ينصب الماما‪ ،‬كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن‬
‫الفاضل للمفضول‪ ،‬ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر المة‬
‫وقت الشورى بأن الستة)‪ ،(6‬فيهم فاضل ومفضول«)‪.(7‬‬
‫ول شك أن من أهداف مرحلة التمكين تقديم الحاكم الصالح الذي‬
‫تتدعم به‬
‫دولة السلما‪.‬‬
‫إن إقامة الدستور على نهج كتابا الله وسنة رسوله × وبيان‬
‫)( العتصاما للشاطبي )‪.(2/126‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(1/270‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الحكاما السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكاما السلطانية للماوردي‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬المقدمة‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( الستة هم الذين نصح عمر ‪ ‬المسلمين أن يختاروا واحدا منهم لولية المر بعده‬ ‫‪6‬‬

‫حين طلب إليه أن يعهد عهدا‪ ،‬وهم‪ :‬علي‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وسعد‬
‫بن أبي وقاص‪ ،‬والزبير بن العواما‪ ،‬وطلحة بن عبيد الله‪.‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(5/259‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪345‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫شروط الحاكم من خلله من أهداف مرحلة التمكين‪ ،‬إن القرآن‬


‫الكريم ذكر للحاكم الصالح صفات وملمح ل تقف عند حد الجزاء‬
‫والصحة‪ ،‬وإنما تتجاوزهما إلى حد السمو والرفعة‪ ,‬وكيف ل يكون‬
‫المر كذلك‪ ،‬والحاكم هو أسوة العامة‪ ,‬وقائد الخاصة‪ ،‬والفرد الول‬
‫في المة‪ ،‬المقدما لقيادة الركب في كل المهمات والملمات‪.‬‬
‫إن في القرآن كثيرا من الصفات العظيمة التي يحبها المولى‬
‫عز وجل‪ ,‬وسنرى ذلك بإذن الله في بعض شخصيات المرسلين‪.‬‬
‫جـ‪ -‬الرعية الصالحة‪:‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين إيجاد دعائم دولة السلما ومن‬
‫أهمها الهتماما بالرعية وتربيتها على نهج ربا البرية لتصبح مؤمنة‬
‫بربها مصلحة في حياتها‪ ,‬تتحمل إقامة الحياة السلمية على‬
‫شريعة الله وتقوما بإلزاما الحكاما على الستقامة على شريعة الله‪,‬‬
‫فالرعية هي التي تمد الحاكم بشرعية الولية‪ ،‬وتوظيفهم في‬
‫مهمة تحكيم شرع الله‪ ،‬قال القرطبي‪» :‬إقامة مراسيم الدين‬
‫واجبة على المسلمين‪ ،‬ثم الماما ينوبا عنهم«)‪.(1‬‬
‫فالرعية الصالحة قيمة على مسلك الولة‪ ،‬بحيث إذا زاغوا عن‬
‫السبيل ردتهم‪ ،‬وإذا اعوجوا قومتهم‪ ،‬فإن أبوا إل النحراف‬
‫والبتعاد عن الطريق المستقيم خلعتهم وأبعدتهم‪ ,‬والمة المسلمة‬
‫ليست كأية أمة‪ ،‬ول ينبغي لشعوبها أن تكون رعية كأية رعية‪،‬‬
‫تساق فتنساق‪ ,‬وتوجه فتتوجه‪ ،‬إنها أمة صاحبة رسالة وحاملة‬
‫أمانة‪ ،‬اختارها الله بين المم وأرسل فيها أفضل الرسول‪ ،‬وأنزل‬
‫إليها أحسن الكتب‪ ،‬وخصها بأفضل شريعة وكفلها بأسمى رسالة‬
‫س لتأمرولن رباًلكمعرو ر‬
‫ف لوتلي كنيلهكوُلن لعرنَ اًلكيمكنلكرر‬ ‫كما قال سبحانه‪+ :‬يككنتمُ لخيْير أيلمةة أيكخررج ك ر‬
‫ل كي‬ ‫ت لللناً ر ي ي‬ ‫ل‬ ‫يك كل‬
‫ل" ]آل عمران‪ [110 :‬فهم خير الناس للناس وأنفع الناس‬ ‫وتييكؤرمينوُلن براً ر‬
‫ل‬
‫)‪(2‬‬
‫للناس ‪.‬‬
‫إن أمة السلما تحتاج لكي تقوما بمهمتها في هداية الناس‬
‫للخير إلى أن تكون صالحة في نفسها مصلحة لغيرها‪ ،‬فهي‬
‫الشهيدة على المم لنها أمة الوسط‪.‬‬
‫س لويليكوُلن اًللريسوُيل‬ ‫قال سبحانه‪+ :‬لولكلذلر ل‬
‫ك لجلعكللناًيككمُ أيلمةح لولسحطاً لبتليكوُنَيوُاً يشلهلداًءل لعللىَ اًللناً ر‬
‫لع لكيْيككمُ لشرهيْحداً" ]البقرة‪ .[143 :‬إن الدستور السلمي في دولة الشريعة‬

‫)( تفسير القرطبي )‪(12/261‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير ابن كثير )‪.(1/369‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪346‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بزين حقوق الرعية على الحاكم وحقوق الراعي على المحكومين‬


‫بدقة متناهية‪.‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين بيان حقوق الرعية على‬
‫الراعي وحث الحاكم على تنفيذها‪ ،‬ومن أهم هذه‬
‫الحقوق‪:‬‬
‫‪ -1‬العمل على البقاء على عقيدة المة صافية نقية‪.‬‬
‫‪ -2‬بذل السبابا المؤدية إلى وحدة المة‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يعمل الولة على حماية المة من المفسدين‬
‫والمحاربين‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يعملوا على حماية المة من أعداء الخارج‪.‬‬
‫‪ -5‬إعداد المة إعداد جهاديا‪.‬‬
‫‪ -6‬حفظ ما وضعت الشريعة لجله‪.‬‬
‫‪ -7‬تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء وصرفها في‬
‫مصارفها الشرعية‪.‬‬
‫‪ -8‬تحري المانة في اختيار أربابا المناصب‪.‬‬
‫‪ -9‬إعطاء حقوق الرعية وما يستحقونه في بيت المال من غير‬
‫سرف ول تقتير‪ ،‬ودفعه في وقت ل تقديم فيه ول تأخير‪.‬‬
‫‪ -10‬الشراف المباشر على سير المور بين الرعية في كل‬
‫النواحي الدارية التي تتعلق بما يصلح أحوالهم)‪.(1‬‬
‫فإذا استوفت الرعية حقوقها من ولتها فلبد أن تؤدي واجباتها‬
‫إليهم‪ ,‬فإن لولة المر حقوقا على الرعية واجبة في أعناقهم‪،‬‬
‫ولذلك فإن من أهداف مرحلة التمكين بيان هذه الحقوق في‬
‫دستور الدولة وتذكير الناس باللتزاما بها‪.‬‬
‫ومن واجبات الرعية تجاه الولة‪:‬‬
‫‪ -1‬الطاعة‪:‬‬
‫قال تعالى‪+:‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً ألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً اًللريسوُلل لويأورليِ اًلكمرر‬
‫رمكنيككمُ"]النساء‪.[59 :‬‬
‫قال القرطبي‪» :‬لما تقدما إلى الولة في الية المتقدمة وبدأ‬
‫بهم فأمرهم بأداء المانات‪ ،‬وأن يحكموا بين الناس بالعدل‪ ،‬تقدما‬
‫في هذه الية فأمر الرعية بطاعته جل وعل أول وهي امتثال‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(323 – 2/315‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪347‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أوامره واجتنابا نواهيه‪ ،‬ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى‬
‫ثالثا‪ ،‬على قول الجمهور وأبي هريرة وابن‬
‫ل‬ ‫عنه‪ ،‬ثم بطاعة المراء‬
‫عباس وغيرهم«)‪.(1‬‬
‫وفي المجتمع السلمي‪ ،‬الشريعة فوق الجميع‪ ،‬يخضع لها‬
‫الحاكم والمحكوما‪ ،‬ولهذا فإن طاعة الحكاما مقيدة دائما بطاعة‬
‫الله ورسوله‪ ،‬كما قال رسول الله ×‪» :‬ل طاعة في المعصية إنما‬
‫الطاعة في المعروف« )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬النصرة‪:‬‬
‫فالواجب على الرعية نصرة الماما الحاكم بما أنزل الله‬
‫ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين وجهاد العدو‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫‪+‬لوتليلعاًلونَيوُاً لعللىَ اًكلببر لواًلتليكقلوُىَ" ]المائدة‪.[2 :‬‬
‫قال ×‪» :‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم‪ ،‬يريد‬
‫أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه« )‪ ,(3‬ومن نصرة‬
‫الماما أل يهان‪ ،‬ومن معاضدته أن يحترما‪ ،‬وأن يكرما‪ ,‬فقوامته على‬
‫المة وقيادته لها لعلء كلمة الله‪ ،‬تستوجب تبجيله وإجلله‬
‫وإجلل‪ ،‬وإكراما لشرع الله سبحانه الذي ينافح‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫تبجيل‬ ‫وإكرامه‬
‫ويدافع عنه‪ ،‬يقول رسول‬
‫الله ×‪» :‬إن من إجلل الله تعالى‪ :‬إكراما ذي الشيبة المسلم‪،‬‬
‫وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه‪ ،‬وإكراما ذي السلطان‬
‫المقسط« )‪.(4‬‬
‫‪ -3‬النصح‪:‬‬
‫إن السلما أوجب على الرعية أن تناصح ولة أمرها قال ×‪:‬‬
‫»الدين النصيحة ‪ -‬ثلثا ‪ -‬قال الصحابة‪ :‬لمن يا رسول الله؟ قال‪:‬‬
‫لله ‪-‬عز وجل‪ -‬ولكتابه ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم« )‪.(5‬‬
‫وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتناصحون ‪ -‬رعاة ورعية‬
‫‪ ,-‬فهذا عمر ‪» :         ‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(5/259‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الحكاما‪ ،‬بابا السمع والطاعة للماما‪ ،‬حديث رقم ‪) 7145‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.(8/135‬‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتابا المارة بابا حكم من فرق أمر المسلمين )‪ (3/1480‬رقم‬ ‫‪3‬‬

‫‪.1852‬‬
‫)( رواه أبو داود‪ ،‬كتابا الدبا‪ ,‬بابا تنزيل الناس منازلهم‪ ،‬رقم الحديث ‪،4822‬‬ ‫‪4‬‬

‫وصححه اللباني‪ ،‬انظر‪ :‬صحيح سننه أبي داود )‪ (3/1918‬رقم ‪.4053‬‬


‫)( مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا بيان أن الدين النصيحة )‪ (1/74‬رقم ‪.55‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪348‬‬
‫ مراحل التمكين وأهدافه‬:‫البابا الثالث‬


.()«    
:‫ التقويم‬-4
‫لقد استقر في مفهوما الصحابة أن بقاء المة على الستقامة‬
      ‫ فهذا أبو بكر‬،‫رهن باستقامة ولتها‬
 » :           
            
           
            ,   
              
           
.( )«        
             
    » :      

  
      
 
             
.( )« 
  -     -     
.          
           
.        
:‫ إقامة قواعد النظاما السلمي‬:‫ثانيلا‬
‫ويدخل ضمنا في أهداف التمكين الحرص على إقامة قواعد‬
‫ ومن أهم‬,‫النظاما السلمي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم‬
.‫ والحريات‬،‫ والمساواة‬،‫ والعدل‬،‫هذه القواعد الشورى‬
:‫ الشورى‬-‫أ‬
‫إن تداول الرأي في الحوادث مارسته الشعور منذ أقدما‬
،‫ والرومان‬،‫ والهنود‬،‫ والمصريون‬،‫ مارسه العربا والفرس‬،‫العصور‬
‫ ولم يوجد شعب ول أمة‬،‫ ومارسه الملوك والفراعنة‬،‫والصينيون‬
.‫إل مارسته في القديم والحديث‬
.(1/169) ‫)( أورده الماما الدارمي في مقدمة سننه‬ 1

.‫ إسناده صحيح‬:‫( وقال ابن كثير‬6/306) ‫)( البداية والنهاية لبن كثير‬ 2

.(2/533) ‫)( الحكم والتحاكم في خطابا الوحي‬ 3

349
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن ملكة سبأ عندما وصلها كتابا من سليمان عليه السلما‬


‫يدعوها فيه إلى الذعان بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة‬
‫والسلما دعت المل وهم أشراف الناس من قومها ووجوههم‬
‫ب لكرريمُ ‪ ‬إرنَلهي رمنَ س لكيْماًلن وإرنَلهي برسرمُ اً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫المقربون إليها قالت‪+ :‬إربنَيِ أيلكقليِ إرلليِ كلتاً ر ر‬
‫)‪(1‬‬
‫ي ل ل ك‬
‫ت لقاًرطلعةح‬
‫ت لياً أليميلهاً اًلكلملي ألفكييتوُرنَيِ رفيِ ألكمرريِ لماً يكن ي‬ ‫اًللركحلمرنَ اًللررحيْرمُ ‪ ‬أللل تليكعليوُاً لع لليِ لوأكيتوُرنَيِ يمكسلررميْلنَ ‪ ‬لقاًل ك‬
‫س لشرديةد واًلكمر إرلكيْ ر‬
‫ك فلاًنَظيرريِ لماًلذاً تلأكيمرريلنَ"‬ ‫ل ي‬ ‫ألكمحراً لحلتىَ تلكشلهيدورن ‪ ‬لقاًليوُاً نَلكحينَ يأويلوُ قييلوُةة لويأويلوُ بلأك ة‬
‫]النمل‪.[33-29 :‬‬
‫إن القرآن الكريم يقدما لنا درسا في الخذ بنظاما الشورى‪ ،‬إذ‬
‫يقص علينا قصة ملكة سبأ عندما تلقت تهديد سليمان بالزحف على‬
‫مملكتها‪ ,‬فلم تنفرد باتخاذ موقف لوحدها ثم تطلب تنفيذه‪ ،‬وإنما‬
‫جمعت أشراف قومها وطلبت منهم الراء في هذا الموضع الخطير)‪.(2‬‬
‫إن الشورى واجبة على الحاكم في الشريعة السلمية‪ ,‬وإلى‬
‫هذا القول ذهب كثير من العلماء والفقهاء‪ ،‬فل يحل للحاكم أن‬
‫يتركها وأن ينفرد برأيه دون مشورة المسلمين من أهل الشورى‪،‬‬
‫كما ل يحل للمة السلمية أن تسكت على ذلك‪ ،‬وأن تتركه ينفرد‬
‫بالرأي دونها‪ ،‬ويستبد بالمر دون أن يشركها فيه‪ ،‬فإن أقدما على‬
‫هذا المر فقد ارتكب منكرا‪ ،‬ينبغي عليها أن تنكره عليه‪ ،‬أخذا‬
‫بحديث رسول الله × الذي رواه الماما مسلم رحمه الله قال‪:‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم‬
‫)‪(3‬‬
‫يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان« ‪.‬‬
‫فالحاكم المستبد آثم بتركه واجب الستشارة‪ ،‬والمة آئمة‬
‫لتركها واجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وبوسع المة إذا‬
‫كانت متماسكة على قلب رجل واحد عزله وتحرير المة منه ومن‬
‫)‪(4‬‬
‫ظلمه واستبداده‪ ،‬بل الشرع يفرض عليها ذلك‪ ،‬قال ابن عطية‬
‫رحمه الله تعالى‪» :‬والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الحكاما‪،‬‬
‫ومن ل يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب‪ ،‬هذا ما ل خلف‬
‫فيه«)‪.(5‬‬

‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬عز الدين التميمي‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬دعوة سليمان‪ ،‬علي منسي عشكان‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مختصر صحيح البخاري للمنذري‪ ،‬ص ‪ ،16‬رقم الحديث ‪.34‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عبد الرءوف بن تماما بن عطية‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫يكنى أبا محمد‪ ،‬وهو من نسل زيد ابن محاربا‪ ,‬وكان فقيها عالما بالتفسير‬
‫والحكاما والحديث والفقه والنحو واللغة‪ ,‬توفي عاما ‪546‬هـ‪ ،‬انظرالديباج المذهب‬
‫في معرفة علماء المذهب‪ ،‬ص ‪.175 ،174‬‬
‫)( المحرر الوجيز في تفسير الكتابا العزيز )‪.(3/397‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪350‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وقال الجصاص الحنفي)‪ - (1‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره بأحكاما‬


‫القرآن معقبا على قوله تعالى‪+ :‬لوألكميريهكمُ ي‬
‫شوُلرىَ بل كييْينلييهكمُ" ]الشورى‪[38 :‬‬
‫وهذا يدل على أننا مأمورون بها)‪.(2‬‬
‫قال الطاهر بن عاشور‪» :‬مجموع كلما الجصاص يدل على أن‬
‫مذهب أبي حنيفة وجوبها«)‪.(3‬‬
‫وقال النووي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬واختلف أصحابنا هل كانت‬
‫الشورى واجبة على رسول الله × أما كانت سنة في حقه كما في‬
‫حقنا‪ ،‬والصحيح عندهم وجوبها‪ ،‬وهو المختار‪ ,‬قال الله تعالى‬
‫‪+‬لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر" والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو‬
‫الصول أن المر للوجوبا «)‪.(4‬‬
‫وقال شيخ السلما ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ل غنى لولي‬
‫المر عن المشاورة‪ ،‬فإن الله تعالى أمر بها نبيه ×‪ ,‬فقال تعالى‪:‬‬
‫ل إرلن اًلل ييرح م‬
‫ب‬ ‫ت فليتليوُلكل لعللىَ اً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ف لع كنييهكمُ لواًكستليغكفكر ليهكمُ لولشاًروكريهكمُ فيِ اًلكمرر فلإلذاً لعلزكم ل ل ك‬
‫‪+‬لفاًكع ي‬
‫اًلكيمتليلوُبكرليْلنَ" ]آل عمران‪.« (5) [159 :‬‬
‫ولقد ذهب إلى وجوبا الشورى على الحاكم جماهير العلماء من‬
‫المحدثين‪ ،‬وإليك بعضهم‪:‬‬
‫قال الستاذ حسن البنا ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ومن حق المة السلمية‬
‫أن تراقب الحاكم أدق مراقبة‪ ،‬وأن تشير عليه بما ترى فيه من الخير‪,‬‬
‫وعليه أن يشاورها وأن يحترما إرادتها‪ ،‬وأن يأخذ بالصالح من آرائها‪،‬‬
‫وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال‪+ :‬لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر" وأثنى على‬
‫خيرا فقال‪+ :‬لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بلي كيْينلييهكمُ" ونصت على ذلك سنة‬
‫ل‬ ‫المؤمنين‬
‫)‪(6‬‬
‫رسول الله × « ‪.‬‬
‫وقال الستاذ المودودي‪» :‬والمير حتم عليه أن يسوس البلد‬
‫بمشاورة أهل الحل والعقد أعضاء مجلس الشورى‪ ،‬وهو أمير‬

‫)( هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي كان مشهورا بالزهد والورع‪ ,‬تبحر في العلوما‬ ‫‪1‬‬

‫وتلقى على يديه خلق كثير توفي ‪370‬هـ‪ ،‬الطبقات السنية في تراجم الحنفية )‬
‫‪.(480 – 1/477‬‬
‫)( أحكاما القرآن للجصاص )‪.(3/386‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التحرير والتنوير )‪.(4/149‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( شرح النووي على مسلم )‪.(4/76‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( السياسة الشرعية في إصلح الراعي والرعية‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( مجموعة الرسائل للستاذ حسن البنا‪ ،‬ص ‪.361‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪351‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مزودا بثقة المة «)‪.(1‬‬


‫ل‬ ‫ماداما‬
‫وقال‪» :‬وخامسة قواعد الدولة السلمية حتمية تشاور قادة‬
‫الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم‬
‫وإمضاء نظاما حكم الشورى«)‪.(2‬‬
‫وقال الشيخ شلتوت)‪ - (3‬رحمه الله ‪» :-‬أما الشورى فهي أساس‬
‫الحكم الصالح‪ ،‬وهي السبيل إلى تبين الحق‪ ،‬ومعرفة الراء الناضجة‪،‬‬
‫عنصرا من العناصر التي تقوما عليها الدولة‬
‫ل‬ ‫أمر بها القرآن‪ ،‬وجعلها‬
‫السلمية‪ ،‬ففي الكتابا الكريم سورة عرفت باسم‪) :‬الشورى( وقد‬
‫عنصرا من‬
‫ل‬ ‫سميت بذلك لنها السورة الوحيدة التي قررت الشورى‬
‫عناصر الشخصية اليمانية الحقة‪ ،‬ونظمتها في عقد‪ ،‬حباته طهارة القلب‬
‫واليمان والتوكل‪ ،‬وطهارة الجوارح من الثم والفواحش‪ ،‬ومراقبة الله‬
‫بإقامة الصلة وحسن التضامن بالشورى«)‪.(4‬‬
‫وقال الشيخ محمد أبو زهرة)‪ - (5‬رحمه الله ‪» :-‬أما الشرط‬
‫الثالث فهو أن يكون الختيار بشورى المسلمين‪ ،‬والصل في ذلك‬
‫هو أن الحكم السلمي في أصل وضعه شورى‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫‪+‬لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر" وللتزاما النبي × في عامة أموره التي كانت تهم‬
‫المسلمين‪ ،‬ولم ينزل فيها وحي‪ ...‬وإذا كان الحكم السلمي في‬
‫أصله شوريا فلبد أن يكون الختيار شوريا أيضا‪ ،‬لنه ل يمكن أن‬
‫يكون الحكم شوريا ويكون الخليفة مفروضا بحكم الوراثة‪ ،‬إذ إن‬
‫الوراثة والشورى نقيضان ل يجتمعان في بابا واحد«)‪.(6‬‬
‫وقال الشيخ عبد الوهابا خلف)‪» :(7‬والناظر في آيات القرآن‬
‫الكريم وصحاح السنة يتبين أن الحكومة السلمية دستورية‪ ،‬وأن‬

‫)( نظاما الحياة في السلما – النظاما السياسي‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الخلفة والملك‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو أحد علماء مصر المشهورين‪ ،‬وشيخ الزهر الشريف‪ ،‬له مؤلفات كثيرة في‬ ‫‪3‬‬

‫الفقه والتفسير والثقافة العامة‪ ،‬توفي عاما ‪1964‬هـ‪.‬‬


‫)( السلما عقيدة وشريعة‪ ،‬ص ‪.459 ،458‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( هو الشيخ الجليل محمد أبو زهرة أحد فحول علماء مصر المعدودين‪ ,‬كان جريئلا في‬ ‫‪5‬‬

‫مدافعا عن السلما‪ ،‬ل يخشى في ذلك لومة لئم‪ ،‬له مصنفات كثيرة في الفقه‬ ‫ل‬ ‫الحق‪،‬‬
‫والصول وتاريخ التشريع‪ ,‬ومن كتبه علم أصول الفقه‪ ،‬والماما مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأبو‬
‫حنيفة‪ ,‬وأحمد‪ ،‬وابن حزما‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وتاريخ المذاهب السلمية‪.‬‬
‫)( تاريخ المذاهب السلمية في السياسة والعقائد‪ ،‬ص ‪.94 ،93‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( ولد سنة ‪1880‬ما بكفر الزيات والتحق بالزهر الشريف سنة ‪1900‬ما‪ ،‬بعد أن‬ ‫‪7‬‬

‫حفظ القرآن الكريم ودرس في مدرسة القضاء الشرعي‪ ،‬وتخرج فيها عاما‬
‫‪1915‬ما‪ ،‬وعين مدرسلا بها وشارك في ثورة ‪1919‬ما‪ ,‬فبرزت مواهبه الخطابية‬
‫والكتابية ومارس القضاء ودرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة )‪ (22‬سنة‪،‬‬
‫توفي ‪1956‬ما‪ ،‬مقدمة كتابه أصول الفقه‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫خاصا بفرد وإنما هو للمة ممثلة في أهل الحل‬ ‫ّ‬ ‫المر فيها ليس‬
‫والعقد‪ ،‬لن الله سبحانه جعل أمر المسلمين شورى بينهم‪ ،‬وساق‬
‫وصفهم بهذا مساق الوصاف الثابتة‪ ،‬والسجايا اللزمة كأمة شأن‬
‫السلما ومن مقتضياته‪ ..‬وإذا كان المسلمون أهملوا تنظيم هذه‬
‫الشورى حتى ذهبت روحها‪ ،‬وجرؤ بعضهم أن يقول‪ :‬إنها مندوبة ل‬
‫محتومة‪ ،‬وصمت الذان عن سماعها‪ ،‬وأضاعوا البيعة ومسخوها‬
‫حتى جعلوها أمرا صوريا‪ ،‬ل يحقق الغرض منها ول يشعر بإرادة‬
‫المة «)‪.(1‬‬
‫وقال الستاذ عبد القادر عودة)‪ - (2‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫»والسلما يرد نظاما الحكم في الجماعة إلى الشورى‪،‬‬
‫لتستطيع الجماعة أن تختار الحكاما الصالحين للقياما بأمر الله في‬
‫الجماعة‪ ،‬ولتستطيع أن تعزلهم كلما عجزوا عن أداء واجباتهم أو‬
‫حادوا عن الطريق القويم‪ ،‬كما أن نظاما الشورى يحول بين‬
‫الحكاما وبين السئثار بشئون الجماعة‪ ،‬إذ يجعل الجماعة رقيبة‬
‫على الحكاما الذين اختارتهم‪ ،‬وقد جاء السلما بنظاما الشورى‬
‫وطبقه المسلمون قبل أن تعرفه الدول الغربية بأحد عشر قرنا‬
‫على القل‪ ،‬وقد فرض هذا النظاما بقوله تعالى‪+ :‬لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بلي كيْينلييهكمُ"‬
‫وبقوله‪+ :‬لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر" ]آل عمران‪.(3) .[159 :‬‬
‫وقال الستاذ عبد الكريم زيدان ‪ -‬حفظه الله ‪» :-‬إن وكالة‬
‫رئيس الدولة عن المة وكالة مقيدة‪ ،‬ومن قيودها أن يشاور المة‪،‬‬
‫لن المشاورة ورد بها النص الشرعي‪ ،‬فل تملك المة التنازل‬
‫عنها‪ ،‬لن سلطتها محدودة بحدود الشرع فل تستطيع أن تفوض‬
‫وكيلها ‪ -‬رئيس الدولة ‪ -‬استعمال سلطانها إل بهذا القيد‪ ،‬قيد‬
‫الشورى‪ ،‬سواء صرحت بهذا عند انتخابه أو لم تصرح«)‪.(4‬‬
‫ولقد استدل القائلون بوجوبا الشورى بالكتابا والسنة وسيرة‬
‫الخلفاء الراشدين ‪ -‬رضي الله عنهم أجمعين ‪ -‬والمعقول‪.‬‬
‫الدلة من القرآن الكريم‪:‬‬

‫)( السياسة الشرعية أو نظاما الدولة في الشئون الدستورية والخارجية والمالية‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص ‪.29-25‬‬
‫)( عبد القادر عودة من كبار المحامين في مصر‪ ،‬درس الحقوق ونبغ فيها‪ ،‬ودرس‬ ‫‪2‬‬

‫الفقه السلمي الجنائي دراسة شاملة‪ ،‬وواعية‪ ,‬وألف فيه كتابه المشهور التشريع‬
‫الجنائي السلمي‪ ،‬وهو من أفضل الكتب في هذا المجال أعدمه جمال عبد الناصر‬
‫في محنة الخوان المسلمين في مصر وكان إعدامه – رحمه الله – سنة ‪1955‬ما‪.‬‬
‫)( السلما وأوضاعنا القانونية‪ ،‬ص ‪.132 – 122‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الفرد والدولة في الشريعة السلمية‪ ،‬ص ‪.37 ،36‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪353‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ضوُاً رمكنَ‬
‫ب للنَكيلف م‬ ‫ت فلقظاً غلرليْ ل‬
‫ظ اًلكلقكل ر‬ ‫ت ليهكمُ لولكوُ يكن ل‬ ‫ل رلن ل‬
‫‪ -1‬قال تعالى‪+ :‬فلبرماً ركحمةة بمنَ اً ر‬
‫ل ل ل ل‬
‫ب‬ ‫ر‬
‫ح‬
‫لي م‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫اً‬ ‫ل‬
‫ن‬ ‫ر‬
‫إ‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫اً‬ ‫لىَ‬‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ك‬‫وُ‬‫ي‬ ‫يت‬‫ل‬
‫لل ك ل ل ل ك ل‬‫ف‬ ‫ت‬ ‫م‬‫ز‬ ‫ع‬ ‫اً‬ ‫ذ‬
‫ل‬ ‫ر‬
‫إ‬‫ل‬‫ف‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫م‬
‫ك‬ ‫اًل‬ ‫ف لع كنيهمُ واًستليغكرفر لهمُ ولشاًرورهمُ ر‬
‫فيِ‬ ‫ك لفاًكع ي ي ك ل ك ك ي ك ل ك ي ك‬ ‫لحكوُلر ل‬
‫اًلكيمتليلوُبكرليْلنَ" ]آل عمران‪.[159 :‬‬
‫لقد نزلت هذه الية بعد غزوة أحد وما جرى فيها من أحداث‬
‫وآلما حلت بالمسلمين‪ ،‬وكان القرار في الخروج مبنيا على‬
‫الشورى‪ ،‬وحتى ل تنشأ فكرة استبعاد الشورى عند بعض الصحابة‬
‫نزلت هذه الية‪ ،‬تأمر رسول الله × بأن يعفو عن المؤمنين وأن‬
‫يستغفر لهم ويشاورهم في المر‪ ,‬ولو كان نتيجة الشورى مرة‪،‬‬
‫كما حدث في أحد‪.‬‬
‫وإذا كان الله تبارك وتعالى قد أمر رسول الله × ‪-‬وهو أرجح‬
‫الناس عقل‪ ،‬وأقواهم رأيا‪ -‬بالشورى‪ ،‬فالمر في حق غيره من‬
‫الحكاما والمراء والسلطين آكد وأوجب‪ ،‬ومن المعروف عند‬
‫علماء الصول أن المر يفيد الوجوبا ما ل ترد قرينة تصرفه من‬
‫الوجوبا إلى الندبا‪ ،‬وصيغة »وشاورهم« صيغة أمر‪ ،‬وهي تدل‬
‫على وجوبا الشورى‪ ،‬ولم ترد قرينة تصرفها من الوجوبا إلى‬
‫الندبا‪ ،‬بل جاءت النصوص الخرى من الكتابا والسنة تؤكد هذا‬
‫الوجوبا وتؤيده)‪.(1‬‬
‫قال الفخر الرازي في تفسيره‪» :‬ظاهر المر للوجوبا‪ ،‬فقوله‪:‬‬
‫)وشاورهم‪ ،‬يقتضي الوجوبا( )‪.(2‬‬
‫وقال أبو حيان الندلسي)‪» :(3‬في هذه الية دليل على‬
‫المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والتفكر فيه‪ ،‬وأن ذلك مطلوبا‬
‫شرعا خلفا لما كان عليه بعض العربا من ترك الشورى‪ ،‬ومن‬
‫الستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة«)‪.(4‬‬
‫وقال الستاذ محمد رشيد رضا ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره‬
‫لقوله تعالى‪+ :‬لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر"‪» :‬أي في المر العاما الذي هو‬
‫سياسة المة‪ ،‬في الحربا والسلم‪ ،‬والخوف والمن‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫مصالحهم الدنيوية‪ ،‬أي أداما المشاورة وواظب عليها كما فعلت‬
‫قبل الحربا في هذه الموقعة )غزوة أحد( وإن أخطأوا الرأي‪ ،‬فإن‬
‫الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة دون العمل‬
‫)( انظر‪ :‬حكم الشورى في السلما‪ ،‬ونتيجتها‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.32 ،31‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التفسير الكبير‪.(9/67) :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو محمد بن يوسف بن علي بن حيان الغرناطي الديب النحوي اللغوي مفسر‬ ‫‪3‬‬

‫ومحدث‪ ,‬توفي عاما ‪745‬هـ‪ ،‬شذرات الذهب )‪.(147 – 6/145‬‬


‫)( البحر المحيط )‪.(2/47‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪354‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫برأي الرئيس وإن كان صوابا‪ ،‬لما في ذلك من النفع لهم في‬
‫مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم )المشاورة(‪،‬‬
‫والخطر على المة في تفويض أمرهم إلى الرجل الواحد أشد‬
‫وأكبر«)‪.(1‬‬
‫وقال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وبهذا النص الجازما ‪+‬لولشاًروكريهكمُ‬
‫رفيِ اًلكمرر" يقرر السلما هذا المبدأ في نظاما الحكم ‪ -‬حتى ومحمد‬
‫رسول الله × هو الذي يتوله ‪ -‬وهو نص قاطع ل يدع للمة‬
‫المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي‪ ،‬ل يقوما السلما على‬
‫أساس سواه«)‪.(2‬‬
‫وقال أيضا‪» :‬لو كان وجود القيادة الراشدة في المة يكفي‬
‫ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون لكان وجود محمد‬
‫× ومعه الوحي من الله ‪-‬سبحانه وتعالى ‪ -‬كافيا لحرمان الجماعة‬
‫المسلمة يومها من حق الشورى! وبخاصة على ضوء النتائج‬
‫المريرة التي صاحبتها في ظل الملبسات الخطيرة لنشاة المة‬
‫المسلمة‪ ،‬ولكن وجود محمد رسول الله × ومعه الوحي اللهي‬
‫ووقوع تلك الحداث‪ ،‬ووجود تلك الملبسات‪ ،‬لم يلغ هذا الحق لن‬
‫الله ‪-‬سبحانه ‪ -‬يعلم أنه لبد من مزاولته في أخطر الشئون‪،‬‬
‫ومهما تكن النتائج‪ ،‬ومهما تكن الخسائر‪ ،‬ومهما يكن انقساما‬
‫الصف‪ ،‬ومهما تكن كلها جزئيات ل تقوما أماما إنشاء المة‬
‫الراشدة‪ ،‬المدربة بالفعل على الحياة‪ ،‬المدركة لتبعات الرأي‬
‫والعمل‪ ،‬الواعية لنتائج الرأي والعمل‪ ،‬ومن هنا جاء المر اللهي‬
‫ف لع كنييهكمُ لواًكستليغكرفكر ليهكمُ لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر" ليقرر‬ ‫في هذا الوقت بالذات ‪+‬لفاًكع ي‬
‫المبدأ في مواجهة أخطر الخطار التي صاحبت استعماله‪ ،‬وليثبت‬
‫هذا القرار في حياة المة المسلمة أيا كانت هذه الخطار التي تقع‬
‫في أثناء التطبيق‪ ،‬وليسقط الحجة الواهية التي تثار لبطال هذا‬
‫المبدأ في حياة المة المسلمة‪ ،‬كلما نشأ عن استعماله بعض‬
‫العواقب التي تبدو سيئة‪ ،‬ولو كان هو انقساما الصف‪ ،‬كما وقع في‬
‫أحد والعدو على البوابا‪ ،‬لن وجود المة الراشدة مرهون بهذا‬
‫المبدأ‪ ،‬ووجود المة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في‬
‫الطريق)‪.(3‬‬
‫صللةل لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بلي كيْينلييهكمُ لورملماً‬
‫‪ -2‬وقال تعالى‪+ :‬لواًلرذيلنَ اًكستللجاًبيوُاً لرلربرهكمُ لوأللقاًيموُاً اًل ل‬
‫)( تفسير المنار )‪.(4/166‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/501‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(4/502‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪355‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لرلزقكيلناًيهكمُ يييكنرفيقوُلن" ]الشورى‪ ,[38 :‬لقد قرنت الية الكريمة الشورى بين‬
‫المسلمين بإقامة الصلة‪ ،‬فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم‬
‫الصلة‪ ،‬وحكم الصلة واجبة شرعا‪ ،‬فكذلك الشورى واجبة‬
‫شرعا)‪.(1‬‬
‫إن هذه الية قد نزلت في سورة سميت سورة الشورى‪ ،‬وهي‬
‫مكية‪ ,‬ولقد جاءت مؤكدة أن تكون الشورى صفة ملزمة للجماعة‬
‫السلمية‪ ،‬وسلوكا اجتماعيا ل يغادرهم قبل قياما الدولة السلمية‬
‫وبعد قيامها‪ ،‬فإن كلمة أمرهم من ألفاظ العموما تشمل جميع‬
‫شئونهم العامة وحياتهم المشتركة)‪.(2‬‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره لهذه الية‪» :‬والتعبير‬
‫يجعل أمرهم كله شورى‪ ،‬لصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة‪ ،‬وهو كما قلنا‬
‫نص مكي قبل قياما الدولة السلمية‪.‬‬
‫فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين‪،‬‬
‫إنه طابع الجماعة السلمية في كل حالتها‪ ،‬ولو كانت الدولة‬
‫بمعناها الخاص لم تقم بعد‪.‬‬
‫والواقع أن الدولة في السلما ليست سوى إفراز طبيعي‬
‫للجماعة وخصائصها الذاتية‪ ،‬والجماعة تتضمن الدولة‪ ،‬تنهض وإياها‬
‫بتحقيق المنهج السلمي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية‪.‬‬
‫ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكرا‪ ،‬وكان مدلوله‬
‫أوسع وأعمق من محيط الدولة وشئون الحكم فيها‪ ،‬إنه طابع ذاتي‬
‫للحياة السلمية‪ ،‬وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية‪،‬‬
‫وهي من ألزما صفات القيادة«)‪.(3‬‬
‫ويقول الستاذ عبد القادر عودة ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬الشورى دعامة‬
‫من دعائم اليمان وصفة من الصفات المميزة للمسلمين‪ ،‬سزوى الله‬
‫بينها وبين الصلة والنفاق في قوله‪+ :‬لواًلرذيلنَ اًكستللجاًبيوُاً لرلربرهكمُ لوأللقاًيموُاً اًل ل‬
‫صلللة‬
‫ن" ]الشورى‪[38:‬‬ ‫لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بل كييْينلييهكمُ لورملماً لرلزقكيلناًيهكمُ يييكنرفيقوُ ل‬
‫فجعل للستجابة لله نتائج بين لنا أبرزها‪ ،‬وأظهرها‪ ،‬وهي إقامة‬
‫الصلة والشورى والنفاق‪ ،‬وإذا كانت الشورى من اليمان فإنه ل‬
‫يكمل إيمان قوما يتركون الشورى‪ ،‬ول يحسن إسلمهم إذا لم‬
‫يقيموا الشورى إقامة صحيحة‪ ،‬ومادامت الشورى صفة لزمة‬
‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما لبي فارس‪ ،‬ص ‪.90‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬حكم الشورى في السلما ونتيجتها‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(6/3165‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪356‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫للمسلم ل يكمل إيمانه إل بتوفرها‪ ،‬فهي إذن فريضة إسلمية‬


‫واجبة على الحاكمين والمحكومين‪ ،‬فعلى الحاكم أن يستشير في‬
‫كل أمور الحكم والدارة‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والتشريع‪ ،‬وكل ما يتعلق‬
‫بمصلحة الفراد أو المصلحة العامة‪ ،‬وعلى المحكومين أن يشيروا‬
‫على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها‪ ،‬سواء استشارهم‬
‫الحاكم أو لم يستشرهم«)‪.(1‬‬
‫والحاديث القولية والسنة الفعلية الدالة على وجوبا الشورى‬
‫كثيرة ونكتفي بما ذكرنا خوفا من الطالة ومن خلل الدراسة‬
‫الوافية لمسألة الشورى يتضح أن القول بالوجوبا أرجح من‬
‫الندبا والعلم عند الله‪.‬‬
‫ولقد اختلف العلماء هل الشورى معلمة أو ملزمة‪ ،‬ولقد‬
‫اخترت في هذا البحث كونها ملزمة وهو الذي ينسجم مع أهداف‬
‫التمكين‪ ،‬والواقع المعاش للمة‪ ،‬ولقد ذهب جمهور العلماء‬
‫والفقهاء في العصر الحديث إلى أن الشورى بنتيجتها للماما‬
‫ملزمة‪ ,‬وعليه أن يأخذ برأي الغلبية وإن كان رأي الغلبية يخالف‬
‫رأيه الذي يرجح أنه أصوبا من رأيهم‪ ،‬ولقد كان آخر رأي صدر‬
‫عن الستاذ المودودي في هذا الشأن أن الشورى ملزمة للمير‪،‬‬
‫وليس له أن ينفرد برأيه ويخالف رأي أهل الشورى أو أغلبيتهم‪.‬‬
‫قال المودودي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وخامسة قواعد الدولة‬
‫السلمية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين‬
‫والنزول على رضاهم ورأيهم‪ ،‬وإمضاء نظاما الحكم بالشورى‪،‬‬
‫يقول تعالى‪+ :‬لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بل كييْينلييهكمُ" ويقول‪+ :‬لولشاًروكريهكمُ رفيِ اًلكمرر")‪.(2‬‬

‫إن قاعدة‪+ :‬لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بل كييْينلييهكمُ" تتطلب بذاتها خمسة أمور‪:‬‬


‫خامسها التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم‪ ،‬أما أن‬
‫يستمع ولي المر إلى آراء جميع أهل الشورى ثم يختار هو بنفسه‬
‫بحرية تامة‪ ،‬فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها‪،‬‬
‫فالله لم يقل‪» :‬تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمرهم« وإنما قال‪:‬‬
‫‪+‬لوألكميريهكمُ يشوُلرىَ بلي كيْينلييهكمُ" يعني أن تسير أمورهم بتشاور فيما بينهم‪،‬‬
‫وتطبيق هذا القول اللهي ل يتم بأخذ الرأي فقط‪ ،‬وإنما من‬
‫الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري المور وفق ما يتقرر بالجماع‬

‫)( السلما وأوضاعنا السياسية‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الخلفة والملك‪ ،‬ص ‪.42 ،41‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪357‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أو بالكثرية«)‪.(1‬‬
‫وقال الشيخ شلتوت ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وضع السلما مبدأ‬
‫الشورى‪ ،‬وعمل به‬
‫النبي × في حياته‪ ،‬والخليفتان من بعده‪ ،‬وكان له في صدر‬
‫السلما شأن تجلى به سمو السلما في تقرير حق النسان‪ ،‬وكان‬
‫فيه الحرية التامة في إبداء الرأي من أهل الرأي‪ ،‬وقد جاء في‬
‫بيان المصادر التي يجب على المؤمنين اتباع الحكاما والنظم‬
‫والوامر الصادرة عنها‪ ،‬قوله تعالى ‪+‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً ألرطيْعيوُاً اًلل لوألرطيْعيوُاً‬
‫اًللريسوُلل لويأورليِ اًلكمرر رمكنيككمُ" ]النساء‪ [59 :‬وإذا كانت إطاعة الله هي العمل‬
‫بما تضمنه كتابه الواضح الذي ل يحتمل الرأي‪ ،‬وكانت إطاعة‬
‫الرسول × هي العمل بما تضمنته أقواله التشريعية العامة‬
‫الموثوق بنسبتها إليه‪ ،‬كان )أولو المر( هم أهل النظر الذين‬
‫عرفوا في المة بكمال الختصاص في بحث الشئون وإدراك‬
‫المصالح والغيرة عليها‪ ،‬وكانت طاعتهم هي الخذ بما يتفقون عليه‬
‫في المسألة ذات النظر والجتهاد‪ ،‬أو بما يترجح فيها عن طريق‬
‫الغلبية أو قوة البرهان«)‪.(2‬‬
‫وقال في كتابه من توجيهات السلما تعقيبا على موقف‬
‫السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ‪ -‬رضي الله عنهما ‪ -‬من‬
‫رفض إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة‪ ،‬وقد كان رسول الله ×‬
‫يرى ذلك‪:‬‬
‫»وهذه الحادثة تضع تقليدلا دستوريلا هاملا‪ ،‬وهو أن الحاكم ولو‬
‫كان رسول معصوما يجب عليه أل يستبد بأمر المسلمين‪ ،‬ول أن‬
‫يقطع برأي في شأن هاما‪ ،‬ول أن يعقد معاهدة تلزما المسلمين‬
‫بأي التزاما دون مشاورتهم وأخذ آرائهم‪ ،‬فإن فعل كان للمة حق‬
‫إلغاء كل ما استبد به من دونهم‪ ،‬وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم‬
‫فيها رأي«)‪.(3‬‬
‫ويقول الستاذ عبد الكريم زيدان‪» :‬الخذ برأي رئيس الدولة‬
‫سديد من الناحية النظرية‪ ،‬ولكن نظرا لضرورات الواقع‪ ،‬وتغير‬
‫النفوس‪ ،‬ورقة الدين‪ ،‬وضعف اليمان‪ ،‬وندرة الكفاء الملهمين‪،‬‬
‫كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني‪ ،‬فنلزما رئيس الدولة برأي‬
‫الكثرية بشروط‪ ،‬الول‪ :‬إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي الكثرية‬
‫)( الحكومة السلمية‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السلما عقيدة وشريعة‪ ،‬محمود شلتوت‪ ،‬ص ‪.462،463‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( من توجيهات السلما‪ ,‬محمود شلتوت‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪358‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫فله أن يحيل الخلف إلى هيئة التحكيم‪ ،‬والثاني‪ :‬إذا لم يقتنع‬


‫برأي هيئة التحكيم‪ ،‬فله إجراء استفتاء عاما حول موضوع الخلف‪،‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يعطي حرية اتباع الرأي الذي يراه في الحوال‬
‫الستثنائية كحالة الحربا أو خطر يهدد سلمة البلد«)‪.(1‬‬
‫ول نريد أن نتوسع في نقل القوال لكثرة الباحثين والعلماء‬
‫الذين ذهبوا إلى أن الشورى ملزمة‪.‬‬
‫إن الله تعالى قد شرع نظاما الشورى لحكم بالغة‪ ،‬ومقاصد‬
‫عظيمة‪ ،‬ولما فيها من المصالح الكبيرة‪ ،‬والفوائد الجليلة التي تعود‬
‫على المة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬يتعرض الحكاما والقادة والرؤساء في كثير من الحيان‬
‫والظروف إلى اندفاعات عاطفية‪ ،‬تكون ذات نتائج سلبية وآثار‬
‫سيئة على حياة المة‪ ،‬وفي هذه الحالة تكون الشورى من أنجح‬
‫الضوابط لكبح جماح العواطف لدى الحكاما والقادة والرؤساء‪,‬‬
‫ففي المشاورة عصمة لهم من القداما على أمور تضر بالمة وقد‬
‫ل يشعرون بضررها‪.‬‬
‫‪ -2‬الشورى نوع من الحوار المفتوح‪ ،‬ومن أحسن الساليب‬
‫لتوعية الرأي العاما وتنويره‪ ،‬وتعزيز عوامل الحب والثقة بين‬
‫الحاكم والمحكومين‪ ،‬والقائد والمقودين‪ ،‬والرئيس والمرءوسين‪،‬‬
‫وهو خير أسلوبا في الحكم لعزل الشكوك‪ ،‬ونفي الهواجس‬
‫وإزالة الوهاما‪ ،‬ووقف الشائعات التي تنمو عادة في ظل الستبداد‬
‫وتنتشر في عتمة الغوغائية‪.‬‬
‫‪ -3‬تقضي مبادئ السلما بأن يشعر كل فرد أن له دورا في‬
‫حياة المجتمع والجماعة‪ ،‬والشورى تتيح الفرصة أماما كل فرد لكي‬
‫يقدما ما يستطيع من جهود وأفكار وآراء ومهارات لخير المجتمع‪،‬‬
‫كما تتيح الفرصة أماما كل فرد ليعبر عن رأيه في الشئون العامة‪.‬‬
‫‪ -4‬إن الشورى تمنح الدفء العاطفي‪ ،‬والتماسك الفكري‬
‫لفراد المة‪ ،‬وفيها إشعار الفرد بقيمته الذاتية‪ ،‬وقيمته الفكرية‪،‬‬
‫وقيمته النسانية‪ ،‬وتدفع أفراد المجتمع نحو الجتهاد والبداع‬
‫والرضا وتتفجر الطاقات وتتكشف المواهب المغمورة في المة‪.‬‬
‫‪ -5‬إن الشورى تساهم في علج ضروبا الكبت الضاغطة‪،‬‬
‫وكوامن الحقاد الدفينة‪ ،‬وتطيح بكثير من الكظوما الخفية‪ ،‬وتدفع‬
‫رعايا الدولة للعطاء والحرص على ترسيخ النظاما‪ ،‬وصدق الولء‪.‬‬
‫‪ -6‬وفي نظاما الشورى تذكير للمة بأنها هي صاحبة السلطان‬
‫)( الفرد والدولة في الشريعة السلمية‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪359‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة الحكم‬


‫والسلطان‪.‬‬
‫‪ -7‬وفي المشاورة امتثال لمر الله بها‪ ،‬واقتداء برسول الله‬
‫×‪ ,‬وهذه المزية أرجح المزايا المتقدمة‪ ،‬وهذا أهم العوامل في‬
‫نجاح نظاما الشورى)‪.(1‬‬
‫إن الشورى تمثل عمل سياسيا ضروريا لنجاح الدولة في تدبير‬
‫شئون المة‪ ،‬وهي تشكل منهجا حيويا يتوقف عليه انتصار الحق‬
‫في المجتمع‪ ،‬والتزاما السداد في شئونه‪ ،‬كما يتوقف عليه احتراما‬
‫العقل في الدولة واحتراما النسان في ظلها‪.‬‬
‫وهي ضمانة سياسية لستقرار الدولة وحمايتها من عوامل‬
‫الضعف‪ ،‬وهي سبيل رئيسي لسلمة المجتمع من الفوضى‪,‬‬
‫وسلمة الدعوة السلمية من العثار حين أداء دورها العظيم في‬
‫العالم‪ ،‬وهي تتطلب انتخابا الهيئة القيادية السياسية والجتماعية‬
‫لمراقبة الخطوط الساسية وضبطها طبقا لحكاما الشريعة التي‬
‫تجسد المصالح الحقيقية للمة‪.‬‬
‫وهناك حقيقة ينبغي أن تتضح في العقول والذهان وهي أن بقاء‬
‫المجتمع قويا متمسكا بأهدافه السامية‪ ،‬وقيمة العليا يتطلب تعزيز‬
‫الدور السياسي الذي تضطلع به المة بمجموعها عن طريق ممارسة‬
‫الشورى التي شرعها الله للمؤمنين‪ ،‬فمن خلل الشورى يتأكد‬
‫السلطان السياسي الحقيقي الذي يقوما بمهمة الشراف الفعلي‬
‫والعقلي على المجتمع برمته‪.‬‬
‫وفي المجتمع السلمي تتقبل الراء وفقا لجدارتها‪ ،‬وبمقدار‬
‫انسجامها مع عقيدة المة ودستور الدولة‪ ,‬تلك الدولة التي من‬
‫شأنها أن تمنح الفراد قدرة على ابتكار الفكار الجديدة‪ ،‬والراء‬
‫الناضجة‪ ،‬وأن الدولة التي تنفذ المور دون معرفة بالحقائق‬
‫المتصلة بها‪ ،‬واستيعابا الظروف والملبسات المحيطة بها‪ ،‬ودون‬
‫اللتفات إلى رأي المة وسماع وجهة نظرها عن طريق ممثليها‬
‫إنما تقوما بمغامرة غير مأمونة في نتائجها‪ ,‬ول سليمة في نهايتها‪,‬‬
‫ولن تتوصل إلى حلول منطقية مبنية على أسس سليمة‪ ،‬ومن هنا‬
‫أمرا شديد الهمية في فن الحكم‪ ,‬فكل‬ ‫ل‬ ‫فإن اللماما بالواقع يمثل‬
‫قرار سياسي مهما بلغت كفاءة الرئيس الذي يصدره ومكانته‬
‫السياسية العالية ‪ -‬سوف يكون حتما وبالتأكيد قرارا خاطئا إن هو‬
‫أخطأ في معرفة الواقع الذي يعالجه‪ ,‬وهذه القاعدة ل تنطبق على‬
‫القرارات السياسية وحدها‪ ،‬بل تنطبق أيضا على كل قرار أيا كان‬
‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة لعز الدين التميمي‪ ،‬ص ‪.34 ،33‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪360‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫نوعه وفي أي مجال من مجالت الحياة البشرية؛ في السياسة‬


‫والدارة‪ ,‬في الحياة العامة أو الخاصة على حد سواء‪ ،‬والقرآن‬
‫الكريم يرشدنا إلى هذه الحقيقة في عدد من اليات التي تؤكد‬
‫على ضرورة التثبت والتبين والتأني والبعد عن الستعجال‪ ،‬قال‬
‫صبريحوُاً‬ ‫ة‬ ‫تعالى‪+ :‬ياً أليميلهاً اًلرذينَ آمنيوُاً رإن جاًءيكمُ لفاًرسيق برنلبةأ فليلتبييْلينيوُاً لأن تي ر‬
‫صيْبيوُاً قليكوُحماً برلجلهاًلة فليتي ك‬ ‫ل ل‬ ‫لل ك‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫لعللىَ لماً فليلعكلتيكمُ لنَاًدميْلنَ" ]الحجرات‪ [6 :‬فهذه الية تتضمن ضرورة الحرص‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫على اللماما بالحقيقة والواقع إلماما كامل قبل إصدار القرارات‬
‫في أي مجال من مجالت الحياة‪.‬‬
‫فكل حاكم يريد لحكمه أن يستمر ولنظاما دولته أن يستقر‬
‫عليه أن يكون حريصا على اللماما بحقيقة الوضاع ببلده‪،‬‬
‫والشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية)‪ .(1‬ول مانع من تنظيم‬
‫الشورى بتشكيل مجالس‪ ،‬أو تعيين نوابا أو ممثلين لكل جماعة‪,‬‬
‫وإتاحة الفرصة للختيار بشرط أن يكون مرجعهم كتابا الله و سنة‬
‫رسوله ×‪ ،‬بحيث ل تتعارض توصياتهم أو قراراتهم أو تشريعاتهم‬
‫مع شرع الله عز وجل)‪.(2‬‬
‫ول مانع من ضبط ممارسة الشورى وفق نظاما‪ ،‬أو منشور‪ ,‬أو‬
‫قانون يعرف فيه ولي المر حدود ما ينبغي أن يشاور فيه ومتى‬
‫وكيف؟ وتعرف المة حدود ما تستشار فيه ومتى؟ وكيف؟ لن‬
‫الشكل الذي الذي تتم به الشورى ليس مصبوبا في قالب حديدي‪،‬‬
‫فهو متروك للصورة الملئمة لكل بيئة وزمان‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم لم يبين وسائل الشورى‪ ،‬كما لم يبين‬
‫وسائل تحقيق العدالة‪ ،‬بل ترك ذلك لتقدير الناس ينتهجون أحسن‬
‫الوسائل التي توصلهم إلى المطلوبا على الوجه الكمل‪ ،‬وذلك‬
‫يتمشى مع فكرة صلحية السلما لكل زمان ومكان‪ ،‬ومع فكرة‬
‫يسر الدين وسلمة أحكامه من الحرج‪ ،‬ولذلك فسح السلما‬
‫محققا الشورى على‬ ‫ل‬ ‫لتباعه المجال لختيار التنظيم الذي يرونه‬
‫وجهها المفيد‪.‬‬
‫إن أشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها‬
‫ليست من قبيل العقائد‪ ,‬وليست من القواعد الشرعية المحكمة التي‬
‫يجب التزامها بصورة واحدة في كل العصور والزمنة‪ ،‬وإنما هي‬
‫متروكة للتحري والجتهاد والبحث والختيار‪ ,‬أما أصل الشورى فإنه‬

‫)( الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.37 ،36‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬دستور المة من القرآن والسنة‪ ،‬د‪ .‬عبد الناصر العطار‪ ،‬ص)‪،173‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.(174‬‬

‫‪361‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من قبيل المحكم الثابت الذي ل يجوز تجاهله أو إهماله لن الشورى‬


‫في جميع المكنة والزمنة مفيدة ومجدية‪ ،‬والدكتاتورية أو حكم الفرد‬
‫في جميع المكنة والزمنة كريهة ومخربة‪.‬‬
‫إن شئون الحياة متعددة‪ ،‬ولكل شأن منها أناس هم المختصون‬
‫فيه وهم أهل معرفته‪ ،‬ومعرفة ما يجب أن يكون عليه‪ ،‬ففي المة‬
‫جانب القوة‪ ،‬وفي المة جانب القضاء‪ ،‬وفض المنازعات وحسم‬
‫الخصومات‪ ،‬وفيها جانب المال والقتصاد‪ ،‬وفيها جانب السياسة‬
‫وتدبير الشئون الداخلية والخارجية‪ ,‬وفيها جانب الفنون الدارية وفيها‬
‫جانب التعليم والتربية‪ ،‬وفيها جانب الهندسة‪ ،‬وفيها جانب العلوما‬
‫والمعارف النسانية‪ ،‬وفيها غير ذلك من الجوانب‪ ،‬ولكل جانب أناس‬
‫عرفوا فيه بنضج الراء‪ ،‬وعظيم الثار وطول الخبرة والمران‪.‬‬
‫هؤلء هم أهل الشورى في الشئون المختلفة‪ ،‬وهم الذين يجب‬
‫على المة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحهم ثقتها‪ ،‬وتنيبهم عنها في‬
‫الرأي‪ ,‬وهم الذين يرجع إليهم الحاكم لخذ رأيهم واستشارتهم‪،‬‬
‫وهم الوسيلة الدائمة في نظر السلما لمعرفة ما تسوس به المة‬
‫أمورها مما لم يرد في المصادر الشرعية ويحتاج إلى اجتهاد)‪.(1‬‬
‫ولذلك ينبغي أن يعتمد في الشورى على أصحابا الختصاص‬
‫والخبرة في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفة‪,‬‬
‫ففي شئون الدين والحكاما يستشار علماء الدين‪.‬‬
‫وفي شئون العمران والهندسة يستشار المهندسون‪.‬‬
‫وفي شئون الصناعة يستشار خبراء الصناعة‪.‬‬
‫وفي شئون التجارة يستشار خبراء التجارة‪.‬‬
‫وفي شئون الزراعة يستشار خبراء الزراعة‪ ،‬وهكذا وهنا لبد‬
‫من توجيه النظار إلى أنه من الضروري أن يكون علماء الدين‬
‫مشتركا في هذه الشئون حتى ل يخرج المستشارون في‬‫ل‬ ‫قاسما‬
‫ل‬
‫تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة)‪.(2‬‬
‫هذه إشارة موجزة عن أهمية الشورى ومزاياها وفائدتها في‬
‫إقامة الدولة وتقويتها وبناء المجتمع السلمي المنشود والنهوض‬
‫به نحو المعالي‪.‬‬
‫با‪ -‬العدالــــــــــة‪:‬‬
‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.59 ،58‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪362‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إن العدل هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع السلمي‬


‫والحكم السلمي فل وجود للسلما في مجتمع يسوده الظلم ول‬
‫يعرف العدل‪ ,‬ولذلك اهتم السلما بتقرير هذه القاعدة وتأسيسها‬
‫وتدعيمها‪ ،‬فأكثر الحديث عنها في اليات القرآنية الكريمة‬
‫والحاديث النبوية الشريفة مركز على أن الناس سواسية‬
‫ومتساوون أماما الشرع‪.‬‬
‫إن إقامة العدل بين الناس أفرادا وجماعات ودول‪ ،‬ليست من‬
‫المور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو المير وهواه‪ ،‬بل إن‬
‫إقامة العدل بين الناس في الدين السلمي تعد من أقدس‬
‫الواجبات وأهمها‪ ،‬قد أجمعت المة على وجوبا العدل‪ ،‬قال الفخر‬
‫الرازي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه‬
‫أن يحكم بالعدل «)‪.(1‬‬
‫وهذا الحكم تؤيده النصوص من القرآن الكريم‪ ،‬والسنة‬
‫النبوية‪ ،‬ومن هذه النصوص‪:‬‬
‫ساًرن" ]النحل‪ [90 :‬وأمر الله‬ ‫ر ر‬ ‫ر‬
‫‪ -1‬قال تعالى‪+ :‬إلن اًلل يلأكيمير باًلكلعكدل لواًلكح ل‬
‫بفعل كما هو معلوما يقتضي وجوبه‪.‬‬
‫ت إرللىَ ألكهلرلهاً لوإرلذاً لحلككمتيكمُ بليكيْلنَ‬
‫‪ -2‬وقال تعالى‪+ :‬إرلن اًل يأمريكمُ لأن تييلؤمدواً اًلماًلنَاً ر‬
‫ل‬ ‫ل ل يي ك‬
‫س لأن تلكحيكيموُاً رباًلكلعكدرل" ]النساء‪.[58 :‬‬
‫اًللناً ر‬
‫‪ -3‬وقال تعالى‪+ :‬ياً أليميلهاً اًلرذينَ آمنيوُاً يكوُنَيوُاً قليلوُاًرميْنَ رباًلكرقسرط يشلهلداًء ر‬
‫ل لولكوُ لعللىَ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ل ل‬ ‫ل‬
‫ألنَكييفرسيككمُ ألرو اًلكلوُاًلرلديكرنَ لواًلقكيلرربيْلنَ رإن يليككنَ غلنرقيْاً ألكو فلرقيْحراً لفاًلي ألكوللىَ بررهلماً فللل تليتلبرعيوُاً اًلكلهلوُىَ لأن تليكعردليوُاً‬
‫ضوُاً فلرإلن اًلل لكاًلن برلماً تليكعلميلوُلن لخربيْحراً" ]النساء‪.[135 :‬‬ ‫لورإن تليكليوُواً ألكو تييكعرر ي‬
‫ت برلماً‬ ‫ت لولل تليتلبركع ألكهلوُاًءليهكمُ لوقيكل آلمن ي‬ ‫ك لفاًكدعي لواًكستلرقكمُ لكلماً أيرمكر ل‬ ‫‪ -4‬وقال تعالى‪+ :‬فللرلذلر ل‬
‫ت لكعردلل بل كييْينليكيمُ" ]الشورى‪.[15 :‬‬ ‫ب لوأيرمكر ي‬‫ألنَكيلزلل اًلي رمنَ كرلتاً ة‬
‫ثم إن ترك العدل يعد ظلما‪ ،‬والله سبحانه وتعالى حرما الظلم‬
‫وذما أهله وتوعدهم بالعذابا الشديد يوما القيامة والهلك في‬
‫الدنيا)‪.(2‬‬
‫سبللنَ اًلل لغاًفرلح لعلماً يليكعلميل اًللظاًلريموُلن" ]إبراهيم‪.[42 :‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لولل تلكح ل‬
‫ك بييييْوُتيييهكمُ لخاًرويلةح برلماً ظلليموُاً" ]النمل‪.[52 :‬‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬فلتركل ل‬
‫)( تفسير الرازي )‪.(10/141‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪363‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫شيرواً اًلرذيلنَ ظلليموُاً لوألكزلواًلجيهكمُ" ]الصافات‪.[22 :‬‬


‫وقال تعالى‪+ :‬اًكح ي‬
‫إن العدل في حياة هذه المة المحمدية الخاتمة واقع عاشته‬
‫ومارسته‪ ،‬وطبقته في واقع حياتها‪ ،‬على مر تاريخها الطويل‪ ،‬على‬
‫تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان‪ ،‬ودولة ودولة‪ ،‬وحسب‬
‫اشتعال جذوة اليمان في قلوبا الحاكمين‪ ،‬وخبوئها‪ ،‬لقد مارست‬
‫هذه المة العدل مع أعدائها وخصومها‪ ،‬وأهل ذمتها‪.‬‬
‫إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع السلمي الذي تسود‬
‫فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكل أشكاله‬
‫وأنواعه‪ ،‬فإذا نظرنا لتاريخ الدولة السلمية في زمن النبي ×‬
‫والخلفاء الراشدين‪ ،‬ومن سار على هديهم من التابعين رأينا صورا‬
‫مشرفة تدل على عظمة هذا الدين‪ ،‬وحب هذه المة للعدل‪:‬‬
‫فها هو × يقيد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح‬
‫في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال‪ ،‬روى ابن إسحاق)‪ (1‬أنه ×‪:‬‬
‫»عدل صفوف أصحابه يوما بدر وفي يده قدح)‪ (2‬يعدل به القوما‪،‬‬
‫)‪(4‬‬
‫فمر بسواد بن غزية)‪ (3‬وهو مستقل من الصف‪ ،‬قال ابن هشاما‬
‫ويقال‪ :‬مستنصل)‪ (5‬من الصف ‪ -‬فطعنه في بطنه بالقدح ‪ -‬وقال‪:‬‬
‫اًستوُ ياً سوُاًد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق‬
‫والعدل فأقدني‪ ،‬فكشف رسول الله × عن بطنه وقال‪ :‬اًستقد‪،‬‬
‫قال‪ :‬فاعتنقه فقبل بطنه‪ ،‬فقال‪ :‬ما حملك على هذا يا سواد؟‬
‫قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬حضر ما ترى‪ ،‬فأردت أن يكون آخر العهد بك‬
‫أن يمس جلدي جلدك‪ ,‬فدعا له رسول الله × بخير‪.(6) «...‬‬
‫وجاء يهودي يشتكي إليه أحد أصحابه قائل‪» :‬يا محمد‪ ،‬إن لي‬
‫على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها‪ ،‬قال‪ :‬أعطه حقه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫والذي نفسي بيده‪ ،‬ما أقدر عليها‪ ،‬قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر‬
‫فأرجو أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه‪ ،‬قال‪ :‬أعطه حقه‪ ،‬وكان‬

‫)( هو العلمة الخباري أبو بكر القرشي الكلبي مولهم المدني صاحب السيرة‬ ‫‪1‬‬

‫النبوية‪ ,‬توفي عاما ‪151‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلما النبلء )‪.(7/25‬‬


‫)( القدح )بكسر القاف وبسكون الدال(‪ :‬السهم )لسان العربا‪.(2/556 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫مره النبي ×‬‫)( هو سواد بن غزية النصاري من بني عدي بن النجار‪ ،‬شهد بدرا وأ ز‬
‫‪3‬‬

‫على خيبر‪ ,‬انظر‪ :‬ابن حجر‪ ،‬الصابة )‪.(2/95‬‬


‫)( هو أبو محمد عبد الملك بن هشاما بن أيوبا النهلي وقيل الحميري‪ ،‬قاما بتهذيب‬ ‫‪4‬‬

‫سيرة ابن إسحاق وهو من أئمة اللغة‪ ،‬توفي ‪418‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلما النبلء )‬
‫‪.(10/429‬‬
‫)( مستنصل‪ :‬أي خارج من نصل‪ ،‬بمعنى خرج‪ ،‬لسان العربا )‪.(11/662‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( سيرة ابن هشاما‪ (1/626) :‬تحقيق مصطفى السقا وزملئه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪364‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫رسول الله × إذا قال ثلثا لم يراجع‪.(1) «...‬‬


‫وكان × يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدل‬
‫وإنصاف ل تأخذه في ذلك لومة لئم ول قرابة قريب ول مكانة‬
‫شريف‪ ،‬فها هو × وهو الصادق المصدوق البار في قسمه‪ :‬لو أن‬
‫ابنته سرقت لقاما عليها‪ ،‬ل يدفعه عنها كونها ابنة محمد ×‪.‬‬
‫أخرج الماما البخاري عن عائشة رضي الله عنها‪» :‬أن قريشا‬
‫أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا‪ :‬من يكلم فيها‬
‫رسول الله × ومن يجترئ عليه إل أسامة فقال‪ :‬أتشفع فيِ حد منَ‬
‫حدود اًل؟ ثم قاما فخطب فقال‪ :‬ياً أيهاً اًلناًس إنَماً ضل منَ كاًن قبلكمُ أنَهمُ‬
‫كاًنَوُاً إذاً سرق فيْهمُ اًلشريف تركوُه‪ ,‬وإذاً سرق اًلضعيْف فيْهمُ أقاًموُاً عليْه اًلحد‪ ،‬واًيمُ‬
‫اًل لوُ أن فاًطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدهاً«)‪.(2‬‬
‫وهكذا كان × يقيم العدل‪ ،‬وينفذ الحدود في دولته‪.‬‬
‫وهذا عمر بن الخطابا يقيم العدل والقسط بين الناس‪ ,‬يحكم‬
‫بالحق لرجل يهودي على مسلم‪ ،‬ولم يحمله كفر اليهودي على‬
‫ظلمه والحيف عليه‪ ،‬أخرج الماما مالك)‪ (3‬من طريق سعيد بن‬
‫المسيب‪» :‬أن عمر بن الخطابا ‪       ‬‬
‫‪.( )«     :      ‬‬
‫‪   :         ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪:          :   ‬‬
‫‪     :         ‬‬
‫‪    : ,         ‬‬
‫‪ ×   ‬يقيد من نفسه‪ ,‬قال‪ :‬فدعنا فلنرضه‪ ،‬قال‪ :‬دونكم‬
‫فأرضوه‪ ،‬فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين)‪ ،(5‬وإن لم‬
‫يرضوه لقاده)‪. (6‬‬

‫)( أخرجه أحمد )‪.(2/423‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتابا الحدود‪ ،‬بابا كراهية الشفاعة إذا رفع إلى السلطان )‪(12/87‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.6788‬‬
‫)( هو مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو‪ ،‬إماما دار الهجرة‪ ،‬ولد عاما ‪53‬هـ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫توفي ‪179‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلما النبلء )‪.(135-8/49‬‬


‫)( الموطأ‪ ،‬كتابا القضية‪ ،‬بابا الترغيب في القضاء بالحق‪ ،‬رقم الحديث‪.2 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الطبقات الكبرى لبن سعد )‪(294 – 3/293‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( أقاده‪ :‬اقتص منه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪365‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪» :             ‬‬
‫‪    :   :     , ‬‬
‫‪.   :     ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪ :          : ‬‬
‫‪          :   ‬‬
‫‪ :     :        ‬‬
‫‪  :           ‬‬
‫‪      :      ‬‬
‫‪.( )‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪  ,            ‬‬
‫‪×        ,    ‬‬
‫كيف أحبوا ذلك وأيدوه »فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه« ل‬
‫تشفيا منه ول شماتة بعمرو وابنه‪ ،‬فالقوما فوق ذلك وأبعد ما‬
‫يكونون عن التشفي والشماتة‪ ،‬ولكنهم جيل أحب العدل وعاشه‬
‫وتربى عليه على يد رسول الله ×‪ ،‬لذا فهو يبغض الجور ول يحب‬
‫فا لها في عقيدتها ودينها‬ ‫رؤيته في المة ولو كان رجل ل مخال ل‬
‫وشرعها‪ ،‬ويفرح أشد الفرح لرؤية العدالة ترمي بجذورها في‬
‫أعماق المة ليؤخذ حق ضعفائها وأتباعها من أقويائها)‪.(2‬‬
‫إن الناس إذا شعروا بإقامة العدالة في مجتمعهم‪ ،‬وسيادة‬
‫العدل في حياتهم‪ ،‬على المسلمين وغير المسلمين‪ ،‬تستقر‬
‫نفوسهم‪ ،‬وتطمئن قلوبهم‪ ،‬وتهدأ أحوالهم‪ ،‬ويزدهر مجتمعهم‬
‫ويعمهم الخير والمن والمان والسلمة والسلما)‪.(3‬‬
‫إن تحقق العدل اللهي في حياة البشرية هدف لكل مسلم‬
‫فرد أو جماعة‪ ,‬حاكم أو محكوما‪ ,‬ومن هنا كانت وظيفة كل نبي‬
‫ورسول ومهمته أن يقيم في الناس القسط‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬للقكد ألكرلسكللناً‬
‫س رباًلكرقكسرط"]الحديد‪.[25:‬‬ ‫ر ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫يريس للناً رباًكلبلييْبيلناًت لوألنَكيلزلكلناً لملعيهيمُ اًلككلتاً ل‬
‫ب لواًلكميْلزاًلن ليْلييقوُلم اًللناً ي‬
‫إن الدولة السلمية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس‬
‫وتفسح المجال وتيسر السبل أماما كل إنسان يطلب حقه أن يصل‬

‫)( انظر‪ :‬فتوح مصر و المغربا لبن عبد الحكم‪.226 ،225 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬وسطية أهل السنة بين الفرق‪ ،‬ص ‪.170‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪366‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها‪ ،‬دون أن يكلفه ذلك جهد أو‬
‫مال)‪ ,(1‬وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق‬
‫صاحب الحق من الوصول إلى حقه‪.‬‬
‫لقد أوجب السلما على الحكاما أن يقيموا العدل بين الناس‬
‫دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الجتماعية‪ ،‬فهو‬
‫يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ول يهمه أن يكون المحكوما‬
‫لهم أصدقاء أو أعداء‪ ,‬أغنياء أو فقراء‪ ،‬عمال أو أصحابا عمل‪،‬‬
‫ب رللتليكقلوُىَ" ]المائدة‪:‬‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ة‬
‫قال تعالى‪+ :‬لولل يلكجررلمنليككمُ لشلنآِين قليكوُم لعللىَ أللل تليكعدليوُاً اًكعدليوُاً يهلوُ ألقكيلر ي‬
‫‪ ,[8‬والمعنى ل يحملنكم بغض قوما على ظلمهم‪ ،‬ومقتضى هذا أنه‬
‫ل يحملنكم حب قوما على محاباتهم والميل معهم)‪.(2‬‬
‫يقول الستاذ أبو علي المودودي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬معقبا على‬
‫ت لكعردلل بل كييْينليكيمُ" ]الشورى‪ [15 :‬ما نصه‪» :‬يعني أنني‬ ‫قوله تعالى‪+ :‬لوأيرمكر ي‬
‫مأمور بالنصاف دون عداوة‪ ،‬فليس من شأني أن أتعصب لحد أو‬
‫ضد أحد‪ ،‬وعلقتي بالناس كلهم سواء‪ ،‬وهي علقة العدل‬
‫والنصاف‪ ،‬فأنا نصير من كان الحق في جانبه‪ ،‬وخصيم من كان‬
‫الحق ضده‪ ،‬وليس في ديني أي امتيازات لي فرد كائنا من كان‪،‬‬
‫وليس لقاربي حقوق‪ ،‬وللغرباء عني حقوق أخرى‪ ،‬ول للكابر‬
‫عندي مميزات ل يحصل عليها الصاغر‪ ،‬والشرفاء والوضعاء عندي‬
‫سواء‪ ،‬فالحق حق للجميع والذنب والجرما ذنب للجميع‪ ،‬والحراما‬
‫حراما على الكل والحلل حلل للكل‪ ،‬والفرض فرض على الكل‬
‫حتى أنا نفسي لست مستثنى من سلطة القانون اللهي«)‪.(3‬‬
‫إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع المسلم الذي يسود فيه‬
‫العدل بين الناس‪ ،‬ولبد من إقامة القضاء المستقل في الدولة‬
‫المسلمة بحيث ل يتعرض القضاء لي ضغوط كانت‪ ,‬ويصبحون‬
‫لهم الحرية في إصدار أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من‬
‫قضايا في حرية تامة ول تأخذهم في إقامة العدل لومة لئم‪،‬‬
‫القوي والضعيف‪ ،‬الحاكم والمحكوما‪ ،‬المسلم والذمي‪ ،‬الراعي‬
‫والمرعي‪ ،‬المير والحقير‪ ..‬كل أماما القضاء سواء‪.‬‬
‫جـ‪ -‬المســــــــــــــــــاواة‪:‬‬
‫يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة التي أقرها السلما‪ ،‬وهي‬
‫من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم‪ ،‬ولقد أقر هذا‬
‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الحكومة السلمية‪ ،‬ص ‪.202‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪367‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبدأ وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر‪.‬‬


‫ومما ورد في القرآن الكريم تأكيدا لمبدأ المساواة قوله‬
‫س إرلنَاً لخ لكقلناًيكمُ بمنَ ذللكةر لوأينَكيلثىَ لولجلعكللناًيككمُ يشيعوُحباً لوقليلباًئرلل رلتليلعاًلرفيوُاً إرلن ألككلرلميككمُ‬
‫تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًللناً ي‬
‫ل ألتكيلقاًيككمُ" ]الحجرات‪.[13 :‬‬ ‫رعكنلد اً ر‬

‫وقال الرسول عليه الصلة والسلما‪» :‬ياً أيهاً اًلناًس أل إن ربكمُ‬


‫واًحد‪ ،‬وإن أباًكمُ واًحد‪ ،‬أل ل فضل لعربيِ علىَ أعجميِ ول لعجميِ علىَ عربيِ‪،‬‬
‫ول أحمر علىَ أسوُد‪ ،‬ول لسوُد علىَ أحمر إل باًلتقوُىَ«)‪.(1‬‬
‫إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من‬
‫الشعوبا قديما نحو السلما‪ ،‬فكان هذا المبدأ مصدرا من مصادر‬
‫القوة للمسلمين الولين)‪ ،(2‬وليس المقصود بالمساواة هنا‬
‫»المساواة العامة« بين الناس جميعا‪ ،‬في كل أمور الحياة‪ ،‬كما‬
‫ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدل)‪ ،(3‬فالختلف في‬
‫المواهب والقدرات‪ ،‬والتفاوت في الدرجات غاية من غايات‬
‫الخلق)‪ ،(4‬ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة‬
‫السلمية‪ ،‬مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي‪ ،‬وليست مطلقة‬
‫في جميع الحوال)‪ ،(5‬فالمساواة تأتي في معاملة الناس أماما‬
‫الشرع والقضاء وكافة الحكاما السلمية‪ ،‬والحقوق العامة دون‬
‫تفريق بسبب الصل‪ ،‬أو الجنس‪ ،‬أو اللون‪ ،‬أو الثروة‪ ،‬أو الجاه‪ ،‬أو‬
‫غيرها)‪.(6‬‬
‫إن السلما جعل المساواة بين المسلمين في العبادات‬
‫والمعاملت والحدود وغيرها‪ ,‬فما من عبادة إل وتبرز فيها‬
‫المساواة بين الناس بشكل واضح‪ ،‬فالصلة مثل نجد فيها الناس‬
‫جميعا غنيهم وفقيرهم‪ ,‬حاكمهم ومحكومهم‪ ،‬شريفهم ووضيعهم‬
‫يصلون في مكان واحد هو المسجد‪ ،‬ويقفون صفوفا متراصة‪,‬‬
‫الفقير بجانب الغني والحاكم بجانب المحكوما‪ ،‬وفي صلة العيد‬
‫نجد الناس يقفون جميعا على صعيد واحد وفي العراء ل يظلهم‬
‫شيء‬
‫من الحر‪.‬‬
‫مسند الماما أحمد )‪.(5/411‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مبادئ نظاما الحكم في السلما‪ ،‬عبد الحميد متولي‪ ،‬ص ‪.385‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬الخلق السلمية وأسسها للميداني )‪.(1/624‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬فلسفة التربية السلمية‪ ،‬ماجد عرسان الكيلني‪ ،‬ص ‪.179‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬الثقافة السلمية وتحديات العصر‪ ،‬شوكت محمد‪ ،‬ص ‪.308‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫انظر‪ :‬مبادئ علم الدارة‪ ،‬محمد نور الدين‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪368‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وفي الحج ماذا يلحظ المسلم‪ ،‬إنه يجد الناس قد جاءوا‬


‫من كل حدبا وصوبا‪ ،‬ومن كل فج عميق بلغات متباينة‬
‫وألوان مختلفة‪ ،‬ومن أوطان متعددة‪ ،‬وأجناس شتى‪،‬‬
‫واحدا هو عرفة‪،‬‬
‫ل‬ ‫موقفا‬
‫ل‬ ‫ثيابا بيضاء‪ ،‬ويقفون‬‫ل‬ ‫يلبسون‬
‫ويطوفون طوافا معينا في وقت معين‪ ،‬يقومون بسائر‬
‫المناسك متساوين ل يتفاضلون في الهيئة والوقت وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وإناثا‪،‬‬
‫ل‬ ‫ذكورا‬
‫ل‬ ‫والصوما فريضة الله على الجميع‪ ،‬فقراء وأغنياء‪,‬‬
‫لم يميز قوملا على قوما أو طبقة على طبقة أو حاكما على‬
‫محكوما‪ ،‬فأوجبه على جميع الناس ولم يعف منه أحدا حتى ولو‬
‫كان رئيس الدولة متى توافرت فيه شروط الوجوبا‪ ،‬وكذلك‬
‫الزكاة فقد فرضت على سائر القادرين عليها دون أن يستثنى أحد‬
‫منهم حتى ولو كان كريما سخيا يبذل أكثر من الزكاة المستحقة‬
‫في ماله‪ ،‬وفي الحدود وسائر العقوبات فإن الناس أماما الشرع‬
‫سواء)‪.(1‬‬
‫إن الناس جميعا في نظر السلما سواسية‪ ،‬الحاكم والمحكوما‪،‬‬
‫الرجال والنساء‪ ،‬العربا والعجم‪ ،‬البيض والسود‪ ،‬لقد ألغى‬
‫السلما الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو‬
‫الطبقة‪ ,‬والحكاما والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء‪.‬‬
‫وجاءت ممارسات المسلمين التطبيقية خير شاهد على ذلك‪،‬‬
‫فهذا أبو بكر في أول خطبة له بعد أن تولى الخلفة يقول‪» :‬وليت‬
‫عليكم ولست بخيركم‪ ،‬فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت‬
‫فقوموني‪ ،‬القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫والضعيف فيكم قوي عنده حتى آخذ له حقه«)‪.(2‬‬
‫‪‬‬
‫وهذا عمر بن الخطابا ‪    » :    ‬‬
‫‪      :       ‬‬
‫‪ ×        :    ‬من‬
‫يقوما اعوجاج عمر بحد سيفه«)‪.(3‬‬
‫وهذا عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلفة أقسم أنه يود أن‬
‫يساوي في المعيشة بين نفسه وعشيرته‪ ،‬وبين الناس‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫»أما والله لوددت أنه بدئ بي‪ ،‬وبلحمتي‪ ،‬التي أنا منها‪ ،‬حتى‬
‫يستوي عيشنا وعيشكم‪ ،‬أما والله لو أردت غير هذا من الكلما‪،‬‬
‫)( انظر‪ :‬النظاما السياسي في السلما‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية لبن كثير )‪.(5/248‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬نظاما الحكم في السلما‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل‪ ،‬ص ‪.271‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪369‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لكان اللسان به منبسطا‪ ،‬ولكنت بأسبابه عارفا«)‪ ،(1‬وقال في‬


‫خطبة له‪....» :‬وما منكم من أحد تبلغنا حاجته‪ ،‬إل أحببت أن أسد‬
‫من حاجته‪ ،‬ما قدرت عليه‪.(2) «...‬‬
‫ولقد مارس عمر بن عبد العزيز مبدأ المساواة بين الناس‪ ،‬في‬
‫الحقوق والواجبات في كل مجالت الحياة‪ ،‬فلم يميز بين الناس‬
‫أحدا كائنلا من‬
‫ل‬ ‫في حقهم‪ ،‬في تولي الوظائف والوليات‪ ،‬ولم يعط‬
‫كان شيئلا ليس فه فيه حق‪ ،‬فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني‬
‫أمية وبين الناس‪ ,‬فمنع عنهم العطايا والرزاق الخاصة‪ ،‬وقال لهم‬
‫حين كلموه في ذلك‪» :‬لن يتسع مالي لكم‪ ،‬وأما هذا المال ‪ -‬الذي‬
‫في بيت مال المسلمين ‪ -‬فإنما حقكم فيه كحق رجل‪ ،‬بأقصى‬
‫برك الغماد«)‪ ،(3‬فكانت سياسته المالية تقوما على مبدأ المساواة‪،‬‬
‫فبيت المال لجميع المسلمين‪ ،‬ولكل واحد منهم حق أن يأخذ منه‬
‫أسوة بغيره‪ ،‬فل يكون حكرا على فئات معينة من الناس‪ ،‬وعندما‬
‫رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الرض‬
‫وجعلوها حمى‪ ،‬يحرما من الستفادة منها عامة الناس‪ ،‬فقال‪» :‬إن‬
‫الحمى يباح للمسلمين عامة‪ ..‬وإنما الماما فيها كرجل من‬
‫)‪(4‬‬
‫المسلمين‪ ،‬إنما هو الغيث ينزله الله لعباده‪ ،‬فهم فيه سواء« ‪.‬‬
‫كما ساوى بين من أسلم من أهل الديان الخرى من النصارى‬
‫واليهود‪ ،‬وبين المسلمين‪ ،‬وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم‪,‬‬
‫فقال‪ ..» :‬فمن أسلم من نصراني أو يهودي‪ ،‬أو مجوسي من أهل‬
‫الجزية اليوما‪ ،‬فخالط عامة المسلمين في دارهم‪ ،‬وفارق‬
‫داره التي كان بها‪ ،‬فإن له ما للمسلمين‪ ،‬وعليه ما عليهم‪ ،‬وعليهم‬
‫أن يخالطوه وأن يواسوه‪.(5)«..‬‬
‫وفي مجال المساواة بين الناس أماما القضاء‪ ،‬وأحكاما السلما‬
‫نكتفي بهذا الموقف‪ ،‬كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أماما‬
‫القاضي وتفصيل ذلك أنه‪» :‬أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد‬
‫العزيز‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أمير المؤمين‪ ،‬إن عبد العزيز ‪ -‬يقصد والد‬
‫عمر ‪ -‬أخذ أرضي ظلما‪ ،‬قال‪ :‬وأين أرضك يا عبد الله؟ قال‪:‬‬
‫حلوان‪ ،‬قال عمر‪ :‬أعرفها ولي شركاء ‪ -‬أي شركاء في حلوان ‪-‬‬
‫وهذا الحاكم بيننا‪ ،‬فمشى عمر إلى الحاكم فقضى عليه‪ ،‬فقال‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ المم والملوك )‪.(6/571‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ ،‬ص ‪.237 ،236‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.79‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪370‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫عمر‪ :‬قد أنفقنا عليها‪ ،‬قال القاضي‪ :‬ذلك بما نلتم من غلتها‪ ،‬فقد‬
‫نلتم مثل نفقتكم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬لو حكمت بغير هذا ما وليت لي‬
‫أمرا أبدا‪ ،‬وأمر بردها «)‪.(1‬‬
‫وزنا لمبدأ المساواة بين المسلمين‪ ،‬حتى في‬ ‫ل‬ ‫وكان عمر يقيم‬
‫المور العامة‪ ،‬ومن ذلك أمره بأن ل عيخص أناس بدعاء المسلمين‪،‬‬
‫والصلة عليهم‪ ،‬فكتب إلى أمير الجزيرة يقول‪ ...» :‬وقد بلغني أن‬
‫ناسا من القصاص قد أحدثوا صلة على أمرائهم‪ ،‬عدل ما يصلون‬ ‫ل‬
‫على النبي ×‪ ,‬فإذا جاءك كتابي هذا‪ ،‬فمر القصاص‪ ،‬فليجعلوا‬
‫صلتهم على النبي × خاصة‪ ،‬وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين‬
‫عامة‪ ،‬وليدعوا ما سوى ذلك«)‪.(2‬‬
‫ومن ذلك يتضح اهتماما عمر بالمساواة بين عامة الناس‪ ،‬حتى‬
‫في الدعاء لهم‪ ،‬ول يختص أحد بالدعاء‪ ,‬فالمسلمون عامة في‬
‫حاجة إلى دعوة الله عز وجل لهم‪ ،‬والله سبحانه وتعالى جدير‬
‫بالجابة)‪ .(3‬ولم يكتف عمر بالخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب‪،‬‬
‫بل كان يأمر عماله وولته بذلك فقد كتب إلى عامله على المدينة‬
‫يقول له‪» :‬اخرج للناس‪ ،‬فآس بينهم في المجلس والمنظر‪ ،‬ول‬
‫يكون أحد الناس آثر عندك من أحد ول تقولن هؤلء من أهل بيت‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوما‬
‫سواء‪ ،‬بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون‬
‫من نازعهم«)‪.(4‬‬
‫وبعد هذا العرض الموجز نرى أن الدولة السلمية لبد لها‬
‫أن تعمل على إنزال هذا المبدأ في دنيا الناس وعليها أن‬
‫تراعي التي‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم بأن مبدأ المساواة ل يخلو من أنه أمر تعبدي‪ ،‬تؤجر‬
‫عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ -2‬إسقاط العتبارات الطبقية‪ ،‬والعرقية‪ ،‬والقبلية‪ ،‬والعنصرية‪،‬‬
‫والقومية‪ ،‬والوطنية‪ ،‬والقليمية وغير ذلك من الشعارات الماحقة‬
‫لمبدأ المساواة النسانية‪ ،‬والتي تقوما عليها وتستحسنها بعض‬
‫الجماعات‪ ،‬والدول‪ ،‬والمؤسسات‪ ،‬بل والمجتمعات وإحلل المعيار‬
‫اللهي بدل عنها للتفاضل‪ ،‬أل وهو )التقوى(‪.‬‬

‫عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم‪ ،‬ماجدة زكريا‪ ،‬ص ‪.210‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز لبن الجوزي‪ ،‬ص ‪.273‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص ‪.299‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الطبقات لبن سعد )‪.(5/343‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪371‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -3‬ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع‪ ،‬ول يراعى أحد‬


‫لجاهه أو سلطانه‪ ،‬أو حسبه‪ ،‬أو نسبه‪ ،‬وإنما الفرص للجميع وكل‬
‫حسب قدراته‪ ،‬وكفاءاته‪ ،‬ومواهبه‪ ،‬وطاقته‪ ،‬وإنتاجه‪.‬‬
‫إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة السلمية يقوي‬
‫صفها‪ ،‬ويوحد كلمتها وينتج عنه مجتمع متماسك متراحم يعيش‬
‫لعقيدة‪ ،‬ومنهج ومبدأ‪.‬‬
‫د‪ -‬الحريــــــــات‪:‬‬
‫نعني بالحرية في نظر السلما ممارسة الفراد لكل حق من‬
‫الحقوق الشخصية )الجانب المادي( والفكرية )الجانب المعنوي(‬
‫التي ل تتعارض مع أحكاما الشريعة وتعاليمها‪ ،‬ول تصطدما مع‬
‫المصالح الجماعية‪ ،‬ول تتنافى مع الدابا الجتماعية)‪.(1‬‬
‫لذا فالحرية العامة للنسان من المور الساسية في حياته‪،‬‬
‫فهي جزء ل يتجزأ من تكوينه النفسي وتركيبه السلوكي منذ أن‬
‫وجد‪ ،‬ولكن الدنيا لم تعرف حرية بالمعنى الذي جاءت به رسالة‬
‫السلما)‪ ,(2‬فالحرية في السلما ل تحتاج إلى أي تحديد من‬
‫السلطة أو اعتراف‪ ،‬ول يحتاج المسلم للوصول إلى حريته العامة‬
‫إلى اتخاذ أي إجراء‪ ،‬إذ كفل السلما حق المسلم في الحرية‬
‫فكانت أحد مبادئ الحكم التي أقرها السلما‪ ،‬ولقد حرص رسول‬
‫الله × والخلفاء الراشدون من بعده على تطبيق هذا المبدأ‪ ،‬بمنح‬
‫المسلمين وغيرهم حقهم في الحرية‪ ،‬وتربية المة على ذلك)‪.(3‬‬
‫حقوق الفراد‪:‬‬
‫إن لكل فرد في الدولة السلمية حقوقا‪ ،‬وقد كفل‬
‫السلما هذه الحقوق وطالب المسلمين بالحفاظ عليها‪،‬‬
‫ماداما الفرد واحدا من رعية الدولة السلمية‪ ،‬أي مواطنا‬
‫فيها‪ ،‬سواء أكان مسلما أو كتابيا التزما بدستور الدولة‪،‬‬
‫)‪(4‬‬
‫وخضع لنظامها العاما‪ ،‬ولم يتمرد أو يخرج عن الدولة ‪.‬‬
‫‪ -1‬حق الحياة‪:‬‬
‫إن السلما صان حق الحياة لكل الناس داخل الدولة السلمية‬
‫أو خارجها‪ ،‬للمسلم وغير المسلم‪ ،‬ل يستثنى من ذلك إل الذي‬
‫مبادئ الثقافة السلمية‪ ،‬لمحمد النبهان‪ ،‬ص ‪.361 ،360‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫السلما تربية النسان‪ ،‬إبراهيم سعادة‪ ،‬ص ‪.139‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص ‪.309‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نظاما الحكم في السلما‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل‪ ،‬ص ‪.151‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪372‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يقف في وجه الدولة السلمية‪ ,‬ول يجوز للدولة أن تعتدي على‬


‫حياة أي شخص إل إذا ارتكب جرما يؤاخذ عليه الشرع‪ ،‬ويعاقب‬
‫عليه القانون السلمي‪ ،‬ول يقف السلما عند حد حرمة العتداء‬
‫على النفس‪ ،‬بل أوجب على الدولة تقديم الرعاية‪ ،‬وتوفير العيش‬
‫الكريم لكل فرد لم يستطع الحصول عليه سواء أكان من‬
‫المسلمين أما من غير المسلمين‪ ،‬إذا وجد المال في بيت المال‬
‫وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين‪ ،‬والشواهد التاريخية منذ‬
‫العهد النبوي تدل دللة قاطعة على كفالة الدولة للمحتاجين من‬
‫أفراد المجتمع في الدولة السلمية‪ ،‬دون تمييز بين المسلمين‬
‫وغير المسلمين‪ ،‬وعلى هذا فإن الدولة السلمية من واجبها منع‬
‫التعدي على أرواح الفراد‪ ،‬ودفع الظلم عنهم‪ ،‬وتحقيق الكفاية‬
‫للمجتمع)‪.(1‬‬
‫لقد اهتمت الدولة السلمية بكل رعاياها حتى المولود الذي‬
‫يولد في السلما‪ ,‬فهذا مثل رائع يدل على هذا الهتماما‪ ،‬كان‬
‫الفاروق ‪            ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪.          ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪    :         ‬‬
‫‪ :             ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪ ( )  ( )        :‬‬
‫‪  :       :  :  ‬‬
‫‪        :    :‬‬
‫‪       :      ‬‬
‫‪        :    ‬‬
‫‪.( )       ‬‬
‫ونستخلص من الحادثة عدة أمور‪:‬‬
‫إحاطة الفاروق المباشرة بشئون الرعية وتتبعه أخبارهم‬ ‫‪-‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.152 ،151‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أريغه عن الفطاما‪ :‬أي أريده أن ينفطم‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مجمع الزوائد )‪ (7 ،6/6‬وصحح الحديث‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪373‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بنفسه حيث علم بقدوما القافلة ومنزلهم‪.‬‬


‫القدوة الحسنة منه حيث أخذ معه سيدا آخر من عظماء‬ ‫‪-‬‬
‫الصحابة هو عبد الرحمن بن عوف لحراسة القافلة ولم‬
‫يكلف أحدا من المسلمين‪.‬‬
‫بحثه وتحقيقه عن بكاء الصغير‪ ,‬ما سببه؟ وتكراره النصيحة‬ ‫‪-‬‬
‫لمه حتى خرج بالسبب الذي كان سببا في إسعاد كثير من‬
‫المسلمين آباء وأبناء‪.‬‬
‫مسارعته إلى حل المشكلت بأفضل الطرق وأقومها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تعميمه ذلك القرار الحكيم على الوليات في الدولة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫فأصبح كل مولود في السلما يتعين له عطاؤه السنوي‪ .‬إن‬
‫قديما‬
‫ل‬ ‫هذا العمل ل يوجد له نظير في التاريخ البشري كله‬
‫وحديثا)‪.(1‬‬
‫ل‬
‫وعامل أهل الكتابا معاملة رفيعة »فعندما مر ببابا قوما وعليه‬
‫سائل يسأل ‪ -‬شيخ ضرير البصر ‪ -‬فضربا عضده من خلفه وقال‪:‬‬
‫من أي أهل الكتابا أنت؟ فقال‪ :‬يهودي‪ ،‬قال‪ :‬فما ألجأك إلى ما‬
‫أرى؟ قال‪ :‬أسأل الجزية‪ ,‬والحاجة‪ ،‬والسن‪ ،‬قال‪ :‬فأخذ عمر بيده‬
‫وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل)‪ ،(2‬ثم أرسل إلى‬
‫خازن بيت المال‪ ،‬فقال‪ :‬انظر هذا وضرباءه‪ ،‬فوالله ما أنصفناه إن‬
‫أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرما‪ ،‬ووضع عنه الجزية وعن‬
‫ضربائه«)‪ ،(3‬وقد كتب إلى عماله معمما عليهم هذا المر ‪ .‬إن‬
‫)‪(4‬‬

‫حق الحياة الكريمة في الدولة السلمية محفوظ لكل رعاياها‪.‬‬


‫‪ -2‬حرية العمل‪:‬‬
‫إن الدستور السلمي يبيح لرعاياه الحرية القتصادية المتمثلة‬
‫في حرية العمل والتملك‪ ,‬وقد دعا السلما الناس إلى العمل‬
‫شوُاً رفيِ لملناًكربرلهاً لويكليوُاً‬ ‫ر‬
‫وحثهم عليه قال تعالى‪+ :‬يهلوُ اًلذيِ لجلعلل ليكيمُ اًللكر ل‬
‫ض لذيلوُلح لفاًكم ي‬
‫رمنَ بركزقرره لوإرلكيْره اًلنم ي‬
‫شوُير" ]الملك‪.[15 :‬‬
‫إن من حق الفرد في الدولة السلمية أن يمارس جميع‬
‫الشئون القتصادية بشرط أل يخرج إلى دائرة المحرمات التي‬

‫انظر‪ :‬أولويات الفاروق‪ ،‬د‪ .‬غالب القرشي‪ ،‬ص ‪.364 ،363‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫شيئا ليس بالكثير‪.‬‬


‫ل‬ ‫رضخ‪ :‬أعطاه‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أحكاما أهل الذمة لبن القيم )‪.(1/38‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نصب الراية للزيلعي )‪.(3/453‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪374‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫منعتها الشريعة الغراء مثل الربا‪ ،‬والغش‪ ،‬والحتكار‪ ،‬والقمار فإذا‬


‫وقع الفرد في المحرمات تتدخل الدولة لمنعه من أجل المحافظة‬
‫على مصلحة المة التي قدرتها الشريعة وأحكمتها بتوجيهاتها‪.‬‬
‫لقد أباحت الشريعة حرية التجارة والكسب وحرص الخلفاء‬
‫على حماية هذا النوع من الحرية‪ ,‬فهذا عمر بن عبد العزيز قد أكد‬
‫في كتابا له إلى عماله‪ ،‬على ضرورة منح الناس حرية استثمار‬
‫أموالهم‪ ،‬والتجار بها في البر أو البحر على حد سواء فقال‪...» :‬‬
‫وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر ل عيمنعون ول‬
‫عيحبسون‪.(1)«...‬‬
‫وفي شأن البر والبحر‪ ،‬وأنهما مما سخر الله لعباده لبتغاء‬
‫فضله‪ ،‬ولحرية الكسب فيهما يقول‪» :‬وأما البحر فإنا نرى سبيله‬
‫ك رفيْره برألمررهر‬ ‫ر‬ ‫لر‬
‫ك‬ ‫سبيل البر‪ ،‬قال سبحانه‪+ :‬اًلي اً ذيِ لسلخلر ليكيمُ اًلكبلكحلر لتلكجرر ل‬
‫يِ اًلكيفكل ي‬
‫ضلرره" ]الجاثية‪ [11 :‬فأذن فيه أن يتجر فيه من شاء‪ ،‬وأرى أن‬ ‫لولرتلكبتليغيوُاً رمنَ فل ك‬
‫ل نحول بين أحد من الناس وبينه ‪ -‬يقصد البحر ‪ -‬فإن البر والبحر‬
‫لله جميعا‪ ،‬سخرهما لعباده يبتغون فيهما من فضله‪ ،‬فكيف نحول‬
‫بين عباد الله وبين معايشهم«)‪.(2‬‬
‫‪ -3‬حرية النقد والحرية الشخصية‪:‬‬
‫إن المجتمع السلمي في أصله كالجسد الواحد قال تعالى‪:‬‬
‫ف لويلي كنيلهكوُلن لعرنَ اًلكيمكنلكرر لوييرقيْيموُلن‬‫ض يأكمرولن رباًلكمعرو ر‬ ‫ر‬ ‫‪+‬لواًلكيمكؤرمينوُلن لواًلكيمكؤرملناً ي‬
‫ل كي‬ ‫ضيهكمُ ألكولليْاًءي بليكع ة ل ي ي‬
‫ت بليكع ي‬
‫ك سيْيرحمهمُ اًل إرلن اًل لعرزيرز ح ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫كيْرمُ" ]التوبة‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫صللةل لويييكؤيتوُلن اًللزلكاًلة لوييطيْيعوُلن اًلل لولريسوُلهي يأولئ ل ل ل ك ل ي ي ي ي‬ ‫اًل ل‬
‫‪.[71‬‬
‫وفي السنة النبوية طائفة من الحاديث توجب على الفراد‬
‫محاسبة السلطة ونصحها‪ ,‬ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو‬
‫سعيد الخدري قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪» :‬من رأى منكم‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ,‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ,‬فإن لم يستطع‬
‫فبقلبه وذلك‬
‫أضعف اليمان« )‪.(3‬‬
‫إن الدستور السلمي منح للمسلمين الحرية السياسية‪ ،‬إذ ل‬
‫طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪ ،‬حتى وإن كان حاكما أو واليا‪،‬‬
‫)( سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬ص ‪.78‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.82‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم بشرح النووي‪.(2/22) ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪375‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وقد بينا في بحثنا هذا موقف الخلفاء الراشدين‪ ،‬وهذا عمر بن عبد‬
‫العزيز عندما تولى الخلفة أعاد المور إلى نصابها وأعلن استئناف‬
‫الحرية السياسية وشجع على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫منكرا على الناس واقعهم المظلم‪ ،‬وأن السلما ل يرضى‬
‫السكوت على الظلم‪ ،‬فقد خطب الناس يوما فقال‪ ...» :‬أل ل‬
‫سلمة لمرئ في خلف السنة‪ ،‬ول طاعة لمخلوق في معصية‬
‫الله‪ ،‬أل وإنكم تسمون الهاربا من ظلم إمامه العاصي‪ ،‬أل وإن‬
‫أولهما بالمعصية‬
‫الماما الظالم«)‪.(1‬‬
‫ولقد قاما هذا الخليفة العادل بالتنازل عن الخلفة عقب إعلن‬
‫العهد له بالخلفة‪ ،‬وطلب من الئمة أن تختار لهم خليفة‪ ،‬فاختاره‬
‫مجال واسعلا للرأي‬ ‫ل‬ ‫أهل الحل والعقد وبايعته المة‪ ،‬ولقد أعطاهم‬
‫والتعبير وأتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه‪ ,‬وأطلق للكلمة‬
‫حريتها‪ ،‬وترك للناس حرية التعبير‪ ،‬قال القاسم بن محمد بن أبي‬
‫بكر الصديق)‪  » :        (2‬‬
‫‪            ,()«   ‬‬
‫‪.‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪.      ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪              ‬‬
‫‪              ‬‬
‫‪» :×         ‬إذاً سمعتمُ‬
‫به بأرض فل تقدموُاً عليْه‪ ،‬وإذاً وقع بأرض وأنَتمُ فيْهاً فل تخرجوُاً فراًراً منه«)‪.(4‬‬
‫ومن الحريات الشخصية التي كفلها السلما لكل فرد في‬
‫الدولة حق المن‪ ،‬فل يجوز في نظر الشريعة حبس شخص إل‬
‫بسبب جريمة تستحق العقوبة‪ ،‬لن الصل في هذه الحالت أن‬
‫النسان برئ حتى تثبت إدانته‪ ,‬فالمسكن مصون في السلما‪ ،‬فل‬
‫)( سيرة عمر بن عبد العزيز للماما ابن الجوزي‪ ،‬ص ‪.240‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو حفيد أبي بكر الصديق‪ ،‬تابعي من الفقهاء السبعة‪ ,‬توفي عاما ‪112‬هـ‪ ،‬ابن‬ ‫‪2‬‬

‫سعد )‪.(5/344‬‬
‫)( الطبقات لبن سعد )‪(5/344‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الحيل‪ ،‬بابا ما يكره من الحتيال في الفرار من الطاعون )‬ ‫‪4‬‬

‫‪ (8/28‬رقم ‪.6973‬‬

‫‪376‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يجوز اقتحامه من غير استئذان إل عند الضرورة)‪ ,(5‬قال تعالى‪+ :‬لياً‬


‫سلبيموُاً لعللىَ ألكهلرلهاً" ]النور‪.[27 :‬‬ ‫ر‬ ‫أليميلهاً اًلرذينَ آمنيوُاً لل تلكديخليوُاً بييْوُحتاً لك ر‬
‫غيْيلر بييييْوُتيككمُ لحلتىَ تلكستلأكنَ ي‬
‫سوُاً لوتي ل‬ ‫يي‬ ‫ل ل‬
‫***‬

‫)( انظر‪ :‬نظاما الحكم في السلما‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل‪ ،‬ص ‪.155‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪377‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫نشــــــــر الدعوة إلـــى الله‬
‫وذلك أن دين السلما‪ ،‬دين دعوة مستمرة‪ ،‬ل تتوقف‪ ،‬حتى‬
‫تتوقف الحياة البشرية من على وجه الرض‪.‬‬
‫وممارسة الدعوة بعد التمكين هي الممارسة المجدية القادرة‬
‫على الوصول إلى أهدافها‪ ,‬لن دولة وحكومة ترعيانها وتؤيدانها‪،‬‬
‫واضحا‪ ،‬فإنه بحاجة إلى قوة تؤيده وتحميه‪ ،‬ذاك‬ ‫ل‬ ‫والحق مهما كان‬
‫الشأن هو سنة من سنن الله في الرض‪ ،‬إن الدولة المحكمة‬
‫لشرع الله هي المناط بها إعداد وتهيئة وحماية الدعاة‪ ،‬وتوفير‬
‫السبل والوسائل المعينة لهم على القياما بهذه المهمة‪ ،‬وهي‬
‫المسئولة أيضا عن نشر هذه الدعوة في أرجاء الرض وربط‬
‫السياسة الخارجية على السس الدعوية العقدية‪ ،‬قبل بنائها على‬
‫السس المصلحية النفعية‪ ،‬وذلك كما كان يفعل رسول الله ×‬
‫كان يقوما بتبليغ الدعوة إلى الفاق امتثال لقول الله تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً‬
‫س إرلن اًلل‬ ‫ك رملنَ اًللناً ر‬ ‫ت رساًلتلهي واًل ييكع ر‬
‫صيم ل‬ ‫ك لورإن لكمُ تليكفلعكل فللماً بلي لغك ل ل ل ي ل‬ ‫ك رمنَ لرب ل‬
‫اًللريسوُيل بليلبكغ لماً أينَكرزلل إرلكيْ ل‬
‫لل يليكهرديِ اًلكلقكوُلم اًلكلكاًفررريلنَ" ]المائدة‪.[67 :‬‬
‫وقد امتثل × للمر وأرسل إلى ملوك الرض فكتب إلى ملك‬
‫الروما‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنهم ل يقرأون كتابلا إل إذا كان مختوملا‪ ،‬فاتخذ‬
‫خاتما من فضة‪ ,‬وختم به الكتب إلى الملوك‪ ،‬وبعث كتلبا ورسل ل‬ ‫ل‬
‫إلى ملوك فارس والروما‪ ،‬والحبشة ومصر والبلقاء واليمامة في‬
‫يوما واحد‪ ،‬ثم بعث إلى حكاما عمان والبحرين واليمن وغيرهم)‪.(1‬‬
‫إن الدولة المسلمة من أهدافها دعوة الناس إلى دين الله‪,‬‬
‫ولذلك ربما تؤسس وزارة أو مؤسسة أو هيئة خاصة بأمور الدعوة‬
‫وظيفتها إعانة الدعاة للتغلب على هموما الدعوة‪ ،‬بكل ما أوتيت‬
‫من إمكانات فهي التي تشرف على‪:‬‬
‫‪ -1‬إعداد الدعاة على المستوى الذي يتطلبه العصر الذي‬
‫يعيشون فيه‪ ،‬والمجتمع الذي يمارسون فيه الدعوة‪ ،‬إعدادا علميا‬
‫فنيا ميدانيا‪.‬‬
‫‪ -2‬تنظيم وسائل العلما والتنسيق بينها لتؤدي مهمتها في‬
‫الدعوة إلى الله‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬زاد المعاد لبن القيم )‪.(124- 1/119‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪378‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -3‬توجيه دعوة الله إلى عامة المسلمين والمقصرين في حق‬


‫دينهم‪ ,‬وتوجيه الدعوة إلى غير المسلمين في العالم كله إلى غير‬
‫ذلك‪ ،‬ودعوة المة المسلمة إلى الله تكون بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ،‬والدعوة إلى الخلق الكريمة‬
‫بكل الوسائل الشرعية‪ ،‬وأما خارج المة‪ ،‬فمن أعظم الوسائل‬
‫الجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫أولل‪ :‬إحياء المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪:‬‬
‫إن من وسائل الدعوة إحياء فريضة المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر من خلل إشراف الدولة‪ ،‬لن فريضة المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر هي جزء من سياسة الدولة السلمية الحاكمة‬
‫بما أنزل الله‪ ،‬فهي ليست مجرد جهد شخصي من المتطوعين‬
‫أصحابا النوايا الطيبة‪ ،‬وليست أصواتا تعلو فوق المنابر تخاطب‬
‫البناء التحتي للمجتمع الذي ل يملك حول ول قوة حيال منكرات‬
‫ومفاسد مدخولة على حياة الناس‪ ..‬ل‪ ،‬ليس المر كذلك ولكن‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان خطة الدولة‬
‫في إقامة الدين الذي تستمد الدولة شرعيتها منه‪.‬‬
‫فعبادة المر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير‪،‬‬
‫هي الرضية التي تنطلق منها السياسات العلمية والتثقيفية‬
‫والتعليمية والجتماعية والمالية‪ ،‬وشتى النواحي التي ينعكس أثرها‬
‫على الدين سلبا أو إيجابا‪ ،‬فبهذا تكون الدولة مقيمة لشعائر‬
‫السلما الظاهرة التي بها تعرف أنها دار إسلما‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله‪ ...» :‬وولي المر إنما نصب ليأمر‬
‫بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬وهذا هو مقصود الولية‪ ،‬فإذا كان‬
‫كن من المنكر‪ ،‬كان قد أتى بضد المقصود‪ ،‬مثل من‬ ‫الوالي يم س‬
‫نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك‪ ،‬وبمنزلة من أخذ‬
‫مال يجاهد به في سبيل الله‪ ،‬فقاتل به المسلمين«)‪.(1‬‬
‫وواضح من كلمه ‪-‬رحمه الله‪ -‬أن واجب الولة إقامة هذه‬
‫الشعيرة وتمكين الناس من أدائها‪ ،‬ل منعهم منها‪.‬‬
‫إن المة ل تكون خير أمة أخرجت للناس إل بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر واليمان بالله‪ .‬وبإقامة هذه الشعيرة تتوطد‬
‫دعائم المجتمع السلمي على أسس الحق والخير‪ ،‬وبه تقمع‬
‫دعاوى المناوئين والمشاغبين على نهج السلما‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬يككنتيكمُ‬

‫)( مجموع الفتاوى )‪.(28/303‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪379‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ف وتلي كنيلهوُلن لعرنَ اًلكمكنلكرر وتييكؤرمينوُلن رباً ر‬‫ر‬ ‫ت رلللناً ر‬‫خيْيلر أيلمةة أيكخررلج ك‬
‫]آل عمران‪:‬‬ ‫ل"‬ ‫ي ل‬ ‫س لتأيميرولن رباًلكلمكعيرو ل ك‬ ‫لك‬
‫‪.[110‬‬
‫إن المر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عنوان خيرية هذه‬
‫المة‪ ،‬حتى إن الية قدمته في الذكر قبل اليمان‪ ،‬لن اليمان‬
‫والدين ل يحفظان في حياة المسلمين دون المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫ومما يدل على أن الدين يضيع إذا لم يأتمر الناس بالمعروف‬
‫ويتناهون عن المنكر ما حدث لبني إسرائيل‪ ،‬إذ كان إهمالهم لتلك‬
‫الفريضة بداية النهاية لفقدهم رتبة التفضيل على ألسنة الرسل‪،‬‬
‫ك‬ ‫ر‬
‫سىَ اًبكرنَ لمكريللمُ ل ل‬
‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ر‬ ‫كما قال تعالى‪+ :‬ليرعنَ اًلرذينَ لكلفرواً رمنَ برنيِ إرسراًرئيْل لعللىَ لر ر‬
‫ساًن لداًيولد لوعيْ ل‬ ‫ل‬ ‫ل كل ل‬ ‫ل ل ي‬
‫ن" ]المائدة‪:‬‬ ‫لوُ‬‫ي‬ ‫ع‬‫ف‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫اً‬
‫وُ‬ ‫نَ‬ ‫كاً‬
‫ل ل ي ك ل ل ل ي لك ل ل‬ ‫ماً‬ ‫س‬ ‫ئ‬‫ر‬
‫ب‬‫ل‬ ‫ه‬‫لوُ‬
‫ي‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ة‬
‫ر‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫من‬
‫م‬ ‫عنَ‬ ‫برلماً لع ل‬
‫صكوُاً لولكاًنَيوُاً يليكعتليدولن ‪ ‬لكاًنَيوُاً لل يليتليلناًلهكوُ ل ل‬
‫ن‬
‫‪.[79 ،78‬‬
‫إن من واجبات الدولة المسلمة العمل على إحياء هذه الشعبة‬
‫)المر بالمعروف والنهي عن المنكر( وإعداد من يقوما عليها فقها‪،‬‬
‫وخلقا‪ ،‬وتفرغا‪ ،‬واحتسابا لوجه الله تعالى‪.‬‬
‫بل إن الدولة تقوما بإنشاء هيئة خاصة بالمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر لها مؤسساتها ونظمها وقوانينها ولوائحها‪ ,‬تقوما هذه‬
‫الهيئة بإلزاما الناس بمنهج السلما في الحياة وتقف الحكومة من‬
‫وراء هذه الهيئة وتدعمها‪ ،‬ويدخل تحت المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر إقامة الحدود‪ ،‬وجلب المصالح‪ ،‬وإحياء الخلق الكريمة‪،‬‬
‫فإقامة حدود الله وفق تطبيق أمثل وأحكاما عادلة‪ ،‬أمن للمة‬
‫واستقرار للمجتمع وثبات للدين‪ ،‬وقوة للدولة‪ ،‬ورضا لربا العباد‪,‬‬
‫يقول ابن القيم رحمه الله‪» :‬الحدود جعلها الله تعالى زواجر‬
‫ونكال وتطهيلرا فشرعها من أعظم مصالح العباد‬ ‫ل‬ ‫للنفوس وعقوبة‬
‫في المعاش والمعاد‪ ,‬بل ل تتم سياسة ملك من ملوك الرض إل‬
‫بزواجر وعقوبات«)‪.(1‬‬
‫وإن من يستقرئ أحوال المجتمعات القديمة والمعاصرة يرى‬
‫ما تصنعه من وسائل وأجهزة‪ ،‬وما تستحدثه من فلسفات ومناهج‬
‫وأساليب تقف من ورائها مؤسسات علمية وتربوية وفنية إلى‬
‫جانب السياسات التشريعية والتنفيذية‪ ،‬كل هذا من أجل تثبيت‬
‫أركان المبادئ التي تقوما عليها هذه المجتمعات ومنع ما قد‬
‫يتهددها من أخطار‪ .‬ومجتمع السلما يقوما بمبادئ الدين الحق‪،‬‬

‫)( أعلما الموقعين عن ربا العالمين )‪.(3/184‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪380‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وهذا الدين به تحفظ ضروريات الناس من عقيدة ومال وعرض‬


‫وعقل‪ ،‬فكان لبد من المحافظة عليه‪ ،‬محافظة على هذه‬
‫الضروريات‪.‬‬
‫وهذه المحافظة على الضروريات‪ ،‬من أجلها شرعت الحدود‪،‬‬
‫قال الغزالي رحمه الله‪» :‬ومقصود الشرع من الخلق خمسة‪،‬‬
‫وهو‪ :‬أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم‪،‬‬
‫فكل ما يتضمن حفظ هذه الصول الخمسة هو مصلحة‪ ,‬وكل ما‬
‫يفوت هذه الصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة«)‪.(1‬‬
‫وعندما تحمي الدولة السلمية كل واحد من رعاياها على هذا‬
‫قدرا كبيرلا من معنى إقامة الدين في‬
‫ل‬ ‫النحو فل شك أنها قد حققت‬
‫الرض‪ .‬فهي ستمنع بذلك‪ ,‬أو تعمل على منع الكفر والقتل والزنا‬
‫والسرقة والسكر وما شابه ذلك من آفات المجتمع التي ل تقوما‬
‫على الدين‪.‬‬
‫والحدود الشرعية جديرة بتحقيق ذلك كله‪ ,‬فقضاء الشرع بقتل‬
‫الكافر المضل‪ ،‬وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعة من يفتنون‬
‫الخلق عن دينهم‪ ،‬وقضاؤه بإيجابا القصاص‪ ،‬الذي به حفظ‬
‫النفوس‪ ،‬وإيجابا حد شربا الخمر‪ ،‬الذي به حفظ العقول‪ ،‬التي‬
‫هي ملك التكليف‪ ،‬وإيجابا حد الشربا‪ ،‬الذي به حفظ النسل‬
‫سزراق‪ ،‬بما يحفظ الموال التي‬
‫صابا وال ن‬
‫والنسابا وإيجابا زجر الغع ز‬
‫هي معاش الخلق‪ ،‬كل هذا مما يعتبر من الضروريات التي ل يصلح‬
‫أمر الناس إل بها‪.‬‬
‫وللسلما نظامه الخاص في إقامة المجتمع على الدين عن‬
‫طريق إقامة الحدود فهو يبذل كل المساعي‪ ،‬ويسلك كل الطرق‬
‫لمنع وقوع الجرائم والمخالفات‪ ،‬فإذا وقعت كان علجه لها هو‬
‫الناجح في محو آثارها‪ ،‬والناجع في إنجاء المجتمع من شره)‪ ،(2‬إن‬
‫مرحلة التمكين من أهدافها أن يسود شرع الله في كل شئون‬
‫الحياة‪.‬‬
‫إن تلك الفرائض المنوطة بدولة السلما الحاكمة بما أنزل الله‪،‬‬
‫تطبيقا لحدود الله وإقامة لشريعته‪ ..‬إنما هي متفرعة عن قيامها أول‬
‫بإيجاد واقع عملي في حياة الناس‪ ،‬تقوما بعد ذلك بمقتضاه بتطبيق‬
‫الحدود وتنفيذ الشرائع‪ ,‬فلبد إذن من واقع عملي إصلحي يتكفل‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(1/457‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(1/457‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪381‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بتوفير المطعم للجوعان‪ ،‬والملبس للعريان‪ ،‬والزوجة للعزبا‪،‬‬


‫والعون للمحتاج‪ ،‬ثم تحاسب بعد ذلك بمقتضى الشرع من استبد به‬
‫النزق فخرج عن حدود الله‪ ،‬وخالف مبادئ الدين‪.‬‬
‫إن غاية التشريع السلمي هي إسعاد الناس وإصلحهم‪،‬‬
‫وتيسير أمرهم ورفع الحرج عنهم‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ييررييد اًلي لرييْبلييْبلنَ ليككمُ‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر ر ر‬ ‫ر‬
‫ب لع لكيْيككمُ لوييررييد‬ ‫لويليكهديليككمُ يسنللنَ اًلذيلنَ منَ قليكبليككمُ لويلييتوُ ل‬
‫ب لع لكيْيككمُ لواًلي لعليْرمُ لحكيْرمُ ‪ ‬لواًلي ييررييد لأن يلييتوُ ل‬
‫ضرعيْحفاً"‬ ‫ر‬ ‫ت لأن تلرميْليوُاً لمكيْلح لعرظيْحماً ‪ ‬ييررييد اًلي لأن ييلخبف ل‬‫شلهوُاً ر‬ ‫لر ر‬
‫ساًين ل‬ ‫ف لعكنيككمُ لويخللق اًرلنَك ل‬ ‫اً ذيلنَ يليتلبيعوُلن اًل ل ل‬
‫]النساء‪ [28 -26 :‬إذن فإصلح دنيا الناس أساس‪ ،‬وتطبيق أحكاما‬
‫الحدود والقصاص وغيره‪ ،‬والجراءات الوقائية إنما هي محافظة‬
‫على ذلك الصلح حتى ل يعكر صفوه بفتنة محاربا عدواني‪ ،‬أو‬
‫شهواني زان‪ ،‬أو لص سارق‪ ،‬أو ملحد مارق‪.‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين إنزال منهج السلما‬
‫الصلحي في دنيا الناس والذي يدور حول مصالح ثلث‪:‬‬
‫‪ -1‬درس المفاسد‪ ،‬المعروف عند أهل الصول بالضروريات‪.‬‬
‫‪ -2‬جلب المصالح‪ ،‬المعروف عندهم بالحاجيات‪.‬‬
‫‪ -3‬الجري على مكارما الخلق ومحاسن العادات المعروف عند‬
‫الصوليين بالتحسينات والتتميمات)‪ ،(1‬وبإقامة حكم الله تتحقق هذه‬
‫المصالح الثلث‪ ،‬وبالتالي تصلح أحوال الدنيا وتستقيم على منهج الله‪،‬‬
‫حا لخرة الناس أيضلا‪.‬‬ ‫ومن ثم يكون ذلك صل ل‬
‫وعلى وجه الجمال يمكننا تتبع مقاصد الشريعة في الحكم‬
‫السلمي بإلقاء نظرة على تشريعاته الهادفة لتحقيق المقاصد‬
‫الثلثة‪:‬‬
‫أ‪ -‬درء المفاسد‪ ،‬وهو المعبر عنه بالضروريات‪ ،‬وا لمراد به درؤها‬
‫عن ستة أشياء‪:‬‬
‫‪ -1‬الديــــــــــن‪:‬‬
‫جاءت أحكاما الشرع حاسمة في درء أي مفسدة قد تلحق‬
‫بالدين‪ ،‬فكان أن شرع السلما الجهاد لدفع الفتنة وإعلء كلمة‬
‫الله‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ولقاًتريلوُيهمُ حلتىَ لل تليكوُلن رف كتينلةر وييكوُلن اًلبدينَ يكلمهي ر‬
‫ل" ]البقرة‪.[193 :‬‬ ‫ي‬ ‫لل‬ ‫ك ل‬ ‫ل‬
‫وقال تعالى‪+ :‬ولقاًتريلوُيهمُ حلتىَ لل تليكوُلن رف كتينلةر وييكوُلن اًلبدينَ يكلمهي ر‬
‫ل" ]النفال‪.[39 :‬‬ ‫ي‬ ‫لل‬ ‫ك ل‬ ‫ل‬
‫فالولى في قتال من بدأ المسلمين بالظلم‪ ،‬والثانية استغرقت‬
‫)( انظر‪ :‬الموافقات )‪.(16-2/8‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪382‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫كل فتنة وكل كفر من كافر‪ ،‬فالقتال فيها محاربة للكفر الذي يعتبر‬
‫أكبر تهديد للدين‪ ،‬ولهذا »كله« بالتأكيد الحصري)‪.(1‬‬
‫وقد روى أبو بكر الصديق عن رسول الله × قوله‪» :‬أمرت أن‬
‫أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل الله فمن قالها فقد عصم مني‬
‫ماله ونفسه إل بحقه‪ ،‬وحسابه على الله« وقال أبو بكر ‪» :‬‬
‫‪       ,     ‬‬
‫‪ ×      ‬لقاتلنهم على منعه«)‪.(2‬‬
‫وهو قتال من أجل نشر الدعوة للدين‪ ،‬وقال ×‪» :‬من بدل‬
‫دينه فاقتلوه« )‪ (3‬وهو من أجل حفظ الدين من عبث المرتدين‪.‬‬
‫‪ -2‬النفس‪:‬‬
‫جاءت شريعة السلما بأحكاما القصاص للمحافظة على‬
‫النفس‪ ،‬ودرء المفاسد الناشئة عن شيوع القتل وسفك الدماء‬
‫ص رفيِ اًلك ل كقتيللىَ"‬
‫صاً ي‬
‫ر‬
‫ب لع لكيْيكيمُ اًلكق ل‬
‫ر‬ ‫لر‬
‫المحرمة‪ ،‬كما قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اً ذيلنَ آلمنيوُاً يكت ل‬
‫]البقرة‪.[178 :‬‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫ص لحليْاًةر لياً يأورليِ اًللكلباً ر‬
‫ب للع ليككمُ تليتلييقوُ ل‬ ‫صاً ر‬ ‫ر ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لوليككمُ فيِ اًلكق ل‬
‫‪[179‬‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لولمنَ قيتلل لمظكيلوُحماً فليلقكد لجلعكللناً للوُليْبه يسكللطاًحنَاً فللل ييكسررف فيِ اًلكلقكترل إنَلهي لكاًلن‬
‫صوُحراً" ]السراء‪.[33 :‬‬
‫لمكن ي‬
‫‪ -3‬العقل‪:‬‬
‫وقد جاءت الحكاما الشرعية بالمحافظة على العقل الذي ميز‬
‫الله به النسان وكرمه‪ ,‬فحرمت الخمر التي تذهب بالعقل وتغيبه‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ب لواًلكزلليم ركج ر‬
‫س بمكنَ‬ ‫كما قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلذيلنَ آلمنيوُاً إرنَللماً اًلكلخكمير لواًلكلمكيْسير لواًلنَ ل‬
‫صاً ي‬
‫شكيْلطاًرن لفاًكجتلنريبوُهي" إلى قوله‪+ :‬فليلهكل ألنَكييتمُ ممنتلييهوُلن" ]المائدة‪ [91 ،90 :‬وقال‬ ‫لعلمرل اًل ل‬
‫رسول الله ×‪» :‬كل مسكر خمر وكل خمر حراما« )‪ ،(4‬وشرع‬
‫إقامة الحد على السكران‪ ،‬وحرما المخدرات والمفترات التي تؤثر‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(1/466‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتابا اليمان‪ ،‬بابا‪ :‬المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل الله )‪(1/51‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.32‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الجهاد‪ ،‬بابا‪ :‬ل يعذبا الله‪ ،‬فتح الباري )‪.(6/173‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتابا الشربة‪ ،‬بابا‪ :‬الخمر من العسل‪ ،‬فتح الباري )‪ (10/44‬رقم‬ ‫‪4‬‬

‫‪.5585‬‬

‫‪383‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على سلمة العقل)‪.(5‬‬


‫‪ -4‬النسب‪:‬‬
‫جاءت الشريعة لدفع كل مفسدة تلحق بالنسابا‪ ،‬فإلى جانب‬
‫تحريم الزنى‬
‫وإيجابا الحد على الزناة المعلوما من قوله تعالى‪+ :‬لولل تليكقلربيوُاً اًلبزلنَىَ إرنَلهي‬
‫لكاًلن لفاًرح ل‬
‫شةح لولساًءل لسربيْلح" ]السراء‪.[32 :‬‬

‫وقوله‪+ :‬اًللزاًنَريْلةي لواًللزاًرنَيِ لفاًكجلريدواً يكلل لواًرحةد بم كنييهلماً رماًئلةل لجكللدةة" ]النور‪.[2 :‬‬
‫وإلى حد الرجم للمحصنين ‪ -‬إلى جانب ذلك‪ ،‬أوجبت الشريعة‬
‫العدة على النساء عند مفارقة الزواج بطلق أو موت‪ ،‬لئل يختلط‬
‫ت‬‫ماء الرجل بماء رجل آخر في رحم المرأة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لواًلكيمطلللقاً ي‬
‫صلنَ برألنَكييفرسرهلنَ ثلللثلةل قيييروةء" ]البقرة‪.[228 :‬‬ ‫يليتليلربل ك‬
‫صلنَ برألنَكييفرسرهلنَ ألكربليلعةل ألكشيهةر لولعكشحراً"‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫وقال‪+ :‬لواًلذيلنَ يييتليلوُفليكوُلن مكنيككمُ لويللذيرولن ألكزلواًحجاً يليتليلربل ك‬
‫]البقرة‪ .[234 :‬وكذلك منعت الشريعة نكاح الحامل حتى تضع‪ ،‬حتى‬
‫ت اًلكحلماًرل أللجلييهلنَ لأن يل ل‬
‫ضكعلنَ‬ ‫ل يسقي الرجل بماء غيره‪ ,‬فقال تعالى‪+ :‬لويأولل ي‬
‫لحكمليهلنَ" ]الطلق‪.[4 :‬‬
‫وهذه الحكاما كلها يؤول تنفيذها إلى القاضي المسلم في‬
‫الدولة المسلمة إضافة إلى مسئولية الناس الشخصية عن تبعاتها‬
‫في المجتمع المسلم‪.‬‬
‫‪ -5‬العرض‪:‬‬
‫إن شريعة السلما كفلت كل وسائل حماية العرض‪ ،‬فنهت‬
‫المسلم عن أن يتكلم في حق أخيه بأي شيء يؤذيه‪ ،‬وأوجبت حد‬
‫القذف ثمانين جلدة‪ ،‬على من يقذف‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬لواًلرذيلنَ يليكريموُلن‬
‫ت ثيلمُ لكمُ يلأكتيوُاً برألكربليلعرة يشلهلداًءل لفاًكجلريدويهكمُ ثللماًرنَيْلنَ لجكللدحة" ]النور‪.[4 :‬‬
‫اًلكمكحصلناً ر‬
‫ي ل‬
‫ضاً" ]الحجرات‪.[12 :‬‬ ‫ضيكمُ بليكع ح‬ ‫وحرمت الشريعة الغيبة‪+ :‬لولل يليغكلتب بليكع ي‬
‫ر‬
‫ونهت عن اللمز والتنابز باللقابا‪+:‬لولل تليكلميزواً ألنَكييف ل‬
‫سيككمُ لولل تليلناًبلييزواً‬
‫رباًللكلقاً ر‬
‫ب" ]الحجرات‪.[11 :‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطابا الوحي )‪.(1/467‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪384‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وحرمت اللعن والسب وعموما الذى للمؤمنين‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬


‫حتللمليوُاً بييكهلتاًحنَاً لوإرثكحماً مربيْحناً" ]الحزابا‪:‬‬ ‫ر‬ ‫ر ر ر‬ ‫رر‬ ‫لر‬
‫‪+‬لواً ذيلنَ يييكؤيذولن اًلكيمكؤمنيْلنَ لواًلكيمكؤملناًت بغلكيْرر لماً اًككتل ل‬
‫سبيوُاً فليلقد اً ك‬
‫‪.[58‬‬
‫‪ -6‬المال‪:‬‬
‫جاءت الشريعة السلمية لحفظ أموال الناس التي هي قواما‬
‫حياتهم‪ ،‬وقد حرما السلما كل وسيلة لخذ المال بغير حق شرعي‪،‬‬
‫فقال تعالى‪+ :‬لولل تلأكيكليوُاً ألكملوُاًليككمُ بلي كيْينليككمُ رباًلكلباًرطرل" ]البقرة‪ ,[188 :‬وحرما‬
‫السرقة وأوجب الحد على من ثبت عليه تلك الجريمة‪ ,‬فقال‬
‫ل" ]المائدة‪.[38 :‬‬ ‫ساًرقلةي لفاًقكطلعوُاً أليكرديييهماً جزاًء برماً لكسباً نَللكاًلح بمنَ اً ر‬ ‫ساًريق لواًل ل‬
‫تعالى‪+ :‬لواًل ل‬
‫ل‬ ‫ل ل ل ل ح ل لل‬ ‫ي‬
‫وكذلك حرما السلما الربا الذي يهدد مصالح الفراد واقتصاد‬
‫ضاًلعلفةح" ]آل‬ ‫الدول‪ ،‬فقال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً لل تلأكيكليوُاً اًلبرلباً أل ك‬
‫ضلعاًحفاً م ل‬
‫عمران‪.[130 :‬‬
‫وحرما كذلك الغش والحتكار والنهب والختلس والغلول وغير‬
‫ذلك من أشكال العتداء على المال‪ ،‬وكل ذلك داخل في أكل‬
‫أموال الناس بالباطل المنهي عنه‪.‬‬
‫وبتوافر الحماية لهذه العناصر الستة‪ ،‬يقصد المنهج التشريعي‬
‫السلمي إلى إصلح حياة الناس‪ ،‬بدرء المفاسد عنها‪ ،‬وقدما‬
‫السلما درء المفاسد على جلب المصالح رغم أن درءها هو في‬
‫حد ذاته مصلحة كبرى‪ ،‬إذ بذلك يمنع الشر أول‪ ،‬ثم يستجلب‬
‫الخير‪ .‬فهذا إصلح بالسلب وذلك باليجابا وهو ما نعنيه من قولنا‪:‬‬
‫إن الدعوة إلى الله من أهداف التمكين وذلك بإنزال منهج السلما‬
‫الصلحي في دنيا الناس والذي يدور حول مصالح ثلث‪ :‬درء‬
‫المفاسد‪ ،‬وجلب المصالح‪ ،‬والجري على مكارما الخلق‪.‬‬
‫با‪ -‬جلب المصالح »المعروف بالحاجيات«‪:‬‬
‫إن جلب المصالح مجاله واسع رحيب‪ ,‬فالشريعة فتحت أبوابا‬
‫الحلل على مصاريعها في جميع مناحي المعيشة وجعلت هذا‬
‫الحلل أسلوبا حياة تحرسه الدولة وتزيل العقبات من طريقه‪،‬‬
‫فكل نوع من التكسب والنتاج والصناعة والفن والثقافة ل يدخل‬
‫في محرما‪ ،‬إنما هو من حقوق الناس‪ ،‬ليس لحد أن يحرمه عليهم‬
‫ح لأن تليكبتليغيوُاً فل ك‬
‫ضلح بمنَ لربيككمُ"‬ ‫س لع لكيْيككمُ يجلناً ر‬
‫أو يحرمهم منه‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لكيْ ل‬
‫]البقرة‪.[198 :‬‬

‫‪385‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ض يليكبتلييغوُلن رمنَ فل ك‬
‫ضرل اً ر‬
‫ل" ]المزمل‪.[20 :‬‬ ‫ضرريبوُلن رفيِ اًللكر ر‬
‫وقال تعالى‪+ :‬لوآلخيرولن يل ك‬
‫وقد جاء الشرع المطهر بإباحة المصالح المتبادلة بين الفرد‬
‫والمجتمع على الوجه المشروع‪ ،‬ليستجلب كل مصلحته من الخر‪،‬‬
‫كالبيوع والجارات والمساقاة والمضاربة وما يجري مجرى ذلك‪.‬‬
‫جـ‪ -‬إحياء مكارما الخلق ومحاسن العادات بين الناس‪:‬‬
‫إن الرسول الكريم × قال‪» :‬إنما بعثت لتمم مكارما الخلق«‬
‫)‪.(1‬‬
‫إن الدولة السلمية من واجبها أن تهيئ جوا تنشأ فيه مكارما‬
‫الخلق‪ ،‬ومحاسن العمال من الطهر والعفاف والنقاء‪ ،‬تحرسه‬
‫شريعة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتحميه شعيرة‬
‫الحسبة‪ ،‬والدعوة إلى الله‪ ،‬لتكون أساسا للمعاملة بين الصغير‬
‫والكبير‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والولي والمولى‪ ،‬والراعي والرعية‪.‬‬
‫إن إقامة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتنفيذ الحدود‬
‫والدعوة إلى مكارما الخلق‪ ،‬وتعليم المة أمر دينها يترتب عليه‬
‫فوائد ومصالح عامة للمة والفراد‪ ،‬والحكاما والمحكومين‪ ,‬ومن‬
‫أهم هذه الفوائد‪:‬‬
‫‪ -1‬إقامة الملة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون‬
‫كلمة الله هي العليا‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬اًلرذينَ أيكخررجوُاً رمنَ ردياًررهمُ برغلكيْرر حلق إرلل لأن يييقوُليوُاً ربميلناً اًل ولوُلل لدفكع اً ر‬
‫ل‬ ‫ي‬ ‫ل يلك‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل ي‬
‫ت ومساًرجيد يكذلكر رفيْلهاً اًسمُ اً ر‬ ‫ر‬ ‫ت ر‬
‫ل" ]الحج‪.[40 :‬‬ ‫ي‬ ‫صلوُاًميع ل ل ر ل ل ل ر ل ل ل ي ي‬
‫اً‬
‫وُ‬‫ل‬‫ص‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫يْ‬ ‫ب‬‫و‬ ‫ض ليهبدلم ك ل‬‫ضيهكمُ رببليكع ة‬
‫س بليكع ل‬
‫اًللناً ل‬
‫إن النسان لبد له من أمر ونهي ودعوة‪ ,‬فمن لم يأمر بالخير‬
‫ويدع ع إليه أمر بالشر)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬رفع العقوبات العامة‪:‬‬
‫ت أليكردييككمُ" ]الشورى‪ [30 :‬وقال‬ ‫سبل ك‬ ‫ر ة ر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬لولماً أل ل‬
‫صاًبليكمُ بمنَ مصيْبلة فلبلماً لك ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫أيضا في الجوابا عن سبب مصابهم يوما أحد‪+ :‬قيكل يهلوُ مكنَ عكند ألنَكييفسيككمُ"‬
‫]آل عمران‪.[165 :‬‬
‫فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك‪.‬‬

‫)( أحمد في مسنده )‪ (2/381‬وصححه أحمد شاكر‪ ،‬انظر‪ :‬تحقيق المسند )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (18/80‬رقم ‪.8939‬‬
‫)( انظر‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪386‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ساًرد رفيِ‬ ‫رة‬ ‫رر ر‬ ‫ر‬


‫وقال تعالى‪+ :‬فلي لكوُلل لكاًلن ملنَ اًلكيقيرون منَ قليكبليككمُ يأويلوُ بلقيْلة يلي كنيلهكوُلن لعرنَ اًلكلف ل‬
‫جيْيلناً رم كنييهكمُ" ]هود‪.[116 :‬‬ ‫ر‬
‫ض إرلل قلليْلح بملمكنَ ألنَ ل ك‬
‫اًللكر ر‬

‫صلريحوُلن" ]هود‪.[117 :‬‬ ‫ك اًلكيقلرىَ برظيكلةمُ لوألكهليلهاً يم ك‬‫ك رليْييكهلر ل‬


‫وقال‪+ :‬لولماً لكاًلن لربم ل‬
‫وهذه إشارة تكشف عن سنة من سنن الله في المم‪ ،‬فإن‬
‫المة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي‬
‫أمم ناجية ل يأخذها الله بالعذابا والتدمير‪ ،‬أما المم التي يظلم‬
‫فيها الظالمون‪ ،‬ويفسد فيها المفسدون فل ينهض من يدفع الظلم‬
‫والفساد‪ ،‬أو يكون فيها من يستنكر ذلك‪ ،‬ولكنه ل يبلغ أن يؤثر في‬
‫الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار والهلك كما هي سنة الله‬
‫تعالى في خلقه‪ .‬وبهذا تعلم أن دعاة الصلح المناهضين للطغيان‬
‫والظلم والفساد هم صماما المان للشعوبا‪ ،‬وهذا يبرز قيمة كفاح‬
‫المكافحين للخير والصلح الواقفين للظلم والفساد‪ ،‬إنهم ل يؤدون‬
‫واجبهم لربهم ولدينهم فحسب‪ ،‬إنما هم يحولون بهذا دون أممهم‬
‫وغضب الله واستحقاق النكال والضياع«)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬استنزال الرحمة من الله تعالى‪ ،‬لن الطاعة والمعروف‬
‫سببان للنعمة‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لوإركذ تلألذللن لربميككمُ لئركنَ لشلككرتيكمُ للرزيلدنَليككمُ" ]إبراهيم‪ .[7 :‬والقياما‬
‫بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من العبودية لله‪.‬‬
‫‪ -4‬شد ظهر المؤمن وتقويته ورفع عزيمته وإرغاما أنف‬
‫المنافق‪:‬‬
‫فإن المؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر الخير والصلح ويوحد‬
‫الله ل يشرك به وتضمحل المنكرات على إثر ذلك‪ ،‬بينما يخنس‬
‫المنافق بذلك ويكون ذلك سببا لغمه وضيق صدره وحسرته‪ ،‬لنه‬
‫ل يحب ظهور هذا المر ول ذيوعه بين الخلق)‪.(2‬‬
‫قال الثوري ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر‬
‫المؤمن‪ ،‬وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق«)‪.(3‬‬
‫‪ -5‬تحقيق وصف الخيرية في هذه المة‪:‬‬
‫س لتأمرولن رباًلكمعرو ر‬
‫ف لوتلي كنيلهكوُلن لعرنَ اًلكيمكنلكرر‬ ‫قال تعالى‪+ :‬يككنتمُ لخيْير أيلمةة أيكخررج ك ر‬
‫ل كي‬ ‫ت لللناً ر ي ي‬ ‫ل‬ ‫يك كل‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/1933‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬للخلل‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪387‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ل" ]آل عمران‪ .[110 :‬وقال عمر ‪ » :    ‬‬ ‫وتييكؤرمينوُلن براً ر‬
‫)‪(‬‬
‫ل‬
‫‪. «        ‬‬
‫‪ -6‬التجافي عن صفات المنافقين‪:‬‬
‫إن من أخص صفات المؤمنين القياما بهذا العمل الطيب‪ ,‬قال‬
‫ض يأكمرولن رباًلكمعرو ر‬
‫ف لويلي كنيلهكوُلن لعرنَ اًلكيمكنلكرر‬ ‫ر‬ ‫تعالى‪+ :‬لواًلكيمكؤرمينوُلن لواًلكيمكؤرملناً ي‬
‫ل كي‬ ‫ضيهكمُ ألكولليْاًءي بليكع ة ل ي ي‬
‫ت بليكع ي‬
‫صللةل لويييكؤيتوُلن اًللزلكاًلة" ]التوبة‪.[71 :‬‬ ‫لوييرقيْيموُلن اًل ل‬
‫ثانيلا‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪:‬‬
‫إن الخطار التي تهدد الدولة المسلمة كثيرة جدا‪ ،‬منها ما قد‬
‫يأتي من داخل الدولة‪ ،‬وهذا يتكفل نشر العلم والدعوة‪ ,‬والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الحدود بالتصدي له‪ ،‬أما ما‬
‫قد يجيء من خارج حدود الدولة السلمية‪ ،‬فإن منه ما يكف شره‬
‫بالبيان‪ ،‬ومنه ما ل سبيل إلى قطع دابره إل بالسيف والسنان‪.‬‬
‫ولكي يحقق الحكم السلمي مقصده في إقامة الدين في‬
‫الرض بل معوقات‪ ،‬فلبد أن يكون مستعدا لما قد يكون في‬
‫الطريق من عقبات ترد الدعوة‪ ،‬أو تصد الدعاة عن القياما بواجب‬
‫نشر الحق ولهذا كان لبد أن تتهيأ دولة السلما لما تواجه به هذه‬
‫الظروف‪ ،‬وتعد المة للجهاد دائما ضد كل متصدر للوقوف في‬
‫طريق كتائب الحق المتحركة نحو رضا الله‪ ،‬وإذا كان الجهاد‬
‫وسيلة من وسائل إقامة الدين في الرض‪ ،‬فإن »إقامة حكم الله‬
‫في الرض والتمكين لدينه‪ ،‬غاية من غايات الجهاد في سبيل الله‪،‬‬
‫والذي يجب أن يسعى لتحقيق هذه الغاية هم المسلمون الذين‬
‫آمنوا بها وذاقوا حلوتها‪ ,‬وعلموا أن من حق البشر عليهم أن‬
‫يسعوا لسعادهم بها‪ ،‬ولو كان الناس يقبلون دعوة المسلمين إلى‬
‫تحكيم هذا الكتابا عليهم أن يكتفوا بالدعوة إلى ذلك لنه يحقق‬
‫الهدف‪ ،‬ولكن أكثر الناس ل يكفيهم أن يرفضوا تحكيم كتابا الله‪،‬‬
‫بل إنهم يقفون محاربين من أراد تحكيمهم بكل ما أوتوا من قوة‪،‬‬
‫وهذا يحتم على أولياء الله أن يجاهدوا أعداءه الذين يحاربونهم‬
‫من أجله«)‪.(2‬‬
‫إن الدولة السلمية التي تسعى لتحقيق أهداف التمكين من‬
‫واجباتها تشكيل وزارة للجهاد في سبيل الله‪ ،‬ووضع نظاما للجهاد‬
‫يتلءما مع قيم الدين وآدابه في إعداد الجنود‪ ،‬بعيدة عن النظمة‬

‫)( تفسير الطبري‪.(5/102) ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته‪ ،‬د‪ .‬عبد الله القادري )‪.(2/159‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪388‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الوافدة أو المستوردة‪ ،‬إن العداد للجهاد والهتماما به ليس عدوانا‬


‫على أحد‪ ،‬حتى ولو كان من غير المسلمين‪ ،‬إنما هو تأمين لحاضر‬
‫المسلمين ومستقبلهم وحماية لرضهم وعرضهم ومالهم ودينهم‬
‫ونفوسهم أماما أي معتد على واحدة من هذه التي يعتز بها كل‬
‫إنسان إن كان من أصحابا الفطر السوية)‪.(1‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬من أهم مقومات التمكين‪،‬‬
‫والحديث عن الجهاد للحاطة بكل جوانبه أمر ل يحتمله هذا البحث‬
‫المتواضع‪ ،‬ذلك أن أمر الجهاد عظيم فهو جزء ل يتجزأ من العقيدة‬
‫السلمية ومن رسالة المة السلمية‪.‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله مقوما أساسي من مقومات التمكين‬
‫للمة‪ ،‬وإن الجهاد والتمكين مرتبطان ارتباطلا وثيقلا‪ ,‬فل تمكين إل‬
‫بجهاد‪ ،‬فإذا صدق الجهاد كان التمكين بإذن ربا العالمين)‪.(2‬‬
‫إن طبيعة هذا الدين‪ :‬الجهاد وإنه من أخص خصائص المة‬
‫السلمية‪ ،‬ولهذا لم يتركه المسلمون ولم يفرطوا فيه في أي‬
‫عصر من عصورهم‪.‬‬
‫ل لحلق رجلهاًردره يهلوُ اًكجتللباًيككمُ‬
‫قال تعالى مخاطبا المة السلمية‪+ :‬وجاًرهيدواً رفيِ اً ر‬
‫لل‬
‫لولماً لجلعلل لع لكيْيككمُ رفيِ اًلبديرنَ رمكنَ لحلرةج بم لةل ألربيْيككمُ رإبكيلراًرهيْلمُ يهلوُ لسلماًيكيمُ اًلكيمكسلررميْلنَ رمنَ قليكبيل لورفيِ لهلذاً لريْليكوُلن‬
‫س" ]الحج‪» [78 :‬فالقرآن الكريم صريح‬ ‫اًللريسوُيل لشرهيْحداً لع لكيْيككمُ لوتليكوُنَيوُاً يشلهلداًءل لعللىَ اًللناً ر‬
‫في هذا النص الكريم أن الجهاد في سبيل الله فريضة على‬
‫المسلمين‪ ،‬كما فرض عليهم الصلة والصياما والزكاة والحج‪ ،‬وقد‬
‫كشف الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬عن سر هذا التكليف‪ ،‬وحكمة هذه الفريضة‬
‫التي افترضها على المسلمين‪ ,‬فبزين لهم أنه اجتباهم واصطفاهم‬
‫دون الناس ليكونوا سواس خلقه‪ ,‬وأمناء على شريعته‪ ,‬وخلفاءه في‬
‫أرضه‪ ,‬وورثة رسله في دعوته«)‪.(3‬‬
‫والية الكريمة ‪ -‬السابقة ‪ -‬جمعت كل ضروبا الجهاد وأبوابه‪،‬‬
‫من قتال العدو ومن العداد لذلك ومن بذل المال والنفس‪،‬‬
‫ومجاهدة الشهوات‪ ،‬ومجاهدة الشيطان‪ ،‬وتشمل الجهاد باللسان‬
‫والدبا والفكر والسياسة والقتصاد‪ ..‬جهادا كامل يستوعب طاقة‬
‫المة كلها‪ ،‬ويستوعب مواهبها وقدراتها‪ ،‬فذلك أصل معنى الجهاد‪:‬‬
‫»استفراغا الوسع والطاقة‪ ،‬وهو معنى مستمر ممتد ل يتوقف«)‪.(4‬‬
‫انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(745 ،2/744‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬تمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الرسائل‪ ،‬حسن البنا‪ ،‬ص ‪.40 ،49‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫لقاء المؤمنين‪ ،‬عدنان النحوي )‪ (2/159‬بتصرف‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪389‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والجهاد بهذا المعنى الشامل فرض عين أما القتال ‪ -‬وهو نوع‬
‫من أنواع الجهاد ‪ -‬فهو كفاية‪ ،‬ول يتعين إل في الحالت التية‪:‬‬
‫‪ -1‬إذا التقى الصفان‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا نزل الكفار ببلدة فيتعين على أهلها قتالهم‪.‬‬
‫‪ -3‬إذا استنفر الماما قوما لزمهم النفرة معه‪.‬‬
‫‪ -4‬قال ابن قدامة في المغني‪» :‬وأقل ما يفعله الماما مرة كل‬
‫عاما«)‪.(1‬‬
‫إن الجهاد ضروري لقياما الدعوة واستمرارها‪ ،‬وهو وسيلة من‬
‫وسائلها‪ ,‬يقول الستاذ‪ /‬عدنان النحوي‪» :‬ونحن ‪ -‬معشر أمة‬
‫السلما ‪ -‬ل نريد القتال أساسا لجل القتال‪ ،‬ول لجل الحربا‪,‬‬
‫وكذلك فلسنا أعداء لحد من الناس من حيث البتداء‪ ،‬ولكن لنا‬
‫من بين الناس أعداء الذين هم أعداء الله‪ ،‬والذين يوقدون نار‬
‫الحربا‪ ،‬ويسعون للفساد في الرض‪ ،‬ويفتنون الناس عن اليمان‪،‬‬
‫وت‬ ‫ويصدون عن سبيل الله‪ ،‬والمؤمن يمضي بدعوته جاهدا كي يف س‬
‫فرصة الفساد والفساد‪ ،‬ويطفئ نار الفتنة والهلك حتى تمضي‬
‫الدعوة السلمية تشق طريقها‪ ،‬فإن أبوا إل المضي في إشعال‬
‫الفتنة والسعي في الفساد‪ ،‬فإنه ل مفر من القتال‪ ،‬وكما يقولون‪:‬‬
‫آخر الدواء الكي«)‪.(2‬‬
‫»فالجهاد في سبيل الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬ليس هدفا منفصل عن‬
‫الدعوة إلى الله‪ ،‬بل هو مرتبط بها ارتباطا كامل‪ ،‬يدور القتال لجل‬
‫الدعوة‪ ،‬ويتوقف لجل الدعوة فهو إذن وسيلة من وسائل الدعوة‬
‫إلى الله‪ ،‬وقوة من قواها لخراج الناس من عبادة العباد إلى‬
‫عبادة الله الواحد الحد‪ ،‬وليمض الجيل المؤمن بالدعوة بكل‬
‫قواها‪ ،‬وسلمة نهجها حتى تكون كلمة الله هي العليا‪.‬‬
‫وهو كذلك وسيلة من وسائل حماية الدعوة وحماية المسلمين‬
‫أنفسا‪ ،‬ودارا‪ ,‬وثروات‪ ،‬ومنهاجا‪ ،‬وهو كذلك وسيلة لدفع الدعوة‬
‫في الرض حتى تبلغ الناس كافة‪ ،‬حين ل تنفع الحكمة والموعظة‬
‫الحسنة‪ ،‬ول يكفي جهاد اللسان والبيان‪ ،‬وحين تصد الدعوة عن‬
‫)‪(3‬‬
‫غايتها‪ ،‬وتقفل الدروبا والمسالك أمامها‪ ،‬وتبذل الجهود لخنقها« ‪.‬‬
‫»وإذا انعزل القتال ‪ -‬الذي هو صورة من صور الجهاد في‬
‫سبيل الله ‪ -‬عن الدعوة بصورة أو بأخرى‪ ،‬وإذا فقد أهدافه‬

‫)( المغني )‪.(10/265‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( لقاء المؤمنين )‪.(2/199‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(2/164‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪390‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫اليمانية وخصائصه الربانية‪ ،‬فقد جوهره وحقيقته‪ ،‬وأصبح قتالل‬


‫واستعمارا‪ ،‬ونهبلا‪,‬‬
‫ل‬ ‫عدوانا وظلملا‪،‬‬
‫ل‬ ‫كقتال سائر الناس في الرض‪،‬‬
‫وجرائم تتلوها جرائم‪ ،‬وحمية جاهلية‪ ،‬السلما منها برئ«)‪.(1‬‬
‫ومن أهم خصائص الجهاد أنه »في سبيل الله«‪:‬‬
‫إن المتدبر لكتابا الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬يجد أن كلمة »في سبيل‬
‫دا‪ ,‬ومعنى واسعلا‪ ،‬ففي معظم آيات الجهاد‬ ‫الله« تأخذ عمقلا بعي ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫تأتي لفظة »الجهاد« مقرونة بقوله تعالى‪+ :‬فيِ لسربيْرل اًل" أو ‪+‬فيِ اًل"‬
‫أو ‪+‬رفيْلناً"‪.‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬وجاًرهيدواً برألكموُاًلريكمُ وألنَكييفرسيكمُ رفيِ سبريْرل اً ر‬
‫ل" ]التوبة‪.[41 :‬‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ل كل‬ ‫لل‬
‫ل لحلق رجلهاًردهر" ]الحج‪.[78 :‬‬
‫وقال جل شأنه‪+ :‬وجاًرهيدواً رفيِ اً ر‬
‫لل‬
‫وقال سبحانه‪+ :‬لواًلرذيلنَ لجاًلهيدواً رفيْلناً للنليكهرديلينلييهكمُ يسبيي للناً" ]العنكبوت‪.[69 :‬‬
‫وإن لم ترد مثل هذه الكلمات فإنها تكون مفهومة ضمنا بحيث‬
‫يظل الجهاد في السلما جهادا في سبيل الله »فقط« وليس في‬
‫سبيل شيء آخر)‪.(2‬‬
‫وقد سئل رسول الله × عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل‬
‫حمية‪ ،‬ويقاتل رياء‪ ،‬أي ذلك في سبيل الله؟ فقال‪» :‬من قاتل‬
‫لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله« )‪ .(3‬إن الجهاد في‬
‫سبيل الله له أهداف من أهمها‪ :‬إقامة حكم الله ونظاما السلما‬
‫في الرض‪ ،‬دفع عدوان الكافرين‪ ،‬نيل الشهادة في سبيل الله‪،‬‬
‫تصفية الصف السلمي من عناصر الفساد‪ ,‬كما أن له ثمرات‪:‬‬
‫إعزاز المسلمين وإذلل الكافرين‪ ،‬وحدة صفوف المسلمين‪ ،‬هداية‬
‫المجاهدين وتسديد خطواتهم‪ ،‬دخول الناس أفواجا في هذا الدين‪،‬‬
‫التزاما المسلمين بالسلما‪ ،‬والحرص على حمايته‪ ،‬وعدما التفريط‬
‫فيه‪ ،‬إسعاد الناس بنور السلما‬
‫وعدله ورحمته‪.‬‬
‫أ‪ -‬أهداف الجهاد في الدولة السلمية‪:‬‬
‫إن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلء كلمة الله‬
‫ر‬
‫ت اًلكجلنَ‬
‫لتحقيق عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬كما قال تعالى‪+ :‬لولماً لخ لكق ي‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(2/86‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬لقاء المؤمنين )‪.(2/192‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الترمذي‪ ،‬كتابا فضائل الجهاد‪ ،‬بابا ما جاء فيمن يقاتل رياء )‪.(4/179‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪391‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫واًرلنَكس إرلل لريْيعبيدورن ‪ ‬ماً أيرييد رم كنيهمُ بمنَ بركزةق وماً أيرييد لأن يطكرعموُرن ‪ ‬إرلن اًل هوُ اًللرلزاًيق يذو اًلكيقلوُةر‬
‫ل يل‬ ‫ي ي‬ ‫لل‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ل ل ل كي‬
‫اًلكلمرتيْينَ" ]الذاريات‪ .[58-56 :‬ومفهوما العبادة شامل لنشاط النسان كله‬
‫ب اًلكلعاًلرميْلنَ‬ ‫ل لر ب‬‫ويفسر ذلك قوله سبحانه‪+ :‬قيل إرلن صللرتيِ ونَيسركيِ ومكحيْاًيِ ومماًرتيِ ر‬
‫ل ي لل ل ل لل ل‬ ‫ل‬ ‫ك‬
‫ت لوأللنَاً أللويل اًلكيمكسلررميْلنَ" ]النعاما‪.[164 ،163 :‬‬ ‫ك أيرمكر ي‬‫ك لهي لوبرلذلر ل‬‫‪ ‬لل لشرري ل‬
‫ومن أجل هذه الغاية جاهد جنود الدولة السلمية في عصرها‬
‫الزاهر‪ ،‬وقد سأل رستم قائد الفرس ربعي بن عامر‪ :‬ما جاء بكم؟‬
‫فقال‪ :‬ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله‪,‬‬
‫ومن ضيق الدنيا إلى سعتها‪ ,‬ومن جور الديان إلى عدل السلما‪،‬‬
‫فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه‪ ,‬فمن قبل ذلك قبلنا منه‬
‫ورجعنا عنه‪ ,‬ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله‪،‬‬
‫قال‪ :‬وما موعود الله؟ قال‪ :‬الجنة لمن مات على قتال من أبى‬
‫والظفر لمن بقي«)‪.(1‬‬
‫وقال ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬والجهاد مقصوده أن تكون‬
‫كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين لله‪ ،‬فمقصوده إقامة دين‬
‫الله‪ ،‬ل استيفاء الرجل حظه‪ ،‬كان ما يصابا‬
‫به المجاهد في نفسه وماله أجره على الله‪ ,‬فإن الله اشترى من‬
‫المؤمنين أنفسهم وأموالهم‬
‫بأن لهم الجنة«)‪.(2‬‬
‫هذه هي الغاية العليا الشاملة للجهاد في سبيل الله‪ ،‬ويمكننا‬
‫أن ندخل نقطتين تحت أهداف الجهاد في الدولة السلمية منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إقامة حكم الله ونظاما السلما في الرض‪:‬‬
‫إن إقامة حكم الله في الرض هدف من أهداف الجهاد‪ ،‬ولذلك‬
‫تسعى الدولة المسلمة لتحقيق هذا الهدف من خلل أجهزتها‬
‫ومؤسساتها وتوظيف كل إمكاناتها‪ ،‬وفتح المجال للمسلمين‬
‫للسعي الدءوبا من أجل إنزال حكم الله‪ ،‬ونظاما السلما في دنيا‬
‫الناس‪ ،‬ليتمتعوا بحكم الله الذي يؤتي كل ذي حق حقه بل نقص‪.‬‬
‫ب براًلكلحبق لرتلكحيكلمُ بليكيْلنَ اًللناً ر‬
‫س برلماً أللراًلك اًلي لولل تليككنَ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إرلنَاً ألنَكيزلكلناً إرليْ ل ر‬
‫ك اًلككلتاً ل‬ ‫ل ك‬
‫صيْحماً" ]النساء‪.[105 :‬‬ ‫لبكللخاًئررنيْنَ لخ ر‬
‫ل‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وجاهد السلما ليقيم في‬
‫الرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه‪ ،‬وهو وحده النظاما الذي‬
‫)( البداية والنهاية لبن كثير )‪.(7/39‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الفتاوى )‪.(15/170‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪392‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يحقق حرية النسان تجاه أخيه النسان حينما يقرر أن هناك‬


‫عبودية واحدة لله الكبير المتعال‪ ,‬ويلغي في الرض عبودية البشر‬
‫للبشر في جميع أشكالها‪ ،‬وصورها‪ ,‬فليس هناك فرد ول طبقة ول‬
‫أمة تشرع الحكاما للناس وتستذلهم عن طريق التشريع‪ ،‬إنما‬
‫هنالك ربا واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء‪,‬‬
‫وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع كما يتجهون إليه وحده‬
‫باليمان والعبادة سواء‪ ،‬فل طاعة في هذا النظاما لبشر إل أن‬
‫يكون منفذا لشريعة الله موكل عن الجماعة ليقوما بهذا التنفيذ‬
‫حيث ل يملك أن يشرع هو ابتداء لن التشريع من شأن اللوهية‬
‫وحدها‪ ،‬وهو مظهر اللوهية في حياة البشر‪ ,‬فل يجوز أن يزاوله‬
‫إنسان فيدعي لنفسه مقاما اللوهية وهو واحد من العبيد‪ ..‬جاهد‬
‫السلما ليقيم هذا النظاما الرفيع في الرض ويقرره ويحميه‪ ,‬وكان‬
‫من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الطاغية التي تقوما على عبودية‬
‫البشر للبشر والتي يدعي فيها العبيد مقاما اللوهية ويزاولون فيها‬
‫وظيفة اللوهية بغير حق‪ ،‬ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم‬
‫الطاغية في الرض كلها وتناصبه العداء‪ ،‬ولم يكن بد كذلك أن‬
‫يسحقها السلما سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الرض‪ ,‬وما يزال‬
‫هذا الجهاد لقامة هذا النظاما الرفيع مفروضا على المسلمين‬
‫ل" ]البقرة‪ [193 :‬فل تكون هناك‬‫‪+‬ولقاًتريلوُيهمُ حلتىَ لل تليكوُلن رف كتينلةر وييكوُلن اًلبدينَ ر‬
‫ي‬ ‫لل‬ ‫ك ل‬ ‫ل‬
‫ألوهية للعبيد في الرض ول دينونة‬
‫لغير الله«)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬دفع عدوان الكافرين‪:‬‬
‫‪ -1‬إن من أهداف الجهاد في الدولة السلمية دفع عدوان‬
‫الكافرين‪ ،‬وهذا العدوان أنواع منها‪:‬‬
‫‪ -‬أن يعتديِ اًلكفاًر علىَ فئة مؤمنة مستضعفة فيِ أرض اًلكفاًر‪ :‬لسيما إذا لم‬
‫تستطع أن تنتقل إلى بلد تأمن فيها على دينها‪ ،‬فإن الواجب على‬
‫الدولة السلمية أن تعد العدة لمجاهدة الكفار الذين اعتدوا على تلك‬
‫الطائفة حتى يخلصوها من الظلم والعتداء الواقع عليها)‪.(2‬‬
‫ل اًلرذيلنَ يلكشيرولن اًلكلحليْاًلة اًلمدنَكيليْاً رباًللرخلررة لولمنَ يييلقاًتركل رفيِ‬
‫قال تعالى‪+ :‬فليكليْيلقاًترل رفيِ سبريْرل اً ر‬
‫ل‬ ‫ي ك‬
‫ف نَييكؤرتيْره ألكجراً لعرظيْماً ‪ ‬وماً ليكمُ لل تييلقاًتريلوُلن رفيِ سربيْرل اً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ح لل ك‬ ‫ح‬ ‫سكوُ ل‬‫ب فل ل‬ ‫لسربيْرل اًل فلييْييكقتلكل ألكو يليغكل ك‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/295‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله القادري )‪.(2/162‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪393‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ساًرء لواًلكروُلكلداًرن اًلرذيلنَ يلييقوُيلوُلن لربليلناً ألكخرركجلناً رمكنَ لهرذره اًلكلقكريلرة اًللظاًلررمُ ألكهليلهاً‬ ‫ر‬ ‫واًلكمست ك ر ر‬
‫ضلعفيْلنَ ملنَ اًلبرلجاًل لواًلنب ل‬ ‫ل ي كل‬
‫صيْحراً" ]النساء‪.[75 ،74 :‬‬ ‫ك نَل ر‬ ‫نَ‬ ‫د‬‫ل‬ ‫منَ‬ ‫ر‬ ‫ناً‬‫ل‬ ‫عل‬ ‫ج‬ ‫اً‬
‫و‬ ‫يْاً‬‫ر‬‫ل‬‫و‬ ‫ك‬ ‫نَ‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫منَ‬ ‫ر‬ ‫ناً‬‫ل‬
‫يك ل‬ ‫يك ل ل ل ك ل ل‬ ‫ق‬ ‫لواًكجلعل ل‬
‫قال القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬حض على الجهاد‪ ،‬ويتضمن‬
‫تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين‬
‫يسومونهم سوء العذابا ويفتنونهم عن الدين‪ ،‬فأوجب تعالى‬
‫الجهاد لعلء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من‬
‫عباده‪ ،‬وإن كان في ذلك تلف النفوس‪ ,‬وتخليص الساري واجب‬
‫على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالموال وذلك أوجب‬
‫لكونها دون النفوس‪ ،‬إذ هي أهون منها«)‪.(1‬‬
‫وقال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬جاهد السلما‪ ...‬ليدفع عن‬
‫المؤمنين الفتنة التي كانوا يسامونها وليكفل لهم المن على‬
‫أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم‪ ,‬وقرر ذلك المبدأ العظيم‪ ...:‬والفتنة‬
‫أشد من القتل‪ ،‬فاعتبر العتداء على العقيدة واليذاء بسببها وفتنة‬
‫أهلها أشد من العتداء على الحياة ذاتها‪ ،‬فالعقيدة أعظم قيمة في‬
‫الحياة وفق هذا المبدأ العظيم‪ ,‬وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال‬
‫ليدفع عن حياته وعن ماله فهو من بابا أولى مأذون في القتال‬
‫ليدفع عن عقيدته ودينه‪.(2) «...‬‬
‫‪ -‬أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين‪:‬‬
‫ب‬‫ل اًلرذيلنَ يييلقاًتريلوُنَليككمُ لولل تليكعتليدواً إرلن اًلل لل ييرح م‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ولقاًترليوُاً رفيِ سربيْرل اً ر‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ل‬‫ر‬ ‫ت‬ ‫ق‬‫ك‬
‫ل‬ ‫اً‬ ‫نَ‬ ‫م‬‫ر‬ ‫م‬
‫د‬ ‫ش‬ ‫ل‬
‫أ‬ ‫ة‬ ‫ن‬‫ي‬ ‫ر‬
‫ث ل ك ي ي ي ل ك ي ي ب ك لك ي ك ل ي ي ك ل ك ل ي ل ل لك ل ل‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫فت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫اً‬
‫و‬ ‫مُ‬ ‫ك‬‫جوُ‬ ‫ر‬‫خ‬ ‫ل‬
‫أ‬ ‫ث‬ ‫يْ‬ ‫ح‬ ‫نَ‬ ‫م‬ ‫همُ‬ ‫جوُ‬ ‫ر‬
‫ر‬ ‫خ‬ ‫ل‬
‫أ‬‫و‬ ‫همُ‬ ‫موُ‬ ‫ت‬ ‫ف‬‫ق‬‫ر‬ ‫ث‬ ‫اًلكيمكعتلرديلنَ ‪ ‬لواًقكيتيييلوُيهكمُ لحكيْ ي‬
‫ك لجلزاًءي اًلكلكاًفررريلنَ ‪ ‬فلرإرن‬ ‫تييلقاًتريلوُيهكمُ رعكنلد اًلكلمكسرجرد اًلكلحلراًرم لحلتىَ يييلقاًتريلوُيككمُ رفيْره فلرإن لقاًتلييلوُيككمُ لفاًقكيتيييلوُيهكمُ لكلذلر ل‬
‫اًنَكيتليلهكوُاً فلرإلن اًلل غليفوُرر لررحيْرمُ" ]البقرة‪.[192 -190 :‬‬
‫قد نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين‬
‫يتعين الجهاد للدفاع عن الديار‪ ،‬لن العدو إذا احتلها ساما المسلمين‬
‫عذابا ونفذ فيها أحكاما الكفر وأجبر أهلها على الخضوع له‪ ،‬فتصبح دار‬
‫كفر بعد أن كانت دار إسلما‪ ،‬قال ابن قدامة رحمه الله‪» :‬وتعين‬
‫الجهاد في ثلثة مواضع‪ ...‬الثاني‪ :‬إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله‬
‫قتالهم ودفعهم«)‪.(3‬‬
‫وقال بعض علماء الحنفية »وحاصله إن كل موضع خيف هجوما‬
‫العدو منه فرض على الماما أو على أهل ذلك الموضع حفظه‪ ،‬وإن‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(5/279‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/294‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المغني )‪.(9/197‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪394‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫لم يقدروا فرض على القربا إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية‬
‫بمقاومة العدو«)‪.(1‬‬
‫أن ينشر العدو الظلم بين رعاياها‪ ،‬ولو كانوا كفالرا ‪ -‬لن الله‬
‫سبحانه حرما على عباده الظلم‪ ،‬والعدل في الرض واجب لكل‬
‫الناس‪ ،‬وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين أثموا لنهم‬
‫مأمورون بالجهاد في الرض لحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ,‬ونشر‬
‫العدل والقضاء على الظلم‪ ,‬ول فلح لهم إل بذلك وهو المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وما كانوا خير أمة أخرجت للناس‬
‫س لتأمرولن رباًلكمعرو ر‬ ‫إل بذلك كما قال تعالى‪+ :‬يككنتمُ لخيْير أيلمةة أيكخررج ك ر‬
‫ف لوتلي كنيلهكوُلن‬ ‫ل كي‬ ‫ت لللناً ر ي ي‬ ‫ل‬ ‫يك كل‬
‫ل" ]آل عمران‪ ,[110 :‬وقال تعالى‪+ :‬ول يجررمنليكمُ شنآِن قليوُمة‬ ‫لعرنَ اًلكمكنلكرر وتييكؤرمينوُلن رباً ر‬
‫ل ل ل ك ل ك لل ي ك‬ ‫ي ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫لعللىَ أللل تليكعدليوُاً اًكعدليوُاً يهلوُ ألقكيلر ي‬
‫ب للتليكقلوُىَ لواًتلييقوُاً اًلل إن اًلل لخبيْرر بلماً تليكعلميلوُلن" ]المائدة‪.[8 :‬‬
‫ومن العدل كف الظلم عن المظلوما الكافر الذي يبغضه‬
‫المسلم لكفره‪ ،‬قال السرخسي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وإن كان ‪ -‬يقصد‬
‫أحد ملوك أهل الحربا ‪ -‬طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل‬
‫مملكته بما شاء من قتل أو صلب أو غيره بما ل يصلح في دار‬
‫السلما لم يجب إلى ذلك‪ ،‬لن التقرير على الظلم مع إمكان المنع‬
‫منه حراما«)‪.(2‬‬
‫إن من واجب الدولة المسلمة أن تجاهد في سبيل الله للقضاء‬
‫على الظلم والظالمين)‪.(3‬‬
‫‪ -‬الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله‪ ،‬إن‬
‫المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عز وجل أن يبلغوا‬
‫رسالت الله للناس كافة‪ ،‬كما قال تعالى‪+:‬قيكل لهرذهر لسربيْرليِ ألكديعوُ إرللىَ اًل لعللىَ‬
‫ر‬
‫ل لولماً أللنَاً رملنَ اًلكيمكشررركيْلنَ" ]يوسف‪.[108 :‬‬ ‫صيْرةة أللنَاً ومرنَ اًتليبيعرنيِ وسكبحاًلن اً ر‬
‫بل ل ل ل ل ل ل ي ل‬
‫ر‬

‫وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته ول يتركون‬


‫لهم سبيل إلى الناس‪ ,‬كما ل يأذنون للدعاة أن يسمعوا الدعوة‬
‫إلى الله للناس‪ ،‬ويضعون العراقيل‪ ،‬والحواجز بين الدعوة ودعاتها‬
‫والناس‪ ،‬ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين قتال كل‬
‫من يصد عن سبيل الله تعالى‪.‬‬
‫ضلل ألكعلماًليهكمُ ‪ ‬لواًلرذيلنَ آلمنيوُاً لولعرمليوُاً‬ ‫قال تعالى‪+ :‬اًلرذينَ لكلفرواً وصمدواً لعنَ سبريْرل اً ر‬
‫ل أل ل‬ ‫ل‬ ‫ل ي ل ل‬
‫)( حاشية ابن عابدين )‪.(4/124‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المبسوط للسرخسي )‪.(10/85‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله للقادري )‪.(166 ،1/165‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪395‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ص للح لباًليهكمُ ‪ ‬لذلر ل‬ ‫ر‬ ‫ة‬ ‫صاًلرحاً ر‬


‫ك‬ ‫ت لوآلمنيوُاً برلماً نَييبزلل لعللىَ يملحلمد لويهلوُ اًلكلحمق منَ لربرهكمُ لكلفلر لع كنييهكمُ لسيْبلئاًتررهكمُ لوأل ك‬ ‫اًل ل ل‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫برأللن اًلرذيلنَ لكلفيرواً اًتليبليعيوُاً اًلكلباًطلل لوأللن اً ذيلنَ آلمنيوُاً اًتليبليعيوُاً اًلكلحلق منَ لربرهكمُ لكلذل ل‬
‫س‬ ‫ب اًلي لللناً ر‬ ‫ضرر ي‬ ‫ك يل ك‬
‫شمدواً اًلكلوُلثاًلق فلرإلماً لمقناً بليكعيد لوإرلماً‬ ‫ب لحلتىَ إرلذاً ألثكلخنتييموُيهكمُ فل ي‬ ‫ب اًلبرلقاً ر‬ ‫ضكر ل‬ ‫ألكملثاًليهكمُ ‪ ‬فلرإلذاً لرقيْتييمُ اًلرذيلنَ لكلفيرواً فل ل‬
‫ض‬ ‫ضيككمُ رببليكع ة‬‫صلر رم كنييهكمُ لولركنَ لبلكيْبيليلوُ بليكع ل‬‫شاًءي اًلي للنَكيتل ل‬ ‫ك لولكوُ يل ل‬ ‫ب ألكولزاًلرلهاً لذلر ل‬‫ضلع اًلكلحكر ي‬ ‫فرلداًءح لحلتىَ تل ل‬
‫ضلل ألكعلماًليهكمُ" ]محمد‪.[4 -1 :‬‬ ‫ل فليللنَ ي ر‬ ‫واًلرذينَ قيترليوُاً رفيِ سبريْرل اً ر‬
‫ي‬ ‫ل‬ ‫ل ل‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وجاهد السلما‪ ..‬لتقرير حرية‬
‫العقيدة ‪ -‬فقد جاء السلما بأكمل تصور للوجود والحياة‪ ,‬وبأرقى‬
‫نظاما لتطور الحياة‪ ،‬جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ويبلغ‬
‫إلى أسماعها وإلى قلوبها‪ ،‬فمن شاء بعد البيان والبلغا فليؤمن‬
‫ومن شاء فليكفر‪ ,‬ول إكراه في الدين‪ ،‬ولكن ينبغي قبل ذلك أن‬
‫تزول العقبات من طريق إبلغا هذا الخير للناس كافة كما جاء من‬
‫عند الله للناس كافة‪ ,‬وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن‬
‫يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا‪ ،‬ومن‬
‫هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الرض تصد الناس‬
‫عن الستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا‪ ،‬فجاهد السلما‬
‫ليحطم هذه النظم الطاغية وليقيم مكانها نظاما عادل يكفل حرية‬
‫الدعوة إلى الحق في كل مكان‪ ,‬وما يزال هذا الهدف قائما وما‬
‫يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه وإن كانوا مسلمين«‪.‬‬
‫هذه بعض أهداف الجهاد التي تتحقق عند إقامة هذه‬
‫الفريضة)‪.(1‬‬
‫با‪ -‬بعض ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله‪:‬‬
‫إن ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إعزاز المسلمين وإذلل الكافرين‪:‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله يعد قمة المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬ووصف المولى عز وجل هذه المة بصفات القيادة‬
‫ر‬
‫س لتأيميرولن رباًلكلمكعيروف لوتلي كنيلهكوُلن‬ ‫ت رلللناً ر‬‫خيْيلر أيلمةة أيكخررلج ك‬
‫الرشيدة في قوله تعالى‪+ :‬يككنتيكمُ ل ك‬
‫ل" ]آل عمران‪.[110 :‬‬ ‫لعرنَ اًلكمكنلكرر وتييكؤرمينوُلن رباً ر‬
‫ي ل‬
‫قال القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬قوله‪+ :‬لتأمرولن رباًلكمعرو ر‬
‫ف لوتلي كنيلهكوُلن لعرنَ‬ ‫ل كي‬ ‫يي‬
‫اًلكيمكنلكرر" مدح لهذه المة ما أقاموا ذلك واتصفوا به‪ ،‬فإذا تركوا‬
‫التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/294‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪396‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الذما وكان ذلك سببا لهلكهم)‪.(1‬‬


‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وهذا ما ينبغي أن تدركه المة‬
‫المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها‪ ,‬وتعرف أنها أخرجت لتكون‬
‫طليعة وتكون لها القيادة بما أنها هي خير أمة والله يريد أن تكون‬
‫القيادة للخير ل للشر في هذه الرض«)‪.(2‬‬
‫إن هذه المة تعمل على نشر الخير‪ ،‬وصيانة المجتمعات من‬
‫عوامل الفساد‪ ،‬لكي تبني مجتمعات صالحة على أسس من‬
‫المبادئ‪ ،‬والعتقادات‪ ،‬والتصورات‪ ،‬والنظم‪ ،‬والخلق‪ ،‬والمعارف‪،‬‬
‫والعلوما المستمدة من المنهج الرباني الحكيم‪.‬‬
‫وهذه الهداف النبيلة تجعل قيادة المة تنازل قوى البغي في‬
‫ميادين الجهاد‪ ،‬لن القوى الكافرة‪ ،‬دائما وأبدا تعد العدة وتبذل‬
‫جهدها للقضاء على السلما والمسلمين‪ ،‬ولهذا تركب المة‬
‫صهوات المجد‪ ،‬وتسل سيوفها ضد أعداء البشرية ممن يعتقدون‬
‫الكفر والضلل والفساد‪ ،‬فتكون ثمرة هذا الجهاد المبارك القضاء‬
‫على شوكة الكفر وإذللهم وإنزال الرعب في قلوبهم وتطهير‬
‫الرض من سيطرتهم‪.‬‬
‫إن المشركين والكفار ل يراعون في المسلمين ‪-‬إذا قدروا‬
‫ف لورإن يلظكلهيرواً لع لكيْيككمُ لل يليكرقييبيوُاً رفيْيككمُ‬ ‫عليهم‪ -‬عهدا ول قرابة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬لككيْ ل‬
‫إرلق لولل رذلمةح" ]التوبة‪.[80 :‬‬

‫ن" ]التوبة‪:‬‬ ‫ك يهيمُ اًلكيمكعتليدو ل‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬لل يليكرقيييبوُلن رفيِ يمكؤرمةنَ إرلق لولل رذلمةح لويأولئر ل‬
‫‪.[10‬‬
‫صاًلرىَ لحلتىَ تليتلبرلع رمللتلييهكمُ" ]البقرة‪.[120 :‬‬ ‫ك اًلكيْلييهوُيد لولل اًلنل ل‬
‫ضىَ لعن ل‬ ‫وقال‪+ :‬لولكنَ تليكر ل‬
‫لهذا كان الجهاد في سبيل الله هو الفيصل بين المسلمين‬
‫وأعدائهم لنه يثمر ‪ -‬بإذن الله ‪ -‬القضاء على قوة الكفر وإذلل‬
‫طغاته وخزيهم وإلقاء الرعب في قلوبهم وغنيمة للمسلمين‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫خيْيحراً لولكلفىَ اًلي اًلكيمكؤمنيْلنَ‬ ‫المجاهدين كما قال‪+ :‬لولرلد اًلي اًلذيلنَ لكلفيرواً برغلكيْظرهكمُ لكمُ يليلناًليوُاً ل ك‬
‫ف رفيِ‬ ‫صيْرهكمُ لوقللذ ل‬ ‫ب رمنَ صيْاً ر‬ ‫اًلكرقلتاًلل ولكاًلن اًلي قلروُقياً لعرزيحزاً ‪ ‬لوألنَكيلزلل اًلرذيلنَ ظلاًلهرويهمُ بمكنَ ألكهرل اًلكركلتاً ر‬
‫لل‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫ضاً لكمُ تلطليؤولهاً‬ ‫ر‬‫ل‬‫أ‬‫و‬ ‫مُ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫اً‬
‫وُ‬‫م‬‫ل‬‫أ‬‫و‬ ‫مُ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ياً‬ ‫ر‬
‫قيييلوُبررهيمُ م ك ل ح ل ي ل ل ل ي ل ح ل ك لل ك ك ل ي ك ل ل ل ي ك ل ك ل ي ك ل ك ح‬
‫د‬ ‫و‬ ‫مُ‬ ‫ه‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫ل‬‫أ‬ ‫مُ‬ ‫ك‬‫ي‬ ‫ث‬‫ر‬‫و‬ ‫ل‬
‫أ‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫قاً‬ ‫ي‬‫ر‬
‫ر‬ ‫ف‬
‫ل‬ ‫ن‬ ‫رو‬‫س‬‫ر‬ ‫ك‬
‫أ‬ ‫ت‬‫و‬ ‫ن‬‫لوُ‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫قت‬
‫ك‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫قاً‬ ‫ي‬‫ر‬
‫ر‬ ‫ف‬
‫ل‬ ‫ب‬ ‫ع‬‫ر‬ ‫اًل‬
‫لولكاًلن اًلي لعللىَ يكبل لشكيِةء قلرديحراً" ]الحزابا‪.[27-25 :‬‬

‫)( الجامع لحكاما القرآن )‪.(4/173‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/447‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪397‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن الله تعالى قد رتب على الجهاد قتال الكافرين وتعذيب‬


‫أعداء الله وخزيهم ونصر المجاهدين عليهم وشفاء صدور‬
‫المؤمنين الذين أوغر أعداء الله صدورهم وإذهابا غيظ قلوبهم بما‬
‫يدخل عليهم من السرور بكسر شوكة أعداء الله والقضاء على‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫قوتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪+ :‬لقاًتيلوُيهكمُ يييلعبذبكييهيمُ اًلي برأليكدييككمُ لوييكخرزهكمُ لويليكن ي‬
‫صكريككمُ لع لكيْرهكمُ‬
‫شاًءي لواًلي لعرليْرمُ لحركيْرمُ"‬ ‫ر‬ ‫ة رر‬ ‫ويكش ر‬
‫ب اًلي لعللىَ لمنَ يل ل‬ ‫ظ قيييلوُبررهكمُ لويلييتوُ ي‬ ‫ب غلكيْ ل‬
‫صيدولر قليكوُم مكؤمنيْلنَ ‪ ‬لوييكذه ك‬
‫ف ي‬ ‫لل‬
‫]التوبة‪.[15 ،14 :‬‬
‫لقد قاما النبي × بحركة الجهاد واستطاع أن يقضي على‬
‫شوكة الكفر في الجزيرة‪ ،‬ويرد كيد اليهود عليهم‪ ،‬ووجه ضربات‬
‫موفقة للنصارى‪ ,‬وسار الصديق ‪       ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪           ,‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪.( )«       ‬‬
‫‪ -2‬دخول الناس في دين الله أفواجا‪:‬‬
‫إن أهل الباطل يستهينون بأهل الحق ويستضعفونهم ما لم‬
‫يكونوا أعزة‪ ،‬والتاريخ يشهد على أن الناس يحترمون الحق الذي‬
‫تحرسه القوة‪ ،‬وعندما يكون أهل الحق أعزة يدخل الناس في دين‬
‫الله أفواجا‪ ،‬فعندما أسس × دولة السلما واكتملت لها المقومات‬
‫اللزمة وشرعت في بعث السرايا‪ ،‬والقياما بالغزوات ضد أعداء‬
‫السلما ووقعت بينهم وبين المسلمين معارك كان النتصار في‬
‫الغالب للمسلمين على المشركين‪ ,‬وبلغت قوة المسلمين ذروتها‬
‫عندما وقع الصلح بينهم وبين المشركين في الحديبية حيث اعترف‬
‫أهل الكفر بدولة تعقد المعاهدات وتفاوض وتصالح‪ ,‬وكثر الداخلون‬
‫في السلما‪ ،‬وعندما نقضت قريش الصلح غزا رسول الله × مكة‬
‫وفتحها ودخلها مظفرا فماذا كان بعد هذا الفتح المبين؟ )‪.(2‬‬
‫قال محمد بن إسحاق‪] :‬ولما افتتح الرسول × مكة وفرغا من‬
‫تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت‪ ،‬ضربت إليه وفود العربا من كل‬
‫وجه‪ .‬قال ابن هشاما‪» :‬حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع‬
‫وأنها كانت تسمى الوفود‪ ،‬قال ابن إسحاق‪ :‬وإنما كانت العربا‬
‫تربص بإسلمها أمر هذا الحي من قريش لن قريشا كانوا إماما‬
‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله )‪.(2/423‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجهاد في سبيل الله )‪.(453 ،2/452‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪398‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرما وصريح ولد إسماعيل بن‬


‫إبراهيم‪ ,‬وقادة العربا ل ينكرون ذلك‪ ،‬وكانت قريش هي التي‬
‫نصبت الحربا لرسول الله × وخلفه‪ ,‬فلما افتتحت مكة ودانت له‬
‫قريش ودخولها السلما عرفت العربا أنهم ل طاقة لهم بحربا‬
‫رسول الله × ول عداوته فدخلوا في دين الله ‪-‬كما قال عز وجل‪-‬‬
‫أفواجا يضربون إليه من كل وجه«)‪.(1‬‬
‫واستمر المر كذلك بعد انتقال النبي × للرفيق العلى‪ ،‬فكان‬
‫الجهاد هو الذي يقضي على حركات التمرد والشقاق ويجبرهم‬
‫على الخضوع للسلما‪ ,‬والنقياد لشرعه‪ ،‬واحتراما أهله‪ ،‬فكان أبو‬
‫بكر الصديق ‪       ,    ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪ ×  ‬ومن أهم المواقف‪:‬‬
‫إنفاذ جيش أسامة‪:‬‬
‫لقد ظهر فقه الصديق وحكمته عند إصراره على إرسال جيش‬
‫أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عدة وجوه‪:‬‬
‫إنفاذه بعث أسامة ‪        ‬‬
‫‪ ،×    ‬وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية‬
‫في تحركها إلى الشاما مهما كانت الظروف والحوال والنتائج‪،‬‬
‫وفشلت كافة المحاولت الهادفة لقناع الصديق كي يتخلى عن‬
‫فكرة إرسال جيش أسامة‪ ،‬وعندما كثر اللحاح على أبي بكر‪ ،‬دعا‬
‫عامة المهاجرين والنصار إلى اجتماع المجلس لمذاكرة هذا المر‬
‫معهم‪ ,‬وبزين لهم أن إنفاذ جيش أسامة هو مشروع وضعه رسول‬
‫الله × وعلينا تنفيذه مهما بلغت الصعابا والمتاعب وقال‪» :‬أيها‬
‫الناس‪ ،‬والله لو خطفتني الكلبا والذئابا لنفذت أسامة وجيشه‬
‫كما أراد رسول الله × ل راد لقضاء قضى به رسول الله × ولو‬
‫لم يبق في القرى غيري لنفذته‪ ،‬والله لن تتخطفني الطير أحب‬
‫ي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله × «)‪.(2‬‬ ‫إل ز‬
‫ولما أشار بعض الناس على أبي بكر أن يولي أمر الجيش رجلل‬
‫أقدما سنّا من أسامة‪ ،‬غضب لذلك‪ ،‬لن رسول الله × هو الذي‬
‫أمر أسامة على هذا الجيش‪ ،‬فل يريد ‪      ‬‬
‫×‪.‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(5/40‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ السلما للذهبي عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪399‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وأوصى الصديق ذلك الجيش المظفر بهذه الوصايا‪» :‬ل‬


‫طفل‪ ,‬ول شيخلا‬
‫ل‬ ‫تخونوا‪ ،‬ول تغدروا‪ ،‬ول تغلوا‪ ،‬ول تمثلوا‪ ،‬ول تقتلوا‬
‫كبيلرا‪ ،‬ول امرأة‪ ,‬ول تعزقوا)‪ (1‬نخل‪ ،‬ول تحرقوه‪ ،‬ول تقطعوا شجرة‬
‫بعيرا إل للكل‪ ,‬وإذا مررتم‬
‫ل‬ ‫مثمرة‪ ،‬ول تذبحوا شاة ول بقرة ول‬
‫بقوما فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له‪،‬‬
‫وإذا لقيتم قوما فحصوا)‪ (2‬أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل‬
‫العصائب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه‪ ،‬فإذا قربا عليكم‬
‫الطعاما فاذكروا اسم الله‪ ،‬يا أسامة‪ :‬اصنع ما أمرك نبي الله ببلد‬
‫قضاعة‪ ،‬ائت آبل‪ ،‬ول تقصر من أمر رسول الله × ثم ودعه من‬
‫الجرف ورجع «)‪.(3‬‬
‫والجرف‪ :‬موضع قربا المدينة‪ ،‬وهذه التعاليم النسانية‬
‫الرفيعة‪ ،‬استمدها الصديق ‪        ‬‬
‫‪.( )        ‬‬
‫‪ ,×         ‬فبعث الجنود إلى‬
‫بلد قضاعة وأغار أسامة على »أبني« فسبى وغنم‪ ،‬ورجع إلى‬
‫المدينة ظافرا بعد أن غابا عنها أربعين يوما‪ ,‬وكان إنفاذ جيش‬
‫أسامة من أعظم المور نفعا للمسلمين‪ ،‬فإن العربا قالوا‪» :‬لول‬
‫أن لهؤلء قوة ما خرج مثل هؤلء من عندهم ولكن ندعهم حتى‬
‫يلقوا الروما‪ ،‬فلقوا الروما فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين‬
‫فثبتوا على السلما«)‪.(5‬‬
‫لقد أثبتت الياما والحداث سلمة رأي الصديق وصوابا قراره‬
‫الذي اعتزما تنفيذه معتمدا في ذلك على الدقة التامة في التزاما‬
‫المنهج النبوي‪ ،‬والمر النبوي‪ ,‬والتصميم الملهم في وقته المناسب‬
‫والنظر البعيد إلى المستقبل‪.‬‬
‫وقد اعترف كبار الصحابة بصوابا ما ذهب إليه الصديق ورد‬
‫عمر فيما بعد قولته المشهورة‪» :‬ليلة من أبي بكر خير من عمر‬
‫وآل عمر«)‪.(6‬‬
‫إن بعث أسامة في تلك اللحظة الحرجة لم يحدث أي أثر‬
‫سلبي على الموقف السلمي العاما كما ظن الكثيرون‪ ،‬بل على‬
‫ول تعزقوا‪ :‬ل تكسروا‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫فحصوا‪ :‬كشفوا‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ المم والملوك للطبري )‪.(4/47‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الخلفاء الراشدون‪ ،‬عبد الوهابا النجار‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البداية والنهاية )‪.(305 ،6/304‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.84‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪400‬‬
‫ مراحل التمكين وأهدافه‬:‫البابا الثالث‬

‫العكس فإنه أحدث آثارا إيجابية أفادت الموقف العسكري‬


‫ فقد أحدث هذا الجيش في‬,‫والسياسي والدعوى آنيا وفيما بعد‬
‫أثناء مسيرته رعبا وخوفا لدى القبائل وأصحابا الديان الخرى‬
‫الذين اشرأبت أعناقهم عندما رأوا الفتنة قد ذر قرنها في الجزيرة‬
‫ فكان الجيش ل يمر بحي من أحياء‬،× ‫العربية بعد وفاة النبي‬
‫ »ما خرج هؤلء من قوما إل وبهم‬:‫العربا إل أرعبوا منهم وقالوا‬
‫ ولهذا فإن بعث أسامة كان حربا نفسية رائعة‬.(1)«‫منعة شديدة‬
.‫فيما حققته من مكاسب‬
‫ و‬،‫إن اختيار الطريق السهل في بعض الحيان يورد المهالك‬
‫لكن أبا بكر اختار في تلك اللحظة الطريق الصعب الشاق المؤدي‬
‫ وكان حزما وحسما سجلهما التاريخ‬,‫إلى النجاة والنصر والفوز‬
.(2)‫لهذا الخليفة الراشد الملهم‬
‫ لقد كان يدرك ما وراء خروج هذا‬,‫رضي الله عنك يا أبا بكر‬
‫الجيش بعد وفاة الرسول × التي جعلت أعداء السلما يتطلعون‬
         ‫ كان يدرك‬،‫للقضاء على السلما‬
             
.( )      
:‫ حروبا الردة‬-
         ‫قاما أبو بكر الصديق‬
         , 
   -   » :-   -     
          -  
           
         ,   
.() «...  
              
:         , 
            -
,         
          
.(6/308) ‫البداية والنهاية‬ () 1

.84 ‫ ص‬،‫ الشورى بين الصالة والمعاصرة‬:‫انظر‬ () 2

.(2/455) ‫ الجهاد في سبيل الله‬:‫انظر‬ () 3

.(6/342) ‫البداية والنهاية‬ () 4

401
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

.       


           -
           
            
          
.    
          -
         
        
              
.()        
:‫ الفتوحات السلمية‬-
،‫ وتوحدت كلمة المسلمين‬،‫بعد أن انتهت حروبا الردة‬
‫ تحركت قيادة‬،‫وأصبحت لهم قاعدة صلبة في جزيرة العربا كلها‬
         ‫المة بزعامة الصديق‬
          
             
            
           
.×          
       ‫لقد كان المسلمون بقيادة الصديق‬
  -           
‫ل برألفكيلوُاًرهرهكمُ لواًلي يمترممُ ينَوُرهر لولكوُ لكررله‬ ‫يررييدولن لريْطكرفئيوُاً ينَوُر اً ر‬+ :    -
‫ل‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ر‬ ‫ر‬
"‫ يهلوُ اًلرذيِ ألكرلسلل لريسوُلهي رباًلكيهلدىَ لوديرنَ اًلكلحبق ليْيظكرهلرهي لعللىَ اًلبديرنَ يكلبه لولكوُ لكررله اًلكيمكشرريكوُلن‬ ‫اًلكلكاًفريرولن‬
‫ر‬
‫صير يريس للناً لواًلرذيلنَ آلمنيوُاً رفيِ اًلكلحليْاًةر اًلمدنَكيليْاً لويليكوُلم يلييقوُيم‬‫إرلنَاً للنن ي‬+ :‫[ وقال تعالى‬9 ،8 :‫]الصف‬
.[51 :‫اًلكشلهاًيد" ]غافر‬
‫لقد كان التحرك نحو العراق والشاما من أجل نشر دين الله‬
  ‫ فشرع الصديق‬،‫تعالى مرحلة طبيعية بعد انتهاء حروبا الردة‬
           
           
            
.143 ،142 ‫ ص‬،‫ تاريخ صدر السلما‬:‫)( انظر‬ 1

402
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪. ‬‬
‫‪ -3‬إسعاد الناس بنور السلما وعدله ورحمته‪:‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله يحقق الرحمة للبشرية في الرض‪،‬‬
‫ويدفع الظلم والعتداء‪ ،‬ويسعد الناس بهذا الدين الذي هو نور‪،‬‬
‫ويخرجهم من ظلمات الكفر والضلل‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬اًلي لولرميِ اًلرذيلنَ آلمنيوُاً‬
‫ت يكخررجوُنَلييهمُ بمنَ اًلمنوُر إرللىَ اًلظمليماً ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ييكخرريجيهمُ بملنَ اًلظمليلماًت إرللىَ اًلمنوُر لواًلذيلنَ لكلفيرواً ألكولليْاًيؤيهيمُ اًللطاًيغوُ ي ي ي‬
‫ب اًللناً ر يهكمُ فريْلهاً لخاًلريدولن" ]البقرة‪.[257 :‬‬ ‫صلحاً ي‬ ‫ك أل ك‬ ‫يأولئر ل‬
‫وما أروع جهاد ذي القرنين في القرآن الكريم حيث تحرك‬
‫بجيوشه من أجل دعوة الله الخالدة‪ ،‬ووظف كل إمكاناته من أجل‬
‫نشر التوحيد وتعريف الناس بخالقهم‪ .‬ولقد جمع بين الفتوحات‬
‫العظيمة بحد السيف وفتوحات القلوبا باليمان والحسان‪ ،‬فكان‬
‫إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق واليمان بالله تعالى قبل‬
‫العقابا أو الثوابا‪ ،‬وكان حريصا على العمال الصلحية في كل‬
‫القاليم والبلدان التي فتحها‪ ،‬فسعى في بسط سلطان الحق‪،‬‬
‫وغربا‪ ،‬فلم يتعامل مع القوما المغلوبين‬ ‫ل‬ ‫شرقا‬
‫ل‬ ‫والعدالة في الرض‪،‬‬
‫بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر أو الطغيان أو البطش‪،‬‬
‫ر‬
‫ف نَييلعبذبيهي ثيلمُ يييلرمد إللىَ‬ ‫وإنما عاملهم بهذا الدستور الرباني‪+ :‬لقاًلل أللماً لمنَ ظلللمُ فل ل‬
‫سكوُ ل‬
‫صاًلرححاً فلي لهي لجلزاًءح اًلكيحكسلنىَ لولسنلييقوُيل لهي رمكنَ ألكمررلنَاً ييكسحراً"‬ ‫ر‬
‫لربه فلييْييلعبذبيهي لعلذاًحباً نَمككحراً ‪ ‬لوأللماً لمكنَ آلملنَ لولعرملل ل‬
‫]الكهف‪.[88 ،87 :‬‬
‫ولقد وجد في إحدى رحلته الجهادية الدعوية قوما ل يكادون‬
‫يفقهون قول‪ ،‬وقد وقع عليهم ظلم عظيم‪ ،‬وتخوفوا من قدوما يأجوج‬
‫ومأجوج عليهم‪ ،‬فعرضوا عليه المال من أجل أن يبني لهم سدا فقاما‬
‫بمدافعة الظلم المتوقع واعتذر عن أخذ الخراج‪ ،‬وشرع في نقلهم من‬
‫الجهل إلى العلم‪ ،‬والتخلف إلى التقدما‪ ،‬والكسل إلى العمل‪ ،‬والضعف‬
‫خيْيرر فلألرعيْينوُرنَيِ بريقلوُةة ألكجلعكل بل كييْينليككمُ لوبل كييْينلييهكمُ‬ ‫رر‬
‫إلى القوة قال تعالى‪+ :‬لقاًلل لماً لملكبنيِ فيْه لرببيِ ل ك‬
‫صلدفليكيْرنَ لقاًلل اًنَيفيخوُاً لحلتىَ إرلذاً لجلعلهي نَلاًحراً لقاًلل آيتوُرنَيِ‬ ‫لركدحماً ‪ ‬آيتوُرنَيِ يزبليلر اًلكلحرديرد لحلتىَ إرلذاً لساًلوىَ بليكيْلنَ اًل ل‬
‫غ لع لكيْره قرطكحراً" ]الكهف‪.[96 ،95 :‬‬ ‫أيفكرر ك‬
‫لقد كان ذو القرنين حريصا على مصلحة الناس‪ ،‬ناصحا لهم فيما‬
‫يعود عليهم بالنفع‪ ،‬ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية‪ ،‬لما في ذلك‬
‫تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم‪ .‬ومن نصحه وإخلصه لهم‪ ،‬أنه بذل ما‬
‫في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون‪ ,‬فهم طلبوا منه أن يجعل‬

‫‪403‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بينهم وبين القوما المفسدين سدا‪ ،‬أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم‬
‫ردملا‪» :‬والردما هو الحاجز الحصين‪ ،‬والحجابا المتين وهو أكبر من‬
‫السد وأوثق‪ ،‬فوعدهم بفوق ما يرجون«)‪.(1‬‬
‫إن قول الله تعالى‪+ :‬فلألرعيْينوُرنَيِ بريقلوُةة ألكجلعكل بلي كيْينل ي‬
‫ككمُ لوبل كييْينلييهكمُ لركدحماً" ]الكهف‪[95 :‬‬
‫فيه معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات‬
‫والقوى‪.‬‬
‫لقد استطاع ذو القرنين أن يفجر طاقات المستضعفين‬
‫ووجههم نحو التكامل‪ ،‬لتحقيق الخير والغايات المنشودة‪.‬‬
‫إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالت‬
‫المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم‪ ،‬والقوى‬
‫المادية ويأتي دور القيادة الربانية في المة لتربط بين كل الخيوط‬
‫والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو المة‬
‫ورفعتها‪.‬‬
‫إن أمتنا السلمية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات‬
‫المعطلة‪ ،‬والموال المهدورة والوقات المبددة‪ ،‬والشبابا‬
‫الحيارى‪ ،‬وهي تنتظر من قياداتها في كل القطار والدول والبلدان‬
‫لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون‬
‫ومحاربة الجهل والكسل والتخلف)‪+ (2‬فلألرعيْينوُرنَيِ بريقلوُةة"‪.‬‬
‫لقد كان ذو القرنين يستخدما جيوشه وقوته كوسيلة من‬
‫وسائل الدعوة ونشر العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم‪،‬‬
‫ومحاربة أهل الفساد‪.‬‬
‫هذه أهم ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله تعالى‪.‬‬
‫إن الجهاد في هذه المة ماض إلى يوما القيامة‪ ،‬ول مكانة لهذه‬
‫المة بدون الجهاد‪ ،‬فهو روحها‪ ،‬وفي وجوده حياتها‪ ،‬وتاريخ المة‬
‫السلمية خير شاهد على ذلك‪ ،‬وإن الهداف الكبرى التي تسعى‬
‫لها المة ل يمكن تحقيقها إل بجيل مجاهد يحب الموت كما يحب‬
‫العداء الحياة‪ ،‬ول يمكن رفع الذلة التي فرضت عليها إل بالجهاد‪،‬‬
‫ول تستطيع أن تبلغ دعوة الله إلى الناس أجمعين بدون قيود أو‬
‫حواجز إل بالجهاد‪.‬‬
‫ب ألرليْةمُ ‪‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬لياً أليميلهاً اًلرذيلنَ آلمنيوُاً لهل ألمدملككمُ لعللىَ ترلجاًلرةة تييكنرجيْيكمُ بمكنَ لعلذاً ة‬
‫ك‬
‫)( روح المعاني )‪.(16/40‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مع قصص السابقين )‪.(2/342‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪404‬‬
‫البابا الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫خيْيرر ليككمُ إركن يككنتيكمُ‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ل ورسوُلرره وتيجاًرهيدولن رفيِ سربيْرل اً ر ر‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫ل برألكملوُاًليككمُ لوألنَكييفسيككمُ لذليككمُ ل ك‬ ‫ل‬ ‫تييكؤمينوُلن براً ل ل ي ل ل‬
‫تليكع ليموُلن"‪.‬‬
‫***‬

‫‪405‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الخاتمــــــــة‬
‫‪ ‬إن فقه التمكين يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه‬
‫ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع المة إلى ما‬
‫كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس وتطبيق‬
‫شرع الله عز وجل‪.‬‬
‫‪ ‬إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة‪ ،‬وصور متنوعة‬
‫من أهمها تبليغ الرسالة‪ ،‬وهزيمة العداء‪ ،‬وإقامة الدولة‪.‬‬
‫‪ ‬إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم‪،‬‬
‫تمكين الله تعالى للدعاة بتبليغ الرسالة وأداء المانة‪ ،‬واستجابة‬
‫الخلق لهم‪ ,‬ومن أمثلة ذلك‪ :‬أصحابا القرية وأصحابا الخدود‪،‬‬
‫وتمكين الله تعالى لرسول الله × لتبليغ الرسالة في مكة‪.‬‬
‫‪ ‬إن من أنواع التمكين‪ ،‬هلك الكفار ونجاة المؤمنين‬
‫ونصرهم في المعارك كالذي حدث في قصة نوح عليه السلما مع‬
‫قومه‪ ،‬وموسى عليه السلما مع قوما فرعون‪ ،‬وطالوت مع جالوت‪،‬‬
‫ونبينا × في مغازيه كبدر وغيرها‪.‬‬
‫‪ ‬إن من سنن الله الماضية في المجتمعات والشعوبا والمم‬
‫سنة إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه‪ ،‬المعترفين برسالة‬
‫رسله وأنبيائه وإهلك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه‪.‬‬
‫‪ ‬إن السنن الربانية ثابتة في الكون وتقع على النسان في‬
‫كل زمان ومكان‪ ,‬وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين‬
‫تعلقا وثيقا وهي من أهم سنن الله في الشعوبا والمم‪.‬‬
‫‪ ‬إن تولي أهل التوحيد واليمان أعباء الحكم لدولة غير‬
‫مؤمنة نوع من أنواع التمكين‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع‬
‫من التمكين في قصة يوسف عليه السلما‪ ،‬ولقد شاركت بعض‬
‫الحركات السلمية حكوماتها في الحكم وحققت إنجازات مهمة‬
‫للسلما من أهمها‪ :‬تجربة اليمن‪ ،‬والردن‪ ,‬وتركيا‪.‬‬
‫‪ ‬إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول‬
‫أهل التوحيد واليمان الصحيح إلى سدة الحكم وتوليهم لمقاليد‬
‫الدولة‪ ،‬كما حدث لداود وسليمان عليهما السلما وذي القرنين‪.‬‬
‫‪ ‬إن الستخلف في الرض والتمكين لدين الله‪ ،‬وإبدال‬

‫‪406‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــة‬

‫أمنا وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه‪.‬‬


‫الخوف ل‬
‫‪ ‬إن من شروط التمكين تحقيق اليمان بكل معانيه وجميع‬
‫أركانه‪ ،‬وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه والحرص على كل‬
‫أنواع الخير وصنوف البر‪.‬‬
‫‪ ‬إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة في دنيا‬
‫الناس وعلى المسلمين أن يفهموا حقيقة العبادة في القرآن‬
‫الكريم وسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلة والتسليم وأن‬
‫يعملوا على نشر مفهوما العبادة الصحيح في شرايين المة حتى‬
‫تخرج من الوهاما والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها‬
‫من سلطان‪.‬‬
‫‪ ‬من شروط التمكين المهمة‪ ،‬محاربة الشرك بجميع أشكاله‬
‫وأنواعه‪ ،‬ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع‬
‫الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلنه‬
‫وأنواعه‪ ,‬وأن تنقي صفها منه بكل الساليب الشرعية ول يمكن‬
‫للنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إل إذا عرفه وعرف‬
‫خطره‪.‬‬
‫‪ ‬إن من شروط التمكين المهمة تقوى الله عز وجل‪ ،‬لن‬
‫تقوى الله تعالى لها ثمرات عظيمة في الدنيا والخرة‪ ,‬وهذه‬
‫الثمرات تظهر على الفراد والمجتمع الذي يسعى لتحكيم شرع‬
‫الله والتمكين لدينه‪.‬‬
‫‪ ‬إن الخذ بالسبابا التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وحثنا على الخذ بها سيد المرسلين ×‪ ,‬وقد أمر‬
‫الله تعالى بالعداد الشامل فقال‪+ :‬وألرعمدواً لهمُ لماً اًستطلعتمُ بمنَ قييلوُةة ورمنَ برباًطر‬
‫ل ل‬ ‫ي ك ك ل كي‬ ‫ل‬
‫اًلكلخكيْرل" ]النفال‪ [60 :‬والعداد في حقيقته أخذ بالسبابا‪.‬‬
‫‪ ‬إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلقة مباشرة مع‬
‫سنن التمكين سنة الخذ بالسبابا‪ ،‬ولذلك يجب على الفراد‬
‫والجماعات العاملة للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها‬
‫وإنزالها على أرض الواقع‪.‬‬
‫‪ ‬إن العمل بسنة الخذ بالسبابا من صميم تحقيق العبودية‬
‫لله تعالى وهو المر الذي خلق له العبيد‪ ،‬وأرسلت به الرسل‪،‬‬
‫وأنزلت لجله الكتب‪ ،‬وبه قامت السموات والرض‪ ،‬وله وجدت‬
‫الجنة والنار‪ ،‬فالقياما بالسبابا المأمور بها محض العبودية‪.‬‬

‫‪407‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ ‬إن أسبابا التمكين تنقسم إلى نوعين‪ :‬أسبابا معنوية‪،‬‬


‫ومادية‪ ،‬فمن أهم السبابا المعنوية‪ ،‬إعداد الفراد الربانيين‪،‬‬
‫والقيادة الربانية‪ ،‬ومحاربة أسبابا الفرقة‪ ،‬التي من أهمها‪:‬‬
‫البتداع‪ ،‬والجهل‪ ،‬واتباع الهوى‪ ،‬وتحكيم العقل وتقديمه على‬
‫النصوص ومخالفة منهج أهل السنة في النظر والستدلل‪.‬‬
‫‪ ‬ومن أسبابا التمكين المعنوية الخذ بأصول الوحدة والتحاد‬
‫والجتماع المتمثلة في وحدة العقيدة‪ ،‬وتحكيم الكتابا والسنة‪،‬‬
‫وصدق النتماء إلى السلما‪ ،‬وطلب الحق والتحري في ذلك‪،‬‬
‫وتحقيق الخوة بين أفراد المسلمين‪.‬‬
‫‪ ‬إن من أسبابا التمكين المادية‪ ،‬الهتماما بمبدأ التفرع‬
‫والتخصص‪ ،‬ومراكز البحوث‪ ،‬والتخطيط والدارة‪ ،‬والهتماما بالقوة‬
‫القتصادية‪ ،‬والعداد العلمي‪.‬‬
‫‪ ‬إن التمكين لدين الله في الرض يمر بمراحل لبد منها‬
‫وهذه المراحل هي‪ :‬مرحلة التعريف‪ ،‬ومرحلة العداد والتربية‪،‬‬
‫ومرحلة المغالبة‪ ،‬ومرحلة الظهور‪.‬‬
‫‪ ‬إن الخطوة الولى في سبيل إقامة الدولة المسلمة أو‬
‫التمكين للسلما هو التعريف به والدعوة إليه‪.‬‬
‫‪ ‬إن عدة الدعاة القائمين على مرحلة التعريف هي‪ :‬التمييز‬
‫اليماني‪ ،‬والتفوق الروحي‪ ،‬والرصيد العلمي‪ ،‬والزاد الثقافي‪،‬‬
‫ورجاحة العقل‪ ،‬وقوة الحجة‪ ،‬ورحابة الصدر وسماحة النفس‪.‬‬
‫‪ ‬إن من السنن المهمة في فقه التمكين فهم سنة التدرج‪,‬‬
‫ومراعاة تدرج المة من السهل إلى الصعب‪ ،‬ومن الصعب إلى‬
‫الصعب‪ ،‬ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد‪ ،‬ومن الخطة‬
‫الجزئية إلى الخطة الكلية‪.‬‬
‫‪ ‬إن رسل الله الكراما عليهم أفضل الصلوات والسلما عندما‬
‫بلغوا رسالت الله إلى أقوامهم‪ ،‬اختاروا من الناس من استجابا‬
‫لدعوتهم وغرسوا في نفوسهم المعاني اليمانية والخلق الربانية‬
‫حتى استطاعوا أن يحملوا معهم دعوة الله إلى الناس‪.‬‬
‫‪ ‬إن عدة القائمين على مرحلة العداد والتربية أمور كثيرة‬
‫من أهمها‪ ،‬الخبرات والتجاربا‪ ،‬وأن يكون القائمون أصحابا‬
‫سياسة حكيمة‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــة‬

‫‪ ‬في مرحلة العداد والتربية يهتم المشرفون عليها بغرس‬


‫صفات جيل التمكين في نفوس العناصر التي اختيرت لهذه‬
‫المرحلة‪ ،‬إن سنة البتلء مرتبطة بالتمكين‪ ،‬ارتباطا وثيقا‪ ،‬فلقد‬
‫جرت سنة الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬أل عيمكن لها إل بعد أن تمر بمراحل‬
‫الختبار المختلفة وبعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الحداث‪ ،‬فيميز‬
‫الله الخبيث من الطيب‪.‬‬
‫‪ ‬إن مرحلة المغالبة هي مرحلة التركيز والتخصيص‪ ،‬لسد‬
‫ثغرات العمل السلمي كله‪ ،‬من حيث الكم ومن حيث النوع‪ ,‬ومن‬
‫حيث الستجابة لكل متطلبات الدعوة وأعبائها‪.‬‬
‫‪ ‬إن بناء القاعدة الصلبة على أسس من منهج أهل السنة‬
‫والجماعة يدخل ضمن الطائفة المنصورة التي تتحرك بهذا الدين‬
‫على جميع الثغرات‪.‬‬
‫‪ ‬إن من صفات الطائفة المنصورة من خلل الحاديث‬
‫الصحيحة هي‪ :‬أنها على الحق وأنها قائمة بأمر الله‪ ،‬وأنها تقوما‬
‫بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله‪ ،‬وأنها المجددة للمة أمر‬
‫دينها‪ ،‬وأنها ظاهرة إلى قياما الساعة‪ ،‬وأنها صابرة‪.‬‬
‫‪ ‬إن مرحلة التمكين هي ذروة العمل السلمي المنظم‪،‬‬
‫وهي تمثل الثمرة الناضجة من الجهود التي بذلت في المراحل‬
‫التي سبقتها‪.‬‬
‫‪ ‬إن بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره بدأت مع الحركات‬
‫السلمية منذ قرنين ماضيين‪ ,‬وتوارثت الجيال الحاضرة تلك‬
‫التجاربا التي تركت لنا معالم في فقه التمكين‪ ,‬ومن أهم هذه‬
‫الحركات حركة الشيخ محمد بن عبد الوهابا في شبه الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬وحركة الشيخ أحمد بن عبد الحد السرهندي في الهند‪.‬‬
‫‪ ‬إن من أهم أهداف التمكين‪ :‬إقامة المجتمع المسلم‪ ،‬ونشر‬
‫الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫وبعد‪ ..‬فهذه الرسالة قد تمت بحمد الله ومنته و كرمه أضعها‬
‫بين يدي قارئها‪ ،‬ول أدعي الكمال فيها‪:‬‬
‫أذنت في إصلحه لمن فعل‬ ‫وما بها من خطأ ومن خلل‬

‫فذا وذا من أجمل الوصاف‬ ‫لكن بشرط العلم والنصاف‬

‫‪409‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬
‫)‪(1‬‬
‫سبحانه بحبله اعتصامي‬ ‫والله يهدي سبل السلما‬

‫ي أول وآخرا‪ ،‬وأسأله سبحانه‬ ‫ن به عل ز‬ ‫فلله الحمد على ما م ز‬


‫بأسمائه الحسنى وصفاته العل‪ ،‬أن يجعل هذه الرسالة لوجهه‬
‫خالصة‪ ،‬ولعباده نافعة‪ ،‬وأن ينفعني بها يوما ل ينفع مال ول بنون إل‬
‫من أتى الله بقلب سليم‪ ،‬وأن ينفعنا بما كتبنا وقرأنا وسمعنا‪.‬‬
‫ب‬ ‫صيفوُلن ‪ ‬وسللمر لعللىَ اًلكمرسرليْنَ ‪ ‬واًلكحميد ر‬
‫ل لر ب‬ ‫ب اًلكرعلزةر لعلماً ي ر‬
‫ك لر ب‬
‫‪+‬يسكبلحاًلن لرب ل‬
‫يك ل ل ل ل ك‬ ‫لل‬ ‫ل‬
‫اًلكلعاًلرميْلنَ" ]الصافات‪.[182 -180 :‬‬
‫***‬

‫)( اقتباس من منظومة ابن عاصم‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪410‬‬
‫توصيات البحـــث‬

‫توصيات البحث‬
‫أسأل الله أن تكون هذه التوصيات خالصة لوجهه الكريم وأن‬
‫يهيئ لها القبول‪ ،‬والسبابا‪ ،‬لتكون واقعا حيا في دنيا المسلمين‪.‬‬
‫توصيات إلى زعماء المة السلمية‪:‬‬
‫بأن يتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم‪ ،‬وفي حركاتهم وسكناتهم‪،‬‬
‫وأن يلتزموا بمنهج الله تعالى وشريعته‪ ،‬وأن يعملوا على تفجير‬
‫طاقات المة ويحرصوا على توظيفها بما يعود بالخير على السلما‬
‫والمسلمين‪ ،‬ويربوا شبابها على الرجولة والشهامة والبطولة‪،‬‬
‫ويمنعوا أسبابا العجز والكسل والخمول‪.‬‬
‫توصيات إلى الجامعات السلمية‪:‬‬
‫أوصى رجال المة القائمين على جامعاتها كجامعة أما درمان‬
‫السلمية‪ ,‬وجامعة المدينة المنورة‪ ،‬وأما القرى بمكة‪ ,‬والزهر‬
‫الشريف بمصر وغيرها‪ ،‬أن يقوموا بواجبهم تجاه الدعوة إلى الله‬
‫تعالى‪ ،‬وأل يكتفوا بمجرد البحاث والتأليف والكتابة والمحاضرة‪،‬‬
‫والمقالة‪ ،‬وإنما عليهم أن ينتشروا في أوساط الناس لتعليمهم‬
‫وتوجيههم وتربيتهم وتثقيفهم‪ ,‬فالناس في أشد الحاجة إلى علمهم‬
‫وجهدهم‪.‬‬
‫وأن يوجهوا طلبهم نحو البحاث التي تنفع السلما والمسلمين‬
‫وتعالج قضاياهم المعاصرة‪ ،‬والمستجدة‪ ,‬وأن يحرصوا على تخريج‬
‫أجيال واعية‪ ،‬تستوعب حقيقة السلما‪ ،‬وتحرص على نشره بين‬
‫الناس بكل الساليب المعاصرة وأن يكون لهؤلء الطلبة‬
‫المتخرجين المقدرة على التصدي لمحاولت الغزو الفكري‪ ،‬التي‬
‫يقوما بها أعداء السلما من مبشرين ومستشرقين وعلمانيين‬
‫ويهود ونصارى وملحدة‪.‬‬
‫توصيات إلى أبناء المة السلمية‪:‬‬
‫أن يرجعوا إلى كتابا الله وسنة نبيه × ليستمدوا منهما‬
‫عقائدهم وأخلقهم وعبادتهم‪ ،‬وأن يكونوا يدا واحدة في وجه‬
‫أعدائهم‪.‬‬
‫وأن يسعوا بكل ما يملكون من أجل استرداد أراضيهم‪،‬‬
‫ومقدساتهم‪ ،‬وإقامة حكم إسلمي في كل الراضي‪.‬‬
‫وعلى المة السلمية أن تتعامل مع سنن الله وقوانينه معاملة‬
‫المستبصر والعارف بها وأن تعمل على البذل والعطاء في كل‬

‫‪411‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مجالت الحياة‪.‬‬

‫‪412‬‬

You might also like