You are on page 1of 266

‫بسم ا الرحمن الرحيم‬

‫جمعية البراق للخدمات الجتماعية‬


‫مشروع النبراس‬
‫عن أبي أمامة رضي ا عنه أن النبي صلى ا عليه و سلم قال ‪ ) :‬فضل العالم على العابد كفضلي على أذانكم ‪ ,‬إن ا عز و جل‬
‫و ملئاكته و أهل السموات و الرض حتى النملة في جحرها و حتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ( حديث صحيح‬
‫نتمنى من إخوتنا في ا أن يوصلوا هذا العلم و هذا الخير إلى غيرهم ممن يحتاجون إليه عمل بحديث النبي صلى ا عليه و سلم ‪:‬‬
‫) من دل على خير فله مثل أجر فاعله ( رواه مسلم‬
‫ص‪1‬‬
‫مجموعة رسائال‬
‫المام الغزالى‬
‫لحجة السلم أبى حامد الغزالى‬
‫المتوفى سنة ‪505‬هـ‬
‫‪ .2‬معراج السالكين‪.‬‬ ‫‪ .1‬الحكمة فى مخلوقات ا عز وجل‬
‫‪ .4‬قواعد العقائاد فى التوحيد‪.‬‬ ‫‪ .3‬روضة الطالبين وعمدة السالكين‬
‫‪ .6‬القسطاس المستقيم‪.‬‬ ‫‪ .5‬خلصة التصانيف فى التصوف‬
‫‪ .8‬الرسالة اللدنية‪.‬‬ ‫‪ .7‬منهاج العارفين‬
‫‪ .10‬أيها الولد‪.‬‬ ‫‪ .9‬فصل المتفرقة‬
‫‪ .12‬رسالة الطير‪.‬‬ ‫‪ .11‬مشكاة النوار‬
‫‪ .14‬إلجام العوام عن علم الكلم‪.‬‬ ‫‪ .13‬الرسالة الوعظية‬
‫‪ .16‬الجوبة الغزالية فى المسائال الخروية‬ ‫‪ .15‬المضنون به على غير أهله‬
‫‪ .18‬الدب فى الدين‪.‬‬ ‫‪ .17‬بداية الهداية‬
‫‪ .20‬القواعد العشرة‬ ‫‪ .19‬كيمياء السعادة‬
‫‪ .22‬سر العالمين وكشف ما فى الدارين‪.‬‬ ‫‪ .21‬الكشف والتبين‬
‫‪ .24‬المنقذ من الضلل‪.‬‬ ‫‪ .23‬الدرة الفاخرة فى كشف علوم الخرة‬
‫‪ .26‬قانون التأويل‪.‬‬ ‫‪ .25‬المواعظ فى الحاديث القدسية‬
‫ص‪2‬‬
‫مجموعة الرسائال‬
‫المام الغزالى‬
‫راجعها وحققها‬
‫إبراهيم أمين محمد‬
‫المكتبة التوفيقية‬
‫أمام الباب الخضر – سيدنا الحسين‬
‫‪5922410 - 5904175‬‬
‫ص‪3‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫جميع الحقوق الملكية الدبية والفنية محفوظة لمكتبة التوفيقية )القاهرة‪-‬مصر(ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد‬
‫الكتاب كاملل أو مجزال أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على إسطوانات ضوئاية إل بموافقة‬
‫الناشر خطليا‪.‬‬
‫‪Copyright‬‬
‫‪All Rights Reserved‬‬
‫‪Exclusive rights by Al Tawfikia Bookshop (Cairo-Egypt) No part of this publication may be‬‬
‫‪translated, reproduced, distributed in any form or by any means, or stored in a data base or‬‬
‫‪.retrieval system, without the prior written permission of the publisher‬‬
‫المكتبة التوفيقية‬
‫القاهرة – مصر‬
‫العنوان ‪ :‬أمام الباب الخضر – سيدنا الحسين‪.‬‬
‫تليفون‪(00202) 5922410 – 5904175 :‬‬
‫فاكس ‪6847957 :‬‬
‫‪Al Tawfikia Bookshop‬‬
‫‪Cairo-Egypt‬‬
‫‪Add.: in Front of the Green Door Of El Hussen‬‬
‫‪Tel.; (00202) 5904175 – 5922410‬‬
‫‪Fax: 6847957‬‬
‫إشراف‬
‫توفيق شعلن‬
‫ص‪4‬‬
‫مجموعة رسائال‬
‫المام الغزالى‬
‫لحجة السلم المام أبى حامد الغزالى المتوفى ‪505‬هـ‬
‫‪ .2‬معراج السالكين‪.‬‬ ‫‪ .1‬الحكمة فى مخلوقات ا عز وجل‬
‫‪ .4‬قواعد العقائاد فى التوحيد‪.‬‬ ‫‪ .3‬روضة الطالبين وعمدة السالكين‬
‫‪ .6‬القسطاس المستقيم‪.‬‬ ‫‪ .5‬خلصة التصانيف فى التصوف‬
‫‪ .8‬الرسالة اللدنية‪.‬‬ ‫‪ .7‬منهاج العارفين‬
‫‪ .10‬أيها الولد‪.‬‬ ‫‪ .9‬فصل المتفرقة‬
‫‪ .12‬رسالة الطير‪.‬‬ ‫‪ .11‬مشكاة النوار‬
‫‪ .14‬إلجام العوام عن علم الكلم‪.‬‬ ‫‪ .13‬الرسالة الوعظية‬
‫‪ .16‬الجوبة الغزالية فى المسائال الخروية‬ ‫‪ .15‬المضنون به على غير أهله‬
‫‪ .18‬الدب فى الدين‪.‬‬ ‫‪ .17‬بداية الهداية‬
‫‪ .20‬القواعد العشرة‬ ‫‪ .19‬كيمياء السعادة‬
‫‪ .22‬سر العالمين وكشف ما فى الدارين‪.‬‬ ‫‪ .21‬الكشف والتبين‬
‫‪ .24‬المنقذ من الضلل‪.‬‬ ‫‪ .23‬الدرة الفاخرة فى كشف علوم الخرة‬
‫‪ .26‬قانون التأويل‪.‬‬ ‫‪ .25‬المواعظ فى الحاديث القدسية‬
‫ص‪6‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الحكمة فى مخلوقات ا عز وجل‬
‫وصلى ا على سيدنا محمدوآله وصحبه وسلم‬
‫خطبة الكتاب‬
‫الحمد ل الذى جعل نعمته فى رياض جنان المقربين‪ ،‬وخص بهذه الفضيلة من عباده المتفكرين ‪ ،‬وجعل التفكر فى‬
‫مصنوعاته وسيلة لرسوخ اليقين فى قلوب عباده المستبصرين ‪ ،‬استدلوا عليه سبحانه بصنعته فعلموه وتحققوا أن ل إله إل هو‬
‫فوحدوه ‪ ،‬وشاهدوا عظمته وجلله فنزهوه ‪ ،‬فهو القيم بالقسط فى جميع الحوال ‪ ،‬وهم الشهداء على ذلك بالنظر والستدلل‬
‫اا أداناه لد إهلدده إهلا اهدو دواللدملهئادكاة دوأ الوالولا اللهعللهم دقاهئالما هباللهقلسهط لد‬
‫فعلموا أنه الحليم القادر العليم ‪ ،‬كما قال تعالى فى كتابه الكريم ‪) :‬دشههدد ا‬
‫إهلدده إهلا اهدو اللدعهزياز اللدحهكيام( ]آل عمران‪ . [18:‬والصلة والسلم على سيد المرسلين وإمام المتقين ‪ ،‬وشفيع المذنبين محمد خاتم‬
‫النبيين ‪ ،‬وعلى آله وصحبه وشرف وكرم إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد ‪:‬‬
‫يا أخى وفقك ا توفيق العارفين ‪ ،‬وجمع لك خير الدنيا والدين ‪ ،‬إنه لما كان الطريق إلى معرفة ا سبحانه والتعظيم له‬
‫فى مخلوقاته والتفكير فى عجائاب مصنوعاته ‪ ،‬وفهم الحكمة فى أنواع مبتدعاته ‪ ،‬وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين‪ ،‬وفيه تقارب‬
‫درجات المتقين ‪ ،‬وضعت هذا الكتاب منبلها لعقول أرباب اللباب بتعريف وجوه من الحكم والنعم التى يشير إليها معظم آى‬
‫الكتاب‪ .‬فإن ا تعالى خلق العقول وكمل هداها بالوحى وأمر أربابها بالنظر فى مخلوقاته والتفكر والعتبار مما أودعه من‬
‫ض( ]يونس ‪ .[101:‬وقوله )دودجدعللدنا همدن اللدماء اكال‬ ‫ت دوالدلر ه‬ ‫ظارولا دمادذا هفي الاسدمادوا ه‬ ‫العجائاب فى مصنوعاته ‪ ،‬لقوله سبحانه ‪) :‬قاهل ان ا‬
‫دشليءء دحيي أددفل ايلؤهمانودن( ]النبياء‪ .[30:‬إلى غير ذلك من اليات البينات والدللت الواضحات التى يفهمها متدبرها ‪ ،‬والمترقى فى‬
‫اختلف معانيها يعظم المعرفة بال سبحانه التى هى سبب السعادة ‪ ،‬والفوز بما وعد به عباده من الحسنى وزيادة‪ .‬وقد بوبته أبوابا‬
‫يشتمل كل باب على ذكر وجه الحكمة من النوع المذكور فيه من الخلق ‪ ،‬وذلك حسب ماتنبهت له عقولنا فيما أشرنا إليه‪ ،‬مع أنه لو‬
‫اجتمع جميع الخلئاق على أن يذكروا جميع ما خلق ا سبحانه‬
‫ص‪7‬‬
‫وتعالى ‪ ،‬وما وضع من الحكم فى مخلوق واحد من مخلوقاته لعجزوا عن ذلك وما أدركته الخلئاق من ذلك ما وهب ا سبحانه‬
‫لكل منهم وما سبق له من ربه سبحانه‪ .‬وا المسئاول أن ينفعنا به برحمته وجوده‪.‬‬
‫باب التفكر فى خلق السماء وفى هذا العالم‬
‫ف دبدنليدنادها دودزايانادها دودما دلدها همن فااروءج( ]ق‪ . [6:‬وقال سبحانه وتعالى ‪:‬‬ ‫قال ا تعالى ‪) :‬أددفدللم دين ا‬
‫ظاروا إهدلى الاسدماء دفلودقاهلم دكلي د‬
‫ت( ]الطلق‪ .[12:‬اعلم رحمك ا إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبنى المعد فيه جميع ما‬ ‫) ا‬
‫اا الاهذيِ دخدلدق دسلبدع دسدمادوا ء‬
‫يحتاج إليه ‪ ،‬فالسماء مرفوعة كالسقف ‪ ،‬والرض ممدودة كالبسط ‪ ،‬والنجوم منصوبة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائار ‪،‬‬
‫وكل شئ من ذلك معد مهيأ لشأنه ‪ ،‬والنسان كالمالك للبيت المخول لما فيه ‪ ،‬فضروب النبات لمآربه ‪ ،‬وأصناف الحيوانات‬
‫مصروفة فى صالحه ‪ ،‬فخلق سبحانه السماء وجعل سبحانه لونها أشد اللوان موافقة للبصار وتقوية لها ولو كانت لسعة أو أنوالرا‬
‫لضرت الناظر إليها‪ .‬فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق للبصار‪ ،‬وتجد النفوس عند رؤية السماء فى سعتها نعيلما وراحة‬
‫لسيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها ‪ ،‬والملوك تجعل فى سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد الناظر إليه به راحة‬
‫وانشرالحا ‪،‬لكن إذا داوم الناظر إليه نظره وكرره مله وزال عنه ما كان يجده برؤيته من البهجة والنشراح‪ ،‬بخلف النظر إلى‬
‫السماء وزينتها فإن الناظر إليها من الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من السباب المضجرة لهم يلجؤون إلى ما يشرحهم من النظر‬
‫إلى السماء وسعة الفضاء ‪ ،‬وقد قالت الحكماء‪ :‬يحذوك عندك من الراحة والنعيم فى دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء ‪ ،‬وفيها‬
‫أنها حاملة لنجومها المرصعة ولقمرها وبحركتها تسير الكواكب فتهتدى بها أهل الفاق وفيها طرق لتزال توجد آثارها من‬
‫المغرب والمشرق ول توجد مجردة ول مقبلة صورة نور‪ .‬وقيل ‪ :‬إنها أنجم صغار متكاثفة مجتمعة يهتدى بها على السير من ضل‬
‫ت اللاحابهك( ]الذاريات‪ . [7:‬قيل ‪ :‬الحبك‬ ‫ويحثر فى أى جهة كانت فيقصدها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنها المشار إليها فى قوله تعالى‪) :‬دوالاسدماهء دذا ه‬
‫الطرق ‪،‬وقيل ذات الزينة فهى دلئال واضحة تدل على فاعلها وصنعته محكمة صمدية تدل على سعة علم بارئاها وأمور ترتبيها‬
‫كما تدل على إرادة منشئاها فسبحان القادر العالم المريد‪ ،‬وقيل ‪ :‬فى النظر إلى السماء عشر فوائاد ‪ :‬تنقص الهم ‪ ،‬وتقلل الوسواس ‪،‬‬
‫وتزيل وهم الخوف ‪ ،‬وتذكر بال ‪ ،‬وتنشر فى القلب التعظيم ل‪ ،‬وتزيل الفكر الردئاية ‪ ،‬وتنفع لمرض السوداء ‪ ،‬وتسلى المشتاق‬
‫وتؤنس المحبين ‪ ،‬وهى قبلة دعاء الداعين‪.‬‬
‫ص‪8‬‬
‫باب فى حكمة الشمس‬
‫س هسدرالجا( ]نوح‪.[16:‬‬ ‫قال ا سبحانه ‪) :‬دودجدعدل الاشلم د‬
‫اعلم أن ا سبحانه خلق الشمس لمور ل يستكمل علمها إل ا وحده ‪ ،‬فالذى ظهر من حكمته فيها أن جعل حركتها‬
‫لقامة الليل والنهار فى جميع أقاليم الرض‪ .‬ولول ذلك لبطل أمر الدين‪ ،‬أو لوله كيف كان يكون الناس يسعون فى معايشهم‬
‫ويتصرفون فى أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ‪ ،‬وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور ومنفعته ولول ضياء نورها ما انتفع‬
‫بالبصار ولم تظهر اللوان ‪ ،‬وتأمل غروبها وغيبتها عمن طلعت عليهم وما فى ذلك من الحكمة‪ ،‬ولوله لم يكن للخلق هدوء ول‬
‫قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء وراحة أبدانهم وخمود حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضم طعامهم وتفنيد الغذاء ‪ ،‬ثم كان‬
‫الحرص لحملهم على مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم مكانته فى أبدانهم ‪ ،‬فإن أكثر الحيوانات لول دخول الليل ما هدءوا ول‬
‫قروا من حرصهم على نيل ما ينتفعون به‪ ،‬ثم كانت الرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصاله حتى يحترق كل ما عليها من‬
‫الحيوانات والنباتات ‪ ،‬فهى بطلوعها فى وقت غروبها فى وقت النور بمنزلة سراج لهل بيت يستضاء به وقلتا ويغيب وقلتا ليهتدوا‬
‫ويقروا‪ ،‬وهى فى حرها بمنزلة نار يطبخ بها أهل الدار حتى إذا كمل طبيخهم واستغنوا عنها أخذها من جاورهم ‪ ،‬وهو يحتاج إليها‬
‫فينتفع حتى إذا قضى حاجته سلمها لخرين ‪ ،‬فهى أبلدا منصرفة فى منافع أهل الرض بتضاد النور والظلمة على تضادهما‬
‫متعاونين متظافرين على ما فيه صلح العالم وقوامه ‪ ،‬وإلى هذه القضية الشارة بقوله ‪) :‬قالل أددرأدلياتلم هإن دجدعدل ا‬
‫اا دعدللياكام اللاليدل دسلردملدا‬
‫إهدلى ديلوهم اللهقديادمهة( ]القصص‪ .[71:‬ثم بتقدمها وتأخرها تستقيم الفصول فيستقيم أمر النبات والحيوان ثم انظر إلى مسيرها فى فلكها‬
‫فى مدة وهى تطلع كل يوم وتغرب بسير آخر سخر لها بتقدير خالقها فلول طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولما عرفت‬
‫المواقيت‪ .‬ولو انطبق الظلم على الدوام لكان فيه الهلك لجميع الخلق ‪ ،‬فانظر كيف جعل ا الليل سكلنا ولبالسا والنهار معالشا‬
‫وانظر إلى إيلجه الليل فى النهار والنهار فى الليل وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على الترتيب المخصوص‪ ،‬وانظر إلى إمالة‬
‫سير الشمس حتى اختلف بسبب ذلك الصيف والشتاء ‪ ،‬فإذا انخفضت من وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء‪ .‬وإذا استوت وسط‬
‫السماء اشتد القيظ ‪ ،‬وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان فيستقيم بذلك أمر النبات والحيوان بإقامة هذه الزمنة الربعة من السنة‬
‫وأما ما فى ذلك من المصلحة ‪،‬ففى الشتاء تعود الحرارة فى الشجر والنبات فيتولد فيه مواد الثمار ويستكشف الهواء ‪ ،‬فينشأ منه‬
‫ص‪9‬‬
‫السحاب والمطر ‪ ،‬وتشتد أبدان الحيوان وتقوى أفعال الطبيعة ‪ ،‬وفى الربيع تتحرك الطبائاع فى المواد المتولدة فى الشتاء فيطلع‬
‫النبات بإذن ا وينور الشجر ‪ ،‬وتهيج أكثر الحيوانات للتناسل ‪ ،‬وفى الصيف يخمد الهواء فينضج الثمار وتنحل فضول البدان ‪،‬‬
‫ويجف وجه الرض فتتهيأ لما يصلح لذلك من العمال ‪ ،‬وفى الخريف يصفو الهواء فترتفع المراض ويمتد الليل فيعمل فيه بعض‬
‫العمال وتحسن فيه الزراعة ‪ ،‬وكل ذلك يأتى على تدريج ‪ ،‬وبقدر حتى ل يكون النتقال دفعة واحدة إلى غير ذلك مما يطول لو‬
‫ذكر‪.‬‬
‫فهذا مما يدلك على تدبير الحكيم العليم وسعة علمه ‪ ،‬ثم تفكر فى تنقل الشمس فى هذه البروج لقامة دور السنة ‪،‬وهذا‬
‫الدور الذى يجمع الزمنة الربعة ‪ :‬الشتاء والصيف والربيع والخريف وتسير فيهاعلى التمام وفى القدر من دوران الشمس يدرك‬
‫الغلت والثمار وتنتهى غاياتها ‪ ،‬ثم تعود فتستأنف وقت السير وبمسيرها تكمل السنة ويقوم حساب السنة على الصحة على التاريخ‬
‫بتقدير الحكيم العليم‪.‬‬
‫تأمل إشراق الشمس على العالم كيف دبره تبارك وتعالى ‪ ،‬فإنها لو بزغت فى موضع واحد لها ل تعدوه لما وصل‬
‫شعاعها إل إلى جهة واحدة وخلت عنها جميع الجهات فكانت الجبال والجدران تحجبها عنها ‪ ،‬فجعلها سبحانه تشرق بطلوعها أول‬
‫النهار من المشرق فيعم شروقها ما يقابلها من جهة المغرب ‪ ،‬ثم لتزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهى إلى الغرب على ما‬
‫استتر عنها أول النهار‪ ،‬فل يبقى موضع حتى يأخذ بقسطه منها ‪ ،‬ثم انظر إلى مقدار الليل والنهار كيف وقتهما سبحانه على ما فيه‬
‫صلح العالم فصارا بمقدار لو تجاوزاه لضرا بكل ما على وجه الرض من حيوان ونبات ‪ ،‬أما الحيوان فكان ل يهدأ ول يقر ما‬
‫دام يجد ضوء النهار وكانت البهائام ل تمسك عن الرعى فيؤول أمرها إلى تلفها ‪ ،‬وأما النبات فتدوم عليه حرارة الشمس وتوهجها‬
‫فيجف ويحترق ‪ ،‬وكذلك الليل لو امتد مقداره أيضا لكان معولقا لصناف الحيوان عن الحركة والتصرف فى طلب المعاش ‪،‬‬
‫وتجمد الحرارة الطبيعية من النبات فيعفن ويفسد كالذى يحدث على النبات إذا كان الموضع لتقع الشمس عليه‪.‬‬
‫باب فى حكمة خلق القمر والكواكب‬
‫ك الاهذيِ دجدعدل هفي الاسدماء ابارولجا دودجدعدل هفيدها هسدرالجا دوقدملرا ممهنيلرا( ]الفرقان ‪.[61 :‬‬
‫د‬ ‫قال ا سبحانه وتعالى ‪) :‬دتدبادر د‬
‫اعلم وفقك ا أن ا سبحانه وتعالى لما جعل الليل لبرد الهواء وهدوء الحيوان وسكونه ‪ ،‬فلم يجعله سبحانه ظلمة داجية‬
‫ل ضياء فيها البتة فكان ل يمكن أن يعمل عمل فيه ‪ .‬وربما احتاج الناس إلى بعض أعمالهم فى الليل إما لضرورة أو لضيق وقت‬
‫عليهم من‬
‫ص ‪10‬‬
‫النهار‪ ،‬وقد يقع ذلك لشدة حرارة أو لغيره من السباب ‪ ،‬فكان ضوء القمر فى الليل من جملة ما نحتاج إليه فى المعونة على ذلك‬
‫فجعل طلوعه فى بعض الليالى ‪ ،‬وينقص نوره عن نور الشمس وحرها لئال ينشط الناس فى العمل نشاطهم فى النهار فينعدم ما به‬
‫يتمتعون من الهدوء والقرار فيضر ذلك بهم ‪ ،‬وجعل فى الكواكب جزء من النور يستعان به إذا لم يكن ضوء القمر‪ ،‬وجعل فى‬
‫الكواكب زينة السماء وأنلسا وانشرالحا لهل الرض شئاليا ما ألطف هذا التدبير ‪ ،‬وجعل الظلمة دولة ومدة للحاجة إليها‪ .‬وجعل‬
‫خللها شيلئاا من النور ليكمل به ما أحتيج إليه ‪ ،‬ثم فى القمر علم الشهور والسنين وهو صلح ونعمة من ا ‪ ،‬ثم فى النجوم مآرب‬
‫أخرى فإن فيها دلئال وعلمات على أوقات كثيرة لعمل من العمال كالزراعة والغراسة والهتداء بها فى السفر فى البر والبحر‬
‫وأشياء مما يحدث من النواء والحر والبرد ‪ ،‬وبها يهتدى السارون فى ظلمة الليل وقطع القفار الموحشة واللجج المائالة كما قال‬
‫ت اللدبرَر دواللدبلحهر( ]النعام ‪ . [97 :‬مع ما فى ترددها فى السماء مقبلة‬ ‫تعالى ‪) :‬دواهدو الاهذيِ دجدعدل لداكام المناجودم لهدتلهدتادولا هبدها هفي ا‬
‫ظلادما ه‬
‫ومدبرة ومشرقة ومغربة من البهجة والنضارة ‪ ،‬فى تصريف القمر خاصة فى استهلله ومحاقه وزيادته ونقصانه واستنارته‬
‫وكسوفه ‪ .‬كل ذلك دللت على قدرة خالقها المصرف لها هذا التصرف لصلح العالم ‪ ،‬ثم انظردوران الفلك بهذه الكواكب فى‬
‫كل يوم وليلة دورالنا سريلعا وسيرها معلوم مشاهد فإنا نشاهدها طالعة وغاربة ‪ ،‬ولول سرعة سيرها لما قطعت هذه المسافة البعيدة‬
‫فى أربعة وعشرون ساعة ‪ ،‬فلول تدبير البارى سبحانه بارتفاعها حتى خفى عنا شدة مسيرها فى فلكها لكانت تختطف بتوهجها‬
‫لسرعة حركتها كالذى يحدث أحيانا من البروق إذا توالت فى الجو ‪ ،‬فانظر لطف البارى سبحانه فى تقدير سيرها فى البعد البعيد‬
‫لكيل يحدث من سيرها حادث ل يحتمل فهى مقدرة فى جميع الحوال على قدر الحاجة ‪ ،‬وانظر فى هذه التى تظهر فى بعض‬
‫السنة وتحتجب فى بعضها مثل الثريا والجوزاء والشعرى ‪ ،‬فإنها لو كانت كلها تظهر فى وقت واحد لم يكن لشى منها دللة على‬
‫جهالة تعرفها الناس ويهتدون بها ‪ ،‬فكان فى طلوع بعضها فى وقت دون الخر ما يدل على ما ينتفع به الناس عند طلوعه مما‬
‫يصلحهم ‪ ،‬ولذلك جعلت بنات نعش ظاهرة ل تغيب لضرب من المصلحة فإنها بمنزلة العلم التى يهتدى بها الناس للطرق‬
‫المجهولة فى البر والبحر فإنها ل تغيب ولتتوارى ‪ .‬ثم انظر لو كانت واقفة لبطلت الدللت التى تكون من تنقلت المتنقلة منها‬
‫ومصيرها فى كل واحد من البروج كما يستدل على أشياء تحدث فى العالم بتنقل الشمس والقمر فى منازلهما ولو كانت متنقلة كلها‬
‫لم يكن لمسيرها منازل تعرف ول رسم يقاس عليه لنه إنما يعرف مسير المتنقلة منها بتنقلها فى البروج الدانية ‪ ،‬كما يعرف سير‬
‫سائار على الرض بالمنازل التى يجتاز عليها‪ ،‬فقد صار‬
‫ص ‪10‬‬
‫هذا الفلك شمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على هذا العالم دورالنا دائالما في الفصول الربعة من السنة لصلح ما فيه من حيوان‬
‫ونبات وغير ذلك بتقدير العزيز العليم‪ ،‬ومن عظيم الحكمة خلق الفلك التي بها هذا العالم على نهاية من التقان لطول البقاء‬
‫وعدم التغير‪ ،‬فقد كفى الناس التغير في هذا المر الجليل الذيِ ليس قدرة ول حيلة في إصلحه لو نزل به تغير يوجب ذلك التغير‬
‫أملرا في الرض‪ .‬إذ قوام الرض مرتبط بالسماء‪ ،‬فالمر في جميع ذلك ماض على قدرة الباريِ سبحانه ل يختل ول يعتل ول‬
‫يتخلف منه شئ عن ميقاته لصلح العالم‪ ،‬فسبحان العليم القدير‪.‬‬
‫باب في حكمة خلق الرض‬
‫ض دفدرلشدنادها دفهنلعدم اللدماههادودن{ ]الذاريات‪ .[48 :‬ثم انظر كيف جعل ا الرض مهادا أيستقر عليها الحيوان‪ ،‬فإن‬ ‫قال تعالى }دوالدلر د‬
‫لبد له من مستق ول غنى له عن قوت فجميع الرض محل للنبات لقوته‪ ،‬ومسكن يسكنه من الحر والبرد‪ ،‬ومدفن يدفن فيه ما‬
‫ض هكدفالتا * أدلحدياء دوأدلمدوالتا{‬‫تؤذيِ رائاحته‪ ،‬والجيف والقذار من أجسام بني آدم وغيرها‪ ،‬كما قال سبحانه‪} :‬أددللم دنلجدعهل الدلر د‬
‫]المرسلت‪ .[26-25 :‬قيل في تفسير هذة الية ذلك القول وغيره‪ ،‬ثم ذلل طرقها لتنتقل فيها الخلق لطلب مآربهم فهي موضوعة‬
‫لبقاء النسل من جميع أصناف الحيوان والحرث والنبات‪ ،‬وجعل فيها الستقرار والثبات كما نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله‪:‬‬
‫جدبادل أدلردسادها * دمدتالعا لداكلم دوهلدلندعاهماكلم{ ]النازعات‪ .[33-31 :‬فأمكن الخلئاق بهذا السفر فيها في‬ ‫}أدلخدردج هملندها دمادءدها دودملردعادها * دوالل ه‬
‫مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئاهم والنتقال لعمالهم‪ ،‬فإنها لو كانت رجراجة متحركة لم يستطيعوا أن يتقنوا شيئاا من‬
‫النبات وجميع الصناعات وكانوا ل يتهنون بالعيش والرض ترتج بهم من تحتهم‪ ،‬واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلزل‬
‫وكانوا ل يتهنون بالعيش والرض ترتج بهم من تحتهم‪ ،‬واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلزل ترهيبا للخلق وتخويفا لهم لعلهم‬
‫يتقون ا وينزعون عن الظلم والعصيان‪ ،‬فهذا أيضا من الحكمة ثم إن الرض طبعها ا باردة يابسة بقدر مخصوص‪ .‬أرأيت لو‬
‫أفرط اليبس عليها حتى تكون بجملتها حجلرا صللدا لما كانت تنبت هذا النبات الذيِ به حياة الحيوانات‪ ،‬ول كان يمكن فيها حرث‬
‫ول بناء فجعل لينها لتتهيأ لهذة العمال‪ ،‬ومن الحكمة في خلقها ووضعها أن جعل مهب الشمال أرفع من الجنوب لينحدر الماء‬
‫على وجه الرض فيسقيها ويرويها ثم يصير إلى البحر في آخر المر‪ ،‬فأشبه ذلك ما إذا رفع أحد جانبي السطح وخفض الخر‬
‫لينحدر الماء عنه‪ ،‬ولول ذلك لبقي الماء مستبحرا على وجه الرض فيمتنع الناس من أعمالهم وتنقطع الطرق والمسالك بسبب‬
‫ذلك‪ .‬انظر إلى ما خلق ا فيها من المعادن وما يخرج منها من أنواع الجواهر المختلفة في منافعها‬
‫ص ‪11‬‬
‫وألوانها مثل الذهب والفضة الياقوت والزمرد والبسنفش وأشياء كثيرة من هذة الحجار الشفافة المختلفة في ألوانها وأنواع أخر‬
‫مما يصلح للعمال والجمال كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والكبريت والزرنيخ والتوتيا والرخام والجبس والنفط‬
‫وأنواع لو عددت لطال ذكرها وهو ممال ينتفع به الناس وينصرف فيما يصلحهم‪ .‬فهذة نعم يسرها سبحانه لهم لعمارة هذة الدار‪ ،‬ثم‬
‫انظر إلى إرادة إجادته من عمارتها وانتفاع العباد بها يجعلها هشة سهلة بخلف ما لو كانت على نحو خلق الجبال فلو يبست كذلك‬
‫لتعذرت‪ ،‬فإن الحرث ل يستقيم إل مع رخو الرض لزراعة القوات والثمر‪ ،‬وإل فل يتعدى _إذا صلبت_ الماء إلى الحب مع أن‬
‫الحب ل يمكن دفنه إل بعد أن تلين الرض بالنداوة ويأخذ الورق وهي ضعيفة في ابتدائاها في الرض التربة‪ .‬ويمكن إذ ذلك عملها‬
‫حتى تشرب ما ينزل عليها من الماء فيخلق ا سبحانه عند ذلك العروق ملتبسة بالثرى حتى يقف الشجر والنبات على ساقه وجعل‬
‫ما يخلق من العروق يوازن ما يخلق من الفروع‪ ،‬ومن رحمته في لينها أن يسر للناس حفر البار في المواضع المحتاجة إلى ذلك‬
‫إذ لو حفرت الرض في الجبال لصعب المر وشق‪ ،‬ومن الحكمة في لينها تيسير السير للسعادة فيها إذ لو صلبت لعسر السير ولم‬
‫شوا هفي دمدناهكهبدها{ ]الملك ‪.[15 :‬‬ ‫تظهر الطرق‪ ،‬وقد نبه ا تبارك وتعالى على ذلك بقوله‪} :‬اهدو الاهذيِ دجدعدل لداكام اللدلر د‬
‫ض دذالولل دفالم ا‬
‫وقال تعالى‪} :‬دودجدعللدنا هفيدها هفدجالجا اسابلل دلدعلااهلم ديلهدتادولن{ ]النبياء ‪ .[31 :‬ومن ذلك ما يستعين به العباد من ترابها ولبنها في البناء‬
‫وعمل اللبن وأواني الفخار وغير ذلك‪ ،‬والمواضع التي ينبت فيها الملح والشب والبورق والكبريت أكثر تربة رخوة‪ .‬وأيضا‬
‫أجناس من النبات ل يوجد إل في التراب والرمل دون الرض المحيلة ويخلق فيها كثير من الحيوان لسهولة حفرها فيتخذون فيها‬
‫مسارب وبيوتا يؤوى إليها‪ ،‬ومن الحكمة فيها خلق المعادن كما ذكرنا‪ ،‬فقد امتن سبحانه على سليمان صلى ا عليه وسلم بقوله‪:‬‬
‫}دوأددسللدنا دلاه دعليدن اللهقلطهر{ ]سبأ‪ .[12 :‬أيِ سهلنا له النتفاع بالنحاس وأطلعناه على معدنه وقال امتنانا على عباده‪} :‬دودأندزللدنا اللدحهديدد هفيهه‬
‫س{ ]الحديد‪ .[25 :‬والنزول بمعنى الخلق كما قال سبحانه‪} :‬دودأندزدل لداكم رَملن الدلندعاهم{ ]الزمر‪ .[6 :‬أى الخلق‪،‬‬ ‫دبأل س‬
‫س دشهديسد دودمدناهفاع هللانا ه‬
‫والهمهم استخراج ما فيها من ذهب وفضة وغير ذلك لمنافعهم وما يحتاجون إليه في معاشهم وفي اتخاذ أوانيهم‪ ،‬وفي ضبط ما‬
‫يحتاجون إلى ضبطه وتقويته واتخاذ أنواع من الحجارة النفيسة لتبقى فيها سليمة لوقت الحتياج إليها إذ ل غنى لهم عنها‪ ،‬وكذلك‬
‫يستخرج من المعادن الكحال مثل‪) :‬الدهبخ والمرفنعنا( والسادن والتوتيا وغير ذلك من أصناف ينتفعون بها فسبحان المنعم‬
‫جدبادل أدلردسادها{‬
‫الكريم‪ .‬ومن الحكمة االبالغة فيها خلق الجبال‪ .‬قال ا تعالى‪} :‬دوالل ه‬
‫ص ‪12‬‬
‫ض دردواهسدي دأن دتهميدد هباكلم { ]النحل‪ .[15 :‬وقال سبحانه‪} :‬دودأندزللدنا همدن الاسدماء دماء‬ ‫]النازعات‪ .[32 :‬وقال تعالى‪} :‬دوأدللدقى هفي الدلر ه‬
‫ض{ ]المؤمنون‪ .[18:‬فقد خلق سبحانه فيها الجبال لمنافع متعددة ل يحيط بجميعها إل ا‪ ،‬فمن ذلك أن ا‬ ‫هبدقددءر دفأ دلسدكاناها هفي الدلر ه‬
‫تعالى أنزل من السماء المياه ليحيى بها العباد والبلد‪ ،‬فلو كانت الرض عارية من الجبال لحكم عليها الهواء وحر الشمس مع‬
‫رخو الرض‪ ،‬فكانوا ل يجدون المياه إل بعد حفر وتعب ومشقة‪ ،‬فجعل سبحانه الجبال لتستقر في بطونها المياه ويخرج أولل فأولل‬
‫فتكون منها عيون وانهار وبحار يرتويِ بها العباد في أيام القيظ إلى أوان نزول غيث السماء‪ ،‬ومن الجبال ما ليس في باطنها محل‬
‫للمياه‪ ،‬فجعل الثلج محفولظا على ظاهرها إلى أن يحله حر الشمس فيكون منه أنهار وأسواق ينتفع بها إلى أوان الغيث أيضا‪.‬‬
‫ومنها ما يكون فيه برك يستقر فيها الماء فيؤخذ منها وينتفع به‪ ،‬ومن منافع الجبال ما يثبت فيها من أنواع الشجار والعقاقير التي ل‬
‫توجد إل فيها‪ ،‬وما يثبت من أنواع الخشاب العظيمة فيعمل منها السفن وتعمر منها المساكن‪ ،‬وفيها الشعاريِ التي ل يوجد ما‬
‫يعظم من الخشاب إل فيها‪ ،‬وكذلك العقاقير أكثرها ل يوجد إل بها‪ ،‬وفيها وهاد تنبت مزارع للنعام ومزارع لبني آدم ومساكن‬
‫للوحوش ومواضع لجناح النحل‪ ،‬ومن منافع الجبال ما يتخذه العباد من المساكن تقيهم الحر والبرد ويتخذون مدافن لحفظ جثث‬
‫جدباهل ابايولتا آهمهنيدن{ ]الحجر‪ .[82 :‬ومن فوائادها أن جعلت أعلما يستدل بها‬ ‫حاتودن همدن الل ه‬
‫الموتى‪ ،‬وقد ذكر ا ذلك فقال‪}:‬دودكاانولا ديلن ه‬
‫المسافرون على الطرقات في نواحي الرض‪ .‬ويستدل بها المسافرون في البحار على المين والسواحل‪ ،‬ومن فوائادها أن الفئاة‬
‫القليلة الضعيفة الخائافة من عدوان من ل تطيقه تتخذ عليها ما يحصنهم ويؤمنهم ويمنعها ممن تخافه فتطمئان لذلك‪ ،‬وانظر كيف‬
‫خلق ا فيها الذهب والفضة وقدرهما بتقدير منصوص ولم يجعل ذلك ميسرا في الوجود والقدر مع سعة قدرته وشمول نعمته كما‬
‫جعل هذة السعة في المياه وما ذلك إل لما سبق في علمه لخلئاقه مما هو الصلح كما أشار إلى ذلك بقوله‪} :‬دوهإن رَمن دشليءء إهلا هعندددنا‬
‫دخدزاهئااناه دودما اندنرَزلااه إهلا هبدقددءر املعالوءم{ ]الحجر‪ .[21:‬فسبحان العليم الحكيم‪.‬‬
‫باب في حكمة البحر‬
‫قال ا تبارك وتعالى‪} :‬دواهدو الاهذيِ دساخدر اللدبلحدر لهدتألاكالولا هملناه دللحلما دطهرلييا{ ]النحل‪ .[14 :‬اعلم رحمك ا‪ :‬أن ا سبحانه وتعالى خلق‬
‫البحار وأوسع فيها لعظم نفعها‪ .‬فجعلها مكتنفة لقطار الرض التي هي قطعة من الرض المستورة بالبحر العظم المحيط بجميع‬
‫الرض‪ ،‬حتى أن جميع المكشوف من البراريِ والجبال عن الماء بالضافة إلى الماء‬
‫ص ‪13‬‬
‫كربوة صغيرة في بحر عظيم‪ .‬فاعلم أن ما خلق في الرض من الحيوان بالضافة إلى ما خلق في البحر كإضافة الرض إلى‬
‫البحر‪ ،‬وقد شاهدت عجائاب فيها ما هو مكشوف منها‪ ،‬فتأمل عجائاب البحر فإن فيه من الحيوان والجواهر والطيب أضعاف ما‬
‫تشاهده على وجه الرض‪ ،‬كما أن سعته أضعاف سعة الرض‪ ،‬ولعظم سعته كان فيه من الحيوانات والدواب العظيمة‪ ،‬ما إذا أبدت‬
‫ظهورها على وجه البحر‪ .‬ظن من يراها أنها حشاف وجبال أو جزائار‪ ،‬وما من صنف من أصناف حيوان البر من إنسان وطائار‬
‫وفرس وبقر وغير ذلك إل وفي البحر أمثالها وأضعافها‪ ،‬وفيه أجناس من الحيوانات لم تعهد أمثالها في البر‪ ،‬وكل منها قد دبره‬
‫الباريِ سبحانه وخلق فيه ما يحتاجه ويصلحه‪ ،‬ولو استقصى ذكر ما يحتويه بعضه لحتاج إلى وضع مجلدات‪ ،‬ثم انظر كيف خلق‬
‫ا اللؤلؤ مدورا في صدف تحت الماء وأثبت المرجان في جنح صخور في البحر‪ .‬فقال سبحانه‪} :‬ديلخاراج هملناهدما اللملؤلااؤ دواللدملردجاان{‬
‫]الرحمن‪ .[22:‬وذلك في معرض المتنان‪ ،‬وقيل‪ :‬المرجان المذكور في القرآن هو الرقيق من اللؤلؤ‪ ،‬ثم قال‪} :‬دفهبأ د رَ‬
‫يِ آلدهء دررَباكدما‬
‫اتدكرَذدباهن{ ]الرحمن‪ .[23:‬وآلؤه تفضله ونعمه‪ ،‬ثم انظر ما يقذف من العنبر وغيره من المنفوع‪ ،‬ثم انظر إلى عجائاب السفن وكيف‬
‫مسكنها على وجه الماء تسير فيها العباد لطلب الموال وتحصيل ما لهم من العراض وجعلها من آياته ونعمته‪ .‬فقال‪} :‬دواللفاللهك‬
‫س{ ]البقرة‪ .[164 :‬فجعلها بتسخيره تحملهم وتحمل أثقالهم وينتقلون بها من إقليم إلى أقاليم ل‬ ‫الاهتي دتلجهريِ هفي اللدبلحهر هبدما ديندفاع الانا د‬
‫يمكن وصولهم إليها إل بالسفن‪ ،‬ولو راموا التوصيل بغيرها لدى إلى أعظم المشقات وعجزوا عن نقل ما ينقل من المنقولت إلى‬
‫ما بعد البلد والجهات فلما أراد ا سبحانه وتعالى أن يلطف بعباده ويهون ذلك عليهم خلق الخشاب متخلخلة الجزاء بالهواء‬
‫ليحملها الماء ويبقى فيها من الفضاء عن نفسها ما يحمل به الثقال وألهم العباد اتخذاها سفنا‪ .‬ثم أرسل الرياح بمقادير في أوقات‬
‫تسوق السفن وتسيرها من موضع إلى موضع آخر‪ .‬ثم ألهم أربابها معرفة أوقات هبوبها وفترتها حتى يسيروا بالرياح التي تحملها‬
‫شراعها‪ ،‬وانظر إلى ما يسره سبحانه في خلق الماء‪ ،‬إذ هو جسم لطيف رقيق سيال متصل الجزاء كأنه شيء واحد لطيف‬
‫التركيب سريع القبول للتقطع حتى كأنه منفصل مسخرر للتصرف قابل للتصال والنفصال حتى يمكن سير السفن فيه‪ ،‬فالعجب‬
‫ممن يغفل عن نعمة ا في هذا كله‪ ،‬وفي بعضه متسع للفكر‪ .‬وكل ذلك شواهد متضافرة وآيات ناطقة بلسان حالها مفصحة عن‬
‫جلل بارتها‪ ،‬معربة عن كمال قدرته وعجائاب حكمته‪ ،‬قائالة‪ :‬أما ترى تصويريِ وتركيبي وصفاتي زمنا ةاختلف حالي وكثرة‬
‫فوائاديِ؟ أيظن ذو لب سليم وعقل رصين أني تلونت بنفسي أو أبدعني أحد من جنسي؟ بل ذلك صنع القادر القهار العزيز الجبار‪.‬‬
‫ص ‪14‬‬
‫باب في حكمة خلق الماء‬
‫قال ا تبارك وتعالى‪} :‬دودجدعللدنا همدن اللدماء اكال دشليءء دحيي أددفل ايلؤهمانودن{ ]النبياء‪[30:‬‬
‫ا‬ ‫د‬
‫اه دبلل اهلم قلوسم ديلعهدلودن{ ]النمل‪.[60 :‬‬ ‫ت دبلهدجءة اما دكادن لداكلم دأن اتنهباتوا دشدجدردها أدإهلدسه امدع ا‬
‫وقال سبحانه‪} :‬دفدأندبلتدنا هبهه دحدداهئادق دذا د‬
‫أنظر وفقك ا إلى ما من به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء العذب الذيِ به حياة كل من على وجه الرض من حيوان‬
‫ونبات‪ ،‬فلو اضطر النسان إلى شربة منه ومنع منها لهان عليه ان يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائان الدنيا‪ ،‬والعجب من غفلة‬
‫العباد فيها‪ ،‬ولو جعلها بقدر لضاق المر فيها وعظم الحرج على كل من سكن الدنيا‪ ،‬ثم انظر طلفة الماء ورقته حتى ينزل من‬
‫الرض ويخلخل أجزاءها فتتغذى عروق الشجر ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات وهو من طبعه‬
‫الهبوط‪ ،‬ولما كانت الضرورة تدعو غلى شربة لماعة الغذية في أجواف الحيوان ليتصرف الغذاء إلى موضعه جعله لشاربه في‬
‫شربه لذة عند حاجته إليه وقبول له ويجد شاربه فيه نعيما وراحة‪ ،‬وجعل مزيل للدران عن البدان والوساخ عن الثياب‬
‫وغيرها‪ ،‬وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والعمال‪ ،‬وبه يرطب كل يابس مما ل يمكن استعماله يابسا‪ ،‬وبه ترق الشربة فيوغ‬
‫شربها‪ ،‬وبه تطفأ عاذبة النار غذا وقعت فيها فل تلتهب فيه وأشرف الناس منها على ما يكرهون وبه تزول الغصة إذا أشرف‬
‫صاحبها على الموت‪ ،‬وبه يغتسل التعب الكل فيجد الراحة لوقته‪ ،‬وبه تستقيم المطبوخات وجميع الشياء التي ل تستعمل ول تصلح‬
‫إل رطبة إلى غير ذلك من مآرب العباد التي ل غنى لهم عنها‪ ،‬فانظر في اعموم هذة النعمة وسهولة تناولها مع الغفلة عن قدرتها‬
‫مع شدة الحاجة إليها‪ .‬فلو ضاقت لكدرت الحياة في الدنيا‪ ،‬فعلم بهذا أن ا تبارك وتعالى أراد بإنزاله وتيسيره عمارة الدنيا بما فيها‬
‫كم حيوان ونبات ومعدن إلى غير ذلك من المنافع التي يقصر عنها الوصف لمن يروم حصرها‪ ،‬فسبحان المتفضل العظيم‪.‬‬
‫باب الحكمة في خلق الهواء‬
‫قال ا تعالى‪} :‬دوأدلردسللدنا الرَرديادح لددواهقدح دفدأندزللدنا همدن الاسدماء دماء دفأ دلسدقليدنااكاموها دودما دأناتلم دلاه هبدخاهزهنيدن{ ]الحجر‪.[22:‬‬
‫اعلم رحمك ا أن الهواء في حلقه تتخلخله الرياح ولول ذلك لهلك الجميع‬
‫ص ‪15‬‬
‫حيوان البر‪ ،‬وباستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام جميع الحيوانات لنه لهم مثل الماء لحيوان البحر‪ .‬فلو انقطع عن الحيوان‬
‫استنشاقه انصرفت الحرارة التي فيها إلى قلبها فكان هلكها بسبب ذلك‪ ،‬ثم انظر إلى الحكمة في سوق السحاب به فيقع المطر‬
‫بانتقال السحاب في موضع يحتاج إلى المطر فيها إلى للزراعة‪ ،‬فلول لطف الباريِ بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في‬
‫أماكنها وامتنع انتفاع الرض بها‪ ،‬ثم انظر كيف تسير بها السفن بها وتنتقلبحدوثها وهبوبها فتحمل فيها من أقاليم إلى أقاليم مما ل‬
‫يخلق تلك الشياء فيها فينتفع أهلها‪ ،‬فلول تنقلها بالهواء لم تكن تلك الشياء إل بمواضعها التي خلقت فيها خاصة‪ ،‬ولعسر نقلها‬
‫بالدواب إلى غيرها من القاليم‪ ،‬وللعباد ضرورات تدعو إلى ما ينقل إليهم مما ليس يخلق عندهم‪ ،‬ومنافع يكثر تعدادها من طلب‬
‫أرباح لمن يجلها ويعلم فوائادها‪ .‬ثم انظر إلى ما في الهواء من اللطافة والحركة التي تتخلل أجزاء العالم فينقي بحركته عفن‬
‫الرض‪ ،‬فلوله لعفنت المساكن بالوباء والعلل‪ ،‬ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى البساتين وتقوية‬
‫أشجارها بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء وتستر وجوه جبال بالسافي فيمكن الزراعة فيه وما فصل إلى السواحل مما‬
‫ينتفع الناس بسببه‪ ،‬وكل ذلك بحركة البحر بالهواء فيقذف البحر العنبر وغيره مما ينتفع به العباد في أمورهم‪ .‬ثم انظر كيف يتفرق‬
‫المطر بسبب حركة الهواء فيقع على الرض قطرات‪ ،‬فلول حركة الهواء لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع‬
‫عليه‪ ،‬ثم يجتمع بلل القطرات فيجتمع أنهالرا وبحالرا على وجه الرض من غير تضرر ويحصل بذلك مقصودهم على أحسن وجه‪،‬‬
‫فانظر إلى أثر رحمة ا‪ ،‬فسبحان اللطيف بخقله المدبر لملكه‪ ،‬ثم انظر عموم هذة الرحمة وعظيم نفعها وشمول هذة النعمة وجليل‬
‫قدرها كما نبه العقول عليها بقوله تعالى‪} :‬دو الاهذيِ دأندزدل همدن الاسدماء دماء لااكم رَملناه دشدرا س‬
‫ب دوهملناه دشدجسر هفيهه اتهسيامودن * اينهب ا‬
‫ت دلاكم هبهه‬
‫ك لديلة لرَدقلوءم ديدتدفاكارودن{ ]النحل‪ .[11 ، 10 :‬ثم من تمام النعمة‬ ‫ب دوهمن اكرَل الاثدمدرا ه‬
‫ت إهان هفي دذله د‬ ‫خيدل دوالدلعدنا د‬ ‫الازلردع دوالازلياتودن دوالان ه‬
‫وعظيم الحكمة أن جعل سبحانه الصحو يتخلل نزول الغيث فصارا يتعاقبان لما فيه صلح هذا العالم‪ ،‬فلو دام واحد منهما عليه‬
‫لكان فسادا‪ .‬أل ترى إلى المطار إذا توالت وكثرت عفنت البقول والخضروات وهدمت المساكن والبيوت وقطعت السبل ومنعت‬
‫من السفار وكثير من الحرف والصناعات ولو دام الصحو لجفت البدان والنبات‪ ،‬وعفن الماء الذيِ في عيون والودية‪ ،‬فأضر‬
‫ذلك بالعباد‪ .‬وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضررا آخر من المراض‪ ،‬وفلبت بسببه السعار من القوات‪ ،‬وبطل المرعى‬
‫وتعذر على النحل ما يجده من الرطوبة التي يرعاها على الزهار‪،‬وإذا تعاقبا على العالم اعتدل الهاء ودفع كل واحد منهما ضرر‬
‫الخر فصلحت الشياء واستقامت‪ ،‬وهذا هو الغالب من مشيئاة ا‪.‬‬
‫ص ‪16‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قد يقع من أحدهما ضرر في بعض الوقات‪ .‬قلنا‪ :‬قد يكون ذلك لتنبيه النسان بتضاد الشياء على نعمة ا تعالى وفضله‬
‫ورحمته أنه هو الغالب فيحصل لهم بتلك لنزجار عن الظلم والعصيان‪ ،‬أل ترى من سقم جسمه احتاج إلى ما يلئامه من الدوية‬
‫صيسر{ ]الشورى‪:‬‬ ‫البشعة الكريهة ليصلح جسمه ويصح ما فسد منه‪ .‬قال ا تعالى‪} :‬دودلهكن ايدنرَزال هبدقددءر اما ديدشااء إهاناه هبهعدباهدهه دخهبيسر دب ه‬
‫‪.[27‬‬
‫باب في حكمة خلق النار‬
‫قال ا تعالى‪} :‬أددفدرأدلياتام الانادر الاهتي اتوارودن * أددأناتلم دأندشألاتلم دشدجدردتدها أدلم دنلحان اللامنهشاؤودن * دنلحان دجدعللدنادها دتلذهكدرلة دودمدتالعا لرَللاملقهويدن * دفدسرَبلح‬
‫ك اللدعهظيهم{ ]الواقعة‪[74-71 :‬‬ ‫هبالسهم دررَب د‬
‫اعلم وفقنا ا وإياك‪ :‬أن ا خلق النار‪ ،‬وهي من أعظم النعم على عباده‪ ،‬ومل علم سبحانه وتعالى أن كثرتها وبثها في العالم‬
‫مفسدة جعلها ا بحكمته محصورة حتى إذا احتيج إليها وجدت واستعملت في كل أمر يحتاج إليها فيه‪ ،‬فهي مخزونة في الجسام‪،‬‬
‫ومنافعها كثيرة ل تحصى‪ .‬فمنها ما تصلحه من الطبائاخ والشربة التي لولها لم يحصل فيها نضج ول تركيب ول اختلط‪ ،‬ول‬
‫صحة هضم لمن يستعملها في أكل وشرب‪ .‬فانظر لطف الباريِ سبحانه في هذا المر ثم انظر فيما يحتاج الناس إليه من الذهب‬
‫والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير وغير ذلك‪ ،‬فلول لم يكن شيء من النتفاع من هذة الشياء‪ ،‬فبها يذاب النحاس‬
‫شلكلرا{ ]سبأ‪:‬‬ ‫فتعمل منه الواني وغيرها‪ .‬وقد نبه ا تعالى على مثل ذلك بأنها نعمة توجب الشكر‪ .‬فقال تعالى }العدمالوا آدل ددااوودد ا‬
‫‪ .[13‬وبه يلين الحديد فيعملون به أنواعا من المنافع واللت للحروب مثل الدروع والسيوف إلى غير ذلك مما يطول تعداده‪ ،‬وقد‬
‫س{ ]الحديد‪ .[25 :‬ومنه يعمل آلت للحرث والحصاد‬ ‫نبه ا تعالى على مثل هذا‪ ،‬فقال }دودأندزللدنا اللدحهديدد هفيهه دبأل س‬
‫س دشهديسد دودمدناهفاع هللانا ه‬
‫وآلت تتأثر بها النار‪ ،‬وآلت يطرق بها‪ ،‬وآلت لقطع الجبال الصمة‪ ،‬وآلت لنجارة الخشاب مما يكثر تعدادها‪ .‬فلول لطف ا‬
‫سبحانه بخلق النار لم يحصل من ذلك شيء من المنافع‪ ،‬ولول لما كان يتهيأ للخلق من الذهب والفضة نقود ول زينة ول منفعة‪،‬‬
‫وكانت هذة الجواهر معدودة من جملة التربة‪ ،‬ثم انظر إلى ما جعل ا تعالى في النار من الفرح والترح عندما تغشى الناس ظلمة‬
‫الليل كيف يستضيئاون بها ويهتدون بنورها في جميع أحوالهم من أكل وشرب وتمهيد مراقد‪ ،‬ورؤية ما يؤذيهم ومؤانسة مرضاهم‬
‫وقصدها والعمل عليها بلرا وبحلرا فيجدون‬
‫ص ‪17‬‬
‫بوجودها أنلسا حتى كأن الشمس لم نغب عن أفقهم‪ ،‬ويدفعون بها ضرر الثلوج والرياح الباردة ويستعينون بها في الحروب ومقاومة‬
‫حصون ل تملك إل بها‪ ،‬فانظر ما أعظم قدر هذة النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم إن شاءوا خزنوها وإن شاءوا أبرزوها‪.‬‬
‫باب في حكمة خلق النسان‬
‫لندسادن همن اسلدلءة رَمن هطيءن{ ]المؤمنون‪ .[12 :‬إلى آخر ما وصفه سبحانه‪.‬‬ ‫قال تعالى‪} :‬دودلدقلد دخدللقدنا ا ه‬
‫اعلم وفقك ا تعالى أن ا عز وجل لما سبق في علمه خلق الخلق وبثهم في هذة الدرا‪ ،‬وتكليفهم فيها للبلوى والختبار‪ .‬خلقهم‬
‫سبحانه متناسلين بعضهم من بعض‪ ،‬فخلق سبحانه الذكر والنثى وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي حتى عجزوا عن الصبر‬
‫صا به‬ ‫وعدموا الحيلة في اجتناب الشهوة‪ .‬فساقتهم الشهوة المفظورة في خلقهم إلى الجتماع وحعل الفكرة تحرك عضلوا مخصو ل‬
‫إيداع الماء في القرار المكين الذيِ يخلق فيه الجنين‪ ،‬فاجتمعت فيه النطفة من سائار البدن وخرجت ماء دافلقا مندفلعا من بين الصلب‬
‫والترائاب بحركة مخصوصة‪ ،‬فانتقلت بسبب الفلج من باطن إلى باطن‪ .‬فكانت مع انتقالها على أصلها‪ ،‬لنها ماء مهين أدنى‬
‫شيء يباشرها يفسدها ويغير مزاجها‪ ،‬فهي ماء يختلط جميعه مستوية أجزاؤه ل تفاوت فيها بحال‪ ،‬فخلق سبحانه منه الذكر والنثى‬
‫بعد نقلها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام‪ ،‬ثم كساها اللحم وشدها بالعصاب والوتار ونسجها بالعروق‪ ،‬وخلق‬
‫العضاء وركبها فدور سبحانه الرأس وشق فيها السمع والبصر والنف والفم وسائار المنافذ‪ .‬فجعل العين للبصر‪ ،‬ومن العجائاب‬
‫سر كونها مبصرة للشياء‪ ،‬وهو أمر يعجز عن شرح سره‪ ،‬وركبها من سبع طبقات لكل طبقة صفة وهيئاة مخصوصة بها‪ ،‬فلو‬
‫فقدت طبقة منها أو زالت لتعطلت عن البصار‪ ،‬وانظر إلى هيئاة الشفار التي تحيط بها وما خلق فيها من سرعة الحركة لتقي‬
‫العين مما يصل إليها مما يؤذيها من غبار وغيره‪ ،‬فكانت الشفار بمنزلة باب يفتح وقت الحاجة ويغلق في غير وقت‪ ،‬ولما كان‬
‫صا يضر بها‪ ،‬وخلق في‬ ‫المقصود من الشفار جمال العين والوجه جعل شعرها على قدر ل يزيد زيادة تضر بالعين ول تنقص نق ل‬
‫مائاها ملوحة لتقطيع ما يقع فيها‪ ،‬وجعل طرفيها منخفضين عن وسطهما قليلل لينصرف ما يقع في العين لحد الجانبين‪ ،‬وجعل‬
‫الحاجبين جمالل للوجه وستلرا للعينين وشعرهما يشبه الهداب في عدم الزيادة المشوهة‪ ،‬وجعل شعر الرأس واللحية قابلل للزيادة‬
‫والنقص‪ ،‬فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه‪ ،‬ثم انظر إلى الفم واللسان وما في ذلك من الحكم‪ ،‬فجعل الشفتين ستلرا‬
‫للفم كأنها باب يغلق وقت ارتفاع الحاجة إلى‬
‫ص ‪18‬‬
‫فتحه‪ ،‬وهو ستر على اللثة والسنان مفيد للجمال‪ ،‬فلولهما لتشوهت الخلق‪ ،‬وهما معينان على الكلم واللسان للنطق والتعبير عما‬
‫في ضمير النسان وتقليب الطعام وغلقائاه تحت الضراس حتى يستحكم مضغه‪ ،‬ويسهل ابتلعه‪ ،‬ثم جعل السنان أعدالدا متفرقة‬
‫ولم تكن عظلما واحلدا‪ ،‬فإن أصاب بعضها ثلم انتفع بالباقي‪ ،‬وجمع فيها بين النفع والجمال‪ ،‬وجعل ما كان منها معكولسا زائاد الشعب‬
‫حتى تطول مدته مع الصف الذيِ تحته‪ ،‬وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام‪ ،‬وفي الضراس كبر‬
‫وتسريف لجل الحاجة إلى درس الغذاء‪ ،‬فإن المضغ هو الهضم الول‪ ،‬وجعلت الثنايا والنياب لتقطيع الطعام وجمالل للفم فأحكم‬
‫اصولها‪ ،‬وحدد ضروسها‪ ،‬وبيض لونها مع حمرة ما حولها‪ ،‬متساوية الرءوس متناسبة التركيب‪ ،‬كأنها الدر المنظوم‪ ،‬ثم انظر‬
‫كيف خلق في الفم نداوة وحبوسة ل تظهر إل في وقت الحاجة إليها‪ ،‬فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويلها للنسان‪ ،‬فجعلت‬
‫ليبل بها ما يمضغ من الطعام حتى يسهل تسويغه من غير عنت ول ألم‪ .‬فإذا فقد الكل عدمت تلك النداوة الزائادة التي خلقت‬
‫للترطيب‪ ،‬وبقى منها ما يبل اللهوات والحلق لتصوير الكلم ولئال يجف‪ ،‬فإن جفافه مهلك للنسان‪ ،‬ثم انظر إلى رحمة ا ولطفه‪،‬‬
‫إذ جعل للكل لذة الكل فجعل الذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلئامه من الملذوذ فيجد في ذلك‬
‫راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله وليتجنب الشيء الذيِ ل يوافقه‪ ،‬ويعرف بذلك حد ما تصل الضياء إليه في‬
‫الحرارة والبرودة‪ ،‬ثم إن ا تعالى شق السمع وأودعه رطوبة مرة يحفظ بها السمع من ضرر الدود ويقتل الهوام الذين يلجون‬
‫السمع‪ ،‬وحفظ الذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها‪ .‬وجعل فيها زيادة حس لتحس بما يصل إليها مما يؤذياه يؤذيها من‬
‫هوام وغيرها‪ ،‬وجعل فيها تعويجات ليتطرد فيها الصوت‪ ،‬ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فينتبه فيتأثر وينتبه صاحبها‬
‫من النوم‪ ،‬ثم انظر إلى إدراكه المشمومات بواسطة ولوج الهواء‪ ،‬وذلط‪ ،‬سر ل يعلم حقيقته إل الباريِ سبحانه إلى غير ذلك‪ ،‬ثم‬
‫انظر طيف رفع النف في وسط الوجه‪ ،‬فأحسن شكله‪ ،‬وفنح منخريه‪ ،‬وجعل فيها حاسة الشم ليستدل باستنشاقه على روائاح‬
‫ضا روح الحياة غذالء لقلبه وترويلحا لحرارة باطنه‪ ،‬ثم‬
‫مطاعمه ومشاربه‪ ،‬وليتنعم بالروائاح العطرة ويجتنب القذرة‪ ،‬وليستنشق أي ل‬
‫خلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوات‪ ،‬ودور اللسان في الحركات والتقطيعات‪ ،‬فينقطع الصوت في مجاريِ مختلفة تختلف بها‬
‫الحروف ليشع طرق النطق‪ ،‬وجعل الحنجرة مختلف الشكال في الضيق والسعة والخشونة والملسة وصلبة الجوهر ورخاوته‬
‫والطول والقصر‪ ،‬حتى اختلف بسبب ذلك الصوات‪ .‬فلم يتشابه صوتان‪ ،‬كما خلق بين كل صورتين اختللفا فلم تشتبه‬
‫ص ‪19‬‬
‫صورتان‪ ،‬بل يظهر بين كل صورتين فرقان‪ ،‬حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت‪ ،‬وكذلك يظهر بين كل‬
‫شخصين فرقان‪ ،‬وذلك لسر التعارف فإن ا تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهما‪ ،‬فخلق منهما خللقا جعله مخاللفا لخلق‬
‫أبيه وأمه‪ ،‬ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف ثم انظر لخلق اليدين تهديان إلى جلب المقاصد ودفع المضار وكيف عرض الكف‬
‫وقسم الصابع الخمس‪ ،‬وقسم الصابع بالنامل‪ ،‬وجعل الربعة في جانب والبهام في جانب آخر فيدور البهام على الجميع‪ ،‬فلو‬
‫اجتمع الولون والخرون على أن يستطيعوا بدقة الفكر وجلها آخر عن وضع الصابع سوى ما وضعت عليه من بعد البهام عن‬
‫الربعة‪ ،‬وتفاوت الربعة في الطول وترتيبها في صف واحد لم يقدروا على ذلك‪ ،‬وبهذا الوضع صلح بها القبض والعطاء‪ .‬فإن‬
‫بسطها كانت طبلقا يضع عليه ما يريد‪ ،‬وغن جمعها كانت آلة يضرب بها‪ ،‬وإن ضمها ضلما غير تام كانت مغرقة له‪ ،‬وإن بسطها‬
‫وضم أصابعه كانت مجرفة‪ ،‬ثم خلق الظافر على رءوسها زينة للنامل وعماءدا لها من ورائاها حتى ل تضعف بها ويلتقط الشياء‬
‫الدقيقة التي تتناولها النامل لولها‪ ،‬وليحك بها جسمه عند الحاجة إلى ذلك‪ ،‬فانظر أقل الشياء في جسمه لو عدمها وظهرت به‬
‫حكة لكان أضعف الخلق وأعجزهم عن دفع ما يؤلمه‪ ،‬وجلب ما ينتفع به في ذلك ولم يقم له غير الظفر مقامه في حك جسده‪ ،‬لنه‬
‫مخلوق لذلك ولغيره فهو ل صلب كصلبة العظام ول رخو كرخاوة الجلد يطول ويخلق ويقص ويقصر لمثل ذلك‪ ،‬ثم جعله يهتديِ‬
‫به إلى الحك في حالة نومه ويقظته ويقصد المواضع إلى جهتها من جسده‪ ،‬ولو احتاج إلى غيره واستعان به في حكمها لم يعثر‬
‫الغير على مواضع الحاجة إل بعد طول وتعب‪ ،‬ثم انظر كيف مد منه الفخذين والساقين وبسط القدمين ليتمكن بذلك من السعي‪،‬‬
‫ضا بالظافر وقوااها بها‪ ،‬ثم انظر كيف خلق هذا كله‬ ‫وزين القدمين بالصابع‪ ،‬وجعلها زينة وقوة على السعي‪ ،‬وزين الصابع أي ل‬
‫من نطفة مهينة‪ ،‬ثم خلق منها عظام جسده فجعلها أجسالما قوية صلبة لتكون قواءما للبدن وعماءدا له‪ ،‬وقدرها تبارك وتعالى بمقادير‬
‫مختلفة وأشكال متناسبة‪ ،‬فمنها صغير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت عريض ودقيق‪ ،‬ثم أودع في أنابيب هذه العظام المخ‬
‫الرقيق مصولنا لمصلحتها وتقويتها ولما كان النسان محتالجا إلى جملة جسمه‪ ،‬وبعض أعضائاه لتردده في حاجاته لم يجعل ا‬
‫سبحانه عظامه عظلما واحءدا بل عظالما كثيرة‪ ،‬وبينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة فقدر شكل كل واحد منها على قدر وفق‬
‫الحركة المطلوبة بها‪.‬‬
‫ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتاد أثبتها بأحد طرفي العظم وألصق الطرف الخر كالرباط‪ ،‬ثم خلق أحد طرفي العظم‬
‫زوائاد خارجية منها‪ ،‬ومن الخرة‬
‫)ص ‪(20‬‬
‫نقرال غائاضة فيها توافق لشكال الزوائاد لتدخل فيها وتنطبق ‪ ،‬فصار النسان إذا أراد أن يحرك شيئاا ل من جسده دون غيره لم يمتنع‬
‫عليه ‪ ،‬فلول حكمة خلق المفاصل لتعذر عليه ذلك ‪ ،‬ثم انظر كيف جعل خلق الرأس مركبا ل من خمسة وخمسين عظما ل مختلفة‬
‫الشكال والصور ‪ ،‬وألف بعضها إلى بعض بحيث استوت كرة الرأس كما ترى ‪ ،‬فمنها ستة تختص بالقحف ‪ ،‬وأربعة وعشرون‬
‫للحى العلى ‪ ،‬واثنان للحى السفل ‪ ،‬والبقية من السنان بعضها عريض يصلح للطحن ‪ ،‬وبعضها حاد يصلح للقطع ‪ ،‬ثم جعل‬
‫الرقبة مركز الرأس ‪ ،‬فركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات وزيادات ونقصان لينطبق بعضها على بعض ويطول ذكر‬
‫الحكمة فيها ‪ ،‬ثم ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربعة وعشرين خرزة وعظم العجز ثلثة‬
‫أخرى مختلفة ووصل به من أسفله عظم العصعص وهو مؤلف من ثلثة أخرى ‪ ،‬ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام‬
‫الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز وعظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين ‪ ،‬فجملة عدد العظام فى بدن النسان‬
‫مائاتا عظم وثمانية وأربعون عظما ل سوى العظام الصغيرة التى حشى بها خلل المفاصل ‪ ،‬فانظر كيف خلق البارى سبحانه وتعالى‬
‫ذلك كله من نطفة رقيقة سخيفة ‪ ،‬والمقصود من ذكر أعدادها تعظيم مدبرها وخالقها وكيف خلقها وخالف بين أشكالها وخصها بهذا‬
‫القدر المخصوص بحيث لو ازداد فيها واحد كان وبالل ‪ ،‬واحتاج النسان إلى قلعه ولو نقص منها واحد لحتاج النسان إلى جبره‬
‫فجعل سبحانه وتعالى فى هذا الخلق عبرة لولى البصار وآيات بينات على عظمته وجلله بتقديرها وتصويرها ‪.‬‬
‫ثم انظر كيف خلق سبحانه آلت لتحريك العظام وهى العضلت ‪ .‬فخلق فى بدن النسان خمسمائاة وتسعة وعشرين عضلة ‪،‬‬
‫والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية وهى مختلفة المقادير والشكال بحسب أختلف مواضعها وحاجتها ‪ .‬فأربعة‬
‫وعشرون منها لحركة العين وأجفانها بحيث لو نقصت منها واحدة اختل أمر العين ‪ ،‬وهكذا لكل عضو عضلت بعدد يخصه وقدر‬
‫يوافقه ‪ ،‬وأما أمر العصاب والعروق والوردة والشرايين ومنابتها وسعتها ‪ ،‬فأعجب من هذا وشرحه يطول ‪ ،‬ثم عجائاب ما فيه‬
‫من المعانى والصفات التى ل تدرك بالحواس أعظم ‪ ،‬ثم انظر إلى ما شرف به وخص فى خلقه بأنه خلق بتنصب قائاما ل ويستوى‬
‫جالسا ل ويستقبل المور بيديه وجوارحه ويمكنه العلج والعمل ولم يخلق مكبوبا ل على وجهه كعدة من الحيوانات ‪ ،‬إذ لو كان كذلك‬
‫لما استطاع هذه العمال ‪ ،‬ثم انظر من حيث الجملة إلى ظاهر النسان وباطنه فتجده مصنوعا ل صنعة بحكمة تقضى منها العجب‪،‬‬
‫وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء ‪ ،‬والعذاء منوال عليها لكنه تبارك وتعالى قدرها بمقاديرل يتعداها ن بل يقف عندها ول‬
‫يزيد عليها ‪ ،‬فإنها لو تزايدت بتوالى الغذاء‬
‫)ص ‪(21‬‬
‫عليها لعظمت أبدان بنى آدم وثقلت عن الحركة ‪ ،‬وعطلت عن الصناعات اللطيفة ول تناولت من الغذاء ما يناسبها ‪ ،‬ومن اللباس‬
‫كذلك ‪ ،‬ومن المساكن مثل ذلك ‪ ،‬وكان من بليغ الحكمة وحسن التدبير وقوفها على هذا الحد المقدر رحمة من ا ورفقا ل بخلقه ‪ ،‬فإذا‬
‫وجدت هذا كله صنعه ا تعالى من قطرة ماء ‪ ،‬فما ظنك بصنعته فى ملكوت السموات والرض وشمسها وقمرها وكواكبها وما‬
‫حكمته فى أقدارها وأشكالها وأعدادها وأوضاعها واجتماع بعضها ‪ ،‬وافتراق بعضها ‪ ،‬واختلف صورها ‪ ،‬وتفاوت مشارقها‬
‫ومغاربها ‪ .‬فل تظن أن ذرة فى السموات والرض وسائار علم ا ينفك عن حكم ‪ ،‬بل ذلك مشتمل على عجائاب وحكم ل يحط‬
‫بجميعها إل ا سبحانه وتعالى ‪ .‬ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى ‪) :‬أدأدلناتلم أددشمد دخلللقا أدهم الاسدمااء دبدنادها ( ] النازعات ‪ . [ 27:‬إلى أخر ما‬
‫نبه به ‪ ،‬وتأمل لو اجتمع النس والجن على أن يخلقوا للنطفة سمعا ل وبصرال وحياة لم يقدروا على ذلك ‪ ،‬فانظر كيف خلقها سبحانه‬
‫فى الرحام ‪ ،‬وشكلها فأحسن تشكيلها ‪ ،‬وقدرها فأحسن تقديرها ‪ ،‬وصورها فأحسن تصويرها ‪ ،‬وقسم أجزاءها المتشابهة إلى‬
‫أجزاء مختلفة ‪ ،‬فأحكم العظام فى أرجائاها وحسن أشكال أعضائاها ‪ ،‬ورتب عروقها وأعصابها ودبر ظاهرها وباطنها ‪ ،‬وجعل فيها‬
‫مجرى لغذائاها ليكون ذلك سبب لبقائاها مدة حياتها ‪.‬‬
‫ثم كيف رتب العضاء الباطنة من القلب والكبد والمعدة والطحال والرئاة والرحم والمثانة والمعاء كل عضو بشكل مخصوص‬
‫ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ‪ ،‬فجعل المعدة لنضج الغذاء عصبا ل معينا ل شديدال لحاجتها وبذلك يمكن تقطيعه وطحنه ‪ ،‬وجعل‬
‫طحن الضراس اولل معينا ل للمعدة على جودة طحنه وهضمه وجعل الكبد لحالة الغذاء إلى الدم فيجتذب منه كل عضو من الغذاء‬
‫ما يناسبه ‪ ،‬فغذاء العظم خلف غذاء اللحم وغذاء العروق خلف غذاء العصاب ‪ ،‬وغذاء الشعر خلف غذاء غيره ‪ ،‬وجعل‬
‫الطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد فالطحال لجذب السوداء ‪ ،‬والمرارة لجذب الصفراء ‪ ،‬والكلية المائاية عنه والمثانة لقبول‬
‫الماء عن الكلية ‪ ،‬ثم يخرجه فى مجرى الحليل والعروق والكبد فى اتصال الدم منه إلى سائار أطراف البدن ‪ ،‬وجعل جوهرها‬
‫أتقن من جوهر اللحم ليصونه ويحرصه فهى بمنزلة الظروف والوعية ‪ ،‬ثم انظر كيف دبره فى الرحم ولطف به ألطافا ل يطول‬
‫شرحها ول يستكمل العلم بجملتها إل خالقها ويعجز الواصف عن وصف ما وصل إليه نظره من ذلك ‪ ،‬فمن ذلك جعله فيهما ل‬
‫يحتاج إلى استدعاء ‪ ،‬ول يحتاج المولود إلى ما يبين ذلك ل بوعظ ول تنبيه ‪ ،‬بل ذلك فى الطباع إلى وقت حاجة المولود إلى‬
‫الغاثة فى غذائاه ‪ ،‬ولول ذلك لنفرت المهات عنه من شدة التعب وكلفة التربية حتى اشتد جسمه وقويت أعضاؤه الظاهرة‬
‫والباطنة لهضم الغذاء ‪ ،‬فحينئاذ أنبيت له السنان عند الحاجة إليها ل قبل ذلك ول بعده ‪.‬‬
‫)ص ‪(22‬‬
‫ثم انظر كيف خلق ا فيه التمييز والعقل على التدريج إلى حيت كماله وبلوغه ‪ ،‬وانظر وفكر فى سر كونه يولد جاهلل غير ذى‬
‫عقل وفهم ‪ ،‬فإنه لو كان ولدال عاقلل فيهما لنكر الوجود عند خروجه إليه حتى يبقه حيران تائاه العقل ‪ .‬إذ رأى ما ل يعرف ‪ ،‬وورد‬
‫عليه ما لم يره ولم يعهد مثله ‪ ،‬ثم كان يجد غضاضة أن يرى نفسه محمولل و موضوعا ل معصبا ل بالخرق ومسجى فى المهد مع‬
‫كونه ل يستغنى عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ‪ ،‬ثم كان ل يوجد له من الرقة له والحلوة والمحبة فى القلوب مايوجد‬
‫للصغير لكثرة اعتراضه بعقله واختياره لنفسه ‪ ،‬فتبين أن أزدياد العقل والفهم فيه على التدريج أصلح به ‪.‬‬
‫أفل يرى كيف أقام كل شئ من الخلقة على غاية الحكمة وطريق الصواب وأعلمه تقلب الخطأ فى دقيقه وجليله ‪ ،‬ثم انظر فيما إذا‬
‫اشتد خلق فيه طريقا ل وسببا ل للتناسل وخلق فى وجهه شعرال ليميزه عن شبه الصبيان والنسوان ويجمله ويستر به غضون وجهه عند‬
‫شيخوخته ‪ ،‬وإن كانت أنثى أبقى وجهها نقيا ل من الشعر لتبقى لها بهجة ونضارة تحرك الرجال لما فى ذلك من بقاء النسل‪.‬‬
‫فكر الن فيما ذكرناه ودبره سبحانه فى هذه الحوال المختلفة ‪ ،‬هل ترى مثل هذا يمكن أن يكون مهلل ‪ ،‬أرأيت لو لم يجر له الدم‬
‫غذاء وهو فى الرحم ألم يكن يذوى ويهلك ويجف كما يجف النبات إذا انقطع عنه الماء ‪ .‬ولو لم يزعجه المخاض عند استكماله ‪،‬‬
‫ألم يكن يهلك ببقائاه فى الرحم هو وأمه ؟ ولو لم يوافه اللبن عند ولدته ‪ ،‬ألم يكن يموت جوعا ل وعطشا ل أو يغذى بما ل يوافق ول‬
‫يصلح عليه بدنه ؟ ولو لم يخلق له السنان فى وقتها ‪ ،‬ألم يكن يمتنع عليه مضغ الطعام وازدراده ويقيم على الرضاع لويشتد‬
‫جسمه ؟ ولو لم يخرج شعر الوجه لبقى فى هيئاة النساء والصبيان فل ترى له هيبة ل جللة ول وقارال ‪ ،‬ومن ذا الذى يرصده حتى‬
‫يوفيه بكل هذه المأرب فى وقتها إل الذى أنشأه بعد أن لم يكن شيئاا ل مذكورال وتفضل عليه ومان عليه بكل هذه النعم‪.‬‬
‫فكر فى شهوة الجماع الداعية لحيائاه ‪ ،‬واللة الموصلة إلى الرحم النطفة والحركة الموجبة لستخراج النطفة وما فى ذلك من‬
‫التدبير المحكم ‪ ،‬ثم فكر فى جملة أعضاء البدن وتهيئاة كل عضو منها للرب الذى أريد منها فالعينان للهنداء بالنظر ‪ ،‬واليدان‬
‫للعلج والحذف والدفع والرجلن للسعى ‪ ،‬والمعدة لهضم الطعام ‪ ،‬والكبد للتخليص والتمييز ‪ ،‬والفم للكلم ودخول الغذاء ‪،‬‬
‫والمنافذ لدفع الفضلت ‪ ،‬وإذا تأملت كذلك مع سائار ما فى النسان وجدته قد وضع على غاية الحكمة والصواب فكر فى وصول‬
‫الغذاء إلى المعدة حتى ينضجه ويبعث صفوه إلى الكبد فى عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء ‪ ،‬لكيل يصل إلى الكبد منه شئ‬
‫غليظ خشن فينكؤها فإنها خلقت دقيقة ل تحمل الغث‬
‫)ص ‪(23‬‬
‫فتقلبه بإذن ا دوما ل وتنفذ إلى سائار البدن فى مجار مهيأة لذلك فيصل إلى كل شئ من ذلك ما يناسبه من يابس ورخو وغير ذلك ‪:‬‬
‫ب اللدعادلهميدن( ]غافر‪.[64:‬‬ ‫ك ا‬
‫اا در م‬ ‫)دفدتدبادر د‬
‫ثم ينفذ ما يكون من خبث وفضول إلى معابض وأعضاء أعدت لذلك كما ذكرنا من قبل هذا ‪ ،‬فكونها كالوعية تحمل هذه الفضلت‬
‫لكيل تنتشر فى البدن فتقسمه ‪.‬‬
‫ثم انظر هل تجد فى خلق البدن شيئاا ل ل معنى له ‪ .‬هل خلق البصر إل ليدرك الشياء واللوان ‪ ،‬فول كانت اللوان ولم يكن بصر‬
‫يدركها ‪ ،‬هل كان فى اللوان منفعة ؟ وهل خلق السمع إل ليدرك الصوات ؟ فلو كانت الصوات ولم يكن سمع يدركها لم تكن فى‬
‫الصوات منفعة ‪ ،‬وكذلك سائار الحواس ‪ ،‬فكر فى أشياء جعلت بين الحواس والمحسوسات ل يتم الحس إل بها ‪ :‬منها الضياء‬
‫والهواء ‪ ،‬فول لم يكن ضياء تظهر فيه المبصرات لم يدركها البصر ‪،‬ولو لم يكن هواء يؤدى الصوت إلى السمع لم يكن السمع‬
‫يردك الصوت‪.‬‬
‫فاكر فيمن عدم البصر والسمع وما يناله من الخلل فإنه ل ينظر أن يضع قدمه ول يدرى ما بين يديه ول يفرق بين اللوان ول‬
‫يدرى بهجوم آفة أو عدو ول سبيل له أن يتعلم أكثر الصناعات ‪ ،‬وأما من عدم السمع فإنه من يفقد روح المخاطبة والمحاضرة‬
‫ويعدم لذة الصوات المستحسنة واللحان المطربة وتعظم المؤونة على من يخاطبه حتى ينصرم منه ول يسمع شيئاا ل من أخبار‬
‫الناس وأحاديثهم حتى يصير كالغائاب وهو شاهد ‪ ،‬وكالميت وهو حى ‪ ،‬وأما من عدم العقل فهو أشر من البهائام ‪ ،‬فانظر كيف‬
‫صارت هذه الجوارح وهذه الوصاف التى بها صلح النسان محصلة ومبلغة لجميع مآربه ومتممه لجميع مقاصده ‪ ،‬وإذا فقد شيئاا ل‬
‫اختل أمره وعظم مصابه ‪ ،‬ومن بلى بفقد شئ منها فهو تأديب وموعظة وتعريف بقدر نعمة ا فى حقه وحق أمثاله ولينال بصبره‬
‫على ذلك حلظ فى الخرة ‪ ،‬فانظر إلى رحمة ا كيف توجد فى العطاء والمنع‪.‬‬
‫ثم فكر فى العضاء التى خلقت أفرادال وأزواجا ل ‪ ،‬وما فى ذلك من الحكمة والصواب ‪ ،‬فالرأس مما خلق فردا‪ ،‬وإن كثيرا من‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫الحواس قد حواها رأس واحد ولو زاد عليه شئ كان ثقيلل ل يحتاج إليه‪ ،‬فإن كان قسمين فإن تكلم واحدهما بقى الخر معطل ل‬
‫ل‬
‫حاجة إليه‪ ،‬وإن تلكم منهما ل جميعا ل بكلم واحد كان أحدهما فضلة ل يحتاج إليها‪ ،‬وإن تكلم من أحدهما بخلف ما يتكلم به من الخر‬
‫لم يدر السامع مراده من ذلك ‪ ،‬وأما الذى يأخذ به السامع هو ما كان واضحا ل ‪ ،‬واليدان خلقتا أزواجا ل ولم يكن للنسان خير فى أن‬
‫يكون يلم بيد واحدة لختلل ما يعالجه من المور‪ ،‬فإنك ترى من شلت إحدى يديه ما يكون عنده من نقص‪ ،‬وأن يكلف بشئ لم‬
‫يحكمه ول يبلغ ما يبلغ صاحب اليدين وحكمة الرجلين ظاهرة‪.‬‬
‫)ص ‪(24‬‬
‫فكر فى تهيئاة ألت الصوت ‪ ،‬فالحنجرة كالنبوبة لخروج الصوت واللسان والشفتان والسنان لصاغة الحروف والفم ‪ .‬أل ترى‬
‫أن من سقطت أسنانه أو أكثرها كيف يحصل الخلل فى كلمه ‪ ،‬ثم انظر إلى ما فى االحنجرة من المنفعة لملوك النسيم منها إلى‬
‫الرئاة فتروح على الفؤاد بهذا النفس المتتابع ‪ ،‬وما فى اللسان من تقليب الطعام وإعانته على تسويغ الطعام والشراب ‪ ،‬وما فى‬
‫السنان من المعونة أيضا ل ثم هى كالمسند للشفتين تمسكهما وتدعهما من داخل الفم ‪ ،‬وبالشفتين يرتشف الشراب حتى يكون ما‬
‫يدخله إلى الجوف بقصدر وبقدر ما يختاره النسان ‪ ،‬ثم هما على الفم كالباب‪.‬‬
‫فقد تبين أن كل عضو من هذه العضاء ينصرف إلى وجوه ومأرب وضروب من المصالح إن زاد أفسد وإن نقص أفسد ‪ ،‬فذلك‬
‫تقدير العزيز العليم‪ .‬فكر فى الدماغ إذا كشف عنه فإنك تجده قد لف بعضه فوق بعض ليصونه من العراض وأطبقت عليه‬
‫الجمجمة والشعر ستر لها وجمال ولتبعد عنها ما يؤذيها من حر وبرد وغير ذلك فحصن سبحانه وتعالى الدماغ هذا التحصين‬
‫لعلمه بأنه معهم وأنه مستحق لذلك لكونه ينبوع الحس‪ ،‬ثم انظر كيف غيب الفؤاد فى جوف الصدر وكساه المدرعة التى هى‬
‫غشاؤه وأتقنها وحصنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لشرفه وأن ذلك الئاق به ‪ ،‬ثم انظر كيف جعل فى الحلق منفذين ‪:‬‬
‫أحدهما الصوت وهو الحلقوم الواصل إلى الرئاة والخر إلى الغذاء وهو المرئ الواصل إلى المعدة ‪ ،‬وجعل على الحلقوم طبقا ل‬
‫يمنع الطعام أن يصل إليه ‪ ،‬ثم جعل الرئاة مروحة الفؤاد ل تفتر ول تخل تأخد وترد بغير كلفة لئال تنحصر الحرارة فى القلب‬
‫فتؤدى إلى التلف ‪ ،‬ثم مل الجو هواءال لهذه المصلحة ولغيرها ‪ ،‬ثم انظر كيف جعل منافذ البول والغائاط أسراحا يضبطها لكى ل‬
‫يجرى جريانا ل دائاما ل فيفسد على النسان عيشته ‪ ،‬ثم انظر كيف جعل لحم الفخذين كثيرال كثيفا ل ليقى النسان من ألم الجلوس على‬
‫الرض كما يألم من الجلوس من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الرض حائال‪.‬‬
‫انظر لو كان ذكر الرجل مسترخيا ل ابدال كيف يصل الماء إلى موضع الخلق ولو كان منعطفا ل أبدال كيف يكون حاله فى تصرفاته وهو‬
‫كذلك ؟ بل جعله مستورال كأنه لم تخلق له شهوة ‪ ،‬ثم انظر أليس أنه من حسن التدبير فى البناء أن يكون الخلء فى أستر موضع فى‬
‫الدار ‪ ،‬فلهذا اتخذ المنفذ المهيأ لقضاء حاجة النسان فى أستر موضع فى جسده مغيب فيه تلتقى عليه فخداه بما عليها من اللحم‬
‫فتواريه به ويخفى ذكره ‪ ،‬وذلك مخصوص بالنسان لشرفه ‪ ،‬ثم انظر فى خلق الشعر والظفار لما كانا يطولن ‪ ،‬وفى تقصيرهما‬
‫مصلحة جعل عديمى الحس حتى ل ينال النسان ألم عند التزيين بقصهما‪ ،‬ولول هذه الحكمة لكان بين امرين ‪ :‬إما أن يدعهما على‬
‫حالهما فيتشوه خلقه ‪ ،‬أو يزيل ذلك فيتألم بإزالته ‪ ،‬ثم تفكر فى‬
‫)ص ‪(25‬‬
‫الشعور لو نبتت فى العين لعمت البصر‪ ،‬أو فى الفم لنغصت الكل والشرب‪ ،‬أو فى راحة الكف لنفدت لذة اللمس وبعض العمال‬
‫‪ ،‬أو فى الفرج لكدرت لذة الجماع مع قبول هذه المواضع لنباتها فيها ‪ .‬فسبحان المدبر المنعم بهذه النعم ‪.‬‬
‫فانظر كيف تصد بهذا الخلق طريق الصواب وتجنب الخطأ والضرر ثم فيما جبل عليهالنسان من الحتياج إلى المطعم والنوم‬
‫والجماع وما فى ذلك من التدبير المحكم ‪ .‬فقد جعل فى طبعه محركا ل يقتضيه ويستحثه‪ ،‬فالجوع والعطش يقتضى طلب الطعام‬
‫الذى به حياته ‪ ،‬وكذلك الشراب الذى به قوامه والنوم فيه راحة البدن وعموم القوى ‪ ،‬والشبق يقتضى الجماع الذى به دوام النسل‬
‫وبقاؤه ‪ ،‬فلو كان النسان إنما يتناول الطعام والشراب لمعرفته بالحاجة إليه ولم يجد فى طباعه ما يلجئاه إليه لشتغل بأسباب‬
‫ضرورته فينحل قواه ويهلك كما أنه قد يحتاج إلى دواء يكرهه ‪،‬وفيه صلحه وليس فى جبلته داعية له فيدافع عن تناوله فيمرض‬
‫أو يموت فكذلك لو كان يفعل النوم ويدخله على جسمه فاختياره لتشاغل عنه ببعض مهماته فيهلك جسمه بالتعب والنصب ‪ .‬وكذلك‬
‫لو كان إقدامه على الجماع إنما هو لرغبة حصول الولد لنقطع النسل لما يعارضه من السباب المشغلة ‪ .‬فانظر كيف جعل فيه‬
‫بالطبع ما يضطره إلى حصول هذه الفوائاد ‪ .‬انظر كيف رتبت هذه القوى بهذا الترتيب المحكم العجيب‪ .‬فصار البدن بما فيه بمنزلة‬
‫دار لملك فيها حشم وقوم موكلون بالدار فواحد لمضاء حوائاج الحشم وإيراد ماء لهم ‪ ،‬وأخر لقبض ما يرد خزنه إلى أن يعالج‬
‫ويهيأ ‪ ،‬وأخر لصلح ذلك وتهيئاته وإصلحه أخص مما قبل ‪ ،‬وأخر لكسح ما فى الدار من القذار وإخراجه ‪ ،‬فالملك فى هذا‬
‫المثل هو الخالق العليم سبحانه ‪ ،‬والدار هى البدن ‪ ،‬والحشم هى العضاء ‪ ،‬والقوم فى هذه القوى الربع التى هى النفس وموقعها‬
‫من النسان بمعنى الفكر ولوهم والعقل والحفظ والغضب وغير ذلك ‪ ،‬أرأيت لو نقص من النسان من هذه الصفات الحفظ وحده‬
‫كيف يكون حاله‪ ،‬وكان ل يحفظ ما له وما عليه وما أصدر وما أورد وما أعطى وما أخذ وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم‬
‫يذكر من أحسن إليه ول من أساء له ول من نفعه ممن ضره ‪ .‬وكان ل يهتدى لطريق ولو سلكه ‪ ،‬ول لعلم ولو درسه ‪ ،‬ول ينتفع‬
‫بتحريره ‪ ،‬ول يستطيع أن يعتبر بمن مضى ‪ ،‬فانظر إلى هذه النعم كيف موقع الواحدة منها‪ ،‬فكيف جميعها وأعجب من نعمة الحفظ‬
‫نعمة النسيان‪ .‬فلول النسيان ما سل النسان عن مصيبة فكان ل ينقص له حسرة ول يذهب عنه حقد ول يستمتع بشئ من لذات‬
‫الشهوات الدنيوية مع تذكر الفات والفجائاع المغضبات ‪ ،‬وكان ل يمكن أن يتوقع غفلة من ظالم ول فترة ول ذهولل من حاسد أو‬
‫قاصد مضرة فانظر كيف جعل ا فيه سبحانه الحفظ والنسيان وهما متضادان ‪ ،‬وجعل للنسان فى كل منهما ضروبا ل من المصالح‬
‫‪.‬‬
‫)ص ‪(26‬‬
‫ثم انظر إلى ما خصه دون غيره من الحيوان من الحياء ‪ ،‬فلوله لم تقل العثرات ولم تقض الحاجات ولم ايلقر الضيف ولم يثمر‬
‫الجميل فيفعل ول يتجافى عن القبيح فيترك حتى أن كثيرال من المور الواجبة‪ ،‬إنما تفعل لسبب الحياء من الناس ‪ ،‬فترد المانات‬
‫وتراعى حقوق الوالدين وغيرهما ‪ ،‬ويعف عن فعل الفواحش إلى غير ذلك من أجل الحياء ‪ ،‬فانظر ما أعظم موقع هذه النعمة فى‬
‫هذه الصفة ‪ ،‬وانظر ما أنعم ا به من النطق الذى يميز به عنه البهائام فيعبر بما فى ضميره ويفهم من غيره ما فى نفسه ‪ ،‬وكذلك‬
‫نعمة الكتابة التى تفيد أخبار الماضين للباقين ‪ ،‬وأخبار الباقين للتين ‪ ،‬وبها تخلد فى الكتب والعلوم والدب ‪ ،‬ويعلم الناس ذكر ما‬
‫يجرى بينهم فى الحساب والمعاملت ‪ ،‬ولول الكتابة لنقطعت أخبار بعض الزمنة عن بعض ‪ ،‬ودرست العلوم وضاعت الفضائال‬
‫والداب وعظم الخلل الداخل على الناس فى أمورهم بسبب عدمها‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬إن الكلم والكتابة مكتسبة للنسان وليست بأمر طبيعى ‪ ،‬ولذلك تختلف الخطوط بين عربى وهندى ورومى إلى غير‬
‫ذلك وكذلك الكلم هو شئ يصطلح عليه ‪ ،‬فلذلك اختلف ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬ما به تحصل الكتابة من اليد والصابع والكف المهيأ للكتابة والذهن والفكر الذى يهتدى به ليس بعفل النسان ‪ ،‬ولول ذلك لم‬
‫يكن ليتب أبدال ‪ ،‬فسبحان المنعم عليه بذلك ‪ ،‬وكذلك لول اللسان والنطق الطبيعى فيه والذهن المركب فيه لم يكن ليتكلم أبدال ‪،‬‬
‫فسبحان المنعم عليه بذلك ‪.‬‬
‫ثم انظر إلى حكمة الغضب المخلوق فيه يدفع عن نفسه به ما يؤذيها‪ ،‬وما خلق فيه من الحسد فبه يسعى فى جلب ما ينتفع به غير‬
‫أنه مأمور بالعتدال فى هذين المرين ‪ ،‬فإن جاوز الحد فيهما التحق برتبة الشياطين ‪ ،‬بل يجب أن يقتصر فى حالة الغضب على‬
‫دفع الضرر ‪ ،‬وفى الحسد على البغضة وهى إرادة ما ينفعه من غير مضرة تلحق غيره ‪ ،‬ثم انظر ما أعطى وما منع مما فيه أيضا ل‬
‫صلحه ‪ ،‬فمن ذلك المل فسببه تعمر الدنيا ويدوم النسل ليرث الضعفاء عن القوياء منافع العمارة ‪ ،‬فإن الخلق أول ما يخلق‬
‫ضعيف فلول أه يجد أثار قوم أحلوا وعمروا لم يكن له محل يأوى إليه ول أله ينتفع بها ‪ ،‬فكان المل سببا ل لعمل الحاضرين ما يقع‬
‫به انتفاع التين‪ ،‬وهكذا يتوارث إلى يوم الدين ‪ ،‬ومنع النسان من علم أجله ومبلغ عمره لمصلحة ‪ ،‬فإنه لو علم مدتة حياته وكانت‬
‫قصيرة لم تهن الحياة ولم ينشرح لوجود نسل ول لعمارة أرض ول لغير ذلك ‪ ،‬ولوعلمها وكانت طويلة لنهملك فى الشهوات‬
‫وتعدى الحدود واقتحم المهلكات ‪ ،‬ولعجز الواعظ عن إيقافه وزجره عما يؤديه إلى إتلفه فكان فى جهله بمدة عمره مصلحة‬
‫حصول الخوف بتوقع هجوم الموت ‪ ،‬ومبادرة صالح العمال قبل الفوات‪.‬‬
‫)ص ‪(27‬‬
‫ثم انظر إلى ما ينتفع به مما فيه مصالحه وملذه من أصناف الطعمة على اختلف طعومها ‪ ،‬وأصناف الفواكه مع اختلف ألوانها‬
‫وبهجتها ‪ ،‬وأصناف المراكب ليركبها ويحصل منافعها وطيور يتلذذ بسماعها ‪ ،‬ونقود وجواهر يقتنيها ويصل بها إلى أغراضه‬
‫ويجدها فى مهماته ‪ ،‬وعقاقير يستعملها لحفظ صحته ‪ ،‬وبهائام لمأكله ولغير ذلك من اأموره من حرث وحمل وغير ذلك وأزهار‬
‫وغيرها من العطريات يتنعم بروائاحها وينتفع بها ‪ ،‬وأصناف من الملبس على اختلف أجناسها وكل ذلك ثمرة ما خلق فيه من‬
‫العقل والفهم ‪ ،‬فانظر ماذا ركب ا فيه من العجائاب ‪ .‬ومن الحكمة البالغة اختلف العباد فى تملك ما ينتفع به بنو أدم ليتميز منهم‬
‫الفقير من الغنى ‪ ،‬فيكون ذلك سببا ل لعمارة هذه الدار ويشتغل الناس بسبب ذلك عما يضرهم فى غالب الحوال‪ .‬فمثالهم فيما‬
‫اشتغلوا به مثال الصبى فإنه يشتغل لنقص عقله فيما يضر به نفسه ول يتفرغ فيكون فراغه وبالل عليه ‪ ،‬وكم عسى أن يعد العاد من‬
‫الحكم واللطائاف التى يقصد بها قوام العالم وعبادته إلى الجل المعلوم وهى مما ل تدخل تحت حد ول يحصرها عد ‪ ،‬ول يعلم‬
‫منتهى حقائاقها وإحصاء جملتها إل الحكيم العليم الذى وسعت رحمته وعلمه كل شئ وأحصى كل شئ عددال ‪.‬‬
‫خاتمة لهذا الباب‬
‫اعلم أن البارى سبحانه وتعالى شرف هذا الدمى وكرمه ‪ ،‬فقال سبحانه ‪) :‬دودلدقلد دكارلمدنا دبهني آدددم دودحدمللدنااهلم هفي اللدبرَر دواللدبلحهر دودردزلقدنااهلم‬
‫ضيلل( ]السراء ‪. [70 :‬‬ ‫ضللدنااهلم دعدلىى دكهثيءر هماملن دخدللقدنا دتلف ه‬ ‫همدن الاطرَيدبا ه‬
‫ت دودف ا‬
‫فكان أعظم ما شرف به وكرمه العقل الذى تنبه به على البهجة وألحقه بسببه بعالم الملئاكة ‪ ،‬حتى تأهل به لمعرفة بارئاه ومبدعه‬
‫بالنظر فى مخلوقاته واستدللل له على معرفة صفاته بما أودعه فى نفسه من حكمة وأمانة ‪ ،‬قال ا العظيم ‪) :‬دوهفي أدلنفاهساكلم أددفدل‬
‫صارودن( ] الذاريات ‪.[ 21 :‬‬ ‫اتلب ه‬
‫فكان نظره فى نفسه ‪ ،‬وفيما أودع البارى سبحانه في من العقل الذى يقطع بوجوده فيه ويعجز عن وصفه من أعظم الدللت عنده‬
‫على وجود بارئاه ومدبره وخالقه ومصوره ‪ ،‬فإنه ينظر فى العقل كيف فى التدبير وفنون العلم ومستمر المعرفة وبصائار الحكمة‬
‫والتمييز بين النفع والضرر ‪،‬وهو مع القطع بوجوده ل يرى له شخصا ل ول يسمع له حسا ل ول يحس له مجلسا ل ول يشم له ريحا ل ول‬
‫يدرك له صورة ول طعما ل ‪ ،‬وهو مع ذلك آمر ومطاع زيادة وراج ومفكر ومشاهد الغيوب ومتوهم للمور اتسع له ماضاق عن‬
‫البصار ووسع له ما ضاقت عنه الوعية يؤمن بما غيبته حجب ا سبحانه مما بين سمواته وما فوقها وأرضه وما‬
‫)ص ‪(28‬‬
‫ل‬
‫تحتها‪ ،‬حتى كأنه شاهد أبين من رأى العين فهو موضع الحكمة ومعدن العلم كما ازداد علما ازداد سعة وقوة يأمر الجوارح‬
‫بالتحرك فل يكاد أن يميز بين الهمة بالحركة ‪ ،‬وبين التحرك بسرعة الطاعة أيهما أسبق‪ .‬وإن كانت الهمة قبل وهو مع تدبيره‬
‫وعلمه وحكمته عاجز عن معرفة نفسه إذ ل يمكنه أن يصف نفسه بنفسه بصفة وهيئاه أكثر من القرار بأنه مسلم للذى وصفه للعلم‬
‫به ‪ ،‬ومقر بالجهل بنفسه وهو مع جهله بنفسه عالم حكيم يميز بين لطائاف التدبير ‪ ،‬ويفرق بين دقائاق الصنع ‪ ،‬وتجرى المور على‬
‫اختلفها‪ ،‬فدل جهله بنفسه وعلمه بما يدبرويميز أنه مركب مصنوع مصور مدبر مقهور‪ ،‬لنه مع حكمته واتقاد بصيرته عاجز‬
‫مهين يريد أن يذكر الشئ فينساه ويريد أن ينساه ليذكره ‪ ،‬ويريد أن يسر ليحزن ‪ ،‬ويريد أن يغفل فيذكر‪ ،‬ويريد أن يتنبه ويتيقظ‬
‫فيسهو ويغفل دللة على أنه مغلوب مقهور وهو مع ما علم جاهل بحقائاق ما علم ‪ ،‬ومع ما دبر ل يدرى كم مدى مبلغ صوته ول‬
‫كيف خروجه ول كيف اتساق حروف كلمه ‪ ،‬ول كم مدى مبلغ نظره ‪ ،‬ول كيف ركب نوره ول كيف أدرك الشخاص ‪ ،‬ول كم‬
‫قدر قوته ول كيف تركبت قدرته وهمته ؟ فاستدل بعلمه وجسده عن حقيقة ما علم أنه مصنوع بصنعة متقنة وحكمة بالغة تدل على‬
‫الصانع الخالق المريد العليم عز وجل ‪ ،‬ثم إنه خلق فى النسان الهوى موافقا ل لطباعه فإنه استعمل نور العقل فيما أمر به ورد‬
‫مورد السلمة وفاز غدال بدار الكرامة ‪ ،‬وإن استعمله فى أغراض نفسه وهواها حجب عن معرفة أمور ل يدركها غيره مع ما هو‬
‫متوقع له فى الدار الخرة من الثواب والحجاب والعقاب ‪،‬وهو الله له فى عمل الصنائاع وتقديرها على نحو ماقدرها ودبرها فى‬
‫ذهنه وتخيله واستنباط ما يستنبط بدقيق الفكر ومعرفة مكارم الخلق الموجودة فى كل أمة زمان ‪ ،‬واستحسان ما يحسن عن‬
‫عوائاد العقلء والفضلء وتقبيح ما يقبح عندهم بحكم العتياد‪ ،‬فانظر ما شرف هذا النسان أن خلق فيه ما يفيده هذه المعارف ‪،‬‬
‫فإن الوانى تشرف بشرف ما يوضع فيها‪ ،‬ولما كانت قلوب العباد فى محل للمعرفة بال سبحانه وتعالى شرفت بذلك ‪ ،‬ولما سبق‬
‫فى علم البارى سبحانه وإرادته وحكمته بمصير الخلق إلى دار غير هذه الدار ولم يجعل فى قوة عقولهم ما يطلعون به على أحكام‬
‫تلك الدار ‪ ،‬بل كمل لهم سبحانه هذا النور الذى وهبهم إياه بنور الرسالة إليهم ‪ ،‬فأرسل النبياء صلوات ا عليهم مبشرين لهل‬
‫طاعته ومنذرين لهل معصيته ‪ ،‬فمدهم بالوحى وهيأهم لقبوله وتلقيه ‪ ،‬فكانت أنورا ما جاء الوحى من عند ا بالنسبة إلى نور‬
‫العقل كالشمس بالضافة إلى نور النجم ‪ ،‬فدلوا العباد على مصالح دنياهم فيما ل تستقل بإدراكه عقولهم وأرشدوهم إلى مصالح‬
‫أخراهم التى ل سبيل للعباد أن يعرفوها إل بواسطتهم ‪ ،‬وأظهر لهم سبحانه من الدلئال على صدق ما جاءوا به ما أوجب الذعان‬
‫والنقياد لصدق أخبارهم ‪ ،‬فتمت بذلك‬
‫)ص ‪(29‬‬
‫نعمة ا على عباده ‪ ،‬وظهرت كرامته وثبت حجته عليهم ‪ ،‬فانظر ما أشرف الدمى ونسله والذين ظهرت منهم هؤلء الفضلء‬
‫الذين هم قابلون لهذه الزيادات الفاضلة ‪ ،‬ثم تضافرت أنواع الشرائاع التى هى كالشمس‪ ،‬وأنوار العقول التى هى كالنجم ‪ ،‬فتمت‬
‫سعادة من سبق له من ا الحسنى وشقاوة من كذب ولم يرد إل الحياة الدنيا ‪ ،‬ثم إن ا تبارك وتعالى مان على النسان بأن خصه‬
‫برؤيا يراها فى منامه أو فى عينه كشبه المنام يمثل له فيها بأمثلة معهودة من جنس ما يعرفه وهى مبشرة أو منذرة له لما يتوقعه‬
‫بين يديه ‪ ،‬كل ذلك مواهب وكرامات من وجود ا سبحانه ‪ ،‬وجعل ا استقامته على الطاعة فى قلبه وجوارحه سببا ل لصدقها فى‬
‫غالب المرليتعظ أو يقدم على المور أو يحجم عنها‪ ،‬وهى المور التى انفرد ا بعلم العاقبة فيها وأطلع على بعض المور منها‬
‫من شاء‪.‬‬
‫باب فى حكمة الطير‬
‫اا ( ]النحل ‪ . [ 79 :‬اعلم رحمك ا ‪ :‬أن‬ ‫قال ا سبحانه وتعالى ‪) :‬أددللم ديدرلوا إهدلى الاطليهر امدساخدرا ء‬
‫ت هفي دجرَو الاسدماهء دما ايلمهساكاهان إهال ا‬
‫ا تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضى الخفة للطيران ولم يخلق فيه ما يثقله ‪ ،‬وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف‬
‫غذائاه ‪ ،‬فقسم لكل عضو من غذائاه ما هو لئاق به ‪ ،‬فخلق للطيران الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله وإعانة له فى‬
‫ارتفاعه عن الرض وقت طيرانه واسعة السفل ليثبت فى موطن على الرض وهى خف فيه أو بعض أصابع مخلوقة فى جلد‬
‫رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه ‪ ،‬وجعل جلد ساقيه غليظا ل متقنا ل جدال ليستغنى به عن الريش فى الحر والبرد‪ ،‬وكان من الحكمة‬
‫خلقه على هذه الصفة لنه فى رعيه ‪ ،‬وطلب قوته ل يستغنى عن مواضع فيها الطين والماء فول كسيت ساقاه بريش لتضرر بباله‬
‫وتلويثه فأغناه سبحانه عن الريش فى موضع ل يليق به حتى يكون مخلصا ل للطيران ‪ ،‬وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت‬
‫رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعى ل فى البرارى ول فى البحار حتى‬
‫ينكب على صدره ودائاره ملفوفا ل مريبا ل على عظم كهيئاة نصف دائارة حتى يخرق فى الهواء بغير كلفة وكذلك رءوس اجنحته‬
‫مدورة إعانة على الطيران وجعل لكل جنس من الطير منقارال يناسب رعيه ويصلح لما يتغذى به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك‬
‫‪ ،‬فمنه مخلب للتقطيع خص به الكواسر ‪ ،‬وما قوته اللحم ‪ ،‬ومنه عرض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقا ل‬
‫ص )‪(30‬‬
‫محكلما‪ ،‬و منه معتدل اللقط و آكل الخضر‪ ،‬و منه طويل المنقار للحصر و جعله صللبا شديدا شبه العظم و فيه ليونة ما هي في‬
‫العظم لكثرة الحاجة إلى استعماله و هو مقام السنان في غير الطير من الحيوان‪ ،‬و قوى سبحانه أصل الريش‪ ،‬و جعله قصلبا‬
‫منسولبا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الجنحة لجل كثرة الطيران‪ ،‬و لن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى التقان لجل‬
‫الريش‪ ،‬و جعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد و معونة متخللة الهواء للطيران و خص الجنحة بأقوى الريش و انبته و‬
‫اتقنه لكثرة دعاء الحاجة إليه‪ ،‬و جعل في سائار بدنه ريلشا غيره كسوة ووقاية و جمالل له و ثبت أصل جميعه لنه جبيرته و جمله‪،‬‬
‫و جعل في ريشه من الحكمة أن البلل ل يفسده و الدران ل توسخه‪ .‬فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى‬
‫خفته ‪ ،‬و جعل له منفلذا واحلدا للولدة و خروج فضلته لجل خفته‪ ،‬و خلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه‪ ،‬فلوله‬
‫لما مالت به الجنحة في حال الطيران يميلنا و شمالل‪ .‬فكان له بمنزلة رجل السفينة الذيِ يعدل بها سيرها و خلق في طباعه الحذر‬
‫وقاية لسلمته‪.‬‬
‫و لما كان طعامه يبتلعه بللعا بل مضغ جعل لبعضه منقالرا صللبا يقطع به اللحم و يقوم له مفام ما يقطع بالمدية‪ ،‬و صار يزدرد ما‬
‫يأكله صحيلحا و أعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحلنا يستغنى به عن المضغ و ثقل السنان‪ ،‬و اعتبر ذلك بحب العنب‬
‫و غيره فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيلحا و ينسحق في أجواف الطير‪ ،‬ثم إنه خلقه يبيض و ل يلد لئال يثقل عن الطيران‪ ،‬فإنه‬
‫لو خلقت في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها‪ .‬و تعوق عن انهوض للطيران‪ ،‬أفل ترى كيف دبر كل شئ من خلقه بما يليق به من‬
‫الحكمة‪ .‬أنظر إلى من أنزله و ألهمه الرقاد على بيضه فيحضنه مدة الحضانة‪ ،‬من ألهمه أن يلتقط الحب‪ ،‬فإذا ماع في بطنه غذى به‬
‫أفراخه و هذا نوع من الطير‪ ،‬ثم أنظر مع هذا كيف احتمل هذه المشقة ‪ ،‬و ليست له رؤية و ل فكر في عاقبه‪ ،‬ول له أمل يأمله في‬
‫أفراخه كما يأمل النسان في ولده من العز و الرغد و بقاء الذكر‪ .‬فهل هذا قطلعا إل إلهام إلهي من فعل ا سبحانه‪.‬‬
‫أنظر كيف ألهم معرفة حمل النثى منه بالبيض‪ ،‬فألهموا حينئاذ حمل الحشيش و توطئاته في موضع التحضين و الولدة لتكون‬
‫الرطوبة و التوطئاة تحفظ البيض و يكون البيض محفولظا في المهاد الذيِ يمهدونه و يستحسنونه في حال تحضينه‪.‬‬
‫انظر إلى الحمام كيف ألهم معرفة كمال الفرخ و انتهاء تحضينه للبيض حتى يكتشف عن الفرخ و يخرجه‪ ،‬و إن اتفق في البيض‬
‫فساد بسبب عرق قام و تركه ‪ ،‬ثم انظر إلهامه بما يزق به فرخه فإنه أول يزقه بالريح لتستعد حوصته لقبول ما يوضع فيها‪ .‬ثم بعد‬
‫ذلك يزقه من أول هضم‪ ،‬ثم إذا ماع الغذاء في حوصلته يزقه به حتى يدرجه يفعل مرارا حتى يولى‬
‫ص )‪(31‬‬
‫حوصلته فإنه لو أرسله إليه حلبا صحيلحا لعجز عن هضمه لضعف جسده ‪ ،‬فانظر إن كان هذا من فعل الطير و حكمته‪ ،‬ثم أنظر‬
‫عند خروج الفرخ من البيضة كيف يسنده إلى جنبه لئال يفقد الحرارة دفعة واحدة فيضر ذلك به ‪ ،‬و من الطير مما يخلق على هيئاة‬
‫أخرى لحكمة أخرى و لتعلم أن قدرة ا ل تنحصر في نوع واحد‪ ،‬بل كل حال له حكم يقوم بمصلحة ذلك الشئ‪ ،‬و ذلك أن الدجاج‬
‫ما فيهم أهلية الزق ‪ ،‬بل جعلت أفراخهم يلتقطون غذاءهم عند خروجهم من البيضة‪ ،‬ثم انظر في الحمام الذكر و النثى كيف‬
‫يتداولن على التسخين خوف أن يفسد بيضهم فيعقب هذا صاحبه كأن لهم عللما بأن عدم هذا التدبير يفسد به بيضهم‪ ،‬ثم أنظر إلى‬
‫خلق البيضة و ما فيها من الحكم ل ففيها المح الصفر الحابر و الماء البيض الرقيق فبعضه لينشأمنه جسده‪ .‬و بعضه يغتذى به‬
‫إلى أن تنشق عنه‪ ،‬و ما في ذلك من التدبير المحكم العجيب‪ ،‬و كيف جعل معه غذاءه في بيضة مغلقة تتنقى به إلى حين كماله فيها‬
‫و خروجه منها ‪ ،‬ثم انظر في حوصلة الطائار وما في حلقها من التدبير فإن مسلك طعامه إلى القانص ضيق ل ينفذ إليه إل قليل‬
‫قليل‪ ،‬فلو كان ل يلتقط حبه حتى تصل الولى إلى القانصة لطال المر عليه مع ما فيه من شدة الحذر و تنبه ما يؤذيه‪ ،‬فصار ما‬
‫يحتكره احترالسا لشدة حذره‪ ،‬فجعلت له الحوصلة كالمخلة المعلقة أمامه ليؤديِ فيها ما أدرك من الطعام بسرعة ثم ينفذ إلى‬
‫القانصة على مهل‪ ،‬و فيها حكمة أخرى‪ ،‬فإن الطير الذيِ يزق أفراخه يكون رده الطعام من قرب أسهل عليه‪ ،‬ثم تأمل ريش الطائار‬
‫فإنك تجده منسولجا نسج الثوب من سلوك رقاق‪ ،‬و فيها من اليبس ما يمسك ما حولها‪ ،‬و من اللبن ما ل ينكسر معه و هي حاوية‪ ،‬قد‬
‫ألف بعضها إلى بعض‪ ،‬كتأليف الخيط إلى الخيط و الشعر إلى الشعر‪ ،‬ثم تجده إذا فتحته أعني النسيج ينفتح قليل‪ ،‬و ل ينشق ليدخله‬
‫الريح فتثقله عن طيرانه‪ ،‬و تجد في وسط الريشة عمولدا غليلظا يابلسا مثبلتا قد نسج عليه كهيئاة الشعر ليمسكه بصلبته‪ ،‬فلو عدم‬
‫ذلك و عرضت الريشة دونه لفسخها ما يقابلها من الهواء و هي مع صلبته مجوفة ليخف عليه طيرانه‪.‬‬
‫انظر إلى الطائار الطويل الساقين و الحكمة في طولهما أنه يرعى أكثر رعية في صحصاح كأنه فوقه مراقب يتأمل ما يدب في‬
‫الماء‪ ،‬فإذا رأى شيلئاا من حاجة خطا خطلوا رفيلقا حتى يتناوله‪ ،‬فلو كان قصير الساقين لكان حين يخطو إلى الصيد يصل بطنه إلى‬
‫الماء فيهزه فيذعر منه الصيد فيبعد عنه‪.‬‬
‫انظر إلى العصافير و غيرها فإنها تطلب رزقها في طول نهارها فل هي تفقده و ل هي تجده مجمولعا محله‪ ،‬و هو أمر جار على‬
‫سنة ا في خلقه‪ ،‬فإن صلحهم في السعي في طلب الرزق‪ ،‬فإن الطير لو وجده مسيلرا أكب عليه و ل يقلع عنه حتى يمتلئ فيثقل‬
‫عن‬
‫ص )‪(32‬‬
‫الطيران و ل يستطيع رده أعني قذفه من بطنه مثل طير الماء الكبير فإنه يأكل السمك‪ ،‬فإذا امتل منه و أزعجه مزعج تقايأه حتى‬
‫ضا لو وجدوه بل سعي لتفرغوا إفرالغا يوقعهم في غاية الفساد‪.‬‬ ‫يخف للطيران‪ .‬و كذلك الناس أي ل‬
‫ل‬
‫انظر إلى هذه الصناف من الطير التي ل تخرج إل ليل مثل البوم و الهام و الخفاش فإن عيشها يتيسر في الجو‪ ،‬و كالبعوض و‬
‫الفراش و شبهه فإنها منبثة في هذا الجو‪ ،‬فجعل عيشه في موضع أقرب إليه من الرض‪ ،‬و لعل نوره ل يعينه أن يلتقط من الرض‬
‫بدليل أنه ل يظهر في نور الشمس إل مختفيا‪ ،‬فألهم أن يعيش في الجو من الفراش و غيره‪ ،‬انظر إلى الخفاش لما خلق بغير ريش‬
‫كيف خلق له ما يقوم مقامه و جعل له فم و أسنان و كل ما في البهائام الرضية من الولدة و غيرها و أقدر على الطيران‪ .‬فأظهر‬
‫سبحانه فيه أن قدرته على الطيران ل تقصر على ما خلق له الريش و ل تنحصر في نوع واحد‪ ،‬لنه خلق هذا النوع‪ ،‬و خلق من‬
‫السمك جنلسا يطير على وجه البحر مسافات طويلة‪ ،‬ثم ينزل الماء فسبحان القاضي العليم‪.‬‬
‫انظر إلى الذكر و النثى في الحمام كيف يتعاونان على الحضانة‪ ،‬فإذا احتاج أحدهما إلى قوته ناب الخر إلى آخر وقت الحضانة‪،‬‬
‫ثم ألهمهما الحرص على الحضانة فل يطيلن الغيبة على البيض إذا خرجا لنيل القوت حتى أنهما يجتمع في أجوافهما البراز‬
‫للحرص على الرقاد‪ ،‬فإذا اضطر إلى خروج البراز أخرجه دفعة واحدة‪ .‬ثم انظر إلى حرص الذكر حين تحمل النثى بالبيض و‬
‫يقرب أوان وضعها كيف يطردها و ينقرها‪ ،‬و ل يدعها تستقر خارلجا عن الوكر خشية أن تضع البيض في غير الوضع المهيأ‬
‫لوضعه‪ .‬انظر كيف يزق أفراخه و يعطف عليها ما دامت محتاجة إلى الزق حتى إذا كبرت و اشتدت و لقطت و استغنت عن‬
‫أبويها صارت إذا تعرضت له لنيل ما اعتادت ضربها و صرفها عن نفسه و اشتغل بغيرها‪ ،‬ثم انظر ما خلق ا تعالى في الكواسر‬
‫من شدة الطيران حتى ل يسبق له من يطلبه و من قوة المخلب وجدته في المنقار و الظفار‪ ،‬فكان مخلبها مدية للقطع ‪ ،‬و كان‬
‫مخلب أرجلها خطاطيف يعلق فيها اللحم حتى يصل ما يحتاجه من قوتها‪.‬‬
‫انظر إلى طير الماء لما جعل فيه قوة السباحة و الغطس ليأخذ من جوف الماء رزقه‪ ،‬فجعل سبحانه و تعالى لكل صنف من الطيور‬
‫ما يليق به في تحصيل قوته‪.‬‬
‫باب في حكمة خلق البهائام‬
‫قال ا سبحانه و تعالى ‪ }:‬دواللدخليدل دواللهبدغادل دواللدحهميدر لهدتلردكابودها دوهزيدنلة { ] النحل‪.[8:‬‬
‫اعلم وفقك ا و إيانا ‪ :‬أن ا خلق البهائام لمنافع العباد امتنانا عليهم كما نبهت على‬
‫ص )‪(33‬‬
‫ذلك هذه الية‪ ،‬فخلقها ا بلحم مثبت على عظام صلبة تمسكه و عصب شديد و عروق شداد‪ ،‬و ضم بعضها إلى بعض و لم يجعلها‬
‫لينة رخوة و ل صلبة كصلبة الحجارة‪ ،‬و جعل ذلك تجللدا اشتمل على أبدانها كلها لتضبطها و تتقنها لنها أريد منها القوة للعمل و‬
‫الحمل ثم خلقها سبحانه سميعة بصيرة ليبلغ النسان حاجته‪ ،‬لنها لو كانت عمياء صماء لم ينتفع بها النسان و ل وصل بها إلى‬
‫شئ من مآربه‪ ،‬ثم منعت العقل و الذهن حكمة من ا لتذل للنسان فل تمتنع عليه إذا أكدها عند حاجته إلى إكدادها في الطحن و‬
‫حمل الثقال عليها إلى غير ذلك‪.‬‬
‫و قد علم ا أن بالناس حاجة إلى أعمالهم و هم ل يطيقون أعمالهم و ل يقدرون عليها‪ ،‬و لو كلف العباد القيام بأعمالها لجهدهم‬
‫ذلك و استفرغ قواهم فل يبقى فيهم فضيلة لعمل شئ من الصناعات و المهن التي يخصون بعملها و خلقتهم قابلة لها و ل غنى لهم‬
‫عنها و تحصيل الفضائال من العلوم و الداب‪ ،‬و لكان ذلك مع إتعابه لبدانهم يضيق عليهم معائاشهم‪ .‬فكان قضاؤه على هذا و‬
‫تسخيرها لهم من النعم العظيمة‪ ،‬انظر في خلق أصناف من الحيوان و تهييئاها لما فيه صلح كل صنف منها‪ ،‬فبنو آدم لما قدروا أن‬
‫يكونوا ذويِ علج للصناعات و اكتساب العلوم و سائار الفضائال و ل غنى لهم عن البناء و الحياكة و النجارة و غير ذلك خلقت‬
‫لهم العقول و الذهان و الفكر‪ ،‬و خلقت لهم الكف ذوات الصابع ليتمكنوا من القبض على الشياء و محاولت الصناعات‪ .‬و‬
‫آكلت اللحم لما قدر أن يكون عيشها من الصيد و ل تصلح لغيره خلقت لها مخالب و سرعة نهضة و أنياب‪ .‬و آكلت النبات لما‬
‫قدر أن تكون غير ذات صنعة و ل صيد‪ ،‬خلقت لبعضها أظلف كفتها خشونة الرض إذا جالت في طلب المرعى و لبعضها‬
‫حوافر مستديرة ذات قعر كأخمص القدمين لتنطبق على الرض و تتهيأ للحمل و الركوب‪.‬‬
‫تأمل التدبير في خلق آكلت اللحم من الحيوان كيف خلقت ذوات أسنان حداد و أضراس شداد و أفواه واسعة و أعينت بسلح و‬
‫أدوات بذلك ما تطلبه ‪ ،‬فإن ذلك كله صالح للصيد‪ ،‬فلو كانت البهائام التي عيشها النبات ذوات مخالب و أنياب كانت قد أعطيت مال‬
‫تحتاج إليه‪ ،‬لنها ل تصطاده و ل تأكل اللحوم‪ ،‬و لو كانت السباع ذوات أظلف كانت قد منعت ما تحتاج إليه من السلح الذيِ به‬
‫يصطاد‪ .‬فانظر كيف أعطى سبحانه كل واحد من أصناف الحيوان ما يشاكله و ما فيه صلحه و حياته انظر إلى أولد ذوات‬
‫الربع كيف تجدها تتبع المهات مستقلة بنفسها ل تحتاج إلى تربية و حمل كما يحتاج الدميون‪ ،‬إذ لم يجعل في أمهاتها ما جعل في‬
‫أمهات البشر من العقل و العلم و الرفق في أحوال التربية و القوة عليها بالفكر و الكف و الصابع المهيأة لذلك و لغيره‪ ،‬فلذلك‬
‫أعطيت النهوض و الستقلل‬
‫ص )‪(34‬‬
‫بأنفسها‪ .‬و لذلك ترى فراخ بعض الطير مثل الدجاج و الدراج يدرج و يلقط عقيب خروجها من البيضة‪ ،‬و ما كان منها ضعيلفا ل‬
‫نهوض له مثل فراخ الحمام و اليمام جعل في المهات عطلفا عليها‪ ،‬فصارت تعين الطعام في حواصلها‪ ،‬ثم تمجه في أفواه فراخها‬
‫ول يزال كذلك حتى ينهض و تستقل‪ ،‬فكل أعطى من اللطف و الحكمة بقسط‪ .‬فسبحان المدبرالحكيم‪.‬‬
‫انظر إلى قوائام الحيوان كيف ينتقل أزوالجا لتتهيأ للمشي‪ ،‬فلو كانت أفرالدا لم تصلح لذلك‪ ،‬لن المائاي منها ينقل منها بعضه و يعينه‬
‫على مشيه اعتماده على ما لم ينقله منها‪ ،‬فذو القائامتين ينقل واحدة ويعتمد على الخرى وذو الربع بينقل اثنين ويعتمد على اثنتين‪،‬‬
‫وذلك من خلف لنه لو كان ينقل قائامتين من احد جانبيه‪ ،‬و يعتمد على قائامتين من الجانب الخر لم يثبت على الرض كالسرير‬
‫ولو كان يرفع يديه ويتبعها برجليه لفسد مشيه‪ ،‬فجعل ينقل اليمنى من مقدمه على اليسرى من مؤخره‪ ،‬و يعتمد الخرين من خلف‬
‫ضا فتثبت على الرض و ل تسقط إذا مشى لسرعة إلتحاقهما فيما بين المشي و العتماد‪.‬‬ ‫أي ل‬
‫أما ترى الحمار يذل للحمولة و الطحن‪ ،‬و الفرس مردلعا منها‪ ،‬و البعير ل تطيقه عدة رجال لو استعصى‪ ،‬و ينقاد لصبي صغير‪ ،‬و‬
‫الثور الشديد يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ليستحرثه‪ ،‬و الفرس تركب و يحمل عليها السيوف و السنة في الحروب‬
‫وقاية لراكبها‪ ،‬و القطيع من الغنم يرعاها صبي واحد فلو تفرقت فأخذت كل شاة منها جهة لنفورها لتعذرت رعايتها‪ ،‬و ربما‬
‫أعجزت طالبها‪ ،‬و كذلك جميع الحيوان المسخر للنسان‪ ،‬و ما ذلك إل لنها عدمت العقل و الترويِ‪ .‬فكان ذلك سبلبا لتذليلها فلم‬
‫تلتو على أحد من الناس‪ ،‬و إن أكدها في كثير من الحوال‪ .‬و كذك السباع لو كانت ذوات عقل و روية لتواردت على الناس و‬
‫أنكتهم نكاية شديدة عظيمة و لعسر زجرها و دفعها‪ ،‬ول سيما إذا اشتدت حاجتها في طلب قوتها و يشتد خللها‪ ،‬أل يرى إذا إحجمت‬
‫عن الخلق و صارت في أماكنها خائافة تهاب مساكن الناس و تحجم عنها حتى صارت ل تظهر و ل تنبعث في طلب قوتها في‬
‫غالب أحوالها إل ليل‪ ،‬فجعلها مع شدة قوتها و عظم غذائاها كالخائافة من النس ‪ ،‬بل هي ممنوعة منه ‪ ،‬و لول ذلك لساورتهم في‬
‫منازلهم و ضيقت عليهم في مساكنهم‪.‬‬
‫أل ترى الكلب و هو من بعض السباع كيف سخر في حراسة منزل صاحبه حتى صار يبذل نفسه و يترك نومه حتى ل يصل إلى‬
‫صاحبه ما يؤذيه‪ ،‬ثم إنه أعان صاحبه بقوة صوته حتى يتنبه من نومه فيدفع عن نفسه و يألفه حتى يصير معه على الجوع و‬
‫العطش و الهوان و الجفاء ‪ ،‬فطبع على هذه الخلل لمنفعة النسان في الحراسة و الصطياد‪ .‬و لما جعله الباريِ سبحانه حارسا‬
‫أمده بسلح‪ ،‬و هي النياب و الظافر و اللهث القويِ ليذعر به السارق و المريب‪ ،‬و ليجتنب المواضع التي يحميها‪.‬‬
‫ص )‪(35‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ثم انظر كيف جعل ظهر الدابة سطلحا مثبتا على قوائام أربع لتهيد الركوب و الحمولة و جعل فرجها بارزا من ورائاها ليتمكن الفحل‬
‫من ضرابها‪ ،‬إذ لو كان أسفل باطنها كالدمي لم يتمكن الفحل منها‪ ،‬أل ترى أنه ل يستطيع أن يأتها كفالحا كما يأتي الرجل المرأة‬
‫فتأمل هذه الحكمة و التدبير ‪ ،‬و لما كان فرج الفيلة تحت بطنها ‪ ،‬فإذا كان وقت الضراب ارتفع و برز للفحل حتى يتمكن من إتيانها‬
‫فلما لم يخلق في الموضع المخلةق في النعام و البهائام خلقت فيه هذه الصفة ليقوم المر الذيِ به دوام التناسل‪ ،‬و ذلك من عظيم‬
‫العبر‪ ،‬ثم انظر كيف كسيت أجساد البهائام الشعر و الوبر ليقيها ذلك الحر و الرد و غيره من الفات‪ ،‬و حملت قوائامها على‬
‫الظلف و الحوافر ليقيها ذلك من الحفاء‪ ،‬و ما كان منها بغير ذلك جعت له أخفاف تقوم مقام الحافر في غيره‪ ،‬و لما كانت البهائام‬
‫ل أذهان لها و ل أكف و ل أصابع تتهيأ للعمال ‪ ،‬كفيت مؤنة ما يضر بها بأن جعلت كسوتها في خلقتها باقية عليها ما بقيت فل‬
‫تحتاج إلى استبدال بها و ل تجديد بغيرها بخلف الدمي ‪ ،‬فإنه ذو فهم و تدبير و أعضاء مهيأة لعمال ما يقترحه و له في إشغاله‬
‫بذلك صلح و فيه حكمة‪ ،‬فإنه خلق على قابا؛ لفعل الخير و الشر و هو إلى فعل الشر أميل إلى فعل الخير ‪ ،‬فجعلت السباب التي‬
‫يحصل بها ما هو محتاج إليه ليشتغل بها عما فيه فساده و هلك دينه فإنه لو أعطي الكفاية في كل أحواله أهلكه الشر و البطر‪ ،‬و‬
‫كان من أعظم الحيوانات فسالدا في الرض و لتصرف بعقله الذيِ هو مخلوق لينال به السعادة إلى ما فيه شقاوته‪ ،‬ثم إن الدمي‬
‫مكرم ليتخير من ضروب الملبس ما شاء ‪ ،‬فيلبس منها ما شاء‪ ،‬و يخلع منها ما شاء و يتزين بها و يتجمل و يتلذذ منها بما يشاء و‬
‫يكمل بها زينته و جماله و بهائاه في عين من يصحبه و يحب قربه و يطيب بذلك رائاحته و ينعش نفسه‪ ،‬و هذا من باب النعمة عليه‬
‫و الكرامة له بخلف البهائام فإنها غنية عن هذا كله‪ ،‬انظر فيما ألهم ا البهائام و الوحوش في البراريِ‪ ،‬فإنها تواريِ أنفسها كما‬
‫يواريِ الناس موتاهم فما أحس منها بالموت توارى بنفسه إلى موضع يحتجب فيه حتى يموت و إل فأين جثث السباع و الوحوش و‬
‫غيرها‪ ،‬فإنك لو طلبت منها شيلئاا لم تجده و ليست قليلة فيخفى أمرها لقلتها بل لو قال قائال أنها أكثر من النس لم يبعد لن‬
‫الصحاريِ قد إمتلت من سباع و ضباع وبقر و حمير ووعل و إبل و خنازير و ذئااب و ضروب من الهوام و الحشرات و أصناف‬
‫من الطير و غير ذلك مما ل يحصى عدده‪ ،‬و هذه الصناف في كل يوم يخلق منها و يموت منها ول يرى لها رمم موجودة‪ ،‬و‬
‫الذيِ أجرى ا بها عادتها أن تكون في أماكنها‪ ،‬فإذا أحست بالموت أتت إلى موضعها خفية فتموت فيها‪ ،‬فانظر هذا المر الذيِ‬
‫ألهمت له هذه الصناف في دفن جثثها بما فطرت عليه و شخص لبني آدم بالفكر و الترويِ‪.‬‬
‫ص )‪(36‬‬
‫تأمل الدواب كيف خلق أعينها شاخصة أمامها لتنظر ما بين يديها فل تصدم حائالطا و ل تتردى في حفرة‪ ،‬و إذا قربت من ذلك‬
‫نفرت منه و ابعدت نفسها عنه و هي جاهلة بعاقبة ما يلحقها منه‪ ،‬أليس الذيِ جبلها على ذلك أراد صلحها و سلمتها لينتفع بها؟ ثم‬
‫أنظر إلى فمها مشولقا إلى أسفل الخطم لتتمكن من نيل العلف و الرعي‪ .‬و لو جعل كفم النسان لم تستطع أن تتناول شيئاا من‬
‫الرض و أعينت بالحجفلة لتقصم بها ما قرب منها‪ ،‬فألهمت قصم ما فيه صلحها و ترك مال غذاء لها فيه و ل صلح‪ ،‬انظر ما‬
‫كان من البهائام كيف يمز الماء في شربه ملزا‪ ،‬و كيف خلقت فيه شعرات حول فمه يدفع بها ما في شربها ما كان على وجه الماء‬
‫من القذى و الحشيش و يحركها تحريلكا يدفع بها الكدر عن الماء حتى يشرب صفوه‪ ،‬فتقوم لها هذه الشعرات مقام فم النسان‪ ،‬ثم‬
‫انظر إلى ذنب البهيمة و حكمته‪ ،‬و كيف خلق كأنه غطاء في طرفه شعر‪ ،‬فمن منافعه أنه بمنزلة الغطاء على فرجها و دبرها‬
‫ضا‪ ،‬على مؤخرها‪،‬‬ ‫ليسترها و منها أن ما بين دبرها و طرق بطنها أبلد يكون فيه وضر يجتمع بسببه الذباب و البعوض و يجتمع أي ل‬
‫فأعينت على دفع ذلك بتحريك ذنبها‪ ،‬فصار كأنه مدية في يدها تذب بها و تطرد عنها ما يضر بها‪ ،‬ثم إنها تعطف برأسها فتطرد به‬
‫ضا أعينت بحركة مختصة‪ ،‬و ذلك أن الذباب إذا وقع عيها في مواضع بعيدة من‬ ‫ضا ثم إن الدابة أي ل‬
‫ما في مقدمها من الذباب أي ل‬
‫ل‬
‫رأسها و ذنبها حركت ذلك الموضع من جلدها تحريكا تطرد به الذباب و غيره عنها‪ .‬و ذلك من عجيب الحكمة فيما ل ينتفع بيدين‪.‬‬
‫ضا بالحمل لبدنها و‬ ‫ضا أن الدابة تستريح بتحريكه يمنة و يسرة لنها لما كان قيامها على أربع اشتغلت يداها أي ل‬ ‫و من الحكمة فيه أي ل‬
‫التصرف‪ ،‬فجعل لها في تحريك ذنبها منفعة و راحة‪ ،‬و أعينت بسرعة حركته حتى ل يطول ألمها بما يعرض لها‪ ،‬و من الحكمة‬
‫فيه أن البهيمة إذا وقعت في بركة أو مهواة أو رحلت في طين أو غيره‪ .‬فل تجد شيلئاا أهون على نهوضها و خلصها منه من الرفع‬
‫بذنبها‪ ،‬و من ذلك إذا خيف على حملها أن ينقلب على رقبتها عند هبوطها من مكان مصبوب أو ليسبقها رأسها فتنكب على وجهها‪،‬‬
‫فيكون مسكها بذنبها في هذه المواضع يعد لها و يعينها على اعتدال سيرها و سلمتها مما خيف منه عليها إلى غير ذلك من مصالح‬
‫ل يعلمها إل الحكيم العليم‪.‬‬
‫انظر إلى مشفر الفيل‪ ،‬و ما فيه الحكمة و التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف و إيصاله إلى فمه‪ ،‬فلول ذلك ما استطاع أن‬
‫يتناول شيئاا في الرض إذ لم يجعل له عنق يمده كسائار النعام‪ ،‬فلما عدم العنق في هذا الخلق جعل له هذا الخرطوم يمده فيتناول به‬
‫ما يحتاجه فسبحان اللطيف الخبير‪ ،‬انظر كيف جعل هذا الخرطوم وعاء يحمل فيه الماء إلى فمه و منخلرا يتنفس منه و آله يحمل‬
‫بها ما أراد على ظهره أو يناول من هو راكب عليه‪ ،‬انظر إلى‬
‫ص )‪(37‬‬
‫خلق الزرافة لما كان منشؤها في رياض شاهقة خلق لها عنلقا طويلل لتدرك قوتها من تلك الشجار‪.‬‬
‫تأمل في خلق الثعلب فإنه إذا حفر له بيلتا في الرض جعل له فوهتين إحداهما‪ :‬ينصرف منها‪ ،‬و الخرى‪ :‬يهرب منها إن طلب و‬
‫يرفق مواضع في الرض في بيته‪ ،‬فإن طلب من المواضع المفتوحة ضرب برأسه في المواضع التي رفقها‪ ،‬فخرج من خير‬
‫المنافذ و هي المواضع التي تحتها‪ ،‬انظر ما خلق ا تبارك و تعالى في جبلته لصيانة نفسه‪ ،‬و جملة القول في الحيوان‪ :‬أن ا‬
‫تبارك و تعالى خلقه مختلف الطباع و الخلق‪ ،‬فما كان منه ينتفع الناس بأكله خلق فيه النقياد و التذليل و جعل قوته النبات‪ ،‬و ما‬
‫جعل منه للحمل جعله هادئ الطبع قليل الغضب منقالدا منفعلل على صور يتهيأ منه الحمل‪ ،‬و ما كان منه ذا غضب و شر إل أنه‬
‫قابل للتنظيم إذا نظم خلق فيه القبول للتعليم ليستعين العباد بصيده و حراسته و أعين بآلت قد تقدم ذكرها‪ ،‬و من جملة ذلك الفيل‬
‫فإنه ذو فهم مخصوص به و هو قابل للتأنس و التعلم فيستعان به في الحمل و الحروب‪ ،‬و منها ما له غضب و شر إل أنه متأنس‬
‫بالنسان لمنفعته كالهرة‪ ،‬و من الطير ما للناس به انتفاع لما فيه من اللفة و التأنس‪ ،‬فمن ذلك الحمام يألف موضعه فشغل بسببه في‬
‫الخبار بسرعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك‪ ،‬و جعله ا سبحانه و تعالى كثير النسل فيكون منه طعام ينتفع به‪ ،‬و من ذلك البازى‪،‬‬
‫فإن طباعه تنتقل إلى التأنس‪ ،‬و إن كان في طبعه مبايلنا إل أنه لما علم ا أنه ينتفع بصيده جعل في القبول للتنظيم حتى خرج عن‬
‫عادته و بقى يعمل ما يوافق أصحابه وقت الصيد‪ .‬و ما خفي من الحكم في خلق ا تعالى أكثر مما علم‪.‬‬
‫باب في حكمة خلق النحل و النمل و العنكبوت و دود القز و الذباب و غير ذلك‪:‬‬
‫ض دولد دطاهئاءر ديهطيار هبدجدنادحليهه إهلا أ ادمسم أدلمدثالااكم اما دفارلطدنا هفي اللهكدتا ه‬
‫ب همن دشليءء اثام إهدلى‬ ‫قال ا سبحانه و تعالى‪ } :‬دودما همن دداابءة هفي الدلر ه‬
‫دررَبههلم ايلحدشارودن{ ]النعام‪.[38 :‬‬
‫انظر إلى النمل و ما ألهمت له في احتشادها في جمع قوتها و تعاونهم على ذلك و إعداده لوقت عجزها عن الخروج و التصرف‬
‫بسبب حر أو برد‪ ،‬و ألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند من يعرف العواقب حتى تراها في ذلك إذا عجز بعضها عن‬
‫حمل ما حمله أو جهد به أعانه آخر فيه‪ ،‬فصارت متعاونة على النقل كما يتعاون الناس على العمل الذيِ ل يتم إل بالتعاون‪ ،‬ثم إنها‬
‫ألهمت حفر بيوت في الرض تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها و تقصد إلى الحب الذيِ منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة‬
‫الرض فمن‬
‫ص )‪(38‬‬
‫خلق هذا في جبلتها إل الرحمن الرحيم‪ ،‬ثم أصاب الحب بلل أخرجته فنشرتهه حتى يجف‪ ،‬ثم إنها ل تتخذ البيوت إل فيما عل من‬
‫الرض خولفا من السيل أن يغرقها‪.‬‬
‫ثم انظر إلى النحل و ما ألهمت إليه من العجائاب و الحكم‪ ،‬فإن الباريِ سبحانه جعل لها رئايلسا تتبعه و تهتديِ به فيما تناوله من‬
‫أقواتها‪ ،‬فإن ظهر مع الرئايس الذى تتبعه رئايس آخر من جنسه قتل أحدهما الخر‪ .‬و ذلك لمصلحة ظاهرة و هو خوف الفتراق‪،‬‬
‫لنهما إذا كانا أميرين و سلك كل واحد منهما فلجا افترق النحل خلفهما‪ ،‬ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الزهار‬
‫فيستحيل في أجوافها عسل‪ ،‬فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فيه شفاء للناس كما أخبر سبحانه و تعالى‪ ،‬و‬
‫فيه غذاء و ملذ للعباد و فيه من أقوات فضلت عظيمة جعلت لمنافع بني آدم‪ .‬فهي مثل ما يفضل من اللبن الذيِ خلق لمصالح‬
‫أولد البهائام و أقواتها و ما فضل من ذلك‪ ،‬ففيه من البركة و الكثرة ما ينتفع به الناس‪ ،‬ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في‬
‫أرجلها لتوعي فيه العسل و تحفظه‪ ،‬فل تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الجناح فانظر في هذه الذبابة‪ :‬هل في عملها و‬
‫قدرتها جمع الشمع مع العسل أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع و صيانته في الجبال‬
‫و الشجر في المواضع التي تحفظه ول يفسد فيها‪ ،‬ثم انظر لخروجها نهالرا لرعيها و رجوعها عشية إلى أماكنها‪ ،‬و قد حملت ما‬
‫يقوم بقوتها و يفضل عنها‪ ،‬و لها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائاها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل‪ ،‬و لها جهة أخرى‬
‫تجعل فيها برازها مباعلدا عن مواضع العسل‪ ،‬و فيها غير هذا مما انفرد ا بعلمه‪.‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫انظر إلى العنكبوت و ما خلق فيها من الحكمة‪ ،‬فإن ا خلق في حدها رطوبة تنسج منها بيتا لتسكنه و شركا لصدها فهو مخلوق‬
‫من جسدها‪ ،‬و جعل ا غذاءها من أقواتها ينصرف إلى تقويم جسدها‪ ،‬و إلى خلق تلك الرطوبة المذكورة فتنصبه أبدا مثل الشرك‬
‫و قي ركن الشرك بيتها و تكون سعة بيتها بحيث يغيب شخصها‪ ،‬و للشرك من خيوط رقاق تلتف على أرجل الذباب و الناموس و‬
‫ما أشبه ذلك‪ ،‬فإذا أحست أن شيلئاا من ذلك وقع في شركها خرجت إليه بسرعة و أخذته محتاطة عليه و رجعت إلى بيتها فتقتات بما‬
‫يتيسر لها من رطوبة تلك الحيوانات‪ ،‬و إن كانت مستغنية في ذلك الوقت شكلته و تركته إلى وقت حاجتها‪ .‬فانظر ما جعل ا فيها‬
‫من السباب لحصول قوتها‪ ،‬فبلغت في ذلك ما يبلغه النسان بالفكرة و الحيلة‪ ،‬كل ذلك لصلحها و لنيل قوتها و لتعلم أن ا هو‬
‫المدبر لهذا‪.‬‬
‫ثم انظر من العجائاب دود القز‪ ،‬و ما خلق فيها من الشياء التي يتحير منها و تذكر ا عند رؤيتها‪ ،‬فإن هذا الدود خلق لمجرد‬
‫مصلحة النسان و منافعه‪ ،‬فإن هذا الحيوان الذيِ‬
‫ص )‪(39‬‬
‫يخلق من جسمه الحرير و ذلك أن صورة البزر تحضن حتى إذا حمى عاد دولدا كالذر فيوضع هذا الدود على ورق التوت فيتغذى‬
‫منه‪ ،‬فل يزال يرعى منه حتى يحفر جسمه فينبعث إلى غزل نفسه جوزة الحرير‪ ،‬فل يزال كذلك حتى يفنى جسمه و تعود جودة‬
‫الحرير و يصير هو جسما ميتا ل حياة فيه‪ ،‬ثم انظر فإن الباريِ سبحانه لما أراد حفظ هذا الجنس ببقاء نسله فعندما ينتهي من غزل‬
‫الحرير و يعفى ذلك الجسم يقلبه ا إلى صورة طائار صغير قريب من صورة النحل فيجمع على بساط أو غيره و هو في رأيِ‬
‫العين جنس واحد ل يتميز منه الذكر من النثى‪ ،‬فيعلو الذكر منه على ظهر النثى و يقيم لحظة على ظهرها فتحبل لوقتها مثل ذلك‬
‫البزر الذيِ حضن أول‪ ،‬ثم يطير فيذهب فل يبقى منها انتفاع إذ قد حصل منها المقصود و هو ذلك البزر‪ .‬فانظر من ألهمها الرعي‬
‫من ذلك الورق حتى يرتب منه و من ألهمها إلى غزل أجسادها حريرا حتى تفنى فيما غزلته‪ ،‬و من ربى لها أجنحة و قلب‬
‫صورتها حتى صارت على هيئاة تمكن فيها اجتماع الذكر و النثى لتناسلها و لو بقيت على صورتها الولى لم يأت منها تناسل ول‬
‫هذا الجتماع‪ ،‬ثم انظر ما يسره الباريِ سبحانه من عمل ما غزلته هذه الدودة على من يعمله من بني آدم حتى يكون منه أموال‬
‫كثيرة و ملبس عظيمة و زينة‪ .‬و انظر هذا التسخير العجيب في هذا الحيوان اللطيف و ما اظهر فيه سبحانه من بديع الصنع و‬
‫عجيب الفعل و عظيم العتبار‪ ،‬و ما جعل فيه من البرهان و اليات على بعث الموات و إعادة العظام الرفات سبحانه ل اله ال‬
‫هو العلي العظيم‪.‬‬
‫ثم انظر الذبابة و ما أعينت به في نيل قوتها‪ ،‬فإنها خلقت بأجنحة تسرع بها إلى موضع تنال فيه قوتها و تهرب بها عما يهلكها و‬
‫يضر بها و خق لها ستة أرجل تعتمد على أربع و تفضل اثنتين‪ ،‬فإن أصابها عثار مسحته بالرجلين اللذين تليهما‪ ،‬و ذلك لرقة‬
‫أجنحتها‪ ،‬و لن عينيها م يخلق لهما الهداب‪ ،‬لنهما بارزتان عن رأسها‪ ،‬و جعل هذا الحيوان و ما جرى مجراه مما يتعلق ببني آدم‬
‫وقع عليهم دائالما و ينغص عليهم عيشهم ليعرفهم الباريِ سبحانه هوان الدنيا حتى تصغر عندهم و يهون أمر فراقها و هو وجه من‬
‫وجوه الحكمة عليهم‪.‬‬
‫تأمل كثيرا من الحيوان الصغير عندما تلمسه يعود كأنه جماد ل حراك به‪ ،‬و يبقى على ذلك ساعة‪ ،‬ثم يتحرك و يمشي‪ ،‬و هل ذلك‬
‫إل لن ما يصطاده إذا دلت هيئاته على عدم حياته‪ ،‬فإذا كان شبيها بالجماد ترك كما تترك سائار الحجارة‪ .‬تأمل العقاب عندما‬
‫يصطاد السلحفاة يجدها كأنها حجر‪ ،‬و ل يجد فيها موضعا لكله‪ ،‬فيصعد بها في مخالبه حتى إذا أبعد من الرض اعتدل بها على‬
‫جبل أو حجارة و أرسلها فتهشمها الوقعه فيسقط عليها فيأكلها‪ .‬فانظر كيف ألهم الطريق في نيل قوته من غير عقل و ل روية‪.‬‬

‫ص ‪40‬‬
‫انظر إلى الغراب لما كان مكروها ل خلق في في طبعه الحذر لصيانة نفسه حتى كأنه يعلم الغيب فيما يتقصده‪ ،‬وألهم الحتيال في‬
‫إخفاء عشه لصون فراخه وقل احتفاله بالنثى خشية أن تشغله عن شدة حذره‪ ،‬ولذلك قل أن يرى مجتمعا ل مع أنثى‪ ،‬فهذا أبدال دأبه‬
‫وحاله مع من له عقل وفطنة وتراه مع البهائام على خلف ذلك فيقف على ظهورها ويأكل من دم البعير‪ ،‬ومن أرواث الدواب وقت‬
‫تبرزها‪ ،‬وإذا وجد شيئاا ل من قوته وأكل منه وشبع دفن باقيه حتى يعاوده وقتا ل آخر‪ ،‬فما خلق هذا في طبعه ودبره بهذا التدبير‬
‫العجيب إل ا‪ ،‬لنه ل عقل له ول روية‪.‬‬
‫انظر إلى الحدأة لما كانت مكروهة حفظت نفسها بقوة طيرانها وتعاليها وحفظت في أمر قوتها بقوة بصرها‪ ،‬فإنها ترى ما تقتات به‬
‫في الرض مع علوها في الجو فتنحط نحوه بسرعة‪ ،‬وألهمت معرفة من هو مقبل‪ ،‬ومن هو مدبر فتخطف ما تخطفه من الناس من‬
‫ورائاهم‪ .‬ول تخطف مما يستقبلها لئال يمنعها المستقبل بيديه‪ ،‬وأعينت لما كان غذاؤها من هذه الوجوه بأن جعلت لها مخالب كأنها‬
‫السنانير ل يكاد يسقط منها ما ترفعه‪ ،‬فسبحان المدبر الحكيم‪.‬‬
‫ل‬
‫انظر إلى الحيوان المسمى حرباء وما فيه من التدبير‪ ،‬فإنه خلق بطيئاا في نهضته‪ ،‬وكان ل بد له من قوته‪ ،‬فخلق في صورة‬
‫عجيبة‪ ،‬فخلقت عيناه تدور لكل جهة من غير حركة في جسده ول قصد إليه ويبقى جامدال كأنه ليس من الحيوان‪ ،‬ثم أعطي مع‬
‫السكون وهو أنه يتشكل في لون الشجر التي يكون عليها حتى يكاد يختلط لونه بلونها‪ ،‬ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب أو‬
‫غيره أخرج لسانه فيخطف ذلك بسعة خفوق البرق‪ ،‬ثم يعود على حالته كأنه جزء من الشجرة‪ ،‬وجعل ا لسانه بخلف المعتاد‬
‫ليلحق به ما بعد عنه بثلثة أشبار أو نحوه‪ ،‬فقد سخر له ما يصطاد به على هذه المسافة‪ ،‬وإذا رأى ما يريعه ويخيفه شكل على هيئاة‬
‫وشكل ينفرد منه من من يصطاد من الحيوان ويكرهه‪ .‬فانظر هذه الشياء التي خلقت فيه لجل قلة نهضته فأعين بها‪.‬‬
‫انظر إلى الحيوان الذيِ يسمى سبع الذباب وما أعطي من الحيلة والرفق فيما يقتات به‪ ،‬فإنك تجده يحس بالذباب قد وقع قريبا ل منه‬
‫فيركد مليا ل حتى كأنه ميت أو جماد ل حراك به‪ ،‬فإذا أحس أن الذباب قد اطمأن دب منه دبيبا ل دقيقا ل حتى ل ينفره حتى إذا صار‬
‫قريبا ل منه بحيث يناله بوثبه وثب عليه فأخذه‪ ،‬فإذا أخذه اشتمل عليه بجسده كله خشية أن يتخلص منه الذباب فل يزال قابضا ل عليه‬
‫حتى يحس ببطلن حركته فيقبل عليه فتغذى منه بما يلئامه فانظر إلى هذه الحيلة من فعله أو هي مخلوقة من أجل رزقه فسبحانه‬
‫البارئ الحكيم‪.‬‬
‫ص ‪41‬‬
‫انظر إلى الذر والبعوض الذيِ اوهن ا قوتها وأصغر قدرتها وضرب بها المثل في كتابه‪ ،‬هل تجد فيه نقصا ل عما فيه صلحها من‬
‫جناح تطير به ورجل تعتمد عليها وبصر تقصد به موضعا ل تنال فيه قوتها وآلة لهضم غذائاها وإخراج فضلته‪ .‬وانظر هل يمكن أن‬
‫يعيش من غير قوت وهل يمكن أن يكون القوت في غير محل واحد‪ ،‬وإخراج فضلته من غير منفذ‪ ،‬ثم انظر كيف دبرها العزيز‬
‫الحكيم‪ ،‬فسواها وقدر أعضاءها واستودعها العلم والمعرفة بمنافعها ومضارها‪ ،‬وكله دليل على علمه وقدرته وحكمته البالغة‪ ،‬فهي‬
‫بعوضة صغرت في النظر‪ ،‬ومع هذا فلو أن أهل السموات والرض من الملئاكة‪ ،‬فمن دونهم من العالمين وسائار الخلق أجمعين‬
‫أرادوا أن يعرفوا كيف قسم الخالق سبحانه أجزاءها وحسن اعتدال صورتها في أعضائاها لما قدروا على ذلك إل تظاهرال لمنظر‬
‫العجز منهم على عدم علم حقيقة الخبر‪ ،‬ولو اجتمعوا ثم تفكروا كيف ركبت معرفتها حتى عرفت أن ما بين الجلد واللحم دما ل وهو‬
‫الذيِ منه غذاؤها‪ ،‬ولول معرفتها به لم تدم على مصه تطعمه وكيف همتها التي قصدت بها أن تطير إلى الموضع الذيِ ألهمها ربها‬
‫أن فيه غذاءها‪ ،‬وكيف خرق سمعها‪ ،‬وكيف سمعت حس من يقصدها وكيف عرفت أن نجاتها في الفرار إذا ولت هاربة ممن‬
‫قصدها فلن يدرك ذلك منها الخلئاق أجمعون‪ ،‬ولو جزءوها‪ ،‬ما ازدادوا في أمرها إل عمى وبعدال عن المعرفة‪ ،‬فهذه الحكمة‬
‫والقدرة في بعوضة فما ظنك بجميع مخلوقاته سبحانه وتعالى علوال كبيرال‪.‬‬
‫باب في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم‬
‫قال ا تعالى ‪ ) :‬دواهدو الاهذيِ دساخدر اللدبلحدر لهدتألاكالوا هملناه دللحلما دطهرلييا ( ) النحل ‪.( 14 :‬‬
‫انظر واعتبر بما خلق ا تعالى في البحار والنهار من الحيوان المختلف الصور والشكال‪ ،‬وما فيه من اليات البينات‪ ،‬فإنه‬
‫تعالى لما جعل مسكنه في الماء لم يخلق له قوائام ولم يخلق فيه رئاة‪ ،‬لنه ل يتمشى وهو منغمس في لجة الماء‪ ،‬وخلقت له مكان‬
‫القوائام أجنحة شداد يحركها من جانبه فيسير بها حيث شاء‪ ،‬وكسا جلده كسوة متداخلة صلبة تخالف لحمه متراصة كأنها درع لتتقيه‬
‫ما يعتديِ عليه وما يؤذيه‪ ،‬وما لم يخلق له من السمك تلك الكسوة وهي القشر المتداخل المخلوق على ظاهره‪ ،‬خلق له جلدال غليظا ل‬
‫متقنا ل له مقام تلك الكسوة لغيره‪ ،‬وخلق له بصرال وسمعا ل وشما ل ليستعين بذلك على نيل قوته والهرب مما يؤذيه‪.‬‬
‫وانظر كيف أعطي في قعر البحر ما يناسبه في نيل القوت والهرب مما يضره‪ ،‬ولما علم ا سبحانه أن بعضه غذاء لبعض كثره‬
‫وجعل أكثر أصنافه يحمل ولم يجعل الحمل منه‬
‫ص ‪42‬‬
‫مخصوصا ل بالنثى دون الذكر كحيوان البر‪ ،‬بل جعل الذكر والنثى جنسا ل واحدال يخلق في بطونها مرة واحدة في وقت معلوم‬
‫ذريعة مجتمعة مشتملة على عدد ل ينحصر‪ ،‬فيخلق من جوف واحد عددال ل يحصى‪ ،‬وذلك من كل برزة حوتا ل من الجنس ومن‬
‫جنس آخر يخلق في النهار وغيرها بغير توالد فيخلق منها أعدادال ل تنحصر دفعة واحدة‪ ،‬ومنه صنف يتوالد بالذكر والنثى‪،‬‬
‫وهذا الجنس يخلق له يدان ورجلن مثل السلحفاة والتمساح وماشاكلهما فيتولد منها بيض‪ ،‬فإذا فقس البيض بحرارة الشمس خرج‬
‫من كل بيضة واحد من الجنس‪ ،‬ولما علم ا سبحانه وتعالى أن السمك في البحر ل يمكن أن يحضن ما يخرج من بزره ألقى‬
‫الروح في بزر جميعه عندما يولد فيجد فيه جميع ما يحتاج من العضاء عند إلقاء الروح فيه فيستقل ول يفتقر إلى أحد في كمال‬
‫خلقه‪ ،‬فانظر إلى هذه الحكمة واللطف حيث لك يمكن حضانته في البحر ول تربيته ول معونته البتة جعله مستقلل بنفسه مستغنيا ل‬
‫عن ذلك كله‪ ،‬ثم إن ا سبحانه كثره‪ ،‬لن منه قوت جنسه وقوتا ل لبني آدم والطير فلذلك كان كثيرلا‪ ،‬ثم انظر إلى سرعة حركته وإن‬
‫لم تكن له آلة كغيره من الحيوان وانظر إلى حركة ذنبه وانقسامه‪ ،‬وكيف يعتدل بذلك في سيره كما تعتدل السفينة برجلها في‬
‫سيرها‪ ،‬وخلقت أرياشه ألواحا ل من جانبيه ليعتدل بهما أيضا ل في سيره فهو بمنزلة المركب‪ ،‬وانظر إلى عظامه كيف خلقت مثل‬
‫العمد يبنى عليها‪ ،‬ففي كل موضع منه ما يليق به من صوة العظم المشاكل لذلك العضو‪ ،‬فهو كإنشاء المركب يمتد العظم الجافي‬
‫الذيِ هو قوته ويخرج من أضلع إلى مراقي البطن والظهر وعظام الرأس يحتاج إليه من المر وبه قوامه‪ .‬وانظر إلى ما كان منه‬
‫كاسرال كيف أعين على نيل قوته لصلبة اللحم وقوة النهضة وكثرة السنان حتى أنه لكثر أسنانه تكون العضة الواحدة تجزيه عن‬
‫المضغ‪.‬‬
‫انظر إلى ما خلق ا في البحر ضعيفا ل قليل الحركة مثل أصناف الصدف والحلزون كيف حفظ بأن خلق عليه ذلك الحصن الذيِ‬
‫هو صلب كالرخام ليصونه ويحفظه‪ ،‬وجعل له بيتا ل وسكنلا‪ ،‬وجعل ما يولى جسده ناعما ل أنعم ما يكون‪ ،‬وربما ضر ببيت بعض‬
‫أصناف الحلزون حتى ل يكون فيه مطمع البتة‪ ،‬وأصناف منه خلقت في محائاز مفتوحة ل يمكن صيانتها لنفسها لتغلقها ول يضيق‬
‫مسلكها‪ ،‬فجعل ا لها من الجبال والحجارة مغطى‪ ،‬وجعل لها أسبابا ل تلتصق بها في الجبل فل يستطاع إخراجها إل بغاية الجهد‬
‫وجعل لها قوتا ل من رطوبة الجبل تتأتى حياتها بذلك‪.‬‬
‫وأما الحلزون الذيِ بيته كأنه كوكب فإنه يخرج رأسه يرعى‪ ،‬فإذا أحس بما يؤذيه أدخل رأسه في بيته وختم عليه بطابع صلب‬
‫يقرب من صلبة بيته فيغيب أثره بالجملة فانظر هذا اللطف وأن ا لم يهمل شيئاا ل‪ .‬واعلم أن ا حافظ لما في البحار وما في الكام‬
‫والجبال‪ .‬فتبارك الذيِ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‪.‬‬
‫ص ‪43‬‬
‫وانظر إلى أنواع من السمك يرعى قرب البر الصغير منها والجا ل في العماق‪ ،‬وخلق ا في جوفه صبغا ل كأنه حبر وهو يخلق له‬
‫فيه من فضلة غذائاه كما يخلق اللبن في الضرع‪ ،‬فإذا أحس ما يؤذيه أخرج من جوفه ما يعكر موضعه‪ ،‬ثم يذهب في الماء الذيِ‬
‫تغير فل يعرف كيف ذهب ول كيف طريقه من تغيير الماء فعل ا ذلك له وقاية لنفسه وفعل فيه مصالح أخرى ل يعلمها إل‬
‫خالقها‪ .‬انظر إلى نوع آخر من السمك أعين بأجنحة مثل أجنحة الخفاش ينتقل بها من موضع إلى موضع في الهواء من وجه الماء‬
‫يظهر لمن ل يعرف ذلك أنه من طيور البر‪ .‬انظر إلى نوع آخر من أنواع السماك ضعيف وكثيرال ما يكون في النهار‪ ،‬وجعل ا‬
‫فيه خاصية تصونه إذا اقتربت منه يد من يأخذه وفيه الروح تخدر البدن واليد فيعجز قاصده عن أخذه بذلك السبب‪ ،‬فلو ملئات الكتب‬
‫بعجائاب حكم ا في خلق واحد لمتلت الكتب وعجز البشر عن استكمالها وما هو المذكور في كل نوع تنبيه يشير إلى أمر عظيم‪.‬‬
‫باب في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائاب حكمة ا تعالى‬
‫ت دبلهدجءة دما دكادن دلاكلم أدلن اتلنهباتوا دشدجدردها‬
‫ض دوأدلنـدزدل دلاكلم همدن الاسدماهء دمالء دفأ دلندبلتدنا هبهه دحدداهئادق دذا د‬‫ت دوالدلر د‬
‫قال ا تعالى ‪ ) :‬أداملن دخدلدق الاسدمادوا ه‬
‫أدإهلدسه دمدع ا‬
‫اه دبلل اهلم دقلوسم ديلعهدالودن ( ) النمل ‪.( 60 :‬‬

‫انظر وفقك ا وسددك إلى ما على وجه الرض من النبات وما في نظره من النعم من حسن منظره وبهجته ونضارته التي ل يعد‬
‫لها شيء من مناظر الرض‪ ،‬ثم انظر إلى جعل البارئ فيه من ضروب المنافع والمطاعم والروائاح والمآرب التي ل تحصى‪،‬‬
‫وخلق فيه الحب والنوى مخلوقا ل لحفظ أنواع النبات‪ ،‬وجعل الثمار للغذاء والتفكه والتيان منها للعلف والرعي‪ ،‬والحطب للوقود‪،‬‬
‫والخشاب للعمارة وإنشاء السفن ولغير ذلك من العمال التي يطول تعدادها‪ ،‬والورق والزهار والصول والعروق والفروع‬
‫والصموغ لضروب من المصالح ل تحصى‪ .‬أرأيت لو وجدت الثمار مجموعة من الرض ولم يكن تنبت على هذا السوق الحاملة‬
‫لها ما كان يحصل من الخلل في عدم الخشاب والحطب و التيان بالعلف وسائار المنافع‪ ،‬وإن وجد الغذاء بالثمرات والتفكه بها‪ .‬ثم‬
‫انظر ما جعل ا فيها من البركات حتى صارت الحبة الواحدة تخلف مائاة حبة وأكثر من ذلك وأقل‪ ،‬والحكمة في زيادتها وبركاتها‬
‫حصول القتيات وما فضل ادخر للمور المهمة والزراعات‪ ،‬وذلك في المثال كملك أراد عمارة بلدة فأعطى أهله من البذر ما‬
‫يبذرونه وفضلة يتقوتون بها إلى إدراك زرعهم‪ ،‬فهذه من الحكمة التي أعم ا بها البلد وأصلح بها العباد‪ ،‬وكذلك الشجر‬
‫ص ‪44‬‬
‫والنخل يزكو وتتضاعف ثمراتها حتى تكون الحبة الواحدة الشيء العظيم ليكون فيه ما يأكله العباد ويصرفونه في مآربهم ويفضل‬
‫ما يدخر ويغرس فيدوم جنسه ويؤمن انقطاعه‪ ،‬لول نموه وبقاء ما يخلفه لكان ما أصابته جائاحة ينقطع فل يوجد ما يخلف‪.‬‬
‫تأمل في هذه الحبوب فإنها تخرج في أوعية تشبه الخرائاط لتصونها إلى أن تشتد وتستحكم كنا تغلق البشيمة على الجنين‪ ،‬فأما‬
‫البزر وما أشبه من الحبوب‪ ،‬فإنه يخرج من قشور صلبة على رءوسها أمثال السنة ليمنع الطير‪ .‬فانظر كيف حصنت الحبوب‬
‫بهذه الحصون وحجبت لئال يتمكن الطير منها فيصيب بها‪ ،‬وإن كان يناله منها قوته إل أن حاجة الدمي أشد واولى‪ .‬تأمل الحكمة‬
‫في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائام كحاجة الحيوانات ولم يخلق فيها حركات تتبعث بعها ول‬
‫آلت توصل إليها غذاءها جعلت أصولها مركوزة في الرض لتجذب الماء من الرض‪ ،‬فتتغذى بها أصولها وما عل منها من‬
‫الغصان و الوراق والثمار‪ ،‬فصارت الرض كالم المربية لها‪ ،‬وصارت أصولها وعروقها كالفواه الملتقمة لها‪ ،‬وكأنها ترضع‬
‫لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان أمهاتها‪ .‬ألم ترى إلى عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالطناب من كل جانب ليثبت‬
‫منصته فل يسقط ول يميل‪ ،‬فهكذا أمر النبات كله له عروق منتشرة في الرض ممتدة إلى كل جانب وتمسكه وتقيمه‪ ،‬ولول ذلك لم‬
‫تثبت الشجار العالية‪ ،‬ل سيما في الرياح العاصفة‪ .‬فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة واقتدى الناس في اعمالهم‬
‫بحكمة ا في مصنوعاته‪ ،‬وتأمل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة‪ ،‬فمنها غلظ ممتدة في طولها وعرضها‪،‬‬
‫منها دقائاق تتخلل تلك الغلظ منسوجة نسجا ل دقيقا ل عجيبلا‪ ،‬لو كان مما يصنع بأيديِ البشر لما فرغ من ورقة شجرة واحدة إل في‬
‫مدة طويلة‪ ،‬وكان يحتاج إلى آلت وطول علج‪ .‬فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة ما يمل السهل والجبال وبقاع الرض‬
‫بغير اللة ول حركة إل قدرة البارئ وإرادته وحكمه‪ ،‬ثم انظر تلك العروق كيف تتخلل الورق بأسره لتسقيه وتوصل إليه المادة‬
‫وهي بمنزلة العروق المبثوثة في بدن النسان لتوصيل الغذاء إلى كل عضو منه‪ ،‬وأما ما غلظ من العروق فإنها تمسك الورق‬
‫بصلبتها وقوتها لئال ينتهك ويتمزق‪.‬‬
‫ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه‪ ،‬فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامه إذا عدم ما يغرس أو عاقه سبب‪ ،‬فصار ذلك كالشيء‬
‫النفيس الذيِ يخزن في مواضع شتى لعظم الحاجة إليه‪ ،‬فإن حدث على الذيِ في بعض المواضع من حادث وجد منه في موضع‬
‫آخر‪ ،‬ثم في صلبته يمسك رخاوة الثمار ورقتها‪ ،‬ولوله لسرحت وسرح الفساد إليها قبل إدراكها‪ ،‬وفي بعضها حب يؤكل وينتفع‬
‫بدهنه ويستعمل في مصالح‪ .‬ثم انظر إلى خلق ا‬
‫ص ‪45‬‬
‫تعالى فوق النواة من الرطب وفوق العجم من العنبة والهيئاة التي تخرج عليها‪ ،‬وما في ذلك من الطعم واللذة والستمتاع للعباد‪ ،‬ثم‬
‫تأمل خلق الحب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائاب‪ ،‬كالمودع في الماء الذيِ يخلق منه الحيوان وهو سر ل يعلم حقيقته إل ا‬
‫سبحانه وما علم من ذلك يطول شرحه‪.‬‬
‫ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلبة وخلقت في ظاهره قشرة حتى أنه بسبب ذلك إن سقط في تراب أو غيره ل يفسد سريعا ل ‪،‬‬
‫وإذا ادخر لوقت الزراعة بقى محفوظلا‪ ،‬فصار قشره الخارج حافظا ل لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظه‪،‬‬
‫عندما يوضع في الرض ويسقى يخرج منه عرق في النوى وغصن في الهواء‪ ،‬وكما ازداد غصنا ل ازداد عرقا ل تتقوى به أصل‬
‫الشجرة وينصرف الغذاء منه إلى الغصن فهي كذلك إذ يتم غصنها قوتها فتكون الفروع محفوظة عن السقوط بالهواء والنكسار‬
‫بالنقل أو بغيره ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة فيقسمه ا سبحانه بالقسط وميزان الحق‪ ،‬فينصرف للورق غذاء‬
‫صالح له وللعروق المشتبكة في الوراق لتصال الغذاء إلى جوانب الورق ما يليق لغذائاها‪ ،‬وللثمار غذاء صالح لها‪ ،‬وللقماع‬
‫واللحا والزهار غذاء صالح لكل من ذلك ما يليق به ويصلحه‪ ،‬فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها وطعمها ورائاحتها وألوانها‬
‫المختلفة وحلوتها وطيبها‪ ،‬ثم انظر كيف جعل ا سبحانه خروج الوراق سابقا ل لخروج الثمار لن الثمرة ضعيفة عند خروجها‬
‫تتضرر بحر الشمس وبرد الهواء‪ ،‬فكانت الوراق ساترة لها‪ ،‬وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من الشمس والهواء ل غنى‬
‫للثمرة عنها فيحفظها ذلك من المن والعفن وغير ذلك من الفساد‪.‬‬
‫ثم انظر كيف رتب البارئ سبحانه الشجار والثمار والزهار‪ ،‬وجعلها مختلفة اللوان والشكال والطعوم والروائاح‪ .‬فأشكالها ما‬
‫بين طويل وقصير وجليل وحقير‪ .‬وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر‪ ،‬ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف‬
‫ومتوسط‪ ،‬وطعومها ما بين حلو وحامض ومز وتفه ومر‪ ،‬وروائاحها إلى عطرات لذيذات مختلفات‪ ،‬وقد أوضح الكتاب العزيز من‬
‫ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور برؤيتها وتنتعش النفوس لرونق بهجتها‪ ،‬وأودع ا سبحانه فيها منافع ل تحصى مختلفة التأثير‪.‬‬
‫فمنها ما تقوى به القلوب‪ ،‬ومنها أغذية تحفظ الحياة‪ ،‬وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولها‪ ،‬وخلق فيها بروزال لحفظ نوعها تزرع عند‬
‫ت هبالمدلههن دو ه‬
‫صلبءغ هللهكهليدن‬ ‫جفافها وانفصال وقت نضارتها‪ .‬انظر وتأمل ما في قوله عز وجل ‪ ) :‬دودشدجدرلة دتلخاراج هملن ا‬
‫طوهر دسليدنادء دتلناب ا‬
‫( ) المؤمنون ‪ .( 20 :‬فأخرج سبحانه فيما‬
‫ص ‪46‬‬
‫بين الحجرو الماء زيتا ل صافيا ل لذيذال نافعا ل كما اخرج اللبن من بين رفث ودم‪ ،‬ومن أخرج من النخل شرابا ل عسلل مختلفا ل ألوانه فيه‬
‫شفاء للناس‪ ،‬ولو جمعت هذه الشياء في مستقر لكانت مثل النهار وكل ذلك لمنافع العباد‪ .‬فانظر ما فيه من العبرة لذويِ الفكار‪،‬‬
‫ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للعلى من الشجرة‪ ،‬وكيف قسم البارئ في غذاء النخلة‪ ،‬فقسم للجذر ما‬
‫يصلح لها وللجريد‪ ،‬وما فيه من السل ما يصلح لها ويناسب جريدها ويرسل للثمرة ما يليق بها‪ ،‬وكذلك الليف الحافظ للصول مع‬
‫الثمرة وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها فوق بعض مجموعة من غلف متقن يحفظها مما‬
‫يفسدها ويغيرها حتى إذا قويت صلحت أن تبرز للشمس والهواء‪ ،‬فشق عنها غلفها بالتدريج‪ ،‬وهو الذيِ كان حافظا ل لها‪ ،‬فيصير‬
‫يفترق شيئاا ل بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكتمل قوتها‪ ،‬فتظهر جميعها حتى ما يضر بها ما يلقاها‬
‫من حر وبرد‪ ،‬ثم تراها في النضج والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها فيلتذ حينئاءذ بأكلها ويمكن النتفاع بادخارها وتصف في‬
‫المآرب التي هيئات لها‪ ،‬واعتبر ذلك في جميع الشجار‪ ،‬فإنك ترى من أسباب الحفظ ولطائاف الصنع ما يتعبر به كل ذيِ فهم ولب‪،‬‬
‫فمن ذلك خلق الرمانة وما فيها من غرائاب التدبير‪ ،‬فإنك ترى فيها شحما ل مركوما ل في نواصيها غليظ السفل رقيق العلى كأمثال‬
‫التلل في تلوينه أو البناء الذيِ وسع أسفله للستقرار ورقق أعله حتى صار مرصوفا ل رصفا ل كأنه منضد باليديِ‪ ،‬بل تعجز‬
‫اليديِ عن ذلك التداخل الذيِ نظم حبها في الشحم المذكور‪ ،‬وتراه مقسوما ل أقساملا‪ ،‬وكل قسم منه مقسوم مقسوم بلفائاف رقيقة‬
‫منسوجة أعجب نسج وألطفه لتحجب حبها حتى ل يلتقي بعضه ببعض فيفسد ول يلحق البلوغ والنهاية‪ ،‬وعليها قشر غليظ يجمع‬
‫ذلك كله‪ ،‬ومن حكمة هذه الصنعة أن حبها لو كان حشوها منه صرفا ل بغير حواجز لم يمد بعضه بعضا ل في الغذاء‪ ،‬فجعل ذلك‬
‫الشحم خلله ليمده بالغذاء‪ ،‬أل ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ممدودة منه بعروق رقاق توصل إلى الحب‬
‫غذاءها‪ ،‬وإلى حبة حبة غذاءها ومن رقها وضعفها ل تكدر على القل ول تعرف بها‪ ،‬ثم انظر ما يصير من الحلوة في الحب من‬
‫أصول مرة شديدة المرارة قابضة‪ ،‬ثم تلك اللفائاف على الحب تمسكه على الضطراب وتحفظه‪ ،‬ثم حفظ الجميع وغشاه بقشر‬
‫صلب شديد القبض والمرارة وقاية له من الفات‪ ،‬فإن هذا النوع من النبات للعباد به انتفاعات وهو ما بين غذاء ودواء وتدعو‬
‫الحاجة إليه في غير زمانه الذيِ يجني فيه من شجرة فحفظ على هذه الصفة لذلك‪.‬‬
‫انظر إلى عود الرمانة الذيِ يِ متعلقة به كيف خلق مثبتا ل متقنا ل حتى تستكمل خلقها فل تسقط قبل بلوغها الغاية المحتاج إليها وهي‬
‫من الثمرة المختصة بالنسان دون غيره من‬
‫ص ‪47‬‬
‫الحيوان‪ .‬انظر إلى النبات الممتد على وجه الرض مثل البطيخ واليقطين وما أشبه ذلك وما فيه من التدبير‪ ،‬فإنه لما كان عود هذا‬
‫النبات رقيقا ل ريانا ل ذا احتياج إلى الماء ل ينبت إل به جعل ما ينبت به منبسطا ل على وجه الرض‪ ،‬فلو كان منتصبا ل قائاما ل كغيره من‬
‫الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينها‪ ،‬فكانت تسقط قبل بلوغها بلوغ غاياتها‪ ،‬فهي تمتد على وجه الرض‬
‫لبلوغ الغاية وتحمل الرض عودها وأصل الشجرة والسقي بمدها‪ .‬وانظر هذه الصناف كيف ل تخلق إل في الزمن الصالح لها‬
‫ولمن تناولها‪ ،‬فهي له معونة عند الحاجة إليها ولو أتت في زمان البرد لنفرت النفوس عنها ولضرت بأكثر من يأكلها‪.‬‬
‫ثم انظر إلى النخل لما كانت النثى منه تحتاج إلى التلقيح خلق فيها الذكر الذيِ تحتاج إليه لذلك حتى صار الذكر في النخل كأنه‬
‫الذكر في الحيوان‪ ،‬وذلك ليتم خلق بزراعته تحفظ أصول هذا النوع‪ .‬ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة‪ ،‬فواحد يفور‬
‫في البدن فيستخرج الفضلت الغليظة‪ ،‬وأخر لشد البطن في الطبيعة‪ ،‬وآخر للسهال‪ ،‬وآخر للقئ‪ ،‬وآخر لروائاحه‪ ،‬وآخر للمرضى‬
‫والضعفاء‪ ،‬وكل ذلك من الماء‪ ،‬فسبحان من دبر ملكه بأحسن التدبير‪.‬‬
‫باب ما تستشعر به القلوب من العظمة لعلم الغيوب‬
‫ض دودملن هفيههان دوإهلن هملن دشليءء هإل ايدسرَباح هبدحلمهدهه دودلهكلن ل دتلفدقاهودن دتلسهبيدحاهلم إهاناه دكادن‬ ‫ت الاسلباع دوالدلر ا‬ ‫قال ا العظيم ‪ ) :‬اتدسرَباح دلاه الاسدمادوا ا‬
‫دحهليلما دغافولرا ( ) السراء ‪( 44 :‬‬
‫ض ( ) الشورى ‪( 5 :‬‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ن‬‫ل‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫رو‬‫ا‬ ‫ف‬ ‫ل‬
‫غ‬ ‫د‬
‫ت‬ ‫ل‬
‫س‬ ‫ي‬
‫د ه د ه د هل د د ه د هد ه‬‫و‬ ‫م‬‫ه‬ ‫ب‬
‫رَ‬ ‫ر‬ ‫د‬‫م‬‫ل‬ ‫ح‬‫ب‬ ‫ن‬ ‫حو‬ ‫ا‬ ‫ب‬
‫رَ‬ ‫س‬
‫د‬ ‫ي‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ة‬ ‫د‬
‫ك‬ ‫ئا‬ ‫مل‬ ‫ل‬
‫ل‬
‫هه ا د د ه‬‫وا‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ق‬ ‫و‬‫ل‬ ‫د‬
‫ف‬ ‫ل‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬‫ر‬ ‫ا‬
‫ت ديدتدف د ه‬
‫ل‬ ‫ط‬ ‫وقال تعالى ‪ ) :‬دتدكااد الاسدمادوا ا‬
‫خيفهتهه ( ) الرعد ‪.( 13 :‬‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫وقال تعالى ‪ ) :‬دوايدسرَباح الارلعاد هبدحلمهدهه دوالدملهئاكة هملن ه‬
‫اعلم وفقنا ا وإياك أن جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب من بدائاع الخلق وعجائاب الصنع وما ظهر في مخلوقاته من الحكم آيات‬
‫بينات‪ ،‬وبراهين واضحة‪ ،‬ودلئال دالت على جلل بارئاها وقدرته ونفوذ مشيئاته وظهور عظمته‪ ،‬فإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى‬
‫إليك وهي نفسك رأيت فيها من العجائاب واليات ما سبق التنبيه عليه وأعظم منع‪ ،‬ثم إنك إذا نظرت إلى مستقرك وهي الرض‬
‫وأجلت فكرك فيها وأطلت النظر في استرسال ذهنك فيما جعل فيها وعليها من جبال شامخات‪ ،‬وما أحيط بها من بحار زاخرات‪،‬‬
‫وما جرى فيها من النهار‪ ،‬وما انبث فيها من أصناف النباتات والشجار‪ ،‬وما بث فيها من‬
‫ص ‪48‬‬
‫الدواب إلى غير ذلك مما يعتبر به أولو اللباب‪ ،‬ثم إذا نظرت إلى سعتها وبعد أكنافها‪ ،‬وعلمت عجز الخلئاق عن الحاطة بجميع‬
‫جهاتها وأطرافها‪ ،‬ثم إذا نظرت فيما ذكرته العلماء عن نسبة هذا الحق العظيم إلى السماء وأن الرض وما فيها بالنسبة إلى السماء‬
‫كحلقة ملقاة في أرض فلة وما ذكره النظار من أن الشمس في قدرها تزيد على قدر الرض مائاة ونيفا ل وستين جزءلا‪ ،‬وأن من‬
‫الكواكب ما يزيد عن الرض مائاة مرة‪ ،‬ثم إنك ترى هذه النيرات كلها من شمس وقمر ونجوم قد حوتها السموات وهي مركوزة‬
‫فيها‪ ،‬ففكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم كيف يكون قدرها‪ ،‬ثم انظر كيف ترى الشمس والقمر والنجوم والسماء الجامعة‬
‫لذلك في حدقة عينك مع صغرها‪ ،‬وبهذا تعرف بعد هذا كله منك وعظم ارتقائاه‪ ،‬ولجل البعد ترى هذه النيرات صغيرة في رأيِ‬
‫العين‪ ،‬ثم انظر إلى عظم حركتها وأنت ل تحس بها ول تدركها لبعدها‪ ،‬ثم إنك ل تشك أن الفلك يسير في لحظة قدر الرض مائاة‬
‫مرة وأكثر من ذلك وأنت غافل عن ذلك‪ ،‬ثم فكر في عظم قدر هذه الشياء‪ ،‬واسمع قسم الرب سبحانه بها في مواضع من الكتاب‬
‫ك دما الاطاهراق )‪ (2‬الانلجام‬ ‫ت اللاباروهج ( ) البروج ‪ ) ( 1 :‬دوالاسدماهء دوالاطاهرهق )‪ (1‬دودما أدلددرا د‬ ‫العزيز فقال عز وجل ‪ ) :‬دوالاسدماهء دذا ه‬
‫ب ( ) الطارق ‪( 3 - 1‬‬ ‫الاثاهق ا‬
‫وقال ‪ ) :‬دفل أ القهسام هبدمدواهقهع المناجوهم )‪ (75‬دوإهاناه دلدقدسسم دللو دتلعدلامودن دعهظيسم ( ) الواقعة ‪( 76 ، 75 :‬‬
‫إلى غير ذلك من اليِ‪ ،‬ثم ترق بنظرك إلى ما حواه العالم العلويِ من الملئاكة وما فيها من الخلق العظيم‪ ،‬وما اخبر به جبريل عليه‬
‫السلم النبي صلى ا عليه وسلم عن إسرافيل عليه السلم‪ ،‬يقول جبريل ‪ :‬فكيف لو رأيِ إسرافيل‪ ،‬وإن العرش لعلى كاهله‪ ،‬وإن‬
‫ض ( ) البقرة ‪ .( 255 :‬فما‬ ‫ت دوالدلر د‬ ‫رجليه لفي تخوم الرض السفلى‪ ،‬وأعظم من هذا كله قوله عز وجل ‪ ) :‬دوهسدع اكلرهسمياه الاسدمادوا ه‬
‫ظنك بمخلوق وسع هذا المر العظيم‪ ،‬فارفع نظرك إلى البارئ العظيم واستدل بهذا الخلق العظيم على قدر هذا الخالق العظيم‪،‬‬
‫وعلى جلله وقدرته وعلمه‪ ،‬ونفوذ مشيئاته وإتقان حكمته في بريته‪ ،‬وانظر كيف جميع هذا الصنع العظيم ممسوك بغير عمد تقله‪،‬‬
‫ول علئاق من فوقعه ترفعه وتثبته‪ ،‬فمن نظر في ملكوت السموات والرض ونظر ذلك بعقله ولبه‪ ،‬استفاد بذلك المعرفة بربه‬
‫والتعظيم لمره‪ ،‬وليس للمتفكرين إلى غير ذلك سبيل‪ ،‬وكلما ردد العقل الموفق النظر والتفكر في عجائاب الصنع وبدائاع الخلق‬
‫ازداد معرفة ويقينا ل وإذعانا ل لبارئاه وتعظيملا‪ ،‬ثم الخلق في ذلك متفاوتون‪ ،‬فكل مثال من ذلك على حسب ما وهبه له من نور العقل‬
‫ونور الهداية‪ .‬وأعظم شيء موصل إلى هذه الفوائاد المشار إليها تلوة الكتاب العزيز‪ ،‬وتفهم ما ورد فيه وتدبر آياته مع ملزمة‬
‫تقوى ا سبحانه‪.‬‬
‫ص ‪49‬‬
‫فهذا هو باب المرعفة بال واليقين بما عند ا‪ ،‬ثم انظر وتأمل ما نشير إليه‪ ،‬فإنك علمت على الجملة أن رسول ا صلى ا عليه‬
‫وسلم أسرى به إلى أن بلغ المنتهى ورأى من آيات ربه الكبرى‪ .‬واطلع على ملكوت ربه وتحقق أمر الخرة والولي‪ .‬ودنا من ربه‬
‫ب هزلدهني هعلللما ( ) طه ‪.( 114 :‬‬‫حتى كان كقاب قوسين أو أدنى‪ .‬فما ظنك بعلم من شرف بهذا المعنى ثم أمر بأن يقول ‪ ) :‬دوقالل در رَ‬
‫علمك بمعرفته ومن عليك بنور هدايته واستعملنا وإياك بطاعته‪ .‬وجعلنا بكرمه أجمعين من أهل وليته بمنه وكرمه وجوده إنه‬
‫ولي ذلك‪.‬‬
‫صفحة ‪50‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫معراج السالكين‬
‫فاتحة معراج السالكين‬
‫اللهم إنا نحمدك و نشرك معتقدين فيك أنك ل ترتاح إلى الشكر ارتياح ذويِ الحاجات لكن النفوس المؤيدة تأبى إل الشكر لمنعمها‪.‬‬
‫سبحانك أيها الرب الرحيم علمت مع نفوذ علمك و أمهلت مع شدة بطشك و لم تمنع الرزق من جاهر بعصيانك‪ .‬تعاليت أنت‬
‫القريب الظاهر الول الخر ل تستفزك سطوة العبيد و أنت أقرب إليهم من حبل الوريد‪.‬‬
‫و نسألك اللهم صلة زاكية مباركة على نبي الرحمة و منقذ هذه المة محمد عبدك الدال عليك و الهاديِ إليك‪.‬‬
‫إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين و تحريت رشدكم فهل علي إل البلغ المبين و ما تغني النصيحة‪ .‬و قد عم الداء و‬
‫مرض الطباء و استشفي بغير الشفاء و اعتيض من البصر بالعمى‪ .‬و خبثت القلوب و رين عليها‪ .‬و عطلت البصائار و نسب‬
‫التقصير إليها‪ .‬و اتخذت آيات ا هزلوا و لعلبا‪ .‬و صيرت أغراض الخرة إلى العاجلة سبلبا فل موقظ من غفلة و ل زاجر عن زلة‪:‬‬
‫غرقى فل داع لنهج أقوام‬ ‫دمرضى عن الخيرات في بحر الردى‬
‫صرفت وجوههم لوجه الدرهم‬ ‫شغفوا بكل رذيلة مذمومة‬
‫ناموا عن المقصود لم يستيقظوا ستكون يقظتهم لخطب أعظم‬
‫فنعوذ بال أن نكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك‪ ،‬و قال هلك الناس و هو في جملتهم هالك‪.‬‬
‫اعلم أيها الخ أن الباعث على إسعافك في مطلوبك غرضان مهمان‪ .‬و لما اقتصرت في طلبك على موافقتهما و دارت رغبتك‬
‫على تحصيل حقيقة مقصودهما‪ .‬و اقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم اللهية و زعمت أن مقصودك طلب الخلص من‬
‫شر العتقادات الفاسدة‪ ،‬و الهرب من الراء المجانية للحق المعاندة‪ .‬رأيت تقديم التنبيه على الغرضين المذكورين لنيتوجب العذر‬
‫فيما انتدبنا إليه‪ ،‬و ليكون ذلك المهم الكبر الذيِ نبهنا عليه‪.‬‬
‫الغرض الول‪ :‬ما شاهدناه من فساد الزمان و أخذه في الزدياد و كثرة الراء‬
‫صفحة ‪51‬‬
‫و فساد العتقاد‪ ،‬و عدم ذاب يبذل في الجتهاد‪ ،‬و يمرها على كف النتقاد‪ ،‬و لول سياسة الملوك لعمت الخافقين ظلمها‪ ،‬و رسخ‬
‫في كل القطار قدمها ليقضي ا أملرا كان مفعولل‪ .‬و يبقى ءسلما كان إبقاؤه عليه وعلدا مسئاولل‪ .‬و لكن تعاقب الزمان و طرو‬
‫الحوادث و كثرة الصوارف و فتور الهمم داعية إلى الفسا‪ ،‬و الداء يزداد كل يوم أغذية السوء كالذنوب فرأيت إبراز هذه النبذ‬
‫لتكون مغنية للسائالين و معينة للسالكين و منفعة باقية في الخرين‪.‬‬
‫و الهم من هذا الغرض التنبيه على غوائال الراء البشعة التي استهوت عقول أكثر الناس و هم في ازدياد من هذا الفن‪ ،‬و هو سبب‬
‫فتور الشرائاع و هو عند النبياء على مر اليام و النفوس مولعة بكل غريب لم تألفه و غامض لم تعهده فل يسلم الغمز الجاهل من‬
‫الوقوع فيه و الفطن المتباطيء عن الغترار بما يظهر من مبادئاه‪.‬‬
‫و قد كثرت ترهات هذه الطائافة لعلتين‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬الزهد في الرد عليهم‪.‬‬
‫و الثانية‪ :‬بدار الجهال بمجادلة الرد على ما قرر لديهم كمقابلتهم بإنكار علوم التعاليم الربعة من الهندسة و الحساب و المنطق و‬
‫معرفة المواكب و ثبوتها‪ .‬و هي مقدمات علومهم و عنوان كلمهم و عنصر براهينهم و لم يحكموا فيما حاولوا شيلئاا كإحكامهم لها‪.‬‬
‫و المنطق على مر اليام و كر الدهور ينقحونه و يهذبونه إلى زمان أفلطون فزاد ترتيلبا و ميز فيه السفسطة من الجدل‪ .‬و حذا‬
‫حذوه تلميذه أرسطو فرتب صناعة البرهان‪ .‬و هذب الكتب الثمانية‪ .‬و كذلك علم الهيئاة و الهندسة استخرجوهما من السندهند كتاب‬
‫ضا تعاقبته اليام و هو الذيِ يحصل منه الهندسة و الهيئاة فل معنى لمناكرتهم في كليات هذه التعاليم‪ ،‬فليطالبوا بتصحيح مسائالها‬ ‫أي ل‬
‫الجزئاية و استعمالها و تصحيح الشكال و المقدمات في العلم اللهي فإنهم تساهلوا فيها و لم يستعملوها البتة فهناك موضع‬
‫المضايقة‪ ،‬و أما إنكار كون الرض كرية و أخذها المكان الوسط من الفلك و ارتفاع القاليم و انخفاضها و تحقيق الجهات و‬
‫الفاق و الكسوفات فل معنى لنكار ذلك و مناظرتهم في إبطاله‪ ،‬فهذا أحد الغرضين و تحت تنبيه على المواضع التي نتكلم على‬
‫اختلفهم فيها و نورد ذلك متفرلقا في الكتاب إن شاء ا تعالى‪.‬‬
‫الغرض الثاني‪ :‬أن الحق ل يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه و ضده فبضدها تتميز الشياء و بمقصدها التنبيه على الطريق‬
‫السلم‪ ،‬و الصراط القوم‪ .‬و لبد من ذكر الطريق المنحطة عنه ليصنف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنا لم ننتدب لضئايل و‬
‫ل أضربنا عن سيرة الوائال في سكوتهم إل لخطب جليل‪ .‬و لنضيف ذلك إلى الغرض الثاني فيتضح لديه العذر و ليعرف مقدار‬
‫النعمة فيطلبها بالشكر فنقول الناطقون بكلمة الشهادة سبع فرق‪.‬‬
‫صفحة ‪52‬‬
‫الفرقة الولى‪ :‬طائافة نطقوا بالشهادة من غير التفات إلى ما تنطويِ عليه من المعنىو ل احتفاء بالوظائاف كأجلف العراب و‬
‫العاجم و لكنهم كالنعام بل هم أضل سبيلل‪ .‬فلهم حكم المشيئاة و هم المرادون بقوله تعالى‪ ) :‬اقل لالم اتلؤهمانوا دودلهكن اقوالوا أدلسدللمدنا ( "‬
‫الحجرات ‪ " 14‬و السيف عند هؤلء أصدق أنباء من الكتب‪ ،‬و هو أحد ما يساسون به‪.‬‬
‫الفرقة الثانية‪ :‬طائافة نطقت بكلمة الشهادة تقليلدا مأخولذا من الباء و المهات و المعلمين لكنهم مقبلين على وظائاف الشرع‪ ،‬فهؤلء‬
‫ت ( " الحزاب‪:‬‬ ‫هم المسلمون على الحقيقة‪ ،‬و لهم تقدمة على الفرقة الولى و هم المرادون بقوله تعالى )إهان اللاملسلههميدن دواللاملسلهدما ه‬
‫اه ( " لقمان‪" 22:‬‬ ‫‪ " 35‬و بقوله سبحانه )دودمن ايلسلهلم دولجدهاه إهدلى ا‬
‫الفرقة الثالثة‪ :‬قوم اعتقدوا الشريعة وضدقوا بها و لم يقتصروا على درجة المسلمين‪ ،‬بل استعملوا النظر و الستدلل و‬
‫ذبوا عن حرم الدين‪ ،‬و هؤلء أكثر المتكلمين من أهل السنة و هم أصحاب الحديث و هم المؤمنون المسلمون‪ ،‬فهم أخص إذا‬
‫السلم أعم‪ .‬و قد فصل صلى ا عليه و سلم بين السلم و اليمان في حديث السائالو قال تعالى‪) :‬إهان اللاملسلههميدن دواللاملسلهدما ه‬
‫ت‬
‫ت ( " الحزاب‪" 35 :‬‬ ‫دواللاملؤهمهنيدن دواللاملؤهمدنا ه‬
‫ي‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ك اهام الاملؤهمنودن دحقا ( " النفال ‪" 4 :‬‬ ‫ل‬ ‫و قال تعالى )أ الولدهئا د‬
‫الفرقة الرابعة‪ :‬فرقة ترقوا عن هذه الطريقة إلى درجة اليقين و الثلج‪ ،‬فإن التصديق منقسم إلى التام و الناقص فمن صدق الشيء و‬
‫استعمال ضرلبا من القناع سمى مصدلقا‪ ،‬و لكن التام هو الذيِ يصدق بالشيء عن برهان و مع قيام البرهان على أن ذلك البرهان‬
‫ل يجوز أن يكون بخلف ما تقرر عليه و ل في حين ما بالذات و ل بالعرض‪ .‬و ل يجوز أن يبعث نبي صادق بضده أصلل و لو‬
‫بعث بنقيضه لعتقد تكذيبه‪ ،‬فإن قيل‪ :‬فهذا تصريح يتفاضل المؤمنين في إيمانهم‪ .‬قلت فهو الصحيح و قد قال النبي صلى ا عليه‬
‫و سلم‪ " :‬السلم بضع و سبعون شعبة " و قال صلى ا عليه و سلم‪ " :‬يخرج من النار من في قلبه مثقال حية من خردل من‬
‫إيمان"‪ ،‬و اليمان في اللفظ اللغويِ هو التصديق و قد قدمنا أن التصديق ينقسم إلى التام و الناقص‪ .‬فإن قيل‪ :‬بل التصديق ل‬
‫يتفاضل و اليمان يكون بمعنى العمل‪ ،‬أما اليمان التصديق فهو الشهور في اللغة و هو الصل و هو في العمال منقول و‬
‫الستمساك بحقيقة اللغة أولى حتى يدل الدليل‪ ،‬و قد دليل الشرع على تفاضل اليمان بما ذكرناز فإن قيل‪ :‬هب انا سلمنا أن اليمان‬
‫هو التصديق فما الدليل على لنقسام التصديق في نفسه؟ قانا‪ :‬التصديق عبارة عن العتقاد‪ ،‬و العتقاد لفظ عام و حقيقته ركون‬
‫النفس إلى متخيل إما في نفسه أو إثباته‪ ،‬ثم المعتقدات إن كانت في النفس كما هي عليه من خارج فهو اعتقاد للشيء و تصور‬
‫صفحة ‪53‬‬
‫له و علم به على ما هو عليه‪ ،‬و متى كان من خارج على خلف ما هو في النفس فهو تصديق و تصور ناقص إذ من اعتقد زيلدا‬
‫أبيض فوجده أسود نقص اعتقاده‪.‬‬
‫الفرقة الخامسة‪ :‬أقوام اعتقدوا السلم و صحته‪ ،‬و لكن اعتقدوا في الله تعالى و صفاته ما نسبوا به إلى البدعة و الفسق‪.‬‬
‫الفرقة السادسة‪ :‬أقوام أضافوا إلى ذلك ما نسبوا به إلى الكفر كمن صدق بالنبوة من الفلسفة‪ ،‬و اعتقد أن ذلك يرجع إلى ملك قائام‬
‫ثم اقتضى له مولده أن يكون حسن السياية فاضلل متنولعا فهؤلء كفرة و هذا تصور ل ينفع‪.‬‬
‫الفرقة السابعة‪ :‬أقوام مظهرون للسلم مبطنون للتعطيل المحض فهؤلء شرار الفرق خالدون في الدرك السفل من النار‪ .‬و المم‬
‫كلها على خلف هذه الطائافة و هي يسمع بها و قل ما ترى إل آحالدا يحملهم الستخفاف على ذلك‪ ،‬و المم مطبقة على وجود‬
‫الصانع و إن استعمل بعضهم معه الشركاء‪ ،‬على اختلف القول بالشرك من المعبودات من الحجار و الحياء و الكواكب‪ .‬و قد‬
‫سميت هذا الكتاب‪ " :‬بمعراج السالكين " و ا سبحانه يحملنا على الرأيِ الحق بعزته‪.‬‬
‫المعراج الول‬
‫ليعلم أولل أن ابتداءنا بهذا المعراج و تقديمنا له على أمثاله له ثلثة أغراض‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬استعمال الطوائاف المذكورة له و اقتصارهم عليه فنرقيهم إلى سواه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه مقدمة لما نذكره من معرفة النفس و قواها و بيان العوالم و أنها على مضاهاتها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن نبين فيه ألفاظ و مصطلحات تغني عن تكرار بيانها و تمييز عالم الغيب عن عالم الشهادة‪ .‬و الحد المميز لهما‪ ،‬و ما‬
‫العالم الذيِ وقع الخلف في حدوثه و قدمه‪ .‬و كمية هذه المعارج سبعة‪.‬‬
‫اعلم أن حقيقة العروج الصعود عللوا تقول‪ :‬عرجت في السلم أعرج‪ .‬و اللفاظ لها وجهان من الدللة‪ ،‬فوجه في الدللة على‬
‫الشياء الجسمانية كمفهوم السلم و العروج‪ .‬و الوجه الثاني‪ :‬الدللة على معاني الجسمانيات و أرواحهاإما بطريق وضع اللغة و‬
‫إما بالمجاز و الستعارة‪.‬‬
‫و لما كان السالك الباحث إلى معرفة بارئاه تعالى طللبا للترقي عن ظلمات الجهل و أسفل السافلين من حضيض البهائام و الجهلة‪ ،‬و‬
‫كانت البراهين و الدلة الموصلة إلى درجة العلوم شبه السلم الجسماني الموصل إلى العلو الجسماني‪ ،‬و كانت مفردات البراهين و‬
‫مقدمات القياس و أجزاؤه مادة له منها يتألف حاكت أضلع السلم فإذا التسمية ل مشاحة‬
‫صفحة ‪54‬‬
‫اه هذيِ اللدمدعاهرهج ‪ 3‬دتلعاراج اللدملهئادكاة دوالمرواح إهدلليهه ( المعارج‪ 4-2 :‬و من قام عند‬ ‫س دلاه دداهفسع ‪ 2‬رَمدن ا‬ ‫فيها إذ هي مفيدة قال ا تعالى )دللي د‬
‫البرهان عند استحالة وجهه للباريِء تعالى يعرج إليه فيها طلب معنى عقلليا ليحمل اللفظ عليه‪ ،‬و قد ذم ا تعالى فرعون اعتقاد‬
‫ب ( " غافر ‪ " 36‬و‬ ‫صلرلحا لادعرَلي أدلبلااغ الدلسدبا د‬ ‫كون السباب و المعارج جسمانية في قوله تعالى‪) :‬دودقادل هفلردعلوان ديا دهادماان البهن هلي د‬
‫صاد دعهن الاسهبيهل ( " غافر ‪ " 37‬فالدلة سلليم الخلق إلى ربهم و الذهول عنها هو‬ ‫ك ازرَيدن لههفلردعلودن اسواء دعدملههه دو ا‬ ‫قال تعالى ) دودكدذله د‬
‫ت هفي دبلحءر لمرَجيي ( " النور ‪ ." 40‬فعبر‬ ‫ظلادما ء‬‫المعبر عنها بالحجب و قد ذكر ا تعالى ذلك في نعت الكافر‪ ،‬فقال عز من قائال‪) :‬أدلو دك ا‬
‫عن العتقادات السائادة بالظلمات و عن ترادف الشكوك بترادف الموج‪ ،‬و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم ) إن ل سبعين‬
‫حجالبا من نور و ظلمة لو كشفها لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره( و ليس المراد بالحجب إل الطرق الموصلة إليه‪ .‬فلو‬
‫كانت براهين فهي حجب نور‪ ،‬و لو كانت شبلها فهي حجب ظلمة‪.‬‬
‫و الدليل على ذلك قوله‪ :‬أحرقت سبحات وجهه فإنها لو كانت جسمانية لحترق وجهه بأولها أو بآحادها و لم يشترط في الحراق‬
‫إل مجموعها‪ .‬و البرهان الحق على أن الباريِء سبحانه ل يصلح أن يكون محجولبا لعلتين‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬أن الحجاب ليس إل للجسام و الباريِء تعالى ليس بجسم‪.‬‬
‫و الثانية‪ :‬أن المحجوب يجب أن يكون في جهة و الباريِء سبحانه ل جهة له بوجه‪ .‬و إنما اراد صلى ا عليه و سلم أن هذا السالك‬
‫الباحث لو انكشف إليه هذه الموانع المانعة من تحقيق معرفة معبوده لحرقت الشياء التي استدل بها ما انتهى إليه بصره‪ ،‬فعبر‬
‫بالحتراق عن الضمحلل فهذا تحقيق هذه العبارات‪ .‬و مضمون هذه الشارات‪ ،‬و العالم هو السلم إلى معرفة الباريِء سبحانه‪،‬‬
‫فهو الخط اللهي المكتوب المودع المعاني اللهية‪ ،‬و العقلء على مختلف طبقاتهم يقرءونه و معنى قراءتهم له فهمهم للحكمة التي‬
‫ض ( " يونس ‪ ." 101‬و قال سبحانه‪) :‬دسانهريههلم آدياهتدنا هفي الدفاهق‬ ‫ت دوالدلر ه‬ ‫ظارولا دمادذا هفي الاسدمادوا ه‬ ‫وضع دالل عليها‪ .‬قال تعالى )قاهل ان ا‬
‫ض ( " إبراهيم ‪ ." 10‬و لما كان النسان‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫د‬ ‫ت‬‫ه‬ ‫وا‬ ‫ما‬
‫د د‬ ‫س‬‫ا‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ط‬
‫ه‬ ‫د‬
‫فا‬ ‫ك‬‫ك‬ ‫د‬
‫ش‬ ‫ا‬
‫ه‬ ‫ا‬ ‫في‬‫ه‬ ‫د‬ ‫أ‬‫)‬ ‫تعالى‬ ‫قال‬ ‫دوهفي دأنفاهسههلم ( " فصلت‪ ." 53 :‬و‬
‫ه‬
‫محجولبا مركلبا من مواد مختلفة متضادة و كان محجوبل عن عالم الغيب‪ ،‬و نعني بعالم الغيب كل غائاب عن إدراك الحس و لم‬ ‫ل‬
‫يتوصل إلى معرفته إل بجد و تيقظ و قوة مفكرة خصته الحكمة اللهية بأن جعلته دفتلرا جاملعا مدبلجا فيكون في ذلك فائادتان‪:‬‬
‫صارودن( " الذاريات‬ ‫إحداهما‪ :‬النعام عليه بإلزام أمور عجيبة تكون له مفاتيح لما غاب عنه كما قال تعالى‪) :‬دوهفي دأنفاهساكلم أددفل اتلب ه‬
‫‪ ." 21‬فهو يستدل بما شاهد في نفسه على ما لم يشاهد‪.‬‬
‫صفحة ‪55‬‬
‫ولما كانت الدلة و الحجج منقسمة إلى التم و النقص و كان طريق البرهان و تأليفهعلى الشرائاط الصحيحة و كانت الدلة‬
‫متعذرة على العوام‪ ،‬و كان القناع و قياس التمثيل و الستقراء أقرب إلى أكثر الذهان خصت الحكمة اللهية الصور النسانية‬
‫بضروب من عجائاب العوالم و غرائابها المستدل بها فيكون ضرلبا من التمثيل و الستقراء الذيِ يقاس به الشاهد على الغائاب و‬
‫ك‬‫أكثر ما عاملت به النبياء عليهم السلم الخلق بهذا النوع من لن مقابلتهم بغير هذا الطريق صعب قال تعالى‪) :‬الداع إهدلى دسهبيهل دررَب د‬
‫حلكدمهة دواللدملوهعدظهة اللدحدسدنهة ( " النحل ‪ " 125‬و لهذا جعلنا هذا المعراج أولل و أحلنا العوام على القتصار على تعلمه‪ ،‬و ذكرنا‬ ‫هبالل ه‬
‫انقسامهم إلى طبقتين فيما تقدم فهذه إحدى فوائاده و حكمه‪.‬‬
‫الحكمة الثانية‪ :‬و ها فائادتان‪ .‬إحداهما‪ :‬يستحق به العقوبة‪ ،‬و بالثانية ‪ :‬المثوبة‪.‬‬
‫فالولى‪ :‬استعماله لما يثق به و هو محسوس عنده مشاهد فشرطه أن ل يتعداه و أن ل يتحمل بأكثر مما يحتمل‪ ،‬فمن البر ما يكون‬
‫عقولقا و الشيء متى جاوز حده انقلب إلى ضده‪.‬‬
‫و الثانية‪ :‬أن ل يتعمل الستدلل به في ما ل يصح و قضى على الغائات بما ل يقطع به على الشاهد و يزعم القطع به‪.‬‬
‫و الفرق بينه و بين ما أمرنا استعماله أنه أمر باستعماله على جهة الحكمة و هو أن يكون له ذاكلرا أو مزجلرا من غير قاطع ‪ ،‬و هذا‬
‫المستدل يزعم أنه يقطع بما اخذ عنه من القياس كمن يزعم أن للباريِء سبحانه صورة كصورة النسان و أن علمه كعلمنا أو قدرته‬
‫ض دول دخللدق دأنفاهسههلم ( "‬ ‫ت دوالدلر ه‬ ‫كاقتدارنا‪ .‬و ينتهي إلى ضرب من ضروب التجسم‪ .‬قال ا تعالى‪) :‬دما أدلشدهدمتاهلم دخللدق الاسدمادوا ه‬
‫الكهف ‪ ." 51‬و إنما نستعمل من ذلك ما أحسنا أو شهدت التجربة به مما يزعمه المتعنتون بالتشريح على طول الدهر فهذا مما ل‬
‫يمتنع‪.‬‬
‫و إذا فهمت هذا القدر و ساعدت عليه و أنست لقوله صلى ا عليه و سلم ) إن ا خلق آدم على صورته ( و فهمت أن معنى ذلك‬
‫خلقه خلقة على شبه العالم‪ ،‬فاعلم أن النسان عبارة عن حيوان ناطق مائات منتصب القامة ضحاك‪ ،‬فهذا حد يتناول نفسه و جسمه‬
‫لضرورة الفصل بينه و بين الشخاص الحية و إل فقولنا حيولن ناطق يتناول نفسه فقط‪ .‬ثم هذا الحيوان الناطق أعني النسان‬
‫تنقسم جملته في التقسيم الكلي إلى ثلثة أشياء‪ :‬نفس و روح و جسم‪.‬‬
‫فالجسم‪ :‬هو المؤتلف من المواد و العناصر الحاملة لروحه و نفسه و هو الشكل المنتصب ذو الوجه و اليدين و الرجلين الضاحك‪.‬‬
‫و أما الروح‪ :‬فهو الجاريِ في العروق و الضوارب و الشرايين‪.‬‬
‫و اما النفس‪ :‬فهو الجوهر القائام بنفسه الذيِ ليس هو في موضع و ل يحل شيلئاا‪ ،‬و سنشبع الكلم عليه مقدار ما يحتمله الموضع‬
‫فنتكلم على الجسم بمقدار ما يرشد إلى‬
‫صفحة ‪56‬‬
‫لندسادن همن اسلدلءة رَمن هطيءن ( " المؤمنون‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫نا‬ ‫ل‬
‫ق‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫خ‬‫د‬ ‫ل‬
‫د‬ ‫ق‬‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫)‬ ‫‪:‬‬ ‫تعالى‬ ‫قال‬ ‫فنقول‬ ‫النفس‪،‬‬ ‫أمر‬ ‫من‬ ‫نذكره‬ ‫أن‬ ‫عسى‬ ‫لما‬ ‫ل‬
‫نا‬ ‫معي‬ ‫يكون‬ ‫و‬ ‫الغرض‪.‬‬
‫حي ( " الحجر ‪ ." 29‬فأخبر تبارك و تعالى عن ثلثة أمور جسمه و روحه و‬ ‫ت هفيهه همن مرو ه‬ ‫‪ ." 12‬و قال تعالى‪) :‬دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا‬
‫نفسه‪ ،‬و حقيقة الروح الحرارة الغريزية المنبعثة في العصاب و العضلت و هي موجودة للبهيمة و بها حياتها‪ ،‬و الفصل بين‬
‫حي ( " الحجر ‪ ." 29‬فلو كان‬ ‫ت هفيهه همن مرو ه‬ ‫الدمي و البهيمة هي النفس التي أضافها ا تعالى إليه و في قوله تعالى‪) :‬دودندفلخ ا‬
‫للنسان هذه النفس دون الروح المخلوقة للبهيمة لقصر عن أفعال البهيمة في الكل و الجماع و التصرف‪ ،‬و لو أن البهيمة أعطت‬
‫النفس التي اعطيها النسان لكانت عاقلة مكلفة فخرج من الجملة أن للنسان رولحا و نفلسا و جسلما‪ ،‬و للبهيمة جسلما و رولحا ل‬
‫غير‪ ،‬فأما آدم عليه السلم فمخلوق من التراب و الماء و الهواء و النار و قد قال تعالى ذلك في قوله سبحانه ) همن اسلدلءة رَمن هطيءن‬
‫( " المؤمنون ‪ ." 12‬و في قوله سبحانه‪) :‬دودجدعللدنا همدن اللدماء اكال دشليءء دحيي أددفل ايلؤهمانودن (" النبياء ‪ " 30‬و أما النار فقوله تعالى‪:‬‬
‫صاءل دكاللدفاخاهر(" الرحمن ‪ ." 14‬فأول الدرجات التراب‪ ،‬قيل له طين فإذا مرت عليه دهور بكرور الشمس و اكتسب منها‬ ‫صلل د‬
‫)همن د‬
‫يبلسا و جفالفا قيل له صلصال كالفخار لنشوفته‪ ،‬و معلوم ببرهان العقل أن مؤدى حر الشمس إليه هو الهواء‪ ،‬فصح بالرهان‬
‫الشرعي و العقلي كون آدم عليه السلم على الصورة التي تقدمت ليجعل ا تعالى تدريج بنيه من نطفة خرجت يتلقفها الناث إلى‬
‫انقطاعها و تمام القوى‪،‬و ذلك حين الساعة و تمام الخلقز فأول النسان نطفة ثم علقة‪ ،‬ثم مضغةن ثم تنبت فيه العظام‪ ،‬و تكسى‬
‫لحلما‪ ،‬فالنطفة الخارجة من النسان مسلولة كقشر الحبة من الحبة لكنها مياعة و كالنواة فإن النخلة السحوق فيها و لكن مدمجة‪ ،‬و‬
‫لكن من شاهد عقد الثمار تيقن هذا‪ ،‬فإن الرمانة مثلل تخرج من أصغر ما يمكن غير أنك ترى الشكل مصغلرا ثم تقويها الطبائاع من‬
‫خارج بما يجانسها فتصرف تلك الشكال الكاملة إلى انتهائاها و ما فيها‪.‬‬
‫و من أرسل النطفة و أبصر السقط تحقق ذلك فإنك ترى أشكاله كخطوط مكتوبة‪ ،‬و حدقتاه كحبات شونيز و وضوح ذلك ل يحوج‬
‫إلى مزيد تأمل‪ ،‬فالنقطة مسلولة مائاعة بالطبع لما انسلت عنه بذوبان فطريِ ل جبلي ل حيلة فيه‪ ،‬و لذلك يشبه الولد أباه في خلقه و‬
‫خلقه‪.‬‬
‫فإن قيل الغذية تستحيل دلما في الكبد‪ ،‬ثم تستحيل منليا و كانت قبل ذلك نباتات انفعلت عن الطبائاع الربع‪ ،‬فلزم أن يكون غير الب‬
‫إذا انفعلت عن غيره‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬المر كذلك و لكن العتبار بحين انفصالها عن الب‪ ،‬فحين انفصالها تنبعث من عروقه‪ .‬و عصبه و كبده بحركة ما‪ ،‬فتكسب‬
‫حينئاذ طبعه‪ .‬و هذا المر متسلسل إلى آدم‬
‫صفحة ‪57‬‬
‫عليه السلم و عنده يقف المر فإن جسمه و نفسه ليسا مأخوذين عن آدم آخر فإن ذلك محال‪ .‬و فيه إثبات أشخلص ل أول لها و هو‬
‫محال ‪ :‬فإن الشخص بالضرورة ذو أولية و هو تحت النوع و إذا ثبت هذا فاعلم أن الصور النسانية تنقسم إلى أربع أرباع‪.‬‬
‫الول‪ :‬الرأس‪ .‬و الثاني‪ :‬اليدان‪ .‬و الثالث‪ :‬البدن‪ .‬و الرابع‪ :‬الرجلن‪.‬‬
‫ثم عظامه منقسمة إلى مائاتي و ثمانية أربعين عظلما‪ .‬و في الثالث‪ :‬أربعون عظلما‪ .‬و في الرابع‪ :‬أربع و ثمانون عظلما‪ ،‬ثم خلق ا‬
‫سبحانه لهذه العظام رباطات تمسكها‪ ،‬فعدة عروق شكل النسان ثلثمائاة و ستون عرلقا‪ .‬و بهذه العروق تكون الحركة و القبض و‬
‫البسط‪.‬‬
‫فرأس هذه العروق في الفؤاد‪ ،‬و هو العرق المسمى بالنياط البهر و منزلته مع القلب بمنزلة الحاجب للملك يتبقف أمره ثم يخرجه‬
‫إلى الخدمة‪ ،‬ثم هذه العروق متصلة بالمعدة تمتص منها قوة الطعام و الشراب الذيِ يدخلها ثم تقسمه بين الكبد‪ ،‬و المرارة‪ ،‬و‬
‫الطحال‪ ،‬و الرئاة‪ ،‬و خلق البهر مستبطن الصلب‪ ،‬و هو آخذ من مجمع الكاهل‪ ،‬إلى مجمع الوركين‪ ،‬إلى مجمع الحالبين‪ ،‬إلى‬
‫مجمع الصدر بين الترقوتين و هو نهر الجسد العظم و هو مقسوم لربعة عروق لقسام الجسد الربعة‪ ،‬لكل جزء منها عرق‬
‫يتفرق إلى ستين عرلقا و لليدين و الرجلين عرق يتفرق إلى مائاتي عرق‪.‬‬
‫و الجزء من الول من النهر الول‪ :‬و هي أربعة أنهار يتفرق منه عرقان من مجمع الكاهل يسقيان العنق‪ ،‬و يتفرق من مجمع‬
‫الصدر بين الترقوتين عرقان يصعدان إلى العنق و هما الوريدان‪ ،‬ثم يتفرق من كل واحد عرقان‪ ،‬ثم جميع هذه العروق ينبعث فيها‬
‫الغذاء إلى كل عضو من الرأس‪ ،‬و من الشفتين و غيرهما‪.‬‬
‫و أما العروق من البدن من الربع الثاني‪ :‬و هو أحد النهار الربعة من النهر العظم يتفرق منه عرقان لكل يد عرق من مجمع‬
‫الصدر من الترقوتين إلى ما بين المنكبين و هما الكحلن‪ ،‬ثم يتشعب من كل واحد منها أربعة عروق سواهما فتسقي العضدين و‬
‫أجزاءهما‪ ،‬فذلك عشرة عروق لكل يد خمسة عروقثم يتفرق من كل واحد من العشرة أربعة تسقي الساعدين‪ ،‬فذلك خمسون عرلقا‬
‫لكل ساعد منها خمسة و عشرون‪ ،‬ثم يتفرق من كل واحد من الخمسين عرلقا عروق أخرى فتسقي الكفين و الصابع‪.‬‬
‫و أما الجزء الثالث‪ :‬فالبطن يفترق منع عرقان من مجمع الحالبين إلى اليدين‪ .‬يفترق من كل واحد منهما تسعة و عشرون عرقال‬
‫سواهما يدفع إلى كل جزء حصته من الغذاء‪ :‬للضلع الربعة و ثلثون‪ ،‬و لسائار أجزاء البطن ستة و عشرون‪ :‬للعصعص‬
‫عرقان‪ ،‬و أربعة للمذاكير‪ ،‬و اثنان للكليتين‪ ،‬و اثنان للمثانة‪ ،‬و اثنان يسقيان المعدة‪ ،‬و اثنان للكبد‪ ،‬واثنان‬
‫صفحة ‪58‬‬
‫للطحال‪ ،‬و اثنان للفؤاد‪ ،‬و اثنان للمرارة‪ ،‬و اثنان للرئاة‪ ،‬و اثنان للثديين‪ ،‬و ثلثون للضلع لكل ضلع عرقان‪.‬‬
‫و أما الجزء الرابع‪ :‬و هما الرجلن‪ .‬ففيهما الوتين عرق يفترق منه عرقان‪ ،‬و هما النسيان‪.‬و هماللفخذين لكل فخذ عرق من مجمع‬
‫الوركين يسقيان الفخذينو أجزاءهما و يفترق من كل واحد منهما أربع عروق‪ ،‬ثم يفترق من الربعة خمسون عرلقا تنتكس في‬
‫الساقين لكل ساق خمسة و عشرون عرلقا‪ ،‬فقد صار جملة النسان جملة مناسبة للعوالمو جزئاياتها‪ ،‬فهو مشبه للعالم العلى بنفسه‬
‫و مشبه للعناصر بما فيه من ماء و هواء و نار و تراب‪ .‬و يضاهي الجواهر الرضية‪ .‬أما الحيواني‪ ،‬فبروحه الحيواني‪ .‬و أما‬
‫النباتية‪ ،‬النامية فبما ذكرناه من عروقه و نموه و تغذيِ‪ .‬و أما الجمادية قبعظامه فهذه المشابهة الكلية‪.‬‬
‫ثم تعرض أجزاءه على كل جزء من العالم فتجده يضاهيه‪ ،‬و شرح ذلك مما يطول و لو استوفينا فيه العمار الطويلة و آباد السنين‬
‫لما نفد‪ .‬و عليك أن تمتحن ذلك بكل ما تشاهده‪ ،‬و تبحث فتجد في عالم جسمك مثل ذلك بل فيه ما يضاهي قوى الحيوان كجرأة‬
‫السد‪ ،‬و خبث الثعلب‪ ،‬و طيش القرد‪ ،‬و صلبة الخنزير و هكذا‬
‫ثم الغذاء إذا استقر في المعدة طبخته الكبد‪ ،‬و هي حارة رطبة لصقة في المعدة من الجانب اليمن‪ ،‬يمتص منها صفو الغذاء و كل‬
‫حار رطب لمشاكلتها له فتصفيه بجوهرها‪ ،‬و فيها أنابيب كالمصفى فتجذبه صفو العروق و تنقله و يسير فيها حسب ما قدمناه‪ .‬و‬
‫أما المرارة فهي معدة الخلق الذيِ يقال له المرارة الصفراء و هي حارة يابسة لصقة في المعدة من الجانب اليمن مما يلي الكبد‪،‬‬
‫يمتص منها من صفو الغذاء كل حار يابس للمشاكلة فتصفيه بجوهرها‪ .‬ثم تحتلبه العروق كما ذكرناه‪ .‬و الخلط الثالث المرة‬
‫السوداء و معدته الطحال‪ .‬و هو بارد يابس لصق بالمعدة من الجانب اليسر فيمص من الغذاء كل مشاكل له‪ .‬و الرابع البلغم هو‬
‫بارد رطب و له الرئاة تمتص من الغذاء ما يشاكلها‪ .‬و الحلقوم رأس الرئاة على طبيعة الطحال و هو معد للنفس و هو الحنجرة‪ .‬و‬
‫رأس الحلقوم مغطاة بطبق و اللهاة مدلة عليه‪ ،‬و القلب في الجانب اليسر تحت الجانب اليسر‪ .‬والرحم في الجانب اليمن لصق‬
‫بعروق الفؤاد‪ .‬و هو معدن الشهوة‪ .‬و المعدة معتدلة المزاج و هي كالقدر و تلك الوعية كلها كالثافي‪ .‬و لها فمان‪ :‬مدخل و هو‬
‫مسلك المريِء إلى الفم‪ .‬و الفم الثاني يخرج منه الثقال و تخدم المعدة‪ .‬و للصرة أربع قوى‪ :‬إحداهما جاذبة‪ ،‬و الثانية ممسكة ‪ ،‬و‬
‫الثالثة هاضمة‪ ،‬و الرابعة دافعة‪.‬‬
‫فالجاذبة‪ :‬حارة رطبة تقويِ الدم و تجر الطعام و الشراب من الفم إلى المعدة‪ .‬و كل ما شاكلها تصيره دلما و هي منحدرة أسفل‬
‫المعدة إلى أسفل البطن فتخرج غير متغيرة الشم تشاكل ريح الجنوب‪.‬‬
‫و أما الممسكة‪ :‬فباردة يابسة تقويِ المرة السوداء و تمسك الطعام و الشراب في المعدة‪ ،‬و ل سبيل للمعدة أن تمسك شيلئاا دونها و‬
‫تخرج متغيرة الشم تضاهي ريح الشمال و هما على مضادة الجاذبة فبذلك يعتدلن‪.‬‬
‫و أما الهاضمة‪ :‬فتقويِ المرة الصفرا‪ ،‬و تهضم الطعام بالحر‪ ،‬و يعينها الكبد فيصعد من افم غير متغير الشم و هي حارة يابسة‬
‫كريح الدبور‪.‬‬
‫و أما الدافعة‪ :‬فباردة رطبة تقويِ البلغم‪ .‬و قد توقع الطعام و الشراب من المعدة إلى المعاء إلى العفاج إلى الرض بذلك وكلت‪،‬‬
‫و هي باردة رطبة معادلة للرياح الهاضمة‪ .‬و صلح المزجة و فسادها تابع لهذه المور‪ .‬و العلم الطبيعي معد لصلحها هو‬
‫فائادته و غرضه‪ ،‬و النفس تكتسب بالمجاورة من هذه الطبائاع ملكة عند غلبتها كالطيش و الحدة عند غلبة الصفراء‪ ،‬و الغم و الهم و‬
‫قلة النشاط عند غلبة السوداء إلى غير ذلك كما يكتسبه الرفيق من رفيقه‪ .‬و متى كانت هذه الطبائاع جارية على اعتدال كانت النفس‬
‫أجرى إلى السلمة‪ ،‬و جميع هذا كله بتقدير ا تعالى و تدبيره ل إله إل هو‪ .‬فمتى تأمل هذا النضد المحكم و الترتيب المنظم و‬
‫معادلة بعض القوى لبعض و كيف خلقت اليد للبطش‪ ،‬و اللسان للكلم‪ ،‬و الحدقة للرؤية‪ ،‬و كيف خلقت على شكل ملئام للنور‬
‫فجعلت جاملدا في أغشية لطيفة مكفنة بالشفار و جعل للشفار أهداب تقيها الغبرات و النور الكثيف أن يغشيها علم أن ذلك دال‬
‫على أن لهذا لبصنع العجيب و المر الغريب مدبلرا دبره و عليلما أتقنه‪.‬‬
‫و هذا ل يخفى على ذيِ بصيرة فإنا قد وجدنا هذا الشكل النسانيعلى أتم الحكمة التي تقتضيها العقول فل تخلو هذه الصنيعة‬
‫العجيبة‪ ،‬إما أن يكون صنعت نفسها أو صنعها جماد أو صنعها مخلوق حي أو صنعها بارئاها و هو ا تعالى‪ .‬و بطل أن تصنع‬
‫نفسها لن وجود الفاعل يجب أن يتقدم على المغعول‪ .‬و بطل أن يكون الشيء مفعولل من حيث هو فاعل أو فاعلل من حيث هو‬
‫مفعول‪ .‬و بطل أن يصدر عن مخلوق حي طبيعة أو غيرها‪ ،‬فإنا نقول ‪ :‬الطبيعة ما معناها فل تخلو أن تكون جمالدا أو حليا‪ .‬فإن‬
‫كان جمالدا كان القول فيه ما تقدم‪ ،‬و إن كان حليا قلنا هذا الحي ل يخلو أن يكون له فاعل أو ل فاعل له‪.‬‬
‫فإن قيل له فاعل آخر فالطبيعة كآدم في افتقارها إلى محدث‪ .‬و إن كانت الطبيعة حية ل فاعل لها و ل علة فهي الله فأسقطوا لفظ‬
‫الطبيعة و قولوا إله‪ .‬فهو الذيِ نريد بيانه‪ ،‬فإن حوادث ل أولية لها محال إل إذا قلنا فعلت الطبيعة طبيعة فذلك منتف فلبد من‬
‫استناد الحوادث إلى مبدأ ل علة له و ليس بمفعول أصلل‪ .‬و هذا يبطل اعتقاد من يقول آدم من آدم آخر‪.‬‬
‫ص ‪60‬‬
‫قلنا ‪ :‬نتبعه فيلزمه التسلسل وهو محال فصح أن الشكل النسانى تنتهض منه الدللة على بارئاه ومصوره مع ما فيه منالعجائاب‬
‫الدالة على العالم فليس فى العالم أمر غريب مشكل إل وفيه مفتاح علمه‪ .‬فال تبارك وتعالى خلقه على مضاهاة العالم‪ ،‬فهو نسخة‬
‫مختصرة منه‪ .‬ومن تأمل أحوال النبياء ومعجزاتهم وكرامات الولياء وما جعل ا سبحانه فى قوى النفس بل يشاهده كل أحد من‬
‫نفسه فى المنامات التى تعلم بمغيبات المور وعاقبتها‪ ،‬وما يبصره النسان فى النوم من السماء والرض والبحار وسعتها‪ .‬وهو ل‬
‫يتسع بمقدار ما يبصره كما أنه يبصر السماء على سعتها بعين وهى فى دور الدرهم‪ .‬وهذا من المر العجيب علم أن لهذه العجائاب‬
‫مدبرا دبرها وصانعا أتقنها‪ ،‬وعجائاب النسان ل تحصى بل فيه من الخواص عجائاب مما يستعمله الطباء منه‪ .‬فسبحان الفاطر‬
‫العليم‪.‬‬
‫المعراج الثانى‬
‫ولما فرغنا فى المعراج الول من معامله أصحابه بالسهل من الحكمة والقريب الظاهر من الدللة التى ل يخفى نورها ول يتلعثم‬
‫ضلههل ا‬
‫اا دفدما دلاه هملن دهاءد( ]الرعد ‪ . [33 :‬فلنرتق إلى المعراج‬ ‫فيها إل من جعل له الرأى المعكوس والمثل المنكوس ‪) :‬دودمن اي ل‬
‫الثانى ‪ :‬وهذا المعراج لطبقتين ‪ :‬للمحققين الذكياء والمتحذقين التقياء ‪ .‬وهو لتقرير النفس وهل هى باقية أم ل؟ وهذا المعراج‬
‫كالقطب لسائار العلوم وله يجتهد المجتهدون ويعمل العاملون ول فائادة أعظم منه ‪ ،‬فإن نبوة النبياء والثواب والعقاب والجنة والنار‬
‫وسائار أنباء الدنيا والخرة المأخوذة عن الرسل ل تثبت متى أبطلت هذه المسألة ‪ ،‬فإن النفس إذا لم يكن لها بقاء فجميع ما أخبرنا به‬
‫وأطعمنا فيه فباطل وبحسب ما نثق به من هذه المسألة نجتهد‪ .‬وبحسب ما يغيب عنا ننظر ‪ ،‬وبهذه المسألة كفرت الزنادقة فإنهم‬
‫اعتقدوا أن حقيقة النسان مزاج معتدل كالنبات متى اعتدلت قواه بقى ‪ ،‬ومتى غلب عليه حر أو برد فسد ودثر‪ .‬ثم ل ترتجى بعد‬
‫ذلك موتا ول حياة ول نشورا ‪ ،‬فاستخفوا لذلك بالخلق واستهانوا بالنبياء كقول أمية بن خلف لحد الصحابة ‪ :‬لوتين مالل وولدال‪.‬‬
‫وذلك لنه استخف وقال أنتم تزعمون أنكم أصحاب أموال فى الخرة وسيكون لى هناك مال وسأقضيك منه‪.‬‬
‫وعلى هذا المعراج يدور الناس فهو أس العلوم وإذا اضمحل فل ثابت ‪ ،‬ولذلك لم تبينه الرسل وا أعلم‪ ،‬لن كلم غيرهم بين أن‬
‫يقبل أو يرد أو يصدق أو يكذب ‪ ،‬وكلم الرسل عليهم السلم ليس كذلك‪ ،‬فإن المسألة فى نهاية الغموض والذهان أكثرها ضعيفة‬
‫ك دعهن‬ ‫فربما لم تفهم مقاصدهم فتعترض من قولهم على قولهم فلم يوردوا فيها إل إشارات ورموزال‪ .‬وفى القرآن العزيز‪) :‬دوديلسأ دالودن د‬
‫المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ]السراء‪[85:‬‬
‫ص ‪61‬‬
‫وقال تعالى فى عيسى عليه السلم )دودكلهدماتاه أدللدقادها إهدلى دملرديدم دواروسح رَملناه( ]النساء ‪ .[171 :‬وقال النبى صلى ا عليه وسلم "أرواح‬
‫الشهداء فى حواصل طيور خضر" ‪ .‬وهذه كلها ظاهرة عند العلماء مكشوفة وعند غيرهم معقولة ‪ ،‬وقد اختلف الناس فيها على مر‬
‫السنين واليام‪ ،‬فزعم أفلطون أن النفس والروح واحدة وهى النفس الكلية وأنه مع البدان كالشمس مع الرض تنثر شعاعها على‬
‫المواضع فيأخذ كل موضع نصيبه على قدره ‪ ،‬وزعم أنها تألف الجسم بضرب من المناسبة بالطبع فإذا حصلت فيه ألفته وشغفت‬
‫به ولتزال فيه وليس هى عنده حالة فى الجسام‪ ،‬وإنما هى كالمغناطيس مع الحديد فى الملزمة والنفعال ومناسبة الطبيعة‪.‬‬
‫وليس أحدهما حال فى الثانى لكن ينفعل له بضرب من واسطة خفيه هى الطبع ول تزال فيه إلى أن يفسد البدن‪ ،‬كما أن الحديد‬
‫يخلق مع طول المدة فل يقبل تجاذب المغناطيس ‪ .‬وزعم آخرون أن النفس عرض وأن حقيقة الحياة معنى يكون عند اعتدال‬
‫المزاج‪ ،‬فإذا مات النسان فنيت روحه وهؤلء ذاهبون إلى أن النفس محدثة ‪ ،‬وزعم أفلطون أنها قديمة ‪ ،‬وذهبت فرقة ثالثة إلى‬
‫أنها محدثة عند حدوث البدن وهى مع ذلك ل تفنى‪ .‬ومن حقق من الفلسفة على هذا المذهب والكثر على مذهب أفلطون‪.‬‬
‫وسنكشف إن شاء ا تعالى غائالة مذهبهم فى المعراج الثالث‪ :‬حدوث العالم العلى ‪ .‬فلنرسم ههنا ثلثة فصول‪:‬‬
‫الفصل الول ‪ :‬فى قوى النفس وعلة تحرك البدن بها‪.‬‬
‫الفصل الثانى ‪ :‬فى كون النفس جوهرال غير متحيز قائاما ل بنفسه مستغنيا ل عن المحل‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬فى أن النفس ل تعدم وأنها باقية‪.‬‬
‫الفصل الول فى قوى النفس وعله تحرك البدن بها‬
‫ربما اعتقد من ل تحقيق لديه أن الشرع يزجر عن التعرض لهذا القدر فى تصحيح أو إبطال وليس فى الشرع دليل على ذلك وقوله‬
‫سبحانه ‪) :‬قل الروح من أمر ربى(‪ .‬جواب مقنع إذا فهم المر بما هو عليه ولو أراد تعالى الزجر لذكر الحكم عليه وقد كشفنا عن‬
‫القوى الجسمانية وهذا الجسم يجرى من النفس مجرى الثوب من الجسم ‪ ،‬فإن الجسم يحرك الثوب بواسطه أعضائاه‪ ،‬والنفس‬
‫تحرك البدن بواسطة قوى خفية ومناسبة‪ .‬وقوى النفس تظهر فى مواضع من البدن‪ ،‬وربما بلغت عشرال نذكرها والنفس فى ذاتها‬
‫واحدة وإنما ترجع التسمية إلى الله كقولنا سمع وبصر وشم وذوق ولمس‪ .‬والنفس هى الذائاقة الشامة المدركة‪ ،‬فهذه خمس قوى‬
‫ظاهرة‪ ،‬والدليل على أن النفس هى المدركة دون هذه العضاء أن العروق متى حدث بها سدد تمنع اتصال النفس بها بطلت‬
‫كالحذر والموت وهذا مشاهد ل يفتقر إلى‬
‫ص ‪62‬‬
‫دليل‪ .‬والقوى تنقسم إلى قسمين إلى محركة وإلى مدركة ‪ ،‬والمدركة قسمان ‪ :‬ظاهرة وباطنة ‪ ،‬فالظاهرة ما ذكرناه والباطنة ثلث‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الخيالية والوهمية والفكرية ‪ ،‬فالخيالية فى مقدم الدماغ وراء القوة المبصرة خاصيتها بقاء صور الشياء المرئاية فيها بعد‬
‫تغميض العين وانقطاع ما يدركه الحواس ويسمى الحس المشترك‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬الوهمية وهى التى تدرك المعانى ‪ ،‬فالولى مختصة بقوى المعانى وصورها وموادها ‪ ،‬وهذه تحفظ المعانى دون صورها‬
‫وموادها إذ تدرك الشاة عداوة الذئاب مجردة فتنفر عنه‪ .‬والسخلة تدرك حنان الم فتألفها ومحلها التجويف الخير من الدماغ‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬القوة المفكرة وشأنها أن تركب الصور بعضها مع بعض ‪ .‬وهى فى التجويف الوسط بين حافظ الصور وحافظ المعانى‬
‫فهى حائاكة وهى المرادة برمز القائال‪:‬‬
‫رجلن خياط وآخر حائاك‬
‫متقابلن على السماك العزل‬
‫مازال ينسج ذاك خرقة مدبر‬
‫ويخيط صاحبه ثياب المقبل‬
‫ومواضع هذه القوى مبرهنة بصناعة الطب‪ ،‬فإن الفات متى نزلت بهذه المواضع عدمت هذه المدركات ‪ ،‬وزعموا أن القوة التى‬
‫تنطبع فيها صور المحسوسات تحفظ تلك الصور فتبقى فيها بعد قبولها بحسب الحواس الخمس إذا تكرر ذلك عليها والشئ يحفظ‬
‫الشئ بغير القوة التى بها يقبل إذ الماء يقبل النطباع ول يحفظ بخلف الشمع فإنه يقبل بالرطوبة ويحفظ باليبس والحافظة تصون‬
‫المتخيلة كما أن القوى الذاكرة تصون الحافظة‪.‬‬
‫والقوى المحركة إما باعثة على الحركة ‪ ،‬وإما مباشرة للحركة ‪ .‬فالباعثة هى القوة النزوعية الشوقية ومتى رأت أمرال يترغب فيه‬
‫أو يترهب منه بعثث القوة المحركة المباشرة على الفعل ‪ ،‬فتنبعث فى العصاب والعضلت والرباطات من القلب‪ .‬إما ببسط عن‬
‫جهة المبدأ وإما بقبض إليه إذ هى إذا فرحت نشرت الدماء فى العروق فكان الفرح ‪ .‬وإذا حزنت انجذبت فانجذب الروح الحيوانى‬
‫إلى القلب فاغتم وحزن‪ .‬ثم من شأن النفس إدراك المعلومات المغيبة ‪ .‬ولها قوتان إما عملية وإما علمية‪ .‬فالعملية قوة هى مبدأ‬
‫محرك لبدن النسان إلى الصناعات النسانية‪ ..‬وأما العلمية فهى المدركة لحقائاق العلوم مجردة عن المادة والصورة ‪ .‬وهى‬
‫القضايا الكلية المجردة وهى للعقل وبهذه القوة تتلقف عن الملئاكة العلوم‪ .‬وبالقوة الثانية تصلح ما وكلت به من المور الجسمانية ‪.‬‬
‫وهذه المور كلها محسوسة يستند برهانها إلى الحس فل نطول بتمهيده كما أن ما ذكرناه من الجسمانية أكثرها محسوس وما‬
‫ص ‪63‬‬
‫غاب فقلدنا فيه المعتنين بالتشريح على أنه أكثر ما يوصف ‪ .‬وإذا فهمت الجسم والقوى الحيوانية وأنالنفس هى المحركة الباعثة‬
‫وأنقواها باعتبار الضافة إلى المواضع كان كالثوب الواحد يسمى موضع منه كما ل وموضع منه طوقا ل وموضع منه جيبا ل‪ .‬وقد قدمنا‬
‫أن لها قوتين عملية وعلمية‪ .‬وأن العلمية مستعدة لقبول العلوم إلى ما ل يتناهى بالقوة وأن الجسم منفعل للقوى المحركة والمحركة‬
‫العملية تحت هذه العلمية الشوقية النزوعية‪ .‬ومنها مبدأ الفعل إلى أن يبرز ويظهر‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فلم ل ترى النفس فإن فى رؤيتها ما يدل على صحة وجودها وهل تخيلناها‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬فهاتان مسألتان أحدهما لم ل ترى ‪ ،‬والثانية لم ل تتخيل ‪ .‬فالجواب عن أحدهما وهى لم ل ترى بثلثة أجوبة‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن كل موجود ليس من شرطه أن يرى ‪ .‬إذ صحة وجود الموجود ل تستدعى أن يكون مرئايا فإن الحوال اللزمة للشئ‬
‫إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون عرضية ‪ ،‬والموجود من الحوال اللزمة ذاتى وكونه مرئايا عرضى له إذ يثبت وجود الموجود‬
‫مع عدم من يراه‪ ،‬ومع ذلك يثبت الموجود ول يبطل وجود عدم الرائاى له‪ .‬والدليل على ذلك وجود البارئ سبحانه وتعالى فى‬
‫الزل ل إلى نهاية ولم ير حتى الن وذلك ل يبطل وجوده‪ .‬نعم يستدعى الوجود أن يثبت له ما يصحح وجوده والشئ قد يستدل‬
‫عليه إما بقضايا عقلية وإما بأثر يثبت للحس فيقضى عليه‪.‬‬
‫وقد شاهدنا آثار النفس ووجود أنفسنا بالضرورة‪ ،‬وعلمنا أن فى أجسامنا معنى يزيد عليها بالضرورة إذ يبقى الجسم ول روح له‬
‫ويكون الجنين تاما فى الشهر الرابع ول روح له‪.‬‬
‫الجواب الثانى ‪ :‬أن المرئاى يجب أن يكون من الرائاى فى جهة وعلى مسافة يكون قابل لللوان إذ هى العلة فى إظهار المبصرات ‪.‬‬
‫وإننا قلنا إن النفس ل تقبل اللوان إذ اللون مركب من أمور تجتمع‪.‬‬
‫الجواب الثالث ‪ :‬أن المرئاى لبد أن يكون فى حيز ‪ ،‬وسنقيم الدليل على أن القوة العقلية ل حيز لها‪.‬‬
‫الفصل الثانى فى كون النفس جوهرا‬
‫النفس جوهر قائام بنفسه ولبد من كشف هذه العبارة ‪ .‬فنقول ‪ :‬على جهات فيقال للقوة الغازية نفس وكذلك المنمية وكذلك النباتية ‪.‬‬
‫وهذه أنفس وليست المراد فى هذا الغرض‪ .‬فأول النفوس النباتية ثم الغازية ثم النامية ثم الحيوانية‪ .‬وهذه أول مراتب خروج‬
‫ص ‪64‬‬
‫فعل النفس من القوة إلى الفعل ‪ ،‬فالنفوس الحيوانية هى كمال جسم طبيعى بها يحس ويتحرك ‪ ،‬والبهيمة والنسان يشتركان فى هذه‬
‫النفس ‪ ،‬وهذه النفس ‪ ،‬هى حرارة مودعة فى النطفة ‪ ،‬ودم الطمث المتجمع فى الرحم لها كالقالب ‪ ،‬فإذا أسقط المنى على بقية دم‬
‫يجتمع فى الرحم انتشر عليه كالنتق فى اللبن وعقده بحره فسخن وامتد بالحر من خارج وتزايدت الحرارة الغريزية ‪ .‬فأول ما‬
‫يتكون القلب ثم تنتشر من العروق والعصب وينتقش ذلك الجزء فيه إلى أن تكمل أعضاء الجنين ‪ ،‬ومن يوم تسقط النطفة فى الرحم‬
‫إلى يوم خروجها مقدار ما تقطع الشمس ثلثة أرباع الفلك ‪ .‬والنطفة تستمد الحر من جهة الم والم من الغذية ‪ ،‬فإذا دخلت فى‬
‫الشهر التاسع صارت كالمفتول الخشن المشرب بالزيت الصافى فى شدة الملءمة والتأتى للشتعال‪ .‬وهذا مثل بل المر أغمض‬
‫وأدق‪.‬‬
‫ل‬
‫فالنفس الحيوانية لباب الغذاء والنباتات والعناصر ‪ ،‬فإذا بلغت هذه الرتبة استحقت من الجود اللهى نفسا ‪ .‬فحينئاذ يوجد الرب تعالى‬
‫قوة من عالم المر كما قال تعالى )قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ]السراء ‪ . [85:‬وقال تعالى )ارولحا رَملن أدلمهردنا( ]الشورى ‪. [52:‬‬
‫حي( ]الحجر‪ .[29:‬والعالم من محدب الفلك التاسع من الصفحة التى تلى جهة فوق‬ ‫ت هفيهه همن مرو ه‬ ‫وقال تعالى )دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا‬
‫ك إهلا اهدو( ]المدثر ‪ .[31:‬وقد تبرهن فى العلم الطبيعى أنه ل‬ ‫والتى تلى أقدامنا إلينا مملوءة جنودال وملئاكة ‪) :‬دودما ديلعدلام اجانودد دررَب د‬
‫يجوز أنيكون عالم خارج الكرة التاسعة ‪ ،‬وأن ل خلء البتة وأن كل موجود للبارئ تعالى فهو داخل فى جوف هذه الكرة ‪ .‬فأما‬
‫الجسام فهى تستحيل عن العناصر الربعة فكل ما تحت مقعر فلك القمر مستحيل متغير‪ ،‬والعناصر يستحيل بعضها إلى بعض‬
‫وماعدا ذلك فهو جواهر من حوادث آخر ‪ ،‬والنفس من جنس تلك الجواهر ل من العناصر فهى روحانية محضة وهى نفس صغيرة‬
‫موازية لنفس العالم الكبير‪.‬‬
‫وقد تكرر منا أن النسان موجود على مضاهاه العالم‪ ،‬فالنفس جوهر ورحانى لطيف ول يجب أن ينكر المنكر ذلك وهو يشاهد‬
‫شعاع الشمس وروحانيته وبساطته‪ ،‬حتى أن قرصها يكون بالمغرب وشعاعها بالمشرق فما إل أن تغيب خلف جبل فينقطع الشعاع‬
‫الذى بالمشرق يلزمان‪ .‬ولو كان جسما لما انقطع ذلك آحاد السنين ‪،‬وكذلك إذا أخذت مرآة وعكست بها الشعاع انعكس ذلك إلى‬
‫حيث شئات ‪ ،‬ثم تقطعه عن موضع عكسته إليه ل فى زمان ‪ ،‬وجوهر الشعاع بالضافه إلى جوهر النفس كثيف فليس فى العالم‬
‫موضع بيت ول زاوية إل وهو معمور بما ل يعلمه إل ا تعالى ‪ .‬ولذلك أمر النبى صلى ا عليه وسلم بالستر فى الخلوة وهو أن‬
‫ب دعهتيسد( ]ق‪ . [18:‬وقال تعالى فى النسان ‪:‬‬ ‫ظ همن دقلوءل إهلا لدددليهه درهقي س‬ ‫يجامع الرجل امرأته عريانين ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪) :‬دما ديللهف ا‬
‫ب إهلدليهه هملن دحلبهل اللدوهريهد( ] ق‪ .[16 :‬فالرواح‬ ‫)دودنلحان أدلقدر ا‬
‫ص ‪65‬‬
‫مشحون بها العالم ‪ .‬وإنما نبهنا على ذلك تنبيها أن للنفس شبه عنصر تكون منه يناسب لطاقتها فإذا تأتت الروح الحيوانية أوجد ا‬
‫تعالى نفسا ل جوهلرا لطيلفا روحانليا عاللما بالقوة فى طبائاعه أن يعلم المورويقل بارئاه‪ ،‬فيتشبث بهذا الجسم ويشتغل به وينشأ معه‬
‫حتى ل يعرف سواه ويشتد إلفه وحرصه عليه من ا تعالى فيحرك الجسام‪ .‬وذلك كمثل الحديد فإنه يكون جمادال ل يتحرك فإذا‬
‫انضاف إليه أمر يقوى طبيعته وخاصيته قوى الثر فيه ‪ ،‬ويأتى المحل لفعل النفس الكلية فحركت الحديد فجرى ودار وتراه كالحى‬
‫فليزال على تلك الحال حتى ينخرم ذلك الفطام وتزول تلك الملئاكة‪.‬‬
‫ولما كانت النفس روحانية قبلت عن الروحانى وتأثرت عنه‪ .‬فلول العقول المعبر عنها بالملئاكة الممتدة للنفوس من خارج لما‬
‫عقلت معقولل البتة فإن النفس عالمة بالقوة فقط والملئاكة تخرج ما فى القوة إلى القعل حتى يصيرها عالمة بالفعل فأعلى طبقة فى‬
‫الستمداد النبياء صلى ا عليهم وسلم‪ ،‬ثم يليهم ‪ .‬وذلك بحسب تهذيب النفس والعكوف على هذه الجنبة وهذا هو المعنى بقوله‬
‫ليدمادن دوأدايدداهم هباروءح رَملناه(‬
‫ب هفي قاالوهبههام ا ه‬ ‫س( ]المائادة ‪ .[110:‬وقال تعالى فى الولياء ‪) :‬أ الودلهئا د‬
‫ك دكدت د‬ ‫ك هباروهح اللقااد ه‬ ‫تعالى ‪) :‬إهلذ أدايدمت د‬
‫]المجادلة ‪ . [22:‬الناس فى الخذ من الملك تفاوتا ل نهاية له ومن الناس من ل يأخذ شيئاا وهم المرادون بقوله تعالى ‪) :‬إهلن اهلم إهلا‬
‫ضمل دسهبيل( ]الفرقان‪ .[44:‬وإنما أوجد ل سبحانه النفس لمتحان الدمى ‪ ،‬ولو أوجدها مبرأة من المادة لم يكن‬ ‫دكالدلندعاهم دبلل اهلم أد د‬
‫ف دتلعدملودن( ]يونس‪ .[14:‬وذلك أن الملئاكة عرفت أن الموجود فى مادة‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫منها عصيان فجعلها فى مادة كما قال تعالى ‪) :‬لهدننظدر دكلي د‬
‫ك الرَددماء( ]البقرة ‪ .[30:‬فالنفس تكتسب فى بدنهاالكمال لكى تلحق بالملئاكة أو‬ ‫يعصى فقالوا ‪) :‬أددتلجدعال هفيدها دمن ايلفهساد هفيدها دوديلسهف ا‬
‫الشياطين إما بالعلى أو بالخس‪ .‬ثم هى بعد ذلك حية لن كونها موجودة مع البدن ل يدل على عدمها بعدم البدن فإن عنصريهما‬
‫مختلفان‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أن نفوس الملئاكة وذوات الفلك ل تتغير إل أن يريد بارئاها والفلك تقبله بجواهرها ‪ ،‬ولن الفناء هو انحلل‬
‫التركيب والنفس بسيطة ل مركبة والدليل عليه علمها بالمور العقلية والمغيبة كالنبوة والكهانة ‪ ،‬ول يصح البته أن يعقل الجسم‬
‫باتفاق العلماء والعقلء والمزاج عبارة عن اعتدال الخلط فى الجسم والخلط جسم فيستحيل أن تكون مدركة عاقلة‪ .‬وإنما‬
‫العاقل المدرك جوهر يناسب جوهر الملئاكة وكل جنس فل يلئام إل جنسه‪ .‬ولما كان الجسم كثيفا صرف فى الخدمة والحركات‬
‫والمور الجمسانية ‪ ،‬ولما‬
‫ص ‪66‬‬
‫كانت ‪ .‬النفس لطيفة أعدت للدارات والقدر والعلوم حالة فى النفس ‪ ،‬والعلم ل ينقسم فمحله ل ينقسم ولن الجسم لو كانت حركته‬
‫منه للزم فى الفلك أن تكون حركته منه ‪ ،‬وقد تبرهن أن حركته من نفس محركة ‪ ،‬وكل متحرك فى يكون محركا نفسه أصل‬
‫ويبطل أن يحركه جسم آخر إذ لو حركه جسم لستبد هو بالفعل فيبقى أن يحركه غير جسم وغير الجسم ل تركيب فيه ‪ ،‬وما يفسد‬
‫فإنما يفسد لجتماعه من متنافرات فينحل‪.‬‬
‫وقد تقدم أن النفس ل مركبة ‪ ،‬فالنفس تنحل وما ل ينحل يبقى فالنفس تبقى ‪ .‬ثم نقول ‪ :‬جميع ما هو جوهر فهو إما قائام بنفسه ‪ .‬وإما‬
‫على ما يعتقده المتكلمون فإن الجواهر عندهم متماثلة ول فرق بين جوهر النفس وجوهر الجسم‪ .‬وإنما تختلف الجواهر عندهم‬
‫بالعراض ويستحيل أن يكون الجوهر عندهم يحل محل فى الجوهر أو يقوم به ‪ ،‬فلو كان الجسم جوهرا والنفس جوهرا لم يصح‬
‫أن تكون النفس صفة للجسم ول أولى منه لتماثلها فى الجوهرية‪ .‬وإذا بطل أن تكون جوهرا أو عرضا لم يبقى أن تكون جوهرا‬
‫قائاما بنفسه ليست بعرض ول بجوهر‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ل يعقل فى العقل إل جوهر وعرض ‪ .‬وأما جوهر ثالث فل يدرى‪.‬‬
‫ضا‬‫قلنا ‪ :‬هذا إل أن سخف بل ليس فى العقل حصر يدل على ذلك ‪ ،‬وإنما أوجب تلك القسمة المشاهدة من حيث لم تشاهد إل عر ل‬
‫وجوهلرا وهذا قياس التمثيل وهو قياس باطل ‪ ،‬وسنعد كتالبا لتقرير البراهين إن ساعدت القدار بحول ا تعالى ‪ .‬وإذا ثبت وجود‬
‫معنى ثالث بالبرهان‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬هذا المعنى ل يخلو أن يجب له المحل أو يجوز عليه أو يستحيل ‪ .‬وبطل أن يجب له ‪ ،‬فإن الواجب العقلى ل يفتقر إلى‬
‫مخصص وذلك يلزم أن يكون النفس أبلدا غير خالية من محل ونحن نشاهد تركها للبدن فلبد من مدة تمر عليها ل تكون فيها فى‬
‫محل‪ .‬هذا لو قلنا إنها تنتقل من هذا الجسم إلى جسم ‪ ،‬فنقول مابين النتقالين ل تكون فى جسم والحكم الواجب ل ينتقض فى زمان‬
‫ما‪ .‬ثم نقول ‪ :‬من زعم أنها تنتقل إلىمحل فعليه الدليل وهذا ل يقوم عليه دليل البتة وإذا بطل أن يكون المحل واجبا لها بقى أن يقال‬
‫جائاز عليها‪ ،‬وما جاز على الشئ افتقر إلى مخصص والمخصص ل يؤثر فى محل إل أن يكون المحل قابل للتأثير ‪ ،‬وقد قدمنا أن‬
‫النفس يستحيل إنطباعها فى الجسم فصح وثبت أنها يستحيل عليها المحل‪.‬‬
‫الفصل الثالث فى أن النفس ل تعدم وأنها باقية‬
‫وقد قدمنا اختلف الفرق فى ماهية النفس وتقدم مذهب كل فريق ‪ ،‬والذى نخص‬
‫ص ‪67‬‬
‫به الن هذه المسألة أن نقول ‪ :‬تنحصر المذاهب فى مذهبين ‪ :‬إما أن يقال إن النفس قديمة على مذهب أفلطون فإن البارئ تعالى‬
‫عنده علة وجودها والمعلول عنده ل ينعدم إل بانعدام علته والبارئ تعالى ل ينعدم فالنفس ل تنعدم هذا مذهبه‪.‬‬
‫وذهبت طائافة من محققيهم أنالنفس محدثة وهو مذهب ابن سينا ‪ ،‬ولكن اتفق الكل على أنها ل تنعدم وبذلك أخبرت النبياء عليهم‬
‫اا دعلناهلم( ]المائادة ‪ .[119:‬وقال تعالى ‪) :‬دولد دتلحدسدبان الاهذيدن قاهتالولا هفي دسهبيهل ا ه‬
‫ا‬ ‫ضدي ا‬‫السلم ‪ .‬وقال تعالى ‪) :‬دخالههديدن هفيدها أددبلدا ار ه‬
‫أدلمدوالتا دبلل أدلحدياء هعندد دررَبههلم ايلردزاقودن( ]آل عمران ‪ .[169 :‬وقال سبحانه فى نفس الكافر ‪) :‬ثام ل دياموت هفيدها دول ديلحديى( ]العلى ‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ت إلا اللدملودتدة ا ا‬
‫لودلى( ]الدخان ‪ [56 :‬فإذا هما طرفان‪:‬‬ ‫‪ 13‬وطه ‪ .[74:‬وقال تعالى فى أهل الجنة ‪) :‬ل دياذواقودن هفيدها اللدملو د ه‬
‫أحدهما ‪ :‬عدمها واتفق المؤالف والمخالف على أنها ل تنعدم حاشا طائافة من الدهرية ل التفات إليهم‪.‬‬
‫الطرف الثانى ‪ :‬وهو ابتداؤها ‪ .‬فذهب السلميون والقائالون بالشرائاع إلى أنها محدثة لها ابتداء لكنها جوهر ل يقبل العدم ‪ .‬وذهبت‬
‫طائافة من الفلسفة إلى أنها محدثة ولكن مذهبهم يعود إلى مذهب أفلطون ‪ .‬وذلك معنى الحدوث عندهم انتقال ماهية الجوهر‬
‫كالماء إذا أشعل تحته النار ففنى فلم يفن عندهم تحقيقا‪ ،‬لكن الماء عندهم استحال هواء وكذلك الهواء إذا استحال نارال فالحدوث‬
‫عندهم عبارة عن تغيير حال الجوهر ‪ .‬وإذا فهمت هذا من مذهبهم فحدوث النفس عندهم عبارة عن انتقال جوهرها من حالة إلى‬
‫حالة كانتقال الماء إلى الهواء والذى يرجع إليه مذهبهم وا أعلم أن العناصر الحاصلة فى مقعر فلك القمر المنفعلة عن الفلك‬
‫تولد النفس منها‪ .‬وحاصل ذلك راجع إلى أشعة الكواكب ولكن عندهم بين النفوس والجسام مناسبة وعلقة لبد منها‪ .‬وذلك يكون‬
‫ابتداء الجسم للكائان من الغذية بأن تكون تلك الغذية تنقسم ما بين البروج‪ ،‬فإذا انفعل الجسم وخرج إلى صفحة العالم من طالع‬
‫مخصوص انجرت تلك الشعة التى للكواكب إلى الجسم بمناسبة مختصة من جهة مختصة بالطبع ‪ ،‬وعلى هذا بنوا آراء‬
‫الطلمسات ‪ ،‬فإن ابن آدم عندهم طلسم فيحتالون بأبخرة وعقاقير وجواهر مختصة من جواهر الرض تلئام طبيعة الكواكب والحب‬
‫والمنافرة عندهم على قدر تناسب الطبيعة ولهم فى هذا كلم طويل‪ .‬والذى يقوم عليه البرهان أن النفس حادثة إذ البارئ تعالى‬
‫موصوف بالقتدار على خلق جواهر ل تعدم ‪ .‬وسنورد إن شاء ا تعالى أصل مذاهبهم فى المعراج الثالث فى حدوث العالم‬
‫العلوى فل معنى ليراد ذلك فى هذه المسألة فلنتكلم على أنها ل تعدم ‪ .‬فنقول ‪ :‬الشئ ل يوصف بالعدم ما لم يقل إنه قابل للعدم‪.‬‬
‫وإذا كانت النفس قابلة للعدم فل تخلو أن يكون‬
‫ص ‪68‬‬
‫ذلك فى طبعها ويكون العدم ذاتيا له‪ .‬وإما أن تعدم لختلل شرط فى وجودها ‪ .‬وإما أن تعدم لرادة بارئاها أن تنعدم‪ .‬وبطل إن‬
‫يكون العدم من صفات ذاتها إذ ذلك يؤدى إلى أن تبقى زمانين وهو محال وبطل أن يقال هى باقية بشرط إذ قدمنا أن القائام بنفسه ل‬
‫يفتقر إلى شرط ‪ .‬وبطل أن يقال تعدم لرادة بارئاها فإن إرادة بارئاها يعلم إل من جهة الرسل عليهم السلم وقد أخبرت الرسل‬
‫عليهم السلم إنها ل تعدم وا ولى الهداية‪.‬‬
‫المعراج الثالث‬
‫لم يختلف أحد من ذوى العقول أن الصور الجسمانية فى عالم الكون والفساد حادثة مفتقرة إلى علة فى وجودها إما بارئ وإما‬
‫طبيعة على ما قدمناه وعالم الحس والشهادة والكون والفساد كل ما حواه فلك القمر وحصل مقعره‪ .‬واختلف فى العوالم العلوية‬
‫وهى نفوس الفلك وعقولها وما فيها من الكواكب وغيرها‪ .‬فأطبقت الفلسفة على قدم ذلك بل خلف فى العتقاد‪ .‬واختلف‬
‫عبارتهم فى التغيير عن حصولها عن البارئ تعالى وهو المبدأ عندهم وجرى المبدأ الثانى الذى هو علة لما تحته البارئ سبحانه‬
‫فجرى النور من الشمس ونور الشمس ضرورى الوجود معها فل ينعدم‪ .‬والبارئ سبحانه عندهم علة وهو معه كالمعنى الطبيعى‬
‫وغير متقدم عليه التقدم الطبيعى ‪ ،‬بل معنى تقدمه عليه بالمرتبة كتقدم الملك على الوزير والوزير على الحاجب ‪ ،‬ثم سموه بعد ذلك‬
‫ضا وكل على سبيل المجاز ل الحقيقة‪.‬‬ ‫حدوثا ا وفعلل وفي د‬
‫والعالم عندهم ينقسم إلى قسمين ‪ :‬قائام بنفسه وغير قائام بنفسه ‪ .‬فما ليس قائاما بنفسه هى العراض وحدوثها عندهم عن دوران‬
‫الفلك والنتقالت فتسرى الدوار من شئ إلى شئ وتكتسب الجواهر بذلك أحوال وماهو قائام بنفسه منقسم إلى ثلثة أقسام ‪ :‬أجسام‬
‫وهى أخس الجواهر وعقول أشرف الموجودات ونفوس وهى واسطة بين الجسام والعقول وهى فى حكم الرابطة بين العقول‬
‫والجسام كالحرف الرابط بين السم والفعل والكلمة وهى غير مؤثرات فى الجسام ‪ .‬ثم الجسام عشرة تسع سموات والعاشر‬
‫عناصر التى هى حشو فلك القمر ‪ .‬ثم السموات التسع حية عندهم ناطقة ولها ترتيب ودرجات وهو أن البارئ تعالى عن قولهم‬
‫فاض عنه على الطريق التى ذكرناها العقل الول وهو العلم‪ ،‬والكلمة عند أكثرهم وهو جوهر قائام بنفسه ليس بجسم ول هو منطبع‬
‫فى جسم يعرف نفسه ويعرف بارئاه وهو ملك‪ .‬وربما زعموا أنه هو القلم‪ .‬ثم لزم عن وجوده ثلثة أشياء ‪ :‬عقل ونفس الفلك‬
‫والقصى وهو التاسع وهو السماء وجرمها ‪ ،‬ثم لزم من العقل الثانى عقل ثالث ونفس وفلك الكواكب الثابتة وجرمه ‪ ،‬ولزم عن‬
‫العقل الثالث عقل رابع ونفس‬
‫ص ‪69‬‬
‫فلك زحل وجرمه ‪ ،‬ولزم عن العقل الرابع عقل خامس ونفس وفلك المشترى وجرمه هكذا إلى فلك القمر ‪ ،‬ثم ما فى حشو الفلك ثم‬
‫المواد التى تسير فى سبب حركات الكواكب امتزاجات مختلفة تنفعل منها المعادن والحيوانات والنباتات ‪ ،‬فالعقول عشرة والفلك‬
‫تسعة ومجموع ذلك تسعة عشر‪ .‬وزعم بعضهم أن ذلك هو المراد بقوله تعالى ‪) :‬دعدلليدها هتلسدعدة دعدشدر( ]المدثر ‪ . [30:‬وزعم‬
‫بعضهم أن ذلك الثنى عشر برجا ل والسبع للدارى وإلى هذا يرجع حقيقة مذهبهم وعليه مدار سائار مذاهبهم فى كل فن ‪ ،‬واتفقوا‬
‫على أن ا تعالى واحد وحدانية ل تقبل النقسام ل بالحس ول بالعقل ولغير ذلك ‪ ،‬وأنه ل معنى له يزيد على ذاته من علم أو‬
‫قدرة أو غير ذلك‪ .‬هذا هو مذهب المحققين منهم الذى اتفقوا عليه‪.‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫وما يظهر من الختلف فى أقوالهم فى العالم كتحير جالينوس حيث قال ‪ :‬ل أعلم قديما أو حديثا فقد قال الفارابى من محققبهم أو‬
‫معنى ذلك أن العالم يتعارض عليه فهو ضربان لنقسامه فى نفسه إلى القديم والحادث‪ .‬فإذا انفرد الكلم ارتفع الغلط ‪ .‬فمعنى قولهم‬
‫العالم محدث له معنيان ‪ :‬أحدهما حقيقة ‪ ،‬والخر مجاز ‪ .‬فأما ما هو حقيقة فهو تركيب الصور فى عالم الكون والفساد من المادة ‪.‬‬
‫وأما المجاز فتسيمتهم العلة الولى حدوثا ل وفيضا ل وذلك راجع إلى تسمية مجردة ‪ ،‬فأنه ل يصح عندهم أن يصدر حادث من قديم‬
‫البتة‪.‬‬
‫ولنرسم فصلين أحدهما يقتضى الدللة على أن العالم محدث ‪،‬ويتضمن الثانى الكشف عن أدلتهم فى أن السماء حية‪.‬‬
‫الفصل الول‬
‫لهم على مذهبهم أدلة نوردها وننفصلعنها قالوا يستحيل أن يصدر حادث عن قديم حدوثا ل ل واسطة له لن الله إذا فرضنا وجوده‬
‫فى الزل موجود معه البته والموجودات لم تصدر منه لن إيجادها لم يظهر به بل كان عنده حيز المكان المجرد ‪ ،‬ثم إنه أحدث‬
‫العالم فإحداثه ل يخلو من حالين‪ :‬إما أن يكون بقى على حالته الولى ‪ ،‬وإما أن يكون حدثت له صفة تقتضى الحداث‪ .‬وذلك يلزم‬
‫السؤال ‪ .‬بلم ؟ فيقال ‪ :‬لم خصص هذا الوقت بالفعل دون الوقت السابق أو يحال المر على فقد آله ووجودها‪ ،‬ويبطل أن يكون‬
‫لرادة حادثة فإن الحادث ل يحل التقديم ويبطل أن يخلقها فى محل ثم يريد بها وكل هذا باطل ‪ .‬وأما قولهم إنه لم يفعل ثم فعل فذلك‬
‫يوجب تغيير الحال‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬ذلك فإنه تعالى لم يزال عالما ل وليزال ‪ ،‬ومقتضى علمه إيجاد الخلق فى المبدأ الذى أوجدهم فيه وقصد إلى خلقهم حين ابتدأ‬
‫خلقهم ‪ ،‬وذلك راجع إلى إظهار الفعل‬
‫ص ‪70‬‬
‫و ليس من شرط العالم إذا كان قادرا أن يلزم المعلوم و المقدور‪ .‬و البارىء تعالى ل يقال له لم‪ ،‬فبسقط ما موهوا به‪ ،‬فإن قالوا‪:‬‬
‫البارىء تعالى ل علم له‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬بل هو عالم ل يتغير عما علم فى وقت ما ل فى الماضى و ل فى المستقبل كما يدل علبه‪ ،‬و من الدليل على حدوث هذا العالم‬
‫أن فى القول يقدمه إثبات حوادث ل نهاية لها‪ .‬فلك الشمس يدور فى سنه‪ ،‬و فلك زحل فى ثلثين سنة‪ ،‬فتقع أدوار الشمس فى زحل‬
‫فى ثلث العشر‪،‬و تقع أدوار الشمس فى أدوار المشترى فى نصف السدس‪ ،‬فإنه يقع مدة اثنتى عشرة سنة‪ ،‬فإذا كانت دورات زحل‬
‫ل نهاية لها و ل عداد‪ ،‬و كذلك الشمس و كذلك المشترى فذلك يبطل ان تقع الشمس لحدهما فى التكسير على ما وصفنا‪ ،‬بل فلك‬
‫الكواكب الذى يدور عندهم فى ستة و ثلثين ألف سنة مرة‪ .‬ثم نقول اعداد هذه الدورات ل تنفك أن تكون شفعا أو وترا أو شفعا و‬
‫وترا أو ل شفع و ل وتر و بطل أن يقال ل شفع و ل وتر‪ ،‬فإن العداد إما شفع و إما وتر‪ ،‬و قد صححتم هذه المقدمة فى المنطق‪ ،‬و‬
‫كذلك إن قلتم شفعا و وترا‪ ،‬فإن قلتم شفعا فما ل نهاية له ل يعوزه واحد يصير العدد وترا و محق أن يعوزه و إن قيل وترا ثبتت‬
‫النهاية‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ما ل يتناهى ل يقبل النصاف بالشفع و الوتر‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬هذا محال إذ جملته قامت من سدس و عشر تقبل ذلك بالضرورة و غاية كلمهم مطالبة البارىء سبحانه بما خص و وقت‬
‫المبدأ من غيره‪ ،‬و هذا العتراض ل يعقل له مناسبة و ل يلزم بحال‪ ،‬فكل ما يهزون به يحمل على العلم و الدارة على أن نقول‬
‫ربما الصلح بهم خلقهم فى الوقت الذى وجدوا فيه‪.‬‬
‫الفصل الثانى‬
‫و هذا الفصل ينقيم إلى ثلثة أقسام‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬فى ذهابهم إلى السماء حية‬
‫و الثانى ‪ :‬قولهم إن السماء عالمة بجزئايات العالم‪.‬‬
‫و الثالث ‪ :‬فى ترتيب الحركات‬
‫قالوا‪ :‬السماء حية و لها نفس‪ :‬نسبة نفسها إلى جسمها كنسبة أنفسنا إلى اجسامنا‪.‬‬
‫و كما تنقسم حركاتنا إلى الطبيعة و الرادية كذلك حركة هذة إراديها و طبيعيها قصدها عبادة رب العزة و التقرب منه إذ كل‬
‫تحرك إرادى لغرض إذ بذلك يفارق العاقل سائار الحيوان‪ .‬ثم قصد التقرب الغرض به عندهم التشبه بالبارىء تعالى فى الصفات‬
‫ل فى الذات‪ ،‬فإن الكمال العظم و البهاء التم و الجود الفخم ل رب العالمين‪ .‬و كل وجود بالضافه إلى وجوده‬
‫ص ‪71‬‬
‫ناقص‪ ،‬و الملك اقرب إليه و نعنى بصفات الباىء تعالى العلم والحلم و الجود و الرحمة و النزاهة عن الظلم إلى غير ذلك‪ .‬و‬
‫النسان متى استعمل هذه الصفات قرب من الملك فهو قرب مناسبة فى الخلق و الصفات ل فى المكان و كذلك الملئاكة مع بارئاهم‬
‫قالوا ‪ :‬و المنهى طبقة الدميين التشبة بالملئاكة‪ .‬و الملئاكة عندهم عبارة عن النفوس المحركة للسموات‪ ،‬قالو ‪ :‬و كمالتها تنقسم‬
‫إلى ما بالقوة و ما بالفعل‪ ،‬فما هو بالفعل كونها على شكل كرى و ذلك بالفعل حاضر أبدا و ما لها بالقوة الهيئاة فى الوضع و الين‬
‫فكل وضع ممكن لها‪ ،‬و ما لم يمكنها فلعدم ثباتها تحركت تبغيها فل تزال تطلب وضعا بعد وضع‪ ،‬إنما قصدة التشبة ببارئاة فى‬
‫صفات الكمال فهو يتحرك لفاضة الجود على ما تحته من العوالم إذ ليست تختلف فى التثليث و التربيع و المقابلة و اختلف‬
‫الطوالع‪ .‬و هذا الكل ل يقوم علية برهان‪ ،‬فإن الحركة المشرقية هل كانت المغربية و هل كانت المغربية مشرقية ‪ .‬فأما عنوان‬
‫أدلتهم فى أنها حية فزعموا أن السماء متحركة‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬و هذا معلوم بالحس و الضرورة و مل جسم متحرك فله محرك و لبد‪ .‬و هذه مقدمة أخرى إذ لو تحرك الجسم بمجرد كونه‬
‫جسما لكانت الجسام كلها متحركة‪ ،‬و المحرك لها إما أن يكون طبيعة لها كهوى الحجر إلى أسفل‪ .‬و إما أن يكون المحرك لها‬
‫خارجا عنها كرمى الحجر إلى فوق فيكون قاسرا له على ذلك‪ .‬و إما أن تتحرك بإرادتها و يبطل أن تكون حركتها قسرية‪ ،‬لن‬
‫محركها إما جسم فيلزم فيه ما لزم فى هذا‪ ،‬و إما أن نقول يحركها اللة تعالى بغير واسطة‪ .‬قالوا‪ :‬وذلك محال لنه لو حركه من‬
‫حيث إنه خالف للزم أن يحرك كل جسم فل بد من اختصاص الحركة بمزية‪ ،‬و ل يمكن أن يقال تحركها بالرادة لن إرادته تناسب‬
‫الجسام نسبة واحدة‪ ،‬فلم خصت هذه بالتحرك دون غيرها و الحركة الطبيعية فيها محال لن الطبيعة تلزم ضربا واحدا‪ .‬ثم‬
‫الحركة الدورية ل يصح فيها فإن كل مضروب عنه فل يلزم عودها إليه فتتساوى الماكن‪ ،‬و نحن نسلم جميع ما ذلك ذكروا حاشا‬
‫قولهم يبطل أن تتحرك لرادة ا إذ يلزم ذلك فى شكل السماء و تحركها على نقطتين‪ ،‬و لم اختصت بهذة الصورة‪.‬‬
‫القسم الثانى‪ :‬قالوا إذ صح أن السماء متحركة بلرادة فهى عالمة مطلعة على جزئايات العالم‪ ،‬قالو‪ :‬و المراد باللوح المحفوظ‬
‫نفوس السموات و أن انتقاش جزئايات المعلومات و ما فيها كانتقاش المعلومات فى القوة العاقلة فى النسان‪ ،‬قالوا‪ :‬و الملئاكة‬
‫السماويات نفوس السماوات و الكروبيون المقربون العقول المجردة التى هى جواهر قائامة ل تتحيز و ل تتصرف فى الجسام‪ ،‬و‬
‫استدلوا على أن السماء عالمة بالجزئايات‪ ،‬بأن قالوا‪ :‬الحركة الدورية إرادية و الرادة تتبع المراد‪ .‬و المراد الكلى ل يتوجه إليه‬
‫الراده الكلية و الرادة‬
‫ص ‪72‬‬
‫الكلية ل يصدر منها شىء‪ ،‬فإن كل ما خرج من الفعل موجود و جزئاى و نسبة الرادة الكلية إلى الجزئايات على وتيرة واحدة فل‬
‫يصدر عنها شىء جزئاى‪ ،‬بل ل بد من إرادة جزئاية للحركة المعينة و ذلك يلزم تصورة لتلك الحركات الجزئاية بقوة جسمانية إذ من‬
‫ضرورة كل إرادة تصور مرادها‪ ،‬و إذا ثبت تصورها الجزئايات علمت ما يلزم منها من اختلف النسب من الرض مع اختلف‬
‫أجزاءة فى الطلوع الغروب و الستواء‪ ،‬فإذا الحركات السببية للمسببات سلسل تنتهى إلى الحركة السماوية الرادية و النسان‬
‫إنما ل يعلم ما يقع فى المستقبل بجهله بالسباب‪ ،‬و هذا كله باطل فى حق السماء فإنه موجود إلى تتابع حوادث ل نهاية لها و هذا‬
‫محال‪ .‬نعم يصح هذا فى حق البارىء تعالى من حيث إن المعلومات عنده على وتيرة واحدة تابعة لرادته و علمه‪ ،‬و ذلك ل يلزمه‬
‫على شكل يوجب له ذلك أو دوران و ما لزم عن شكل و دور افتقد إلى مريد موجود لذات الشكل و الدور فمر يده بالعلم أول و‬
‫يبطل تساوى الخالق و المخلوق فى العلم فإنه إذا علم الفلك لوازم الحركات إلى ما ل نهايه له و علم البارىء سبحانه لوازمها إلى‬
‫ما ل نهاية له‪ ،‬فل يخلو علمهما لها إما أن يتطابقا أو يتضادا‪ ،‬و متى تطابقا أو تضادا فهو نقصان لمن يستحق الكمال التم‪ ،‬و قد‬
‫اتفقوا على أن البارىء تعالى منفرد بذلك‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬ما ذكرناه فى القسمين السابقين ينقسم إلى ما ل يصح و ل يقوم علية برهان و إلى ما ل يقوم علية برهان‪ ،‬كعلمنا أن‬
‫السموات متحركة و أن الحركات مختلفة فى التغريب و التشريق و أختلف المطالع و الغارب و تعلق الحوادث بذلك‪ ،‬لكنا نزعم‬
‫أن ذلك تابع لرادة البارىء سبحانة و علمة فى كل دقيقة من الزمان و هم يزعمون أن السماء و نفوس الفلك مستقلة بذلك من‬
‫جهة إرادتها و علمها‪ ،‬فنجعل هذا القسم ثلثة فصول ‪:‬‬
‫الفصل الول ‪ :‬فى أن ا سبحانة عالم بالمعلومات‬
‫الفصل الثانى ‪ :‬أنه مريد للكائانات‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬فى غرض القسم فى ترتيب الحركات‬
‫الفصل الول فى أن ا سبحانة عالم بالمعلومات‬
‫اتفق المثبتون للصانع على أن ا تعالى عالم‪ ،‬و اختلفوا فيما هو به عالم و هل علمه زائاد عليه أم ل‪ ،‬و هذا التفاق فى إثبات العلم‬
‫كاف و نزيده بيانا أن تقول ل يخلو العالم أن يكون له محدث أو ل محدث له‪ ،‬فإن لم يكن له محدث بطل بما قدمناه‪ .‬و إن كان له‬
‫محدث لم يخل أن يحدثه وهو عالم به أو غير عالم به‪ .‬فإن قيل ‪ :‬أحدثه و ل علم له به فهو إما مقهور أو ذاهل و هذا باطل إذ ذاك‬
‫محال و قد تقدم ما ينفية فلم يبق إل أنه عالم‪.‬‬
‫ص ‪73‬‬
‫فإن فيل‪ :‬هو عالم و لكن بالكليات‪ ،‬و أما الجزئايات فذلك يوجب تجدد علمه بتجدد الوارد و ذلك باطل‪ ،‬و الذى يلزم فى حدوث جزء‬
‫منه‪ ،‬فإن الحدوث ل يختلف فلو صح أن تحدث خردلة دون علمه لجاز أن تحدث السماء دون علمه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬سلمنا أن محثا ل يحدث و هو ل يعلم به‪ ،‬بل للملئاكة الموكلين بذلك فى علمهم بالمعلومات استقلل و هذا منتهى شبههم‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬ذلك محال فإن الباىء سبحانه عندكم عقل محض و من شرط العقل المحض المبرأ عن المادة أن ل يجهل معلوما‪ ،‬و إنما طرأ‬
‫الجهل على النسان من حيث هو فى مادة فاشتغل بها عن غيرها‪ .‬فنقول‪ :‬قد علمتم أن السماء عالمة بالجزئايات فهل أوجبتم ذلك‬
‫لرب العزة على الوجه الذى أثبتوه للسماء؟ فإن قالوا‪ :‬يلزم طرؤ الحوادث عليه‪ .‬قلنا‪ :‬ل يلزم لن علمه قديم علم ما يكون من‬
‫تركيبات العالم و انتقالته إلى منتهى و على اصلكم من حيث علم السباب الول يلزمه علمها و علم توابعها و توابع توابعها‪ ،‬فإن‬
‫من علم علم المسبب و ما من سبب إل و له مسبب هكذا إلى منقطع السلسلة‪ .‬ثم الحدوث و التغير يطرآن على الحوادث و هى‬
‫جارية على ما علم فعلمه واحد ل يتغير و إنما تغيرت هى من حيث علم تغيرها فى علمه أنها يترتب بعضها على بعض‪.‬‬
‫فإن قيل‪:‬فهل علمه زائاد على زاته أو هو عين زاته؟‬
‫قلنا‪ :‬ذهبت المعتزله إلى أن ذاته عين علمه‪ ،‬و ذهبت الشعريه و أكثر الفرق إلى أن علمه غير ذاته‪ .‬و الذى أعتقده أن ا سبحانه‬
‫عالم و قد قام الدليل على علمه‪ ،‬فهذه مقدمة المقدمة الثانية إن ثبت أن إثبات كون العلم مغايرا ل للذات محال‪ ،‬و ذلك أن نقول ل يخلو‬
‫أن يكون العلم نفس الذات و هذا ل نعتقده‪ ،‬أو نقول أنه زائاد عليها و هو مذهبكم‪ .‬فإن كان زائادال عليها فل يخلو أن يستقل دون الذات‬
‫بأن يكون واجب الوجود أو تكون الذات شرطا ل فيه‪ ،‬فإن استقل دون الذات و كان قديما قائاما ل بنفسه فهما إلهان الذات و العلم و ذلك‬
‫محال‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬الذت من شرطه؟‬
‫قلنا ‪ :‬ل يخلو أن يكون قديما ل أو محدثا ل‪ .‬فإن كان قديما ل بطل أن يكون القديم شرط القديم‪ ،‬و إن كان محدثا ل فل يخلو إما أن يقوم بذات‬
‫البارىء تعالى أو بغيره‪ ،‬فإن قام به لزم قيام الحوادث بذاته و هذا باطل و إن كان بغيره‪ ،‬فالعلم إذال ليس من صفات ذاته‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا إذال نفس اعتقاد المعتزلة‪ .‬قلت‪ :‬نفارقهم بفضل و هو أن مذهبنا ان ا سبحانه عالم بالكليات و الجزئايات و ل يطلق‬
‫عليه ل علمه ذاته و ل غيرها لن التحكم بإضافة إسم إلى البارىء تعالى و إطلقه طريقة الشرع‪ ،‬و ليس فى حكم الشرع ما يدل‬
‫على‬
‫ص ‪74‬‬
‫أن العلم زائاد‪ ،‬بل ورد ذلك مطلقا ل و شهدت أدلة العقول على أن ا تعالى عالم‪ ،‬و أن العلم ل يصح أن يكون موجودال قديما ل قائاما ل‬
‫بنفسه مستغنيا ل عن البارىء تعالى و بطل أيضا ل أن يكون قديما ل يفتقر إلى شرط‪.‬‬
‫الفصل الثانى فى أنه مريد للكائانات‬
‫هذا الفصل معقود للرادة‪ ،‬و هى مسألة مشكلة و عليها انبنى تعطيل المعطلة فلبد من تفصيل القول فيها إن شاء ا تعالى فنقول‪:‬‬
‫الرادة حقيقتها المفهومة إجماع النفس على الفعل عند انبساط القوة المنزوعة‪ ،‬و يحركها إلية فى القوة الخيالية شىء يرغب فيه أو‬
‫يهرب عنه‪ ،‬و هكذا الوصف مستحيل فى ذات البارىء تعالى‪ ،‬فإذال الرادة اللهية عبارة عن إيقاعه الفعل مع أنه غير ذاهل عنه‬
‫فالقصد إلى إحداث المحدث و العمد إليه سمى إرادة‪.‬‬
‫و حقيقة ذلك تؤول إلى خروج الفعل من القوة إلى الفعل‪ .‬و قد فام الدليل على أن ا تعالى عالم و أنه مبدىء العالم و ثبت افتقار‬
‫العالم إليه‪ ،‬و اتفق على ذلك الكافة و إن سموه عله فقد أطبقوا على العالم ل قوام له دونه و ثبت علمه به و علمه تعالى بالمعلومات‬
‫فيما كان أو يكون على وتيرة واحدة ل يتغير و ل يجهل و ل يذهل‪ .‬و العلم متى أضيف إليه فهو قبل الفعل أبدال و دائاما ل بعده ثم‬
‫تعلق العلم بأنه سيكون إذا أضيف إلى جهة المعلومات فتنقسم المعلومات فى حقه إلى ما يكون و إلى ما كان فكل ما يكون فهو فى‬
‫القوة و ما كان فقد خرج إلى الفعل فتغير حال المعلو م ل العلم ‪.‬‬
‫و هذه قاعدة عظيمة إذا فهمت على هذه الرتبة‪ ،‬و إذا تقرر هذا فكل ما هو فى القوة سيكون فالرب سبحانه مريد لن يكون من‬
‫حيث رتب تعالى السباب على ما جرى به علمه فهى مطابقة على ما سبق به العلم‪ ،‬فإطلق الرادة فى هذا الموضوع على معنى‬
‫أن المراد معلوم و نظم القياس كل مراد معلوم‪ ،‬و كل معلوم جار على ما أراد ا تعالى‪،‬و كل مراد جار على علم ا تعالى‪ .‬و إذا‬
‫صح أن يكون العلم علة المراد الذىفى القوة فما هو بالفعل تابع لما فى القوة و المر ظاهر‪ ،‬فما خرج إلى الفعل فنفس حدوثة دليل‬
‫على إقاع ا نعالى له و إقاعه له هو المطلوب بالرادة تابعه للعلم‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فالمعلومات هل هى متناهية أو ل متناهية؟‬
‫قلنا‪ :‬هذا السؤال يفتقر إلى تفصيل فل يخلو السائال أن يضيف التناهى إلى المعلومات فمن ضرورة العقل أن يكون المعلوم محاطا ل‬
‫به‪ ،‬و كل محاط به فمحدود‪ ،‬و كل محدود متناه فكل معلوم متناه كان المعلوم فى القوة أو خرج إلى الفعل‪ ،‬فإذا العالم بأسره من‬
‫الكرة التاسعة و ما يحويه و توابعها من أجناسها و أنواعها و أشخاصها و ما يلزم عنه متناه محصور فى علم ا تعالى‪.‬‬
‫ص ‪75‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هذا مسلم و لكن السؤال هل البارىء تعالى عالم بما ل يتناهى أم ل؟‬
‫قيل‪ :‬هذا سؤال مستحيل من هذا الوجه فإن كل معلوم متناه فكان حاصل السؤال أن نقول كل غير متناه أم ل‪ .‬و هذا انحراف عن‬
‫صوب الصواب‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فهل يقال يصلح أن يكون العلم حاصرال لما يتناهى أو ل؟‬
‫قلنا‪ :‬العلم فى نفسه ل يصح التصاف به متى فرض إل مضافا ل إلى معلوم و إل بطلت خاصية العلم فمتى أضيف كان المعلوم‬
‫منحصرال‪ .‬فبقى أن يقال ذلك على وجه واحد و هو أن يكون العلم القديم يتعلق بأن عوالم تتعاقب و هى متى أضيفت إلى نفسها‬
‫انحصرت‪ ،‬و متى أضيف و التناهى إلى علم ا تعالى بطل لن العلم ل يقال فيه متناه أو غير متناه‪ ،‬و هذا أصل الغلط فربما ظن‬
‫من ل حقيقة عنده أن المعلومات متى كانت متناهيه كان علم ا تعالى متناهيلا‪ ،‬و هيهات ما قدروا ا حق قدره‪ ،‬فالمعلومات هى‬
‫المتصفه بالنهايه من حيث تقبل التناهى حتى زعم أكثر المتكلمين أن الكيفيات ل يقال متناهية أو غير متناهية‪ ،‬فكيف بعلم البارىء‬
‫تعالى؟ فإنه ليس من قبيل العراض و ل من قبيل الجواهر‪ ،‬فكيفما أدرت المسألة رجع حكم النهاية إلى المعلوم ل إلى العلم و ذلك‬
‫ل نقص من قدر ا تعالى و ل يقال له بذلك عاجز‪.‬‬
‫الفصل الثالث فى ترتيب الحركات‬
‫ل خفاء على ذى بصيرة أحاط علما ل بما قررنا من افتقار العالم إلى البارىء تعالى و إثبات العلم له‪ ،‬فإن المعلوم ل يخرج عن العلم‬
‫إذ ذرة فى السموات أو فى الرض ل تتحرك أو تسكن إل و هى مقيدة فى علم البارىء تعالى فى كتاب ل يضل ربى و ل ينسى و‬
‫ما من حركة ول قبض و ل بسط و ل وسوسة و ل هاجس إل و البارىء تعالى عالم بذلك الن كعلمه فى الزل و كعلمه بعد‬
‫انقضاء الفعل‪ ،‬و كيف ل و قد قدمناه أن أكثر المنتمين إلى الحذف و العلم بالله جل جلله برهنوا على أن الفلك عالم بجزئايات‬
‫العالم‪ ،‬و قد أقروا بأن الفلك مسخر لمدبر عليم قاصد بحركته التقرب لبارئاه تعالى‪ ،‬فمن أولى باتصاف الكمال السيد أو العبد‬
‫فسبحانه ذى العرش المجيد و البطش الشديد }ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد{ )ق‪ (18:‬و هو أدنى إلى عبده من حبل الوريد }‬
‫ما يكون من نجوى ثلثة إل هو رابعهم و ل خمسة إل هو سادسهم و ل أدنى من ذلك و ل أكثر إل هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئاهم‬
‫بما عملوا يوم القيامة إن ا بكل شىء عليم{ ]المجادلة‪ [7:‬و قال تعالى‪ } :‬و عنده مفاتح الغيب ل يعلمها إل هو و يعلم ما فى البر‬
‫ب مبين{ ]النعام‪ [59:‬و هذه‬ ‫و البحر و ما تسقط من ورقة إل يعلمها و ل حبة فى ظلمات الرض و ل رطب و ل يابس إل فى كتا ء‬
‫الية من‬
‫ص ‪76‬‬
‫الى التى هى أم الكتاب‪ ،‬فذكر تعالى أن عندة مفاتح الغيب‪ .‬و من قام عندة البرهان بما تقدم طلب معنى تحمل المفاتح علية‪ ،‬و قد‬
‫اهتدت الفلسفة إليه لو أضافوا ذلك إلى رب العزة‪ ،‬فإن السباب و مسبباتها علمها عز و جل و ل يصح أن يعلمها أول ثم ل يعلمها‬
‫بعد حدوثها إذ ذاك يؤدى إلى تغيره‪ ،‬و يبطل أن يعلمها علما ل كليا ل ثم تستجد له علم عند حدوثها و ذلك أيضا ل باطل‪ ،‬و صح أن ا‬
‫تعالى عالم بها قبل كونها علما ل بدقائاقها ل يعدوه‪ ،‬فلو صح أن يتعداه لخروج عن كونه عالما ل بها‪ ،‬و إذا ثبت ذلك بحسب ما ترتب‬
‫فى العلم ترتب فى الوجود فل يعدو منها شىء علمه و إن اردت مثلل فالخبز ل يخبز ما لم يكن عجينلا‪ ،‬و ل يصح أن يكون عجينا ل‬
‫ما لم يكون دقيقا ل و ل يصح أن يكون دقيقا ل ما لم يكن قمحلا‪ ،‬و ل بد من طحنها و ل بد من حجر طحين و من محرك للرحى و‬
‫صفات المحرك‪ ،‬فهذه أسباب لزمه ضروريه لبد منها‪ ،‬فهكذا فافهم الباىء مع علله تبارك و تعالى‪ ،‬فالسباب هى المفاتيح و‬
‫المسببات هى المفتوحات بها‪ ،‬و ل يصح أن يستولى عليها غيره و من علم بعضها فبتعلمه و من علم بعضا ل ل يأتى عليه حميعا ل‬
‫كائانا ل من كان نبيا ل مرسلل أو ملكا ل مقربا ل ‪ ،‬و ذكر تعالى الظلمة نهاية فى تعظيم علمه بالشياء الغامضه التى فى غاية الغموض‪ ،‬و‬
‫كذلك ذكر الرطب و اليابس من حيث إن كل رطب يقتضى البارد و الحار و كذلك لليابس إذ ذلك من ضرورته‪.‬‬
‫فالسموات و الرض و ما فيهما من علمه و له المثل العلى كسفرة بين يدى أحدنا يدير ما فيها بما يشاء و علمه بجزئايات المور‬
‫و ما بينهما إلى علمه و قدرته أنذر و أحقر من نسبة السفرة إلى إحاطة علم بما ل يتقدر و ل يتناهى ‪ ،‬و إنما هو ضرب مثل لكنه‬
‫تعالى تقدس عن الجوارح و الدوات و المباشرة و كان اللئاق بجلله أن تنفعل له الشياء بمجرد قصوده لكونها‪ ،‬و لكن خص‬
‫بعلمه و حكمته أن يكون العالم على نظام و ترتيب ليترتب بعضه على بعض‪ ،‬و هذا نعلمه بالضروره و ل ينكر و ل يتمارى فيه و‬
‫ل استحالة فية‪ .‬و إنما الممتنع أن يكون فى ملكه ما ل يريد أو يفعل شيئاا ل محدث دونه أو يحدث ما ل يعلم فى ملكه تعالى و تقدس‬
‫عن ذلك سبحانه‪ .‬و إذا حصلت ما تقدم علمت أن مبدأ الحركه منه تعالى إذ قام عندك برهان على جرى العالم كله و ترتيبه على‬
‫السابق و أن علمه ل يتغير‪ ،‬و تقدم لك أن العالم منفعل له‪ ،‬و ذلك لزم ااعالم لزوما ل ضروريا ل و هو تعالى مخطار و الحديد منطبع‬
‫للمغناطيس بخاصية فبه‪ .‬و هذا فى عالم الحس فما ظنك برب العزة ذى الجلل و الكمال؟‬
‫و إذا فهمت هذا فاعلم أن الحركات ثلثة‪ :‬إما على الوسط كتحرك الفلك‪ ،‬و إما من الوسط كالهواء و البخرة الصاعدة علولا‪ ،‬و‬
‫إما إلى الوسط كحركة الحجر إلى أسفل يطلب‬
‫ص ‪77‬‬
‫مركزه يطبع فيه‪ .‬ثم هذه الحرطه ضربان ‪ :‬ضرورية و اختيارية‪ ,‬و لها نسبتان‪ :‬نسبة نفسها و نسبة إلى بارئاها فمتى أضيف فعلها‬
‫إلى بارئاها فهو مختار لها بأجمعها ليس شىء منها إل بتدبيره و حكمه و قضائاه و حكمه له اقتضت كونها على جهة مخصوصة و‬
‫زمان معين و شخص معين تقدمت تلك الحركة أو تأخرت كانت بالقوة أو بالفعل‪ .‬و هذا لزم ضرورة‪.‬‬
‫و أما النسبة الثانية و هى نسبتها إلى المتحركين فتنقسم ثلثة أقسام ‪ :‬إما مختارة و هذا يختص بالحيوان‪ ،‬و إما مضطرة و هذا‬
‫يشتمل الجماد و الحيوان و هو إما ملزم و إما عرضى‪.‬‬
‫فأما الفعال المختارة فهى موقوفة على إشارة النفس و تحركها و الشياء التى تحت النفس طائاعة لها انطباع النفس لبارئاها جعل‬
‫ذلك فى طبيعة الخلقة و النفس منفعلة بإشارة العقل و العقل منفعل لبارئاه تعالى‪ .‬و أما نفوس الملئاكه فحركتهم الختيارية عن‬
‫عقولهم و عقولهم عن بارئاهم فل عصيان فى افعالهم البتة كما قال ا تعالى } ل يعصون ا ما أمرهم و يعلون ما يؤمرون{‬
‫]التحريم‪ .[6 :‬فهم أبدال جارون على علم بارئاهم تعالى و موافقون لما يرضاه‪ .‬و أما غير ذلك من الحيوانات المركبة من المواد فلم‬
‫تكن مجردة عن المادة و كان لها علوق بالبدان و كان للنفس جنبتان ‪ :‬جنبة إلى المل العلى و جنبة إلى العالم السفل‪ ،‬و نعنى‬
‫بذلك كونها بالفصل المشترك أى هى مأمورة بأن تراعى جهتين جهة الملئاكة بأن تكون متشبهة فى الفضائال بها و أن تكزن عاكفة‬
‫كعكوفهم على عبادة بارئاهم‪ ،‬فهذه جنبة أمرت بمراعاتها‪.‬‬
‫الجنبة الثانية‪ :‬و هى الجنبة السفلى و هى علقتها بالجسم المنفعل من المواد المركبة من الطباع و هى مولعة بإصلحه و سياسته‬
‫كالمك الذى عمر بلده و ولع بسد ثغره و إصلح رعاياه و عمارة أرضه و مقابلة عدوه و جلب المنافع إليه و دفع المضار عنه‪ ،‬و‬
‫صارت النفس متحيرة تطالبها الجنبتان كل واحدة بأن توفيها من العدل قسطها و تجريها على القانون العدل و السيرة اللهية‪ .‬و لما‬
‫خلقها ا تعالى على هذا النسق و الترتيب خصت الحكمة اللهية النسان بأن أعانه و قواه و أعطاه أدوات و مكنه من الجنبتين و‬
‫أيده من جهة الجنبة العليا بالعقل ليتلقف به عن ملئاكة ا و رسلة و يفهم به مراد بارئاه‪ ،‬فكان حاله مع النفس كعبد بعث إلى ثغر‬
‫بعثه ملك مطاع الوامر مخوف الزواجر فأمره بسد الثغور و إدرار القوات و مقاتلة العداء و أن يطابق غرضه مع بعده عنه‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬قد مكنتك من ثلثة أشياء‪ :‬تكون عونا ل لك و ل حجه لك على بعدها أحدها الثغر الذى بعثك إليه‪ ،‬فقد أكملت قصورة و دوره‬
‫و حصونه و أنهاره و جدرانه و أشجاره و ثماره و آلته ما تكررت و تناهت‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬دفعت إليك عبيدال و أعوانا ل و خداما ل و جعلت فى طباعهم النفعال لك فمر بما شئات فيهم تمتثل إن شئات من حق أو باطل‪ ،‬ل‬
‫يخالفون لغبتك و ل يعصون إمرتك‪ ،‬فعليك بالسيرة الحسنة فيهم و ر تغتر بتمكينى فإنى ذو بطش شديد و إن حلمت‪.‬‬
‫ص ‪78‬‬
‫الثالث‪ :‬إنى دفعت إليك وزيرال جكيما ل عليما ل متطلعا ل على ما فى العالم بأسره عالما ل بالسيرة الحميدة و الطرق الرشيدة‪ ،‬عارفا ل‬
‫بعواقب المور و قد أحللته من نفسى بمنزلة الوزير و أكرمتك بأن جعلته وزيرك فاحذر أن تنفذ أمرال دونه و ل تغتر بما جعلته فى‬
‫طباع العبيد من طاعتك و لبما جعلت فى نفسك من القوة فما غبن من استشار‪ ،‬و هذا الوزير الذى يستمد من آرائاى فى كل حين‬
‫فقد تحققت ذلك منه لنه ل يعصينى طرفة عين فصار العبد فى الثغر بهذه الثلثة أشياء‪ .‬فمثال النفس مثال العبد‪ ،‬و مثال الثغر‬
‫مثال الجسم‪ ،‬و مثال ما فيه من العدد و القوات مثال ما فى الجسم من الطبائاع و القوى حسب ما ذكرناه فى المعراج الول‪ .‬و مثال‬
‫لوازم الثغر و نوائابه مثال ما يقوم به الجسم من الغذية والمنافع‪ ،‬و مثال الوزير مثال العقل‪ ،‬و مثال الملك مثال البارىء تعالى و‬
‫له المثل العلى‪.‬‬
‫فإذا فهمت هذا فاعلم أن النفس منبثة القوى فى الجسم كما قدمناه‪ ،‬و أن ا تعالى سخر ا الحواس الباطنة و العضاء‬
‫الظاهرةبالطبع فمتى تحركت إلى أمر ما تأتى هذا فى طباعها ما لم يمنع مانع من هذا المر‪ .‬فإن اعتبرنا جهة المنفعل فهى‬
‫مضطرة‪ ،‬و إن اعتبرنا جهة النفس فى نزوعها و انبعاثها للمطلوب و سبب حركتها هل هو إرادى أو اضطرارى قلنا ‪ :‬هذا محل‬
‫غموض عجز أكثر الخلق فيه عن النهوض و ذلك لبعد غوره و دقة مسلكه‪ ،‬و هذه المسأله المعروفه بالقدر و النزاع فيها من خلق‬
‫آدم عليه السلم إلى هلم جرلا‪ ،‬و حقنا لضعف قوانا و قلة استعمال عقولنا الموهومه لنا و اشتغالنا بالرذائال الدنيويه و الخداع‬
‫الخزعبلتية أن ل نتعرض لهذا المقام‪ ،‬ملكل مقام مقال و لكل طريقة رجال‪ ،‬و لكن نخوضها خوض الجبان الجذور ل خوض‬
‫الشجاع الجسور فتقول ‪ :‬قد قدمنا انقسام الحركات و إن بناء الكلم على حركات النسان و ل شك أن منها الضرورية و‬
‫الختيارية‪.‬‬
‫فأما الضرورية‪ ،‬فطبيعة لزمه سنتكلم عليها عند تكلمنا عليها إن شاء ا تعالى كلنة و لم يختلف أحد فيها أنه ل يتعلق بها ثواب و‬
‫عقاب‪ ،‬و أما النزاع فى الختيارية فإن هذه مرتبطة بالتكاليف فلبد من فهم المثال الول فهو تمهيد قدمناه لهذا الموضع‪ ،‬فنقول قد‬
‫قدمنا أن للنفس جنبتين مثلنا ذلك بالوزير و الثغر‪ ،‬فالجنبة العالية جنبة الوزير و الجنبة الخسيسة جنبة الثغر‪ ،‬فمتى كانت النفس‬
‫تحركت نحو الفضائال فذلك تلقف عن العقل و العقل عن بارئاه فهى مثابة على تحركها و نزوعها إلى غرض مولها‪ ،‬و المفعولت‬
‫واقعة بفعل ا تعالى و تحركها نعنى عند انبعاث الداعية عند إنصاتها إلى العقل و حقيقة الضراب عن الثغر و دواعيه و استعمال‬
‫العلم بتنظيف المحل إذ ل يرد إل على محل قابل له بإزالتها الصوارف و الموانع بإشارة العقل‪ ،‬و تدبيره هى مثابة عليه من حيث‬
‫إنها واسطة إلى انفعال الجسام‪ ،‬و كثيرال ما قدمنا أن العالم منقسم إلى عقول فاعلة مجردة‪ .‬و هى الشريفة‪ ،‬و إلى‬
‫ص ‪79‬‬
‫أجسام‪ ،‬خسيسة و هى الكثيفة التى هى المفعولة كما أن العقول فاعلة‪ .‬و لما استحال على العقول المجردة المباشرة و كانت فى‬
‫طرف من مضادة الجسام كما أن العلم فى طرف و الجهل فى طرف‪ ،‬و كان ضدال مطلقا ل قضت الحكمة اللهية لها بأن أظهرت‬
‫تأثيرها بتدريج فجعلت نفسا ل ممتزجه تشبه العقول من وجه و الجسام من وجه‪ ،‬و ذلك راجع إلى مناسبة و المناسبة راجعه إلى و‬
‫جهين‪ ،‬إما إلى جنبة أسفل فبالرزائال و إما جنبة أعلى فبالفضائال‪.‬فالنفس معلقة بينهما و الجسام تنفعل للنفوس و النفوس للعقول و‬
‫العقول للبارىء سبحانه‪ ،‬فالمبدأ الول هو الله فخرزج المر من عنده كخرزج المر من عند الملك إلى الوزير‪ .‬ثم من الوزير‬
‫إلى الحاجب‪ ،‬ثم إلى المضروب أو المكرم‪ ،‬و ا المثل العلى فالرب سبحانه هو المبدأ و الطاعات متى خرجت إلى حيز الفعل‬
‫فهى من ا تعالى‪ ،‬باتفاق الكافة متى خرجت إلى حيز الفعل فهى من ا تعالى والنفس مثابة على حهة التوسط من حيث أنها آله‪،‬‬
‫و ما مثل ذلك إل مثل إكرام الشرع لجسام الموتى بالتنظيف و الكفان و الحنوط و القبور و تحريم إهانتها و إحراقها‪ ،‬و إن كان ل‬
‫لحسنة لها فى ذلك بل الفضل اللهى ل حد له‪ .‬و ل يجرى على مقدار‪ .‬و لو كان البارىء تعالى ل يفعل شيئاا ل إل باستحقاق الفاعل‬
‫تحقيقا ل لمثوبته لم يكن كريما ل مطلقا ل و لم يطلق عليه لكن من عدله‪ ،‬فإن العادل من قارع الحسنة بالحسنة و الكريم من وهب من غير‬
‫يد متقدمة‪ ،‬فخص تبارك و تعالى الجسام بالمكرمة من حيث إنها كانت آلت مستعملة فى الطاعات مع اتفاق الخلق أن للفعل‬
‫تحقيقا ل للرواح‪ ،‬فكذلك النفس بالضافة إلى العقل يكرمها البارىء سبحانه على جهة الوساطة و إن كانت ل فعل لها تحقيقا ل للمشير‬
‫بذلك و الملهم إلية و المحرك هو العقل‪ .‬إذ الحاجب و إن شكره المكرم من جهة الملك فالوزير أحق بالشكر من حيث بلغ إليه‬
‫فاليفهم أن العقل مشكور من جهة الوساطة و أن الشكر المجرد و الحمد المؤبد ل وحده الذى كان المبدأ‪ ،‬فلو لم يرد التوفيق من‬
‫عنده لما كان للعقل ثبوت أصلل إذ هو مربوب‪ ،‬فالجواد المطلق و الكريم المحض هو ا رب العالمين و لم يشك ذو عقل أن‬
‫الفضائال من ا‪ ،‬و إنما أختلفوا فى الشر فزعمت المعتزلة أن الشر ليس من ا تعالى‪ .‬و لما رأو تلزم الفعال أخرجوا الفعل إلى‬
‫العبد و جعلوه مسبدال به‪.‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫فإن قيل ‪ :‬الشكال باق فإن الحركة التى هى الصلة مثل إن كانت فعل للعبد فل مدخل للبارىء تعالى فيها‪ ،‬و غن كانت ل فل‬
‫مدخل للعبد فيها و يستحيل أن يكون الفعل مشتركا ل كما زعمت الشعرية‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬الحركات مضافة إلى الجسام فبطل التقسيم‪ ،‬و النفس ل حركة لها فى نفسها فإنها إنما لها الشارة و التدبير و الجسم معها‬
‫كالمغناطيس مع الحديد‪ ،‬و ل يقال للحديد إذا تحرك إن المغناطيس حل فبه فظهرت الحركة عليه‪ ،‬بل فعل فيه بخاصيته فبطل‬
‫السؤال‪.‬‬

‫ص ‪80‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬أن بطل في الحركة فل تخلو النفس عن الرادة والسؤال في الرادة باق ‪ .‬قلنا ‪ :‬إرادة الخير تابعة للعلم ‪ ,‬وقد قدمنا ان‬
‫النفس تابعة للعقل والتحرك من جهة العقل خير محض فهو محرك من جهة البارئ تعالى ‪ ,‬ولليست أعنى الحركة الجسمانية ‪ ,‬بل‬
‫أعنى الشوقية النزوعية وهو عكوفها والتفانها إلى الجنبة العليا ‪ ,‬وحقيقة ذلك راجعة إلى ترك جنبه أسفل ‪ ,‬والترك ليس هو بفعل‬
‫وإنما هو عدم فعل شيئاان ‪ :‬النزوع وهو فعل ا تعالى ‪ ,‬والثاني وهو ترك الضداد وهى ملحظة الجنبة السفلى وذلك ترك عدم‬
‫وليس بفعل ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬الترك إذا كان اختيارا او اضطرارا ل فالسؤال لزم ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬هو اختياريِ من وجه واضطراراى من وجه اخر ‪ ,‬وفهم هذا يستدعى تجديد عهد بما سبق ‪ ,‬وهو أن النفس وأن سلطت على‬
‫العالم السفل فهى تتوصل إليه بألة الجسم ‪ ,‬ثم أفعالها تظهر فى الجسم فى مواضع عشر أحصيناها فيما تقدم ‪ .‬فمنها ‪ ,‬الحواس‬
‫الخمس من الشم والذوق واللمس والسمع والبصر ‪ .‬وهذة علة وسبب للقوى الخمس الباطنة ‪ ,‬أعنى القوة الخيالية والذاكرة‬
‫والحافظة ‪ ,‬فإن هذة القوى كالجواسيس فى المدينة يرفعون الخبار إلى الخدمة والخواص كالكتبة و الحجاب والوزراء ‪ ,‬فيما يقيد‬
‫عند الجواسيس يرفعونه إلى الكتبة وما يقيد عند الكاتب يرفعه إلى الملك وهى النفس ‪ .‬ثم اختلفت مدركات الحواس الخمسة فكانت‬
‫حاسة البصر موكلة بعالم اللوان على اختلفها فى الصفات والمقادير ‪ ,‬وحاسة الذوق بكل مطعوم ‪ ,‬وهكذا إلى تمامها وكلما‬
‫رفعت من هذة محفوظة عند الكتب الخزان ‪ ,‬وقد قلنا ‪ :‬الجسم كالثغر وإن النفس مشغولة بافتقادها ثغرها فى كل دقيقة فلزوم هذة‬
‫المدركات للنفس ضرورى أعنى عند صرف الهمة إليه يلزم طبعا ‪ ,‬فإنك متى حدقت بصرك إلى مرئاى حصلت لك رؤيته‬
‫بالضرورة شئات أو أبيت ‪ ,‬وكذلك سائار الحواس الخمس فل تطويل فحوصل البصار للنفس مختار ‪ ,‬فصح وثبت ان الجنبة‬
‫السفلى الجسمانية افعالها جسمانية محضة والفعال الجسمانية كلها ضرورية طبيعية فقد انقضت المباحثة وتفرغ الكلم من هذا‬
‫الجانب من حيث وقفنا الفعال بعد اسبابها على إرادة النفس ‪ ,‬وإرادتها هى الفيصل بين الجنبتين جنبة أعلى وجنبة أسفل ‪ ,‬وكما‬
‫وكلت بسياسة جنبة أعلى على وجه مخصوص وكان له وجهان إلى جنبة اضطرارى واختيارى ‪ ,‬فإذا استعملت السبب حصل‬
‫المسبب بالضرورة ‪ ,‬فحصول المسبب من جهة أعلى أو من جهة أسفل ضرورى ل ثواب عليه ‪ ,‬فقد استرحنا من هذا الطرف‬
‫وهو الطرف الضرورى وبقى الختياريِ فوقفنا من جهة الجنبة السفلى على نزوع النفس وإرادتها ‪ ,‬وكذلك أيضا من جهة فوق‬
‫فتوقف البحث والنظر على هذة الدقيقة وهى الرادة والنزوع ‪ ,‬وقد قدمنا انه تارة يكون اضطراريا وتارة‬
‫ص ‪81‬‬
‫يكون اختياريا محضا ‪ ,‬وذلك ل يتحصل برهان مخصوص بل النفس يدخل الخير إليها من جهة العقل وهو انفعالها للعقل عند‬
‫إشارته فهى مثابة لنزوعها ونزوعها يظهر تأثيره فى الجسم إذ ليظهر الثر فيها باكثر من الشوق والعشق المطلق فتثاب على جهة‬
‫الوساطة كما قدمناه ‪.‬‬
‫وأما الشر ‪ :‬فيدخل عليها من جهة الخير فيكون اول خيرا ثم ينعكس ‪ .‬ومثال ذلك ‪ :‬أنك متى ركبت دابة استعرتها من دار رجل‬
‫فتصرفت بها فى حاجتك ‪ ,‬وكانت دابة جموحة صعبة المرام فخطرت بها على مولها فنزعت إلى دار سيدها فصرفت عنانها‬
‫فتقاعست فعاقبتها بالسوط وألمتها وتحملت عليها فل شك انك يمكنك صرفها وقد تعديت ‪ ,‬فإن حقك أن ل تخربها على دارها ‪ ,‬فلو‬
‫أنك سقتها إلى دار سيدها وادخلت يدها عتبة الباب ‪ ,‬ثم لفحتها لم تطعك بوجه بل تدخل كرها وربما جرحت راسك وألمتك وكنت‬
‫عند العقلء مذموما ‪ ,‬فإنك مكنتها من طبيعتها ‪ .‬ثم أردت حجابها وقد كتب ا تعالى فى كتابه السابق وقضى بقضائاه المحتم بإن‬
‫يمكن الطبائاع من مطبعاتها ‪ .‬فالنار متى تمكنت من القطن احرقت ضرورة ‪ ,‬فليفهم ان القوى الحيوانية المنفعلة عن الطبائاع لها‬
‫نزوع بالطبع إلى مركزها والروح الحيوانية الشهوانية بالطبع والعنصر تميل إلى عنصرها كالحجر يهوى إلى أسفل ‪ ,‬والنفس‬
‫متى مكنت الجواسيس ابتداء حتى صار لهم ذلك ملكة فذلك لزم ضرورى خلقه ا تعالى ‪ ,‬وإنما تعاقب من حيث لم تحرس‬
‫جواسيسها ابتداء ‪ ,‬وهذا كما انا نقول للرجل النظرة الولى فجاة لك حلل ‪ ,‬فإنها لزمة ضرورة فل يتعلق التكليف عليها ‪ ,‬وإياك‬
‫والثانية فإن العين إذ تنفتحت على صورة جميلة فمالت الطبيعة لزم ذلك لزوما ضروريا ‪ .‬لو انفرد لم تعاقب النفس عليه ‪ ,‬وإنما‬
‫على إهمالها إشارة العقل فى الكف ابتداء ‪ ,‬فمتى تكررت الجواسيس على القوى الباطنة لزم النفس ذلك وشغلها غهى مأمورة أن‬
‫تلزم الجنبة العليا ‪ ,‬والمر كله ل تعالى فهو المخترع للفعال ‪ ,‬وهو موجد السباب الول ‪ ,‬فالمسببات أفعاله فهذا ل حيلة فيه‬
‫وهذا أقصى الغرض من تكرير هذا المسالة ‪.‬‬
‫وفى الحديث ‪ :‬حاج أدم موسى فقال ‪ :‬أنت الذى أخرج الناس من الجنة ؟ فقال ‪ :‬أتلومنى على امر قد قدر على قبل أن اخلق ‪ ,‬فغلبه‬
‫ادم عليه السلم ‪ ,‬وشهد له رسول ا صلى ا عليه وسم حيث قال ‪ " :‬فحاج أدم موسى " فإذا الشعرية والمعتزلة والمجبرة قد‬
‫تكلموا على الفعال الجسمانية ولم تتعرض لها ‪ ,‬وإنما تكلمنا على النزوع الشوقى وجعلناه السبب ووافقنا الجبرية فى الفعال‬
‫الجسمانية ‪ .‬وهذا منهى الكلم فى الجنس النسانى من الحيوان ‪.‬‬
‫واما الحركات البهائام فهم موكلون بالجنبة السفلى ‪ ,‬عاكفون عليها ل علم لهم بالجنبة العليا ‪ ,‬وكيف تنكر وانت تبصر كثيرا من‬
‫الخلق كأصناف السودان وغيرهم ل فرق بينهم‬
‫ص ‪82‬‬
‫وبين البهائام ل يعرفون الملئاكة ول بارئاهم ‪ ,‬بل يعبدون الثمار والشجار كما قال تعالى ‪ " :‬إن هم إل كالنعام بل هم أضل " [‬
‫الفرقان ‪ . ] 44 :‬ومحرك الحيوان ما تورد الحواس على القوة المتخيلة فهى فيهم كالقوة العقلية ‪ ,‬فالدابة تتأدب بأداب القوة‬
‫الخيالية متى انتقش فيها أمر محذور ‪ ,‬فإنها إذا راته حذرته وذلك امر نافع وليبعد ان تكون لها قوة الحافظة تحفظ بها الصور ‪.‬‬
‫واما العوالم العلوية فترتب حركاتها ل يحبط بها إل ا تعالى وحده العالم بمدئاها ‪,‬وإنما أدركنا منها ما تكرر علينا بالتجربة او‬
‫بإشارة العقل إليه إشارة جميلة ‪ ,‬وذلك كنمو اجسامنا بالعذية والغذية من النباتات والنباتات كائانة من الماء والتراب فهى منفعلت‬
‫عن الهواء والنار وهما كالفاعلين ‪,‬وهذان بالضافة إلى الماء والتراب يكونان فاعلين بمعنى حصول التاثير لهما حصول الذبح‬
‫بالسكين ‪ ,‬ولكن إذا انفردت الشاة ‪ ,‬والسكين لم يتم الفعل أصل ولبد من سبب جامع ‪ ,‬والنار والهواء امتزجت معهما اشعة‬
‫الكواكب وازدحمت فى منقعر فلك القمر ودارت بالرض كرتها كما تدور الهالة بالقمر ‪ ,‬ثم هذه الشعة تتحرك بمحركات هى‬
‫تابعة لها وهى الكواكب السبعة ‪ ,‬وقد زعمت الفلسفة ان هذة الكواكب حية وأنها مع العالم السفل كنحن مع اجسامنا ‪ .‬وان لها‬
‫الفعل الختيارى والفعل الضطرارى ‪ .‬وهذا ابتداع ل ننكره فلم يدل على إبطاله كتاب ولسنة ول إجماع ‪ ,‬ومن أنكر كون ذلك‬
‫من الناس فعلى طريق التغليظ ولبرهان البتة ‪ ,‬فلنجعل ذلك جائازا إذ مذهبنا ان البارئ تعالى هو الفاعل المطلق وانه مسبب‬
‫السباب وموكلها بمسبباتها ‪ ,‬فسواء على مذهبنا كانت حية او جمادا فقصارى المر أن تكون كنحن و ل ننكر وجودنا ول تصرفنا‬
‫عالمنا ‪ ,‬ومنافرة هذا رعونة محضة وحماقة تامة ‪ ,‬ولنقل قول يهون ذلك فربما زعم السامع ان تكون الملئاكة مرئاية والظواهر‬
‫دلت على أنها محجوبة فنقول ‪ :‬الموجودات على ثلث مراتب موجودات تعقل وهل موجودة ول ترى ‪ .‬وهى العقول مدركة‬
‫تدرك بالعقول ل بالبصار ‪ .‬الثانى ‪ :‬النفوس وهى مدركة بالعقول ول يجوز أن ترى ‪ .‬والثالث ‪ :‬وهى تدرك بالعقول والبصار‬
‫ول تدرك هى أنفسها ول غيرها ‪ .‬فما نشاهده من العالم العلى إنما هى أجسام النفوس والعقول ‪ ,‬وحقيقة الملك إنما هى نفسه ل‬
‫جسمه كما أن حقيقة النسان نفسه وليدرك إل جسمه فقط ‪ .‬ونحن ل ندرك نفسه بل انقطعت العقول فى درك ما هية نفسه‬
‫بالبصيرة فكيف بالبصر ؟ فلنتكلم على هذه الجسام الظاهرة ‪ .‬فنقول ‪ :‬سبب النفعالت الهواء بالبصيرة فكيف بالبصر ؟ فلنتكلم‬
‫على هذه الجسام الظاهرة ‪ .‬فنقول ‪ :‬سبب النفعالت الهواء والنار وما تحت فلك القمر مرتبط بالدوائار ودوران الفلك التاسع ‪,‬‬
‫فإنه منقسم إلى اثنى عشر برجا ‪ ,‬ثم الكواكب السيارة مقسطة عليها فمنها ماله بيت ومنها ماله بيتان ‪ ,‬ثم لهذه الجسام طبائاع‬
‫مختلفة حاصلها الحر والبرد والرطوبة واليبوسة ‪ .‬وهذه الطبائاع وسائاط لنفعال المنفعلت‬
‫ص ‪83‬‬
‫فتمر الكواكب على البروج واختلف الحركات ‪ ,‬وكون خذه الكواكب فى درجاتها ومراكزها واختلف مطالعها كما تقول مثل ‪:‬‬
‫إذا جمعت الشمس والقمر فى رطب دل على المطر العظيم ‪ .‬وتفصيل هذا محال على علم النجوم ‪ ,‬وليس هذا موضعه فلكل مقام‬
‫مقال وإنما غرضنا التنبيه ‪.‬‬
‫وأصل هذا كله الحركة المشرقية التى هى المشرق للى المغرب ‪ ,‬وقد حكينا عن الفلسفة فيما تقدم علة ذلك وكيفية تقسيمهم‬
‫العقول والنفوس وأنكرنا عليهم كون البارئ تعالى كذلك علة وأنها ملزمة له ‪ ,‬وأنكرنا دعولهم الحصر ل غير وإل فيجوز مثل‬
‫ذلك جوازا يرده إلى طريقتنا فى التوحيد المخض ‪ .‬فإن معتقدنا أن ا تعالى واحد وحدانية محضة صرفة وأنه هو القائام على‬
‫العالم حتى لو تصور عدمه لم يكن له ثبوت أصل ‪ ,‬والتصديق بما جاء به المرسلون ‪ ,‬ومن هذه الحركات الدورية تتاتج الحركات‬
‫وتتناسق ‪ ,‬وقد تكلمنا فى ذلك كلما بليغا فل معنى لتكراره ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬بم تنكرون على من يعتقد أن هذه النوار الظاهرة فاعلة أو عللة أو حية ‪ ,‬فإن ا تعالى يقول ‪ " :‬ا نور السموات‬
‫والرض" )النور ‪ . (35 :‬وربما قالت المجوس إن هذا النور إله ؟‬
‫قلنا ‪ :‬نعتقد لهذا فضل فى المعراج الذى يلى هذا إن شاء ا تعالى وهو المعراج الرابع ‪.‬‬
‫المعراج الرابع‬
‫اعلم أيها الخ أن ا تبارك وتعالى هو نور السماوات والرض ‪ ,‬ولسنا نعتقد بكونه نورا كونه شعاعا منبسطا مرئايا على الجدران‬
‫‪ ,‬بل ذلك على نسبة أخرى ‪ .‬فاعلم أن النور يطلق على ستة أشياء ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬نور حسيس بحسب عنصره ل دوام له فهو عرض سريع الزوال مفتقر إلى مواد عنصرية ‪ ,‬وهذا هو ضوء النيران ‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬هو أشرف من هذا وإن كان عنصريا فهو شريف بحسب نسبته وبحسب نفسه ‪ ,‬وهو نور البصر فهو يدرك الشياء ويدرك‬
‫اللوان والمدركات ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬نور شريف هو نور محض قائام بنفسه يدرك الشياء على حقائاقها ويدرك نتائاجها وهو العقل والنفس ‪ ,‬وهذه المور‬
‫منقسمة إلى ما يدرك به ويدرك نفسه وهو العقل ‪,‬‬
‫ص ‪84‬‬
‫وهو نور حقيقى وإلى ما يدرك به ول يدرك نفسه كالنيران والبصر والشمس ‪ ,‬والقرأن يسمى نورا وهو الخامس ‪ ,‬والرسول‬
‫يسمى نورا ولكن يستعار لهما من هذا معنى النورانية ولهذا يسمى العلم نورا ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬النور المطلق وهو البارئ تعالى ومعناه فى الروحانية أكثر من معنى العقل ‪ ,‬فإن معنى العقل هو نورانية العقل وهى‬
‫كشف الحقائاق وبهذا المعنى يقال للبارئ تعالى الحق المبين والعالم بخفيات المور ‪ .‬فهذة ستة انوار بالستعارة للقران والرسول‬
‫صلى ا عليه وسلم حقيقتها البارئ تعالى وهو مجاز فيما عدا ذلك ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فقوله تعالى " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" )النور ‪.(35 :‬‬
‫قلنا ‪:‬المراد بهذا النور العقلى ‪ ,‬فههنا أربعة اشياء ‪ :‬المشكاة والزجاجة والمصباح والزيتونة ‪ .‬واما المشكاة فمثالها النفس ‪ ,‬ومثال‬
‫الزجاجة القوة الخيالية ‪ ,‬والمصباح كالعقل ‪ ,‬والزيتونة التى هى الشجرة العقل الفعال ‪ ,‬ولما كان المصباح الذى هو النور ل بد فى‬
‫إظهار ثمرته وحكمته للجسام من ألة جسمانية تشاكل الجسام كالنور يفتقر إلى زيت يناسب النار بالحر ويناسب الفتيل بالرطوبة‬
‫‪ ,‬فكثيرا ما قدمنا أن العقل ل يباشر كانت واسطته النفس فهى المشكاة ‪ ,‬ثم كانت النفس ل بد لها من حيلة فى معرفة المحسوسات‬
‫كما قررناه فجعلت له الحكمة اللهية قوى ‪ .‬فمنها القوة الخيالية التي يرسم فيها ما تورده الحواس ‪ ,‬فكان مثالها مثال الزجاجة ‪,‬‬
‫وإنما خض الزجاج لنطباع المرئايات فيه كالمراة الصقيلة التى يبصر فيها ‪ ,‬ولن الزجاجة أصفى الجوهر من حيث يشف ما‬
‫وراءها ‪ ,‬والنبياء عليهم السلم يعلمون الغيب بواسطة القوة فيعبرون الصورة ويفهمونها ‪ .‬ولها علم مختص وهو علم تعبير‬
‫الرؤيا ينفرد بخواص هذه القوة ‪ .‬وأما الشجرة ‪ ,‬فهى العقل الفعال من حيث انفعلت الشياء عنه فلما أن المصباح الواحد توقد منه‬
‫المصابيح لم يقل سبحانه نبت ‪ ,‬فإن النبات يدل على نقصان الصل وإنما قال تعالى ‪ " :‬توقد" ‪ .‬فنبه بالوقيد على أن الشجرة ل‬
‫تنقص ‪ ,‬وعلى أن هذه الشجرة ليست الشجرة المعهودة ‪ ,‬لن الشجرة ل يوقد منها وخصها بالزيتونة لدوام ورقها وفوائادها‬
‫وغزارة منفعتها وكثرة ورقها وشعبها ‪ ,‬وأنها وإن كانت زيتونة فيخرج منها نار تستضئ بها ‪ ,‬ووجه المشابهة واستيعابه يطول ‪,‬‬
‫وقد شرحناه فى كتاب ) مشكاة النوار( ‪ .‬وأما النار فهى عبارة عن النوار اللهية ‪ ,‬ويحتمل وجها أخر أن تكون الشجرة الرسول‬
‫صلى ا عليه وسلم والنار الملك ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬عظم اختلف الصوفية فى هذا العرض من حيث تحقق الملءمة والملزمة النورانية ‪ ,‬وهو المصباح والمشكاة‬
‫والزجاجة والشجرة والنار ‪ ,‬فقد جعلت مثال المشكاة النفس ‪ ,‬ومثال الزجاجة الخيال ‪ ,‬ومثال المصباح العقلى الجزئاى ‪ ,‬ومثال‬
‫الشجرة العقل‬
‫ص ‪85‬‬
‫الكلى ‪ ,‬مثال النار اللهى وإشراقه ‪ .‬وهذه كلها ل توصف بالكثافة والتجسيم على ما تقدم ‪ .‬وقد وصف ا تعالى بأن قال " نور‬
‫على نور " ) النور ‪ . (35 :‬فبهذه الموجودات تشاكلها وتناسبها إذا تشاكلت وتناسب لصفاء النفس وبعدها عن الكدورات فظاهر‬
‫مذهبهم يشير إلى الحلول وقذ أنشدوا فى ذلك ‪:‬‬
‫رق الزجاج وراقت الخمر وتشابها فتشاكل المر‬
‫فكأنما خمر ول قدح وكانما قدح ول خمر‬
‫قلنا ‪ :‬عين الحلول واعتقاده خطأ محض وسفاهة صرفه ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬قول الصوفية مشهور حتى قال احدهم ‪ :‬انا الحق ‪ ,‬وقال اخر ‪ :‬سبحانى ‪ .‬وقال ‪ :‬ما فى الجنة إل ا ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬إذا قررنا إبطال الحلول أتينا على مذهبهم ‪ .‬فنقول ‪ :‬حثيثة الحلول انطباق جواهر على جوهر أو جسم على جسم أو عرض‬
‫فى جوهر وقد قدمنا بالبرهان الحق ان العقول والنفوس قائامة بانفسها ل تحمل شيئاا البته ولهى محمولة ‪ ,‬فأغنانا ذلك عن إعادته‬
‫وهذا فر رب العزة أعظم ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فيرجع الكل لبى الله وتكون العقول والنفوس ل يفارقها البارئ تعالى إل بالفصل ‪ ,‬فإنهم اجتمعوا فى الجوهرية‬
‫وحقيقة الحياة والقيام يالنفس ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬ل نثبت للبارئ تعالى ما لثبتناه للنفس فإنها ل قوام لها وقد قام البرهان على حدوثها وذلك يبطل ان تكون هى هو ‪ ,‬فإن فى‬
‫ذلك لزوم أن يكون العالم كله ألهة وهو محال ‪ ,‬ويبطل أن يحل النفوس أو يطبع فيها انطباع الخمر فى اللبن كما زعمت النصارى‬
‫فى المسيح ‪ ,‬فإن ذلك من صفات الجسام فلم يبق إل أن اللزم راجع إلى معنى النفعال وإيجاده بالفعل أى وقوف الشارات‬
‫والحركات عليه فيكون هو المحرك القايض الباسط والنفوس معه كالحديد مع المغناطيس على وجهة التمثيل ‪ .‬ول المثل العلى‬
‫ونفى الوساطة على الطريق التى قدمناها ‪ .‬ومن حقق من الصوفية وعلم وقوف الشياء عليه وان المور ل قوام لها دونه ‪ .‬قال‬
‫أحدهم ‪ :‬مافى الجنة إل ا تعالى مبالغة فى التوحيد ‪ ,‬وقال أخر ‪ :‬سبحانى فغنه رأى الياء مكان الضافة ‪ ,‬فإن الفرق ضرب من‬
‫الشرك فى قوله سبحان ا ‪ ,‬فإجراء الوصاف ل يعتد بها إل الفصل ‪.‬‬
‫فإن قلنا ‪ :‬سبحان الكريم نفى للبخل ‪ ,‬وإذا قلنا ‪ :‬سبحان ا فمعناه نفى الشريك ول يكون إل مع توهم الشريك ‪ ,‬فالموحدون منهم‬
‫بلغ بهم التوحيد إلى أن رأوا التبرؤ منه‬
‫ص ‪86‬‬
‫سوء ادب ولكن الكلم إذا وقع بالضرورة إليه والتجئ إلى النطق به لمعنى للهرب فقد وقعوا فى أشد كما زعمت الفلسفة أن‬
‫البارئ تعالى ل يقال له موجود ‪ ,‬فإن يؤدى إلى دخوله مع الموجودات تحت الجنس وهذا نفى معنى وهو سهل ‪.‬‬
‫المعراج الخامس‬
‫هذا المعراج معقود للنبوة والنبى ومعنى ذلك ‪ .‬والمم فى ذلك على ثلث فرق ‪ :‬فرقة تنقية وفرقة تثيته ‪ ,‬وهى فرقتان ‪:‬‬
‫طائافة ‪ :‬تزعم أن ذلك أوجبه مولده ‪ ,‬فكانت لنفسه قوة تنفعل لها المور وأوجب لها المولد أن يكون فاصل حسن السيرة ‪ ,‬هذا‬
‫مذهب الفلسفة ‪.‬‬
‫والفرقة الثانية ‪ :‬اعتقدوا معنى النبوة ‪ ,‬وهو حصولها لشخص يخرق ا تعالى العادة على يديه بإظهار فعل غريب ‪ ,‬واشترطوا ان‬
‫ينضم إليها ثمانية شروط ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن تكون فى زمن تصح فيه الرسالة ‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬خرق العادة بالمعجزة ‪.‬‬
‫الثالث ‪:‬ان يقترن بدعواه تحد ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أن يوافق دعواه بعمله ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أن يتعلق مقاله بالقلب ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬أن ل يظهر على وجهه ما يدل على كذبه ‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬أن يكشف القناع فى التحدى ‪.‬‬
‫الثامن ‪ :‬أن يعجز الخلق عن معارضته ‪ ,‬ويلتحق بهذا شرط تاسع وهو كون المعجزة من جنس ما يتعاطاه أهل زمانه ‪ ,‬ثم ما‬
‫يحصل إلى الرسول إما بواسطة أشخاص الملئاكة بأن يتمثل له بشرا سويا أو على صورة ما ‪ ,‬وإما بغير واسطة بان ينقش ا‬
‫تعالى ذلك نقشا فى الحاسة المتخيلة ‪ ,‬وقد قال تعالى ‪ " :‬وما كان لبشر أن يكلمه ا إل وحيا " ) الشورى ‪ . ( 51 :‬وهو ما‬
‫يحصل فى قوته الخيالية وهو المعروف باللهام ‪ ,‬كما قال تعالى ‪ " :‬وأوحينا إلى أم موسى " ) القصص ‪ . ( 7 :‬او من وراء‬
‫حجاب ‪ ,‬أو بواسطة ملك من الملئاكة وهو الحجاب ‪ ,‬أو يرسل رسول فيوحى بإذنه ما يشاء ‪ ,‬ونبينا صلى ا عليه وسلم قد ظهر‬
‫على يده من خرق العوائاد ما ظهر على أيدى الرسل ‪ ,‬وذلك ينقسم إلى ما بقى وإلى ما كان ‪ ,‬فمعجزاته من شق القمر ‪ ,‬وكلم‬
‫الذراع ‪ ,‬وحنين الجذع ‪ ,‬واستدعاء المطر ‪ ,‬ونبع الماء من بين أصابعه ‪ ,‬وجعل قليل الطعام كثيرا وغير ذلك ‪ ,‬واما ما بقى‬
‫فالقران وما اعلم به من الشراط والدلول ‪ ,‬وقد كان ذلك ونحن نشاهده ‪ ,‬ويبطل أن تكون النبوة بمعنى الملك ‪ ,‬فإن النباء بالغيب‬
‫معنى اخر‬
‫ص ‪87‬‬
‫خلف السياسة ‪ ,‬ويبطل أن يكون ذلك سحرا ‪ ,‬فإن الساحر ل قيام لسحره إل به ‪ ,‬ولهذه الشريعة خمسمائاة عام ‪ ,‬ثم هذا القران‬
‫الذى عجز الخلئاق عن أخرهم عن التيان بمثله إلى هلم جرا ‪ ,‬وكان صلى ا عليه وسلم أمينا نشأ بين أميين ل معرفة لهم بالعلوم‬
‫فأتى بهذا القران الذى اشتمل على علوم الولين والخرين ‪ ,‬وكل من شك فى نبوته عليه السلم ‪ ,‬فليتامل بعده عليه السلم عن‬
‫العلوم ثم لينظر القران وما يبطوى عليه من الصنائاع العلمية من الللهيات والمنطقيات والجدل والخطابة وسائار الشياء التى‬
‫حصلها الولون والخرون من العلوم وسمته علما او فلسفة وكيف فيه أشكال الراهين قائامة والجدل على وجهه والقيسة على‬
‫وجهها مع ما تجرد إليه من العلم الدينى ‪ ,‬وهو سياسة الخلق المعبر عنها بالحكام الشرعية وهو يتيم نشأ فى حجر عمه لم تعلمه‬
‫قط قريش ولمارس علما ‪ ,‬ولو مارس علما ودرس لما انتهى أبدا الباد إلى النظم فضل عن هذة المعانى الغريبة ‪ ,‬وكل من حاول‬
‫معارضته قصدمعارضه النظم وهو قصاراه ‪ ,‬ثم لم يات إل بالكلم الغث المشترك ‪ ,‬ولو أنه تحرى من تعاطى المعارضة إلى‬
‫انطواء القران على هذة الصنائاع العلمية وقصد تضمينها لما تعاطى المعارضة أبد البدين ‪ ,‬ولتقنع حياء مما جاء به ومن شك فى‬
‫ان ذلك امر إلهى وتابيد ربانى ‪ ,‬فقد طبع ا على قلبه نعوذ بال من ذلك ‪ ,‬وصلى ا على سيدنا محمد كما هدنا من ظلمات الشك‬
‫وعلى أله وصحبه ومحبيه وسلم تسليما ‪.‬‬
‫المعراج السادس‬
‫ما اتى من القول من طريق الرسول صلى ا عليه وسلم ضربان وخبر ‪ .‬والطلب ضربان أمر ونهى ‪ ,‬وقد تكلمنا على المر‬
‫والنهى وأصول الحمام الشرعية وكيف فى رسالة القطاب ‪ ,‬وأما الخبر فينقسم إلى أخبار عمن مضى كأخبار المم وعما ياتى‬
‫كامور الزمن وأنباء الخرة وكل ما نطق به القران وتواتر عن الرسول صلى ا عليه وسلم فهو يقين ل شك فيه ‪ .‬وهو منقسم إلى‬
‫ما يحتمل التأويل وإلى ماليحتمل ‪ ,‬فكل ما احتمل عذر المؤول له وما ل يحتمل التأويل ةتركه تارك عن قصد كفر بتركه ‪.‬‬
‫والمور المشكلة ثلث مسائال ‪ :‬إحداهما ‪ :‬مسألة النفس وقد فرعنا منها ‪ .‬الثانية ‪ :‬مسألة حشر الجساد ‪ .‬الثالثة ‪ :‬الجنة والنار ‪.‬‬
‫مسألة قال ا تعالى ‪ " :‬كما بدأنا أول خلق نعيده " ) النبياء ‪ . ( 104 :‬وهذا هو نص فى العادة ‪ ,‬وقال تعالى فى العظام " قل‬
‫يحييها الذيِ أنشأها اول مرة " ) يس ‪ . (69 :‬وقال تعالى ‪ " :‬وا أنبتكم من الرض نباتا )‪ (17‬ثم يعيدمن فيها ويخركم إخراجا"‬
‫) نوح ‪ . ( 18 , 17 :‬وأكثر أى فى البعث ‪ ,‬وهو نص فى إعادة النفس إلى قوالب الجسام ول مراء فى ذلك ومن امتنع عنه شك‬
‫فى صدق الرسول أو كفر عمدا ‪ .‬والمنكرون له فرقتان ‪:‬‬
‫ص ‪88‬‬
‫طائافة زعمت أن ل بقاء للنفس ‪ ,‬فإن العالم متناسخ تابع لدورات الفلك ل إلى نهاية وقد تقدم الرد على هذه الطائافة ‪.‬‬
‫الطائافة الثانية ‪ :‬وهم من السلمين وهم اكثر المتصرفة ‪ .‬زعموا أن النفس باقية وان الجساد ل تعاد ‪ ,‬وحجتهم أن الجسم مستحيل‬
‫عن أغذية مأكولة والغذية نباتات ولحوم ‪ ,‬وربما أكل شخص أخر فيجتمع جسم واحد من الجسام ‪ ,‬فلو أعيد لبطلت تلك الجسام‬
‫المأكولة ولبطل حشرها ‪ ,‬وإن حشرت زال جسم هذا الكل وهذا تطويل يستغنى عنه ‪ ,‬فإنا نقول ‪ :‬ل نلتزم لكم أن ا تعالى بعيد‬
‫عين الجسام ‪ ,‬بل ضمن أن يرد النفس إلى خلق جديد وتراه كما فعل ذلك ابتداء ‪ ,‬وقد ورد فى الخبر ‪ :‬إن ا تعالى ينزل قطرا‬
‫فيكون ذلك أصل لخلقه الجسام وهو قادر على اختراع ما يشاء ‪ .‬وكيف ل ‪ ,‬وقد قال علماؤكم المتقدمون من أهل الهند وغيرهم ‪.‬‬
‫عمر العالم ستة وثلثون ألف سنة ‪ .‬وقالوا أيضا ‪ :‬خمسون ألفا على اختلف بينهم فى ذلك ‪ .‬وقالوا ‪ :‬ثلثة وستون سنة ثم يعاد‬
‫جديدا ‪ ,‬وتبدل الرض غير الرض والسموات ويرجع القطب اليمانى شماليا والمعمور غامرا وبالعكس والبر بحرا والبحر برا ‪.‬‬
‫فإن قالوا ‪ :‬هذة ل فائادة لكم فيه ‪ ,‬فإنه يلزم أن يبدل ثانيا ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬ذلك جائازة فى قدرة ا تعالى ‪ ,‬ولكن الرسل عليهم السلم أخبرت أنه ل يفعل ذلك وان للعالم ثلث حالت ‪ :‬حالة عدم تقدمت‬
‫وحالة وجود نحن فيها وحالة إعادة ‪.‬‬
‫مسألة قالوا ‪ :‬انكرنا وجود الجنة والنار يعنى أن تكون لذاتهما والمهما محسومة جسمانية ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬علة الستحالة عندكم تاثبر الطباءع فى الجسام بواسطة حركات الكواكب ‪ ,‬وقد قال قدمائاكم إن للعالم تحويل ‪ .‬وأخبرت به‬
‫الرسل عليهم السلم وتتابعت على ذلك ‪ ,‬فتلك القضية بخلف هذه ‪ ,‬فبم تنكرون على من يزعم أن هذه القضية كما اقتضت أسبابها‬
‫الفناء تقتضى أسباب تلك البقاء وتكون الحكمة فيها ان تكون غرضا مقصود البقاء فى الجسام ‪ ,‬وكيف ل ‪ .‬وقد قال الجماهير منكم‬
‫بل الطباق على ذلك ان جوهر الشمس ل يقبل البقاء ‪ ,‬واتفقتم على ان جوهر الشمي ل يقبل الفناء والجسم عندكم ‪ ,‬وإن تركب‬
‫وكان تركيبه حادثا فجواهره قديمة ولم يتوال نصب السباب على جهة تقتضى البقاء ‪ .‬ثم الجنة والنار عبارتان عن قطرتين يكون‬
‫احدهما فيه قصور الذهب والفضة والؤلؤ والياقوت والثمار ثم لمن استقر فيها بل موت وواجد هذه اللذات أبدا ل يألم ول يحزن‬
‫ول يجوع ول يظمأ ول يسمعون فيها لغوا ول تأثيما إل قيل سلما سلما ‪ ,‬والخر على الضد من هذا وهو النار وبال الهداية ‪.‬‬
‫ص ‪89‬‬
‫المعراج السابع‬
‫غرضنا فيه بيان معنى الموت ‪ ,‬وهل هو كمال او نقصان ‪ ,‬فالموت فساد المزاج وقصور الجسم عن النفعال للنفس لعدم الحس‬
‫والحركة ‪ ,‬فمن زعم أن النفس قديمة زعم أنه ترك المفس البدن كالرجل ارتحل عن بيت أضيف فيه إلى داره وعلى الرسم المتقدم‬
‫كمن لبس ثوبا حتى انقطع وتخرق عليه فسقط عنه الثوب وبقى عريانا منكشفا ‪ ,‬والملك الموكل بالموت موكل بسبب الموت وهو‬
‫سوق اللم وبعث النفس على السباب المهلكة ‪ ,‬فيكون الموت بواسطته ول يبعد فى العقل أن يكون للنفس ملئاكة تتلقاها بالسخ‬
‫والبشرى كما شهدت به الظواهر ‪ .‬وأما هل الموت كمال أو نقص ؟ فحقيقة النقص الرجوع من العلى إلى الدنى ‪ ,‬والكمال التقاء‬
‫من الدنى إلى العلى فإن النسان إن كان يرتقى إلى العلى بسبب الموت فهو كمال ‪ .‬وذلك أنه متردد فى أطوار الخلقة من كونه‬
‫ترابا وغذاء ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم تكون مولودا رضيعا ثم فطيما ثم غلما ثم شابا ثم كهل وجاهل عالما‬
‫وجمادا ثم حيا مدركا ‪ ,‬وما من منزلة من هذه المنازل إذا أضفناها إلى ما قبلها وتجدها كمال ‪ ,‬والنسان لو جعل له عقل فى بطن‬
‫أمه أن يتبدل بما سواها وذلك لللفة وينشد لهذا ‪:‬‬
‫لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد‬
‫لرحب مما كان فيه وأرغد‬ ‫وإل فما يبكيه منها وإنها‬
‫إذا باشر الدنيا استسهل الدنيا استسهل كأنه بما سوف يلقى من أذاها يهدد‬
‫فلول عدم اللفة ووحشة التبدل لما بكى والنفس خوارة ‪ ,‬بل الشيخ الكبير على طول تجربته إذا رحل من داره إلى دار أخرى يجد‬
‫ألما وسهرا وربما لم يبنم وكذلك الغريب وإنما كانت الغربة مؤلمة لعدم اللفة حتى قال الشاعر فى ذلك ‪:‬‬
‫وحبب أوطان الرجال اليهم مأرب قضاها الشباب هنالكا‬
‫إذا ذكروا اوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فحنوا لذلكل‬
‫ص ‪90‬‬
‫و قال أخر‪:‬‬
‫أحب بلد ا ما بين منعج‬
‫إلى و سلمى أن يصوب سحابها‬
‫بلد بها نيطت عليها تمائامى‬
‫و أول أرض مس جلدى ترابها‬
‫و علىالجملة‪ :‬فعلوم الشريعة بأسرها فىالمر و النهى محذرة هذا المقام و لذلك أمرت الرسل كلها عليها السلم الخلق بالقبال عن‬
‫الدنيا رغب الزهاد فى ترك الوطن والهل و الولد ورغد العيش‪ .‬قال عليه السلم‪ ":‬كن فى الدنيا كأنك غريب أوعابر سبيل وعد‬
‫نفسك فى أهل القبور"‪ .‬وقال عليه السلم‪ ":‬انما الدنيا كظل شجرة استظل الرجل بها ثم زال عنها و تركها"‪ ,‬فامقصد الرياضة و‬
‫تمرين النفس على الشدائاد‪ .‬و أن تمحى هذه المور عن النفس و أن تزال عنها اللفة و أن تكتسب بغضا لهذه المور فاذا ماتت و‬
‫ان استبسئات ما حصلت فيه فل تجد غيره فهى مضطرة اليه ثم ل تلبس ال يسيرا و تفرح فرحا ل نهاية له و اذا كانت وضرة‬
‫ومشغولة بالمال و الولد و القبال على الشهوات و العكوف على الملذ الدنيوية مع انها سائاقة الى النفس مذهل ومكربا وشاغل‬
‫عن الموت فانه انتقال من ضد الى ضد وهو هلكة فأمر الرب تعالى لطفا منه بالعباد أن يكون للعبد بين الضدين تدريج و قد جعل‬
‫تعالى لذلك مثل ظاهرا فى الحياة الدنيا فى الزمنة فجعلها أربعة أقسام على ممر الشمس فى بروجها فجعل أعدل الزمن تنبت فيه‬
‫الجسام و تنمو فيه الناميات وتتلون اللوان وتخرج الرض زخرفها‪ .‬وقد قال تعالى‪":‬إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من‬
‫السماء فاختلط به نبات الرض"]يونس‪ [24:‬فهذه المدة من الزمان كحال النبات للنسان و الربيع ل يصير بهذه المنزلة إل بزمن‬
‫متقدم عليه وهى النقلة الشتوية فإنها باردة رطبة تنزل فيها المطار و تسخن فى الرض وتختمر بها فهى كحال البداية للنسان‪.‬‬
‫فلو أن ا تعالى يخرج الخلق من الشتاء الى الصيف بغير فصل الربيع لهلكوا عن أخرهم‪ ,‬فان النباتات و البدان استولى عليها‬
‫البرد و الرطوبة و النقلة الصيفية الغالب عليها المستولى فيها الحر واليبس‪ .‬فلو خرجوا من البرد المفرط الى الحر المفرط ومن‬
‫الضد الذى هو الرطوبة الى المضاد له وهو اليبس لكانت هلكة لكن ا تعالى بحكمته فصل بفصل فيه تناسب الفصلين معا فأوله‬
‫البرودة و آخره بالحرارة على تدرج خفى ل تحس به الجسام إل بعد انقضائاه و ذلك بمر الشمس على الثمان و العشرين منزلة فى‬
‫المنطقة الوسطى التى تجرى فيها الكواكب فلها مشرقان وهما منتهى تحركها فى الفق الشرقى فى الطرفين فإذا انتهت نهابتها‬
‫فيكون الجنوب فى الخر ويكون الشتاء بذلك الفق الضعف‪.‬‬
‫فحينئاذ شعاعها فى المواضع يجذب البلة و تتصاعد به أبخرة البحار و ينعكس الحر‬
‫ص ‪91‬‬
‫فى بطن الرض و يسقط ورق الثمار لن الماء ينجذب من أعاليها إلى أسفلها من حيث أن البخرة الحارة ينفيها البرد من أعلى‬
‫الرض فتطلب المركز فإذا استحرت الرض استدعت الرطوبات فجذبت النباتات فإذا زالت الرطوبات من الوراق و الغصان‬
‫غلب عليها اليبس فتكمشت و تساقطت ويكون الطرف الثانى ثم إذا غلب عليها الحر و اليبس فيكون القيظ كيفما انجذبت الشمس‬
‫على تدريج لنها تقيم فى كل برج شهرا وتقطع فى كل يوم من البرج درجة والدرجة ل تحس وهى تسير فكلما انجذبت زاد حرها‬
‫وفى ازدياد حرها تسخن الرض وتتحلل الرطوبات وتسخن أغصان الشجار من فوق فإذا استحر الغصن استدعى الماء وطلب‬
‫رطوبة الجزء الذى تحته ويستدعيه الذى تحته من الذى تحته حتى يقع الستدعاء من قاع الشجرة و تستدعيه الشجرة من الرض‬
‫و الرض وبعضها من بعض فإذا حصل الماء فى العود أذابته الشمس وجرى فى العود بطبخها وبما تستمد من لطيف الماء‬
‫ولطيف التراب يحيله الشمس ثمرة ثم تخرج ما فى طبع ذلك العود من الثمرة بإذن ا تعالى‪.‬‬
‫والشكل يخرج بطبعه الذى ركبه فىه الفاطر العليم بواسطة حر الشمس فى اقبالها وادبارها حسب ما تمر فى البروج فالشمس‬
‫جعلها البارئ سبحانه سبب الحرث والنسل وهى علة النباتات و الحيوانات والمعادن إذ سبب المعادن أبخرة تحتقن فى الرض‬
‫فيكون منها أدخنة كبريتية فيمر عليها نشع الماء فى الرض فتعقده وهذا مبرهن عند المشتغلين بعلوم التحليل و الكيمياء فإنهم‬
‫زعموا أن الزئابق ينعقد بإشمام رائاحة الكبريت وإمدادم من خارج بان يذاب و يطرح عليه أو يفلى ويترك فيه‪ .‬ثم عند اجتماع الماء‬
‫و الكبريت تكون مادة الجوهر فى الرض اما باعتدال امتزاج و صبغ فيكون منه الذهب أو بافراط فبكون منه النحاس أو بتقصير‬
‫خفيف فتكون منه الفضة هذه الحركة الشمسية متعلق بالحركة الشرقية ومثال ذلك الرحى مع قطبها فان القطب يقطع شبرا فى شبر‬
‫وأخر دائارة الحجر تقطع خمسة أشبار أو أكثر فى الستدارة فكذا الطواحين وكذلك الدوائار والسواقى فان الدائارة العظمى المحركة‬
‫للحجار التى تدور بحركة الماء تقطع ما مسافته فى الستدارة عشرون ذراعا أو أكثر ورأس المغزل يقطع على استدارة دور‬
‫الدينار والمدة واحدة و كذلك برهن أصحاب النظر فى علم الثقال والمقادير أن الحركة الكلية هى سبب حركة الفلك و أنها‬
‫واحدة و كذلك نشاهد الثانية )هى الساقية( يدور الحمار فيها الى جهة ويختلف دوران تلك الدوائار فالحمار يقطع على استدارة و‬
‫القوس العظم الذى يكون عليه الطونس يقطع على استدارة فى جهة أخرى و دوائار أخر تقطع فى جهة أخرى‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولما كانت الشمس حارة نارية الجوهر جعلت الحكمة اللهية و التقدير الربانى‬
‫ص ‪92‬‬
‫لها نظير على مضادة طبعها إذ لو دام الحر المفرط لحرق فسخن ا تعالى القمر يمر ببرده فيبرد ما استحر فيكون النامى معتدل‬
‫بينهما ثم جعلت حركتعه سريعة لن حركته لو ساروت حركة الشمس لما وصل نفعه الى الناميات بل الى فساده وكذلك أيضا لم‬
‫يصل حر الشمس ال بعد فسادها انفعل عنه و كانت حركته سريعة‪ .‬قال تعالى‪" :‬هو الذى جعل الشمس ضياء و القمر نورا "‬
‫]يونس‪ .[5:‬وهذا أيضا غرض أخر يخص النفوس الحية فإن الشمس هى النور الذى به تخرج الحيوان من القوة الى الفعل و لها‬
‫فى النفوس البشرية تأثير بديع فبالنور قوام الكل و جعل القمر مرآة يقبل ضياءها باليل و يعيده على الخلق ختى ل يفقدونه ليلهم و‬
‫ل نهارهم وربما توهم متوهم أن الفق قد يخلو من نور الشمس و هذا توهم فاسد و الفق معمور بأنوار الشمس و السوات‬
‫والرض ل تغيب عنها طرفة عين و إنما ينكر الناس ذلك بإضافة حالهم فى كون الشمس فى مقابلتهم على وجه أفقهم إذ يكون‬
‫النور فى عنفوانه كثيرا فل يزال القرص يبعد عن أرضهم و تقل النوار فحال النور عند العصر بخلف حاله عند الظهر و حاله‬
‫عند المغرب بخلف حاله عند العصر و حاله عند مغيب الشفق بخلف حاله عند المغرب و حاله نصف الليل بخلف حاله عند‬
‫مغيب الشفق‪ .‬وهو أبعد ما يكون النور من ذلك الفق ولذلك تكون الظلمة وتضعف رؤيته للنسان فى ذلك الوقت و لكن مع ذلك‬
‫إذا لم يكن بينه و بين السماء حائال من سقف أو سحاب يبصر فإن النور ل ينعدم وهو مع ضعفه ينتفع به فإن نور الكواكب مع‬
‫الشمس و هى واقعة على الرض فإذا قربت الشمس من جهة المشرق زاد النور من جهة المشرق فل تزال كذلك حتى تشتد فيكون‬
‫فجرا أول فإذا كثر كان فجرا ثانيا فإذا تزايد كان اسفارا فإذا طلع القرص كان نهارا‪.‬‬
‫وأما فى الليلى المقمرة فيكبر جرم القمر و لقربه من الرض يتسع النور فيه وينعكس أو بعده منها وإذا كان منها على أربعة عشر‬
‫منزلة كان ضوءه‪ .‬قالوا‪ :‬وفى خاصية القمر جذب الرطوبات و الشمس تحلل وهذه الكواكب إنما تؤثر فى العناصر الدائارة‬
‫بالرض لنها تناسبها فى اللطافة و تقرب من المنفعلت من جهة أخرى فهى واسطة بين الحيوانات و النباتات و المعادن تناسب‬
‫الكوكب بالبساطة و المنفعلت بالكثافة وقد قالوا‪:‬إن المنفعلت تنفعل من هذه العناصر وإن الحيوانات و المعادن هى أنفس الهواء‬
‫والماء والنار والرض لكنهم قالوا ذلك إنما يكون على طريق دور فإذا تكونت ثم فسدت عادت عناصر فهى يستحيل بعضها الى‬
‫بعض ولذلك قالوا سمى عالم الكون والفساد‪ .‬ول يبعد أن تكون شعاعات الكوكب هى المؤثرة و هذه العناصر واسعة بين المؤثرات‬
‫وبينها وا تعالى أعلم‪ .‬فإنها أبعد عن قبول الفساد وآية ذلك أن شعاعات الكواكب هى من الشمس و من نفسها أيضا فلو كانت‬
‫تنقص أو تتزايد لقبلت الكون والفساد ولظهر ذلك عليها‪.‬‬
‫ص ‪93‬‬
‫وقد زعم القدماء أن النار المحدقة بالرض إنما هى من الدخنة و القتارات الصاعدة و الهوية المحرقة و الهواء من البخارات‬
‫المتحللة من الرض و الماء على حسب ماتكلموا على ذلك فى استقصاءات وأيضا فل يتجه أن تتحرك هذه العناصر دون مباشرة‬
‫وذلك عند هبوب الرياح وتموج الهواء وا أعلم‪.‬‬
‫و قد ذكر القدماء أن المطار والثلوج والرياح إنما تكون حسب ما تكون النيرات ف مواضع مخصوصة من بروج مخصوصة‬
‫فلتكن أشعتها التابعة لحركتها هى الممتزجة لهذه العناصر المحركة لها ثم لنفوس النيران محركات حسب ما تتحرك وتترقى فى‬
‫الحركة الى الحركة الكلية كما سبق و قد زعم الوائال أن تلك الحركةعن شوق و اختيار عقلى مستند الى مشيئاة البارئ تعالى‬
‫وارادته فهوالبارئ المبدع الخالق المصور ل يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ول فى الرض ول أصغر من ذلك ول أكبر إل‬
‫فى كتاب مبين فهو مرتب الكل أحسن ترتيب و مقدره أكمل تقدير و الكل متصرفون جارون على منهاج ذلك الترتيب المحكم و‬
‫التقدير المتقن ل يزيد ذرة و ل ينقص ذرة كذلك ينقرض الولون ويتبعهم الخرون و السماء كما هى و نجومها والرض بما فيها‬
‫من النباتات و الحيوانات وغير ذلك لم تطرأ عليها شئ ينكرونه ول تزال كذلك حتى يعيده بارئاه تعالى تارة أخرى كما بدأ حيث‬
‫قال تعال‪ :‬طكما بدأكم تعودون" ]العراف‪ .[29:‬فالعالم بأسره كالشخص النسانى البشرى ذو عمر ومبدأ وأخر‪ .‬و قد تقدم مرارا‬
‫أن ا سبحانه خلق النسان على صورة العالم فأوله بشر ضعيف على تدريج كما سبق فى المعراج الول‪.‬‬
‫فأول ما يخلق ا تعالى مادة يتكون منها ثم يخلق فيه الروح الحيوانى و ل يزال يتدرج فيه قليل قليل و كذلك النفس الناطقة فيه‬
‫تظهر قواها شيئاا فشيئاا فأضعفها حالة الرضيع ل يزال ينمو الى أن يشب فتخلق له الوهام و الظنون فتكون عنده كالقوة العقلية فإذا‬
‫كبر قليل خلقت فيه القوة الهيولنية وهو العقل الغريزى وهى المبادئ الول و هذا فى العادة من الخمسة عشر الى الثامنية عشر‬
‫عاما ثم ل تزال كذلك حتى يخلق فيه العقل النظرى وهو أن يدرك المور الجائازة والمستحيلة فهى كعيون تفتح قلبه و مثاله‬
‫النسان فى بيت مظلمفإذا قابله السراج على بعد نظر نظرا ضعيفا فل يزال السراج يقرب منه و نظره يكثر الى أن يتصل به‬
‫فيقوى نظره نظرا كليا فلو اتفق أن يتخذ السراج به حتى يكون فى دماغه ملبسا لقواه لكان أكثر كذلك فافهم أن القوة النفسية ل‬
‫تزال تتزايد الى مالنهاية فليميز ما بين النبى والصبى من الدرجات قالنفس آخذه فى الكمال من حين تخلق الى حين موتها فالموت‬
‫إذا كمال الجسام لن النفوس تنزع المادة و تلتحق بالفق الملئاكة وهى الجنة العليا و هى جنة الملئاكة فلن كانت نفسا شقية كان‬
‫كمل باعتبار تخليصها عن‬
‫ص ‪94‬‬
‫المادة و نقصانا من حيث تتخلف عن الجنبة العليل فل تزال كئايبة حزينة على جسمها وملذها وحواسها فإنها لم تعهد تركه قط ولم‬
‫ترتض ذاتها على ترك الملذ وكانت حين نزعها كئايبة على البدن فل تزال فى حسرة وندامة وألم ونهش وعقاب وحيات وسلسلو‬
‫أغلل أبد البدين ودهر الداهرين إل من شاء ربك "إل ماشاء ربم إن ربك فعال لما يريد" ]هود‪ .[107:‬فإذا أوجب على كل من‬
‫رزقه ا تعالى عقل و ميز بارئاه ونفسه أن يسعى فى حيلة الخلص وليكن فى أثناء الحيل الدنيوية و الخروية و ذلك هو السعى‬
‫المطلق وليكن فى الدنيا كمن امتحنه سلطان زمانه وبعثه الى أرض يكرهها و يكره أهلها وأغذيتهم ولغتهم فإذا حصل بينهم علم أنه‬
‫متى اعتزلهم وتركهم قتلوه وعذبوه وإن خالطهم كفوا عنه فيكون أبدا يعاملهم بظاهرة فيكلمهم و يأكل معهم ولكن قلبه وهمته‬
‫وعشقه لقطره الذى خرج منه فإذا أخرجه الملك من بينهم ورده الى قطره كان فرحا على مفارقتهم مسرورا لقطره فلو عكف‬
‫عليهم و صرف همته اليهم ثم بعث اليهه لكان خروجه خروجا كدرا فإنه ربما عشق نسائاهم و سيرتهم فل يزال معذبا وهذا غاية‬
‫البيان فى معنى الموت وقد فعمت العالم بأسره و حقائاقه فإن أنت استعملت ذهنك وفكرتك حتى انفهم لك ذلك كنت ربانيا و نعم‬
‫العبد لبارئاك وناسبت الملئاكة فوقعت المحبة واللفة بينكما وإن أنت لم تعبأ به ولم تعول عليه أو علمت ظاهره دون باطنه فما أقل‬
‫نفعك به وما أعظم حسرتك أعاذنا ا وإياك من ذلك هذا تمام السبعة المعارج التى تستعمل فيها القوة الفكرية و هى نهاية الغرض‬
‫الذى أوردناه و ربما تقربنا الى ا تعالى و رغبنا فيما عنده فى أن ننبه على الشياء التى تكون ميزانا و مرآة للقوة المفكرة حتى ل‬
‫تغلظ فى أكثر تصرفاتها فإن خلف الناس قد كثر و مذاهبهم جمة ل تنحصر ومن عول على أخذ العلم عن إمام ل سيما مذهب‬
‫المامية فإنهم زعموا أن الرض ل تخلو طرفة عين من إمام قائام ل تعالى بحجة يخرج الخلق من التخمين الى اليقين و ينجيهم من‬
‫ظلمات الشكوك فعلى مذهبهم ل يضر إن سافر النسان عن المام و زال عن بلده والمسائال أبدا ل تنحصر فيحتاج أن يراجعه كل‬
‫دقيق وجليل ‪ .‬وحق هذا التنبيه أن يكون مستقبل بنفسه مستوعبا فى أسفار كثيرة ومجلدات عديدة و لكن صادفت بالرغبة أيها الخ‬
‫قلبا مشتغل مشتبك الفكر ولسانا كليل قد تخمر بين أمور متنافرة وبقى معلقا بين الدنيا و الخرة فإن تلفاه ا سبحانه بدعاء‬
‫الصلحاء وضراعة الصدقاء و الصفياء وإل قل أشياؤه وعاش معيشة ضنكا فى دنياه وا سبحانه ينفع بعضا ببعض بعزته‪.‬‬
‫ص ‪95‬‬
‫السعادة ضربان سعادة مطلقة وسعادة مقيدة‬
‫فأما السعادة المطلقة ما اتصلت فى الدنيا الى مال نهاية له و المقيدة ما كانت مقصورة على حال و زمان وكل سعادة فبسبب‬
‫والسبب من أنواع الحجج فأما السعادة المقيدة فتحصل بأربعة أسباب‪ :‬أعلى السباب العلمية احترازا عن الحرف والصناعات‬
‫وهى إما سفسطة وإما خطابة وإماجدل وإما شعر أما السفسطة فنهايتها وغرضها ل مقصودها أن تؤلف قياسا و تنظم حجة تشبه‬
‫الحق و ليست بحق بنفسها لتغلب خصمك من حيث ل يشعر كما أنك إذا قلت‪ :‬أليس النجار صانعا فيقول‪ :‬نعم فتقول‪ :‬أليس هو‬
‫جسما؟ فيقول أليس البارئ سبحانه صانعا؟ فتقول‪ :‬نعم فيقول‪ :‬فهو إذا جسم فهذا قياس مؤلف ولكنه فاسد وسفسطة ومباهتة ودخل‬
‫من الفساد قوله‪ :‬فكل صانع جسم فإنه خطأ وإل فما الدليل عليه؟ فنهاية سعادة هذا التمويه على الخصم و هى منقسمة الى التلبيس‬
‫فى النظم كما قدمناه الى التلبيس فى شبه الحروف و السماء كما إذا قلت العين تبصر و الدينار عين فالدينار يبصر فهذا غلط من‬
‫جهة اشتراك السم وحده أن تقول حد الدينار غير حد العين فهما مختلفان فى الحد و الحقيقة و كذلك فى النقط مثل قوله تعالى‬
‫"عذابى أصيب به من أشاء" ]العراف‪ [156:‬ومن أساء واستيعاب هذا يحتاج الى مجلدة و أما الخطابة فغرضها اقناع للسامع بما‬
‫تسكن نفسه اليه سكونا تاما من غير أن تبلغ اليقين و هذا كما يفعلع الخطيب من الناس فإنه ينظم كلما عذبا مشجعا يذكرهم الموت‬
‫ويفرغهم و يخوفهم وغرضه اليقاع فى نفسهم وأما المشاعر فغرضه اليقاع فى النفس و تحريك القوة الشهوانية و الغضبية بأن‬
‫يشبه الشياء بعضها ببعض كقول القائال‪:‬‬
‫هو البحر غص فيه إذا كان راكدا‬
‫على الدر واحذرهإذا كان مزبدا‬
‫فهذا إذا سمعه الممدوح انبسطت له نفسه لنه شبه جوده واتساعه بالبحر وأنه ذو صولة كالبحر وقد يحرك الشاعر القوة الغضبية‬
‫كقول القائال‪:‬‬
‫لو كان يخفى عن الرحمن خافية‬
‫من العباد خفت عنه بنو أسد‬
‫وكقول الشعراء ينفر زوجته عن النكاح‪:‬‬
‫فل تنكحى إن فرق الدهر بيننا‬
‫أغم القفاو الوجه جعد النامل‬
‫حتى أن النسان يشبه له الشئ الحسن بالقبيح فينافره كما إذا قيل له وقد شرب فى‬
‫ص ‪96‬‬
‫محجمته خرجت من كور الزجاج فيقال له بها يمص الدم للمجذوم و المبروص فينافرها ول يشرب بها وكما إذا أرسل عليه حبل‬
‫ثم قيل له‪ :‬عليك نفر وقيل له‪:‬إن هذا العسل أصفر كأنه عذرة نفر من ذلك واستبشعه فهذا غرض الخطابة و الشعر و أما الجدل‬
‫فغايته غلبة من يخاطبه بأشياء مشهورة كما قال تعالى لليهود‪" :‬إن زعمتم أنكم أولياء ل من دون الناس فتمنو الموت إن كنتم‬
‫صادقين" ]الجمهة‪ .[6:‬فإنه علم فى العادة أن المحب يحب لقاء الحبيب وتأليف القياس فإنه أن يقال إن كنت تحب لقاء زيد فأنت‬
‫صديقهلكنك تحب لقاءه فأنت إذا صديقه فيجئ البيان فيه على وفق المقدمة ونظم القياس لليهود أن يقال إن كان اليهودى يحب لقاء‬
‫ا تعالى فهو ولى ولكنه يكره لقاء ا تعالى فإذا ليس هو بولى وكما قال ابراهيم عليه السلم للذى حاجه‪ ":‬فإن ا يأتى بالشمس‬
‫من المشرق فأت بها من المغرب" ]البقرة‪ .[258:‬فغاية هذه العلوم موقوفة على منافع دنيوية إل أن تصرف الى الخرة كما فعلت‬
‫النبياء عليهم السلم فى خطاباتهم وجدلهم فالدنيا ركاب الخرة و هى مضرة إذا طلبت لتفسها ونافعة إذا طلبت للخرة فإذا مقدار‬
‫سعادة هذه العلوم ما يقصد مقدار بها‪.‬‬
‫و إما العلوم التى يطلب بها السعادة العلمية النافعة فتنقسم الى أربعة أقسام‪ :‬طبيعية ورياضية وسياسية و الهية و الغرض بالطبيعة‬
‫معرفة العالم وتركيبه ومزاجه و معرفة النباتات والحيوان والمعادن و المراض والمزجة و صلحها وفسادها وهو خادم معين‬
‫كالخبز و الغذاء للنسان و كذلك هو مع تلك العلوم‪.‬‬
‫وأما الرياضيات فأربعة أنواع‪ :‬الهندسة والحساب والمنطق والنجوم فأما الهندسة‪ :‬فمقصودها معرفة الطوال والكميات والمقادير‬
‫وهى الة يستعان بها و الحساب غرضه معلوم و المنطق غرضه تمييز المور العقلية من المحسوسات وتمييز البرهان من الشك‬
‫فى العتقاد واما علم النجوم مقصوده معرفة الفلك وحركتها و كواكبها و سائار أحكامها و فائادته معرفة الكائانات‪.‬‬
‫وأما اللهيات فمقصوده أربعة أشياء العلم بال سبحانه وملئاكته وكتبه ورسله واليوم الخر و أما السياسة فمقصوده تهذيب النفس‬
‫فى جلب منفعة ودفع مضرة ما عاجلة و الخلق مع سائار هذه العلوم وهى معهم إما كالغذاء لهم وإما كالدواء و الرسل مبعوثون‬
‫لتبيين الجميع ومقاديرها فى السعادة على ما ذكرنا لكن تختلف أشخاص الناس وحالتهم على اختلف قرائاحهم و غرائازهم و‬
‫مقدار قبولعم وعقولهم والتقسيم يأتى على هذه النسبة فنقول‪ :‬أما ما هو كالغذاء فكالعلوم اللهية فل غناء بأحد منها فإن سائار هذه‬
‫العلوم دورانها على بيانه و الخالق هو الصل ول حال لمن جهل باريه وأما ماهو كالدواء فيخص ويعم فى بعض العلوم السياسية‬
‫وهى ماتعلق منها بفروض العيان فعلى كل شخص أن يعرف هذا‬
‫ص ‪97‬‬
‫فى العلم السياسى وأما فى غيره من العلوم فيستعمل النسان منه مقدار حاجته ان احتاج اليه وال فالشتغال بما يفيد أحسن إذ‬
‫النسان ذو شغل كثير و"أما ماهو كالداء فهو يضر بالنسبة الى حالت الشخاص وهو كل شئ متى أوصلناه الى شخص وجدناه‬
‫يضربه فهو دواء فى حقه فإن العسل وإن كان حلوا عند من أفرط عليه البلغم فهو مر عند من أفرط عليه المرة الصفراء إذ هو فى‬
‫حقه داء و العلوم إنما هى بالضافة فلقد يوجد ا تعالى‪:‬‬
‫خلق تضر الحقائاق بهم‬
‫كما تضر رياح الورد بالجعل‬
‫وقد قال صلى ا عليه وسلم "حدثوا الناس بما يفهمون" وقال عيسى عليه السلم‪" :‬ل تعلقوا الدر فى أعناق الخنازير"‪.‬‬
‫فمن منح الجهال علما أضاعه‬
‫ومن منع المستوجبين فقد ظلم‬
‫فإن قلت هذ لشك فيه غير أن العلوم اللهية يختلف فيها وقد كثرت فوق السلميين فعلى رأى من أعول فاعلم أخى أنك متى كنت‬
‫ذاهبا الى تعرف الحق بالرجال من غير أن تتكل على بصيرتك فقد ضل سعيك فإن العالم من الرجال إنما هو كالشمس أو كالسراج‬
‫يعطى الضوء ثم انظر ببصرك فإن كنت أعمى فما يغنى عنك السراج والشمس فمن عول على التقليد هلك هلكا مطلقا‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬فكيف الخلص فيه؟ فهذا الن حديث يطول ويحتاج الى اطناب واسهاب وقد أعلمتك انى مشتغل مبدد لشمل النفس كليل‬
‫الخاطر و لكن لتعلم أن الوصاف الراجعة الى ا تعالى تنقسم الى ثلثة أقسام إما وصف يجب له وإما مستحيل عليه وإما جائاز‬
‫فى حكمه فل يتلقف أحد الجائازين بسبب إل من جهة الرسول صلى ا عليه وسلم فكل واجب أو مستحيل فخذه من جهة العقل‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ذلك اطلب فمن أين آخذه وكيف أتوصل إليه؟ فأقول‪ :‬سأبين لك منه مقدارا يليق بهذه العجالة‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬وكيف أصنع أيضا فى فروع الحكام و هى المور السياسية فقد اختلفت الئامة كمالك والشافعى وأبوحنيفة وأحمد‬
‫وغيرهم؟ فأقول‪ :‬فإذا الشكال من جهة الخلف فى أصول الدين وفروعه وقد كشف العى فى أصول الدين ووعدتك بالباقى وأما‬
‫الخلف فى الفروع فلك فيه حيلتان‪ :‬إحداهما أن تعرف أصول الفقه وأحكام الشريعة معرفة دون تقليق ثم تعمل بما علمته وتترك‬
‫الناس جانبا خالفت أو وافقت فهذه حيلة وقد جعلت‬
‫ص ‪98‬‬
‫فى ذلك كتابا سميته ) برسالة القطاب( تختص بأصول الفقه خاصة على الطريق البرهانى فإن شئات فاحفظها واحفظ أحكام‬
‫الحديث والسنة أو تكون عندك كتبها وذلك منحصر فى ثلثة أسفار‪ :‬أما أحكام الحديث فقد جمعها الزبدونى وأحكامها الفرائاض‬
‫لسماعيل القاضى وغيره وأحكامها الحكام لبى الحسن الطبرى الملقب بشفاء العليل وبأصول الفقه تهتدىالى ما غاب عنك فإن‬
‫تعذر هذا عليك فعليك بجملة ثانية وهو أن تنظر كل مختلف فتصير الى الطرف الكمل مثال ذلك مذهب أبى حنيفة فى التوضؤ‬
‫بالنبيذ فاستعمل أنت مذهب مالك فى تركه فهو أحوط وكذلك مذهب الشافعى فى التوجيه والبسملة وقراءة القرآن فى الصلة‬
‫فاستعمله فهو أحوط من مذهب مالك فيه فهاتان حيلتان لطريق الكمال فإن عجزت عنها فعليك بتقليد إمام واحد فاعمل على مذهبه‬
‫فإحكام الظاهر يسير الخطب قد فهمت هذا وإنما المشكل على هو أمر المور العقلية حتى أميز الحق من الباطل فقد علمت من هذا‬
‫طريق الخلص فى الفروع فاعلم أن المور التى تخوض فيها قوة المفكرة ترجع الى أرعة أقسام‪ :‬معقولت ومحسوسات‬
‫ومقبولت ومشهورات‪.‬‬
‫فأما المعقولت‪ :‬فما ل يدرك إل بالعقل على التجريد كعلمنا أن الضدين ل يجتمعان وأن الشئ ل يصح أن يكون متحركا ساكنا فى‬
‫حال واحدة وأن الواحد قبل الثنين وأن الحادث له أول وأن ماكان مع الحوادث معية زمانها فهو حادث فكل ما ل تدريه إل من‬
‫جهة العقل‪.‬‬
‫وأما المحسوسات‪ :‬فما تدريه من جهة الحواس الخمس كالفرق بين اللوان والفرق بين الطعوم والملموسات والفرق بين‬
‫المسموعات والفرق بين المشمومات والفرق بين المذوقات‪.‬‬
‫وأما المشهورات‪ :‬فهى العادات الراجعة الى عادات الخلق والبلد والمم والزمنة كعادة الناس فى اللباس والفرح والغانى‬
‫والحاديث والسير الكريمة كترك الظلم وبر الوالدين وشكر المنعم والكف عن الجار والنصفة من الظالم وإفشاء السلم التى هى‬
‫الن متممات الحكام الشرعية وهى من قبل الرسل تعقل وقد كانت العرب وسائار المم السالف كالهند وغيرهم يستنون بذلك‬
‫وعلى الجملة لكل أمة ملك يحمى من الظلم و بذلك قوام العالم‬
‫أما المقبولت‪ :‬فما أخذ من طريق الخبار وهو كل ما يخبر به العدل الثقة أو الثقات فمتى ورد عليك شئ من أى علم كان وفرع‬
‫سمعك أو أورد عليك فانظر وسل من أى قبيل هو من هذه الربعة أقسام‪ :‬فأما العقليات فل تتبدل أحكامها عما هى عليه فى العقل‬
‫والمحسوسات ل تتبدل ولكن يتطرق إليها الغلط بآفات تحدث فى اللت الجسمانية‪.‬‬
‫ص ‪99‬‬
‫وأما المقبولت والمشهورات فغير موثوق بها فإنها تختلف باختلف المم والبلد وحالت الشخاص فالحق كل قبيل بقبيله وميزه‬
‫من سواه فل تغلط أبدا الباد فما قام عندك من دليل عقل أو حس على شئ وتصححت أجزاء حده وبرهانه وتبرهن لك البرهان‬
‫على صحة تلك الجزاء والبرهان تبرهن به على مطلوبك فهو برهان حق وماورد عليك مما سوى ذلك فأنزله على مرتبته فل تعد‬
‫شيئاا من حده ول تجعل المقبول معقول ول المعقول مقبول ول المشهور محسوسا ول المحسوس مشهورا ثم انظر كيف مأخذ‬
‫المقبول مثل أن القرآن معجزة رسول ا صلى ا عليه وسلم فتعلم قطعا أن هذا القرآن مأخوذ عن نبينا محمد صلى ا عليه وسلم‬
‫ابن عبد ا ابن عبد المطلب بن هاشم الكائان بمكة صلى ا عليه وسلم وكذلك تعلم بوجوده وسيرته المستفيضة‪.‬‬
‫وأما الحكام فمأخذها مقبولة ول يلزم أن تبرهن لنا لن الخلق محتاجون إليها ولو أدركوا الحكام بعقولهم لما كانت فائادة رسول‬
‫ا صلى ا عليه وسلم وإذا لم يكن فى عقولهم استقلل بها أول فكذلك أخرا إذا اتصلت بهم فلذلك لم يطلب أن يقوم على الحكام‬
‫برهان‪.‬‬
‫وهذا منتهى ما أردنا أن نشير به من المدخل الى العلوم اللهية وننبه به على السرار الروحانية فإن ساعد الدهر السليم والغريزة‬
‫المعتدلة على الحاق ما فى معناه به كفى المسترشد وإل تشوق الى المطالعة والرب تبارك وتعالى المسئاول أن يلم الشغث ويجبر‬
‫الصدع وينير البصيرة ويجرى على اللسان الصدق ويختم بالخير ويجعلنا به وله فيما نأتى ونذر وأن يتجاوز عنا إذا وفدنا اليه‬
‫محتاجين الى عفوه فقراء الى فضله منقطعين عن الهل والوطن مخلفين البناء مبعدين الباء قد حيل بيننا وبين القريب‬
‫والصاحب ونفانا الموالى والقارب إذا برقت العين وخفت الشفة ويبست القدم وحيث ل ينطقون ول يؤذن لهم فيعتذرون ل‬
‫يستجيب لمن دعاه ل يرى شق الجيوب عليه حين وفاته أذكركم ا تعالى إخوانى وأوصيكم به فكونوا به ول تغرنكم الحياة الدنيا‬
‫ول يغرنكم باللهالغرور ثم الصلة على بنى الرحمة وشفيع المة محمد صلى ا وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد ل رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫صفحة ‪100‬‬
‫روضة الطالبين وعمدة السالكين‪ .‬بسم ا الرحمن الرحيم‪ .‬خطبة الكتاب‪ .‬قال الشيخ المام العالم العلمة الوحد حجة السلم أبو‬
‫حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي تغمده ا برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته‪ :‬الحمد ل الذيِ أحرق قلوب‬
‫أوليائاه بنيران محبته‪ ،‬واستوفى هممهم وأرواحهم بالشوق إلى لقائاه ومشاهدته‪ ،‬ووقف أبصارهم وبصائارهم على ملحظة جمال‬
‫حضرته حتى أصبحوا من نسيم روح الوصال سكرى وأصبحت قلوبهم من ملحظة الجلل والهيبة حيرى‪ ،‬فلم يروا في الكونين‬
‫إل إياه‪ ،‬وإن أصبحت لبصارهم صور عبرت إلى الصور بصائارهم‪ ،‬وإن قرعت أسماعهم نغمة سبقت إلى المحبوب سرائارهم‪،‬‬
‫وإن ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مهيج أو مشوق لم يكن انزعاجهم إل إليه ول طربهم إل به‪ ،‬ول‬
‫قلقهم إل عليه‪ ،‬ول حزنهم إل فيه‪ ،‬ول شوقهم إل إلى ما لديه‪ ،‬و أتبعائاهم إل له‪ ،‬ول ترددهم إل حواليه فمنه سماعهم‪ ،‬وإليه‬
‫استماعهم فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم‪ .‬أولئاك الذين اصطفاهم لوليته واستخلصهم من بين أصفيائاه وخاصته‪ ،‬وصلى‬
‫ا على المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئامة الحق وقادته وسلم تسليما ل‪ .‬أما بعد‪ :‬فقد ألفت هذا الكتاب ليتمسك به طالب الحق‬
‫ويستعين به على سلوكه إن شاء ا تعالى‪ ،‬وأستعين في ذلك بال تعالى من الخلل والزلل وهو خير ناصر ومعين وإياه أسأل أن‬
‫ينفع به إن قريب مجيب وسميته‪) :‬روضة الطلبين وعمدة السالكين( وفيه أبواب ومقدمة وفصول‪ :‬المقدمة في تمهيد الكتاب‪ .‬أعلم‬
‫أن انقطاع الخلق عن الحق بوقوفهم مع الخلق ومع أنفسهم ورؤيتهم أفعالهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة باختلف أهويتهم التي‬
‫نفوس البشر مجبولة عليها وحب الجاه والمال والدنيا والرئااسة والشهرة وطول المل والتسويف والشح ولهوى ولعجب وفحش‬
‫أغذيتهم من المطعم والمشرب والملبس وفساد دنياهم وغلبة الشهوات النفسانية على قلوبهم وترك مجاهدة لنفس وإهمالها ترفع في‬
‫شهواتها ورعونتها والتزين للناس والتلبس بالوصاف المذمومة نحو الغل والحقد والحسد والجهل والحمق والرياء والنفاق‪،‬‬
‫ك دكادن دعلناه دملساؤولل" السراء‪.36 :‬‬ ‫وانبعاث الجوارح في غير طاعة ا تعالى كالعين والسمع واللسان واليد والرجل‪" :‬اكمل أ الودلهئا د‬
‫والكسل والبلدة والغفلة وغير ذلك مما يبعد عن ا تعالى‪.‬‬
‫صفحة ‪101‬‬
‫الباب الول‪ :‬في بيان أركان الدين‪ .‬الباب الثاني‪ :‬في بيان معنى الدب‪ .‬الباب الثالث‪ :‬في بيامن معنى السلوك والتصرف‪ .‬الباب‬
‫الرابع‪ :‬في بيان الوصول والوصال‪ .‬الباب الخامس‪ :‬في بيان معنى التوحيد والمعرفة‪ .‬الباب السادس‪ :‬في بيان النفس والروح‬
‫والقلب والعقل‪ .‬الباب السابع‪ :‬في بيان معنى المحبة‪ .‬الباب الثامن‪ :‬في بيان معنى النس بال تعالى‪ .‬الباب التاسع‪ :‬في بيان معنى‬
‫الحياء والمراقبة‪ .‬الباب العاشر‪ :‬في بيان معنى القرب‪ .‬الباب الحاديِ عشر‪ :‬في بيان شرف العلم ووجوب طلبه‪ .‬الباب الثاني‬
‫عشر‪ :‬في بيان معنى السماء لحسنى‪ .‬الباب الثالث عشر‪ :‬في بيان العتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة‪ .‬الباب الرابع عشر‪ :‬في‬
‫بيان صفات ا تعالى‪ .‬الباب الخامس عشر‪ :‬في بيان معنى حقيقة الخلص‪ .‬الباب السادس عشر‪ :‬في الرد على أجاز الصغائار‬
‫على النبي صلى ا عليه وسلم‪ .‬الباب السابع عشر‪ :‬في بيان الخواطر وأقسامها‪ .‬الباب الثامن عشر‪ :‬في بيان معنى آفات اللسان‪.‬‬
‫الباب التاسع عشر‪ :‬في البطن وحفظه‪ .‬الباب العشرون‪ :‬في بيان الشيطان ومخادعاته‪ .‬الباب الحاديِ والعشرون‪ :‬في بيان ما تجب‬
‫رعايته‪ .‬الباب الثاني والعشرون‪ :‬في بيان معنى حسن الخلق وسوئاه‪ .‬الباب الثالث والعشرون‪ :‬في بيان معنى الفكر‪ .‬الباب الرابع‬
‫والعشرون‪ :‬في بيان معنى التوبة‪ .‬الباب الخامس والعشرون‪ :‬في بيان الصبر‪ .‬الباب السادس العشرون‪ :‬في بيان الخوف‪ .‬الباب‬
‫السابع والعشرون‪ :‬في بيان الرجاء‪ .‬الباب الثامن والعشرون‪ :‬في بيان الفقر‪ .‬الباب التاسع والعشرون‪ :‬في بيان الزهد‪ .‬الباب‬
‫الثلثون‪ :‬في بيان المحاسبة‪ .‬الباب الحاديِ والثلثون‪ :‬في بيان الشكر‪ .‬الباب الثاني والثلثون‪ :‬في بيان التوكل‪.‬‬
‫صفحة ‪102‬‬
‫الباب الثالث والثلثون‪ :‬في النية‪ .‬الباب الرابع والثلثون‪ :‬في بيان الصدق‪ .‬الباب الخامس والثلثون‪ :‬في بيان الرضا‪ .‬الباب‬
‫السادس والثلثون‪ :‬في بيان النهي عن الغيبة‪ .‬الباب السابع والثلثون‪ :‬في بيان الفتوة‪ .‬الباب الثامن والثلثون‪ :‬في بيان مكارم‬
‫الخلق‪ .‬الباب التاسع والثلثون‪ :‬في بيان القناعة‪ .‬الباب الربعون‪ :‬في بيان السائال‪ .‬الباب الحاديِ والربعون‪ :‬في الشفقة على‬
‫خلق ا تعالى‪ .‬الباب الثاني والربعون‪ :‬في بيان آفة الذنوب‪ .‬الباب الثالث والربعون‪ :‬في صفة صلة أهل القرب‪ .‬فصل في آن‬
‫ما سوى الحق حجاب عنه‪ .‬أعلم أن الوقوف مع الخلق والنفس حجاب عن الحق ورؤية الفعال شرك‪ ،‬لن أفعال العباد مضافة إلى‬
‫ا تعالى خلقا ل وإيجادال وإلى العبد كسبا ل ليثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية‪ ،‬فحين تعلق العبد بشيء ما يوجده القتدار‬
‫اللهي يسمى كسبا ل‪ .‬هذا مذهب أهل السنة‪ ،‬فقدرة العبد عند مباشرة العمل ل قبله فحينما يباشر العمل يخلق ا تعالى له اقتدارا عند‬
‫ل‬
‫مباشرته فيسمى كسبا ل‪ .‬فمن نسب المشيئاة والكسب إلى نفسه فهو قدريِ‪ ،‬ومن نفاهما عن نفسه فهو جبريِ‪ ،‬ومن نسب المشيئاة غلى‬
‫ا تعالى والكسب إلى العبد فهو سني صوفي رشيد‪ ،‬وفيه كلم طويل ليس هذا موضعه‪ ،‬سيأتي قريبا ل إن شاء ا تعالى‪ .‬وأما‬
‫النحراف عن العقيدة الصحيحة‪ ،‬فلغلبة الهواء على القلوب والتعصب لمذهب أهل البدع‪ .‬قال بعض الئامة‪ :‬رب أقوام تنجيهم‬
‫عقائادهم مع قلة عملهم‪ ،‬ورب أقوام تهلكهم عقائادهم مع كثرة عملهم‪ ،‬وحب الجاه والمال والدنيا سم قاتل‪ ،‬والرئااسة والشهرة‬
‫يورثان الكبر والدخول في الدنيا وهما فساد الدين‪ .‬قال بعضهم‪ :‬ما عملت عملل وأطلع عليه الناس إل أسقطته‪ .‬وأما طول المل‪:‬‬
‫فإنه يمنع من حسن العمل ويصد عن الحق والتسويف من أعظم جنود الشيطان‪ ،‬وأما الشح والهوى وإعجاب المرء بنفسه‪ :‬فهن من‬
‫المهلكات‪.‬‬
‫صفحة ‪103‬‬
‫وأما فحش الغذاء‪ :‬فإنه يظلم القلب ويورث القسوة والبعد عن ا تعالى‪ ،‬وطيب الغذاء ينور القلب ويورث الرقة والقرب من ا‬
‫ت دما دردزلقدنااكلم( البقرة‪ .172 :‬والطيبات هي الحلل‪ :‬أطيب مطعمك‬ ‫عز وجل‪ .‬قال ا تعالى‪) :‬ديا أدميدها الاهذيدن آدمانولا اكالولا همن دطرَيدبا ه‬
‫ومشربك وما عليك أل تقوم الليل ول تصوم النهار‪ ،‬وطيب المطعم أصل كبير في طريق القوم‪ ،‬ولو قام العبد قيام السارية لم ينفعه‬
‫ذلك‪ ،‬حتى يعلم ما يدخل جوفه‪ .‬وأسرع الناس جوازال على الصراط أكثرهم ورعا ل في الدنيا‪ .‬يقول ا عز وجل‪" :‬عبديِ تجوع‬
‫تراني تتورع تعرفني تجرد تصل إلي" قال ا تعالى‪" :‬وأما الورعون فأستحي أن أعذبهم" قال بعض السادة من الكابر‪ :‬عليك‬
‫بالعلم والجوع والخمول والصوم فإن العلم نور يستضاء به‪ ،‬والجوع حكمة‪ .‬قال ابو يزيد‪ :‬ما جعت ل يوما ل إل وجدت في قلبي بابا ل‬
‫س دكهملثلههه دشليسء( الشورى‪:‬‬
‫من الحكمة لم أجده قبل‪ .‬والخمول راحة وسلمة‪ ،‬ولصوم صفة صمدانية ما مثلها شيء لقوله تعالى )دللي د‬
‫‪ .11‬فمن تلبس بها أورث العلم والمعرفة والمشاهدة‪ ،‬ولذلك قال تعالى‪" :‬كل عمل ابن آدم له إل الصوم فإنه لي وأنا الذيِ أجزيِ‬
‫له"‪ .‬ولخلوف فم الصائام عند ا أطيب من ريح المسك والشتغال بالدنيا وغلبة الشهوات على القلب يورث جميع الوصاف‬
‫المذمومة فل طمع في القرب ما لم تبدل الوصاف المذمومة بالمحمودة‪ .‬قال بعضهم‪ :‬ما دام العبد ملوثا ل بالغير ل يصلح قلبه‬
‫للقرب والمجالسة حتى يطهر قلبه من السوى‪ .‬قال عثمان رضي ا عنه‪) :‬لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن لنها‬
‫بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم دون غيره(‪ .‬فصل‪ .‬أعلم أن ما سوى الحق حجاب عنه‪ .‬ولول ظلمة الكون لظهر نور الغيب‪،‬‬
‫ولول فتنة لنفس لرتفعت الحجب‪ ،‬ولول العوائاق لنكشفت الحقائاق‪ ،‬ولول العلل لبرزت القدرة‪ ،‬ولول الطمع لرسخت المحبة‪،‬‬
‫ولول حظ باق لحرق الرواح الشتياق‪ ،‬ولول البعد لشوهد الرب‪ ،‬فإذا انكشف الحجاب تجشم هذه السباب وارتفعت العوائاق‬
‫بقطع هذه العلئاق‪ :‬بدا لك سر طال عنك اكتتامه‪ ،‬ولح صباح كنت أنت ظلمه‪ ،‬فأنت حجاب القلب عن سر غيبه‪ ،‬ولولك لم يطبع‬
‫عليك ختامه‪ ،‬فإن غبت عنه حل فيه وطنبت‪ ،‬على منكب الكشف المصون خيامه‪.‬‬
‫صفحة ‪104‬‬
‫وجاء حديث ل يمل سماعه‪ ،‬شهي إلينا نثره ونظامه‪ .‬قال بعضهم‪ :‬إذا أراد ا بعبد سوءال مد عليه باب العمل وفتح عليه باب‬
‫الكسل‪ .‬جاء رجل إلى معاذ فقال‪ :‬أخبرني عن رجلين أحدهما يجتهد في العبادة كثير في لعمل قليل الذنوب إل أنه ضعيف اليقين‬
‫يعتوره الشك‪ .‬قال معاذ‪ :‬ليحبطن شكه أعماله‪ .‬قال‪ :‬فأخبرني عن رجل قليل العمل إل أنه قويِ اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب‬
‫فسكت‪ .‬فقال‪ :‬وا لئان أحبط شك الول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها‪ .‬قال فأخذه معاذ بيده‪ .‬وقال‪ :‬ما رأيت الذيِ هو أفقه‬
‫من هذا‪ .‬فصل في عمل أبي يزيد البسطامي‪ .‬قال أبو يزيد البسطامي رضي ا عنه‪) :‬مكث اثنتى عشرة سنة حداد نفسي‪ ،‬وخمس‬
‫سنين كنت أجلو مرآة قلبي‪ ،‬وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطى )نار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي‬
‫فرأيت الخلق موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات(‪ .‬ومعنى هذا الكلم – وا أعلم – أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها‬
‫وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما هو من مألوفات النفس‪ ،‬فعمد إلى إزالة ذلك‬
‫بأن أدخل نفسه كبر التخويف‪ ،‬ثم طرقها بمطارق المر والنهي حتى أجهده ذلك‪ .‬فظن أنها قد تصفت‪ ،‬ثم نظر في مرآة إخلص‬
‫قلبه‪ ،‬فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى العمال وملحظة الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب‪.‬‬
‫وهذا شرك في الخلص عند أهل الختصاص وهو الزنار الذيِ أشار إليه فعمل في قطعه‪ :‬يعني قطع نفسه وفطمها عن العلئاق‬
‫وأعرض عن الحلئاق حتى أمات من نفسه ما كان حيا ل وأحيا من قلبه ما كان ميتا ل حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه‬
‫منزلة العدم‪ .‬فعند ذلك كبر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف إلى الحق‪ ،‬ومعنى قوله‪ :‬كبرت على الخلق أربع تكبيرات لن‬
‫الميت يكبر عليه أربع تكبيرات‪ ،‬ولن حجاب الخلق عن الحق أربع‪ :‬النفس‪ ،‬والهوى‪ ،‬والشيطان والدنيا‪ .‬فأمات نفسه وهواه‬
‫ورفض شيطانه ودنياه فلذلك كبر على كل واحدة ممن فنى عنه تكبيرة لنه هو الكبر وما سواه أذل وأصغر ثم أعلم أنك ل تصل‬
‫إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات‪ :‬العقبة الولى‪ :‬فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية‪.‬‬
‫صفحة ‪105‬‬
‫العقبة الثانية‪ :‬فطم النفس عن المألوفات العادية‪ .‬العقبة الثالثة‪ :‬فطم القلب عن الرعونات البشرية‪ .‬العقبة الرابعة‪ :‬فطم السر عن‬
‫الكدورات الطبيعية‪ .‬العقبة الخامسة‪ :‬فطم الروح عن البخارات الحسية‪ .‬العقبة السادسة‪ :‬فطم العقل عن الخيالت الوهمية‪ .‬فتشرف‬
‫من العقبة الولى على ينابيع الحكم القلبية‪ ،‬وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية وتلوح لك من العقبة الثالثة أعلم‬
‫المناجاة الملكوتية‪ ،‬وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلت القريبة‪ ،‬وتطلع لك في الخامسة أقمار المشاهدات الحيية‪ ،‬وتهبط‬
‫من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية‪ .‬فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائاف التية عن الكثائاف الحية‪ ،‬فإذا أرادك‬
‫بخصوصيته الصطفائاية سفاك بكأس محبته شربة فتزداد بذلك الشرب ظمأ وبالذوق شوقلان وبالقرب طلبا ل وبالسكون قلقا ل‪ .‬فإذا‬
‫تمكن منك هذا السكر أدهشك فإذا أدهشك حيرك‪ ،‬فأنت ها هنا مريد‪ ،‬فإذا فنيت ذاتك وذهبت صفاتك وفنيت ببقائاه عن فنائاك وخلع‬
‫عليك خلعة )قبي يسمع ويي يبصر( فيكون هو مستوليك وواليك‪ ،‬فإن نطقت فبأذكاره وإن نظرت فبأنواره‪ ،‬وإن تحركت فبإقداره‪،‬‬
‫وإن بطشت فبإقتداره‪ ،‬فهنالك تذهب الثنينية واستحالت البينية‪ ،‬فإن رسخ قدمك وتمكن سرك حال سكرك‪ .‬قلت‪ :‬هو وإن غلب‬
‫عليك وجدك تجاوز بك حدك عن حد الثبوت‪ .‬قلت أنت‪ :‬فأنت في الول متمكن‪ ،‬وفي الثاني مسئالون ومن هنا أشكل على الفهام‬
‫حل رمز هذا الكلم‪ .‬الباب الول‪ .‬في بيان أركان الدين‪ .‬أعلم أن كلمتي الشهادة على إيجازهما يتضمنان إثبات ذات الله سبحانه‬
‫وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ .‬وبناء اليمان على هذه الركان الربعة‪ :‬الركن الول‪:‬‬
‫في معرفة ذات ا سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي‪ :‬العلم بوجود ا تعالى‪ ،‬وقدمه وبقائاه‪ ،‬وأنه ليس بجوهر ول‬
‫جسم‪ ،‬ول عرض‪ ،‬وأنه ليس بمختص بجهة‪ ،‬ول مستقر على مكان‪ ،‬وأنه يرى وأنه واحد‪ .‬الركن الثاني‪ :‬في معرفة صفات ا‬
‫سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي‪ :‬العلم بكونه تعالى حيلا‪ ،‬عالملا‪ ،‬قادرلا‪ ،‬مريدلا‪ ،‬سميعلا‪ ،‬بصيرلا‪ ،‬متكلملا‪ ،‬صادقا ل في‬
‫أخباره‪ ،‬منزها ل عن حلول الحوادث‪ ،‬وأنه قديم الصفات‪.‬‬
‫صفحة ‪106‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬في معرفة أفعال ا سباحنه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي‪ :‬أن أفعال العباد مخلوقة ا تعالى ومرادة له‬
‫وأنها مكتسبة لهم‪ ،‬وأنه منفصل بالخلق‪ ،‬وأنه له تكليف ما ليطاق‪ ،‬وله إيلم البرىء ول يجب عليه رعاية الصلح‪ ،‬وأنه ل واجب‬
‫إل بالشرع وأن بعثة النبياء صلى ا عليهم وسلم جائازة‪ ،‬وأن نبوة نبينا محمد صلى ا عليه وسلم ثابتة مؤبدة بالمعجزات‪ .‬الركن‬
‫الرابع‪ :‬في السمعيات ومداره على عشرة أصول وهي‪ :‬الحشر والنشر‪ ،‬وعذاب القبر‪ ،‬وسؤال منكر ونكير‪ ،‬والميزان ‪ ،‬والصراط‪،‬‬
‫وخلق الجنة والنار‪ ،‬وأحكام المامة‪ .‬الباب الثاني‪ .‬في بيلن الدب‪ .‬رويِ عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال‪" :‬أدبني ربي‬
‫فأحسن تأديبي" والدب تأديب الظاهر والباطن‪ ،‬فإذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار صوفيا ل أديبلا‪ ،‬ومن ألزم نفسه آداب السنة نور‬
‫ا قلبه بنور المعرفة‪ ،‬ول مقام أشرف من متابعة الحبيب صلى ا عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلقه والتأدب بآدابه قولل‬
‫وفعلل وعقدال ونية‪ .‬وبالنصاف قيما بين ا تعالى وبين العبد في ثلثة‪ :‬في الستعانة والجهد والدب‪ ،‬فمن العبد الستعانة‪ ،‬ومن‬
‫ا العانة على التوبة‪ ،‬ومن العبد الجهد‪ ،‬ومن ا التوفيق‪ ،‬ومن العبد الدب‪ ،‬ومن ا الكرامة‪ .‬ومن تأدب بآداب الصالحين‪ ،‬فإنه‬
‫يصلح لبساط الكرامة‪ ،‬وبآداب الولياء لبساط القربة‪ ،‬وبآداب الصديقين لبساط المشاهدة‪ ،‬وبآداب النبياء لبساط النس والنبساط‪،‬‬
‫ومن حرم الدب حرم جوامع الخيرات‪ ،‬ومن لم تريضه أوامر المشايخ وتأديباتهم‪ ،‬فإنه ل يتأدب بكتاب ول سنة‪ ،‬ومن لم يقم بآداب‬
‫أهل البداية كيف يستقيم له دعوى مقامات أهل النهاية‪ .‬ومن لم يعرف ا عز وجل لم يقبل عليه‪ ،‬ومن لم يتأدب بأمره ونهيه كان‬
‫عن الدب في عزلة‪ .‬وآداب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها برؤية مجربها‪ .‬العبد يصل بطاعته إلى الجنة وبأدبه إلى ا‬
‫تعالى‪ ،‬والتوحيد موجب يوجب اليمان فمن ل إيمان له ل توحيد له واليمان موجب يوجب الشريعة فمن ل شريعة له ل إيمان له‬
‫ول توحيد له‪ ،‬والشريعة موجب يوجب الدب فمن ل أدب له فل شريعة له ول إيمان له ول توحيد له‪ ،‬وترك الدب موجب يوجب‬
‫الطرد‪ ،‬فمن أساء الدب على البساط رد إلى الباب‪ ،‬ومن أساء الدب على الباب رد إلى سياسة الدواب‪ ،‬وأنفع الداب النفقة في‬
‫الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما ا عليك وإذا ترك العارف أدبه مع معروفة فقد هلك مع الهالكين‪ .‬وقيل‪ :‬ثلث خصال ليس‬
‫معهن غربة‪ :‬مجانية أهل الريب‪ ،‬وحسن الدب‪ ،‬وكف‬
‫صفحة ‪107‬‬
‫الذى‪ ،‬وأهل الدين أكثر آدابهم في تهذيب النفوس‪ ،‬وتأديب الجوارح‪ ،‬وحفظ الحدود‪ ،‬وترك الشهوات‪ ،‬وأهل الخصوصية أكثر‬
‫آدابهم في طهارة القلوب‪ ،‬ومراعاة السرار‪ ،‬والوفاء بالعهود‪ ،‬وحفظ الوقت‪ ،‬وقلة اللتفات إلى الخواطر‪ ،‬وحسن الدب في مواقف‬
‫الطلب‪ ،‬وإدمان الحضور‪ ،‬ومن قهر نفسه بالدب فهو الذيِ يعبد ا بالخلص‪ .‬وقيل‪ :‬هو معرفة اليقين‪ .‬وقيل يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫"من آلزمنه القيام مع أسمائاي وصفاتي ألزمته الدب‪ ،‬ومن أراد الكشف عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب‪ ،‬فأختر أيهما شئات‪ :‬الدب‬
‫أو العطب؟ ومن لم يتأدب للوقت فوقته مقت‪ ،‬وإذا خرج المريد عن استعمال الدب فإنه يرجع من حيث جاء"‪ .‬وحكى عن أبي‬
‫عبيد القاسم بنم سلم قال‪ :‬دخلت مكة فربما كنت أقعد بحذاء الكعبة وربما كنت أستلقي وأمد رجلي فجاءتني عائاشة المكية فقالت‬
‫لي‪ :‬يا أبا عبيد‪ :‬يقال إنك من أهل العلم اقبل مني كلمة ل تجالسه إل بالدب وإل فيمحى اسمك من ديوان أهل القرب‪ ،‬قال أبو‬
‫عبيد‪:‬وكانت من العارقات وقال بعضهم‪ :‬الزم الدب ظاهرال وباطنا ل فما أساء أحد الدب في ظاهر إل عوقب ظاهرلا‪ ،‬وما اساء أحد‬
‫الدب باطنا ل إل عوقب باطنا ل فالدب استخراج ما في القوة والخلق إلى الفعل وهذا يكون لمن ركبت السجية الصالحة فيه والسجية‬
‫فعل الحق ل قدرة للبشر على تكوينها كتكون النار في الزناد إذ هو فعل ا المحض واستخراجه يكسب الدمي فهكذا الداب‬
‫منبعها بالسجايا الصالحة والمنح اللهية‪ ،‬ولما هيأ ا تعالى بواطن الصوفية بتكميل السجايا الكاملة فيها تواصلوا بحسن الممارسة‬
‫والرياضة إلى استخراج ما في النفوس مركوزة بخلق ا إلى الفعل فصاروا مؤدبين مهذبين‪ .‬فصل في آداب أهل الحضرة اللهية‬
‫لهل القرب‪ .‬كل الداب تتلقى من رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬فإنه صلى ا عليه وسلم مجمع الداب ظاهرال وباطنلا‪ ،‬وأخبر‬
‫ا سبحانه عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى‪) :‬دما دزادغ اللدبصار ودما دطدغى( النجم‪ .17 :‬وهذه غامضة من غوامض الداب‬
‫اختص بها رسول ا صلى ا عليه وسلم أخبر ا عن اعتدال قلبه لمقدس في العراض والقبال أعرض عما سوى ا‪ ،‬وتوجه‬
‫إلى ا‪ ،‬وترك وراء ظهر‪ ،‬لرضين والدار العالجة بحظوظها والسموات والدار الخرة بحظوظها ول لحقه السف على الفائات‬
‫في إعراضه‪ .‬قال ا تعالى‪) :‬لهدكليل دتألدسوا دعدلى دما دفادتاكلم( الحديد‪ .23 :‬فهذا الخطاب للعموم‪ ،‬وما زاغ البصر إخبار عن حال النبي‬
‫صلى ا عليه وسلم بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم‪ ،‬فكان ما زاغ البصر حالع في طرف العراض‪ ،‬وفي طرف‬
‫القبال تلقى ما ورد عليه في مقام‪ :‬قاب قوسين بالروح والقلب‪ ،‬ثم فر من ا حياء منه وهيبة وإجللل وطوى نفسه في مطاويِ‬
‫انسكاره وافتقاره‪ ،‬لكيل تنبسط النفس فتطغى‪ ،‬فإن الطغيان عند‬
‫صفحة ‪108‬‬
‫لندسادن دلديلطدغى )‪ (6‬دأن درآها السدتلغدنى( العلق‪ .7 ،6 :‬ولنفس عند المواهب الواردة‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ها ه‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫ك‬‫ل‬ ‫)‬ ‫تعالى‬ ‫ا‬ ‫قال‬ ‫‪.‬‬ ‫النفس‬ ‫وصف‬ ‫الستغناء‬
‫ل‬
‫على الروح والقلب تسترق السمع ومتى نالت قسطا من المنح استغنت وطغت‪ ،‬والطغيان يظهر منه فرط البسط‪ ،‬والفراط في‬
‫البسط يد باب المزيد‪ ،‬وطغيان النفس لضيق وعاتها من المواهب فموسى عليه السلم صح له في الحضرة أحد الظرفين‪ .‬ما زاغ‬
‫بصره‪ ،‬وما التفت إلى ما فاته متأسفا ل لحسن أدبه‪ ،‬ولكن امتل من المنح واسترقت النفس السمع وتطلعت إلى القسط والحظ فلما‬
‫ظار إدلليك( العراف‪:‬‬ ‫حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل إليها وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط وقال‪) :‬أدهرهني دأن ا‬
‫‪ .143‬فمنع ولم يطق صبرال وثباتا ل في قضاء المزيد وظهر الفرق من الحبيب والكليم عليهما الصلة والسلم‪ .‬وقال سهل بن عبد‬
‫ا التستريِ‪ :‬لم يرجع رسول لله صلى ا عليه وسلم إلى شاهد نفسه ول إلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدال بكليته لربه‪ .‬يشاهد ما‬
‫يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحلوهذا الكلم لمن اعتبره موافق لكا شرحناه برمز في ذلك من كلم سهل‬
‫بن عبد ا‪ ،‬وا أعلم‪ .‬الباب الثالث‪ .‬في بيان معنى السلوك والتصرف‪ .‬أعلم‪ :‬أن السلوك هو تهذيب الخلق والعمال‬
‫والمعارف‪ .‬وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن‪ ،‬والعبد في جميع ذلك مشغول عن ربه إل أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد‬
‫للوصول‪ .‬والذيِ يفسد على السالك سلوكه شيئاان‪ :‬اتباع الرخص بالتأويلت‪ ،‬والقتداء بأهل الغلط من متبعي الشهوات‪ .‬ومن ضيع‬
‫حكم وقته فهو جاهل‪ ،‬ومن قصر فيه فهو غافل‪ ،‬ومن أهمله فهو عاجز‪ .‬ل تصح إرادة المريد حتى يكون ا ورسوله وسواس‬
‫قلبه‪ ،‬ويكون نهاره صائاما ل ولسانه صامتا ل‪ .‬لن كثرة الطعام والكلم والمنام نقصى القلب‪ .‬وظهره راكعا ل وجبهته ساجدة وعينه‬
‫دامعة وغامضة‪ ،‬وقلبه حزينا ل ولسانه ذاكرال‪ .‬وبالجملة‪ :‬قد شغل كل عضو فيه ومعنى فيه بوظيفة ندبه ا ورسوله إليها وترك ما‬
‫كره ا ورسوله له‪ .‬وللورع معانقا ل ولهوائاه تاركا ل مطلقا ل وراثيا ل جميع ما وفقه ا تعالى له من فضل ا عليه‪ ،‬ويجتهد أن يكون‬
‫ذلك كله احتسابا ل ل ثوابلا‪ ،‬وعبادة ل عادة‪ ،‬لنه من لحظ المعمول له اشتغل به عن رؤية العمال ونفسه تاركا ل للشهوات‪ ،‬فصحة‬
‫الرادة ترك الختيار والسكون إلى مجاريِ القدار كما قيل‪ :‬أريد وصاله ويريد هجريِ‪ ،‬فأترك ما أريد لما يريد‪ .‬وافن عن الخلق‬
‫بحكم ا وعن هواك بأمر ا‪ ،‬وعن إرادتك بفعل ا‪ ،‬فحينئاذ‬
‫صفحة ‪109‬‬
‫تصلح أن تكون وعاء لعلم ا فعلمة فنائاك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم والياس عما في أيديهم‪ ،‬وعلمة فنائاك‬
‫عنك وعن هواك ترك التكسب‪ ،‬والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر فل تتحرك فيك بك‪ ،‬ول تعتمد عليك لك‪ ،‬ول تذب عنك‬
‫ول تضر نفسك‪ ،‬لكن تكل ذلك كله إى من توله أولل ليتوله آخرلا‪ ،‬كما كان ذلك موكلل إليه في حال كونك مغيبا ل في الرحم‪ ،‬وكونك‬
‫رضيعا ل في مهدك‪ ،‬وعلمة فنائاك عن إرادتك بفعل ا أن ل تريد مرادال قط لنك ل تريد مع إرادة ا سواها‪ ،‬بل يجريِ فعله فيك‬
‫فتكون أنت إرادة ا وفعله ساكن الجوارح مطمئان الجنان‪ ،‬مشروح الصدر‪ ،‬منور الوجه‪ ،‬عامر البطن‪ ،‬تقلبك القدرة ويدعوك‬
‫لسان الزل‪ ،‬ويعلمك رب الملك‪ ،‬ويكسوك من نور الحلل‪ ،‬وينزلك منازل من سلف من أولى العلم‪ .‬فصل في لزوم العزلة‪ .‬على‬
‫السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها على أعدائاه‪ .‬وهي نوعان‪ :‬فريضة وفضيلة‪ .‬فالفريضة‪ :‬العزلة عن الشر أهله‪ .‬والفضيلة‬
‫العزلة عن الفضول وأهله‪ .‬وقيل‪ :‬الخلوة غير العزلة‪ ،‬والخلوة عن الغيار‪ ،‬والعزلة من النفس وما تدعو إليه وتشغل عن ا‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬السلمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وواحدة في العزلة‪ .‬وقيل‪ :‬الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت عما ل‬
‫يعني‪ .‬والعاشرة في العزلة عن الناس‪ .‬كثير من ندم على الكلم وقل من ندم على السكوت‪ .‬وقيل‪ :‬الخلوة أصل والخلطة عارض‪.‬‬
‫فيلزم الصل ول يخالط إل بقدر الحاجة‪ ،‬وإذا خالط يلزم الصمت فإنه أصل‪ .‬وإذا صفا لك من زمانك واحد‪ ،‬فهو المراد فأين ذاك‬
‫الواحد‪ .‬وقيل‪ :‬الخلوة بالقلب فيكون مستغرقا ل بكليته مع ا تعلى معكوفا ل قلبه عليه مشغوفا ل به والها ل إليه متحققا ل كأنه بين يديه‪.‬‬
‫قيل‪ :‬أول مبادئ السالك أن يكثر الذكر بقلبه ولسانه بقوة حتى يسريِ الذكر في أعضائاه وعروقه‪ ،‬وينتقل الذكر إلى قلبه فحينئاذ‬
‫يسكت لسانه ويبقى قلبه ذاكرال يقول )ا ا( باطنا ل مع عدم رؤيته لذكره‪ ،‬ثم يسكن قلبه ويبقى ملحظا ل لمطلوبه مستغرقا ل به معكوفا ل‬
‫ك اللايلودم ه ه‬
‫ل‬ ‫عليه مشغوفا ل إليه مشاهدال له‪ ،‬ثم يغيب عن نفسه بمشاهدته‪ ،‬ثم يفنى عن كليته بكليته حتى كأنه في حضرة )لههمهن اللاملل ا‬
‫حهد اللدقدهاهر( غافر‪ .16 :‬فحينئاذ يتجلى الحق على قلبه فيضطرب عند ذلك ويندهش ويغلب عليه السكر وحالة الحضور‬ ‫اللدوا ه‬
‫والجلل والتعظيم‪ ،‬فل يبقى فيه متسع لغير مطلوبه العظم‪ .‬كما قيل‪ :‬فل حاجة لهل الحضور إلى غير شهود عوانه‪ .‬وقيل‪ :‬في‬
‫قوله تعالى‪) :‬وشاهد ومشهود( البروج‪.3 :‬‬
‫ص ‪110‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫فالشاهد‪ :‬هو ا‪ ،‬والمشهود ‪ :‬هو عكس جمال الحضرة الصمدية فهو الشاهد والمشهود‪.‬‬
‫فصل‬
‫يا حبيبى أطبق جفنيك وانظر ماذا ترى ‪ ،‬فإن قلت ل أرى شيئاا حينئاذ فهو خطأ منك بل تبصر ‪ .‬ولكن ظلم الوجود لفرط قربه من‬
‫بصيرتك ل تجده ‪.‬فإن أحببت أن تجده وتبصره قدامك مع أنك مطبق جفنيك ‪،‬فانقص من وجودك شيئاا فشيئاا أو أبعد من وجودك‬
‫شيئاا وطريق تنقيصه والبعاد منه قليلل المجاهدة ومعنى المجاهدة بذل الجهد فى دفع الغيار أو قتل الغيار والغيار الوجود‬
‫والنفس والشيطان ‪.‬وبذل الجهد مضبوط بطرق ‪:‬‬
‫الول‪ :‬تقليل الغذاء بالتدريج ‪،‬فإن مدد الوجود والنفس والشيطان من الغذاء ‪،‬فإذا قل الغذاء قل سلطانه ‪.‬‬
‫والثانى‪:‬ترك الختيار وإفنائاه فى اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه ‪،‬فإنه مثل الطفل الصبى الذى لم يبلغ مبلغ الرجال أو‬
‫السفيه المبذر ‪.‬وكل هؤلء لبد لهم من وصى أو ولى أو قاض أو سلطان يتولى أمرهم‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬من الطرق طريقة الجنيد قدس ا روحه وهو ثمان شرائاط ‪.‬دوام الوضوء‪،‬ودوام الصوم‪،‬ودوام السكوت ‪،‬ودوام الخلوة‬
‫ودوام الذكر وهو قول )ل اله إل ا (‬
‫ودوام ربط القلب بالشيخ واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه فى تصرف الشيخ ‪,‬ودوام نفى الخواطر ‪,‬ودوام ترك العتراض‬
‫على ا تعالى فى كل ما يرد منه عليه ضيرلاكان أو نفعا لوترك السؤال عنه من جنة او تعوذ من نار ‪.‬‬
‫والفرق بين الوجود والنفس والشيطان فى مقام المشاهدة ‪ :‬أن الوجود شديد الظلمة فى الول ‪,‬فإذا صفا قليلل تشكل قدامك بشكل‬
‫الغيم السود فإذا عرش الشيطان كان أحمر فإذا صلح وفنى الحظوظ منه وبقى الحقوق صفا وابيض مثل المزن ‪،‬والنفس إذا بدت‬
‫فلونها لون السماء وهى الزرقة ‪ ,‬ولها نبعان كنبعان الماء من اصل الينبوع ‪.‬فإذا كانت عرش الشيطان فكأنها عين من ظلمة ونار‬
‫ويكون نبعها أقل ‪.‬فإن الشيطان ل خير فيه وفيضان النفس على الوجود وتربيته منها فإن صفت وزكت أفاضت عليه الخير وما‬
‫نبت منه ‪.‬فإن أفاضت عليه الشر فكذلك ينبت منه الشر ‪ ,‬والشيطان نار غير صافية ممتزجة بظلمات الكفر فى هيئاة عظيمة وقد‬
‫يتشكل قدامك كأنه زنجى طويل ذو هيبة يسعى كأنه يطلب الدخول فيك ‪.‬فإذا طلبت منه النفكاك فقل فى قلبك يا غياث المستغيثين‬
‫أغثنا فإنه يفر عنك ‪.‬‬
‫ص ‪111‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫فصل فى التصوف‬
‫حكم الصوفى أن يكون الفقر زينته والصبر حليته والرضى مطيته والتوكل شأنه ‪.‬‬
‫وا عزوجل وحده حسبه يستعمل جوارحه فى الطاعات وقطع الشهوات والزهد فى الدنيا والتورع عن جميع حظوظ النفس وأن‬
‫ل يكون له رغبة فى الدنيا البته ‪,‬فإن كان ول بيد فل تجاوز‬
‫رغبته كفايته ويكون صافى القلب من الدنس اولهدها ل بحب ربه فارال الى ا تعالى بسره يأوى اليه كل شىء ‪,‬ويأنس به وهو ل يأوى‬
‫إلى شىء ‪,‬أى ل يركن إلى شىء‬
‫ول يأنس بشىء سوى معبوده آخذ بالولى والهم والحوط فى دينه مؤثرا ا على كل شىء ‪.‬‬
‫التصوف ‪ :‬طرح النفس فى العبودية وتعلق القلب بالربوبية ‪.‬وقيل ‪ :‬كتمان الفاقات ومدافعة الفات ‪.‬‬
‫وقال سهيل بن عبد ا ‪ :‬الصوفى من صفا من الكدر وامتلء من الفكر واستوى عنده الذهب والمدر ‪.‬وقيل ‪:‬التصوف تصفية‬
‫القلب عن مرافقة البرية ‪،‬ومفارقة الخلق الطبيعية ‪ ،‬وإخماد صفات البشرية ‪،‬ومجانية الدواعى النفسانية ‪،‬ومنازلة الصفات‬
‫الروحانية ‪،‬والتعلق بالعلوم الحقيقية وإتباع رسول ا صلى ا عليه وسلم فى الشريعة ‪ .‬وقيل ‪:‬الصوفى هو الذى يكون دائام‬
‫التصفية ليزال يصفى الوقات عن شوب القدار بتصفية القلب عن شوب النفس ومعينه على على هذه دوام إفتقاره الى موله ‪،‬‬
‫فبدوام الفتقار يتفطن للكدر كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه‪ ،‬فبدوام‬
‫تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائام بربه على قلبه وقائام بقلبه على نفسه‪ .‬قال ا تعالى( كونوا قوامين ل شهداء‬
‫بالقسط()المائادة‪ (8:‬وهذه ل على النفس هو تحقق بالتصوف‪.‬‬
‫فصل فى أصول التصوف‬
‫أكل الحلل والقتداء برسول ا صلى ا عليه وسلم فى أخلقه وأفعاله وأوامره وسنته‪ .‬ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ل‬
‫يقتدى به فى هذا المر لن علمنا مضبوط بالكتاب والسنه ‪ .‬أخذ هذا المذهب بالورع والتقوى ل بالدعاوى‪.‬‬
‫التصوف‪:‬أوله علم وأوسطه عمل وأخره موهبة ‪ .‬فالعلم ‪ :‬يكشف عن المراد ‪،‬والعمل ‪ :‬يعين على الطلب ‪،‬والموهبة ‪ :‬تبلغ غاية‬
‫المل‪.‬‬
‫والعمل ‪:‬يعين على الطلب ‪ ،‬والموهبة ‪ :‬تبلغ غاية المل ‪.‬‬
‫وأهله على ثلث طبقات ‪:‬مريد طالب ‪،‬ومتوسط سائار ‪،‬ومنته واصل‪ .‬فالمريد صاحب وقته ‪،‬والمتوسط صاحب حال ‪،‬والمنتهى‬
‫صاحب يقين ‪،‬وأفضل الشياء عندهم عد النفاس ‪ .‬فمقام‬
‫ص ‪112‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫المريد المجاهدات والمكابدات وتجرع المرارات ومجانية الحظوظ وما على فيه تبعة ‪ .‬ومقام المتوسط ركوب الهوال فى طلب‬
‫المراد ومراعاة الصدق وإستعمال الدب فى المقامات وهو مطالب بأداب المنازل وهو صاحب تلوين ‪،‬لنه ينتقل من حال إلى‬
‫حال وهو الزيادة ‪ .‬ومقام المنتهى الصحو والثبات وإجابة الحق من حيث دعاه قد تجاوز المقامات ‪،‬وهو فى محل التمكين ل تغيره‬
‫الهوال ول تؤثر فيه الحوال‪.‬قد استوى فى حال الشدة او الرخاء والمنع والعطاء والجفاء والوفاء – أكله كجوعه ونومه كسهره ‪.‬‬
‫قد فنيت حظوظه وبقيت حقوقه ظاهرة مع الخلق‪،‬وباطنه مع الحق كل ذلك من أحوال النبى صلى ا عليه وسلم ‪ .‬المنتهى لو‬
‫نصب له سنان‬
‫فى أعلى شاهق فى الرض وهبت له الرياح الثمانية ما حركت منه شعرة واحدة‪.‬وقيل ‪ :‬سموا صوفية لنهم وقفوا فى الصف‬
‫الول بين يدى ا عز وجل بإرتفاع هممهم وإقبالهم على ا تعالى بقلوبهم ووقوفهم بين يديه بسرائارهم ‪.‬‬
‫فصل فى الملمتيه‬
‫حكم الملمتى أن ليظهر خيرا ول يضمر شرا ‪ .‬وشرح هذا ‪ :‬هو أن الملمتى تشربت عروقه طعم الخلص وتحقق بالصدق فل‬
‫يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله ‪.‬‬
‫والملمتيه لهم مزيد إختصاص بالتمسك والخلص يرون كتم الحوال ويتلذذون بكتمها حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لحد‬
‫إستوحشوا من ذلك ‪،‬كما يستوحش العاصى من ظهور معصيته ‪ .‬فالملمتى عظم موقع الخلص وموضعه وتمسك به معتمدا به‬
‫‪ .‬والصوفى غاب فى إخلصه‪.‬‬
‫قال أبو يعقوب السوسى ‪ :‬متى شهدوا فى إخلصه والخلص إحتاج إخلصهم إلى إخلص ‪ .‬قال بعضهم ‪ :‬صدق الخلص‬
‫نسيان رؤية الخلق بدوام النظر الى الحق ‪ ،‬والملمتى يرى فيخفى عمله وحاله ‪ .‬قال جعفر الخلدى ‪ :‬سألت أبا القاسم الجنيد‬
‫قلت‪:‬بين الخلص والصدق فرق؟قال‪ :‬نعم الصدق أصل وهو الول والخلص فرع وهو تابع‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬بينهما فرق لن الخلص ل يكون إل بعد الدخول فى العمل ‪ .‬ثم قال ‪:‬إنما هو إخلص ومخالصة الخلص وخالصته‬
‫كائانة فى المخالصة ‪ .‬فعلى هذا الخلص حال الملمتى ‪ ،‬ومخالصة الخلص حال الصوفى ‪،‬والخالصة الكائانة فى المخالصة‬
‫ثمرة مخالصة الخلص وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه‪ ،‬بل غيبته عن رؤية قيامه وهو الستغراق فى العين عن‬
‫الثار والتخلص عن لوث الستتار وهو فقد حال الصوفى‪ .‬والملمتى مقيم فى أوطان إخلصه غير متطلع إلى حقيقة إخلصه‪.‬‬
‫وهذا فرق واضح بين الملمتى والصوفى ‪ .‬فالملمتى وإن كان متمسكا بعروة الخلص مستفرشا بساط الصدق ‪ .‬ولكن عليه بقية‬
‫رؤية الخلق وما أحسنها من بقية تحقق الخلص والصدق‪ .‬والصوفى صفاء من هذه البقية فى طرفى العمل والترك للخلق‬
‫وعزلهم بالكلية ورائاهم بعين الفناء والزوال‪ ،‬ولح له ناصية التوحيد وعاين سر)كل شئ هالك إل وجهه ()القصص‪ .(88:‬كما قال‬
‫بعضهم فى بعض غلباته ‪ :‬ليس فى الدارين غير ا ‪ .‬وقد يكون إخفاء‬
‫ص ‪113‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫الملمتى الحال على وجهين ‪ :‬أحد الوجهين لتحقيق الخلص والصدق ‪ ،‬والوجه الخر وهو التم لستر الحال عن غيره بنوع‬
‫غيره‪،‬‬
‫فإنه من خل بمحبوبه يكره إطلع الغير عليه ‪ ،‬بل يبلغ فى صدق المحبة أن يكره اطلع احد على حبه لمحبوبه ‪،‬وهذا وإن على‬
‫ففى طريق الصوفى علة و نقص ‪ .‬فعلى هذا يتقدم الملمتى على المتصوف ويتأخر عن الصوفى ‪ .‬وقيل ‪ :‬من أصول أهل‬
‫الملمة أن الذكر على أربعة أقسام ‪ :‬ذكر اللسان ‪ ،‬وذكر القلب‪ ،‬وذكر بالسر‪ ،‬وذكر بالروح‪ .‬فإذا صح ذكر الروح سكت السر‬
‫والقلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر المشاهدة ‪ ،‬وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن الذكر‬
‫وذلك ذكر الهيبة ‪ ،‬وإذا صح ذكر القلب عن الذكر وذلك ذكر اللء والنعماء ‪،‬وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر ‪.‬‬
‫وذلك ذكر العادة ‪.‬‬
‫ولكل واحد من هذه الذكار عندهم أفة ‪ ،‬فأفة ذكر الروح إطلع السر عليه وأفة ذكر السر إطلع القلب عليه ‪،‬وأفة ذكر القلب‬
‫إطلع النفس عليه ‪ ،‬وأفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه وطلب ثواب أو ظن أنه يصل إلى شئ من المقامات به‬
‫وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك ‪ .‬وسر هذا الصل الذى بنو عليه أن ذكر الروح ذكر اللذات ‪،‬‬
‫وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم ‪ ،‬وذكر القلب من اللء والنعماء ذكر أثر الصفات ‪ ،‬وذكر النفس متعرض للعلت ‪ ،‬فمعنى‬
‫قولهم ‪ :‬إطلع السر على الروح يشيرون إلى التحقيق بالفناء عن ذكر الذات ‪ ،‬وذكر الهيبة فى ذلك الوقت ذكر الصفات وهو وجود‬
‫الهيبة ‪ ،‬ووجود الهيبة يستدعى وجودا أو بقية ‪ ،‬وذلك يناقض حال الفناء ‪ .‬وهكذا ذكر السر وجود هيبة وهو ذكر الصفات مشعر‬
‫بنصيب القرب ‪ ،‬وذكر القرب الذى هو ذكر اللء والنعماء مشعر ببعد ما ل به إشتغال بذكر النعمة وذهول عن المنعم‪ ،‬والشتغال‬
‫برؤية العطاء عن رؤية المعط ضرب من بعد المنزلة وإطلع النفس نظرا إلى الغراض إعتداد بوجود العمل ‪،‬وذلك عين‬
‫العتلل حقيقة ‪،‬وهذه إقسام هذه الطائافة وبعضها أعلى من بعض ‪.‬وا أعلم‪.‬‬
‫الباب الرابع‬
‫فى بيان معنى الوصول والوصال‬
‫إعلم‪:‬أن الوصول هو أن ايكشف للعبد حلية الحق ويصير مستغرقا به‪ ،‬فإن نظر إلى معرفته فل يعرف إل ا وإن نظر إلى همته‬
‫فل همة له سواه ‪ .‬فيكون كله مشغولد بكله مشاهدة وهيما ول يلتفت فى ذلك إلى نفسه ليعيمر ظاهره بالعباده أو باطنه بتهذيب‬
‫الخلق وكل ذلك طهارة وهى البداية‪ ,‬وأما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول‪,‬فافهم‬
‫جدا‪ :‬ومعنى الوصال هو الرؤية والمشاهدة بسر القلب فى الدنيا وبعين الرأس فى الخرة‪ ,‬فليس معنى الوصال إتصال الذات‬
‫بالذات تعالى ا عن ذلك عليواد كبيرا‪.‬قال بعضهم‪:‬‬
‫وإن طــــرفي موصـــــول برؤيتــه‬
‫وإن تباعد عن مثوايِ مثواه‬
‫ص ‪114‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫إعلم‪ :‬أن مباني الصوفية على أربعة أشياء وهى ‪ :‬إجتهاد‪ ,‬وسلوك ‪,‬وسير‪,‬وطير‪.‬‬
‫فالجتهاد‪:‬التحقق بحقائاق السلم‪ .‬والسلوك ‪ :‬التحقق بحقائاق اليمان ‪ .‬والسير‪:‬التحقق بحقائاق الحسان‪ .‬والطير‪:‬الجذبة بطريق‬
‫الجود والحسان إلى معرفة الملك المنان ‪ ,‬منزلة الجتهاد من السلوك ‪ ,‬منزلة الستنجاء من الوضوء ‪ ,‬فمن ل إستنجاء له ل‬
‫وضوء له‬
‫فهكذا من ل إجتهاد له ل سلوك له ‪ ,‬ومنزل السلوك من السير منزلة الوضوء من الصلة فمن ل وضوء له ل صلة له ‪ .‬فكذا من‬
‫ل سلوك له ل سير له ‪.‬وبعده الطير وهو الوصول ‪ ,‬وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫فهذة طريق السالكين ومنازل السائارين ‪ ,‬وبعد ذلك طريق الوصول ومنازل الواصلين وهو الطير‪ .‬وا أعلم‬
‫فصـل فى التصال‬
‫قال الثوريِ‪ :‬التصال مكاشفات القلوب ومشاهدات السرار فى مقام الذهول‪.‬‬
‫إعلم‪ :‬أن التصال والمواصلة فيما أشارت اليه الشيوخ وكل من وصل الى صفو اليقين بطريق الذوق والوجد فهو رتبة من‬
‫الوصول‪ .‬ثم يتفاوتون فمنهم من يجد ا بطريق الفعال وهو رتبة فى التجلي فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع ا تعالى ويخرج‬
‫فى هذه الحالة من التدبير والختيار ‪ .‬وهذة رتبة فى الوصول‪ .‬ومنهم من يوقف فى مقام الهيبة والنس بما يكاشف قلبه من مطالعة‬
‫الجلل والجمال‪ ,‬وهذا تجلى بطريق الصفات وهو رتبة فى الوصول‪ .‬ومنهم من يرقى الى مقام الفناء مستمليا على باطنه أنوار‬
‫اليقين والمشاهدة مغيبا فى شهوده عن وجوده‪ ,‬وهذا ضرب من تجلى الذات لخواص المقربين‪ ,‬وهذة رتبة فى الوصول وفوق هذا‬
‫الحق اليقين ويكون من ذلك فى الدنيا للخواص لمح وهو سريان نور المشاهدة فى كليه العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه‬
‫حتى قالبه‪.‬وهذا من أعلى الرتب الوصول ‪ ,‬وإذا تحققتا الحقائاق يعلم العبد مع هذه الحوال لشريفة أنه يعد فى أول المنزل‪ .‬فأين‬
‫الوصول ؟ هيهات منازل طريق الوصول ل تقطع أبد الباد فى الخرة البديِ‪ .‬فكيف فى العمر القصير الدنيويِ؟ وا أعلم‪.‬‬
‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫ص ‪115‬‬
‫الباب الخامس‬
‫فى بيان معنى التوحيد والمعرفة ويضاف إليهما البصيرة‬
‫والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة واليقين واللهام‬
‫والفراسة لنها من مواريثهما‬
‫أما التوحيد‪ :‬فهو إفراد القدم عن الحدوث والعراض عن الحادث والقبال القديم على القديم حتى ل يشهد نفسه فضل عن غيره‪,‬‬
‫لنه لو شاهد نفسه فى حال توحيد الحق تعالى أو غيره لكان مثنيا ل موحدداد ذاته القديمة بوصف الوحدانية موصوفة وبنعت‬
‫الفردانية منعوته‪ ,‬وصفات المحدثات من المشاكلة والمماثلة والتصال والنفصال والمقارنة والمجاورة والمخالطة والحلول‬
‫والخروج والدخول والتغيير والزوال والتبدل والنفتال من قدس ذاته ونزاهة صفاته مسلوبة‪ ،‬ول ينسب نقصان الى كمال‬
‫جماله وكمال جمال احديته مبرا عن وصمة ملحظة الفكار ‪ ،‬وجلل‬
‫صمديته معرى عن مزاحمة ملبسة الذكار ‪ ،‬ضاقت عبارات المبارزين فى ميدان الفصاحة عن وصف كبريائاه ‪ ،‬وعجز بيان‬
‫السابقين فى عرصة المعرفة عن تعريف ذاته تعالى ‪ ,‬وتعالى إدراكه عن مناولة الحواس ومحاولة القياس ‪ ،‬وليس لصحاب‬
‫البصائار فى أشعة النور عظمته سبيل التعامى والتغاشى‪ .‬إن قلت ‪:‬أين ؟ فالمكان خلقه و‪ ،‬وإن قلت ‪ :‬متى ؟ فالزمان إيجاده ‪ ،‬وإن‬
‫قلت ‪ :‬كيف ؟ فالمشابهة والكيف مفعولة ‪ ،‬وإن قلت ‪ :‬كم‪.‬؟ فالمقدار والكمية مجعولة ‪ ،‬أزل والبد مندرج تحت إحاطته ‪ ،‬والكون‬
‫والمكان منطو فى بساطه كل ما يسع العقل والفهم والحواس والقياس ذات ا تعالى مقدسة عنه إذ كل ذلك محدث والمحدث ل‬
‫يدرك إل المحدث دليل وجوده وبرهان شهوده الدراك فى هذا المقام عجز ‪ .‬والعجز عن الدراك إدراك ‪ .‬ل يصل بكنه الواحد‬
‫إل الواحد ‪ ،‬وكل ما انتهى إدراك الموحد اليه فهو غاية إدراكه ل غاية الواحد تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكل من ادعى أن معرفة‬
‫الواحد منحصرة فى معرفته فهو بالحقيقة ممكور ومغرور ‪ .‬وقوله تعالى ) وغركم بال الغرور ()الحديد ‪ (14:‬إشارة إلى هذا‬
‫الغرور‬
‫فصل فى التوحيد‬
‫والتوحيد فى البداية نفى التفرقة والوقوف على الجمع‪ .‬وأما فى النهاية فيمكن ان يكون الموحد حال التفرقة مستغرقا فى عين‬
‫الجمع وفى عين الجمع بعين الجمع ناظرا الى التفرقة بحيث كل واحد من الجمع والتفرقة ل يمنع من الخر ‪ .‬وهذا هو كمال‬
‫التوحيد وذلك أن بصير حال التوحيد وصفا لزما لذات الموحد ‪ ،‬وتتلشى وتضمحل ظلمة رسوم وجوده فى غلبة إشراق أنوار‬
‫توحيده ‪ ،‬ونور علم توحيده يستتر ويندرج فى نور حاله على مثال إندراج الكواكب فى نور الشمس ‪ ،‬فلما استبان الصبح أدرج‬
‫ضوئاه بإسفاره أضواء نور الكواكب ‪ .‬وفى هذا المقام يستغرق وجود الموحد فى مشاهدة جمال الواحد فى عين الجمع بحيث ل‬
‫يشاهد غير ذات الواحد تعالى وغير صفاته عز وجل واستلبه أمواج بح التوحيد وغرق فى عين الجمع من هنا‪.‬‬
‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫ص ‪116‬‬
‫قال الجنيد ‪ -:‬قدس ا روحه‪ -‬معنى ذلك اضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ويكون ا تعالى كما يزل ‪ .‬وقيل ‪ :‬من وقع فى‬
‫بحار التوحيد ل يزداد على ممر الزمان إل عطشا‪.‬‬
‫فصل فى بيان أنواع التوحيد‬
‫اعلم ‪ :‬أن إثبات التوحيد خمسة أشياء فى أصول التوحيد لبد لكل مكلف من إعتقادهن‪.‬‬
‫إحداها ‪ :‬وجود البارئ تعالى ليبرأ به من التعطيل ‪.‬‬
‫ثانيها ‪:‬وحدانيته تعالى ليبرأ به من الشرك ‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬تنزيهه تعالى عن كونه جوهرا أو عرضا ‪ .‬وعن لوازم كل منها ليبرأ به من التشبيه‪.‬‬
‫ورابعها‪ :‬إبداعه تعالى بقدرته واختياره لكل ما سواه ليبرأ به عن القول بالعلة والمعلول‪.‬‬
‫وخامسها ‪ :‬تدبيره تعالى لجميع مبتدعاته ليبرأ به عن تدبير الطبائاع والكواكب والملئاكه؛ وقوله )ل اله إل ا( يدل على الخمسة‪.‬‬
‫‪0‬‬
‫فصل‬
‫إتفق المسلمون على أن ا تعالى موصوف بكل كمال ‪ .‬برىء من كل نقصان؛ لكنهم اختلفو فى بعض الوصاف فاعتقد بعضهم‬
‫انها كمال فأثبتها له واعتقد أخرون أنها نقصان فنفوها عنه ‪.‬ولذلك أمثله ‪:‬‬
‫إحدها‪ :‬قول المعتزله أن النسان خالق لفعاله ؛ لن ا لو خلقها ثم نسبها إليه ؛ ولنه لو فعالها مع أنه لم يفعلها وعذبه عليها مع‬
‫أنه يوجدها ؛ لكان ظالما له والظلم نقصان ‪ .‬وكيف يصح أن يفعل شيئاأ ثم يلوم غيره عليه ويقول له‪ :‬كيف فعلته ولم فعلته؟ وأهل‬
‫السنة يقولون ‪ :‬وجدنا كمال الله فى التفرد ونفى القدرة عيب ونقصان‪،‬وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيب البهائام‬
‫والمجانين والطفال ‪،‬لنه يتصرف فى ملكه كيف يشاء)ل يسأل عما يفعل( )النبياء‪ (23:‬والقول بالتحسين والتقبيح باطل فرأوا‬
‫أن يكون هو الخالق لفعال العباد ورأوا تعذيبهم على ما ل يخلقون جائازال من أفعاله غير قبيح‪.‬‬
‫ص ‪117‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫المثال الثانى‪ :‬اختلف المجسمة مع المنزهة‪ .‬قالت المجسمة‪ :‬لو لم يكن جسما ي لكان معدوما ي ول عيب اقبح من العدم‪ .‬وكذا النفى‬
‫عن الجهات قول بعدمه لن من ل جهة له ل يتصور وجوده‪ .‬وقالت المنزهة‪ :‬لو كان جسما ي لكان حادثا ي ولقاتة كمال الزلية والنفى‬
‫عن الجهات كلها انما يوجب عدم من كان محدودا ي منحصرا ي فى الجهات‪ .‬فأما ما كان موجودا ي قديما ي لم يزل ول جهة فل ينصرف‬
‫اليه النفى‪.‬‬
‫المثال الثالث‪ :‬ايجاد المعتزلى على ا ان يثبت الطائاعين كيل يظلمه والظلم نقصان‪ ،‬وقول الشعرى‪ :‬ليس ذلك بظلم اذ ل يجب‬
‫علية حق لغيره اذ لو وجب عليه حق غيره لكان فى قيده والتقييد بالغيار نقصان‪.‬‬
‫المثال الرابع‪ :‬قول المعتزلة ان ا تعالى يريد الطاعات وان لم تقع‪ ،‬لن ارادتها كمال ويكره المعاصى و ان وقعت ‪ ،‬لن ارادتها‬
‫نقصان‪ .‬وقول الشعرى‪ :‬لو اردا ما يقع لكان ذلك نقصا ي فى ارادته لكللها عن النفوز فيما تعلقت به ولو كره المعاصى مع وقوعها‬
‫لكان ذلك كلل ي فى كراهته‪ .‬وكذلك نقصان‪.‬‬
‫المثال الخامس‪ :‬ايجاب المعتزلى على ا تعالى رعاية الصلح لعباده لما فى تركه من النقصان‪ .‬وقول الشعرى‪ :‬ل يلزمه ذلك‬
‫لن اللزام نقصان وكمال الله ان ل يكون فيه قيد المتألهين‪ .‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم‪ :‬أن من نسب المشيئاه‪ ،‬والكسب إلى نفسه فهو قدرة‪ ،‬ومن نفاهما عن نفسة فهو جبرى‪ .‬ومن نسب المشيئاة إلى ا تعالى‬
‫والكسب الى العبد فهو سنى صوفى رشيد‪ ،‬فقدرة العبد وحركته خلق للرب تعالى وهما وصف للعبد وكسب ليه‪ :‬والقدر اسم لما‬
‫صدر مقدرا ي عن فعل القادر والقضاء هو الخلق ‪ ،‬والفرق بين القضاء والقدر هو أن القدر أعم والقضاء أخص‪ ،‬فتدبير الوليات‬
‫قدر وسوق تلك القدار بمقاديرها وهيئااتها إلى مقتضياتيها هو القضاء‪ ،‬فالقدر إذا ي تقدير المر بدءا ي والقضاء فصله وقطع ذلك‬
‫المر كما يقال قضى القاضى‪.‬‬
‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫ص ‪118‬‬
‫فصل فى الهواء‬
‫إعلم أن أهل الهواء المختلفه ست فرق‪ ،‬وكل إثنين منها ضدان وهى‪ :‬التشبيه والتعطيل والجبر والقدر‪ ،‬والرفض والنصب‪ ،‬وكل‬
‫واحده منها تفترق الى اثنتى عشرة فرقه‪ ،‬فالتشبيهه والتعطيل ضدان والجبر والقدر ضدان‪ ،‬والرفض والنصب ضدان‪ ،‬وكل من‬
‫هؤلء منحرفون عن الصراط المستقيم‪ ،‬والفرقة الناجية الوسط وهم أهل السنة والجماعه‪ .‬فأما الفرقه المشبهه بالغوا وغلوا فى‬
‫إثبات الصفات حتى شبهوا وجوزوا النتقال والحلول والستقرار والجلوس وما أشبه ذلك‪ ،‬وأما الفرقة المعطلة‪ :‬فإنهم بالغوا‬
‫وغلوا وبالغو فى نفى التشبيه حتى وقعوا فى التعطيل ‪ ،‬وأما أهل السنة والجماعة ‪ :‬فإنهم سلكو الطريق الوسط وأثبتوا صفات ا‬
‫تعالى كما وردت من غير تشبيه أو تعطيل ‪،‬فعلمت بذلك سبيل الشيطان ما عليه المشبة والمعطلة ‪،‬وأما الجبرية والقدرية ‪ :‬فكل‬
‫منهم بعيد عن الصراط المستقيم ‪ ،‬فمن نفى المشيئاة والكسب عن نفسه فهو جبرى ‪ ،‬ومن نسبها إلى نفسه فهو قدرى ‪ ،‬ومن نسب‬
‫المشيئاة إلى ا تعالى والكسب إلى العبد فهو سنى ‪ ،‬وأما الرافضة والناصبة ‪ :‬فكل منهما بعيدعن الصراط ‪ .‬فالرافضى ‪:‬ادعى‬
‫محبة أهل البيت وبالغ فى سب الصحابة وبغضهم ‪ ،‬والناصبى ‪ :‬بالغ فى التعصب من جهة الصحابة حتى وقع فى عداوة أهل‬
‫البيت ونسب عليا رضى ا عنه إلى الظلم والكفر ‪ ،‬وأما أهل السنة ‪ :‬فإنهم سلكوا الطريق‬
‫الوسط فأحبوا أهل البيت وأحبوا الصحابة وحفظ ا تعالى ألسنتهم من الوقيعة فى أحد منهم إل بالحمد والثناء عليهم فلله الحمد‬
‫والمنة والشكر‪.‬‬
‫فصل فى القضاء‬
‫القضاء يطلق تارة على المر المبرم نحو قوله تعالى )فإذا قضى أمرال فإنما يقول له كن فيكون ()غافر ‪ (68:‬وتارة يراد به‬
‫العلم بوجوب الحكم الواجب ل تعالى كقوله تعالى )وقضى ربك أل تعبدوا إل إياه()السراء‪ (23:‬إذ لو كان هذا من القضاء‬
‫المبرم لما عبد غيره تعالى إذ يستحيل تخلف الثر عن مؤثره ‪ ،‬وكذا قوله تعالى )وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون()الذاريات‪:‬‬
‫‪ (56‬والمراد به العلم إذ لو كان قضاء وحكما مبرما لعبده الكل فنشأ الخلف لعدم الفرقان‪.‬‬
‫ص ‪119‬‬ ‫رسائال المام الغزالى ‪----------------------------------------‬‬
‫فصل‬
‫إعلم أن ا تعالى قضى فيما قضاه أزلل أن المور يكون منوطا بالعبد موقوفا عليه فى أفعاله وأقواله ما قضاه فقد أمضاه فل يجوز‬
‫تغيره ول يقال ‪:‬إن ا تعالى يغير ما قضاه لنه تعالى ل يعارض نفسه فيما قضاه ‪ ،‬إذ لم يكن عبثا ول تبعا للشهوات تعالى عن‬
‫ذلكح ‪ ،‬وإنما قضى بمقتضى الحكمة وما صدر عن الحكمة فل مغير له ‪ ،‬فما قضاه منوطا بفعل العبد ‪ ،‬ف كالحرث والنسل ‪ ،‬وما‬
‫قضاه موقوفا على فعل العبد كالدعاء والستغفار ‪.‬‬
‫واعلم‪:‬أن ا تعالى أثبت فعل العبد فى مواضع نحو قوله تعالى )جزاءا بما كانو يعملون()الواقعة‪ (23:‬وقوله تعالى‪ ) :‬فاقتلوا‬
‫المشركين حيث وجدتموهم ( )التوبة‪ (5 :‬ومحاه فى مواضع أخر نحو قوله تعالى ‪ ) :‬فلم تقتلوهم ولكن ا قتلهم وما رميت إذ‬
‫رميت ولكن ا رمى( )النفال‪ (17:‬والحكمة فيه أنه تعالى خالق الفعال ومقدرها والعبد كاسبها ومسببها ‪ ،‬فالعبد يعمل العبادة‬
‫وا تعالى يجازى عليها ولول نسبة هذه الفعال خلقا وكسبا لما سمى عابدا ومعبودا فثبت أن العبد عابد كاسب وأن ا تعالى‬
‫معبود خالق ‪ ،‬واعلم أن الفعال قسمان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قوله ما يقع من العبد وهو الكسب المنسوب اليه ولهذا أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وثبتت الحاجة إالى العقول لتقوم بها‬
‫الحجة وتتضح بها لحجة ‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬ما يقع على العبد جزاء وهو ما بيد ا تعالى ويد العبد وكلهما ل يكون إل بما كسبت يد العبد لقوله تعالى ‪ ):‬وما أصابكم‬
‫من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ( ) الشورى‪ (30 :‬وما ناسب هذه الية ‪ ،‬فمن فهم هذه الجملة أمكنه أن يفقه المراد‬
‫من كلم ا تعالى فيما هو المضاف الى العباد ‪ ،‬زمثال ذلك ‪ :‬قطع الجلد يد السارق ‪ .‬يصح أن يقول ‪ :‬القاطع هو الجلد لنه‬
‫كاسب ‪ ،‬ويصح أن يقال ‪ :‬إن ا تعالى هو القاطع بيد الجلد لنه تعالى هو المجازى للمقطوع لما بدا منه ‪ ،‬ويصح أن يقال إن‬
‫السارق هو القاطع ليده لنه هو المبتدئ لما جناه فل يقع عليه إل لما كسبت يداه ‪ ،‬فيكون الفعل الواجد من الرب تعالى جزءا من‬
‫المقطوع ابتداء ومن القاطع كسبا ول يناقض أحد أحدا وأدلته واضحة فى الكتاب‪ ،‬ومن فهم هذه الجملة حق فهمها لم يخف إل من‬
‫نفسه ولم يرج إل رحمة ا سبحانه وتعالى ‪ .‬قال‪ :‬أين عبد ا كلنا فى ذات ا تعالى ‪ ،‬يعنى إن نظرنا إالى قضائاه نتوهم أن العبد‬
‫معذور ل يفعل‪ ،‬وإن نظرنا إالى المر والنهى وإالى اختيار العبد ربما يظن أن العبد مستبد بما يفعل ‪ ،‬بل الحق فيه أن يعتقد أن‬
‫العبد غير مستغن عن ا تعالى فى سائار احواله‪.‬‬
‫ص ‪120‬‬
‫أفعاله وأقواله ‪ ،‬وأحواله ‪ ،‬بل هو متقلب فى مشيئاته وأنه غير مجبور ول مسخر كالحيوانات والجمادات ‪ ،‬بل هو موقف فى ضمن‬
‫أسباب السعادة ومخذول أو مطرود فى ضمن أسباب الشقاوة‪.‬‬
‫فصل‬
‫لو قيل ‪ :‬إن كان القدرة الحادثة أثر فى المقدور فهو شرك خفى ‪ ،‬وإن لم يكن لها أثر فهو جبر‪ .‬يقال ‪ :‬إنما شركا ل إذا كان لها فى‬
‫التخلق أثر‪ ،‬وإنما أثرها فى الكسب وا تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركا ل ولو لم يكن لها أثر فى المقدور لزم أن يكون وجودها‬
‫كعدمها فهو إذال قدير بل قدرة وهو محال‪.‬‬
‫وأعلم أن من ظن ا تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعظ وتواعد لغير قادر محتار‪ ،‬فهو مختل المزاج يحتاج إلى‬
‫علج ولسبب اختلف الناس فى الستدلل بالقرآن قبل فهمه وقعوا فى الجبر والقدر ‪،‬لنهم لم يفرقوا بين قدرة الخالق القديمة وبين‬
‫قدرة المخلوق الحادثة والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة بالخلق ول مدخل لها فى الكسب ‪ ،‬وأن القدرة الحادثة مستقلة‬
‫س دشليلئاا‬‫اد لد ديلظلهام الانا د‬
‫بالكسب ول مدخل لها فى الخلق والظلم إنما ينسب إلى الحادثة ‪ ،‬وأما القديمة فمبرأة عنه لقوله تعالى )إهان ا‬
‫س دأنفادساهلم ديلظلهامودن(‬‫دودلهكان الانا د‬
‫]يونس ‪[44:‬‬
‫فصل الفرق وبين العلم والمعرفة‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫وأما المعرفة ‪ :‬فهى نفس القرب وهو ما أخذ القلب وأثر فيه أثرا يوثرفى الجوارح‪ .‬فالعلم ‪ :‬كرؤية النار مثل ‪ .‬والمعرفة ‪:‬‬
‫كالصطلء بها‪ ،‬والمعرفة فى اللغة‪ :‬هو العلم الذى ل يقبل الشك وفى العرف اسم العلم تقدمه نكره‪ ،‬وفى عبارة الصوفية المعرفة‬
‫هو العلم الذى ل يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات ا تعالى وصفاته ‪ .‬فإن قيل‪ :‬ما معرفة الذات وما معرفة الصفات؟ يقال ‪ :‬معرفة‬
‫الذات أن يعلم أن ا تعالى موجود واحد فرد وذات وشئ عظيم قائام بنفسه ول يشبهه شئ وأما معرفة الصفات‪ :‬فأن تعرف أن ا‬
‫تعالى حى عالم قادر سميع بصير إلى غير ذلك من الصفات ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬ما سر المعرفة؟ يقال‪ :‬سرها وروحها التوحيد‪ ،‬وذلك بأن‬
‫تنزه حياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلمه عن التشبيه بصفات الخلق‪ :‬ليس كمثله شئ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ما علمة المعرفة ؟ يقال ‪ :‬حياة القلب مع ا تعالى‪ ،‬أوحى ا تعالى إلى داود عليه السلم أتدى ما معرفتى ؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬حياة القلب فى مشاهدتى‪.‬‬
‫ص ‪121‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ففى أى مقال تصح المعرفة الحقيقية؟ يقال‪ :‬فى مقام الرؤية والمشاهدة بسر القلب ‪ ،‬وإنما يرى ليعرف ‪ ،‬لن المعرفة‬
‫الحقيقية فى باطن الدارة فيرفع ا تعالى بعض الحجب قيريهم نور ذاته وصفاته عز وجل من وراء حجاب ليعرفوه تعالى‪ ،‬ول‬
‫يرفع الحجب بالكلية لكيل يحترق الرائاى‪ .‬قال بعضهم بلسان الحال‪:‬‬
‫ليتمت الخلئاق أجمعينا‬ ‫ولو أنى ظهرت بل حجاب‬
‫به تحيا القلوب العاشقينا‬ ‫ولكن الحجاب لطيف معنى‬
‫اعلم ‪ :‬أن تجلى العظمة يوجب الخوف والهيبة‪ ،‬وتجلى الحسن والجمال يوجب العشق‪ ،‬وتجلى الصفات يوجب المحبة‪ ،‬وتجلى‬
‫الذات يوجب التوحيد قال بعض العارفين‪ :‬وا ما نال رجل الدنيا إل أعمى ا قلبه وبطل عليه عمله إن ا تعالى خلق الدنيا‬
‫مظلمة‪ ،‬وجعل الشمس فيها ضياء‪ ،‬وجعل لقلوب مظلمة ‪ ،‬وجعل المعرفة فيها ضياء ‪ ،‬فإذا جاءه السحاب ذهب نور الشمس‪ ،‬فكذلك‬
‫يجئ حب الدنيا فيذهب بنور المعرفة من القلب‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬حقيقة المعرفة نور يطرح فى قلب المؤمن وليس فى الخزانة شئ أعز من المعرفة‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬إن شمس قلب العارف‬
‫آضوأ وأشرف من شمس النهار‪ ،‬لن شمس النهار قد تكسف وشمس القلوب ل كسوف لهاوشمس النهار تغرب بالليل دون شمس‬
‫القلوب وأنشدوا فى ذلك‪:‬‬
‫غير شمس القلوب لن تغيب‬ ‫إن شمس النهار تغرب ليل‬
‫إشياقا إلى لقاء الحبيب‬ ‫من أحب الحبيب طار إليه‬
‫وقال ذو النون ‪ :‬حقيقة المعرفة اطلع الحق على أسرار بمواصلة لطائاف النوار وأنشدوا فيه‬
‫نور الله بسر السر فى الحجب‬ ‫للعارفين قلوب يعرفون بها‬
‫بكم عن النطق فى دعواه بالكذب‬ ‫صم عن الخلق عمى عن مناظرهم‬
‫وسئال بعضهم ‪ :‬متى يعرف العبد أنه على تحقيق المعرفة؟ فقال‪ :‬إذا لم يجد لى قلبه مكانا ا لغير ربع‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬حقيقة المعرفة‬
‫مشاهدة الحق بل واسطة ول كيف ول سبهة‪،‬‬
‫ص ‪122‬‬
‫كما سئال أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى ا عنه فقيل‪ :‬يا أمير المؤمنين أتعبد من ترى أو من ل ترى؟ فقال‪ :‬ل بل أعبد‬
‫من أرى ل رؤية عيان‪ ،‬ولكن رؤية القلب‪ .‬وقيل لجعفر الصادق رضى ا عنه‪ :‬هل رأيت ا عز وجل؟‪ :‬لم أكن لعبد ربا ل لم‬
‫أراه‪ .‬قيل‪ :‬وكيف رأيته وهو الذى ل تدركه البصارظ قال‪ :‬لم تره البصار بمشاهدة العيان‪ ،‬ولكن تراه القلوب بحقائاق اليمان ‪،‬‬
‫ول يدرك ول يقاس بالناس؟‬
‫وسئال بعض العارفين عن حقيقة المعرفة‪ .‬فقال‪ :‬تخيله السر عن كل إرادة وترك ما عليه العادة وسكون القلب إلى ا تعالى بل‬
‫علقة وترك اللتفات منه إلى ما سواه‪ ،‬ول يمكن معرفة منه ذاته ول معرفة صفاته عز وجل‪ ،‬ول يعرف من هو إل هو تبارك‬
‫وتعالى والمجد ل وحده‪.‬‬
‫فصل وأما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة‬
‫فهى أسماء مرادفة على معنى واحد ‪ ،‬وإنما تحصل التفرقة فى كمال الوضوح ل فى أصله‪ ،‬فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور‬
‫العين من العين ‪ ،‬والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس من العين فتدرك بذلك الجليات والخفيات‪ .‬وأما الحياة ‪ :‬فهى نفس‬
‫التوحيد قال تعالى ‪) :‬أددو دمن دكادن دمليلتا دفأ دلحديليدناها( ] النعام ‪ . [122:‬وأما اليقين‪ :‬فأعلم أن العتقاد والعلم إذا استوليا على القلب ولم‬
‫يكن لهما معارض أثمرا فى القلب المعرفة ‪ ،‬فسميت هذه المعرفة يقينا ل ‪ ،‬لن حقيقة صفاء العلم المكتسب حتى كالعلم الضرورى‬
‫ويصير القلب مشاهدال لجميع ما أخبر عنه الشرع من أمر الدنيا والخرة‪ .‬يقال‪ :‬أيقن الماء إذا صفا من كدورته‪.‬‬
‫وأما االلهام‪ :‬فهو حصول هذه المعرفة بغير سبب ول اكتساب ‪ ،‬بل بإلهام من ا تعالى بعد طهارة القلب عن استحسان ما فى‬
‫الكونين‪.‬‬
‫وأما الفراسة‪ :‬فهى التوسم بعلمة من ا تعالى بينه وبين العبد يستدل بها على أحكام باطنه‪ ،‬وذلك ل يكون إل فى درجة التقريب‬
‫وهو دون اللهام‪ ،‬لن اللهام ل يفتقر إلى علمة والفراسة تفتقر إلى علمة ‪ ،‬وهو عام وخاص‪ ،‬وا سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب السادس‬
‫فى بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل‬
‫أعلم أن هذه السامى مشتركة بين مسميات مختلفة ونحن نشرح من معانيها ما يتعلق بغرضنا‪.‬‬
‫ص ‪123‬‬
‫الول‪ :‬لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬اللحم الصنبورى الشكل المودع فى الجانب اليسر من الصدر وفى باطنه تجويف فيه دم أسود وهو منبع الروح الحيوانى‬
‫ومعدتى‪.‬‬
‫والمعنى الثانى‪ :‬هى لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسمانى تعلق يضاهى تعلق العراض بالجسام والوصاف‬
‫بالموصفات‪ ،‬وتلك اللطيفة هى حقيقة النسان المدرك العالم المخاطب المطالب المثاب المعاقب‪.‬‬
‫اللفظ الثانى‪ :‬الروح وهو أيضا ل يتعلق بغرضنا لمعنيين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬جسم لطيف بخارى حامله دم أسود منبعه تجويف القلب الجسمانى ‪ ،‬وينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائار أجزاء‬
‫البدن وجريانها فى البدن وفيضان أنوار الحياة‪ ،‬والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائاها يضاهى فيضان النور من‬
‫السراج فى زوايا البيت‪ .‬فالحياة ‪ :‬مثالها النور الحاصل فى الحيطان والروح مثاله السراج‪ ،‬وسريان الروح وحركته فى الباطن‬
‫مثال حركة السراج فى جوانب البيت بتحرك محركه فالطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف‬
‫أنضجته حرارة القلب‪.‬‬
‫ك دعهن‬ ‫والمعنى الثانى‪ :‬هو اللطيفة العالمة المدركة من النسان الذى هو أحد معنى القلب وهو الذى أراده ا تعالى بقوله )دوديلسأ دالودن د‬
‫المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ] السراء‪ .[85 :‬وهو أمر عجيب ربانى أكثر العقول والفهام عن درك فهم حقيقته‪.‬‬
‫اللفظ الثالث ‪ :‬النفس وهو أيضا ل مشترك بين معنيين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه يراد به المعنى الجامع لقوتى الغضب والشهوة فى النسان وهذا الستعمال هو الغالب على الصوفية فهم يريدون‬
‫بالنفس الصل الجامع للصفات المذمومة من النسان فيقولون‪ :‬ل بد من مجاهدة النفس وكسر شهوتها ‪ ،‬وإليه الشارة بقوله صلى‬
‫ا عليه وسلم‪ " :‬أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك"‬
‫والمعنى الثانى‪ :‬اللطيفة التى ذكرناها وهى حقيقة النسان ونفسه وذاته‪ ،‬ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلف أحوالها ‪،‬‬
‫س اللاملطدمهئااناة ‪.‬‬ ‫فإذا سكنت تحت المر وزايلها الضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئانة قال تعالى‪)" :‬دياأداياتدها الانلف ا‬
‫ضايلة( ] الفجر‪ [27.28 :‬والنفس بالمعنى الول ل يتصور رجوعها إلى ا تعالى ‪ ،‬فإنها مبعدة عن‬ ‫ضديلة املر ه‬‫جهعي إهدلى دررَبهك درا ه‬
‫الر ه‬
‫ا سبحانه وتعالى وهى حزب الشيطان ‪ ،‬وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية سميت النفس اللوامة ‪ ،‬فإذا‬
‫تركت العتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعى الشيطان سميت النفس المارة بالسوء‪.‬‬
‫اللفظ الرابع‪ :‬العقل والمتعلق بغرضننا منه معنيان‪:‬‬
‫ص ‪124‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه يطلق ويراد به العلم بحقائاق المور ‪ .‬فيكون عبارة عن صفة العلم الذى محله خزانة القلب‪.‬‬
‫والثانى ‪ :‬قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم‪ ،‬فيكزن القلب أعنى تلك اللطيفة التى هى حقيقة النسان وحيث ورد فى القرآن والسنة‬
‫ذكر القلب فالمراد به المعنى الذى يفقهه من النسان ويعرف حقيقة الشياء‪ ،‬وقد يكنى عنه بالقلب الجسمانى الذى فى الص‬
‫ر لن بينه وبين تلك اللطيفة العالمة التى هى حقيقة النسان علقة خاصة لن تعلقها بسائار البدن إنما هو بوسطتها فهو ممتلكها‬
‫ومطيتها والمجرى الول لتدبيرها وتصرفها ‪ .‬فالقلب الجسمانى والصدر بالنسبة إلى النسان كالعرش الكرسى بالنسبة إلى ا‬
‫تعالى من وجه‪.‬‬
‫فصل فى بيان جنود القلب‬
‫اعلم‪ :‬أن ا تعالى فى القلب والرواح وغيرها من العوالم جنودال مجندة ل يعلم حقيقتها وتفصيل عددها إل ا تعالى‪ .‬ونحن الن‬
‫نشير إلى بعض جنود القلب وهو الذى يتعلق بغرضنا ‪ .‬فاعلم أن له جندين جند يرى بالبصار وجنج ل يرى إل بالبصائار‪ ،‬فالقلب‬
‫فى حكم الملك ‪ ،‬والجنود فى حكم الخدم والعوان‪.‬‬
‫فأما جنوده المشاهدة بالبصر فهى اليد والرجل والذن والعين واللسان فجملة جنود القلب تحصره ثلثة أصناف‪:‬‬
‫الصنف الول‪ :‬باعث مستحث إلى جلب الموافق النافع كالشهورة وإما إلى دفع المخالف الضار كالغضب وقد يعبر عن هذا‬
‫الباعث بالرادة‪.‬‬
‫الصنف الثانى‪ :‬هو المحرك للعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد وقد يعبر عنه بالقدرة وهى جنود مبثوثة فى سائار العضاء‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬هو المدرك المعرف بهذه الشياء كالجواسيس وهو قوة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهى مبثوثة فى‬
‫العضاء الظاهرة المركبة من اللحم والشحم والعصب والدم والعظم التى أعدت آلت لهذه الجنود‪ .‬ويعبر عن العمل هذا الصنف‬
‫بالعلم والدراك‪ ،‬وهذا الصنف الثالث هو المدرك من هذه الجملة‪ ،‬وينقسم إلىما أسكن المنازل الظاهرة وهى الحواس الخمس‪.‬‬
‫أعنى السمع والبصر والشم والذوق واللمس‪ ،‬وإلى ما أسكن منازل باطنة وهى تجاويف الدماغ وهى أيضا ل خمسة‪ :‬حس مشترك‬
‫وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ‪.‬‬
‫فأما الحس المشترك فيرسم فيها صورة ما أدته إليها الحواس الظاهرة مما أدركته كما ترسم الصورة فى المرآة ومحل تصرفها‬
‫مقدم البطن الول من الدماغ‪.‬‬
‫ص ‪125‬‬
‫القوة الثانية‪ :‬الخيال وهى خزانة الحس المشترك يخزن فيها ما ارتسم فيه لتحفظها له إلى وقت حاجته إليه‪ ،‬فإن له قوة القبول‬
‫وليس له قوة الحفظ والخيال له قوة الحفظ وليس له قوة القبول ومحل تصرف الخيال مؤخر البطن من الدماغ‪.‬‬
‫القوة الثالثة‪ :‬الوهم موضع تصرفه مقدم البطن المؤخر من الدماغ‪ ،‬لن تصرفه هو المعانى الجزئاية المتنوعة من الصور‬
‫المخزونة فى الخيال فكانت بعدها فى الرتبة لتقليبها منه‪.‬‬
‫القوة الرابعة‪ :‬الحافظ ومحل تصرفها مؤخر البطن المؤخر من الدماغ يلى محل تصرف الوهم لنها خزانتهز‬
‫القوة الخامسة‪ :‬المتصرفة ومحل تصرفها فى وسك الدماغ‪ ،‬لنها أشرف القوى ولنها تأخذ من الخيال فى حال دون حال وتعطيه‬
‫أيضا ل فى حال دون حال فى النوم واليقظة‪ ،‬وتعطى الحافظة وتطلب منها عند النسيان فكان الليق بها أن تكون بين الحرارتين‬
‫ليسهل عليها أخذها منهما وإعطاؤها إياهما وا أعلم‪.‬‬
‫وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقار إلى المركب والزاد لسفره إلى ا تعالى وقطع المنازل إلى لقائاه الذى لجله خلق‬
‫وإنما مركبه البدن ‪ ،‬وإنما زاده العلم والعمل وليس يمكن أن يصل العبد إلى ا تعالى ما لم يسكن البدن وتجاوز الدنيا ليتزود منها‬
‫للمنزل القصى فافتقر إلى تعهد بدنه بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما يؤذيه‪ ،‬ويمكن من أسباب الهلك‬
‫فافتقر لجل الغذاء إلى جندين‪ :‬باطن وهو الشهوة ‪ ،‬وظاهر وهو العضاء الحالبة للغذاء فخلق فى القلب من الشهوات ما احتاج‬
‫إليه وخلقت العضاء التى هى الت الشهوة وافتقر لجل دفع المهلكات إلى جندين‪ :‬باطن ‪ ،‬وهو الغضب‪ ،‬الذى يدفع المهلكات‬
‫وينتقم من العداء‪ ،‬وظاهر وهى اليد والرجل والسلحة التى بها تعمل بمقتضى الغضب ثم المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء‪،‬‬
‫ل تنفهى شهوة معرفة الغذاء وأليه فافتقر فى المعرفة إلى جندين باطن ‪ :‬وهو إدارك السمع والبصر والشم والمذاق واللمس ‪،‬‬
‫وظاهر ‪ :‬وهو العين والذن والنف وغيرها وتفصيل الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ول تحويه مجلدات كثيرة ‪ ،‬فسبحان‬
‫الكريم الحليم‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم ‪ :‬أن القسمة ثلثة ‪ :‬الجسم والعرض والجوهر الفرد‪ .‬فالروح الحيوانى جسم لطيف كأنه سراج مشعل‪ ،‬والحياة هو السراج‬
‫والدم دهنه والحس والحركة نوره‪ ،‬والشهوة حرارته ‪ ،‬والغضب دخانه ‪ ،‬والقوة الطالبة للغذاء الساكنة فى الكبد خادمه وحارسه‬
‫ووكيله‪ .‬وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات‪ ،‬لنه مشترك بين البهائام وسائار الحيوانات والنسان‬
‫ص ‪126‬‬
‫هو جسم وأثاره أعراض‪ ،‬وهذا الروح ل يهتدى إلى العلم‪ .‬ول يعرف طريق الصنوع ولحق الصانع‪ ،‬وإنما هو خادم أسير يموت‬
‫البدن لو يزيد دهن الدم وينطفئ لزيادة الحرارة ولو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة ‪ ،‬وأنطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب البارئ‬
‫جلت عظمته وتكليف الشارع عليه الصلة والسلم لهذا الروح‪ ،‬لن البهائام وسائار الحيوانات غير مكلفين ول مخاطبين بأحكام‬
‫الشرع‪ ،‬والنسانإنما يكلف ويخاطب لجل معنى آخر وجد عنده زائاد خاصا ل وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح اللطيفة ‪،‬‬
‫ك دعهن المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي‬
‫وهذا الروح ليس بسم ول عرض ‪ ،‬لنه من أمر ا تعالى كما أخبر بقوله تعالى‪) :‬دوديلسأ دالودن د‬
‫دودما اأوهتياتم رَمن اللهعللهم إهلا دقهليلل( ] السراء‪ . [85 :‬وأمر ا تعالى ليس بجسم ول عرض‪ ،‬بل هو جوهر ثابت دائام ل يقبل الفساد ول‬
‫يضمحل ول يفنى ول يموت ‪ ،‬بل يفارق البدن وينتظر العود إليه يوم القيامة كما ورد به الشرع‪ ،‬وهذا الروح يتولد منه صلح‬
‫البدن وفساده والروح الحيوانى وجميع القوى كلها من جنوده‪ ،‬فإذا فارق الروح الحيوانى البدن‪ ،‬تعطل أحوال القوى الحيوانية‬
‫فيسكن المتحرك ‪ ،‬فيقال لذلك السكزن موت‪ ،‬وإن كان الروح من أمر ا تعالى فى البدن كالغريب‪ ،‬فاعلم أنه ل يحل فى محل ول‬
‫يسكن فى مكان وليس البدن مكان الروح ول محل القلب ‪ ،‬بل البدن آلة الروح وا أعلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫جهديدن( ] سورة الحجر ‪ . [29 :‬قال رحمة ا‬ ‫حي دفدقاعولا دلاه دسا ه‬ ‫فى بيان المعنى المراد من قوله تعالى )دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا‬
‫ت هفيهه همن مرو ه‬
‫تعالى ورضى عنه‪:‬‬
‫أما التسوية ‪ :‬فهى عبارة عن فعل فى المحل القابل للروح وهو الطين فى حق آدم عليه السلم ‪ ،‬والنطفة فى حق أولده بالتصفية‬
‫وتعديل المزاج زالتردد فى أطوار الخلقة إلى الغاية حتى ينتهى فى الصفاء ومناسبة الجزاء إلى الغابة فيستعد لقبول الروح‬
‫وإمساكها كاستعداد الفتيلة بعد شرب الدهن لقبول النار وإمساكها‪.‬‬
‫وأما النفخ‪ :‬فهو عبارة عن اشتعال نور الروح فى المحل القابل‪ ،‬فالنفخ سبب الشتعال وصورة النفخ فى حق ا تعالى محال ‪،‬‬
‫والسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ وهو الشتعال فى فتيلة النطفة‪ ،‬وللنفخ صورة ونتيجة‪.‬‬
‫وأما صورته ‪ :‬فهو إخراج هواء من جوف لنافخ إلى جوف المنفوخ فيه ‪ .‬وهو فتيلة النطفة‪ .‬فيشتغل فيها‪ .‬وأما الذى شتعل به نور‬
‫الروح فهو صفة فى الفاعل وصفة فى المحل القابل‪ ،‬وأما صفة الفاعل فالجود الذى ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل‬
‫موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة‪ ،‬ومثالها فيضان نور الشمس على‬
‫ص ‪127‬‬
‫كل قابل الستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما ‪ ،‬والقابل هو الملونات دون الهواء الذى ل لون له‪ .‬وأما صفة القابل فالستواء‬
‫واعتدال الحاصل فى التسوية كما قال تعالى‪) :‬دفإهدذا دساولياتاه( ‪.‬‬
‫ومثال صفة القابل ‪ :‬صفات المرآة قبل صقالتها ل تقبل الصورة وإن كانت محاذية لها‪ ،‬فإذا صقلت حدثت فيها صورة من ذى‬
‫الصورة المحاذية لها فكذلك إذا حصل على الستواء فى النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير فى الخالق تعالى‬
‫الن ل بل إنما حدث الروح قبله لتغير المحل بحصول الستواء الن ل قبله‪.‬‬
‫وأما فيضان الجود‪ ،‬فالمراد به أن الجود اللهى سبب لحددوث أنوار الوجود فى كل ماهية قابلة للجود فعبر عنه بالفيض ل كما‬
‫يفهم من فيض الماء من الناء على اليد فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء مما فى اإناء واتصاله باليد ‪ ،‬فإن ذلك عبارة عن انفصال‬
‫جزء مما فى الناء واتصاله باليد‪ ،‬فإن ا سبحانه يتعالى عن مثل هذا‪.‬‬
‫وأما كشف معنى ماهية الروح ومعرفة حقيقتها فهو من سر الذى لم يؤذن لرسول ا صلى ا عليه وسلم فى كشفه لمن ليس من‬
‫أهله فإن كنت من أهله فاسمع‪ .‬واعلم أن الروح ليس بجسم يحل فى البدن حلول الماء فى الناء‪ ،‬ول هو عرض يحل فى القلب أو‬
‫الدماغ حلول الواد فى السود والعلم فى العالم‪ ،‬بل هو جوهر ل يتجزأ باتفاق أهل البصائار‪ ،‬لنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه‬
‫العلم بالشئ ويجزء آخر منه الجهل بذلك الشئ بعينه فيكون فى حالة واحدة عالما ل بشئ وجاهلل به وذلك محال‪ ،‬فدل بذلك على أنه‬
‫واحد ل ينقسم‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬لم منع رسول ا صلى ا عليه وسلم إفشاء الروحوكشف حقيقةتهظ فيقال ‪ :‬لنه يتصف بصفات ل تحملها الفهام إذا‬
‫الناس قسمان عوام وخواص أما من غلب على طبعه العامية فإن ل يصدق بما هو وصف الروح أن يكون وصفا ل ل تعالى ‪ ،‬فكيف‬
‫يصدق به فى وصف الروح النسانى؟ وكذلك أنكرت الكرامة والحنبلية وغيرهم ممن غلبت عليهم العامية بتنزيه الله تعالى عن‬
‫الجسمية وعوارضها إذا ل يعقلون موجودال إل متجسما ل مشار إليه‪.‬‬
‫من ترقى عن العامية قليلل نفى الجسمية عن الله تعالى‪ .‬وما أطلق أن ينفى عوارض الجسمية عنه‪ ،‬فأثبت الجهة وترقى عن هذه‬
‫العامية الشعرية والمعتزلة فنزهوا الله تعالى عن الجسمية والجهة‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬لم ل يجوز كشف هذا السر مع هؤلء؟ فيقال‪ :‬لنهم أحالوا أن تكون هذه الصفة لغير ا تعالى‪ ،‬فإذا ذكرت هذا معهم‬
‫كفروك‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هذا تشبيه لنك تصف نفسك بما هو صفة الله تعالى على الخصوص وذلك جهل بأخص أوصاف ا تعالى‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬إن النسان حى عالم قادر مريد سميع بصير متكلم وا تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لن هذه الصفات ليست أخص‬
‫أوصاف ا تعالى‪ ،‬فكذلك البراءة عن المكان‬
‫ص ‪128‬‬
‫والجهة ليست أخص وصف الله تعالى‪ ،‬بل أخص وصفه تعالى أنه قيوم أى قائام بذلته وكل ما سواه قائام به وهو موجود بذاته ل‬
‫بغيره وليس للشياء من أنفسها إل العدم‪ ،‬وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية فالوجود ل تعالى ذاتى ليس بمستعار وما‬
‫سواه فوجوده منه تعالى ل من نفسه وهذه القيومية ليست إل ل تعالى‪.‬‬
‫حي( ( ] سورة الحجر ‪ .[29 :‬فأعلم أن الروح منزهة‬ ‫فإن قيل ‪ :‬ما معنى نسبة الروح إلى ا تعالى فى قوله )دودندفلخ ا‬
‫ت هفيهه همن مرو ه‬
‫عن الجهة والمكان وفى قوتها العلم بجميع المعلومات والطلع عليها ‪ ،‬فهذه مضاهاة ومناسبة ليست لغيره من الجسمانيات ‪،‬‬
‫فلذلك اختصت بالضافة إلى ا تعالى‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فما معنى قوله )قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ( ] السراء‪ .[85 :‬وما معنى عالم المر وعالم الخلق؟ فيقال‪ :‬إن كل ما يقع‬
‫عليه مساحة وتقدير فهو الجسام وعوارضها‪ .‬فهذا هو عام الخلق والخلق ها هنا بمعنى التقدير ل بمعنى اليجاد والحداث‪ .‬يقال ‪:‬‬
‫خلق الشئ أى قدره وكل ما ل كمية له ول تقدير‪ .‬يقال‪ :‬إنه أمر ربانى وتلك المضاهاة التى ذكرناها ‪ ،‬فكل ما هو من خذا الجنس‬
‫من أرواح البشرية وأرواح الملئاكة يقال ‪ :‬إنه من عالم المر وعالم المر عبارة عن الموجودات الخارجية عن الحس والخيال‬
‫والجهة والمكان والتحيز والدخول تحت المساحة والتقدير لنتقاء الكمية منه‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ما معنى قول النبى صلى ا عليه وسلم‪ " :‬إن ا خلق آدم على صورة" وروى " على صورة لرحمن" فيقال‪:‬إن‬
‫الصورة اسم مشترك قد يطلق على ترتيب الشكال ووضع بعضها على بعض واختلف تركيبها وهى الصورة المحسوسة‪ .‬وقد‬
‫يطلق على ترتيب المعانى التى ليست محسوسة وللمعانى أيضا ل تركيب وترتيب وتناسب يسمى ذلك صورة‪ .‬يقال‪ :‬صورة المسألة‬
‫كذا وصورة الواقعة كذا وصورة العلوم الجسمانية والعقلية كذا ‪ ،‬فالمسألة بالصورة المذكورة هى الصورة المعقولة وحقيقة ذات‬
‫الروح أنه قائام بنفسه ليس بعرض ول جسم ول جوهر متحيز ول بحل المكان والجهة ‪ ،‬ول هو متصل بالبدن والعالم‪ ،‬ول هو‬
‫منفصل‪ ،‬ول هو داخ البدن والعالم ول من الخارج ‪ .‬وهذا كله صفات ذات ا تعالى‪.‬‬
‫ص ‪129‬‬
‫وأما الصفات ‪ :‬فقد خلق حيا ا عالما ل مريدال بصيرال متكلما ل وا تعالى كذلك وأما الفعال ‪ :‬فمبدأ الدمى إرادة يظهر أثرها أزلل فى‬
‫القلب فبنتشر منه أثر بواسطة الروح الحيوانى الذى هو بخار لطيف فى تجويف ويتصاعد إلى الدماغ‪ ،‬ثم يسرى منه أثر إلى‬
‫العضاء إلى أن تصل الثار إلى الصايع مثلل فتتحرك بالصابع القلم وبالقلم المداد‪ ،‬فيحدث منه صورة ما يريد كتبه على‬
‫لل يمكن لحداثه على البياض‪ .‬اانيا ل فمن استقرأ أفعال‬ ‫القرطاس فى خزانة التخيل‪ ،‬فإنه ما لم يتصور فى خياله صورة المكتوب أو ل‬
‫ا تعالى وكيفية إحداث الحيوان والنبات على الرض بواسطة تحريك الكواكب والسموات بواسطة الملئاكة عم أن تصرف‬
‫الدمى فى عالمه يشبه تصرف الخالق سبحانه فى العالم الكبر ‪ ،‬فحينئاذ يعرف قوله صلى ا عليه وسلم " إن ا خلق آدم عليه‬
‫السلم على صورته"‪.‬‬
‫لغن قيل ‪ :‬فإذا كانت الرواح حادثة مع الجسام فما معنى قوله عليه الصلة والسلم ‪ ":‬خلق ا تعالى الرواح قبل خلق الجسام‬
‫بألفى عام" ‪ ،‬وقوله " أنا أول النبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين"‪ .‬فاعلم أن شيئاا من ذلك ل يدل على قدم‬
‫الروح لكن قوله ‪ " :‬أنا أول النبياء خلقا"‪ .‬ربما دل بظاهره على تقدم وجوده عى حده وغير الظاهر متعين‪ .‬فإن تأويله يمكن‬
‫والبرهان القاطع ل يدرأ بالظاهر بل ليسلط على تأويل الظاهر‪ ،‬كما فى ظواهر التشبيه فى حق ا تعالى‪.‬‬
‫فأما قوله ‪ " :‬خلق ا تعالى الرواح قبل الجساد بالفى عام" أراد بالرواح أرواح الملئاكة ‪ ،‬والجسام أجسام العالم من العرش‬
‫والكرسى والسموات والكواكب والهواء والماء والرض‪.‬‬
‫وأما قوله " أنا أول النبياء خلقا ل" فالحخلق هما هنا بمعنى التقدير دون اليجاد ‪ ،‬فإنه صلى ا عليه وسلم قبل أن تلده أمه لم يكن‬
‫موجودال مخلوقا ا ‪ ،‬ولكن الغايات والكمالت سابقة فى التقدير لحقة فى الوجود ‪ ،‬فإن ا تعالى يقدر أولل أى يرسم فى اللوح‬
‫المحفوظ المور اللهية على وفق علمه تعالى‪ ،‬فإذا فهمت نوعى الوجود الحسى العينى‪ .‬هذا آخر الكلم فى معنى الروح وا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫صفحة ‪130‬‬
‫الباب السابع‬
‫في بيان معنى المحبة‬
‫اعلم ‪ :‬أن المحبة ميراث التوحيد والمعرفة وكل مقام وحال قبلها فلها يرد ومنها يستفاد ‪ .‬و أما المعرفة الخالصة بها ‪ :‬فكل ما يتعلق‬
‫بذات ا تعالى وصفاته من سلب نقص واثبات كمال وهي واجبة بالكتاب والسنة و إجماع المة ‪ ،‬وإنما وقع الخلف في حقيقتها‬
‫ومعناها وليس للمحبة معنى غير الميل الى اللذيذ الموافق ‪ ،‬واعلم أن معرفة ا تعالى بنفسها ذكر ا تعالى ‪ ،‬لنها حضور معه‬
‫وشهود له ومن علمته في بدايته اللوائاح والطوالع واللوامع والبروق ‪ ،‬وهذه ألفاظ متقاربة المعاني والفرق بين البرق والوجد أن‬
‫البرق ‘ذن في دخول طريق التوحيد والوجد يصحبك فيها فإذا دام صار ذوقا‪.‬‬
‫وأما الذوق ‪ :‬فهو استحلء وشرب لما شاهد من ضياء البرق‪ .‬وأما اللحظ ‪ :‬فهو اسم يعبر به عن رؤية الحق تعالى بالقبل ‪ ،‬كما‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬اعبد ا كأنك تراه " ‪ .‬وأما الوقت ‪ :‬فهو اسم ظرف للكائان فيه من الحوال فوقت العبد ما هو فيه‪.‬‬
‫وأما الصفاء ‪ :‬فهو اسم للبراءة من الكدر ‪ .‬وأما النفس ‪ :‬فهو تنفس العبد لعجزه عن حمل الحوال الواردة عليه إما صعدا وإما‬
‫تلفظا بكلم أو إشارة مما هو فيه ‪ ،‬لن العبد مادام حيا لبد أن يروح بدخول النفس وخروجه فإذا قوى النفس أدى الى الغرق‪ .‬وأما‬
‫الغرق ‪ :‬فهو عدم القدرة على النفس لكظمه فهو غير متنفس ول غائاب فإذا قوى عليه دخل في الغيبة‪ .‬وأما الغيبة‪ :‬فهي اسم للذهول‬
‫عن المهمات بما هو أهم منها ‪ .‬وأما السكر ‪ :‬فهو اسم يشار به الى سقول التمالك في الطرب فإذا لحقته العناية أصحاه ليزيده علما‬
‫‪ ،‬لن السكران ل يرتقى بالمسكر في الحق والصحو إنما هو بالحق ‪ .‬أما السكر في الحق ‪ :‬فهو أن يتبرأ من نفسه ومن التذاذه‬
‫وأحواله فإذا منح بعد ذلك بشهود الذات كوصف بالقيومية وهي صفات اللوهية فأفتنه عما سوى معبوده ثم فنى عن فنائاه ‪ .‬وأما‬
‫الفناء ‪ :‬فحقيقته في الحس تلشي الجسام والعراض وذهابها بالكلية ‪.‬‬
‫ولما كان ما سوى ا تعالى موجودا بال وقائاما به ل بنفسه كان وجوده مجازا وكان القائام بنفسه المقيم لغيره وجوده ثابتا حقيقيا‬
‫استعير لمن أكرم بهذه المعرفة لفظ الفناء لتلشي الموجودات في عين قلبه حيث شهد الكل مع القدرة ‪ ،‬كالطفل ل حكم له في الفعل‬
‫‪ ،‬فإذا أيد هذا العبد وكمل رقاه الى مقام البقاء ‪ .‬لنه إذا لم يبق في القلب التفات الى غير ا تعالى لدوام الشغل به عبر عن هذه‬
‫الحالة بالبقاء مع ا بال تعالى ‪ ،‬والوجود والبقاء اسمان‬
‫صفحة ‪131‬‬
‫مترادفان على معنى واحد‪ ،‬فالوجود اسم للظفر بحقيقة الشيء والبقاء هو أجل الحقائاق التي يقصد الظفر بها‪ .‬وكذلك مقام الجمع ‪.‬‬
‫قال بعض السادة ‪ :‬الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الشارة ومعناه أن يكون مذكورا بال تعالى ومذكورا منه تعالى والحمد ل وحده ‪.‬‬
‫الباب الثامن‬
‫في بيان معنى النس بال تعالى‬
‫اعلم ‪ :‬أن من أجل مواريث المحبة النس‪ .‬أما حقيقة النس ‪ :‬فهو استبشار القلب وفرحه لما انكشف له من قرب ا تعالى وجماله‬
‫وكماله ‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬حقيقة القرب فقد جس الشياء من القلب وهدوء الضمير الى ا تعالى‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا هو الوسيلة لنيل القرب ل نفس القرب ‪ ،‬لن هذا طهور القلب عما سوى ا تعالى وإذا تطهر القلب عما سوى ا‬
‫تعالى كان حاضرا مع العبد ‪ ،‬لنه ليس بين العبد وبين ا إل حجاب نفسه وعوارضها‪ .‬فإذا فني عنها وعن عوارضها وعلم قيام‬
‫العالم كله بقدرة ا تعالى عرف قرب ا تعالى بها كشفا وإرادته تخصيصا وقدرته إيجادا وإبقاء و الصفات التي ل تفارق‬
‫الموصوف بل صفاته قائامة بالموصوف‪ ،‬فإذا نطق العارف فل ينطق بنفسه‪ ،‬وإذا سمع بنفسه ‪ ،‬وهكذا ورد في الحديث فالعارفون‬
‫تنشأ أحوالهم عن قرب ا تعالى ‪ .‬وأما البرار ‪ :‬فتنشأ أحوالهم عن ملحظة علمهم بوجود الرب مطلقا مع العلم باقتداره على‬
‫المنع والعطاء والسعاد والشقاء ‪ ،‬والعارفون يرون ربهم في الدنيا بعين اليقان والبصائار‪ ،‬وفي الخرى بالبصار أيِ بالعين‬
‫قريب منهم في الدارين وليس قربه منهم في الخرى مخالفا لقربه في الدنيا ال بمزيد اللطف والعطف ‪ ،‬وإل فقد ارتفع هنا وهناك‬
‫قرب المسافة ولم يكن بينه وبين مخلوق إضافة ل في الدنيا وفي الخرة البتة‪ ،‬وهذه المعرفة مثمرة النس بشرط الصفاء والنس‬
‫يثمر السكينة فهي صولة تعدل طغيان القلب وتثبته وتوقفه على حد العتدال في آداب الحضرة ‪ ،‬لن لذة القرب في النس تطير‬
‫ألباب العارفين وتوجب لهم الطغيان ‪ ،‬لن النسان يطغى عند الغنى‪.‬‬
‫وأما الطمأنينة ‪ :‬فهي وجود من بعد اعتدال بفرح واستبشار لمعرفة القلب بالمزيد وهو مستصحبة مع النس لنها مقصودة في‬
‫ذاتها ‪ ،‬والسكينة وسيلة تحثها على الدب والعتدال ‪ ،‬ومن ثمرات المحبة ‪ :‬النبساط والدلل ذلك أن السن إذا دام أنسه واستحكم‬
‫ولم يشوشه قلق القلب لقصور نظره على طيب حاله ثمر ذلك انبساطا في القوال والفعال والمناجاة ‪ ،‬فل يليق ذلك بحال التعظيم‬
‫والجلل الموجبان للمهابة ‪ ،‬فإنه يليق بالمستأنس المنبسط ما ل يليق بالهائاب ‪ ،‬وذلك أن من أفعال ا الجائازة له أن يرضى على‬
‫قوم بفعلهم‬
‫صفحة ‪132‬‬
‫ويغضب به على آخرين أحوالهم وللحكمة السابقة فيهم ‪ ،‬ولذلك يغار على كلمه أن يسمعه إل لهل خاصته ‪ .‬قال ا تعالى ‪" :‬‬
‫وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذنهم وقرا" السراء ‪ . 46‬وعبر عن السر في ذلك فقال ‪ " :‬ولو علم ا فيهم خيرا‬
‫لسمعهم" النفال ‪ .23‬وهذا حجاب الغيرة فحقيقتها حفظ الوقت مع الحق أن يشوشه مشوش شحا عليه ‪ ،‬ومن ثمرات المحبة‬
‫الشوق وهو أفضل من النس ‪ ،‬لن النس قصر نظره على ما انكشف له جمال المحبوب ولم يمتد نظره الى ما غاب عنه‬
‫والمشتاق كالعطشان الذيِ ل ترويه البحار لمعرفته بأن الذيِ انكشف لهم من المور اللهية بالنسبة لما غاب عنه كالذرة بالنسبة‬
‫إلى سعة الوجود ول المثل العلى‪ .‬وهذه املعرفة توجب النزعاج والقلق والتعطش الدائام ‪ ،‬لن حقيقة القلق سرعة الحركة لنيل‬
‫المطلوب مع اسقاط الصبر ‪ ،‬وحقيقة التعطش شدة الطلب لما تأكدت الحاجة إليه ‪ ،‬ومن اشتد قلقه وتعطشه وجد وحقيقة الوجد هو‬
‫الشوق الغالب على قلب الطالب ‪ ،‬وهذا الوجد بعد حصوله له أحوال ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬الدهش ‪ .‬قال تعالى ‪ " :‬فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن" يوسف ‪ . 31‬وحقيقة الدهش غيبة القلب عن إحساسه لما فاجأه‬
‫من المر العظيم ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الهيمان إذا سكن قليل وتكرر طروقه صار القلب متعجبا متحيرا من حسنه وبهائاه وهذا هو الهيمان‪ ،‬لن حقيقة الهيمان‬
‫ذهاب التماسك تعجبا وتحيرا وهو أثبت دواما ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أنسه وتمكينه منه حتى كأنه لم يدخل عليه داخل ولم يطرقه طارق وهذا هو التمكين‪.‬‬
‫قال الشيخ رحمه ا ‪ :‬التمكين إشارة الى غاية الستقرار ‪ ،‬وذلك أن أيِ حالة وجدها المحب مع ا مرة تقوى عليه ‪ ،‬ومرة يقوى‬
‫عليها ‪ ،‬ومرة يتلون ‪ ،‬ومرة يثبت إلى أن يتمكن فيستقر‪ ،‬وهذا جار في كل حال ‪ ،‬فإذا استقر ارتقى إلى غيره ليكون المرتقى إليه‬
‫حال والمرتقى عنه مقاما وا أعلم‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن هذه الحوال إن وجدها العبد في المل دون الخلء فهو معول يجب عليه المحاسبة ومطالبة نفسه بالعلمات ‪ ،‬وإن‬
‫وجدها في‬
‫الخلء دون الملء فهو حسن ولكنه ناقص عن ذروة الكمال إذ الكمال استواء الحالت خلء وملء حضرا وسفرا وفراغا وشغل‪،‬‬
‫لن الفراغ شرط في البداية ل في النهاية‪ .‬وأما حد الواجب من المحبة ‪ :‬فهو الميل المسبب عن نفس العتقاد بأصول اليمان فيما‬
‫يتعلق بذات ا وصفات ه‪ ،‬فإن جهل أصل من الصول نقصت المحبة بقدره وكان عليه إثمان ‪ :‬إثم الجهل وإثم فقد ثمرته‪ .‬وأما‬
‫حقيقة اليمان فهو حضور القلب مع ا تعالى وشهوده الثار الدالة على وجوده ‪ ،‬وا تعالى أعلم وقد قيل ‪:‬‬
‫صفحة ‪133‬‬
‫وليس يدركه بالحول محتال‬ ‫النس بال ل يحويه بطال‬
‫وكلهم صفوة ل عمال‬ ‫والنسون رجال كلهم نجب‬
‫ومن غلب عليه حال النس ولم تكن شهوة إل النفراد والخلوة ‪ .‬وقال الواسطي ‪ :‬ل يصل إلى محل النس من لم يستوحش من‬
‫الكوان كلها ‪ .‬وقال أبو الحسين الوراق ‪ :‬ل يكون النس بال إل ومعه التعظيم‪ .‬لن من استأنست به سقط عن قلبك تعظيمه إل ا‬
‫تعالى ‪ ،‬فإنك لن تزيد به أنسا إل ازددت منه هيبة وتعظيما‪.‬‬
‫وقد يكون النس ‪ ،‬النس بطاعة ا وذكره وتلوة كلمه وسائار أبواب القربات ‪ .‬وهذا القدر من النس نعمة من ا تعالى ومنحة‪،‬‬
‫ولكن ليس هو حال النس الذيِ يكون للمحبين‪ ،‬والنس حال شريف عند طهارة الباطن وكنسه بصدق الزهد وكمال التقوى وقطع‬
‫السباب والعلئاق ومحو الخواطر والهواجس ‪ .‬وحقيقته عنديِ كنس الوجود بثقل لئاح العظمة وانتشار الروح في ميادين الفتوح‬
‫وله استقلل بنفسه يشتمل على القرب فيجمعه به عن الهيبة في الهيبة اجتماع الروح وهذا الوصف الذات‪ .‬وهيبة الذات يكون في‬
‫مقام البقاء بعد العبور على ممر الفناء وهما غير النس والهيبة اللذان يذهبان بوجود الفناء ‪ ،‬لن الهيبة والنس قبل الفناء ظهرا‬
‫من مطالعة الصفات من الجلل والجمال وذاك مقام التلوين ‪ ،‬وما ذكرنا بعد الفناء في مقام التمكين والبقاء من مطالعة الذات ومن‬
‫النس خضوع النفس المطمئانة ومن الهيبة خشوعها ‪ ،‬والخضوع والخشوع يتقاربان ويفترقان بفرق لطيف يدرك بإيماء الروح‬
‫وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب التاسع‬
‫في بيان معنى الحياء والمراقبة ويضاف إليهما الحسان لنه غايتهما وكذلك الرعاية والحرمة والدب لنهن من ثمراتهما‬
‫اعلم ‪ :‬أن الحياء أول مقام من مقامات المقربين كما أن التوبة أول مقام من مقامات المتقين ‪ .‬أما العلم الحامل على الحياء ‪ :‬فهو علم‬
‫العبد باطلع ا تعالى عليه‪ .‬وهذا واجب ‪ ،‬لنه من اليمان بال وبال تعالى‪ .‬وكذا معرفته بعيوب نفسه وقصورها عن القيام بحق‬
‫ربه سبحانه وتعالى وهذا أيضا واجب لنه من اليمان بال تعالى فينفتح من هاتين المعرفتين حال يسمى الحياء ‪ ،‬وهو إطراق عين‬
‫القلب خجل من ا تعالى كتقصيره في واجب حقه تعالى‪ ،‬والقدر الواجب من هذه الحالة ما يحث على ترك المحظورات وفعل‬
‫الواجبات ‪ .‬وأما المراقبة والحسان ‪ :‬فهما لفظان متداخلن على معنى واحد ‪ .‬فأما ثمرة بداية المراقبة فهو‬
‫صفحة ‪134‬‬
‫رعاية الخواطر وكشف ما التبس منها والدب مع ا تعالى بحرمة مراقبته والحياء على الوصف العام والخاص ‪ ،‬وأما الوصف‬
‫العام ما أمر به رسول ا صلى ا عليه وسلم في قوله ‪ " :‬استحيوا من ا حق الحياء " قالوا ‪ :‬إنا نستحيي يا رسول ا قال ‪:‬‬
‫"ليس ذلك ولكن من استحيا من ا حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت والبلى ‪ .‬ومن أراد‬
‫الخرة وترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من ا حق الحياء " ‪.‬‬
‫وهذا الحياء من المقامات ‪ ،‬وأما الحياء الخاص من الحوال وهو ما نقل عن عثمان بن عفان رضي ا عنه أنه قال ‪ :‬إني لغتسل‬
‫في البيت المظلم فأنطويِ حياء من ا عزوجل ‪ .‬وعن أحمد بن صالح قال ‪ :‬سمعت محمد بن عبدون يقول ‪ :‬سمعت أبا العباس‬
‫المؤذن يقول ‪ :‬قال لي سرى ‪ :‬احفظ عني ما أقول لك إن الحياء والنس يطوفان بالقلوب ‪ ،‬فإذا وجدا قلبا فيه الزهد والورع حطا‬
‫وإل رحل ‪ ،‬والحياء إطراق الروح إجلل لتعظيم الجلل والنس التذاذ الروح بكمال الجمال ‪ ،‬فإذا اجتمعا فهو الغاية في المنى‬
‫والنهاية العظمى‪.‬‬
‫قال بعض الحكماء ‪ :‬من تكلم في الحياء وليستحيي من ا عزوجل فيما يتكلم فهو مستدرج‪ .‬وقال ذو النون ‪ :‬الحياء وجود الهيبة‬
‫في القلب مع حشمة ما سبق منك إلى ربك‪.‬‬
‫قال ابن عطاء ‪ :‬العلم الكبر ‪ :‬الهيبة والحياء فإذا ذهب عنه الهيبة والحياء فل خير فيه‪ .‬قال سليمان ‪ :‬إن العباد عملوا على أربع‬
‫درجات على الخوف والرجاء والتعظيم والحياء ‪ ،‬وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء لما أيقن أن ا تعالى يراه على كل حال‬
‫استحيا من حسناته أكثر مما استحيا العاصون من سيئااتهم‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬الغالب على قلوب المستحبين الجلل والتعظيم دائاما‬
‫عند نظر ا تعالى إليهم‪ .‬وأنشد الشيخ أبو النجيب السهرورديِ‪:‬‬
‫أطرقت من إجلله‬ ‫أشتاقه فإذا بدا‬
‫وصيانة لجماله‬ ‫ل خيفة بل هيبة‬
‫والعيش في إقباله‬ ‫الموت في إدباره‬
‫وأروم طيف خياله‬ ‫وأصد عنه تجلدا‬
‫والمراقبة على درجتين مراقبة الصديقين و مراقبة أصحاب اليمين‪.‬‬
‫أما الدرجة الولى ‪ :‬فهي مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم‬
‫صفحة ‪135‬‬
‫والجلل‪ ،‬وهو أن يكون القلب مستغرقا بملحظة ذلك الجلل ومنكسرا تحت الهيبة فل يبقى له متسع لللتفاتات إلى الغير أصل‪،‬‬
‫وهذه المراقبة ليطول النظر في تفصيل ثوابها فإنها مقصورة على القلب ‪ .‬أما الجوارح ‪ :‬فإنها تتعطل عن اللتفات إلى المناجاة‬
‫فضل عن المنظورات ‪ ،‬فإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة فل يحتاج إلى تدبير وتسبب في حفظها عن النحرف عن سنن‬
‫السداد‪.‬‬
‫وأما الدرجة الثانية ‪ :‬فهي مراقبة الورعين من أصحاب اليمين ‪ ،‬وهم قوم غلب اطلع ا تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولكن لم‬
‫تدهشهم ملحظة الجلل‪ ،‬بل بقيت قلوبهم على حد العتدال متسعة للتلفت إلى الحوال والعمال إل أنها مع ممارسة العمال ل‬
‫تخلو عن المراقبة‪ .‬نعم غلب عليهم الحياء من ا تعالى فل يقدمون ول يحجمون إل بدع التثبت فيه ويمتنعون من كل ما‬
‫يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون ا تعالى في الدنيا مطلعا عليهم فل يحتاجون الى انتظار القيامة ‪ ،‬وتعرف اختلف الدرجتين‬
‫بالمشاهدات وا أعلم‪.‬‬
‫الباب العاشر‬
‫في بيان معنى القرب‬
‫قال ا تعالى للرسول عليه الصلة والسلم ‪ " :‬واسجد واقترب" العلق ‪19‬‬
‫وقد ورد أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده ‪ ،‬فالساجد إذا أذيق طهم السجود يقرب ‪ ،‬لنه يسجد ويطوى بسجوده بساط الكون‬
‫ما كان وما يكون ويسجد على طرف رداء العظمة فيقرب ‪.‬‬
‫قال بعضهم ‪ :‬إني ل أجد الحضور ‪ ،‬فأقول ‪ :‬يا ا أو يارب فأجد ذلك أثقل عليي من الجبال ‪ .‬قيل ‪ :‬ولم ذلك ؟ قال ‪ :‬لن النداء‬
‫يكون من وراء حجاب ‪ ،‬وهل رأيت جليسا يناديِ جليسه؟ وإنما هي إشارات وملحظات ومناغاة وملطفات ‪ ،‬وهذا الذيِ وصفه‬
‫مقام عزيز يتحقق فيه القرب ولكنه مشعر بمحو مؤذن بسكر يكون ذلك لمن غابت نفسه في نور روحه لغلبة سكره وقوه محوه ‪،‬‬
‫فإذا صحا وأفاق تتخلص الروح من النفس والنفس من الروح ويعود كل من العبد إلى محله ومقامه ‪ .‬فيقول ‪ :‬يا ا ويارب بلسان‬
‫النفس المطمئانة العائادة إلى مقام حاجتها ومحل عبوديتها والروح يشتغل بفتوحه بكمال الحال عن القوال ‪ ،‬وهذا أتم وأقرب من‬
‫الول ‪ ،‬لنه في حق القرب باستقلل الروح بالفتوح وأقام رسم العبودية بعود حكم النفس إلى محل الفتقار وحظ القرب ليزال‬
‫يتوفر للروح بإقامة رسم العبودية من النفس‪.‬‬
‫وقال الجنيد ‪ :‬إن ا تعالى يقرب من قلوب عباده على قدر قربهم منه ‪ ،‬فانظر ماذا‬
‫صفحة ‪136‬‬
‫تقرب من قلبك ‪ .‬وقال أبو يعقوب السوسي ‪ :‬مادام العبد يكون بالقرب لم يكن قريبا حتى يغيب عن القرب بالقرب فإذا ذهب عن‬
‫رؤية القرب بالقرب فذلك قرب وقد قال قائالهم‪:‬‬
‫قد تحققتك في السر فناجاك لساني‬
‫فاجتماعنا لمعان وافترقنا لمعاني‬
‫إن لم يكن عيبك التعظيم عن لحظ عياني‬
‫فلقد صيرك الوجد من الحشاء داني‬
‫وقال ذو النون ‪ :‬ما ازداد أحد من ا قربة إل ازداد هيبة ‪ .‬وقال سهل ‪ :‬أدنى مقام من مقامات القرب الحياء‪ .‬وقال النصر آباديِ ‪:‬‬
‫باتباع السنة تنال المعرفة ‪ ،‬وبأداء الفرائاض تنال القرب‪ ،‬وبالمواظبة على النوافل تنال المحبة ‪ ،‬والحمدل وحده‪.‬‬
‫الباب الحاديِ عشر‬
‫في بيان شرف العلم ووجوب طلبه والقدر الواجب منه‬
‫اعلم ‪ :‬أن العلم والعمل لجلهما خلقت السموات والرض ومافيهما‪.‬‬
‫قال ا تعالى ‪ " :‬الذيِ خلق سبع سموات ومن الرض مثلهن يتنزل المر بينهن لتعلموا أن ا على كل شيء قدير وأن ا قد‬
‫أحاط بكل شيء علما " الطلق ‪ 12‬وكفى بهذه الية دليل على شرف العلم ووجوب طلبه ل سيما علم التوحيد‪.‬‬
‫قال ا تعالى ‪ " :‬وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون" الذاريات ‪ . 56‬وكفى بهذه الية دليل على شرف العبادة ولزوم القبال‬
‫عليها فأعظم بأمرين هما المقصود من خلق الدارين فحق العبد أن ليشتغل إل بهما وأن ل يتعب إل لهما ثم العلم هو أشرف‬
‫الجوهرين ‪ ،‬ولكن لبد من العبادة مع العلم و إل كان العلم هباء منثورا ‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أنه يجب تقديم العلم على العبادة لمرين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬لتصح لك العبادة وتسلم ‪ .‬والثاني ‪ :‬هو أن العلم النافع يثمر الخشية‬
‫والمهابة ل تعالى في قلب العبد وهما يثمران طاعة ويحجزان عن المعصية بعون ا تعالى وتوفيقه ‪ ،‬وليس وراء هذين مقصد‬
‫للعبد في عبادة ربه سبحانه وتعالى‪ .‬فعليك بالعلم النافع فيجب عليك أول أن تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لتعرفه بأسمائاه‬
‫وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل عليه في‬
‫صفحة ‪137‬‬
‫نعته فربما تعتقد اعتقادا في صفاته شيئاا مما يخالف الحق فتكون عبادتك هباء منثورا ‪ .‬ثم عليك أن تعلم ما يلزمك فعله من‬
‫الواجبات الشرعية لتفعله على ما أمرت به وما يلزمك تركه من المناهي الشرعية لتتركه‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن العلم الذيِ طلبه فرض لزم لكل مكلف ثلثة أنواع ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬علم التوحيد والذيِ يتعين عليك منه هو مقدار ما تعرف به أصول الدين وقواعد العقائاد كافية فيه‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬علم السر وهو ما يتعلق بالقبل ومساعيه من مواجبه ومناهيه ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬علم العبادات الظاهرة المتعلقة بالبدان والموال ‪ ،‬ثم إن من ا عليك بعلم ما وجب عليك علمه وعمل ما وجب عليك‬
‫عمله وترك ما وجب عليك تركه فقد أديت ما أوجبه ا تعالى عليك وصرت من العلماء العالمين ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬
‫الباب الثاتي عشر‬
‫في بيان معاني السماء الحسنى‬
‫اعلم ‪:‬أن جملة السماء الحسنى ترجع إلى ذات و سبع صفات على مذهب أهل السنة خلفا للمعتزلة و الفلسفة ‪ ,‬ثم إن السم غير‬
‫المسمى و هذا هو الحق‪,‬فحد السم أنه اللفظ الموضوع للدللة على المسمى ‪.‬‬
‫و اعلم أن كمال العبد و سعادته إنما هو في التخلق بأخلق ا تعالى و التحلى بمعاني أسمائاه و صفاته بقدر ما يتصور في حقه ‪ ,‬و‬
‫ل تظنن أن المشاركة بكل وصف يوجب المماثلة‪.‬‬
‫هيهات ألم تعلم أن ا موجود ل في محل ‪ ,‬و أن ا تعالى حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم فاعل و النسان كذلك ايضا ‪.‬‬
‫أفترى أن مثبت هذه الوصاف للنسان يكون مشبها ممثل ‪.‬‬
‫هيهات ليس المر كذلك ‪ ,‬بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع و الماهية و الخاصية اللهية أنه الموجود الواجب الوجود‬
‫بذاته الذيِ بقدرته يوجد كل ما في المكان و جود على أحسن وجوه النظام و الكمال ‪,‬وهذه الخاصية ل يتصور فيها مشاركة و ل‬
‫مماثلة البتة بل ل يعرفها إل ا تعالى و تقدس ‪ ,‬فالخالق كلهم لم يعرفوا إل احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع حى عالم‬
‫قادر ‪ ,‬و هذه المعرفة لها طريقتان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يتعلق بالعالم و معلومه يحتاج إلى مدبر و الخر ‪ :‬يتعلق بال تعالى معلومه أسام‬
‫مشتقة من صفات غير داخله في حقيقة الذات وماهيتها ‪ ,‬فإن قلنا حى عالم قادر معناه شئ مبهم له وصف الحياة و القدرة فما‬
‫عرف أحد إل تقسه أول ثم قايس بين صفات ا تعالى و بين صفات نفسه و تتعالى صفات ا تعالى عن أن تشبه صفاتنا ‪ ,‬فإذا‬
‫يستحيل أن يعرف ا تعالى بالحقيقة‬
‫صفحة ‪138‬‬
‫غير ا تعالى ‪ ,‬بل يستحيل أن يعرف النبوة غير النبي ‪ .‬و أما من ليس بنبى فل يعرف من النبوة إل اسمها ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فما نهاية معرفة العارفين بال تعالى ؟ فنقول نهاية معرفتهم هو أن ينكشف لهم استحالة معرفة حقيقة ذات ا تعالى لغير‬
‫ا تعالى و إنما اتساع معرفة العارفين بال تعالى و انما تكون في معرفة أسمائاه وصفاته فبقدر ما ينكشف لهم من معلوماته و‬
‫عجائاب مقدوراته و بدائاع آياته في الدنيا و الخرة يكون تفاوتهم في معرفته سبحانه و تعالى و ا أعلم‬
‫فصل‬
‫اعلم ‪ :‬ان جملة معاني أسماء ا تعالى الحسنى ترجع إلى عشرة أقسام ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬ما يدل على الذات فقط ‪ .‬كقولك ‪ :‬ا ويقرب منه اسم الحق تعالى إذا أريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬ما يرجع إلى الذات مع سلب مثل القدوس و السلم و الغني و الحد ونظائارها‪ ,‬فإن القدوس هو المسلوب عنه كل ما يخطر‬
‫بالبال و يدخل في الوهم ‪ ,‬و السلم هو المسلوب عنه كل عيب ونقص ‪ ,‬و الغني هو المسلوب عنه كل حاجة ‪ ,‬و الحد هو‬
‫المسلوب عنه النظير و القسمة ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬ما يرجع إلى الذات مع إضافة كالعلى و العظيم ‪ .‬و الول و الخر ‪ ,‬و الظاهر و الباطن ونظائارها ‪ .‬فإن العلى هو الذات‬
‫الذى هو فوق سائار الذوات في الرتبة فهي إضافة ‪ ,‬و العظيم ما يدل على الذان من حيث تجاوز حدود الدراكات ‪ ,‬و الول هو‬
‫السابق على دليل العقل ‪ ,‬و الباطن هو الذات بالضافة الى إدراك الحس و الوهم‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬ما يرجع الى الذات مع سلب و إضافة كالملك و العزيز ‪ ,‬فإن الملك هو الذات التى ل تحتاج الى إليها كل شئ ‪ :‬و العزيز‬
‫هو الذيِ ل نظير له وهو ما تشتد الحاجة إليه و يصعب نيله و الوصول إليه ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬مايرجع الى الذات مع صفه ثبوته كالحى و العالم و القادر و المريد والسميع و البصير و المتكلم ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬مايرجع الى العلم مع إضافة كالحكيم و الخبير و الشهيد و المحصى ‪ .‬فإن الحكيم يدل على العلم مضافا إلى أشرف‬
‫المعلومات ‪ ,‬و الخبير يدل على العلم مضافا إلى المور الباطنة ‪ ,‬و الشهيد يدل على العالم مضافا إلى ما يشاهد و المحصى يدل‬
‫على العلم الذيِ يحيط بمعلومات محصورات معدودة التفصيل ‪.‬‬
‫صفحة ‪139‬‬
‫السابع ‪ :‬ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة كالقوى والمتين والقهار فإن القوة هي تمام القدرة ‪ ،‬والمتانة شدتها والقهر تأثيرها في‬
‫المقدورة بالغلبة ‪.‬‬
‫الثامن ‪ :‬ما يرجع إلى الرادة مع فعل وإضافة كالرحمن والرحيم والرءوف والودود‪ .‬فإن الرحمة ترجع إلى الرادة مضافة إلى‬
‫قضاء حاجة المحتاج الضعيف ‪ ،‬والرأفة شدة الرحمة وهي المبالغة في الرحمة ‪ ،‬والودود يرجع إلى الرادة مضافا إلى الحسان‬
‫والنعام وفعل الرحمة يستدعي محتاجا وفعل الود ل يستدعي ذلك بالنعام على سبيل البتداء‪.‬‬
‫التاسع ‪ :‬ما يرجع إلى الذات مع صفة إضافية كالخالق والبارئ والمصور والوهاب والرزاق والفتاح والباسط والقابض والخافض‬
‫والرافع والمعز والمذل والعدل والمقيت والمغيث والمجيب والواسع والباحث والمبديِ والمعيد والمحيي والمميت والمقدم والمؤخر‬
‫والولي والبر والتواب والمنتقم والمقسط والجامع والمعطي والمانع والمغني والهاديِ ونظائارها ‪.‬‬
‫العاشر ‪ :‬ما يرجع إلى الدللة على الفعل مع إضافة كالمجيد والكريم واللطيف‪ .‬فإن المجيد يدل على سعة الكرام مع شرف الذات‪.‬‬
‫والكريم كذلك ‪ ،‬واللطيف يدل على الفعل مع الرفق ‪ ،‬ول تخرج هذه السامي وغيرها من مجموع هذه السامي عن الترادف مع‬
‫رجوعها إلى هذه الصفات المشهورة والمحصورة وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫اعلم ‪ :‬أن معاني أسماء ا الحسنى مندرجة في أربع كلمات وهن الباقيات الصالحات )سبجان ا والحمدل ول إله إل ا وا‬
‫أكبر(‪.‬‬
‫الكلمة الولى ‪ :‬سبحان ا ومعناها في كلم العرب التنزيه والسلب فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات ا تعالى‬
‫وصفاته فما كان من أسمائاه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب ‪ ،‬والسلم هو الذيِ سلم من كل‬
‫آفة‪.‬‬
‫الكلمة الثانية ‪ :‬قول الحمدل وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته سبحانه وتعالى ‪ ،‬فما كان من أسمائاه متضمنا‬
‫الثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحتها فنفينا بسبحان ا كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه ‪ ،‬وأثبتنا بالحمدل‬
‫كل كمال عرفناه وكل جلل أدركناه وراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الجمال بقولنا ا‬
‫أكبر‪.‬‬
‫وهي الكلمة الثالثة ومعناها ‪ :‬إنه أجل مما نفيناه ومما أثبتناه وذلك معنى قوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬ل أحصي ثناء عليك أنت‬
‫كما أثنيت على نفسك " ‪ ،‬فما كان من أسمائاه متضمنا فوق ما عرفناه وأدركناه كالعلى والمتعالي فهو مندرج تحت قولنا ‪ :‬ا‬
‫أكبر في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الموجودين من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا ل إله إل ا‪.‬‬
‫صفحة ‪140‬‬
‫وهي الكلمة الرابعة ‪ :‬إذ اللوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ول يستحق العبودية إل من اتصف بجميع ما ذكرناه‪ ،‬فما كان من‬
‫أسمائاه متضمنا ل للجميع على الجمال كالواحد الحد وذو الجلل والكرام فهو مندرج تحت قولنا ل إله إل ا‪ .‬وإنما استحق‬
‫العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال التى ل يصفها الواصفون ول يعدها العادون ولو أدرجت الباقيات‬
‫الصالحات في كلمة على سبيل الجمالى وهى ‪ :‬الحمد ل لندرجت فيها كما قال السيد الجليل والمام الحفيل على بن أبي طالب‬
‫رضي ا عنه ‪ ) :‬لو شئات أن أوقر بعيرال من قول الحمد ل لفعلت(‪ .‬فإن الحمد ل هو الثناء والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وسلب‬
‫النقص أخرى‪ ،‬وتارة بالعتراف بالعجز عن إدراك الدراك تارة بإثبات التفرد بالكمال والتفرد والكمال من أعلى مراتب المدح‬
‫والكمال‪ .‬وقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات الصالحات لن اللف واللم فيها لستغراق جنس المدح والحمد ما‬
‫عملناه وجهلناه ول خروج للمدح عن شئ مما ذكرناه ‪ .‬ول يستحق اللهية إل من اتصف بجميع ما ذكرناه‪ ،‬ول يخرج عن هذا‬
‫العتقاد ملك مقرب ول نبى مرسل ول أحد من أهل الملك إل من خذله ا واتبع هواه وكان أمره فرطا ل وعصى موله أولئاك قوم‬
‫قد غمرهم ذل الحجاب وطردوا عن الباب وأبعدوا عن ذلك الجناب‪ ،‬وحق لمن حجب في الدنيا عن إجلله ومعرفته أن يحجب فى‬
‫الخرة عن إكرامه ورؤيته‪.‬‬
‫الباب الثالث عشر‬
‫فى العتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة ومعنى العتقاد اتخاذ عقد صورة علم أو ظن في القلب بوجود المغيبات والعلم العتقاد‬
‫الجازم الثابت المطابق للواقع‬
‫وقال بعض الكبار‪ :‬العلم نور إذا نزل في القلب ينقذ شعاعه إلى حيث المعلوم ويتعلق به كما يتعلق نور العين بالمرئاى العتقاد‬
‫الصحيح هو الخالى عن التعطيل واللحاد والتشبيه والتجسم والتكييف والنقص والحلول والتحاد والباحة‬
‫و غير ذلك ‪ ،‬وأن يكون معه التنزيه والعظمة والكبرياء كما كانت الصحابة رضى ا عنهم ‪ .‬ودليله الكتاب والسنة واجتماع‬
‫المة‪ ،‬ثم قال ‪ :‬على العبد أن يتعلم أن ا تعالى واحد فرد صمد فى ذاته وصفاته‪ ،‬ل مثل له في ذاته ول نظير له فى صفاته‪ ،‬ل‬
‫شريك له فى ملكه‪ ،‬ول حدوث في صفاته‪ ،‬ول زوال ول بداية لقدمه ول نهاية لبقائاه دائام الوجود ول آخر له قيوم الموجودات ل‬
‫انقطاع له لم يزل ول يزال موصوفا بصفات الجلل والجمال ل نهاية لكبريائاه ول غاية لعظمته وجلله‪ .‬ليس بجسم ول جسمانى‬
‫ول بروح ول روحانى ول بجوهر محدود ول‬
‫صفحة ‪141‬‬
‫تحله الجواهر ‪ ،‬بل هو خالق الشياء أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوال أحد منزه عن الحركة والنتقال والجهة والمكان‬
‫وأنه تعالى قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ‪ .‬قربه من الخلق ليس كقرب الخلق بعضهم من بعض‪ ،‬بل‬
‫هو قريب يليق به تعالى‪.‬‬
‫سئال الجنيد – قدس ا تعالى روحه – عن القرب فقال ‪ :‬قريب ل بالتزاق وبعيد ل بافتراق ول كيفية لقربه معيته‪ ،‬كما أنه ليس‬
‫كمثله شىء كذلك قربه ومعيته ليس كمعية أحد وقربه وأنه تعالى كان ولم يكن معه شىء وهو الن على ما هو عليه‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم ‪ :‬أن من أجرى الستواء على العرش على ما ينبئ عنه ظاهر اللفظ وهو الستقرار على العرش ‪ .‬فقد التزم التجسيم وإن‬
‫تشكك في ذلك كان فى حكم المصمم على التجسيم أيضلا‪ ،‬وإن قطع باستحالة الستقرار على العرش فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد‬
‫أهل الحق‪ .‬وكذلك من أجرى النزول على ما ينبئ عنه ظاهر اللفظ وهو الحركة والنتقال‪ ،‬فقد التزم التجسيم أيضلا‪ ،‬وإن قطع‬
‫باستحالة الحركة والنتقال فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد أهل الحق‪.‬‬
‫واعلم‪ :‬أن العراض عن تأويل المتشاب خوفا ا من الوقوع في محظور من العتقاد يجر إلى الشك واليهام واستزلل العوام‬
‫وتطريق الشبهات إلى أصول الدين وتعريض بعض آيات كتاب ا العزيز إلى رجم الظنون والحمد ل وحده وهذه العقيدة‬
‫الصحيحة السليمة لصاحب قلب سليم سلم من البدعة ومن استيلء وساوس الشيطان و هواجس النفس وزين بالتقوى وأيد بالهدى‬
‫وهذب بالورع وغذى بالذكر وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب الرابع عشر‬
‫في بيان صفات ا تعالى‬
‫الصفات الثبوتية سبعة وهى‪ :‬الحياة والعلم والرادة والقدرة والسمع والبصر والكلم‪ ،‬وكل صفة من هذه الصفات لها تعلق إل‬
‫الحياة فإنها ينبوع الكمالت ‪ ،‬فالعلم يتعلق بكل واجب وجائاز ومستحيل ‪ ،‬فالواجب هو ذات ا تعالى وصفاته ‪ ،‬والجائاز هو جميع‬
‫الممكنات‪ ،‬والمستحيل هو الذى ل يمكن وجوده‪ ،‬والرادة تعلقها تخصيص والتخصيص‬
‫صفحة ‪142‬‬
‫ترجيح أحد الممكنات من العدم إلى الوجود على ما يريد أن يبرزه ‪ ،‬والقدرة تعلقها تأثير والتأثير هو إبراز معدوم أو إعدام موجود‬
‫‪ ،‬فلول سبق العلم لم يحصل‬
‫تخصيص الرادة ‪ ،‬ولول تخصيص الرادة لم يحصل تأثير القدرة‪ ،‬والسمع يتعلق بكل مسموع قديم أو حادث‪ ،‬والكلم يتعلق‬
‫بجميع ما يتعلق به العلم‪ ،‬وهذه الصفات كلها قائامة بذات ا تعالى وهى منقسمة إلى ما يتعلق بغيره كشفا ل كالعلم والسمع والبصر ‪،‬‬
‫وإلى ما يتعلق بغيره من غير كشف ول تأثير ‪ :‬كالكلم ‪ ،‬وأعمها تعلقا ل‪ :‬العلم والكلم وأخصها السمع ومتوسطها البصر‪ ،‬والبقاء‬
‫هو استمرار الوجود وليس هو وصفا ل زائادال على مفهوم الذات‪ ،‬فالشعرية يقولون الحق سبحانه وتعالى حى بحياة ‪ ،‬عالم بعلم‪ ،‬قادر‬
‫بقدرة‪ ،‬مريد بإرادة سميع بسمع ‪ ،‬بصير ببصر متكلم بكلم‪.‬‬
‫ومذهب القدرية‪ :‬أنه حى بذاته ‪ ،‬قادر بذاته مريد بذاته‪ ،‬سميع بذاته ‪ ،‬يصير بذاته‪ ،‬متكلم بذاته وهو خطأ‪.‬‬
‫ومذهب الطبائاعية‪ :‬أن النار محرقة بطبعها‪ ،‬والماء مرو بطبعه‪ ،‬والعيش مشبع بطبعه‪ ،‬والفلك والكواكب مؤثرة بطبعها وقس‬
‫عليه جميع السباب‪.‬‬
‫ومذهب أهل الحق أن المؤثر هو قدرة ا تعالى وأن السباب ل اثر لها ‪ ،‬وا أعلم‪.‬‬
‫واعلم‪ :‬أن الصفات السبع عند الشاعرة معان زائادة على مفهوم الذات وهى ثابتة العيان والحكام‪ ،‬ومعنى ثبوت العيان أنها‬
‫ليست نفس الذات ‪ .‬وقال غيرهم من السادة‪ :‬اعلم أن السماء والصفات نسب وإضافات ترجع إلى عين واحدة إذ ل كثرة هناك‬
‫بوجود أعيان زائادة على الذات المقدسة‪ ،‬كما زعم من لعلم له بال تعالى من بعض النظار‪ .‬فلو كانت أعيانا ل زائادة وما هو إله إل‬
‫بها لكان معلول لها فل يخلو أن تكون هى عينه‪ .‬فالشىء ل يكون معلول لنفسه‪ .‬أو ل تكون فالله ل يكون معلولل لعلة ليست عينه‪.‬‬
‫لن ذلك يقتضى افتقاره وافتقار الله محال فكون السماء والصفات أعيانا ل زائادة محال‪ ،‬فافهم جيدال والحمد ل وحده‪.‬‬
‫الباب الخامس عشر‬
‫في بيان حقيقة الخلص والرياء وحكمهما وتأثيرهما‬
‫اعلم‪ :‬أن الخلص عند علمائانا إخلصان‪ :‬إخلص العمل وإخلص طلب الجر‪.‬‬
‫صفحة ‪143‬‬
‫فأما إخلص العمل‪ :‬فهو إرادة التقرب إلى ا تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته والباعث عليه العتقاد الصحيح وضد هذا‬
‫الخلص النفاق‪ .‬وهو التقرب إلى من دون ا تعالى‪ .‬وأما إخلص طلب الجر‪ :‬فهو إرادة نفع الخرة بعمل الخير وضد هذا‬
‫الخلص‪ :‬الرياء وهو إرادة نفع الدنيا بعمل الخرة سواء أراده ا تعالى أو من الناس ‪ ،‬لن‬
‫العتبار في الرياء بالمراد ل بالمراد منه‪ ،‬وأما تأثيرهما ‪ :‬فهو أن إخلص العمل يجعل الفعل قربة وإخلص طلب الجر يجعله‬
‫مقبولل وافر الجر‪.‬‬
‫وأما النفاق‪ :‬فإنه يحبط العمل ويخرجه عن كونه قربة والرياء يوجب رده‪ ،‬وأما موضع الخلص وفي اى طاعة يقع ويجب‪،‬‬
‫فاعلم أن العمال عند بعض العلماء ثلثة أقسام‪ :‬قسم يقع فيه إخلصان جميعا ل وهو العبادة الظاهرة الصلية‪ ،‬وقسم ل يقع فيه‬
‫إخلص طلب الجر دون إخلص العمل وهو المباحات المأخوذة للعدة‪ .‬وقال شيخنا‪ :‬إن كل عمل يحتمل الصرف إلى غير ا‬
‫تعالى من العبادات الصلية يقع فيه إخلص العمل والعبادات الباطنة أكثرها يقع فيها إخلص العمل ‪ .‬وأما الخلص في طلب‬
‫الجر‪ :‬فكان شيخنا يقول ‪ :‬إذا أراد العامل من ا تعالى بالعبادات الباطنة نفع الدنيا فهو أيضا ل رياء‪ .‬قلت ‪ :‬فل يبعد إذا أن يقع في‬
‫كثير من العبادات الباطنة الخلصان‪ ،‬وكذلك النوافل‪ .‬يجب عليها الخلصان جميعا ل عند الشروع فيها‪ .‬وأما المباحات المأخوذة‬
‫للعدة ‪ :‬فإنه يقع إخلص طلب الجر دون إخلص العمل إذ هى ل تصلح بنفسها أن تكون قربة‪ ،‬بل هى عدة على القربة وهذا‬
‫مواضعها‪ ،‬وأما وقتها‪ :‬فهو أن إخلص العمل يكون مع الفعل يقارنه ل محالة ويتأخر عنه‪ ،‬وإخلص طلب الجر ربما يتأخر‬
‫عنه‪ .‬وعند بعض العلماء ربما يعتبر فيه وقت الفراغ من العمل‪ ،‬فإذا فرغ العمل على إخلص ورياء فقد انقضى المر ول يمكن‬
‫استدراكه بعد‪ ،‬وا أعلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم‪ :‬أنه يجب على العبد أن يتحفظ في العمل من عشرة أشياء‪ :‬النفاق والرياء والتخليط والمن والندامة والعجب والحسرة‬
‫والتهاون وخوف ملمة الناس‪ .‬ثم ذكر شيخنا رحمة ا تعالى ضد كل خصلة منها وإضرارها بالعمل‪ ،‬فضد النفاق إخلص العمل‬
‫ل تعالى‪ ،‬وضد الرياء إخلص طلب الجر‪ ،‬وضد التخليط التقوى‪ ،‬وضد المن تسليم العمل ل تعالى‪ ،‬وضد الذى تحصين العمل‪،‬‬
‫وضد الندامة تثبيت النفس‪ ،‬وضد العجب ذكر المنة ل تعالى‪ ،‬وضد الحسرة اغتنام الخير‪ ،‬وضد التهاون تعظيم التوفيق‪ ،‬وضد‬
‫خوف ملمة الناس خشية ا تعالى‪.‬‬
‫صفحة ‪144‬‬
‫ثم اعلم أن النفاق يحبط العمل والرياء يوجب رده‪ ،‬والمن والذى يحبطان الصدقة في الوقت‪ .‬وعند بعض المشايخ يذهبان‬
‫أضعافها‪ ،‬وأما الندامة فإنها تحبط العمل في قولهم جميعلا‪ ،‬والعجب يذهب أضعاف العمل والحسرة والتهاون يخففان العمل‪ .‬فعليك‬
‫يقطع هذه العقبة المخوفة الخطرة وبال التوفيق‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‪:‬‬
‫صفحة ‪144‬‬
‫الباب السادس عشر‬
‫في الرد على من أجاز الصغائار على النبياء صلى ا عليهم وسلم‬
‫قال القاضي عياض رحمه ا تعالى في كتابة الشفا‪:‬‬
‫اعلم ان المجوزين للصغائار على النبياء صلى ا عليهم وسلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة‬
‫من القران والحديث ان التزموا ظواهرها افضت بهم الى تجويز الكبائار وخرق الجماع ما ل يقول به مسلم‪ ,‬فكيف وكل ما‬
‫احتجوا به مما اختلفوا المفسرون في معناه وتقابلت الحتمالت في مقتضاه وجاءت اقاويل فقهاء السلف بخلف ما التزموه من‬
‫ذلك فاذا لم يكن مذهبهم اجماعا وكان الخلف فيما احتجوا به قديما ل وقامت الدللة على خطأ قولهم وصحة غيره وجب تركه‬
‫والمصير الى ما صح وا تعالى اعلم‪.‬‬
‫فصل فيما يجب على النام من حقوق النبي عليه أفضل الصلة والسلم‬
‫أولها‪ :‬تصديقه في كل ما جاء به وما قاله ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان أنه رسول ا الى كل الناس كافة واتباعه في‬
‫جميع ماأمر به أو نهى عنه‪ ,‬وكذلك محبته ومناصحته وتوقيره وبره والصلة عليه كل ذلك واجب ‪ ,‬لنه مما جاء به صلى ا‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫واعلم ان المة مجتمعة على عصمة النبي صلى ا عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه فل يصل الى ظاهره بشيء من أنواع‬
‫الذى ول الى باطنه بشيء من الوساوس‪ ,‬وكذا عصمته عن الجهل بال تعالى وصفاته او كونه على حالة تنافي العلم بشيء من‬
‫ذلك كله جملة بعد النبوة عقل واجماعا وقبلها سمعا ونقل‪ ,‬ول بشيء مما قرره من أمور الشرع واداه عن ربه عز وجل من‬
‫الوحي قطعا وعقل وشرعا‪ ,‬وكذا عصمته من الكذب وخلف القول من نبأه ا تعلى وأرسله قصدال او غير قصد واستحالته عليه‬
‫عقلل واجماعا ل لمناقضته للمعجزة وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعا ل‪ ,‬وكذا عصمته في جميع حالته من رضى وغضب وجد وهزل‬
‫وصحة ومرض وكذا استحالة السهو والنسيان والغفلة والغلط عليه في الخبار والقوال لبلغية اجماعا ل لمناقضته وجواز السهو‬
‫عليه في الفعال البلغية بشرط ان ل يقر عليه بل ينسبه عليه على الفور لتظهر فائادة النسيان من معرفة الحكم والتباع له فيما‬
‫صفحة ‪145‬‬
‫يشرعه ‪ ,‬وفرقوا بين السهو في الفعال البلغية والقوال البلغية المعجزة على الصدق في القول ومخالفة ذلك يناقض المعجزة‬
‫واما السهو في الفعال ‪ :‬فغير مناقض للمعجزة ول قادح في النبوة ‪ ,‬نعم بل حالة النسيان هنا في حقه صلى ا عليه وسلم سبب‬
‫افادة علم وتقرير شرع كما قال صلى ا عليه وسلم‪ :‬اني)) لست انسى ولكني انسى لسن((‪ .‬وهذه الحالة بعيدة عن سمات النقص‬
‫بل هو زيادة في التبليغ وتمام عليه في النعمة وأما ما ليس طريقة البلغ ول بيان الحكام من افعاله صلى ا عليه وسلم وما‬
‫يختص من امور دينه واذكار قلبه فالذيِ ذهب اليه جماعة الصوفية واصحاب علم القلوب استحالة السهو والنسيان والغفلت‬
‫والفترات عليه في جملة ‪ ,‬وأجاز ذلك الكثر من طبقات علماء المة وذلك بما كلفه من سياسة المة ومقاساة الخلق ومعاناة الهل‬
‫وملحظة العداء ولكن ليس على سبيل التكرار ول التصال بل على سبيل الندور وليس هذا في شيء يحط من مرتبته او يناقض‬
‫معجزته صلى ا عليه وسلم‪.‬‬
‫واعلم انه يجوز طريان اللم والوجاع على ظاهر جسم النبي ليتحقق بشريته ول ل يصل شيئ من ذلك الى باطنه لتعلقه بمشاهدة‬
‫ربه عز وجل والنس به ثم اعلم ان المصير في جميع ما ذكرنا في حق النبياء والملئاكة كالمصير في حق نبينا محمد وعليهم‬
‫اجمعين‪.‬‬
‫فصل في بيان ما يجب على النبي وما يحرم عليه وما يباح له وما خص به الفضائال دون غيره‬
‫فأما ما يجب عليه فهو التهجد والوتر والضحى والضحية والمشاورة وتخيير الزوجات والسواك ومصابرة العدو وان كثروا‬
‫وتغيير المنكر‪.‬‬
‫وأما ما يحرم عليه دون غيره فهو الخط والشعر والصدقة والزكاة ومد عينيه الى ما متع به غيره والمخادعة في الحرب ومسك‬
‫الزوجة المكارهة وفي طلق الرغبة واكل الكراث والثوم والبصل والكل متكئاا وفيه خلف والصح الكراهية ل التحريم ونكاح‬
‫الحرة الكتابية والمة المسلمة وغيرها والصلة على المدين على خلف فيه ولاصلح انه صلى بعد ذلك ونزعه لمة الحرب قبل‬
‫القتال‪.‬‬
‫واما ما يباح له صلى ا عليه وسلم فهو حكمه لنفسه ولفرعه وشهادته وقبوله ايضا لهما وخمس الخمس وحل الغنائام ومن ارادها‬
‫لزم زوجها طلقها ‪ ,‬وله النكاح بل مهر لمن شاء ويصح نكاحه بلفظ الهبة ويجوز اخذخ طعام المحتاج ويلزم المضطر بذله‬
‫ويحيي ما شاء من موات ويقتضى بعلمه ابداد ويجب على خاطره دفع قاصده بسوء ول ينتقض وضوءه بالنوم ول باللمس على‬
‫الصح ول يورث ماله ويلزم الخلية اجابته ويعقد نكاحه بل ولي ول‬
‫صفحة ‪146‬‬
‫شهود وله الزيادة على اربع وعلى وتسع في الصح وله النكاح في الحرام ويصح نكاحه من نفسه وممن شاء‪.‬‬
‫وانا ما خص به من الفضائال فهو ان ازواجه الئاي مات عنهم حرام على غيره قطعا ل وكذا اللتي فارقهن بعد الدخول في الصح‬
‫وهن امهات المؤمنين وشرعه صلى ا عليه وسلم ناسخ لما قبله يستمر الى انقضاء البد وكتابة المعجز المستمر السالم من‬
‫التبديل والتحريف وهو حجة ا تعالى على عباده وجعلت له الرض مسجدال وطهوراد وأعطى خمسة شفاعات وخص بالشفاعة‬
‫العظمى وهو اول من يقرع باب الجنة وامته خير امة ول تجتمع على ضلل وهو اول شافع مشفع واول من تنشق عليه الرض‬
‫وتصف امته كالملئاكة يوم القيامة وفضلته طاهرة على الصح يتبرك بها ويشفى بها ويرى من ورائاه كما يرى امامه ول يحل‬
‫مناداته من وراء حجرته وصلته في النقل قاعداد في اجره كصلته في الوقوف ول يجوز ندائاه باسمه واعطى جوامع الكلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم ان ا تعالى قد حرم اذى النبي صلى ا عليه وسلم في القران ولعن مؤذيه واجتمعت المة على قتل مستقصيه وسابه من‬
‫الملسمين تصريحا ل كان او تعريضا ل واما ما هو حقه سب او نقص‪.‬‬
‫فاعلم انه من سبه او عابه او الحق به نقصا ل في خلقه او خلقه او دينه او خصلة من خصاله او نسبه او عرض به او سبهه بشيء‬
‫على طريق السب له او الزراء عليه او التصغير بلسانه فهو ساب له وسابه بقتل وكذا حكم من غيره بما جرى من البتلء‬
‫والمحنة عليه او غمضه ببعض العوارض البشرية الجائازة عليه وهكذا كله باجماع من العلماء من لدن الصحابة الى الن‪.‬‬
‫قال ابن المنذر رحمه ا تعالى‪ :‬أجمع عوام اهل العلم على ان من سب رسول ا صلى ا عليه ويسلم يقتل وممن قال بذلك مالك‬
‫والليث واحمد واسحاق ومذهب الشافعي وهو مقتضى مذهب ابي بكر الصديق رضي ا عنه وعنهم فل تقبل توبته عند هؤلء‬
‫وبمثله قال ابو حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والوزاعي في المسلم لكنهم قالوا ‪ :‬هي ردة‪ ,‬وا أعلم‪.‬‬
‫صفحة ‪147‬‬
‫الباب السابع عشر‬
‫في معرفة الخواطر واقسامها ومحاربة الشيطان وقهره والتدبير في دفع شره وان يستعيذ بال تعالى منه اول ثم يحاربه بثلثا‬
‫اشياء‬
‫احدهما ‪ :‬ان تعرف مكائاده وحيله ومخادعاته‪.‬‬
‫والثاني ان تستخف بدعوته فل تعلق قلبك بها‪.‬‬
‫والثالث ان تديم ذكر ا تعالى بقلبك ولسانك فان ذكر ا تعالى في جنب الشيطان كالكلة في جنب ادم ‪ ,‬فأما معرفة مكائاده فانه‬
‫يستبين لك بمعرفة الخواطر واقسامها ‪ ,‬فاعلم ان الخواطر اثار تحدث في قلب العبد تبعثه على الفعل او الترك وحدوث جميعها في‬
‫القلب من ا تعالى اذ هو خالق كل شيء لكنها اربعة اقسام‪ :‬فقسم منها يحدثه ا تعالى في قلب العيد ابتداء فيقال له الخاطر فقط‪,‬‬
‫وقسم يحدثه موافقا د لطبع النسان فيقال له هو النفس‪ ,‬وقسم يحدثه عقب دعوة الشيطان فينسب اليه ويقال له الوسواس وقسم يحدثه‬
‫ا ويقال له اللهام ‪ ,‬ثم اعلم ان الخاطر الذيِ من قبل ا تعالى ابتداء قد يكون خيرا س اكراما ل والزاما ل للحجة‪ .‬وقد يكون شرا ا امتحانا ا‬
‫‪ ,‬والخاطر الذيِ يكون من قبل الملهم ل يكون ال بخير اذ هو ناصح مرشد ل يرسل ال لذلك‪ ,‬والخاطر الذيِ يكون من قبل هوى‬
‫النفس ل يكون ال بالشر وقد يكون بالخير ل لذاته فهذه انواعها‪:‬‬
‫ثم اعلم انك محتاج الى ثلثة فصول‪:‬‬
‫فاما الفصل الول قال العلماء رضي ا عنهم اجمعين اذا اردت ان تعرف خاطر الخير من خاطر الشر وتفرق بينهما فزنه باحد‬
‫الموازين الثلثة يبين لك حاله‪:‬‬
‫فالول هو ان تعرضه على الشرع فان وافق جنسه فهو خير وان كان بالضد اما برخصة او بشبهة فهو شر ‪ ,‬فان لم يبين لك بهذا‬
‫الميزان فاعرضه على القتداء بالصالحين‪ ,‬فان كان فيه اقتداؤهم فهو خير ول فهو شر‪ ,‬وان لم يبين لك بهذا الميزان‪ ,‬فاعرضه‬
‫على النفس والهوى ‪ ,‬فان كان مما تميل النفس ميل طبع ل ميل رجاء الى ا تعالى فهو شر‪.‬‬
‫واما الفصل الثاني‪ :‬اذا اردت ان تفرق بين خاطر شر ابتداء من قبل الشيطان او من قبل النفس او من ا تعالى ‪ ,‬فانظر فيه ثلثة‬
‫اوجه‪:‬‬
‫صفحة ‪ 148‬مجموعه رسائال المام الغزالي‬
‫أحدها ‪ :‬إن وجدته ثابتا راتبا مصمما على حاله واحد فهو من ا تعالي او من هوى نفسه‪ ،‬و إن وجدته مترددا مظطربا فهو من‬
‫الشطان‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬إن وجدته عقب ذنت احدثته فهو من ا تعالي ول يزول فهمو من هوى النفس ‪ ،‬وإن وجدته يضعف من ذكر ا فهو من‬
‫الشيطان ‪.‬‬
‫وثالثها ‪ :‬إن وجدته ل يضعف ول يقل من ذكر ا تعالى ول يزول فهوى من هوى النفس ‪ ,‬وإن وجدته يضعف من ذكر ا فهو‬
‫شيطان‪.‬‬
‫وأما الفصل الثالث ‪ :‬إذا أردت ان تفرق بين خاطر خير يكون من ا تعالى او من الملك فانظر فى ذلك من ثلثة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها‪:‬إن كان مصمما على حاله واحده فهو من ا تعالي ‪ ،‬وإن كان مترددا فهو من الملك إذا هو بمنزلة ناصح ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬إن كان عقب اجتهاد منك وطاعه فهو من ا تعالى‪ ،‬وإل فهو من الملك ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬إن كان فى الصول والعمال الباطنه فهو من ا تعالى وإن كان في الفروع والعمال الظاهرة فهو من الملك فى الكثر‬
‫‪ ،‬إذا الملك ل سبيل له إلى معرفه باطن العبد في قول أكثرهم ‪ ،‬وأما خاطر الخير الذيِ يكون من قبل الشيطان استدراجا إلى شر‬
‫يربو عليه عليه ‪ ،‬فانظر فإن وجدن نفسك فى ذلك الفعل الذيِ يخطر بقلبك مع نشاط ل مع خشيه ‪ ،‬ومع عجلة ل مع تأن ‪ ،‬ومه آمن‬
‫ل مع خوف ‪ ،‬ومع عمى العاقبه ل مع بصيره ‪ ،‬فاعلن انه من الشيطان فاجتنبته ‪ ،‬وإن وجدت نفسك على ضد ذلك فاعلم انه من ا‬
‫تعالي او من الملك قلت انا وكان النشاط خفة فى النسان للفعل من غير بصيره وذكر ثواب ينشط فى ذلك ‪ .‬واما التأني فمحمود إل‬
‫فى مواضع معدوده ‪ ،‬وإما الخوف ‪ :‬فيحتمل أن يكون فى أتمامه وأدائاه على حقه وقبول ا تعالى إياه‪.‬‬
‫وأما بضارة العاقبه ‪ :‬فبأن تتبصر وتتيقن أنه رشد وخير ‪ ،‬ويحتمل ان يكون لرؤيه الثواب فى العقبى ورجائاه ‪ .‬فهذه الفصول‬
‫الثلثه التى لزمتك معرفتها فارعا فإنها من العلوم اللطيفه والسرار الشريفه فى هذا المر ‪ ،‬وبال التوفيق ولي الهدايه‪.‬‬
‫الباب الثامن عشر‬
‫في بيان معنى آفات اللسان وهى عشرون آفة‬
‫أولها‪ :‬الكلم فيها ل يعني ‪ ،‬ثم فضول الكلم ‪ ،‬ثم الخوض فى الباطل ‪ ،‬ثم الرايِ والمجادله ‪ ،‬ثم الخصومه ‪ ،‬ثم التقعير فى الكلم ‪،‬‬
‫ثم الفحش والسب واللعن ‪ ،‬ثم الشعر‪ ،‬ثم المزاح ‪ ،‬ثم السخريه والستهزاء ‪ ،‬ثم إفشاء سر الغير ‪ ،‬ثم الوعد الكاذب ‪ ،‬ثم الكذب فى‬
‫صفحة ‪149‬‬
‫القول واليمين ‪ ،‬ثم الغيبه والنميمه ذو اللسانين ‪ ،‬ثم المدح ‪ ،‬ثم الخطأ فى فحوى الكلم ‪ ،‬ثم سؤال العوام عم ل يبلغه فهمهم من‬
‫صفات ا تعالي ‪ .‬فأما حد الكلم فيما ل يعني ‪ :‬فهو ان يتكلم بما لو سكت عنه لم يأثم ولم يتضرر فى حال ول مآال ‪ .‬وأما فضول‬
‫الكلم ‪ :‬فهو من الزيادة على قدر الحاجه فيما يغني ‪.‬‬
‫وأما الخوض فى الباطل ‪ :‬فهو الكلم فى المعاصي كحكايه أحوال الوقاع ومجالس الخمور وتجبر الظلمه وكحكايه مذاب اهل‬
‫الهواء ‪ .‬وكذا حكايه ماجرة بين الصحابه‬
‫رضى ا عنهم آجمعين على وجه الغستنقاص ببعضهم ام الراء ‪ :‬فهو العتراض على الغير بإظهار خلل فى لفظه او معناه او‬
‫قصده به ‪ .‬وأما المجادله ‪ :‬فهو من مراء يتعلق بالمذاهب وتقريرها ‪ .‬واما الخصومه ‪ :‬فهى لجاج فى الكلم بإظهاره اللدد على‬
‫قصد اليذاء ومزج الخصومه بكلمات مؤذيه ل يحتاج إليها فى نصر الحجه ‪ .‬وأما التعقرفى الكلم فهو تكلف الفصاحه بالتشدق ‪.‬‬
‫وأما الفحش‪ :‬فهو التعبير عم المور المستقبحه بالعبارات الصريحه‪ .‬وأما اللعن ‪ :‬فهو مايكون لجماد أو لحيوان أو لنسان وكل‬
‫ذلك منهى عنه لن اللعن هو البعاد عن ا ‪ ،‬وليجوز اللعن إل على من بتصف بصفه تبعده عن ا تعالى والصفات المقتضيه‬
‫للعن ثلثه ‪ :‬الكفر والبدعه والفسق فيجوز لعن كل صنه من هذه الثلثة فأما لعن شخصيه بعينه من هذه الصناف فل يجوز غل‬
‫على من علم موته على الكفر كفرعون وابي جهل وابي لهب ل حتمال موته على السلم اما الشعر ‪ :‬فحسنه حسن وقبيحه قبيح‬
‫كالكلم ‪ .‬وأما المزاح ‪ :‬فهو منهى عنه إل عن سيسر ل كذب فيه ول أذى – واما السخريه ‪ :‬فهى التنيه على العلوم والنقائاض‬
‫على وجه الضحك منه ومهما كان مؤذيا حرم وإل فل ‪ .‬واما إفشاء السر ‪ :‬فهو حرام وإذا كان فيه إضرار وإم لك يكن فيه إضرار‬
‫فهو لوم ‪ .‬وأما الوعد الكاذب ‪ :‬فهو من علمات النفاق وذلك إنه إذا كان حال الوعد عازما على الخلف وإذا أخلف من غير عذر ‪.‬‬
‫وأنا من عزم على الوفاء وطرا له عذر منعه من الوفاء فذلك ليس بنفاق ‪،‬ولكن ينبقى ان يحرز من صورة النفاق أيضا ‪ .‬وأما‬
‫الكذب في القول واليمين ‪ :‬فهو من قبائاح الذنوب ‪ .‬أما ما رخص فيه من الكذب ‪ :‬فاعلم ان الكلم وسيله إلى القاصد فكل مقصود‬
‫محمود يمكن التوسل إليه بالصدق والكذب جميعا ‪ ،‬فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوسل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح ‪،‬‬
‫وإن كان تحصيل ذلك المقصود واجبا فهذا ظابطه ‪ ،‬وإما حكم الغيبه ‪ :‬فأعلم انها محرمه بالكتاب والسنه وإجماع المه إل ما‬
‫يستثنى منها ‪ .‬وأما حدها ‪ :‬فهو ان ذكر اخاك المسلم فى حال غيبته بما فيه مما يكرهه لو بلغه وسواء ذكر بنقص فى دينه او دنياه‬
‫او قوله او فعله والغمز والرمز و الشاره واليماء والتعريض والكتابه ‪ ،‬فكل ذلك حرام ‪.‬‬
‫الصفحة رقم ‪150‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫أما السباب الباعثة على الغيبة فمنها ‪ :‬ما يتخص بأهل الدين والخاصة من العلماء ‪ .‬فأما ما يخص بالعامة فهو الغضب والحقد‬
‫والحسد وموافقة الرفقاء في الهزل واللعب والستهانة والستحقار والتصنع والمباهاة والترفع على الغير وإرادة التبرؤ من غيب‬
‫نسب إليه ينسبه إلى فعله والمبادرة بتقبيح حال من يخشى أن يستقبح حاله عند كبير أو محتشم‪.‬‬
‫وأما ما يختص بأهل الدين والخاصة من العلماء ‪ :‬فهو الغضب ل تعالى على فاعل المنكر والتعجب من فعله والشفقة عليه‬
‫والرحمة ‪ .‬فهذه من أمغض السباب وأخفاها ‪ ،‬لن الشيطان يخيل للجهلة من العلماء أن الغضب والتخيل إذا كانت ل تعالي كانت‬
‫عذرال مرخصا ل في ذكر السم بالغيبة حاجات مخصوصة ل مندرجة عنها في ذكر السم بالغيبة وهي التظلم إلى الحكام والستفتاء‬
‫والستعانة على إزالة المنكر والتحذير والنصيحة ولتعريف باللقب‪ .‬فهذه ثلثة أمور هي المستثناة فب الشرع من الغيبة‬
‫للضرورة‪.‬‬
‫وأما معالجة مرضها‪ :‬فهو أن تعلم إنك متعرض لسخط ا تعالى بغيبة أخيك المسلم ومحبط لحسناتك على صحائاف من إستغبته‪.‬‬
‫وأما أركان التربة منها‪ :‬فهي العلم والندم والقلع والعزم وإستحلل من إستغتبته بذكر ما إغتبته به إل أن يتعذر عليك فتدعو له‪.‬‬
‫وأما حكم النميمة‪ :‬فاعلم ‪،‬ها محمرمة بالكتاب والسنة وإجماع المة ‪ ،‬وأما حدها ‪ :‬فهو نقل كلم بعض الناس إلى بعض على قصد‬
‫الفساد‪ ،‬وسواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما‪ .‬وأما سببها ‪ :‬فهو إما إدارة السوء بالمنقول عنه أو التحبب إلى‬
‫المنقول إليه والخوض في الباطل ‪.‬وأما معالجة مرضها‪ :‬فهو أن تكف لسانك عنها حذرال من ضررها‪.‬‬
‫وأما أ}كان التوبة منها ‪ :‬فهي العلم والندم والقلع والعزم ‪ .‬وأما ماذا يجب على من نقلت إليه نميمة فهو ستة أمور وهي ‪ :‬أن ل‬
‫يصدقه وأن ينهاه ‪ ،‬وأن يبغضه في ا تعالى لنه بغيض عند ا تعالى ‪ ،‬ويجب بغض من يبغضه ا تعالى ‪ ،‬وأن ل ينم عليه ‪،‬‬
‫وأن ل يتجسس عن المنقول عنه ‪ ،‬وأن ل يسئ الظن‪.‬‬
‫وأعلم أن سوء الظن بالمسلم كسوء القول ‪ .‬وحده أن تحكم على أخيك المسلم بالسوء بما ل تعلمه‪ ،‬أما ذو اللسانين ‪ :‬فهو الذيِ ينقل‬
‫كلم المتعادين بعضهم إلى بعض على جهة الفساد ‪ ،‬فإن لم ينقل كلنا ل ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من العداوة أو وعد‬
‫كلهما بأن يضره أو أثنى عليهما في معاداداتهما أو أثنى على أحدهما ‪ ،‬وكان إن خرجمن عنده يذمه فهو ذو لسانين في ذلك كله ‪،‬‬
‫بل ينبغي له أن يسكت أو يثني على المحق‬
‫صفحة ‪151‬‬
‫منهما في حضوره وغيبته وعند عدوه ‪ .‬وأما المدح ‪ :‬فهو منهى عنه بعض المواضع ‪ ،‬وفيه ست آفات أربع في المادح وإثنان في‬
‫الممدوح ‪ .‬فأما المادح التي في المادح‪.‬‬
‫فالولى ‪ :‬إنه قد يفرط في المدح حتى ينتهي إلى الكذب‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬إنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد ل يكون كذلك ‪ ،‬أو إنه قد ل يكون معتقدال لجميع ما يقوله فيصير به مرائايا ل‬
‫منافقا ل‪.‬‬
‫وثالثهما ‪ :‬أنه قد يقول ما ل يتحققه فيكون كاذبا ل مزكيا ل من لم يزكه ا تعالى وهذا هلك‪.‬‬
‫ورابهما ‪ :‬إنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائاز لن ا تعالى يغضب إذا مدح الفاسق ‪ ،‬وأما الممدوح فيضره‬
‫بالمدح من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه يحدث فيه كبرال وعجبا ل وهما مهلكان‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضى عن نفسه وقل تشمره لر آخرته‪ .‬ولهذا قال الرسول ا صلى ا عليه‬
‫وسلم " قطعت عنق صاحبك" فإن سلم المدح عن هذه ألفات لم يكن به بأس ‪ ،‬بل ربما كان مندوبا ل إليه ‪ .‬ولذلك أثنى رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم على الصحابة رضي ا عنهم أجمعين حتى قال " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح" وقال‬
‫" لو لم أبعث لبعثت يا عمر "‪ .‬وأيِ ثناء يزيد على هذا ولكنه عن صدق وبصيرة وكان أجل رتبة من أن يورثهما ذلك كبرال‬
‫وإعجابا ل ‪ ،‬بل مدح النسان قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إل أن يكون مما لم يورثه ذلك كبرال وإعجابا ل ‪ .‬كما قال صلى ا عليه‬
‫وسلم" أنا سيد ولد أدم ول فخر " أيِ لست أقوله تفاخرال كما يقوله الناس بالثناء على أنفسهم وذلك أن أفتخاره صلى ا عليه وسلم‬
‫إنما كان بال تعالى وبقربه ل بكونه مقدما على غيره من ولد آدم عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وأما الغفلة عن دقائاق الخطأ في فحوى‬
‫الكلم‪ :‬فهو مثل أن يقول ‪ :‬مطرنا بنوء كذا وكذا أو يقول للعنب كرما ل أو نحو ذلك مما نهى عنه من اللفاظ ‪ .‬وأما سؤال العوام‬
‫عما ل يبلغه فهمهم من صفات ا تعالى فهو مثل أن يسأل عن بعض صفات ا تعالى أو عن كلمه أو عن الحروف هل هي‬
‫حادثة أو قديمة فكل ذلك مذموم سؤالهم عنه لعدم فهمهم عنه لئال يلتبس عليهم الحق بالباطل وا تعالى أعلم ‪.‬‬
‫الباب التاسع‬
‫في بيان البطن وحفظه‬
‫في البطن وحفظه ‪ ،‬لن المعدن ومنه تهيج المور في العضاء من خير وشر ‪ ،‬فعليك‬
‫صفحة ‪152‬‬
‫بصيانته عن الحرام ‪ .‬وكذا عن الشبهة ثم فضول أن كانت لك همة في عبادة ا تعالى فأما الحرام أو الشبهة ‪ :‬فإنما يلزمك التحفظ‬
‫عنها لثلثة أمور‪:‬‬
‫الةل‪ :‬حذرال من نار جهنم‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬أن آكل الحرام والشبهة مطرود ل يوفق للعبادة إذا ل يصلح لخدمة ا تعالى تعالى إل كل قلب طاهر ‪ .‬قلت ‪ :‬أليس قد‬
‫منع ا تعالى الجنب من دخول بيته والمحدث من كتابه مع إنهما أثر مباح ؟ فكيف بمن هو منغمس في قذر الحرام والشبهة متى‬
‫يدعو إلى خدمة ا تعالى وذكره الشريف ) كل فل يكون ذلك ( ‪.‬‬
‫والثالث ‪:‬أن آكل الحرام والشبهة محروم ‪ ،‬وإن اتفق له فعل خير فهو مردود عليه وليس له منه إل العناء والكد‪.‬‬
‫وأما حكم الحرام والشبهة وحدهما ‪ :‬فاعلم أن الولى في حدهما أن ما يتقينت كونه ملكا ل للغير منهيا ل عنه في الشرع أو غلب على‬
‫ظنك فهو حرام وأما ما تياوت فيه الماراتان فهو شبهة بشبهة إنه حرام ويشبه أنه حلل ثم اتلمتناع من الذيِ هو حرام محض‬
‫حتم واجب ‪ ،‬والمتناع من الذيِ شبهة تقوى وورع ‪ .‬وأما حكمه ‪ :‬فإعلم ما هو الصل في هذا الكتاب ‪ ،‬وهو أن هنأ شيئاين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬حكم الشرع وظاهره ‪ .‬والثاني ‪ :‬حكم الورع وحقه ‪ .‬فحكم الشرع أن تأخذ مما آتاك ا ممن ظاهره صلح ‪ ،‬ول تسأل‬
‫إل أن يتبيين لك أنه عصب أو حرام بعينه ‪ ،‬وحكم الورع أن تأخذ من أحد شيئاا ل حتى تبحث عنه غاية البحث فتتيقن أن ل شبهة‬
‫بحال وإل فترده ‪.‬فإن قلت ‪ :‬فكان الورع يخالف الشرع وحكمه فأعلم أن الورع من الشرع أيضا ل وكلهما واحد في الصل ‪ ،‬ولكن‬
‫للشرع حكمان حكم الجواز وحكم الفضل الحوط فالجائاز نقول له حكم الشرع والفضل والحوط نقول له ورع واللع تعالى أعلم‬
‫‪.‬‬
‫وأما حد فضول الحلل ‪ :‬فإعلم أن أحوال المباح في الجملة أقسام ‪:‬‬
‫القسم الل ‪ :‬أن يأخذ العبد مفاخرال مكاثرال مرائايا ل فهذا يستوجب على ظاهرة فعله اللوم وعلى باطنه عذاب النار ‪ ،‬لن ذلك القصد‬
‫منه معصية وقد وقع الوعيد لمن قصده ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬أن يأخذ الحلل لشهوة نفسه فذلك منه شيء يوجب الحبس والحساب‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬أن يأخذ من الحلل في حال العذرقدرال يستعيين به على عبادة ربه سبحانه وتعالى ويقتصر عليه فذلك منه حسنه‬
‫وأدب ‪ ،‬ول حساب عليه ول عتاب بل يستوجب به الجر والمدح ‪ ،‬وا تعالى أعلم ‪.‬‬
‫صفحة ‪153‬‬
‫الباب العشرون‬
‫في بيان معرفة حيل الشيطان ومخادعاته‬
‫قال رحمه ا تعالى ورضى عنه ‪ :‬أما معرفة الحيل والمخادعات من الشيطان مع إبن آدم في الطاعات فهي من سبعة أوجه‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ينهاه عن الطاعات فإن عصمه ا منه أمره بالتسويف فإن سلمه ا منه أمره بالعجلة فإن نجاه ا منه أمره بإتمام‬
‫العمل مراءاة فإن حفظه ا تعالى منه أدخل عليه لعجب‪ ،‬فإن رأس منه ا تعالى عليه أمره بالجتهاد في السر وقال له إن ا‬
‫تعالى سيظهره عليك يريد بذلك جريان الرياء فإن أكتفى بعلم ا تعالى نجا منه ‪ ،‬فإن لم يطعمه في شيئ من ذلك كله وعجز عنه‬
‫وقال له ل حاجة لك إلى هذا العمل لنك إن خلقت سعيدال لم يضرك ترك العمل‪ ،‬وإن خلقت شقيا ل لم ينفعك فعله ‪ ،‬فإن عصمه ا‬
‫تعالى منه ‪ ،‬وقال له ‪ :‬أنا عبدوعلى العبد إمتثال أمر سيده ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد نجا منه بتوفيق ا تعالى وإل هلك ‪.‬‬
‫فصل في الحذر من النفس‬
‫قال رحمه ا تعالى ورضى عنه‪ :‬العائاق الرابع النفس ثم عليك بالحذر من هذه ا لنفس فإنها أضر العداء وعلجها أعسر الشياء‬
‫لنها عدو من داخل ‪ ،‬واللص إذا كان من أهل البيت عزت الحيلة فيه وعظم ضرره ولنها أيضا ل عدو محبوب والنسان عم عن‬
‫عيب محبوبه ل يكاد يرى عيبه ول يبصره ‪ ،‬ثم الحيلة في أمرها أن تلجمها بالجام التقوى ولورع ليحصل لك الفائادة المتثال‬
‫والنتهاء وأعلم أنه ل يذل النفس ويكسر هواها إل ثلثة أشياء ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬منعها عن شهوتها ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬حمل أثقال العبادات عليها ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬الستعانة بال تعالى والتضرع إليه وإل فل يخلص من شرها إل بها سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫فصل في بيان ما يواخذ العبد به من أعمال القلب‬
‫وما ل يؤاخذ به‬
‫أعلم‪ :‬أن ها هنا أربعة أحوال للقلب قبل العمل بالجوارح ‪.‬‬
‫صفحة ‪154‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الخاطر وهو حديث النفس ثم الميل ثم العتقاد ثم الهم ‪ .‬فأما الخاطر ‪ :‬فل يواخذ به لنه ل يدخل تحت الختيار ‪ ،‬وكذلك‬
‫الميل وهيجان شهوة النفس ‪ ،‬لنهما ل يدخلن تحت الختبار ‪ ،‬أيضا ل وهما المراد بقوله صلى ا عليه وسلم " عفا ا لمتي ما‬
‫حدثت به أنفسها" فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ول يتبعها عزم على الفعل ‪ .‬فأما الهم والعزم فل‬
‫يسميان حديث النفس‪.‬‬
‫وأما الثالث ‪ :‬وهو لعتقاد‪ ،‬وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن يكون إضطراريا ل أو إختبارال والحوال تختلف فيه‬
‫‪.‬فالختياريِ منه يواخذ به والضطراريِ ل يواخذ به ‪.‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫وأما الرابع ‪ :‬وهو الهم بالفعل ‪ ،‬فإنه يواخذ به إل إن لم يفعل نظر فإن تركه خوفا من ا تعالى زندما على همه كنب له حسنة ‪،‬‬
‫وإن تعوق الفعل بعائاق أو تركه ل خوفا ل من ا تعالى كتب عليه سيئاة ‪ ،‬فإن همه فعل من القلب إختياريِ والدليل القاطع فيه ‪ :‬ما‬
‫روىعن سيدنا ومولنا رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال ‪ " :‬إذا ألتقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل ‪ :‬يا‬
‫رسول ا هذا القاتل فما المقتول ؟ قال " لنه أراد قتل صاحبه" وهذا نص في إنه صار من أهل النار بمجرد الرادة مع قتل‬
‫مظلوما ل فكيف يظن أنه ل يواخذ بالنية والهم كلما دخل تحت إختيار القلب فإنه مواخذ به إل أن يكفره بحسنة ونقض العزم بالندم‬
‫حسنة ‪ ،‬فلذلك كتبت حسنة وأما فوات المراد بعائاق فليس بحسنة‪.‬‬
‫الباب الحاديِ والعشرون‬
‫في بيان ما يجب رعايته من حقوق ا تعالى وهو ضربان‬
‫الول ‪ :‬فعل الواجبات‬
‫والثاني ‪ :‬ترك المحرمات ففعل كل واجب تقوى وترك كل محرم تقوى فمن لتى بخصلة منها فقد وفى في نفسه بها ما رتب على‬
‫تركها من شر الدنيا والخرة مع ما يحصل له من نعيم الجنان ورضا الرحمن‪.‬‬
‫وأعلم ‪ :‬أنه ل يتقرب إلى ا تعالى إل بطاعته وطاعته فعل واجب أو مندوب وترك محرم أو مكروه‪ ،‬فمن تقواه تقديم ما قدم ا‬
‫تعالى من الواجبات على المندوبات ‪ ،‬وتقديم ما قدمه من إجتناب المحارم المحرامات على ترك المكروهات ما يفعله الجاهلون‬
‫الذين يظنون أنهم إلى ا متقربون وهم منه متباعدون فيضع أحدهم الوجبات حفظا ل للمندوبات ‪ ،‬ويرتكب المحرمات تصونا ل على‬
‫ترك المكروهات ‪ .‬فكم من مقيم على صور الطاعات مع إنطواء قلبه على الرياء والغل والحسد والكبر والعجاب بالعمل‬
‫والدلل على ا تعالى بالطاعات ‪ ،‬والتقوى قسمان أحدهما متعلق بالقلوب وهو قسمان ‪:‬‬
‫صفحة ‪155‬‬
‫الول ‪ :‬واجب كأخلص العمل و اليمان‪.‬‬
‫و الثاني ‪ :‬محرم كالرياء و تعظيم الوثان ‪ .‬والثاني منها‪ :‬متعلق بالعضاء الظاهرة كنظر العين ‪ .‬وبطش اليديِ ومشى الرجل‬
‫ونطق اللسان ‪ .‬واعلم أنه أذا صحت التقوى أثمر الورع و الورع ترك ما ل بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس ‪ ،‬وا تعالى‬
‫أعلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم‪ :‬ان خيرات الدنيا و الخرة قد جمعت تحت خصلة واحدة وهى التقوى‪ ،‬وتأمل مافي القرآن من ذكرها كم علق بها من خير‬
‫وكم وعد عليها من ثواب وكم أضاف اليها من سعادة‪ .‬ثم أعلم أن الذيِ يختص به هذا الشأن من أمر العبادة ثلثة أصول ‪:‬‬
‫الول‪ :‬التوفيق و التأييد أول حتى تعمل وهو للمتقين ‪ ،‬كما قال ا تعالى‪ )) :‬أنا ا مع الذين اتقوا (( ‪.‬‬
‫و الثاني ‪ :‬أصلح العمل و اتمام التقصير حتى يتم وهو للمتقين ‪ ،‬كما قال ا تعالى ‪ )) :‬يصلح لكم أعمالكم (( ‪ .‬الحزاب ‪. 81:‬‬
‫و الثالث‪ :‬قبول العمل اذا تم وهو للمتقين ‪ ،‬كما قال ا تعالى ‪ )) :‬انما يتقبل ا من المتقين (( المائادة ‪ .27:‬ومدار العبادة على‬
‫هذه الصول الثلثة التوفيق و الصلح والقبول ‪ .‬وقد وعد ا تعالى ذللك كله على التقوى و أ‪:‬رم به المتقى سأل أو لم يسأل‬
‫فالتقوى هي الغاية التي ل متجاوز عنها و ل مقصد دونها ‪.‬‬
‫ثم أعلم ان حد التقوى في قول شيوخنا ‪ :‬هو تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق عنهك مثله حتى يجعل العبد من قوة العزم على تركها‬
‫وقاية بينه وبين العاصي ‪ .‬فأذا وطن قلبه على ذلك فيحنئاذ يوصف بأنه متق ‪ ،‬ويقال لذللك التوبة و العزم تقوى ‪.‬‬
‫ثم أعلم أن منازل التقوى ثلثة ‪ :‬تقوى عن الشرك ‪ ،‬وتقوى عن البدع ‪ ،‬وتقوى عن المعاصي الفرعية ‪ ،‬ثم شرور ضربان أصلى‬
‫وهو مانهى عنه تأديبا كالمعاصي المحضة ‪ ،‬وشيء غير أصلى وهو ما نهى عنه تأديبا وهي فضول الحلل كالمباحات المأخوذة‬
‫بالشهوات‪ .‬فالولى ‪ :‬تقوى فرض يلزم بتركها عذاب ‪ .‬والثانية ‪ :‬تقوى خير وادب يلزوم بتركها الحبس و الحساب و اللوم ‪ .‬فمن‬
‫أتى الولى فهو في الدرجة الولى من التقوى وتلك منزلة مستقيم الطاعة ‪ ،‬ومن أتى الثانية ‪ :‬فهو الدرجة العليا من التقوى فأذا‬
‫جمع العبد اجتناب كل معصية وفضول ‪ ،‬فقد استكمل معنى التقوى و هو الورع الكامل الذيِ هو ملك أمر الدين‪ .‬وأما الذيِ ل بد‬
‫منه هاهنا فهو مراعاة العضاء الخمسة فإنهن الصول وهي‪ :‬العين والذن واللسان والبطن والقلب‪ .‬فليحرص عليها بالصيانة لها‬
‫عن كل ما يخاف منه ضررال‬
‫صفحة ‪156‬‬
‫من حرام و فضول و اسراف من حلل ‪ ،‬فأذا حصلت صيانة هذه العضاء فترجو أن تكفى سائار أركانه وتكون قد قمت بحق‬
‫التقوى بجميع بدنك ا تعالى ‪.‬‬
‫واعلم أن علماء الخرة رضى ا عنهم أجمعين قد ذكروا فيما يحتاج اليه العبد من هذا المر سبعين خصلة محمودة في اضدادها‬
‫المذمومة ‪ ،‬ثم الفعال و المساعي الواجبة المحظورة نحو ذلك فنظرنا في الصول التي ل بد من ذكرها في علج القلب ‪ ،‬و ل‬
‫غنية عنها البتة في شأن العبادة فرأينا أربعة أمور وهو أفات المجتهدين وفتن القلوب تعوق وتشين وتفسد ‪ ،‬وأربعة في مقابلتها فيها‬
‫قوام العباد و انتظام العبادة واصلح القلوب ‪ .‬والفات البع الول ‪ :‬المل و الستعجال و الحسد والكبر ‪ .‬و المناقب الربع ‪:‬‬
‫قصر المل و التأني في المور و النصيحة للخلق و التواضع و الخشوع ‪ .‬فهذه هي الصول في علج القلوب وفسادها ‪ ،‬فابذل‬
‫المجهود في التحرز من هذه الفات و التحصيل لهذه المتاقب تكفى المؤنة و تظفر بالمقصود ان شاء ا تعالى ‪.‬‬
‫فاما طول المل ‪ :‬فانه العائاق عن كل خير ‪ ،‬وطاعة الجالب لكل شر وفتنته الذيِ يوقع الخلق في جميع البليات ‪ .‬واعلم انه طال‬
‫أملك هاج لك من أربعة اشياء ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬ترك الطاعة و الكسل تقول ‪ :‬سوف أفعل ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬ترك التوبة و تسويفها تقول ‪ :‬سوف أتوب‬
‫و الثالث ‪ :‬يجرك الى الرغبة في الدنيا و الحرص عليها تقول ‪ :‬ايِ شي أكل و البس فتهتم لها و أقل مافي الباب أنه يشتغل قلبك‬
‫ويضيع عليك وقتك ويكثر عليك همك ‪.‬‬
‫و الرابع ‪ :‬القسوة في القلب و النسيان للخرة ‪ ،‬لنك اذا أملت العيش الطويل ل تذكر الخرة بل ل تذكر الموت و ل القبر ‪ ،‬فأذا‬
‫يصير فكرك في الدنيا فيقسو قلبك من ذلك كما قال ا تعالى ‪ )) :‬فطال عليهم المد فقست قلوبهم (( ‪ .‬الحديد ‪ . 16:‬وانما رقة‬
‫القلب وصفوه بذكر الموت و القبر و أحوال الخرة ‪.‬‬
‫و أما حد كول المل ‪ ،‬فقال العلماء ‪ :‬هو أرادة الحياة للوقت المتراخى بالحكم ‪ ،‬وقصر المل ترك الحكم فيه بقيده بالستثناء بمشيئاة‬
‫ا ا تعالى وعلمه في الذكر أو بشرط اصلح في الرادة ‪ .‬فاذا ذكرت حياتك بأنك تعيش بعد نفس أو ساعة ثانية بالحكم و القطع‬
‫فأنت أمل ة ذلك منك معصية اذ هو حكم على الغيب ‪ ،‬فأن قيدته بالمشيئاة و العلم ل تعالى بأن تقول ‪ :‬أعيش ان شاء ا تعالى ‪ ،‬فقد‬
‫خرجت عن حكم المل ووصفت بقصر المل من حيث تركت الحكم فيه ‪ ،‬و المراد بالذكر ذكر القلب ثو المراد منه توطين القلب‬
‫على ذلك و التثبيت للقلب عليه ‪ ،‬فافهمه راشدا ‪ ،‬ثم المل ضربان ‪ :‬أمل العامة و أمل الخاصة ‪ .‬فأمل‬
‫صفحة ‪157‬‬
‫العامة ‪ :‬هو ان يريد البقاء لجمع الدنيا و التمتع بها ‪ .‬فهذه معصية وضدها قصر المل ‪.‬‬
‫وأمل الخاصة ‪ :‬هو انه يريد البقاء لتمام عمل خير فيه خطر ‪ ،‬وهو ما ل يستقين الصلح له فيه ‪ .‬فانه ربما يكون خير معين ل‬
‫يكون للعبد فيه أو في اتمامه صلح بل يقع في انه ل يقوم بهذا الخير ‪ ،‬فاذا ليس للعبد ابتداء في صلة أو صوم او غيرهما أن يحكم‬
‫بأن يتمه اذ هو غيب ول ان يقصد ذلك قطعا ‪ ،‬بل يفيد يقيده بالستثناء وشرط الصلح ليتخلص من عيب المل وضد ذا المل فيما‬
‫قال اللعلماء ‪ :‬النية المحمودة لن الناوى بالنية المحمودة يكون ممتنعا من المل فهذا حكمه ‪ ،‬واما النية المحمودة ‪ :‬فهى الصل‬
‫الصيل وقذ ذكروا في حدها الجامع التام أنها أرادة أخذ عمل مبتدأ به قبل سائار العمال بالحكم مع ارادة اتمامه بالتفويض و‬
‫الستثناء ‪.‬‬
‫فان قيل ‪ :‬لم جاز الحكم في البتداء ووجب التفويض و الستثناء في التمام ؟ فيقال ‪ :‬لفقد الخطر في البتداء اذ هو الحال البتداء‬
‫ليس بشيء متزاح عنك ولثبوت الخطر في التمام ‪ ،‬لنه يقع في وقت متزاخ ‪ ،‬ففيه خطران ‪ :‬خطر الوصول لنك ل تدريِ هل لك‬
‫في ذلك صلح أم ل ‪ .‬فاذا حصلت الرادة على هذه الشروط تكون حينئاذ نيه محمودة مخرجة عن حكم المل و افاته ‪ ،‬و ا‬
‫تعالى أعلم ‪.‬‬
‫واعلم ان حصن تقصير المل هو ذكر هجوم الموت واخذه على غفلة و غرة فاحتفظ بهذه الجملة فان الحاجة ماسة اليها ودع منك‬
‫القيل و القال من غير طائال وا الموفق ‪ .‬و أما الستعجال و الترقي ‪ :‬فانه الخصلة المفوته للمقاصد الموقعة في المعاصي ‪.‬‬
‫و أعلم أن الصل الصبادة وملكها الورع و الورع اصله النظر البالغ في كل شي و البحث التام عند كل شي هو بصدده من اكل و‬
‫الشرب ولبس وكلم و فعل ‪ .‬فــاذا كان الرجل مستعجل في المور غير متأن متثبت لم يقع منه نظر وتوقف في المور كما يجب‬
‫ويسارع الكل الى الكل كل الطعام فأنه يقع في الحرام و الشبهة و الى كل الكلم فانه يقع في الزلل و كذلك في كل امر يفوته‬
‫الورع و ايِ خير في عبادة بل ورع فحق على العبد ان يهتم لزالة هذ الفة وا الموفق ‪ .‬و ما حد العجلة ‪ :‬فهو المعنى الراتب في‬
‫القلب الباعث على القدام على المر بأول خاطر دون التوقف وضدها الناة وهي المعنى الراتب في القلب الباعث على الحتياط‬
‫في المور و التأنى في اتباعها و العمل بها ‪.‬‬
‫وأما التوقف ‪ :‬فضدها التعسف و الفرق بين التوقف و التأنى ان التوقف يكون قبل الدخول في المر حتى يؤديِ الى كل جزء منه‬
‫حقه ‪.‬‬
‫وأما الحسد ‪ :‬فهو المفسد للطاعات الباعث على الخطيئاات المورث للتعب والهم في غير فائادة ‪ ،‬بل مع كل وزر و الموجب عمى‬
‫القلب كفى بالحاسد اضلل وخسرانا انه عدو‬
‫صفحة ‪158‬‬
‫لنعمة ا تعالى ومعاند لرادته وساخط لقضائاه ‪ .‬واما حد الحسد ‪ :‬فهو أرادة زوال نعمة ا تعالى عن أخيك المسلم مما له في‬
‫صلح ‪ ،‬فانه لم ترد زوالها ولكن أردت لنفسك مثلها فهى غبطة ‪ ،‬فان لم يكن له فيها صلح فأردت زوالها عنه فذلك غيرة فهذا هو‬
‫الفرق بين الخصال ‪ .‬و أما الحسد ‪ :‬فالنصيحة وهي أرادة بقاء نعمة ا تعالى على أخيك المسلم‬
‫فيما له فيما صلح ‪ ،‬فان اشتبه عليك المر فل ترد زوال نعمة عن أحد من المسلمين ول بقاءها ال مقيدا بالتويفض الى ا تعالى‬
‫لتخلص من حكم الحسد تحصل لك فائادة النصيحة ‪ .‬أما حصن النصيحة المانع من الحسد ‪ :‬فهو ذكر ما اوجبه ا من موالة‬
‫المسلمين ‪ ،‬وحصن هذا الحصن هو ذكر ما عظم ا تعالى من حقه ورفع قدره وما له عند ا تعالى من الكرامات في العقبى وما‬
‫لك من الفوائاد الدينية الدنيوية دنيا و أخرى وا الموفق ‪ .‬وأما الكبر ‪ :‬فهو الخصلة المهلكة رأسا أما تسمع قول ا تعالى عن‬
‫ابليس ‪ )) :‬أبى و استكبر وكان من الكافرين (( البقرة ‪ . 34 :‬واما حد الكبر ‪ :‬فاعلم انه خاطر في رفع النفس و استعظامها و‬
‫التكبر اتباع ما ينافى التواضع و كل واحد منهما عام وخاص ‪ ،‬فالتواضع العام هو الكتفاء بالدون من الملبس و المسكن ومافي‬
‫معناها و التكبر في مقابلته الترفع عن ذلك وهو معصية كبيرة ‪.‬‬
‫واعلم ان حصن التواضع العام هو ان تذكر مبدأك ومنتهاك ‪ ،‬وما انت عليه الن من ضروب الفات و القذار ‪ ،‬وحصن التواضع‬
‫الخاص وهو ذكر عقوبة العادل عن الحق فهذه جملة كافية كافية لمن استبصر وا تعالى الموفق ‪.‬‬
‫الباب الثاني و العشرون في‬
‫بيان المعنى حقيقة حسن الخلق وسوئاه‬
‫اعلم ان السعادة كلها و الباقيات الصالحات أجمعها التى تبقى معك اذا غرقت سفينتك في شيئاين ‪ :‬الول ‪ :‬سلمة القلب وطهارته‬
‫من غير ا تعالى لقوله ‪ )) :‬ال من أتى ا بقلب سليم (( الشعراء ‪ . 89 :‬و الثاني ‪ :‬امتلء القلب بمعرفة ا تعالى التر هي‬
‫المقصودة من خلق العالــم وبعثه الرسل صلى ا عليهم وسلم ‪ ،‬وحسن الخلق ‪ :‬هو الجامع لهما ول أعلم خصلة تزيد عليه في‬
‫الفضل ‪ ،‬ولذلك امتدح ا تعالى به نبيه محمدا صلى ا عليه وسلم فقال ا تعالى ‪ )) :‬وانك لعلى خلق العظيم (( ‪ .‬القلم ‪ . 4:‬وقال‬
‫ا تعالى ‪ )) :‬اليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه (( ‪ .‬فاطر ‪ . 1 :‬و الكل الطيب هو التوحيد و المعرفة و العمل‬
‫الصالح هو الطهارة القلب الرافعة لقدر التوحيد و المعرفة ‪ ،‬ومعنى الرفعة‬
‫الصفحة رقم ‪159‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫هو حضور القلب وتأثيره بهما لينقاد خضوعا ومسكنة ومهابة ‪ .‬فحينئاذ يكون قريبا من ا تعالى ‪ .‬فأما حقسقة حسن الخلق ‪ :‬فاعلم‬
‫أن للنسان صورة باطنة وهي التي بعثت النبياء عليهم السلم بتقويمها وتزكيتها وكمال إعتدالها وذلك أن تصدر عنها الخلق‬
‫المحمودة بسهولة بل روية ول فكر ‪ .‬وهذا هو معنى حقيقة حسن الخلق ‪ ،‬وسوء الخلق يكون بعكس ذلك ‪ .‬واعلم أن جملة‬
‫الخلق المحمودة والمذمومة تصدر عن ثلث صفات هن كالمهات ‪:‬‬
‫الصفة الولى ‪ :‬العقل وقوته وإعتداله بالعلم والحكمة وحقيقة الحكمة معرفة الحق من الباطل في العتقادات والصدق من الكذب‬
‫في القوال والحسن من القبيح في الفعال‪.‬‬
‫الصفة الثانية ‪ :‬قوة الغضب الدافعة للضرر وهي خلقت لذلك فكمالها وإعتدالها أن تكون منقادة للحكمة أن أشارت الحكمة لها‬
‫بالسترسال أسترسلت أو بالنقباض إنقبضت كالكلب المعلم ‪.‬‬
‫الصفة الثالثة‪ :‬قوة الشهوة الجالبة للنفع وهي خلقت أيضا ل مطيعة للعقل فحسنها وإعتدالها في إذعانها للحكمة ‪ .‬وإعلم أن المطلوب‬
‫من الخلق العتدال والوقوف على وسط المور لقوله ‪ ) :‬ول تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط ( ) سورة‬
‫السراء ‪ (29‬فصار العدل من هذه الصفات الثلث ركنا ل رابعا ل ‪ .‬فأما مثال العتدال في الصفات فبحسبها وإعتدالها يصدر عنها‬
‫التدبير وجودة الذهن والتفطن لدقائاق العمال وخفايا آفات النفس ‪ ،‬وأما إفراطها فيصدر عنه المكر والخداع والدهاء وشبه ذلك ‪،‬‬
‫ومن تفريطها يصدر البله والغباوة والحمق والجنون‪ .‬فأما الغباوة ‪ :‬فهي قلة التجربة والحمق صحة القصد مع فساد السلوك‬
‫والجنون فسادهما جميعا ل‪ .‬وأما قوة الغضب ‪ :‬فلها إعتدال يسمى الشجاعة يصدر عنه الكرم والنجدة وكظم الغيظ والوفاء بالعهد ‪،‬‬
‫ولها إفراط يصدر عنه التكبر والعجب والستعاطة وشبه ذلك ‪ ،‬ولها تفريط يصدر عنه المهانة والذلة والجزع والنقباض مع‬
‫تناول الحق الواجب ‪ .‬وأما قوة الشهوة ‪ :‬فلها إعتدال يسمى العفة يصدر عنه السخاء والصبر ولورع والمساعدةوقلة الطمع ‪ ،‬ولها‬
‫إفراط يصدر عن الحرص والشره وشبههما ‪ ،‬ولها تفريط يصدر عنه الحسد والشماته والعتب وشبه ذلك فأمهات محاسن الخلق‬
‫الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والمكمل لكل واحدة من الثلث وما سوى ذلك فروع لهذه الربعة ‪ ،‬لم يبلغ كمال هذه الربع إل‬
‫سيدنا رسول ا صلى ا عليه وسلم وبال التوفيق ‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪160‬‬
‫فصل في بيان حد التواضع وحقيقته ونهايته وعلمته‬
‫وعلى الجملة فالتواضع متخلق بأخلق ا تعالى وكفى بها شرفا ل في الخرة وهو معنى قوله صلى ا عليه وسلم ‪" :‬من تواضدع ل‬
‫رفدعاه ا" ‪ .‬فأما حد التواضع ‪ :‬فهو ضبط الحوال والختيار عن التفريط والفراط فل تتكبر ول تتخاسس ‪ .‬وأما حقيقته ‪ :‬فهو‬
‫الذل والذعان والنقياد للحق بسهولة والحق يطلق على ا تعالى وعلى أمره‪ .‬وأما نهايته ‪ :‬فهو أن ل يحس بالذل إذا مدح ول‬
‫يتألم بالذم إذا ذم لعلمه بحكمة ا سبحانه وتعالى وتوحده بالفعال ‪ ،‬لن العبد ل يحس بالذل بين يديِ سيده وهذه طريقة الموحدين ‪،‬‬
‫لن المتواضع يرى لنفسه قدرال فيضعه والموحد ل يرى لنفسه قدرال حتى يضعه ‪ .‬فالمتواضع ضابط لفعاله الختيارية فل يتكبر‬
‫ول يتخاسس ‪ ،‬وإن جرى عليه ذل من غير اختياره ‪ ،‬وطريقة الولياء الرضى ووجدان اللذة ‪ ،‬لنه جرى بقدر ا تعالى وعلمه‬
‫وإرادته فهو ل يحس بالذل لقصور نظره على حكم ا تعالى وجميل فعله إنما يحس بالذل المتكبر الجاهل الغافل القاصر نظره‬
‫على فعل الفعال ‪ ،‬وكلما كان أكثر ذل كان أكثر كبرال ‪ .‬وأما العلماء بال تعالى فل يشهدون لغير ا ول يتهمونه في حكم من‬
‫الحكام ‪ ،‬بل يعرفون أن ذلك علمة كرامتهم‪.‬‬
‫وقد أشار بعض الئامة رحمهم ا تعالى إلى أن المعرفة ل توجد إل في قلوب المتواضعين الذين صار الذل صفتهم الذاتية فهم‬
‫بقدرة ا تعالى ونظره ينقلبون إن رفعوا إلى السماء لم يزدادوا في نفوسهم كمالل وإن خفضوا إلى منتهى الخفض لم يجدوا في‬
‫أنفسهم نقصا ل كذلك ‪ ،‬لنهم مسلوبوا الرادة والختيار لعلمهم أن الكمال المطلق فيما حكم ا تعالى وقضاء فيهم ‪ ،‬ولنهم يجدون‬
‫المزيد من ا تعالى في أحوالهم بذلك فهو رتب المقربين ‪ .‬وأما الصالحون فتواضعهم على قدر معرفتهم بنفسهم وربهم‪ .‬وأما‬
‫علمة التواضع ‪ :‬فهو أ‪ ،‬ل يأنف من الحق إذا أمر به ‪ ،‬فإن وجد في نفسه ألفة من ذلك فهو متكبر عن قبول الحق وذلك معصية‬
‫كبيرة ‪ ،‬وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب الثالث والعشرون‬
‫في بيان معنى الفكر ومقدماته ولواحقه‬
‫فمقدماته مساع وتيقظ وذكر ولواحقه العلم ‪ ،‬لن من سمع تيقظ ‪ ،‬ومن تيقظ تذكر ومن تذكر تفكر‪ ،‬ومن تفكر علم ‪ ،‬ومن علم إن‬
‫كان علما ل يراد للعمل ‪ ،‬وإذ كان علما ل يراد لذاته سعد والسعادة غاية المطلب‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪161‬‬
‫أما السماع ‪ :‬فحقيقته النتفاع بالمسموع من حكمه أو موعظة وما يضاهيهما ‪ ،‬وشرطه الستماع وهو الصغاء وهو واجب في‬
‫استماع كل علم هو فرض عين مدركه السمع ومستحب فيما سواه في العلوم المحمودة ويحرم فيما حرم الشارع من المحرمات‬
‫ويكره فيما يكره استماعه‪.‬‬
‫وأما اليقظة ‪ :‬فحقيقتها انتباه القلب للخير ‪ .‬وعلمة النتباه ‪ :‬القومة والنهوض عن ورطة الفترة والقومة واجبة على الفور في‬
‫الوامر والنواهي الفورية وهي متعلقة بكل مقام ‪.‬‬
‫وأما التذكر ‪ :‬فهو تكرار المعارف على القلب لتثبت وترسخ‪.‬‬
‫وأما التفكر‪ :‬فهو أ‪ ،‬تجمع بين علمين مناسبين للعلم الذيِ أنت طالبه بشرط عدم الشك فيهما وفراغ القلب من غيرهما ويحدق النظر‬
‫فيهما تحديقا ل بالغا ل فلم يشعر إل وقد انتقل القلب من الميل الخسيس إلى الميل النفيس إحضارال لمعرفتين يسمى تذكرال والتذكر يتعلق‬
‫بالعقد والقول والفعل والترك وهو واجب فيما يجب تذكره ‪ ،‬ويحرم بتذكر المعاصي إن أدى إلى استجلبها ‪ .‬وحصول المعرفة‬
‫الثالثة المقصود من هاتين المعرفتين يسمى تفكرال ‪ ،‬والتفكر واجب عند الشك وعند ورود الشبهة وعند علج المراض الواجب‬
‫إزالتها من القلوب ‪.‬‬
‫وأما العلم فيندرج في خمسة أقسام ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬من العلوم الواجبة علم أصول اليمان بال وملئاكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬علم العبادات المتعلقة بالبدان والموال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬علم يتعلق بالحواس الخمس اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬علم الخلق المذمومة الواجب إزالتها من القلب‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬علم الخلق المحمودة الواجبة ل تعالى على القلوب‪.‬‬
‫الباب الرابع والعشرون‬
‫في بيان معنى التوبة ويضاف إليها الفرار والنابة والخبات لنهن من ثمراتها‬
‫أما التوبة ‪ :‬فحقيقتها الرجوع من المعصية إلى الطاعة ‪ ،‬ومن الطريق البعيدة إلى الطريق القريبة وتنظيم من علم وحال وعمل‪.‬‬
‫وكذلك كل مقام فالعلم هو الصل الذيِ هو عقد من عقود اليمان بال تعالى أو ل تعالى ‪ ،‬والحال ما ينشأ عنها من المواجيد ‪،‬‬
‫والعمل هو ما تنشئاه المواجيد على القلوب والجوارح من العمال ن ويتقدم التوبة واجبان‪:‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪162‬‬
‫الواجب الول ‪ :‬معرفة الذنب المرجوع عنه أنه ذنب‪.‬‬
‫الواجب الثاني ‪ :‬أنه ل يستبد بالتوبة بنفسه ‪ ،‬لن ا تعالى هو خالقها في نفسها ومسير أسبابها ‪ ،‬وهو من اليمان تعالى لتعلقه‬
‫بالقدرة ‪ ،‬والثاني من اليمان له لتعلقه بأخباره‪.‬‬
‫وأما أركانها فأربعة ‪ :‬علم وندم وعزم وترك والقدر الواجب من الندم ما يحث على الترك‪.‬‬
‫وأما الفرار‪ :‬فحقيقته الهرب من المعصية إلى الطاعة ‪ ،‬وهذا هو الفرار الواجب المبني على أصل اليمان ورجوع العبد من‬
‫الشواغل الملهية إلى ا تعالى ‪ ،‬ومن الحسن إلى الحسن هو أيضا توبة ورجوع ‪ ،‬وبه كمال السعادة في الخرة ‪ ،‬وهذا هو الفرار‬
‫الواجب المبني على كمال اليمان ‪ ،‬وعلى هذا فل نهاية لمراتب التوبة ومراقبها وهذا هو النابة لن حقيقة النابة تكرار الرجوع‬
‫إلى ا تعالى وإن لم يتقدمه ذنب‪.‬‬
‫وأما الخبات ‪ :‬فهو الذعان والنقياد للحق بسهولة ‪.‬‬
‫واعلم أن التوبة تصح من كل ذنب ل دون ذنب ‪ ،‬وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب الخامس والعشرون‬
‫في بيان الصبر ويضاف إليه الرياضة والتهذيب لنهما من ثمراته‬
‫أما علمه ‪ :‬فهو تصديق ا تعالى فيما أخبرنا به من عداوة النفس والشيطان والشهوات للعقل والمعرفة والملك الملهم للخير‪ ،‬وأن‬
‫القتال بينهم دائام فمن خذل جند الشيطان ونصر حزب ا أدخله جنته وهذا واجب لنه من اليمان بال تعالى ‪ ،‬وأما الحال الناشئ‬
‫عن هذا اليمان ‪ ،‬فهو ثبات باعث الهوى والقدر الواجب منه تقويته بالوعد والوعيد إلى أن يغلب حزب ا تعالى جند الشيطان "أل‬
‫إن حزب ا هم الغالبون"‪.‬‬
‫وأما الرياضة ‪ :‬فهو تمرين النفس على الخير ونقلها من الخفيف إلى الثقيل باللطف والتدريج إلى أ‪ ،‬يرتقى إلى حالة يصير ما كان‬
‫عنده من الحوال والعمال شاقا ل سهلل هينا ل ‪.‬‬
‫وأما التهذيب ‪ :‬فهو امتحان النفس واختيار أحوالها في دعوى المقامات هل صدقت أو كذبت ‪ ،‬وعلمة اعتدال مقام الصبر أن‬
‫تصدر عنه العمال بسهولة بل مانع ول منازع‪ .‬وا تعالى الموفق‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪163‬‬
‫الباب السادس والعشرون‬
‫في الخوف ويضاف إليه الحزن والقبض والشفاق والخشوع‬
‫لنهن من أنواعه وكذلك الورع لنه من ثمراته‬
‫أما علمه ‪ :‬فهو مطالعة صفات اللوهية وتعلقها بالتقريب والبعاد والسعاد والشقاء من غير وسيلة ول سابقة ‪ ،‬وهذا الخوف يراد‬
‫لذاته ويجب اعتقاده لنه من اليمان بال تعالى ينتفع بهذا الخوف من أخرجته رؤية كثرة العمال إلى الذلل والمن من مكر ا‬
‫إذ ل يأمن من مكر ا إل القوم الخاسرون‪.‬‬
‫وأما الخوف المراد لغيره ‪ ،‬فهو قسمان أحدهما ‪ :‬خوف سلب النعمة وهو يحث على الدب ورؤية المنة ‪ .‬والثاني ‪ :‬خوف‬
‫العقوبات المرتبة على الجنايات ‪ ،‬والقدر الواجب منه ما يحث على ترك المحظورات وفعل الواجبات ‪ .‬وأما حاله ‪ ،‬فهو تألم القلب‬
‫وانزعاجه بسبب توقع مكروه أو على فائات ‪ .‬فإن كان محمودين كان له حكمهما في الوجوب والستحباب ‪ ،‬وان كانا مكروهين له‬
‫حكمهما في الحظر والكرامة‪.‬‬
‫وأما حقيقة القبض ‪ :‬فهو يطرق القلب تارة يعلم سببه فحكمه حكم الحزن ‪ ،‬وما لم يعلم سببه فهو عقوبة للمريدين لسبب إفراطهم في‬
‫البسط‪.‬‬
‫وأما حقيقة الشفاق ‪ :‬فهو اتخاذ الخوف بالرجاء واعتدالهما ‪ ،‬وأما حقيقة الخشوع فهو سكون القلب والجوارح وعدم حركتهما لما‬
‫عاين القلب من عظيم أو مفزع‪.‬‬
‫وأما حقيقة الورع‪ :‬فهو مجانبة الشيء حذرا من ضرورة ‪ ،‬وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب السابع والعشرون‬
‫في بيان الرجاء ويضاف إليه الرغبة ‪ ،‬لنها من أنواعه وكذلك البسط لنه من ثمراته‬
‫أما علمه ‪ :‬فهو أيضا ل مطالعة الصفات القديمة التي يصدر عنها كل ما ساء وسر ونقع وضر ‪ ،‬فمن عرف هذا من صفاته خافه‬
‫ورجاه وهذا هو الرجاء المقصود لذاته ‪ ،‬لنه ل يتوقع بحسنة ول يندفع بسيئاة إنما ينشأ عن فضل ا تعالى لمن سبقت له السعادة ‪،‬‬
‫ويندفع بهذا الرجاء من أخرجه الخوف إلى القنوط‪.‬‬
‫وأما الرجاء والمراد لغيره ‪ :‬فهو ما يحث على تكثير الطاعات ‪ ،‬فإن لم يحث على تكثير الطاعات كان تمنيا ل ‪ ،‬لن حقيقة الرجاء‬
‫هو ارتياح القلب وانشراحه لنتظار محبوب تقدمت أسبابه‪.‬‬
‫وأما الرغبة ‪ :‬فهي استيلء هذا الحال على قلب الراجي حتى كأنه يشاهد به المأمول فهي كمال الرجاء ومنتهى حقيقته‪.‬‬
‫وأما البسط ‪ :‬فهو انشراح القلب وانفتاح طريق الهدى له بروح الرجاء‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪164‬‬
‫الباب الثامن والعشرون‬
‫في بيان الفقر ولواحقه التبتل والفناء والتجريد‬
‫أما الفقر‪ :‬فهو الفقد والحتياج ‪ ،‬ولكن الحتياج على ضربين ‪ :‬مطلق ومقيد ‪.‬‬
‫أما المطلق ‪ :‬فهو احتياج العبد إلى العبد إلى موجد يوجده وإلى بقاء بعد اليجاد وإلى هداية إلى موجده وهذا هو الفقر إلى ا تعالى‬
‫‪ ،‬لن ا هو موجده ومبقيه وهاديه إليه وهذا الفقر واجب لنه من اليمان بال ول‪.‬‬
‫وأما الحال الذيِ ينشأ عن هذه المعرفة ‪ :‬فهو شهود العبد لفقره وحاجته إلى ا تعالى على الدوام‪.‬‬
‫وأما الحتياج المقيد ‪ :‬فهو احتياج العبد إلى الوسائال التي تقوم بها ذاته ويستعان على تحصيلها بالمال هو المفقود المحتاج إليه ‪،‬‬
‫فالفقر المطلق يراد لذاته لتعلقه بال تعالى ‪ ،‬والمقيد يراد لغيره وهو التبتل والنقطاع إلى ا وهما الوسيلة للغنى بال تعالى وهو‬
‫تعلق القلب به سبحانه وتعالى ‪ ،‬والغنى بال تعالى وسيلة إلى تجريده عما سوى ا تعالى ‪ ،‬ول يجب من التجريد إل اعتقاد تجريد‬
‫القديم عن الحادث ‪ ،‬وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫الباب التاسع والعشرون‬
‫في بيان الزهد ويضاف إليه اليثار والفتوة لنهما من أخلقه وكذلك مقام المراد ‪ ،‬لنه من مواريثه‬
‫أما العلم الذيِ هو سبب الزهد في الدنيا ‪ :‬فهو اليمان ل تعالى وهو قوله تعالى ‪} :‬بل تؤثرون الحياة الدنيا )‪ (16‬والخرة خير‬
‫وأبقى { ]العلى ‪ . [ 17، 16:‬وأما سبب الزهد فيما سوى ا تعالى من نعيم الجنة وغيرها ‪ ،‬فهو إضافة حقارة الوجود إلى ا‬
‫تعالى وكماله ‪ ،‬وهذا هو الزهد المراد لذاته وهو من اليمان بال تعالى لتعلقه بالجلل والكمال ‪ ،‬والزهد الذيِ قبله مراد لغيره وهو‬
‫فراغ القلب لهذه المعرفة ‪ ،‬والقدر الواجب من الزهد المراد لغيره ما يحث على الفراغ لوقات الواجبات والزهد ل يتعلق إل‬
‫بالمباح ‪ .‬ومن شرطه أن يكون مقدورا عليه‪.‬‬
‫وأما ثمرته ‪ :‬فهو اليثار وهو أعلى درجات السخاء ‪ ،‬لن السخاء هو بذل ما ل يحتاج إليه سمحا ل ل تكلفا ‪ ،‬واليثار هو بذل ما هو‬
‫محتاج إليه سمحا ل بغير عوض ول غرض إل لتخلقه بأخلق ا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪165‬‬
‫وأما الفتوة ‪ :‬فهي ترجع إلى أخلق المروءة ‪ ،‬فمن قام بواجب الشرع وواجب المروءة فهو الفتى ‪ ،‬ومن شارك أبناء الدنيا فيما هم‬
‫فيه فل فتوة له ول مروءة ‪ .‬وأما مقام المراد ‪ ،‬فهو الذيِ وقف على حقيقة المر بغير منازع ول مدافع ولم يشغله عن ا تعالى‬
‫شيء وا أعلم‪.‬‬
‫الباب الثلثون‬
‫في بيان المحاسبة ولواحقها العتصام والستقامة لنهما الثمرة المقصودة‬
‫اما المحاسبة فحقيقتها تفقد ما مضى وما يستقبل وهي واجبة بإجماع المة ‪ .‬أما العلم الحامل عليها ‪ :‬فهو اليمان بمحاسبة ا‬
‫تعالى ‪ .‬وهذه المحاسبة توجب العتصام والفرق بين العتصام والستقامة أن العتصام هو التمسك بكتاب ا تعالى والحفظ‬
‫لحدوده والستقامة هي الثبات والعتدال عن الميل إلى طرفي المر المعتصم به والستقامة مرادة لذاتها ولغيرها ‪ .‬أما كونها‬
‫لذاتها فلنها وسيلة إلى الدخول في مقام الجمع من واديِ التفرقة ‪ ،‬وا أعلم‪.‬‬
‫الباب الحاديِ والثلثون‬
‫في بيان الشكر ‪ ،‬ولواحقه السرور ‪ ،‬لنه من أحواله والحكمة لنها من أعماله‬
‫أما العلم الذيِ هو سبب الشكر ‪ :‬فهو أن تعلم أن النعم كلها من ا تعالى وحده ‪ .‬وهذا واجب ‪ ،‬لنه من اليمان بال تعالى قال ا‬
‫تعالى ‪ { :‬وما بكم من نعمة فمن ا }]النحل ‪ . [ 53:‬وشكر المنعم واجب وهو من اليمان ‪ .‬وأما الحال الناشئ عن هذا العلم فهو‬
‫الفرح والسرور بأنعم ا فهذا الفرح شكر بنفسه ‪ ،‬لنه مراد لذاته وهو واجب لنه من اليمان بال تعالى وهو ثمرة اليمان بال‬
‫تعالى ‪ .‬وأما عمل الشكر ‪ :‬مراد لذاته ولغيره أما كونه مرادال لذاته فلن العمل باستعمال النعمة فيما خلقت له من تمام الحكمة ‪ .‬أما‬
‫كونه مرادال لغيره فلحفظ النعم الموجودة والزيادة عليها ‪ .‬وعلى الجملة ‪ ،‬فالشكر هو استعمال النعمة فيما خلقت له فمن اعتدلت له‬
‫أحواله حتى وضع كل شيء موضعه كان حكيما ل لن الحكمة وضع كل شيء محله علما ل كان أو عملل وبال التوفيق‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪166‬‬
‫الباب الثاني والثلثون‬
‫في بيان التوكل ولواحقه التفويض والتسليم والثقة والرضا لنهن من آدابه‬
‫أما العلم الحامل على التوكل ‪ :‬فهو أن تعلم أن ا قائام بنفسه وأنه مقيم لغيره ‪ ،‬ثم تعلم سعة علمه وحكمته وكمال قدرته‪.‬‬
‫وأما الحال الناشئ عن هذا العلم ‪ :‬فهو اعتماد القلب على ا تعالى وسكونه ‪ ،‬وعدم اضطرابه لتعلقه بال تعالى ‪ ،‬ول يجب على‬
‫من علم التوكل وحاله إل ما يكف عن السباب المحظورة ‪ .‬والتوكل مع شرفة منخفض الرتبة عن التفويض والتسليم ‪ ،‬لن غايته‬
‫طلب جلب النفع ودفع الضر ‪ ،‬والتفويض والتسليم حقيقتهما النقياد والذعان للمر وترك الختيار في جملة ما حكم ا تعالى به‪.‬‬
‫وأما الثقة ‪ :‬فمعناها الربط على القلب وعدم النفصام على ما حواه من التصديقات وهي حاله مكملة لجميع المقامات والحوال‪.‬‬
‫وأما الرضا ‪ :‬فإنما يكون بعد المقضى به ‪ ،‬والتفويض والتسليم يكون قبل المضي به والقدر الواجب من الرضا هو أن يكون‬
‫راضيا ل بعقله وأن يكون راضيا بعقله وان يكون كارها ل بطبعه ‪ ،‬لن الكراهية ل تدخل تحت اختيار العبد ‪ ،‬فمن كره بعقله شيئاا ل مما‬
‫امتحن ا تعالى به عباده في الدنيا والخرة أو شكا بلسانه آثم وخرج عن واجب الرضا وبال التوفيق‪.‬‬
‫الباب الثالث والثلثون‬
‫في بيان النية ويضاف إليها القصد والعزم والرادة لنهن من توابعها‬
‫فأما النية ‪ :‬فهي الوسيلة بعد اليمان إلى السعادة العظمى في الولى والعقبى ‪ ،‬فإذا عرفت هذا وجب عليك فهم حقيقتها أو تحصينها‬
‫مما يشوبها من الخطوط الدنيوية وجوبا ل وعن الغراض والعواض الخروية استحبابا ل ‪ .‬فأما النية ‪ :‬فهي عبارة عن تميز‬
‫الغراض بعضها عن بعض فأما القصد ‪ :‬فهو جمع الهمة نحو الغرض المطلوب والعزم هو تقوية القصد وتنشيطه ‪ ،‬والرادة‬
‫تصرف الموانع المثبطة‪.‬‬
‫الباب الرابع والثلثون‬
‫في بيان الصدق ويضاف إليه النفصال والتصال والتحقيق والتفريد لنهن من علماته‬
‫اما الصدق في حق ا تعالى ‪ ،‬فهو وصف ذاتي راجع إلى معنى كلمه‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪167‬‬
‫وأما الصدق في وصف العبد ‪ :‬فهو استواء السر والعلنية والظاهر والباطن ‪ ،‬وبالصدق يتحقق جميع المقامات والحوال حتى أن‬
‫الخلص مع جللته يفتقر إلى الصدق والصدق ل يفتقر إلى شيء ‪ ،‬لن حقيقة الخلص في العبادة هو إرادة ا تعالى بالطاعة ‪،‬‬
‫فقد يراد ا تعالى بالصلة مثلل ولكنه غافل من حضور القلب فيها والصدق هو إرادة ا تعالى بالعبادة ‪ ،‬مع حضوره مع ا‬
‫تعالى فكل صادق مخلص وليس كل مخلص صادقا ل‪ .‬وهذا معنى النفصال والتصال ‪ ،‬لنه انفصل عن غير ا تعالى واتصل‬
‫بالحضور بال تعالى‪.‬‬
‫وأما التحقيق ‪ :‬فهو تمييز المقامات والحوال بعضها من بعض وتخليصها من الغيار والشوائاب ‪.‬‬
‫وأما التفريد ‪ :‬فهو وقوف العبد مع ا تعالى بل علم ول حال لشهوده تفرد ا تعالى بإيجاد كل موجود وشمول قدرته كل مقدور‪.‬‬
‫الباب الخامس والثلثون‬
‫في بيان الرضا‬
‫قال الحارث ‪ :‬الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم ‪ ،‬وقال ذو النون ‪ :‬الرضا سرور القلب بمر القضاء ‪ .‬وقال رسول ا صلى‬
‫ا عليه وسلم ‪" :‬ذاق طعم اليمان من رضا بال ربا" وقال عليه السلم ‪" :‬إن ا بحكمته جعل الروح في الرضا واليقين ‪ ،‬وجعل‬
‫الهم والحزن في الشك والسخط" ‪ .‬وقال الجنيد ‪ :‬الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلوب ‪ ،‬فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى‬
‫الرضا ‪ ،‬وليس الرضا والمحبة كالخوف والرجاء فإنهما حالن ل يفارقان العبد في الدنيا والخرة ‪ ،‬لنه في الجنة ل يستغنى عن‬
‫الرضا والمحبة ‪ .‬وقال ابن عطاء‪ :‬الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار ا تعالى للعبد أنه اختار له الفضل فيرضى له وهو ترك‬
‫السخط ‪ ،‬وقال ابو تراب ‪ :‬ليس ينال الرضا من ا من الدنيا في قلبه مقدار ‪ .‬وقال سرى ‪ :‬خمس من أخلق المقربين الرضا عن‬
‫ا تعالى ‪ ،‬فيما تحب وتكره والحيلة بالتحبب إليه ‪ ،‬والحياء من ا تعالى ‪ ،‬والنس به ‪ ،‬والوحشة فيما سواه ‪ .‬وقال الفضيل الرضا‬
‫أن ل يتمنى فوق منزلته شيئاا ل ‪ ،‬وقال ابن سمعون ‪ :‬الرضا بالحق والرضا به والرضا عنه الرضا به مدبرا ومختارال والرضا عنه‬
‫قاسما ل ومعطيا ل ‪ ،‬والرضا له إلها وربا ل‪.‬‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫سئال أبو سعيد ‪ :‬هل يجوز أن يكون راضيا ساخطا ؟ قال ‪ :‬نعم يجوز أ‪ ،‬يكون راضيا عن ربه ساخطا على نفسه وعلى كل قاطع‬
‫يقطعه عن ا تعالى‪.‬‬
‫وقال بعضهم للحسن بن علي رضي ا عنهما إن أبا ذر يقول ‪ :‬الفقر أحب إلي من‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪168‬‬
‫الغنى ‪ ،‬والسقم أحب إلي من الصحة ‪ .‬فقال ‪ :‬رحم ا أبا ذر ‪.‬أما أنا فأقول من اتكل على حسن اختيار ا تعالى له لم يتمن أنه في‬
‫غير الحالة التي اختارها ا‪.‬‬
‫وقال علي عليه السلم ‪ :‬من جلس على بساط السؤال لم يرض عن ا في كل حال ‪ ،‬وقال ‪ :‬الشلبي ‪ :‬بين يديِ الجنيد ‪ :‬ل حول ول‬
‫قوة إل بال قال قولك هذا إذا ضيق صدر فقال ‪ :‬صدقت فقال ‪ :‬ضيق الصدر ترك الرضا بالقضاء ‪ ،‬وهذا قاله الجنيد تنبيها منه‬
‫على أصل الرضا ‪ ،‬وذلك لن الرضا يحصل لنشراح القلب وانفساحه وانشراح القلب من نور اليقين ‪ ،‬فإذا تمكن النور من الباطن‬
‫اتسع الصدر وانفتح عين البصيرة وعاين حسن تدبير ا تعالى فينتزع السخط والضجر ‪ ،‬لن انشراح القلب يتضمن حلوة الحب‬
‫وفعل المحبوب بوقوع الرضا عند المحب الصادق ‪ ،‬لن المحب يرى أن الفعل من المحبوب مراده‪ .‬كما قيل ‪ :‬وكل ما يفعل‬
‫المحبوب محبوب فالقوم يكرهون خدمة الغيار ويأبون مخالطتهم أيضا ‪ .‬فإن من ل يحب طريقهم ربما استضر بالنظر إليهم أكثر‬
‫مما ينتفع بهم‪.‬‬
‫ورد في الخبر ‪ :‬المؤمن مرآة المؤمن ‪ .‬فأيِ وقت ظهر من أحدهم أثر التفرقة نافروه ‪ ،‬لن التفرقة تظهر بظهور النفوس وظهور‬
‫النفوس من تضييع حق الوقت ‪ .‬فأيِ وقت ظهرت نفس الفقير علموا خروجه من دائارة الجمعية وحكموا له بتضييع حكم الوقت‬
‫وإهمال السياسة وحسن الرعاية فيعاد بالمناقشة إلى دائارة الجمعية‪.‬‬
‫الباب السادس والثلثون‬
‫في بيان النهي عن الغيبة‬
‫قال ا عز وجل {أيحب أحدكم أ‪ ،‬يأكل لحم أخيه ميتا } ]الحجرات ‪ [ 12 :‬وعن أبي هريرة رضي ا عنه ‪ :‬أن رجلل كان عند‬
‫رسول ا صلى ا عليه وسلم فقام النبي صلى ا عليه وسلم ولم يقم الرجل ‪ ،‬فقال بعض القوم ‪ :‬ما أعجز فلنا ل ‪ ،‬فقال ‪ " :‬أكلتم‬
‫لحم أخيكم واغتبتموه" ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬أوحى ا تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلم ‪ " :‬من مات تائابا ل من الغيبة فهو آخر رجل يدخل الجنة ‪ ،‬ومن مات‬
‫مصرال عليها فهو أول من يدخل النار "‬
‫ل‬
‫وقيل ‪ :‬دعى ابراهيم بن أدهم إلى دعوة فحضر فذكروا رجل لم يأتهم بالغيبة ‪ .‬فقال ابراهيم ‪ :‬إنما فعل بي هذا نفسي حيث حضرت‬
‫موضعا ل يغتاب فيه الناس فخرج ولم يأكل ثلثة أيام‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬مثل الذيِ يغتاب الناس كمثل من نصب منجنيقا ل يرمي به حسناته شرقا ل وغربا ل‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يؤتى العبد يوم القيامة كتابه فل يرى فيه حسنة فيقول ‪ :‬أين صلتي وصيامي‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫ص ‪168‬‬
‫وطاعتي ؟ فيقال ‪ :‬ذهب عملك باغتيابك الناس ‪ ،‬وقيل ‪ :‬من اغتيب بغيبة غفر ا له نصف ذنوبه‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يعطى الرجل كتابه بيمينه فيرى فيه حسنات لم يعلمها ‪ ،‬فيقال ‪ :‬هذا بما اغتابك الناس وأنت لم تشعر‪ .‬وقيل للحسن البصريِ‬
‫‪ :‬إ‪ ،‬فلنا ل اغتابك فبعث إليه طبقا ل فيه حلوى وقال ‪ :‬بلغني أنك أهديت إلى حسناتك فكافأتك‪.‬‬
‫وعن الجنيد قال ‪ :‬كنت ببغداد في مكان أنتظر جنازة أصلي عليها فلقيت فقيرال عليه أثر النسك يسأل الناس ‪ ،‬فقلت في نفسي ‪ /‬لو‬
‫عمل هذا عملل به يصون نفسه كان أجمل به ‪ .‬فلما انصرفت إلى منزلي وكان لي شيء من الورد بالليل فلما قضيته ونمت رأيت‬
‫ذلك الفقير جاءوا به على خوان ممدود ‪ ،‬وقالوا لي ‪ :‬كل لحمة فقد اغتبته فكشف لي عن الحال ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما اغتبته إنما قلت في‬
‫نفسي ‪ .‬فقيل ‪ :‬ما أنت ممن يرضى منك بمثله اذهب واستحلله فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته يلتقط من الماء أوراقا ل من البقل‬
‫مما يتساقط من غسل البقل ‪ ،‬فسلمت عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يأ أبا القاسم تعود ؟ فقلت ‪ :‬ل فقال ‪ :‬غفر ا لنا ولك‪.‬‬
‫الباب السابع والثلثون‬
‫في بيان الفتوة‬
‫الفتى من تخلى عن تدبير نفسه وماله وولده ووهب الكل لمن له الكل بل ليس له ما يهب فإنها ذهبت في قوله تعالى { إن ا اشترى‬
‫من المؤمنين أ‪،‬فسهم وأموالهم } ]التوبة ‪ . [ 111:‬تخلق بقوله تعالى‪ { :‬إن ا يأمر بالعدل والحسان} ]النحل ‪ . [ 90:‬ما ترك‬
‫العدل والحسان من طاعة ا تعالى شيئاا ل إل جمعه ‪ ،‬وما ترك الفحشاء والمنكر من معصية ا تعالى شيئاا ل إل جمعه ‪ .‬فتوة العامة‬
‫بالموال ‪ ،‬وفتوة الخاصة بالموال والفعال ‪ ،‬وفتوة خاص اخواص بهما والحوال ‪ ،‬وفتوة النبياء بهما والسرار ‪ ،‬وهو الذيِ‬
‫ليس في باطنه دعوى ول في ظاهره تصنع ومراءاة ‪ ،‬وسره الذيِ بينه وبين ا تعالى ل يطلع عليه صدره ‪ ،‬فكيف الخلق ‪ .‬ومن‬
‫شأن الفتى النظر إلى الخلق بعين الرضى وإلى نفسه بعين السخط ومعرفة حقوق من هو فوقه ومثله ودونه ول يتعرض لخوانه‬
‫بزلة أو حقرة أو كذب ‪ ،‬وينظر إلى الخلق كأنهم أولياء غير مستقبح منهم إل ما خالف الشرع مع أن ذلك ينسبه إلى الشيطان ذنبا ل‬
‫ل إلى أخيه المسلم ‪ .‬فكيف إلى ا عز وجل مع أنه يغيره بيده ‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه والياس من الخلق وترك السؤال والتعريض‬
‫وكتمان الفقر وإظهار الغنى وترك الدعوى وكتمان المعنى واحتمال الذى ‪ ،‬وأ‪ ،‬يؤثر مراد غيره على هواه خلقا ل وفعلل ‪ ،‬وأن ل‬
‫يزال في‬

‫صفحة ‪170‬‬
‫حاجة غيره ويعطي بل امتنان ول يطالب أحدال بواجب حقه ويطالب نفسه بحقوق الناس ويرى الفضل لهم ويلزم نفسه التقصير في‬
‫جميع ما بأتي به‪ ،‬ول يستنكر ما يأتي به‪ ،‬ومن شأن الفتى ترك كل ما للنفس فيه حظ‪ ،‬ويستويِ عنده المدح والذم من العامة‪ ،‬ومن‬
‫شأنه الصدق والوفاء والسخاء والحياء وحسن الخلق وكرم النفس وملطفة الخوان ومجانبة سماع القبيح من الصدقاء‪ ،‬وكرم‬
‫العهد بالوفاء والتباعد عن الحقد والحسد والغش‪ ،‬ومن شأنه الحب والبغض في ا والتوسعة على الخوان من ماله وجاهه إن‬
‫أمكنه‪ .‬وترك المتنان عليهم بذلك وصحبة الخيار ومجانبة الشرار‪ ،‬ويكون خصما ل على نفسه لربه وا يكون له خصما ل غيرها‬
‫فيجتهد في كسر هواها‪ ،‬لنه قيل‪ :‬الفتى من كسر الصنام وهي صنم النسان‪.‬‬
‫ومن شأن الفتى أن ل ينافر فقيرال لفقره‪ ،‬ول يعارض غنيا ل لغناه‪ ،‬ويعرض عن الكونين‪ ،‬ويستويِ عنده المقيم والطارئ‪ ،‬ومن‬
‫يعرف ومن ل يعرف‪ ،‬ول تمييز بين الولي والكافر من جهة الكل‪ ،‬ول يدخر ول يعتذر ويظهر النعمة ويسر المحبة وإذا كان في‬
‫عشرة فل يتغير إن كان ما أتى به عشيره أقل أو أكثر‪ ،‬وأن ل يحمير وجه أحد فيما لم يندبه الشرع إليه‪ .‬ول يربح على صديق وما‬
‫خرج عنه ل يرجع فيه وإن أعطي شكر وإن منع صبر‪ ،‬بل إن أعطي آثر وإن منع شكر الفتوة أن ل يشتغل بالخلق عن الحق‪،‬‬
‫وفتوة العارف بمعروفه‪ ،‬وفتوة غيره بمعتاده ومألوفه‪.‬‬
‫فصل في السخاء‬
‫السخاء‪ :‬تقديم حظوظ الخوان على حظك مطلقا ل دنيويا ل وأخرويا ل والمبادرة إلى العطاء قبل السؤال وترك المتنان بما أعطى‬
‫وتعجيله وتصغيره وتستيره‪ ،‬بل بذل النفس والروح والمال على الخلق على غاية الحياء‪ ،‬وأن يكره أن يرى ذل السؤال في وجوه‬
‫المسلمين وسخاء النفس بما في أيديِ الناس أكبر من سخائاها وبالبذل ومروءة القناعة‪ ،‬والرضى أكبر من مروءة العطاء وأكبر من‬
‫ذلك كله السخاء بالحكمة‪.‬‬
‫الباب الثامن والثلثون‬
‫في بيان مكارم الخلق‬
‫ض دعهن اللدجاهههليدن( ]العراف‪.[199 :‬‬ ‫ف دوأدلعهر ل‬ ‫قال تعالى‪) :‬اخهذ اللدعلفدو دولأاملر هباللاعلر ه‬
‫معناه تعفو عمن ظلمك‪ ،‬وتعطي من حرمك‪ .‬وتصل من قطعك‪ ،‬وتعرض عمن جهل عليك‪ ،‬وتحسن إلى من أساء إليك‪ ،‬فكان صلى‬
‫ا عليه وسلم مبعوثا ل بمكارم الخلق يقول‪) :‬اللهم‬
‫صفحة ‪171‬‬
‫اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون(‪ .‬ومن السخاء إفشاء الاسلم‪ .‬وإطعام الطعام‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬والصلة بالليل والناس نيام‪ ،‬ونيل‬
‫المكارم باجتناب المحارم‪ .‬مكارم الخلق من أعمال أهل الجنة قول لطيف يتبعه فعل شريف‪ .‬مكافأة المحسن بأكثر من إحسانه‪.‬‬
‫صاحب مكارم الخلق هو الذيِ ل يحوجك أن تسأله ول يزال يعتذر ضد اللئايم الذيِ ل يزال يفتخر‪ ،‬والتغافل عن زلل الخوان‬
‫والمسارعة إلى قضاء حوائاجهم‪ ،‬وطرح الدنيا لمن يحتاج إليها‪.‬‬
‫الباب التاسع والثلثون‬
‫في بيان القناعة‬
‫صالهلحا هملن دذدكءر أدلو أ الندثى دواهدو املؤهمسن دفدلانلحهيدياناه دحديالة دطرَيدبلة( ]النحل‪ .[97 :‬قال كثير من المفسرين‪ :‬الحياة‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬‫ل‬
‫قال ا تعالى‪ :‬د د ه د د‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫)‬
‫ي‬
‫الطيبة في الدنيا القناعة‪ :‬والقناعة موهبة من ا عز وجيل‪ .‬وقال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪) :‬القناعة كنز ل يفنى(‪ .‬وعنه عليه‬
‫الصلة والاسلم‪) :‬من أراد صاحبا ل فال يكفيه‪ .‬ومن أراد مؤنسا ل فالقرآن يكفيه‪ ،‬ومن أراد كنزال فالقناعة يكفيه‪ ،‬ومن أراد واعظا ل‬
‫فالموت يكفيه‪ ،‬ومن لم يكفه هذه الربع فالنار تكفيه(‪ .‬وعن أبي هريرة رضي ا عنه أنه قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪:‬‬
‫)كن ورعا ل تكن أعبد الناس‪ ،‬وكن قنعا ل تكن أشكر الناس‪ ،‬وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنلا‪ ،‬وأحسن مجاورة من جاورك تكن‬
‫مسلملا‪ ،‬وأقل من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب(‪ .‬وقيل في قوله تعالى‪) :‬دلديلرازدقاناهام ا‬
‫اا هرلزلقا دحدسلنا( ]الحج‪ .[58 :‬يعني‬
‫القناعة‪.‬‬
‫وقال وهب‪ :‬إن العز والغنى خرجا يجولن فلقيا القناعة فاستقرا فيها‪.‬‬
‫وفي الزبور‪) :‬القانع غني وإن كان جائاعا ل(‪ .‬وفي التوراة‪) :‬قنع ابن آدم فاستغنى اعتزل الناس فسلم‪ ،‬ترك الحسد فظهرت مروءته‪،‬‬
‫تعب قليلل فاستراح طويلل(‪ .‬وقيل‪ :‬وضع ا تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع‪) :‬العز في الطاعة‪ ،‬والذل في المعصية‪،‬‬
‫والهيبة في قيام الليل‪ ،‬والحكمة في البطن الخالي‪ ،‬والغنى في القناعة(‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص‪ .‬وقيل‪ :‬من تعبت عيناه إلى ما في أيديِ الناس طال حزنه‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال لصاحبه‪ :‬نعلق الثياب في جدران الكروم فقال‪ :‬ل تغرز الوتد في‬
‫جدران الناس‪ ،‬فقال‪ :‬نعيلقه في الاشجر‪ .‬فقال ل‪ ،‬لنه يكسر الغصان‪ .‬فقال‪ :‬نبسطه على الحشيش‪ .‬فقال ل‪ ،‬علف الدواب‪ ،‬ثم والى‬
‫بظهره للشمس والقميص على ظهره حتى جف جانبه‪ ،‬ثم قلبه حتى جف الجانب الخر‪.‬‬
‫صفحة ‪172‬‬
‫الباب الربعون‬
‫في بيان السائال‬
‫من سأل وعنده قوت يومه فقد قطع الطريق على الضعفاء والمساكين‪ ،‬من كانت نيته طلب الخرة جعل ا غناه في قلبه وجمع‬
‫شمله وأتته الدنيا وهي راغمة‪ ،‬ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل ا الفقر بين عينيه وشتت شمله وأمره ول يأتيه منها إل ما كتب‬
‫له‪ ،‬ومن جعل الهموم هما لي واحدال كفاه ا هم الدنيا والخرة‪ ،‬ومن تشعبت عليه الهموم لم يبال ا تعالى في أيِ أوديتها هلك‪ ،‬جميع‬
‫الدنيا من أولها إلى آخرها ما تساويِ غم ساعة‪ ،‬فكيف بعمرك القصير مع قليل يصيبك منها‪ ،‬من رضي بما قسم ا له بارك ا له‬
‫فيه ووسع عليه من اكتفى عن السؤال فقد أعطي خير النوال‪ ،‬من احتجت إليه هنت عليه‪ .‬إذا أردت أن تعيش ح يلرا فل تلزم مؤنة‬
‫نفسك غيرها والزم القناعة‪ ،‬كيف يليق بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد عند موله كل ما يريد‪ ،‬ولو يعلم الناس ما في المسألة‬
‫ما سأل أحد شيئاا ل‪ .‬ولو يعلم الناس ما في حق السائال ما حرموا من سألهم أبدلا‪ ،‬لو صدق السائال ما قدس من رده‪ .‬ما من رجل سأل‬
‫رجلل حاجة فقضاها أو لم يقضها إل غار ماء وجهه أربعين يوما ل‪.‬‬
‫الباب الحاديِ والربعون‬
‫في بيان الشفقة على خلق ا تعالى‬
‫اعلم أن الشفقة على خلق ا تعالى تعظيم لمر ا تعالى‪ ،‬وذلك أن تعطيهم من نفسك ما يطلبون وأن ل تحملهم ما ل يطيقون‪ ،‬وأن‬
‫ل تخاطبهم بما ل يعلمون‪ ،‬ول بما يعلمون‪ ،‬وأن يسرك ما يسرهم‪ ،‬وأن يحزنك ما يحزنهم وفكرك في كيفية تحصيل منفعتهم‬
‫الدينية والدنيوية إليهم‪ ،‬وكيفية دفع ما يضرهم في دينهم ودنياهم حتى لو سقط الذباب على وجه أحدهم لوجدت لها ألما ل في قلبك‪،‬‬
‫وأن تكون لن تحفظ قلب مؤمن شرعا ل أحب إليك من كذا وكذا حجة وغزوة‪ ،‬وأن تختار عز أخيك على عزك وذل نفسك على ذل‬
‫أخيك‪.‬‬
‫الباب الثاني والربعون‬
‫في بيان آفة الذنوب‬
‫طوبى لمن مات ماتت ذنوبه‪ ،‬قيل‪ :‬أعظم الذنوب من ظلم من لم يعرفه ولم يره‪.‬‬
‫صفحة ‪173‬‬
‫من أطاع ا تعالى سخر له كل شيء‪ ،‬ومن عصاه سخره لكل شيء وسلط عليه كل شيء‪ ،‬لو لم يكن في الصرار على الذنب من‬
‫الشؤم إل أن يكون كل ما يصيبه فهو عقوبة من سعة أو من ضيقة أو صحة أو سقم لكان كافيلا‪ ،‬ولو لم يكن في ترك المعصية إل‬
‫ضد ذلك لكان كافيا ل‪ .‬إن العبد ليحرم الرزق بالذنبيصيبه‪ .‬ليست اللعنة سوادال في الوجه أو نقصا ي في المال إنما اللعنة في أن ل‬
‫يخرج من ذنب إل وقع في مثله أو شر منه‪ .‬ل تكن في التوبة أعجز منك في الذنب ما أنكرت من تغير الزمان والخوان‬
‫والزوجات‪ ،‬فالذنوب أورثت ذلك حتى في خلق الدابة وفأر البيت‪ ،‬ونسيان القرآن‪ ،‬أو شيء من العلم‪ ،‬أو تلوته من الحرار‪،‬‬
‫والعقوبة موضوعة للشدة والمشقة‪ ،‬فعثوبة كل من حيث ل يشترك حتى الحتلم وقد تكون عقوبة الذنب ذنبا ل مثله إذا عظم كثواب‬
‫الطاعة‪ .‬ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم‪.‬‬
‫الباب الثالث والربعون‬
‫في صفة صلة أهل القرب‬
‫إذا دخلت في الصلة فانس الدنيا وأهلها وأقبل على ا تعالى إقبالك عليه يوم القيامة‪ ،‬واذكر وقوفك بين يديِ ا ليس بينك وبينه‬
‫ترجمان وهو مقبل عليك تناجيه وتعلم بين يديِ من أنت واقف فإنه الملك العظيم‪.‬‬
‫وقيل لبعضهم‪ :‬كيف تكبر التكبيرة الولى؟ فقال‪ :‬ينبغي إذا قلت‪ :‬ا أكبر أن يكون مصحوبك في ا التعظيم مع اللف‪ .‬والهيبة مع‬
‫اللم والمراقبة والفرق مع الهاء‪.‬‬
‫واعلم أن من الناس من إذا قال ا أكبر غاب في مطالعة العظمة‪ ،‬صار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلة‪،‬‬
‫ثم يلقي الخردلة فما يخشى من الوسوسة وحديث النفس وما يتخايل في الباطن هو من الكون الذيِ صار بمنزلة الخردلة وألقيت‬
‫فكيف تزاحم الوسوسة مثل هذا العبد‪ ،‬وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫جعلنا ا وإياكم من عباده المقربين وعلمائاه العاملين وأصفيائاه المخلصين‪ ،‬وصلى ا على سيدنا محمد خاتم النبيين وقائاد الغر‬
‫المحجلين‪ ،‬وعلى آله وصحبه المقربين وأزواجه الطيبين الطاهرين وذريته المخلصين‪ ،‬وعلى سائار النبياء والمرسلين والملئاكة‬
‫المقربين‪ ،‬صلوات ا وسلمه عليهم أجمعين‪ ،‬والحمدل رب العالمين‪.‬‬
‫صفحة ‪174‬‬
‫قواعد العقائاد في التوحيد‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الكتاب‬
‫الحمدل المبدئ المعيد الفعال لما يريد‪ ،‬ذيِ العرش المجيد والبطش الشديد‪ ،‬الهاديِ صفوة العبيد‪ ،‬إلى المنهج الرشيد‪ ،‬والمسلك‬
‫السديد‪ ،‬والمنعم عليهم بعد شهادة التوحيد‪ ،‬بحراسة عقائادهم عن ظلمات التشكيك والترديد‪ ،‬السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى‬
‫صلى ا عليه وسلم‪ ،‬واقتفاء آثار صحبه الكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي‬
‫ل يدركها إل من ألقى السمع وهو شهيد‪ ،‬وهو أنه في ذاته واحد ل شريك له‪ ،‬فرد ل مثل له‪ ،‬صمد ل ضد له‪ ،‬منفرد ل ند له‪ ،‬وأنه‬
‫واحد قديم ل أول له‪ ،‬أزلي ل بداية له‪ ،‬مستمر الوجود ل آخر له‪ ،‬أبديِ ل نهاية له‪ ،‬قيوم ل انقطاع له‪ ،‬دائام ل انصرام له‪ ،‬لم يزل‬
‫ول يزال موصوفا ل بنعوت الجلل‪ ،‬ل يقضي عليه بالنقضاء والنفصال بتصرم الباد وانقراض الجال‪ .‬بل هو الول والخر‬
‫والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم‪.‬‬
‫التنزيه‪ :‬وأنه ليس بجسم مصور ول جوهر محدود مقدر‪ .‬وأنه ل يماثل الجسام في التقدير ول في قبول النقسام‪ .‬وأنه ليس‬
‫بجوهر ول تحله الجواهر‪ ،‬ول بعرض ول تحله العراض‪ ،‬بل ل يماثل موجودال ول يماثله موجود‪ ،‬ليس كمثله شيء‪ ،‬ول هو‬
‫كمثل شيء‪ ،‬وأنه ل يحده المقدار‪ ،‬ول تحويه القطار‪ ،‬ول تحيط به الجهات ول تكتنفه الرضون‪ ،‬ول السماوات وأنه مستو على‬
‫العرش على الوجه الذيِ قاله‪ ،‬وبالمعنى الذيِ أراده استواء منزها ل عن المماسة والستقرار والتمكن والحلول والنتقال‪ .‬ل يحمله‬
‫العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته‪ ،‬وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم‬
‫الثرى‪ .‬فوقية ل تزيده قربا ل إلى العرش والسماء‪ ،‬كما ل تزيده بعدال عن الرض والثراى‪ ،‬بل هو رفيع الدرجات عن العرش‬
‫والسماء‪ ،‬كما أنه رفيع الدرجات عن الرض والثرى‪ ،‬ومع ذلك قريب من كل موجود‪ ،‬وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد‪ ،‬وهو‬
‫على كل شيء شهيد‪ ،‬إذ ل يماثل قربه قرب الجسام كما ل تماثل ذاته ذات الجسام وأنه ل يحل في شيء ول يحل فيه شيء‪،‬‬
‫تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان‪ ،‬بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الن على ما عليه كان وأنه بائان‬
‫من خلقه‬
‫صفحة ‪175‬‬
‫بصفاته ‪ ،‬ليس في ذاته سواه ول قي سواه ذاته ‪ ،‬وأنه مقدس عن التغيير والنتقال ل تحله الحوادث ول تعتريه العواقب ‪ ،‬بل ل‬
‫يزال في نعوت جلله منزهلاعن الزوال به ‪ ،‬وفي صفات كماله مستغنيلافي زيادة الستكمال ‪ ،‬وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول‬
‫مرئاي الذات بالبصار نعمة منه ‪ ،‬ولطفا ل بالبرار في دار القرار ‪،‬واتمام للنعم بالنظر إلى وجهه الكريم‪.‬‬
‫الحياة والقدرة ‪ :‬وأنه تعالى حى قادر ‪ ،‬جبار قاهر ل يعتريه قصور ول عجز ‪ ،‬ول تأخذه سنة ول نوم‪ ،‬ول يعارضه فناء ول‬
‫موت‪ ،‬وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت‪ ،‬له الساطان والقهر والخلق والمر‪ ،‬والسموات مطويات بيمينه والخلئاق‬
‫مقهورون في قبضته‪ ،‬وأنه المفرد بالخلق والختراع المتوحد باليجاد والبداع‪ ،‬خلق الخلق وأعمالهم وقدر أرزاقهم آجالهم ل يشذ‬
‫عن قبضته مقدور‪ .‬ول يعزب عن قدرته تصاريف المور ل تحصى مقدوراته ول تتناهى معلوماته‪.‬‬
‫العلم‪ :‬وأنه عالم بجميع المعلومات محيط علمه بما يجريِ في تخوم الرضين إلى أعلى السموات ‪ ،‬ل يغزب عن علمه مثقال ذرة‬
‫‪ ،‬في الرض ول في السماء‪،‬بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر في جو‬
‫الهواء‪ ،‬ويعلم السر و أخفى ويطلع على هواجس الضمائار ‪ ،‬وحركات الخواطر‪ ،‬وخفيا السرائار بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا ل به‬
‫في أزل الزال‪ ،‬ل بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والنتقالز‬
‫الرادة‪ :‬وأنه تعالى مريد للكائانات مدبر للحادثات فل يجريِ في الملك والملكوت قليل أو كثير‪ ،‬صغير أو كبير‪ ،‬خير أو شر‪ ،‬نفع‬
‫أو ضر‪ ،‬إيمان أو كفر‪ ،‬عرفان أو نكر‪ ،‬فوز أو خسران‪ ،‬زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إل بقضائاه وقدره وحكمته ومشيئاته‪،‬‬
‫فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬ل يخرج عن مشيئاة لفته ناظر ول فلتة خاطر‪ ،‬بل هو المبدئ المعيد الفعال لما يريد‪ ،‬ل رادد لحكمه‬
‫ول معقب لقضائاه‪ ،‬ول مهرب لعبد من معصيته إل بتوفيقه ورحمته‪ .‬ول قوة له على طاعته إل بمشيئاته وإرادته‪ ،‬فلو اجتمع النس‬
‫والجن والملئاكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئاته لعجزوا عن ذلك أن إرادته قائامة بذاته‬
‫في جملة صفاته‪ ،‬لم يزل كذلك موصوفا ل بها مريدال في أزله من غير تقدم ول تأخر‪ ،‬بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير‬
‫تبدل ول تغير‪ ،‬دبر المور ل بترتيب أفكار ول تربص زمان فلذلك لم يشغله شأن عن شأن‪.‬‬
‫السمع والبصر ‪ :‬أنه تعالى سميع بصير يسمع ويرى‪ ،‬ل يعزب عن سمعه مسموع‬
‫صفحة ‪176‬‬
‫وإن خفى‪ ،‬ول يغيب عن بصره مرئاى وإن دق‪ ،‬ول يحجب عن سمعه بعد‪ ،‬ول يدفع رؤيته ظلم‪ .‬يرى من غير حدقه وأجفان‪،‬‬
‫ويسمع من غير أصمخة آذان‪ ،‬كما بعلم من غير قلب‪ ،‬ويبطش من غير جارحة ‪ ،‬ويخلق من غير آلة إذ ل تشبه صفاته صفات‬
‫الخلق‪ ،‬كما ل تشبه ذاته ذوات الخلق‪.‬‬
‫الكلم ‪ :‬وأنه تعالى متكلم آمر ناه واعد متوعد بكلم أزلي قديم قائام بذاته ل يشبه كلم الخلق‪ ،‬فليس بصوت يحدث من انسلل‬
‫هواء أو اصطكاك أجرام‪ ،‬ول بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان‪ ،‬وأن القرآن والتوراة والنجيل والزبور كتبه المنزلة‬
‫على رسله عليهم السلم‪ ،‬وأن القرآن مقروء باللسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب‪ ،‬وأنه مع ذلك قديم قائام بذات ا‬
‫تعالى‪ ،‬ل يقبل النفصال والفتراق بالنتقال إلى القلوب والوراق‪ ،‬أن موسى عليه السلم سمع كلم ا بغير صوت ول حرف‪،‬‬
‫كما يرى البرارذات ا تعالى في الخرة من غير جوهر ول عرض‪ .‬وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا لعالما ل قادرال مريدال‬
‫سميعا ل بصيرال متكلمأ ل بالحياة والعلم والقدرة والرادة والسمع والبصر والكلم ل بمجرد الذات‪.‬‬
‫الفعال ‪ :‬وأنه سبحانه وتعالى ل موجود سواه إل وهو حادث بفعله وفائاض في عدله على أحسن الوجوه وأكملها أتمها وأعدلها‪،‬‬
‫وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته ول يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ول يتصور‬
‫الظلم من ا تعالى‪ ،‬فإنه ل يصادف لغيره ملكا ل حتى يكون تصرفه فيه ظلملا‪ ،‬فكل ما سواه من إنس أو جن وشيطان وملك وسماء و‬
‫أرض وحيوان ونبات وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس‪ :‬حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعلا‪ ،‬وأنشأه بعد أن لم يكن شيئالا‪،‬‬
‫إذ كان في الجل موجودال وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد إظهارال لقدرته وتحقيقا ل لما سبق من إرادته وحق في الزل‬
‫من كلمته ل لفتقاره إليه وحاجته‪،‬وأنه تعالى متفضل بالخلق والختراع والتكليف ل عن وجوب‪ ،‬ومتطول بالنعام والصلح ل‬
‫عن لزوم‪ ،‬له الفضل والحسان والنعمة والمتنان‪ .‬إذا كان قادرال على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب اللم‬
‫والوصاب‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان منه عدلل ولم يكن قبيحا ل ول ظلملا‪،‬وأنه يثيب عباده على الطاعات بحكم الكرم والوعد ل بحكم‬
‫الستحقاق واللزوم إذ ل يجب عليه فعل ول يتصور منه ظلم ول يجب لحد عليه حق‪ ،‬وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق‬
‫بإيجابه على لسان أنبيائاه ل بمجرد العقل‪ ،‬ولكنه بعث الرسل وأظهرصدقهم بالمعجزات الظاهرة‪ ،‬فبلغوا أمره ونهيه ووعده‬
‫ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به‪ ،‬وأنه تعالى بعث النبي الدمي القرشي محمد صلى ا عليه وسلم برسالته‬
‫إلىكافة العرب‬
‫صفحة ‪177‬‬
‫والعجم والجن والنس فنسخ بشرعه الشرائاع إل ما قرر‪ ،‬وفضله على سائار النبياء وجعله سيد البشر ومنع كمال اليمان بشهادة‬
‫التوحيد‪ ،‬وهي ‪ :‬قول لإله إل ا ما لم يقترن بها شهادة الرسول‪ ،‬وهي محمد رسول ا فألزم الخلق تصديقه في جميع ما أقر به‬
‫من الدنيا والخرة ‪ ،‬وأنه ل يقبل إيمان عبد حتى يوقن بما أخبر عنه بعد الموت‪ ،‬وأوله س{ال منكر ونكير‪ .‬وهما شخصان مهيبان‬
‫هائالن يقعدان العبد في قبره سويا دل ذا روح وجسد ويسألنه عن التوحيد والرسالة ويقولن ‪ :‬من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهما‬
‫فتانا القبر وسؤالهما أول فتنه للقبر بعد الموت‪ ،‬وأن يؤمن بعذاب القبر‪ ،‬وأنه حق وحكمه عدل على الجسم والروح على ما يشاء‪،‬‬
‫ويوقن بالميزان ذى الكفتين واللسان‪ ،‬وصفته في العظم أنه مثل طباق السموات والرضين توزن فيه العمال بقدرة ا تعالى‪،‬‬
‫والصنج يومئاذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقا ل لكمال العدل‪ ،‬وتطرح صحائاف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور فيثقل بها‬
‫الميزان على قدر درجانها عند ا بفضل ا تعالى‪ ،‬وتطرح صحائاف السيئاات في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل ا تعالى‪،‬‬
‫وأن يمن بأن الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم ا‬
‫تعالى فيهوى بهم إلى النار‪ ،‬وتثبت عليه أقدام المؤمنين فيساقون إلى دار القرار‪ ،‬وأن يؤمن بالحوض المورود ‪ :‬حوض محمد‬
‫صلى ا عليه وسلم يشرب منه المؤمن قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدلا‪ ،‬عرضه السماء‪،‬‬
‫فيه ميزابان يصبان الكوثر‪ ،‬ويؤمن بيوم الحساب وإلى مسامح فيه‪ ،‬وإلى من يدخل الجنة بغير حساب‪ ،‬وهم المقربون فيسأل من‬
‫شاء من النبياء عن تبليغ الرسالة‪ ،‬ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين‪ ،‬ويسأل المبدعين عن السنة‪ ،‬ويسأل المسلمين عن‬
‫العمال‪ ،‬ويؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد النتقام حتى ل يبقى في جهنم موحد بفضل ا تعالى‪ ،‬ويؤمن بشفاعة النبياء ثم‬
‫العلماء ثم الشهداء ثم سائار المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته‪ ،‬ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل ا‬
‫تعالى‪ ،‬ول يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‪،‬وأن يعتقد فضل الصحابة ورتبتهم‪ ،‬وأن‬
‫فضل الناس بعد رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ :‬أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان ‪ ،‬ثم علي رضي ا عنهم‪ ،‬وأن يحسن الظن بجميع‬
‫الصحابة ويثني عليهم كما أثنى ا تعالى ورسوله صلى ا عليه وسلم عليهم أجمعين‪ ،‬فكل ذلك مما وردت فيه السنة وشهدت‬
‫الثار‪ ،‬فمن اعتقد جميع ذلك موقنا ل به كان من أهل الحق وعصابة السنة‪ ،‬وفارق رهط الضلل والبدعة‪ .‬فنسأل ا تعالى كمال‬
‫اليقين‪ ،‬والثبات في الدنيا لنا ولكافة المسلمين إنه أرحم الراحمين‪ ،‬وصلى ا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫صفحة ‪178‬‬
‫خلصة التصانيف في التصدوف‬
‫خطبة الكتاب‬
‫الحمد ل الذيِ أودع لطائاف أسراره قلوب العارفين‪ ،‬وجعل البيان طريقا ل لوصولها إلى المسترشدين والصلة والسلم على‬
‫أفصح النبياء لسانا ل وأوضحهم بياتا ل ‪ ،‬وعلى آله وصحبه الهادين‪ ،‬وعلى جميع علماء شريعته العاملين‪.‬‬
‫أما بعد ‪ :‬فيقول المستعين بربه المبين الفقير إليه‪) ،‬محمد أمين( تاشافعي مذهبلا‪ ،‬النقشبنديِ مشربلا‪ ،‬الكرديِ نسبه‪ ،‬الربلي بلدة‪،‬‬
‫الزهريِ إقامة‪ :‬إنه قد أظفرني ا وله الحمد بدرة غربية‪ ،‬من العلوم اللهية‪ ،‬موحشة بوشاح اللغة الفارسية‪ .‬فاحتجت عمن ليس‬
‫له إلمام بها وهو من أنفس تصانيف العالم العلمة والبحر الفهامة‪ ،‬حجة السلم الشيخ محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي‬
‫صاحب )كتاب الحياء( وهو الغني عن التعريف قدس ا سره‪ ،‬وأفاض على المسلمين بره‪ ،‬فرأيت من نصيحة المسلمين‪ ،‬وخدمة‬
‫الدين‪ ،‬أن أستعين بال على ترجمتها من )الفارسية إلى العربية( مع رقة اللفظ وجزاله المعنى وسهولة المبنى كي ينتفع بها الخاص‬
‫والعام‪ .‬وا أسأل أن يمن علينا بالفوز بدار السلم‪ .‬قال ناقلها الفارسي في بيان سبب تأليف الستاذ لهذه الرسالة الموسومة‬
‫)بخلصة التصانيف( بعد الثناء على ا تعالى وما يتصل به ما هذا ترجمته ‪:‬‬
‫أما بعد ‪ :‬فقد كان رجل من تلمذة حجة السلم محمد بن محمد بن محمد الغزالي قدس ا سره العالى قد تعب في تحصيل‬
‫العلوم مدة من السنين حتى حاز من كل فن نصيبا ل وافرال ففي ذات يوم صار يتفكر في نفسه ويقول ‪ :‬إني قد أتعبت نفسي مدة طويلة‬
‫في تحصيل العلوم‪ ،‬والن ل أدريِ أيِ علم أنفع لي منها ليكون سببا ل لهدايتي ويقودني في عرصات القيامة‪ .‬ول أدريِ أيضا ل غير‬
‫النافع منها حتى أتباعد أحترز منه كما قال عليه الصلة والسلم ‪) :‬نعوذ بال من علم ل ينفع(‪ .‬وما زالت هذه الفكرة غلبت عليه‬
‫حتى حملته على أن يكتب إلى شيخه كتابا ل يستفتيه فيه عن قصته هذه ومسائال أخرى‪ .‬ويطلب منه مع ذلك النصيحة والدعاء‪.‬‬
‫قال غيه ‪ :‬موليِ إن كان الطريف إلى جوابي مدونا ل في كتبك العديدة كإحياء العلوم‪ ،‬وكيمياء السعادة وجواهر القرآن وميزان‬
‫العمل والقسطاس المستقيم ومعراج القدس ومنهاج العابدين وأمثالها‪ .‬فإن خادمك ضعيف كليل الطرف عن المطالعة فيها‪ ،‬فأطلب‬
‫من سيديِ وأستاذيِ مختصرال أقرؤه كل يوم وأعمل بما فيه إلى آخر ما قال‪ ،‬فكتب الشبخ في رده الكتاب التي وأرسله إليه وهو‬
‫قوله رضي ا عنه‪.‬‬
‫صفحة ‪179‬‬
‫اعلم أيها الولد العزيز ‪ ،‬و الصاحب المخلص أطال ا بقائاك في طاعته و سلك بك طريق أحبابه‪ .‬أن جميع نصائاح الولين و‬
‫الخرين مجموعة في أحاديث سيد المرسلين صلى ا عليه و سلم لنه هو الذيِ أوتى جوامع الكلم‪ ،‬فكل ناصح مهما نصح فهو‬
‫متطفل على موائاد نصحه صلى ا عليه و سلم‪) :‬فإن وصلك شيء من النصائاح النبوية فل حاجة لك إلى نصائاحي‪ .‬وإن لم يصل‬
‫إليك شيء منها فقل لي ما الذيِ حصلته من علومك فيما أمضيته من عمرك الذيِ ضيعته سدى(‪.‬‬
‫أيهل الولد‪ :‬كل نصائاح الولين و الخرين في مقالت سيد المرسلين مكتوبة للعالمين‪ ،‬وكل منها يفيد فائادة تامة‪ .‬فمنها هذا الحديث‬
‫و هو‪)) :‬علمة إعراض ا تعالى عن العبد اشتغاله بما ل يعنيه ‪ ،‬وإن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن‬
‫تطول عليه حسرته ‪ ،‬ومن جاوز الربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار((‪ .‬فهذه النصيحة و الموعظة كافية لهل الدنيا‪.‬‬
‫يا ولديِ‪ :‬فعل النصيحة سهل و الصعوبة في قبولها و العمل بها لن طعم النصيحة في فم عابد الهوى مر و المنهيات محبوبة على‬
‫العموم‪ .‬خصوصا عند من يبذل همته في طلب علوم الرسم و الفضل و المهارة و نحوها لكتساب العز و الشرف الدنيويِ لنه إنما‬
‫يقصد بتحصيل العلوم مجرد العلم مجرد العلم دون العمل له لينسب إليه العلم و يقال‪ :‬فلن عالم فاضل فهذه عقيدة فاسدة و هذا‬
‫القدر هو )نهاية مذهب الفلسفة( و العياذ بال إذ غايتهم تحصيل العلم بدون التفات إاى العمل‪ ،‬ولم يعلموا أن العلم يكون عليهم‬
‫حجة بالغة و هم في غفلة عن قوله صلى ا عليه و سلم‪)) :‬إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم ل ينفعه ا بعلمه((‪.‬‬
‫و روى المام أحمد و البيهقي عن منصور بن زاذان قال‪)) :‬بلغنا أن العالم إذا لم ينتفع بعلمه ‪ ,‬تصيح أهل النار من نتن ريحه‬
‫ويقولون له‪ :‬ماذا كنت تفعل يا خبيث‪ ،‬فقد آذيتنا بنتن ريحك‪ .‬أما يكفيك ما نحن فيه من الذيِ والشر؟ فيقول لهم‪ :‬كنت عالما فلم‬
‫أنتفع بعلمي((‪.‬‬
‫وحكي أن بعض أكابر أصحاب الجنيد رآه في نومه بعد وفاته فقال ‪ :‬ما فعل ا بك ؟‬
‫قال ‪ :‬طاحت تلك الشارات ‪ .‬وغابت تلك العبارات ‪ .‬وفنيت تلك العلوم ‪.‬ونفذت تلك الرسوم ‪ ,‬وما نفعنا إل ركيعات‪ ،‬كنا نركعها‬
‫في جوف الليل‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬ينبغي أن ل تكون مفلسا من العمال خاليا من الحوال والمعاني الشريفة العالية‪ ،‬واعلم يقينا أن العلم بمجرده ل يأخذ‬
‫بيدك يوم القيامة ويتضح لك هذا بضرب مثال‪ ،‬أرأيت لو أن رجل يحسن الحرب بينما هو يسير في مفازة ومعه عشرة سيوف‬
‫هندية وقسي وسهام في غاية الجودة‪ ،‬وقد تقلد بها إذ فاجأه أسد عظيم هل تدفع عنه هذه‬
‫ص ‪180‬‬
‫السلحة بمجردها من شر السد شيئاا ل ‪ ،‬أنت على يقين تام بأنها ل تغني عنه شيئاا ل حتى يستعملها فيما قصد منها ‪ ،‬فكذلك لو أن‬
‫شخصا ل علم مئاة ألف مسألة ولم يعمل بواحدة ‪ ،‬فأنت تعلم أن هذا العلم ل يفيده فائادة ما ‪ .‬ولنضرب لك مثالل آخر فنقول ‪ :‬لو أن‬
‫شخصا ل به مرض وضعف من الحرارة والصفراء وعلم علما ل ليس معه شك أن شفاءه في تناول السكنجبين ولكنه لم يتناوله ‪ ،‬فهذا‬
‫العلم ليس بنافع في الشفاء ول دافع للداء حتى يعمل به ‪:‬‬
‫لو كلت ألفي رطل خمر لم تكن لتصير نشوانا ل إذا لم تشرب‬
‫فاعلم أنه ل يفيدك كثرة تحصيل العلم وجمع الكتب ما لم تعمل ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬إن لم تكن مستعدال لئاقا ل لرحمة الله عز وجل بالعمل الصالح لم تصل إليك رحمته ‪ .‬واسمع الدليل من القرآن ‪ } :‬وأن‬
‫ليس للنسان إل ما سعى { ) النجم ‪. ( 39 :‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬إن ظننت أن هذه الية منسوخة فماذا تقول في قوله تعالى في آيات أخرى ‪ } :‬فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملل‬
‫صالحا ل { ) الكهف ‪ . ( 110 :‬وفي قوله ‪ } :‬جزاء بما كانوا يعملون { ) الواقعة ‪ . ( 24 :‬وفي قوله ‪ } :‬إن الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلل )‪ (107‬خالدين فيها { ) الكهف ‪ . ( 108 ، 107 :‬وفي قوله ‪ } :‬إل من تاب وآمن‬
‫وعمل صالحا ل { ) الفرقان ‪ . ( 70 :‬وماذا تقول في حديث ‪ " :‬بني السلم على خمس ‪ :‬شهادة أن ل إله إل ا وأن محمدال رسول‬
‫ا ‪ ،‬وإقام الصلة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪ ،‬وحج البيت من استطاع إليه سبيلل " ‪ .‬وفي حديث ‪ " :‬اليمان إقرار باللسان‬
‫‪ ،‬وتصديق بالجنان ‪ ،‬وعمل بالركان " ‪ .‬والدلئال على أن سلمة العبد بالعمل كثيرة ل تعد ول تحصى ‪ .‬فإن خطر لك من كلمي‬
‫أن العبد يدخل الجنة بعمله ل بفضل ا ورحمته فما فهمت كلمي !‬
‫واعلم أني ل أقول ذلك ‪ ،‬بل أقول إن العبد يدخل الجنة بفضل ا وكرمه ورحمته ‪ ،‬غير أن رحمة ا تعالى ل تصل إلى العبد إل‬
‫إذا كان مستعدال لها ولئاقا ل لن يكون محلل لها ‪ ،‬ول يكون كذلك إل بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وملزمة الطاعات‬
‫والقرب والخلص في العمل كما يشير إليه قوله تعالى ‪ } :‬إن رحمت ا قريب من المحسنين { ) العراف ‪ . ( 56 :‬حيث أخبر‬
‫تعالى بقرب رحمته من المحسنين ‪ ،‬وقد قال صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬الحسان أن تعبد ا كأنك تراه " ‪ ،‬فهو يفيد بعد رحمته من‬
‫غير المحسنين ‪ .‬فإن لم تكن مستعدال لرحمته على الوجه المذكور ل تصل إليك رحمته ‪ ،‬وإذا لم تصل إليك رحمته ل تدخل الجنة ‪،‬‬
‫فإن قال أحد إن العبد يدخل الجنة بمجرد اليمان ‪ .‬قلنا ‪ :‬نعم ‪ .‬ولكن حتى‬
‫ص ‪181‬‬
‫يذوق صعوبة العقبات التي ل يسهلها إل صالحات العمال إذ ل يصل العبد إليها إل بالعبور على الصراط ‪ ،‬وما مشينا عليه إل‬
‫على صورة مشينا على الصراط المعنويِ في هذه الدار ‪ ،‬وما اختلف الناس في السرعة والبطء إل باختلفهم هنا في المبادرة إلى‬
‫الطاعة والتخلف عنها ‪ ،‬فمن تحفظ هنا حفظ هناك ‪ ،‬ومن أبطأ هنا زلت به قدمه هناك ‪ ،‬كما أن شربنا من حوض النبي صلى ا‬
‫عليه وآله وسلم يكون بقدر تضلعنا من الشريعة المطهرة ‪ ،‬وإذال فمعنى كون دخول الجنة بفضل ا أن يوفقك لصالح العمل بفضله‬
‫لتكون صالحا ل ومتهيئاا ل لرحمته وفضله فيدخلك الجنة ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬اعلم يقينا ل أنك إن لم تعمل لم تأخذ أجرة العمل ‪.‬‬
‫وحكي أن عبدال من بني إسرائايل عبد ا مخلصا ل سنين عديدة فأراد البارئ جل وعل أن يظهر إخلصه للملئاكة ‪ ،‬فبعث ا ملكا ل‬
‫يخبره أن ا تعالى يقول ‪ :‬إلى متى تسعى هذا السعي وتتعب نفسك في العبادة ‪ ،‬وأنت من أهل النار ؟ فأخبره الملك بما قاله المولى‬
‫‪ .‬فقال العبد في جوابه ‪ :‬أنا عبد ‪ ،‬وشأن العبد العبودية ‪ .‬وهو إله ‪ ،‬وشأن اللوهية ل يعلمه إل هو ‪ .‬فرجع الملك إلى ربه وقال ‪:‬‬
‫إلهي أنت تعلم السر وأخفى وتعلم ما قاله عبدك ‪ ،‬فقال ا تعالى ‪ :‬إذا كان هذا العبد مع ضعفه لم يرجع عنا ‪ ،‬فكيف نرجع عنه مع‬
‫كرمنا ؟! ‪ ..‬اشهدوا يا ملئاكتي أني غفرت له ‪.‬‬
‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫يا ولديِ ‪ :‬اسمع حديث النبي صلى ا عليه وسلم ماذا يقول ‪ " :‬حاسبوا أنفسكم قبل أن تحادسبوا ‪ ،‬وهزنوا قبل أن توزنوا " ‪ .‬وقال‬
‫أمير المؤمنين علي كرم ا وجهه ‪ " :‬من ظن أنه بدون الجهد يصل إلى الجنة فهو متمن ‪ .‬ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو‬
‫متعن " ‪ .‬وقال الحسن البصريِ رحمه ا تعالى ‪ " :‬طلب الجنة بل عمل ذنب من الذنوب " ‪ .‬وفي الحديث القدسي ‪ " :‬ما أقل‬
‫حياء من يطمع في جنتي بغير عمل ‪ ،‬كيف أجود برحمتي على من بخل بطاعتي ؟! " وقال أحد الكابر ‪ " :‬الحقيقة ترك ملحظة‬
‫س‬‫العمل ‪ ،‬ل ترك العمل " ‪ .‬وفي حديث المصطفى صلى ا عليه وآله وسلم أحسن وأشرف وأوضح من الكل ‪ ،‬حيث قال ‪ " :‬الدكرَي ا‬
‫من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ‪ ،‬والحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا " ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬كثيرال ما أحييت الليالي بتكرار العلم والمطالعة ول أدريِ ما الباعث لك على ذلك ‪ .‬إن كان غرضك الدنيا وجذب‬
‫حطامها وتحصيل المناصب والمباهاة على أقرانك وأمثالك ‪ ،‬فويل لك ثم ويل لك ‪ .‬وإن كان غرضك إحياء الشريعة والدين‬
‫المحمديِ وتهذيب الخلق ‪ ،‬فطوبى لك ثم طوبى لك ‪ ،‬ولقد صدق من قال ‪:‬‬
‫سهر العيون لغير وجهك ضائاع وبكاؤهن لغير فقدك باطل‬
‫ص ‪182‬‬
‫وقال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم ‪ " :‬عش ما شئات فإنك ميت ‪ ،‬وأحبب من شئات فإنك مفارقه ‪ ،‬واعمل ما شئات فإنك‬
‫مجزيِ به " ‪ .‬ما فائادتك في تحصيل علم الكلم والخلف والطب والدواوين والشعار والنجوم والنحو والتصريف وغيرها ؟! ما‬
‫حصلت غير تضييع عمرك في الغفلة عن جلل ا وعظمته وقدره ‪ ،‬لني قرأت في إنجيل عيسى عليه السلم ‪ :‬إن العبد إذا مات‬
‫ووضع في قبره يسأله ا تعالى بنفسه أربعين سؤالل ‪ " :‬عبديِ قد طهرت منظر الخلق سنين ‪ ،‬هل طهرت منظريِ ساعة ؟ " ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬كل يوم ينادى في قلبك وإن لم تسمع ‪ ) ..‬ما تصنع بغيريِ وأنت محفوف بخيريِ؟! (‬
‫يا ولديِ ‪ :‬العلم بغير عمل جنوني ‪ ،‬والعلم بغير علم أجنبي ‪ ،‬لن العلم إن لم يباعدك اليوم عن المعاصي ولم يصيرك طائاعا ل لم‬
‫يباعدك غدال من نار جهنم ‪ ،‬فإن لم تعمل اليوم ولم تتدارك ما فاتك من اليام الماضية ‪ ،‬غدال في القيامة تقول ‪ } :‬فارجعنا نعمل‬
‫صالحا ل { ) السجدة ‪ . ( 12 :‬فيقال لك ‪ :‬أيها الحمق أنت أتيت منها فكيف ترجع إليها ؟! ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬الهمة العالية أن تصرف روحك في الطاعات قبل فرار روحك من الجسد بالموت ‪ ،‬لن الدنيا منزلتك إلى أن تصل إلى‬
‫المقابر ‪ ،‬وهؤلء القوم الذين في منازل المقابر ينتظرونك في كل لحظة إلى أن تصل إليهم ‪ ،‬فالحذر من أن تذهب بغير زاد ‪ .‬قال‬
‫الصديق الكبر ‪ " :‬الجساد قفص الطيور أو اصطبل الدواب " ‪ .‬فتأمل في نفسك من أيهما أنت ‪ .‬فإن كنت من الطيور أصحاب‬
‫العشاش سمعت صوت طبل ‪ } :‬ارجعي إلى ربك راضية مرضية { )الفجر ‪ . ( 28 :‬فطر لتجلس بمكان أعلى ‪ ،‬وإن كنت من‬
‫الدواب – والعياذ بال – كنت ممن قال ا فيهم ‪ } :‬أولئاك كالنعام بل هم أضل { )العراف ‪ . ( 179 :‬واعلم يقينا ل أنك حينئاءذ‬
‫بعثت ذخيرتك في زاوية إلى هاوية ‪.‬‬
‫نقل أن الحسن البصريِ عطش يوما ل وكان شديد الحر فأتي له بقدح من الماء البارد فلما مسه بيده وأحس ببرودة مائاه صاح صيحة‬
‫عظيمة وخير مغشيا ل عليه ‪ ،‬فوقع القدح من يده ‪ .‬فلما أفاق قيل له ‪ :‬ما الذيِ حصل لك ؟ قال ‪ :‬ذكرت آية أهل النار حين يذكرون‬
‫أهل الجنة ‪ } :‬أن أفيضوا علينا من الماء { ) العراف ‪( 50 :‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬إن كان يكفيك العلم المجرد ولم تحتج إلى العمل فماذا تقول في نداء ‪ :‬هل من سائال ؟ هل من تائاب ؟ هل من متسغفر ؟ ‪..‬‬
‫لنه ورد في أخبار صحيحة أنه إذا مضى نصف الليل والناس نيام يناديِ المولى سبحانه وتعالى بنفسه ‪ " :‬هل من تائاب ؟ هل من‬
‫سائال ؟ هل من مستغفر ؟ " ‪ ،‬ولذلك صار القيام والستغفار بالسحار مطلوبا ل ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬كانوا قليلل من الليل ما يهجعون )‬
‫‪ (17‬وبالسحار هم يتسغفرون { )الذاريات ‪( 18 ، 17 :‬‬
‫ص ‪183‬‬
‫قيل ‪ :‬إن جماعة من الصحابة رضي ا عنهم كانوا جالسين ذات يوم بين يديِ النبي صلى ا عليه وآله وسلم فذكروا عبد ا بن‬
‫عمر بن الخطاب بخير ‪ ،‬فقال صلى ا عليه وآله وسلم ‪ " :‬هنعم الرجل ‪ ،‬لو يصلي الليل " ‪ .‬وأيضا ل قال رسول ا صلى ا عليه‬
‫وآله وسلم لحد الصحابة ‪ " :‬ل تكثر النوم بالليل ‪ ،‬فإن كثرة النوم بالليل تدع صاحبها فقيرال يوم القيامة " ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬قوله تعالى ‪ } :‬ومن الليل فتهجد به نافلة لك { )السراء ‪ (89 :‬أمر ‪ } .‬وبالسحار هم يستغفرون { شكر ‪} .‬‬
‫والمستغفرين بالسحار { ذكر ‪ .‬يقول النبي صلى ا عليه وآله وسلم ‪ " :‬ثلثة أصوات يحبها ا تعالى ‪ :‬صوت الديك ‪ ،‬وصوت‬
‫الذيِ يقرأ القرآن ‪ ،‬وصوت المستغفرين بالسحار " ‪ .‬ويقول سفيان الثوريِ رحمه ا ‪ :‬إن ل تعالى ريحا ل تهب وقت السحار ‪،‬‬
‫تحمل الذكار والستغفار إلى الملك الجبار ‪ .‬وأيضا ل له ‪ :‬إذا كان أول الليل ‪ ،‬نادى مناءد من تحت العرش ‪ " :‬أل ليقم العابدون "‬
‫فيقومون فيصلون ما شاء ا ‪ ،‬ثم يناديِ مناد في شطر الليل ‪ " :‬أل ليقم القانتون " فيقومون فيصلون إلى السحر ‪ ،‬فإذا كان السحر‬
‫يناديِ مناد ‪ " :‬أل ليقم المستغفرون " فيقومون فيستغفرون ‪ ،‬فإذا طلع الفجر نادى مناءد ‪ " :‬أل ليقم الغافلون " فيقومون من‬
‫مفرشتهم كالموتى نشروا من قبورهم ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬ورد في وصايا لقمان أنه قال لبنه ‪ " :‬يا بني ‪ ،‬ل يكونن الديك أكيس منك ‪ ،‬يناديِ بالسحار وأنت نائام " ‪ .‬وما أجمل‬
‫وأليق من قول القائال حين قال ‪:‬‬
‫لقد هتفت في اجلنهح ليل حمامسة على فنن دولهنا ل وإني نائام‬
‫ت – وبيت ا – لو كنت عاشقا ل لما سبقتني بالبكاء الحمائام‬ ‫كذب ا‬
‫وأزعم أني هائام ذو صبابة لربي ول أبكي وتبكي البهائام‬
‫يا ولديِ ‪) :‬خلصة النصيحة( أن تعلم حقيقة الطاعة والعبادة ما هي ؟ العبادة هي متابعة الشارع صلى ا عليه وآله وسلم في‬
‫الوامر والنواهي ‪ ،‬فإن فعلت فعلل ولست بمأمور به فليس بعبادة ‪ ،‬وإن كان ذلك الفعل في صورة العبادة ‪ ،‬بل قد يكون عصيانا ل‬
‫وإن كان صوما ل وصللة ‪ .‬أل ترى أنه إذا صام شخص يوم العيدين وأيام التشريق يكون عاصيا ل ؟! وإن كان ما فعله في صورة‬
‫العبادة لنه لم يؤمن به ‪ ،‬وكذا من صلى في الوقات المكروهة أو في المواضع المغصوبة يكون آثما ل ‪.‬‬
‫واعلم أنه إذا مزح شخص مع محرمه فإنه مأجور وإن كان ذلك في صورة لعب ‪ ،‬لن هذا اللعب مأمور به ‪ ،‬وبذا صار معلوما ل‬
‫أن العبادة الحقيقية هي امتثال المر ل مجرد الصلة والصوم ‪ ،‬لن الصلة والصوم ل يكونان عبادة إل إذا كان مأمورال بهما ‪.‬‬
‫ص ‪184‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬فليكن جميع أحوالك وأقوالك مأمورال به موافقا ل للشريعة ‪ ،‬لن علم وعمل المخلوقات بغير فتوى المصطفى صلى ا‬
‫عليه وآله وسلم ضللة وسبب للبعد عن ا تعالى ‪ ،‬ولهذا نسخ المصطفى صلى ا عليه وآله وسلم العمال السابقة ‪ ،‬فل تحرك‬
‫لسانك بكلمة تكون غير مأمور بها ‪ .‬وكن متيقنا ل أن طريق ا تعالى ل تقدر أن تصل إليه بغير ما لم تؤمر به ‪ ،‬ول تصل إليه أيضا ل‬
‫بالشطحات والترهات الصوفية ترسما ل ‪ ،‬بل ل تصل إلى هذا الطريق إل بقطع الهوى والشهوة وحظوظ النفس بسيف المجاهدات ل‬
‫بوثبات الشطحات والترهات ‪ ،‬فإن زعمت الوصول اغترارال منك بما تبديه من الكلم الرقيق وصفاء اليام والوقات وصلفة‬
‫اللسان مع تعلق القلب بالشهوات والغفلة كان ذلك علملة على الشقاء والوبال ‪ ،‬وإذا لم تقهر الهوى والنفس بالمجاهدات ‪ ،‬وتصيرها‬
‫تحت الشرع لم يكن القلب حيا ل بنور المعرفة ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬سألت أسئالة بعضها ل يكيف بالقول ول بالكتابة لنه ذوقي ‪ ،‬وكل ما كان ذوقيا ل ل يكيف بالقول ول بالكتابة فل تعلمه إل‬
‫إذا وصلت إليه ‪ ،‬وما مثلك في ذلك إل كمثل من جهل الحلوة أو المرارة مثلل وأراد أن يكفيه بمجرد القول والكتابة فل يقدر البتة ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬إن كتب هعينين لحد عيرف لذة الجماع ‪ ،‬يسأله عن لذة الجماع ‪ .‬كتب إليه في جوابه ‪ :‬إن هذا ذوقي ل تعرفه إل إذا‬
‫وصلت إليه ‪ ،‬وإل فل يكيف بالقول والكتابة ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬بعض أسئالتك من هذا القبيل ‪ .‬وأما القدر الذيِ يكيف بالقول والكتابة فقد بينته في كتابنا )إحياء العلوم( وغيره من‬
‫التصانيف فاطلبه هناك ‪ ،‬وأما هنا فما قلنا على طريقة الشارة ‪ :‬وسألتني عما يجب على مريد طريق الحق جل وعل ‪.‬‬
‫فاعلم ‪ :‬أن أول ما يجب عليه ‪ ،‬العتقاد السليم الخالي من البدع ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬التوبة النصوح بأن ل يرجع إلى الزلت ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إرضاء الخصماء حتى ل يبقى عليه حق المخلوق ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬تحصيل علم الشريعة بقدر ما يعمل بأوامر ا ويقف عن نواهيه ‪ ،‬ول يجب عليه من علم الشريعة سوى ذلك ‪ ،‬وأما غير‬
‫علم الشريعة فيكفيه أن يتعلم القدر الذيِ به خلصه ونجاته ‪ ،‬وهذا الكلم يكون معلوما ل لك ‪ .‬اينقل حكاية وردت عن المشايخ وهي‬
‫أن الشبلي رحمه ا قال ‪ :‬إني خدمت أربعمئاة أستاذ ‪ ،‬وقرأت عليهم أربعة آلف حديث ‪ ،‬واخترت منها حديثا ل واحدال وعملت به‬
‫وتركت الباقي ‪ ،‬لني تأملت في هذا الحديث الواحد فرأيت فيه خلصي ونجاتي ‪ ،‬وأيضا ل رأيت أن علم الولين والخرين مندرج‬
‫فيه ‪ ،‬وهو قوله صلى ا عليه وآله وسلم ‪ " :‬اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ‪ ،‬واعمل لخرتك بقدر بقائاك فيها ‪ ،‬واعمل ل بقدر‬
‫حاجتك إليه ‪ ،‬واعمل للنار بقدر صبرك عليها " ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬من هذا الحديث اعلم لك أنك ل تحتاج للعلم الكثير‪ ،‬وتحصيل كثرة العلم من فروض الكفاية ل من فروض العيان ‪،‬‬
‫وتأمل هذه الحكاية حتى تكون متيقنا ل ‪ .‬ورد‬
‫ص ‪185‬‬
‫أن حاتما ل الصم كان من تلمذة شفيق البلخي رحمة ا عليهما ‪ ،‬فقال شفيق ذات يوم ‪ :‬يا حاتم كم سنة أنت في صحبتي ؟ قال ‪:‬‬
‫ثلثا ل وثلثين سنة ‪ .‬فقال ‪ :‬ما الذيِ حصلته من العلوم وكم فائادة أخذت مني ؟ قال ‪ :‬تحصلت على ثمان فوائاد ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬إنا ل‬
‫وإنا إليه راجعون ‪ ،‬يا حاتم أنا صرفت عمريِ معك في تعليمك ‪ ،‬وأنت ما تحصلت مني سوى على هذه الفوائاد ! فقال حاتم ‪ :‬يا‬
‫أستاذيِ ‪ ،‬إن طلبت مني الصدق فما تحصلت على غير الذيِ قلته ‪ ،‬ولم أطلب تحصيل غيرها ؛ لني تيقنت أني ل أتحصل على‬
‫خلصي ونجاتي في الدارين إل بهذه الثمانية ‪ ،‬وإن ما سواها مستغءن عنه بها ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬قل لي ما هذه الفوائاد الثمانية؟ فقال ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬نظرت في المخلوقات ورأيت كل واحد منهم اختار محبوبا ل ‪ ،‬فالبعض يصحب المحب إلى مرض الموت والبعض إلى‬
‫طرف القبر ‪ ،‬وبعد ذلك يودعونه ويرجعون ول يدخلون معه القبر ‪ ،‬وتأملت لجد محبوبا ل يكون لي رفيقا ل وأنيسا ل في القبر فما‬
‫وجدت سوى العمل الصالح ‪ ،‬فلهذا اخترته وجعلته محبوبا ل ليكون رفيقا ل ومؤنسا ل في القبر ‪ .‬فقال شفيق ‪ :‬أحسنت يا حاتم ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬نظرت في المخلوقات فرأيت الكل أسير النفس والهوى ‪ ،‬وتأملت قوله تعالى ‪ } :‬وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن‬
‫الهوى )‪ (40‬فإن الجنة هي المأوى { )النازعات ‪ . (41 ، 40 :‬فعلمت يقينا ل أن القرآن حق ‪ ،‬وخالفت النفس المارة بالسوء ‪،‬‬
‫وشددت المنطقة في المجاهدات ‪ ،‬وما أعطيتها مآربها وآمالها حتى انقادت تحت طاعة الحق ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬بارك ا فيك ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬نظرت إلى هذا الخلق ‪ ،‬فرأيت كل واحد يسعى ويتعب في تحصيل شيء من حطام الدنيا ‪ ،‬وما تحصلوا عليه حفظوه‬
‫وفرحوا به لظنهم أنهم تحصلوا على شيء ‪ ،‬ثم نظرت في قوله تعالى ‪ } :‬ما عندكم ينفد وما عند ا باءق { )النحل ‪ . (96 :‬فما‬
‫حصلته وجمعته في سنين ‪ ،‬تصدقت به على الفقراء وجعلته وديعة عند ا ليكون لي عنده باقيا ل وزادال مدخرال لخرتي ‪ .‬قال شفيق‬
‫‪ :‬أحسنت ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬إني نظرت في هذا العالم فرأيت قوما ل يظنون أن شرف النسان وعزه بكثرة القارب والعشائار ويفتخرون بها ‪ .‬وقوما ل‬
‫يظنون أن شرف النسان وكبرياءه بكثرة الموال والولد فافتخروا بها ‪ ،‬وبعضهم يظنون أن العز والشرف بالغضب والسب‬
‫والضرب وسفك الدماء فافتخروا بذلك ‪ ،‬ونظرت في قوله تعالى ‪ } :‬إن أكرمكم عند ا أتقاكم { ) الحجرات ‪ ( 13 :‬فعلمت أن‬
‫القرآن حق ‪ ،‬وأن ظنون الخلق خطأ ‪ ،‬فاخترت التقوى حتى أكون عند ا من المكرمين ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬أحسنت ‪.‬‬
‫ص ‪186‬‬
‫الخامسة ‪ :‬نظرت إلى هذا الخلق ‪ ،‬فرأيت قوما ل يبغض ويحسد بعضهم بعضا ل بسبب حب المال والجاه ‪ ،‬وإني نظرت إلى قوله‬
‫تعالى ‪ } :‬نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا { )الزخرف ‪ . (32 :‬وإني علمت أن هذه القسمة ثابتة في الزل ل اختيار‬
‫لحد فيها ‪ ،‬فما حسدت أحدال بعد ‪ ،‬ورضيت بقسمة البارئ تعالى واصطلحت مع أهل الدنيا ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬أحسنت ‪.‬‬
‫السادسة ‪ :‬نظرت إلى هذا العالم فرأيت بعضهم يعاديِ بعضا ل بسبب أغراض نفسانية ووساوس شيطانية ‪ ،‬ونظرت في قوله تعالى ‪:‬‬
‫} إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوال { )فاطر ‪ . ( 6 :‬وعلمت أن القرآن حق ‪ ،‬وأن غير الشيطان واتباعه ل يكون عدوال فاتخذت‬
‫الشيطان عدويِ ولم أطعه في أمر ما ‪ ،‬وامتثلت أمر ا تعالى وراقبت عظمته ولم أعاد أحدال من خلقه ‪ ،‬وعلمت أن الصراط‬
‫المستقيم في قوله تعالى ‪ } :‬ألم أعهد إليكم يا بني آدم أل تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين )‪ (60‬وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم‬
‫{ )يس ‪ . ( 61 ، 60 :‬قال شفيق ‪ :‬أحسنت يا حاتم ‪.‬‬
‫السابعة ‪ :‬نظرت في هذا العالم فرأيت كل واحد يصرف غاية جهده وقد أذل نفسه في تحصيل القوت ‪ ،‬وبسبب ذلك قد وقعوا في‬
‫الحرام والشبهات ‪ ،‬ونظرت في قوله تعالى ‪ } :‬وما من دابة في الرض إل على ا رزقها { )هود ‪ . ( 6 :‬وفي قوله تعالى ‪} :‬‬
‫وأن ليس للنسان إل ما سعى { )النجم ‪ . (39 :‬فعلمت أني أحد الدواب في الرض ‪ ،‬وأن رزقي مضمون منه تعالى ‪ ،‬وأني‬
‫مكلف بالسعي في طلب الخرة فاشتغلت بالخالق ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬أحسنت ‪.‬‬
‫الثامنة ‪ :‬نظرت إلى هذا الخلق فرأيت بعضها يعتمد على ماله وملكه ‪ ،‬وبعضا ل يعتمد على حرفته وصناعته ‪ ،‬وبعضا ل يعتمد على‬
‫مخلوق مثله ‪ ،‬وتأملت في قوله تعالى ‪ } :‬ومن يتوكل على ا فهو حسبه { )الطلق ‪ . ( 3 :‬فتوكلت على ا تعالى وهو حسبي‬
‫ونعم الوكيل ‪ .‬قال شفيق ‪ :‬أحسنت يا حاتم ‪ ،‬وفقك ا تعالى ‪ ،‬إني نظرت في التوراة والنجيل والزبور والفرقان فوجدت ما في‬
‫الكتب الربعة ل يخرج عن هذه الفوائاد الثمانية ‪ ،‬والذيِ يعمل بها كأنه يعمل بما في الكتب الربعة ‪ .‬وبهذه الحكاية صار معلوما ل‬
‫لك أنك ل تحتاج إلى كثرة العلم ‪ ،‬ولنرجع الن إلى ما نحن فيه ونذكر لك مما يجب في حق سالك طريق الحق ‪.‬‬
‫ب ليدله على الطريق ويرفع عنه الخلق المذمومة ‪ ،‬ويضع مكانها الخلق المحمودة ‪ .‬ومعنى‬ ‫الخامس ‪ :‬أن يكون له مرشد ومر ي‬
‫التربية أن يكون المربي كالمزارع الذيِ يربي الزرع ‪ ،‬فكلما رأى حجرال أو نباتا ل مضرال بالزرع قلعه وطرحه خارجا ل ‪ ،‬ويسقي‬
‫الزرع مرارال إلى أن ينمو ويتربى ‪ ،‬ليكون أحسن من غيره ‪ ،‬وإذا علمت أن الزرع محتاج إلى المربي ‪ ،‬علمت أنه لبد‬
‫ص ‪187‬‬
‫ل‬
‫للسالك من مرشد مرب البتة ‪ ،‬لن ا تعالى أرسل الرسل عليهم الصلة والسلم للخلق ليكونوا دليل لهم ويرشدوهم إلى الطريق‬
‫المستقيم ‪ .‬وقبل انتقال المصطفى عليه الصلة والسلم إلى الدار الخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نوابا ل عنه ليدلوا الخلق إلى‬
‫طريق ا ‪ ،‬وهكذا إلى يوم القيامة ‪ ،‬فالسالك ل يستغني عن المرشد البتة ‪.‬‬
‫وشرط المرشد أن يكون عالما ل ‪ ،‬لكن ليس كل عالم يصلح للرشاد ‪ ،‬بل لبد أن يكون عالما ل له أهلية صناعة الرشاد ‪ ،‬ولهذا‬
‫المرشد علمات ونحن نذكر لك ما لبد له منها بطريق الجمال حتى ل يدعي الرشاد كل متحير ‪.‬‬
‫فالمرشد هو الذيِ يكون قد خرج من باطنه حب المال والجاه وتأسس بنيان تربيته على يد مرشد كذلك ‪ ،‬وهلم حتى تنتهي‬
‫السلسلة إلى النبي صلى ا عليه وآله وسلم ‪ ،‬وذاق بعض الرياضات كقلة الكل والكلم والنوم ‪ ،‬وكثرة الصلة والصدقة والصوم‬
‫‪ ،‬واقتبس نورال من أنوار سيدنا محمد صلى ا عليه وآله وسلم ‪ ،‬واشتهر بالسيرة الحسنة والخلق المحمودة من صبر وشكر‬
‫وتوكل ويقين وطمأنينة وسخاء وقناعة وأمانة وحلم وتواضع ومعرفة وصدق ووقار وحياء وسكون وتأن وأمثالها ‪ ،‬وتطهر من‬
‫الخلق الذميمة كالكبر والبخل والحسد والحقد والحرص والمل الطويل والطيش ونحوها ‪ ،‬وسلم من تعصب المتعصبين ‪،‬‬
‫واستغنى عن علم المكلفين بالعلم المتلقى عن رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم ‪ ،‬فالقتداء بمثل هذا المرشد هو عين الصواب ‪،‬‬
‫والظفر بمثله نادر لسيما في هذا الزمان ‪ ،‬فإنه كثر فيه من يدعي الرشاد وهو في الحقيقة يدعو الناس إلى اللهو واللغو ‪ ،‬بل ادعى‬
‫كثير من الملحدين الرشاد بمخالفة الشريعة ‪ ،‬وبسبب غلبة هؤلء المدعين اختفى المرشدون الحقيقيون في أركان الزوايا ‪ ،‬وبما‬
‫ذكرناه علم بعض علمات المرشد الحقيقي ‪ ،‬حتى أنه من وجد متخلفا ل بها علم أنه من المرشدين ‪ ،‬ومن لم يكن متخلفا ل بها علم أنه‬
‫من المدعين ‪ ،‬فإن تحصل أحد على مثل هذا المرشد وقبله المرشد وجب عليه احترامه ظاهرال وباطنا ل ‪.‬‬
‫فالحترام الظاهريِ أل يجادله ول ينكر عليه ول يقيم الحجة عليه في أيِ مسألة ذكرها ‪ .‬وإن تحقق خطأه ‪ ،‬وأن ل يظهر نفسه‬
‫أمام المرشد بفرش السجادة إل أن يكون إماما ل ‪ ،‬فإذا فرغ من الصلة ترك السجادة تأدبا ل معه ‪ ،‬وأن ل ينتقل كثيرال في حضرته ‪،‬‬
‫وأن يفعل كل ما أمره به قدر استطاعته ‪ ،‬وأن ل يسجد له ول لغيره لنه كفر ‪ ،‬وأن يبالغ في امتثال أمره ولو كان ظاهره في‬
‫صورة معصية ‪.‬‬
‫ل‬
‫والحترام الباطني أن كل ما سلمه له في الظاهر ل ينكره في الباطن وإل كان منافقا ‪ ،‬فإن لم يقدر على ذلك ترك صحبته حتى‬
‫يكون في باطنه موافقا ل لما في ظاهره لنه ل فائادة في الصحبة مع النكار ‪ ،‬بل ربما تكون سببا ل في هلكه ‪.‬‬
‫ص ‪188‬‬
‫السادس ‪ :‬مخالفة سياسة النفس وهذا ل يتيسر إل بترك جلساء السوء لتقصر عنه يد تصرف شيطان النس والجن وترفع عنه‬
‫التلوثات الشيطانية ‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬أن تختار جميع أحوال الفقراء ‪ ،‬لن أصل هذا الطريق فراغ القلب من حب الدنيا ‪ ،‬فإذا لم تختر جميع أحوال الفقراء ‪،‬‬
‫وجدت في قلبك السباب الدنيوية فقل أن تقدر على الخلص من حبها فترك السباب يكون سببا ل لفراغ القلب من حب الدنيا ‪ ،‬ول‬
‫يتيسر لك هذا الترك إل بذلك الختيار ‪ ،‬وهذه السبعة واجبة على سالك طريق ا ‪.‬‬
‫وسألت أيضا ل ما هو التصوف ؟ فاعلم أن التصوف شيئاان في الصدق مع ا تعالى وحسن المعاملة مع الناس ‪ ،‬فكل من صدق مع‬
‫ا وأحسن معاملة الخلق فهو صوفي ‪ ،‬والصدق مع ا تعالى هو أن يفني العبد حظوظ نفسه لمره تعالى ‪ ،‬وحسن المعاملة مع‬
‫الخلق هو أن ل يفضل مراده على مرادهم ما دام مرادهم موافقا ل للشرع ‪ ،‬لن كل من رضي بمخالفة الشرع أو خالفه ل يكون‬
‫صوفيا ل وإن ادعى التصوف يكون كذابا ل ‪.‬‬
‫وسألت ما هي العبودية ؟ فاعلم أن العبودية هي عبارة عن دوام حضور العبد مع الحق تعالى بل شعور الغير ‪ ،‬بل مع الذهول‬
‫عن كل ما سواه وهي ل تتأتى إل بثلثة أشياء ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬النتباه لمر الشارع ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الرضا بالقضاء والقدر وقسمة ا تعالى ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬ترك طلب اختيار نفسك وفرحك باختيار ا تعالى لك ‪.‬‬
‫وسألت ما هو التوكل ؟ فاعلم أن التوكل أن تثق بما وعد به ا وثوقا ل ل تضعفه الحوادث مهما كثرت وتعاظمت ‪ .‬يعني أن يكون‬
‫لك تمام اليقين بأن كل ما قسم لك يصل إليك وإن اجتمع أهل الدنيا ليدفعوه عنك ‪ ،‬وكل ما لم يقسم لك لن يصل إليك وإن ساعدك‬
‫أهل الدنيا ‪.‬‬
‫وكذلك سألت ما هو الخلص ؟ فاعلم أن الخلص هو أن تكون أفعالك كلها صادرة ل تعالى بحيث ل يكون في قلبك التفات‬
‫لشيء من الخلق حين العمل ول بعده ‪ ،‬كأن تحب ظهور أثر الطاعة عليك من نور الوجه وظهور أثر السجود في جبهتك ‪ .‬ومن‬
‫علمات إخلصك أن ل تفرح بثناء الخلق عليك ول تحزن بذمهم لك ‪ ،‬بل يستويِ عندك المران ‪ ،‬واعلم أن الرياء يتولد من‬
‫عظمة الخلق عندك فعلجه أن ترى الخلق مسخرال لقدرة ا ‪ ،‬وتلحظ أن الناس مثل الجمادات ل قدرة ول إرادة لهم فل يقدرون‬
‫أن يوصلوا إليك نفعا ل ول ضرال ‪ ،‬فإذا فعلت ذلك خلصت من هذا المرض ‪ ،‬وإل فما دمت تظن أن الخلق قادرون ومريدون ل يرتفع‬
‫عنك الرياء ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬أما بقية أسئالتك فبعضها مسطر في كتبي فاطلبه هناك ‪ ،‬وبعضها ل تنبغي كتابته ‪ ،‬لكن إذا عملت بما علمت يكشف لك‬
‫حقيقته ‪.‬‬
‫ص ‪189‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬إذا أشكل عليك شيء بعد هذا فل تسألني إل بلسان الحال ‪ .‬قال تعالى ‪ } :‬ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرال‬
‫لهم { )الحجرات ‪ ( 5 :‬واقبل نصيحة الخضر عليه السلم المشار إليها بقوله تعالى ‪ } :‬فل تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه‬
‫ذكرال { )الكهف ‪ . (70 :‬ول تستعجل بالسؤال لنك تصل إلى وقت يكون هو المبين لك ‪ ،‬أل ترى إشارة قوله تعالى ‪ } :‬سأريكم‬
‫آياتي فل تستعجلون { )النبياء ‪ . (37 :‬واعلم يقينا ل أنك إذا لم تسر لم تصل ولم تدر ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬أولم يسيروا في الرض‬
‫فينظروا { )الروم ‪ ، 9 :‬غافر ‪( 21 :‬‬
‫يا ولديِ ‪ ،‬إذا ذهبت في طريق ا سريعا ل ترى العجائاب ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ ،‬ل بد لك مع العمل من بذل روحك في سبيل الوصول إلى حضرة الحق ‪ ،‬فإن العمل بدون بذل الروح ل يفيد ‪ .‬قال ذو‬
‫النون المصريِ رحمة ا تعالى عليه لحد التلمذة ‪ :‬إن قدرت على بذل الروح فتعال ‪ ،‬وإل فل تشتغل بترهات الصوفية والقال ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ ،‬أختصر لك النصيحة في ثمانية أشياء ‪ :‬أربعة تركية وأربعة فعلية ‪ ،‬حتى ل يكون علمك يوم القيامة خصما ل لك وحجلة‬
‫عليك ‪.‬‬
‫أما التركية فأحدها ‪ :‬ترك المناظرة بقدر إمكانك وإقامة الحجة على كل من يذكر مسألة ‪ ،‬فإن آفات ذلك كثيرة وضرها أكثر من‬
‫نفعها ‪ ،‬إذ هي منبع كل الخلق الذميمة كالرياء والحقد والكبر والعداوة والمباهاة وغيرها ‪ ،‬فإن وقعت بينك وبين غيرك مسألة‬
‫وأنت تريد بالمناظرة أن ينكشف الحق جاز لك البحث في تلك المسألة بهذه النية ‪ ،‬ولصدق هذه النية علمتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬أل تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو لسان خصمك ‪ ،‬بل تحب أن تنكشف الحقيقة على يد خصمك ‪ ،‬ليكون‬
‫ذلك أدعى له إلى قبولها ‪ ،‬لن قبوله من نفسه أقرب إلى قبوله منك ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن يكون البحث في الخلوة أحب إليك منه في المل ‪ .‬أما إذا قلت لحد مسألة وأنت تعلم أن الحق بيدك وهو يستهزئ ‪،‬‬
‫فالحذر من أن تقيم الحجة معه واترك الكلم ‪ ،‬فإنه يؤديِ إلى الوحشة فل تكون معه فائادة ‪ ،‬وها هنا أذكر لك فائادة ‪.‬‬
‫اعلم أن السؤال عن الشياء المشكلة مثل عرض المريض علته على الطبيب والجواب مثل سعي الطبيب في شفاء المريض ‪،‬‬
‫فالجهلء مرضى والعلماء أطباؤهم ‪ ،‬والعالم الناقص ل يليق أن يكون طبيبا ل لهم ‪ ،‬بل الذيِ يداويِ المرضى هو العالم الكامل لنه‬
‫هو الذيِ يؤمل فيه أن يعرف حقيقة العلة ‪ ،‬وقد يكون المرض شديدال ل يمكن علجه ‪ ،‬فمهارة الطبيب تكون في عدم الشتغال‬
‫بمداواته ‪ ،‬واعلم أن مرض الجهل أربعة أقسام ‪ :‬ثلثة ل علج لها ‪ ،‬وواحد يمكن علجه ‪.‬‬
‫بداية الصفحة ‪190‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫فالول ‪ :‬أن يكون السؤال أو العتراض ناشئاا عن حسد والحسد مرض ل علج له‪ ،‬واعلم أنك كلما أجبته بأيِ جواب تزينه‬
‫وتوضحه له ل يزيده جوابك إل حسدا ول يزيده حده إل تتكبرا ‪ ،‬فينبغي أل تشتغل بجوابه وما أحسن قو الشاعر ‪:‬‬
‫كل العداوة قد ترجى إزالتها إل عداوة من عاداك من حسد‬
‫وتدبيره‪ :‬أن تتركه بمرضه وتعرض عنه عمل بقوله تعالى ‪ ) :‬فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا( )لبنجم ‪:‬‬
‫‪ . (29‬فإذا تعرضت له واشتغلت بمداواته فقد أشعلت نار حسده التي هي مما يحبط العمال ‪ ،‬كما في الحديث )الحسد يأكل‬
‫الحسنات كما تأكل النار الحطب (‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن تكون العلة من الحماقة وهذا ليمكن علجه لقول عيسى عليه السلم‪) :‬ما عجزت عن إحياء الموتى ولكن عجزت عن‬
‫إصلح الحمق(‪ .‬وهذا هو الذيِ اشتغل يومين أو ثلثة بتحصيل العلم ولم يشرع في العلوم العقلية أصل ومع هذا يعترض على‬
‫العلماء الذين صرفوا عمرهم في تحصيل العلوم ولم يعلم أن العتراض على العالم العظيم من طالب صغير ليكون إل من الجهل‬
‫وعدم المعرفة ‪ ،‬فهذا لم يعرف قدر نفسه ول قدر هذا العالم من حماقته وعدم معرفته ‪ ،‬فينبغي أن تعرض عن هذا أيضا ول تشتغل‬
‫بجوابه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يكون السائال مسترشدا ليش فيه أهلية لفهم كلم الكابر لقصور فهمه عنه ‪ ،‬ويسأل عن جهة الستفادة عن غوامض‬
‫المور التي يكون قاصرا عن ادراك حقائاقها ‪،‬ول يرى قصور فهمه فل تشتغل بجوابه أيضا ‪ ،‬لن النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫) نحن معاشر النبياء أمرنا بأن نكلم الناس على قدر عقولهم (‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن يكون مسترشدا ذكيا لبيبا عاقل ليش مغلوب الغضب والشهوة والحسد وحب المال والجاه ‪،‬بل طالبا لطريق الحق ‪،‬‬
‫سائال من غيرتعنت ‪ ،‬فهذا المريض يمكن علجه فالشتغال بجوابه لئاق بل واجب ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن تحترزمن الوعظ والتذكير إل أن تعلم أنك علمت أول بما تقول مؤل قبل أن تتكلم ‪ .‬قال ا تعالي لعيسى عليه السلم ‪:‬‬
‫) يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي مني ( ‪ .‬فإن كنت وابتلك ا بالوعظ فاحترز من شيئاين ‪ :‬الول أن‬
‫تحرز من التكلف في الكلم بالعبارات والشارات والشطحات والشعا ‪ ،‬لن ا تعالى يعد المتكلفين في الكلم أعداء له لن‬
‫التكلف يدل على خراب باطن صاحبه وغفلة عقله وقلبه ‪ ،‬مع أن المقصود من التذكير استحضار مصائاب الخرة والتقصير في‬
‫خدمة المولى جل وعل ‪ ،‬فتأمل في العمر الضي والعقبات التي في الطريق حتى تخرج من الدنيا بسلمة اليمان وتنجو من هول‬
‫قبضة ملك الموت وسؤال منكر ونكير ورد جوابهما‪.‬‬
‫نهاية الصفحة ‪190‬‬
‫بداية الصفحة ‪191‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫وأيضا تأمل في هول القيامة ومواقفها وحسابها والميزان والعبور على الصراط والنار ومصائابها ‪ ،‬فهذا هو الذيِ ينبغي تذكير‬
‫الخلق به وتطلعه على تقصيرهم وعيوبهم لجل أن توقع القلوب أهل المجلس خوف حرارة النار ومصائابها ‪ ،‬ليتذكروا تفريطهم‬
‫في الزمن الماضي بالندم عليه والتحسر على ضياع العمر الذيِ انقضى بغير طاعة ‪.‬‬
‫فالجملة المذكورة بالكيفيةالمتقدمة يقال لها وعظ مع عدم التكلف في الكلم بالفصاحة والتسجيع وغير ذلك ‪ ،‬لن مثل الوعظ كمثل‬
‫صاحب بيت فيه عيال ‪ ،‬وقد جاء السيل وهو يخاف أن يأخذ البيت ويغرق الولد ويناديِ الحذر الحذر ‪ ،‬ياأهل البيت اهربوا لن‬
‫السيل وصلكم ‪ ،‬فهذا الرجل في هذه الحالة ل يقول الكلم بالتكلف والعبارات والسجيع والشارات ‪ ،‬فمثل الواعظ للخلق يكون‬
‫هكذا ‪ ،‬وينبغي أل يميل قلبك حال وعظك إلى صراخ الصارخين وبكاء الباكين وغوغاء أهل المجلس بقولهم ‪ :‬إن هذا الوعظ إلى‬
‫تحويلهم عن الدنيا إلى الخرة ‪ ،‬وعن المعصية إلى الطاعة ‪ ،‬وعن الغفلة إلى التيقظ ‪ ،‬وعن الغرور إلى التقوى ‪ ،‬وأن يكون كلمه‬
‫في علم الزهد والعبودية وأن ينظر إلى رغبتهم هل هي خلف رضى الخالق أو ل ‪ ،‬وإى ميل قلوبهم هل هو خلف الشرع أو ل ‪،‬‬
‫وغلى أعمالهم وأخلقهم الذميمة والحميدة أيهما أغلب ‪ ،‬والذيِ خوفه غالب فيرجه إلى الرجاء ‪ ،‬والذيِ رجاؤه غالب فيرجعه إلى‬
‫الخوف بكيفية بتصرفون بها من المجلس بحيث لم يبق معهم صفات ذميمة ظاهرا وباطنا ‪ ،‬ويتصفون بالصفات الحميدة ‪،‬‬
‫ويرغبون ويحرصون على الطاعات التي تكاسلوا عنها ‪ ،‬ويكرهون المعاصي التي كانوا يحرصون عليها وكل وعظ لم يكن ولم‬
‫يقل هكذا يكون وبال على الواعظ والموعوظ ‪ ،‬بل يكون الواعظ غول وشيطانا لنه يضل الناس عن طريق الحق ويهلكهم هلكا‬
‫أبديا ‪ ،‬ويجب على الخلق أن يهربوا منه‪ ،‬لن الفساد الذيِ يفعله ل يقدر الشياطين أن يفعلوه ‪ ،‬وكل من له يد القدرة يجب عليه أن‬
‫ينزله عن المنبر ليدفعه لنه من المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أل تميل إلى الملوك والمراء والحكام ول تخالطهم ول تجالسهم بل ول تنظر إليهم ‪ ،‬لن في مخالطتهم ومجالستهم آفات‬
‫كثيرة ‪ ،‬وإن ابتليت برؤيتهم ومجالستهم فاترك مدحهم وثناءهم ‪ ،‬وإذا جاءوا لزيارتك فسبيلك أن يون هكذا ‪ ،‬فإن ا يغضب إذا‬
‫مدح الفاسق والظالم ‪ .‬ومن دعا لظالم بكول البقاء فقد أحب أن يعصي ا تعالى في أرضه‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أل تقبل منهم شيئاا وإن علمت أنه حلل ‪ ،‬لن الطمع في مالهم يكون سببا لفساد الدين والمداهنة والمحاباة ومراعاة جانبهم‬
‫والموافقة في ظلمهم ‪ ،‬ويتولد منها فسقهم وفجورهم ‪ ،‬وهذا كله هلك في الدين وأقل مضرة يتولد منها أن تحبهم ‪ ،‬وكل من يحب‬
‫نهاية الصفحة ‪191‬‬
‫بداية الصفحة ‪192‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫أحدا يحب طول عمره‪ ،‬وإذا أحب طول عمره أحب طول ظلمه وخراب العالم ‪ .‬وسأل ا المان من أن يضللك الشيطان عن‬
‫طريق الحق لنه يقول لك الولى أن تأخذ منهم الدراهم وتعطيها للدراويش وتريح المساكين بصرفها عليهم ‪ ،‬لنك تصرفها في‬
‫الضرورة وأبواب الخير ‪ ،‬وأما هو فيصرفها في الفسق والفجور ‪ ،‬لن الشيطان بهذا الطريق سفك دماء خلق كثير ‪ .‬وآفات الطمع‬
‫كثيرة ذكرتها في كتابنا )إحياء العلوم( فاطلبها هنا ‪ .‬يا ولديِ ‪ ،‬اجتنب هذه الربعة التركية ‪.‬‬
‫وأما الفعلية فأربعة أيضا ول بد أن تعمل بها ‪.‬‬
‫الول ‪ :‬يلزمك أن تؤديِ ما أمرك ا تعالي به مثل ما تحب أن تؤديِ عبدك ما أمرته به‪ ،‬وأنت راض عنه وكل شيء وكل شيء ل‬
‫ترضى بفعله من عبدك فل ترضى عن نفسك بفعله في تحقيق عبوديتك ل تعالى ‪ ،‬ومع ذلك فليس هو عبدك حقيقة لنك اشتريته‬
‫بالدراهم وأنت في الحقيقة عبد ل لنك مخلوق له و هو خالق لك ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن تعامل الخلق بما تحب أن يعاملوك به ‪ .‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ) :‬ل يكمل إيمان العبد حتى يحب لسائار‬
‫الناس ما يحب لنفسه (‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن تشتغل بالعلم النافع في الواقع ونفس المر وهو الذيِ لو علمت أنه بقى من عمرك أسبوع لو لم تشتغل بسواه ‪ ،‬ومن‬
‫المعلوم أنه إذا كان كذلك ل تشتغل بعلم النحو والصرف والطب وأمثالها ‪ ،‬لنك تعلم أن هذه العلوم ل تنفع في إغاثتك ‪ ،‬بل تشتغل‬
‫بمراقبة قلبك ومعرفة صفاته فتشتغل بتطهيره من الخلق الذميمة وعلئاق الدنيا وتحليته بالخلق الحسنة ومحبة الحق وتشتغل‬
‫بالعبادة ‪.‬‬
‫يا ولديِ ‪ :‬اسمع كلمة واحدة وتأمل في حقيقتها واعمل بها تجد فيها خلصك ونجاتك إليه ‪ .‬إن أخبرت أن السلطان قاصد زيارتك‬
‫في هذا السبوع مثل ‪ ،‬فأنا اعلم أنك ل تشتغل في هذا السبوع بشي غير إصلح ما تعلم أن عين السلطان تقع عليه ‪ .‬إذا علمت ما‬
‫ذكرناه تحققت بالولى أنه ل ينبغي لك إل أن تشتغل بإصلح ما تعلم أنه محل نظر ا تعالى وهو القلب ‪ .‬قال رسول ا صلى ا‬
‫عليه وسلم ‪ ) :‬إن ا ل ينظر إلى صوركم ول إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبم ونياتكم ( ‪ .‬وإن أردت أن تعلم علم أحوال القلوب‬
‫فاطلبه من كتابي ) إحياء العلوم ( ‪ ،‬وسائار تصانيفي ‪ ،‬وهذا فرض عين على كل مسلم وباقي العلوم فرض كفاية ‪ ،‬إل أن تعلم بقدر‬
‫ما تتحصل به على امتثال الوامر واجتناب النواهي ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أن تدخر لعيالك من القوت ما يزيد على السنة لن النبي صلى ا عليه وسلم قال لزواجه ‪ ) :‬اللهم اجعل رزق آل محمد‬
‫كفافا(ولم يقل ذلك لكل أزواجه ‪ .‬بل قال لمن لم يكن لهن قوة اليقين ‪ .‬أما مثل السيدة عائاشة رضي ا عنها فلم يرتب لها قوت سنة‬
‫ول يوم‪.‬‬
‫نهاية الصفحة ‪192‬‬
‫بداية الصفحة ‪193‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫يا ولديِ ‪ :‬جميع ما طلبته مني كتبته لك في هذه الرسالة ‪ ،‬فينبغي أن تعمل بكل ما فيها ‪ ،‬وفي أثنا عملك اذكرني بصالح دعائاك ‪ ،‬أما‬
‫ما طلبته من الدعية فمذكورة في الصحاح وتاريخ أهل البيت فاطلبها هناك واذكر لك هذا الدعاء فاقرأه على الدوام خصوصا‬
‫عقب الصلوات وهو ‪:‬‬
‫اللهم إني أسألك من النعمة تمامها ‪ ،‬ومن العصمة دوامها ‪ ،‬ومن الرحمه شمولها ‪ ،‬ومن العافية حصولها ‪ ،‬ومن العيش أرغده ‪،‬‬
‫ومن العمر أسعده ‪ ،‬ومن الغحسان أتمه ‪ ،‬ومن النعام أعمه ‪ ،‬ومن الفضل أعذبه ‪ ،‬ومن اللطف أقربه ‪ ،‬ومن العمل أصلحه‪ ،‬ومن‬
‫العلم أنفعه ‪ ،‬ومن الرزق أوسعه ‪ ،‬اللهم كن لنا ول تكن علينا ‪ ،‬اللهم اختم بالسعادة آجالنا ‪ ،‬وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية‬
‫غدونا وآصالنا ‪ ،‬وجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ‪ ،‬واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ‪ ،‬ومن علينا بإصلح عيوبنا ‪ ،‬واجعل‬
‫التقوى زادنا ‪ ،‬وفي دينك اجتهادنا ‪ ،‬وعليك توكلنا واعتمادنا ‪ .‬إلهنا ثبتنا على نهج الستقامة ‪ ،‬واعذنا من موجبات الندامة يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬وخفف عنا ثقل الوزار ‪ ،‬وارزقنا عيشة البرار ‪ ،‬واكفنا واصرف عنا شر الشرار واعتق رقابنا ‪ ،‬ورقاب آبائانا وأمهاتنا‬
‫من النار والدين والمظالم ياعزيز يا غفار‪ ،‬ياكريم ياستار ‪ ،‬يا حليم يا جبار برحمتك يا أرحم الراحمين ‪ ،‬وصلى ا وسلم على خير‬
‫خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين ‪ ،‬والحمد ل رب العالمين آمين ‪.‬‬
‫خاتمة للمعرب‬
‫اعلم أن تصفية القلب ل تتم إل بطريقة الذر لقوله صلى ا عليه وسلم ‪ ) :‬إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلؤها ذكر ا‬
‫تعالى ( ‪ .‬ثم إن الذكر إما باللسان وإما بالقلب ‪ ،‬فذكر اللسان لتحصيل ذكر القلب ‪ ،‬وذكر القلب لتحصيل المراقبة ‪ ،‬وأقرب‬
‫التصفية للقلب الشتغال بذكر الطريقة النقشبندية وهو الذكر باسم الذات أو النفي والثبات ‪ ،‬وكيفية نذكر اسم الذات أن يتلفظ الذاكر‬
‫بلسان القلب لفظة )ا ( ‪ .‬لن القلب كله لسان وكله سمع وكله بصر ‪ .‬وأما كيفية ذكر النفي والثبات فهي أن تلفظ بلسان القلب )ل‬
‫إله( نافيا بها جميع تعلقات القلب عما سوى ا ثم يتلفظ بلسان القلب )إل ا ( مثبتا بها وجود وحدانية الحق فيه ‪ ،‬فإذا ذكر الذاكر‬
‫هذين السمين بهذه الكيفية تحصل له صفوة القلب وزكاه‪ ،‬ويكون عارفا بال تعالى واصل إليه ويقدم وظيفة الذر به سائار العبادات‬
‫بعد الفرائاض ورواتبها في جميع الوقات إلى أن تحصل في قلبه ملكة حميدة ‪ ،‬وبعد ذلك يجوز له جميع الفضائال من العبادات لنه‬
‫عرف طرق الستفاضة من ا وعرف طريق التقرب إليه‪:‬‬
‫فذكر ا أحسن في الطريق من الورد المرتب للصة‬
‫نهاية الصفحة ‪193‬‬
‫بداية الصفحة ‪194‬‬
‫وأحسن من قراءة قول حق ومن عمل بكل النافلت‬
‫لن الذكر يجلى صداء قلب ويرفع عنه كل الحاجيات‬
‫وجاهد في جميع الوقت والزم بذكر ا تشهد واردات‬
‫توجه للله ودع سواه وراقب وارتفع للعاليات‬
‫والمراقبة هي رؤية جناب الحق سبحانه وتعالى بعين البصيرة على الدوام مع التعظيم ‪ ،‬وهي أقرب الطرق إلى ا تعالى من حيث‬
‫التقرب إليه ‪ .‬كما قيل ‪ :‬القصد إلى ا عز وجل بالقلوب أبلغ من حركات العضاء في العمال بالصلة والسلم والذكار‬
‫والوراد ونحوها ‪ ،‬لن صاحب الهمة العالية ل يزال عامل بقلبه وإن لم تساعده على العمال جوارحه فهو يكون دائاما في التقرب‬
‫وأبدا في التجب ‪.‬‬
‫ثم اعلم أن الذاكر إذا بلغ مرتبة المراقبة ثبتت له وحدة الوجود اللهية وتحقق بداوم العبودية ‪ ،‬فإذا دوام على المراقبة ترقى إلى‬
‫المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أن أنوار وجود وحده الذات اللهية محيطة بجميع الشياء ‪ ،‬وأنه تعالى متجل بصفاته‬
‫وأسمائاه في مصنوعاته وبحسب استعداد المشاهدين يصير البتهاج بأنوار الربوبية والستكشاف بأسرار الحدية ‪.‬‬
‫تمت في شهر رجب سنة ‪1327‬‬
‫القسطاس المستقيم‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫ميزان حقيقة المعرفة‬
‫أحمد ا تعالى أول ‪ ،‬وأصلى على نبيه المصطفى ثانيا ‪ ،‬وأقول ‪ :‬إخواني ‪ ،‬هل فيكم من يعيرني سمعه لحدثه بشيء من أسمارى‬
‫‪ ،‬فقد استقبلني في أسفارى رفيق من رفقاءأهل التعليم وغافصنى بالسؤال والجدال مغافضة من يتحدى باليد البيضاء والحجة‬
‫الغراء وقال لي ‪ :‬أراك تدعى كمال المعرفة ‪ ،‬فبأيِ ميزان تزن حقيقة المعرفة ؟ أبميزان الرأى والقياس ‪ ،‬وذلك في غاية التعارض‬
‫واللتباس ولجله ثار الخلف بين الناس ؟ أم بميزان التعليم فيلزمك اتباع المام المعصوم ‪ ،‬وما أراك تحرص على طلبه ؟ فقلت ‪:‬‬
‫أما ميزان الرأى والقياس ‪،‬‬
‫نهاية الصفحة ‪194‬‬
‫بداية الصفحة ‪195‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫فحاش ا أن أعتصم به فإنه ميزان الشيطان ‪ .‬ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة ‪ .‬فأسأل ا تعالى أن يكفيني شره‬
‫عن الدين فإنه للدين صديق جاهل ‪ ،‬وهو شر من عدو عاقل ولو رزق سعادة مذهب أهل التعليم ‪ ،‬لتعلم أول الجدال من القرآن‬
‫الكريم ‪ ،‬حيث قال تعالى ‪ ) :‬ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجاغدلهم بالتي هي أحسن ( ) النحل ‪(125 :‬‬
‫واعلم أن المدعو إلى ا تعالى بالحكمة قوم وبالموعظة قوم بالمجادلة قوم‪ ،‬فإن الحكمة إن غذى بها أهل الموعظة أضرت بهم كما‬
‫تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم الطير ‪ .‬وأن المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئاز طبع الرجل القوى‬
‫من الرتضاع بلبن الدمي ‪ .‬وأن من استعمل الجدال مع أهل الجدال ل بالطريق الحسن كما تعلم من القرآن كان كمن غذى‬
‫البدوى بخبز البر وهو لم يألف إل التمر أو البلديِ بالتمر وهو لم يألف إل البر ‪ ،‬وليته كانت له أسوة حسنة كما تعلم من القرأن في‬
‫إبراهيم الخليل صلوات ا علليه حيث حاج خصمه فقال ) ربي الذيِ يحي ويميت ( )البقرة ‪. (258 :‬‬
‫فلما رأى أن ذلك ل يناسبه وليس حسنا عنده حين قال ‪ ) :‬أنا أحيي وأميت ( ) البقرة ‪ . (125‬عدل إلى الوفق لطبعه والقرب إلى‬
‫فهمه فقال ‪ ) :‬فإن ا يأتي الشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذيِ كفر ( ) البقرة ‪ . (258 :‬ولم يركب الخليل ظهر‬
‫اللجاج في تحقيق عجزه عن إحياء الموتى إذ علم أن ذلك يعسر عليه فهمه فإن ظن أن القتل إماته من جهته وتحقيق ذلك يلئام‬
‫قريحته ول يناسب حده في البصيرة ودرجته ‪ ،‬ولم يكن من قصد الخليل إفناؤه بل إحياؤه ‪ ،‬والتغذية بالغذاء والموافق إحياء‪.‬‬
‫واللجاج بالرهاق إلى ما ل يوافق إفناء ‪ .‬فهذه دقائاق ل تدرك إل بنور التعليم المقتبس من إشراق عالم النبوة ‪ ،‬وفلذلك حرموا‬
‫التفطن له إذ حرموا من سر مذهب التعليم ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬إذا استوغرت سبيلهم واستوهنت دليلهم فبماذا تزن معرفتك ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬أزنها بالقسطاس المستقيم ليظهر لي حقها وباطلها ‪ ،‬ومستقيمها ومائالها ‪ :‬اتباعا ل تعالى وتعليما من القرآن المنزل على‬
‫لسان نبيه الصادق حيث قال ‪ ) :‬وزنوا بالقسطاس المستقيم ( ) السراء ‪. (35 :‬‬
‫فقال ‪ :‬وما القسطاس المستقيم ؟‬
‫قلت ‪ :‬هي الموازين الخمس التي أنلها ا في كتابه وعلم أنبياءه الوزن بها ‪ .‬فمن تعلم من رسول ا صلى ا عليه وسلم ووزن‬
‫بميزان ا اهتدى ‪ .‬ومن ضل عنها إلى الرأيِ والقياس فقد ضل وتردى ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أين الموازين في القرآن وهل هذا ال إفك وبهتان ؟‬
‫نهاية الصفحة ‪195‬‬
‫بداية الصفحة ‪196‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫قلت ‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى في سورة الرحمن ‪ ) :‬الرحمن )( علم القرآن )( خلق النسان )( علمه البيان ( إلى قوله ‪) :‬ووضع‬
‫الميزان )( أل تطغوا في الميزان )( وأقيموا الوزن بالقسطول تخسروا الميزان ( )الرحمن ‪ . (9-1 :‬ألم تسمع قوله في سورة‬
‫الحديد ‪ ) :‬لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ( )الحديد ‪ .(25 :‬أتظن أ‪ ،‬الميزان المقرون‬
‫بالكتاب هو الميزان البر والشعير والذهب والفضة ؟ أتتوهم أن الميزان القابل وضعه برفع السماء في قوله ‪ ) :‬والسماء رفعها‬
‫ووضع الميزان ( )الرحمن ‪ . (7 :‬وهو الطيار والقيان ‪ ،‬وما أبعد هذا الحسبان و أعظم هذت البهتان ‪ ،‬فاتق ا ول تعسف في‬
‫التأويل ‪ .‬واعلم يقينا أن هذا الميزان هو ميزان معرفة ا تعالى ومعرفة ملئاكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته لتتعلم كيفية الوزن‬
‫به من أنبيائاه كما تعلموا هم من ملئاكته ‪ .‬فإن ا تعالى هو المعلم الول ‪ ،‬والثاني جبريل ‪ ،‬والثالث الرسول صلى ا عليه وسلم ‪،‬‬
‫والخلق كلهم يتعلمون من الرسل ما ليس لهم طريق إلى المعرفة به إل بهم ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬فبم عرفت أن ذلك الميزان صادق أم كاذب ؟ أبعقلك ونظرك ؟ فالعقول متعارضة ‪ .‬أم بالمام المعصوم الصادق القائام‬
‫بالحق في العالم ؟ وهو مذهبي الديِ أدعوا إليه ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬ذلك أيضا أعرفهبالتعليم ‪ ،‬ولكن من إمام الئامة محمد بن عبدا بن عبد المطلب صلى ا عليه وسلم فإني وإن كنت ل أراه‬
‫فإني أسمع تعليمه الذيِ تواتر إلى تواترا ل أشك فيه ‪ :‬وإنما تعليمه القرآن ‪ ،‬وبيان صدق موازينالقرآن معلوم من نفس القرآن فقال‬
‫‪) :‬هات برهانك ( وأخرج من القرآن ميزانك ‪ .‬أظهر لي كيف فهمت من نفس القرآن صدقه وصحته‪.‬‬
‫فقلت له ‪ :‬حدثني أنت بم تعرف صحة ميزان الذهب والفضة وصدقه ومعرفة ذلك فرض دينك إذا كان عليك دين حتى نقضيه تاما‬
‫من غير نقصان ‪ .‬أو كان لك على غيرك دين حتى تأخذه عدل من غير رجحان ‪ ،‬فإذا دخلت سوقا من أسواق المسلمين وأخذت‬
‫ميزانا من الموازين وقضيت أو استقضيت به الدين ‪ ،‬فبم تعرف أنك لم تظلم بنقصان في الداء أو برجحان في الستيفاء ؟‬
‫فقال ‪ :‬أحسن الظن بالمسلمين ‪ ،‬وأقول إنهم ل يشتغلون بالمعاملة إل بعد تعديل الموازين ‪ ،‬فإن عرض لي شك في بعض الموازين‬
‫أخذته ورفعته ونظرت إلى كفتي الميزان ولسانه ‪ ،‬فإذا استوى انتصاب اللسان من غير ميل إلى أحد الجانبين ورأيت مع ذلك تقابل‬
‫الكفتين ‪ .‬عرفت أنه ميزان صحيح صادق ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬هب أن اللسان قد انتصب على الستواء ‪ ،‬وأن الكفتين متحاذيتان على السواء ‪ ،‬فمن أين تعلم أن الميزان صادق ؟‬
‫نهاية الصفحة ‪196‬‬
‫بداية الصفحة ‪197‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫فقال ‪ :‬أعلم ذلك علما ضروريا يحصل لي من مقدمتين ‪ :‬إحداهما تجريبية ‪ ،‬والخرى حسية ‪.‬أما التجريبية فهي أني علمت‬
‫بالتجربة أن الثقيل يهزيِ إلى السفل ‪ ،‬وأن الثقل أشد هويا فأقول ‪ :‬لو كانت إحدى الكفتين أثقل لكانت أشد هويا فهذه مقدمة كلية‬
‫تجريبية حاصلة عنديِ ضرورة ‪ .‬والمقدمة الثانية هي أن هذا الميزان بعينه رأيته لم تهو إحدى كفتيه ‪ ،‬بل حاذت الخرى محاذاة‬
‫مساواة‪.‬وهذه مقدمة حسية شاهدتها بالبصر فل أشك ل في المقدمة الحسية ول في الولى وهي مقدمة لتجربة ‪ .‬فيلزم في قلبي من‬
‫هاتين المقدمتين نتيجة ضرورية وهي العلم باستواء الميزان ‪ .‬إذ أقول ‪ :‬لو كانت إحداهما أثقل لكانت أهوى ومحسوس أنها ليست‬
‫بأهوى ‪ ،‬فمعلوم أنها ليست بأثقل ‪.‬‬
‫قلت له ‪ :‬فهل هذا إل رأيِ وقياس عقلي ؟‬
‫قال ‪ :‬هيهات فإن هذا علم ضروريِ لزم من مقامات يقينية حصل اليقين بها من التجربة والحس فكيف يكون هذا رأيا وقياسا ‪.‬‬
‫والرأيِ والقياس حدس وتخمين ل يفيدان برد اليقين وأنا أحس في هذا برد اليقين ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬فإن عرفت صحة الميزان بهذا البرهان فبم عرفت الصنجة والمثقال ‪ .‬فلعله أخف أو أثقل من المثقال الصحيح ؟‬
‫فقال ‪ :‬إن شككت في هذا أخذت عيارة من صنجة معلومة عنديِ فأقابله بها فإذا ساوى علمت أن الذهب إذا ساواه كان مساويا‬
‫لصحنجتي فإن المساويِ للمساويِ مساو‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬هل تعلم واضع الميزان في الصل من هو ‪ ،‬وهل هو الواضع الول ؟ والذيِ وضعه يعلم هذا الوزن ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ومن أين أحتاج إليه وقد عرفت صحة الميزان بالمشاهدة والعيان ‪ .‬بل آكل البقل من حيث يؤتى به ول أسأل ن المبقلة ‪،‬‬
‫فإن واضع الميزان ل يراد لعينه ‪ ،‬بل يراد ليعرف منه صحة الميزان وكيفية الوزن به‪ .‬وأنا قد عرفته كما حكيته ‪ ،‬وعرفته‬
‫فاستغنيت عن مراجعة صاحب الميزان عند كل وزن فإن ذلك يطول ول يظفر به في كل حين مع أني في غنية عنه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬فإن أتيتك بميزان في المعرفة مثل هذا وأوضح منه وأزيد عليه أ‘رف واضعه ومعلمه ومستعمله فيكون واضعه هو ا‬
‫ومعلمه جبريل ومستعمله الخليل ومحمد وسائار النبيين عليهم السلم أجمعين ‪ .‬وقد شهد ا تعالى لهم في ذلك بالصدق ‪ .‬فهل تقبل‬
‫ذلك مني ؟ وهل تصدق به ؟‬
‫فقال ‪ :‬إيِ وا وكيف ل أصدق به إن كان في الظهور مثل ما حكيته لي ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬الن أتوسم فيك شمائال الكياسة ‪ .‬وقد صدق رجائاي في تقويمك وتفهيمك‬
‫نهاية الصفحة ‪197‬‬
‫بداية الصفحة ‪198‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫حقيقة مذهبك في تعليمك فأكشف لك عن الموازين الخمسة ‪ .‬المنزلة في القرآن لتستغني به عن كل إمام وتجاوز حد العميان فيكون‬
‫إمامك المصطفى صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬وقائادك القرآن ‪ ،‬ومعيارك المشاهد والعيان ‪ .‬فأعلم أن موازين القرآن في الصل ثلثة ‪:‬‬
‫ميزان التعادل ‪ ،‬وميزان التلزم ‪ ،‬وميزان التعاند ‪ .‬لكن ميزان التعادل ينقسم إلى ثلثة أقسام ‪ :‬إلى الكبر ‪ ،‬والوسط ‪ ،‬والصغر‬
‫‪ ،‬فيصير الجميع خمس ‪.‬‬
‫القول في الميزان الكبر من موازين التعادل‬
‫ثم ‪ ،‬قال لي هذا الرفيق الكيس من رفقاء أهل التعليم ‪ :‬اشرح لي الميزان الكبر من موازين التعادل أول واشرح لي معنى هذه‬
‫اللقاب وهي التعادل والتلزم والتعاند ‪ ،‬والكبر والوسط والصغر ‪ ،‬فإنها ألقاب عجيبة ‪ .‬ول شك في أن تحتها معاني دقيقة ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬أما معنى هذه اللقاب فل تفهمها إل بعد شرحها وفهم معانيها لتدرك بعد ذلك مناسبة ألقابها لحقائاقها ‪ .‬وأعلمك أول أن‬
‫الميزان يشبه الميزان الديِ حكيته في المعنى دون الصور فإنه ميزان روحاني فل يساويِ الجسماني ‪ ،‬ومن أين يلزم أن ساويه‬
‫والموازين الجسمانية أيضا تختلف ‪ ،‬فإن القلسطون ميزان ‪ ،‬والطيار ميزان ‪ ،‬بل الصطرلب ميزان لمقادير حركات الفلك ‪،‬‬
‫والمسكرة ميزان لمقادير البعاد في الخطوط ‪ ،‬والشاقول ميزان لتحقيق الستقامة والنحناء ‪ .‬وهي وإن اختلفت صورها مشتركة‬
‫في أنها تعرفبها الزيادة والنقصان ‪ .‬بل العروض ميزان الشعر يعرف يعرف به أوزان الشعر ليتميز منزحفه عن مستقيمه وهو‬
‫أشد روحانية من الموازين المجسمة ‪ ،‬ولكنه غير متجرد عن علئاق الجسام لنه ميزان الصوات ول ينفصل الصوت عن الجسم‬
‫‪ .‬وأشد الموازين يوم القيامة إذ به توزن أعمال العباد وعقائادهم ومعارفهم ‪ ،‬والمعرفة واليمان ل تعلق لهما بالجسام ‪ ،‬ولذلك كان‬
‫ميزانهما روحيا صرفا ‪ ،‬وكذلك ميزان القرآن للمعرفة روحاني ‪ ،‬لكن يرتبط تعريفه في عالم الشهادة بغلف لذلك الغلف التصاق‬
‫بالجسام وإن لم يكن جسما فإن تعريف الغير في هذا العالم ل يمكن إل مشافهة وذلك بالصوات ‪ .‬والصوت جسماني ‪ ،‬أو‬
‫بالمكاتبة وهي الرقوم وهي أيضا نقش في وجه القرطاس وهو جسم ‪ .‬هذا حكم غلفه الذيِ يعرض فيه وإنما هو في نفسه روحاني‬
‫محض ل علقة له مع الجسام إذ توزن به معرفة ا الخارجة عن عالم الجسام المقدس عن أن يناسب الجهات والقطار فضل‬
‫عن نفس الجسام ‪ ،‬ولكنه مه ذلك ذو عمود وكفتين ‪ ،‬والكفتان متعلقتان بالعمود فالعمود مشترك في الكفتين لرتباط كل واحدة‬
‫منهما به هذا في ميزان التعادل ‪ ،‬وأما ميزان التلزم فهو بالقبان أشبه لنه ذو كفة واحدة ولكن يقابلها من الجانب الخر الرمانة‬
‫وبها يظهر التفاوت والتقدير ‪.‬‬
‫نهاية الصفحة ‪198‬‬
‫بداية الصفحة ‪199‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫فقال ‪ :‬هذه طنطة عظيمة فأين المعنى فإني أسمع جعجعة ول رأيِ طحنا ‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬اصبر ) ول تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ( )طه‪ . (114 :‬واعلم أن العجلة من‬
‫الشيطان والتأني من ا ‪ .‬واعلم أن الميزان الكبر هو ميزان الخليل صلوات ا عليه وسلم الذيِ استعمله مع نمرود فمنه تعلمنا‬
‫هذا الميزان لكن بواسطة القرآن ‪ ،‬وذلك أن نمرود ادعى اللهية ‪ ،‬وكانت اللهية عنده بالتفاق عبارة عن القادر على كل شيء‪.‬‬
‫فقال إبراهيم ‪ :‬الله إلهي لنه الذيِ يحيي ويميت وهو القادر عليه وأنت ل تقدر عليه ‪ .‬فقال ‪ ) :‬أنا أحيي وأميت ( يعني أنه يحيي‬
‫النطفة بالوقاع ويميت بالقتل ‪ ،‬فعلم إبراهيم صلى ا عليه وسلم أ‪ ،‬ذلك يعسر عليه فهم بطلنه فعدل إلى ما هو أوضح عنده ‪.‬‬
‫فقال ‪ ) :‬فإن ا يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذيِ كفر ( ) البقرة ‪ (258 :‬وقد أثنى ا عليه فقال ‪) :‬‬
‫وتلك حجتنا اتيناها إبراهيم على قومه ( ) النعام ‪ . (83 :‬فعلمت من هذا أن الحجة والبرهان في قول إبراهيم وميزانه ‪ .‬فنظرت‬
‫في يفية وزنه كما نظرت أنت في ميزان الذهب والفضة فرأيت في هذه الحجة أصلينقد ازدوجا فتولد منهما نتيجة هي معرفة إذ‬
‫القرآن مبناه على الحذف واليجاز ‪ .‬وكمال صورة هذا الميزان أن تقول كل من يقدر على اطلع الشمس فهو الله ‪ ،‬فهذا الصل‬
‫‪.‬وإلهي هو القادر على الطلع وهذا أصل آخر ‪ .‬فلزم من مجموعهما أن إلهي هو الله دونك يا نمرود ‪ .‬فانظر الن هل يكن أن‬
‫تعترف بالصلين معترف ثم يشك في النتيجة ‪ ،‬أو هل يتصور أن يشك في هذين الصلين شاك ؟ فإن قولنا ‪ :‬الله هو القادر على‬
‫اطلع الشمس ل شك فيه لن الله كان عندهم وعند كل أحد عبارة عن القادر على كل شيء ‪ ،‬وإطلع الشمس هو من جملة تلك‬
‫الشياء وهذا أصل معلوم بالوضع والتفاق ‪ .‬وقولنا ‪ :‬القادر على الطلع هو ا تعالى دونك معلوم بالمشاهدة فإن عجز نمرود‬
‫وعجز كل أحد سوى من يحرك الشمس مشاهد بالحس ونعني بالله محرك الشمس ومطلعها ‪ .‬فيلزمنا من معرفة الصل الول‬
‫المعلوم بالوضع المتفق عليه‪.‬ومن الصل الثاني المعلوم بالمشاهدة أن نمرود ليش هو القدر على تحريك الشمس ‪ .‬فنعلم بعد معرفة‬
‫هذين الصلين أن نمرود ليس بإله وإنما الله هو ا تعالى ‪ .‬فراجع نفسك الن هل ترى هذا أوضح من المقدمة التجريبية والحسية‬
‫اللتين عليهما صحة ميزان الذهب والفضة ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬هذه المعرفة لزمة منه بالضرورة ول يمكنني أن أشك في لزوم هذه النتيجة منهما ‪ ،‬ولكن هذا ل ينفعني إل في هذا الموضع‬
‫وعلى الوجه الذيِ استعمله الخليل عليه الصلة والسلم وذلك في نفي إلهية نمرود وإقرار اللهية لمن تفرد بإطلع الشمس ‪ ،‬فكيف‬
‫إذن بها سائار المعارف التي تشكل علي وأحتاج إلى تمييز الحق فيها عن الباطل ؟‬
‫نهاية الصفحة ‪199‬‬
‫فقلت من وزن الذهب بميزان يمكنه أن يزن به الفضة و سائار الجواهر ‪ ,‬لن الموزون عرف مقداره ل لنه ذهب بل لنه ذو‬
‫مقدار ‪ ,‬و لذلك هذا البرهان كشف لنا عن هذه المعرفة ل لعينها ‪ ,‬بل لنها حقيقة من الحقائاق و معنى من المعاني فنتأمل انه لم‬
‫تلزم منه هذه النتيجة و نأخذ روحه و نجرده عن هذا المثال الخاص حتى ننتفع به حيث أردنا و إنما لزم هذا لن الحكم على الصفة‬
‫حكم على الموصوف بالضرورة ’ بيانه أن إيجاز هذه الحجة إن ربي مطلع و المطلع الله فيلزم منه أن ربي أله فالمطلع صفة‬
‫الرب ‪ ,‬و قد حكمنا على المطلع الذيِ هو صفته اللهية فلزم منه الحكم على ربي باللهية ‪ ,‬و كذلك في كل مقام حصلت لي معرفة‬
‫بصفة الشيئ و حصلت معرفة أخرى بثبوت حكم لتلك الصفة فيتولد منهما معرفة ثالثة بثبوت الحكم على الموصوف بالضرورة ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬هذا يكاد دركه يدق على فهمي ‪ ,‬فإن تشككت فيه فمذا أصنع حتى يزول الشك ؟‬
‫قلت ‪ :‬خذ عيارة من الصنجة المعروفة عندك كما فعلت في ميزان الذهب و الفضة ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬كيف أخذ عيارها ‪ ,‬و أين الصنجة المعروفة من هذا الفن ؟‬
‫قلت ‪ :‬الصنجة العروفة هي العلوم الولية الضرورية المستفادة إما من الحس أو من التجربة أو غريزة العقل ‪ ,‬فأنظر في‬
‫الولويات هل تتصور أن يثبت حكم على صفة إل و يتعدى إلى الموصوف ‪ ,‬فإذا مر بين يديك مثل حيوان منتفخ البطن و هو بغل‬
‫‪ ,‬فقال قائال هذا حامل ‪ ,‬فقلت له ‪ ,‬ألم تعلم أن البغل عقيم ل يلد ؟ فقل ‪ :‬نعم أعلم هذا بالتجربة ‪.‬‬
‫فقلت له ‪ :‬فهل تعلم أن هذا بغل ؟ فنظر فقال‪ ,‬فقال نعم قد عرفت ذلك بالحس و البصار ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬فالن تعرف انه ليس بحامل فل يمكنه أن يشك فيه بعد معرفة الصلين اللذين أحدهما تجريبي و الخر حسي ‪ ,‬بل يكون‬
‫العلم بأنه ليس بحامل علما ضروريا متولدا من بين العلمين السابقين كما تولد علمك في الميزان من العلم التجريبي بان الثقل هاو ‪,‬‬
‫و العلم الحسي بأن إحدى الكفتين ليست هاوية بالضافة إلى الخرى ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬قد فهمت هذا فهما واضحا ‪ ,‬ولكن لم يظهر لي أن السبب لزومه أن الحكم على الصفة الحكم على الموصوف ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬تأمل فإن قولك ‪ :‬هذا بغل ‪ ,‬وصف و الصفة هو البغل و قولك ‪ :‬كل بغل عقيم ‪ ,‬حكم على البغل الذيِ هو صفة بالعقم فلزم‬
‫حكم بالعقم على الحيوان الموصوف بأنه بغل ‪ ,‬و كذلك إذا ظهر لك مثل أن كل حيوان حساس ثم ظهر لك في الدود أنه حيوان‬
‫فعل يمكنك أن تشك في أنه حساس و منهاجه أن تقول ‪ :‬كل دود حيوان و كل حيوان حساس فكل دود حساس لنك قلت كل دود‬
‫حيوان وصف الدود بأنه حيوان ‪ ,‬و الحيوان صفته ‪ ,‬فإذا حكمت على الحيوان بأنه حساس أو جسم أو غيره دخل فيه الدود ل‬
‫محالة و هذا ضروريِ ل يمكن الشك فيه ‪ .‬تعم شرط هذا أن تكون الصفة مساوية للموصوف أو اعم منه حتى يكون الحكم عليه‬
‫يشمل الموصوف به بالضرورة ‪ ,‬و كذلك من سلم في النظر الفقهي ‪ ,‬أن كل نبيذ مسكر ‪ ,‬و كل مسكر حرام ‪ ,‬ثم يمكنه أن يشك في‬
‫أن كل نبيذ حرام لن المسكر وصف النبيذ ‪ ,‬فالحكم عليه بالتحريم يتناول النبيذ إذ يدخل فيه الوصف ل محالة ‪ ,‬فكذلك في جميع‬
‫أبواب النظريات ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬قد فهمت فهما ضروريا أن إيقاع الزدواج بين أصلين على هذا الوجه لنتيجة ضرورية ‪ ,‬و إن برهان الخليل صلوات ا‬
‫عليه برهان صحيح و ميزانه ميزان صادق و تعلمت حده و حقيقته و عرفت عياره من الصنجات المعروفة عنديِ ‪ ,‬و لكني‬
‫أشتهي أن أعرف مثال لستعمال هذا الميزان في مظان الشكال في العلوم فإن هذه المثلة واضحة بنفسها ول يحتاج فيها إلى‬
‫ميزان و برهان ‪.‬‬
‫فقلت هيهات فبعض هذه المثلة معلومة بأنفسها بل هي متولدة من ازدواج الصلين إذ ل يعرف كون هذا الحيوان مثل عقيما إل‬
‫من عرف بالحس انه بغل و بالتجربة أن البغل ل يلد ‪ ,‬و إنما واضح بنفسه هو الول ‪ .‬فأما المتولد من أصلين فله أب و أم فل‬
‫يكون أوليا واضحا بنفسه بل بغيره ‪ ,‬و لكن ذلك الغير أعني الصلين قد يكون واضحا في بعض الحوال ‪ ,‬و ذلك بعد التجربة و‬
‫بعد البصار ‪ ,‬و كذلك يكون النبيذ حراما ليس واضحا بنفسه بل يعرف بأصلين ‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه مسكر و هذا يعلم بالتجربة ‪.‬‬
‫و الثاني ‪ :‬إن كل مسكر حرام و هذا بالخبر الوارد عن الشارع صلى ا عليه و سلم ‪ .‬فهذا يعرفك كيفية الوزن بهذا الميزان ‪ ,‬و‬
‫كيفية استعماله و إن أردت مثل أغمض من هذا فأمثلة ذلك عندنا ل تنحصر ول تنتهي بل بهذا الميزان عرفنا أكثر الغوامض فأقنع‬
‫منه بمثال واحد ‪.‬‬
‫فمن الغوامض أن النسان ليس حادثا بنفسه إذا له مسبب و صانع و كذلك العالم ‪ .‬فإذا راجعنا هذا الميزان و عرفنا أن له صانعا و‬
‫أن صانعه عالم ‪ .‬فإنا نقول ‪ :‬كل جائاز فله سبب ‪ ,‬و اختصاص العالم أو النسان بمقداره الذيِ اختلف به جائاز ‪ .‬فإذن يلزم منه سببا‬
‫ول يقدر على التشكيك في هذه النتيجة من سلم الصلين و عرفهما ‪ .‬و لكن إن شك في الصلين يستنتج أيضا معرفتهما من أصلين‬
‫آخرين واضحين غلى أن ينتهي إلى العلوم الولية التي ل يمكن التشكيك فيها ‪ ,‬فإن العلوم الخفية الولية هي أصوت العلوم‬
‫الغامضة الجليلة و هي بدورها ‪ ,‬و لكن يستثمرها منها من يحسن الستثمار بالحراثة و الستنتاج بإيقاع الزدواج بينهما ‪.‬‬
‫فإن قلت أنا شاك في الصلين جميعا فلم قلت إن كل جائاز فله سبب ؟ و لم قلت إن اختصاص النسان بمقدار مخصوص جائاز و‬
‫ليس بواجب ؟ فأقول ‪ :‬أما قولي ‪ :‬كل حائاز له سبب ‪ ,‬فواضح إذا فهمت معنى الجائاز لني اعني بالجائاز ما يتردد بين قسمين ‪,‬‬
‫متساويين ‪ ,‬فإذا تساوى شيئاان لم يختص أحدهما بوجود و عدم من ذاته لن ما ثبت للشيئ ‪ ,‬ثبت لمثله بالضرورة و هذا أولى ‪ .‬و‬
‫أما قولي اختصاص النسان بهذا المقدار مثل جائاز وليس واجب ‪ ,‬كقولي ‪ :‬غن الخط الذيِ يكتبه الكاتب و له مقدار مخصص‬
‫جائاز إذ الخط من حيث إنه خط ل يتعين له مقدار واحد بل يتصور أن يكون أطول و اقصر ‪ .‬فاختصاصه بمقدار عما هو أطول و‬
‫أقصر سببه الفاعل ل محالة ‪ ,‬إذ نسبة المقادير إلى قبول الخط لها متساوية ‪ ,‬و هذا ضروريِ ‪.‬‬
‫كذلك نسبة المقادير إلى شكل النسان و أطرافه متساوية فتخصيصها ل محالة بفاعل ‪ .‬ثم أرتقى منه و أقول ‪ :‬فاعله عالم لنه كل‬
‫فعل مرتب محكم فيسند إلى علم فاعله و بنية النسان مرتبة محكمة فل بد أن يستند ترتيبها و تدريبها إلى علم فاعل بها ‪ .‬فههنا‬
‫أصلن إذا عرفتهما لم تشك في النتيجة احدهما أن بنية الدمي بنية مرتبة محكمة هذا يعرف بالمشاهدة من تناسب أعضائاه و‬
‫استعداده كل واحد لمقصود خاص كاليد للبطش و الرجل للمشي ‪ ,‬و معرفة تشريح العضاء يورث علما ضروريا به ‪ ,‬و أما‬
‫افتقار المرتب المنظوم إلى علم واضح أيضا فل يشك العاقل في أن الخط المنظوم ل يصدر إل من عالم بالكتابة و إن كان بواسطة‬
‫القلم الذيِ ل يعلم ‪ ,‬و أن البناء الصالح لفادة مقاصد الكتنان كالبيت و الحمام و الطاحونة و غيرها ل يصدر إل من عالم البناء ‪,‬‬
‫فإن أمكن التشكيك في شيئ من هذا فطريقه أن يرتقي منه إلى أوضح منه حتى يرتقي غلى أولويات ‪ .‬و شرح ذلك ليس من غرضا‬
‫بل الغرض أن نبين أن ازدواج الولويات على الوجه الذيِ أوقعه الخليل عليه السلم ميزان صادق مفيد لمعرفة حقيقية ‪ .‬ول قائال‬
‫بالبطال هذا فإنه إبطال لتعليم ا تعالى أنبياءه و إبطال لما أثنى ا عليه إذ قال ‪ ) :‬و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ( "‬
‫النعام ‪." 83‬و التعليم ل محالة حق إن لم يكن الرأيِ حقا و في إبطال الرأيِ و التعليم جميعا ول قائال به أصل‪.‬‬
‫القول في الميزان الوسط ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬قد فهمت الميزان الكبر وحده و عياره و مظنته و حقيقة استعماله فإشرح لي الميزان الوسط ما هو ‪ ,‬و من أين حصل‬
‫تعليمه ‪ ,‬و من وضعه ‪ ,‬و من استعمله‬
‫فقلت الميزان الوسط أيضا للخليل عليه السلم حيث قال ‪ ) :‬ل أحب الفلين ( " النعام ‪ . "76‬و كمال صورة هذا الميزان أن‬
‫القمر أفل فالقمر ليس بإله ‪.‬‬
‫و لكن القران على إيجاز و الضمار مبناه ‪ ,‬لكن اللهية عن القمر ل يصدر ضروريا إل بمعرفة هذين الصلين و هو أن القمر‬
‫أفل و أن الله ليس بآفل فل اعلمه ضرورة ول حسا ‪.‬‬
‫قلت و ليس غرض من حكاية هذا الميزان أن أعرفك أن القمر ليس بآفل ‪ ,‬بل غني أعلمك أن هذا الميزان صادق و المعرفة‬
‫الحاصلة منه بهذا الطريق من الوزن ضرورية ‪ ,‬و غنما حصل العلم به في حق الخليل عليه السلم ‪ .‬إذ كان معلوما عنده أن بآفل ‪,‬‬
‫و أن لم يكن ذلك العلم أوليا له بل مستفادا من أصلين آخرين يستنتجان العلم بأن الله ليس بمتغير و كل متغير حادث ‪ ,‬و الفول‬
‫هو التغير فبنى الوزن على المعلوم عنده ‪ ,‬فخذ أنت الميزان و استعمله حيث يحصل لك العلم بالصلين ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فهمت بالضرورة أن هذا الميزان صادق و أن هذه المعرفة تلزم في الصلين إذ ضارا معلومين ‪ ,‬و لكن أريد أن تشرح لي‬
‫عياره من الصنجة المعروفة عنديِ ثم مثال استعمله في مضان الغموض فإن نفى اللهية عن القمر كالواضح عنديِ ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أما حده ‪ ,‬فهو أن كل مثلين وصف احدهما بوصف فسلب ذلك الوصف عن الخر فهما متباينان أيِ احدهما يسلب ذلك‬
‫الوصف عن الخر ول يوصف به ‪ ,‬و لما كان حد الميزان الكبر أن الحكم على العم حكم على الخص و يندرج فيه ل محالة ‪,‬‬
‫فحد هذا أن الذيِ ينفي عنه ما يثبت لغيره مباين لذلك الغير ‪ ,‬فالله ينفي عنه الفول و القمر يثبت له الفول ‪ ,‬فهذا يوجب التباين‬
‫بين الغلة و القمر و هو أن يكون القمر إلها ول الغلة قمرا ‪.‬‬
‫و قد علم ا تعالى نبيه محمدا صلى ا عليه و سلم الوزن بهذا الميزان في مواضع كثيرة من القرآن إقتداء بأبيه الخليل صلوات‬
‫ا عليهما ‪ ,‬فاكتفى بالتنبيه على موضوعين و اطلب الباقي من اليات القرآن ‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قوله تعالى لنبيه ‪ )) :‬قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق (( " المائادة ‪" 18‬‬
‫و ذلك أنهم ادعوا أنهم أبناء ا فعلمه ا تعالى كيفية إظهار خطاياهم بالقسطاس المستقيم ‪ ,‬فقال ‪ )) :‬قل فلم يعذبكم بذنوبكم (( ‪ .‬و‬
‫كمال صورة هذا الميزان أن البنين ل يذبحون ‪ ,‬و انتم معذبون ‪ ,‬فإذا لستم أبنائاه فهنا أصلن ‪ :‬أما أن البنين ل يعذبون فيعرف‬
‫بالتجربة ‪ ,‬و أما انتم معذبون فيعرف بالشهادة و يلزم منهما ضرورة نفي النبوة ‪.‬‬
‫الموضع الثاني ‪ :‬قوله تعالى ‪ )) :‬قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء ل من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين )‬
‫‪ (6‬ول يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم (( " الجمعة ‪ . " 7 , 6‬و ذلك أنهم ادعوا الولية ‪ ,‬و كان من المعلوم أن الوالي يتمنى لقاء‬
‫وليه ‪ ,‬و كان من المعلوم أنهم ل يتمنون الموت الذيِ هو سبب اللقاء فلزم ضرورة أنهم ليسوا أولياء ل ‪ .‬و كمال ضرورة هذا‬
‫الميزان أن يقال ‪ :‬كل ولي يتمنى لقاء وليه و اليهودى ليس يتمنى لقاء ا فلزم منه أنه ليس بولي ل ‪ .‬و حده أن التمني يوصف به‬
‫الولي و ينفي عن اليهود فيكون الولي و اليهودى متباينين لسلب أحدهما عن الخر فل يكون الولي يهوديا ول اليهودى وليا ‪ .‬و اما‬
‫عياره من الصنجة المعلومة فما عنديِ أنك تحتاج إليه مع وضوحه ‪ ,‬و لكن إن أردت إستضهارا فأنضر انك إذا عرفا أن الحجر‬
‫جماد ثم عرفت أن النسان ليس بجماد كيف يلزمك منه أن تعرف أن النسان ليس بحجر لن الجمادية تثبت للحجر و تنفي عن‬
‫النسان ‪ :‬فل جرم أن يكون النسان مسلوبا عن الحجر و الحجر مسلوبا عن النسان فل النسان حجرا ول الحجر إنسانا ‪ .‬و أما‬
‫مظنة إستعماله في مواضع الغموض فكثير و احد شطريِ المعرفة التقديس و هو ما يتقدس عنه الرب تعالى علوا كبيرا و جميع‬
‫معارفه توزن بهذا الميزان إذ الخليل عليه السلم استعمل هذا الميزان في التقديس ‪ ,‬و علمنا كيفية الوزن به إذ عرف بهذا الميزان‬
‫نفى الجسمية عن ا تعالى ‪ .‬و كذلك نقول أن الله ليس بجوهر متحيز ‪ .‬و نقول ليس بعرض لن العرض ليس يحي العالم و الله‬
‫حي عالم فليس بعرض ‪ ,‬و كذلك سائار أبواب التقديس تولد معرفتها أيضا من ازدواج أصلين على هذا الوجه ‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أصل سالب مضمون النفي ‪.‬‬
‫و الثاني ‪ :‬أصل موجب مضمونه الثبات و تتولد منهما معرفة النفي و التقديس‬
‫القول في الميزان الصغر ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬قد فهمت هذا أيضا فهما ضروريا فإشرح لي الميزان الصغر وحده و عياره و مظنة و استعماله و الغوامض ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬الميزان الصغر تعلمته من ا تعالى حيث علمه محمدا صلى ا عليه و سلم في القرآن ‪ ,‬و ذلك في قوله تعالى ‪ )) :‬و ما‬
‫قدر ا حق قدره إذ قالوا ما أنزل ا على بشر من شيئ قل من انزل الكتاب الذيِ جاء به موسى نورا و هدى للناس (( " النعام‬
‫‪ " 97‬و وجه الوزن بهذا الميزان نقول قولهم بنفي إنزال الوحي على البشر قوله باطل الزدواج المنتج بين الصلين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن موسى عليه السلم بشر ‪.‬‬
‫و الثاني أن موسى عليه السلم انزل عليه الكتاب فيلزم منه بالضرورة قضية خاصة و هو أن بعض البشر انزل عليه الكتاب و‬
‫تبطل به الدعوى العامة بأنه ل ينزل كتاب على بشر أصل ‪ .‬أما لصل الول و هو قولنا موسى بشر فمعلوم بالحس و أما الثاني‬
‫هو أن موسى منزل عليه الكتب فكان معلوما بإعترافهم ‪ ,‬إذ كانوا يخفون بعضه و يظهرون بعضه كما قال تعالى ‪ )) :‬تبدونها و‬
‫تخفون كثيرا (( " النعام ‪ , " 91‬و إنما ذكر هذا في معرض المجادلة بالحسن ‪ ,‬و من خاصية المجادلة أنه يكفي فيه لغيره فإن‬
‫النتيجة تلزمه إذا كان هو معترفا به ‪ ,‬و أكثر أدلة القرآن تجريِ على هذا الوجه ‪ ,‬فإن صادفت من نفسك إمكان الشك في بعض‬
‫أصولها و مقدمتها ‪ ,‬فإعلم أن المقصود بها محاجة ما لم يشك فيه ‪ ,‬و أما أنت فالمقصود في حقك أن تعلم منه كيف الوزن في سائار‬
‫المواضع و أما عيار هذا الميزان أن من يقول ل يتصور أن يمشي الحيوان بغير رجل ‪ ,‬فيعلم منك إذ قلت الحية حيوان و الحية‬
‫تمشي بغير رجل فيلزم منه أن بعض الحيوان بغير رجل ‪ ,‬و أن قول من يقول ل يمشي الحيوان إل برجل قول باطل منقوض و‬
‫أما موضع استعماله من الغوامض فكثير ‪ ,‬فإن بعض الناس مثل يقول كل كذب فهو قبيح لعينه فنقول من رأى نبيا من النبياء أو‬
‫الولياء قد إختفى من ظالم فسأله الظالم عن موضعه فأخفاه قوله هل هو كذب ‪ ,‬قال ‪ :‬نعم قلنا ‪ :‬فهل هو قبيح ‪ :‬قال ‪ :‬ل بل القبيح‬
‫الصدق المفضي إلى هلكه فنقول له ‪ :‬أنظر إلى الميزان فإنا نقول قوله في إخفاء محله كذب فهو أصل معلوم ‪ ,‬و هذا القول ليس‬
‫قبيح و هو الصل الثاني ‪ ,‬فيلزم منه أن كل كذب ليس قبيح فتأمل الن هل يتصور الشك في هذه النتيجة بعد العتراف بالصلين ‪,‬‬
‫و هل هذا أوضح مما ذكرته من المقدمة التجريبية و الحية في معرفة ميزان التقديس ‪ ,‬و أما حد هذا الميزان فهو أن كل وصفين‬
‫اجتمعا على شيئ واحد فبعض آحاد الوصفين ل بد أن يوصف بالخرة بالضرورة ول يلزم أن يوصف بأنه كله لزوما ضروريا ‪,‬‬
‫بل قد يكون في بعض الحوال و قد ل يكون فل يوثق ‪ ,‬أل ترى أن النسان يجتمع عليه الوصف بأنه حيوان و أنه جسم فيلزم منه‬
‫بالضرورة أن بعض الجسم حيوان بأنه جسم فإن وصف كل وصف بالخر إذا لم يكن ضروريا في كل حال لم تكن المعرفة‬
‫الحاصلة به ضرورية ‪ ,‬ثم قال الرفيق قد فهمت هذه الموازين الثلثة ‪ ,‬و لكن لما خصصت الول بإسم الكبر بالوسط بالثالث‬
‫بالصغر ؟‬
‫قلت ‪ :‬لن الكبر هو الذيِ يتسع لشياء كثيرة ‪ ,‬و الصغر خلفه ‪ ,‬و الوسط بينهما و الميزان الول أوسع الموازين ‪ ,‬إذ يمكن أن‬
‫يستفيد منه المعرفة بالثبات الخاص و النفي العام و النفي الخاص ‪ ,‬فقد أمكن أن يوزن به أربعة أجناس من المعارف ‪ ,‬و أما‬
‫الثاني فل يمكن أن يوزن به إل النفي و لكن يوزن به النفي العام و الخاص جميعا ‪ ,‬و أما الثالث فل يزن به إل الخاص كما ذكرت‬
‫لك أنه يلزم منه بعض أحد الوصفين يوصف به الخر لجتماعهما على شيئ واحد و ما ل يتسع إل للحكم الواحد الجزئاي فهو‬
‫أصغر ل محالة ‪ .‬نعم وزن الحكم العام به من موازين الشيطان و قد وزن به أهل التعليم بعض معارفهم و ألقاه في أمنية الخليل‬
‫صلوات ا عليه وسلمه في قوله ‪ )) :‬هذا ربي هذا أكبر (( " النعام ‪" 78‬‬
‫و سأتلو عليك قصته بعد هذا إن شاء ا‬
‫القول في ميزان التلزم ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬فإشرح لي ميزان التلزم فقد فهمت القسام الثلثة من موازين التعادل ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬هذا الميزان مستفاد من قوله تعالى ‪ )) :‬لو كان فيها آلهة إل ا لفسدتا (( " النبياء ‪ . "22‬و من قوله تعالى ‪ )) :‬قل لو كان‬
‫معه آلهة كما يقولون إذا لبتغوا إلى ذيِ العرش سبيل (( " السراء ‪ . " 42‬و من قوله تعالى )) لو كان هؤلء آلهة ما وردوها ((‬
‫" النبياء ‪ . " 99‬و تحقيق صورة هذا الميزان أن تقول ‪ :‬لو كان للعالم إلهان لفسد ‪ ,‬فهذا أصل ‪ .‬و معلوم أنه لم يفسد و هذا أصل‬
‫آخر ‪ ,‬فيلزم عنهما نتيجة ضرورية و هي نفي أحد اللهين ‪ ,‬و لو كان مع ذيِ العرش آلهة لبتغوا إلى ذيِ العرش سبيل ‪ ,‬و معلوم‬
‫أنهم لم يبتغوا فيلزم نفي آلهة سوى ذيِ العرش ‪ ,‬و أما عيار هذا الميزان بالصنجة المعلومة قولك ‪ :‬إن كانت الشمس طالعة‬
‫فالكواكب خفية ‪ .‬و هذا يعلم بالتجربة ‪ ,‬ثم تقول إن لم يأكل فلن فهو شبعان و هو يعلم بالتجربة ‪ ,‬ثم تقول و معلوم انه أكل و هذا‬
‫يعلم بالحس فيلزم من الصل التجريبي و الصل الحسي بالضرورة أنه غير شبعان ‪ ,‬و أما موضع إستعماله في الغوامض فكثير‬
‫حتى يقول الفقيه إن كان بيع الغائاب صحيحا فيلزم بتصريح اللزام ‪ ,‬و معلوم أنه ل يلزم بتصريح اللزام منه أنه ليس بصحيحا و‬
‫يعلم الصل الول بالستقراء الشرعي المفيد للضن و إن يفيد العلم ‪ ,‬و الثاني بتسليم الخصم و ماعدته و نقول في النظريات إن‬
‫كان صنعة العالم و تركيب الدمي مرتبا عجيبا محكما فصانعه عالم و هذا في العقل أولى ‪ ,‬و معلوم انه عجيب مرتب و هذا‬
‫مدرك بالعيان فيلزم منه أن صانع عالم ‪ ,‬ثم نرتقي ‪ .‬فنقول ‪ :‬إن كان صانعه عالما فهو حي معلوم بالميزان الول أنه عالم فيلزم‬
‫منه أنه حي ‪ ,‬ثم نقول إن كان حيا عالما فهو قائام بنفسه و ليس بغرض ‪ ,‬و معلوم الميزانين السابقين الولين أنه حي عالم فيلزم منه‬
‫أنه قائام بنفسه ‪ ,‬و كذلك تعرج من صفة تركيب الدمي إلى صفة صانعه و هو عالم ‪ ,‬ثم تعرج من العلم إلى الحياة ‪.‬‬
‫ثم منها إلى الذات و هذا هو المعراج الروحاني‪ ,‬و هذه الموازين سللم العروج إلى السماء ‪ ,‬ثم إلى خالق السماء و هذه الصول‬
‫درجات السللم و أما المعراج الجسماني ‪ ,‬فل تفي به كل قوة يختص ذلك بقوة النبوة ‪ ,‬و أما حد هذا الميزان فإن ما كل هو لزم‬
‫للشيئ فهو تابع له في كل حال ‪ ,‬فنفي اللزم يوجب بالضرورة نفي الملزوم ‪ ,‬و وجود الملزوم يوجب بالضرورة وجود اللزم ‪,‬‬
‫أما نفي اللزوم و وجود اللزم فل نتيجة لهما ‪ ,‬بل هما من موازين الشيطان و قد يزن به بعض أهل التعليم معرفته ‪ ,‬أما ترى أن‬
‫صحة الصلة يلزمها ل محالة كون المصلي متطهرا فل جرم يصح أن تقول إن كانت صلة زيد صحيحة فهو متطهرا‪ ,‬و معلوم‬
‫أنه غير متطهر و هو نفي اللزم فلزم منه أنه صلته غير صحيحة و هو نفي الملزوم ‪ ,‬و كذلك إن قلت ‪ :‬و معلوم أنه متطهر‬
‫فيلزم منه أن صلته صحيحة فهذا خطا لنه ربما بطلت صلته بعلة أخرى ‪ ,‬فهذا وجود اللزم و لم يدل على وجود الملزوم ‪ ,‬و‬
‫كذلك إن قلت ‪ :‬و معلوم أن صلته ليست بصحيحة فهو إذا كان غير متطهر و هذا خطأ لنه ربما بطلت صلته بعلة أخرى ‪ ,‬فهذا‬
‫وجود اللزم و لم يدل على وجود الملزوم ‪ ,‬و كذلك إن قلت و معلوم أن صلته ليست بصحيحة فهو إذا كان غير متطهر و هذا‬
‫خطأ غير لزم لنه يجوز أن يكون عدم صحة الصلة لفقدان شرط آخر سوى الطهارة فهذا نفي الملزوم و لم يدل على نفي اللزم‬
‫‪.‬‬
‫القول في ميزان التعاند ‪:‬‬
‫ثم قال إشرح لي ميزان التعاند و أذكر لي من القرآن موضعه و عياره و محل إستعماله ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أما موضعه من القرآن فقوله في تعليم نبيه محمد رسول ا صلى ا عليه و سلم ‪ )) :‬قل من يرزقكم من السموات و‬
‫الرض قل ا و إنا إياكم لعلي هدى أو في ضلل مبين (( " سبأ ‪ . " 34‬فإن لم يذكر قوله إنا أو إياكم في معرض التسوية و‬
‫التشكيك ‪ ,‬بل فيه إضمار أصل ىخر و هو لسنا على ضلل في قولنا ‪ :‬إن ا يرزقكم من السماء و الرض فإنه الذيِ يرزق من‬
‫السماء بإنزال الماء ‪ ,‬و من الرض بإثبات النيات فإذا أنتم ضالون بإنكار ذلك و كمال صورة هذا الميزان إنا و إياكم لعلى ضلل‬
‫مبين ‪ ,‬و هذا أصل ‪ ,‬ثم نقول ‪ :‬و معلوم أنا لسنا في ضلل و هذا أصل آخر ‪ ,‬فيلزم من إزدواجهما نتيجة ضرورية و هو أنكم في‬
‫ضلل ‪ .‬و أما عياره من الصنجات المعروفة فهو أن من دخل دارا ليس فيها إل بيتان ‪ ,‬ثم دخلنا أحدهما تره فيه فنعلم علما‬
‫ضروريا أنه في البيت الثاني ‪ ,‬و هذا الزدواج من أصلين ‪ :‬أحدهما قوله إنه في أحد البيتين قطعا‬
‫و به وزن بعض أهل التعليم كلمهم في مواضع كثيرة ذكرناها في قواصم ‪ ,‬و في جواب مفصل الخلف و الكتاب المستظهرى و‬
‫غيرهما من الكتب المستعملة ‪ ,‬و أما موضع إستعمال هذا من الغوامض فل ينحصر و لعل اكثر النظريات تدور عليه‪ ,‬فغن من‬
‫أنكر موجودا قديما فنقول له ‪ :‬الموجودات إما أن تكون كلها حادثة أو بعضها حادث و بعضها قديم و هذا حاصر ‪ ,‬لنه بين النفي و‬
‫الثبات دائار ‪ ,‬ثم نقول و معلوم أن كلها ليست بحادثة فيلزم أن فيها قديما فإن قيل ‪ :‬فلم قيل إن كلها ليست حادثة ؟ فنقول ‪ :‬لنها‬
‫كلها لو كانت حادثة لكان حدوثها بأنفسها من غير سبب ‪ ,‬فبطل أن تكون كلها حادثة فثبت أن فيها موجودا قديما ‪ ,‬و نظائار‬
‫إستعمال هذا الميزان ل تنحصر ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬قد فهمت بالحقيقة صدق هذه الموازيين الخمسة ‪ ,‬و لكن إشتهى أن أعرف معنى ألقابها و لم خصصت الول بأنه ميزان‬
‫التعادل ‪ ,‬و الثاني بإلتزام ‪ ,‬و الثالث بالتعاند ؟‬
‫قلت ‪ :‬سميت الول ميزان التعادل لن فيه أصلين متعادلين كأنهما كفتان متجاذبتان ‪ ,‬و سميت الثاني ميزان التلزم لن أحد‬
‫الصلين تشتمل على جزئاين ‪ :‬أحدهما لزم ‪ ,‬و الخر ملزوم كقوله تعالى ‪ )) :‬لو كان فيهما آلهة إل ا لفسدتا (( " النبياء ‪" 22‬‬
‫‪ .‬فغن قوله ‪ :‬لفسدتا ‪ ,‬لزم و ملزوم قوله ‪ :‬لو كان فيهما آلهة غل ا ‪ ,‬و لزمت النتيجة من نفي اللزم ‪.‬‬
‫و سميت الثالث ميزان التعاند لنه رجع إلى حصر قسمين بين النفي و الثبات يلزم من ثبوت أحدهما نفي الخر و من نفي احدهما‬
‫ثبوت الخر فبين القسمين تعاند و تضاد ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬هذه السامي أنت إبتدعتها و هذه الموازين أنت إنفردت بإستخراجها أم سبقت إليها ؟‬
‫قلت ‪ :‬أما هذه السامي فإني إبتدعتها ‪ ,‬و اما الموازين فإنا أستخرجها من القرآن ‪ ,‬و ما عنديِ أني سبقت إلى إستخراجها من‬
‫القرآن ‪ ,‬لكن أصل الموازيين قد سبق إستخراجها و لها عند مستخرجها من المتاخرين أسماء أخرى سوى ما ذكرته ‪ ,‬و عند بعض‬
‫المم السابقة على بعثة محمد و عيسى صلى ا عليهما و سلم أسامي أخرى ‪ ,‬كانوا قد تعلموها من صحف إبراهيم و موسى‬
‫عليهما الصلة و السلم ‪ ,‬ولكن بعثني على إبدال كسوتها بأسامي أخرى غير ما سموها به ما عرفت من ضعف قريحتك و طاعة‬
‫نفسك إلى الوهام ‪ ,‬فإني رأيتك من العتزاز بالظواهر بحث لما سقت عسل أحمرا في قارورة حجام لم تطق تناوله لتفور طبعك‬
‫عن المحجمة و ضعف عقلك عن أن يعرفك أن العسل ظاهر في أيِ زجاجة كان ‪ ,‬بل ترى التركي يلبس المرقعة و الدراعة فتحكم‬
‫عليه بأنه صوفي أو فقيه و لو لبس الصوفي القباء و القلنوسة حكم عليه وهمك بأنه تركي فأبدا يتحرك وهمك إلى ملحظة غلف‬
‫الشياء دون اللباب ‪ ,‬و كذلك ل تنظر إلى القول من نفس القول و ذاته بل من حسن صنعته أو حسن ظنك بقائاله ‪ ,‬فإذا كانت‬
‫عبارته مستكرهة عندك أو قائالها قبيح الحال إعتقدك رددت القول و غن كان في نفسه حسنا حقا ‪ ,‬فلو قيل لك ‪ :‬قل ل اله إل ا‬
‫عيسى رسول ا نفر عن ذلك طبعك ‪ ,‬و قلت ‪ :‬هذا قول أنصاريِ فكيف أقوله ‪ ,‬و لم يكن لك من العقل ما تعرف به أن هذا القول‬
‫في نفسه حق و أن النصراني ما مقل لهذه الكلمة لسائار الكلمات بل لكلمتين فقط ‪ ,‬إحداهما قوله ‪ :‬ا ثالث ثلثة ‪ ,‬و الثانية قوله ‪:‬‬
‫محمد ليس برسول ا و سائار أقواله وراء ذلك حق ‪ ,‬فلما رأيتك و رأيت رفقاءك من أهل التعليم ضعفاء العقول ل تخدعهم إل‬
‫الظواهر نزلت إلى حدك فسقيتك الدواء في كوز الماء و سقتك به إلى الشفاه و تلطفت بك تلطف الطبيب بمريضه ‪ ,‬و لو ذكرت لك‬
‫أنه دواء و عرضته في قدح الدواء لكان يشمئاز من قبوله طبعك و لو قبلته لكنت تتجرعه ول تكاد تسبغه فهذا غرضي في إبدال‬
‫تلك السامي و إبداع هذه يعرفه من بعرفه ‪ ,‬و يجهله من يجهله ‪ ,‬و ينكره من ينكره ‪.‬‬
‫فقال لقد فهمت هذا كله ‪ ,‬و لكن أينما كنت وعدت به من أن هذا الميزان له كفتان و عمود واحد تتعلق به الكفتان جميعا ‪ ,‬و لست‬
‫أرى في هذا الميزان الكفة و العمود ‪ ,‬و أينما ذكرته من الموازين التي هي أشبه بالقبطان ؟‬
‫قلت ‪ :‬هذا المعارف الست قد إستفادتها من ألين فكل أصل كفة و الجزء المشترك بين الصلين الداخل فيهما عمود ‪ ,‬و أضرب لك‬
‫مثل من الفقهيات فلعله أقرب إلى فهمك ‪ ,‬فأقول ‪ :‬قولنا ‪ :‬كل مسكر حرام كفة ‪ ,‬و قولنا ‪ :‬كل نبيذ مسكر كفة أخرى ‪ ,‬و النتيجة أن‬
‫كل نبيذ حرام فههنا في الصلين ثلثة أمور فقط ‪ :‬النبيذ و المسكر و الحرام ‪ .‬أما النبيذ فإنه يوجد في أحد الصلين فقط فهو كفة ‪,‬‬
‫و أما الحرام فيوجد في الصل الثاني فقط فهو الكفة الثانية ‪ ,‬و أما المسكر فمذكور في الصلين جميعا و هو مكرر فيها مشترك‬
‫بينما فهو العمود ‪ ,‬و الكفتان متعلقتان به إذ يتعلق به أحدهما و يتعلق الموصوف بالصفة ‪ ,‬و هو قولك نبيذ مسكر فإن النبيذ‬
‫موصوف بالسكر و الخرى متعلقة لتعليق الصفة بالموصوف و هو قولك ‪ .‬و كل مسكر حرام ‪ ,‬فنتأمل ذلك حتى تعرف فإن فساد‬
‫هذا الميزان تارة يكون من الكفة ‪ ,‬و تارة يكون من العمود ‪ ,‬و تارة يكون من تعلق الكفة بالعمود على ما أنبهك على رمز يسير‬
‫منه في ميزان الشيطان ‪ ,‬و أما الشبه بالقبطان فهو ميزان التلزم إذ أحد الطرفين أطول من الخر كثيرا ‪ ,‬فإنك تقول لو كان بيع‬
‫الغائاب صحيحا لزم بصريح اللزام و هذا أصل‬
‫)ص ‪(210‬‬
‫طويل مشتمل على جزأين‪ :‬لزم وملزوم‪ ،‬والثاني وهو قولك وليس يلزم بصريح اللزام وهذا أصل آخر أقصر منه فكان أشبه‬
‫بالرمانة القصيرة المقابلة لكفة القبان‪ ،‬وأما ميزان التعادل فتتعادل فيه كفتان ليست إحداهما أطول من الخرى‪ ،‬بل كل واحدة منهما‬
‫تشتمل على صفة وموصوف فقط‪ ،‬فافهم هذا مع ما عرفتك من أن الميزان الروحاني ل يكون كالميزان الجسماني بل يناسبه‬
‫مناسبة ما‪ ،‬ولذلك يمكن تشبيهه بتولد النتيجة من ازدواج الصلين إذ يجب أن يدخل شيء من أحد الصلين في الخر وهو المكسر‬
‫الموجود في الصلين‪ ،‬حتى تتولد النتيجة‪ ،‬فإن لم يدخل جزء من أحد الصلين في الخر لم تتولد نتيجة كما تتولد من قولك كل‬
‫مسكر حرام وكل مغصوب مضمون نتيجة أصلل وهما أصلن‪ ،‬لكن لم يجر بينهما نكاح وازدواج إذ ليس يدخل جزء من أحدهما‬
‫في الخر‪ ،‬وإنما النتيجة تتولد من الجزء المشترك الداخل من أحدهما في الخر وهو الذيِ سميناه عمود الميزان‪ ،‬ولو فتح لك باب‬
‫الموازنة بين المحسوس والمعقول لنفتح لك باب عظيم في معرفة الموازنة بين عالم الملك والشهادة‪ ،‬وبين عالم الغيب والملكوت‬
‫وتحته أسرار عظيمة‪ ،‬ومن لم يطلع عليها حرم القتباس من أنوار القرآن والتعليم منه ولم يحط من علمه إل بالقشور‪ ،‬فكما أن في‬
‫القرآن موازين كل العلوم فكذلك فيه مفاتيح كل العلوم كما أشرت إليه في كتاب )جواهر القرآن( فاطلبه منه وليست الموازنة بين‬
‫عالم الملك والشهادة وعالم الغيب والملكوت‪ ،‬إل بما يتجلى بعضه في المنام من الحقائاق المعنوية في المثلة الخيالية‪ ،‬لن الرؤيا‬
‫جزء من النبوة وفي عالم النبوة يتجلى تمام الملك والملكوت‪ ،‬ومثاله من النوم رجل رأى في منامه كأن في يده خاتلما يختم به أفواه‬
‫الرجال وفروج النساء فقص رؤياه على ابن سيرين‪ ،‬فقال‪ :‬إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل الصباح‪ ،‬فقال‪ :‬هو كذلك‪ ،‬فانظر الن‬
‫لم تجل له حاله من عالم الغيب في هذا المثال‪ ،‬واطلب الموازنة بين هذا المثال والذان قبل الصبح في رمضان‪ ،‬وربما يرى هذا‬
‫المؤذن نفسه يوم القيامة وفي يده خاتم من نار ويقال له هذا هو الخاتم الذيِ كنت تختم به أفواه الرجال وفروج النساء‪ ،‬فيقول‪ :‬وا‬
‫ما فعلت هذا‪ .‬فيقال‪ :‬نعم كنت تفعله ولكن تجهله لن هذا روح فعلك ول تتجلى حقاق الشياء وأرواحها إل في عالم الرواح‬
‫ويكون الروح في غطاء من الصور في عالم التلبيس عالم الحس والخيال‪ .‬والن قد كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‪،‬‬
‫وكذلك يفتضح كل من ترك حلدا من حدود الشرع‪ ،‬وإن أردت له حقيقة فاطلبه من باب حقيقة الموت في الحياء أو من كتاب‬
‫جواهر القرآن‪ ،‬فترى فيه العجائاب‪ ،‬وأطل التأمل فيه فعسالك تنفتح لك باب رؤيته إلى عالم الملكوت تسترق منها السمع‪ ،‬فإني ما‬
‫أراك ينفتح لك بابها وأنت إنما تنتظر معرفة الحقائاق من معلم غائاب ل تراه‪ ،‬ولو رأيته لوجدته أضعف منك في المعرفة كثيلرا‬
‫فخذها ممن سافر وتعرف وبحث فعلى الخبير سقطت فيه‪.‬‬
‫)ص ‪(211‬‬
‫فقال‪ :‬هذا الن حديث آخر يطول بيني وبينك اللجاج فيه‪ ،‬فإن هذا المعلم الغائاب وإن كنت لم أر منظره فقد سمعت خبره كالليث إن‬
‫لم أره فقد رأيت أثره ولقد رأيت والدتي إلى أن ماتت ومولنا صاحب قلعة الموت يثنيان عليه ثنالء باللغا حتى قال إنه المطلع على‬
‫كل ما يجريِ في العالم ولو على ألف فرسخ‪ ،‬أفأكذب والدتي وهي العجوز العفيفة السيرة أو مولنا وهو المام الحسن السيرة‬
‫والسريرة‪ ،‬كل بل هما شاهدان صادقان كيف وقد طابقهما على ذلك جميع رفقائاي من أهل دامغان وأصبهان ولهم المر المطاع‬
‫وفي حكمهما سكان القلع‪ ،‬أفترى أنهم منخدعون وهم الذكياء أو متنسمون وهم التقياء؟ هيهات هيهات دع عنك الغيبة‪ ،‬فإن‬
‫مولنا يطلع على ما يجريِ بيننا من غير ريبة إذ ل يعزب عنهن مثقال ذرة في الرض ول في السماء فأخشى أن أتعرض لمقته‬
‫بمجرد السماع والصغاء فاطو طومار الهذيان وارجع إلى حديث الميزان واشرح لي ميزان الشيطان وكيفية وزن أهل التعليم به‪.‬‬
‫القول في موازين الشيطان وكيفية وزن أهل التعليم بها‬
‫فقلت‪ :‬اسمع الن يا مسكين شرح ميزان رفقائاك فإنه بعد غلوائاك‪ ،‬واعلم أن كل ميزان ذكرته من موازين القرآن فللشيطان في‬
‫جانبه ميزان ملصق به يمثله بالميزان الحق ليوزن به‪ ،‬فيلغط لكن الشيطان إنما يدخل من موقع الثلم‪ ،‬فمن سد الثلم وأحكمها أمن‬
‫الشيطان‪ .‬ومواقع ثلمه عشرة قد جمعتها وشرحتها في كتاب النظر وكتاب معيار العلم إلى غير ذلك من الدقائاق في شروط الميزان‬
‫لم أذكرها الن لقصور فهمك عن إدراكها‪ ،‬فإن أردت معاقد حملها ألفيتها في كتاب المحك‪ ،‬وإن أردت شرح تفاصيلها وجدتها في‬
‫كتاب المعيار‪ ،‬لكن أقدم الن أنموذلجا واحلدا وذلك هو الذيِ ألقاه الشيطان في خاطر إبراهيم الخليل عليه السلم إذ قال ا تعالى‪:‬‬
‫)وما أرسلنا من قبلك من رسول ول نبي إل إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ ا ما يلقي الشيطان ثم يحكم ا آياته( ]الحج‪:‬‬
‫‪ .[52‬وإنما ذلك في مبادرته إلى الشمس وقوله‪ :‬هذا ربي هذا أكبر‪ ،‬لجل أنه أكبر أراد أن يخدعه به‪ ،‬وكيفية الوزن به أن الله هو‬
‫الكبر‪ ،‬فهذا أصل معلوم التفاق والشمس هي أكبر من الكواكب وهذا أصل آخر معلوم بالحس‪ ،‬فيلزم منه أن الشمس إله وهي‬
‫النتيجة وهذا ميزان ألصقه الشيطان بالميزان الصغر من موازين التعادل لن الكبر وصف وجد للله ووجد للشمس‪ ،‬فيوهم أن‬
‫أحدهما يوصف بالخر وهو عكس الميزان الصغر‪ ،‬وحد ذلك الميزان أن يوجد شيئاان لشيء واحد ل أن يوجد شيء واحد لشيئاين‬
‫فإنه إن وجد شيئاان لشيء واحد وصف بعض أحدهما بالخر كما سبق ذكره‪ .‬أما إذا وجد شيء واحد لشيئاين فل يوصف‬
‫)ص ‪(212‬‬
‫أحد الشيئاين بالخر‪ ،‬فانظر كيف يلبس الشيطان بالعكس‪ .‬وعيار هذا الميزان الباطل من الصنجة الظاهرة البطلن اللون فإنه يوجد‬
‫للسواد والبياض جميلعا‪ ،‬ثم ل يلزم أن يوصف البياض بالسواد أو السواد بالبياض‪ ،‬بل لو قال قائال‪ :‬البياض لون والسواد لون فيلزم‬
‫منه أن السواد بياض‪ ،‬كان خطأ باطلل‪ ،‬فكذلك قوله الله أكبر والشمس أكبر فالشمس إله‪ ،‬فهذا خطأ إذ يجوز أن يوصف‬
‫المتضادان بوصف واحد‪ ،‬فاتصاف شيئاين **بشيء واحد ل يوجد بين الشيئاين اتصالل‪ .‬أما اتصاف شيء واحد بشيئاين فيوجب بين‬
‫الوصفين اتصالل وكل من فهمه أدرك التفرقة بين اتصاف شيء واحد بشيئاين وبين اتصاف شيئاين بشيء واحد‪.‬‬
‫فقال‪ :‬قد اتضح لي بطلن هذا‪ ،‬لكن متى وزن أهل التعليم كلمهم به؟‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وزنوا به كللما كثيلرا أشح على أوقاتي أن أضيعها بحكايته‪ ،‬لكن أريك أنموذلجا واحلدا‪ ،‬فلقد سمعت كثيلرا من قولهم إن الحق‬
‫مع الوحدة والباطل مع الكثرة‪ ،‬ومذهب الرأيِ يفضي إلى الكثرة‪ ،‬ومذهب التعليم يفضي إلى الوحدة فيلزم أن يكون الحق في مذهب‬
‫التعليم‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم سمعت هذا كثيلرا واعتقدت هذا برهالنا وأعرفه برهالنا قاطلعا ل أشك فيه‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬هذا ميزان الشيطان فانظر كيف انتكس رفقاؤك واستعملوا قياس الشيطان وميزانه في إبطال ميزان الخليل صلوات ا عليه‬
‫وسلمه وسائار الموازين‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما وجه تخريجه عليه؟‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬الشيطان إنما يلبس في الموازين بتكثير الكلم فيه وتشويشه حتى ل يعلم منه موضع التلبيس وهذا كلم كثير حصله يرجع‬
‫إلى أن الحق يوصف بالوحدة‪ ،‬فهذا أصل وأن مذهب التعليم يوصف بالوحدة فهذا أصل آخر‪ ،‬فلزم منه أن مذهب التعليم يوصف‬
‫بالوحدة وصف واحد بالحق لن الوحدة في شيء واحد فاتصف به شيئاان‪ ،‬فيجب اتصاف أحد الشيئاين بالخر كقول القائال‪ :‬اللون‬
‫وصف واحد اتصف به البياض والسواد جميلعا فيلزم اتصاف البياض بالسواد‪ ،‬وكقول الشيطان‪ :‬الكبر وصف واحد يتصف به‬
‫الله والشمس فيلزم منه أن تتصف الشمس بالله فل فرق بين هذه الموازين الثلثة‪ .‬أعني وجود اللون للسواد والبياض ووجود‬
‫الكبر للله والشمس ووجود الوحدة للتعليم والحق‪ ،‬فتأمل لتفهم ذلك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬قد فهمت هذا قطلعا ولكني ل أقنع بمثال واحد فاذكر لي مثالل آخر من موازين رفقائاي ليزداد قلبي سكولنا إلى معرفة انخداعهم‬
‫بموازين الشيطان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أما سمعت قولهم إن الحق إما أن يعرف بالرأيِ المحض أو بالتعليم المحض‪،‬‬
‫)ص ‪(213‬‬
‫وإذا بطل أحدهما ثبت الخر وباطل أن يكون مدرلكا بالرأيِ العقلي المحض لتعارض العقول والمذاهب فثبت أنه بالتعليم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إيِ وا قد سمعت ذلك كثيلرا هو مفتاح دعوتهم وعنوان حجتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا وزن بميزان الشيطان الذيِ ألصقه بميزان التعاند‪ ،‬فإن إبطال أحد القسمين ينتج ثبوت الخر‪ ،‬ولكن بشرط أن تكون‬
‫القسمة منحصرة ل منتشرة‪ ،‬والشيطان يلبس المنتشرة بالمنحصرة‪ ،‬فهذه منتشرة إذ ليست دائارة بين النفي والثبات‪ ،‬بل يمكن قسم‬
‫ثالث وهو أن يدرك بالعقل والتعليم جميلعا وعياره من الصنجات المعلوم بطلنها قول القائال‪ :‬اللوان ل تدرك بالعين بل بنور‬
‫الشمس‪ .‬فقلنا‪ :‬لم؟ فقال‪ :‬ل تخلو إما أن تدرك بالعين أو بنور الشمس وباطل أن تدرك بالعين لنه ل يدرك بالليل فثبت أنه يدرك‬
‫بنور الشمس‪ ،‬فيقال له‪ :‬يا مسكين ثم قسم ثالث وهو أن يدرك بالعين ولكن عند نور الشمس‪.‬‬
‫ضا لكن أريد أن تزيدني شرلحا للغلط الواقع في النموذج الول وهو حديق الحق والوحدة‪ ،‬فإن التفطن‬ ‫فقال‪ :‬قد فهمت هذا أي ل‬
‫لموضع الغلط منه لطيف جلدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وجه الغلط ما ذكرت وهو التباس اتصاف شيء واحد بشيئاين باتصاف شيئاين بشيء واحد‪ ،‬ولكن أصل هذا الغلط إيهام‬
‫العكس‪ ،‬فإن من علم أن كل واحد حق ربما يظن أن كل حق واحد وليس يلزم هذا العكس بل اللزم منه عكس خاص‪ ،‬وهو أن‬
‫بعض الواحد حق فإن قولك‪ :‬كل إنسان حيوان ل يلزم منه عكس عام وهو أن كل حيوان إنسان بل اللزم أن بعض الحيوان إنسان‬
‫ول يستولي الشيطان بحيله على الضعفاء بأشد وأكثر من تحيله بإيهام العكس العام حتى ينتهي إلى المحسوسات حتى أن من رأى‬
‫حبلل أسود مبرقش اللون يرتاع منه لشبهه بالحية وسببه معرفته أن كل حية فطويل متبرقش اللون فيسبق وهمه إلى عكسه العام‪،‬‬
‫ويحكم بأن كل طويل متبرقش اللون فهو حية فيظن منه عكلسا عالما‪ ،‬وهو أن كل طويل متبرقش اللون أسود فهو حية‪ ،‬وإنما اللزم‬
‫منه عكس خاص وهو أن بعض الطويل المتبرقش حية ل أن كله كذلك‪ ،‬وفي العكس والنقيض دقائاق كثيرة ل تفهمها إل من كتاب‬
‫محك النظر ومعيار العلم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إني أجد بكل مثال تذكره طمأنينة أخرى لمعرفة موازين الشيطان فل تبخل علي بمثال آخر من موازين الشيطان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن فساد ذلك الميزان تارة يكون من سوء التركيب بأن ل يكون تعلق الكفتين بالعمود تعللقا مستقيلما وتارة يكون من نفس الكفة‬
‫وفساد طينتها التي منها اتخذت فإنها إما أن تتخذ من حديد أو** نحاس أو جلد حيوان‪ ،‬فلو اتخذت من الثلج أو القطن لم يمكن‬
‫الوزن به‪ .‬والسيف تارة يفسد لخلل شكله بأن يكون على هيئاة العصا غير معترض ول حاد‪،‬‬
‫)ص ‪(214‬‬
‫وتارة يكون من فساد طينته ومادته التي منها اتخذ بأن يكون متخلذا من خشب أو طين‪ ،‬وكذلك ميزان الشيطان قد يكون فساده لفساد‬
‫تركيبه كما ذكرته في مثال كبر الشمس ووحدة الحق فإن صورتها مختلة معكوسة كالذيِ يجعل الكفتين فوق العمود فيريد أن يزن‬
‫ك دأن دتلساجدد‬
‫به‪ ،‬وتارة يكون لفساد المادة كقول إبليس‪ :‬أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين في جواب قوله تعالى‪) :‬دما دمدندع د‬
‫ت همدن اللدعاهليدن( ]ص‪ .[75 :‬وقد أدرج إبليس في هذا ميزانين إذ علل منع السجود بكونه خيلرا منه ثم‬ ‫ت أدلم اكن د‬
‫يِ أدلسدتلكدبلر د‬ ‫لهدما دخدللق ا‬
‫ت هبديدد ا‬
‫أثبت الخيرية بأنه خلق من نار‪ ،‬وإذا صرح بجميع أجزاء حجته وجد ميزانه مستقيم التركيب لكن فاسد المادة‪ ،‬وكمال صورته أن‬
‫يقول ما خلق من نار خير والخير ل يسجد فأنا إلذا ل أسجد فكل أصلي هذا القياس ممنوع لنه غير معلوم‪ ،‬والعلوم الخفية توزن‬
‫بالعلوم الجلية‪ ،‬وما ذكره غير جلي ول مسلم إذ نقول له‪ :‬نسلم أنك خير منه وهذا منع الصل الول‪ ،‬والخر أنا ل نسلم أن الخير‬
‫ل يلزمه السجود لن اللزوم والستحقاق بالمر ل بالخيرية‪ ،‬لكن ترك إبليس الدللة على الصل الثاني وهو أن اللزوم‬
‫والستحقاق بالمر ل بالخيرية واشتغل بإقامة الدليل على أنه خير‪ :‬لني خلقت من نار‪ .‬وهذه دعوى الخيرية بالنسب وكمال‬
‫ضا فاسدة فإنا‬ ‫صورة دليله وميزانه أن يقول المنسوب إلى الخير خير‪ ،‬وأنا منسوب إلى الخير فإلذا أنا خير‪ ،‬وكلتا هاتين الكفتين أي ل‬
‫ل نسلم أن المنسوب إلى الخير خير بل الخيرية بصفات الذات ل بالنسب‪ ،‬فيجوز أن يكون الحديد خيلرا من الزجاج ثم يتخذ من‬
‫الزجاج بحسن الصنعة ما هو خير من المتخذ من الحديد‪ ،‬وكذلك نقول إبراهيم صلوات ا عليه خير من ولد نوح وإن كان إبراهيم‬
‫ضا غير‬ ‫مخلولقا من آزر وهو كافر وولد نوح من نبي‪ .‬وأما أصله الثاني وهو أنه مخلوق من خير لن النار خير من الطين فهذا أي ل‬
‫مسلم بل الطين خير لنه من التراب والماء‪ ،‬وربما يقال إن بامتزاجهما قوام الحيوان والنبات وبهما يحصل النشوء والنمو‪ ،‬وأما‬
‫النار فمفسدة ومهلكة للجميع فقوله إن النار خير باطل‪ .‬فهذه الموازين صحيحة الصورة فاسدة المادة تشبيلها بالسيف المتخذ من‬
‫الخشب بل هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيلئاا ووجد ا عنده فوفاه حسابه‪ ،‬وكذا يرى أهل التعليم‬
‫ضا مدخل من مداخل الشيطان ينبغي أن يسد‪ ،‬بل المادة الصحيحة التي‬ ‫أحوالهم يوم القيامة إذا كشفت لهم حقائاق موازينهم وهذا أي ل‬
‫تستعمل في النظر كل أصل معلوم قطلعا إما بالحس‪ ،‬وإما بالتجربة‪ ،‬وإما بالتواتر الكامل أو بأول العقل أو بالستنتاج من هذه‬
‫الجملة‪ .‬أما الذيِ يستعمل في المحاجة والمجادلة فما يعترف به الخصم ويسلمه وإن لم يكن معلولما في نفسه فإنه تصير حجته عليه‬
‫وكذلك تجريِ بعض أدلة القرآن‪ ،‬فل ينبغي أن ننكر أدلة القرآن إذا أمكنك التشكيك في أصولها لنها أوردت على طوائاف كانوا‬
‫معترفين بها‪.‬‬
‫)ص ‪(215‬‬
‫القول في الستغناء بمحمد صلى ا عليه وسلم وبعلماء أمته عن إمام معصوم آخر وبيان معرفة صدق محمد صلى ا عليه وسلم‬
‫بطريق أوضح من النظر في المعجزات وأوثق منه وهو طريق العارفين‬
‫فقال‪ :‬لقد أكملت الشفاء وكشفت الغطاء وأتيت باليد البيضاء لكن بنيت قصلرا وهدمت مصلرا‪ ،‬فإني إلى الن كنت أتوقع أن أتعلم‬
‫منك الوزن بالميزان وأستغني بك وبالقرآن عن المام المعصوم فالن إذا ذكرت هذه الدقائاق في مداخل الغلط فقد آيست من‬
‫الستقلل به‪ ،‬فإني ل آمن أن أغلط لو اشتغلت بالوزن وقد عرفت الن لم اختلف الناس في هذه المذاهب وذلك لنهم لم يتفطنوا‬
‫لهذه الدقائاق كما فطنت‪ ،‬فغلط بعضهم وأصاب بعضهم‪ ،‬فإلذا أقرب الطرق لي أن أعول على المام المعصوم حتى أتخلص من هذه‬
‫الدقائاق‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬يا مسكين‪ ،‬معرفتك بالمام الصادق ليست ضرورية فهي إما أن تكون تقليلدا للوالدين أو موزونة بشيء من الموازين فإن كل‬
‫علم ليس أولليا فبالضرورة يكون حاصلل عند صاحبه بقيام هذه الموازين في نفسه وإن كان هو ل يشعر به‪ ،‬فإنك عرفت صحة‬
‫ميزان التقدير بانتظام الصلين في ذهنك التجريبي والحسي‪ ،‬وكذلك سائار الناس وهو ل يشعرون به ومن يعرف مثلل أن هذا‬
‫الحيوان غير حامل لنه بغل عرفه بانتظام الصلين اللذين ذكرناهما في صدر الكتاب وإن كان ل يشعر بمصدر علمه‪ .‬وكذلك كل‬
‫علم في العالم يحصل للنسان فيكون كذلك فأنت إن أخذت اعتقاد العصمة في المام الصادق بل في محمد صلى ا عليه وسلم‬
‫تقليلدا للوالدين والرفقاء لم تتميز عن اليهود والنصارى والمجوس‪ ،‬فإنهم كذلك فعلوا‪ ،‬وإن أخذته من الوزن بشيء من هذه‬
‫الموازين فلعلك غلطت في دقيقة من دقائاقه فينبغي على زعمك أن ل تثق به‪.‬‬
‫فقال‪ :‬صدقت‪ ،‬فأين الطريق فلقد سددت علاي طريق التعليم والوزن جميلعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هيهات راجع القرآن فقد علمك الطريق‪ ،‬إذ قال تعالى‪) :‬إن الذين اتقوا إذا مسهم طائاف من الشيطان تذكروا فإذا هم‬
‫مبصرون( ]العراف‪ .[201 :‬ولم يقل سافروا إلى المام المعصوم فإذا هم مبصرون فأنت تعلم أن المعارف كثيرة فلو ابتدأت في‬
‫كل مشكلة سفلرا إلى المام المعصوم بزعمك طال عناؤك وقل علمك‪ ،‬لكن طريقك أن تتعلم مني كيفية الوزن وتستوفي شروطه‬
‫فإن أشكل عليك شيء عرضته على الميزان وتفكرت في شروطه‬
‫)ص ‪(216‬‬
‫بفكر صاف وجد واف فإذا أنت مبصر وهذا كما لو حسبت ما للبقال عليك أو لك عليه أو قسمت في مسألة من مسائال الفرائاض‬ ‫ي‬
‫وشككت في الصابة والخطأ فيطول عليك أن تسافر إلى المام المعصوم‪ ،‬ولكن تحكم على الحساب وتتذكره ول تزال تعاوده مرة‬
‫بعد أخرى حتى تستيقن قطلعا أنك ما غلطت في دقيقة من دقائاقها وهذا يعرفه من يعرف علم الحساب‪ ،‬وكذلك من يعرف الوزن به‬
‫كما أعرفه فينتهي به التذكر والتفكر والمعاودة مرة بعد أخرى إلى اليقين الضروريِ بأنه ما غلط‪ ،‬فإن لم تسلك هذه الطريق لم تفلح‬
‫قط وصرت تشكك بلعل وعسى ولعلك قد غلطت في تقليدك لمامك بل للنبي الذيِ آمنت به فإن معرفة صدق النبي صلى ا عليه‬
‫وسلم ليست ضرورية‪.‬‬
‫فقال‪ :‬لقد ساعدتني على أن التعليم حق‪ ،‬وأن المام هو النبي صلى ا عليه وسلم واعترفت بأن كل واحد ل يمكنه أن يأخذ العلم من‬
‫النبي صلى ا عليه وسلم دون معرفة الميزان‪ ،‬وأنه ل يمكنه معرفة تمام الميزان إل منك فكأنك ادعيت المامة لنفسك خاصة‪ ،‬فما‬
‫برهانك ومعجزتك‪ ،‬فإن إمامي إما أن يقيم معجزة وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائاه إليه‪ ،‬فأين نصك وأين معجزتك؟‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬أما قولك‪ :‬إنك تدعي المامة لنفسك خاصة‪ ،‬فليس كذلك فإني أرجو أن يشاركني غيريِ في هذه المعرفة فيمكن أن يتعلم منه‬
‫كما يتعلم مني فل أجعل التعليم وقلفا على نفسي‪ .‬وأما قولك‪ :‬تدعي المامة لنفسك‪ ،‬فاعلم أن المام قد نعني به الذيِ يتعلم من ا‬
‫تعالى بواسطة جبريل وهذا ل أدعيه لنفسي‪ ،‬وقد نعني به الذيِ يتعلم من ا بغير جبريل ومن جبريل بواسطة الرسول‪ ،‬ولهذا سمي‬
‫علي رضي ا عنه إمالما فإنه تعلم من الرسول ل من جبريل‪ ،‬وأنا بهذا المعنى أدعي المامة لنفسي أما برهاني عليه فأوضح من‬
‫النص ومما تعتقده معجزة فإن ثلثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬ما برهانك؟ فقال أحدهم‪ :‬برهاني أنه نص علي الكسائاي أستاذ المقرئاين إذ نص على أستاذيِ وأستاذيِ نص علي فكأن‬
‫الكسائاي نص علي‪ .‬وقال الثاني‪ :‬إني أقلب العصا حية فقلب العصا حية‪ .‬وقال الثالث‪ :‬برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من‬
‫غير مصحف‪ ،‬فليت شعريِ أن هذه البراهين أوضح عندك وقلبك بأيها أشد تصديلقا؟ فقال‪ :‬بالذيِ قرأ القرآن فهو غاية البراهين إذ‬
‫ل يخالجني فيه ريب‪ ،‬أما نص أستاذه عليه ونص الكسائاي على أستاذه فيتصور أن تقع فيه أغاليط ل سيما عند طول السفار‪ .‬وأما‬
‫قلب العصا حية فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس وإن لم يكن تلبيلسا فغايته أنه فعل عجيب ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب‬
‫ينبغي أن يكون حافلظا للقرآن‪.‬‬
‫)ص ‪(217‬‬
‫ضا أني كما عرفت هذه الموازين فقد عرفت وأفهمت وأزلت الشك عن قلبك في صحته فليزمك اليمان‬ ‫قلت‪ :‬فبرهاني إلذا أي ل‬
‫بإمامتي كما أنك إذا تعلمت الحساب وعلمته من أستاذ فإنه إذا علمك الحساب حصل لك علم بالحساب‪ ،‬وعلم آخر ضروريِ بأن‬
‫ضا في أنه حاسب‪ ،‬وكذلك آمنت أنا بصدق‬ ‫أستاذك حاسب وعالم الحساب‪ ،‬وكذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أي ل‬
‫محمد صلى ا عليه وسلم وصدق موسى عليه السلم ل بشق القمر ول بقلب العصا حية بمجردها‪ ،‬فإن ذلك يتطرق إليه حينئاذ‬
‫التباس كثير فل يوثق به بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل‪ .‬فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جلدا‪ ،‬لكني‬
‫تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها جميع المعارف اللهية بل أحوال المعاد‪ .‬وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل‬
‫الطاعة‪ ،‬كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن فوجدت جميعها موافقة لما في القرآن‪ ،‬ولما في الخبار فتيقنت أن محملدا صلى ا‬
‫عليه وسلم صادق وأن القرآن حق‪ ،‬وفعلت كما قال علي رضي ا عنه إذ قال‪" :‬ل تعرف الحق بالرجال أعرف الحق تعرف‬
‫أهله"‪ .‬فكانت معرفتي بصدق النبي صلى ا عليه وسلم ضرورية كمعرفتك إذا رأيت رجلل غريلبا يناظر في مسألة من مسائال‬
‫الفقه ويحسن فيها ويأتي بالفقه الصحيح الصريح‪ ،‬فإنك ل تتمارى في أنه فقيه ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين الحاصل بفقهه‬
‫صا ثعبالنا لن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس والطلسم وغيرها ول يحصل العلم بالقرآن بينها وبين هذه‬ ‫لو قلب ألف ع ل‬
‫الشياء‪ ،‬وكونها معجزة إل بعد بحث طويل ونظر دقيق ويحصل به إيمان ضعيف هو إيمان العوام والمتكلمين‪ ،‬فأما إيمان أرباب‬
‫المشاهدة الناظرين من مشكاة الربوبية كذلك تكون‪.‬‬
‫ضا أشتهي أن أعرف النبي صلى ا عليه وسلم كما عرفته‪ ،‬وقد ذكرت أن ذلك ل يعرف إل بأن توزن جميع المعارف‬ ‫فقال‪ :‬فأنا أي ل‬
‫اللهية بهذا الميزان وما اتضح عنديِ أن جميع المعارف الدينية يمكن وزنها بهذه الموازين فيما أعلم ذلك؟‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هيهات ل أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط‪ ،‬بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلمية وكل‬
‫علم حقيقي غير وضعي‪ ،‬فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين‪ ،‬وكيف ل وهو القسطاس المستقيم والميزان الذيِ هو رفيق‬
‫الكتاب والقرآن في قوله تعالى‪) :‬لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( ]الحديد‪ .[25 :‬وأما‬
‫معرفتك بقدرتي على هذا فل تحصل ل بنص ول بقلب العصا ثعبالنا‪ ،‬ولكن تحصل بأن تستكشف ذلك تجربة وامتحالنا فمدعي‬
‫الفروسية ل ينكشف صدقه حتى يركب فرلسا ويركض ميدالنا فسلني عما شئات من العلوم الدينية لكشف لك الغطاء عن الحق فيه‬
‫واحلدا واحلدا وأزنه بهذا الميزان وزلنا يحصل لك علم ضروريِ بأن الوزن صحيح وأن العلم المستفاد منه مستيقن ومن لم يجرب لم‬
‫يعرف‪.‬‬
‫ص ‪218‬‬
‫فقال‪ :‬وهل يمكنك أن تعرف جميع الحقائاق والمعارف اللهية جميع الخلق فترفع الختلفات الواقعة بينهم؟‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هيهات ل أقدر عليه وكان إمامك المعصوم إلى الن قد رفع الختلفات بين الخلئاق وأزال الشكالت عن القلوب‪ ،‬بل‬
‫النبياء متى رفعوا الختلف ومتى قدروا عليه بل اختلف الخلق حكم ضروريِ أزلي‪ .‬ول يزالون مختلفين إل من رحم ربك‬
‫ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك‪ ،‬أفأدعي أن أرد قضاء ا الذيِ قضى به الزل أو يقدر إمامك أن يدعي ذلك فإن كان يدعيه فلم‬
‫ادخره إلى الن والدنيا طافحة بالختلفات‪ ،‬وليت شعريِ رئايس المة علي بن أبي طالب رضي ا عنه كما سبب رفع الختلفات‬
‫بين الخلق أو سبب تأسيس اختلفات ل تنقطع أبد الدهر‪.‬‬
‫القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الختلفات‬
‫فقال‪ :‬كيف نجاة الخلق من هذه الختلفات؟‬
‫قلت‪ :‬أن اصغوا إلي‪ ،‬رفعت الختلف بينهم بكتاب ا تعالى‪ ،‬ولكن ل حيلة في إصغائاهم فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى النبياء ول‬
‫إلى إمامك‪ ،‬فكيف يصغون إلاي وكيف يجتمعون على الصغاء وقد حكم عليهم في الزل بأنهم ل يزالون مختلفين إل من رحم ربك‬
‫ولذلك خلقهم‪ ،‬وكون الخلف بينهم ضرورليا تعرفه من كتاب جواب مفصل الخلف وهو الفصول الثنا عشر‪.‬‬
‫فقال‪ :‬فلو أصغوا كيف كنت تفعل؟ قلت‪ :‬كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب ا تعالى‪ ،‬إذ قال‪) :‬وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم‬
‫الناس بالقسط وأنزلنا الحديد( ]الحديد‪ .[25 :‬وإنما أنزل هذه الثلث لن الناس ثلثة أصناف وكل واحد من الكتاب والحديد‬
‫والميزان علج قوم‪.‬‬

‫فقال‪ :‬فمن هم وكيف علجهم؟ قلت‪ :‬الناس ثلثة أصناف عوام وهم أهل السلمة البله وهم أهل الجنة‪ ،‬وخواص وهم أهل الذكاء‬
‫والبصيرة ويتولد بينهم طائافة هم أهل الجدل والشغب فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة‪ .‬أما الخواص فإني أعالجهم بأن‬
‫أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها فيرتفع الخلف بينهم على قرب وهؤلء قوم اجتمع فيهم ثلث خصال‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬القريحة النافذة والفطنة القوية وهذه عطية فطرية وغريزة جبلية ل يمكن كسبها‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع فإن المقلد ل يصغي والبليد وإن أصغى فل يفهم‪.‬‬
‫ص ‪219‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يعتقد في أني من أهل البصيرة بالميزان ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب ل يمكنه أن يتعلم منك‪.‬‬
‫والصنف الثاني البله‪ :‬وهم جميع العوام وهؤلء هم الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائاق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية‬
‫ضا داعية الجدل بخلف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم عنه‪ .‬فهؤلء ل‬ ‫الطلب بل شغلتهم الصناعات والحرف وليس فيهم أي ل‬
‫يختلفون ولكن يتخيرون بين الئامة المختلفين فأدعو هؤلء إلى ا بالموعظة كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة‪ ،‬وأدعو أهل الشغب‬
‫بالمجادلة وقد جمع ا سبحانه وتعالى هذه الثلثة في آية واحدة كما تلوته عليك أولل‪ ،‬فأقول لهم ما قاله رسول ا صلى ا عليه‬
‫وسلم لعرابي جاءه فقال‪ :‬علمين في غرائاب العلم فعلم رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه ليس أهلل لذلك‪ ،‬فقال‪ :‬وماذا علمت في‬
‫رأس العلم أيِ اليمان والتقوى والستعداد للخرة اذهب فاحكم رأس العلم ثم ارجع لعلمك من غرائابه‪ .‬فأقول للعامي‪ :‬ليس‬
‫الخوض في الختلفات من عشك فادرج فإياك أن تخوض فيه أو تصغى إليه فتهلك‪ ،‬فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة‬
‫لم تكن من أهل الحياكة‪ ،‬وقد صرفت عمرك في غير العلم‪ ،‬فكيف تكون من أهل العلم ومن أهل الخوض فيه‪ ،‬فإياك ثم إياك أن‬
‫تهلك نفسك فكل كبيرة تجريِ على العامي أهون من أن يخوض في العلم فيكفر من حيث ل يدريِ‪ .‬فإن قال‪ :‬ل بد من دين أعتقده‬
‫وأعمل به لصل به إلى المغفرة والناس مختلفون في الديان‪ ،‬فبأيِ دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له‪ :‬للدين أصول‬
‫لصول فليس عليك أن تعتقد فيها إل ما في القرآن‪ ،‬فإن ا تعالى لم يستر عن عباده صفاته‬ ‫وفروع والختلف إنما يقع فيهما‪ ،‬أما ا ل‬
‫وأسماءه‪ ،‬فعليك أن تعتقد أن ل إله إل ا وأن ا حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء إلى جميع ما ورد‬
‫في القرآن واتفق عليه الئامة‪ ،‬فذلك كاف في صحة الدين وإن تشابه عليك شيء‪ ،‬فقل‪ :‬آمنا كل من عند ربنا واعتقد كل ما ورد في‬
‫إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة واعتقاد أنه ليس كمثله شيء وبعد هذا ل تلتفت إلى القيل والقال‬
‫فإنك غير مأمور به ول هو على حد طاقتك‪ ،‬فإن أخذ يتحذلق ويقول عليه وقد اختلف فيه الشعرية والمعتزلة فقد خرج بهذا عن‬
‫حد العوام إذ العامي ل يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل‪ ،‬فإن ا ل** يهلك قولما إل يؤتيهم الجدل كذلك ورد‬
‫الخبر‪ ،‬وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علجهم هذا ما أعظ به في الصول وهو الحوالة على كتاب ا فإن ا أنزل الكتاب‬
‫والميزان والحديد وهؤلء أهل الحوالة على الكتاب‪.‬‬
‫وأما الفروع فأقول‪ :‬ل تشغل قلبك بمواقع الخلف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه فقد اتفقت الئامة على أن زاد الخرة هو‬
‫التقوى والورع‪ ،‬وأن الكسب الحرام والمال الحرام‬
‫ص ‪220‬‬
‫و الغيبة و النميمة و الزنى و السرقة و الخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام‪ ،‬و الفرائاض كلها واجبة فإن فرغت من جميعا‬
‫علمتك طريق الخلص من الخلف فإن هو طالبنى بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلى و ليس بعامى و متى تفرغ العامى من‬
‫هذا إلى مواضع الخلف‪.‬أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذا ثم أخذ إشكال الخلف بمخنقهم هيهات ما أشبه ضعف عقولهم فى‬
‫خلفهم إل بعقل مريض به مرض أشرف على الموت و له علج متفق عليه الطباء فى بعض الدوية أنها حارة أو باردة‬
‫وربما افتقرت إليه يوما ل فأنا ل أعالج نفسى حتى أجد من يعلمنى رفع الخلف فيه‪.‬نعم لو رأيتم صالحا ل قد فرغ من حدود التقوى‬
‫كلها‪.‬و قال‪:‬ها أنا تشكل علاى مسائال فإنى ل أرى أتوضأ من اللمس و القئ و الرعاف و أنوى الصوم بالليل فى رمضان أو بالنهار‬
‫إلى غير ذلك‪ ،‬فأقول له‪ :‬إن كنت تطلب المان فى طريق الخرة فاسلك سبيل الحتياط و خذ مما يتفق عليه فتوضأ من كل ما فيه‬
‫خلف فإن كل من ل يوجبه يستحبه‪ ،‬وانو الصوم بالليل فى رمضان فإن من ل يوجبه يستحبه‪ ،‬فإن قال‪ :‬هو ذا يثقل عليى الحتياط و‬
‫يعرض لى مسائال تدور بين النفى و الثبات‪ ،‬و قال‪ :‬ل أدرى أأقنت فى الصبح أم ل و أجهر بالتسمية أم ل‪،‬‬
‫فأقول له‪ :‬الن اجتهد مع نفسك و انظر إلى الئامة أيهم أفضل عندك و صوابه أغلب على قلبك كما لو كنت مريضا ل وفى البلد أطباء‬
‫فإنك تختار بعض الطباء باجتهادك ل بهواك وطبعك فيكفيك مثل ذلك الجتهاد فى أمر دينك‪ ،‬فمن غلب على ظنك أنه الفضل‬
‫ا‬‫ا صلى ي‬ ‫ا فى ذلك أجر واحد‪ ،‬و كذلك قال رسول ي‬ ‫ا فله فى ذلك أجران‪.‬وإن أخطأ فله عند ي‬ ‫فاتبعه فإن أصاب فيما قال عند ي‬
‫ا تعالى المر إلى أهل الجتهاد و قال‬ ‫عليه و سلم إذ قال‪" :‬من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" ‪ .‬ورد ي‬
‫تعالى لتعليمه الذين يستنبطون منهم و ارتضى الجتهاد لهله و قال تعالى لتعليمه الذين يستنبطونه منهم و ارتضى الجتهاد لهله‬
‫ا عليه‬ ‫ا صلى ي‬ ‫جهد؟"قال‪ :‬بسنة رسول ي‬ ‫ا‪،‬قال‪":‬دفإهلن لدلم دن ه‬‫ا عليه و سلم لمعاذ‪":‬بدم دتلحاكام؟" قال ‪ :‬بكتاب ي‬ ‫ا صلى ي‬ ‫إذ قال رسول ي‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫جهد؟"قال‪ :‬أجتهد رأيى‪،‬قال‪:‬ذلك قبل أن أمره به رسول ا صلى ا عليه و سلم و أذن له فيه‪،‬فقال النبى‬ ‫و سلم ‪،‬قال‪":‬دفإهلن دللم دت ه‬
‫ا‬‫ا"‪ .‬ففهم من ذلك أنه مرضى به من رسول ي‬ ‫ا لما يرضاه رسول ي‬ ‫ا عليه و سلم‪":‬الحمد يل الذى وافق رسول رسول ي‬ ‫صلى ي‬
‫ا عليه و سلم لمعاذ و غيره‪ ،‬كما قال العرابى إنى هلكت و أهلكت واقعت أهلى فى نهار رمضان‪،‬فقال‪" :‬أعتق رقبة" ففهم‬ ‫صلى ي‬
‫ا فإن غير ذلك مقدور عليه ول تكليف‬ ‫أن التركى أو الهندى لو جامع أيضا ل لزمه العتاق و هذا لن الخلق ما كلفوا الصواب عند ي‬
‫بما ل يطاق بل كلفوا ما يظنونه صوابلا‪ ،‬كما لم يكلفوا الصلة بثوب طاهر بل بثوب يظنونه طاهر‪ ،‬فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم‬
‫ا عليه و سلم نعله فى أثناء الصلة لما أنبأه جبريل أن‬ ‫ا صلى ي‬ ‫القضاء إذ نزع رسول ي‬
‫ص ‪221‬‬
‫عليه قذرال و لم يعد الصلة و لم يستأنف ‪ ،‬و كذلك لم يكلف أن يصلى إلى القبلة بل إلى جهة يظن أنها القبلة بالستدلل بالجبال و‬
‫الكواكب و الشمس فإن أصاب فله أجرلن و إل فله أجر واحد‪.‬ولم يكلفوا أداء الزكاة إلى الفقير بل إلى من ظنوا فقره لن ذلك ل‬
‫يعرف باطنه و لم يكلف القضاة فى سقك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم بل من يظنون صدقه‪،‬و إذا جاز سفك‬
‫دم بطن يحتمل الخطأ و هو ظن صدق الشهود فلم ل تجوز الصلة بظن شهادة الدلة عند الجتهاد‪ ،‬و ليت شعرى ماذا يقول‬
‫رفقاءك فى هذا؟يقولون إذا اشتبهت عليه القبلة يؤخر الصلة حتى يسافر إلى المام و يسأله أو يكلفه الصابة التى ل‬
‫يطيقها ‪ ،‬أو يقول اجتهد لمن ل يمكنه الجتهاد إذ ليعرف أدلة القبلة و كيفية الستدلل بالكواكب أو الجبالو الرياح‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل شك فى أنه يأذن له فى الجتهاد ثم ل يؤثمه إذا بذل مجهوده و إن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة‪ .‬قلت ‪ :‬فإذا كان من جعل‬
‫القبلة خلفه معذورال مأجورال فل يبعد أن يكون من أخطأ فى سائار الجتهادات معذورلا‪،‬فالمجتهدون و مقلدوهم كلهم معذورن‬
‫ا و بعضهم يشاركون المصيبين فى أحد الجرين‪،‬فمناصبهم متقاربة و ليس لهم أن يتعاندوا‪ ،‬و أن‬ ‫بعضهم مصيبون ما عند ي‬
‫يتعصب بعضهم مع بعض ل سيما و المصيب ل يتعين و كل واحد منهم يظن أنه مصيب كما لو اجتهد مسافران فى القبلة فاختلفا‬
‫فى الجتهاد فحقهما أن يصلى كل واحد منهما إلى الجهة التى غلبت على ظنه و أن يكف إنكاره و إعراضه و اعتراضه على‬
‫ا فل يقدرعليه ‪،‬و كذلك كان معاذ فى اليمن يجتهد ل‬ ‫صاحبه لنه لم يكلف إل استعمال موجب ظنه‪.‬أما استقبال عين القبلة عند ي‬
‫ل‬
‫على اعتقاد أنه ل يتصور منه الخطأ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورا‪،‬و هذا لن المور الوضعية الشرعية التى يتصور‬
‫أن تختلف بها الشرائاع يقرب فيها الشئ من نقيضه بعد كونه مظنونا ل فى سر الستبصار ‪ ،‬و أما ما ل يتغير فيه الشرائاع فليس فيه‬
‫اختلف ‪،‬و حقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتباع السنة و قد ذكرته فى الصل العاشر من العمال الظاهرة من كتاب جواهر‬
‫القرآن‪.‬‬
‫وأما الصنف الثالث‪ :‬وهم أهل الجدل فإنى أدعوهم بالتلطف إلى الحق‪ ،‬وأعنى بالتلطف أن ل أتعصب عليهم و ل أعنفهم لكن أرفق‬
‫ا تعالى رسوله‪،‬و معنى المجادلة بالحسن أن آخد الصول التى يسلمها الجدلى و أستنتج‬ ‫بو أجادل بالتى هى أحسن‪،‬وكذلك أمر ي‬
‫منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذى أوردته فى كتاب القتصاد فى العتقاد‪،‬وإلى ذلك الحد فإن لم يقنعه ذلك لتشوقهي‬
‫بفطنته إلى مزيد كشف رقيته إلى تعليم الموازين فإن لم يقنعه لبلدته و إصراره على تعصبه و لجاحه و عناده عالجته بالحديد‪،‬‬
‫ا سبحانه جعل الحديد و الميزان قرينى الكتاب ليفهم منه أن جميع الخلئاق ل يقومون بالقسط إل بهذه‬ ‫فإن ي‬
‫ص ‪222‬‬
‫الثلث‪،‬فالكتاب للعوام‪،‬والميزان للخواص ‪،‬والحديد الذى فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة و ابتغاء‬
‫ا والراسخون فى العلم دون أهل الجدل ‪ ،‬و أعنى الجدل طائافة‬ ‫تأويله ول يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم ‪ ،‬و أنه ل يعلم تأويله إل ي‬
‫فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام و لكن قياستهم ناقصة إذا كانت الفطرة كاملة‪ ،‬لكن فى باطنهم خبث و عناد و تعصب و تقليد ‪،‬‬
‫فذلك يمنعهم عن إدراك الحق و تكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه و فى آذانهم وقرلا‪ ،‬لكن لم تهلكهم إل كياستهم‬
‫الناقصة ‪ ،‬فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلهة بكثير‪ ،‬و فى الخبر‪ :‬أن أكثر أهل الجنة البله و أن عليين‬
‫ا السلطان ما ل يزع‬ ‫ا و أولئاك أصحاب النار و يزع ي‬ ‫لذوى اللباب‪ ،‬ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون فى آيات ي‬
‫ا عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين‬ ‫بالقرآن‪ ،‬و هؤلء ينبغى أن يمنعوا من الجدال بالسيف و السنان كما فعل عمر رضى ي‬
‫ا عنه لما سئال عن الستواء على العرش فقال‪ :‬الستواء حيق‪ ،‬واليمان‬ ‫ا تعالى فعله بالدرة‪ ،‬و كما قال مالك رضى ي‬ ‫فى كتاب ي‬
‫به واجب‪ ،‬والكيفية مجهولة‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬وحسم بذلك باب الجدال‪.‬وكذلك فعل السلف كلهم و فى فتح باب الجدال ضرر‬
‫ا تعالى ‪ ،‬فهذا مذهبى فى دعوة الناس إلى الحق و إخراجهم من ؟لمات الضلل إلى نور الحق‪ ،‬و ذلك بأن دعوة‬ ‫عظيم على عباد ي‬
‫الخواص إلى الحكمة بتعليم الميزان حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة‪ ،‬فإن من معه ميزان‬
‫فإنه يعرف به مقادير أعيان ل نهاية لها كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التى من أوتيها قفد أوتى خيرال كثيرال ل نهاية‬
‫له ‪ ،‬و لول اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورال لن النور ما يبصر بنفسه و يبصر به غيره و هو نعت‬
‫الميزان ‪ ،‬و لما صدق قوله ‪ :‬ول رطب ول يابس إل فى كتاب مبين‪ ،‬فإن جميع العلوم غير موجودة فى القرآن بالتصريح ‪ ،‬و لكن‬
‫موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط التى بها تفتح أبواب الحكمة التى ل نهاية لها‪ ،‬فبهذا أدعو الخواص و دعوت العوام‬
‫بالموعظة الحسنة بالحالة على الكتاب و القتصار على ما فيه من الصفات الثابتة ل‬
‫تعالى ‪،‬و دعوت أهل الجدل بالمجادلة التى هى أحسن فإن أبى عرضت عن مخاطبته و كففت شره ببأس السلطان و الحديد المنزل‬
‫مع الميزان ‪ ،‬فليت شعرى الن يا رفيقى بم يعالج إمامك هؤلء الصناف الثلثة؟ أيعلم العوام فيكلفهم ما ل يفهمون ‪ ،‬و يخالف‬
‫رسول ا صلى ا عليه و سلم أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالحجة و لم يقدر على ذلك رسول ا صلى ا عليه و سلم‬
‫مع كثرة محاجة ا تعالى فى القرآن مع الكفار؟ فما أعظم قدرة إمامك إذ صار أقدر من ا تعالى ومن رسوله أو يدعو أهل‬
‫البصيرة إلى تقليده و هم ل يقبلون قول الرسول صلى ا عليه و سلم بالتقليد ول يقنعون بقلب العصا ثعبانلا‪ ،‬بل يقولون و هو فعل‬
‫غريب‪ ،‬و لكن من أين يلزم‬
‫ص ‪223‬‬
‫منه صدق فاعله و فى العالم من غرائاب السحر و الطلسمات ما تتحيير فيه العقول ول يقوى على تمييز المعجز عن السحر و‬
‫الطلسم إل من عرف جميعها ‪ ،‬و جملة أنواعها ليعلم أن المعجز خارج عنها كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلم‬
‫إذ كانوا من أئامة السحرة‪ .‬و من الذى يقوى على ذلك؟ بل أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه من قوله كما يعلم‬
‫متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه فى قوله إنى حاسب‪ .‬فهذه هى المعرفة اليقينية التى بها يقنع أولو اللباب و أهل‬
‫البصائار و ل يقنعون بغيرها البيتة و هم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول صلى ا عليه و سلم و صدق القرآن و فهموا‬
‫موازين القرآن كما ذكرت لك‪،‬و أخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذظرته فى كتاب جواهر القرآن‪ ،‬فمن أين يحاتجون‬
‫إلى إمامك المعصوم‪ ،‬و ما الذى حيل من إشكالت الدين و عن ماذا كشف عن غوامضه‪ .‬و قال ا تعالى‪":‬هذا خلق ا فأرونى‬
‫ماذا خلق الذين من دونه" ‪.‬و قد سمعت الن منهاجى فى موازين العلوم فأرونى ماذا اقتبسته من غوامض]لقمان‪[11:‬‬
‫العلوم من إمامك إلى الن‪ ،‬و ما الذى يتعلمون منه؟و ليت شعرى ما الذى تعلمت من إمامك المعصوم أرنى ما رأيتها‪:‬‬
‫ما يسدى بى رتسدى أوف خرابن و قلب ياوفوت فليس الغرض من الدعوة إلى المائادة مجرد الدعوة دون الكل و التناول منها و‬
‫إنى أراكم تدعوا الناس إلى المام ثم أرى المستجيب أمامك بعد الستجابة على جهله الذى كان قبله لم يحل له المام عقدال بل ربما‬
‫عقد له حلل ولم تفده استجابته له علنا ل بل ربما زاد به طغيانا ل و جهلل‪ .‬فقال‪ :‬قد طالت صحبتى مع رفقائاى‪ ،‬و لكن ما تعلمت منهم‬
‫شيئاا ل إل أنهم يقولون عليك بمذهب التعليم‪ ،‬و إياك و الرأى و القياس فإنه متعارض و مختلف‪ .‬قلت‪:‬فمن الغرائاب أن يدعو إلى‬
‫التعليم ثم ل يشتغلوا بالتعليم فقل لهم‪ :‬قد دعوتمونى إلى التعليم فاستجبت فعلمونى ما عندكم‪ .‬فقال ‪ :‬ما أراهم يزيدوننى على هذا‬
‫شيئاا ل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإنى قائال أيضا ل بالتعليم و بالمام و يبطلن الرأى و القياس و أنا أزيدك على هذا لو أطقت ترك التقليد تعليم غرائاب العلوم و‬
‫أسرار القرآن‪ ،‬فاستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها كما استخرجت منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى كيفية انشعاب‬
‫العلوم كلها منه فى كتاب جواهر القرآن‪ ،‬لكنى لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى ا عليه و سلم ول إلى كتاب‬
‫سوى القرآن‪ ،‬فمنه أستخرج جميع أسرار العلوم‪ .‬و برهانى عن ذلك لسانى و بيانى‪ ،‬و عليك إن شككت تجربتى و امتحانى‬
‫أفترانى أولى بأن أتعلم من رفقائاك أم ل ؟‬
‫ص ‪224‬‬
‫القول فى تصاوير الرأى و القياس و إظهار بطلنهما فقال‪ :‬أما النقطاع عن الرفقاء و التعليم منك فربما ما حكيته لك من وصية‬
‫والدتى حين كانت تموت‪ ،‬و لكنى أشتهى أن تكشف عن وجه فساد الرأى و القياس فإنى أظنك تستضعفه عقلى فتلبس علاى فتسمى‬
‫القياس و الرأى ميزانا ل و تتلو علاى وفق ذلك قرآنلا‪ ،‬و أنا أظنه أنه بعينه القياس الذى يدعيه أصحابك‪ .‬قلت‪ :‬هيهات ‪ ،‬فها أنا أشرح‬
‫لك ماأريده و أراوده بالرأى و القياس‪ .‬أما الرأى و القياس فمثاله قول المعتزلة‪:‬يجب على ا سبحانه و تعالى رعاية الصلح‬
‫لعباده و إذا طولبوا بتحقيقه لم يرجعوا إلى شئ إل أنه رأى استحسنوه بعقولهم من مقايسة الخالق على الخلق و تشبيه حكمته‬
‫بحكمتهم ‪ ،‬و مستحسنات العقول هى الرأى الذى ل أرى التعويل عليه فإنه ينتج نتائاح تشهد موازين القرآن بفسادها كهذه النقالة‬
‫فإنى إذا وزنتها بميزان التلزم‪ .‬قلت‪:‬لو كان الصلح واجبا ل على ا تعالى لفعله و معلم أنه لم يفعله‪ ،‬فديل على أنه غير واجب فإنه‬
‫ل يترك الواجب ‪ ،‬فإن قيل‪:‬سلمت أنه لو كان واجبا ل لفعله ‪ ،‬و لكن ل أسلم أنه لم يفعله ‪ ،‬فأقول‪ :‬لو فعل الصلح لخلقهم فى الجنة و‬
‫تركهم فيها فإن ذلك أصلح لهم و معلوم أنه لم يفعل ذلكفديل على أنه لم يفعل الصلح‪.‬و هذه أيضا ل نتيجة من ميزان التلزم والن‬
‫الخصم بين أن ينكر و يقول تركهم فى الجنة فيشاهد كذبه‪ ،‬أو يقول كان الصلح لهم أن يخرجوا إلى الدنيا دار البليا و يعرضهم‬
‫للخطايا ثم يقول لدم يوم يكشف عن الخطايا ‪:‬اخرج يا آدم نصيب النار ‪ ،‬فيقول‪:‬طم‪ ،‬فيقول من كل ألف تسعمائاة و تسعة وتسعين‬
‫كما ورد فى الخبر الصحيح و يزعم أن ذلك أصلح لهم من خلقهم فى الجنة و تركهم فيها لن نعيمهم إذ ذاك ل يكون لسعيهم و‬
‫استحقاقهم فتعظم المنة عليهم و المنة ثقيلة‪ ،‬و إذا سمعوا وأطاعوا مان ماأخذوه جزاء و أجرة ل منة فيها ‪ ،‬وأنا أنزه سمعك و‬
‫لسانى عن حكاية مثل هذا الكلم فضلل عن الجواب عنه‪.‬فانظر فيه لترى قبائاح نتائاج الرأى كيف هى و أنت تعلم أن ا تعالى ينزل‬
‫الصبيات إذا ماتوا فى منزل من الجنة دون منازل البالغين المطيعين‪ ،‬فإذا قالوا‪ :‬إلهنا أنت ل تبخل بالصلح لنا و بالصلح لنا أن‬
‫تبلغنا درجتهم‪،‬فيقول ا‪ ،‬على زعم المعتزلة‪ :‬كيف أبلغكم درجتهم و قد بلغوا و تعبوا و أطاعوا و أنتم متم صبيانلا‪ ،‬فيقولون‪ :‬أنت‬
‫أمتنا فحرمتنا طول المقام فى الدنيا و معالى الدرجات فى الخرة فكان الصلح لنا و الصلح بنا أن تبلغنا درجتهم‪ ،‬أو أن ل تميتنا‬
‫‪،‬فلم أمتنا؟ فيقول ا تعالى ‪ ،‬على رأى المعتزلة‪:‬إنى قد علمت أنكم لو بلغتم لكفرتم و استحققتم النار خالدين فيها ‪ ،‬فعلمت أن‬
‫الصلح لكم الموت فى الصبا ‪ ،‬و عند هذا ينادى الكفار البالغون من دركات النار يصطرخون‬
‫ص ‪225‬‬
‫ويقول ‪ :‬أما علمت أنا إذا بلغنا كفرنا فهل أمتنا في الصبا فإنا راضون بعشر عشر درجات الصبيان فعند هذا ل يبقى للمعتزلى‬
‫جواب يجيب به عن ا تعالى ‪ ,‬فتكون الحجة للكفار على ا سبحانه ‪ ,‬تعالى ا عن قول الظالمين علليوا كبيرال ‪ ,‬نعم لفعل الصلح‬
‫سر يستمد من معرفة سر ا تعالى في القدر ‪ ,‬ولكن المعتزلى ل ينظر من ذلك الصل فإنه ل يطلع ببضاعة الكلم على ذلك السر‬
‫فمن هذا خبط خبط عشواء واضطربت عليه الراء فهذا مثال الرأيِ الباطل عنديِ ‪.‬‬
‫وأما مثال القياس فهو إثبات الحكم في شيء بالقياس على غيره كقول المجسمة إن ا تعالى وتقدس عن قولهم جسم ‪ .‬قلنا ‪ :‬لهدم ؟‬
‫قالوا ‪ :‬لنه فاعل صانع فكان جسما ل قياسا ل على سائار الصناع والفاعلين ‪ ,‬وهذا هو القياس الباطل ‪ ,‬كما قلنا ‪ :‬لم قلتم إن الفاعل كان‬
‫جسما ل لنه فاعل ‪ ,‬وذلك ل يقدر على إظهاره مهما وزن بميزان القرآن فإنه ميزانه هو الميزان الكبر من موازين التعادل ‪,‬‬
‫وصورة وزنه أن يقال ‪ :‬كل فاعل جسم والبارئ تعالى فاعل فهو أيضا ل جسم ‪ ,‬فنقول ‪ :‬نسلم أن البارئ تعالى فاعل ‪ ,‬ولكن ل نسلم‬
‫الصل اليول وهو أن كل فاعل جسم فمن أين عرفتم ذلك ؟ وعند هذا ل يبقى لهم إل العتصام بالستقراء والقسمة المنتشرة‬
‫وكلهما ل حيجة فيه ‪ .‬أما الستقراء فهو أن يقول تصفحت الفاعلين من حائاك وحجام وإسكاف وخياط ونجار وفلن وفلن‬
‫فوجدتهم أجساما ل فقلت إن كل فاعل جسم ‪ ,‬فيقال له ‪ :‬تصفحت كل الفاعلين أو شيذ عنك فاعل ‪ ,‬فإن قال ‪ :‬تصفحت البعض ‪ ,‬فل‬
‫يلزم منه الحكم على الكل ‪ ,‬وإن قال ‪ :‬تصفحت الكل ‪ ,‬فل نسلم له ذلك فليس كل الفاعلين معوما ل عنده ‪ .‬كيف وهل تصفح في جملة‬
‫ذلك فاعل السموات والرض فإن لم يتصفح الكل بل البعض لم يلزم الكل ‪ ,‬وإن تصفح فهل وجد جسما ل ‪ ,‬فإن قال ‪ :‬نعم ‪ ,‬فيقال له ‪:‬‬
‫فإذا وجدت ذلك في مقدمة قياسك فكيف جعلته أصلل تستديل به عليه فجعلت نفس وجدانك دليل ما وجدته وهذا خطأ ‪ ,‬بل ما هو في‬
‫تصفحه إل كمن يتصفح الفرس والبل والفيل والحشرات والطيور فيراها تمشي برجل وهو لم يدر الحية والدود فيحكم بأن كل‬
‫حيوان يمشي برجل ‪ ,‬وكمن يتصفح الحيوانات فيراها عند المضغ جميعها تحرك الفك السفل ‪ ,‬فيحكم بأن كل حيوان يحرك عند‬
‫المضغ الفك السفل وهو لم يدر التمساح فإنه يحرك الفك العلى وهذا لنه يجوز أن يكون ألف شخص من جنس واحد على حكم‬
‫ويخالف اللف واحد وهو ل يفيد برد اليقين فهو القياس الباطل ‪ ,‬وأما اعتصامه بالقسمة المنتشرة فكقوله ‪ :‬سبرت أوصاف‬
‫الفاعلين فكانوا أجساما ل لكونهم فاعلين أو لكونهم موجودين أو كيت وكيت ‪ ,‬ثم يبطل جميع الجسام فيقول فيلزم من هذا أنهم أجسام‬
‫لكونهم فاعلين ‪ ,‬وهذه هي القسمة المنتشرة التي بها يزن الشيطان مقاييسه وقد ذكرنا بطلنها ‪ ,‬فقال ‪ :‬أظن أنه إذا بطل سائار‬
‫ص ‪226‬‬
‫القسام تعين القسم الذيِ أراده ‪ ,‬وأرى هذا برهانا ل قوييا ل عليه تعويل أكثر المتكلمين في عقائادهم فإنهم يقولون في مسألة رؤية‬
‫الباريِ تعالى مرئاي لن العالم مرئاي ‪ ,‬وباطل أن يقال إنه مرئاي لنه ذو بياض لن السواد يرى ‪ ,‬وباطل أن يرى لكونه جوهرال‬
‫لن العرض يرى وباطل أن يكون عرضا ل لن الجوهر يرى ‪ ,‬وإذا بطلت القسام بقي أنه يرى موجودال فأريد أن تكشف لي عن‬
‫فساد هذا الميزان كشفا ل ظاهرال ل أشك فيه ‪ ,‬فقلت ‪ :‬فأنا أورد في ذلك مثالل حليقا لم ينتج من قياس باطل وأكشف الغطاء عنه ‪ ,‬فأقول‬
‫‪ :‬قولنا ‪ :‬العالم حادث حق ‪ ,‬ولكن قول القائال إنه حادث لنه مصور قياسا ل على البيت وسائار البنية المصورة قول باطل ل يفيد‬
‫العلم بحدوث العالم إ يقال ميزانه الحق أن يقال كل مصور حادث أو العالم مصور ‪ ,‬فيلزم منه أنه حادث ‪ ,‬والصل الخر مسلم‬
‫لكن قولك كل مصور حادث ل يسلمه الخصم ‪ ,‬وعند هذا يعدل إلى الستقراء فيقول ‪ :‬استقريب كل مصور فوجدته حادثا ل كالبيت‬
‫والقدح والقميص وكيت وكيت ‪ ,‬وقد عرفت فساد هذا وقد يرجع إلى السبر ‪ ,‬فيقول ‪ :‬البيت حادث فنسبر أوصافه وهو أنه جسم‬
‫وقائام بنفسه وموجود ومصور ‪ ,‬وهذه أربع صفات وقد بطل تعليله بكونه جسما ل وقائاما ل بنفسه وموجودال فثبت أنه معلل بكونه‬
‫مصورال وهو الرابع ‪ .‬فيقال له ‪ :‬هذا باطل من وجوه كثيرة وأذكر منها الربعة ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أنه إن سلم لك بطلن الثلث فل تثبت العيلة التي طلبتها ‪ ,‬فلعل الحكم معلل بعيلة قاصرة غير عامة ول متعدية ككونه‬
‫مثلل بيتا ل ‪ ,‬فإن ثبت كون البيت غير محدث أيضا ل فلعيل الحكم معلل بالمعنى القاصر على ما هر كونه حادثا ل إذ يمكن تقدير وصف‬
‫خاص يجمع الجميع ول يتعدى ‪.‬‬
‫ل‬ ‫ي‬
‫الثاني ‪ :‬أنه إنما يصح إذا تم السبر على الستقصاء بحيث ل يتصور أن يشذ منه قسم ‪ ,‬وإذا لم يكن حاصرا بين النفي والثبات‬
‫دائارال تصور أن يشذ منه قسم وليس الستقصاء الحاصر أمرال هينا ل ‪ ,‬والغالب أنه ل يهتم به المتكلمون والفقهاء بل يقولون إن كان‬
‫فيه قسم آخر فأبرزه ‪ ,‬والغالب أنه ل يهتم به المتكلمون والفقاء بل يقولون إن كان فيه قسم آخر فأبرزه ‪ ,‬وربما قال الخر ل‬
‫يلزمني إبرازه وطال اللجاج فيه ‪ ,‬وربما استدل القايس وقال ‪ :‬لو كان فيه قسم آخر لعرفناه ولعرفته ‪ ,‬فعدم معرفتنا تيدل على نفي‬
‫ط هذا المسكين أنه لم نعهد قط فيلل حاضرال لم نره ثم رأيناه وكم‬ ‫قسم آخر إذ عدم رؤيتنا الفيل في مجلسنا يتدل على نفي ول يدريِ ق ي‬
‫رأينا معاني حاضرة عجزنا جميعا ل عن إدراكها ثم تنبهنا لها بعد مدة فلعيل فيه قسما ل آخر شذ عينا لسنا نتنبه له الن وربما لم نتنبه له‬
‫طول عمرنا ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أنا وإن سلمنا الحصر فل يلزم من إبطال ثلث ثبوت رابع بل التركيب الذيِ يحصل من أربعة يزيد على عشرة‬
‫وعشرين إذ يحتمل أن تكون العيلة آحاد هذه الربعة أو‬
‫ص ‪227‬‬
‫اثنين منها أو ثلثة منها ‪ ,‬ثم ل يتعين الثنان منها ول الثلثة ‪ ,‬بل يتصور أن تكون العيلة كونه موجودال أو جسما ل أو موجودال وقائاما ل‬
‫بنفسه أو جسما ل موجودال وقائاما ل بنفسه و موجودال أو موجودال وبيتا ل أو بيتا ا ومصورال أو بيتا ل قائاما ل بنفسه أو بيتا ل وجسما ل ‪ ,‬أو جسما ل‬
‫ومصورال ‪ ,‬أو جسما ل وقائاما ل بنفسه أو جسما ل وموجودال أو قائاما ل بنفسه وموجودال ‪ ,‬فهذه بعد تركيبات الثنين فقس على هذه‬
‫التركيبات من الثلث ‪ ,‬واعلم أن الحكام تتوقف على وجود أسباب كثيرة مجتمعة فليس يرى الشيء لكون الرائاي ذا عين إذ ل‬
‫يرى بالليل ول لستتارة المرئاي بالشمس إذ ل يرى العمى ول لهما جميعا ل إذا ل يرى الهواء ‪ ,‬ولكن جملة ذلك مع كون المرئاي‬
‫متلونا ل وأمور اأخر هذا حكم الوجود ‪ ,‬أما حكم الرؤية في الخرة فحديث آخر ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أنه إن سلم الستقصاء وسلم الحصر في أربعة وتركنا التركيب فإبطال ثلثة ل يوجب تعلق الحكم بالرابع مطلقا ل بل‬
‫بانحصار الحكم في الرابع ‪ ,‬ولعيل الرابع ينقسم قسمين ‪ ,‬والحكم يتعلق بأحدهما ‪ .‬أرأيت لو قسم أيولل وقال ‪ :‬أما كونه جسما ل أو‬
‫موجودال أو قائاما ل بنفسه أو مصورال مثلل بصورة مربعة ‪ ,‬أو مصورال بصورة مدورة ثم أبطل القسام الثلثة لم يتعلق الحكم‬
‫ص بصورة مخصوصة ‪ ,‬فتسبب الغفلة عن مثل هذه الدقائاق خبط المتكلمون وكثر نزاعهم إذا‬ ‫بالصورة مطلقا ل ‪ ,‬بل ربما اخت ي‬
‫تمسكوا بالرأيِ والقياس ‪ ,‬وذلك ل يفيد برد اليقين ‪ ,‬بل يصلح للقيسة الفقهية الظنية ولمالة قلوب العامة إلى صوب الصواب ‪,‬‬
‫والحق فإنه ل يمتد فكرهم إلى الحتمالت البعيدة ‪ ,‬بل ينجزم اعتقادهم بأسباب ضعيفة ‪ .‬أما ترى العامي الذيِ به صداع يقول له‬
‫غيره استعمل ماء الورد فإني إذا كان بي صداع فاستعملته انتفعت به ‪ ,‬كأنه يقول هذا صداع فينفعه ماء الورد قياسا ل على صداعي‬
‫فيميل قلب المريض إليه فيستعمله ول يقول له أثبت أيولل أن ماء الورد يصلح لكل صداع كان من البرودة أو من الحرارة أو من‬
‫أبخرة المعدة ‪ ,‬وأنواع الصداع كثيرة فاثبت أن صداعي كصداعك ومزاجي كمزاجك وسني كسنك وصناعتي كصناعتك و‬
‫أحوالي كأحوالك ‪ ,‬فإن جميع ذلك يختلف به العلج فإن طالب تحقيق هذه المور ليس من شأن العوام لنهم ل يتشوفون إليها ول‬
‫من شأن المتكلمين لنهم وإن تشوفوا إليها على خلف العوام فل يهتدون إلى الطرق المفيدة برد اليقين ‪ ,‬وإنما هي من شنشنة قوم‬
‫عرفوها من أحمد صلى ا عليه وسلم وهم قوم اهتدوا بنور ا إلى ضياء القرآن ‪ ,‬وأخذوا منه الميزان بالقسط والقسطاس‬
‫المستقيم فأصبحوا قوامين ل بالقسط ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬الن هذا يلوح لي مخايل الحق وتباشيره من كلمك فهل تأذن لي في أن أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدلا؟‬
‫ص ‪228‬‬
‫قلت ‪ :‬هيهات إنك ل تستطيع معي صبرال وكيف تصبر على مالم تحط به خبرال‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ستجدني إن شاء ا صابرال ول أعصي لك أمرال‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أتظن أني نسيت اتعاظك بنصيحة رفقائاك ووالدتك ومن نبض عليه عرق من عروق التقليد فل تصلح لصحبتي ول‬
‫أصلح لصحبتك ‪ ,‬فاذهب عني فهذا فراق بيني وبينك فإني مشغول بتقويم نفسي عن تقويمك ‪ ,‬وبالتعليم من القرآن عن تعليمك ‪ ,‬فل‬
‫تراني بعد هذا ول أراك ‪ ,‬فل تسع أوقاتي أكثر من هذا الصلح الفاسد والضرب في الحديد البارد ‪ ,‬وقد نصحت لكم ولكن ل‬
‫تحبون الناصحين ‪ ,‬والحمد ل رب العالمين ‪ ,‬والصلة على محيمد نبيينا سييد المرسلين ‪.‬‬
‫فهاكم إخواني قصتي مع رفيقي تلوتها عليكم بعجرها وبجرها لتقضوا منها العجب وتنتفعوا في إثبات هذه المحادثات بالتفطن‬
‫لمور هي أجيل من تقويم مذهب التعليم ‪ ,‬فلم يكن ذلك من غرضي ‪ ,‬ولكن إياك أعني وأسمعي يا جارة ‪ ,‬والتماسي من المخلصين‬
‫قبول معذرتي عند مطالعة هذه المحادثات فيما آثرته في المذاهب من العقد والتحليل وأبدعته في السامي من التغيير والتبديل ‪,‬‬
‫واخترعته في المغاني من التخييل والتمثيل ‪ .‬فلي تحت كل واحد من ذلك غرض صحيح وسر عن ذويِ البصائار صريح ‪ ,‬وإياكم‬
‫أن تغيروا هذا النظام وتنتزعوا هذه المعاني من هذه الكسوة فقد علمتكم كيف يوزن المعقول بالسناد إلى المنقول ليكون القول منها‬
‫أسرع إلى القبول ‪ ,‬وإياكم أن تجعلوا المعقول أصلل والمنقول تابعا ل ورديفا ل ‪ ,‬فإن ذلك شنيع منفر ‪ ,‬وقد أمركم ا سبحانه بترك‬
‫الشنيع و المجادلة بالحسن ‪ ,‬وإياكم أن تخالفوا المر فتهلكوا وتهلكوا وتضلوا و تضلوا ‪ ,‬وماذا تنفع وصيتي وقد اندرس الحق‬
‫وانكسر البثق ‪ ,‬وانتشرت الشناعة وطارت في القطار ‪ ,‬وصارت ضحكة في المصار ‪ ,‬فإن قوما ل ايتخذوا هذا القرآن مهجورال‬
‫وجعلوا التعليمات النبوية هبالء منثورال ‪ ,‬وكل ذلك من قصور الجاهلين ودعواهم في نصرة الدين منصب العارفين ‪ .‬وإن كثيرال‬
‫ليضلون بأهوائاهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمهتدين ‪.‬‬
‫ص ‪229‬‬
‫منهاج العارفين‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الرسالة‬
‫الحمد ل الذيِ نيور قلوب العارفين بذكره ‪ ,‬وأنطق ألسنتهم بشكره ‪ ,‬وعمر جوارحهم بخدمته ‪ ,‬فهم في رياض النس يرتعون‬
‫وإلى أوكار المحبة يأوون ‪ ,‬ذكرهم فذكروه ‪ ,‬وأحبهم فأحبوه ‪ ,‬ورضي عنهم فرضوا عنه رأس مالهم الفتقار ونظام أمرهم‬
‫الضطرار ‪ ,‬علمهم دواء الذنوب ‪ ,‬وعرفهم طب القلوب ‪ ,‬فهم مصابيح أنوار حجته ‪ ,‬ومفاتيح خزائان حكمته ‪ ,‬إمامهم القمر‬
‫الطالع ‪ ,‬وقائادهم النور الساطع ‪ ,‬سيد الموالي والعرب محيمد بن عبد ا بن عبد المطلب ‪ ,‬والثمرة الزاكية من الشجرة المباركة ‪,‬‬
‫ضياء دودللو دللم دتلمدسلساه دناسر ۚ انوسر دعدلىى انوءر ۗ ديلههديِ ا‬
‫اا‬ ‫التي أصلها التوحيد ‪ ,‬وفروعها التقوى ‪ ) ,‬دل دشلرهقايءة دودل دغلرهبايءة ديدكااد دزلياتدها اي ه‬
‫اا هباكرَل دشليءء دعهليسم ( [ النور ‪ ) . ] 35 :‬دودملن دللم ديلجدعهل ا‬ ‫س ۗ دو ا‬ ‫ب ا د‬
‫اا دلاه انولرا دفدما دلاه هملن انوءر‬ ‫اا الللمدثادل هللانا ه‬ ‫لهانوهرهه دملن ديدشااء ۚ دودي ل‬
‫ضهر ا‬
‫( [ النور ‪ . ] 40 :‬صلى ا عليه وسلم صللة تلوح في السموات آثارها وتعلو في جنان الخلد أنوارها ‪ ,‬وتطيب في مشاهد‬
‫النبياء أخبارها ‪ ,‬وعلى آله الطاهرين وأصحابه المطهرين ‪.‬‬
‫باب البيان نحو المريدين‬
‫يدور على ثلثة اأصول ‪ :‬الخوف والرجاء والحب ‪ ,‬فالخوف ‪ :‬فرع العلم ‪ ,‬والرجاء ‪ :‬فرع اليقين ‪ ,‬والحب ‪ :‬فرع المعرفة ‪,‬‬
‫فدليل الخوف الهرب ‪ ,‬ودليل الرجاء الطلب ‪ ,‬ودليل الحب إيثار المحبوب ‪ ,‬ومثال ذلك الحرم والمسجد والكعبة ‪ ,‬فمن دخل حرم‬
‫الرادة أمن من الخلق ‪ ,‬ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها في معصية ا تعالى ‪ ,‬ومن دخل الكعبة أمن قلبه أن يشتغل‬
‫بغير ذكر ا عيز وجيل ‪ .‬فإذا أصبح العبد لزمه أن ينظر في ظلمة الليل ونور النهار ويعلم أن أحدهما إذا ظهر عزل صاحبه عن‬
‫الولية ‪ ,‬فكذلك نور المعرفة إذا ظهر عزل ظلمة المعاصي عن الجوارح ‪ ,‬فإن كانت حالته حالة يرضاها لحلول الموت شكر ا‬
‫تعالى على توفيقه وعصمته ‪ ,‬وإن كانت حالته حالة يكره معها الموت انتقل عنها بصحة العزيمة وكمال الجهد وعلم أن ل ملجأ من‬
‫ا إل إليه ‪ ,‬كما أنه ل وصول إليه إل به فندم على ما أفسد من عمره بسوء اختياره واستعان بال على تطهير ظاهره من الذنوب‬
‫وتصفية باطنه من العيوب ‪ ,‬وقطع زنار الغفلة عن قلبه ‪ ,‬وأطفأ نار الشهوة عن نفسه ‪ ,‬واستقام على طريق الحق وركب أمطية‬
‫الصدق ‪ ,‬فإن النهار دليل الخرة ‪ ,‬والليل دليل الدنيا ‪ ,‬والنوم شاهد الموت ‪ ,‬والعبد قادم على ما أسلف ونادم على ما خالف ‪ ,‬يقول‬
‫ا عيز وجيل ‪ ) :‬ايدنابأ ا اللهلندساان ديلودمهئاءذ هبدما دقاددم دوأداخدر ( [ القيامة ‪. ] 13 :‬‬
‫‪230‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫باب الحكام‬
‫و إعراب القلوب على أربعة أنواع ‪ :‬رفع و فتح و خفض ووقف ‪ ،‬فرفع القلب في ذكر ا تعالى ‪ ،‬و فتح القلب في الرضاء عن ا‬
‫تعالى ‪ ،‬و خفض القلب في الشتغال بغير ا تعالى ‪ ،‬ووقف القلب في الغفلة عن ا تعالى ‪ ،‬فعلمة الرفع ثلثة أشياء ‪ :‬وجود‬
‫الموافقة ‪ ،‬و فقد المخالفة ‪ ،‬ودوام الشوق ‪ ،‬و علمة الفتح ثلثة أشياء ‪ :‬التوكل و الصدق و اليقين ‪ ،‬و علمة الخفض ثلثة أشياء ‪:‬‬
‫العجب و الرياء و الحرص و هو مراعاة الدنيا و علمة الوقف ثلثة أشياء ‪ :‬زوال حلوة الطاعة ‪ ،‬و عدم مرارة المعصية ‪ ,‬و‬
‫التباس الحلل ‪.‬‬
‫باب الرعاية‬
‫قال رسول ا صلى ا علية وسلم ‪ " :‬طلب العلم فريضة على كل مسلم " ‪ ،‬و هو علم النفاس ‪ ،‬فيجب أن يكون نفس المريد‬
‫شكرا أو عذرا ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬ففضل و إن رد فعدل فطائاع الحركة بالتوفيق ‪ ,‬و السكوت بالعصمة و ل يستقيم ذلك له إل بدوام‬
‫الفتقار و الضطرار ‪.‬‬
‫و مفتاح ذلك‬
‫ذكر الموت لن فيه راحة من الحبس و نجاة من العدو و قوامه برد العمر إلى يوم واحد و لن يلتئام ذلك إل بالتفكير في الوقات ‪،‬‬
‫و باب الفكر الفراغ ‪ ،‬و سبب الفراغ الزهد ‪ .‬و عماد الزهد التقوى ‪ ،‬و سنام التقوى الخوف ‪ ،‬وزمام الخوف اليقين ‪ ،‬و نظام اليقين‬
‫الخلوة و الجوع ‪ ،‬و تمامها الجهد و الصبر و طريقهما الصدق ‪ ،‬و دليل الصدق العلم ‪.‬‬
‫باب النية‬
‫لبد للعبد من النية في كل حركة و سكون ‪ " :‬فإنما العمال بالنيات و لكل امرئ ما نوى و نية المؤمن خير من عمله " ‪ .‬و النية‬
‫تختلف على حسب اختلف الوقات ‪ ،‬وصاحب النية نفسه منه في تعب ‪ ،‬و الناس منه في راحة و ليس شيء على المريد أصعب‬
‫من حفظ النية ‪.‬‬
‫باب الذكر‬
‫اجعل قلبك قبلة لسانك ‪ ،‬و اشعر عند الذكر حياء العبودية و هيبة الربوبية ‪ ,‬و أعلم بأن ا تعالى يعلم سر قلبك و يرى ظاهر فعلك‬
‫و يسمع نجوى قلبك ‪ ،‬فاغسل قلبك بالحزن‬
‫‪231‬‬
‫و أوقد فيه نار الخوف ‪ ،‬فإذا زال حجاب الغفلة عن قلبك كان ذكرك به مع ذكره لك ‪ .‬قال ا تعالى ‪ " :‬و لذكر ا أكبر " )‬
‫العنكبوت ‪ . ( 45 :‬لنه ذكرك مع الغناء عنك و أنت ذكرته مع الفقر غليه ‪ ،‬فقال ‪ " :‬أل بذكر ا تطمئان القلوب " ) الرعد ‪:‬‬
‫‪ . ( 28‬فيكون اطمئانان القلب في ذكر ا له ووجله في ذكره ا ‪ ،‬قال ا تعالى ‪ " :‬إنما المؤمنون الذين إذا ذكر ا وجلت قلوبهم‬
‫" ) النفال ‪ . ( 2 :‬و الذكر ذكران ذكر خالص بموافقة القلب في سقوط النظر إلى غير ا ‪ ،‬و ذكر صاف بفناء الهمة عن الذكر ‪،‬‬
‫قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " " ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "‪.‬‬
‫باب الشكر‬
‫و في كل نفس من أنفاس العبد نعمة ل تتجدد عليه يلزمه القيام بشكرها ‪ .‬و أدنى الشكر أن يرى النعمة من ا تعالى و يرضى بما‬
‫أعطاه و ل يخالفه بشيء من نعمه و إن بلغوا غاية المجهود ‪ ،‬لن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها ‪ ،‬فيلزمك على كل‬
‫شكر إلى ما ل نهاية له ‪ ،‬فإذا تولى ا العبد حمل عنه شكره فرضى عنه بيسير و حط عنه ما يعلم أنه ل يبلغه و يضعفه " و ما‬
‫كان عطاء ربك محظورا " ) السراء ‪.( 20 :‬‬
‫باب اللباس‬
‫اللباس نعمة من ا على عبده يستر به البشرة و لباس التقوى ذلك خير ‪ ،‬و خير لباسك ما ل يشغل سرك عن ا تعالى ‪ ،‬فإذا لبست‬
‫ثوبك فأذكر محبة ا الستر على عباده فل تفضح أحدا من خلقه بعيب تعلمه منه و اشتغل بعيب نفسك فأستره بدوام الضطرار إلى‬
‫ا تعالى في تطهيره ‪ ،‬فإن العبد إذا نسى ذنبه كان ذلك عقوبة له و ازداد به جزءا على المعاصي ‪ ،‬و لو انتبه من رقدة الغفلة‬
‫لنصب ذنوبه بين عيني قلبه نصبا و لبكى عليه بجفون سره و استولى عليه الوجل فذاب حياء من ربه ‪ ،‬و ما دام العبد يرجع إلى‬
‫حول نفسه و قوتها انقطع عن حول ا و قوته ‪ ،‬فأطرح همتك بين يديِ الخوف و الرجاء ‪ " :‬و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين " )‬
‫الحجر ‪( 99 :‬‬
‫باب القيام‬
‫فإذا قمت من فراشك فأقم قلبك عن فراش البطالة ‪ ،‬و أيقظ نفسك عن نوم الجهالة ‪ ،‬و انهض بكلك إلى من أحياك ‪ ،‬و رد إليك نفسك‬
‫‪ ،‬و قم بفكرك عن حركتك و سكونك ‪،‬‬
‫‪232‬‬
‫و اصعد بقلبك إلى الملكوت العلى ‪ ،‬و ل تجعل قلبك تابعا لنفسك فإن النفس تميل إلى الرض ‪ ،‬و القلب يميل إلى السماء و‬
‫استعمل قول ا عز و جل ‪ " :‬إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه " ) فاطر ‪.( 10 :‬‬
‫باب السواك‬
‫و استعمل السواك فإنها مطهرة للفم مرضاة للرب ‪ ،‬و طهر ظاهرك و باطنك عن دنس الساءة ‪ ،‬و أخلص أعمالك عن كدر الرياء‬
‫و العجب ‪ ،‬واجعل قلبك بصافي ذكره ‪ ،‬ودع عنك ما ل ينفعك بل يضرك ‪.‬‬
‫باب التبرز‬
‫و إذا تبرزت لقضاء وطر فاعتبر ‪ ،‬فإن الراحة في إزالة النجاسة ‪ ،‬و أستنج رأس همتك ‪ ،‬و أغلق باب الكبر ‪ ،‬و افتح باب الندم ‪ ،‬و‬
‫أجلس على بساط الندامة ‪ ،‬و أجتهد في إيثار أمره و اجتناب نهيه و الصبر على حكمه ‪ ،‬و اغسل شرك بترك الغضب و الشهوة ‪،‬‬
‫و استعمل الرغبة و الرهبة فإن ا تعالى مدح قوما فقال ‪ " :‬إنهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا‬
‫خاشعين " ) النبياء ‪. ( 90 :‬‬
‫باب الطهارة‬
‫و إذا تطهرت ففكر في صفوة الماء ورقته و تطهيره و تنظيفه ‪ ،‬فغن ا تعالى جعله مباركا فقال ‪ " :‬و نزلنا من السماء ماء‬
‫مباركا " ) ق ‪ . ( 9 :‬فاستعمله في العضاء التي فرض ا عليك تطهيرها و لتكن صفوتك مع ا كصفوة الماء ‪ ،‬فاغسل وجه‬
‫قلبك عن النظر إلى غير ا ‪ ،‬و اغسل يدك عن المتداد إلى غيره و امسح رأسك عن الفتخار بغيره ‪ ،‬و اغسل رجليك عن السعي‬
‫لغيره ‪ ،‬و احمد ا على ما ألهمك من دينه ‪.‬‬
‫باب الخروج‬
‫فإذا خرجت من منزلك إلى مسجدك ‪ ،‬فاعلم أن ل تعالى حقوقا عليك يلزمك أداؤها ‪ .‬من ذلك السكينة و الوقار و العتبار بخلق ا‬
‫برهم و فاجرهم ‪ ،‬قال ا تعالى ‪ " :‬و تلك المثال نضربها للناس و ما يعقلها إل العالمون " ) العنكبوت ‪ . ( 43 :‬و غض عن‬
‫نظر الغفلة و الشهوة ‪ ،‬و أفش السلم مبتدئاا و مجيبا ‪ ،‬و أعن من استعانك على الحق و أمر بالمعروف و أنه عن المنكر إن كنت‬
‫من أهله و أرشد الضال ‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫باب دخول المسجد‬
‫فإذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قصدت بيت ملك عظيم قدره ل يقبل إل الطاهر و ل يصعد إليه إل الخالص ‪ ،‬ففكر في نفسك من‬
‫أنت و لمن أنت و أين أنت و من أيِ ديوان يخرج أسمك ‪ ،‬فإذا استصلحت نفسك لخدمته فأدخل فلك الذن و المان ‪ ،‬و إل فقف‬
‫وقوف مضطرب قد انقطعت عنه الحيل و انسدت عنه السبل ‪ ،‬فإذا علم اله من قلبك اللتجاء إليه أذن لك فتكون أنت بل أنت ‪ ،‬وا‬
‫يرحم عبده و يكرم ضيفه و يعطي سائاله و يبر المعرض عنه ‪ ،‬فكيف المقبل إليه ‪.‬‬
‫باب افتتاح الصلوات‬
‫فإذا استقبلت بوجهك القبلة استقبل بوجهك الحق و ل تنبسط فلست من أهل النبساط ‪ ،‬و اذكر وقوفك بين يديه يوم العرض الكبر‬
‫‪ ،‬وقف على قدمي الخوف و الرجاء ‪ ،‬و رفع قلبك عن النظر إلى الدنيا و الخلق ‪ ،‬و أرسل همتك إليه فإنه ل يرد البق و ل يخيب‬
‫السائال ‪ .‬فإذا قلت ا أكبر فاعلم انه ل يحتاج إلى خدمتك له و ذكرك إياه لن الحاجة من جبلة الفقراء و ذلك سمة الخلق و الغنى‬
‫عن صفاته ذاته ‪ ،‬و إنما وظف على عبيده وظائاف ليقربهم بها إلى عفوه و رحمته و يبعدهم بها من سخطه و عقوبته ‪ ،‬قال ا عز‬
‫وجل ‪ " :‬و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها " ) الفتح ‪ . ( 26 :‬وقال عز من قائال " و لكن ا حبب إليكم اليمان و‬
‫زينه في قلوبكم " ) الحجرات ‪ . ( 7 :‬و أسكر ا إذا جعلك أهل للوقوف بين يديه فإنه " أهل التقوى و أهل المغفرة " ) المدثر ‪:‬‬
‫‪ ( 56‬أهل أن يتقيه خلقه فيغفر لمن اتقاه ‪.‬‬
‫باب القراءة‬
‫قال ا تعالى ‪ " :‬فإذا قرأت القرآن فأستعذ بال من الشيطان الرجيم ‪ 98‬إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون‬
‫" ) النحل ‪. ( 99 :‬‬
‫" إنما سلطانه على الذين يتولونه " ) النحل ‪( 100 :‬‬
‫" إنه من توله فأنه يضلع " ) الحج ‪. ( 4 :‬‬
‫و اذكر عهد ا عليك و ميثاقه في وحيه و تنزيله ‪ ،‬و انظر كيف تقرأ كلمه و كتابه فرتل و تدبر ‪ ،‬وقف عند وعده ووعيده و‬
‫أمثاله و مواعظه و أمره و نهيه و محكمه و متشابه ‪ ،‬و إني لخشى أن تكون إقامتك حدوده غفلة من تضييعك حدوده ‪ ..‬قال ا‬
‫عز وجل ‪ ) :‬فبأيِ حديث بعده يؤمنون " ) العراف ‪( 185 :‬‬
‫باب الركوع‬
‫و اركع ركوع خاشع ل بقلبه خاضعا بجوارحه ‪ ،‬و استوف ركوعك و انحط عن همتك في القيام بأمره ‪ ،‬فإنك ل تقدر على أداء‬
‫فرضه إل بعونه ‪ .‬و ل تبلغ دار رضوانه إل برحمته ‪ ،‬و ل تستطيع المتناع من معصية إل بعصمته ‪ ،‬و ل تنجو من عذابه إل‬
‫بعفوه ‪ ،‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬لن يدخل الجنة احد بعمله " قالوا ‪ :‬و ل أنت يا رسول ا ؟ قال " و ل أنا إل أن‬
‫يتغمدني ا برحمته " ‪.‬‬
‫باب السجود‬
‫و اسجد ل سجود عبد متواضع علم أن خلق من تراب يطؤه جميع الخلق ‪ ،‬و أنه ركب من نطفة يستقذرها كل واحد ‪ ،‬فإذا فكر في‬
‫أصله و تأمل جوهره من ماء و طين أزداد ل تواضعا و يقول في نفسه ‪ :‬ويحك لم رفعت رأسك من سجودك ؟ لدم دلم تمت بين يديه‬
‫‪ ،‬و قد جعل ا السجود سبب القرب إليه ؟ فقال تعالى ‪ " :‬و اسجد ل و اقترب " ‪ .‬فمن اقترب منه بعد كل شيء سواه ‪ ،‬و أحفظ‬
‫صفة سجودك في هذه الية ‪ " :‬منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى " ) طه ‪ . ( 55 :‬و استعن بال عن غيره ‪،‬‬
‫فإنه رويِ عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال ‪ :‬قال ا تبارك و تعالى ‪ " :‬ل اطلع على قلب عبد فأعلم منه حب العمل بطاعتي‬
‫إل توليت تقويمه و سياسته " ‪.‬‬
‫باب التشهد‬
‫و التشهد ثناء ‪ ،‬و شكر له ‪ ،‬و تعرض لمزيد فضله و دوام كرامته ‪ ،‬فاخرج عن دعواك و كن عبدا بفعلك كما أنت بعد بقولك ‪،‬‬
‫ف‪،‬ك خلقك عبدا و أمرك أن تكون له عبدا كما خلقك ‪ " :‬و ما كان لمؤمن و ل مؤمنة إذا قضى ا و رسوله أمرا أن يكون لهم‬
‫الخيرة من أمرهم " ) الحزاب ‪( 36 :‬‬
‫" و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة " ) القصص ‪( 68 :‬‬
‫فاستعمل العبودية في الرضى بحكمته ‪ ،‬و استعمل العبادة في النزول تحت أمره ‪ ،‬و صل على حبيبه عقب الثناء عليه ‪ ،‬فغنه وصل‬
‫محبته و طاعته بطاعته و متابعته بمتابعته ‪ ،‬فقال تعالى ‪ " :‬قل إن كنتم تحبون ا فاتبعوني يحببكم ا " ) آل عمران ‪. ( 31 :‬‬
‫و قال " من يطع الرسول فقد أطاع ا " ) النساء ‪ . ( 80 :‬و قال " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون ا " ) الفتح ‪ . ( 10 :‬و أمر‬
‫رسوله بالستغفار فقال تعالى " فاعلم أنه ل إله‬
‫‪235‬‬
‫إل ا و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات " ) محمد ‪ . ( 19 :‬و أمرك بالصلة عليه ‪ ،‬فقال تعالى " إن ا و ملئاكته يصلون‬
‫على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما " ) الحزاب ‪ . ( 56 :‬و قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬من‬
‫صلى على واحدة صلى ا عليه بها عشرا و عامله بالفضل " ‪ .‬فقال تعالى ‪ " :‬و رفهنا لك ذكرك " ) النشراح ‪ . ( 4 :‬ثم أمره‬
‫بمعاملته بالعدل فقال لغيره ‪ " :‬فإذا فرغت فانصب ‪ 7‬و إلى ربك فأرغب " ) النشراح ‪( 8 ، 7 :‬‬
‫باب السلم‬
‫السلم من أسماء ا تعالى أودعه خلقه ليستعملوا معنا في معاملته و معاشرة خلقه ‪ ،‬فإذا أردت السلمة فليسلم منك صديقك و‬
‫ارحم من ل يرحم نفسه فإن الخلق بين فتن و محن ‪ ،‬إما مبتلي بالنعمة ليظهر شكره ‪ ،‬و إما مبتلي بالشدة ليظهر صبره ‪ ،‬قاله ا‬
‫تعالى ‪ " :‬فأما النسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن ‪ 15‬و أما إذا ما ابتله فدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن‬
‫‪ 16‬كل " ) الفجر ‪ 15 :‬ـ ‪ . ( 17‬فالكرامة في طاعته و الهوان في معصيته و من ركب الهوى أهانه ا ‪.‬‬
‫باب الدعاء‬
‫و أحفظ آداب الدعاء و أنظر من تدعو و كيف تدعو و لماذا تدعو و لماذا تسأل ‪ ،‬و الدعاء استجابة الكل منك للحق و إن لم تأت‬
‫بشرط الدعاء فل تشترط الجابة ‪ .‬فقال مالك بن دينار ‪ :‬أنتم تستبطئاون المطر و أنا أستبطئ الحجر ‪ ،‬و لو لم يأمر ا سبحانه‬
‫بالدعاء لوجب علينا أن ندعوه و لو لم يشترط لنا الجابة لكنا إذا أخلصنا له الدعاء تفضل بالجابة ‪ .‬فكيف و قد ضمن ذلك لمن‬
‫أتى بشرط الدعاء ‪ .‬قال ا تعالى ‪ " :‬قل ما يعبأ بكم ربي لول دعاؤكم " ) الفرقان ‪ . ( 77 :‬و قال تعالى " ادعوني أستجب لكم "‬
‫) غافر ‪ . ( 60 :‬وسئال أبو يزيد البسطامي عن اسم ا العظم ‪ ،‬قال ‪ :‬فرغ قلبك من غيره و ادعه بأيِ أسمائاه شئات ‪ ،‬و قال يحيي‬
‫بن معاذ ‪ :‬اطلب السم ‪ .‬و قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " ل يستجيب ا الدعاء من قلب له فإذا أخلصت فأبشر بإحدى‬
‫ثلث ‪ :‬إما أن يجعل لك ما سألت ‪ ،‬و إما أن يدخر لك ما هو أعظم منه ‪ ،‬و إما أن يصرف عنك من البلء ما لو صبه عليك لهلكت‬
‫و ادع دعاء مستجير ل دعاء مشير " ‪ ،‬رويِ عن رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬أنه قال ‪ " :‬قال ا تبارك و تعالى من شغله‬
‫ذكريِ عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائالين " ‪ .‬و قال أبو الحسن الوراق ‪ :‬دعوت ا مرة فاستجاب دعائاي فنسيت الحاجة‬
‫فأحفظ حق ا عز و جل عليك في الدعاء و ل تشتغل بحظك فإنه أعلم بمصلحتك ‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫باب الصوم‬
‫فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات ‪ ،‬فإن الصوم فناء مراد النفس و فيه صفاء القلب و ضمارة الجوارح و التنبيه‬
‫على الحسان إلى الفقراء و اللتجاء إلى ا و الشكر على ما تفضل به من النعم و تخفيف الحساب ‪ ،‬و منه ا في توفيقك للصوم‬
‫أعظم من أن تقوم بشكرها و من صومك أن تطلب منه عوضا ‪.‬‬
‫باب الزكاة‬
‫و عن كل جزء من أجزائاك زكاة واجبة ل ‪ ،‬فزكاة القلب التفكر في عظمته و حكمته و قدرته و حجته و نعمته و رحمته ‪ ،‬و زكاة‬
‫العين النظر بالعبرة و الغض عن الشهوة ‪ ,‬و زكاة الذن الستماع إلى ما فيه نجاتك ‪ ،‬و زكاة اللسان النطق بما يقربك إليه ‪ ،‬و‬
‫زكاة اليد القبض عن الشر و البسط إلى الخير ‪ ،‬و زكاة الرجل السعي إلى ما فيه صلح قلبك و سلمة دينك ‪.‬‬
‫باب الحج‬
‫و المريد إذا حج يعقد النية خوف الرد ‪ ،‬و استعد استعداد من ل يرجو الياب ‪ ،‬و أحسن الصحبة ‪ ،‬و تجرد عند الحرام عن نفسه ‪،‬‬
‫و اغتسل من ذنبه ‪ ،‬و لبس ثوب الصدق و الوفاء ‪ ،‬و لبى موافقة للحق في إجابة دعوته ‪ ،‬و أحرم في الحرم من كل شيء يبعده عن‬
‫ا تعالى ‪ ,‬و طاف بقلبه حول كرسي كرامته ‪ ،‬وصفا ظاهرة ‪ ،‬و باطنه عند الوقوف على الصف ‪ ،‬و هرول هربا من هواه و لم‬
‫يتمن على ا تمنى ما ل يحل له و اعترف بالخطأ يعرفه ‪ ،‬و تقرب إلى ا بمزدلفة ‪ ،‬و رمى الشهوات عند رمي الحجرات ‪ ،‬و‬
‫ذبح هواه و حلق الذنوب ‪ ،‬و زار البيت معظما صاحبه ‪ ,‬و أستلم الحجر رضاء بقضائاه ‪ ،‬وودع ما دون ا في طواف الوداع ‪.‬‬
‫باب السلمة‬
‫و طلب السلمة فليت من طلبها وجدها فكيف لمن تعرض للبلء ‪ ،‬و السلمة قد عزت في هذا الزمان و هي في الخمول ‪ ،‬فالعزلة‬
‫و ليست كالخمول فإن لم تكن عزلة فالصمت و ليس كالعزلة ‪ ،‬فإن لم تكن في صمت فالكلم بما ينفع و ل يضر و ليس كالصمت ‪،‬‬
‫و إن أردت السلمة فل تنازع الضدلد و ل تنافس الشكال كل من قال أنا فقل أنت ‪ ،‬و كل من قال لك ‪ ،‬و السلمة في زوال‬
‫العرف ‪ ،‬وزوال العرف في فقد الرادة ‪ ،‬و فقد الرادة في ترك دعوى العلم فيما استأثر ا به من تدبير أمرك ‪ .‬قال ا‬
‫‪237‬‬
‫تعالى ‪ " :‬أليس ا بكاف عبده " ) الزمر ‪ . ( 36 :‬و قال ‪ " :‬يدبر المر من السماء إلى الرض " ) السجدة ‪. ( 5 :‬‬
‫باب العزلة‬
‫صاحب العزلة يحتاج إلى عشرة أشياء ‪ :‬علم الحق و الباطل و الزهد و اختيار الشدة و اغتنام الخلوة و السلمة و النظر في‬
‫العواقب و أن يرى غيره أفضل منه و يعزل عن الناس شره و ل يفتر عن العلم ‪ ،‬فإن الفراغ بلء و ل يعجب بما هو فيه و يخلو‬
‫بيته من الفضول ‪ ،‬و الفضول ما فضل عن يومك لهل الرادة ‪ ،‬ما فضل عن وقتك لهل المعرفة ‪ ،‬و يقطع ما يقطعه عن ا‬
‫تعالى ‪ ،‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم لحذيفة اليمان ‪ " :‬كن حلس بيتك ‪ . :‬و قال عيسى ابن مريم عليه السلم ‪ " :‬أملك‬
‫لسانك و ليسعك بيتك و أنزل لنفسك منزلة السبع الضاريِ و النار الحرقة ‪ ،‬و قد كان الناس ورفا بل شوك فصاروا شوكا بل ورق‬
‫‪ ،‬و كانوا أدواء يستشفى بهم فصاروا داء ل دواء له " ‪ .‬قيل لداود الطائاي ‪ :‬مالك ل تخالط الناس ؟ فقال ‪ :‬كيف أخالط من يتبع‬
‫عيوبي كبير ل يعرف الخلق و صغير ل يوقر ‪ ،‬من استأنس بال استوحش من غيره ‪ .‬و قال الفضيل ‪ :‬إن استطعت أن تكون في‬
‫موضع ل تعرف و ل تعرف فافعل ‪ .‬و قال سليمان ‪ :‬همي من الدنيا أن ألبس عباءة و أكون بقربه ليس فيها أحد يعرفني و ل غذاء‬
‫لي و ل عشاء ‪ ،‬و قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬يأتي زمان المتمسك يومئاذ بدينه كالقابض على الجمر و له اجر خمسين‬
‫منكم " ‪ .‬و في العزلة صيانة الجوارح و فراغ القلب و سقوط حقوق الخلق و إغلق أبواب الدنيا و كسر سلح الشيطان و عمارة‬
‫الظاهر و الباطن ‪.‬‬
‫باب العبادة‬
‫أقبل على أداء الفرائاض ‪ ،‬فإن سلم لك فرضك فأنت أنت ‪ ،‬و أطلب بالنوافل حفظ الفرائاض و كلما ازددت عبادة فازدد شكرا و‬
‫خوفا ‪ .‬قال يحيي بن معاذ ‪ :‬عجبت لطالب فضيلة تارك فريضة و من كان عليه دين فأهدى إلى صاحب الدين مثل حقه كان مطالبا‬
‫بالحق إذا حل الجل ‪ .‬و قال أبو بكر الوراق ‪ :‬ابذل في هذا الزمان أربعة على أربعة ‪ :‬الفضائال على الفرائاض ‪ ،‬و الظاهر على‬
‫الباطن ‪ ،‬و الخلق على النفس ‪ ،‬و الكلم على الفعل ‪.‬‬
‫باب التفكر‬
‫تفكر في قوله عز و جل ‪ " :‬هل أتى على الناس حين من الدهر لم يكن شيئاا‬
‫‪238‬‬
‫مذكور " ) الدهر ‪ . ( 1 :‬و أذكر كيف أحوالك و اعتبر بما مضى من الدنيا على ما تراه ‪ ،‬هل بقيت على أحد ‪ ،‬و ما بقى منها‬
‫أشبه بما مضى من الماء بالماء ‪ ،‬و قد قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬لم يبق من الدنيا إل بلء و فتنة " ‪ .‬و قيل لنوح عليه‬
‫السلم ‪ " :‬كيف وجدت الدنيا يا أطول النبياء عمرا ؟ قال ‪ :‬كبيت له بابان دخلت من أحدهما و خرجت من الخر " ‪ .‬و الفكرة أبو‬
‫كل خير و هي مرآة تريك الحسنات و السيئاات ‪.‬‬
‫تم بحمد ا و عونه و حسن توفيقه و الحمد ل وحده ‪.‬‬
‫قال الشيخ محمد بن علي بن الساكن في كتاب دليل الطالب إلى نهاية المطالب ‪ .‬قال ‪ :‬فالطالب المجتهد إذا أراد لبس الخرقة‬
‫فالواجب عليه أن يخلع الثوب الذيِ كان يلبسه في أيام العادة ‪ .‬و أحسن ما تلبس هذه الطائافة الصوف إذا هم منسوبون إليه ‪ ،‬قيل ‪:‬‬
‫إن أول من لبس الصوف آدم و حواء عليها السلم ‪ ,‬و كان موسى و عيسى و يحيي عليهم السلم يلبسون الصوف ‪ ،‬و كان نبينا‬
‫صلى ا عليه وسلم أشرف النبياء كان يلبس عباءة كان مقدار ثمنها خمس دراهم و ينبغي أن ل يلبس الصوف إل من صفا من‬
‫كدر النفس ‪ ،‬فقد قال الحسن البصريِ ‪ :‬بلغني أن النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪ " :‬ل تلبسوا الصوف إل و قلوبكم نقية " ‪ ،‬فإنه من‬
‫لبس الصوف على دغل و غش قله جبار السماء فإذا لبسه وجب أن يقوم بوظائاف حروفه ‪ ,‬و هي ثلثة أما وظيفة الصاد فهي‬
‫الصدق و الصفاء و الصيانة و الصبر و الصلح ‪ ،‬و أما وظيفة الواو فهي ‪ :‬الوصلة و الوفاء و الوجد ‪ ،‬و أما وظيفة الفاء فهي‬
‫الفرح و التفجع فلو لبس المرقع و جب عليه أن يؤديِ حق حروفه ‪ ,‬و هي أربعة ‪ :‬فحق الميم المعرفة و المجاهدة و المذلة ‪ ،‬و حق‬
‫الراء ‪ :‬الرحمة و الرأفة و الرياضة و الراحة ‪ ،‬و حق القاف ‪ :‬القناعة و القربة و القوة و البقول الصدق ‪ ،‬و حق العين ‪ :‬العلم و‬
‫العمل و العشق و العبودية ‪ ،‬و قد أمر النبي صلى ا عليه وسلم يلبس المرقع حيث قال لعائاشة رضي ا عنها ‪ " :‬إن سرك‬
‫اللحوق بي فإياك و مجالسة الموتى ول تستبدلي ثوبا حتى ترقعيه " ‪ ،‬انتهى و ا اعلم‬
‫‪239‬‬
‫الرسالة اللدنية‬
‫بسم ا الرحم الرحيم‬
‫الحمد ل الذيِ زين قلوب خواص عباده بنور الولية ‪ ،‬و ربى أرواحهم بحسن العناية ‪ ،‬و فتح باب التوحيد على العلماء العارفين‬
‫بمفاتيح الدراية ‪ ,‬و أصلي و أسام على سيدنا محمد سيد المرسلين صاحب الدعوة و الرعاية ‪ ،‬و دليل المة إلى الهداية ‪ ،‬و على آله‬
‫سكان حرم الحماية ‪.‬‬
‫العلم الغيبي اللدني‬
‫اعلم أن واحدا من أصدقائاي حكى عن بعض العلماء أن أنكر العلم الغيبي اللدني الذيِ يعتمد على خواص المتصوفة ‪ ،‬و ينتمي إليه‬
‫أهل الطريقة ‪ ،‬و يقولون إن العلم اللدني أقوى و أحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعلم ‪ ،‬و حكى أن ذلك المدعى يقول ‪ :‬باني‬
‫ل أقدر على تصوير علم الصوفية ‪ ،‬ل أظن أن أحدا في العالم يتكلم في العلم الحقيقي من فكر وروية تعلم و كسب ‪ ،‬فقلت ‪ :‬كأنه ما‬
‫اطلع على طرق التحصيل ‪ ،‬و ما درى أمر النفس النسانية و صفاتها و كيفية قبولها لثار الغيب و علم الملكوت ‪ ،‬فال صديقي ‪:‬‬
‫نعم إن ذلك الرجل يقول بان العلم هو الفقه و تفسير القرآن و الكلم و حسب ‪ ،‬و ليس وراءها علم و هذه العلوم ل تتحصل إل‬
‫بالتعليم و التفقه ‪ ،‬فقلت ‪ :‬نعم فكيف يعلم علم التفسير فإن القرآن هو البحر المحيط المشتمل على جميع الشياء و ليس جميع معانيه‬
‫و حقائاق تفسيره مذكورة في هذه التصانيف المشهورة بين العوام ‪ ،‬بل التفسير غير ما يعلم ذلك المدعي ‪ ،‬فقال ذلك الرجل ‪ :‬ل يعد‬
‫إل التفاسير المعروفة المذكورة و المنسوبة إلى القشيريِ و الثعلبي و الماورديِ و غيرهم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬لقد بعد عن منهج الحقيقة ‪ /‬فإن‬
‫السلمى جمع شيئاا في التفسير من كلمات المحققين شبه التحقيق ‪ ،‬و تلك الكلمات غير مذكورة في سائار التفاسير ‪ .‬وذلك الرجل‬
‫الذيِ ل يعد العلم إل الفقه و الكلم ‪ .‬و هذا التفسير العامي كأنه ما علم أقسام العلوم و تفاصيلها و مراتبها و حقائاقها و ظواهرها و‬
‫بواطنها ‪ ،‬و قد جرت العادة بان الجاهل بالشيء ينكر ذلك الشيء ‪ ،‬و ذلك المدعي ما ذاق شراب الحقيقة و ما اطلع على العلم‬
‫اللدني فكيف يقر بذلك ‪ ،‬و ل أرضى بإقراره تقليدا أو تخمينا ما لم يعرف ‪ ،‬فقال ذلك الصديق ‪ :‬أريد أن تذكر طرفا من مراتب‬
‫العلوم و تصحيح هذا العلم و تعزيه أنت لنفسك و تقر على إثباته ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إن هذا المطلوب بيانه عسير جدا ‪ ،‬لكن أشرع في‬
‫مقدماته بحسب اقتضاء حالي و موافقة وقتي و ما‬
‫ص ‪240‬‬
‫سنح بخاطريِ‪ ،‬و ل أريد تطويل الكلم فإن خير الكلم ما قل و دل‪ ،‬سألت ا عز وجل التوفيق و العانة و ذكرت مطلوب‬
‫صديقي الفاضل في هذا المفضول‪.‬‬
‫فصل في شرف العلم‬
‫اعلم أن العلم تصور النفس الناطقة المطمئانة حقائاق الشياء و صورها المجردة عن المواد بأعيانها و كيفياتها و كمياتها و‬
‫جواهرها و ذواتها إن كانت مفردة‪ ،‬و العالم هو المحيط المدرك المتصور‪ ،‬و المعلوم هو ذات الشيء الذيِ ينتقش علمه في النفس‪،‬‬
‫و شرف العلم على قدر شرف معلومه‪ ،‬و رتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم‪ ,‬و ل شك أن أفضل المعلومات و أعلها و أشرفها و‬
‫أجيلها هو ا الصانع المبدع الحيق الواحد‪ ،‬فعلمه هو علم التوحيد أفضل العلوم و أجلها و أكملها‪ ،‬و هذا العلم ضروريِ واجب‬
‫تحصيله على جميع العقلء كما قال صاحب الشرع عليه الصلة والسلم‪" :‬طلب العلم فريضة على كل مسلم"‪ .‬أمر بالسفر في‬
‫طلب هذا العلم‪ .‬فقال صلى ا عليه و سلم‪ ":‬اطلبوا العلم و لو بالصين"‪ .‬و عالم هذا العلم أفضل العلماء و بهذا السبب خصهم ا‬
‫اا أداناه لد إهدلده إهلا اهدو دواللدملهئادكاة دوأ الوالولا اللهعللهم( "آل عمران‪ ."18 :‬فعلماء علم التوحيد‬ ‫تعالى بالذكر في أجل المراتب‪ ،‬قال‪) :‬دشههدد ا‬
‫الطلق هم النبياء و بعدهم العلماء الذين ورثوا النبياء‪ ،‬و هذا العلم إن كان شريفا ل في ذاته كاملل في نفسه ل ينفي سائار العلوم بل‬
‫ل يحصل إل بمقدمات كثيرة‪ ،‬و تلك المقدمات ل تنتظم إل من علوم شتى مثل علم السموات و الفلك و علم جميع المصنوعات‪،‬‬
‫و يتولد عن علم التوحيد علوم اأخر كما سنذكر أقسامها في مواضعها‪.‬‬
‫ل‬
‫فاعلم أن العلم شريف بذاته من غير نظر إلى جهة العلوم‪ ،‬حتى أن علم السحر شريف بذاته و إن كان باطل‪ ،‬و ذلك بأن العلم ضد‬
‫الجهل‪ ،‬و الجهل من لوازمه الظلمة‪ ،‬و الظلمة من حيز السكون‪ ،‬و السكون فريب من العدم‪ ،‬و يقع الباطل و ضلله في هذا القسم‪،‬‬
‫فإذا الجهل حكمه حكم العدم‪ ،‬و العلم حكمه حكم الوجود‪ ،‬و الوجود خير من العدم‪ ،‬و الهداية و الحق و النور كلها في سلك الوجود‪،‬‬
‫فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل‪ ،‬فإن الجهل مثل العمى و الظلمة‪ ،‬و العلم مثل البصر و النور‪) ،‬دودما‬
‫ت دول المنوار( "فاطر ‪ ."19،20‬و صرح سبحانه بهذه الشارات فقال‪) :‬قالل دهلل ديلسدتهويِ‬ ‫ديلسدتهويِ الدلعدمى دواللدب ه‬
‫صيار * دول المظلادما ا‬
‫الاهذيدن ديلعدلامودن دوالاهذيدن ل ديلعلامودن( "الزمر‪ ."9:‬فإذا كان العلم خير من الجهل‪ ،‬و الجهل من لوازم الجسم‪ ،‬و العلم من صفات النفس‪،‬‬ ‫د‬
‫و النفس أشرف من الجسم‪ ،‬و للعلم أقسام كثيرة‪ ،‬نحصيها في فصل آخر‪ .‬و للعاهلم في طلب العلم طرق عديدة نذكرها في فصل‬
‫آخر‪ .‬و الن ل يتعين عليك بعد معرفة فضل العلم إل معرفة‬
‫ص ‪241‬‬
‫النفس التي هي لوح العلوم و مقرها و محلها‪ ،‬و ذلك أن الجسم ليس بمحل للعلم لن الجسام متناهية‪ ،‬و ل يتسع لكثرة العلوم بل ل‬
‫يحتمل إل النقوش و الرقوم و النفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة و ل مزاحمة و ملل و زوال‪ ،‬و نحن نتكلم في شرح النفس‬
‫على سبيل الختصار‪.‬‬
‫فصل في شرح النفس و الروح النساني‬
‫اعلم أن ا تعالى خلق النسان من شيئاين مختلفين‪ :‬أحدهما‪ :‬الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون و الفساد المركب المؤلف‬
‫الترابي الذيِ ل يتم أمره إل بغيره‪ ،‬و الخر‪ :‬هو النفس الجوهريِ المفرد المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم لللت و الجسام‪،‬‬
‫و ا تعالى ركب الجسد من أجزاء العذاء و رباه بأجزاء الرماد‪ ،‬و مهد قاعدته و سوى أركانه و عين أطرافه و أظهر جوهر‬
‫النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المفيد‪ .‬و ل أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء‪ ،‬و ل القوة المحركة للشهوة و الغضب‪ ،‬و ل‬
‫القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة‪ ،‬و المبرزة للحس و الحركة من القلب إلى جميع العضاء‪ ،‬فإن هذه القوة تسمى روحا ل‬
‫حيوانيلا‪ ،‬و الحس و الحركة و الشهوة و الغضب من جنده‪ ،‬و تلك القوى الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف يقال لها روحا ل‬
‫طبيعيلا‪ ،‬و الهضم و الدافع من صفاتها‪ ،‬و القوة المصورة و المولودة و النامية و باقي القوة المنطبعة كلها خدام للجسد‪ ،‬و الجسد‬
‫خادم الروح الحيواني لنه يقبل القويِ عنه و يعمل بحسب تحريكه و إنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفرديِ الذيِ ليس من‬
‫شأنه إل التذكر و التحفظ و التفكر و التمييز و الروية‪ ،‬و يقبل جميع العلوم و ل يمل من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد و‬
‫هذا الجوهر رئايس الرواح و أمير القوى‪ ،‬الكل يدمونه و يمتثلون أمره و للنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند كل قوم اسم خاص‪،‬‬
‫فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة‪ ،‬و القرآن تسميه النفس المطمئانة و الروح المريِ‪ ،‬و التصوفة تسمي تسميه القلب‪ ،‬و‬
‫الخلف في السامي و المعنى واحد ل خلف فيه‪ .‬فالقلب و الروح عندنا‪ ،‬و المطمئانة كلها أسامي النفس الناطقة‪ ،‬و النفس الناطقة‪،‬‬
‫هي الجوهر الحي الفعال المدرك‪ ،‬و حيثما نقول الروح المطلق أو القلب فإنما نعني به هذا الجوهر‪ ،‬و المتصوفة يسمون الروح‬
‫الحيواني نفسا ل‪ .‬و الشرع ورد بذلك فقال‪ " :‬أعدى عدوك نفسك"‪ .‬و أطلق الشارع اسم النفس بل أكدها بالضافة‪ ،‬فقال‪" :‬نفسك‬
‫التي بين جنبيك"‪ .‬و إنما أشار بهذه اللفظة إلى القوى الشهوانية و الغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف بين الجنبين‪ ،‬فإذا‬
‫عرفت فرق السامي فاعلم أن الباحثين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبرات مختلفة‪ ،‬و يرون فيه آراء متفاوتة‪ ،‬و المتكلمين‬
‫المعرفين بعلم الجدل يعدون النفس جسملا‪ ،‬و يقولون إنه‬
‫ص ‪242‬‬
‫جسم لطيف بإزاء هذا الجسم الكثيف‪ ،‬و ل يرون الفرق بين الروح و الجسد إل باللطافة و الكثافة و بعضهم يعد الروح عرضلا‪ ،‬و‬
‫بعض الطباء يميل إلى هذا القول‪ ،‬و بعضهم يرى الدم روحا ل و كلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم و ما طلبوا القسم الثالث‪ ،‬و‬
‫اعلم أن القسام ثلثة‪ :‬الجسم و العرض و الجوهر الفرد‪ ،‬فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل موضوع في زجاجة‬
‫القلب أعني ذلك الشكل الصنوبريِ المعلق في الصدر‪ ،‬و الحياة ضوء السراج و الدم رهنه‪ ،‬و الحس و الحركة نوره‪ ،‬و الشهوة‬
‫حرارته‪ ،‬و الغضب دخانه‪ ،‬و القوة الطالبة للغذاء الكائانة في الكبد خادمه و حارسه و وكيله‪ ،‬و هذا الروح ل يهتديِ إلى العلم و ل‬
‫يعرف طريق المصنوع و ل حق الصانع‪ ،‬و إنما هو خادم أسير يموت بموت البدن‪ ،‬لو يزيد الدم ينطفئ ذلك السراج بزيادة‬
‫الحرارة‪ ،‬و لو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة و انطفاؤه سبب موت البدن‪ ،‬و ليس خطاب الباريِ سبحانه و ل تكليف الشارع لهذا‬
‫الروح لن البهائام و سائار الحيوانات غير مكلفين و ل مخاطبين بأحكام الشرع‪ ،‬و النسان إنما يكلف و يخاطب لجل معنى آخر‬
‫وجد عنده زائادال خاصا ل به‪ ،‬و ذلك المعنى هو النفس الناطقة و الروح المطمئانة‪ ،‬و هذا الروح ليس بجسم و ل عرض لنه من أر ا‬
‫ضايلة(‬
‫ضديلة املر ه‬ ‫س اللاملطدمهئااناة * الر ه‬
‫جهعي إهدلى دررَبهك درا ه‬ ‫تعالى كما قال‪) :‬قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( "السراء‪ "85 :‬و قال‪) :‬ديا أداياتدها الانلف ا‬
‫"الفجر‪ ."28 ،27 :‬و أمر الباريِ تعالى ليس بجسم و ل عرض‪ ،‬بل قوة إلهية مثل العقل الول و اللوح و القلم‪ ،‬و هي الجواهر‬
‫المفردة المفارقة للمواد بلهي أضواء مجردة معقولة غير محسوسة‪ ،‬و الروح و القلب بلساننا من قبل تلك الجواهر‪ ،‬و ل يقبل‬
‫الفساد و ل يضمحل و ل يفني و ل يموت‪ ،‬بل يفارق البدن و ينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد في الشرع و قد صح في‬
‫العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة‪ ،‬و الدلئال الواضحة أن الروح الناطق ليس بجسم و ل عرض‪ ،‬بل هو جوهر ثابت دائام غير‬
‫فاسد‪ ،‬و نحن نستغني عن تكرير البرهان و تعديد الدلئال لنها مقررة مذكورة‪ .‬فمن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب الثقة بذلك‬
‫الفن‪ .‬فأما في طريقنا فل يأتي بالبرهان بل نعول على العيان و نعتمد على رؤية اليمان‪ ،‬و لما أضاف ا تعالى الروح إلى أمره و‬
‫حي( "الحجر‪ . "29 :‬و قال‪ ):‬قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( "السراء‪ ."85 :‬و قال‪:‬‬ ‫ت هفيهه همن مرو ه‬ ‫تارة إلى عزته‪ ،‬فقال‪) :‬دودندفلخ ا‬
‫حدنا( " التحريِ‪ ."12 :‬و ا تعالى أجل من أن يضيف إلى نفسه جسما ل أو عرضا ل لخستها و تغيرها و سرعة‬ ‫)دفدندفلخدنا هفيهه همن مرو ه‬
‫زوالهما و فسادهما‪ ،‬و الشارع صلى ا عليه و سلم قال‪ ) :‬ألرواح جنود مجندة"‪ .‬و قال ) أرواح الشهداء في حواصل طيور‬
‫خضر"‪ ،‬و العرض ل يبقى بعد فناء الجوهر لنه ل يقوم بذاته‪ ،‬و الجسم يقبل التحليل‪ ،‬كما قيل‪ :‬التركيب من المادة و الصورة كما‬
‫هو مذكور في‬
‫ص ‪243‬‬
‫الكتب‪ ،‬فلما وجدنا هذه اليات والخبار و البراهين العقلية علمنا أن الروح جوهر فرد كامل حي بذاته يتولد منه صلح الدين و‬
‫فساده‪ ،‬و الروح الطبيعي و الحيواني و جميع القوى البدنية كلها من جنوده‪ ،‬و أن هذا الجوهر يقبل صور المعلومات و حقائاق‬
‫الموجدات من غير اشتغال بأعيانها و أشخاصها‪ ،‬فإن النفس قادرة على أن تعلم حقيقة النسانية من غير أن ترى إنسانا ل كما أنها‬
‫عملت الملئاكة و الشياطين‪ ،‬و ما احتاجت إلى رؤية أشخاصها إذ ل ينالها حواس أكثر الناس‪ ،‬و قال قوم من المتصوفة إن للقلب‬
‫عينا ل كما للجسد‪ ،‬فيرى الظواهر بالعين الظاهرة‪ ،‬و يرى الحقائاق بعين العقل‪ ،‬و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم‪ “ :‬ما من عبد‬
‫إل و لقلبه عينان"‪ ،‬و هما عينان يدرك بهما الغيب‪ ،‬فإذا أراد ا تعالى بعبد خيرال فتح قلبه ليرى ما هو غائاب عن بصره‪ ،‬و هذا‬
‫ضايلة(”الفجر‪ .”28 :‬و إنما هو‬ ‫ضديلة املر ه‬
‫جهعي إهدلى دررَبهك درا ه‬
‫الروح ل يموت بموت البدن لن ا تعالى يدعوه إلى بابه فيقول‪ ) :‬الر ه‬
‫يفارق و يعرض على البدن‪ ،‬فمن أعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية و الطبيعية فيسكن المتحرك فيقال لذلك السكون‪ :‬موت‪،‬‬
‫و أهل الطريقة‪ .‬أعني الصوفية‪ .‬يعتمدون على الروح و القلب أكثر أعتمادال منهم على الشخص‪ .‬و إذا كان الروح من أمر الباريِ‬
‫تعالى فيكون البدن كالغريب‪ ،‬و يكون وجهه إلى أصله و مرجعه‪ .‬فينال الفوائاد من جانب الصل أكثر مما ينال من جهة الشخص‬
‫إذا قويِ و لم يدنس بأدناس الطبيعة‪ .‬و إذا علمت الروح جوهر فرد و علمت أن الجسد لبد له من المكان‪ .‬و العرض ل يبقى إل‬
‫بالجوهر‪ .‬فأعلم أن هذا الجوهر ل يحل في محل و ل يسكن في مكان‪ ،‬و ليس البدن مكان الروح و ل محل القلب‪ ،‬بل البدن آلة‬
‫الروح و أداة القلب و مركب النفس‪ .‬و الروح ذاته غير متصل بأجزاء البدن و ل منفصل عنه‪ ،‬بل هو مقبل على البدن مفيد له‬
‫مفيض عليه‪ ،‬و أول ما يظهر نوره على الدماغ لن الدماغ مظهره الخاص اتخذ من مقدمه حارسا ل‪ .‬و من وسطه وزيرال و مدبرلا‪ ،‬و‬
‫ل‪ ،‬و من البدن‬ ‫من آخره خزانة و خازنلا‪ ،‬و من جمي الجزاء رجالل و ركبانا‪ ،‬و من الروح الحيواني خادملا‪ ،‬و من الطبيعي وكي ل‬
‫ل‪ ،‬و من الحركة تجارة‪ ،‬و من العلم ربحلا‪ ،‬و من الخرة مقصدال و مرجعلا‪ ،‬و‬ ‫مركبلا‪ ،‬و من الدنيا ميدانلا‪ ،‬و من الحياة بضاعة و ما ل‬
‫من الشرع طريقة و منهاجلا‪ ،‬و من النفس المارة حارسا و نقيبا‪ ،‬و من اللوامة منبها‪ .‬و من الحواس جواسيس و أعوانا‪ ،‬و من‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫الدين درعلا‪ ،‬و من العقل أستاذلا‪ ،‬و من الحس تلميذلا‪ ،‬و الرب سبحانه من وراء هذه كلها بالمرصاد‪ ،‬و النفس بهذه لبصفة مع هذه‬
‫اللة ما أقبلت على هذا الشخص الكثيف و ما ايتصلت بذاته بل تنيله الفادة‪ ،‬و وجهها إلى بارئاها و أمر بارئاها بالستفادة إلى أجل‬
‫مسمى‪ ،‬فالروح ل يشتغل في مدة هذا السفر إل بطلب العلم لن العلم يكون حليته في دار الخرة لن حلية المال و البنين زينة‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬فكما أن العين مشغولة برؤية المنظورات‪ ،‬و السمع مواظب على استماع الصوات‪ ،‬و اللسان مستعد‬
‫ص ‪244‬‬
‫لتركيب القوال‪ ،‬و الروح الحيواني مريد اللذات الغضبية‪ ،‬و الروح الطبيعي محب للذائاذ الكل و الشرب‪ ،‬كذلك الروح المطمئانة‪-‬‬
‫أعني القلب‪ -‬ل يريد إل العلم و ل يرضي إل به و يتعلم طول عمره‪ .‬و يتحلى بالعلم جميع أيامه إلى وقت مفاقته‪ ،‬و لو قبل أمرال‬
‫آخر دون العلم فإنما يقبل عليه لمصلحة البدن ل لمراد ذاته و محبة أصله‪ .‬فإذا علمت أحوال الروح و دوام بقائاه و عشقه للعلم و‬
‫شغفه به‪ ،‬فيجب عليك أن تعلم أصناف العلم فإنها كثيرة و نحن نحصيها بالختصار‪.‬‬
‫فصل في أصناف العلم و أقسامه‬
‫أعلم أن العلم على قسمين‪ :‬أحدهما شرعي‪ ،‬و الخر عقلي‪ .‬و أكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها‪ .‬و أكثر العلوم العقلية شرعية‬
‫عند عارفها )دودمن لالم ديلجدعهل ا‬
‫اا دلاه انولرا دفدما دلاه همن منوءر( “النور‪.”40 :‬‬
‫أما القسم الول‪ :‬و هو العلم الشرعي‪ ،‬فينقسم إلى نوعين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬في الصول و هو علم التوحيد‪ .‬و هذا العلم ينظر في ذات ا تعالى و صفاته القديمة‪ ،‬و صفاته الذاتية المتعددة بالسامي‬
‫على الوجه المذكور‪ .‬و ينظر أيضا ل في أحوال النبياء و الئامة من بعدهم و الصحابة‪ .‬و ينظر في أحوال الموت و الحياة و في‬
‫أحوال القيامة و البعث و الحشر و الحساب‪ ،‬و رؤية ا تعالى و أهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولل بآيات ا تعالى من القرآن‪،‬‬
‫ثم بأخبار الرسول صلى ا عليه و سلم ثم بالدلئال العقلية و البراهين القياسية‪ ،‬و أخذوا مقدمات القياس الجدلي و العاديِ و‬
‫لواحقهما من أصحاب المنطق الفلسفي‪ ،‬و وضعوا أكثر اللفاظ في غير مواضعها‪ ،‬و يعبرون في عبارتهم بالجوهر و العرض و‬
‫الدليل و النظر و الستدلل و الحيجة‪ ،‬و يختلف معنى كل لفظ من هذه اللفاظ عند كل قوم حتى الحكماء يعنون بالجوهر شيئالا‪ ،‬و‬
‫الصوفية يعنون شيئاا ل آخر‪ ،‬و المتكلمون شيئالا‪ ،‬و على هذا المثال‪ ،‬و ليس المراد في هذه الرسالة تحقيق معاني اللفاظ على حسب‬
‫أراء القوم‪ ،‬فل نسرع فيها‪ .‬و هؤلء القوم مخصصون بالكلم في الصول و علم التوحيد و لقبهم المتكلمون‪ ،‬فإن اسم الكلم‬
‫اشتهر على علم التوحيد‪ .‬و من علم الصول التفسير‪ ،‬فإن القرآن من أعظم الشياء و أبينها و أجيلها و أعيزها‪ .‬و فيه من المشكلت‬
‫الكثيرة ما ل يحيط بها كل عقل إل من أعطاه ا تعالى فهما ل في كتابه‪ .‬قال رسول ا صلى ا عليه و سلم‪ “ :‬ما من آية من آيات‬
‫القرآن إل و لها ظهر و بطن و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن" و ا تعالى أخبر في القرآن عن جميع العلوم و جلى الموجدات و‬
‫خفيها و صغيرها و كبيرها و محسوسها و معقولها‪ .‬و إلى هذه‬
‫ص ‪245‬‬
‫ب(‬‫ب ممهبيءن( “النعام‪ ”59 :‬و قال تعالى‪) :‬لرَدياداباروا آدياهتهه دولهديدتدذاكدر أ الوالوا الدللدبا ه‬
‫س إهلا هفي هكدتا ء‬
‫ب دولد دياهب ء‬‫الشارة بقوله تعالى )دولد درلط ء‬
‫“ص‪ ”29 :‬و إذا كان من أمر القرآن أعظم المور فأيِ مفسر أدى حقه‪ ،‬و أيِ عالم خرج في عهدته‪ ،‬نعم كل واحد من المفسرين‬
‫شرع في شرحه بمقدار طاقته‪ ،‬و خاض في بيانه بحسب قوة عقله‪ ،‬و قدر كنه علمه‪ ،‬فكلهم قالوا‪ ،‬و بالحقيقة ما قالوا‪ ،‬و علم القرآن‬
‫من وجه اللغة‪ ،‬و من وجه الستعارة‪ ،‬و من وجه تركيب اللفظ‪ ،‬و من وجه مراتب النحو‪ ،‬و من وجه عادة العرب‪ ،‬و من وجه‬
‫أمور الحكماء‪ ،‬و من وجه كلم المتصوفة حتى يقرب تفسيره إلى التحقيق‪ ،‬و لو يقتصر على وجه واحد و يقنع في البيان بفن واحد‬
‫لم يخرج عن عهده البيان‪ ،‬و يتوجه عليه حجة اليمان و إقامة البرهان‪ ،‬و من علم الصول أيضا ل علم الخبار‪ ،‬فإن النبي صلى ا‬
‫عليه و سلم أفصح العرب و العجم‪ ،‬و كان معلما ل يوحى إليه من قبل ا تعالى‪ ،‬و كان عقله محيطا ل بجميع العلويات و السفليات‪،‬‬
‫فكل كلمة من كلماته بل لفظة من ألفاظه يوجد تحتها بحار السرار و كنوز الرموز‪ ،‬فعلم أخباره و معرفة أحاديثه أمر عظيم‪ ،‬و‬
‫خطب جليل‪ .‬ل يقدر أحد أن يحيط بعلم الكلم النبويِ إل أن يهذب نفيه بمتابعة الشارع‪ ،‬و يزيل العوجاج عن قلبه بتقويم شرع‬
‫النبي صلى ا عليه و سلم‪ ،‬و من أراد أن يتكلم في تفسير القرآن و تأويل الخبار و يصيب في كلمه‪ ،‬فيجب عليه أولل تحصيل‬
‫علم اللغة و التبحر في فن النحو‪ ،‬و الرسوخ في ميدان العراب‪ ،‬و التصرف في أصناف التصريف‪ ،‬فإن علم اللغة سلم و مرقاة‬
‫إلى جميع العلوم‪ ،‬و من لم يعلم اللغة فل سبيل له إلى تحصيل العلوم‪ .‬فإن من أراد أن يصعد سطحا ل عليه تمهيد المرقاة أولل ثم بعد‬
‫ذلك يصعد‪ ،‬و علم اللغة وسيلة عظيمة‪ ،‬و مرقاة كبيرة‪ ،‬فل يستغنى طالب العلم عن أحكام اللغة‪ ،‬فعلم اللغة أصل الصول‪ ،‬و أول‬
‫علم اللغة معرفة الدوات‪ ،‬و هي بمنزلة الكلمات المفردة‪ ،‬و بعدها معرفة الفعال مثل الثلثي و الرباعي و غيرهما‪ ،‬و يجب‬
‫اللغويِ أن ينظر في أشعار العرب‪ .‬و أولها و أتقنها أشعار الجاهلية‪ .‬فإن فيها تنقيحا ل للخاطر‪ ،‬و ترويحا ل للنفس و مع ذلك الشعر و‬
‫الدوات و السامي يجب تحصيل علم النحو فإنه لعلم اللغة بمنزلة ميزان القبان للذهب و الفضة‪ .‬و المنطق لعلم الحكمة و‬
‫العروض للشعر‪ ،‬و الذراع للثواب‪ .‬و الكيال للحبوب‪ ،‬و كل شيء ل يوزن بميزان ل يتبين فيه حقيقة الزيادة و النقصان‪ .‬فعلم‬
‫اللغة سبيل إلى علم التفسير و الخبار‪ ،‬و علم القرآن و الخبار دليل على علم التوحيد‪ ،‬و علم التوحيد هو الذيِ ل تنجو نفوس العباد‬
‫إل به و ل تتخلص من خوف المعاد إل به‪ ،‬فهذا تفصيل علم الصول‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬من العلم الشرعي هو علم الفروع‪ .‬و ذلك أن العلم إما أن يكون علميلا‪ ،‬و إما أن يكون عمليلا‪ ،‬و علم الصول هو‬
‫العلمي‪ ،‬و علم الفروع هو العملي‪ ،‬و هذا العلم يشتمل على ثلثة حقوق‪:‬‬
‫ص ‪246‬‬
‫أولها‪ :‬حق ا تعالى و هو أركان العبادات مثل الطهارة و الصلة و الزكاة و الحج و الجهاد و الذكار و العياد و الجمعة و‬
‫زوائادها من النوافل و الفرائاض‪.‬‬
‫و ثانيها‪ :‬حق العباد و هو أبواب العادات و يجريِ في وجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬المعاملة مثل البيع و الشركة و الهبة و القرض و الدين و‬
‫القصاص و جميع أبوب الديات‪ ،‬و الوجه الثاني‪ :‬المعاقدة مثل النكاح و الطلق و العتق و الرق و الفرائاض و لواحقها‪ ،‬و يطلق‬
‫اسم الفقه على هذين الحقين‪ .‬و علم الفقه علم شريف مفيد عام ضروريِ ل يستغنى الناس عنه لعموم الضرورة إليه‪.‬‬
‫و ثالثها‪ :‬حيق النفس‪ ،‬و هو علم الخلق‪ ،‬و الخلق إما مذمومة و يجب رفضها و قطعها‪ ،‬و غما محمودة و يجب تحصيلها و‬
‫تحلية النفوس بها‪ ،‬و الخلق المذمومة و الوصاف المحمودة مشهورة في كتاب ا تعالى و أخبار الرسول صلى ا عليه و سلم‪،‬‬
‫من تخلق بواحد منها دخل الجنة‪.‬‬
‫و أما القسم الثاني‪ :‬من العلم فهو العلم العقلي و علم معضل مشكل بقع فيه خطأ و صواب‪ .‬و هو موضوع في ثلثة مراتب‪:‬‬
‫المرتبة الولى‪ :‬و هو أول المراتب العلم الرياضي و المنطقي‪ .‬أما الرياضي فمنه الحساب و ينظر في العدد و الهندسة و هي علم‬
‫المقادير و الشكال و الهيئاة أعني علم الفلك و النجوم و أقاليم الرض‪ ،‬و ما يتصل بها‪ ،‬و يتفرع عنه علم النجوم و أحكام‬
‫المواليد و الطوالع‪ ،‬و منه علم المسبقي الناظر في الثار‪ ،‬و أما المنطقي فينظر في طريق الحد و الرسم في الشياء التي تدرك‬
‫بالتصور‪ ،‬و ينظر من طريق القياس و البرهان في العلوم التي تنال بالتصديق‪ ،‬و يدور علم المنطق على هذه القاعدة يبتدئ‬
‫بالمفردات ثم بالمركبات‪ ،‬ثم بالقضايا‪ ،‬ثم بالقياس‪ ،‬ثم بأقسام القياس‪ ،‬ثم مطلب البرهان و هو نهاية علم المنطق‪.‬‬
‫المرتبة الثانية‪ :‬و هو أوسطها العلم الطبيعي‪ ،‬و صاحبه ينظر في الجسم المطلق‪ ،‬و أركان العالم و في الجواهر و العراض‪ ،‬و في‬
‫الحركة و السكون‪ ،‬و في أحوال السموات و الشياء الفعلية و النفعالية‪ ،‬و يتولد من هذا العلم النظر في أحوال مراتب الموجدات و‬
‫أقسام النفوس و المزجة‪ ،‬و كمية الحواس‪ ،‬و كيفية إدراكها لمحسوستها‪ ،‬ثم يؤديِ إلى النظر في علم الطب و هو علم البدان و‬
‫العلل و الدوية و المعالجات و ما يتعلق بها‪ ،‬و من فروعه علم الثار العلوية‪ ،‬و علم المعادن‪ ،‬و معرفة خواص الشياء‪ ،‬و ينتهي‬
‫غلى علم صنعة الكيمياء و هي معالجة الجساد المريضة في أجواف المعادن‪.‬‬
‫المرتبة الثالثة‪ :‬و هي العليا‪ ،‬و هي النظر في الموجود‪ ،‬ثم تقسيمه إلى الواجب و الممكن‪ ،‬ثم النظر في الصانع و ذاته و جميع‬
‫صفاته و أفعاله و أمره و حكمه و قضائاه و ترتب‬
‫ص ‪247‬‬
‫ظهور الموجدات عنهن ثم النظر في العلويات و الجواهر المفردة و العقول المفارقة و النفوس الكاملة‪ ،‬ثم النظر في أحوال‬
‫الملئاكة و الشياطين‪ ،‬و ينتهي إلى علم النبوات و أمر المعجزات و أحوال الكرامات‪ ،‬و النظر في أحوال النفوس المقدسة و حال‬
‫النوم و اليقظة و مقامات الرؤيا‪ ،‬و من فروعه علم الطلسمات و النبرنجات و ما يتعلق بها‪ ،‬و لهذه العلوم تفاصيل و أعراض و‬
‫مراتب‪ ،‬تحتاج إلى شرح جلي ببرهان بهي و لكن القتصار أولى‪.‬‬
‫فصل في علم الصوفية‬
‫اعلم أن العلم العقلي مفرد بذاته و يتولد منه علم مركب يوجد فيه جميع أحوال العلمين المفردين‪ ،‬و ذلك العلم المركب علم‬
‫الصوفية‪ ،‬و طريقة أحوالهم‪ ،‬فإن لهم علما ل خاصا ل بطريقة واضحة مجموعة من العلمين و علمهم يشتمل على الحال‪ ،‬و الوقت و‬
‫السماع‪ ،‬و الوجد و الشوق‪ ،‬و السكر و الصحو‪ ،‬و الثبات‪ ،‬و المحو‪ ،‬و الفقر‪ ،‬و الفناء‪ ،‬و الولية‪ ،‬و الرادة‪ ،‬و الشيخ‪ ،‬و المريد‪ ،‬و‬
‫ما يتعلق بأحوالهم مع الزوائاد و الوصاف و المقامات‪ .‬و نحن نتكلم في هذه العلوم و أصنافها في هذه الرسالة‪ ،‬و قد اختصرناها و‬
‫عددناها على طريق الختصار و اليجاز‪ ،‬و من أراد الزيادة و شرح هذه العلوم فليرجع إلى مطالعة الكتب‪ ،‬و لما انتهى الكلم في‬
‫بيان تعديد أصناف العلوم‪ ،‬فاعلم أنت يقينا ل أن كل فن من هذه الفنون‪ ،‬و كل علم من هذه العلوم‪ ،‬يستدعي عدة شرائاط لينتقش في‬
‫نفوس الطالبين‪ ،‬فبعد تعديد العلوم يجب عليك أن تعرف طرق التحصيل فإن لتحصيل العلم طرقا ل معينة نحن نفصلها) إن شاء ا(‪.‬‬
‫فصل في بيان التحصيل للعلوم‬
‫اعلم أن العلم النساني يحصل من طريقين‪ ،‬أحدهما‪ :‬التعليم النساني‪ ،‬و الثاني‪ :‬التعليم الرباني‪.‬‬
‫أما الطريق الول‪ :‬فطريق معهود‪ ،‬و مسلك محسوس‪ ،‬يقر به جميع العقلء‪ ،‬و أما التعليم الرباني فيكون على وجهين‪ ،‬أحدهما‪:‬‬
‫من خارج و هو التحصيل بالتعليم‪ ،‬و الخر‪ :‬من الداخل و هو الشتغال بالتفكر‪ ،‬و التفكر من الباطن بمنزلة التعلم في الظاهر‪ ،‬فإن‬
‫التعلم أستفادة الشخص من الشخص الجزئاي‪ ،‬و التفكر أستفادة النفس من النفس الكلي‪ ،‬و النفس الكلي أشد تأثيرال و أقوى من جميع‬
‫العلماء و العقلء‪ ،‬و العلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الرض‪ ،‬و الجوهر في قعر البحر‪ ،‬أو في قلب المعدن‪ ،‬و‬
‫التعلم هو‬
‫ص ‪248‬‬
‫طلب خروج ذلك الشيء من القوة إلى الفعل‪ .‬و التعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل‪ ،‬فنفس المتعلم تتشبه بنفس المعلم و تتقرب‬
‫إليه بالنسبة‪ ،‬فالعالم بالفادة كالزارع و المتعلم بالستفادة كالرض‪ .‬و العلم الذيِ هو بالقوة كالبذر‪ ،‬و الذيِ بالفعل كالنبات فإذا‬
‫كملت نفس المتعلم تكون كالشجرة المثمرة أو كالجوهر الخارج من قعر البحر‪ ،‬و إذا غلبت القوة البدنية على النفس يحتاج المتعلم‬
‫إلى زيادة التعلم و طول المدة‪ ،‬و تحمل المشقة و التعب و طلب الفائادة‪ ،‬و إذ غلب نور العقل على أوصاف الحس ستغنى الطالب‬
‫بقليل من التفكر عن كثرة التعلم‪ ،‬فإن نفس القابل تجد من الفوائاد بتفكر ساعة ما ل تجد نفس الجامد بتعلم سنة‪ ،‬فإذن بعض الناس‬
‫يحصلون العلوم بالتعلم و بعضهم بالتفكر‪ ،‬و التعلم يحتاج إلى التفكر‪ ،‬فإن النسان ل يقدر أن يتعلم جميع الشياء الجزئايات و‬
‫الكليات و جميع المعلومات‪ ،‬بل يتعلم شيئاا ل و يستخرج بالتفكر من العلوم شيئاا ل و أكثر العلوم النظرية و الصنائاع العلمية استخرجها‬
‫نفوس الحكماء بصفاء ذهنهم‪ ،‬و قوة فكرهم‪ ،‬و حدة حدسهم من غير زيادة تعلم و تحصيل‪ ،‬و لول أن النسان يستخرج بالتفكر‬
‫شيئالا‪ ،‬من معلومه الول لكان يطول المر على الناس و لما كانت تزول ظلمة الجهل عن القلوب لن النفس ل تقدر أن تتعلم جميع‬
‫مهماتها الجزئاية و الكلية بالتعليم‪ ،‬بل بعضها بالتحصيل و بعضها بالنظر كما يرى عادات الناس‪ ،‬و بعضها يستخرج من ضميره‬
‫بصفاء فكره‪ ،‬و على هذا جرت عادة العلماء و تمهدت قواعد العلوم‪ .‬حتى أن المهندس ل يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول‬
‫عمره‪ ،‬بل يتعلم كليات علمه و موضوعاته‪ ،‬ثم بعد ذلك يستخرج و يقيس‪ .‬و كذلك الطبيب ل يقدر أن يتعلم جزئايات أدواء‬
‫الشخاص و أدويتهم بل يتفكر في معلوماته الكلية‪ .‬و يعالج كل شخص بحسب مزاجه‪ .‬و كذلك المنجم يتعلم كليات النجوم ثم يتفكر‬
‫و يحكم بالحكام المختلفة‪ .‬و كذلك الفقيه و الديب‪ .‬و هكذا إلى بدائاع الصنائاع فواحد وضع آلة الضرب و هو العود بتفكره‪ ،‬و آخر‬
‫استخرج من تلك اللة آلة أخرى‪ .‬و كذلك جميع الصنائاع البدنية و النفسانية أوائالها محصلة من التعلم و البواقي مستخرجة من‬
‫التفكر‪ ،‬و إذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر و كيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب فيشرح قلبه و تنفتح‬
‫بصيرته فيخرج ما في نفسه من القوة إلى الفعل من غير زيادة طلب و طول تعب‪.‬‬
‫الطريق الثاني‪ :‬و هو التعليم الرباني على وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬إلقاء الوحي و هو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة و درن الحرص و المل الفانية‪ .‬و تقبل بوجهها على‬
‫بارئاها و منشئاها و تتمسك بجود مبدعها و تعتمد على إفادته و فيض نوره‪ ،‬و ا تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالل‬
‫كليا ل‪ .‬و ينظر إليها نظرال إلهيا ل و يتخذ منها لوحا ل‪ .‬و من النفس الكلي قلما ل و ينقش فيها جميع‬
‫ص ‪249‬‬
‫علومه‪ ،‬و يصير العقل الكلي كالمعلم‪ ،‬و يصير العقل الكلي كالمعلم‪ ،‬و النفس القديسة كالمتعلم‪ ،‬فيحصل جميع العلوم لتلك النفس و‬
‫ينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم و تفكر‪ ،‬و مصداق هذا قوله تعالى لنبيه صلى ا عليه و سلم‪) :‬دودعلادم د‬
‫ك دما لدلم دتاكلن دتلعلدام( “‬
‫النساء‪ ”113 :‬الية‪ .‬فعلم النبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلئاق لن محصوله عن ا تعالى بل واسطة و وسيلة‪ ،‬و بيان‬
‫هذا يوجد في قصة آدم عليه السلم و الملئاكة‪ ،‬فإنهم تعلموا طول عمرهم‪ ،‬و حصلوا بفنون الطرق كثيرال من العلوم حتى صاروا‬
‫أعلم المخلوقات و أعرف الموجدات‪ ،‬و آدم عليه السلم ما كان عالما ل لنه ما تعلم و ما رأى معلما ل فتفاخرت الملئاكة و تجبروا و‬
‫ك( “البقرة‪ .”30 :‬و نعلن حقائاق الشياء‪ ،‬فرجع آدم عليه السلم إلى باب خالقه‪ ،‬و‬ ‫س دل د‬ ‫ك دواندقرَد ا‬‫تكبروا فقالوا‪) :‬دودنلحان اندسرَباح هبدحلمهد د‬
‫د‬ ‫ل‬
‫ضاهلم دعلى الدملهئاكهة(“البقرة‪.”31 :‬‬ ‫د‬ ‫ا‬
‫أخرج قلبه عن جملة المكونات و أقبل بالستعانة على الرب تعالى فعلمه جميع السماء‪) :‬ثام دعدر د‬
‫صاهدهقيدن(“البقرة‪ .”31 :‬فصغر حالهم عند آدم‪ .‬و قل علمهم و انكسرت سفينة جبروتهم‬ ‫) دفدقادل دأنهبائاوهني هبأ دلسدماء دهاؤلء هإن اكناتلم د‬
‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫ك لد هعلدم دلدنا إهل دما دعللمدتدنا(” البقرة‪ .”32:‬فقال تعالى‪ ) :‬ديا آددام أنهبئااهم هبألسدماهئاههلم( “البقرة‪.”33 :‬‬ ‫فغرقوا في بحر العجز )دقاالولا اسلبدحادن د‬
‫فأنبأهم أدم عليه السلم عدة مكونات العلم و مستترات المر‪ ،‬فتقرر المر عند العقلء أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى و‬
‫أكمل من العلوم المكتسبة‪ ،‬و صار علم الوحي إرث النبياء و حيق الرسل‪ ،‬و أغلق ا باب الوحي من عهد سيدنا محمد صلى ا‬
‫عليه و سلم‪ ،‬و كان رسول ا صلى ا عليه و سلم و خاتم النبين‪ ،‬و كان أعلم الناس و أفصح العرب و العجم و كان يقول‪) :‬أدبني‬
‫ربي فأحسن تأديبي(‪ ،‬و قال لقومه‪ ) :‬أنا أعلمكم و أخشاكم من ا تعالى(‪ ،‬و إنما كان علمه أكمل و أشرف و أقوى لنه حصل عن‬
‫التعليم الرباني‪ ،‬و ما اشتغل قط بالتعليم و التعليم النساني‪ .‬قال تعالى‪) :‬دعلادماه دشهدياد اللقادوى( “النجم‪.”5 :‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬هو اللهام‪ ،‬و اللهام نبيه النفس الكلية للنفس الجزئاية النسانية على قدر صفائاها و قبولها و قوة استعدادها و اللهام‬
‫أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح المر الغيبي و اللهام يسمى علما ل لدنييلا‪ ،‬و العلم اللدني هم الذيِ ل واسطة في حصوله بين‬
‫النفس و بين الباريِ‪ ،‬و إنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على القلب صاف فارغ لطيف‪ ،‬و ذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة‬
‫في جوهر النفس الكلية الولى الذيِ هو في الجواهر المفارقة الولية المحضة بالنسبة إلى العقل الول كنسبة حواء إلى آدم عليه‬
‫السلم‪ .‬و النفس الكلية أعز و ألطف و أشرف من سائار المخلوقات فمن إفاضة العقل الكلي يتولد اللهام و من إشراق النفس‬
‫ص ‪250‬‬
‫الكلية يتولد اللهام‪ ،‬فالوحي حلية النبياء واللهامزينة الولياء‪ .‬فأما علم الوحي فكما أن النفس دون العقل فالولي دون النبي فكذلك‬
‫اللهام دون الوحي فهو ضعيف بنسبة الوحي قويِ بإضافة الرؤيا والعلم علم النبياء والولياء‪ .‬فأما علم الوحي فخاض بالرسل‬
‫موقوف عليهم كما كان لدم وموسى عليهما السلم وإبراهيم ومحمد صلى ا عليهما وسلم وغيرهم من الرسل‪ ،‬وفرق بين‬
‫الرسالة والنبوة‪ .‬فالنبوة قبول النفس القدسية حقائاق المعلومات والمعقولت إلى المستفيدين والقابلين‪ ،‬وربما يتفق القبول لنفس من‬
‫النفوس ول يتأتى لها التبليغ لعذر من العذار وسبب من السباب‪ ،‬والعلم اللدني يكون لهل النبوة والولية كما كان للخضر عليه‬
‫السلم حيث أخبر ا تعالى عنه‪ ،‬فقال‪} :‬دودعلالمدناها همن لاادانا هعلللما{ ]الكهف‪ .[65 :‬وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم ا‬
‫وجهه‪" :‬أدخلت لساني في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم مع كل باب ألف باب"‪ ،‬وقال‪" :‬لو وضعت لي وسادة وجلست‬
‫عليها لحكمت لهل التوراة بتوراتهم‪ ،‬ولهل النجيل بإنجيلهم‪ ،‬ولهل القرآن بقرآنهم"‪ .‬وهذة مرتبة ل تنال بمجرد التعلم‬
‫ضا رضي ا عنه يحكي عن عهد موسى عليه السلم أن شرح‬ ‫النساني‪ ،‬بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني‪ ،‬وقال أي ل‬
‫كتابه أربعون حملل فلو يأذن ا في شرح معاني الفاتحة لشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك‪ ،‬يعني أربعين وقلرا‪ ،‬وهذه الكثرة والسعة‬
‫والنفتاح في العلم ل يكون إل لدنلييا إلهلييا سماولييا‪ .‬فغذا أراد ا بعبد خيلرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هو اللوح‪ ،‬فيظهر‬
‫فيها أسرار بعض المكنونات وانتقش فيها معاني تلك المكنونات فتعبر النفس عنها كما تشاء من عباده وحقيقة الحكمة تنال من العلم‬
‫ت الل ه‬
‫حلكدمدة‬ ‫اللدني وما ل يبلغ النسان هذه المرتبة ل يكون حكيلما لن الحكمة من مواهب ا تعالى‪} :‬ايلؤهتي الل ه‬
‫حلكدمدة دمن ديدشاء دودمن ايلؤ د‬
‫ب{ ]البقرة‪ .[269 :‬وذلك لن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة‬ ‫دفدقلد اأوهتدي دخليلرا دكهثيلرا دودما دياذاكار إهلا أ الوالولا الدللدبا ه‬
‫التحصيل وتعب التعليم فيتعلمون قليلل ويعلمون كثيلرا ويتعبون يسيلرا ويستريحون طويل‪.‬‬
‫ل‬
‫واعلم أن الوحي إذا انقطع‪ .‬وباب الرسالة إذا انسد استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحيجة وتكميل الدين‪ ،‬كم‬
‫ت دلاكلم هديدناكلم{ ]المائادة‪ .[3 :‬وليس من الحكمة إظهار زيادة الفائادة من غير حاجة‪ .‬فأما باب اللهام فل ينسد‪،‬‬ ‫قال تعالى‪} :‬اللديلودم أدلكدملل ا‬
‫ومدد نور النفس الكلية ل ينقطع لدوام ضرورة النفس وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير‪ ،‬وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة‬
‫والدعوة واحتاجوا غلى التذكير والتنبيه لستغراقهم في هذه الوساوس وانهماكهم في هذه الشهوات فال تعالى أغلق باب الوحي‬
‫وهو آية العباد وفتح باب اللهام رحمة وهيأ المور‪ .‬ورتب المراتب لعلموا أن ا لطيف بعباده يرزق من يشاء بغير حساب‪.‬‬
‫ص ‪251‬‬
‫فصل في مراتب النفوس في تحصيل العلوم‬
‫اعلم ان العلوم مركوزة في جميع النفوس النسانية وكلها قابلة لجميع العلوم وإنما يفوت نفلسا من النفوس حظها منه بسب طارئ‬
‫وعارض يطرأ عليها من خارج‪ ،‬كما قال النبي صلى ا عليه وسلم‪" :‬خلق الناس حنفاء فاختالتهم الشياطين"‪ .‬وقال صلى ا عليه‬
‫وسلم‪" :‬كل مولود يولد على الفطرة" الحديث‪ .‬فالنفس الناطقة النسانية أهل لشراق الكلية عليها ومستعدة لقبول الصور المعقولة‬
‫عنها بقوة طهارتها الصلية وصفاتها‪ ،‬ولكن يمرض بعضها في هذه الدنيا‪ .‬ويمتنع عن إدراك الحقائاق بأمراض مختلفة وأعراض‬
‫شتى‪ ،‬ويبقى بعضها على الصحة الصلية بل مرض وفساد‪ .‬يقبل أبلدا ما دامت حية‪ ،‬والنفوس الصحيحة هي النفوس النبوية القابلة‬
‫للوحي والتأييد القادرة على إظهار المعجزة والتصرف في عالم الكون والفساد‪ ،‬فإن تلك النفوس باقية على الصحة الظاصلية‪ ،‬وما‬
‫تغيرت أمزجتها بفساد المراض وعلل العراض أنصار النبياء أطباء النفوس ودعاة الخلق إلى صحة الفطرة‪.‬‬
‫وأما النفوس المريضة في هذه الدنيا الدنيئاة فصارت على مراتب‪ ،‬بعضهم تأثر بمرض المنزل تأثيلرا ضعيلفا‪ .‬ودق غمام النسيان‬
‫في خواطرهم فيشتغلون بالتعيلم‪ .‬ويطلبون الصحة الصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة‪ ،‬وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر‬
‫وبعضهم يتعلمون طول عمرهم وشتغلون بالتعليم ويطلبون الصحة الصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة‪ .‬وينقشع غمام نسيانهم‬
‫بأقل تذكر وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتحصي والتصحيح جميع أيامهم‪ ،‬ول يفهمون شيلئاا لفساد أمزجتهم‪ ،‬لن‬
‫المزاج إذا فسد ل يقبل العلج‪ ،‬وبعضهم يتذكرون وينسون ويرتاضون ويذلون أنفسهم ويجدون نولرا قليلل وإشرالقا ضعيلفا‪ ،‬وهذا‬
‫التفاوت إنما ظهر من إقبال النفوس على الدنيا واستغراقها بحسب قوتها وضعفها كالصحيح إذا مرض‪ ،‬والمريض إذا صح‪ ،‬وهذه‬
‫العقدة إذا انحلت تقر النفوس بوجود العلم اللدني وتعلم أنها عالمة في أول الفطرة وصافية في ابتداء الختراع‪ ،‬وإنما جهلت لنها‬
‫مرضت بصحبة هذا الجسد الكثيف‪ ،‬والقامة في هذا المنزل الكدر والمحل المظلم وأنها ل تطلب بالتعلم إيجاد العلم المعدوم‪ .‬ول‬
‫إبداع العقل المفقود‪ ،‬بل إعادتها العلم الصلي الغزيريِ وإزالة طريان المرض بإقبالها على زينة الجسد وتمهيد قاعدته ونظم‬
‫أساسه‪ ،‬والب المحب المشفق على ملده إذا أقبل على رعاية الولد‪ ،‬واشتغل بمهماته ينسى جميع المور ويكتفي بأمر واحد وهو‬
‫أمر الولد‪ ،‬فالنفس لشدة شغفها وشفقتها أقبلت على هذا الهيكل واشتغلت بعمارته ورعايته والهتمام بمصالحه‪ ،‬واستغرقت في بحر‬
‫الطبيعة بسبب ضعفها وجزئايتها فاحتاجت في أثناء العمر ظغلى التعلم طللبا لتذكار ما قد نسيت‪،‬‬
‫ص ‪252‬‬
‫وطملعا في وجدان ما قد فقدت وليس التعلم إل رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في ضميرها إلى الفعل طللبا لتكميل ذاتها‬
‫ونيل سعادتها‪ ،‬وإذا كانت النفوس ضعيفة ل تهتديِ إلى حقيقة جوهريتها تتمسك وتعتصم بمعلم مشفق عالم وتستغيث به ليعينها‬
‫على طلب مرادها ومأمولها كالمريض الذيِ يكون جاهلل بمعالجته ويعلم أن الصحة الشريفة محمودة مطلوبة‪ .‬فيرجع إلى طبيب‬
‫مشفق‪ ،‬ويعرض حاله عليه ويأوى إليه ليعالجه ويزيل عنه مرضه‪ .‬وقد رأينا عاللما يمرض بمرض خاص كارأس والصدر‬
‫فتعرض نفسه عن جميع العلوم وينسى معلوماته وتبتبس عليه ويستتر في حافظته وذاكرته جميع ما حصل في سابق عمره‬
‫وماضي أيامه‪ .‬فإذا صح عاد الشفاء إليه يزول النسيان عنه وترجع النفس إلى معلوماتها فتتذكر ما قد نسيت في أيام المرض‪،‬‬
‫فعلمنا أن العلوم ما فنيت وإنما نسيت وفرق بين المحو والنسيان بالناس فإن المحو فناء النقوش والرسوم‪ ،‬والنسيان التباس النقوش‬
‫فيكون كالغمام أو السحاب الساتر لنور الشمس عن أبصار الناظرين ل كالغروب الذيِ هو انتقال الشمس من فوق الرض إلى‬
‫أسفل‪ .‬فاشتغال النفس بالتعليم هو إزالة المرض العارض عن جوهر النفس لتعود إلى ما علمت في أول الفطرة وعرفت في بدء‬
‫الطهارة‪ .‬فإذا عرفت السبب والراد من التعليم وحقيقة النفس وجوهرها فاعلم أن النفس المريضة تحتاج إلى التعليم وإنلفا قال العمر‬
‫في تحصيل العلوم‪ .‬فأما النفس التي يخف مرضها وتكون علتها ضعيفة وشرها مقيلقا وغمامها رقيلقا ومزاجها صحيلحا‪ ،‬فل تحتاج‬
‫إلى زيادة تعلم وطول تعب بل يكفيها أدنى نظر وتفكر لنها ترجع به إلى أصلها‪ ،‬وتقبل على بدايتها وحقيقتها وتطلع على مخفياتها‬
‫فيخرج ما فيها من القوة إلى الفعل ويصير ما هو مركوز فيها حلية لها فيتم أمرها ويكمل شأنها وتعلم أكثر الشياء في أقل اليام‬
‫وتعبر عن المعلومات بحسن النظام‪ ،‬وتصبر عالمة كاملة متكلمة تستضئ بإقبال على النفس الكلية وتفيض باستقبال على النفس‬
‫الجزئاية وتتشبه من طريق العشق بالصل‪ .‬وتقطع عرق الحسد وأصل الحقد وتعرض عن فضول الدنيا وزخرفها‪ ،‬وإذا وصلت‬
‫إلى هذه المرتبة فقد علمت ونجت وفازت‪ ،‬فهذا هو المطلوب لجميع الناس‪.‬‬
‫فصل في حقيقة اللدني وأسباب حصوله‬
‫س دودما دساوادها{ ]الشمس‪ .[7 :‬وهذا الرجوع‬ ‫اعلم أن العلم اللدني وهو سريان نور اللهام يكون بعد التسوية كما قال ا تعالى‪} :‬دودنلف ء‬
‫يكون بثلثة أوجه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الوفر من أكثرها‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة‪ ،‬فإن النبي صلى ا عليه وسلم أشار إلى هذه‬
‫ص ‪253‬‬
‫الحقيقة‪ ،‬فقال‪" :‬من عمل بما علم أورثه ا علم ما لم يعمل"‪ .‬وقال صلى ا عليه وسلم‪" :‬من أخلص ل أربعين أظهر ا تعالى‬
‫ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬التفكر‪ ،‬فإن النفس إذا تعلمت واتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط الفكر ينفتح عليها باب الغيب كالتاجر الذيِ‬
‫يتصرف في ماله بشرط التصرف ينفتح عليه أبواب الربح‪ ،‬وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران‪ ،‬فالمتفكر إذا سلك‬
‫سبيل الصواب يصير من ذويِ اللباب‪ ،‬وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيضير عالل كاملل عاقلل ملهلما مؤيلدا‪ ،‬كما قال‬
‫صلى ا عليه وسلم‪" :‬تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"‪ .‬وشرائاط التفكر نحصيها في رسالة أخرى إذ بيان التفكر وكيفيته‬
‫وحقيقته أمر مبهج يحتاج إلى زيادة شرح وتفسير بعون ا تعالى‪ .‬والن نختم هذه الرسالة‪ ،‬فإن في هذه الكلمات كفاية لهلها‪:‬‬
‫اا دلاه انولرا دفدما دلاه همن منوءر{ ]النور‪ .[40 :‬وا ولي المؤمنين وعليه التكلن‪ ،‬وصلى ا على سيدنا محمد وآله‬ ‫}دودمن لالم ديلجدعهل ا‬
‫وصحبه وسلم وحسبنا ا ونعم الوكيل‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم‪ ،‬وبه ثقتي في كل آن وحين والحمد ل رب العالمين‪.‬‬
‫فصل التفرقة‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الرسالة‬
‫قال المام العالم العامل أبو حامد محمد بن محمد الغزالي رحمة ا عليه‪ :‬أحمد ا تعالى استسللما لعزته واستتمالما لنعمته‪،‬‬
‫واستغنالما لتوفيقه ومعونته وطاعته‪ ،‬واستعصالما من خذلنه ومعصيته‪ ،‬واستدرالرا لسوابغ نعمته وأصلي على محمد عبده ورسوله‬
‫وخير خليقته‪ ،‬انقيالدا لنبوته‪ ،‬واستجللبا لشفاعته‪ ،‬وقضالء لحق رسالته‪ ،‬واعتصالما بيمين سريرته ونقيته‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫وعترته‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإني رأيتك أيها الخ المشفق‪ ،‬والصديق المتعصب موغر الصدر‪ ،‬منقسم الفكر لما فرغ سمعك من طعن طائافة من‬
‫الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملت الدين‪ ،‬وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الصحاب المتقدمين‪ ،‬والمشايخ‬
‫المتكلمين‪ ،‬وأن العدول على مذهب الشعريِ ولو في قيد شبر كفر واهجرهم هجلرا جميلل‪ ،‬واستحقر من ل يحسد ول يقذف‪،‬‬
‫واستصغر من بالكفر أو الضلل ل يعرف فأيِ داع أكمل وأقل من سيد المرسلين صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وقد قالوا‪ :‬إنه مجنون من‬
‫المجانين‪ ،‬وأيِ كلم أجل وأصدق‬
‫ص ‪254‬‬
‫من كلم رب العالمين‪ ،‬وقد قالوا‪ :‬إنه أساطير الوليين‪ ،‬وإياك أن تشتغل بخصامهم وتطمع في إفحامهم فتطمع في غير مطمع‪،‬‬
‫وتصوت في عير مسمع‪ ،‬أما سمعت ما قيل‪:‬‬
‫كل العداة قد ترجى سلمتها‬
‫إل عداوة من عاداك عن حسد‬
‫ك إهلعدرا ا‬
‫ضاهلم‬ ‫ولو كان فيه مطمع لحد من الناس‪ ،‬لما تلى على أجلهم رتبة آيات اليأس‪ ،‬أو ما سمعت قوله تعالى‪} :‬دوهإن دكادن دكابدر دعدللي د‬
‫اا دلدجدمدعاهلم دعدلى اللاهددى دفلد دتاكودنان همدن اللدجاهههليدن{‬ ‫ض أدلو اسلالما هفي الاسدماء دفدتألهتدياهم هبآديءة دودللو دشاء ا‬ ‫ت دأن دتلبدتهغدي دندفلقا هفي الدلر ه‬
‫دفإههن السدتدطلع د‬
‫صااردنا دبلل دنلحان دقلوسم‬ ‫ت أدلب د‬
‫]النعام‪ .[35 :‬وقوله تعالى‪} :‬دودللو دفدتلحدنا دعدلليههم دبالبا رَمدن الاسدماء دفدظملولا هفيهه ديلعاراجودن * دلدقاالولا إهاندما اسرَكدر ل‬
‫س دفدلدماسوها هبأ دليهديههلم دلدقادل الاهذيدن دكدفارولا إهلن دهدذا إهلا هسلحسر‬
‫ك هكدتالبا هفي هقلردطا ء‬ ‫املساحوارودن{ ]الحجر‪ .[15 ،14 :‬وقوله تعالى‪} :‬لو دنازللدنا دعدللي د‬
‫ممهبيسن{ ]النعام‪ .[7 :‬وقوله تعالى‪} :‬دودللو أداندنا دنازللدنا إهدلليههام اللدملهئادكدة دودكلادماهام اللدملودتى دودحدشلردنا دعدلليههلم اكال دشليءء قاابلل اما دكاانولا لهايلؤهمانولا إهلا‬
‫اا دودلهكان أدلكدثدراهلم ديلجدهالودن{ ]النعام‪ .[111 :‬واعلم أن الفكر واليمان وحدهما‪ ،‬والحق والضلل وسرهمان ل ينجلي‬ ‫دأن ديدشاء ا‬
‫ل‬
‫للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما‪ ،‬بل إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار النيا أول‪ ،‬ثم ثقلت‬
‫بالرياضة الكاملة ثانليا‪ ،‬ثم نورت بالذكر الصافي ثاللثا‪ ،‬ثم عذبت بالفكر الصائاب رابلعا‪ ،‬ثم زينت بملزمة حدود الشرع خاملسا‪،‬‬
‫حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة‪ ،‬وصارت كأنها مرآة مجلوة‪ ،‬وصار مصباح اليمان في زجاجة قلبه مشرق النوار‪ ،‬يكاد‬
‫زيته يضيء ولو لم تمسسه نار‪ .‬وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم ومعبودهم سلطينهم‪ ،‬وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم‪،‬‬
‫وشريعتهم رعونتهم‪ ،‬وإرادتهم جاههم وشهواتهم‪ ،‬وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم‪ ،‬وذكرهم وساوسهم‪ ،‬وكنزهم سواسهم‪ ،‬وفكرهم‬
‫استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم‪ ،‬فهؤلء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء اليمان‪ ،‬أبإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن‬
‫كدورات الدنيا لقبولها أم بكمال علمي‪ ،‬وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النحاسية وماء الغفران وأمثالهما؟ هيهات هيهات هذا‬
‫ض دعن امن دتدوالى‬ ‫المطلب أنفس أعز من أن يدرك بالمنى‪ ،‬أو ينال بالهوينا؟ فاشتغل أنت بشأنك ول تضيع فيهم بقية زمانك‪} :‬دفأ دلعهر ل‬
‫ضال دعن دسهبيلههه دواهدو أدلعدلام هبدمهن الهدتددى{ ]النجم‪،29 :‬‬ ‫ك اهدو أدلعدلام هبدمن د‬‫ك دملبدلاغاهم رَمدن اللهعللهم إهان دراب د‬ ‫دعن هذلكهردنا دودللم ايهرلد إهلا اللدحديادة المدلنديا * دذله د‬
‫‪.[30‬‬
‫ص ‪255‬‬
‫فصل في حقيقة الحفر واليمان‬
‫فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك‪ ،‬وصدر من هو في حالك‪ ،‬ممن ل تحركه غواية الحسود‪ ،‬ول تقيده عماية‬
‫التقليد‪ ،‬بل تعطشه إلى الستبصار لحزازة إشكال آثارها فكر‪ ،‬وهيجها نظر‪ ،‬فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحد الكفر فإن زعم‬
‫أن حد الكفر ما يخالف مذهب الشعريِ ومذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غير بليد‪ ،‬قد قيده التقليد فهو أعمى‬
‫من العميان‪ ،‬فل تضيع بإصلحه الزمان‪ ،‬وناهيك حجة في إفحامه‪ ،‬مقابلة دعواه بدعوى خصومه‪ ،‬إذ ل يجد بين نفسه وبين سائار‬
‫المقلدين المخالفين له فرلقا وفصلل‪ ،‬ولعل صاحبه يميل من سائار المذاهب إلى الشعريِ‪ ،‬ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر‬
‫كفر من الكفر الجلي‪ ،‬فاسأله من أين يثبت له أن يكون الحق وفلقا عليه حتى قصى بكفر الباقلني إذا خالفه في صفة البقاء ل تعالى‪،‬‬
‫وزعم أنه ليس هو وصلفا ل تعالى زائالدا على الذات ولم صار الباقلني أولى بالكفر بمخالفته الشعريِ من الشعريِ بمخالفته‬
‫الباقلني؟ ولم صار الحق وفلقا على احدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الشعريِ غيره من المعتزلة‬
‫فليكن الحق للسابق عليه! أم لجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأيِ ميزان ومكيال قدر درجات الفضل حتى لح له أن ل أفضل في‬
‫الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخص للباقلني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلني والكرابيسي والقلنسي‬
‫وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلف الباقلني يرجع إلى لفظ ل تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفة‬
‫بعض المتعصبين زاعلما أنهما جميلعا متوافقان على دوام الوجود‪ ،‬والخلف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائاد عليه‬
‫خلف قريب ل يوجب التشديد‪ ،‬فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن ا تعالى عالم محيط بجميع‬
‫المعلومات قادر على جميع الممكنات‪ ،‬وإنما يخالف الشعريِ في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائادة‪ ،‬فما الفرق بين الخلفين‪،‬‬
‫فإن قال‪ :‬إنما أكفر المعتزلي لنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائادة العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحد‬
‫والحقيقة‪ ،‬والحقائاق المختلفة تستحيل أن توصف بالتحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله ل يستبعد من الشعريِ قوله‪ :‬إن‬
‫الكلم صفة زائادة قائامة بذات ا تعالى ومع كونه واحلدا وهو توراة وإنجيل وزبور وقرآن‪ ،‬وهو أمر ونهي وخبر واستخبار‪ ،‬وهذه‬
‫حقائاق مختلفة كيف ل وحد الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ول يتطرق ذلك غلى المر والنهي فكيف تكون حقيقة واحدة‬
‫يتطرق‬
‫ص ‪256‬‬
‫إليها التصديق والتكذيب ول يتطرق فيجتمع النفي والثبات على شئ واحد فإن تخير جواب هذا أو عجز عن كشف الغظاء فيه‪،‬‬
‫فاعلم انه ليس من أهل النظر وإنما هو وشرط المقلد أن يسكت يسكت عنه لنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج‪ ،‬ولو كان أ كان‬
‫مستتبلعا ل تابلعا‪ ،‬وإمالما ل مأمولما‪ ،‬فإن خاض المقلد في المحاجة فلذلك منه والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد وطالب‬
‫لصلح الفاسد‪ .‬وهل يصلح العـ أفشد الدهر‪ .‬ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقلفا على واحد من النظار فهو إلى الكفر‬
‫والتناقض اقرب‪ .‬أما الكفر‪ ،‬فلنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل ل يثبت اليمان إل بموافقته ول يلزم الكفر إل بمخالفته‪،‬‬
‫وأما التناقض فهو أن كل واح النظار يوجب النظر وأن ل ترى في نظرك إل ما رأيت وكل ما رأيته حجة‪ ،‬وأيِ فر من يقول قلدني‬
‫في مجرد مذهبي‪ ،‬وبين من يقول قلدني في مذهبي ودليلي جميلعا هذا إل التناقض‪.‬‬
‫فصل في الكفر‬
‫لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أ المقلدين‪ ،‬فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض‪ ،‬ولكني أعطيك‬
‫علمة صح فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعويِ بسببها عن تكفير الفرق‪ ،‬وتطويل ا في أهل السلم وإن اختلفت‬
‫طرقهم ما داموا متمسكين بقول ل إله إل ا محمد رسول ا صادقين بها غير مناقضين لها فأقول‪:‬‬
‫الكفر هو تكفير الرسول عليه الصلة والسلم في شئ مما جاء به‪ ،‬واليمان تصديق في جميع ما جاء به‪ ،‬فاليهوديِ والنصراني‬
‫كافران لتكذيبهما للرسول عليه الصلة والسلم والبرهمي كافر بالطريق الولى لنه أنكر مع رسولنا المرسل سائار الرسل‪ ،‬وهذا‬
‫لن حكم شرعي كالرق والرحرية مثلل إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار في النار ومدركه فيدرك إما بنص وإما بقياس‬
‫على منصوص‪ .‬وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى والتحق بهم بالطريق الولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية‪،‬‬
‫وكلهم مشركون مكذبون للرسول فكل كافر مكذب للرسول‪ ،‬وكل كافر مكذب فهو كافر فهذه هي ال المطردة المنعكسة‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم أن الذيِ ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور لن كل فرقة‬
‫ص ‪257‬‬
‫مخالفتها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلة والسلم‪ ،‬فالحنبلي يكفر الشعريِ زاعلما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق ل‬
‫تعالى وفي الستهواء على العرش‪ ،‬والشعريِ يكفره زاعلما أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شئ‪ ،‬والشعريِ يكفر‬
‫المعتزلي زاعلما أنه كذب الرسول في جواز رؤية ا تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له‪ ،‬والمعتزلي يكفر الشعريِ‬
‫زاعلما أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد‪ ،‬ول ينجيك من هذة الورطة إل أن تعرف حد التكذيب‬
‫ضا‪.‬‬‫والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك علو هذة الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بع ل‬
‫فأقول‪ :‬التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر‪ ،‬وحقيقة العتراف بوجوه ما أخبر الرسول صلى ا عليه وسلم عن وجوده‬
‫إل أن للوجود خمس مراتب ولجل الغفلة عنهما نسبت كل فرقة مخالفها إلى التكذيب فإن الوجود ذاتي وحسي وخيالي وعقلي‬
‫وشبهي‪ ،‬فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلة والسلم عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على‬
‫الطلق‪ .‬فلنشرح هذه الصناف الخمسة ولنذكر مثالها في التأويلت‪.‬‬
‫أما الوجود الذاتي‪ :‬فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل‪ ،‬ولكن يأخذ الحس والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدرالكا وهذا‬
‫كوجود السماوات والرض والحيوان والنبات وهو ظاهر بل هو المعروف الذيِ ل يعرف الكثرون للوجود معنى سواه‪.‬‬
‫وأما الوجود الحسي‪ :‬فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما ل وجود له خارج العين فيكون موجولدا في الحس ويختص به‬
‫الحاس‪ ،‬ول يشاركه غيره‪ ،‬وذلك كما يشاهده النائام بل كما يشاهده المريشض المتيقظ إذ قد تتمثل له صورة ول وجود لها خارج‬
‫حسه حتى يشاهدها كما يشاهد سائار الموجودات الخارجة عن حسه‪ ،‬بل قد تتمثل للنبياء والولياء في اليقظة والصحة صورة‬
‫جميلة محاكية لجواهر الملئاكة‪ ،‬وينتهي إليهم الوحي واللهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم‬
‫وذلك لشدة صفاء باطنهم‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬دفدتدماثدل دلدها دبدشلرا دسهولييا{ ]مريم‪ .[17 :‬وكما أنه عليه الصلة والسلم رأى جبريل عليه‬
‫السلم كثيلرا‪ ،‬ولكن ما رآه في صورته إل مرتين وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها وكما يرى رسول ا صلى ا عليه وسلم‬
‫في المنام‪ ،‬وقد قال‪":‬من رآني في النوم فقد رآني حليقا‪ ،‬فإن الشيطان ل يتمثل بي"‪ ،‬ول تكون رؤيته بمعنى انتقال شخصه ن روضة‬
‫المدينة إلى موضع النائام‪ ،‬بل هي على سبيل وجود صورته في الحس النائام فقط‪ ،‬وسبب ذلك وسره طويل‪ ،‬وقد شرحناه في بعض‬
‫الكتب فإن كنت ل تصدق به فصدق عينك‪ ،‬فإنك تأخذ قبلسا من نار كأنه نقطة ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خلطا من نار‪،‬‬
‫وتحركه حركة مستديرة فتراه دائارة من نار‪ ،‬والدائارة والخط مشاهدان وهما موجودان في‬
‫ص ‪258‬‬
‫حسك ل فى خارج عن حسك ‪ ,‬لن الموجود فى الخارج هى نقطة فى كل حال ‪ ,‬وانما تصير خطا فى اوقات متعاقبة فل يكون‬
‫الخط موجودا فى حالة واحدة وهو ثابت فى مشاهدتك فى حالة واحدة‪.‬‬
‫وأما الوجود الخيالى ‪ :‬فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك فإنك تقدر على ان تخترع فى خيالك صورة فيل وفرس ‪,‬‬
‫وإن كنت مغمضا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته فى دماغك ل فى الخارج‪.‬‬
‫وأما الوجود العقلى ‪ :‬فهو يكون للشىء روح وحقيقة ومعنى فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته فى خيال أو حس أو‬
‫خارج كاليد‬
‫مثل ‪ ,‬فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهى القدرة على البطش ‪ ,‬والقدرة على البطش هى اليد العقلية‪,‬‬
‫وللقلم صورة ‪ ,‬ولكن حقيقته ماتنقش به العلوم ‪ ,‬وهذا يتلقاه العقل من غير ان يكون مقرونا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من‬
‫الصور الخيالية والحسية‪.‬‬
‫وأما الوجود الشبهى ‪ :‬فهو أن يكون نفس الشىء موجودا ل بصورته ول بحقيقته ‪ ,‬ل فى الخارج ‪ ,‬ول فى الحس ول فى الخيال ‪,‬‬
‫ول فى العقل ‪ ,‬ولكن يكون الموجود شيئاا آخر يشبهه فى خاصة من خواصه ‪ ,‬وصفة من صفاته ‪ ,‬وستفهم هذا إذا ذكرت لك مثاله‬
‫فى‬
‫التأويلت ‪ .‬فهذا مراتب وجود الشياء‪.‬‬
‫فصل‬
‫اسمع الن أمثلة هذه الدرجات فى التاويلت ‪.‬أما الوجود الذاتى فل يحتاج إلى مثال وهو الذى يجرى على الظاهر ول يتأول ‪ ,‬وهو‬
‫الوجود المطلق الحقيقى ‪ ,‬وذلك كإخبار الرسول صلى اللهعليه وسلم عن العرش والكرسى والسموات السبع فإنه يجرى على‬
‫ظاهره ول يتأول إذ هذه أجسام موجودة فى أنفسها أدركت بالحس والخيال أو لم تدرك ‪ .‬وأما الوجود الحسى فأمثلته فى التأويلت‬
‫كثيرة ‪ ,‬واقنع منها بمثالين‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قول رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ )):‬يؤتى بالموت يوم القيامة فى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ((‪ ,‬فإن‬
‫من قام عنده البرهان على أن الموت عرض الموت عرض أو عدم عرض ‪ ,‬وأن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور ينزل‬
‫الخير على ان أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت ‪ ,‬ويكون ذلك موجودا فى حسهم ل فى الخارج ‪ ,‬ويكون سببا‬
‫لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك إذ المذبوح ميئاوس منه ‪ .‬ومن يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب‬
‫كبشا فى ذاته ويذبح‪.‬‬
‫المثال الثانى ‪ :‬قول رسول صلى ا عليه وسلم ‪)):‬عرضت على الجنة فى عرض هذا الحائاط (( ‪ ,‬من قام عنده البرهان على أن‬
‫الجسام ل تتداخل ‪ ,‬وأن الصغير ل يسع الكبير حمل ذلك على‬
‫ص ‪259‬‬
‫أن نفس الجنة لم تنقل إلى الحائاط ‪ ,‬لكن تمثل للحس صورتها فى الحائاط حتى كأنه يشاهدها ول يمتنع أن يشاهد مثال شىء كبير فى‬
‫جرم صغير ‪ ,‬كما نشاهد السماء فى مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارا مفارقا لمجرد تخيل صورة الجنة إذ تدرك التفرقة بين أن‬
‫ترى صورة السماء فى المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء فى المرآة على سبيل التخيل ‪.‬‬
‫وأما الوجود الخيالى ‪ :‬فمثاله قوله صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬كأنى أنظر إلى يونس بن متى عليه عباءتان قطوانيتان يلبى وتجيبه‬
‫الجبال وا تعالى يقول له ‪ :‬لبيك يايونس (( والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة فى خياله إذ كان وجود هذه الحالة سابقا على‬
‫وجود رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ,‬وقد انعدم ذلك فلم يكن موجودا فى الحال ‪ ,‬ول يبعد أن يقال أيضا ‪ ,‬تمثل هذا فى حسه حتى‬
‫صار يشاهده النائام الصور‪ ,‬ولكن قوله ‪ :‬كأنى أنظر ‪ ,‬يشعر بإنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظر ‪ ,‬والغرض التفهيم بالمثال ل عين‬
‫هذه الصورة وعلى الجملة فكل ما يتمثل فى محل الخيال فيصور أن يتمثل فى محل البصار فيكون ذلك مشاهدة وقل مايتميز‬
‫بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل‪.‬‬
‫وأما الوجود العقلى ‪ :‬فامثلته كثيرة ‪ ,‬فاقنع منها بمثالين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قوله صلى ا عليه وسلم ‪)) :‬آخر من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه الدنيا (( فإن ظاهر هذا يشير إلى‬
‫أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت الحسى والخيال ‪ ,‬ثم قد يتعجب فيقول ‪ :‬إن الجنة فى السماء كما دلت‬
‫عليه ظواهر الخبار فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيات ‪,‬وقد يقطع المتأول هذا التعجب فيقول المراد‬
‫به تفات معنوى عقلى ل حسى ول خيالى ‪ ,‬كما يقال مثل هذه الجوهرة أضعاف الفرس أى فى روح المالية ‪ ,‬ومعناها المدرك دون‬
‫مساحتها المدركة بالحس والتخيل ‪.‬‬
‫المثال الثانى ‪ :‬قوله صلى ا عليه وسلم ))إن ا تعالى خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا (( فقد أثبت ل تعالى يدا ومن قام عنده‬
‫البرهان على استحالة يد ا تعالى هى جارحة محسوسة أو متخيلة ‪ ,‬فإنه يثبت ل سبحانه يدا روحانيه عقلية أعنى أنه يثبت معنى‬
‫اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها ‪.‬إن روح اليد ومعناها مابه يبطش ويفعل ويعطى ويمنع ‪ ,‬وا تعالى يعطى ويمنع بواسطة‬
‫ملئاكته ‪ ,‬كما قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬أول ما خلق ا العقل فقال بك اعطى وبك امنع (( ول يمكن ان يكون المراد بذلك‬
‫العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ ل يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملئاكة يسمى‬
‫عقل من حيث يعقل الشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعليم وربما يسمى قللما‬
‫‪260‬‬
‫باعتبار أنه تنقش به حقائاق العلوم في ألواح قلوب النبياء والولياء وسائار الملئاكة وحيا ل وءالهاما ل فءانه قد ورد في حديث أخر ‪)) :‬‬
‫ءان أول ما خلق ا تعالي القلم( ‪ .‬فءان لم يرجع ذلك ءالي العقل تناقض الحديثان‪ ,‬ويجوز أن يكون لشئ واحد أسماء كثيرة‬
‫باعتبارات مختلفة فيسمي عقلل بختبار ذاته وملكا ل باعتبار نسبته ءالي ا تعالي في كونه واسطة بينه وبين الخلق ‪ ,‬وقلما باعتبار‬
‫ءاضافته ءالي مصدر منه نقش العلوم باءللهام والوحي ‪ ,‬كما يسمي جبريل روحا باعتبار ذاته وأمنيا ل باعتبار ما أودع من السرار‪,‬‬
‫وذا مرة باعتبار قدرته ‪,‬وشديد القويِ باعتبار كمال قوته ‪,‬ومكنبا ا عند ذيِ العرش باعتبار قرب منزله ‪ ,‬ومطاعا ا باعتباره كونه‬
‫متبوعا ا في حق بعض الملئاكة ‪ ,‬وهذا القائال يكون قد أثيت قلما ا ويدا ا عقليا ا ل حسيا ل ول خياليا ل وكذلك من ذهب ءالي أن اليد عبارة‬
‫عن صفة ل تعالي ءاما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون ‪.‬‬
‫وأما الوجود الشبهي ‪ :‬فمثاله الغضب والشوق والفرح والصبر وغيرذلك مما ورد في حق ا تعالي‪ ,‬فءان الغضب مثلل حقيقته أنه‬
‫لرادة التشفي وهذا ل ينفك عن نقصان وألم‪ ,‬فمن قام عنده البرهان علي استحالة ثبوت نفس الغصب ل تعالي‬ ‫غليان دم القلب ء‬
‫لرادة ل‬‫ثبوتا ل ذاتيا ل وحسيا ل وخياليا ل وعقليا ل نزله علي ثبوت صفة أخريِ يصدر منها ما يصدر من الغضب كءارادة العقاب‪ ,‬وا ء‬
‫تناسب الغضب في حقيقة ذانه ولكن في صفة من الصفات وتقارنها وأثر من الثار يصدر عنها وهو اءليلم ‪ .‬فهذه درجات‬
‫التأويلت‪.‬‬
‫فصل في المصدقين‬
‫اعلم أن كل من نزل قولل من أقوال صاحب الشرع علي درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين ‪ ,‬وءانما التكذيب أن ينفي جميع‬
‫هذه المعاني ‪ ,‬ويزعم أن ما قاله ل معني ‪ ,‬وءانما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو الكفر‬
‫المحض والزندقة ‪ ,‬ول يلزم كفر المؤولين ما داموا يلزمون قانون التأويل كما سنشير ءاليه وكيف يلزم الكفر بالتأويل ‪ ,‬وما من‬
‫لسلم ءال وهو مضطر ءاليه ‪ .‬فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة ا عليه ‪ ,‬وأبعد التأويلت عن الحقيقة‬ ‫فريق من أهل ا ء‬
‫وأغريها أن تجعل الكلم مجازال أو أستعارة هو الوجود العقلي والوجود الشبهي ‪ ,‬والحنبلي مضطر ءاليه وقائال به‪ ,‬فقد سمعت‬
‫الثقات من أئامة الحنابلة ببغداد يقولون ءان أحمد بن حنبل رحمه ا صرح بتأويل ثلث أحاديث فقط‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قوله صلي ا عليه وسلم ‪ )) :‬الدحدجار ال السدواد ديميان ا في الرض(( ‪.‬‬
‫ب االموهمهن بين أصبعين هملن أصابهع الرحلمهن(( ‪.‬‬ ‫والثاني ‪ :‬قوله صلي ا عليه وسلم ‪ )) :‬دقل ا‬
‫والثالث‪ :‬قوله صلي ا وعليه وسلم ‪)) :‬ءادني لجد نفس الرحمن من قبل اليمن (( ‪.‬‬
‫فانظر الن كيف أول هذا حيث قام البرهان عنده علي استحالة ظاهرة ‪ ,‬فيقول‪ :‬اليمن تقبل في العادة تقريبا ل ءالي صاحبها ‪ ,‬والحجر‬
‫السود يقبل أيضا تقربا ل ءالي ا تعالي فهو مثل اليمن ل في ذاته ل في صفات ذاته ‪ ,‬ولكن في عارض من عوارضه فسمي لذلك‬
‫يمينا ل ‪ .‬وهذا الوجود هو الذيِ سميناه الوجود الشبهي وهو أبعد وجود التأويل ‪.‬فانظر كيف اضطر ءاليه أبعد الناس عن الـتأويل ‪.‬‬
‫وكذلك لما استحال عند وجود الصبعين ل حسا د ءذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين فتأوله علي روح الصبعين وهي‬
‫الصبع العقلية والروحانية ‪ .‬أعني أن روح الصبع ما به يتيسر تقلي الشياء ‪ .‬وقلب النسان بين لمة الملك ولمة الشيطان ‪ ,‬وبهما‬
‫يقلب ا تعالي القلوب ‪ ,‬فكني الصبعين عنهمل ‪ .‬وءانما اقتصر أحمد لن حنبل رضي ا عنه علي تأويل هذه الحاديث الثلثة لنه‬
‫لم تظهر عنده الستحالة ءال في هذا القدر ‪ ,‬لنه لم يكن ممنلعا في النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في الختصاص بجهة فوق‬
‫وغيره مما لم يتأوله والشعريِ والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا ءالي تأويل ظواهر كثيرة ‪ ,‬وأقرب الناس ءالي الحنابلة في أمور‬
‫الخرة الشعرية وفقهم ا فءانهم قرروا فيها أكثر الظواهر ءال يسيرال ‪ ,‬والمعتزلةه أشد منهم توغلل في التأويلت وهم مع هذا –‬
‫أعني الشعرية‪ -‬يضطرون أيضا ل ءالي تأويل أمور كما ذكرناه من قوله‪:‬ءاني يؤتي بالموت في صورة كبش أملح ‪ ,‬وكما ورد من‬
‫وزن العمال بالميزان ‪ ,‬فءان الضعريِ أول من وزن العمال فقال‪ :‬توزن صحائاف العمال ويخلق ا فيها أوزالنا بقدر درجات‬
‫العمال ‪ ,‬وهذا راد ءالي الوجود الشبهب البعيد فءان الصحائاف أجسام كتب فيهارقوم تدل بالصطلح علي أعمال هي أغراض ‪,‬‬
‫فليس الموزون ءاذال العمل بل محل نقش يدل بالصطلح علي العمل ‪.‬‬
‫والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب به ينكشف لكل واحد مقدار عمله‪ .‬وهوأبعد عن التعسف في التأويل بوزن‬
‫الصحاتف ‪ ,‬وليس الغرض تصخيخ أخد التأويلين ‪ ,‬بل تعلم أن كل فريق ءون بالغ في ملزمة الظواهر فهو مضطر ءالي التأوبل ءال‬
‫أن يجاوز الحد في الغباوة والتجاهل ‪ ,‬فيقول ‪ /‬الحجر السود يمين تحقيقا ل ‪ ,‬والموت وءان كان عرضا ل فيستحيل فبتنقل كبشا ل بطريق‬
‫النقلب ‪ ,‬والعمال وءان كانت أعراضا ‪ ,‬وقد عدمت فتنتقل ءالي الميزان ويكون فيها أعراض هي الثقل ‪ ,‬ومن ينتهي ءالي هذا‬
‫الحد من الجهل فقد انخلع من ريقةالعقل ‪.‬‬
‫فصل في التأويل‬
‫فاسمع الن قانون التأويل ‪ ,‬فقد علمت اتفاق الفرق علي هذه الدرجات الخمس في التأويل ‪ ,‬وءان شيئاا ل من ذلك من حيز التكذيب ‪,‬‬
‫واتفقوا أيضا ل علي أن جواز ذلك موقوف‬
‫لمام الغزالي‬‫مجموعة رساثل ا ء‬ ‫‪262‬‬
‫علي قيام البرهان علي استحالة الظاهر ‪ ,‬والظاهر الول هو الوجود الذاتي فءان ءاذا ثبت تضمن الجمع ‪ .‬فءان تعذر ‪ ,‬فالوجود‬
‫الحسي فءانه ءان ثبت تضمن ما بعده ‪ .‬فءان تعذرفالوجود الخيالي أو العقلي ‪ .‬وءان تعذر ‪ ,‬فالوجود الشبهب المجازيِ ول رخصة‬
‫للعدول عن درجة ءالي ما دونها ءال بضرورة البرهان فيرجع الختلف علي التحقيق ءالي البراهين ‪ .‬واذ بقول الحنبلي ‪ :‬ل برهان‬
‫علي استحاة اختصاص الباريِ بجهة فوق ‪.‬‬
‫ويقول الشعريِ ‪ :‬لبرهان علي استحالة الرؤية ‪ .‬وكأن كل واحد ل يرضي بما ذكره الخصم ول يراه دليل ل قاطعا ل ‪ .‬وكيف ما‬
‫كان فل ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه بأن يراه غالطا في البرهان ‪.‬نعم يجوز أن يسميه ضالل أو مبتدعا ل ‪ .‬أما ضال فمن حيث‬
‫ءانه ضل عن الطريق عنده ‪ ,‬وأما مبتدعا ل فمن حيث ءانه ابتدع قولل لم يعهد من السلف الصالح التصريح به‪ .‬ءاذ المشهور فيما بين‬
‫السلف أن ا تعالي يريِ ‪ ,‬فقول القائال ‪ :‬ل يريِ بدعة ‪ ,‬وتصريحه بتأويل الرؤية بدعة‪ ,‬بل ءان ظهر عنده أن تلك الرؤية معناها‬
‫مشاهدة تاقلب ‪ ,‬فينبغي أن ليظهره ول يذكره لن السلف لم يذكروه ‪ ,‬لكم عند هذا يقول الحنبلي ءاثلت الفوق ل تعالي مشهور عند‬
‫السلف ‪ ,‬ولم يذكر أحد منهم ‪ ،‬خالق العالم ليس متصل بالعالن ول منفصلل ول داخلل ول خارجا ا‪ ,‬وأن الجهات الست الخالية عنه‬
‫وأن نسبة جهة فوق ءاليه كنسبة جهة تحت ‪ ,‬فهذا قول بدع ءاذ البدعة عبارة عن ءاحداث مقالة غير مأثورة من السلف ‪ ,‬وعند هذا‬
‫يتضح لك أن ههنا مقامين ‪.‬‬
‫أحداهما ‪ :‬مقام عوام الخلق‪ ,‬والحق فيه التباع والكف عن تغيير الظواهر رلسا ‪ ,‬والحذر عن ءابداع التصريح بتأويل لم تصرح به‬
‫الصحابة وحسم باب السؤال رأسا ا والزجر عن الخوض في الكلم والبحث‪ ,‬واتباع ما تشابه من الكتاب والسنه ‪ ,‬كما رويِ عن‬
‫عمر رضي ا عنه أ‪،‬ه سأل سائال عن أيتين متعارضتين فعله بالدرة‪ ,‬وكما رويِ عن مالك رحمه ا أنه سئال عن الستواء فقال‪/‬‬
‫الستواء معلوم واليمان به واجب والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة‪.‬‬
‫المقام الثاني ‪ :‬بين النظا الذين اضطربت عقائادهم المأثورة المروية فينبغي أن يكون لحثهم بقدر الضرورة وتركهم الظاهر‬
‫بضرورة البرهان القاطع ول ينبغي أن يكفر بعضهم بعضا ل بأن يراه غالطا ل فيما يعتقده برهانا ل ‪ ,‬فءلن ذلك ليس أمرا ا هيا ا سهل‬
‫المدارك وليكن للبرهان بينهم قانون متفق عليه يعترف كلهم به ‪ ,‬فءانهم ءاذا لم يتفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلف بالوزن‪,‬‬
‫وقد ذكرنا في الموازين الخمسة في كتاب )القسطاس المستقيم (وهي التي ل يتصور الخلف فيها بعد فهمها أصلل ‪ ,‬بل يعترف كل‬
‫لنصاف والنتصاف وكشف الغطاء ورفع الختلف‪,‬‬ ‫منهما بأنها مدرك اليقين قطعلاوالمحصلون لها يسهل عليهم عقد ا ء‬
‫مجموعة رسائال الغزالي ‪263‬‬
‫ولكن ل يستحيل منهم الختلف ليضا ل ءاما لقصور بعضهم عن ءادراك تمام شروطه ‪ .‬وءاما في رجوعهم في النظر ءالي محض‬
‫القريحة والطبع دون الوزن بالميزان ‪ ,‬كالذيِ يرجع بعد تمام تعلم العروض في الشعر ءالي الذوق لستقالته عرض كل شعر علي‬
‫العروض فل يبعد أن يغلط ‪ ,‬وءاما لختلفهم في العلوم التي هي مقدمات البراهين ‪ ,‬فءان من العلوم التي هي أصول البراهين‬
‫تجريبية وتواترية وغيرها والناس يختلفون في التجربة والتواتر فقد يتواتر عند واحد ما ل يتواتر عند غيره ‪ ,‬وقد يتولي تجربة ما‬
‫ل يتوله غيره ‪ .‬وءاما للتباس قضايا الوهم بقضايا العقل ‪ .‬وءاما للتباس الكلمات المشهودة المخمودة بالروريات والوليات كما‬
‫فصلنا ذلك في كتاب )محك النظر ( ‪ ,‬ولكن بالجملة ءاذا حصلوا تلك الموازين ‪ ,‬وحققوها أمكنهم الوقوف عند ترك العناد علي‬
‫موقع الغلط علي يسر‪.‬‬
‫فصل في التأويل بغلبات الظنون‬
‫من الناس من يبادر ءالي التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ول ينبغي أن يبادر أيضا ل ءالي كفره في كل مقام بل ينظر فيه‬
‫فءان كان تأويله في أمر ل يتعلق بأصول العقائاد ومعماتها فل نكفره ‪ ,‬وذلك كقول بعض الصوقية ءان المراد برؤية الخليل عليه‬
‫السلم الكوكب والقمر والشمس‪ ,‬وقول هذا ربي غير ظاهرها ‪ ,‬بل هي جواهر نورانية مليكة ونورانيتها عقلية ل خسية ولها‬
‫درجات في الكمال ‪ .‬ونسبة ما بينها في التفاوت كنسبة الكواكب والقمر والشمس ‪ ,‬ويستدل عليه بأن الخليل عليه السلم أجل من‬
‫أن يعتقد في جسم أنه ءاله حتي يحتاج ءالي أن يشاهد أفوله‪ .‬أفتريِ أنه لو لم يأفل أكان يتخذه ءالها ل ‪ ,‬ولو لم يعرف استحالة اءللهية من‬
‫حيث كونه جسما ا ومقدرال ‪ ,‬واستدل بأنه كيف يمكن أن يكون أول ما رأه الكواكب والشمس هي الظهر وهي أول ما يريِ‪ :‬واستدل‬
‫بأن ا تعالي قال أولل ‪ ) :‬وكذلك انريِ ءابراهيم ملكوت السموات والرض( >النعام ‪ . <75:‬ثم حكي هذا القول فكيف يمكن أن‬
‫يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت له‪ ,‬وهذه دللت ظنيىة وليست براهين ‪.‬‬
‫أما قوله ‪ ,‬هو أجل من ذلك ‪ ,‬فقد قيل ءانه كان صبيا ل لما جريِ له ذلك ول يبعد أن يخطر لمن سيكون نبيا ل في صباه مثل هذا الخاطر‬
‫‪ ,‬ثم يتجاوزه علي قرب ول يبعد أن تطون دللة الفول علي حدوث عنده أظهر من أدلة التقدير والجسمية ‪.‬‬
‫وأما رؤية الكوكب أولل فقد رويِ أنه كان محبوسا ا في صباه في غار وانام خرج بالليل ‪.‬‬
‫وأم قوله تعالي أولل‪ ) :‬وكذلك انهريِ ءابراهيم ملكوت السموات والرض( فيجوز‬
‫‪ 264‬مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫أن يكون ا تعالي قد ذكر حال نهايته ثم رجع ءالي ذكر بدايته ‪ .‬فهذه وأمثالها ظنون يظنها براهين من ل يعرف حقيقة البرهان‬
‫وشرطه‪ .‬فهذا حنس تأويلهم‪ .‬وقد تأولوا العصاوالنعلين في قوله تعالي ‪ ) :‬فاخلع نعليك ( طه ‪ . 12:‬وقوله ‪ ) :‬وألهق ما في يمينك‬
‫( )طه ‪ . (69‬ولعل الظن في مثل هذه المور التي ل تتعلق بأصول العتقاد تجريِ مجريِ البرهان في أصول العتقاد فل يكفر‬
‫فيه ول يبدع ‪ .‬معك ءان كان فتح هذا الباب يؤديِ ءالي تشويش قلوب العوام فيبدع به خاصة ثاخبه في كل مالم يؤثر عن السلف ذكره‬
‫‪ ,‬ويقرب منه قول بعض الباطنة أن عجل السامريِ مؤول ءاذ كيف يخلو خلق كثير عن عاقل يعلم أن المتخذ من الذهب ل يكون ءالها ل‬
‫؟ وهذا أيضا ل ظن ءاذ ل يستحيل أن تنتهي من الناس ءاليه كعبدة الصنام ‪ ,‬وكونه نادرال ل يورث يقينا ل‪.‬‬
‫وأما ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العثائاد المهمة فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع ‪ ,‬كالذيِ ينكر حشر الجساد‬
‫وينكر العقوبات الحسية في الخرة بظموم وأوهام واستبعادات من غير براهن قاطع ‪ ,‬فيجب تكفيره قطعيا ل ءاذ ل برهان علي‬
‫استحالة رد الرواح ءالي الجساد ‪ ,‬وذكر ذلك عظم الضرر في الدين فيجي تكفير كل من قال منهم ءان ا تعالي ل يعلم ءال نفسه ‪,‬‬
‫أول يعلم الكلمات ‪ ,‬فأما المور الكزئاية المتعلقة بالشخاص فل يعلمها لن ذلك تكذيب للرسول صلي ا عليه وسلم قطعا ل ‪ ,‬وليس‬
‫من قيبل الدرجات التي ذكرناها في التأويل ءاذ أدلة القرأن والجبار علي تفهيم حشر الجساد وتفهيم تعلق علم ا تعالي بتفضيل‬
‫كل ما يجريِ علي الشخاص مجاوز حدال ل يقبل التأويل ‪ ,‬وهم معترفون بأن هذا ليس من التأويل ‪ ,‬ولكن قالوا‪ :‬لما كان صلح‬
‫الخلق في أن يعتقدوا حشر الجساد لقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي وكان صلحهم في أن يعتقدوا أن ا تعالي عالم بما‬
‫يجريِ عليهم ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم ‪ .‬جاز للرسول أن يفهمهم ذلك وليس بكاذب من أصلح غيره ‪,‬‬
‫فقال ما فيه صلحة وءان لم يكن كما قاله ‪,‬وهذا القول باطل قطعا ا لنه تصريح بالتكذيب ‪ ,‬ثم طلب عذرال في أنه لم يكذب ‪ ,‬ويجب‬
‫ءاجلل منصب النبوة عن هذة الرذيلة ففي الصدق وءاصلخ الخلق به مندوحة عن الكذب ‪ ,‬وهذه أول درجات الزندقة ‪ ,‬وهي رتبة‬
‫بين العتزال وبين الزندقة المطلقة ‪ ,‬فءان المعتزلة يقرب منهاجهم من الفلسفة ءال في هذا المر الواحد وهو أ‪ ،‬المعتزلي ل يجوز‬
‫الكذب علي الرسول عليه السلم بمثل هذا العذر بل يؤول الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلفه ‪ ,‬والفلسفي ل يقتصر علي‬
‫مجاوزته للظاهر علي ما يقبل التأويل علي قرب أو علي بعد‪.‬‬
‫وأما الزندفة المطلقة ‪ ,‬فهو أن تنكر أصل المعاد عقليا ل وحسيا ل ‪ ,‬وتنكر الصانع للعالم أصلل ورأسا ل ‪.‬‬
‫بداية صفحة ‪265‬‬
‫وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي اللم واللذات الحسية وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل العلوم فهي زندقة مقيدة بنوع‬
‫اعتراف بصدق النبياء وظاهر ظني‪ .‬والعلم عند ا‪ .‬أن هؤلء هم المرادون بقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬ستفترق أمتي بضعا‬
‫وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلى الزنادقة وهي فرقة" هذا لفظ الحديث في بعض الروايات وظاهر الحديث يدل على أنه أراد به‬
‫الزنادقة من أمته ‪ ،‬إذ قال "ستفترق أمتي" ‪ ،‬ومن لم يعترف بنبوته ليس من أمته والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع فليسوا‬
‫معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض ‪ ،‬وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع ول يؤمنون بال ول‬
‫باليوم الخر‪ .‬وينسبون النبياء إلى التلبيس فل يمكن نسبتهم إلى المة ‪ ،‬فإذا ل معنى لزندقة هذه المة إل ما ذكرناه‪.‬‬
‫فصل في بيان الزندقة المطلقة‬
‫اعلم أن شرح ما يكفر به وما ل يكفر به يستدعي تفصيل يفتقر إلى ذكر كل المقالت والمذاهب ‪ ،‬وذكر شبهة كل واحد ‪ ،‬ودليله‬
‫ووجه بعده عن الظاهر ووجه تأويله ‪ ،‬وذلك ل يحويه مجلدات ول تتسع لشرح ذلك أوقاتي فاقنع الن بوصية وقانون‬
‫أما الوصية ‪ :‬فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائالين ل إله إل ا محمد رسول ا غير مناقضين لها‪ .‬والمناقضة‬
‫تجويزهم الكذب على رسول ا صلى ا عليه وسلم بعذر أو غير عذر ‪ ،‬فإن التكفير فيه خطر والسكوت ل خطر فيه‬
‫وأما القانون ‪ :‬فهو أن تعلم أن النظريات قسمان ‪ :‬قسم يتعلق بأصول القواعد ‪ ،‬وقسم يتعلق بالفروع ‪ ،‬وأصول اليمان ثلثة ‪:‬‬
‫اليمان بال وبرسوله وباليوم الخر وما عداه فروع‪ .‬واعلم أنه ل تكفير في الفروع أصل إل في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصل‬
‫دينيا علم من الرسول صلى ا عليه وسلم بالتواتر ‪ ،‬لكن في بعضها تخطئاة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق‬
‫بالمامة وأحوال الصحابة‬
‫واعلم أن الخطأ في أصل المامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها ل يوجب شيء منه تكفيرا‪ .‬فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب‬
‫المامة ول يلزم تكفيره ول يلتفت إلى قوم يعظمون أمر المامة ويجعلون اليمان بالمام مقرونا باليمان بال ورسوله ‪ ،‬ول إلى‬
‫خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في المامة فكل ذلك إسراف إذ ليس في واحد من القولين تكذيب للرسول صلى ا عليه‬
‫وسلم أصل ‪ ،‬ومهما وجد التكذيب وجب التكفير وإن كان في الفروع‪ .‬فلو قال قائال مثل ‪ :‬البيت الذيِ بمكة ليس الكعبة التي أمر ا‬
‫تعالى بحجها فهذا كفر ‪ ،‬إذ قد ثبت تواترا عن رسول ا صلى ا عليه وسلم خلفه ‪ ،‬ولو أنكر شهادة الرسول لذلك البيت بأنه‬
‫الكعبة لم ينفعه إنكاره‬
‫بداية صفحة ‪266‬‬
‫بل يعلم قطعا أنه معاند في إنكاره إل أن يكون قريب عهد بالسلم ‪ ،‬ولم يتواتر عنده ذلك ‪ ،‬وكذلك من نسب عائاشة رضي ا عنها‬
‫إلى الفاحشة ‪ ،‬وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر ‪ ،‬لن هذا وأمثاله ل يمكن إل بتكذيب الرسول أو إنكار التواتر ‪ ،‬والتواتر ينكره‬
‫النسان بلسانه ول يمكنه أن يجهله بقلبه‪ .‬نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الحاد فل يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالجماع ‪ ،‬فهذا فيه‬
‫نظر لن معرفة كون الجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم أصول الفقه‪ .‬وأنكر النظام كون الجماع حجة‬
‫أصل فصار كون الجماع حجة مختلف فيه فهذا حكم الفروع‬
‫وأما الصول الثلثة ‪ :‬وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ‪ ،‬ولم يتصور أن يقوم برهان على خلفه فمخالفته تكذيب‬
‫محض‪ .‬ومثال ما ذكرناه من حشر الجساد والجنة والنار وإحاطة علم ا تعالى بتفاصيل المور وما يتطرق إليه احتمال التأويل‬
‫ولو بالمجاز البعيد ‪ ،‬فينظر فيه إلى البرهان فإن كان قاطعا وجب القول به ‪ ،‬ولكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر لقصور‬
‫فهمهم فإظهاره بدعة وإن لم يكن البرهان قطعيا لكن يفيد ظنا غالبا ‪ ،‬وكان مع ذلك ل يعلم ضرره في الدين كنفي المعتزلي الرؤية‬
‫عن ا تعالى فهذه بدعة وليس بكفر‬
‫وأما ما يظهر له ضرر فيقع في محل الجتهاد والنظر فيحتمل أن يكفر ويحتمل أن ل يكفر‪ .‬ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من‬
‫يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين ا تعالى أسقطت عنه الصلة وحل له شرب الخمرة والمعاصي وأكل مال السلطان‪.‬‬
‫فهذا ممن ل شك في وجوب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر ‪ ،‬وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائاة كافر إذ ضرره في‬
‫الدين أعظم وينفتح به باب من الباحة ل ينسد وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالباحة مطلقا ‪ ،‬فإنه يمنع عن الصغاء إليه‬
‫لظهور كفره‪ .‬وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع ‪ ،‬ويزعم أنه لم يرتكب فيه إل تخصيص عموم إذ خصص عموم التكليفات بمن‬
‫ليس له مثل درجته في الدين ‪ ،‬وربما يزعم أنه يلبس ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه بريِء عنه ‪ .‬ويتداعى هذا إلى أن‬
‫يدعى كل فاسق مثل حالة وينحل به عصام الدين‪ .‬ول ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام ‪ ،‬بل‬
‫التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم بالخلود في النار‪ .‬فمأخذه كمأخذ سائار الحكام الشرعية ‪ ،‬فتارة‬
‫يدرك بيقين وتارة بغالب ظن ‪ ،‬وتارة يتردد فيه ‪ ،‬ومهما حصل تردد فالوقوف فيه عن التكفير أولى ‪ ،‬والمبادرة إلى التكفير إنما‬
‫تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ‪ ،‬ول بد من التنبيه على قاعدة أخرى وهو أن المخالف قد يخالف نصا متواترا ويزعم أنه‬
‫مؤول ‪ ،‬ولكن ذكر تأويله ل انقداح له أصل في اللسان ل على بعد ول على قرب ‪ ،‬فذلك كفر وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه‬
‫مؤول‬
‫بداية صفحة ‪267‬‬
‫مثاله ‪ :‬ما رأيته في كلم بعض الباطنية أن ا تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها‪ .‬وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره‬
‫ويخلقه ‪ ،‬وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ‪ ،‬وإما أن يكون واحدا في نفسه وموجودا وعالما على معنى اتصافه فل‪ .‬وهذا كفر‬
‫صراح لن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ول تحتمله لغة العرب أصل ‪ ،‬ولو كان خالق الوحدة يسمى‬
‫واحدا لخلقه الوحدة لسمي ثلثا وأربعا لنه خلق العداد أيضا‪ .‬فأمثلة هذه المقالت تكذيبات عبر عنها بالتأويلت‬
‫فصل النظر في التكفير‬
‫قد فهمت من هذه التكفيرات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن النص الشرعي الذيِ عدل به عن ظاهره هل يحتمل التأويل أم ل ؟ فإن احتمل فهل هو قريب أم بعيد ؟ ومعرفة ما يقبل‬
‫التأويل ‪ ،‬وما ل يقبل التأويل ليس بالهين بل ل يستقل به إل الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها ‪ ،‬ثم بعادة العرب في‬
‫الستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومنهاجها في ضروب المثال‬
‫الثاني ‪ :‬في النص المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالجماع المجرد ‪ ،‬فإن ثبت تواترا فهو على شرط التواتر أم ل ؟ إذ ربما‬
‫يظن المستفيض تواترا ‪ ،‬وحد التواتر ما ل يمكن الشك فيه كالعلم بوجود النبياء ووجود البلد المشهورة وغيرها ‪ ،‬وأنه متواتر‬
‫في العصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوة ‪ ،‬فهل يتصور أن يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من العصار ؟‬
‫وشرط التواتر أن ل يحتمل ذلك كما في القرآن ‪ ،‬أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ‪ ،‬ول يستقبل بإدراكه إل الباحثون عن‬
‫كتب التواريخ وأحوال القرون الماضية وكتب الحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالت‪ .‬إذ قد يوجد عدد التواتر في‬
‫كل عصر ول يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجميع الكثير رابطة في التوافق ل سيما بعد وقوع التعصب بين أرباب‬
‫المذاهب ‪ ،‬ولذلك ترى الروافض يدعون النص على علي بن أبي طالب رضي ا عنه ‪ ،‬في المامة لتواتره عندهم ‪ ،‬وتواتر عند‬
‫خصومهم في أشياء كثيرة خلف ما تواتر عندهم لشدة توافق الروافض على إقامة أكاذيبهم واتباعها‪.‬‬
‫وأما ما يستند إلى الجماع فدرك ذلك من أغمض الشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد ‪ ،‬فيتفقوا على أمر‬
‫واحد اتفاقا يلفظ صريح ‪ ،‬ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم ‪ ،‬أو يكاتبهم إمام في أقطار الرض‬
‫فيأخذ فتاويهم في زمام واحد بحيث تتفق أقوالهم اتفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلف بعده‬
‫بداية صفحة ‪268‬‬
‫ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر ؟ لنه من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق ول‬
‫يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك ‪ ،‬وهذا غامض أيضا‬
‫الثالث ‪ :‬النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر ‪ ،‬أو هل بلغه الجماع ؟ إذ كل من يولد ل تكون المور عنده متواترة ‪،‬‬
‫ول موضع الجماع عنده متميز عن مواضع الخلف ‪ ،‬وإنما يدرك ذلك شيئاا فشيئاا ‪ ،‬وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنفة‬
‫في الختلف والجماع للسلف ‪ ،‬ثم ل يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف أو تصنيفين إذ ل يحصل تواتر الجماع به ‪ ،‬وقد‬
‫صنف أبو بكر الفارسي رحمه ا كتابا في مسائال الجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض المسائال ‪ ،‬فإذا من خالف‬
‫الجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذب فل يمكن تكفيره‪ .‬والستقلل بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرائاط البرهان أم ل؟ ومعرفة شرط البرهان ل يمكن شرحها إل‬
‫في مجلدات ‪ ،‬وما ذكرنا في كتاب )القسطاس المستقيم( وكتاب )محك النظر( أنموذج منه وتكل قريحة أكثر فقهاء الزمان عن‬
‫قص شروط البرهان على الستيفاء ‪ ،‬ول بد من معرفة ذلك فإن البرهان إذا كان قاطعا رخص في التأويل وإن كان بعيدا‪ .‬فإذا لم‬
‫يكن قاطعا لم يرخص إل في تأويل قريب سابق إلى الفهم‬
‫الخامس ‪ :‬النظر في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم ل ؟ فإن ما ل يعظم ضرره في الدين فالمر فيه أسهل وإن‬
‫كان القول شنيعا وظاهر البطلن كقول المامية المنتظرة أن المام مختف في سرداب فإنه ينتظر خروجه ‪ ،‬فإنه قول كاذب ظاهر‬
‫البطلن شنيع جدا ‪ ،‬ولكن ل ضرر فيه على الدين إنما الضرر على الحمق المعتقد لذلك ‪ ،‬إذ يخرج كل يوم من بلده لستقبال‬
‫المام حتى يدخل فيرجع إلى بيته خاسئاا ‪ ،‬وهذا مثال‪ .‬والمقصود أنه ل ينبغي أن يكفر بكل هذيان وإن كان ظاهر البطلن‪ .‬فإذا‬
‫فهمت أن النظر في التكفير موقوف على جميع المقامات التي ل يستقل بآحادها المبرزون علمت أن المبادر إلى تكفير من يخالف‬
‫الشعريِ أو غيره جاهل مجازف ‪ ،‬وكيف يستقل الفقيه بمجرد الفقه بهذا الخطب العظيم وفي أيِ ربع من أرباع الفقه يصادف هذه‬
‫العلوم ‪ ،‬فإذا رأيت الفقيه الذيِ بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه ول تشغل به قلبك ولسانك ‪ ،‬فإن‬
‫التحديِ بالعلوم غريزة في الطبع ل يصبر عنه الجهال ولجله كثر الخلف بين الناس ولو ينكث من اليديِ من ل يدريِ لقل‬
‫الخلف بين الخلق‬
‫بداية صفحة ‪269‬‬
‫فصل في حكم عوام المسلمين‬
‫من أشد الناس علوا وإسرافا طائافة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من ل يعرف الكلم معرفتنا ولم يعرف العقائاد‬
‫الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر ‪ ،‬فهؤلء ضيقوا رحمة ا الواسعة على عباده أول ‪ ،‬وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة‬
‫يسيرة من المتكلمين ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيا ‪ ،‬إذا ظهر لهم في عصر رسول ا صلى ا عليه وسلى وعصر الصحابة‬
‫رضي ا عنهم حكمهم بإسلم طوائاف من أجلف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل ‪ ،‬ولو اشتغلوا به لم‬
‫يفهموه ومن ظن أن مدرك اليمان الكلم والدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقد أبدع حد البداع ‪ ،‬بل اليمان نور يقذفه ا في‬
‫قلوب عبيده عطية وهدية من عنده‪ .‬تارة ببينة من الباطن ل يمكنه التعبير عنها ‪ ،‬وتارة بسبب رؤيا في المنام ‪ ،‬وتارة بمشاهدة حال‬
‫رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته ‪ ،‬وتارة بقرينة حال‪ .‬فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى ا عليه وسلم جاحدا‬
‫به منكرا ‪ ،‬فلما وقع بصره على طلعته البهية زادها ا شرفا وكرامة ‪ ،‬فرآها يتلل منها أنوار النبوة ‪ ،‬قال ‪ :‬وا ما هذا بوجه‬
‫كذاب‪ .‬وسأله أن يعرض عليه السلم فأسلم ‪ ،‬وجاء آخر إليه عليه الصلة والسلم وقال ‪ :‬أنشدك ا ‪ ،‬ا بعثك نبيا ؟ فقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪" :‬إيِ وا ‪ ،‬ا بعثني نبيا"‪ .‬فصدقه بيمينه وأسلم ‪ ،‬وهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشغل واحد منهم بالكلم‬
‫وتعليم الدلة ‪ ،‬بل كانوا يبدو نور اليمان بمثل هذه القرائان في قلوبهم لمعة بيضاء ثم ل تزال تزداد إشراقا بمشاهدة تلك الحوال‬
‫العظيمة وتلوة القرآن وتصفية القلوب ‪ ،‬فليت شعريِ متى نقل عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أو عن الصحابة رضي ا‬
‫عنهم إحضار أعرابي أسلم وقوله له الدليل على أن العالم حادث أنه ل يخلو عن العراض ‪ ،‬وما ل يخلو عن الحوادث حادث ‪،‬‬
‫وإن ا تعالى عالم بعدد وقادر بقدرة زائادة عن الذات ل هي هوة ول هي غيره ‪ ،‬إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين‬
‫ولست أقول لم تجر هذه اللفاظ ‪ ،‬ولم يجر أيضا ما معناه معنى اللفاظ ‪ ،‬بل كان ل تنكشف ملحمة إل عن جماعة من الجلف‬
‫يسلمون تحت ظلل السيوف ‪ ،‬وجماعة من السارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب ‪ ،‬وكانوا إذا نطقوا‬
‫بكلمة الشهادة علموا الصلة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرها ‪ ،‬نعم ‪ ،‬لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة‬
‫المتكلمين أحد أسباب اليمان في حق بعض الناس ‪ ،‬ولكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضا نادر ‪ ،‬بل النفع الكلم الجاريِ في‬
‫معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن‪ .‬فأما الكلم المحرر على رسم المتكلمين فإنه يشعر نفوس المستمعين بأن‬
‫ص ‪270‬‬
‫فيه صنعة جدل ليعجز عنه العامي ل لكونه حقا ل في نفسه‪ .‬و ربما يكون ذلك سببا ل لرسوخ العناد في قلبه‪ ،‬و لذلك ل ترى مجلس‬
‫مناظرة للمتكلمين و ل للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من العتزال أو بدعة إلى غيره‪ ،‬و ل عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي‬
‫حنيفة و ل على العكس‪ .‬و تجريِ هذه النتقالت بأسباب اأخر حتى في القتال بالسيف‪ ،‬و لذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه‬
‫المجادلت‪ ،‬بل شددوا القول على من يخوض في الكلم و يشتغل بالبحث و السؤال‪ ،‬و إذا تركنا المداهنة و مراقبة الجانب صرحنا‬
‫بأن الخوض في الكلم حرام لكثرة الفة فيه إل لحد شخصين‪:‬‬
‫رجل‪ :‬وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلم ريب وعظي و ل بخبر نقلي عن رسول ا فيجوز أن يكون القول المرتب‬
‫الكلمي رافعا ل شبهته و دوالء له في مرضه‪ ،‬فيستعمل معه ذلك و يحرس عنه سمع الصحيح الذيِ ليس به ذلك المرض فإنه يوشك‬
‫أن يحرك في نفسه إشكالل و يثير له شبهة تمرضه و تستنزل عن اعتقاده المجزوم الصحيح‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت اليمان بأنوار اليقين‪ ،‬يريد أن يحصل هذه الصنعة ليداويِ بها مريضا ل إذا‬
‫وقعت له شبهة‪ ،‬و ليفحم بها مبتدعا ل إذا نبغ و ليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع إغواءه‪ ،‬فتعلم ذلك بهذا العزم كان من فروض‬
‫الكفايات‪ ،‬و تعلم قدر ما يزيل به الشك و يدرأ الشبهة في حق المشكل فرض عين‪ ،‬إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر‬
‫سواه‪ .‬و الحق الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلة و السلم و اشتمل عليه القرآن اعتقادال جزما ل فهو مؤمن و‬
‫إن لم يعرف أدلته‪ ،‬بل اليمان المستفاد من الدليل الكلمي ضعيف جدال مشرف على التزاول بكل شبهة بل اليمان الراسخ إيمان‬
‫العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع أو الحاصل بعد البلوغ بقرائان أحوال ل يمكن التعبير عنها و تمام تأكده بلزومه‬
‫العبادة و الذكر‪ ،‬فإن من تمادت به العبادة غلى حقيقة التقوى و تطهير الباطن عن كدورات الدنيا و ملزمة ذكر ا تعالى دائاما ل‬
‫تجلت له أنوار المعرفة و صارت المور التي كان قد أخذها كان قد أخذها تقليدال عنده كالمعاينة و المشاهدة‪ ،‬و ذلك حقيقة المعرفة‬
‫للسلهم دفاهدو دعدلى انوءر رَمن‬‫صلددرها له ه‬
‫اا د‬ ‫التي ل تحصل إل بعد انحلل عقدة العتقادات و انشراح الصدر بنور ا تعالى )أددفدمن دشدردح ا‬
‫اررَبهه (]الزمر‪ .[22 :‬كما سئال رسول ا صلى ا عليه و سلم عن نعنى شرح الصدر فقال‪ ”:‬نور يقذف في قلب المؤمن"‪ ،‬فقيل و‬
‫ما علمته؟ قال‪ “ :‬التجافي عن دار الغرور و النابة إلى دار الخلود"‪ .‬فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا المتهالك عليها غير‬
‫مدرك حقيقة المعرفة و لو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعا ل‪.‬‬
‫ص ‪271‬‬
‫لعلك تقول أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية‪ .‬و الشارع صلوات ا عليه هو الذيِ ضيق الرحمة على الخلق دون‬
‫المتكلم‪ ،‬إذ قال عليه السلم‪ “ :‬يقول ا تعالى لدم عليه السلم يوم القيامة‪ :‬يا آدم ابعث ذريتك بعث النار‪ .‬فيقول‪ :‬يا رب من كم؟‬
‫فيقول‪ :‬من كل ألف تسعمائاة و تسعة و تسعين"‪ .‬و قال عليه الصلة و السلم‪ “ :‬ستفترق أمتي على نيف و سبعين فرقة‪ ،‬الناجية‬
‫منها واحدة"‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬أن الحديث الول صحيح‪ ،‬و لكن ليس المعنى به أنهم كفار مخلدون بل إنهم يدخلون النار و يعرضون عليها و يتركون‬
‫فيها بقدر معاصيهم‪ ،‬و المعصوم من المعاصي ل يكون في اللف إل واحدلا‪ ،‬و كذلك قال تعالى‪) :‬دوهإن رَمناكلم إهلا دواهراددها( ]مريم‪:‬‬
‫‪ ،[71‬ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه و يجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة كما وردت به الخبار‪ ،‬و‬
‫تشهد له الخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة ا تعالى‪ ،‬و هي أكثر من أن تحصى‪.‬‬
‫فمنها ما رويِ عن عائاشة رضي ا عنها‪ ،‬أنها قالت‪ :‬فقدت النبي صلى ا عليه و سلم ذات ليلة فابتغيته فإذا هو في مشربه‬
‫يصلي‪ ،‬فرأيت أنوارال ثلثا ل فلما قضي صلته‪ ،‬قال‪“ :‬مهيم من هذه؟" قلت‪ :‬أنا عائاشة يا رسول ا‪ ،‬قال‪ ”:‬أرأيت النوار الثلثة؟"‬
‫قلت‪ :‬نعم يا رسول ا‪ ،‬قال‪ ":‬إن آت أتاني من ربي فبشرني أن ا تعالى يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا ل بغير حساب و ل عذاب‪،‬‬
‫ثم أتاني في النور الثاني آت من ربي فبشرني أن ا تعالى ايدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا ل سبعين ألفا ل بغير‬
‫حساب و ل عذاب‪ ،‬ثم أتاني في النور الثالث آت من ربي فبشرني أن ا تعالى يدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين‬
‫ألفا ل المضاعفة سبعين ألفا ل بغير حساب و ل عذاب" فقلت‪ :‬يا رسول ا ل تبلغ أمتك هذا قال‪”:‬يكملون لكم من العراب ممن ل‬
‫يصوم و ل يصلي"‪ ،‬فهذا و أمثاله من الخبار الدايلة على سعة الرحمة ا تعالى كثير‪ ،‬فهذا في أمة محمد صلى ا عليه و سلم‬
‫خاصة‪ ،‬و أنا أقول‪ :‬إن الرحمة تشتمل كثيرال من المم السالفة و إن كان أكثرهم يعرضون على النار‪ ،‬بل أقول‪ :‬إن أكث نصارى‬
‫الروم و الترك في هذا الزمان تشتملهم الرحمة إن شاء ا تعالى‪ .‬أعني الذين هم في أقاصي الروم و الترك و لم تبلغهم الدعوة‪،‬‬
‫فإنهم ثلثة أصناف‪ :‬صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى ا عليه و سلم أصلل فهم معذورون‪ ،‬و صنف بلغهم اسمه و نعته وما ظهر‬
‫عليه من المعجزات و هم المجاورون لبلد السلم و المخالطون لهم و هم الكفار الملحدون‪ .‬و صنف‬
‫ص ‪272‬‬
‫ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى ا عليه و سلم و لم يبلغهم نعته وصفته‪ ،‬بل سمعوا أيضا ل منذ الصبا أن كذابا ل ملبسا ل اسمه‬
‫محمد ادعى النبوة‪ ،‬كما سمع صبياننا أن كذابا ل يقال له المقفع بعثه ا تحدث بالنبوة كاذبلا‪ ،‬فهؤلء عنديِ في أوصافه في معنى‬
‫الصنف الول فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه‪ ،‬و هذا ل يحرك داعية النظر في الطلب‪.‬‬
‫و أما الحديث الخر‪ ،‬و هو قوله‪ :‬الناجية منها واحدة‪ .‬فالراوية مختلفة فيه‪ .‬فقد رويِ الهالكة منها واحدة و لكن الشهر تلك‬
‫الرواية‪ ،‬و معنى ناجية هي التي ل تعرض على النار‪ ،‬و ل تحتاج إل الشفاعة بل الذيِ تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار فليس بناج‬
‫على الطلق و إن انتزع بالشفاعة من مخاليبهم‪ .‬و في رواية‪ :‬كلها في الجنة إل الزنادقة و هي فرقة‪ .‬و يكون الهالك عبارة عمن‬
‫وقع اليأس من صلحه لن الهالك ل يرجى له بعد الهلك خير و تكون الناجية واحدة و هي التي تدخل الجنة بغير حساب و ل‬
‫شفاعة لن من نوقش الحساب فقد عذب فليس بناج إذلا‪ ،‬و من عرض للشفاعة فقد عرض للمذلة فليس بناج أيضا ل على الطلق‪ ،‬و‬
‫هذان الطريقان و هما عبارتان عن شر الخلق و خيره‪ .‬و باقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين‪ :‬فمنهم من يدخل النار ثم يخرج‬
‫على قدر خطاياهم في عقائادهم و بدعتهم و على كثرة معاصيهم و قلتها‪ .‬فأما الهالكة المخلدة في النار مع هذه المة في فرقة واحدة‬
‫و هي التي كذبت و جوزت الكذب على رسول ا صلى ا عليه و سلم بالمصلحة‪.‬‬
‫و أما سائار المم‪ ،‬فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه و صفته و معجزته الخارقة للعادة كشق القمر و تسبيح الحصى‬
‫و نبع الماء بين أصابعه و القرآن المعجز الذيِ تحدى به أهل الفصاحة و عجزوا عنه‪ ،‬فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه و تولى و‬
‫لم ينظر فيه و لم يتأمل و لم يبادر إلى التصديق‪ ،‬فهذا الجاحد الكاذب و هو الكافر‪ ،‬و ل يدخل في هذا أكثر الروم و الترك الذين‬
‫بعدت بلدهم عن بلد المسلمين‪ ،‬بل أقول من قرع سمعه هذا فلبد أن تنبعث به داعية الطلب ليستبين حقيقة المر إن كان من أهل‬
‫الدين و لم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الخرة‪ ،‬فإن لم تنبعث هذه الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا و خلوه عن الخوف و‬
‫خطر أمر الدين و ذلك كفر‪ ،‬و إن انبعثت الداعية فقصر في الطلب فهو أيضا ل كفر بل ذو اليمان بال و اليوم الخر من أهل كل ملة‬
‫و ل يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالسباب الخارقة للعادة‪ ،‬فإن اشتغل بالنظر و الطلب و لم يقصر فأدركه الموت‬
‫قبل تمام التحقيق فهو أيضا ل مغفور له الرحمة الواسعة‪ ،‬فاستوسع رحمة ا تعالى و ل تزن المور اللهية بالموازين المختصرة‬
‫الرسمية‪.‬‬
‫ص ‪273‬‬
‫و اعلم أن الخرة قريب من الدنيا فما خلقكم و ل بعثكم إل كنفس واحدة فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة و سلمة أو في حالة‬
‫يغبطها إذ لو خير بينها و بين الماتة و العدام مثلل لختارها‪ ،‬و إنما المعذب الذيِ يتمنى الموت نادر‪ ،‬فكذلك المخلدون في النار‬
‫بالضافة إلى الناجين و المخرجين منها في الخرة نادر‪ ،‬فإن صفة الرحمة ل تتغير باختلف أحوالها‪ ،‬و إنما الدنيا و الخرة‬
‫عبارتان عن اختلف أحوالك و لول هذا لما كان لقوله عليه الصلة و السلم معنى‪ ،‬حيث قال " أول ما خط في الكتاب الول أنا‬
‫ا ل إله إل أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن ل إله إل ا و أن محمد عبده و رسوله‪ ،‬فله الجنة"‪.‬‬
‫و اعلم أن أهل البصائار قد انكشف لهم سبق الرحمة و شمولها بأسباب و مكاشفات سوى ما عندهم من الخبار و الثار‪ ،‬و لكن‬
‫ذكر ذلك يطول‪ .،‬فأبشر برحمة ا و بالنجاة المطلقة إن جمعت بين اليمان و العمل الصالح‪ ،‬و بالهلك المطلق إن خلوت عنهما‬
‫جميعلا‪ ،‬و إن كنت صاحب يقين في أصل التصديق و صاحب خطأ في بعض التأويل‪ ،‬أو صاحب شك فيهما‪ ،‬أو صاحب خلط في‬
‫العمال‪ ،‬فل تطمع في النجاة المطلقة‪.‬‬
‫و اعلم‪ ،‬أنك تعذب مدة ثم تخلي‪ ،‬و بين أن يشفع فيك من تيقنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره‪ ،‬فاتهد أن يغنيك ا بفضله عن‬
‫شفاعة الشفعاء فإن المر في ذلك مخطر‪.‬‬
‫فصل‬
‫قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل ل من الشرع‪ ،‬و أن الجاهل بال كافر و العارف به مؤمن‪ ،‬فيقال له‪ :‬الحكم بإباحة‬
‫الدم و الخلود في النار حكم شرعي ل معنى له قبل ورود الشرع‪ ،‬و إن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بال هو الكافر‪،‬‬
‫فهذا ل يمكن حصره فيه لن الجاهل بالرسول و بالخرة أيضا ل كافر‪ ،‬ثم إن خصص ذلك بالجهل بذات ا تعالى بجحد وجوده أو‬
‫وحدانيته و لم يطرد في الصفات فربما سوعد عليه‪ ،‬و إن جعل المخطئ في الصفات أيضا ل جاهلل أو كافرال لزمه تكفير من نفي‬
‫صفه البقاء وصفة القدم‪ ،‬و من نفي الكلم وصفا ل زائادال على العلم‪ ،‬و من نفي السمع و البصر زائادال على العلم‪ ،‬و من نفي جواز‬
‫الرؤية‪ ،‬و من أثبت الجهة و أثبت إرادة حادثة ل في ذاته و ل في محل و تكفير المخالفين فيه‪ ،‬و بالجملة يلزمه التكفير في كل‬
‫مسألة تتعلق بصفات ا تعالى و ذلك حكم ل مستند له‪ ،‬و إن خصص ببعض الصفات دون بعض لم يجد لذلك فصلل و مردلا‪ ،‬و ل‬
‫وجه له إل الضبط بالتكذيب ليعم المكذب بالرسول و بالمعاد‪ ،‬و يخرج منه المؤول‪ ،‬ثم ل يبعد أن يقع الشك و النظر في بعض‬
‫المسائال من جملة التأويل بعيدال و يقضي فيه بالظن و موجب الجتهاد‪ ،‬فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية‪.‬‬
‫ص ‪274‬‬
‫فصل‬
‫من الناس من قال إنما أكفر من يكفرني من الفرق‪ ،‬و من ل يكفرني فل‪ .‬و هذا ل مأخذ له‪ ،‬فإن قال قائال علي رضي ا عنه أولى‬
‫بالمامة إذ لم يكن كفرال فبأن يخطئ صاحبه‪ ،‬و يظن أن المخالف فيه كافر ل يصير كافرلا‪ ،‬و إنما هو خطأ في مسألة شرعية‪ .‬و‬
‫كذلك الحنبلي إذ لم يكفر بإثبات الجهة فلم يكفر أن يغلط أو يظن أن نافي الجهة مكذب و ليس بمتأول‪ .‬و أما قول رسول ا صلى‬
‫ا عليه و سلم‪ ":‬إذا قذف أحد المسلمين صاحبه بالكفر فقد باء به أحدهما"‪ .‬معناه أن يكفره بمعرفته بحاله فمن عرف من غيره أنه‬
‫مصدق لرسول ا صلى ا عليه و سلم ثم يكفره فيكون الكفر كافرال‪ .‬فأما إن كفره لظنه أنه كذب الرسول فهذا غلط منه في حال‬
‫شخص واحد‪ ،‬إذ قد يظن به أنه كافر مكذب و ليس كذلك و هذا ل يكون كفرال‪ .‬فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيه على أعظم الغور‬
‫في هذه القاعدة و على القانون الذيِ ينبغي أن يتبع فيه‪ ،‬فاقنع به و السلم‪.‬‬
‫أيها الولد‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الرسالة‬
‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬و العاقبة للمتقين‪ ،‬و الصلة و السلم على نبيه محمد و آله أجمعين‪.‬‬
‫أعلم‪ ،‬أن واحدال من الطلبة المتقدمين لزم خدمة الشيخ المام زين الدين حيجة السلم أبي حامد بن محمد الغزالي قدس ا روحه و‬
‫اشتغل بالتحصيل و قراءة العلم عليه حتى جمع من دقائاق العلوم‪ ،‬و استكمل من فضائال النفس‪ ،‬ثم إنه فكر يوما ل حال نفسه و خطر‬
‫على باله‪ ،‬فقال‪ :‬إني قرأت أنواعا ل من العلوم‪ ،‬و صرفت ريعان عمريِ على تعلمها و جمعها‪ .‬فالن ينبغي أن أعلم أيِ نوعها‬
‫ينفعني غدال و يؤنسني في قبريِ و أيها ل ينفعني حتى أتركه‪ ،‬فقد قال رسول ا صلى ا عليه و سلم‪ " :‬اللهم إن أعوذ بك من علم‬
‫ل ينفع"‪ ،‬فاستمرت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجة السلم محمد الغزالي رحمة ا تعالى عليه استفتالء‪ ،‬و سأل‬
‫عنه مسائال و التمس منه نصيحة و دعاء‪ ،‬و قال‪ :‬و إن كان مصنفات الشيخ كالحياء و غيره يشتمل على جواب مسائالي لكن‬
‫مقصوديِ أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي و أعمل بما فيها مدى عمريِ إن شاء ا تعالى‪ ،‬فكتب الشيخ‬
‫هذه الرسالة إليه في جوابه‪ ،‬و ا أعلم‪.‬‬
‫ص ‪275‬‬
‫اعلم أيها الولد المحب أطال ا بقاءك بطاعته‪ ،‬و سلك بك سبيل أحبائاه أن منشور النصيحة يكتب من معادن الرسالة عليه السلم‬
‫إن كان قد بلغك منه نصيحة فأيِ حاجة لك في نصيحتي‪ ،‬و إن لم يبلغك منه فقل لي ماذا حصلت في هذه السنين الماضية‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬من جملة‪ .‬ما نصح به رسول ا صلى ا عليه و سلم أمته قوله‪ ":‬علمة إعراض ا عن العبد اشتغاله بما ل يعنيه و‬
‫إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته و من جاوز الربعين و لم يغلب خيره شره‬
‫فليتجهز إلى نار"‪ ،‬و في هذه النصيحة كفاية لهل العلم‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬النصيحة سهلة و المشكل قبولها لنها في مذاق متبعي الهوى مرة إذ المناهي محبوبة في قلوبهم و على الخصوص لمن‬
‫كان طالب العلم الرسمي مشتغل في فصل النفس و مناقب الدنيا‪ ،‬فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته و خلصه فيه‪ ،‬و إنه‬
‫مستغن عن العمل‪ .‬و هذا اعتقاد الفلسفة‪ .‬سبحان ا العظيم ل يعلم هذا القدر أنه حين حصل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة‬
‫عليه آكد‪ ،‬كما قال رسول ا صلى ا عليه و سلم‪ ":‬أشد الناس عذابا ل يوم القيامة عالم ل ينفعه ا بعلمه"‪.‬‬
‫و رويِ أن الجنيد قدس ا سره رأى في المنام موته‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال‪ :‬طاحت تلك العبارات‪ ،‬و فنيت تلك‬
‫الشارات و ما نفعنا إل ركيعات ركعناها في جوف الليل‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬ل تكن من العمال مفلسلا‪ ،‬و ل من الحوال خاليا ل و تيقن أن العلم المجرد ل يأخذ اليد‪ ،‬مثاله‪ :‬لو كان على رجل في برية‬
‫عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى‪ ،‬و كان الرجل شجاعا ل و أهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك هل تدفع السلحة‬
‫شره عنه بل استعمالها و ضربها؟ فمن المعلوم أنها ل تدفع إل بالتحريك و الضرب‪ ،‬فكذا لو قرأ رجل مائاة ألف مسألة علمية و‬
‫تعلمها و لم يعمل بها ل تفيده إل بالعمل‪ ،‬و مثله أيضا ل لو كان لرجل حرارة و مرض صفراويِ يكون علجه بالسكنجبين و‬
‫الكشكاب فل يحصل البرء إل باستعمالها )شعر(‪:‬‬
‫كرمي دواهزار رطل همي بيمائاي‬
‫تامي نخوريِ نباشدت شيبدائاي‬
‫لندساهن إهلا دما دسدعى " )‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫د‬ ‫ي‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫أن‬‫و لو قرأت العلم مائاة سنة و جمعت ألف كتاب‪ ،‬ل تكون مستعدال لرحمة ا تعالى إل بالعمل‪ " :‬دو د‬
‫ه‬
‫صالهلحا " ]الكهف‪ " ،[110 :‬دجدزاء هبدما دكاانولا ديلكهسابودن " ]التوبة‪ " .[82 :‬إهان‬ ‫النجم‪ " ،(39 :‬دفدمن دكادن ديلراجو لهدقاء دررَبهه دفللديلعدملل دعدمل د‬
‫حدول "‬ ‫س انازل)‪ (107‬دخالههديدن هفيدها ل ديلباغودن دعلندها ه‬ ‫ت اللهفلرددلو ه‬
‫ت دلاهلم دجانا ا‬ ‫ت دكادن ل‬ ‫الاهذيدن آدمانوا دودعهمالوا ال ا‬
‫صالهدحا ه‬
‫ص ‪276‬‬
‫صالهلحا " ]الفرقان‪ .[70 :‬و ما تقول في هذا الحديث‪" :‬بني السلم على‬ ‫ب دوآدمدن دودعهمدل دعدمل د‬ ‫د‬ ‫ا‬
‫]الكهف‪" ،[108 ،107 :‬إهل دمن تا د‬
‫خمس‪ :‬شهادة أن ل إله إل ا و أن محمد رسول ا‪ ،‬و إقام الصلة‪ ،‬و إيتاء الزكاة‪ ،‬و صوم رمضان‪ ،‬و حج البيت من استطاع‬
‫إليه سبيلل"‪ .‬و اليمان قول باللسان و تصديق بالجنان و عمل بالركان‪ ،‬و دليل العمال أكثر من أن يحصى إن كان العبد يبلغ‬
‫الجنة بفضل ا تعالى و كرمه‪ ،‬لكن بعد أن يستعد بطاعته و عبادته لن رحمة ا قريب من المحسنين‪ ،‬و لو قيل أيضا ل يبلغ بمجرد‬
‫اليمان‪ ،‬قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬لكن متى يبلغ؟ و كم من عقبة كؤود يقطعها إلى أن يصل؟ فأول تلك العقبات عقبة اليمان‪ ،‬و انه هل يسلم من‬
‫سلب اليمان أم ل؟ و إذا وصل‪ ،‬هل يكون خائانا ل مفلسلا؟ و قال الحسن البصريِ‪ :‬يقول ا تعالى لعبادة يوم القيامة‪ :‬ادخلوا يا عباديِ‬
‫الجنة برحمتي و اقتسموها بأعمالكم‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬ما لم تعمل لم تجد الجر‪.‬‬
‫حكي أن رجلل من بني إسرائايل عبد ا تعالى سبعين سنة فأراد ا تعالى أن يجلوه على الملئاكة فأرسل ا إليه ملكا ل يخبره أنه مع‬
‫تلك العبادة ل يليق به دخول الجنة‪ ،‬فلما بلغه قال العابد‪ :‬نحن خلقنا للعبادة فينبغي لنا أن نعبده‪ ،‬فلما رجع الملك قال‪ :‬إلهي أنت أعلم‬
‫بما قال‪ ،‬فقال ا تعالى‪ " :‬إذا هو لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع الكرم ل نعرض عنه‪ ،‬اشهدوا يا ملئاكي أني قد غفرت له"‪ ،‬قال‬
‫رسول ا صلى ا عليه و سلم ‪ " :‬حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا"‪ .‬و قال على رضي ا عنه‪" :‬‬
‫من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن‪ ،‬و من ظن أنه يبذل الجهد يصل فهو مستغن"‪ .‬و قال الحسن رحمة ا تعالى‪) :‬طلب‬
‫الجنة بل عمل ذنب من الذنوب(‪ .‬و قال‪ :‬علمة الحقيقة ترك ملحظة العمل ل ترك العمل‪ .‬و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم‪:‬‬
‫" الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الحمق من اتبع هواه و تمنى على ا الماني"‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬كم من ليال أحييتها بتكرار العلم و مطالعة الكتب و حرمت على نفسك النوم‪ ،‬ل أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل‬
‫عرض الدنيا و جذب حطامها و تحصيل مناصبها و المباهاة على القران و المثال فويل لك ثم ويل لك‪ .‬و إن كان قصدك فيه‬
‫إحياء شريعة النبي صلى ا عليه و سلم و تهذيب أخلقك و كسر النفس اليمارة بالسوء‪ ،‬فطوبي لك ثم طوبي لك‪ .‬و لقد صدق من‬
‫قال شعرال‪:‬‬
‫سهر العيون لغير وجهك ضائاع‬
‫و بكاؤهن لغير فقدك باطل‬
‫أيها الولد‪ :‬عش ما شئات فإنك ميت‪ ،‬و أحبب من شئات فأنك مفارقه‪ ،‬و اعمل ما شئات فإنك مجزيِ به‪.‬‬
‫ص ‪277‬‬
‫أيها الولد‪ :‬أيِ شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلم‪ ،‬و الخلف و الطب و الدواوين و الشعار و النجوم و العروض و النحو و‬
‫التصريف غير تضييع العمر بخلف ذيِ الجلل‪ ،‬إني رأيت في إنجيل عيسى الصلة و السلم‪ ،‬قال‪ :‬من ساعة أن يوضع الميت‬
‫ل‪ ،‬ل أوله يقول عبديِ طهرت منظر الخلق سنين و‬ ‫على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل ا بعظمته منه أربعين سؤا ل‬
‫ما طهرت منظريِ ساعة و كل يوم ينظر في قلبك يقول‪ :‬ما تصنع لغيريِ و أنت محفوف بخيريِ‪ ،‬أما أنت أصم ل تسمع‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬العلم بل عمل جنون‪ ،‬و العمل بغير علم ل يكون‪.‬‬
‫و أعلم أن العلم ل يبعدك اليوم عن المعاصي‪ ،‬و ل يحملك على الطاعة‪ ،‬و لن يبعدك غدال عن نار جهنم‪ ،‬و إذا لم تفعل اليوم و لم‬
‫تدرك اليام الماضية تقول غدال يوم القيامة‪ ،‬فارجعنا نعمل صالحلا‪ ،‬فيقال‪ :‬يا أحمق أنت من هناك تجيء‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬أجعل الهمة في الروح‪ ،‬و الهزيمة في النفس‪ ،‬و الموت في البدن لن منزلك القبر‪ ،‬و أهل المقابر ينتظرونك في كل‬
‫لحظة متى تصل إليهم‪ ،‬إياك إياك أن تصل إليهم بل زاد‪ ،‬و قال أبو بكر الصديق رضي ا عنه‪ :‬هذه الجساد قفص الطيور‪ ،‬و‬
‫اصطبل الدواب‪ ،‬فتفكر في نفسك من أيهما أنت‪ ،‬إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل ارجعي إلى ربك تطير صاعدال‬
‫إلى أن تقعد في أعالي بروج الجنان‪ ،‬كما قال رسول ا صلى ا عليه و سلم ‪":‬اهتز عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ"‪ .‬و‬
‫ضمل " ]العراف‪ .[179 :‬فل تأمن انتقالك من زاوية‬ ‫ك دكالدلندعاهم دبلل اهلم أد د‬‫العياذ بال إن كنت من الدواب‪ ،‬كما قال ا تعالى‪ " :‬أ الودلهئا د‬
‫الدار إلى هاوية النار‪ ،‬و رويِ أن الحسن البصريِ رحمة ا تعالى أعطى شربة ماء بارد فأخذ القدح و غشي عليه و سقط من يده‪،‬‬
‫فلما أفاق قيل له‪ :‬مالك يا أبا سعيد؟ قال‪ :‬ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لهل الجنة أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم ا‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬لو كان العلم المجرد كافيا ل لك و ل تحتاج إلى عمل سواه‪ ،‬لكان نداء‪ :‬هل من سائال‪ ،‬هل من مستغفر‪ ،‬هل من تائاب‬
‫ضائاعلا‪ ،‬بل فائادة‪ .‬و رويِ أن جماعة من الصحابة رضي ا عنهم أجمعين ذكروا عبد ا بن عمر عند رسول ا صلى ا عليه و‬
‫سلم فقال‪ " :‬نعم الرجل هو‪ ،‬لو كان يصلي بالليل" و قال عليه السلم لرجل من أصحابه‪ " :‬يا فلن ل تكثر النوم بالليل‪ ،‬فإن كثرة‬
‫النوم بالليل يدع صاحبه فقيرال يوم القيامة"‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬و من الليل فتهجد به‪ :‬أمر‪ ،‬و بالسحار هم يستغفرون شكر‪ ،‬و المستغفرون بالسحار ذكر‪ ،‬قال عليه السلم‪ " :‬ثلثة‬
‫أصوات الذيِ يقرأ القرآن‪ ،‬و صوت المستغفرين بالسحار"‪ .‬قال سفيان الثوريِ‪ ،‬رحمة ا تعالى عليه‪ :‬إن ا تبارك و تعالى خلق‬
‫ريحا ل بالسحار تحمل الذكار و الستغفار إلى الملك الجبار‪،‬‬
‫ص ‪278‬‬
‫و قال أيضا ل‪ :‬إذا كان أويل الليل يناديِ مناد من تحت العرش‪ :‬أل ليقيم العابدون فيقومون و يصلون ما شاء ا‪ ،‬ثم يناديِ مناد في‬
‫شطر الليل‪ :‬أل ليقيم القانتون‪ ،‬فيقومون و يصلون إلى السحر‪ ،‬فإذا كان السحر ناديِ مناد‪ :‬أل يقيم المستغفرون‪ ،‬فيقومون و‬
‫يستغفرون‪ ،‬فإذا طلع الفجر ناديِ مناد‪ :‬أل ليقيم الغافلون‪ ،‬فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬رويِ في وصايا لقمان الحكيم لبنه أنه قال‪ :‬يا بني ل يكونن الديك أكيس منك يناديِ بالسحار و أنت نائام‪ ،‬و لقد أحسن‬
‫من قال شعرال‪:‬‬
‫لقد هتفت في جنح ليل حمامة ‪ ...‬على فنن و هنا و إني لنائام‬
‫كذبت و بيت ا لو كنت عاشقا ل ‪ ...‬لنا سبقتني بالبكاء الحمائام‬
‫و أزعم أني هائام ذو صبابة ‪ ...‬لربي فل أبكي‪ ،‬و تبكي البهائام‬
‫أيها الولد‪ :‬خلصة العلم أن تعلم أن الطاعة و العبادة ما هي‪.‬‬
‫اعلم‪ :‬أنا الطاعة و العبادة متابعة الشارع في الوامر و النواهي‪ ،‬بالقول و الفعل‪ .‬يعني كل ما تقول و تفعل و تترك و يكون باقتداء‬
‫الشرع‪ ،‬كما لو صمت يوم العيد و أيام التشريق تكن عاصيلا‪ ،‬أو صليت في ثوب مغصوب و إن كانت صورة عبادة تأثم‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬ينبغي لك أن يكون قولك و فعلك موافقا ل للشرع إذ العلم و العمل بل اقتداء الشرع ضللة‪ ،‬و ينبغي لك أن ل تغتر‬
‫بالشطح و طامات الصوفية لن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة و قطع شهوة النفس و قتل هواها بسيف الرياضة ل بالطامات‬
‫و التراهات‪.‬‬
‫و اعلم‪ ،‬أن اللسان المطلق و القلب المطبق المملوء بالغفلة و الشهوة علمة الشقاوة‪ ،‬حتى ل تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيي‬
‫قلبك بأنوار المعرفة‪.‬‬
‫و اعلم أن بعض مسائالك التي سألتني عنها ل يستقيم جوابها بالكتابة و القول إن لم تبلغ تلك الحالة تعرف ماهي‪ ،‬و إل فعلمها من‬
‫المستحيلت لنها ذوقية‪ ،‬و كل ما يكون ذوقيا ل ل يستقيم وصفه بالقول كحلوة الحلو و مرارة المر ل يعرف إل بالذوق‪ .‬كما حكي‬
‫أن عنينا كتب إل صاحب له أن عرفني لذة المجامعة كيف تكون‪ ،‬فكتب له في جوابه‪ :‬يا فلن إني كنت حسبتك عنينا ل فقط‪ .‬الن‬
‫عرفت أنك عنين أحمق‪ .‬لن هذه اللذة ذوقية إن تصل إليها تعرف‪ ،‬و إل ل يستقيم وصفها بالقول و الكتابة‪.‬‬
‫ص ‪279‬‬
‫أيها الولد‪ :‬بعض مسائالك من هذا القبيل‪ ،‬و أما البعض الذيِ يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في إحياء العلوم و غيره‪ .‬و تذكر ههنا‬
‫نبدأ منه و نشير إليه فنقول‪ :‬قد وجب على السالك أربعة أمور‪:‬‬
‫المر الول‪ :‬اعتقاد صحيح ل يكون فيه بدعة‪.‬‬
‫و الثاني‪ :‬توبة نصوح ل يرجع بعدها إلى الزلة‪.‬‬
‫و الثالث‪ :‬استرضاه الخصوم حتى ل يبقى لحد عليك حيق‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤديِ به أوامر ا تعالى‪ .‬ثم من العلوم الخرة ما يكون به النجاة‪.‬‬
‫حكي أن الشبلي رحمة ا خدم أربعمائاة أستاذ‪ ،‬و قال‪ :‬قرأت أربعة آلف حديث‪ ،‬ثم اخترت منها حديثا ل واحدال و عملت به و خليت‬
‫ما سواه لني تأملته فوجدت خلصي و نجاتي فيه‪ .‬و كأن علم الولين و الخرين كله مندرجا ل فيه فاكتفيت به‪ ،‬و ذلك أن رسول ا‬
‫صلى ا عليه و سلم قال لبعض أصحابه‪ " :‬أعمل لدنياك بقدر مقامك فيها‪ ،‬و اعمل لخرتك بقدر بقائاك فيها‪ ،‬و اعمل ل بقدر‬
‫حاجتك إليه‪ ،‬و اعمل للنار بقدر صبرك عليها"‪.‬‬
‫أيها الولد‪ :‬إذا علمت هذا الحديث ل حاجة إلى العلم الكثير‪ ،‬و تأمل في حكاية أخرى‪ :‬و ذلك أن حاتما ل الصم كان من أصحاب‬
‫الشقيق البلخي رحمة ا تعالى عليهما‪ ،‬فسأله يوما ل قال‪ :‬صاحبتني منذ ثلثين سنة ما حصلت فيها؟ قال‪ :‬حصلت ثماني فوائاد من‬
‫العلم و هي تكفيني منه لني أرجو خلصي و نجاتي فيها‪ ،‬فقال شقيق‪ :‬ماهي! قال حاتم الصم‪:‬‬
‫الفائادة الولى‪ :‬إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ل و معشوقا ل يحبه و يعشقه و بعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض‬
‫الموت و بعضه إلى شفير القبر‪ ،‬ثم يرجع كله و يتركه فريدال وحيدال و ل يدخل معه في قبره منهم أحد‪ ،‬فتفكرت و قلت‪ :‬أفضل‬
‫محبوب المرء ما يدخل معه في قبره و يؤانسه فيه فما وجدت غير العمال الصالحة فأخذتها محبوبا ل لي لتكون سراجا ل لي في‬
‫قبريِ‪ ،‬و تؤانسني فيه و ل تتركني فريدال‪.‬‬
‫ف دمدقادم دررَبهه دودندهى‬ ‫د‬
‫الفائادة الثانية‪ :‬إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائاهم و يبادرون إلى مرادات أنفسهم فتأملت قوله تعالى‪ :‬دوأاما دملن دخا د‬
‫س دعهن اللدهدوى )‪ (40‬دفإهان اللدجاندة ههدي اللدمألدوى( ]النازعات‪ [40،41 :‬و تيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلف نفسي و‬ ‫الانلف د‬
‫تشمرت بمجاهدتها و ما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة ا سبحانه و تعالى و انقادت‪.‬‬
‫الفائادة الثالثة‪ :‬إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكها قابضا ل يده عليه‪ ،‬فتأملت في قوله تعالى‪) :‬دما‬
‫هعندداكلم ديندفاد دودما هعندد ا‬
‫اه دباءق( ]النحل‪.[96 :‬‬
‫ص ‪280‬‬
‫فبذلت محصولي من الدنيا لوجه ا تعالى ‪ ,‬ففرقته بين المساكين ليكون ذخرال لي عند ا تعالى ‪.‬‬
‫الفائادة الرابعة ‪ :‬إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة القوام والعشائار فاغتر بهم ‪ ,‬وزعم آخر أنه في ثروة الموال‬
‫وكثرة الولد فافتخروا بها ‪ ,‬وحسب بعضهم الشرف والعز في غصب الموال الناس وظلمهم وسفك دمائاهم ‪ ,‬واعتقدت طائافة‬
‫أنه في إتلف المال وإسرافه وتبذيره ‪ ,‬وتأملت في قوله تعالى ‪ )) :‬إن أكرمكم عند ا أتقاكم (( الحجرات ‪ . 13 :‬فاخترت التقوى‬
‫واعتقدت أن القرآن حق صادق وظنهم وحسابهم كلها باطل زائال‪.‬‬
‫الفائادة الخامسة ‪ :‬إني رأيت الناس يذم بعضهم بعضا ل ويغتاب بعضهم بعضا ل ‪ ,‬فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم ‪,‬‬
‫فتأملت في قوله تعالى ‪ )) :‬نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا (( الزخرف ‪ . 32 :‬فعلمت أن القسمة كانت من ا تعالى‬
‫في الزل فما حسدت أحدال ورضيت بقسمة ا تعالى ‪.‬‬
‫الفائادة السادسة ‪ :‬إني رأيت النايِ يعاديِ بعضهم بعضا ل لغرض وسبب فتأملت قوله تعالى ‪ )) :‬إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوال‬
‫(( فاطر ‪ . 6 :‬فعلمت أنه ل يجوز عداوة آخر غير الشيطان ‪.‬‬
‫والفائادة السابعة ‪ :‬إني رأيت كل أحد يسعى بجد ويجتهد بمبالغة لطب لطلب القوت والمعاش بحيث يقع به في شبهة وحرام ‪ ,‬ويذل‬
‫نفسه ‪ ,‬وينقص قدره ‪ ,‬فتأملت في قوله تعالى ‪ )) :‬وما من دابة في الرض إل على ا رزقها (( هود ‪ . 6 :‬فعلمت أن رزقي على‬
‫ا تعالى ‪ ,‬وقد ضمنه فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه ‪.‬‬
‫الفائادة الثامنة ‪ :‬إني رأيت كل واحدا معتمدال على شيء مخلوق بعضهم إلى الدينار مثله ‪ ,‬فتأملت قوله تعالى ‪ )) :‬ومن يتوكل على‬
‫ا فهو حسبه إن ا بالغ أمره قد جعل ا لكل شيء قدرا (( الطلق ‪ . 3:‬فتوكلت على ا تعالى فهو حسبي ونعم الوكيل ‪ ,‬فقال‬
‫شقيق ‪ :‬وفقك ا تعالى إني قد نظرت التوراة والنجيل والزبور والفرقان ‪ ,‬فوجدت الكتب الربعة تدور على هذه الفوائاد الثمانية‬
‫‪ ,‬فمن عمل بها كان عاملل بهذه الكتب الربعة ‪.‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬قد علمت من هاتين الحكايتين أنك ل تحتاج إلى تكثير العلم ‪ ,‬والن أبين ما يجب على سالك سبيل الحق ‪.‬‬
‫فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مربى ليخرج الخلق السيئاة منه بتربيته ويجعل مكانها خلقا ل حسنا ل ‪ .‬ومعنى التربية يشبه فعل‬
‫الفلح الذيِ يقلع الشوك ويخرج النباتات‬
‫ص ‪281‬‬
‫الجنبية من بين الزرع ليحسن بناته ويكمل ريعه ‪ ,‬ول بد للسالك من شيخ يؤديه ويرشده إلى سبيل ا تعالى ‪ ,‬لنه ا أرسل للعباد‬
‫رسولل للرشاد إلى سبيله ‪ ,‬فإذا ارتحل صلى ا عليه وسلم فقد خلف الخلفاء في مكانه حتى يرشدوا إلى ا تعالى ‪ ,‬وشرط الشيخ‬
‫الذيِ يصلح أن يكون نائابا ل لرسول ا صلوات ا وسلمه عليه أن يكون عالما ل ‪ ,‬ولكن ل كل عالم يصلح للخلفة ‪ ,‬وإني أبين لك‬
‫بعض علمته على سبيل الجمال حتى ل يدعى كل أحد أنه مرشد ‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬من يعرض عن حب الدنيا وحب الجاه ‪ ,‬وكان قد تابع لشخص بصير يتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى ا عليه‬
‫وسلم وكان محسنا ل رياضة نفسه من قلة الكل والقول والنوم ‪ ,‬وكثرة الصلوات والصدقة والصوم ‪ ,‬وكان بمتابعته الشيخ البصير‬
‫جاعلل محاسن الخلق له سيرة كالصبر والصلة والشكر والتوكل واليقين والقناعة وطمأنينة النفس والحلم والتواضع العلم‬
‫والصدق والحياء والوفاء والوقار ولسكون والتأني وأمثالها ‪ ,‬فهو إذال نور من أنوار النبي صلى ا عليه وسلم يصلح القتداء به ‪,‬‬
‫ولكن وجود مثله نادر أعز من الكبريت الحمر ‪ ,‬ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا ل كما ذكرنا وقبله الشيخ ينبغي أن يحترمه‬
‫ظاهرال وباطنا ل ‪ .‬أما احترام الظاهر فهو أن ل يجادله ول يشتغل بالحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه ‪ ,‬ول يلقى بين يديه‬
‫سجادته إل وقت أداء الصلة فإذا فرغ يرفعها ‪ ,‬ول يكثر نوافل الصلة بحضرته ‪ ,‬ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه‬
‫وطاقته ‪ .‬وأما احترام الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر ل ينكره في الباطن ل فعلل ول قولل لئال يتسم بالنفاق ‪,‬‬
‫وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق باطنه وظاهره ‪ ,‬ويحترز عن مجالسة صاحب السوء ليقصر ول ية شياطين الجن‬
‫والنس من صحن قلبه فيصفى عن لوث الشيطنة ‪ ,‬وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى ‪ .‬ثم اعلم ‪ ,‬أن التصوف له خصلتان ‪:‬‬
‫الستقامة والسكون عن الخلق ‪ ,‬فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو صوفي ‪ .‬والستقامة أن يفديِ حظ نفسه لنقسه‬
‫‪ ,‬وحسن الخلق مع الناس أن ل تحمل الناس على مراد نفسك بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع ‪ ,‬ثم إنك سألتني‬
‫عن العبودية ‪ ,‬وهي ثلثة أشياء أحدها ‪ :‬محافظة أمر الشرع ‪ ,‬وثانيها ‪ :‬الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة ا تعالى ‪ ,‬وثالثها ‪ :‬ترك‬
‫رضاء نفسك في طلب رضاء ا تعالى ‪ ,‬وسألتني عن التوكل هو أن تستحكم اعتقادك بال تعالى فيما وعد يعني تعتقد أن ما قدر‬
‫لك سيصل إليك ل محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه عنك ‪ ,‬وما لم يكتب لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم ‪.‬‬
‫وسألتني عن الخلص ‪ ,‬وهو أن تكون أعمالك كلها ل تعالى ول يرتاح قلبك بمحامد الناس ول تبالي بمذمتهم ‪ .‬واعلم ‪ ,‬أن الرياء‬
‫من تعظيم‬
‫ص ‪282‬‬
‫الخلق ‪ ,‬وعلجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة لتخلص من مراءاتهم‬
‫‪ ,‬ومتى تحسبهم ذويِ قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء ‪.‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬والباقي من مسائالك بعضها مسطور في مصنفاتي فاطلبه منه وكتابة بعضها حرام ‪ ,‬اعمل أنت بما تعمل ليكشف لك‬
‫مالك تعلم ‪.‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬بعد اليوم ل تسألني ما أشكل عليك إل بلسان الجنان قوله تعالى ‪ )) :‬ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرال لهم‬
‫(( الحجرات ‪ . 5 :‬واقبل نصيحة الخضر عليه السلم حين قال ‪ )) :‬فل تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا (( الكهف‪. 7:‬‬
‫ول تستعجل حتى تبلغ أو انه يكشف لك وتراه ‪ )) :‬سأريكم آياتي فل تستعجلون (( النبياء ‪ . 37 :‬فل تسألني قبل الوقت ‪ :‬وتيقن‬
‫أنك ل تصل إل بالسير لقوله تعالى ‪ )) :‬أو لم يسيروا في الرض فينظروا (( الروم ‪ , 9 :‬غافر‪. 21 :‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬بال إن تسر تر العجائاب في كل منزل ‪ ,‬وابذل روحك فإن رأس هذا المر بذل الروح كما قال ذو النون المصريِ‬
‫رحمه ا تعالى لحد من تلمذته ‪ :‬عن قدرت على بذل الروح فتعال وإل فل تشتغل بترهات الصوفية ‪.‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬إني أنصحك بثمانية أشياء اقبلها مني لئال يكون علمك خصما ل عليك يوم القيامة ‪ ,‬تعمل منها أربعة ‪ ,‬وتدع منها أربعة‬
‫أما اللواتي تدع ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ل تناظر أحدال في مسألة ما استطعت لن فيها آيات كثيرة فإثمها أكبر من نفعها ‪ ,‬إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء‬
‫والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها ‪ ,‬نعم لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو قوم كانت إرادتك فيها أن تظهر الحق‬
‫ول يضيع جاز البحث لكن لتلك الرادة علمتان ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أن ل تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على غيرك ‪ ,‬والثانية‬
‫‪ :‬أن يكون البحث في الخلء أحب إليك من أن يكون في المل ‪ ,‬واسمع إني أذكر لك ههنا فائادة ‪ .‬واعلم أن السؤال عن المشكلت‬
‫عرض مرض القلب إلى الطبيب والجواب له سعى لصلح مرضه ‪ .‬واعلم ‪ :‬أن الجاهلين المرضى قلوبهم والعلماء الطباء‬
‫والعالم الناقص ل يحسن المعالجة والعالم الكامل ل يعالج كل مريض بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلح ‪ .‬وإذا كانت‬
‫العلة مزمنة أو عقيما ل تقبل العلج فحذاقة الطبيب فيه أن يقول هذا ل يقبل العلج فل تشتغل فيه بمداواته لن فيه تضييع العمر ‪,‬‬
‫ثم اعلم ‪ ,‬أن مرض الجعل على أربعة أنواع ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬يقبل العلج والباقي ل يقبل أما الذيِ ل يقبل ) أحدها ( من كان سؤاله واعتراضه عن حسده وبغضه فكلما تجيبه بأحسن‬
‫وأفصحه وأوضحه فل يزيد له ذلك إل بغضا ل وعداوة وحسدال ‪ ,‬فالطريق أن ل تشغل بجوابه فقد قيل‪:‬‬
‫ص ‪283‬‬
‫كل العداوة قد ترجى إزالتها‬
‫إل عداوة من عاداك عن حسد‬
‫فينبغي أن تعرض عنه وتتركه مع مرضه ‪ ,‬قال ا تعالى ‪ )) :‬فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا (( النجم‪:‬‬
‫‪ . 29‬والحسود بكل ما يقول ويفعل أوقد نار في زرع علمه ‪ ,‬الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬أن تكون علته من الحماقة وهو أيضا ل ل يقبل العلج ‪ ,‬كما قال عيسى عليه السلم ‪ :‬إني ما عجزت عن إحياء الموتى وقد‬
‫عجزت عن معالجة الحمق ‪ ,‬وذلك رجل يشتغل بطلب العلم زمنا ل فليلل ويتعلم شيئاا ل من العلم العقلي والشرعي فيسأل ويعترض‬
‫من حماقته على العالم الكبير الذيِ مضى عمره في العلوم العقلية والشرعية ‪ ,‬وهذا الحمق لم يعلم ويظن أن ما أشكل عليه هو‬
‫أيضا ل مشكل للعالم الكبير ‪ ,‬فإذا لم يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة ‪ ,‬فينبغي أن ل يشتغل بجوابه ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن يكون مسترشدال وكل ما ل يفهم من كلم الكابر يحمل على قصور فهمه وكان سؤاله للستفادة لكن يكون بليدا ل‬
‫ل‬
‫يدرك الحقائاق فل ينبغي الشتغال بجوابه أيضا ل ‪ ,‬كما قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬نحن معاشر النبياء أمرنا أن نكلم‬
‫الناس على قدر عقولهم (( ‪ .‬وأما المرض الذيِ يقبل العلج فهو أن يكون مسترشدال عاقلل فهما ل ل يكون مغلوب الحسد والغضب‬
‫وحب الشهوة والجاه والمال ‪ ,‬ويكون طالب الطريق المستقيم ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد وتعنت وامتحان ‪ ,‬وهذا يقبل‬
‫العلج فيجوز أن تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬مما تدع وهو أن تحذر أن تكون واعظا ل ومذكرال لن فيه آفة كثيرة إل أن تعمل بما تقول أولل ‪ ,‬ثم تعظ به الناس فتفكر‬
‫فيما قيل لعيسى عليه السلم ‪ :‬يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي من ربك ‪ .‬وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز‬
‫عن خصلتين ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬عن التكلف في الكلم بالعبارات والشارات والطامات والبيات والشعار لن ا تعالى يبغض المتكلفين ‪ ,‬والمتكلف‬
‫المتجاوز عن الحد يدل على خراب الباطن وغفلة القلب ‪ ,‬ومعنى التذكير أن يذكر العبد نار الخرة وتقصير نفسه في خدمة الخالق‬
‫‪ ,‬ويتفكر في عمره الماضي الذيِ أفناه فيما ل يعنيه ‪ ,‬ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم اليمان في الخاتمة وكيفية حاله في‬
‫قبض ملك الموت ‪ ,‬وهل يقدر على جواب منكر ونكير ‪ ,‬ويهتم بحاله في القيامة وموابقها ‪ ,‬وهل يعبر عن الصراط سالما ل أم يقع‬
‫في الهاوية ‪ ,‬ويستمر ذكر هذه الشياء في قلبه فيزعجه عن قراره ‪ ,‬فغليان هذه النيران وتوجه هذه المصائاب يسمى‬
‫ص ‪284‬‬
‫تذكيرال وإعلمهم الخلق وإطلعهم على هذه الشياء وتنبيههم على تقصيرهم و تفطيرهم وتبصيرهم بعيوب أنفسهم التمس حرارة‬
‫هذه النيران أهل المجلس وتجزعهم تلك المصائاب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة ‪ ,‬وينحسروا على اليام الخالية في غير‬
‫طاعة ا تعالى ‪ ,‬هذه الجملة على هذا الطريق يسمى وعظا ل كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد وكان هو وأهله فيها‬
‫فتقول ‪ :‬الحذر الحذر ‪ ,‬فروا من السيل وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خبرك بتكليف العبارات والنكت‬
‫والشارات فل تشتهي البتة فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها ‪.‬‬
‫والخصلة الثانية ‪ :‬أن ل تكون همتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد ويشقوا الثياب ليقال نعم المجلس هذا ‪,‬‬
‫لن كله ميل للدنيا وهو يتولد من الغفلة ‪ ,‬بل ينبغي أن يكون عزمك وهمتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الخرة ‪ ,‬ومن المعصية‬
‫إلى الطاعة ومن الحرص إلى الزهد ‪ ,‬ومن البخل إلى السخاء ‪ ,‬ومن الغرور إلى التقوى وتحبب إليهم الخرة وتبغض إليهم الدنيا ‪,‬‬
‫وتعلمهم علم العبادة والزهد لن الغالب في طباعهم الزيغ عن منهج الشرع والسعي فيما ل يرضي ا تعالى به ‪ ,‬والستشعار‬
‫بالخلق الردية فالق في قلوبهم الرعب وروعهم وحذرهم عما يستقبلون من المخاوف ‪ ,‬ولعل صفات باطنهم تتغير ومعاملة‬
‫ظاهرهم تتبدل ‪ ,‬وينظروا الحرص والرغبة في الطاعة ‪ ,‬والرجوع عن المعصية ‪ ,‬وهذا طريق الوعظ والنصيحة ‪ ,‬وكل وعظ ل‬
‫يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع ‪ ,‬بل قيل إنه غول وشيطان يذهب بالخلق عن طريق ويهلكهم ‪ .‬فيجب عليهم أن يفروا‬
‫منه لن مايفيد هذا القائال من دينهم ل يستطيع يمله الشيطان ‪ ,‬ومن كانت له يد وقدوة يجب عليه أن ينزله عن منابر المواعظ‬
‫ويمنعه عما باشر ‪ ,‬فإنه من جملة المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬مما تدع ل تخالط المراء والسلطين ‪ ,‬ول تراهم لن رؤيتهم ومجالسهم ومخالطتهم آفة عظيمة ‪ ,‬ولو ابتليت بها دع‬
‫عنك مدحهم وثناءهم لن ا تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم ‪ ,‬ومن دعا بطول بقائاهم فقد أحب أن يعصي ا في أرضه ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬مما تدع أن ل تقبل شيئاا ل من عطاء المراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلل لن الطمع منهم يفسد الدين لنه يتولد‬
‫منه المداهنة ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ‪ ,‬وهكذا كله فساد في الدين وأقل مضرته أنك إذا قبلت عطاياهم وانتفعت من‬
‫دنياهم أحببته ومن أحب أحدال يحب طول عمره وبقائاه بالضرورة ‪ ,‬وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد ا تعالى‬
‫وإرادة خراب العالم ‪ ,‬فأيِ شيء يكون أضر من هذا الدين والعاقبة ‪ ,‬وإياك وإياك أن يخدعك استهواء الشياطين أو قال بعض‬
‫الناس لك بأن الفضل‬
‫ص ‪285‬‬
‫والولى أن تأخذ الدينار والدرهم منهم وتفرقها بين الفقراء والمساكين ‪ ,‬فإنهم ينفقون في الفسق والمعصية ‪ ,‬وإنفاقك على ضعفاء‬
‫الناس خير من إنفاقهم ‪ ,‬فإن اللعين قد قطع أعناق كثيرة من الناس بهذه الوسوسة ‪ .‬وقد ذكرناه في إحياء العلوم فاطلبه ثمة ‪.‬‬
‫وأما الربعة التي ينبغي لك أن تفعلها ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن تجعل معاملتك مع ا تعالى بحيث لو عامل معك بها عبدك ترضى بها منه ول يضيق خاطرك عليه ول تغضب ‪,‬‬
‫والذيِ ل ترضى لنفسك من عبدك المجازيِ فل ترضى أيضا ل ل تعالى وهو سيدك الحقيقي ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬كلما عملت الناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم لنه ل يكمل إيمان عبد حتى يحب لسائار الناس ما يحب لنفسه ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬إذا قرأت العلم أو طالعته ينبغي أن يكون علمك يصلح قلبك ويزكي نفسك ‪ ,‬كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع‬
‫‪ ,‬فبالضرورة ل تشتغل فيها بعلم الفقه والخلق والصول والكلم وأمثالها لنك تعلم أن هذه العلوم ل تغنيك ‪ ,‬بل تشتغل بمراقبة‬
‫القلب ومعرفة صفات النفس ‪ ,‬والعراض عن علئاق الدنيا ‪ ,‬وتزكي نفسك عن الخلق الذميمة وتشتغل بمحبة ا تعالى وعبادته‬
‫‪ ,‬والتصاف بالوصاف الحسنة ‪ .‬ول يمر على عبد يوم وليلة إل ويمكن أن يكون موته فيه ‪.‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬اسمع مني كلما ل آخر وتفكر فيه حتى تجد خلصا ل لو أنك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يختارك وزيرال ‪ .‬اعلم أنك في‬
‫تلك المدة ل تشتغل إل بإصلح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن والدار والفراش وغيرها ‪ ,‬والن تفكر إلى‬
‫ما أشرت به فإنك فهم والكلم الفرد يكفي ‪ ,‬أليس قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬إن ا ل ينظر إلى صوركم ول إلى‬
‫أعمالكم ‪ ,‬ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم (( ‪ .‬وإن أردت علم أحوال القلب فانظر إلى الحياء وغيره من مصنفاتي ‪ .‬وهذا العلم‬
‫فرض عين وغيره فرض كفاية إل مقدار ما يؤديِ به فرائاض ا تعالى وهو يوفقك حتى تحصله ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن ل تجمع من الدنيا أكثر من كفاية السنة ‪ ,‬كما كان رسول ا صلى ا عليه وسلم يعد ذلك لبعض حجراته ‪ ,‬وقال ‪)) :‬‬
‫اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا ل (( ‪ .‬ولم يكن يعد ذلك لكل حجراته بل كان يعده لمن علم أن في قلبها ضعفا ل ‪ ,‬وأما من كانت‬
‫صاحبة يقين ما كان يعد لها أكثر من قوت يوم ونصف ‪.‬‬
‫أيها الولد ‪ :‬إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك فينبغي لك أن تعمل بها ول تنساني فيه من أن تذكرني في صالح دعائاك ‪ ,‬وأما‬
‫الدعاء الذيِ سألت منى فاطلبه من دعوات الصحاح واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك خصوصا ل أعقاب صلواتك ‪ ,‬اللهم إني أسألك من‬
‫ص ‪286‬‬
‫النعمة تمامها ‪ ,‬ومن العصمة دوامها ‪ ,‬ومن الرحمة شمولها ‪ ,‬ومن العافية حصولها ‪ ,‬ومن العيش أرغده ‪ ,‬ومن العمر أسعده ‪,‬‬
‫ومن الحسان أثمه ‪ ,‬ومن النعام أعمه ‪ ,‬ومن الفضل أعذبه ‪ ,‬ومن اللطف أقربه ‪ ,‬اللهم كن لنا ول تكن علينا ‪ ,‬اللهم أختم بالسعادة‬
‫آجالنا ‪ ,‬وحقق بالزيادة آمالنا ‪ ,‬واقرن بالعافية غدونا وآصالنا ‪ ,‬واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ‪ ,‬واصبب سجال عفوك على‬
‫ذنوبنا ‪ ,‬ومدن علينا بإصلح عيوبنا ‪ ,‬واجعل التقوى زادنا ‪ ,‬وفي دينك اجتهادنا ‪ ,‬وعليك توكلنا واعتمادنا ‪ ,‬اللهم ثبتنا على نهج‬
‫الستقامة ‪ ,‬وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة ‪ ,‬وخفف عنا ثقل الوزار ‪ ,‬وارزقنا عيشة البرار ‪ ,‬واكفنا واصرف‬
‫عنا شر الشرار ‪ ,‬واعتق رقابنا ورقاب آبائانا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا من النار برحمتك يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار يا‬
‫عليم يا جبار يا ا يا ا يا ا برحمتك يا أرحم الراحمين ‪ ,‬ويا أول الولين ‪ ,‬ويا آخر الخرين ويا ذا القوة المتين ‪ ,‬ويا راحم‬
‫المساكين ‪ ,‬ويا أرحم الراحمين ‪ ,‬ل إله إل أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ‪ ,‬وصلى ا على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين‬
‫والحمد ل رب العالمين ‪.‬‬
‫مشكاة النوار‬
‫الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الرسالة‬
‫الحمد ل مفيض النوار ‪ ,‬وفاتح البصار ‪ ,‬وكاشف السرار ‪ ,‬ورافع الستار ‪ ,‬والصلة على محمد نور النوار ‪ ,‬وسيد البرار ‪,‬‬
‫وحبيب الجبار ‪ ,‬وبشير الغفار ‪ ,‬ونذير القهار ‪ ,‬وقامع الكافر ‪ ,‬وفاضح الفجار ‪ ,‬وعلى آله وأصحابه الطاهرين الخيار ‪.‬‬
‫أما بعد ‪ ,‬فقد سألتني أيها الخ الكريم قيضك ا لطلب السعادة الكبرى ‪ ,‬ورشحك للعروج إلى الذروة العليا ‪ ,‬وكحل بنور الحقيقة‬
‫بصيرتك ‪ ,‬ونفى عما سوى الحق سريرتك أن أبث إليك أسرار النوار اللهية مقرونة بما يشير إليه ظواهر اليات المتلوة‬
‫والخبار المروية مثل قوله تعالى ‪ )) :‬ا نور السموات والرض (( النور‪ . 35:‬ومعنى تشبيهه ذلك بالمشكاة والزجاجة‬
‫والمصباح والزيت والشجرة مع قوله صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬إن ل سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لحرقت‬
‫اسبحات وجهه كل من أدركه بصره (( ‪ ,‬ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقى صعبا ل تنخفض دون أعاليه مرامى أعين الناظرين ‪,‬‬
‫وقرعت بابا ل مغلقا ل ل ينفتح إل للعلماء الراسخين ‪ ,‬ثم ليس كل سر يكشف ويغشى ‪ ,‬ول كل حقيقة تعرض وتجلى بل صدور‬
‫الحرار قبور السرار ‪ ,‬ولقد قال بعض العارفين ‪ :‬إفشاء سر الربوبية كفر ‪ ,‬بل قال سيد الولين والخرين ‪ )) :‬إن من العلم‬
‫كهيئاة المكنون ل يعلمه إل العلماء بال فإذا نطقوا به‬
‫ص ‪287‬‬
‫لم ينكره عليهم إل أهل الغترار بال (( ‪ ,‬ومهما كثر أهل الغترار بال وجب حفظ السرار عن وجه الشرار ‪ ,‬لكني أراك‬
‫منشرح الصدر بالنور منزه السر عن ظلمات الغرور فل أشح عليك بالشارة إلى لوامع ولوائاح والرمز إلى حقائاق ودقائاق ‪ .‬فليس‬
‫الظالم في كف العلم عن أهله بأقل منه بثه إلى غير أهله فقد قيل ‪:‬‬
‫فمن منح الاجهال علما أضاعه‬
‫ومن منع المستوجبين فقد ظلم‬
‫فاقنع بإشارات مختصرة ‪ ,‬و تلويحات موجزة فإن تحقيق القول فيه يستدعي تمهيد أصول ‪ ,‬وشرح فصول ليس له الن وقتي ول‬
‫ينصرف إليه ذهني ول همتي ‪ ,‬ومفاتيح القلوب بيد ا يفتحها إذا شاء كما شاء بما شاء ‪ ,‬وإنما ينفتح في هذا الوقت فصول ثلثة ‪:‬‬
‫الفصل الول‬
‫في بيان أن النور الحق هو ا تعالى وأن اسم النور لغيره‬
‫مجاز محض ل حقيقة له‬
‫وبيانه بأن تعرف معنى النور بالوضع الول عند العوام ‪ ,‬قم بالوضع الثاني عند الخواص ‪ ,‬ثم بالوضع الثالث عند خواص‬
‫الخواص ‪ ,‬ثم تعرف درجات النور المنسوبة إلى الخواص وحقائاقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن ا تعالى هو النور‬
‫العلى القصى ‪ ,‬وعند انكشاف حقائاقها أنه النور الحق الحقيقي وحده ل شريك له فيه ‪ .‬وأما الوضع الول العامي فالنور يشير‬
‫إلى الظهور أمر إضافي إذ يظهر الشيء ل محالة لغيره ويبطن عن غيره فيكون ظاهرال بالضافة باطنا ل بالضافة وإضافة ظهوره‬
‫إلى الدراكات ل محالة ‪ .‬وأقوى الدراكات وأجلها عند العوام الحواس ومنها حاسة البصر ‪ ,‬والشياء بالضافة إلى الحس‬
‫البصريِ ثلثة أقسام ‪ :‬منها ما ل يبصر بنفسه كالجسام المظلمة ‪ ,‬ومنها ما يبصر بنفسه ول يبصر به غيره كالجسام المضيئاة‬
‫مثل الكواكب وجسم النار إذا لم تكن مشعلة ‪ ,‬ومنها ما يبصر به غيره كالشمس والقمر والنيران المشعلة والسرج ‪ ,‬والنور اسم‬
‫لهذا القسم الثالث ‪ ,‬ثم تارة يطلق على ما يفيض من هذه الجسام المنيرة على ظواهر الجسام الكثيفة فيقال استنارت الرض ووقع‬
‫نور الشمس على الرض ‪ ,‬ونور السراج على الحائاط والثوب ‪ ,‬وتارة يطلق على نفس هذه الجسام المشرقة أيضا ل لنها في‬
‫أنفسها مستنيرة ‪ .‬وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس ‪ .‬هذا حده وحقيقته بالوضع الول ‪.‬‬
‫دقيقة ‪ :‬لما كان سر النور وروحه هو الظهور للدراك وكان الدراك موقوفا ل على وجود‬
‫ص ‪288‬‬
‫النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا ل إذ النور هو الظاهر المظهر وليس شيء من النوار ظاهرال في حق العميان ول مظهرال ‪,‬‬
‫فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهر في كونه ركنا ل ل بد منه للدراك ثم ترجح عليه أن الروح الباصرة هي المدركة وبها‬
‫الدراك ‪ ,‬وأما النور فليس بمدرك ول به إدراك بل عنده الدراك ‪ ,‬وكأن اسم النور بالنور أحق منه بالنور المبصر ‪ ,‬فأطلقوا اسم‬
‫النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعف ‪ ,‬وفي العمش إنه ضعيف نور البصر ‪ ,‬وفي العمى أنه‬
‫فقد نور بصره ‪ ,‬وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه الجفان إنما خصتها الحكمة اللهية بلون السواد وجعل العين مجفونة‬
‫بها لتجمع ضوء العين ‪ .‬وأما البياض فيفرق نور العين فيضعف نوره حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق بل إلى نور‬
‫الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما الضعيف في جنب القويِ ‪ ,‬فقد عرفت بهذا أن الروح الباصرة يسمى نورال وأنه لم يكن بهذا‬
‫السم أولى وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص ‪.‬‬
‫حقيقة ‪ :‬أعلم أن نور البصر مرسوم بأنواع من النقصان فإنه يبصر غيره ول يبصر نفسه ول يبصر ما بعد منه ول ما قرب ول‬
‫يبصر ما هو وراء حجاب ‪ ,‬ويبصر من الشياء ظاهرها دون باطنها ‪ ,‬ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها ويبصر أشياء‬
‫متناهية ول يبصر ما ل نهاية له ويغلط كثيرال في إبصاره فيرى الكبير صغيرال ويرى البعيد قريبا ل والساكن متحركا ل والمتحرك‬
‫ساكنا ل ‪ ,‬فهذه سبع نقائاص ل تفارق العين الظاهرة فأن كان في العين عين منزهة عن هذه النقائاص كلها ‪ ,‬فليت شعريِ هل هو‬
‫أولى باسم النور فاعلم أن في قلب النسان عينا ل هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة النفس‬
‫النساني ‪ ,‬دع عنك هذه العبارات ‪ ,‬فإنها إذا كثرت أوهمت عند الضعيف البصيرة كثرة المعاني فنعني به المعنى الذيِ يتميز به‬
‫العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعم المجنون ولنسمه عقلل متابعة للجمهور في الصطلح فنقول العقل أولى يسمى نورال‬
‫من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائاص السبع ‪.‬‬
‫أما الولى ‪ :‬فهو أن العين ل تبصر نفسها والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ويدرك صفات نفسه إذ يدرك نفسه عالما ل وقادرال ‪,‬‬
‫ويدرك علم نفسه ‪ ,‬ويدرك علمه بعلمه بنفسه وعلمه بعلمه بعلمه نفسه إلى غير نهاية ‪ ,‬وهذه خاصة ل تتصور لما يدرك بآلة‬
‫الجسام ووراءه سر يطول شرحه ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أن العين ل تبصر ما قرب منها قربا ل مفرطا ل ول ما بعد والعقل عنده يسوى بين القريب والبعيد ويعرج في طرقه إلى أعلى‬
‫السموات رقيا ل ‪ ,‬وينزل في لحظة إلى تخوم الرض هوليا ‪ ,‬بل إذا حقت الحقائاق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجنبات قدسه القرب‬
‫ص ‪289‬‬
‫ولبعد الذيِ يعرض بين الجسام ‪ ,‬فإنه أنموذج من بحور ا تعالى ول يخلو النموذج عن محاكاة وإن كان ل يرقى إلى ذروة‬
‫المساوقة ‪ ,‬وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬إن ا خلق آدم على صورته (( ‪ ,‬فلست أرى الن الخوض‬
‫في بيانه ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬أن العين ل تدرك ما وراء الحجاب ‪ ,‬والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السماوات وفي المل العلى‬
‫والملكوت كتصرفه في عالمه الخاص به ومملكته القريبة ‪ .‬أعني بها الخاصة به ‪ ,‬بل الحقائاق كلها ل تحجب عن العقل ‪ ,‬وإنما‬
‫حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الجفان وستعرف‬
‫هذا في الفصل الثالث من الكتاب ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬أن العين تدرك من الشياء ظاهرها وسطحها العلى دون باطنها بل قوالبها وصورها دون حقائاقها ‪ ,‬والعقل يتغلغل إلى‬
‫بواطن الشياء وأسرارها ‪ ,‬ويدرك حقائاقها وأرواحها ‪ ,‬ويستنبط أسبابها وعللها وحكمها ‪ ,‬وأنها مم حدثت وكيف خلقت ومن كم‬
‫معنى جمع الشيء وركب وعلى أيِ مرتبة في الوجود نزل وما نسبته إلى سائار مخلوقاته ؟ إلى مباحث أخر يطول شرحها نرى‬
‫اليجاز فيها أولى ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولت وعن كثير من المحسوسات ول تدرك الصوات ول‬
‫الروائاح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة ‪ .‬أعني قوة السمع والشم والذوق ‪ ,‬بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح‬
‫والسرور والغم والحزن واللم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات ل تحصى ول تعد ‪,‬‬
‫فهو ضيق المجال مختصر المجرى ل تسعه مجاوزة عالم اللوان والشكال وهما أخس الموجودات ‪ ,‬فإن الجسام في نفسها أخس‬
‫أقسام الموجودات واللوان ‪ .‬والشكال من أخس أعراضها ‪ ,‬والموجودات كلها مجال العقل إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها‬
‫وما لم نعده وهو الكثر فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما ل يقينا ل صادقا ل ‪ ,‬فالسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية‬
‫عنده جلية ‪ ,‬فمن أين للعين الباصرة مساواته في استحقاق اسم النور ‪ .‬كل بها نور بالضافة إلى غيرها ولكنها ظلمة بالضافة‬
‫إليه ‪ ,‬بل هي جاسوس من جواسيسه وكلها بأخس خزائانه وهي خزانة اللوان والشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها‬
‫بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ ‪ ,‬والحواس جواسيسه سواها وهي من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ ووراءهم خدم وجنود‬
‫مسخرة له في عالمه الحاضر يسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد ‪ ,‬وشرح ذلك يطول ‪ ,‬وقد شرحناه في كتاب‬
‫عجائاب القلب من كتب الحياء ‪.‬‬
‫السادسة ‪ :‬أن العين ل تبصر ما ل نهاية له فإنها تبصر صفات الجسام المعلومات ‪ .‬والجسام ل تتصور إل متناهية والعقل يدرك‬
‫المعقولت والمعقولت ل تتصور أن تكون‬
‫ص ‪295‬‬
‫فل يبعد أن يفجأ النسان مرآة فينظر فيها ‪ ،‬و لم يدر المرآة قط ‪ ،‬فيظن أن الصور التى رآها فى المرآة فى صورة المرآة متحدة بها‬
‫‪ ،‬و يرى الخمر فى الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج فإذآ صار ذلك عنده مألوفا ل و رسخ فيه قدمه استغرقه فقال‪:‬‬
‫ت الخمار دودتدشادبها دفدتدشادكدل المار‬ ‫دراق المزجااج دودراق ه‬
‫دو كأندما قدح و ل خمار‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫دفدكأ ددندما خمسر ول قدح‬
‫و فرق بين أن يقال الخمر قدح و بين أن يقال كأنه قدح ‪ ،‬و هذه الحالة إذا غلبت سميت بالضافة إلى صاحب الحال فناء ‪ ،‬بل فناء‬
‫الفناء لنه فنى عن نفسه و فنى عن فنائاه ‪ ،‬فإنه ليس يشعر بنفسه فى تلك الحال و ل بعد شعوره بنفسه ‪ ،‬و لو شعر بعدم شعوره‬
‫بنفسه لكان قد شعر بنفسه ‪ ،‬و تسمى هذه الحال بالضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز اتحادا ل ‪ ،‬و بلسان الحقيقة توحيدا ل‪،‬‬
‫ووراء هذه الحقائاق أيضا ل أسرار ل يجوز الخوض فيها‪.‬‬
‫خاتمة‪ :‬لعلك تشتهى أن تعرف وجه إضافة نور إلى السماوات و الرض ‪ ،‬بل وجه كونه فى ذاته نور السماوات و الرض‪ ،‬و ل‬
‫ينبغى أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور و ل نور سواه و أنه كل النوار و أنه النور الكلى ‪ ،‬لن النور عبارة عما‬
‫تنكشف به الشياء و أعلى منه ما ينكشف به و له أعلى منه ما ينكشف به و له و منه و أن الحقيقى منه ما ينكشف به و له و منه و‬
‫ليس فوقه نور منه اقتباس و استمداده بل ذلك له فى ذاته من ذاته ل من غيره ‪ ،‬ثم عرفت أن هذا ل يتصور و لن يتصف به إل‬
‫النور الول ‪ ،‬ثم عرفت أن السماوات و الرض مشحونة نورا ل من طبيعة النور‪ .‬أعنى المنسوب إلى البصر و البصيرة أى إلى‬
‫الحس و العقل‪.‬‬
‫أما البصرى فما تشاهده فى السماوات من الكواكب و الشمس و القمر و ما تشاهده فى الرض من الشعه المنبسطه على كل ما فى‬
‫الرض حتى ظهرت به اللوان المختلفه خصوصا ل فى الربيع ‪ ،‬و على كل حال من الحيوانات و النباتات و المعادن و أصناف‬
‫الموجودات و لولها لم يكن لللوان ظهور بل وجود ‪ ،‬ثم سائار ما يظهر للحس من الشكال و المقادير يدرك تبعا ل لللوان و ل‬
‫يتصور إدراكها إل بواسطتها‪.‬‬
‫أما النوار العقليه المعنويه فالعالم العلى مشحون بها و هى جواهر الملئاكه ‪ ،‬و العالم السفل مشحون بها و هى الحياة الحيوانية‬
‫ثم النسانيه و بالنور النسانى السفلى ظهر نظام العالم السفلى كما أن بالنور الملكى ظهر نظام العالم العلوى و هو المعنيى بقوله‪:‬‬
‫ض{‬‫ض دوالسدتلعدمدراكلم فهيدها{]هود‪ .[61:‬و قال ‪} :‬دلديلسدتلخلهدفاناهلم هفى الدلر ه‬ ‫}اهدو دأندشأ داكم يمدن الدلر ه‬
‫ص ‪296‬‬
‫د‬
‫ض خهليفة ل{]البقرة‪ .[30:‬فإذا عرفت‬‫د‬ ‫د‬ ‫ي‬
‫ض{]النمل‪ .[62:‬و قال ‪} :‬إهنيه دجاهعسل هفي اللر ه‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫]النور‪ . [55:‬و قال ‪} :‬دو ديلجدعلكلم خلفادء اللر ه‬
‫هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالنوار الظاهرة البصرية و الباطنة العقلية ‪ ،‬ثم عرفت أن السفلية فائاضة بعضها من بعض‬
‫فيضان النور من السراج‪ ،‬و أن السراج هو النور النبوى القدسى‪ ،‬و أن الرواح النبوية القدسية مقتبسة من الرواح العلوية اقتباس‬
‫السراج من النار‪ .‬و أن العلويات بعضها مقتبس من بعض‪ ،‬و أن ترتيبها ترتيب مقامات‪ ،‬ثم ترتقى جملتها إلى نور النوار و‬
‫معدنها و منبعها الول‪ ،‬و أن ذلك و هو ا وحده ل شريك له‪ ،‬و أن سائار النوار مستعارة منه ‪ ،‬و إنما الحقيقى نوره فقط و إن‬
‫الكل من نوره بل هو ل هوية لغيره إل بالمجاز‪ ،‬فإذا ل ل نور إل هو و سائار النوار أنوار من الوجه الذى تليه ل من ذاتها فوجه كل‬
‫موجه إليه و مويل شطره }دفأ دليدنما د اتدوملوا دفدثام دولجاه ا{]البقرة‪.[115:‬فإذال ل إله إل هو فإن الله عبارة عما الوجوه مولية نحوه بالعبادة‬
‫و التأليه‪ ،‬أعنى وجوه القلوب فإنها النوار و الرواح ‪ ،‬بل كما أنه ل إله إل هو فل هو إل هو فإن هو عبارة عما إليه الشارة‪ ،‬و‬
‫كيفما كان فل إشارة إل إليه بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الشارة إليه‪ ،‬و إن كنت ل تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائاق التى‬
‫ذكرناها‪ ،‬و ل إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس‪ ،‬فكل ما فى الوجود فنسبته إليه فى ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس‪،‬فإذال‬
‫ل إله إل ا توحيد العوام و ل هو إل هو توحيد الخواص‪ ،‬لن ذلك أعم و هذا أخص و أشمل و أحق و أدق و أدخل بصاحبه فى‬
‫الفردانية المحضة و الوحدانية الصرفة‪ ،‬و منتهى معراج الخلئاق مملكة الفردانية فليس وراء ذلك مرقاة إذ الرقى ل يتصور إل‬
‫بكثرة‪ ،‬فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الرتقاء و ما إليه الرتقاء‪ ،‬و إذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة و بطلت الضافة و طاحت‬
‫الشارة فلم يبق علو و ل سفل و ل نازل و ل مرتفع‪ ،‬فاستحال الترقى و استحال العروج فليس وراء العلى علو و ل مع الوحدة‬
‫كثرة و ل مع انتقاء الكثرة عروج‪ ،‬فإن كان ثمة تغيير من حال فبالنزول إلى السماء الدنيا‪ .‬أعنى بالشراق من علو إلى أسفل لن‬
‫العلى و إن لم يكن له أعلى فله أسفل‪.‬‬
‫فهذا غاية الغايات و منتهى الطلبات يعلمه من يعلمه و ينكره من يجهله‪ ،‬و هو من العلم الذى هو كنهه المكنون الذى ل يعلمه إل‬
‫العلماء بال فإذا نطقوا به لم ينكره إل أهل الغرة بال و ل يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ملك‪ ،‬فقد توهم‬
‫بعض العارفين ما هو أبعد منه إذ قال هذا المستغرق بالفردانيه له نزول إلى سماء الدنيا و إن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس‬
‫أو تحريك العضاء‪ ،‬و إليه الشارة بقوله عليه الصلة و السلم‪)) :‬صرت سمعه الذى يسمع به و بصره الذى يبصر به و لسانه‬
‫الذى ينطق به((‪.‬وإذا كان هو سمعه و بصره و لسانه فهو السامع و الباصر و الناطق إذال ل غيره‪ ،‬و إليه الشارة بقوله‬
‫ص ‪297‬‬
‫ت دفدللم دتاعلدهنى((الحديث‪ .‬فحركات هذا الموحد من السماء الدنيا و إحساساته من سماء فوقها و‬ ‫ض ا‬‫لموسى صلى ا عليه و سلم‪)) :‬دمهر ل‬
‫عقله فوق ذلك و هو يترقى من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلئاق و مملكة الفردانيه إلى سبع طبقات‪ ،‬ثم بعد يستوى على‬
‫عرش الوحدانية و منه يدبر المر إلى طبقات سماواته فربما نظر الناظر إليه أن ذلك له تأويل كقوله‪ :‬أنا الحق و سبحانى‪ ،‬بل‬
‫كقوله عليه الصلة و السلم ‪)) :‬مرضت فلم تعدنى و كنت سمعه و بصره و لسانه((‪ ،‬فأرى الن إمساك عنان البيان فما أراك‬
‫تطيق من هذا الفن أكثر من هذا المقدار‪.‬‬
‫مساعدة‪ :‬لعلك ل تسمو إلى هذا المكان بهمتك‪ ،‬بل تقصر دون ذروته همتك فخذ إليك كلما ل أقرب إلى فهمك و أقرب لضعفك‪،‬و‬
‫اعلم أن معنى كونه نور السماوات و الرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهرى البصرى‪ ،‬فإذا رأيت ألوان الربيع و خضرتها مثلل‬
‫فى ضياء النهار فلست تشك فى أنك ترى اللوان‪ ،‬و ربما ظننت أنك لست ترى مع اللوان غيرها فكأنك تقول لست أرى مع‬
‫الخضرة غيرها ‪ ،‬و لقد أصر على هذا أقوام فزعموا أن النور ل معنى له و أنه ليس مع اللوان غير اللوان‪ ،‬فأنكروا وجود النور‬
‫مع أنه أظهر الشياء و كيف ل و به تظهر الشياء و هو الذى يبصر فى نفسه و يبصر به غيره كما سبق‪ ،‬لكن عند غروب الشمس‬
‫و غيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل و بين موضع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء اللوان‬
‫يدرك مع اللوان حتى كأنه لشدة اتحاده بها ل يدرك و لشدة ظهوره يخفى‪ ،‬و قد تكون شدته سبب الخفاء‪ ،‬و الشىء إذا جاوز حده‬
‫انعكس على ضده فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائار ما رأوا شيئاا ل إل و رأوا ا معه‪ ،‬و ربما زاد على هذا بعضهم فقال‪ :‬ما‬
‫رأيت شيئاا ل إل رأيت ا قبله‪ .‬لن منهم من يرى الشياء به‪ ،‬و منهم من يرى الشياء فيراه بالشياء و إلى الول الشارة بقوله ‪:‬‬
‫ك أداناه دعدلى اكيل دشليءء دشههيسد{ ]فصلت‪ .[53:‬و إلى الثانى الشارة بقوله‪} :‬دسانهريههلم آددياهتدنا فيه الدفاهق دو فيه دأنفاهسههلم{‬ ‫}أددو دللم ديلكف هبدردب د‬
‫]فصلت‪.[53:‬فالول صاحب المشاهدة‪ ،‬و الثانى صاحب الستدلل بآياته‪ ،‬و الولى درجة الصديق‪ ،‬و الثانية درجة العلماء‬
‫الراسخين ‪ ،‬و ليس بعدهما إل درجة الغافلين المحجوبين‪ ،‬فإذا عرفت عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور‬
‫الظاهر فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بال فهو مع كل شىء ل يفارقه و به يظهر كل شىء‪ ،‬و لكن بقى ههنا تفاوت و هو أن‬
‫النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس و يحجب حتى يظهر الظل‪.‬‬
‫أما النور اللهى الذى به يظهر كل شىء ل يتصور غيبته بل يستحيل غروبه فيبقى مع الشياء كلها دائاما ل فانقطع طريق الستدلل‬
‫بالتفرقة و لو يضطر غيبته لنهدمت السموات و الرض و لدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت‬
‫الشياء‪ ،‬لكن لما‬
‫ص ‪298‬‬
‫تساوت الشياء كلها على نمط واحد فى الشهادة لواحدانية خالقها إذ كل كل شىء يسبح بحمده ل بعض الشياء‪ ،‬و فى جميع‬
‫الوقات ارتفع التفريق و خفى الطريق إذ الطريق الظاهر معرفة الشياء بالضداد فما ل ضد له و ل نقيض تتشابه الحوال فى‬
‫الشهادة له‪ ،‬فل بد أن يختفى و يكون خفاؤه لشدة جلئاه و الغفلة عنه لشراق ضيائاه‪ :‬فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره و‬
‫احتجب عنهم لشراق نوره‪ ،‬و ربما أيضا ل ل يفهم هذا الكلم بعض القاصرين فيفهم من قولنا إن ا مع كل شىء كالنور مع‬
‫الشياء‪ ،‬إنه فى كل مكان تعالى ة تقدس عن النسبة إلى مكان‪ ،‬بل البعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول لك قبل كل شىء و أنه فوق‬
‫كل شىء و أنه مظهر كل شىء ‪ ،‬و المظهر ل يفارق المظهر فى معرفة صاحب البصيرة‪ ،‬فهذا الذى نعنى بقولنا إنه مع كل شىء‪،‬‬
‫ثم ل يخفى عليك أيضا ل أن المظهر قبل المظهر و فوقه مع أنه معه لكنه معه بوجه و قبله بوجه فل تظن أنه متناقض و اعتبر‬
‫بالمحسوسات التى هى قدر درجتك فى العرفان‪ ،‬و انظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد و قبلها أيضلا‪ ،‬و من لم يتسع‬
‫صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم فلكل علم رجال و كل ميسر لما خلق له‪.‬‬
‫الفصل الثانى‬
‫فى بيان المشكاة و المصباح و الزجاجة و الشجرة و الزيت و النار‬
‫و بيان ذلك‪ :‬يستدعى تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود‪ ،‬و لكنى أشير إليهما بالرمز و الختصار‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬فى بيان سر التمثيل و منهاجه ووجه ضبط أرواح المعانى بقوالب المثلة‪ ،‬ووجه كيفية المناسبة بينهما و كنه الموازنة بين‬
‫عالم الشهادة التى منها يتخذ طينة المثال‪ ،‬و بين عالم الملكوت الذى منه تنزل أرواح المعانى‪.‬‬
‫و القطب الثانى‪ :‬فى طبقات أرواح الطينه البشرية و مراتب أنوارها‪ ،‬فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك‪ ،‬و قد قرأ ابن مسعود))دمدثال‬
‫ب دملن آدمدن دكملشدكا دءة فهيدها((‪.‬‬‫ب الامؤهمهن كهمشلكاءة هفليدها((]النور‪ .[35:‬و قرأ اأبى بن كعب )) دمدثال انوهر دقلل ه‬ ‫انوهرهه فى دقلل ه‬
‫القطب الول فى بيان سر التمثيل و مهاجه‬
‫اعلم أن العالم عالمان روحانى و جسمانى ‪ ،‬و إن شئات قلت حسى و عقلى ‪ ،‬و إن شئات قلت علوى و سفلى و الكل متقارب‪ ،‬وإنما‬
‫يختلف باختلف العبارات ‪ ،‬فإذا اعتبرتهما فى‬
‫ص ‪299‬‬
‫أنفسهما قلت‪ :‬جسمانى و روحانى‪ ،‬وإذا اعتبرتهما بالضافة إلى العين المدركة لهما قلت‪ :‬حسى و عقل‪ ،‬و إن اعتبرتهما بإضافة‬
‫أحدهما إلى الخر قلت علوى و سفلى‪ ،‬وربما سميت أحدهما عالم الملك و الشهادة‪ ،‬و الخر عالم الغيب و الملكوت و من ينظر‬
‫إلى الحقائاق من اللفاظ ربما يتحير من كثرتها و يتخيل كثرة المعانى و الذى تنكشف له الحقائاق يجعل المعانى أصل ل و اللفاظ‬
‫تابعة و أمر الضعيف بالعكس منه إذ يطلب الحقائاق من اللفاظ وإلى الفريقين الشارة بقوله تعالى ‪} :‬أددفدمن ديلمهشي امهكابا ل دعدلى دولجهههه‬
‫صرادءط مملسدتهقيءم{]الملك‪ .[22:‬وإذا قد عرفت معنى العاملين ‪ ،‬فاعلم أن العالم الملكوتى العلوى عالم‬ ‫أدلهددى أاامن ديلمشيه دسهوايا ل دعدلى ه‬
‫غيب إذ هو غائاب عن الكثر‪ ،‬و العالم الحسى عالم الشهادة إذ يشهده الكافة‪ ،‬و العالم الحسى مرقاة إلى العالم العقلى‪ ،‬و لو لم يكن‬
‫بينهما اتصال و مناسبة ل نساد طريق الترقى إليه‪ ،‬و لو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى الحضرة الربوبية و القرب من ا فلن يقرب‬
‫من ا أحد ما لم يظأ بحبوحة حظيرة القدس‪ ،‬و العالم المرتفع عن إدراك الحس و الخيال هو الذى نعنيه بعالم القدس‪ ،‬و إذا‬
‫اعتبرت جملته بحيث ل يخرج منه شىء و ل يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس‪ ،‬و ربما سمينا الروح البشرى الذى‬
‫هو مجرى لوائاح القدس الوادى المقدس‪ .‬ثم هذه الحظيرة فيها حظائار بعضها أشد إمعانا ل فى معانى القدس‪ ،‬و لكن لفظ الحظيرة‬
‫محيط بجميع طبقاتها‪ ،‬فل تظنن أن هذه اللفاظ طامات غير معقولت عند أرباب البصائار‪.‬‬
‫و اشتغالى الن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدنى عن المقصد‪ ،‬فعليك بالتشمير لفهم اللفاظ فأرجع إلى الغرض فأقول‪ :‬لما كان عالم‬
‫الشهادة مرقى إلى عالم الملكوت كان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقى و قد يعبر عنه بالدين‪ ،‬و بمنازل الهدى فلو لم‬
‫يكن بينهما مناسبة و اتصال لما تصور الترقى من أحدهما إلى الخر‪ ،‬فجعلت الرحمة اللهيه عالم الشهادة على موازنة عالم‬
‫الملكوت‪ ،‬فما من شىء فى هذا العالم إل و هو مثال لشىء من ذلك العالم‪ ،‬و ربما كان الشىء الواحد مثال ل لشياء من عالم‬
‫الملكوت‪ .‬و ربما كان للشىء الواحد من الملكوت‪ ،‬أمثلة كثيرة من عالم الشهادة‪ ،‬و إنما يكون مثال ل إذا ماثلة نوعا ل من المماثلة‪ .‬و‬
‫طابقه نوعا ل من المطابقة ‪ ،‬وإحصاء تلك المثلة يستدعى استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها‪ ،‬و لن تفىىى به القدرة‬
‫البشرية‪ ،‬و لم تتسع لفهمه القوة البشرية ‪ ،‬و ل تفى لشرحه العمار القصيرة‪ ،‬فغايتى أن أعرفك منها أنموذجا ل لتستدل باليسير منها‬
‫على الكثير و ينفتح لك باب الستبصار بهذا النمط من السرار‪ .‬فأقول‪ :‬إن كان من عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية‬
‫يعبر عنها باملئاكة منها تفيض النوار على الرواح البشرية ولجلها قد تسمى أربابا ل فيكون ا رب الرباب لذلك‪ ،‬و يكون لها‬
‫مراتب فى نورانيتها‬
‫ص ‪300‬‬
‫متفاوتة ‪ ,‬فبا لحرى أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب ‪ ,‬وسالك الطريق يترقى أولل إلى ما درجته درجة‬
‫الكوكب فيتضح له إشراق نوره ‪ ,‬وينكشف له أن العالم السفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره ‪ ,‬ويتضح له من جماله‬
‫وعلو درجته ما ينادى فيقول ‪ :‬هذا ربى ‪ ,‬ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الول في مضرب الهوى أيِ‬
‫بالضافة إلى ما فوقه أفولل فقال ‪ :‬ل أحب الفلين ‪ ,‬فكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر و أعلى قابلل للمثال‬
‫بنوع مناسبة له معه ‪ ,‬والمناسبة مع ذيِ النقص نقص ؟ وأقول أيضا ل فمنه من يقول ‪ )) :‬وجهت وجهي للذيِ فطر السموات‬
‫والرض حنيفا وما أنا من المشركين (( النعام ‪ . 79‬ومعنى الذيِ إشارة مبهمة مناسبة لها إذ لو قال قائال ما مثال مفهوم الذيِ لم‬
‫يتصور أن يجاب عنه فالمنزه عن كل مناسبة هو ا الحق ‪ ,‬ولذلك لما قال بعض العراب لرسول ا ما نسبة ا نزل في جوابه ‪:‬‬
‫)) قل هو ا أحد *‪ *1‬ا الصمد *‪ *2‬لم يلد ولم يولد *‪*3‬ولم يكون له كفوال أحد (( الخلص ‪4-1‬‬
‫معناه التقدس عن النسبة ‪ ,‬ولذلك لما قال فرعون لموسى ‪ :‬وما رب العالمين؟ كالطالب لماهيته لم يجبه إل بأفعاله إذا كانت الفعال‬
‫أظهر عند السائال ‪ ,‬فقال ‪ :‬رب السموات والرض ‪ .‬فقال فرعون لمن حوله ‪ :‬أل تسمعون كالمنكر عليه في عدوله في جوابه عن‬
‫طلب الحقيقة ‪ ,‬فقال موسى ‪ )) :‬ربكم ورب آبائاكم الولين (( الصافات ‪ . 126 :‬فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال‬
‫والماهية وهو يجيب عن الفعال بالفعال ‪ ,‬وقال فرعون ‪ :‬إن رسولكم الذيِ أرسل إليكم لمجنون ‪ ,‬ولنرجع الن إلى النموذج‬
‫فنقول ‪ :‬عالم التعبير يعرفك مقدار ضرب المثال لن الرؤيا جزء من النبوة ‪ .‬أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان لما‬
‫بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني ‪ ,‬هو الستعلء على الكافة مع فيضان الثار والنوار على الجميع ‪ ,‬والقمر‬
‫تعبيره الوزير لفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها ‪ ,‬كما يفيض السلطان آثاره بواسطة الوزير على من‬
‫يغيب عن حضرة السلطان ‪ ,‬وأن يرى أن في يده خاتما ل يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فإنه يعبر له أنه يؤذن قبل الصبح في‬
‫رمضان ‪ ,‬ومن رأى انه يصب الزيت في الزيتون تعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو ل يعرفها فاستقصاء أبواب التعبير في أمثال‬
‫هذا الجنس غير ممكن فل يمكن الشتغال بعدها ‪ ,‬بل أقول ‪ :‬كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر‬
‫والكواكب ‪ ,‬كذلك منها ماله أمثلة أخرى إذا اعتبرت معها أوصاف أخر سوى النورانية ‪ ,‬فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت‬
‫ل يتغير وعظيم ل يستصغر ومنه تتفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائاس المكاشفات فمثاله الطور ‪ ,‬وإن كانت‬
‫الموجودات التي تتلقى تلك النفائاس بعضها أولى من بعض فمثاله الواديِ ‪ ,‬وان كانت تلك‬
‫ص ‪301‬‬
‫النفائاس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجريِ من قلب إلى قلب ‪ ,‬فهذه القلوب أيضا ل أودية ومفتتح الواديِ قلوب النبياء والولياء‬
‫والعلماء ‪ ,‬ثم من بعدهم فإن كانت هذه الدوية دون الول ومنها تغترف فبا لحرى أن يكون الول هو الواديِ اليمن لكثرة يمنه‬
‫وعلو درجته ‪ ,‬وإن كان الواديِ الول يتلقى من آخر درجات الواديِ اليمن فهو يغترف من شاطئ الواديِ اليمن دون لجته‬
‫وميدانه ‪ ,‬وإن كان روح النبي سراجا ل ومنيرال ‪ .‬وكان ذلك الروح مقتبسا ل بواسطة وحي كما قال ‪ )) :‬أوحينا إليك روحا ل من أمرنا ((‬
‫الشورى ‪ . 52‬فما منه القتباس مثاله النار ‪ ,‬وإن كان المتلقون من النبياء بعضهم على محض التقليد لما يسمعه وبعضهم على‬
‫حظ من البصيرة ‪ ,‬فمثال المقلد الغير المستبصر الجذوة والقبس والشهاب وصاحب الذوق مشارك للنبي إلى بعض الحوال ‪.‬‬
‫ومثال تلك المشاركة الصطلء وإنما يصطلي بالنار من معه النار ل من سمع خبرها ‪ ,‬وإن كان أول منزل النبياء الترقي إلى‬
‫العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال ‪ ,‬فمثال ‪ ,‬ذلك المنزل الواديِ المقدس ‪ ,‬وإن كان ل يمكن وطء ذلك المقدس إل بإطراح‬
‫الكونين أعنى الدنيا والخرة والتوجه إلى الواحد الحق ‪ ,‬وكانت الدنيا والخرة متقابلتين محاذيتين وهما عارضان للجوهر‬
‫النوراني البشريِ يمكن اطراحها مرة والتلبس بهما أخرى ‪ ,‬فمثال إطراحهما عند الحرام والتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين بل‬
‫نترقى إلى الحضرة الربوبية مرة أخرى ‪ ,‬فنقول ‪ :‬وإن كان في تلك الحضرة شيء بواسطته ننتقش العلوم المفصلة في الجواهر‬
‫القابلة فمثاله القلم ‪ .‬وإن كان في تلك الجواهر القابلة للتلقي ما انتقش بالعلوم فمثاله اللوح والكتاب )) في رق منشور (( الطور‬
‫‪ . 3‬وإن كان فوق الناقش للعلوم شيء مسخر له فمثاله اليد ‪ ,‬وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب‬
‫ترتيب منظوم فمثاله الصورة ‪ ,‬وإن كان يوجد للصور النسية ترتيب منظوم على هذه الشاكلة فهي على صورة الرحمن ‪ ,‬وفرق‬
‫بين أن يقال على صورة الرحمن وبين أن يقال على صورة ا ‪ .‬إذ الرحمة اللهية هي التي على صورة الحضرة اللهية بهذه‬
‫الصورة ‪ ,‬ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة‬
‫العالم مختصرة ‪ .‬وصور آدم أعني هذه الصورة مكتوبة بخط ا ‪ ,‬فهو الخط اللهي الذيِ ليس برقم حروف إذ يتنزه خطه عن أن‬
‫يكون رقما ل وحروفا ل ‪ ,‬كما يتنزه كلمه عن أن يكون صوتا ل وحروفا ل ‪ ,‬وقلمه عن أن يكون قصبا ل وحديدال ‪ ,‬ويده عن أن تكون لحما ل‬
‫وعظما ل ‪ .‬ولول هذه الرحمة لعجز الدمي عن معرفة ربه إذ ل يعرف ربه إل من عرف نفسه ‪ ,‬فلما كان هذا من آثار الرحمة كان‬
‫على صورة الرحمن ل على صورة ا ‪ ,‬فحضرة اللهية غير حضرة الرحمن وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية ‪,‬‬
‫ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال ‪ )) :‬قل أعوذ برب الناس *‪ *1‬ملك الناس *‪ *2‬إله الناس *‪ 3- 1 (( *3‬الناس‬
‫ص ‪302‬‬
‫ولول هذا المعنى لكن قوله ‪ :‬إن ا خلق آدم على صورة الرحمن غير منظوم لفظا ل‪ ,‬بل كان ينبغي أن يقول على صورته ‪ ,‬واللفظ‬
‫الوارد في الصحيح على صورة الرحمن ‪ .‬ولن تمييز حضرة الملك عن حضرة الربوبية يستدعي شرحا ل طويلل ‪ ,‬فلنتجاوز‬
‫ويكفيك من النموذج هذا القدر فإنه بحر ل ساحل له فإن وجدت في نفسك نفورال عن هذه المثال فستأنس بقوله تعالى ‪ )) :‬أنزل‬
‫من السماء ماء فسالت أودية بقدرها (( الرعد ‪ . 17‬فإنه قد ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والودية القلوب‪.‬‬
‫خاتمة واعتذار ‪ :‬ل تظنن من هذا النموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في رفع الظاهر واعتقادال في إبطالها حتى أقول‬
‫مثلل ‪ :‬لم يكن مع موسى نعلن ولم يسمع الخطاب بقوله ‪ )) :‬فاخلع نعليك (( طه ‪ . 12‬حاشا ل فإن إبطال الظواهر رأيِ الباطنية‬
‫الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ‪ ,‬وجهلوا جهلل بالموازنة بينهما فلم يفهموا وجهه ‪ ,‬كما أن أبطال السرار مذهب‬
‫الحشوية فالذيِ يجرد الظاهر حشويِ ‪ ,‬والذيِ يجرد الباطن باطني والذيِ يجمع بينهما كامل ‪ ,‬ولذلك قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬‬
‫للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع (( ‪ .‬وربما نقل هذا عن على موقفا ل عليه ‪ ,‬بل أقول موسى فهم من المر بخلع النعلين اطرح‬
‫الكوتين فامتثل المر ظاهرال بخلع نعليه وباطنا ل بخلع العالمين ‪ ,‬فهذا هو العتبار أيِ العبور من شيء إلى غيره ومن ظاهر إلى‬
‫سر ‪ ,‬وفرق بين من يسمع قول رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬ل تدخل الملئاكة بيتا ل فيه كلب أو صورة (( ‪ ,‬فيقتنى الكلب في‬
‫البيت ويقول ليس الظاهر مرادال بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب ‪ ,‬لنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملئاكة إذ‬
‫الغضب غول العقل وبين من يمتثل المر بالظاهر ‪ ,‬ثم يقول ليس الكلب بصورته بل بمعناه وهو السبعة والضراوة ‪ ,‬وإذا كان‬
‫حفظ البيت الذيِ هو مقر الشخص والبدن واجبا ل عليه أن يحفظ صورة الكلبية ‪ ,‬فلن يجب حفظ بيت القلب وهو مقر الجوهر‬
‫الحقيقي الخاص عن سر الكلبية كان أولى ‪ ,‬فإن من يجمع بين الظاهر والباطن جميعا ل فهذا هو الكامل ‪ ,‬ل يسمح لنفسه بترك حد‬
‫من حدود الشرع مع كمال البصيرة ‪.‬‬
‫ل‬
‫فهذه مغلطة‪ ,‬منها ما وقع لبعض السالكين في إباحة طي بساط الحكام ظاهرا حتى ربما ترك أحدهم الصلة وزعم انه دائام الصلة‬
‫بسره ‪ ,‬وهذا اشد مغلطة الحمقاء من الباحية الذين تأخذهم ترهات كقول بعضهم ‪ :‬إن ا غني عن عملنا ‪ .‬وقول بعضهم ‪ :‬إن‬
‫الباطن مشحون بالخبائاث ليس يمكن تزكيته منها ول مطمع في استئاصال الغضب والشهوة بظنه أنه مأمور باستئاصالها ‪ ,‬فهذه‬
‫حماقات ‪ .‬وأما ما ذكرناه فهو ككبوة جواد وهفوة سالك صده الشيطان فدله بحبال الغرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول ‪:‬‬
‫ظاهر خلع النعلين منبه على‬
‫ص ‪303‬‬
‫ترك الكونين ‪ ,‬فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة ‪ ,‬ولكل حق حقيقة ‪ ,‬وأهل ه ‪1‬ه الرتبة هم الذين بلغوا درجة‬
‫الزجاجة ‪ ,‬كما سيأتي معنى الزجاجة لن الخيال الذيِ من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب السرار ويحول بينك وبين‬
‫النوار ‪ ,‬ولكن إذا صفا صار كالزجاج الصافي ‪ ,‬وصار غير حائال عن النوار بل صار مع ذلك مؤديا ل للنوار ‪ ,‬بل صار مع ذلك‬
‫حافظا ل للنوار عن النطفاء بعواصف الرياح ‪ ,‬فستأتيك قصة الزجاجة ‪ .‬فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلى صار في حق‬
‫النبياء عليهم السلم زجاجة ‪ ,‬ومشكاة للنوار ‪ ,‬ومصفاة للسرار ‪ ,‬ومرقاة إلى العالم العلى ‪ .‬وبهذا يعرف أن المثال الظاهر‬
‫حق ووراء هذا سر ‪ .‬وقس عليه الضوء والنهار وغيره ‪.‬‬
‫ل‬
‫دقيقة ‪ :‬إذا قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬رأيت عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة حبوا (( ‪ ,‬فل تظن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك‬
‫بل رآه في يقظته كما يراه النائام في نومه ‪ ,‬وإن كان عبد الرحمن بن عوف نائاما ل في البيت بشخصه ‪ ,‬فإن النوم إنما أثر في أمثال‬
‫هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن اللهي فإن الحواس شاغلة وجاذبة إلى عالم الحس وصارفة وجهه عن‬
‫عالم الغيب والملكوت ‪ ,‬وبعض النوار النبوية قد تصفى وتستولى بحيث ل تجذبه الحواس إلى عالمها ‪ ,‬ول تشغله فيشاهد في‬
‫اليقظة ما يشاهده غيره في المنام لكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة ‪ ,‬بل عبر منها إلى‬
‫السر فانكشف له أن اليمان جاذب إلى العالم العلى الذيِ يعبر عنه بالجنة ‪ ,‬والغنى والثروة جاذبة إلى الحياة الحاضرة وهي‬
‫العالم السفل ‪ ,‬فإذا كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى مقارنة من الجاذب للخر صد عن السير إلى الجنة فإن كان جاذب اليمان‬
‫أقوى أورث عسرال أو بطئاا ل في سيره فيكون مثاله من عالم الشهادة الحبو ‪ ,‬فكذلك تنجلي السرار من وراء زجاجات الخيال وذلك‬
‫ل يقصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورال عليه ‪ ,‬بل يحكم به عن كل من قويته بصيرته واستحكم إيمانه‬
‫وكثرت ثروته كثرة تزاحم اليمان ‪ ,‬ولكن ل تقاومه لرجحان قوة اليمان ‪ ,‬فهذا يعرفك كيفية إبصار النبياء الصور ‪ ,‬وكيفية‬
‫مشاهدتهم المعاني من وراء الصور ‪ ,‬والغلب أن يكون المعنى سابقا ل إلى المشاهدة الباطنية ‪ ,‬ثم يشرف منه على الروح الخيالي‬
‫فينطبع بصورة موازية للمعنى محاكية له ‪ ,‬وهذا الحظ من الوحي في اليقظة يحتاج إلى التأويل كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير ‪,‬‬
‫والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبه الواحد إلى ستة وأربعين ‪ ,‬والواقع منه في اليقظة نسبته أعظم من ذلك وأظن‬
‫أن نسبته نسبه الواحد إلى الثلثة ‪ ,‬فأن الذيِ انكشف لنا أن الخواص النبوية تنحصر شعبها في ثلثة أجناس وهذا واحد من تلك‬
‫الجناس الثلثة ‪.‬‬
‫ص ‪304‬‬
‫القطب الثاني ‪ :‬في بيان مراتب الرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن ‪:‬‬
‫فالول منها ‪ :‬الروح الحساس وهو الذيِ يتلقى ما تورده الحواس إذ كان أصل الروح الحيواني وأوله وبه يصير الحيوان حيوانا ل‬
‫وهو موجود للصبي الرضيع ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الروح الخيالي وهو الذيِ يكتب ما أوردته الحواس ويحفظه مخزونا ل عنده ليعرضه على الروح العقلي فوق عند الحاجة‬
‫إليه ‪ .‬وهذا ل يوجد للصبي الرضيع في بدء نشوئاه ولذلك يولع بالشيء ليأخذه ‪ ,‬فإذا غيب عنه ينساه ول تنازعه نفسه إليه إلى أن‬
‫يكبر قليلل بحيث إذا غيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله ‪ ,‬وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض ‪,‬‬
‫ول يوجد للفراش المتهافت على النار لنه يقصد النار لشغفه بضياء النار فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقى‬
‫نفسه عليه فيتأذى به ‪ ,‬لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة وعاوده مرة أخرى بعد مرة ‪ ,‬ولو كان الروح الحافظ المستثبت لما أداه‬
‫الحس إليه من اللم لما عاوده بعد أن تضرر به مرة ‪ ,‬فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة فإذا رأيِ الخشبة بعد ذلك هرب ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬الروح العقلي الذيِ يدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال وهو الجوهر النسي الخاص ول يوجد للبهائام ول الصبيان‬
‫‪ ,‬ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬الروح الفكريِ وهو الذيِ يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف نفسية ثم‬
‫استفاد نتيجتين مثلل ألف بينهما مرة أخرى واستفاد نتيجة مرة أخرى ‪ ,‬ول تزال تتزايد كذلك إلى غير نهاية ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬الروح القدسي النبويِ الذيِ به يختص النبياء وبعض الولياء ‪ ,‬وفيه تنجلي لوائاح الغيب وأحكام الخرة وجملة من‬
‫معارف ملكوت السموات والرض ‪ ,‬بل من المعارف الربانية التي تقتصر دونها الروح العقلي والفكريِ وإليه الشارة بقوله تعالى‬
‫‪ )) :‬وكذلك أوحينا إليك روحا ل من أمرنا ما كنت تدريِ ما الكتاب ول اليمان ولكن جعلناه نورال نهديِ به من نشاء من عبادنا وإنك‬
‫لتهديِ إلى صراط مستقيم (( الشورى ‪ . 52‬ول يبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طورال آخر يظهر فيه ما ل‬
‫يظهر في العقل كما لم يبعد كون العقل طورال وراء التمييز والحساس ينكشف فيه غرائاب وعجائاب يقصر عنها الحساس والتمييز‬
‫‪ .‬فل تجعل أقصى الكمال وقفا ل على نفسك ‪ ,‬وإن أردت مثالل مما تشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر‬
‫كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إدراك ويحرم منه بعضهم حتى ل تتميز عندهم اللحان الموزونة من المزحفة ‪ .‬وانظر‬
‫ص ‪305‬‬
‫كيف عظمت قوة الذوق في آخرين حتى استخرجوا منها الموسيقى والغاني وصنوف الدستانات التي منها المحزن ‪ ,‬ومنها‬
‫المطرب ‪ ,‬ومنها المنوم ‪ ,‬ومنها المبكى ‪ ,‬ومنها المجنن ‪ ,‬ومنها القاتل ‪ ,‬ومنها الموجب للغشي وإنما تقوى هذه الثار فيمن له‬
‫أصل الذوق ‪ ,‬وأما العاطل عن خاصية الذوق فإنه يشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الثار وهو يتعجب من صاحب‬
‫الوجد والغشي ولو اجتمع العقلء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه ‪.‬‬
‫فهذا مثال في أمر خسيس لنه قريب إلى فهمك فقس به الذوق الخاص النبويِ ‪ ,‬واجتهد في أن تصير من أهل الذوق بشيء من تلك‬
‫الروح فإن للولياء منه حظا ل وافرال ‪ ,‬فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالقيسة التي ذكرناها والتشبيهات التي رمزنا إليها من أهل‬
‫العلم بها فأن لم تقدر فل أقل من أن تكون من أهل اليمان بها )) يرفع ا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (( المجادلة‬
‫‪ . 11‬والعلم فوق اليمان ‪ ,‬والذوق فوق العلم ‪ ,‬والذوق وجدان والعلم قياس ‪ ,‬واليمان قبول مجرد بالتقليد وحسن الظن بأهل‬
‫الوجدان أو بأهل العرفان ‪ ,‬وإذا عرفت هذه الرواح الخمسة ‪ ,‬فاعلم أنها بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات والحسي‬
‫والخيالي منها وإن كان يشارك البهائام في جنسها ‪ ,‬لكن الذيِ للنسان منها نمط آخر أشرف وأعلى وخلقا ل في النسان لغرض آخر‬
‫أجلى وأسنى ‪ .‬وأما الحيوانات فلم يخلقا لها ليكونا آلتها في طلب غذائاها وتسخيرها للدميين ‪ .‬وإنما خلقا للدمى ليكونا شبكة له‬
‫يقتص بهما في جهة العالم السفل مبادئ المعارف الدينية الشريفة إذ النسان إذا أدرك بالحس شخصا ل معينا ل اقتبس من عقله معنى‬
‫عاما ل مطلقا ل كما ذكرنا في مثال عبد الرحمن بن عوف ‪ ,‬فإذا عرفت هذه الرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض المثلة ‪.‬‬
‫بيان أمثلة هذه الية ‪ :‬اعلم أن القول في موازية هذه الرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله‬
‫‪ ,‬لكنى أوجز وأقتصر على التنبيه على طريقه ‪ ,‬فأقول ‪ :‬أما الروح الحاس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنوراه خارجة من ثقب‬
‫عدة كالعينين والذنين والمنخرين وغيرهما فأوفق مثال له في عالم الشهادة المشكاة ‪ .‬وأما الروح الخيالي فتجد له خواص ثلثة ‪:‬‬
‫إحداها ‪ :‬انه من طينة العالم السفلي الكثيف لن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة وهو على نسبة من‬
‫المتخيل من قرب أو من بعد ‪ ,‬ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الجسام أن يحجب عن النوار العقلية المحضة التي تتنزه‬
‫عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أن هذا الخيال الكثيف إذا صفى ورقق وهذب وضبط صار موازيا ل للمعاني العقلية محاذيا ل لها وغير حائال عن إشراق نور‬
‫منها ‪.‬‬
‫ص ‪306‬‬
‫الثالثة ‪ :‬أن الخيال في بداية أمره محتاج إليه جدال لتنضبط له المعارف العقلية فل تضطرب ول تتزلزل ول تنتشر انتشارال يخرج‬
‫عن الضبط إذ تجمع المثالت الخيالية للمعارف العقلية ‪.‬‬
‫وهذه الخواص الثلثة ل تجدها في عالم الشهادة بالضافة إلى النوار المبصرة إل الزجاجة فأنها في الصل من جوهر كثيف لكن‬
‫صفى ورقق حتى صار ل يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن النطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة‬
‫فهي أولى مثال به ‪.‬‬
‫وأما الثالث ‪ :‬وهو الروح العقلي الذيِ فيه إدراك المعاني الشريفة اللهية فل يخفى عليك وجه تمثيلها وقد عرفت هذا مما سبق من‬
‫بيان معنى كون النبياء سراجا ل منيرال‪.‬‬
‫وأما الرابع ‪ :‬وهو الروح الفكريِ فمن خاصيته أن يبتدئ من أصل واحد ثم يتشعب شعبتين ثم كل شعبة شعبتين ‪ ,‬وهكذا إلى أن‬
‫تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية ‪ ,‬ثم يفضى بالخر إلى نتائاج تعود فتصير بذورال لمثالها إذ يمكن أيضا ل تلقيح بعضها بالبعض‬
‫فيكون مثاله من هذا العالم الشجرة ‪ ,‬وإذا كانت ثمراتها مادة لتضاعف المعارف وثباتها وبقائاها ‪ ,‬فبالحرى أن ل تمثل بشجرة‬
‫السفرجل والتفاح والرمان من جملة سائار الشجار إل بالزيتونة خاصة لن لب ثمرتها هو الزيت الذيِ هو مادة المصابيح ويختص‬
‫من بين سائار الدهان بخاصية زيادة الشراف ‪ ,‬وإذا كانت الشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي ل تتناهى ثمرتها إلى حد‬
‫محدود أولى أن تسمى – شجرة مباركة – وإذا كانت شعب الفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الضافة إلى الجهات‬
‫والقرب والبعد فأولى أن تكون شرقية ول غربية ‪.‬‬
‫وأما الخامس ‪ :‬هو الروح القدسي النبويِ والمنسوب إلى الولياء إذا كان فيه غاية الشراق والصفاء وكانت الروح المفكرة‬
‫منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف ‪ ,‬وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه تنبيه‬
‫من نفسه بغير مدد من خارج ‪ ,‬فبالحرى أن يعبر عن الصافي القويِ الستعداد بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار إذ الولياء‬
‫من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغنى عن مدد النبياء ‪ .‬وفي النبياء من يكاد يستغنى عن مدد الملئاكة فهذا المثال موافق لهذا‬
‫القسم وإذا كانت هذه النوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الول وهو كالتوطئاة والتمهيد للخيالي إذ ل يتصور الخيالي إل‬
‫موضوعا ل بعده والفكريِ والعقلي يكونان بعدها ‪ ,‬فبالحرى أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة فيكون‬
‫المصباح في زجاجة والزجاجة في مشكاة ‪ ,‬وإذا كانت هذه كلها أنوارال بعضها فوق بعض فبالحرى أن تكون نورال على نور فافهم‬
‫وا الموفق ‪.‬‬
‫ص ‪307‬‬
‫خاتمة ‪ :‬هذا مثال إنما يصلح لقلوب المؤمنين أو لقلوب النبياء والولياء ل لقلوب الكفار ‪ ,‬فإن النور يراد للهداية فالمصروف عن‬
‫طريق الهدى باطل وظلمة ‪ ,‬بل أشد من الظلمة لن الظلمة ل تهدى إلى الباطل كما تهدى إلى حق ‪ ,‬وعقول الكفار انتكست وكذلك‬
‫سائار إدراكاتهم وتعاونت على الضلل في حقهم ‪ ,‬فمثالهم كرجل في بحر لجي يغشاه موج من فوقه وموج من فوقه سحاب ظلمات‬
‫بعضها فوق بعض ‪ ,‬والبحر اللجي هو الدنيا بما فيها من الخطار المهلكة والحوادث الرديئاة والمكدرات المعمية ‪ ,‬الموج الول ‪:‬‬
‫موج الشهوات الباعثة إلى الصفات البهيمة والشتغال باللذات الحسية وقضاء الوطار الدنيوية حتى أنهم يأكلون ويتمتعون كما‬
‫تأكل النعام والنار مثوى لهم ‪ ,‬أن يكون هذا الموج مظلما ل لن حب الشيء يعمى ويصم ‪.‬‬
‫الموج الثاني ‪ :‬موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر‬
‫وبالحرى أن يكون مظلما ل لن الغضب غول العقل وبالحرى أن يكون هو الموج العلى أن الغضب في الكثر مستوءل على‬
‫الشهوات ‪ ,‬حتى إذا ماج أذهل عن الشهوات وأغفل ع اللذات فإن الشهوة ل تقاوم الغضب الهائاج أصلل‪ ,‬وأما السحاب فهو‬
‫العتقادات الخبيثة والظنون الكاذبة والخيالت الفاسدة التي صارت حجبا ل بين الكافر وبين اليمان ومعرفة الحق والستضاءة بنور‬
‫شمس القرآن والعقل فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس ‪ ,‬وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحرى أن تكون ظلمات‬
‫بعضها فوق بعض ‪ ,‬وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الشياء القريبة فضلل عن البعيدة فلذلك تحجب الكفار عن معرفة‬
‫عجائاب أحوال النبي صلى ا عليه وسلم مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل ‪ ,‬فبالحرى أن يعبر عنه بأنه إذا أخرج يده لم يكد‬
‫يراها ‪ ,‬وإذا كان منبع النوار كلها من النور الول الحق كما سبق ‪ ,‬فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن من لم يجعل ا له نورال فماله‬
‫من نور ‪ ,‬ويكفيك هذا القدر من أسرار هذه الية فاقنع‪.‬‬
‫ص ‪308‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫في معنى قوله صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬إن ل سبعين حجابا ل من نور وظلمة لو كشفها لحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره‬
‫((‬
‫ل‬
‫في بعض الروايات سبعمائاة وفي بعضها سبعين ألفا ‪ ,‬فأقول ‪ :‬إن ا تعالى متجل في ذاته بذاته لذاته ويكون الحجاب بالضافة إلى‬
‫محجوب ل محالة ‪ ,‬وإن المحجوبين من الخلق ثلثة أقسام منهم ‪ :‬من يحتجب بمجرد الظلمة ‪ ,‬ومنهم ‪ :‬من يحتجب بمجرد النور‬
‫المحض ‪ ,‬ومنهم ‪ :‬من يحتجب بنور مقرون بظلمة ‪ .‬وأصناف هذه القسام كثيرة تتحقق كثرتها ‪ ,‬ويمكنني أن أتكلف حصرها‬
‫لكنني ل أثق بما يلوح من تحديد وحصر إذ ل يدريِ اهو المراد في الحديث أم ل ‪ ,‬أما الحصر إلى سبعمائاة أو سبعين ألفا ل فلذلك ل‬
‫تستقل به إل القوة النبوية مع أن ظاهر ظني أ هذه العداد مذكورة ل للتحديد ‪ ,‬وقد تجريِ العادة بذكر أعداد ول يراد بها الحصر ‪,‬‬
‫بل التكثير وا أعلم بحقيقة ذلك فهو خارج عن الوسع ‪ ,‬وإنما الذيِ يمكني الن أن أعرفك هذه القسام وبعض أصناف كل قسم‬
‫فأقول ‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬هم المحجوبون بمحض الظلمة وهم الملحدة الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ‪ ,‬وهم الذين يستحبون الحياة‬
‫الدنيا على الخرة لنهم ل يؤمنون بالخرة أصلل وهم أصناف ‪.‬‬
‫الصنف الول ‪ :‬تشوق إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله الطبع والطبع صفة مركوزة في الجسام حالة فيها ‪ ,‬وهي مظلمة إذ ليس‬
‫لها معرفة وإدراك ول خبر لها من نفسها ول تصور لها وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضا ل ‪.‬‬
‫الصنف الثاني ‪ :‬هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يتفرغوا لطلب السبب بل عاشوا عيشة البهائام فكان حجابهم أنفسهم المركوزة‬
‫وشهواتهم المظلمة فل ظلمة أشد من الهوى والنفس ‪ .‬ولذلك قال تعالى ‪ )) :‬افرأيت من اتخذ إلهه هواه (( الجاثية ‪ . 23‬وقال النبي‬
‫صلى ا عليه وسلم ‪ )) :‬الهوى أبغض إله عبد إلى ا (( ‪ ,‬وهؤلء ينقسمون فرقا ل ‪ :‬ففرقة زعمت أن غاوة الطلب من الدنيا هي‬
‫قضاء الوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم ومشرب وملبس ‪ ,‬فهؤلء عبيد اللذة يعبدونها ويطلبونها‬
‫ويعتقدون أن نيلها غاية السعادة رضوا لنفسهم بأن يكونوا بمنزلة البهائام بل كيل ينظر الناس إليهم بعين الحقارة ‪ ,‬وهؤلء‬
‫الصناف ل يحصون وكلهم محجوبون عن ا بمحض الظلمة وهي نفوسهم المظلمة ‪ ,‬ول معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع‬
‫التنبيه على الجناس ‪ ,‬ويدخل في جملة هؤلء جماعة يقولون‬
‫ص ‪309‬‬
‫بلسانهم ل إله إل ا ولكن ربما حمله على ذلك خوف ‪ ,‬أو استظهار بالمسلمين أو تجمل بهم ‪ ,‬أو استعداد من مالهم ‪ ,‬أو لجل‬
‫التعصب لنصرة مذهب الباء ‪ ,‬وهؤلء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فل تخرجهم من الظلمات إلى النور بل‬
‫أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فأما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئااته وسرته حسناته فهو خارج عن‬
‫محض الظلمة وإن كان كثير المعصية ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬طائافة حجبوا مقرون بظلمة وهم ثلثة أصناف ‪ :‬صنف منشأ ظلمتهم من الحس ‪ ,‬وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال ‪,‬‬
‫وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة ‪.‬‬
‫الصنف الول ‪ :‬المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائاف ل يخلو واحد منهم عن مجاوزة اللتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوق‬
‫إلى معرفة ربه ‪ ,‬وأول درجاتهم عبدة الوثان وآخرهم الثنوية وبينهما درجات ‪.‬‬
‫الطائافة الولى ‪ :‬عبدة الوثان علموا في الجملة أن لهم ردبا يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء‬
‫وأنفس من كل نفيس ‪ ,‬ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن يتجاوزوا المحسوس من أنفس الجوهر كالذهب والفضة والياقوت‬
‫أشخاصا ل مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة ‪ ,‬فهؤلء محجوبون بنور العزة والجمال من صفات ا وأنواره ‪ ,‬ولكنهم‬
‫ألصقوها بالجسام المحسوسة وصدهم عن ذلك النور ظلمة الحس ‪ ,‬فإن الحس ظلمة بالضافة إلى العالم الروحاني كما سبق ‪.‬‬
‫الطائافة الثانية ‪ :‬جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ول شريعة يعتقدون أن لهم ربا وأنه أجمل الشياء وإذا رأوا إنسانا ل في غاية‬
‫الجمال أو شجرال أو فرسا ل أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا ‪ ,‬وهؤلء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس وهم ادخل في‬
‫ملحظة النور من عبدة الوثان لنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص ول يخصصونه بشخص دون شخص ثم‬
‫يعبدون الجمال المطبوع ل المصنوع من جهتهم وبأيديهم ‪.‬‬
‫الطائافة الثالثة ‪ :‬قالوا ينبغي أن يكون ربنا نورانيا ل في ذاته ‪ ,‬بهيا ل في صورته ذا سلطان في نفسه ‪ ,‬مهيبا في حضرته ل يطاق‬
‫القرب منه ‪ ,‬ولكن ينبغي أن يكون محسوسا ل إذ ل معنى لغير المحسوس عندهم ‪ ,‬ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا‬
‫فهؤلء محجوبون بنور السلطنة والبهاء ‪ ,‬وكل ذلك من أنوار ا تعالى‪.‬‬
‫الطائافة الرابعة ‪ :‬زعموا أن النار نستولي نحن عليها بالشتغال والطفاء فهي تحت تصرفنا فل تصلح لللهية بل ما يكون بتلك‬
‫الصفة أعني السلطنة والبهاء ‪ ,‬ثم نكون نحن‬
‫)ص ‪(310‬‬
‫تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصولفا بالعلو والرتفاع‪ ،‬ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها‪ ،‬فمنهم من‬
‫عبد الشعرى‪ ،‬ومنهم من عبد المشترى إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات‪ ،‬فهؤلء‬
‫محجوبون بنور العلو والشراق والستيلء وهي أنوار ا تعالى‪.‬‬
‫الطائافة الخامسة‪ :‬ساعدت هؤلء في المأخذ‪ ،‬ولكن قالت ل ينبغي أن يكون ربنا موسولما بالصغر و الكبر بالضافة إلى الجواهر‬
‫النورانية‪ .‬بل ينبغي أن يكون أكبرها فعبدوا الشمس إذ قالوا هي أكبر‪ .‬فهؤلء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية النوار مقرولنا‬
‫بظلمة الحواس‪.‬‬
‫ضا أنوار‪ ،‬ول ينبغي أن يكون للرب شريك في‬ ‫الطائافة السادسة‪ :‬ترقوا من هؤلء فقالوا النور كله ل تنفرد به الشمس بل لغيرها أي ل‬
‫نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع النوار‪ .‬وزعموا أنه رب العالمين والخيرات كلها منسوبة إليه‪ ،‬ثم رأوا في العالم‬
‫شرولرا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيلها له عن الشر فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة وأحالوا العالم إلى النور والظلمة‬
‫وربما سموها‪) :‬يزان واهرمن( وهم الثنوية فيكفيك هذا القدر تنبيلها على هذا الصنف فهم أكثر من ذلك‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬المحجوبون ببعض النوار مقرولنا بظلمة الخيال وهم الذين جاوزوا الحس وأثبتوا وراء المحسوسات أملرا‪ ،‬لكنهم‬
‫لم يمكنهم مجاوزة الخيال فعبدوا موجولدا قاعلدا على العرش وأخسهم رتبة المجسمة‪ ،‬ثم أصناف الكرامية بأجمعهم‪ ،‬ول يمكنني‬
‫شرح مقالتهم ومذاهبهم فل فائادة للتكثير‪ ،‬ولكن أرفعهم درجة من نفي الجسمية وجميع عوارضها إل الجهة المخصوصة بجهة‬
‫فوق لن الذيِ ل ينسب إلى الجهة ول يوصف بأنه خارج العالم ول داخله لم يكن عندهم موجولدا‪ ،‬إذ لم يكن متخيلل ولم يدركوا أن‬
‫أول درجات المعقولت تجاوز النسبة إلى الجهات والحيزة‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬المحجوبون بالنوار اللهية مقرونة بمقاسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إللها سميلعا بصيلرا عاللما قادلرا مريلدا حليا‬
‫منزلها عن الجهات‪ ،‬لكنهم فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم‪ ،‬وربما صرح بعضهم‪ ،‬فقال كلمه حروف وأصوات‬
‫ككلمنا‪ ،‬وربما ترقى بعضهم فقال‪ :‬ل بل هو كحديث نفسنا ول حرف ول صوت‪ ،‬وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر‬
‫والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلل معاني هذه الطلقات في حق ا تعالى‪ ،‬ولذلك‬
‫قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا وإنه طلب وقصد مثل قصدنا‪ ،‬وهذه مذاهب مشهورة فل حاجة إلى تفصيلها‪ ،‬وهؤلء‬
‫محجوبون بجملة من أنوار مع ظلمة المقايسات العقلية الفاسدة‪ ،‬فهؤلء كلهم أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة‪.‬‬
‫)ص ‪(311‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬هم المحجوبون بمحض النوار وهم أصناف ول يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلثة أصناف منهم‪:‬‬
‫الصنف الول‪ :‬عرفوا معنى الصفات تحقيلقا وأدركوا أن إطلق اسم الكلم والرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل‬
‫إطلقه على البشر‪ ،‬فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون‪:‬‬
‫وما رب العالمين؟ فقالوا‪ :‬إن الرب المقدس عن معاني هذه الصفات محرك السموات ومدبرها‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬ترقوا عن هؤلء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة‪ ،‬وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى مللكا‬
‫فيهم كثرة‪ ،‬وإنما نسبهم إلى النوار اللهية نسبة الكواكب في النوار المحسوسة‪ ،‬ثم لح لهم أن هذه السموات في ضمن فلك آخر‬
‫يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة‪ ،‬فالرب هو المحرك للجرم القصى المحتويِ على الفلك كلها إذ الكثرة منفية عنه‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬ترقوا عن هؤلء وقالوا‪ :‬إن تحريك الجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له‬
‫وطاعة له وطاعة من عبد من عبيده يسمى مللكا نسبته إلى النوار اللهية المحضة نسبة القمر إلى النوار المحسوسة‪ ،‬فزعموا أن‬
‫الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك‪ ،‬ويكون الرب تعالى وجد محرلكا للكل بطريق المر ل بطريق المباشرة‪ ،‬ثم في تفهيم ذلك‬
‫المر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الفهام ول يحتمله هذا الكتاب‪ ،‬فهؤلء أصناف كلهم محجوبون بالنوار المحضة‪ ،‬وإنما‬
‫ضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر ليس يحتمل‬ ‫الواصلون صنف رابع تجلى لهم أي ل‬
‫هذا الكتاب كشفه‪ ،‬وأن نسبة الجمر إلى جوهر النار الصرف فتوجهوا من الذيِ يحرك السموات ومن الذيِ أمر بتحريكها‪ ،‬فوصلوا‬
‫إلى موجود‪ ،‬منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه منزلها ومقدلسا عن جميع ما وصفناه من قبل‪ ،‬ثم هؤلء‬
‫انقسموا‪:‬‬
‫فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلشى ولكن بقي هو ملحلظا للجمال والقدس وملحلظا ذاته في جماله الذيِ‬
‫ناله بالوصول إلى الحضرة اللهية‪ ،‬فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر‪ ،‬وجاوز هؤلء طائافة منهم خواص الخواص فأحرقتهم‬
‫سبحات وجهه العلى وغشيهم سلطان الجلل وانمحقوا وتلشوا في ذاتهم‪ ،‬ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لفنائاهم عن أنفسهم‪ ،‬ولم‬
‫يبق إل الواحد الحق وصار معنى قوله‪) :‬كل شيء هالك إل وجهه( ]القصص‪ ،[88 :‬لهم ذولقا وحالل‪ ،‬وقد أشرنا إلى ذلك في‬
‫الفصل الول وذكرنا أنهم كيف أطلقوا التحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين‪.‬‬
‫منهم من لم يتدرج في الترقي والعروج عن التفصيل الذيِ ذكرناه‪ ،‬ولم يطل عليه العروج فسبقوا من أول وهلة إلى معرفة القدس‬
‫وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه‬
‫)ص ‪(312‬‬
‫فغلب عليهم أولل ما غلب على الخرين آخلرا‪ ،‬وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر‬
‫حسي أو بصيرة عقلية‪ ،‬ويشبه أن يكون الول طريق الخليل‪ ،‬والثاني طريق الحبيب صلوات ا وسلمه عليهما‪ ،‬وا أعلم‬
‫بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما‪.‬‬
‫فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين ول يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين أللفا‪ ،‬ولكن إذا فتشت‬
‫ل تجد واحلدا منهم خارلجا عن القسام التي ذكرناها‪ ،‬فإنهم إما يحتجون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال وبمقايسة العقل أو‬
‫بالنور المحض كما سبق‪.‬‬
‫فهذا ما حضرني في جواب هذه السئالة مع أن السؤال صادفني‪ ،‬والفكر منقسم‪ ،‬والخاطر متشعب‪ ،‬والهم إلى غ ير ذلك الفن‬
‫منصرف‪ ،‬ومقترحي عليه أن تسأل لي العفو عما طغى به القلم أو زلت به القدم‪ .‬فإن خوض غمرة السرار اللهية خطيرة‪،‬‬
‫واستكشاف النوار العلوية من وراء الحجب غير يسير‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا على سيدنا محمد وآله الطيبين‬
‫الطاهرين‪.‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫رسالة الطير‬
‫ذكر العنقاء‬
‫اجتمعت أصناف الطيور على اختلف أنواعها وتباين طباعها‪ ،‬وزعمت أنه ل بد لها من ملك‪ :‬واتفقوا أنه ل يصلح لهذا الشأن إل‬
‫العنقاء وقد وجدوا الخبر عن استيطانها في مواطن الغرب وتقررها في بعض الجزائار فجمعتهم داعية الشوق وهمة الطلب‬
‫فصمموا العزم على النهوض إليها‪ ،‬والستظلل بظلها‪ ،‬والمثول بفنائاها‪ ،‬والستسعاد بخدمتها‪ ،‬فتناشدوا وقالوا‪:‬‬
‫قوموا إلى الدار من ليلى نحييها نعم ونسألهم عن بعض أهليها‬
‫وإذا الشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب وزعمت بلسان الطلب‪ ،‬بأيِ نواحي الرض أبغي وصالكم‪ ،‬وأنتم ملوك ما‬
‫لمقصدهم نحو‪.‬‬
‫وإذا هم بمناديِ الغيب يناديِ من وراء الحجب‪) :‬ول تلقوا بإيديكم إلى التهلكة( ]البقرة‪ [195 :‬لزموا أماكنكم ول تفارقوا‬
‫مساكنكم‪ ،‬فإنكم إن فارقتم أوطانكم‪ ،‬ضاعفتم أشجانكم‪ ،‬فدونكم والتعرض للبلء والتحلل بالفناء‪:‬‬
‫)ص ‪(313‬‬
‫إن السلمة من سعدى وجارتها أن ل تحل على حال بواديها‬
‫فلما سمعوا نداء التعذر من جناب الجبروت ما ازدادوا إل شولقا وقللقا وتحيلرا وأرلقا‪ ،‬وقالوا من عند آخرهم‪:‬‬
‫ولو داواك كل طبيب إنس بغير كلم ليلى ما شفاكا‬
‫وزعموا‪:‬‬
‫إن المحب الذيِ ل شيء يقنعه أو يستقر ومن يهوى به الدار‬
‫ثم نادى لهم الحنين‪ ،‬ودب فيهم الجنون‪ ،‬فلم يتلعثموا في الطلب اهتزالزا منهم إلى بلوغ الرب‪ .‬فقيل لهم‪ :‬بين أيديكم المهامة الفيح‬
‫والجبال الشاهقة والبحار المغرقة وأماكن القر ومساكن الحر‪ ،‬فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ المنية فتخترمكم المنية‪ ،‬فالحرى بكم‬
‫مساكنة أوكار الوطار قبل أن يستدرجكم الطمع‪ ،‬وإذا هم ل يصغون إلى هذا القول‪ ،‬ول يبالون‪ ،‬بل راحلوا وهم يقولون‪:‬‬
‫فريد عن الخلن في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد‬
‫فامتطى كل منهم مطية الهمة قد ألجمها بلجام الشوق وقومها بقوام العشق وهو يقول‪:‬‬
‫انظر إلى ناقتي في ساحة الواديِ شديدة بالسرى من تحت مياد‬
‫إذا اشتكت من كلل البين أوعدها ررح القدوم فتحيا عند ميعاديِ‬
‫لها بوجهك نور تستضيء به وفي نوالك من أعقابها حاديِ‬
‫فرحوا من محجة الختبار‪ ،‬فاستدرجتهم بحد الضطرار‪ ،‬فهلك من كان من بلد الحر في بلد البرد‪ ،‬ومات من كان من بلد البرد‬
‫في بلد الحر‪ ،‬وتصرفت فيهم الصواعق‪ .‬وتحكمت عليهم العواصف حتى خصلت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك‪ ،‬ونزلوا‬
‫بفنائاه واستظلوا بجنابه‪ ،‬والتمسوا من يخبر عنهم الملك وهو في أمنع حصن من حمى عزه‪ ،‬فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان‬
‫الحضرة أن يسألهم‪ :‬ما الذيِ حملهم على الحضور؟‬
‫)ص ‪(314‬‬
‫فقالوا‪ :‬حضرنا ليكون مليكنا‪ ،‬فقيل لهم‪ :‬أتعبتم أنفسكم فنحن الملك شئاتم أو أبيتم‪ ،‬جئاتم أو ذهبتم‪ ،‬ل حاجة بنا إليكم‪ ،‬فلما أحسوا‬
‫بالستغناء والتعذر أيسوا وخجلوا وخابت ظنونهم فتعطلوا فلما شملتهم الحيرة‪ ،‬وبهرتهم العزة‪ ،‬قالوا ل سبيل إلى الرجوع فقد‬
‫تخاذلت القوى وأضعفنا الجوى‪ ،‬فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا‪ ،‬وأنشئاوا يقولون هذه البيات‪:‬‬
‫أسكان رامة هل من قرى فقد دفع الليل ضيلفا قنولعا‬
‫كفاه من الزاد إن تمهدوا له نظلرا وكللما وسيلعا‬
‫هذا وقد شملهم الداء‪ ،‬وأشرفوا على الفناء‪ ،‬ولجئاوا إلى الدعاء‪:‬‬
‫ثمل نشاوى بكأس الغرام فكل غدا لخيه رضيلعا‬
‫فلما عمهم اليأس‪ ،‬وضاقت بهم النفاس تداركتهم أنفاس اليناس وقيل لهم‪ :‬هيهات فل سبيل إلى اليأس‪ ،‬فل ييأس من روح ا إل‬
‫القوم الخاسرون‪ ،‬فإن كان كمال الغنى يوجب التعزز والرد فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول‪ ،‬فبعد أن عرفتم مقداركم في‬
‫العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكن فهو دار الكرم ومنزل النعم‪ .‬فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا عن مساكنة الحسبان‬
‫ولوله لما قال سيد الكل وسابقهم‪" :‬أحيني مسكيلنا" ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قريلنا‪ ،‬فلما استأنسوا‬
‫بعد أن استيأسوا‪ ،‬وانتعشوا بعد أن تعبسوا ووثقوا بفيض الكرم واطمأنوا إلى درور النعم سألوا عن رفقائاهم فقالوا‪ :‬ما الخبر عن‬
‫أقوام قطعت بهم المهامة والودية‪ ،‬أمطلول دماؤهم أم لهم دية؟ فقيل‪ :‬هيهات هيهات‪) :‬ومن يخرج من بيته مهاجلرا إلى ا‬
‫ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على ا( ]النساء‪ [100 :‬اجتبتهم أياديِ الجتباء بعد أن أبادتهم سطوة البتلء‪) :‬ول‬
‫تقولوا لمن يقتل في سبيل ا أموات بل أحياء( ]البقرة‪ .[154 :‬قالوا‪ :‬فالذين غرقوا في لجج البحار‪ ،‬ولم يصلوا إلى الدار ول إلى‬
‫الديار بل التقمتهم لهوات التيار‪ .‬قيل‪ :‬هيهات‪) :‬ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ا أموالتا بل أحياء( ]آل عمران‪ .[169 :‬فالذيِ‬
‫جاء بهم وأمهاتهم أحياهم‪ ،‬والذيِ وكل بكم داعية الشوق حتى استقللتم العناء والهلك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم‬
‫وقربهم‪ ،‬فهم حجب‬
‫)ص ‪(315‬‬
‫العزة وأستار القدرة‪) :‬في مقعد صدق عند مليك مقتدر( ]القمر‪ .[55 :‬قالوا‪ :‬فهل لنا إلى مشاهدتهم سبيل؟ قيل‪ :‬ل‪ ،‬فإنكم في‬
‫حجاب العزة وأستار البشرية‪ ،‬وأسر الجل وقيده‪ ،‬فإذا قضيتم أوطاركم وفارقتم أوكاركم‪ ،‬فعند ذلك تزاورتم وتلقيتم‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا؟ قيل‪ :‬هيهات )ولو أرادوا الخروج لعدوا له عدة ولكن كره ا انبعاثهم فثبطهم( ]التوبة‪:‬‬
‫‪ .[46‬ولو أردناهم لدعوناهم ولكن كرهناهم فطردناهم‪ .‬أنتم بأنفسكم جئاتم أم نحن دعوناكم؟ أنتم اشتقتم أم نحن شوقناكم؟ نحن‬
‫أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر‪ ،‬فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية كمل اهتزازهم وتم وثوقهم‬
‫فاطمأنوا واستقبلوا حقائاق بدقائاق التمكين‪ ،‬وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين‪ ،‬ولتعلمن نبأه بعد حين‪.‬‬
‫فصل‬
‫أترى هل كان بين الراجع إلى تلك الجزيرة وبين المبتدئ من فرق؟ إنما قال‪ :‬جئانا ملكنا من كان مبتدلئاا‪ ،‬أما من كان راجلعا إلى‬
‫عيشه الصلي )يا أيتها النفس المطمئانة * ارجعي( ]الفجر‪ [28 ، 27 :‬فرجع لسماع النداء كيف يقال له لم جئات؟ فيقول‪ :‬لم دعيت‬
‫ل بل فيقول لم حملت إلى تلك البلد وهي بلد القربة‪ ،‬والجواب على قدر السؤال‪ ،‬والسؤال على قدر التفقه‪ ،‬والهموم بقدر الهمم‪.‬‬
‫فصل‬
‫من يرتاع لمثل هذه النكت فليجدد العهد بطور الطيرية‪ ،‬وأريحية الروحانية‪ ،‬فكلم الطيور ل يفهمه إل من هو من الطيور‪ ،‬وتجديد‬
‫العهد بملزمة الوضوء‪ ،‬ومراقبة أوقات الصلة‪ ،‬وخلوة ساعة للذكر فهو تجديد العهد الحلو في غفلة ل بد من أحد الطريقين‪،‬‬
‫فاذكروني أذكركم‪ ،‬أو نسوا ا فنسيهم‪ .‬فمن سلك سبيل الذكر أنا جليس من ذكرني‪ ،‬ومن سلك النسيان‪) :‬ومن يعش عن ذكر‬
‫الرحمن نقيض له شيطالنا فهو له قرين( ]الزخرف‪ .[36 :‬وابن آدم في كل نفس مصحح أحد هاتين النسبتين ول بد يتلوه يوم القيامة‬
‫أحد السيماءين‪ .‬أما يعرف المجرمون بسيماهم أو الصالحون بسيماهم في وجوهم من أثر السجود‪ ،‬أنقذك ا بالتوفيق‪ ،‬وهداك إلى‬
‫التحقيق‪ ،‬وطوى لك الطريق‪ ،‬إنه بذلك حقيق‪ .‬والحمد ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين آمين‪.‬‬
‫)ص ‪(316‬‬
‫الرسالة الوعظية‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة الرسالة‬
‫لقد بلغني عن لسان من أثق به سيرة الشيخ المام الزاهد –حرس ا توفيقه وسمره في مهم دينه‪ -‬ما قوى رغبتي في مؤاخاته في‬
‫ا تعالى رجاء لما وعد ا به عباده المتحابين‪ .‬وهذه الخوة ل تستدعي مشاهدة الشخاص وقرب البدان‪ ،‬وإنما تستدعي قرب‬
‫القلوب وتعارف الرواح وهي جنود مجندة فإذا تعارفت ائاتلفت‪ ،‬وها أنا عاقد معه الخوة في ا تعالى ومقترح عليه أن ل يخليني‬
‫عن دعوات في أوقات خلوته‪ ،‬وأن يسأل ا تعالى أن يريني الحق حلقا‪ ،‬ويرزقني اتباعه‪ ،‬وأن يريني الباطل باطلل‪ ،‬ويرزقني‬
‫اجتنابه‪ ،‬ثم قرع سمعي أنه التمس مني كللما في معرض النصح والوعظ‪ .‬وقولل وجيلزا فيما يجب على المكلف اعتقاده من قواعد‬
‫العقائاد‪.‬‬
‫وعظ النفس‬
‫أما الوعظ‪ ،‬فلست أرى نفسي أهلل له لن الوعظ زكاة نصابها التعاظ ومن ل نصاب له كيف يخرج الزكاة‪ ،‬وفاقد النور كيف‬
‫يستنير به غيره )ومتى يستقيم الظل والعود أعوج( وقد أوحى ا تعالى إلى عيسى ابن مريم صلى ا عليه وسلم‪" :‬عظ نفسك فإن‬
‫اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي مني"‪ .‬وقال نبينا صلى ا عليه وسلم‪" :‬تركت فيكم واعظين ناطق وصامت"‪.‬‬
‫فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن ل يتعظ بهما فكيف يعظ غيره‪ ،‬ولقد وعظت بهما نفسي‬
‫فصدقت وقبلت قولل وعقلل‪ ،‬وأبت وتمردت تحقيلقا وفعلل فقلت لنفسي‪ :‬أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ الناطق‪ ،‬وأنه‬
‫الناصح الصادق‪ ،‬فإنه كلم ا المنزل الذيِ ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه؟ فقال‪ :‬نعم‪ .‬قال ا تعالى‪) :‬من كان يريد‬
‫الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وهم فيها ل يبخسون * أولئاك الذين ليس لهم في الخرة إل النار وحبط ما صنعوا فيها‬
‫وباطل ما كانوا يعملون( ]هود‪ ،[16 ، 15 :‬فقد وعدك ا تعالى بالنار على إرادة الدنيا‪ ،‬وكل ما ل يصحبك بعد الموت فهو من‬
‫الدنيا‪ ،‬فهل تنزهت عن إرادة الدنيا أو حبها‪ ،‬ولو أن طبيلبا نصرانليا وعدك بالموت أو المرض على تناولك ألذ الشهوات لتحاشيتها‬
‫واتقيتها‪ .‬أكان النصراني عندك أصدق من ا تعالى؟ فإن كان ذلك فما أكفرك‪ .‬أو كان المرض أشد عندك من النار‪ ،‬فإن كان ذلك‬
‫فما أجهلك‪ ،‬فصدقت ثم ما انتفعت بل أصررت على الميل إلى‬
‫)ص ‪(317‬‬
‫العاجلة واستمررت‪ ،‬ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ الصامت فقلت‪ :‬قد أخبر الناطق عن الصامت إذ قال تعالى‪) :‬إن الموت‬
‫الذين تفرون منه فإنه ملقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئاكم بما كنتم تعملون( ]الجمعة‪ .[8 :‬وقلت لها‪ :‬هبي أنك ملت‬
‫إلى العاجلة أفسلت مصدقة بأن الموت ل محالة آتيك وقاطع عليك كل ما أنت متمسكة به وسالب منك كل ما أنت راغبة فيه وكل ما‬
‫هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت‪ ،‬وقد قال ا تعالى‪) :‬أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما‬
‫كانوا يمتعون( ]الشعراء‪ .[207 – 205 :‬أفأنت مخرجة هذا عن جميع ما أنت فيه؟ والحر الحكيم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج‬
‫منها‪ .‬واللئام يتمسك بها إلى أن يخرج من الدنيا خائالبا خاسلرا متحسلرا‪ ،‬فقال‪ :‬صدقت‪ ،‬فكان ذلك منها قولل ل تحصيل وراءه إذ لم‬
‫تجتهد قط في التزود للخرة كاجتهادها في تدبير العاجل‪ ،‬ولم تجتهد قط في رضاء ا تعالى كاجتهادها في رضاها بل كاجتهادها‬
‫في طلب الخلق‪ ،‬ولم تستح من ا تعالى كما تستحي من واحد من الخلق‪ ،‬ولم تشمر للستعداد للخرة كتشميرها في الصيف‪ ،‬فإنها‬
‫ل تطمئان في أوائال الشتاء ما لم تفرغ من جميع ما تحتاج إليه من آلته مع أن الموت ربما يختطفها‪ ،‬والشتاء ل يدركها‪ ،‬والخرة‬
‫على يقين ل يتصور أن يختطف منها‪ ،‬وقلت لها‪ :‬أل تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر؟‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬فاعصي ا بقدر صبرك على النار واستعديِ للخرة بقدر بقائاك فيها‪ .‬فقالت‪ :‬هذا هو الواجب الذيِ ل يرخص‬
‫في تركه إل الحمق‪ ،‬ثم استمرت على سجيتها فوجدتني كما قال بعض الحكماء‪ :‬إن في الناس من يموت نصفه ول ينزجر نصفه‬
‫الخر‪ ،‬وما أراني إل منهم‪ ،‬ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بوعظ الموت والقرآن‪ .‬رأيت أهم المور التفتيش عن‬
‫سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها‪ ،‬فإن ذلك من العجائاب العظيمة‪ ،‬فطال عليه تفتيشي حتى وقفت على سببه‪ .‬وها أن مؤنس‬
‫وإياه بالحذر منه‪ .‬فهو الداء العضال وهو السبب الداعي إلى الغرور والهمال‪ .‬وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على‬
‫القرب‪ .‬فإنه لو أخبره صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت إلى أسبوع أو أشهر‪ ،‬لستقام على الطريق المستقيم‪.‬‬
‫ولترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه مما يتعاطاه ل تعالى ومغرور فيه فضلل عما يعلم أنه ليس ل تعالى‪ ،‬فانكشف تحقيلقا أن من‬
‫أصبح وهو يأمل أن يمسي أو أمسى وهو يأمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف‪ ،‬ولم يقدر إل على سير ضعيف‪ .‬فأوصيه‬
‫ونفسي بما أوصى به رسول ا صلى ا عليه وسلم حيث قال‪" :‬صل صلة مودع"‪ ،‬ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب‪ .‬ول‬
‫ينتفع بوعظ إل به‪ ،‬فمن غلب على قلبه في كل صلة أنها آخر صلته‪ ،‬حضر معه قلبه في الصلة وتيسر له الستعداد بعد‬
‫)ص ‪(318‬‬
‫الصلة‪ .‬ومن عجز عن ذلك فل يزال في غفلة دائامة وغرور مستمر‪ ،‬وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت فتدركه حسرة الفوت‪،‬‬
‫وأنا مقترح عليه أن ل يسأل ا تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها‪ ،‬وقاصر عنها‪ ،‬وأوصيه أن ل يرضى من نفسه إل‬
‫بها‪ ،‬وأن يحذر من مواقع الغرور‪ ،‬فإذا وعدت النفس بذلك طالبها بموثق غليظ من ا تعالى‪ ،‬فإن خداع النفس ل يقف عليه إل‬
‫الكياس‪.‬‬
‫وأما أقل ما يجب اعتقاده على المكلف فهو ما يترجمه قوله ل إله إل ا محمد رسول ا‪ .‬ثم إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه‬
‫في صفات ا تعالى فإنه حي قادر عالم متكلم مريد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس عليه بحث عن حقيقة هذه‬
‫الصفات‪ .‬وأن الكلم والعلم وغيرهما قديم أو حادث‪ ،‬بل لو لم تخطر له هذه المسألة حتى مات مؤملنا وليس عليه تعلم الدلة التي‬
‫حررها المتكلمون‪ .‬بل كلما حصل في قلبه التصديق بالحق‪ .‬بمجرد اليمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن‪ ،‬ولم يكلف رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم أكثر من ذلك‪ .‬وعلى هذا العتقاد المجمل استمرت العراب وعوام الخلق إل من وقع في بلدة يقرع سمعه‬
‫فيها هذه المسائال مقدم الكلم وحدوثه ومعنى الستواء والنزول وغيره فإن لم يأخذ ذلك قلبه وبقي مشغولل بعبادته وعمله فل حرج‬
‫عليه وإن أخذ ذلك بقلبه فأقل الواجبات عليه ما اعتقده السلف فيعتقد في القرآن القدم‪ ،‬كما قال السلف‪ :‬القرآن كلم ا غير مخلوق‪،‬‬
‫ويعتقد أن الستواء حق والسؤال عنه مع الستغناء بدعة‪ ،‬والكيفية فيه مجهولة‪ .‬فيؤمن بجميع ما جاء به الشرع إيمالنا مجملل من‬
‫غير بحث عن الحقيقة والكيفية‪ ،‬فإن لم ينفعه ذلك وغلب على قلبه الشكال والشك فإن أمكن إزالة شكه وإشكاله بكلم قريب من‬
‫الفهام‪ .‬وإن لم يكن قوليا عند المتكلمين ول مرضليا عندهم‪ ،‬فذلك كاف ول حاجة به إلى تحقيق الدليل‪ ،‬بل الولى أن يزال إشكاله‬
‫من غير برهان حقيقة الدليل‪ ،‬فإن الدليل ل يتم إل بدرك السؤال الجواب عنه‪ ،‬ومهما ذكرت الشبهة فل يبعد أن ينكر بقلبه ويكل‬
‫فهمه عن درك جوابه إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب دقيلقا ل يحتمله عقله‪ .‬ولهذا زجر السلف عن البحث والتفتيش عن الكلم‪.‬‬
‫وإنما زجروا عنه لضعفاء العوام‪.‬‬
‫وأما المشتغلون بدرك الحقائاق فلهم خوض غمرة الشكال ومنع الكلم للعوام يجريِ مجرى منع الصبيان من شاطئ نهر جلة خوفال‬
‫من الغرق‪ ،‬ورخصة القوياء فيه تضاهي رخصة الماهر في صنعة السباحة‪ ،‬إل أن ههنا موضع غرور ومزلة قدم‪ ،‬وهو أن كل‬
‫ضعيف في عقله –راض من ا تعالى في كمال عقله‪ -‬يظن بنفسه أنه يقدر على إدراج الحقائاق كلها وأنه من جملة القوياء فربما‬
‫يخوضون فيغرقون في بحر الجهات حيث ل يشعرون‪ ،‬فالصواب للخلق كلهم إل الشاذ النادر الذيِ ل تسمح العصار إل بواحد‬
‫منهم‬
‫)ص ‪(319‬‬
‫أو اثنين سلوك مسلك السلف في اليمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما نزله ا تعالى وأخبر به رسوله من غير بحث وتفتيش‬
‫عن الدلة‪ ،‬بل الشتغال بالتقوى عليه شغل شاغل إذ قال صلى ا عليه وسلم حيث رأى أصحابه يخوضون بعد أن غضب حتى‬
‫احمرت وجنتاه‪" :‬أبهذا أمرتم تضربون كتاب ا بعضه ببعض انظروا ما أمركم ا به فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا"‪ .‬فهذا تنبيه‬
‫على المنهج الحق‪ ،‬واستيفاء ذلك شرحناه في كتاب )قواعد العقائاد( فيطلب منه والسلم‪.‬‬
‫إلجام العوام‬
‫عن‬
‫علم الكلم‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الرسالة‬
‫الحمد ل الذيِ تجلى لكافة عباده بصفاته وأسمائاه وتاهت عقول الطالبين في بيداء كبريائاه‪ ،‬وقص أجنحة الفكار دون حمى عزته‬
‫وتعالى بجلله عن أن تدرك الفهام كنه حقيقته‪ .‬واستوفى قلوب أوليائاه وخاصته واستغرق أرواحهم حتى احترقوا بنار محبته‬
‫وبهتوا في إشراق أنوار عظمته‪ ،‬وخرست ألسنتهم عن الثناء على جمال حضرته إل بما أسمعهم من أسمائاهم وصفاته وأنبأهم على‬
‫لسان رسوله محمد صلى ا عليه وسلم خير خليقته وعلى أصحابه وعترته‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فقد سألتني أرشدك ا عن الخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلل حيث اعتقدوا في ا‬
‫وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والنتقال والجلوس على العرش والستقرار‪ ،‬وما يجريِ مجراه‬
‫مما أخذوه من ظواهر الخبار وصورها‪ ،‬وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف‪ ،‬وأردت أن أشرح لك اعتقاد السلف‪ ،‬وأن‬
‫أبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه الخبار‪ ،‬وأكشف فيه الغطاء عن الحق‪ ،‬وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب‬
‫المساك والكف عن الخوض فيه‪ ،‬فأجبتك إلى طلبتك متقرلبا إلى ا سبحانه وتعالى بإظهار الحق الصريح من غير مداهنة‬
‫ومراقبة جانب ومحافظة على تعصب لمذهب دون مذهب‪ ،‬فالحق أولى بالمراقبة‪ ،‬والصدق والنصاف أولى بالمحافظة عليه‪،‬‬
‫وأسأل ا التسديد والتوفيق وهو بإجابة داعيه حقيق‪ ،‬وها أنا أرتب الكتاب على ثلثة أبواب‪:‬‬
‫باب في بيان حقيقة مذهب السلف في هذه الخبار‪.‬‬
‫وباب في البرهان على الحق فيه مذهب السلف وأن من خالفهم فهو مبتدع‪.‬‬
‫وباب في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن‪.‬‬
‫الباب الول‬
‫ص ‪320‬‬
‫فى شرح اعتقاد السلف فى هذه الخبار‪.‬‬
‫اعلم‪ :‬أن الحق الصريح الذى ل مراء فيه عند أهل البصائار هو مذهب السلف أعنى مذهب الصحابه والتابعين وها أنا أورد بيانه‬
‫وبيان برهانه‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬حقيقه مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور‪:‬‬
‫التقديس ‪ ,‬ثم التصديق ‪ ،‬ثم اعتراف بالعجز ‪ ،‬ثم المسال ‪ ،‬ثم الكف ‪ ،‬ثم التسليم لهل المعرفة‪.‬‬
‫أما التقديس‪ :‬فأعنى به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية توابعها‪.‬‬
‫وأما التصديق‪ :‬فهو اليمان بما قاله صلى ا عليه وسلم وإن ما ذكره حق وهو فيما قاله صادق وأنه حق على الوجه الذى قاله و‬
‫أراده‪.‬‬
‫وأما العتراف بالعجز‪ :‬فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته‪.‬‬
‫وأما السكوت‪ :‬فأن ل يسأل عن معناه و ل يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ‪ ،‬وأنه فى خوضه فيه مخاطر بدينه ‪ ،‬وأنه يوشك‬
‫أن يكفر لو خاض فيه من حيث ل يشعر‪.‬‬
‫وأما اإمساك‪ :‬فأن ل يتصرف فى تلك اللفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل ل‬
‫ينطق إل بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من اليراد والعراب والتصرف والصيغة‪.‬‬
‫وأما الكف‪ :‬فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكير فيه‪.‬‬
‫وأما التسليم لهله‪ :‬فأن ل يعتقد أن ذلك إن خفى عليه لعجزه فقد خفى على رسول ا )صلى ا عليه و سلم( أو على اللنبياء أو‬
‫على الصديقين و الولياء‪ ،‬فهذه سبع وظائاف اعتقد كافه السلف وجوبها على كل العوام ل ينبغى أن يظن بالسلف الخلف فى شئ‬
‫منها‪ ،‬فلنشرحها وظيفه وظيفه إن شاء ا تعالى‪:‬‬
‫الوظيفه الولى‪ :‬التقديس و معناه أنه إذا سمع اليد و الصبع و قوله )صلى ا عليه و سلم(‪" :‬إن ا خمر طينة آدم بيده‪ .‬و إن قلب‬
‫المؤمنين بين إصباعين من أصابع الرحمن"‪ ,‬فينبغى أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الصلى و هو عضو‬
‫مركب من لحم و عصب‪ ،‬و اللحم والعظم و العصب جسم مخصوص و صفات مخصوصه أعنى بالجسم عباره عن مقدار له‬
‫طول و عرض و عمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إل بأن يتنجى عن ذلك المكان‪) ،‬وقد يستعار هذا اللفظ( أعنى اليد لمعنى‬
‫آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلل كما يقال‪ :‬البلده فى‬
‫ص ‪321‬‬
‫يد المير فإن ذلك مفهوم وإن كان المير مقطوع اليد مثلل فعلى العامى و غير العامى أن يتحقق قطعا ل و يقينا ل أن رسول ا )صلى‬
‫ا عليه وسلم( لم يرد بذلك جسما ل هو عضو مركب من لحم و دم وعظم‪ ،‬و أن ذلك فى حق ا تعالى محال وهو عنه مقدس‪ ،‬فإن‬
‫خطر بباله أن ا جسم مركب من أعضائاه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق ‪ ،‬وعبادة المخلوق كفر‪ ،‬وعبادة الصنم كانت‬
‫كفرال لنه مخلوق‪ ،‬وكان مخلوقا ل لنه فمن عبد جسما ل فهو بإجماع الئامه السلف منهم والخلف‪ .‬سواء كان ذلك الجسم كثيفا ل كالجبال‬
‫الصم الصلب‪ ،‬أو لطيفا ل كالهواء والماء‪ ،‬وسواء كان مظلما ل كالرض أو مشرقا ل كالشمس والقمر والكواكب‪ .‬أو مشفا ل ل لون له‬
‫كالهواء‪ ،‬أو عظيما ل كالعرش والكرسى والسماء‪ ،‬أو صغيرال كالذرة والهباء‪ ،‬أو جمادال كالحجارة‪ ،‬أو حيوانا ل كالنسان‪ .‬فالجسم صنم‬
‫فإن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلله عما يوجب الحدوث‪،‬‬
‫وليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعانى ليس بجسم ول عرض فى جسم يليق ذلك المعنى بال تعالى‪ ،‬فإن ل يدرى ذلك‬
‫ل‪ ،‬فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه أن ل يخوض‬ ‫المعنى ول يفهم كنه حقيقته فليس عليه فى ذلك تكليف أص ل‬
‫فيه كما سيأتى‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬إذا سمع الصورة فى قوله )صلى ا عليه و سلم( ‪ " :‬إن ا خلق آدم على صورته"‪"،‬وإنى رأيت ربى فى‬
‫أحسن صورة" فينبغى أن يعلم أن الصوره اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئاة الحاصلة فى أجسام م{لفة مرتبة ترتيبا ل مخصوصا ل‬
‫مثل النف والعين والفم والخد التى هى أجسام وهى لحوم وعظام‪ ،‬وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ول هيئاة فى جسم ول هو‬
‫ترتيب فى أجسام‪ .‬كقولك عرف صورته وما يجرى مجراه‪ ،‬فليتحقق كل مؤمن أن الصورة فى حق ا لم تطلق لرادة المعنى‬
‫الول الذى هو جسم لحمى وعظمى مركب من أنف وفم وخد‪ ،‬فإن جميع ذلك أجسام وهيئاات فى أجسام‪ ،‬وخالق الجسام والهيئاات‬
‫كلها منزه عن متشابهتها وصفاتها‪ ،‬وإذا علم هذا يقينا ل فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى فما الذى أراده فينبغى أن‬
‫يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بأن ل يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته‪ ،‬لكن ينبغى أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلل ا‬
‫وعظمته بما ليس بجسم ول عرض فى جسم‪.‬‬
‫مثال آخر‪ :‬إذا قرع سمعه النزول فى قوله )صلى ا عليه و سلم(‪" :‬ينزل ا تعالى فى كل ليلة إلى السماء الدنيا"‪ .‬فالواجب عليه‬
‫أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يطلق إطلقا ل يفتقر فيه إلى ثلثة أجسام‪ :‬جسم عال هو مكان لساكنه‪ ،‬وجسم سافل كذلك‪ ،‬وجسم‬
‫منتقل من السافل‬
‫ص ‪322‬‬
‫إلى العالى ومن إلى العالى إلى السافل‪،‬‬
‫صفحة ‪:322‬‬
‫إلى العالى ومن العالى إلى السافل‪ ،‬فإن كان من أسفل إلى علو سمى صعودال وعروجا ل ورقيلا‪ ،‬وإن كان من علو إلى أسفل سمى‬
‫نزولل وهبوطلا‪ ،‬وقد يطلق على معنى آخر ول يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة فى جسم‪ ،‬كما قال ا تعالى‪} :‬دودأندزدل دلاكم رَملن‬
‫الدلندعاهم دثدماهنديدة أدلزدواءج{ ]الزمر‪ .[6:‬وما رئاى البعير والبقر نازلل من السماء بالنتقال بل هى مخلوقة فى الرحام ولنزالها معنى ل‬
‫محالة‪ ،‬كما قال الشافعى رضى ا عنه‪ :‬دخلت مصر فلم يقيموا كلمى‪ ،‬فنزلت ثم نزلت ثم نزلت فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل‬
‫فتحقق المؤمن قطعا ل أن النزول فى حق ا تعالى ليس بالمعنى الول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل‪ ،‬فإن الشخص‬
‫والجسد أجسام والرب جل جلله ليس بجسم فإن خطر له أنه لم يرد هذا فما الذى أراد فيقال له‪:‬أنت إذا عجزت عن فهم نزول‬
‫البعير من السماء فأنت عن فهم نزول ا أعجز‪ ،‬فليس هذا بعشك فادرجى‪ ،‬واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت‪ ،‬واعلم أنه أريد به‬
‫معنى من المعانى التى يجوز أن يراد بها النزول فى لغة العرب‪ .‬ويليق ذلك المعنى بجلل ا تعالى وعظمته وإن كنت ل تعلم‬
‫حقيقته وكيقيته‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬إذا سمع لفظ الفوق فى قوله تعالى }دواهدو اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه{ ]النعام‪.[18:‬‬
‫وفى قوله تعالى }ديدخاافودن دراباهم رَمن دفلوهقههلم {]النحل‪ .[50:‬فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين‪:‬‬
‫أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والخر أسفل يعنى أن العلى من جانب رأس السفل وقد يطلق لفوقية الرتبة‪،‬‬
‫وبهذا المعنى يقال‪ :‬الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير‪ ،‬وكما يقال‪ :‬العلم فوق العلم‪ ،‬والول يستدعى جسما ل ينسب إلى‬
‫جسيم‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬ل يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعا ل أن الول غير مراد وأنه على ا تعالى محال‪ ،‬فإنه من لوازم الجسام أو لوازم أعراض‬
‫الجسام وإذا عرف نفى هذا المحال فل عليه إن لم يعرف أنه لماذا أطلق ماذا أريد فقس على ما ذكرناه‪.‬‬
‫الوظيفة الثانية‪ :‬اليمان والتصديق وهو أنه يعلم قطعا ل أن هذه اللفاظ أريد بها معنى يليق بجلل ا وعظمته‪ ،‬وأن رسول ا صلى‬
‫ا عليه وسلم صادق فى وصف ا تعالى به‪ ،‬فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لريب فيه وليقل آمنا‬
‫وصدقنا‪ ،‬وأن ما وصف ا تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذى أراده وعلى الوجه الذى قاله‪،‬‬
‫وإن كنت ل تقف على حقيقته فإن قلت التصديق إنما يكون بعد التصور‪ ،‬واليمان إنما يكون بعد التفهم‪ ،‬فهذه اللفاظ إذا لم يفهم‬
‫العبد معانيها كيف يعتقد‬
‫صفحة ‪:323‬‬
‫صدق قائالها فيها؟ فجوابك أن التصديق بالمور الجميلة ليس بمحال وكل عاقل يعلم انه أريد بهذه اللفاظ معان‪ ،‬وأن كل اسم فله‬
‫مسمى إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى فيمكنه أن يعتقد كونه صادقا ل مخبرال عنه على ما هو عليه‪ ،‬فهذا معقول‬
‫على سبيل الجمال‪ ،‬بل يمكن أن يفهم من هذه اللفاظ أمور جميلة غير مفصلة‪ ،‬ويمكن التصديق كما إذا قال فى البيت حيوان أمكن‬
‫أن يصدق دون أن يعرف أنه إنسان أو فرس أو غيره‪ ،‬بل لو قال فيه شئ أمكن تصديقه وإن لم يعرف ما ذلك الشئ‪ ،‬فكذلك من‬
‫سمع الستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة إلى العرش فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة‬
‫هى نسبة الستقرار عليه أو القبال على خلقه أو الستيلء عليه بالقهر أو معنى آخر من معانى النسبة فأمكن التصديق به‪ ،‬وإن‬
‫قلت فأى فائادة فى مخاطبة الخلق بما ل يفهمون وجوابك أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله وهم الولياء والراسخون فى‬
‫العلم وقد فهموا‪ ،‬وليس من شرط من خاطب العقلء أن يخاطبهم بما بفهم الصبيان والعوام بالضافة إلى العارفين كالصبيان‬
‫بالضافة إلى البالغين‪ ،‬ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما يفهمونه‪ ،‬وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من‬
‫شأنكم ولستم من أصله فخوضوا فى حديث غيره فقد قيل للجاهل‪ }:‬دفالسأ دالولا أدلهدل الرَذلكهر هإن اكناتلم لد دتلعدلامودن {]النحل‪ .[43:‬فإن كانوا‬
‫يطيقوا فهموهم وإل قالوا لهم‪ } :‬دودما اأوهتياتم رَمن اللهعللهم إهلا دقهليلل {]السراء‪ .[85:‬فل تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‪ ،‬وما لكم‬
‫وهذا السؤال‪ .‬هذه معان اليمان بها واجب والكيفية مجهولة أى لكم‪ ،‬والسؤال عنها بدعة كما قال المام مالك‪ :‬الستواء معلوم‬
‫والكيفية مجهولة واليمان به واجب‪ ،‬فإذال اليمان بالجمليات التى ليست مفصلة فى الذهن يمكن ولكن تقديسه الذى هو نفى للمحال‬
‫ل‪ ،‬فإن المنفى هى الجسمية ولوازمها ونعنى بالجسم هاهنا الشخص المقدر الطويل العريض‬ ‫عنه ينبغى أن يكون مفص ل‬
‫العميق‪،‬الذى يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو الذى يدفع ما يطلب مكانه إن كان قويا ل ويندفع وتنحى عن مكانه بقوة دافعة إن كان‬
‫ضعيفلا‪ ،‬وإنما شرحنا هذا الفظ مع ظهوره لن العامى ربما ل يفهم المراد به‪.‬‬
‫الوظيفة الثالثة‪ :‬العتراف بالعجز ويجب على كل من ل يقف على كنه هذه المعانى وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى المراد به‬
‫أن يقر بالعجز‪ ،‬فإن التصديق واجب وهو عن دركة عاجز‪ ،‬فإن ادعى المعرفة فقد ذكب وذها معنى قول مالك‪ :‬الكيفية مجهولة‪،‬‬
‫يعنى تفضيل المراد به غير معلوم‪ ،‬بل الراسخون فى العلم والعارفو من الولياء إن جاوزوا فى المعرفة حدود العوام وجالوا فى‬
‫ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميالل كثيرة فما بقى لهم مما لم يبلغوه بين أيديهم أكثر بل ل نسبة لما طوى عنهم إلى ما كشف‬
‫لهم لكثرة المطوى وقلة‬
‫صفحة ‪:324‬‬
‫المكشوف بالضافة إليه والضافة إلى المطوى المستور‪.‬قال سيد النبياء صلوات ا عليه‪" :‬ل أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت‬
‫على نفسك"‪ .‬وبالضافة إلى المكشوف‪ ،‬قال صلوات ا عليه‪" :‬أعرفكم بال أخوفكم ل وأنا أعرفكم بال"‪ .‬ولجل كون العجز‬
‫والقصور ضروريا ل فى آخر المر بالضافة إلى منتهى الحال قال سيد الصديقين‪ :‬العجز عن درك الدراك إدراك‪ ،‬فأوائال حقائاق‬
‫هذه المعانى بالضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالضافة إلى خواص الخلق‪ ،‬فكيف ل يجب عليه العتراف بالعجز!‪.‬‬
‫الوظيفة الرابعة‪ :‬السكوت عن السؤال وذلك واجب على العوام لن بالسؤال متعرض لما ل يطيقه وخائاض فيما ليس أهلل له‪ ،‬فإن‬
‫سأل جاهلل زاده جوابه جهلل وبما ورطه فى الكفر من حيث ل يشعر‪ ،‬وإن سأل عارفا ل عجز العارف عن تفهيم بل عجز عن تفهيم‬
‫ولده مصلحته فى خروجه إلى المكتب‪ ،‬بل عجز الصائاغ عن تفهيم النجار دقائاق صناعته‪ ،‬فإن النجار وإن كان بصيرال بصناعته‬
‫فهو عاجز عن دقائاق الصياغة لنه إنما بعلم دقائاق النجر لستغراقه العمر فى تعلمه وممارسته‪ ،‬فكذلك يفهم الصائاغ الصياغة‬
‫أيضا ل لصرف العمر إلى تعلمه وممارسته وقبل ذلك ليفهمه فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التى ليست من قبيل معرفة ا عاجزون‬
‫عن معرفة المور اللهية عجز كافة المعرضين عن الصناعان عن فهمها‪ ،‬بل عجز الصبى الرضيع عن العتذار بالخبز واللحم‬
‫لقصور فى فطرته ل لعدم الخبز واللحم ول لنه قاصر على تغذية القوياء‪ ،‬لكن طبع الضعفاء قاصر عن التغذى به فمن أطعم‬
‫الصبى الضعيف اللحم والخبز وأمكنه من تناوله فقد أهلكه‪ ،‬وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعانى يجب زجرهم ومنعهم‬
‫وضربهم بالدرة كما كان يفعله عمر ضى ا عنه بكل من سأل عن اليات المتشابهات‪ ،‬فقال صلى ا عليه وسلم""فبهذا اأمراتم"‬
‫وقال‪" :‬إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة السؤال" أو لفظ هذا معناه كما اشتهر فى الخبر‪ .‬ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رؤوس‬
‫المنابر الجواب عن هذه السئالة بالخوض فى التأويل والتفصيل‪ ،‬بل الواجب عليهم القتصار كما ذكرناه وذكره السلف‪ ،‬وهو‬
‫المبالغة فى التقديس ونفى التشبيه وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوراضها وله المبالغة فى هذا بما أراد حتى يقول‪ :‬كل ما خطر‬
‫ببالكم وهجس فى ضميركم وتصور فى خاطركم فإنه تعالى خالقها وهو منزه عنها وعن مشابهتها وأن ليس المراد بالخبار شيئاا ل‬
‫منذ لك‪ ،‬وأما حقيقة المراد فلستم من أهل معرفتها والسؤال عنها‪ ،‬فاشتغلوا بالتقوى فما أمركم ا تعالى به فافعلوه وما نهاكم عنه‬
‫فاجتنبوه وهذا قد نهيتم عنه فل تسألوا عنه ومهما سمعتم منه شيئاا ل فاسكتوا وقولوا آمنا وصدقنا وما أوتينا من العلم إل قليل‪ ،‬وليس‬
‫هذا من جلمة ما أوتيناه‪.‬‬
‫صفحة ‪:325‬‬
‫الوظيفة الخامسة‪ :‬المساك عن التصرف فى ألفاظ واردة يجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الخبار والمساك عن‬
‫التصرف فيها من ستة أوحه‪ :‬التفسير‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والتصرف‪ ،‬والتفريع‪ ،‬والجمع‪ ،‬والتفريق‪.‬‬
‫الول‪ :‬التفسير وأعنى به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها فى العربية أو معناها بالفارسية أو التركية‪ ،‬بل ل يجوز النطق إل‬
‫باللفظ الوارد لن من اللفاظ العربية مال يوجد لها فارسية تطابقها‪ .‬ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس‬
‫باستعارتها للمعانى التى جرت عادة العرب باستعارتها منها‪ .‬ومنها ما يكون مشتركا ل فى العربية ول يكون فى العجمية كذلك‪.‬‬
‫أما الول‪ :‬مثاله لفظ الستواء فإنه ليس له فى الفارسية لفظ مطابق يؤدى بين الفرس من المعنى الذى يؤديه لفظ الستواء بين‬
‫العرب بحيث ل يشتمل على مزيد إيهام إذ فارسيته أن يقال‪":‬راستا باستان" وهذان لفظان‪ :‬الول‪ :‬ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما‬
‫يتصور أنه ينحنى ويعوج‪ .‬والثانى‪ :‬ينبئ عن سكون وثابت فيما يتصور أو يتحرك ويضطرب وإشعاره بهذه المعانى وإشارته‬
‫إليها فى العجمية أظهر من إشعار لفظ الستواء وإشارته إليها‪ ،‬فإذا تفاوت فى الدلة والشعار لم يكن هذا مثل الول وإنما يجوز‬
‫تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذى ل يخالفه بوجه من الوجوه ل بما يباينه أو يخالفه ولو بأدنى شئ وأدقه وأخفاه‪.‬‬
‫ومثال الثانى‪ :‬أن الصبع يستعار فى لسان العرب للنعمة يقال لفلن عندى أصبع أى نعمة ومعناها بالفارسية انكشفت وما جرت‬
‫عادة العجم بهذه الستعارة‪ ،‬وتوسع العرب فى التجوز والستعارة أكثر من توسع العجم بل ل نسبة لتوسع العرب إلى جمود‬
‫العجم‪ ،‬فإذا أحسن إرادة المعنى المستعار له فى العرب وسمج ذلك فى العجم نفر القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه‪ ،‬فإذا‬
‫تفاوتا لم يكن التفسير تبديلل بالمثل بل بالخلف ول يجوز التبديل إل بالمثل‪.‬‬
‫مثال الثالث‪ :‬العين فإن من فسره بأظهر معانيه‪ ،‬فيقول هو جسم وهو مشترك فى لغة العرب بين العضو الناصر وبين الماء‬
‫والذهب والفضة‪ ،‬وليس اللفظ اسم وهو مشترك هذا الشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه‪ ،‬فلجل هذا نرى المنع من‬
‫التبديل والقتصار على العربية‪ ،‬فإن قيل‪ :‬هذا التفاوت إن ادعيتموه فى جميع اللفاظ فهو غير صحيح إذ ل فرق بين قولك خبز‬
‫ونان وبين قولك لحم وكوشت‪ ،‬وإن اعترف بأن ذلك فى البعض فامنع من التبديل عند التفاوت ل عند التماثل‪ ،‬فالجواب الحق أن‬
‫التفاوت فى البعض ل فى الكل فهل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان فى اللغتين وفى الشتراك‬
‫صفحة ‪:326‬‬
‫والستعارة وسائار المور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما ل يجوز وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائاق التفاوت‬
‫جليا ل سهلل يسيرال على كافة الخلق بل يكثر فيه الشكال ول يتميز محل التفاوت عن محل التعادل‪ ،‬فنحن بين أن نحسم الباب‬
‫احيتاطا ل إذ ل حاجة ول ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر‪ ،‬فليت شعرى أى المرين أعزم‬
‫واحوط‪ ،‬والمنظور فيه ذات الله وصفاته وما عندى أن عاقلل متدينا ل ل يقر بأن هذا المر مخطر‪ ،‬فإن الخطر فى الصفات اللهية‬
‫يجب اجتنابه‪ .‬كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم وللحذر من خلط النساب احتياطا ل لحكم الولية والوراثة‬
‫وما يترتب على النسب‪ ،‬فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم واليسة والصغيرة وعند العزل لن باطن الرحام إنما يطلع عليه‬
‫علم الغيوب فإنه يعلم ما فى الحرام‪ ،‬فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل كنا راكبين متن الخطر فإيجاب العدة حيث ل علوق أهون‬
‫من ركوب هذا الخطر‪ ،‬كما أن إيجاب العدة حكم شرعى فتحريم تبديل العربية حكم * عن ثبت بالجتهاد وترجيح الطريق الول‪،‬‬
‫ويعلم أن الحتياط فى الخبر عن ا وعن صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الحتياط فى العدة وما ما احتاط به‬
‫الفقهاء من هذا القبيل‪.‬‬
‫أما التصرف الثانى‪ :‬التأويل‪ ،‬وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره وهذا إما يقع من العامى نفسه‪ ،‬أو من العارف مع العامى‪ ،‬أو من‬
‫العارف مع نفسه وبينه وبين ربه‪ ،‬فهذه ثلثة مواضع‪.‬‬
‫الول‪ :‬تأويل العامى على سبيل الشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن ل يحسن السباحة‪ .‬ولشك فى تحريم‬
‫ذلك‪ ،‬وبحر معرفة ا أبعد غورال وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء‪ ،‬لن هلك هذا البحر ل حياة بعده وهلك بحر الدنيا ل‬
‫يزيل إل الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة البدية فشتان بين الخطرين‪.‬‬
‫الموضع الثانى‪ :‬أن يكون ذلك من العالم مع العامى وهو أيضا ل ممنوع‪ ،‬ومثاله‪ :‬أن بحر السباح الغواص فى البحر مع نفسه عاجزال‬
‫عن السباحة مضطرب القلب والبدن وذلك حرام لنه عرضة لخطر اللهاك فإنه ل يوقى على حفظه فى لجة البحر‪ ،‬وإن قدر على‬
‫حفظه فى القرب من الساحل ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل ل يطيعه‪ ،‬وإن أمره بالسكون عند التطام المواج وإقبال التماسيح‬
‫وقد فغرت فاها لللتقام اضطرب قلبه وبدنه ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته‪ ،‬وهذا هو المثال الحق للعالم إذا فتح للعامى‬
‫باب التأويلت والتصرف فى خلف الظواهر‪ ،‬وفى معنى العوام الديب النحوى والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم بل كل عالم‬
‫سوى المتجردين لعلم السابحة فى بحار المعرفة القاصرين أعمارهم‬
‫صفحة ‪:327‬‬
‫عليه‪ ،‬الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات‪ ،‬المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائار اللذات‪ ،‬المخلصين ل تعالى فى العلوم‬
‫والعمال‪ ،‬بجميع حدود الشريعة وآدابها فى القيام بالطاعات وترك المنكرات‪ ،‬المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير ا تعالى ل‪،‬‬
‫المستحقرين للدنيا بل الخرة والفردوس العلى فى جنب محبة ا تعالى‪ ،‬فهؤلء هم أهل الغوص فى بحر المعرفة وهم مع ذلك‬
‫كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالذر المكنون والسر المخزون‪ ،‬أولئاك الذين سبقت لهم من ا‬
‫صادواراهلم دودما ايلعلهانودن{ ]القصص‪.[69:‬‬ ‫ك ديلعدلام دما اتهكمن ا‬ ‫الحسنى فهم الفائازون }دودرمب د‬
‫الموضع الثالث‪ :‬تأويل العارف مع نفسه فى سر قلبه بينه وبين ربه وهو على ثلثة أوجه‪ ،‬فإن الذى انقدح فى سره أن المراد من‬
‫لفظ الستواء والفوق مثلل إما أن يكون مقطوعا ل به أو مشكوكا ل فيه أو مظنونا ل ظنا ل غالبا ل‪ .‬فإن كان قطعيا ل فليعتقده‪ ،‬وإن كان مشكوكا ل‬
‫فليجتنبه ول يحكمن على مراد ا ورسوله صلى ا عليه وسلم من كلمه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح‪ ،‬بل الواجب على‬
‫الشاك التوقف‪ ،‬وإن كان مظنونا ل فاعلم أن للظن متعلقين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن المعنى الذى انقدح عنده هل هو جائاز فى حق ا تعالى أم هو‬
‫محال؟ والثانى‪ :‬أن يعلم قطعا ل جوزاه ولكن تردد فى أنه هل هو مراده أم ل؟‬
‫مثال الول‪ :‬تأويل لفظ فوق بالعلو المعنوى الذى هو المراد بقولنا السلطان فوق الوزير‪ ،‬فإنا ل نشك فى ثبوت معناها ل تعالى‬
‫ولكن ربما نتردد فى أن لفظ فوق فى قوله‪ }:‬ديدخاافودن دراباهم رَمن دفلوهقههلم{]النحل‪ .[50:‬هل أريد به العلو المعنوى أم أريد به معنى أخر‬
‫يليق بجلل ا تعالى دون العلو بالمكان الذى هو محال على ما ليس بجسم ول هو صفة فى جسم‪.‬‬
‫ومثال الثانى‪ :‬تأويل لفظ الستواء على العرش‪ ،‬بأنه أراد به النسبة الخاصة التى للعرش ونسبته أن ا تعالى يتصرف فى جميع‬
‫العالم ويدبر المر من السماء إلى الرض بوسطة العرش فإنه ل يحدث فى العالم صورة ما لم يحدثه فى العرش‪ ،‬كما ل يحدث‬
‫النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه فى الدماغ‪ .‬بل ل يحدث البناء صورة البنية ما لم يحدث صورتها فى‬
‫الدماغ‪ ،‬فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذى هو بدنة فربما نتردد فى أن إثبات هذه النسبة للعرش إلى ا تعالى هل جائاز‪،‬‬
‫إما لوجود فى نفسه أو لنه أجرى به سنته وعادته وإن لم يكن خلفه محالل كما أجرى عادته فى حق قلب النسان بأن ل يمكنه‬
‫التدبير إل بواسطة الدماغ‪ ،‬وإن كان فى قدرة ا تعالى تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الزلية وحقت به الكلمة القديمة‬
‫التى هى علمه فصار خلفه ممتنعا ل ل لقصور فى ذات القدرة ولكن لستحالة ما يخالف الرادة القديمة والعلم السابق‬
‫صفحة ‪:328‬‬
‫اه دتلبهديل{ ]الحزاب‪ ، 62:‬الفتح‪ .[23:‬وإنما ل تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن‬ ‫جدد لهاسانهة ا‬
‫ه‬ ‫د‬
‫ت‬ ‫لن‬‫د‬ ‫و‬
‫د‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬ ‫ولذلك‬ ‫الزلى‪،‬‬
‫إرادة أزلية واجبة‪ ،‬ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالل فى ذاته‪ ،‬ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب‬
‫العلم الولى جهلل ويمنع نفوذ المشيئاة الزلية‪ ،‬فإذال إثبات هذه النسبة ل تعالى مع العرش فى تدبير المملكة بواسطته إن كان جائازال‬
‫ل‪ ،‬فهل واقع وجودلا؟ هذا مما قد يتردد فيه الناظر وبما يظن وجوده هذا مثال الظن فى نفس المعنى‪ ،‬والول مثال الظن فى كون‬ ‫عق ل‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫المعنى مرادا باللفظ مع كون المعنى فى نفسه صحيحا جائازا وبينهما فرقان‪ ،‬لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح فى النفس وحاك‬ ‫ل‬
‫فى الصدر فل يدخل تحت الختبار دفعة عن النفس ول يمكنه أن يظن‪ ،‬فإن للظن أسبابا ل ضرورية ل يمكن دفعها ول يكلف ا‬
‫نفسا ل إل وسعها‪ ،‬لكن عليه وظيفتان‪:‬‬
‫إحداهماك أن ل يدع نفسه تطمئان إليه جزما ل من غير شعور بإمكان الغلط فيه‪ ،‬ول ينبغى أن يحكم من نفسه بموجب ظنه حكما‬
‫لجازما ل‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بأن بالستواء كذا‪ ،‬أو المراد بالفوق كذا‪ ،‬لنه حكم بما ل يعلم‪ ،‬وقد قال ا تعالى‪}:‬‬
‫ك هبهه هعللسم{ ]السراء‪ .[36:‬لكن يقول‪ :‬أنا أظن كذا فيكون صادقا ل عن خبره عن نفسه وعن ضميره‪ ،‬ول يكون‬ ‫س لد د‬ ‫دولد دتلق ا‬
‫ف دما لدلي د‬
‫حكما ل على صفة ا ول على مراده بكلمه‪ ،‬بل حكما على نفسه ونبأ عن ضميره‪ ،‬فإن قيل‪ :‬وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة‬
‫ل‬
‫الخلق والتحدث به كما اشتمل ضميره‪ ،‬وكذلك لو كان قاطعلا‪ ،‬فهل له أن يتحدث به؟ قلنا‪ :‬تحدثه به إنما يكون على أربعة أوجه‪:‬‬
‫فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله فى الستبصار أو مع من هو مستعد للستبصار بذكائاه وفطنته وتجرده لطلب معرفة ا‬
‫تعال‪ ،‬أو مع العامى فإن كان قاطعا ل فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله فى الستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة‬
‫مستعد له خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة للمعافر والتظاهر بذكرها مع الوام‪ .‬فمن‬
‫اتصف بهذه الصفات فل بأس بالتحدث معه لن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة ل لغرض آخر يحيك فى صدره أشكال‬
‫الظواهر وربما يلقيه فى تأويلت فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر ومنع العلم أهله‪-‬علم‪ -‬كبثه إلى غير أهله‪،‬‬
‫وأما العامى فل ينبغى أن بحدث به وفى معنى العامى كل من ل يتصف بالفات المذكورة‪ ،‬بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع‬
‫الطعمة القوية التى ل يطيقها‪ .‬وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار فإن ما ينطوى عليه الذهن من طن وك وقطع ل زالت‬
‫النفس تتحدث به ول قدرة على الخلص منه‪ ،‬فل منع منه ولشك فى منع التحدث‬
‫صفحة ‪:329‬‬
‫به مع العوام‪ ،‬بل هو أولى بالمنع من المقطوع‪ .‬أما تحدثه مع من هو فى مثل درجته فى المعرفة أو مع المستعد له ففه نظر‪،‬‬
‫فيحتمل أن يقال هو جائاز ول يزيد على أن يقول أظن كذا وهو صادق‪ ،‬ويحتمل المنع لنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف‬
‫بالظن فى صفة ا تعالى أو فى مراده من كلمه وفيه خطر‪ ،‬واباحته تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ولم يرد شئ‬
‫ك هبهه هعللسم{ ]السراء‪ .[36:‬فإن قيل يدل على الجواز ثلثة أمور‪:‬‬ ‫س دل د‬ ‫من ذلك بل ورد قوله تعالى ‪ }:‬دولد دتلق ا‬
‫ف دما دللي د‬
‫الول‪ :‬الدليل الذى دل على إباحة الصدق وهو صادق‪ ،‬فإنه ليس يخبر إل عن ظنه وهو ظان‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أقاويل المفسرين فى القرآن بالحدس والظن‪ ،‬إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسول صلى ا عليه وسلم بل هو مستنبط‬
‫بالجتهاد ولذلك كثرت القاويل وتعارضت‪.‬‬
‫والثالث‪:‬اجماع التابعين على نقل الخبار المتشابهة التى نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر‪ ،‬وما اشتمل عليه الصحيح الذى نقله العدل‬
‫عن العدل فإنهم جوزوا روايته ول يحصل بقول العدل إل الظن‪.‬‬
‫والجواب عن الول‪ :‬أن المباح صدق يخشى منه ضرر‪ ،‬وبث هذه الظنون ل يخلو عن ضرر فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده‬
‫جزما ل فيحكم فى صفات ا تعالى بغير علم وهو خطر والنفوس نافرة عن أشكال الظواهر‪ ،‬فإذا وجد مستروحا ل من المعنى ولو‬
‫كان مظنونا ل سكن إليه واعتقد جزملا‪ ،‬وربما يكون غلطا ل فيكون قد اعتقد فى صفات ا تعالى ما هو الباطل أو حكم عليه فى كلمه‬
‫بما لم يرد به‪.‬‬
‫وأما الثانى‪ :‬وهو أقاويل المفسرين بالظن فل نسلم ذلك فيما هو من صفات ا تعالى كالستواء والفوق وغيره‪ ،‬بل لعل ذلك فى‬
‫الحكام الفقهية أو فى حكايات أحوال النبياء والكفار والمواعظ والمثال وما ل يعظم خطر الخطأ فيه‪.‬‬
‫وأما الثالث‪ :‬فقد قال قائالون ل يجوز أن يعتمده فى هذا الباب إل ما ورد فى القرآن أو تواتر عن الرسول صلى ا عليه وسلم‬
‫تواترال بعيد العلم‪ .‬فأما أخبار الحاد‪ ،‬فل يقبل فيه ول نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل‪ ،‬ول بروايته عند من يقتصر على‬
‫الرواية‪ ،‬لن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه‪ ،‬وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درك عليه السلف‪ ،‬فإنهو قبلوا هذه‬
‫الخبار من العدول ورووها وصححوها فالجواب من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه ل يجوز اتهام العدل بالكذب لسيما فى صفات ا تعالى‪ ،‬فإذا روى‬
‫الصديق رضى ا عنه خبرلا‪ ،‬وقال سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول كذا فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو‬
‫إلى السهو فقبلوه وقالوا‪:‬‬
‫صفحة ‪330‬‬
‫قال أبو بكر ‪ ،‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم قال أنس قال رسول ا صلى ا عليه وسلم وكذا في التابعين ‪ ،‬فالن إذا ثبت‬
‫عندهم بأدلة الشرع أنه لسبيل إلى اتهام العدل التقى من الصحابة رضي ا عنهم أجمعين ‪ ،‬فمن أين يجب أن ليتهم ظنون الحاد‬
‫وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم‪ .‬فإذا قال الشارع ‪ :‬ماأخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه واظهروه‬
‫فل يلزم من هذا أن يقال ماحدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه واظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائاركم ونفوسكم ماقالته ‪،‬‬
‫فليس هذا في معنى المنصوص ‪ ،‬ولهذا تقول مارواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه وليروى ويحتاط فيه أكثر‬
‫مما يحتاط في المواعظ والمثال وما يجريِ مجراها‪.‬‬
‫والجواب الثاني ‪ :‬أن تلك الخبار روتها الصحابة لنهم سمعوه يقينا فما نقلوا إل تيقنوه والتابعون قبلوه ورووه ‪ ،‬وماقالوا ‪ :‬قال‬
‫رسول ا صلى ا عليه وسلم كذا ‪ ،‬بل قالوا ‪ :‬قال فلن قال رسول ا صلى ا عليه وسلم كذا وكانوا صادقين ‪ ،‬وماأهملوا‬
‫روايته لشتمال كل حديث على فوائاد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقيا ل يفهمه منه ليس ذلك ظنيا ل في حقه ‪ .‬مثال رواية‬
‫الصحابي عن رسول ا صلى ا عليه وسلم قوله ‪) :‬ينزل ا تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له ‪ ،‬هل‬
‫من مستغفر فأغفر له( ‪ ،‬الحديث‪ .‬فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذيِ‬
‫هو أفضل العبادات ‪ ،‬فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائادة العظيمة ولسبيل إلى إهمالها وليس فيه إل إيهام لفظ النزول عند‬
‫الصبي ‪ ،‬والعامي الجاريِ مجرى الصبي ‪ ،‬وماأهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول‬
‫بأن يقول له ‪ :‬إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا فأيِ فائادة في نزوله ‪ ،‬ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك‬
‫وهو على العرش أو على السماء العليا ‪ ،‬فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع‬
‫شخص في المغرب ومناداته ‪ ،‬فيتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه ليسمع ‪ ،‬فيكون نقله القدام عملل باطلل‬
‫وفعلل كفعل المجانين ‪ ،‬فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ‪ ،‬بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ‪،‬‬
‫وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه واستحالة النتقال على غير الجسام كاستحالة النزول من غير انتقال ‪ ،‬فإذال الفائادة في نقل‬
‫هذه الخبار عظيمة والضرر يسير ‪ ،‬فأنى يساويِ هذا حكاية الظنون المنقدحة في النفس ‪ ،‬فهذه سبل تجاذب طرق الجتهاد في‬
‫إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع ‪ ،‬وليبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر إلى قرائان حال السائال والمستمع ‪ ،‬فإن علم أنه ينتفع به‬
‫ذكره ‪ ،‬وإن علم أنه يتضرر تركه ‪ ،‬وإن ظن أحد المرين كان ظنه كالعالم في إباحة الذكر ‪ ،‬وكم من إنسان لتتحرك داعيته باطنا ل‬
‫إلى معرفة هذه المعانى وليحيك في نفسه إشكال من ظواهرها ‪ ،‬فذكر‬
‫=========================================‬
‫صفحة ‪331‬‬
‫التأويل معه مشوش ‪ ،‬وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاد في الرسول صلى ا عليه وسلم‬
‫وينكر قوله الموهم ‪ ،‬فمثل هذا لو ذكر معه الحتمال المظنون بل مجرد الحتمال الذيِ ينبو عنه اللفظ انتفع به ولبأس بذكره معه‬
‫فإنه دواء لدائاه ‪ ،‬وإن كان داء في غيره ‪ ،‬ولكن لينبغي أن يذكر على رءوس المنابر لن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر‬
‫المستمعين ‪ ،‬وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين ‪ ،‬ولما كان زمان السلف الول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن‬
‫التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب ‪ ،‬فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذيِ حرك الفتنة وألقى هذه الشكوك في‬
‫القلوب مع الستغناء عنه فباء بالثم ‪ .‬أما الن وقد فشا ذلك في بعض البلد فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لماطة الوهام‬
‫الباطلة عن القلوب أظهر واللوم عن قائاله أقل فإن قيل فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون فبماذا يحصل القطع بصحة‬
‫التأويل ؟ قلنا بأمرين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يكون المعنى مقطوعا ل ثبوته ل تعالى كفوقية المرتبة‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن ليكون اللفظ محتملل إل لمرين وقد بطل أحدهما وتعين الثاني مثاله قوله تعالى ‪) :‬دواهدو اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه( )النعام‪:‬‬
‫‪ . (18‬فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق ليحتمل إل فوقية المكان أو فوقية الرتبة ‪ ،‬وقد بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس‬
‫لم يبق إل فوقية الرتبة كما يقال ‪ :‬السيد فوق العبد ‪ ،‬والزوج فوق الزوجة ‪،‬والسلطان فوق الوزير ‪ ،‬فال فوق عباده بهذا المعنى‬
‫وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق وأنه ليستعمل لسان العرب إل في هذين المعنيين ‪ ،‬أما لفظ الستواء إلى السماء وعلى العرش‬
‫ربما لينحصر مفهومه في اللغة هذا النحصار‪ ،‬وإذا تردد بين ثلثة معان معنيان جائازان على ا تعالى ومعنى واحد وهو الباطل‬
‫‪ ،‬فتنزيله على أحد المعنيين الجائازين أن يكون بالظن وبالحتمال المجرد وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل‪.‬‬
‫ش(‪ .‬فلينبغي أن يقال‬ ‫التصريف الثالث ‪ :‬الذيِ يجب المساك عنه التصريف ‪ ،‬ومعناه أنه إذا ورد قوله تعالى ‪):‬السدتدوى دعدلى اللدعلر ه‬
‫مستو ويستويِ ‪ ،‬لن المعنى يجوز أن يختلف لن دللة قوله هو مستو على العرش على الستقرار أظهر من قوله ‪) :‬دردفدع‬
‫ض دجهميلعا اثام السدتدوى إهدلى‬ ‫ش( ]الرعد‪ [2 :‬بل هو كقوله ‪) :‬دخدلدق دلاكلم دما هفي اللدلر ه‬ ‫ت هبدغليهر دعدمءد دتدرلودندها اثام السدتدوى دعدلى اللدعلر ه‬ ‫الاسدمادوا ه‬
‫الاسدماهء( ]البقرة ‪ . [29:‬فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته ‪ ،‬ففي تغيير‬
‫التصاريف مايوقع في تغيير الدللت والحتمالت ‪ ،‬فليتجنب التصريف كما يجتنب الزيادة فإن تحت التصرف الزيادة والنقصان‪.‬‬
‫===========================================‬
‫صفحة ‪332‬‬
‫التصرف الرابع ‪ :‬الذيِ يجب المساك عنه القياس والتفريغ مثل ‪ :‬أن يرد لفظ اليد فل يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرال‬
‫إلى أن هذا من لوازم اليد ‪ ،‬وإذا ورد الصبع لم يجز ذكر النملة كما ليجوز ذكر اللحم والعظم والعصب ‪ ،‬وإن كانت اليد‬
‫المشهورة لتنفك عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد ‪ ،‬وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك‬
‫وإثبات العين والذن عند ورود السمع والبصر ‪ ،‬وكل ذلك محال وكذب وزيادة ‪ ،‬وقد يتجاسر بعض الحمقى من المشبهة الحشوية‬
‫فلذلك ذكرناه‪.‬‬
‫التصرف الخامس‪ :‬ليجمع بين متفرق ‪ ،‬ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتابا ل في جمع الخبار خاصة ورسم في كل عضو بابا ل‬
‫فقال ‪ :‬باب في إثبات الرأس وباب في اليد إلى غير ذلك ‪ ،‬وسماه ‪ :‬كتاب الصفات ‪ .‬فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم في أوقات متفرقة متباعدة اعتمادال على قرائان مختلفة تفهم السامعين معاءن صحيحة ‪ ،‬فإذا ذكرت مجموعة‬
‫على مثال خلق النسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه وصار الشكال‬
‫في أن رسول ا صلى ا عليه وسلم لما نطق بما يوهم خلف الحق أعظم في النفس وأوقع ‪ ،‬بل الكلمة الواحدة يتطرق إليها‬
‫الحتمال ‪ ،‬فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متواليا يضعف الحتمال بالضافة إلى الجملة ‪ ،‬ولذلك يحصل‬
‫من الظن بقول المخبرين وثلثة مال يحصل بقول الواحد ‪ ،‬بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ماليحصل بالحاد ويحصل‬
‫من وكل ذلك نتيجة الجتماع إذ يتطرق الحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائان ‪ ،‬فإذا انقطع الحتمال أو ضعف‬
‫فلذلك ليجوز جمع المفترقات‪.‬‬
‫التصرف السادس ‪ :‬التفريق بين المجتمعات فكما ليجمع بين متفرقة فل يفرق بين مجتمعة ‪ ،‬فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو‬
‫لحقة لها مؤثرة في تفهم معناه مطلقا ل ومرجحة الحتمال الضعيف فيه ‪ ،‬فإذا فرقت وفصلت سقطت دللتها مثال قوله تعالى ‪):‬دواهدو‬
‫اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه( ]النعام‪ . [18 :‬لتسلط على أن يقول القائال هو فوق ‪ ،‬لنه إذا ذكر القاهر قبله ظهر دللة الفوق على الفوقية‬
‫التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة ولفظ القاهر يدل عليه بل يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره ‪ ،‬بل ينبغي أن يقول فوق‬
‫عباده لن ذكر العبودية في وصفه في ا فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة إذ ليحسن أن يقال زيد فوق عمر ‪ .‬وقبل أن يتبين‬
‫تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ المر بالسلطنة أو بالبوة أو بالزوجية ‪ ،‬فهذه المور يغفل عنها العلماء‬
‫فضلل عن العوام ‪ ،‬فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير ‪ ،‬ولجل هذه‬
‫الدقائاق بالغ السلف في الجمود والقتصار على موارد التوفيق كما ورد‬
‫=======================================‬
‫صفحة ‪333‬‬
‫على الوجه الذيِ ورد وباللفظ الذيِ ورد والحق ماقالوه والصواب مارأوه ‪ ،‬فأهم المواضع بالحتياط ماهو تصرف في ذات ا‬
‫وصفاته ‪ ،‬وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الحريات فيما يعظم فيه الخطر وأيِ خطر أعظم من الكفر‪.‬‬
‫الوظيفة السادسة ‪ :‬في الكف بعد المساك ‪ .‬وأعني بالكف كف الباطن عن التفكير في هذه المور ‪ ،‬فذلك واجب عليه كما وجب‬
‫عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ‪ ،‬وهذا أثقل الوظائاف وأشدها وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن أن يخوض‬
‫غمرة البحار ‪ ،‬وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ‪ ،‬ولكن ل ينبغي أن تغره نفاسة جواهرها‬
‫مع عجزه عن نيلها ‪ ،‬بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائاس البحار فما فاته إل زيادات‬
‫وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ‪ ،‬فإن غرق أو التقمه تمساح فإنه أص الحياة ‪ .‬فإن قلت ‪ :‬إن لم ينصرف قلبه من التفكر‬
‫والتشوف إلى البحث فما طريقه ؟ قلت ‪ :‬طريقه أن يشغل نفسه بعبادة ا وبالصلة وقراءة القرآن والذكر ‪ ،‬فإن لم يقدر فبعلم آخر‬
‫ليناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ‪ ،‬فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ‪ ،‬فإن لم يقدر‬
‫فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه العظيم خطره وضرره ‪ ،‬بل لو اشتغل العامي‬
‫بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة ا تعالى ‪ ،‬فإن ذلك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك )إهان‬
‫ك لهدملن ديدشااء( ]النساء ‪.[116:‬‬ ‫ك هبهه دوديلغهفار دما ادودن دذل د‬ ‫ا لديلغهفار دأن ايلشدر د‬ ‫د‬
‫فإن قلت ‪ :‬العامي إذا لم تكن نفسه إلى العتقادات الدينية إل بدليل ‪ ،‬فهل يجوز أن يكون له الدليل فإن جوزت ذلك فقد رخصت له‬
‫في التفكر والنظر ‪ ،‬وأيِ فرق بينه وبين غيره؟‬
‫الجواب ‪ :‬أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الخر ولكن بشرطين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن ليزاد معه على الدلة التي في القرآن‪ .‬والخر ‪ :‬أن ليمارى فيه مرالء ظاهرال وليتفكر فيه إل تفكرال سهلل جليا ل‬
‫وليمعن في التفكر وليوغل غاية اليغال في البحث ‪ ،‬وأدلة هذه المور الربعة ماذكر في القرآن‪.‬‬
‫صادر دودملن ايلخهراج اللدحاي‬ ‫ك الاسلمدع دواللدلب د‬
‫ض أداملن ديلمله ا‬ ‫أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله تعالى ‪) :‬قالل دملن ديلرازقااكلم همدن الاسدماهء دواللدلر ه‬
‫ف‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫اا( ]يونس ‪ . [31:‬وقوله ‪) :‬أدفدللم ديلنظاروا إهدلى الاسدماهء دفلودقاهلم دكلي د‬ ‫ت همدن اللدحرَي دودملن ايددرَبار اللدلمدر دفدسدياقوالودن ا‬ ‫ت دوايلخهراج اللدمرَي د‬ ‫همدن اللدمرَي ه‬
‫دبدنليدنادها دودزايانادها دودما دلدها هملن فااروءج )‪ (6‬دواللدلر د‬
‫ض دمددلددنادها دوأدللدقليدنا هفيدها دردواهسدي دوأدلندبلتدنا هفيدها هملن اكرَل دزلوءج‬
‫==============================================‬
‫صفحة ‪334‬‬
‫صيهد )‪ (9‬دوالانلخدل دباهسدقا ء‬
‫ت‬ ‫ب اللدح ه‬ ‫ت دودح ا‬ ‫ب )‪ (8‬دودنازللدنا همدن الاسدماهء دمالء امدبادرلكا دفأ دلندبلتدنا هبهه دجانا ء‬ ‫صدرلة دوهذلكدرى لهاكرَل دعلبءد امهني ء‬ ‫دبههيءج )‪ (7‬دتلب ه‬
‫ص يلبا )‪ (25‬اثام دشدقلقدنا اللدلر د‬
‫ض‬ ‫صدبلبدنا اللدمادء د‬ ‫ظهر اللهلندساان إهدلى دطدعاهمهه )‪ (24‬أدانا د‬ ‫ضيسد )‪] ( (10‬ق‪ .[10-6 :‬وكقوله ‪ ) :‬دفللديلن ا‬ ‫لددها دطللسع دن ه‬
‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ضلبا )‪ (28‬دونخل )‪ (29‬دودحدداهئادق غللبا )‪ (30‬دوفاهكدهة دوأيبا ( ]عبس‪ . [31-24 :‬وقوله ‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫دشليقا )‪ (26‬فأندبتنا هفيدها دحيبا )‪ (27‬دوهعنلبا دوق ل‬
‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ت ألدفافا ( ]النبأ ‪ .[16-6 :‬وأمثال ذلك هي قريب من خمسمائاة آية‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫جدبادل أدلودتالدا( إلى قوله ‪) :‬دودجانا ء‬ ‫ض همدهالدا )‪ (6‬دوالل ه‬ ‫)أددللم دنلجدعهل اللدلر د‬
‫جمعناها في كتاب جواهر القرآن بها ينبغي أن يعرف الخلق جلل ا الخالق وعظمته لبقول المتكلمين إن العراض حادثة ‪ ،‬وإن‬
‫الجواهر لتخلو عن العراض الحادثة ثم الحارث يفتقر إلى محدث ‪ ،‬فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية‬
‫يشوش قلوب العوام ‪ ،‬والدللت الظاهرة القريبة من الفهام على مافي القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم‬
‫العتقادات الجازمة‪.‬‬
‫اا لددفدسدددتا( ]النبياء‪ .[22:‬فإن اجتماع‬ ‫وأما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله تعالى ‪ ):‬لدلو دكادن هفيههدما آدلهدهسة إهال ا‬
‫ش دسهبيلل( ]السراء‪ .[42:‬وقوله‬ ‫المديرين سبب إفساد التدبير ‪ ،‬وبمثل قوله ‪) :‬دللو دكادن دمدعاه آدلهدهسة دكدما دياقوالودن إهلذا دللبدتدغلوا إهدلى هذيِ اللدعلر ه‬
‫ض( ]المؤمنون ‪ . [91:‬وأما‬ ‫ضاهلم دعدلى دبلع ء‬ ‫ب اكمل إهدلءه هبدما دخدلدق دودلدعدل دبلع ا‬ ‫اا هملن دودلءد دودما دكادن دمدعاه هملن إهدلءه إهلذا دلدذده د‬ ‫تعالى ‪) :‬دما ااتدخدذ ا‬
‫ل‬
‫جمن دعدلى أدلن ديأاتوا هبهملثهل دهدذا اللقالرآدهن دل ديأاتودن هبهملثلههه دودللو دكادن‬ ‫ل‬ ‫س دوالل ه‬ ‫ت اللهلن ا‬ ‫صدق الرسول فيستدل عليه بقوله تعالى ‪):‬قالل دلهئاهن الجدتدمدع ه‬
‫ض دظههيلرا( ]السراء‪ . [88 :‬وبقوله ‪):‬دفألاتوا هباسودرءة رَمن رَملثلههه( ]البقرة‪ .[23:‬وقوله ‪):‬قالل دفألاتوا هبدعلشهر اسدوءر هملثلههه‬ ‫ضاهلم لهدبلع ء‬ ‫دبلع ا‬
‫ا‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ت( ]هود‪ . [13 :‬وأمثاله ‪ ،‬وأما اليوم الخر ‪ :‬فيستدل عليه بقوله تعالى ‪) :‬قادل دملن ايلحهيي الهعظادم دوههدي درهميسم )‪ (78‬قلل ايلحهييدها‬ ‫املفدتدرديا ء‬
‫د‬
‫ك نطفة هملن دمهنيي ايلمنى( إلى قوله ‪:‬‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ك اسلدى )‪ (36‬أللم دي ا‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ب الهندساان ألن ايتدر د‬‫ل‬ ‫ل‬ ‫الاهذيِ أدلنشأدها أاودل دمارءة( ]يس‪ . [78،79 :‬وبقوله ‪):‬أديلحدس ا‬
‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ا‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ث دفإهنا دخلقدناكلم هملن‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫ب همدن الدبلع ه‬ ‫س إهلن كنتلم هفي درلي ء‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ك هبدقاهدءر دعدلى أدلن ايلحهيدي اللدملودتى( ]القيامة‪ .[40 ،36 :‬وبقوله ‪):‬ديا أميدها النا ا‬
‫ا‬ ‫د‬ ‫س دذله د‬ ‫)أدلدلي د‬
‫ت هملن اكرَل دزلوءج دبههيءج( ]الحج‪ .[5 :‬وأمثال ذلك كثير في القرآن ‪،‬‬ ‫د‬
‫ت دوألندبدت ل‬ ‫ت دودردب ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ب( إلى قوله ‪):‬دفإهذا ألندزلدنا دعدلليدها الدمادء الهدتاز ل‬ ‫اتدرا ء‬
‫فلينبغي أن يزاد عليه‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فهذه الدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دللتها ‪ ،‬فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الدلة وليمتنعون عنها ‪،‬‬
‫وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله فإن فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقا ل أو ليسد عليه طريق النظر رأسا ل وليكلف التقليد من‬
‫غير دليل‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬إن الدللة تنقسم إلى مايحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ‪ ،‬وإلى ماهو جلي سابق إلى الفهام‬
‫ببادئ الرأيِ من أول النظر مما يدركه‬
‫========================================‬
‫صفحة ‪335‬‬
‫كافة الناس بسهولة ‪ ،‬فهذا ل خطر فيه ‪ ،‬ومايفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ‪ ،‬فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ‪،‬‬
‫وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس وتستضر به الكثرون ‪ ،‬بل أدلة القرآن كالماء الذيِ ينتفع به الصبي الرضيع‬
‫والرجل القويِ وسائار الدلة كالطعمة التي ينتفع بها القوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولينتفع بها الصبيان أصلل ‪ ،‬ولهذا قلنا‬
‫أدلة القرآن أيضا ل ينبغي أن يصغي إليها إصغاء إلى كلم جلي ول يماريِ في المراء ظاهرال ‪ ،‬وليكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق‬
‫النظر ‪ ،‬فمن الجلي أن من قدر على البتداء فهو على العادة أقدر ‪ ،‬كما قال ‪) :‬دواهدو الاهذيِ ديلبددأ ا اللدخللدق اثام ايهعيادها دواهدو أدلهدوان دعدلليهه(‬
‫]الروم ‪ .[27:‬وأن التدبير لينتظم في دار واحدة بمدبرين ‪ ،‬فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم كما قال تعالى ‪) :‬دأل ديلعدلام‬
‫دملن دخدلدق( ]الملك ‪ . [14 :‬فهذه الدلة تجريِ للعوام مجرى الماء الذيِ جعل ا منه كل شيء حي ‪ ،‬وماأخذه المتكلمون وراء ذلك‬
‫من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ‪ ،‬فهو الذيِ ينبغي أن يتوقى‪ .‬والدليل‬
‫على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة وماثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلم مع سلمة العصر‬
‫الول من الصحابة عن مثل ذلك ‪ ،‬ويدل عليه أيضا ل أن رسول ا صلى ا عليه وسلم والصحابة بأجمعهم ماسلكوا في المحاجة‬
‫مسلك المتكلمين في تقسماتهم وتدقيقاتهم ل لعجز منهم عن ذلك ‪ ،‬فلو علموا أن ذلك نافع لطنبوا فيه ولخاضوا في تحرير الدلة‬
‫خوضا ل يزيد على خوضهم في مسائال الفرائاض‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬إنما أمركو عنه لقلة الحاجة ‪ ،‬فإن البدع إنما نبغت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين ‪ ،‬وعلم الكلم راجع إلى علم معالجة‬
‫المرضى بالبدع ‪ ،‬فلما قلت في زمانهم أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ‪ ،‬فالجواب من وجهين‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنهم في مسائال الفرائاض مااقتصروا على بيان حكم الوقائاع ‪ ،‬بل وضعوا المسائال وفرضوا فيها ماتنقضي الدهور وليقع‬
‫مثله لن ذلك مما أمكن وقوعه فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه إذ علموا أنه لضرر في الخوض فيه وفي بيان حكم الواقعة قبل‬
‫وقوعها ‪ ،‬والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم فلم يتخذوا ذلك صناعة لنهم عرفوا أن الستضرار بالخوض فيه أكثر من‬
‫النتفاع ‪ ،‬ولول أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه‪.‬‬
‫والجواب الثاني ‪ :‬أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬وإلى إثبات البعث‬
‫مع منكريه ‪ ،‬ثم مازادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائاد على أدلة القرآن ‪ ،‬فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه وعدلوا‬
‫إلى السيف‬
‫====================================‬
‫صفحة ‪336‬‬
‫والسنان بعد إفشاء أدلة وماركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحريم طريق المجادلة وتذليل طرقها‬
‫ومنهاجها ‪ ،‬كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن ليقنعه أدلة القرآن ليقمعه إل السيف والسنان ‪ ،‬فما بعد بيان‬
‫ا بيان على أننا ننصف ولننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرال في‬
‫إثارة الشكالت وأن للعلج طريقين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ‪ ،‬فإن صلحه بالضافة إلى الكياس وفساده بالضافة إلى‬
‫البله وما أقل الكياس وما أكثر البله والعناية بالكثر أولى‪.‬‬
‫الطريق الثاني ‪ :‬طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ‪ ،‬وذلك مما يقتنع الكثرين وإن كان ليقنع‬
‫القلين ‪ ،‬وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والماء تراهم يسلمون تحت ظلل السيوف ثم يستمرون عليه حتى يصير‬
‫طوعا ل ماكان في البداية كرها ل ‪ ،‬ويصير اعتقادال جزما ل ماكان في البتداء مرالء وشكا ل ‪ ،‬وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم‬
‫وسماع كلم ا ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائان من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ‪ ،‬فإذا كان‬
‫كل واحد من العلجين يناسب قوما ل دون قوم وجب ترجيح النفع في الكثر ‪ ،‬فالمعاصرون للطبيب الول المؤيد بروح القدس‬
‫المكاشف من الحضرة اللهية الموحي إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالصوب والصلح قطعا ل ‪ ،‬فسلوك‬
‫سبيلهم لمحالة أولى‪.‬‬
‫الوظيفة السابعة ‪ :‬التسليم لهل المعرفة وبيان أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها‬
‫ليس منطويا عن رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬وعن الصديق ‪ ،‬وعن أكابر الصحابة ‪ ،‬وعن الولياء والعلماء الراسخين ‪ ،‬وأنه‬
‫إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته ‪ ،‬فلينبغي أن يقيس بنفسه غيره فلتقاس الملئاكة بالحدادين وليس مايخلو عنه مخادع‬
‫العجائاز يلزم منه أن يخلو عنه خزائان الملوك ‪ ،‬فقد خلق الناس أشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائار الجواهر ‪ ،‬فانظر‬
‫إلى تفاوتها وتباعد مابينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة ‪ ،‬فكذلك القلوب معادن لسائار جواهر المعارف ‪ ،‬فبعضها معدن النبوة‬
‫والولية والعمل ومعرفة ا تعالى ‪ ،‬وبعضها معدن للشهوات البهيمية والخلق الشيطانية ‪ ،‬بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف‬
‫والصناعات فقد يقدر الواحد بخفة يده وحذاقة صنعته على أمور ليطمع الخر في بلوغ أوائاله فضلل عن غايته ‪ ،‬ولو اشتغل‬
‫بتعلمه جميع عمره‪ .‬فكذلك معرفة ا تعالى ‪ ،‬بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز ليطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان‬
‫على ساحله ‪ ،‬وإلى من يطيق ذلك لكن ليطيق رفع الرجل عن‬
‫=============================‬
‫صفحة ‪337‬‬
‫الرض اعتمادال على السباحة ‪ ،‬وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن ل يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائاما ل‬
‫في الماء على رجله ‪ ،‬وإلى من يطيق ذلك لكن ل يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة ‪ ،‬وإلى من يطيق ذلك‬
‫لكن ليطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذيِ فيه نفائاسه وجوهره ‪ ،‬فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله حذو‬
‫القذة بالقذة من غير فرق‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فالعارفون محيطون بكمال معرفة ا سبحانه حتى لينطويِ عنهم شيء‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬هيهات فقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد القصى في معاني أسماء ا الحسنى أنه ليعرف ا كنه معرفته إل ا ‪،‬‬
‫وأن الخلئاق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم ‪ ،‬فإذا أضيف ذلك إلى علم ا سبحانه فما أوتو من العلم إل قليلل ‪ ،‬لكن ينبغي أن‬
‫يعلم أن الحضرة اللهية محيطة بكل مافي الوجود إذ ليس في الوجود إل ا وأفعاله ‪ ،‬فالكل من الحضرة اللهية كما أن جميع‬
‫أرباب الوليات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر فهم من جملة الحضرة السلطانية ‪ ،‬وأنت لتفهم الحضرة اللهية إل‬
‫بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية ‪ ،‬فاعلم أن كل مافي الوجود داخل في الحضرة اللهية ‪ ،‬ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر‬
‫خاص وفي فناء قصره ميدان واسع ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا وليمكنون من مجاوزة العتبة ول إلى طرف‬
‫الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم ‪،‬‬
‫وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إل الوزير وحده ‪ ،‬ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على مايريد ويستأثر عنه بأمور‬
‫ليطلعه عليها ‪ ،‬فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة اللهية ‪ ،‬فالعتبة التي هي آخر الميدان‬
‫موقف العوام ومردهم لسبيل لهم إلى مجاوزتها ‪ ،‬فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل ‪ ،‬وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة‬
‫وانسرحوا في الميدان ولهم فيه جولن على حدود مختلفة في القرب والبعد وتفاوت مابينهم كثير ‪ ،‬وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة‬
‫وتقدموا على العوام المفترشين‪ .‬وإما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن يطأها أقدام العارفين وأرفع من أن يمتد‬
‫إليها أبصار الناظرين ‪ ،‬بل ليلمح ذلك الجناب الرفيع صغير وكبير إل غض عن الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئاا ل‬
‫وهو حسير ‪ ،‬فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلل ‪ ،‬فهذه الوظائاف السبع الواجبة على عوام الخلق‬
‫في هذه الخبار التي سألت عنها حقيقة مذهب السلف ‪ ،‬وأما الن فنشغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف‪.‬‬
‫=======================================‬
‫صفحة ‪338‬‬
‫الباب الثاني‬
‫في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف وعليه برهانان ‪ :‬عقلي وسمعي‪ .‬أما العقلي فاثنان كلي وتفصيلي‪ .‬أما البرهان الكلي‬
‫على أن الحق مذهب السلف فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل‪.‬‬
‫الول ‪ :‬أن أعرف الخلق بصلح أحوال العباد بالضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬فإن ماينتفع به في الخرة‬
‫أو يضر لسبيل إلى معرفته بالتجربة ‪ ،‬كما عرف الطبيب إذ لمجال للعلوم التجريبية إل بما يشاهد على سبيل التكرر ‪ ،‬ومن الذيِ‬
‫رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة مانفع وضر وأخبر عنه وليدرك بقياس العقل ‪ ،‬فإن العقول قاصرة عن ذلك ‪ ،‬والعقلء‬
‫بأجمعهم معترفون بأن العقل ليهتديِ إلى مابعد الموت وليرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات‪ .‬لسيما على سبيل‬
‫التفصيل والتحديد كما وردت به الشرائاع بل أقروا بجملتهم أن ذلك ليدرك إل بنور النبوة وهي قوة وراء العقل يدرك بها من أمر‬
‫الغيب في الماضي والمستقبل أمور لعلى طريق التعرف بالسباب العقلية ‪ ،‬وهذا مما اتفق عليه الوائال من الحكماء فضلل عن‬
‫الولياء والعلماء والراسخين القاصرين نظرهم على القتباس من حضرة النبوة المقربين بقصور كل قوة سوى هذه القوة‪.‬‬
‫الصل الثاني ‪ :‬أنه صلى ا عليه وسلم أفاض إلى الخلق ماأوحى إليه من صلح العباد في معادهم ومعاشهم ‪ ،‬وأنه ماكتم شيئاا ل من‬
‫الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق فإنه لم يبعث إل لذلك ‪ ،‬ولذلك كان رحمة للعالمين ‪ ،‬فلم يكن منهما فيه وعرف ذلك علما ل ضروريا ل‬
‫من قرائان أحواله في حرصه على إصلح الخلق وشغفه بإرشادهم إلى صلح معاشهم ومعادهم ‪ ،‬فما ترك شيئاا ل مما يقرب الخلق‬
‫إلى الجنة ورضاء الخالق إل دلهم عليه وأمرهم به وحثهم عليه ولشيئاا ل مما يقربهم إلى النار وإلى سخط ا إل حذرهم منه ونهاهم‬
‫عنه ‪ ،‬وذلك في العلم والعمل جميعا ل‪.‬‬
‫الصل الثالث ‪ :‬أن أعرف الناس بمعاني كلمه وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسرار الذين شاهدوا الحي والتنزيل‬
‫وعاصروه وصاحبوه ‪ ،‬بل لزموه آناء الليل والنهار متشمرين لفهم معاني كلمه وتلقيه بالقبول للعمل به أولل ‪ ،‬وللنقل إلى من‬
‫بعدهم ثانيا ل ‪ ،‬وللتقرب إلى ا سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره ‪ ،‬وهم الذين حثهم رسول ا صلى ا عليه وسلم على‬
‫ضدر اله المدرأل دسهمدع دمدقادلهتي دفدودعاها دفأ دادادها دكدما دسهمدعها( الحديث‪ .‬فليت شعريِ أيتهم رسول ا‬
‫السماع والفهم والحفظ والداء فقال ‪) :‬دن ا‬
‫صلى ا عليه وسلم بإخفائاه وكتمانه عنهم حاشا منصب النبوة عن ذلك ‪ ،‬أوياتهم أولئاك الكابر في فهم كلمه وإدراك مقاصده أو‬

‫=======================================‬
‫صفحة ‪339‬‬
‫يتهمون في إخفائاه وأسراره بعد الفهم أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته على سبيل المكابرة مع العتراف بتفهيمه‬
‫وتكليفه‪ .‬فهذه المور ليتسع لتقديرها عقل عاقل‪.‬‬
‫الصل الرابع ‪ :‬أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم مادعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرض لمثل‬
‫هذه المور بل بالغوا في زجر من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به على ماسنحكيه عنهم ‪ ،‬فلو كان ذلك من الدين أو كان من مدارك‬
‫الحكام وعلم الدين لقبلوا عليه ليلل ونهارال ودعوا إليه أولدهم وأهليهم وتشمروا عن ساق الجد في تأسيس أصوله وشرح قوانينه‬
‫تشميرال أبلغ من تشميرهم في تمهيد قواعد الفرائاض والمواريث ‪ ،‬فنعلم بالقطع من هذه الصول أن الحق ماقالوه والصواب ما‬
‫س دقلرهني اثام االذيدن ديالودناهلم اثام االذيدن ديالودناهلم( ‪ ،‬وقال‬
‫رأوه ‪ ،‬لسيما وقد أثنى عليهم رسول ا صلى ا عليه وسلم وقال ‪) :‬دخليار الانا ء‬
‫حددة(‪ .‬فقيل من هم ؟ فقال ‪) :‬أدلهال المسانة دوالدجدماعة(‪ .‬فقال )دما‬ ‫صلى ا عليه وسلم ‪):‬دسدتلفدتهراق أ اامهتي دنرَيفا ل دودسلبعيدن فلردقلة الانا ه‬
‫جية ملناهلم دوا ه‬
‫أددنا دعلدليه الدن دوأد ل‬
‫صدحاهبي(‬
‫البرهان الثاني ‪ :‬هو التفصيلي‪ .‬فتقول اادعينا أن الحق هو مذهب السلف وأن مذهب السلف هو توظيف الوظائاف السبع على عوام‬
‫الخلق في ظواهر الخبار المتشابهة ‪ ،‬وقد ذكرنا برهان كل وظيفة معها فهو برهان كونه حقا ل فمن يخالف؟ ليت شعريِ يخالف في‬
‫قولنا الول أنه يجب على العامي التقديس للحق عن التشبيه ومشابهة الجسام ‪ ،‬أو في قولنا الثاني إنه يجب عليه التصديق واليمان‬
‫بما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم بالمعنى الذيِ أراده أو في قولنا الثالث إنه يجب عليه العتراف بالعجز عن درك حقيقة تلك‬
‫المعاني ‪ ،‬أو في قولنا الرابع إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيهما وراء طاقته ‪ ،‬أو في قولنا الخامس إنه يجب عليه‬
‫إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزياد والنقصان والجمع والتفريق ‪ ،‬أو في قولنا السادس إنه يجب عليه كف القلب عن التذكير‬
‫فيه والفكر مع عجزه عنه ‪ ،‬وقد قيل لهم تفكروا في الخلق ولتفكروا في الخالق ‪ ،‬أو في قولنا السابع إنه يجب عليه التسليم لهل‬
‫المعرفة من النبياء والولياء والعلماء الراسخين فهذه أمور بيانها برهانها وليقدر أحد على جحدنا وإنكارها إن كان من أهل‬
‫التمييز فضلل عن العلماء والعقلء‪ .‬فهذه هي البراهين العقلية‪.‬‬
‫النمط الثاني‪ :‬البرهان السمعي على ذلك ‪ ،‬وطريقه أن نقول ‪ :‬الدليل على أن الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة والبدعة مذمومة‬
‫وضللة ‪ ،‬والخوض من جهة العوام في التأويل ‪ ،‬والخوض بهم فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة ‪ ،‬وكان نقيضه وهو الكف عن‬
‫ذلك سنة محمودة فها هنا ثلثة أصول ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه المور بدعة‪.‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫‪34‬‬
‫والثاني ‪ :‬أ‪ ،‬كل بدعة فهي مذمومة‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضها وهي السنة القديمة محمودة ول يمكن النزاع في شئ من هذه الصول ‪ ،‬فإذا سلم‬
‫ذلك ينتج أن الحق مذهب السلف‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فبم تنكرون على من يمنع كون البدعة مذمومة أو يمنع كون البحث والتفتيش بدعة فيتنازع في هذين وان لم‬
‫ينازع في الثالث لظهورة؟ فتقول ‪ :‬الدليل على إثبات الصل الول من كون البدعة مذمومة اتفاق المة قاطبة على ذم البدعة‬
‫وزجر المبتدع وتغيير من يعرف بالبدعة ‪ ،‬وهذا مفهوم على الضرورة من الشرع وذلك غير واقع في محل الظن ‪ ،‬فذم رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم البدعة علم بالتواتر بمجموع اخبار يفيد العلم القطعي جملتها ‪ ،‬وإن كان الحتمال يتطرق إلى آحادها ‪ ،‬وذلك‬
‫كعلمنا بشجاعة علي راضى ا عنه ‪ ،‬وسخاوة حاتم ‪ ،‬وحب رسول ا صلى ا عليه وسلم لعائاشة رصى ا عنها وما يجريِ‬
‫مجراه ‪ ،‬فإن علم قطعا بأخبار آحاد بلغت في الكثرة مبلغا ل يحتمل كذب ناقليها ‪ ،‬وإن لم تكن آحاد تلك الخبار متواترة ‪ ،‬وذلك‬
‫مثل ما روى عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال ‪ " :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدى عضوا عليها‬
‫بالنواجذ واياكم ومحدثات المور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضللة وكل ضللة في النار " وقال صلى ا عليه وسلم ‪" :‬‬
‫اتبعوا ول تبتدعوا وإنما هلك من كلن قبلكم لما ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن انبيائاهم وقالوا بآرائاهم فضلوا وأضلوا" وقال صلى‬
‫ا عليه وسلم ‪ " :‬إذا مات صاحب بدعة فقد فتح على السلم فتح"‪ .‬وقال صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬من مشى إلى صاحب بدعة‬
‫ليوقره فقد أعان على هدم السلم "‪ .‬وقال صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له في ا مل ا قلبه أمنا‬
‫وإيمانا ومن أنتهر صاحب بدعة رفع ا له مائاة درجة‪ ،‬ومن سلم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسره فقد‬
‫استخف بما انزل على محمد صلى ا عليه وسلم "‪ .‬وقال صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬إن ا ل يقبل لصاحب بدعة صوما ول صلة‬
‫ول زكاة ول حجا ول عمرة ول جهادا ول صرفا ول عدل‪ ،‬ويخرج من السلم كما يخرج السهم من الرمية أو كما تخرج الشعرة‬
‫من العجين"‪ .‬فهذا وأمثاله مما يجاوز حد الحصر أفاد علما ضروريا يكون البدعة مذمومة‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬سلمنا أن البدعة مذمومة ‪ ،‬ولكن ما دليل الصل الثاني وهو أن هذه بدعة فإن البدعة عبارة عن كل محدث ‪،‬‬
‫قال الشافعي رصى ا عنه الجماعة في التراويح بدعة وهي بدعة حسنة‪ ،‬وخوض الفقهاء في تفاريع الفقة ومناظرتهم فيها مع ما‬
‫ابدعوه من نقص وكر وفساد وضع وتركيب ونحوه من فنون مجادلة والزام كل ذلك مبدع لم يؤثر عن الصحابة شئ من ذلك فدل‬
‫على أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة مأثورة ‪ ،‬ول نسلم أن هذا رافع لسنة ثابتة لكنه محدث خاض فيه اللوان إما فشتغالهم لما‬
‫هو أهم منه وإما لسلمة القلوب‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫‪431‬‬
‫في العصر الول عن الشكوك والترددات فاستغنوا لذلك وخاض فيه من بعدهم لمسيس الحاجة ‪ ،‬حيث حدثت الهواء والبدع إلى‬
‫إبطالها وإقحام منتحلها؟‬
‫الجواب ‪ :‬أما ما ذكرتموه من أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة قديمة هو الحق وهذا بدعة رفعت سنة قديمة‪ .‬إذ كان‬
‫سنة الصحابة المنع من الخوض فيه‪ ،‬وزجر من سأل عنه‪ ،‬والمبالغة في تأديية ومنعه بفتح باب السؤال عن هذه المسائال ‪،‬‬
‫والخوض بالعوام في غمرة هذه المشكلت على خلف ما تواتر عنهم‪ ،‬وقد صح ذلك عن الصحابة بتواتر النقل عند التابعين من‬
‫نقلة الثار‪ ،‬وسير السلف حجة ل يتطرق إليها ريب ول شك كما تواتر خوضهم في مسائال الفرائاض ومشاورتهم في الوقائاع الفقهية‬
‫وحصل العلم ايضا باخبار آحاد ل يتطرق الشك إلى مجموعها ‪ ،‬كما نقل عن عمر رضى ا عنه أنه سأل سائال عن آيتين‬
‫متشابهتين فعله بالدرة‪ ،‬وكما روى أنه سأل سائال عن القرآن أهو مخلوق أم ل‪ ،‬فتعجب عمر من قوله فأخذ بيده حتى جاء به إلى‬
‫علي رضى ا عنه فقال ‪ :‬يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل قال ‪ :‬وما يقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال الرجل ‪ :‬سألته عن‬
‫القرآن أمخلوق هو أم ل ؟ فوجم لها رضى ا عنه وطأطأ رأسه‪ ،‬ثم رفع رأسه وقال ‪ :‬سيكون لكلم هذا نبأ في أخر الزمان ولو‬
‫وليت من أمره ما وليت لضربت عنقه‪.‬‬
‫وقد روى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن ابى هريرة ‪ ،‬فهذا قول على بحضور عمر وأبي هريرة رضى ا عنه ولم‬
‫يقول له ول أحد ممن بلغه ذلك من الصحابة‪ ،‬ول عرف علي رضى ا عنه في نفسه أن هذا سؤال عن مسألة دينية وتعرف لحكم‬
‫كلم ا تعالى وطلب معرفة لصفة القرآن الذيِ هو معجزة دالة على صدق الرسول ‪ ،‬بل هو الدليل المعرف لحكام التكليف‪ ،‬فلم‬
‫يستوجب طالب المعرفة هذا التشديد‪ ،‬فانظر إلى فراسة على وإشرافه على أن ذلك فرع لباب الفتنة‪ ،‬وأن ذلك سينتشر في آخر‬
‫الزمان الذيِ هو موسم الفتن ومطيتها بوعد رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬وانظر إلى تشديده وقوله ‪ :‬ولو وليت لضربت عنقه‪،‬‬
‫فمثل أولئاك السادة الكابر الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وإطلعوا على أسرارالدين وحقائاقه ‪ ،‬وقد قال صلى ا عليه وسلم في‬
‫أحدهما ‪ " :‬لو لم أبعث لبعث عمر" ‪ .‬وقال في الثاني ‪" :‬أنا مدينة العلم وعلى بابها " يزجرون السائال عن هذا السؤال ‪ ،‬ثم يزعم‬
‫من بعدهم من المشغوفين بالكلم والمجادلة وممن لو انفق مثل أحد دهبا ما بلغ مد أحدهم ول نصيفه ‪ .‬أن الحق والصواب قبول هذا‬
‫السؤال والخوض في الجواب وفتح هذا الباب ‪ ،‬ثم يعتقد فيه أنه محق ‪ ،‬وفي عمر وعلى أنهما مبطلن ‪ .‬هيهات ما أبعد عن‬
‫التحصيل وما أخلى عن الدين من قاس الملئاكة بالحدادين ويرجح المجادلين على الئامة الراشدين والسلف ‪ ،‬فإذا قد عرف على‬
‫القطع أن هذه بدعة مخالفة لسنة السلف ل كخوض الفقهاء في التفاريع والتفاصيل ‪ ،‬فإنه ما نقل عنهم زجر عن‬
‫ ‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫‪342‬‬
‫الخوض فيه ‪ ،‬بل إمعانهم في الخوض ‪ ،‬وأما ما أبدع من فنون المجادلت فهي بدعة مذمومةعند أهل التحصيل ذكرنا وجه ذمها‬
‫في كتاب قواعد العقائاد من كتب الحياء‪.‬وأما مناظرتهم إن كان القصد منها التعاون على البحث عن مأخذ الشرع ومدارك الحكام‪،‬‬
‫فهي سنة السلف ولقد يتشاورون ويتناظرون في المسائال الفقهية كما أبدعوا الفاظا وعبارات للتنبيه على مقاصدهم الصحيحة فل‬
‫حرج في العبارات بل هي يستعبرها ويستعملها ‪،‬وأن كان مقاصدهم المذموم من النظر الفحام دون العلم ‪ ،‬واللزام دون‬
‫الستعلم‪ ،‬فذلك بدعة على خلف السنة المأثورة‪.‬‬
‫الباب الثالث في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن‬
‫فصل‬
‫إن قال قائال ‪ :‬ما الذيِ دعا ا صلى ا عليه وسلم إلى إطلق هذه اللفاظ الموهمة مع الستغناء عنها ‪ ،‬أكان ل يدرى أنه يوهم‬
‫التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلى اعتقاد الباطل في ذات ا تعالى وصفاته ‪ ،‬وحاشا منصب النبوة أ‪ ،‬يخفى عليه ذلك‪ ،‬أو عرف‬
‫لكن لم بيال بجهل الجهال وضللة الضلل ‪،‬وهذا ابعد واشنع لنه بعث شارحا ل مبهما ‪ ،‬ملبسا ملغزا ‪ ،‬وهذا إشكال له وقع في‬
‫القلوب حتى جر بعض الخلق إلى سوء العتقاد فيه فقالوا ‪ :‬لو كان نبيا لعر فال ولو عرفه لما وصفع بما يستحيل عليه في ذاته‬
‫وصفاته‪ ،‬ومالت طائافة أخرى إلى اعتقاد الظواهر ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لو لم يكن حقا لما ذكره كذلك مطلقا ولعدل عنها إلى غيرها أو قرنها‬
‫بما يزيل البهام عنها في سبيل حل هذا الشكال العظيم‪.‬‬
‫الجواب ‪ :‬أن هذا الشكال منحل عند أهل البصيرة ‪ ،‬وبيانه أن هذه الكلمات ما جمعها رسول ا دفعة واحدة وما ذكرها‬
‫‪ ،‬وإنما جمعها المشبهة وقد بينا أن لجمعها من التأثير في البهان والتلبيس على الفهام ما ليس لحادها المفرقة‪ ،‬وإنما هي كلمات‬
‫لهج بها في جميع عمره في أوقات متباعدة وإذا اقتصر منها على ما في القرآن والخبار المتواترة رجعت إلى كلمات يسيرة‬
‫معدودة‪ ،‬وإن أضيف إليها الخبار الصحيحة في أيضا قليلة‪ ،‬وإنما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التى ل يجوز التعويل عليها‪ ،‬ثم‬
‫ما تواتر منها إن صح معها إبهام التشبيه وقد ادركها الحاضرون المشاهدون ‪ ،‬فإذا نقل اللفاظ مجردة عن تلك القرائان ظهر البهام‬
‫‪ ،‬وأعظم القرائان في زوال البهام المعرفة السابقة بتقديس ا تعالى عن قبول هذه الظواهر ‪ ،‬ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك‬
‫المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع ‪ ،‬فينمحق معه البهام انمحاقا ل شك فيه ‪ ،‬ويعرف هذا بأمثلة ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أنه صلى ا عليه وسلم سمى الكعبة ببيت ا تعالى ‪ ،‬وإطلق هذا يوهم عند الصبيان وعند‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫‪343‬‬
‫من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه‪ ،‬لكن العوام الذين اعتقدوا انه في السماء وان استقراره على العرش يتمحق في‬
‫حقهم هذا البهام على وجه ل يشكون فيه ‪ ،‬فلو قيل لهم ‪ :‬ما الذيِ دعا رسول ا صلى ا عليه وسلم الى اطلق هذا اللفظ الموهم‬
‫المخيل الى السامع ان الكعبة مسكنه لها دورا بأجمهم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقى ‪ ،‬واما من تكرر على‬
‫سمعه ان ا مستقر على عرشه ‪ ،‬فل شك عند سماع هذا اللفظ انه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه ‪ ،‬بل يعلم البديهة أ‪،‬‬
‫المراد بهذه الضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ المضاف الى ربه وساكنه‪ .‬أليس كان اعتقاده أنه على‬
‫العرش قرينة أفادته علما قطعيا بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته أنه مأواه‪ ،‬وإن هذا أنما يوهم في حق من لم يسبق الى هذه العقيدة‬
‫فكذا رسول ا صلى ا عليه وسلم خاطب به بهذه اللفاظ جماعة سبقوا الى علم التقديس ونفى التشبيه وانه منزه عن الجسمية‬
‫وعوارضها‪ ،‬وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للبهام ل يبقى معه شك ‪ ،‬وان جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويلها وتعيين المراد به‬
‫من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجللة ا تعالى‪.‬‬
‫المثال الثاني ‪ :‬إذا جرى لفقيه في كلمه لفظ الصور بين يديِ الصبي أو العامي فقال ‪ :‬صورة هذه المألة كذا وصورة الواقعة كذا‪،‬‬
‫ولقد صورت للمسألة صورة غاية الحسن ربما توههم الصبي أو العامي الذيِ ل يفهم معنى المسألة أن المسألة شئ له صورة وفي‬
‫تلك الصورة أنف وفم وعين على ما عرفه والشتهر عنده ‪،‬أما من عرف حقيقة المسألة وانها عبارة عن علوم مرتبة ترتيبا‬
‫مخصوصا فهل يتصور ان يفهم عينا وأنفا وفما كصورة الجسام؟ هيهات ‪ .‬بل يكفيه معرفته بان المسألة منزهة عن الجسمية‬
‫وعوارضها فكذلك معرفة نفى الجسمية عن الله وتقدسه عنها تكون قرينة في قلب كل مستمع مفهمة لمعنى الصورة في قوله خلق‬
‫ا ادم على صورته ويتعجب العارف بتقديسه عن الجسمية ممن يتوهم ل تعالى الصورة الجسمية كما يتعجب ممن يتوهم للمسألة‬
‫صورة جسمانية‪.‬‬
‫المثال الثالث ‪ :‬إذا قال القائال بين يديِ الصبي ‪ :‬بغداد في يد الخليفة ربما يتوهم أن بغداد بين اصابعه ‪ ،‬وانه قد احتوى‬
‫عليها براحته كما يحتوى على حجره ومدره ‪ ،‬وكذلك كل عامي لم يفهم المراد بلفظ بغداد أما من علم أن بغداد عبارة عن بلدة‬
‫كبيرة هل يتصور ان يعترض على قائاله ويقول ‪ :‬لماذا قلت بغداد في يد الخليفة؟ وهذا يوهم خلف الحق ويفضى الى الجهل حتى‬
‫يعتقد ان بغداد بين اصابعه بل يقال له ‪ :‬يا سليم القلب هذا انما يوهم الجهل عند من ليعرف حقيقة بغداد فأما من علمه فبالضرورة‬
‫يعلم أنه ما اريد بهذه اليد العضو المشتمل على الكف والصابع بل معنى اخر ول يحتاج في فهمه الى قرينة سوى هذه المعرفة ‪،‬‬
‫فكذلك جميع اللفاظ الموهمة فى الخبار‬
‫ ‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫‪344‬‬
‫يكفى في دفع ابهامها قرينة واحدة موهى معرفة ا ‪ ،‬وأنه ليس من جنس الجسام ‪ ،‬وهذا مما افتتح رسول ا صلى ا عليه وسلم‬
‫بنيانه في أول بعثته قبل النطق بهذه اللفاظ‪.‬‬
‫المثال الرابع ‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم في نسائاه ‪ " :‬أطولكن يد أسرعكن لحاقا بي " فكان بعض‬
‫نسوته يتعرف الطول بالمساحة ووضع اليد على اليد ‪ ،‬حتى ذكر لهن أنه ازاد بذلك المساحة في الجود دون الطول للعضو‪ ،‬وكان‬
‫رسول ا صلى ا عليه وسلم ذكر هذه اللفظه مع قرينة أفهم بها إرادة الجود بالتعبير يطول اليد عنه‪ ،‬فلما نقل اللفظ مجردا عن‬
‫قرينته حصل البهام‪ ،‬فهل كان لحد أن يعترض على رسول ا صلى ا عليه وسلم في اطلقه لفظا جهل بعضهم معناه؟ انما ذلك‬
‫لنه اطلق اطلقا مفهما في حق الحاضرين مقرونا مثل بذكر السخاوة‪ ،‬والناقل قد ينقل اللفظ كما سمعه ول ينقل القرينة‪ ،‬أو كان‬
‫يبحث ل يمكن نقلها ‪ ،‬أو ظن أنه ل حاجة إلى نقلها ‪ ،‬وأن من يسمع يفهمه هو كما فهمه هو لما سمعه ‪ ،‬فربما ل يشعر أن فهمه إنما‬
‫كان بسبب القرينة ‪ ،‬فذلك يقتصر على نقل اللفظ ‪ ،‬فمثل هذه السباب بقيت اللفاظ مجردة عن قرائانها فقصرت عن التفهيم مع أن‬
‫قرينة معرفة التقديس بمجردها كافية في نفى البهام وأن كانت ربما ل تكفى في تعيين المراد به فهذه الدقائاق ل بد من التنبه لها‬
‫كالمثال الخامس‪.‬‬
‫إذا قال القائال بين يديِ الصبي ومن يقرب منه درجة ممن لم يمارس الحوال ‪ ،‬ول عرف العادات في المجالسات فلن‬
‫دخل مجمعا وجلس فوق فلن ربما يتوهم السامع الجاهل الغبي انه جلس على رأسه أو على مكان فوق رأسه ‪ ،‬ومن عرف‬
‫العادات وعلم أن ما هو أقرب إلى الصدر من الرتبة‪ ،‬وأن الفوق عبارة عن العلو بقهم منه أنه جلس بجنبه ل فوق رأسه ‪ ،‬لكن‬
‫جلس أقرب إلى الصدر‪ ،‬فالعتراض على من خاطب بهذا الكلم وأهل المعرفة بالعادات من حيث إنه يجهله الصبيان أو الغبياء‬
‫اعتراض باطل ل أصل له‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة ‪ ،‬فقد فهمت على القطع بهذه المثلة أن هذه اللفاظ الصريحة انقلبت مفهوماتها عن‬
‫أوضاعها الصريحة بمجرد قرينة‪ ،‬ورجعت تلك القرائان الكثيرة التي بعضها هي المعارف‪ ،‬والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا‬
‫بعبادة الصنام‪ ،‬أن من عبد جسما فقد عبد صنما كان الجسم صغيرا أو كبيرا ‪ ،‬قبيحا أو جميل‪ ،‬سافل أو عاليا على الرض أو‬
‫على العرش وكان نفى الجسيمة ونفى لوازمها معلوما لكافتهم على القطع بإعلم رسول ا صلى ا عليه وسلم المبالغة في‬
‫ل دأنددالدا( )البقرة ‪ (22‬وبألفاظ كثيرة ل‬ ‫س دكهملثلههه دشليسء ( )الشورى ‪ (11‬وسورة الخلص وقوله ‪ ) :‬دفلد دتلجدعالولا ه ا ه‬ ‫التنزيه بقوله ‪) :‬لدلي د‬
‫حصر لها مع قرائان قاطعة ل يمكن حكايتها‪ ،‬وعلم ذلك إل علما ل ريب فيه وكان ذلك كافيا في تعريفهم استحالة يد‬
‫‪345‬‬ ‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫هي عضو مركب من لحم وعظم‪ ،‬وكذا في سائار الظواهر لنها ل تدل إل على الجسمية وعوارضها لو أطلق على جسم ولو أطلق‬
‫على غير الجسم على ضرورة أنه ما أريد به ظاهرة بل معنى أخر مما يجوز على ا تعالى ربما يتعين ذلك المعنى وربما ل‬
‫يتعين‪ ،‬فهذا مما يزيل الشكال‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فلم لم يذكر بألفاظ ناصة عليها بحيث ل يوهم ظاهرها جهل ول في حق العامي والصبي ؟‬
‫قلنا ‪ :‬لنه إنما كلم الناس بلغة العرب‪ ،‬وليس في لغة العرب ألفاظ ناصة على تلك المعاني‪ ،‬فكيف يكون في اللغة لها نصوص‬
‫وواضع اللغة لم يفهم تلك المعاني‪ ،‬فكيف وضع لها النصوص بل هي معان أدركت بنور النبوة خاصة أو بنور العقل بعد طول‬
‫البحث‪ ،‬وذلك أيضا في بعض تلك المور ل في كلها‪ ،‬فلما لم يكن لها عبارات موضوعة كان استعارة اللفاظ من موضعات اللغة‬
‫ضرورة كل ناطق بتلك اللغة‪ ،‬كما أنا ل نستغنى عن أن نقول صورة هذه المسألة كذا وهي تخالف صورة المسألة الخرى‪ ،‬وهس‬
‫مستارة من الصور الجسمانية‪ ،‬لككن واضع اللغه لما لم يضع لهيئاة المسألة وخصوص ترتيبها اسما نصا إما لنه لم يفهم المسألة‬
‫أو فهم‪ ،‬لكن لم تحضره أو حضرته لكن لم يضع لها نصا خاصا اعتمادا على إمكان الستعارة أو لنه علم أنه عاجز عن أن يضع‬
‫لكل معنى لفظا خاصا اعتمادا على إمكان الستعارة أو لنه علم أنه عاجز عن أن يضع لكل معنى لفظا خاصا ناصا‪ ،‬لن المعاني‬
‫غير منتاهية العدد والموضوعات بالقطع يحب أن تناهي فتبقى معان لها يجب ان يستعار اسمها من الموضوع‪ ،‬فاكتفى بوضع‬
‫البعض وسائار اللغات اشد قصورا من لغة العرب‪ ،‬فهذا وأمثاله من الضرورة يدعو إلى الستعارة لمن يتكلم بلغة قوم إذ ل يمكنه‬
‫أن عن لغتهم‪ .‬كيف‪ ،‬ونحن نجوز الستعارة حيث ل ضرورة اعتمادا على القرائان‪ ،‬فإن ل نفرق بين أن يقول القائال ‪ :‬جلس زيد‬
‫فوق عمرو‪ ،‬وبين أن يقول جلس أقرب منه إلى الصدر‪ ،‬وأن بغداد في ولية الخليفة أو في يد إذا كان الكلم مع العقلء‪ ،‬وليس في‬
‫المكان حفظ اللفاظ عن إفهام الصبيان والجهال‪ ،‬فالشتغال بالحتراز عن ذلك ركاكة في الكلم وسخافة في العقل وثقل في اللفظ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فلم لم يكشف الغطاء عن المراد بإطلق لفظ الله ولم يقل إنه موجود ليس بجسم ول جوهر ول عرض ول هو داخل‬
‫العالم ول خارجة ول متصل ول منفصل ول هو في مكان ول هو في جهة ‪ ،‬بل الجهات كلها خالية عنه‪ ،‬فهذا هو الحق عند قوم‬
‫والفصالح عنه كذلك‪ ،‬كما أفصح عنه المتكلمون ممكن ولم يكن في عبارته صلى ا عليه وسلم قصوره ول في رغبته في كشفه‬
‫الحق فتور‪ ،‬ول في معرفته نقصان؟‬
‫قلنا ‪ :‬من رأى هذا الحق اعتذر بأن هذا لو ذكره لنفر الناس عن قبوله ‪ ،‬ولبادروا‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫‪346‬‬
‫بالنكار وقالوا ‪ :‬هذا عين المحال ووقعوا في التعطيل ول خير في المبالغة في تنزيه ينتج التعطيل في حق الكافة إل القلين‪ ،‬وقد‬
‫بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم داعيا للخلق الى سعادة الخرة رحمة للعالمين‪ .‬كيف ينطق بما فيه هلك الكثرين‪ ،‬بل أمر أن‬
‫ل يكلم الناس إل على قدر عقولهم‪ ،‬وقال صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬من حدث الناس بحديث ل يفهمونه كان فتنة على بعضهم" ‪ .‬أو‬
‫لفظ هذا معناه‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬إن كان في المبالغة في التنزيه خوف التعطيل بالضافة إلى البعض ففى استعماله اللفاظ الموهمة‬
‫خوف التشبيه بالضافة إلى البعض‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬بينهم فرق من وجهين‪.‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن ذلك يدعو إلى التعطيل في حق الكثرين ‪ ،‬وهذا يعود إلى التشبيه في حق القلين‪ ،‬وأهون‬
‫الضررين أولى بالحتمال ‪ ،‬وأعلم الضررين أولى بالجتناب‪.‬‬
‫س دكهملثلههه دشليسء (‬
‫والثاني ‪ :‬أن علج وهم التشبيه أسهل من علج التعطيل ‪ ،‬إذ يكفى أن يقال مع هذه الظواهر‪) :‬دللي د‬
‫)الشورى ‪ (11‬وأنه ليس بجسم ول مثل الجسام واما إثبات موجود في العتقاد على ما ذكرناه من المبالغة في التنزيه شديدا جدا‪،‬‬
‫بل ل يقبله واحد من اللف ل سيما المة العربية‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فعجز الناس عن الفهم هل يمهد عذر النبياء في أن يثبتوا في عقائادهم أمورا على خلف ما هي عليها ليثبت‬
‫في اعتقادهم أصل اللهية حتى توهموا عندهم مثل أن ا مستقر على العرش وأنه في السماء ‪ ،‬وأنه فوقهم فوقية المكان؟‬
‫قلنا ‪ :‬معاذ ا أن نظن ذلك أو يتوهم بنبى صادق أن يصف ا بغير ما هو متصف به ‪ ،‬وأن يلقى ذلك في اعتقاد الخلق‪،‬‬
‫فإنما تأثير قصور في استعمال اللفاظ مستعارة ربما يغلط الغبياء في فهمهما ‪ ،‬وذلك لقصور اللغات وضرورة الخلق في أن‬
‫يذكر لهم ما يطقون فهمه ومال يفهمونه‪ .‬فكيف عنه علك عجز الخلق وقصورهم ول ضرورة في تفهيمهم خلف الحق قصدا ل‬
‫سيما في صفات ا ‪ .‬نعم ‪ ،‬به ضرورة الماورات ‪ .‬فأما تفهيمهم خلف الحق قصدا إلى التجهيل فمحال‪ ،‬سوء فرض فيه مصلحة‬
‫أو لم تفرض‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬قد جهل أهل التشبيه جهل يستند إلى ألفاظه في الظواهر تقضى إلى جهلهم‪ ،‬فمهما جاء بلفظ مجمل ملبس‬
‫فرضي به لم يفترق الحال بين أ‪ ،‬يكون مجرد قصده إلى التجهيل‪ ،‬وبين أن يقصد التجهيل مهما حصل التجهيل ‪ ،‬وهو عالم به‬
‫وراض‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬ل نسلم أ‪ ،‬جهل أهل التشبية حصل بألفاظه‪ ،‬بل بتقصيرهم في كسب معرفة التقديس وتقديمه على النظر في‬
‫اللفاظ ‪ ،‬ولو حصلوا تلك المعرفة أول وقدموها لما‬
‫‪347‬‬ ‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫جهلوها‪ ،‬كما أن من حصل علم التقديس لم يجهل عند سماعه صورة المسألة‪ ،‬وإنما الواجب عليهم تحصيل هذا العلم‪ ،‬ثم مراجعة‬
‫العلماء إذا شكوا في ذلك‪ ،‬ثم كف النفس عن التأويل وإلزامها التقديس‪ ،‬وإذا رسم لهم العلماء‪ ،‬فإذا لم يفعلوا جهلوا وعلم الشارع بأن‬
‫الناس طباعهم الكسل والتقصير والفضول بالخوض فيما ليس من شانهم ليس رضا بذلك ول سعيا في تحصيل الجهل‪ ،‬لكنه رضا‬
‫س أدلجدمهعيدن( )هود ‪ (119 :‬وقال ‪) :‬دودللو‬ ‫ك دلدلمدلدان دجدهاندم همدن الل ه‬
‫جانهة دوالانا ه‬ ‫ت دكلهدماة دررَب د‬‫بقضاء ا وقدره في قسمته حيث قال ‪) :‬دودتام ل‬
‫س دحاتى دياكوانولا‬ ‫ض اكلماهلم دجهميلعا أددفدأن د‬
‫ت اتلكهرها الانا د‬ ‫ك لدمدن دمن هفي الدلر ه‬ ‫حددلة( )هود ‪) (118 :‬دودللو دشاء درمب د‬ ‫س أ ااملة دوا ه‬ ‫ك دلدجدعدل الانا د‬ ‫دشاء درمب د‬
‫ا( )يونس ‪) (100 :‬لد ديدزاالودن املخدتلههفيدن‬ ‫س دأن اتلؤهمدن إهلا هبإهلذهن ها‬ ‫ء‬ ‫ل‬
‫ف‬ ‫د‬
‫ن‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫كا‬‫د‬ ‫ما‬ ‫و‬
‫د د‬ ‫)‬ ‫(‬ ‫‪99‬‬ ‫يونس‬ ‫)‬ ‫املؤهمهنيدن(‬
‫س ألجدمهعيدن( )هود ‪ (119: 118‬فهذا هو القهر‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫ك للملان دجدهندم همدن ال ه‬‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬
‫جنهة دوالنا ه‬ ‫ك خلقاهلم دوتامت كلهدمة دررَب د‬ ‫ك دولهذله د‬ ‫حدم درمب د‬
‫‪-119‬إهل دمن ار ه‬
‫اللهي في قطرة الخلق ول قدرة للنبياء في تغيير سنته التي ل تبديل لها‪.‬‬
‫فصل في جواب مالك رضى ا عنه‬
‫لعلك تقول الكف عن السؤال والمساك عن الجواب من أين يغنن‪ ،‬وقد شارع في البلد هذه الختلفات وظهرت التعصبات‪ ،‬فكيف‬
‫سبيل الجواب إذا سئال عن هذه المسائال؟‬
‫قلنا ‪ :‬الجواب ما قاله مالك رضى ا عنه في الستواء إذ قال ‪ :‬الستواء معلوم ‪ ،‬الحيث فيذكر هذا الجواب في كل‬
‫مسألة سئال عنها العوام لينحسم سبيل الفتنة‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فإذا سئال الفوق واليد والصبع فبم يجيب‪.‬‬
‫ش‬‫قلنا ‪ :‬الجواب أن يقال ما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم وقال ا تعالى وقد صدق حيث قال ‪) :‬الارلحدمان دعدلى اللدعلر ه‬
‫السدتدوى( )طه ‪ (5 :‬فيعلم قطعا أنه ما أراد الجلوس والستقرار الذيِ هو صفة الجسام ‪ ،‬ول ندريِ ما الذيِ أراده ولم نكلف معرفته‬
‫وصدق حيث قال ‪) :‬دواهدو اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه( )النعام ‪ (18 :‬وفوقيه المكان محال‪ ،‬فإنه كان قبل المكان فهو الن كما كان‪ ،‬وما‬
‫أراد فلسنا نعرفه وليس علينا ول عليك أيها السائال معرفته فكذلك نقول ول يجوز إثبات اليد ولصبع مطلقا‪ ،‬بل يجوز النطق بما‬
‫نطق به رسول ا صلى ا عليه وسلم على الوجه الذيِ نطق به من غير زيادة ونقصان وجمع وتفريق وتأويل وتفصيل كما سبق‪،‬‬
‫فتقول صدق حيث قال ‪ " :‬خمر طينة آدم بيده" وحيث قال ‪ " :‬قلب المؤمن بين أصبع من أصابع الرحمن" فتؤمن بذلك ول نزيد‬
‫ول ننقص‪ ،‬وننقله كما روى ونقطع بنفى العضو المركب من اللحم والعصب‪ ،‬وإذا قيل ‪ :‬القرآن قديم أو مخلوق ؟ قلنا ‪ :‬هو غير‬
‫مخلوق لقوله صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬القرآن كلم ا غير مخلوق" ‪ .‬فإن قال ‪ :‬الحروف قديمة أو ل؟ قلنا ‪ :‬الجواب في هذه‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬ ‫‪348‬‬
‫المسألة لم يذكرها الصحابة‪ ،‬فالخوضغ فيها بدعة فل تسألوا عنها‪ ،‬فإن ابتلى النسان بهم في بلدة غلبت فيها الحشوية وكفروا من‬
‫ل يقول بقدم الحروف‪ ،‬فيقول المضطر إلى الجواب ‪ :‬عنيت بالحروف نفس القرآن فالقرآن قديم‪ ،‬وإن أردت بها غير القرآن‬
‫وصفات ا تعالى فما سوى ا وصفاته محدث ول يزيد عليه‪ ،‬لن تفهيم العوام حقيقة هذه المسألة عسيرة جدا‪ ،‬فإن قالوا‪ :‬قد قال‬
‫النبى صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬من قرأ حرفا من القرآن فله كذا" فأثبت الحروف للقرآن ووص القرآن بأنه غير مخلوق‪ ،‬فلزم منه‬
‫أن الحروف قديمة‪ .‬قلنا ‪ :‬ل نزيد على ما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم وهو أن القرىن غير مخلوق وهذه مسالة ثالثة ولم نرد‬
‫عليه فل نقول به‪ ،‬ول نزيد على ما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم فأن زعموا أنه يلزم المسألتين السابقتين هذه المسألة‪ .‬قلنا ‪:‬‬
‫هذا قياس وتفريع‪ ،‬وقد بينا أن ل سبيل إلى القياس والتفريع‪ ،‬بل يجب القتصار على ما ورد من غير تفريق‪ ،‬وكذلك إذا قالوا‬
‫عربية القرآن قديمة لنه قال القرآن قديم وقال )دأندزللدناها قالرآلنا دعدرهبلييا( )يوسف ‪ (2 :‬فالعربي قديم فنقول ‪ :‬أما أن القرآن عربي فحق‬
‫إذ نطق به القرآن وأما أن القرآن قديم فحق إذ نطق به رسول ا صلى ا عليه وسلم فعلى هذا الوجه يلجم العوام والحشوية على‬
‫التصرف فيه ونزمهم عن القياس والقول باللوازم‪ ،‬بل نزيد في التضييق على هذا ونقول ‪ :‬إذا قال القرآن كلم ا غير مخلوق فهذا‬
‫ل يرخص في أن يقول القرآن قديم ما لم يرد لفظ القديم إذ فرق بين غير مخلوق والقديم‪ ،‬إذ يقال ‪ :‬كلم فلن غير مخلوق أى غير‬
‫موضوع‪ ،‬وقد يقال ‪ :‬المخلوق بمعنى المختلق فلفظ غير مخلوق يتطرق إليه هذا ول يتطرق إلى لفظ القديم‪ ،‬فبينهما فرق‪ ،‬نحن‬
‫نعتقد قدم القرآن ل بمجرد هذا اللفظ ‪ ،‬فإن هذا اللفظ ل ينبغي أن يحرف ويبدل ويغير ويصرف‪ ،‬بل يلزم أن يعتقد أنه حق بالمعنى‬
‫الذيِ أراه‪ ،‬وكل من وصف القرآن بأنه مخلوق من غير نقل نص فيه مقصود‪ ،‬فقد أبدع وزاد ومال عن مذهب السلف وحاد‪.‬‬
‫فصل في أن اليمان قديم‬
‫فإن قيل ‪ :‬من السائال المعروفة قولهم إن اليمان قديم‪ ،‬فإذا سئالنا عنه فبم نجيب؟‬
‫قلنا‪ :‬إن ملكنا زمام المر واستولينا على السائال منعناه عن هذا الكلم السخيف الذيِ ل جدوى له‪ ،‬وقلنا ‪ :‬إن هذا بدعة‪ ،‬وإن كنا‬
‫مغلوبين في بلدهم فنجيب ونقول ما الذيِ أردت باليمان؟ أن أردت به شيئاا من معارف الخلق وصفاتهم فجميع صفات الخلق‬
‫مخلوقة‪ ،‬وأن أردت به شيئاا من القرآن أو من صفات ا تعالى فجميع صفات ا تعالى قديمة‪ ،‬وإن أردت ما ليس صفة للخلق ول‬
‫صفة الخالق فهو غير مفهوم ول متصور وما ل يفهم ول‬
‫‪349‬‬ ‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫يتصور ذاته‪ ،‬كيف يفهم حكمه في القدم والحدوث والصل زجر السائال والسكوت عن الجواب هذا صفو مقصود مذهب السلف‬
‫ول عدول عنه إل بضرورة وسبيل المضطر ما ذكرنا فإن وجدناه ذكيا مستفهما لفهم الحقائاق كشفنا الغطاء عن المسألة وخلصناه‬
‫عن الشكال في القرآن وقلنا ‪:‬‬
‫اعلم أن كل شئ فله في الوجود أربع مراتب ‪ :‬وجود في العيان‪ ،‬ووجود في الذهان‪ ،‬ووجود في اللسان‪ ،‬ووجود في‬
‫البياض المكتوب عليه كالنار مثل‪ ،‬فإن لها وجودا في التنور ووجودا في الخيال والذهن‪ ،‬وأعنى بهذا الوجود العلم بنفس النار‬
‫وحقيقتها ولها وجود في اللسان وهي الكلمة الدالة عليه‪ ،‬أعنى لفظ النار ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم‪ .‬والحراق‬
‫صفة خاصة للنار كالقدم للقرآن ولكلم ا تعالى‪ ،‬والمحرق من هذه الجملة الذيِ في التنور دون الذيِ في الذهان‪ ،‬وفي اللسان‬
‫وعلى البياض إذ لو كان المحرق في البياض أو اللسان لحترق ‪ ،‬ولكن لو قيل لنا‪ :‬النار محرقة؟ قلنا ‪ :‬ل ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬مرقوم هذه‬
‫الحروف على البياض محرقة؟ قلنا ‪ :‬ل‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬المذكور بكلمة النار أو المكتوب بكلمة النار محرق‪ ،‬قلنا ‪ :‬نعم‪ .‬لن المذكور‬
‫والمكتوب بهذه الكلمة ما في التنور وما في التنور محرق ‪ ،‬فكذلك القد وصف كلم ا تعالى كإلحراق وصف النار وما يطلق‬
‫عليه اسم القرآن وجوده على أربع مراتب ‪ .‬أولها ‪ :‬وهي الصل وجوده قائاما بذات ا تعالى يضاهي وجود النار في التنور )دو ه ا ه‬
‫ل‬
‫اللدمدثال الدلعدلدى()النحل ‪ (60 :‬ولكن ل بد من هذه المثلة في تفهيم العجزة والقدم وصف خاص لهذا الوجود ‪ .‬والثانية ‪ :‬وجوده‬
‫العلمي في أذهاننا عند التعليم قبل أن ننطق بلساننا‪ ،‬ثم وجوده في لساننا بتقطيع اصواتنا‪ ،‬ثم وجوده في الوراق بالكتب‪ ،‬فإذا سئالنا‬
‫عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به‪ .‬قلنا ‪ :‬علمنا صفته وهي مخلوقة لكن المعلوم به قديم ‪ ،‬كما أن بالنار وثبوت صورتها‬
‫في خيالنا غير محرق لكن المعلوم به محرق‪ ،‬وإن سئالنا عن صوتنا وحركة لساننا ونطقنا قلنا ‪ :‬ذلك صفة لساننا فلسناننا حادث‬
‫وصفته توجد بعده وما هو بعد الحادث حادث بالقطع ‪ ،‬لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروءنا ومتلونا بهذه الصوات الحادثة قديم‪ ،‬كما‬
‫أ‪ ،‬ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرفا وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق إل أ‪ ،‬يقول قائال ‪ :‬حروف‬
‫النار عبارة عن نفس النار‪ .‬قلنا ‪ :‬أن كان كذلك ‪ ،‬فحروف النار محرفة وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس المقروء فهي‬
‫قديمة‪ ،‬وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق لنه الوراق من غير إحراق واحتراق‪ ،‬فهذه أربع درجات في الوجود‬
‫تشتبه على العوام ل يمكنهم إدراك تفاصيلها وخاصة كل واحدة منهن‪ ،‬فلذلك ل نخوض‬
‫)ص ‪(350‬‬
‫بهم فيها ل لجهلنا بحقيقة هذه المور وكنه تفاصيلها‪ .‬إن النار من حيث إنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة‪ ،‬ومن‬
‫حيث إنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وتركي وعربي‪ ،‬وكثيرة الحروف وقليلة الحروف‪ ،‬وما في التنور ل ينقسم إلى العجمي‬
‫والتركي والعربي‪ ،‬وما في اللسان ل توصف بالخمود والشتعال‪ ،‬وإذا كان مكتولبا على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر وأسود‬
‫وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع‪ ،‬أو قلم النسخ وهو في اللسان ل يمكن أن يوصف بذلك‪ ،‬واسم النار يطلق على ما في التنور وما‬
‫في القلب وما في اللسان وما على القرطاس‪ ،‬لكن باشتراك السم فأطلق على ما في التنور حقيقة وعلى ما في الذهن من العلم ل‬
‫بالحقيقة ولكن بمعنى أنه صورة محاكية للنار الحقيقي‪ ،‬كما أن ما يرى في المرآة يسمى إنسالنا ونالرا ل بالحقيقة ولكن بمعنى أنها‬
‫صورة محاكية للنار الحقيقي والنسان وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث‪ ،‬وهو أنه دللة دالة على ما في الذهن‬
‫وهذا يختلف بالصطلحات والول والثاني ل اختلف فيهما‪ ،‬وما في القرطاس يسمى نالرا بمعنى رابع‪ ،‬وهو أنها رقوم تدل‬
‫بالصطلح على ما في اللسان ومهما فهم اشتراك اسم القرآن والنار‪ ،‬وكل شيء من هذه المور الربعة‪ ،‬فإذا ورد الخبر أن‬
‫القرآن في قلب العبد وأنه في لسان القارئ وأنه صفة ذات ا صدق بالجميع وفهم معنى الجميع‪ ،‬ولم يتناقص عند الذكياء وصدق‬
‫بالجميع مع الحاطة بحقيقة المراد‪ ،‬وهذه أمور جلية دقيقة ل أجلى منها عند الفطن الذكي ول أدق‪ ،‬وأغمض منها البليد الغبي‪،‬‬
‫فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها ويقال له‪ :‬قل القرآن غير مخلوق واسكت ول تزد عليه ول تنقص ول تفتش ول تبحث‪ ،‬وأما‬
‫الذكي فيروح عن غمه هذا الشكال في لحظة ويوصى بأن ل يحدث العامي به حتى ل يكلفه ما ليس في طاقته‪ ،‬وهكذا جميع‬
‫موضع الشكالت في الظواهر فيها حقائاق جلية لرباب البصائار ملتبسة على العميان من العوام‪ ،‬فل ينبغي أن يظن بأكابر السلف‬
‫عجزهم عن معرفة هذه الحقيقة‪ ،‬وإن لم يحرروا ألفاظها تحرير صنعة ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا عنهم وأسكتوهم‬
‫وذلك عين الحق والصواب‪ .‬ول أعني بأكابر السلف الكابر من حيث الجاه والشتهار‪ ،‬ولكن من حيث الغوص على المعاني‬
‫والطلع على السرار‪ ،‬وعند هذا ربما انقلب المر في حق العوام واعتقدوا في الشهر أنه الكبر‪ ،‬وذلك سبب آخر من أسباب‬
‫الضلل‪.‬‬
‫فصل‬
‫فإن قال قائال‪ :‬العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل‪ ،‬ومن لم يعرف الدليل كان جاهلل بالمدلول‪ ،‬وقد أمر ا تعالى‬
‫كافة عباده بمعرفته‪ .‬أيِ اليمان به والتصديق‬
‫)ص ‪(351‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫بوجوده أول‪ ،‬وبتقديسه عن سمات الحوادث ومتشابهة غيره ثانليا‪ ،‬وبوحدانيته ثالثا‪ ،‬وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئاة‬
‫وغيرها رابلعا‪ ،‬وهذه المور ليست ضرورية فهي إلذا مطلوبة‪ .‬وكل علم مطلوب فل سبيل إلى انتقاصه وتحصيله إل بشبكة الدلة‬
‫والنظر في الدلة والتفطن لوجه دللتها على المطلوب‪ ،‬وكيفية إنتاجها‪ ،‬وذلك ل يتم إل بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب‬
‫المقدمات واستنتاج النتائاج‪ ،‬ذلك شيلئاا فشيلئاا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلم إلى آخر النظر في المعقولت ‪ ،‬وكذلك يجب‬
‫على العامي أن يصدق الرسول صلى ا عليه وسلم في كل ما جاء به‪ ،‬وصدقه ليس بضروريِ بل هو بشر كسائار الخلق فل بد من‬
‫دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذلبا ول يمكن ذلك إل بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر‬
‫النظر في النبوات وهو لب علم الكلم‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬الواجب على الخلق اليمان بهذه المور‪ ،‬واليمان عبارة عن تصديق جازم ل تردد فيه‪ ،‬ول يشعر صاحبه بإمكان وقوع‬
‫الخطأ فيه‪ ،‬وهذا التصديق الجازم يحصل على ست مراتب‪.‬‬
‫الولى‪ :‬وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان الستقصى المستوفى شروطه المحرر أصوله ومقدماته درجة درجة وكلمة كلمة حتى ل‬
‫يبقى مجال احتمال وتمكن التباس‪ ،‬وذلك هو الغاية القصوى‪ ،‬ربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى تلك‬
‫الرتبة‪ ،‬وقد يخلو العصر عنه‪ ،‬ولو كانت النجاة مقصورة على مثل المعرفة لقالت النجاة وقال الناجون‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يحصل بالدلة على الوهمية الكلمية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لشهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها‬
‫ضا يفيد في بعض المور وفي حق بعض الناس تصديلقا جازلما بحيث ل يشعر‬ ‫ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيها‪ ،‬وهذا الجنس أي ل‬
‫صاحبه بإمكان خلفه أصلل‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يحصل التصديق بالدلة الخطابية‪ ،‬أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في‬
‫العادات‪ ،‬وذلك يفيد في حق الكثرين تصديلقا ببادئ الرأيِ وسابق الفهم إن لم يكن الباطن مشحولنا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على‬
‫خلف مقتضى الدليل‪ ،‬ولم يكن المشنع مشغولفا بتكليف المماراة والتشكك ومنتجلعا بتحديق المجادلين في العقائاد‪ ،‬وأكثر أدلة القرآن‬
‫من هذا الجنس‪ ،‬فمن الدليل الظاهر المقيد للتصديق قولهم‪ :‬ل ينتظم تدبير المنزل بمدبرين‪ ،‬لو كان فيهما آلهة إل ا لفسدتا‪ ،‬فكل‬
‫قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة يبق من هذا الدليل إلى فهمه تصديق جازم بوحدانية الخالق‪ ،‬لكن لو شوشه مجادل وقال‪:‬‬
‫لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان‬
‫)ص ‪(352‬‬
‫على التدبير ول يختلفان فإسماعه هذا القدر يشوش عليه تصديقه‪ ،‬ثم ربما يعسر سل هذا السؤال ودفعه في حق بعض الفهام‬
‫القاصرة فيستولي الشلك ويتعذر الرفع‪ ،‬وكذلك من الجلي أن من قدر على الخلق فهو على العادة أقدر‪ ،‬كما قال‪) :‬قالل ايلحهييدها الاهذيِ‬
‫دأندشأ ددها أداودل دمارءة( )يس‪ (79 :‬فهذا ل يسمعه أحد من العوام ذكي أو غبي إل ويبادر إلى التصديق‪ ،‬ويقول‪ :‬نعم ليست العادة‬
‫بأعسر من البتداء بل أهون‪ ،‬ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه‪ ،‬والدليل المستوفى هو الذيِ يفيد التصديق‬
‫بعد تمام السئالة وجوابها بحيث ل يبقى للسؤال مجال والتصديق يحصل قبل ذلك‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬التصديق لمجرد السماع ممن حسن العتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق عليه‪ ،‬فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو في‬
‫رجل من الفاضل المشهورين قد يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائاب أو غيره‪ ،‬فيسبق إليه اعتقاد فيه‪ ،‬فالمجرب‬
‫بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي ا عنه إذا قال قال رسول ا صلى ا عليه وسلم كذا‪ ،‬فكم من مصدق به جزلما‬
‫وقابل له قبولل مطللقا ل مستند لقوله إل حسن اعتقاده فيه‪ ،‬فمثله إذا لقن العامي اعتقالدا وقال له‪ :‬اعلم أن خالق العالم واحد قادر وأنه‬
‫بعث محملدا صلى ا عليه وسلم رسولل بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولشك في قوله‪ ،‬وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائاهم‬
‫ومعلميهم فل جرم يسمعون العتقادات ويصدقون بها ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة‪.‬‬
‫الرتبة الخامسة‪ :‬التصديق به الذيِ يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائان أحوال ل تفيد القطع عند المحقق ولكن يلقي في قلب‬
‫العوام اعتقالدا جازلما كما إذا سمع بالتواتر مرض رئايس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره‪ ،‬ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد‬
‫مات اعتقد العامي جزلما أنه مات وبنى عليه تدبيلرا ول يخطر بباله أن الغلم ربما قال ذلك عن إرجاف سمعه‪ ،‬وأن الصراخ‬
‫والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر‪ ،‬لكن هذه خواطر بعيدة ل تخطر للعوام فتنطبع على في قلوبهم العتقادات‬
‫الجازمة‪ ،‬وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول ا صلى ا عليه وسلم وإلى حسن كلمه ولطف شمائاله وأخلقه فآمن به‬
‫وصدقه جزلما لم يخالجه ريب من غير أن يعالجه بمعجزة يقيمها ويذكر وجه دللتها‪.‬‬
‫الرتبة السادسة‪ :‬أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلقه‪ ،‬فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه ل من حسن اعتقاده في قائاله‪،‬‬
‫ول من قرينة تشهد له‪ ،‬لكن لمناسبة ما في طباعه‪ ،‬فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إرجاف‬
‫ويستمر على اعتقاده جازلما‪ ،‬ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته هواه توقف فيه أو أباه كل الباء‪ ،‬وهذه‬
‫أضعف التصديقات وأدنى الدرجات لن ما قبله استند إلى دليل‬
‫)ص ‪(353‬‬
‫ما‪ .‬وإن كان ضعيلفا من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل‬
‫الدلة فإذا عرفت مراتب التصديق‪ ،‬فاعلم أن مستند إيمان العوام في هذه السباب وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجريِ‬
‫مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق‪ ،‬ول ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن وما في معناه من الجليات المسكنة‬
‫للقلوب المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته‪ ،‬وأكثر الناس آمنوا في الصبا وكان سبب‬
‫تصديقهم مجرد تقليد للباء والمعلمين لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائاهم على أنفسهم‪ ،‬وثناء غيرهم عليهم وتشديدهم النكير بين أيدهم‬
‫على مخالفيهم‪ ،‬وحكايات أنواع النكال النازل بمن ل يعتقد اعتقادهم وقولهم إن فللنا اليهوديِ في قبره مسخ كللبا‪ ،‬وفللنا الرافضي‬
‫انقلب خنزيلرا‪ ،‬أو حكايات منامات وأحوال هذا الجنس ينغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه‪ ،‬والميل إلى ضده حتى ينزع الشك‬
‫بالكلية عن قلبه‪ ،‬فالتعلم في الصغر كالنقش على الحجر‪ ،‬ثم يقع نشوءه عليه وليزال يؤكد ذلك في نفسه‪ ،‬فإذا بلغ استمر على‬
‫اعتقاده الجازم تصديقه المحكم الذيِ ل يخالجه فيه ريب‪ ،‬ولذلك ترى أولد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم ل‬
‫يبلغون إل على عقائاد آبائاهم‪ ،‬واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة‪ ,‬ولو قطعوا إرلبا إرلبا لما رجعوا عنها وهم قط لم يسمعوا عليه‬
‫دليلل ل حقيقيا ول رسمليا‪ ،‬وكذا ترى العبيد والماء يسبون من المشرك ول يعرفون السلم‪ ،‬فإذا وقعوا في أسر المسلمين‬
‫وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى السلم مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلقهم‪ .‬وكل ذلك لمجرد التقليد والتشبيه‬
‫بالتابعين‪ ،‬والطباع مجبولة على التشبيه ل سيما طباع الصبيان وأهل الشباب فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على‬
‫البحث وتحرير الدلة‪.‬‬
‫فصل‬
‫لعلك تقول‪ :‬ل أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه السباب‪ ،‬ولكن ليس من المعرفة في شيء‪ ،‬وقد كلف الناس‬
‫المعرفة الحقيقية دون اعتقاد من جنس الجهل الذيِ ل يتميز فيه الباطل على الحق‪ .‬فالجواب‪ :‬أن هذا غلط ممن ذهب إليه‪ ،‬بل‬
‫سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقالدا جازلما لتنقش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق‪ ،‬حتى إذا ماتوا‬
‫وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا المور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزيِ والخجلة ول بنار جهنم ثانليا‪ ،‬وصورة‬
‫الحق إذا انتقش بها قلبه فل نظر إلى السبب المفيد له دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي‪ ،‬أو قبول بحسن العتقاد في قائاله أو قبول‬
‫لمجرد التقليد من غير سبب فليس المطلوب الدليل المقيد‪ ،‬بل الفائادة وهي‬
‫)ص‪(354:‬‬
‫حقيقة الحق على ما هي عليه فمن اعتقد حقيقة الحق في ا وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الخر على ما هو عليه فهو سعيد‪،‬‬
‫وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلمي ولم يكلف ا عباده إل ذلك وذلك معلوم على القطع بجملة أخبار متواترة من رسول ا صلى‬
‫ا عليه وسلم في موارد العراب عليه وعرضه اليمان عليهم وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية البل والمواشي من غير‬
‫تكليفه إياهم التفكر في المعجزة‪ ،‬ووجه دللته والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع‪ .‬وفي أدلة الوحدانية وسائار الصفات‪ ،‬بل‬
‫الكثر من أجلف العرب لو كلفوا ذلك لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة‪ .‬بل كان الواحد منه يخلفه ويقول‪ :‬ا أرسلك رسولل‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬وا ا أرسلني رسولل وكان يصدقه بيمينه وينصرف‪ ،‬ويقول الخر إذا قدم عليه ونظر إليه‪ :‬وا ما هذا وجه كذاب‪،‬‬
‫وأمثال ذلك مما ل يحصى‪ ،‬بل كل يسلم في غزوه واحدة في عصره وعصر صحابة آلف ل يفهم الكثرون منهم أدلة الكلم‪ ،‬و‬
‫من كان يفهمه يحتاج إلى أن يترك صناعته ويختلف إلى مسلم مدة مديدة ولم ينقل قط شيء من ذلك‪ ،‬فعلم عللما ضرورليا أن ا‬
‫تعالى لم يكلف الخلق إل اليمان والتصديق الجازم بما قاله كيفما حصل التصديق‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ل ينكر أن للعارف درجة على المقلد‪ ،‬ولكن المقلد في الحق مؤمن كما أن العارف مؤمن‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬فبم يميز المقلد بين نفسه وبين اليهود والمقلد؟‬
‫قلنا‪ :‬المقلد ل يعرف التقليد ول يعرف أنه مقلد‪ ،‬بل يعتقد في نفسه أنه محق عارف ول يشك في معتقده ول يحتاج مع نفسه إلى‬
‫ضا يستظهر بقرائان وأدلة ظاهرة وإن كانت غير قوية يرى نفسه مخصو ل‬
‫صا‬ ‫التمييز لقطعه بأن خصمه مبطل وهو محق‪ ،‬ولعله أي ل‬
‫بها ومميلزا بسببها عن خصومه‪ ،‬فإن كان اليهوديِ يعتقد في نفسه مثل ذلك فل يشوش ذلك على المحق اعتقاده‪ ،‬كما أن العارف‬
‫ضا يزعم أنه مميز عنه بالدليل ودعواه ذلك ل يشك‬ ‫الناظر يزعم أنع يميز نفسه عن اليهوديِ بالدليل‪ ،‬واليهوديِ المتكلم الناظر أي ل‬
‫الناظر العارف‪ ،‬وكذلك ل يشكك المقلد القاطع ويكفيه في اليمان أن ل يشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلمه بكلمه‪ ،‬فهل‬
‫رأيت عامليا فقط قد اغتم وحزن ومن حيث يعسر عليه الفرق بين تقليد اليهوديِ‪ ،‬بل ل يخطر ذلك ببال العوام‪ ،‬وإن خطر ببالهم‬
‫وشوفهوا به ضحكوا من قائاله وقالوا‪ :‬ما هذا الهذيان وكان به بين الحق والباطل مساواة حتى يحتاج إلى فرق فارق تبييلنا أنه على‬
‫الباطل‪ ،‬وإني على الحق‪ ،‬وأنا متيقن لذلك غير شاك فيه‪ .‬فكيف أطلب الفرق حيث يكون الفرق معلولما قطلعا من غير طلب‪ ،‬فهذه‬
‫حالة المقلدين الموقنين وهذا إشكال ل يقع لليهوديِ المبطل لقطعه مذهبه مع نفسه‪ ،‬فكيف للمسلم المقلد الذيِ وافق اعتقاده ما هو‬
‫)ص‪(355:‬‬
‫الحق عند ا تعالى‪ ،‬فظهر بهذا عند القطع للمسلك المقلد الذيِ وافق اعتقاده ما هو الحق عند ا تعالى‪ ،‬فظهر بهذا على القطع أن‬
‫اعتقاداتهم جازمة‪ ،‬وأن الشرع لم يكلفهم إل ذلك‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فإن فرضنا عامليا مجادلل لجولجا ليس يقلد وليس يقنعه أدلة القرآن ول القاويل الجليلة المفرقة السابقة إلى الفهام فماذا‬
‫تصنع به؟‬
‫قلنا‪ :‬هذا مريض مال طبعه عن صحة الفطرة وسلمة الخلقة الصلية فينظر في شمائاله فإن وجدنا اللجاج والجدل غاللبا على طبعه‬
‫ولم نجادله وطهرنا وجه الرض عنه إن كان يجاحدنا في أصل من أصول اليمان‪ ،‬وإن توسمنا فيه بالفراسة مخائال الرشد‬
‫والقبول إن جاوزنا به من الكلم الظاهر إلى توفيق في الدلة عالجناه بما قدرنا عليه من ذلك‪ ،‬وداوينا بالجدال المر والبرهان‬
‫الحلو‪ ،‬وبالجملة فنجتهد أن نجادله بالحسن كما أمر ا تعالى ورخصنا في القدر من المداواة ل تدل على فتح باب الكلم مع‬
‫الكافة‪ ،‬فإن الدوية يستعمل في حق المرضى وهم القلون‪ ،‬وما يعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح‪،‬‬
‫والفطرة الصحيحة الصلية معدة لقبول اليمان دون المجادلة وتحرير حقائاق الدلة‪ ،‬وليس الضرر في استعمال الدواء مع‬
‫الصحاء بأقل من الضرر في إهمال المداواة مع المرضى‪ ،‬فليوضع كل شيء موضعه كما أمر ا تعالى نبيه حيث قال‪) :‬الداع إهدلى‬
‫حلكدمهة دواللدملوهعدظهة اللدحدسدنهة دودجاهدللاهلم هبالاهتي ههدي أدلحدسان( )النحل‪ . (125 :‬والمدعو بالحكمة إلى الحق قوم‪ ،‬وبالموعظة‬
‫ك هبالل ه‬
‫دسهبيهل دررَب د‬
‫الحسنة قوم آخرون‪ ،‬وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون على ما فصلنا أقسامهم في كتاب القسطاس المستقيم فل نطول بإعادته‪.‬‬
‫المضنون بع على غير أهله‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫خطبة الرسالة‬
‫الحمد ل على موجب ما هدانا إلى حمده‪ ،‬ووفقنا للقيام بشكره‪ ،‬والصلة والسلم على سيدنا محمد أشرف من انتسب إلى آدم عليه‬
‫السلم وعلى صحبه الخيار‪.‬‬
‫اعلم أن لكل صناعة أهلل يعرف قدرها‪ ،‬ومن أهدى نفائاس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها‪ ،‬وهذا علق نفيس مضنون به على‬
‫غير أهله فمن صانه عمن ل يعرف قدره فقد قضى حقه أكرمت بهذا العلق على سبيل التهاديِ أخي وعزيزيِ أحمد صانه ا عن‬
‫الركون إلى الغرور وأهله لمعرفة بعض حقائاق الشياء التي كانت معرفة جميعها مطلوبة لسيد ولد آدم عليه السلم حيث قال‪ :‬أرنا‬
‫الشياء كما هي‪ ،‬وهذا العلق المضمون به على غير أهله يشتمل على أربعة أركان‪:‬‬
‫)ص‪(356:‬‬
‫الركن الول‪ :‬في معرفة الربوبية‪.‬‬
‫الركن الثاني‪ :‬في معرفة الملئاكة‪.‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬في حقائاق المعجزات‪.‬‬
‫الركن الرابع‪ :‬في معرفة ما بعد الموت والنتقال من الدنيا إلى العقبى‪ ،‬وفقنا ا تعالى لما يرضى ويحب‪ ،‬فإنه خير موفق ومعين‬
‫وإليه المرجع والمصير‪.‬‬
‫الركن الول في علم الربوبية‬
‫الزمان ل يكون محدولدا وخلق الزمان في الزمان أمر محال‪ ،‬فاليوم هو الكون الحادث في اللغة وأيام ا حيث قال‪) :‬دودذرَكلراهلم هبأ داياهم‬
‫اه( )إبراهيم‪ (5 :‬مراتب مخلوقاته ومصنوعاته ومبدعاته من وجوه منها قوله‪) :‬هفي أدلردبدعهة أداياءم( )فصلت‪ (10 :‬فيوم مادة السماء‬ ‫ا‬
‫ض هفي ديلودمليهن( )فصلت‪ (9 :‬المادة والصورة‪ ،‬ومادة السماوات ومادة‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫ر‬ ‫د‬ ‫ل‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫ق‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫خ‬‫د‬ ‫)‬ ‫وقوله‬ ‫‪.‬‬ ‫نفوسها‬ ‫ويوم‬ ‫كواكبها‬ ‫ويوم‬ ‫صورتها‬ ‫ويوم‬
‫بروجها صورة واحدة‪ ،‬ومادة الرض مادة مشتركة بين أزواج وفحول وهي أخس لنها مثل مومسة تقبل كل ناكح‪ .‬ومنها‪ :‬الجماد‬
‫والمعدنيات داخلة في الجماد والنبات والحيوانات العجم والنسان‪ .‬ومنها‪ :‬الرض فهو سماء من طريق اللغة‪ ،‬لن أهل اللغة تقول‪:‬‬
‫ض هملثدلاهان( )الطلق‪:‬‬ ‫كل مل علك فهو سماؤك‪ ،‬وكل ما دون الفلك يعني فلك القمر بالنسبة إلى الفلك أرض لقوله‪) :‬دوهمدن اللدلر ه‬
‫‪.(12‬‬
‫الول‪ :‬كرة النار‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬كرة الهواء‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬كرة الطين المجفف الذيِ فوق الماء‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬الماء‪.‬‬
‫والخامسة‪ :‬الرض البسيطة‪.‬‬
‫والسادسة‪ :‬الممتزجات من هذه الشياء‪.‬‬
‫والسابعة‪ :‬الثار العلوية‪.‬‬
‫فصل في تعليقات على آيات كريمة‬
‫ب( )ص‪ (10 :‬الرتقاء صعود الخس إلى الشرف حتى ينتهي إلى واجب الوجود‪.‬‬ ‫)دفللديلردتاقولا هفي الدلسدبا ه‬
‫ك الامنتدهى( )النجم‪.(42 :‬‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫كما قال تعالى‪) :‬دوأدان إهلى دررَب د‬
‫د‬
‫ب( )النبياء‪.(104 :‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫جرَل لهلكت ه‬ ‫وقوله تعالى‪) :‬ديلودم دنلطهويِ الاسدمادء دكطرَي الرَس ه‬
‫د‬
‫)ص‪(357:‬‬
‫ض دكادندتا درلتلقا دفدفدتلقدنااهدما( )النبياء‪ (30 :‬الول انطباق فلك البروج على معدل النهار‪ ،‬والفتق‬ ‫ت دواللدلر د‬ ‫وقوله تعالى‪) :‬أدان الاسدمادوا ه‬
‫بعد الرتق ظهور الليل‪.‬‬
‫فصل في أن الرزق مقدر مضمون‬
‫وهو من المعقولت ل من المنقولت‪ .‬لن الحق تعالى عقل ذاته‪ ،‬وما توجبه ذاته فهو قد عقل جميع الموجودات‪ ،‬وإن كان بالقصد‬
‫الثاني وإنما يوجب كل واحد منها‪ .‬أعني من الموجودات المبدعات على ما وجد لنه سبحانه وتعالى يعقل وجود الكل من ذاته‪،‬‬
‫صا النوع‬ ‫فكما أن تعقله ذاته ل يجوز أن يتغير‪ ،‬بل يجب وجود كل ذلك ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقل ل شك فيه خصو ل‬
‫صا آخر مثله ل يمكن إل‬ ‫النساني‪ ،‬والنوع إنما يبقى مستحفلظا بالشخاص وبلوغ كل شخص إلى الغاية التي يمكن أن يولد شخ ل‬
‫بقاؤه مدة‪ ،‬وبقاؤه تلك المدة ل يصح إل بما فيه قوام الحياة‪ .‬وقوام الحياة بالرزق لنه تعالى يعقل وجود الكل من ذاته ووجود ما‬
‫يعقله من ذاته واجب‪ ،‬وتعقل بقاء النوع النساني ببقاء الشخاص وتناسلهم‪ ،‬وتعقل تناسلهم ببقاء كل شخص‪ ،‬وتعقل بقاء كل‬
‫شخص مدة بما فيه قوام حياته وهو الرزق‪ ،‬والرزق إنما يكون من النبات والحيوان وهما الخبز واللحم‪ ،‬والفواكه من جملة النبات‬
‫وأكثر الحلوى‪ ،‬فوجب أن يكون الرزق مضمولنا بتقدير الرؤوف الرحيم‪ ،‬لذلك قال تعالى‪) :‬دوهفي الاسدماهء هرلزقااكلم دودما اتودعادودن *‬
‫ض إهاناه دلدحكق هملثدل دما أداناكلم دتنهطاقودن( )الذاريات‪.(22،23:‬‬ ‫ب الاسدماهء دولالدلر ه‬‫دفدودر رَ‬
‫فصل من ل يعرف حقيقة الرؤيا‬
‫من ل يعرف حقيقة الرؤيا ل يعرف حقائاق أقسام الرؤيا‪ ،‬ومن ل يعرف حقيقية رؤيا الرسول صلى ا عليه وسلم وسائار الرسل‪،‬‬
‫بل رؤيا الذين ماتوا ل يعرف رؤيا ا تعالى في المنام‪ ،‬والعامي يتصور أن من رأى رسول ا في المنام فقد رأى حقيقة شخصه‪،‬‬
‫وكما أن المعنى الذيِ وقع في النفس حاكى الخيال عنه بلفظ‪ ،‬فكذلك كل نقش ارتسم في النفس يمثل الخيال له صورة ول أرى أنه‬
‫كيف يتصور رؤية شخص الرسول في المنام وشخصه مودع في روضة المدينة وما شق القبر وما خرج إلى موضع يراه النائام‪.‬‬
‫ولئان سلمنا ذلك فربما يراه في ليلة واحدة ألف نائام في ألف موضع على صور مختلفة‪ ،‬والوهم يساعد العقل في أنه ل يمكن تصور‬
‫شخص واحد في حالة واحدة في مكانين ول على صورتين طويل وربع وشاب وكهل وشيخ‪ ،‬ومن ل تحيط معرفته بفساد هذا‬
‫التصور‪ ،‬فقد قنع من غريزة العقل‬
‫)ص‪(358 :‬‬
‫بالسم والرسم دون الحقيقة والمعنى‪ ،‬ول ينبغي أن يعاتب بل ينبغي أن يخاطب‪ .‬فلعله يقول ما يراه مثاله ل شخصه‪ ،‬وقال هو‬
‫مثال شخصه أو مثال حقيقة روحه المقدسة عن الصور والشكل فإن قال‪ :‬هو مثال شخصه الذيِ هو عظمه ولحمه‪ ،‬فأيِ حاجة إلى‬
‫شخصه وشخصه في نفسه متخيل ومحسوس‪ ،‬ثم من رأى جسلما كان يتحرك بتحرك النبي عليه الصلة والسلم فكيف يكون رائاليا‬
‫له برؤية مثال شخصه‪ ،‬بل الحق أنه مثال روحه المقدسة التي هي النبوة فما رآه فمن الشكل ليس هو روح النبي وجوهره ول‬
‫شخصه بل مثاله على التحقيق‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فأيِ معنى لقوله عليه الصلة والسلم‪) :‬من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان ل يتمثل بي(‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬ل معنى له إل ما رآه مثال واسطة بين النبي وبينه ومن تعريف الحق إياه‪ ،‬فكما أن جوهر النبوة أعني الروح المقدسة الباقية‬
‫من النبي بعد وفاته منزهة عن اللون والشكل والصورة‪ ،‬ولكن تنتهي تعريفاته إلى المة بواسطة مثال صادق ذيِ شكل ولون‬
‫وصورة‪ .‬وإذا كان جوهر النبوة منزلها عن ذلك‪ ،‬فكذلك ذات ا منزه عن الشكل والصورة ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة‬
‫مثال محسوس من نور أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالل للجمال المعنويِ الحقيقي الذيِ ل صورة له ول‬
‫لون‪ ،‬ويكون ذلك المثال صادلقا وحلقا وواسطة في التعريف‪ ،‬فيقول النائام‪ :‬رأيت ا تعالى في المنام ل بمعنى أني رأيت ذاته‪ ،‬كما‬
‫يقول‪ :‬رأيت النبي ل بمعنى أنه رأى ذات النبي وروحه أو ذات شخصه بمعنى أنه رأى مثاله‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إن النبي له مثل وا تعالى ل مثل له‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬هذا جهل بالفرق بين المثل والمثال‪ ،‬فليس المثال عبارة عن المثل‪ ،‬فالمثل عبارة عن المساوى في جميع الصفات‪ ،‬والمثال ل‬
‫يحتاج فيه إلى المساواة فإن للعقل معنى ل يماثله غيره‪ .‬ولنا أن نتصور الشمس له مثالل لما بينهما من المناسبة في شيء واحد‪،‬‬
‫وهو أن المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولت بالعقل فهذا القدر من المناسبة كاف في المثال‪ ،‬بل السلطان يمثل‬
‫في النوم بالشمس وبالقمر الوزير‪ ،‬والسلطان ل يماثل الشمس بصورته ول بمعناه‪ ،‬ول الوزير يماثل القمر‪ .‬إل أن السلطان له‬
‫استعلء على الكافة‪ ،‬ويعم أثره النور‪ ،‬كما أن الوزير واسطة بين السلطان والرغبة في إفاضة أثر العدل‪ ،‬فهذا مثال وليس بمثل‬
‫صدباسح ( )النور‪ (35 :‬فأيِ مماثلة بين نوره وبين الزجاجة‬ ‫ض دمدثال انوهرهه دكهملشدكاءة هفيدها هم ل‬ ‫ت دواللدلر ه‬ ‫وا تعالى قال‪ ) :‬ا‬
‫اا انوار الاسدمادوا ه‬
‫والمشكاة والشجرة والزيت؟ قال‬
‫)ص ‪(359‬‬
‫ت أدلوهدديسة هبدقددهردها دفالحدتدمدل الاسليال دزدبلدا اراهبليا( )الرعد‪ (17 :‬ذكر ذلك تمثيلل للقرآن والقرآن‬
‫ا تعالى‪) :‬دأندزدل همدن الاسدماء دماء دفدسالد ل‬
‫ل؟ وكم من المنامات عرضت على رسول ا صلى ا عليه وسلم من رؤيا لبن أو‬ ‫صفة قديمة ل مثل له‪ ،‬فكيف صار الماء له مثا ل‬
‫حبل‪ .‬فقال‪ :‬اللبن هو السلم‪ ،‬والحبل هو القرآن إلى أمثال له ل تحصى وأيِ مماثلة بين اللبن والسلم والحبل والقرآن إل في‬
‫مناسبة‪ ،‬وهو أن الحبل يتمسك به النجاة والقرآن كذلك‪ ،‬واللبن غذاء تغذى به الحياة الظاهرة والسلم غذاء تغذى به الحياة‬
‫الباطنة‪ ،‬فهذا كله مثال وليس بمثل‪ ،‬بل هذه الشياء لها‪ .‬وا تعالى ل مثل له لكن له أمثلة محاكية لمناسبة معقولة من صفات ا‬
‫تعالى‪ ،‬فإنا إذا عرفنا المسترشد أن ا تعالى كيف يخلق الشياء وكيف يعلمها وكيف يزيدها وكيف يتكلم وكيف يقوم الكلم بنفسه‪.‬‬
‫مثلنا جميع ذلك بالنسان‪ ،‬ولول إن النسان عرف من نفسه هذه الصفات لما فهم مثاله في حق ا تعالى‪ ،‬فالمثال في حق ا تعالى‬
‫جائاز والمثل باطل‪ ،‬فإن المثال هو ما يوضح الشيء والمثل ما يشابه الشيء‪.‬‬
‫ضا ل يرى‪ ،‬فإن المرئاي‬ ‫فإن قيل‪ :‬هذا التحقيق الذيِ ذكرتموه ليس يفضي إلى أن ا تعالى يرى في المنام‪ .‬بل إلى أن الرسول أي ل‬
‫مثاله ل عينه فقوله‪) :‬من رآني في المنام فقد رآني( فهو نوع تجوز معناه كأنه رآني وما سمع من المثال كأنه سمع مني‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬وهذا ما يريده القائال بقوله‪ :‬رأيت ا تعالى في المنام ل غير‪ .‬أما أن يريد به أنه رأى ذاته على ما هو عليه فل‪ ،‬فإنه حصل‬
‫التفاق على أن ذات ا تعالى ل ترى وإن مثالل يعتقده النائام ذات ا تعالى أو ذات النبي يجوز أن يرى ‪ ،‬وكيف ينكر ذلك‪ ،‬مع‬
‫وجوه في المنامات‪ ،‬فإن لم يره بنفسه فقد تواتر إليه من جماعة أنهم رأوا ذلك‪ ،‬إل أن المثال المعتقد قد يكون صادلقا وقد يكون‬
‫كاذلبا‪ ،‬ومعنى الصادق أن ا تعالى جعل رؤياه واسطة بين الرائاي وبين النبي في تعريف بعض المور‪ ،‬وفي قدرة ا تعالى خلق‬
‫هذه الواسطة بين العبد وبين اتصال الحق به وهو موجود‪ ،‬فكيف يمكن إنكاره؟‬
‫فإن قيل‪ :‬إذا كانت رؤية الرسول صلى ا عليه وسلم تجولزا‪ ،‬فالتجوز مما قد أذن في إطلقه في حقه ول يجوز في حق ا تعالى‬
‫من الطلقات إل ما ورد الذن به‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬قد ورد الذن بإطلق ذلك‪ .‬فإن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال‪ :‬رأيت ربي في أحسن صورة‪ .‬وهذا مما ورد في الخبار‬
‫التي وردت في إثبات الصورة ل تعالى حيث قال‪ :‬إن ا خلق آدم على صورته‪ .‬وليس المراد به صورة دحية الكلبى وفي غيرها‬
‫من الصور‪ ،‬حتى أنه رآه مرالرا كثيرة وما رآه في صورته الحقيقة إل مرة أو مرتين‪ ،‬وتمثيل جبريل في صورة دحية الكلبى ليس‬
‫بمعنى أنه انقلب ذات جبريل صورة دحية الكلبى‪ ،‬بل إن ظهرت تلك الصورة للرسول مثالل مؤدليا عن جبريل ما أوحى إليه‪،‬‬
‫وكذلك قوله تعالى‪) :‬فتمثل لها‬
‫)ص ‪(360‬‬
‫بشلرا سوليا( ]مريم‪ .[17 :‬وإذا لم يكن استحالة في ذات الملك وانقللبا‪ ،‬بل يبقى جبريل على حقيقته وصفته‪ ،‬وإن ظهر النبي في‬
‫صورة دحية الكلبي فل يستحيل مثل ذلك في حق ا تعالى في يقظة ول في منام‪ ،‬فهذا ما يدل من جهة الخبر على جواز إطلقه‪،‬‬
‫وقد ورد عن السلف إطلق ذلك ونقلت فيه آثار وأخبار‪ ،‬ولو لم يرد فيه إطلق لكنا نقول‪ :‬يجوز إطلق كل لفظة في حق ا تعالى‬
‫صادقة ل منع منه ول تحريم إذا كان ل يوهم الخطأ عند المستمع‪ ،‬وهذا ل يوهم رؤية الذات عند الكثرين لكثرة تداول اللسنة له‬
‫فإن معناه كما يجوز أن تقول‪ :‬إنا نحب ا تعالى أو نشتاق إليه ونريد لقاءه‪ ،‬وقد سبق إلى فهم قوم من هذه الطلقات خيالت‬
‫فاسدة والكثرون يفهمون معناه على وجهه من غير خيال فاسد‪ ،‬ويراعى في هذه الطلقات حال خيال المخاطب فيجوز الطلق‬
‫من غير كشف ول تفسير حيث ل إبهام‪ ،‬ويجب الكشف عند البهام‪ .‬وعلى الجملة هذا يرد الخلف إلى إطلق اللفظ وجوازه بعد‬
‫حصول التفاق على لفظ المعنى من أن ذات ا تعالى مرئاية‪ ،‬وأن المرئاي مثال‪ ،‬وظن من ظن استحالة المثال في حق ا تعالى‬
‫خطأ‪ ،‬بل نضرب ل تعالى ولصفاته المثال وننزهه عن المثل ول ننزهه عن المثال وله المثل العلى‪.‬‬
‫فصل في الكلم على الفرق بين الواحد والحد ومعنى الصمد‬
‫قوله تعالى‪) :‬قل هو ا أحد( ]الخلص‪ .[1 :‬فرق بين الواحد والحد‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وإلهكم إله واحد( ]البقرة‪ .[163 :‬فيقال‬
‫النسان شخص واحد وصنف واحد‪ ،‬والمراد به أنه جملة هي جملة واحدة‪ ،‬ويقال ألف واحد‪ ،‬فالواحد المشار إليه من طريق العقل‬
‫والحس هو الذيِ يمتنع مفهومه عن وقوع الشركة فيه‪ ،‬والحد هو الذيِ ل تركيب فيه ول جزء له بوجه من الوجوه‪ ،‬فالواحد نفي‬
‫الشريك والمثل‪ ،‬والحد نفي الكثرة في ذاته وقوله تعالى‪) :‬ا الصمد( ]الخلص‪ .[2 :‬الصمد الغني المحتاج إليه غيره وهذا دليل‬
‫ضا‬‫على أن ا تعالى إحدى الذات وواحد‪ ،‬لنه لو كان له شريك في ملكه لما كان صملدا غنليا يحتاج إليه غيره‪ ،‬بل كان هو أي ل‬
‫يحتاج إلى شريكه في المشاركة أو التثنية‪ ،‬ولو كان له أجزاء تركيب واحد لما كان صملدا يحتاج إلى غيره‪ ،‬بل هو محتاج في‬
‫قوامه ووجوه إلى أجزاء تركيبه وحده‪ ،‬فالصمدية دليل على الواحدية والحدية‪) ،‬لم يلد( دليل على أن وجوده المستمر ليس مثل‬
‫وجود النسان الذيِ يبقي نوعه بالتوالد والتناسل‪ ،‬بل هو وجوده مستمر أزلي وأبديِ ولم يولد دليل على أن وجود ليس مثل وجود‬
‫النسان الذيِ يحصل بعد العدم‪ ،‬ويبقى دائالما إما في جنة عالية ل تفنى وإما في هاوية ل تنقطع‪) ،‬ولم يكن له كفلوا‬
‫)ص ‪(361‬‬
‫دليل على أن الوجود الحقيقي الذيِ له تبارك وتعالى وهو الوجود الذيِ يفيد وجود غيره ول يستفيد الوجود من غيره ليس إل له‬
‫تبارك وتعالى فقوله‪) :‬قل هو ا أحد(‪ .‬دليل على إثبات ذاته المنزه المقدس والصمدية نفي وإضافة نفي الحاجة عنه‪ ،‬فل طريق‬
‫في معرفة ذات ا تعالى أبين وأوضح من سلب صفات المخلوقات عنه‪.‬‬
‫فصل في كلم حول الصفات‬
‫يتخيل بعض الناس كثرة في ذات ا تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول من قال في الصفات ل هو ول غيره‪ ،‬وهذا‬
‫التخيل يقع من توهم التغاير ول تغاير في الصفات مثال ذلك‪ :‬إن إنسالنا يعلم صورة الكتاب وله علم بصورة بسم ا التي تظهر تلك‬
‫الصورة على القرطاس‪ ،‬وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبلعا لها‪ ،‬فإنه إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة‬
‫على القرطاس بل حركة يد وواسطة قلم ومداد‪ ،‬فهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال لها علم‪ ،‬ومن حيث إن اللفاظ‬
‫تدل عليها يقال ل القدرة‪ ،‬ول تغاير ههنا بين العلم والقدرة والكلم‪ ،‬فإن هذه صفة واحدة في نفسها ول تكون هذه العتبارات‬
‫الثلثة واحدة‪ ،‬وكل من كان أعور ينظر بالعين العوراء فل يرى إل مطلق الصفة فيقول‪ :‬هو هو‪ ،‬وإذا التفت إلى العتبارات‬
‫الثلث فقال‪ :‬هي غيره‪ ،‬ومن اعتبر مطلق الصفة مع العتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعتقد أنها ل هو ول غيره والكلم في‬
‫صفات ا تعالى وإن كان مناسلبا لهذا المثال فهو مباين له بوجه آخر‪ ،‬وتفهيم هذه المعاني بالكتابة عسير غير يسير‪ ،‬وأما الوهم‬
‫الذيِ وقع لبعض الناس أن المثال في حق أوصاف ا تعالى ل يجوز فيدفعه أن ذلك المتوهم لم يميز بين المثل والمثال‪ ،‬فإن المثال‬
‫يحتاج إليه كما ذكرناه في أن يسترق للمعنى المعقول من الصور المحسوسة صورة تضحه‪ ،‬وتوصل ذلك المعنى المعقول إلى فهم‬
‫المستفيد‪ ،‬وأما المحسوس فل يحتاج إلى مثال لن المحسوس بعينه مندرج في الخيال‪ .‬أل ترى أن من رأى المقدحة والزند والنار‬
‫تحصل بينهما ل يحتاج إلى مثال لهذه الشياء‪ ،‬ولكن المعقول المحض الذيِ ل يندرج في الخيال ول يضبطه الخيال فإنه يحتاج إلى‬
‫الستعانة بالخيال حتى يصل إلى فهم الضعفاء‪ ،‬وليس ل تعالى مثل كما قال‪) :‬ليس كمثله شيء( ]الشورى‪ .[11 :‬ولكن له مثال‪،‬‬
‫وقول النبي عليه الصلة والسلم‪" :‬إن ا تعالى خلق آدم على صورته"‪ .‬إشارة إلى هذا المثال‪ ،‬فإنه لما كان تعالى وتقدس موجولدا‬
‫قائالما بنفسه حليا سميلعا بصيلرا عاللما قادلرا متكللما فالنسان كذلك‪ ،‬ولو لم يكن النسان بهذه الوصاف موصولفا لم يعرف ا تعالى‪،‬‬
‫ولذلك قال النبي عليه الصلة والسلم‪" :‬من عرف نفسه فقد عرف ربه"‪ ،‬فإن كل ما لم يجد النسان‬
‫ص ‪362‬‬
‫له من نفسه مثالل يعسر عليه التصديق به والقرار‪ ،‬وقد أوحى ا تعالى إلى بعض النبياء عليهم الصلة والسلم‪ :‬أيها النسان‬
‫اعرف نفسك تعرف ربك‪ ،‬ولذلك ل يحيط علم النسان بأخص وصف ا تعالى‪ ،‬لنه ليس في المبدعات والمخلوقات مثال‬
‫وأنموذج من ذلك الوصف الخاص‪ ،‬وكذلك السم للوصف الخاص الذيِ له تعالى لن النسان إنما يسمى الشيء بعد معرفته إياه‪،‬‬
‫وإذا لم يكن للنسان إليه طريق وأنموذج فل علم له به ول اسم له عنده ول علمة‪ .‬فكيف يعرفه؟ فلذلك ل يعرف ا إل ا‪.‬‬
‫وأعني أخص وصفه وكنه معرفته فمن قال‪ :‬إن النسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم وا تعالى كذلك ل يكون هذا القائال‬
‫مشبلها‪ ،‬فإن التشبيه إثبات المشاركة في الوصف الخص‪ ،‬ومن قال‪ :‬إن السواد عرض موجود وهو لون‪ ،‬والبياض عرض موجود‬
‫وهو لون ل يكون مشبلها السواد بالبياض‪ ،‬فإن الشتراك في اللونية والعرضية والوجودية ل يكون تشبيلها بينهما‪ ،‬ولذلك ل تماثل‬
‫بين السواد والبياض مع اشتراكهما في اللونية والعرضية الوجدية‪ ،‬فالمثال في حق ا سائاغ جائاز والمثل مستحيل‪ ،‬فإنا نقول‪ :‬ا‬
‫تعالى مدبر متصرف في العالم وليس في العالم مثال ذلك أن أصبع النسان يتحرك ويحركه علمه وإرادته وليس فيها العلم‬
‫والرادة فيقع التفهيم بسبب ذلك وتصور الضعيف أنه كيف يكون مدبلرا فاعلل في شيء غير مجاور له ول حال فيه‪.‬‬
‫فصل في تكليف ا تعالى عباده‬
‫تكليف ا تعالى عباده ل يضاهي تكليف النسان عبده العمال التي يرتبط بها غرضه وما ل حظ له فيه وما ل يحتاج إليه فل‬
‫يكلفه به‪ ،‬وتكليف ا تعالى عباده يجريِ مجرى تكليف الطبيب المريض‪ ،‬فإذا غلبت عليه الحرارة أمره بشرب المبردات والطبيب‬
‫غني عن شربه ل يضره مخالفته ول ينفعه موافقته‪ ،‬ولكن الضرر والنفع يرجعان إلى المريض وإنما الطبيب هاد ومرشد فقط‪ ،‬فإن‬
‫وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص‪ ،‬وإن لم يوفق فخالفه تمادى به المرض وهلك‪ ،‬وبقاؤه وهلكه عند الطبيب سيان‪،‬‬
‫فإنه مستغن عن بقائاه وفنائاه‪ ،‬فكما أن ا تعالى خلق للشفاء سببصا مفضليا إليه كذلك خلق للسعادة سبلبا وهو الطاعات‪ ،‬ونهى النفس‬
‫عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائال الخلق منجيات ورذائال في الخرة مهلكات‪ .‬كما أن رذائال الخلق ممرضات في‬
‫الدنيا ومهلكات والمعاصي بالضافة إلى حياة الخرة كالسموم بالضافة إلى حياة الدنيا وللنفوس طب كما أن للجسام طلبا‬
‫والنبياء عليهم الصلة والسلم أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى طريق الفلح بتمهيد الطريق المزكية للقلوب‪ ،‬كما قال ا‬
‫تعالى‪) :‬قد أفلح من زكاها * وقد خاب من‬
‫)ص ‪(363‬‬
‫دساها( ]الشمس‪ .[10 ، 9 :‬ثم يقال‪ :‬إن الطبيب أمره بكذا ونهاه عن كذا‪ ،‬وأنه زاد مرضه لنه خالف الطبيب‪ ،‬وأنه صح لنه‬
‫راعى قانون الطبيب ولم يقصر في الحتماء‪ ،‬وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض بمخالفة الطبيب لعين المخالفة‪ ،‬بل لنه سلك غير‬
‫طريق الصحة التي أمره الطبيب بها‪ ،‬فكذلك التقوى هي الحتماء الذيِ ينفي عن القلوب أمراضها وأمراض القلوب تفوت حياة‬
‫الخرى كما تفوت أمراض الجساد حياة الدنيا‪ ،‬والمثال الخر أن مللكا من ملوك الناس يمد بعض عبيده الغائاب عن مجلسه بمال‬
‫ومركوب ليتوجه تلقاءه لينال رتبة القرب منه‪ ،‬ويسعد بسببه مع استغناء الملك عن الستعانة به‪ ،‬وتصميم العزم على أن ل‬
‫يستخدمه أصلل‪ ،‬ثم إن العبد إن ضيع المركوب وأهلكه وأنفق المال ل في زاد الطريق كان كافلرا للنعمة‪ ،‬وإن ركب المركوب‬
‫وأنفق المال في الطريق متزولدا به كان شاكلرا للنعمة ل بمعنى أنه أنال الملك حلظا‪ ،‬فإنه لم يرد في النعام عليه وفي تكلفه‬
‫الحضور حلظا لنفسه ولكن أراد سعادة العبد‪ ،‬فإنه وافق مراد السيد فبه كان شاكلرا وإن خالف عدت مخالفته كفرالنا‪ ،‬وا تعالى‬
‫ويستويِ عنده كفر الكافرين وإيمانهم بالضافة إلى جلله واستغنائاه‪ ،‬ولكنه ل يرضى لعباده الكفر‪ ،‬فإنه ل يصلح لعباده فإنه‬
‫يشقيهم‪ ،‬كما ل يرضى الطبيب هلك المرضى ويعالجهم‪ ،‬ول يرضى الملك المستغني عن عبده لعبده الشقاوة بالبعد عنه ويريد له‬
‫السعادة بالقرب منه وهو غني عنه قرب أو بعد‪ ،‬فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف فإن الطاعات أدوية والمعاصي سموم وتأثيرها‬
‫في القلوب‪ ،‬ول ينجو إل من أتى ا بقلب سليم‪ ،‬كما ل تسعد الصحة إل من أتى بمزاج معتدل‪ ،‬وكما يصح قول الطبيب للمريض‬
‫قد عرفتك ما يضرك وما ينفعك‪ ،‬فإن وافقتني فلنفسك وإن خالفت فعليها‪ ،‬كذلك قال ا تعالى‪) :‬من اهتدى فإنما يهتديِ لنفسه ومن‬
‫ضل فإنما يضل عليها( ]السراء‪ .[15 :‬وقوله‪) :‬من عمل صاللحا فلنفسه ومن أساء فعليها( ]فصلت‪ ، 46 :‬الجاثية‪ .[15 :‬وأما‬
‫العقاب على ترك المر وارتكاب النهي فليس العقاب من ا تعالى غضلبا وانتقالما‪ .‬ومثال ذلك أن من غادر الوقاع عاقبه ا تعالى‬
‫بعدم الولد‪ ،‬ومن ترك إرضاع الطفل عاقبه بهلك الولد‪ ،‬ومن ترك الكل والشرب عاقبه بالجوع والعطش‪ ،‬ومن ترك تناول‬
‫الدوية عاقبه بألم المرض وغضب ا تعالى على عباده غير إرادته اليلم‪ ،‬كما إن السباب والمسببات يتأدى بعضها إلى بعض‬
‫في الدنيا بترتيب مسبب السباب فبعضها يفضي إلى اللم وبعضها إلى اللذات ول يعرف عواقبها إل النبياء‪ ،‬فكذلك نسبة‬
‫الطاعات والمعاصي إلى آلم الخرة ولذاتها من غير فرق‪ ،‬فالسؤال عن أنه لم تفض المعصية إلى العقاب كالسؤال في أنه لم يهلك‬
‫الحيوان عن السم‪ ،‬ولم يؤد السم إلى الهلك‪ ،‬ولم يخلق جسد الناسن على وجه يفعل فيه السم أثلرا وينفعل البدن عنه وهو ل ينفعل‬
‫عن البدن‪ ،‬فكذلك الكلم في أنه لما‬
‫ص ‪364‬‬
‫خلق ا تعالى نفس النسان على وجه تكملها وتنجيها الفضائال وتهلكها الرذائال‪ ،‬هذا وا تعالى غير عاجز عن الشباع من غير‬
‫أكل والدواء من غير شرب‪ ،‬والنشاء من غير مصاحبة وقاع‪ ،‬والنماء من غير رضاع‪ ،‬ولكنه قد رتب السباب والمسببات‪،‬‬
‫ولذلك سر وحكمة ل يعلمها إل ا تعالى والراسخون في العلم‪ ،‬وليس هذا بعجب‪ ،‬وإنما العجب من هذا التدبير المحكم والنظام‬
‫المتقن‪ ،‬ولعمريِ أن من ل يهتديِ إلى سر الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته‪ ،‬ولو كان كذلك لضاع حظ النبات والحيوانات‬
‫التي هي ألطف الحيوانات وأقربها إلى العتدال مثل الغنم والنعاج والقباج والدجاج وغيرها‪ ،‬وكمال النبات أن يصير غذاء لما هو‬
‫أعلى منه بالرتبة وهو الحيوان‪ ،‬ولذلك يقوم بدل ما يحلل منه فيصير جزء منه متشبلها به وهذا كماله‪ ،‬وكذلك نسبة الحيوانات‬
‫المذبوحة إلى النسان ونسبة النسان إلى الملئاكة في جنات عدن كما قال تعالى‪) :‬والملئاكة يدخلون عليهم من كل باب( ]الرعد‪:‬‬
‫‪ .[23‬وأما كون بعض الحيوانات العجم غذاء لبعض السباع الضارية ففي السباع الضواريِ فوائاد ومنافع سياسية وطبية يعرفها‬
‫أرباب السياسة والطباء‪ ،‬ومثال من يتعجب من وضع هذه الشياء على ترتيب النظام الكلي على موجب تقدير العزيز الحكيم‬
‫كمثل العمى الذيِ دخل دالرا فتعثر بالواني الموضوعة في صحن الدار‪ ،‬فقال لهل الدار‪ :‬ما الذيِ أزال عقولكم؟ لماذا ل تردون‬
‫هذه الواني إلى مواضعها؟ ولم تركتموها على الطريق؟ فقيل له‪ :‬إنها موضوعة في مواضعها‪ ،‬وإنما الخلل من فقد البصر‪،‬‬
‫وكمثل الخشم الذيِ ل يدرك الروائاح فيلوم واضع اللخالخ والمثلثات والفواكه العطرة الطيبة بين يديه‪ ،‬فقال‪ :‬هذا قد شغل المكان‬
‫فقط‪ ،‬فقيل له في العودة فائادة سوى اتخاذه على جهة الحطب‪ ،‬وإنما المانع من إدراكه هو الخشم‪.‬‬
‫وههنا مباحة أخرى منها‪ :‬إن ا تعالى كيف يأمر بالشيء ويمنع من البحث عنه والبصيرة ل تحصل إل بالبحث عنه وهذا تعجب‬
‫فاسد‪ ،‬فإن العلم يستدعي اعتقالدا جازلما أو تحصل بالبرهان والوصول إليها بالبحث‪ ،‬ولم يمنع عن البحث الخلئاق كلهم‪ ،‬بل‬
‫الضعفاء العاجزون عن الطلع على حقائاق البرهان ومعضلت البحث‪ ،‬ومثل ذلك الطبيب الذيِ يأمر العليل بشرب الدواء‬
‫ويمنعه عن البحث عن سبب كون هذا الدواء شافليا‪ ،‬فإنه يقصر عنه فهمه ويشق عليه ويعجز عنه ويزداد المرض ويستضر به‪،‬‬
‫ضا ذكليا ساللكا منهاج الطب وعلل المراض لم يمنعه من البحث ولم يمنعه عن ذكر المناسبة بين‬ ‫فإن وجد على سبيل الندور مري ل‬
‫دوائاه وبين مرضه‪ ،‬بل إذا علم أنه ليس يؤمن بمجرد قوله وليس يقلد محض التقليد لما خص به من الذكاء وما يفهم من أسباب‬
‫العلة‪ ،‬وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة‬
‫ص ‪365‬‬
‫اشتغل بالعلج‪ ،‬وإن لم يكن يفهم أعرض عن التقليد وجب عليه ذكر المناسبة والعلة ولم يمنع من البحث إذا علم استقلله به‪ ،‬إل أن‬
‫ذلك نادر في المرضى جلدا‪ ،‬والكثرون يضعفون عن ذلك وكذلك معرفة العلل والسرار والبحث عنها في الشرعيات من هذا‬
‫القبيل‪ ،‬وأما تسخير البهائام للنسان مثل من يمشي خطوات مثلل ينظر إلى منتزهات ووجوه حسان‪ ،‬فيقال له‪ :‬كيف أتعب رجله‬
‫وسخرها لجل عينيه والعين آلته‪ ،‬كما أن الرجل آلته فما باله جعل إحداهما خادمة وأتعبها‪ ،‬وجعل الخرى مخدومة وطلب‬
‫راحتها‪ ،‬وهذا جهل بالقدار والمراتب‪ ،‬بل العاقل يعلم أن الكامل أبلدا يفدى بالناقص‪ ،‬وأن الناقص يستسخر لجل الكامل وهو عين‬
‫الحكمة وليس ذلك بظلم‪ ،‬فإن الظلم هو التصرف في ملك الغير‪ ،‬وا تعالى ل يصادف لغيره مللكا حتى يكون تصرفه فيه ظللما فل‬
‫يتصور منه ظلم‪ ،‬بل له أن يفعل ما يشاء في ملكه ويكون عادلل‪ ،‬والوحي اللهي والشرع الحق ل يرد بما ينبو عنه العقل‪ ،‬فإن أراد‬
‫بنبو العقل أن برهان العقل يدل على استحالته كخلق ا تعالى مثل نفسه أو الجمع بين المتضادين‪ ،‬فهذا ما ل يرد الشرع به‪ ،‬وإن‬
‫أراد به ما يقصر العقل عن إدراكه ول يستقل بالحاطة بكنهه فهذا ليس بمحال أن يكون في علم الطباء مثلل جلب المغناطيس‬
‫للحديد‪ ،‬وأن المرأة لو مشت فوق حية مخصوصة ألقت الجنين وغير ذلك من الخواص‪ ،‬وهذا مما ينبو عنه العقل بمعنى أنه ل يقف‬
‫على حقيقته ول يستقل بالطلع عليه فل ينبو عنه الحكم باستحالته‪ ،‬وليس كل ما ل يدركه العقل محالل في نفسه بل لو لم نشاهد‬
‫قط النار وإخراجها فأخبرنا مخبر وقال‪ :‬إني أصك خشبة بخشبة وأستخرج من بينهما شيلئاا أحمر بمقدار عدسة فتأكل هذه البلدة‬
‫وأهليها حتى ل يبقى منهم شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها‪ ،‬ومن غير أن يزيد في حجمها بل تأكل نفسها فل تبقى هي ول‬
‫البلد‪ ،‬لكنا نقول‪ :‬هذا الشيء ينبو عنه العقل ول يقبله‪ ،‬وهذه صورة النار والحس قد صدق ذلك‪ ،‬وكذلك قد يشتمل الشرع على مثل‬
‫هذه العجائاب التي ليست مستحيلة‪ ،‬وإنما هي مستبعدة وفرق بين البعيد والمحال‪ ،‬فإن البعيد هو ما ليس بمألوف والمحال ما ل‬
‫يتصور كونه‪ ،‬وأما معنى قول ا تعالى‪) :‬ل يسأل عما يفعل وهم يسألون( ]النبياء‪ .[23 :‬وقوله تعالى‪) :‬لم حشرتني أعمى وقد‬
‫كنت بصيلرا( ]طه‪ .[125 :‬فالسؤال قد يطلق ويراد به اللزام يقال‪ :‬ناظر فلن فللنا ويتوجه عليه سؤاله وقد يطلق ويراد به‬
‫الستخبار كما يسأل التلميذ أستاذه‪ ،‬وا تعالى ل يتوجه عليه السؤال بمعنى اللزام وهو المعني بقوله‪) :‬ل يسأل عما يفعل(‪ .‬إذ ل‬
‫يقال له‪ :‬لم قول إلزام فأما أن ل يستخبر ول يستفهم فليس كذلك وهو المراد بقوله‪) :‬لم حشرتني أعمى(‪ .‬وهذا القدر كاف في‬
‫جواب هذه السئالة‪ ،‬ومن ترق عن محل‬
‫ص ‪366‬‬
‫التقليد بأدنى كياسة ولم ينته إلى رتبة الستقلل كان من الهالكين‪ ،‬فنعوذ بال من كياسة ل تنفع فإن الجهالة أدنى إلى الخلص‬
‫والنجاة منها‪ ،‬شعر‪:‬‬
‫ل‬
‫ولم أر في عيوب الناس شيئاا كنقص القادرين على التمام‬
‫فصل‬
‫إذا عرفت أنك حادث‪ ،‬وأن الحادث ل يستغني عن محدث فقد حصل لك البرهان على اليمان بال‪ ،‬وما أقرب إلى العقل من هاتين‬
‫المعرفتين‪ .‬أعني أنك حادث وأن الحادث ل يحدث بنفسه‪ ،‬وإذا عرفت نفسك وأنك جوهر خاصيتك معرفة ا ومعرفة ما ليس‬
‫بمحسوس وليس البدن من قوام ذاتك‪ ،‬فانهدام البدن ل يعدمك فقد عرفت اليوم الخر بالبرهان فإنه ل معنى له إل أن لك يومين يوم‬
‫حاضر أنت فيه مشغول بهذا البدن‪ ،‬ويوم آخر أنت فيه مفارق لهذا الجسد‪ ،‬وإذا لم يكن قوامك بالجسد وقد فارقته بالموت فقد حصل‬
‫اليوم الخر‪ ،‬وإذا عرفت أنك إذا فارقت المحسوسات بمفارقة الجسد تلقيت إما نعمة هي معرفة ا تعالى التي هي خاصية ذاتك‬
‫ومنتهى لذاتك بمقتضى طبعك الصلي لو لم تمرض بالميل إلى الشهوات‪ ،‬وإما عذالبا بالحجاب عن ا تعالى‪) :‬وحيل بينهم وبين‬
‫ما يشتهون( ]سبأ‪ .[54 :‬وعرفت أن سبب المعرفة الذكر والفكر والعراض عن غير ا تعالى‪ ،‬وسبب المرض المانع عن ذكر‬
‫ا معرفته القبال على الشهوات والحرص على الدنيا‪ ،‬وعرفت أن ا تعالى قادر على أن يعرف عموم عباده ذلك بواسطة‬
‫الكشف لبعض خواص عباده‪ ،‬وعرفت أنه قد فعل ذلك فقد عرفت رسله بالبرهان وآمنت‪ ،‬وإذا عرفت أن هذه التعريفات بالنبياء‬
‫إنما تكون في كسوة ألفاظ وعبارات توحى إليهم وتلقى في سمعهم إما في يقظة أو في منام‪ ،‬فقد آمنت بالكتب‪ ،‬وإذا عرفت أن أفعال‬
‫ا تعالى منقسمة إلى ما فعله بواسطة وإلى ما فعله بغير واسطة وأن وسائاطه مختلفة المراتب فالوسائاط القريبة هم المقربون‬
‫وعنهم يعبر بالملئاكة‪ ،‬لكن معرفة هذا بطريق البرهان عسير والقول فيه طويل فصدق الرسل في أخبارهم عنهم بعد أن عرفت‬
‫صدق الرسل بالبرهان‪ ،‬واكتف بذلك فإنه درجة من درجات اليمان )يرفع ا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات(‬
‫]المجادلة‪.[11 :‬‬
‫فصل‬
‫كل ما يتوالد فل يستحيل أن يتولد أصلل‪ ،‬وما يتولد ل يستحيل أن يتوالد فقوله تعالى‪) :‬إنا خلقنا النسان من نطفة( ]الدهر‪ .[2 :‬إنما‬
‫عنى به النسان التوالديِ‪ ،‬وقوله‪) :‬خلقناكم من تراب( ]الحج‪ .[5 :‬عنى به النسان التوالديِ‪ ،‬وقد تتولد العقارب‬
‫ص ‪367‬‬
‫من الباذورج ولباب الخبز والحيات من العسل والنحل من العجل والمنخنق المنكسر عظامه والبق من الخل وسام أبرص من‬
‫القرنبيط والخنافس من البعرة ومن نوى النبق العقرب الجراوة ومن الشعر الحيات ومن الطين والمدر الفأر ومن طين أصول‬
‫القصب الدائام والرطوبة الطير ول سيما طير الماء وأمثال ذلك‪ .‬كما ذكر في كتب الطلسمات وغيرها‪ ،‬ثم يتوالد هذا المتولد ويبقى‬
‫نوعه بالتوالد وانطباق دائارة معدل النهار على فلك البروج مما يدل على خراب العالم السفلي وتغييره للفصول‪ .‬أعني الربيع‬
‫والصيف والخريف والشتاء فل يبقى الحرث والنسل كما قال تعالى‪) :‬كل من عليها فان( ]الرحمن‪ .[36 :‬يعني على الرض‪،‬‬
‫فخلق ا تعالى آدم من تراب ثم حصل منه التوالد ونظير ذلك مشاهد‪ ،‬وكذا الصنائاع والحرف تحصل من طريق اللهام ثم تستفاد‬
‫وتتعلم‪ ،‬وتحصل النار من المقدحة والزند ثم تقتبس بعد حصولها‪) :‬ذلك تقدير العزيز العليم( ]يس‪ .[38 :‬الذيِ خلق عند انفراج‬
‫الدائارتين معدل النهار وفلك البروج الذيِ يتزايد‪ ،‬الميل الذيِ خلق بينهما آدم من تراب ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين‪ ،‬ثم‬
‫سواه ونفخ فيه من روحه‪ ،‬فمن شك في كيفية بدء الخلق ووضع الصانع الحكيم في التوالد والتولد‪ ،‬فلينظر إلى المحسوسات التي‬
‫ذكرناها‪ ،‬وأما النشأة الخرى وكيفية عود النفوس والرواح إلى أشباحها فمذكورة في بابها‪.‬‬
‫فصل في المبدعات‬
‫المبدعات والمخلوقات أحدثها ا تعالى بالترتيب‪ ،‬فهو الول الذيِ ل أول قبله ومنه تحصل المبدعات بل الممكنات بأسرها‪ ،‬ثم‬
‫ينزل الترتيب من الشرف فالشرف حتى ينتهي إلى المادة التي هي أخس الشياء‪ ،‬ثم ابتدأ تعالى من الخس عائالدا إلى الشرف‬
‫حتى انتهى إلى النسان ويعود النسان عند زكاء نفسه إلى حيث قال‪) :‬ارجعي إلى ربك راضية مرضية( ]الفجر‪ .[28 :‬ولذلك‬
‫قال‪) :‬هو الول والخر والظاهر والباطن( ]الحديد‪ .[3 :‬أما الظاهر فمركوز في غرائاز العقول أن للكل مبدأ وأن للحادث محدلثا‬
‫وللمكن موجولدا واجلبا‪ ،‬أما الباطن فلن وصفه الخاص ل يعرفه إل هو وربما كان باطلنا لغاية ظهوره‪ ،‬كما أن الشمس التي هي‬
‫في غاية البعد عن هذا المثال ظاهر وباهر وبسبب غاية ظهورها ل تدركها الحاسة المبصرة محاذاة ومقابلة‪.‬‬
‫والميزان‪ :‬ما يعرف به حقائاق الشياء ويميز به صحيح العقيدة من الفاسد وهو الواسطة بين السماء والرض حيث قال‪) :‬والسماء‬
‫رفعها ووضع الميزان * أل تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ول تخسروا الميزان * والرض وضعها للنام(‬
‫]الرحمن‪ .[10-7 :‬وذلك الميزان سر من أسرار الربوبية ل يعرفه إل الراسخون في العلم‪ ،‬وا أعلم‪.‬‬
‫ص ‪368‬‬
‫الركن الثاني في معرفة الملئاكة‬
‫الملئاكة والجن والشياطين جواهر قائامة بأنفسها مختلفة بالحقائاق اختللفا يكون بين النواع‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬القدرة فإنها مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفا اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائامة بغيرها‪ ،‬فكذلك‬
‫بين الملك والشيطان والجن اختلف ومع ذلك‪ ،‬فكل واحد جوهر قائام بنفسه وقد وقع الختلف بين الجن والملك فل يدريِ أهو‬
‫اختلف بين النوعين كالختلف بين الفرس والنسان‪ ،‬أو الختلف في العراض كالختلف بين النسان الناقس والكامل‪ ،‬وكذا‬
‫الختلف بين الملك والشيطان‪ ،‬وهو أن يكون النوع واحلدا والختلف واقلعا في العوارض‪ ،‬كالختلف بين الخير والشرير‪،‬‬
‫والختلف بين النبي والولي‪ ،‬والظاهر أن اختلفهم بالنوع والعلم عند ا تعالى‪ ،‬وهذه الجواهر المذكورة ل تنقسم‪ ،‬أعني أن محل‬
‫العلم بال تعالى واحد ل ينقسم‪ ،‬فإن العلم الواحد ل يحل إل في محل واحد وحقيقة النسان كذلك‪ ،‬فالعلم والجهل بشيء واحد في‬
‫محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين‪ ،‬وإما أن هذا الجواهر غير منقسم وهل هو متحيز أم ل؟ فهذا الكلم عائاد إلى‬
‫معرفة الجزء الذيِ ل يتجزأ‪ ،‬فإن استحال الجزء الذيِ ل يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ول متحيز‪ ،‬وإن لم يستحل الجزء الذيِ ل‬
‫يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيلزا وقد قال قوم‪ :‬ل يجوز أن يكون غير منقسم ول متحيز‪ ،‬فإن ا تعالى غير منقسم ول‬
‫متحيز فما الذيِ يفصل هذا من ذلك‪ ،‬وهذا غير مبرهن عليه لن ربما تباينا في حقيقة الذات‪ ،‬وإن سلب عنهما النقسام والتحيز‬
‫والمور المكانية وتلك سلوب والعتبار بالحقائاق لن ما سلب عن الحقائاق المختلفين بالحد والحقيقة أن الحالين في محل واحد‪ ،‬فإن‬
‫إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل ل يفيد تماثلهما‪ ،‬فكذلك سلب الحتياج إلى المحل والمكان ل يفيد اشتراك الشيئاين‪،‬‬
‫ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر‪ .‬أعني جواهر الملئاكة وإن كانت غير محسوسة‪ ،‬وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل‬
‫التمثيل كقوله تعالى‪) :‬فتمثل لها بشلرا سوليا( ]مريم‪ .[17 :‬وكما كان النبي عليه الصلة والسلم يرى جبريل في صورة دحية‬
‫الكلبي‪ .‬القسم الثاني أن يكون لبعض الملئاكة بدن محسوس‪ ،‬كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها‬
‫وعالمها الخاص بها‪ ،‬فكذلك بعض الملئاكة‪ ،‬وربما كان هذا البدن المحسوس موقولفا على إشراف نور النبوة كما أن محسوسات‬
‫عالمنا هذا موقوف عند الدراك على إشراق نور الشمس‪ ،‬وكذا في الجن والشياطين‪.‬‬
‫ص ‪369‬‬
‫فصل في وقوع مزاج قريب من مزاج آخر‬
‫وقوع مزاج من مزاج غير مستحيل‪ ،‬فنسبة نفس مزاج واحد هو قريب إلى مزاج آخر إلى نفس ذلك المزاج نسبة مقارنة‪ ،‬فإن كان‬
‫لنسان مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات صاحب ذلك المزاج وحدث بعده مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات صاحب ذلك‬
‫المزاج وحدث بعده مزاج آخر قريب منه‪ ،‬وذلك عند الدوار والتشكلت الفلكية مثال ذلك حدث مزاج وتشكل الفلك على هيئاة‬
‫مخصوصة‪ ،‬ثم عادت تلك التشكلت بأسرها عولدا يمكن لها وإن لم يكن بالنسبة المخصوصة‪ ،‬إلى مبدأ واحد‪ ،‬فحدث مزاج آخر‬
‫استحق المزاج الحادث نفلسا أخرى لتلك النفس مع النفس المفارقة التي كانت للمزاج المناسب له مناسبة لها‪ ،‬فل تتعلق النفس‬
‫المفارقة بهذا المزاج تعللقا كلليا لستحالة تصرف النفسين في بدن واحد‪ ،‬فتتعلق بذلك المزاج تعللقا دون تعلق تلك النفس الحادثة‬
‫معه‪ ،‬فتزداد خيلرا إن كانت خيرة وشلرا إن كانت شريرة‪ ،‬ولذلك يقال لكل إنسان جني يشاكله ويعاونه أو شيطان يغويه ويضله‪،‬‬
‫وإن حدث مزاجان في زمان واحد في بدنين أو في مكانين وحدثت لهما نفسان كانتا تربين ففي البدان تربان وفي النفوس تربان‪،‬‬
‫وكل من تكون مناسبة الرواح المفارقة إلى روحه أكثر حدث به من تلك التصالت أنواع من الخلق‪ ،‬فيكون عرالفا كاهلنا أو‬
‫صاحب تنجيم أو غير ذلك‪ ،‬وربما كانت القوة الوهمية بعد المفارقة بحيث يصير لها العالم المحسوس بدلنا ول تتعداه إلى العالم‬
‫العلى‪ ،‬فتطالع السباب الجزئاية في هذا العالم فتستفيد النفس البدنية المتصلة بها معرفة ما والشرير منها في غاية الشر‪ ،‬لنها‬
‫خرجت عن المادة‪ ،‬فالشرير شيطان والخير من الطبقة الناقصة جن والجن والشياطين علئاق يتمسك بها البشر وأفعال روحانية‬
‫هي مولدات لفعال طبيعية‪ ،‬والخلص عن المادة دليل كمال القوة سواء كانت تلك القوة رداءة أو قوة خير‪ ،‬وأما القاعدة عن اليمين‬
‫والشمال فقالوا فيهما ما قالوا‪ ،‬والحق أن هذا سر إنما يعرفه النبياء والمرسلون عليهم السلم‪ ،‬وملئاكة السموات المدبرون‬
‫المتصرفون في أجرام السموات ل يعلم أعداد تلك الجرام إل ا تعالى‪ ،‬كما قال ا تعالى‪) :‬وما يعلم جنود ربك إل هو( ]المدثر‪:‬‬
‫‪ .[31‬وملك الموت هو الملك الذيِ يأمره ا تعالى بقبض الرواح متضملنا تفريق المزاج الذيِ استحق قبول تلك النفس مثاله مثال‬
‫مطفئ السراج بالنفخ‪ ،‬والنفخ نفخان‪ :‬نفخ يوقد كما قال تعالى‪) :‬فنفخنا فيها من روحنا( ]النبياء‪ .[91 :‬ونفخ يطفئ كما قال تعالى‪:‬‬
‫)ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الرض( ]الزمر‪ .[68 :‬وقال تعالى‪) :‬ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون(‬
‫]الزمر‪.[68 :‬‬
‫بداية صفحة ‪370‬‬
‫الركن الثالث فى المعجزات وأحوال النبياء عليهم السلم‬
‫تسبيح الحصى‪ ،‬وقلب العصا حية تسعى‪ ،‬وكلم البهائام‪ ،‬وكلم الشاة التى قالت للنبى عليه الصلة والسلم حين سمتها اليهودية ل‬
‫تأكل منى فإنى مسمومة‪ ،‬وأمثال ذلك على ثلثة أقسام‪ :‬القسم الول الحسى‪ ،‬والثانى الخيالى‪ ،‬والثالث العقلى‪.‬‬
‫القسم الول‪ :‬الحسى‪ ،‬وهو أن يخلق ا العلم والحياة والقدرة فى الحصى حتى يتكلم‪ .‬وفى البهيمة العقل والقدرة والنطق وذلك ليس‬
‫بمحال فإن ا تعالى قادر على أن يخلق فى الباذروج حياة وقدرة وسليما‪ ،‬ويخلق منه عقربلا‪ ،‬ويخلق من نوى النبق كذلك‪ .‬ويخلق‬
‫من لحوم البقر النحل‪ ،‬ومن النطفة النسان وسائار الحيوانات من موادها‪ ،‬فهو قادر على أن يخلق بإعجاز نفس نبوية فى الحصاة‬
‫حياة وقدرة‪ ،‬ومن ششاهد خلق الحية النضناضة من شعر امرأة ويحس ول يتعجب من قلب الشعر حية‪ ،‬فكيف يتعجب من قلب‬
‫العصا حية‪ ،‬والخشب كان ذا نفس نامية نباتية‪ ،‬والشعر لم يكن قط ذا نفس‪ ،‬والجسام متماثلة فكما جاز ذلك فى أجسام الناس جاز‬
‫ذلك فى سائار الجسام‪ ،‬وأن كان الجسم النسانى بسبب اعتدال المزاج قابلل لهذه الشياء‪ ،‬فكل جسم مستعد لقبول المزاج المعتدل‪.‬‬
‫وإن كان العتدال موقوفا ل على الحرارة والرطوبة‪ ،‬فليس يمتنع أن يكون كل جسم قابلل للحرارة والرطوبة ويكون دعاء النبى‬
‫وهمته يؤثران فى كينونة هذه الشياء من غير مهلة ومدة‪ ،‬وإن جرت العادة أن يخلق ا تعالى مثل هذه الشياء فى مدة وبذلك‬
‫يظهر شرف النبياء وخرق العادة ليس بمحال مثال ذلك‪ :‬الشمس والنار‪ ،‬فإن ما يحصل من تأثير الشمس فى المائاعات وغيرها‬
‫إنما يحصل بمدة على سبيل التدريج‪ ،‬وما يحصل من إسخان النار يكون دفعة فلم استحال أن يكون تأثير مراد النبياء على وجه‬
‫تكون نسبة إسخان النار إلى إسخان الشمس‪.‬‬
‫القسم الثانى‪ :‬العقلى وهو قول ا تعالى‪ } :‬دو هإن رَمن دشليءء إهلا ايدسرَباح هبدحلمهدهه{ ]السراء‪ .[44 :‬وهو شهادة كل مخلوق ومحدث على‬
‫خالقه وموجود كشهادة البناء على البانى والكتابة على الكاتب‪ ،‬ويقال لذلك لسان الحال والمتكلمون يقولون هذه دللة الدليل على‬
‫المدلول‪ ،‬والحمقى من الناس ل يعرفون هذه الرتبة ول يقرون بها‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬الخيالى‪ ،‬أن لسان الحال يصير مشاهدال محسوسا ل على سبيل التمثيل‪ .‬وهذه خاصية النبياء والرسل عليهم الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬كما أن لسان الحال يتمثل فى المنام لغير النبياء ويسمعون صوتا ل وكلما ل كما يرى فى منامه‪ ،‬أن جملل يكلمه أو فرسا ل‬
‫يخاطبه أو ميتا ل يعطيه شيئاا ل أو يأخذ بيده أو يسلب منه شيئاا ل أو تصير أصبعه شمسا ل أو قمرال أو يصير ظفره أسدال أو غير ذلك مما‬
‫يراه النائام فى منامه‪ ،‬فالنبياء عليهم الصلة والسلم يرون ذلك‬
‫بداية صفحة ‪371‬‬
‫فى اليقظة وتخاطبهم هذه الشياء فى اليقظة‪ ،‬فإن المتيقظ ل يميز بين أن يكون ذلك نطقا ل خياللييا أو نطقا ل حسلييا من خارج‪ ،‬والنائام‬
‫إنما يعرف ذلك بسبب انتباهه والتفرقة بين النوم واليقظة‪ ،‬ومن كانت له ولية تامة تفيض تلك الولية أشعتها على خيالت‬
‫الحاضرين حتى أنهم يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه‪ ،‬والتمثيل الخيالى أشهر هذه القسام واليمان بهذه القسام كلها وأجمعها‬
‫واجب‪.‬‬
‫فصل فى الشفاعة‬
‫وأما شفاعة النبياء عليهم الصلة والسلم والولياء‪ ،‬فالشفاعة عبارة عن نور يشرق من الحضرة اللهية على جوهر النبوة ينشر‬
‫منها إلى كل جوهر استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن وكثرة الذكر بالصلة عليه صلى‬
‫ا عليه وسلم ومثاله نور الشمس إذا وقع على الماء فإنه ينعكس منه إلى موضع مخصوص من الحائاط ل إلى جميع المواضع‪،‬‬
‫إنما اختص ذلك الموضع لمناسبة بينه وبين الماء فى الموضع وتلك المناسبة مسلوبة على سائار أجزاء الحائاط‪ ،‬وذلك الموضع هو‬
‫الذى إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية إلى الرض مساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من‬
‫الماء إلى قرص الشمس بحيث ل يكون أوسع منه ول أضيق‪ .‬مثال ذلك لئاح وهذا ل يمكن إل فى موضع مخصوص من الجدار‪،‬‬
‫فكما إن المناسبات الوضعية تقتضى الختصاص بانعكاس النور فالمناسبات المعنوية العقلية أيضا ل تقتضى ذلك فى الجواهر‬
‫المعنوية‪ ،‬ومن استوى عليه التوحيد فقد تأكدت مناسبته مع الحضرة اللهية فأشرف عليه النور من غير واسطة‪ ،‬ومن استولت‬
‫عليه السنن والقتداء بالرسول ومحبة اتباعه ولم ترسخ قدمه فى ملحظة الوحدانية لم تستحكم مناسبته إل مع الواسطة‪ ،‬فافتقر إلى‬
‫واسطة الماء المكشوف للشمس إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة فى الدنيا‪ ،‬فالوزير الممكن فى قلب المخصوص بالعناية قد‬
‫يغضى الملك عن هفوات أصحاب الوزير يعفو عنهم ل لمناسبة بين الملك وأصحاب الوزير‪ ،‬لكن لنهم يناسبون الوزير المناسب‬
‫ل‪ ،‬لن الملك ل يعرف‬ ‫للملك‪ ،‬ففاضت العناية عليهم بواسطة الوزير ل بأنفسهم‪ ،‬ولو ارتفعت الواسطة لم تشملهم العناية أص ل‬
‫أصحاب الوزير واختصاصهم به إل بتعريف الوزير وإظهار الرغبة فى العفو عنهم فيسمى لفظه فى التعريف إظهار شفاعة على‬
‫سبيل المجاز‪ ،‬وإنما الشفيع مكانته عند الملك وإنما اللفظ لظهار الغرض وا مستغن عن التعريف‪ ،‬ولو عرف الملك حقيقة‬
‫اختصاصه بالوزير لستعنى عن اللفظ وحصل العفو بشفاعة ل نطق فيها ول كلم‪ ،‬وا تعالى عالم به‪ ،‬فلو أذن للنبياء عليهم‬
‫الصلة والسلم فى التلفظ بما هو معلوم عند ا تعالى لكانت‬
‫بداية صفحة ‪372‬‬
‫ألفاظهم ألفاظ الشفعاء‪ ،‬وإذا أراد ا تعالى أن يمثل حقيقة الشفاعة بمثال يدخل فى الحس والخيايل لم يكن ذلك التمثيل إل بألفاظ‬
‫مألوفة بالشفاعة ويدل على ذلك انعكاس النور بطريق المناسبة‪ ،‬وإن جميع ما ورد فى الخبار عن استحقاق الشفاعة متعلق بما‬
‫يتعلق بالرسول عليه الصلة والسلم من صلة عليه أو زيارة لقبره أو جواب المؤذن والدعاء له عقيبه وغير ذلك مما يحكم علقة‬
‫المودة والمحبة والمناسبة معه‪.‬‬
‫الركن الرابع فى أحوال ما بعد الموت‬
‫فصل فى عذاب القبر‬
‫فى عذاب القبر‪ ،‬النفس إذا فرقت البدن حملت القوة الوهمية معها كما ذكرناها‪ ،‬وتتجرد عن البدن منزهة ليس يصحبها شئ من‬
‫الهيئاات البدنية‪ ،‬وهى عند الموت عالمة بمفارقتها عن البدن وعن دار الدنيا متوهمة نفسها النسان المقبور الذى مات‪ ،‬وعلى‬
‫صورته كما كان فى الدنيا يتخيل ويتوهم وتتخيل بدنها مقبورال ويتخيل اللم الواصلة إليها على سبيل العقوبات الحية على‬
‫ماوردت به الشرائاع الصادقة‪ ،‬فهذا عذاب القبر‪ ،‬وإن كانت سعيدة تتخيله على صورة ملئامة على وفق ما كانت تعتقده من الجنات‬
‫والنهار والحدائاق والغلمان والولدان والحور العين والكأس من المعين‪ ،‬فهذا ثواب القبر فلذلك قال النبى عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫"القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران "‪ .‬فالقبر الحقيقى هذه الهيئاات‪ ،‬وعذاب القبر وثوابه ما ذكرناهما‪،‬‬
‫والنشأة الخرى خروج النفس عن غبار هذه الهيئاات كما يخرج الجنين من القرار المكين‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬قالل ايلحهييدها الاهذى دأندشأ ددها‬
‫ضهر دنارال دفإهدذا دأناتم رَملناه اتوهقادودن { ]يس‬ ‫أداودل دمارءة دواهدو هباكرَل دخللءق دعهليسم { ] يس‪ . [ 79 :‬وقوله تعالى‪ } :‬الاهذى دجدعدل لداكم رَمدن الاشدجهر الدلخ د‬
‫‪ .[ 80 :‬دليل ظاهر ومثال برَين لهذه النشأة‪.‬‬
‫فصل‬
‫ت هقديادماتاه "‪ ،‬الفاء هنا للتعقيب يعنى قامت قيامة الميت عند موته‪ .‬مثال ذلك‪ :‬من‬ ‫ت دفدقلد دقادم ل‬
‫قول النبى صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬دملن ما د‬
‫سرق نصابا ل كاملل من حرز‪ ،‬فقد استحق قطع يده‪ ،‬وهذا عقاب ل يتأخر عن هذا الفعل‪ .‬وقال تعالى أيضا ل‪ } :‬ودمن ايدولرَههلم ديلودمهئاءذ ادابدرها‬
‫ا { ] النفال‪ .[ 16 :‬والقيامة الكبرى ميعاد عند‬ ‫ب رَمدن ه‬‫ض ء‬ ‫إهلا امدتدحرَرلفا لرَهقدتاءل أدلو امدتدحرَيلزا إهدلى هفدئاءة دفدقلد دبادء هبدغ د‬
‫بداية صفحة ‪373‬‬
‫تشابه فلكل واحد منها خواص ببعض أنواع الوجود يعتبر ذلك فى أوقات الحرث والنسل وغيرهما‪ ،‬وعند المتكلمين يرجع ذلك إلى‬
‫مشيئاة ا تعالى‪ ،‬فإنه تعالى يخصص وقتا ل يوجد فيه موجودال بإرادته ومشيئاته مع أن الوقات متشابهة بالضافة إلى القدرة وإلى‬
‫ذات القديم سبحانه وتعالى‪ ،‬والفلسفة يقولون‪ :‬إن مبادئ الحوادث حركات الفلك‪ ،‬وإن أدوارها مختلفة‪ ،‬وكل شكل من تشكلت‬
‫مباين غيره من التشكلت مقرر ذلك فى براهين إقليدس‪ ،‬إذ كل تشكل وكل عودة من تلك التشكلت ل تعود بعينها‪ ،‬وبذلك يبطلون‬
‫دعوى المنجمين فى التجربة لكل عودة وتشكل من تشكلت الفلك‪ ،‬فيجوز أن يتجدد دور مباين لسائار الدوار تحدث فيه الحيوانات‬
‫غريبة الشكل لم ير مثلها قبلها قط‪ ،‬وإذا ألقينا حجرال فى الماء يحدث فيه شكل مستدير تكون استدارة هذا الشكل مناسبة لعمقه وكلما‬
‫ازداد عمقه ازدادت تلك الدائارة‪ ،‬فإذا ألقينا حجرال آخر قبل تمام هذه الدائار لم يلزم أن تكون حركة الماء فى النوبة الثانية كحركته‬
‫فى النوبة الولى‪ ،‬لن الماء فى الولى ساكن وفى الخرى متحرك‪ ،‬فإن تشكيل الحجر للمتحرك خلف تشكيله للساكن‪ ،‬فتختلف‬
‫الشكال مع تساوى السباب لمتزاج أثر السابق باللحق‪ .‬وهب أن تشكلل للمتحرك وافق شكلل آخر فكيف يكون مقومات الثوابت‬
‫والوجات وسائار الجواهر على مثل ما كان عليه فى التشكيل الول‪ ،‬فل يستحيل أن يكون فى التقدير الزلى للدوار دور يخالف‬
‫هذه الدوار يقتى نمطا ل من نظام الوجود والبداع على خلف النمط المعهود‪ ،‬ول يستحيل أن يكون ذلك النمط بديعا ل لم يسبق له‬
‫نظير‪ ،‬ول أن يكون حكمه باقيا ل ل يلحقه مثل الدور السابق المنسوخ‪ .‬فيبقى النمط الحاصل من البداع مستمرال فى جنسه‪ ،‬وإن‬
‫كانت تتبدل أحواله فيكون ميعاد القيامة الكبرى حصول ذلك التشكيل الغريب من السباب العالمية‪ ،‬فيكون سببا ل كليا لي جامعا ل لجميع‬
‫الرواح‪ ،‬فيعم حكمها كافة الرواح فتكون قيامة عامة مخصوصة بوقت ل تتسع القوة البشرية لمعرفتها‪ .‬أعنى لمعرفة وقتها ول‬
‫النبياء المرسلون عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فإن النبياء أيضا ل يكشف لهم ما يكشف بقدر احتمالهم وقبولهم‪ ،‬فإذا لم يقم برهان كلمى‬
‫ول فلسفى على استحالته وجب التصديق به إذا ورد الشرع به تشريحا ل ل يتطرق إليه الحتمال والتأويل‪ ،‬وقد صرح الشرع به‬
‫تصريحا ل ضرورلييا يجب اليمان به ول يمكن تأويله‪ ،‬وكما جاز أن يحدث دور بشكل يحدث بسببه أنواع الحيوانات لم يعهد مثلها‪،‬‬
‫فكذلك يجب أن يحدث زمان يحشر فيه الموتى وتجمع أجزاؤهم وتعود إلى أشباحهم أرواحهم‪ ،‬فكما أن الجاهل يتأمل فصل الشتاء‬
‫ويتعجب إن يحصل فيه نبات وثمال إذا ورد فصل الربيع عاين ذلك وبين زمانى الفصلين بعد فى هذه الدار‪ ،‬فكذلك بين زمان‬
‫النشأة الولى التى تحصل للنسان بالتناسل‪ ،‬وزمان النشأة الخرى التى تحصل للنسان بالحياء والعادة بعيد ل يقاس أحدهما‬
‫على الثانى‪.‬‬
‫بداية صفحة ‪374‬‬
‫فصل فى إعادة النفس إلى البدن‬
‫عودة النفس إلى البدن بعدمفارقتها عنه فى القيامة أمر ممكن غير مستحيل‪ ،‬ول ينبغى أن يتعجب منه‪ ،‬بل التعجب من تعلق النفس‬
‫بالبدن فى أول المر أظهر من تعجب عودها إليه بعد المفارقة‪ ،‬وتأثير النفس فى البدن تأثير فعل وتسخير‪ .‬ول برهان على‬
‫استحالة عود هذا و؟؟؟ هذا البدن مستعدال مرلة اأخرى لقبول تأثيره وتسخيره‪ .‬بقى ههنا تعجب من ضعفاء العقول‪ ،‬وهو أن ذلك‬
‫الستعداد النسانى يحصل قليلل قليلل بالتدريج من نطفة فى قرار مكين ثم من عهلقة إلى تمام الخلقة‪ ،‬وإذا لم يكن كذلك ل يقبل‬
‫استعداد قبول التسخير ودفع هذا التعجب‪ .‬إنا قد بينا أن ما هو ممكن بالتدريج إنما هو التوالد‪ ،‬وأما التولد فل يكون بالتدرج بل‬
‫حدوثه ممكن دفعة واحدة‪ .‬أل ترى أن الفأر الذى يتوالد يكون بالتدريج وباجتماع الذكر والنثى وبعد حمل وسفاد‪ ،‬وأن التولدى منه‬
‫يكون دفعة فإنه لم يوجد قط مدر ول تراب بعضه فأر وبعضه بالقوة قريب إلى حجم الفأر‪ ،‬وكذلك الذباب الذى يتولد فى الصيف‬
‫من العفونات يكون دفعة ولم توجد عفونة تغيرت عن حالها وصارت بالقوة قريبة إلى أن تستحيل ذبابا ل من غير مهلة وتدرج‪،‬‬
‫والنشأة الثانية تولدية من تلك الجزاء التى كانت فى الصل وإن تفرقت وانخلعت صورها فيرد ا تعالى واهب الصور تلك‬
‫الصور إلى موادها ويحصل المزاج الخاص مرة اأخرى‪ ،‬ولها نفس حدثت عند حدوث ذلك المزاج ابتدالء فتعود بالتسخير‬
‫والتصرف إليها مع العلقة التى بينهما‪ ،‬مثال ذلك راكب سفينة قد غرقت وتفرقت أجزاؤها‪ ،‬وانتقل الراكب بالسباحة إلى جزيرة‪،‬‬
‫ثم ترد تلك الجزاء بعينها إلى الهيئاة الولى وتوطد وتؤكد عاد إليها راكب السفينة وأجراها وتصرف فيها كما شاء‪ ،‬ول يجب إن‬
‫يستحق هذا الحشر وجميع الجزاء والمزاج المجدد نفسا ل اأخرى‪ ،‬فإن حدوث المزاج يستحق حدوث نفس له‪ ،‬أما أعود المزاج إلى‬
‫الحالة الولى فل يستحق إل عود النفس إلى الحالة الولى‪ ،‬وأما ظن أن الجزاء الرضية ل تفى بذلك فظن ووهم ل اعتبار بهما‪،‬‬
‫فمن قاس النسان والجزاء الرضية التى فيها بأجزاء الرض‪ ،‬وأى مهندس استخرج بالمساحة ذلك الحد‪ ،‬وأما الختلف الراجع‬
‫إلى ذلك فى الكتب اللهية فى التوراة‪ :‬إن أهل الجنة يمكثون فى النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملئاكة‪ ،‬وإن أهل النار‬
‫كذا أو أزيد ثم يصيرون شياطين‪ ،‬وفى النجيل‪ :‬أن الناس يحشرون ملئاكة ل يطعمون ول ينامون ول يشربون ول يتوالدون‪،‬‬
‫وفى القرآن‪ :‬أن الناس يحشرون كما خلقهم ا تعالى أول مرة كما قال تعالى‪ } :‬دفدسدياقوالودن دمن ايهعيادنا قاهل الاهذى دفدطدراكلم أداودل دمارءة {‬
‫ف اتلحهيى اللدملودتى { ] البقرة‪ .[260 :‬وقول‬ ‫ب أدهرهنى دكلي د‬
‫]افسراء‪ .[ 51 :‬وسؤال إبراهيم عليه الصلة والسلم عن ا تعالى‪ } :‬در رَ‬
‫عزير صلى ا عليه وسلم حكاية منه‪ } :‬أدانى ايلحهيى دههذهه ا‬
‫بداية صفحة ‪375‬‬
‫د‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫ك دبدعثنااهلم لهديتدسادءلوا دبليناهلم{‬ ‫دبلعدد دملوهتدها دفأ ددمادتاه اا همائاة دعاءم ثام دبدعثاه { ]البقرة‪ .[259 :‬ومكث أصحاب الكهف وهو قوله تعالى‪} :‬دوكذله د‬
‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ا دحكق{ ]الكهف‪ .[21 ،19 :‬دلئال على أن هذه النشأة كائانة ممكنة يجب اليمان بها‪ ،‬وكان فى‬ ‫إلى قوله تعالى‪ } :‬لهديلعدلاموا أدان دولعدد ه‬
‫قديم الدهر فيها اختلف الناس والنبياء عليهم السلم يثبتون تلك بالبراهين والمثلة المحسوسة ‪ ،‬والتعجب من النشأة الولى أكثر‬
‫من الخرى إل أن النشأة الولى محسوسة مشاهدة معتادة فسقط التعجب‪ ،‬فإنا لو سمعنا أن إنسانا ل حرك نفسه فوق امرأة كما يحرك‬
‫الممخض وخرج من أجزائاه شئ مثل زبد سيال فيخفى ذلك الشئ فى بعض أعضاء المرأة ويبقى مدة على هذه الحالة ثم يصير‬
‫علقة‪ ،‬ثم العلقة تصير مضغة‪ ،‬ثم المضغة تصير عظاملا‪ ،‬ثم تكسى العظام لحملا‪ ،‬ثم يحصل فيه الحركة‪ ،‬ثم يخرج من موضع لم‬
‫يعهد خروج شئ منه على حالة ل يهلك أمه ول يشق عليها فى ولدته‪ ،‬ثم يفتح عينيه ويحصل فى ثدى الم شئ مثل شراب مائاع لم‬
‫يكن قبل ذلك فيها ويتغذى به الطفل إلى أن يصير هذا الطفل بالتدريج صاحب صناعات واستنباطات‪ ،‬بل ربما هذا الشئ الذى‬
‫أصله نطفة وهو عند الولدة أضعف خلق ا يصير عن قريب ملكا ل جبارال قهارال يملك أكثر العالم ويتصرف فيه‪ ،‬فإن التعجب من‬
‫ذلك أكثر وأوفر من التعجب من النشأة الخرى‪ ،‬والصل أن كل شئ لم يشاهده النسان ولم يعرف سببه يحصل له منه التعجب‪،‬‬
‫والتعجب هيئاة تحصل للنسان عند مشاهدة شئ لم يشاهده قبل ذلك أو ساع شئ لم يعرف سببه ولم يسمعه قبل ذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫ك{ ]ق‪[22 :‬‬ ‫د‬
‫ك هغطادء د‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬
‫تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائاق المور‪ ،‬وبالموت ينكشف الغطاء كما قال ا تعالى ‪} :‬فكشفنا دعن د‬
‫‪ .‬ومما ينكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى ا تعالى ويبعده وهى مقادير تلك الثار‪ ،‬وأن بعضها أشد تأثيرال من البعض‪ ،‬ول‬
‫يمتنع فى قدرة ا تعالى إن يجرى سببا ل يعرف الخلق فى لحظة واحدة مقادير العمال بالضافة إلى تأثيراتها فى التقريب‬
‫والبعاد‪ ،‬فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ومثاله فى العالم المحسوس مختلف‪ ،‬فمنه الميزان المعروف‪ ،‬ومنه القبان‬
‫للثقال‪ ،‬والسطرلب لحركات الفلك‪ ،‬والوقات والمسطرة للمقادير‪ ،‬والخطوط والعروض لمقادير حركات الصوات‪ ،‬فالميزان‬
‫الحقيقى وإذا مثله ا عز وجل للحواس مثله بما شاء من هذه المثلة أو غيرها‪ ،‬فحقيقة الميزان وحده موجودة فى جميع ذلك وهو‬
‫ما يعرف به الزيادة من النقصان وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل‪ ،‬وللخيال عند التمثيل‪ ،‬وا تعالى أعلم مما يقدره من‬
‫صنوف التشكيلت والتصديق بجميع ذلك واجب‪.‬‬
‫بداية صفحة ‪376‬‬
‫فصل فى الحساب‬
‫والحساب جمع متفرقات المقادير وتصريف مبلغها وما من إنسان إل وله أعمال متفرققة نافعة وضارة ومقربة ومبعدة ل تعرف‬
‫فذلكتها وقد ل تحصر آحاد متفرقاتها‪ ،‬فإذا حصرت المتفرقات وجمع مبلغها كان حسابلا‪ ،‬فإن كان فى قدرة ا تعالى أن يكشف فى‬
‫لحظة واحدة للعالمين متفرقات أعمالهم ومبلغ آثارها فهو أسرع الحاسبين‪ ،‬وومعلوم أن فى قدرته ذلك فإذن هو أسرع الحاسبين‬
‫قطعا ل‪ .‬وسئال أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم ا وجهه‪ :‬كيف يحاسب ا الخلق فى لحظة من غير تشويش ول غلط؟ فقال‬
‫رضى ا عنه‪ :‬كما يرزقهم مع سائار الحيوانات بل تشويش ول غلط‪.‬‬
‫فصل فى الصراط‬
‫الصراط حق‪ .‬وما قيل إنه مثل الشعرة فى الدقة‪ ،‬فهو ظلم فى وصفه‪ ،‬بل أدق من الشعر‪ ،‬بل ل مناسبة بين دقته ودقة الشعر‪،‬‬
‫وحدته وحدة السيف‪ ،‬كما ل مناسبة فى الدقة ‪ ،‬فهو ظلم فى وصفه‪ ،‬بل أدق من الشعر‪ ،‬بل ل مناسبة بين دقته ودقة الشعر‪ ،‬وحدته‬
‫وحدة السيف‪ ،‬كما ل مناسبة فى الدقة بين الخط الهندسى الفاصل بين الظل والشمس الذى ليس من الظل ول الشمس‪ ،‬وبين دقة‬
‫الشعر ودقة الصراط مثل دقة الخط الهندسى الذى ل عرض له أصلل لنه على مثال الصراط المستقيم‪ ،‬والصراط المستقيم عبارة‬
‫عن الوسط الحقيقى بين الخلق المتضادة‪ ،‬لذلك قد باين ا بهذا الدعاء فى سورة الفاتحة حيث قال ‪ } :‬الهددنا الرَدرادط الاملسدتهقيدم{ ]‬
‫صدراءط مملسدتهقيءم{ ]الشورى‪ . [52 :‬وقال صلى ا عليه‬ ‫ك دلدتلههدى إهدلى ه‬ ‫الفاتحة‪ .[6 :‬وقال فى حق المصطفى صلوات ا عليه‪ } :‬دوإهان د‬
‫ك دلدعدلى اخلاءق دعهظيءم{ ]القلم‪ [4 :‬مثال ذلك السخاوة بين التبذير‬ ‫وسلم " إنما بعثت لتمم مكارم الخلق" ‪ .‬وقال تعالى شأنه‪ } :‬دوإهان د‬
‫والبخل‪ ،‬والشجاعة بين التهور والجبن‪ ،‬والقتصاد بين السراف والقتار‪ ،‬والتواضع بين التكبر والدناءة‪ ،‬والعفة بين الشهوة‬
‫والخمود‪ ،‬فهذه الخلق لها طرف إفراط وطرف تقصير وهما مذمومان والوسط ليس من الفراط ول من التقصير فهو على غاية‬
‫البعد من كل طرف‪ ،‬ولذلك قال النبى صلى ا عليه وسلم‪ " :‬خير المور أوسطها " مثال ذلك الوسط الخط الهندسى الفاصل بين‬
‫الظل والشمس ل من الظل ول من الشمس‪ ،‬والتحقيق فى ذلك أن كمال الدمى فى المشابهة بالملئاكة وهم منفكون عن هذه‬
‫الوصاف المضادة‪ ،‬وليس فى إمكان النسان النفكاك عنها بالكلية‪ ،‬فكلفه ا تعالى بما يشبه النفكاك‪ ،‬وإن لم يكن حقيقة النفكاك‬
‫وهو الوسط فإن الفاتر ل حار ول بارد‪ ،‬والعودى ل أبيض ول أسود‪ ،‬فالبخل والتبذير من صفات النسان‪ ،‬والمقتصد السخى كأنه‬
‫ل بخيل ول مبذر‪ ،‬فالصراط المستقيم وهو الوسط الحق بين الطرفين الذى ل ميل له إلى‬
‫بداية صفحة ‪377‬‬
‫أحد الجانبين وهو أدق من الشعر‪ ،‬فالذى يطلب غاية البعد من الطرفين يكون على الوسط‪ ،‬ولو فرضنا حلقة حديد محماة بالنار‬
‫وقعت نملة فيها وهى تهرب بطبعها من الحرارة فل تموت إل على المركز لنه الوسط الذى هو غاية البعد من المحيط المحرق‪،‬‬
‫وتلك النقطة ل عرض لها‪ ،‬فإذال الصراط المستقيم هو الوسط بين الطرفين ول عرض له‪ .‬فهو أدق من الشعر‪ ،‬ولذلك حرج عن‬
‫القدرة البشرية والوقوف عليه فل جرم بوروءد أمثالنا النار بقدر ميله عنه‪ ،‬كما قال تعالى ‪ } :‬دوهإن رَمناكلم إهلا دواهراددها دكادن دعدلى دررَب د‬
‫ك‬
‫صاتم دفلد دتهميالوا اكال اللدمليهل{ ]النساء‪.[129 :‬‬ ‫ضلييا{ ]مريم‪ .[71 :‬وقال تعالى‪ } :‬دودلن دتلسدتهطياعوا دأن دتدعهدالوا دبليدن الرَندساهء دودللو دحدر ل‬ ‫دحلتلما املق ه‬
‫فإن العدل بين المرأتين فى المحبة والوقوف على درجة متوسطة ل ميل فيه إلى إحداهما كيف يدخل تحت المكان؟ فمن استقام فى‬
‫صدراهطى املسدتهقيما ل‬ ‫هذا العالم على الصراط المستقيم الذى يحكى ا تعالى حقيقته عن النبى صلى ا عليه وسلم‪ } :‬دوأدان دهدذا ه‬
‫دفااتهباعوها{ ]النعام‪ .[153 :‬مار على صراط الخرة مستويا ل من غير ميل لنه فى هذا العالم عود نفسه التحفظ عن الميل‪ ،‬فصار ذلك‬
‫صراهط‬ ‫وصفا ل طبيع يليا له فإن العادة طبيعية خامسة‪ .‬هذا حق قطعا ل كما ورد به الشرح وجاء فى الحديث‪ " :‬ديامار الملؤهمان دعدلى ال رَ‬
‫دكالدبلرهق الدخاهط ه‬
‫ف"‪.‬‬
‫فصل فى الجنان‬
‫اللذات المحسوسة الموجودة فى الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق بها لمكانها‪ ،‬وهى كما تقدم حسى وخيالى وعقلى‪.‬‬
‫أما الحسى‪ ،‬فبعد رد الروح إلى البدن كما ذكرنا‪ ،‬وأما الكلم فى أن بعض هذه اللذات مما ل يرغب فيها مثل اللبن والستبرق‬
‫والطلح المنضود والسدر المخضود‪ ،‬فهذا مما خوطب به جماعة يعظم ذلك فى أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة‪ ،‬وفى كل صنف‬
‫وكل إقليم مطاعم ومشارب وملبس تختص بقوم دون قوم‪ ،‬ولكل واحد فى الجنة ما يشتهيه كما قال تعالى‪ } :‬دولداكلم هفيدها دما دتلشدتههى‬
‫دأنفااساكلم دولداكلم هفيدها دما دتاداعودن{ ]فصلت‪ . [31 :‬وربما يعظم ا تعالى فى الخرة شهوة ل تكون تلك الشهوة معظمة فى دار الدنيا‪،‬‬
‫كالنظر إلى ذات ا تعالى‪ ،‬فإن الشهوة والرغبة الصادقة فيها فى الخرة دون الدنيا‪.‬‬
‫وأما الخيالى‪ ،‬فل يخفى إمكانه ولذته كما فى النوم إل أنه مستحقر لنقطاعه عن قريب‪ ،‬فلو كانت دائامة لم يدرك فرق الخيالى‬
‫والحسى لن التذاذ النسان بالصور من حيث انطباعها فى الخيال والحس ل من حيث وجودها من خارج‪ ،‬فلو وجد من خارج ولم‬
‫يوجد فى حسه بالنطباع فل لذة‪ ،‬ولو بقى المنطبع فى الحس وعدم الخارج لدامت اللذة‬
‫بداية صفحة ‪378‬‬
‫وللقوة المتخيلة قدرة على اختراع الصور فى هذا العالم‪ ،‬إل أن صورها المخترعة متخيلة وليست محسوسة ول منطبعة فى القوة‬
‫والباصرة‪ ،‬فلذلك لو اخترع صورة جميلة فى غاية الجمال وتوهم حضورها ومشاهدتها لم تعظم لذاته لنه ليس يصير مبصرال كما‬
‫فى النوم‪ ،‬فلو كانت له قوة على تصويرها فى القوة الباصرة كما له قوة على تصويرها فى القوة المتخيلة لعظمت لذاته ونزلت‬
‫منزلة الصور الموجودة من الخارج‪ ،‬ول تفارق الخرة الدنيا فى هذا المعنى إل من حيث كمال القدرة على تصوير القوة الباصرة‪،‬‬
‫وكل ما يشتهيه يحضر عنده فى الحال فتكون شهوته بسبب تخيله وتخيله بسبب إبصاره أى بسبب انطباعه فى القوة الباصرة فل‬
‫يخطر بباله شئ يميل إليه إل ويوجد فى الحال أى يوجد بحيث يراه‪ ،‬وإليه الشارة بقوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬إن فى الجنن‬
‫سوقا ل تباع فيه الصور"‪ ،‬والسوق عبارة عن اللطف اللهى الذى هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب المشيئاة‪ ،‬وانطباع‬
‫القوة الباصرة بها انطباعا ل ثابتا ل إلى دوام المشيئاة ل انطباعا ل هو معرض للزوال من غير اختيار كما فى النور فى هذا العالم‪ ،‬وهذه‬
‫القدرة أوسع وأكمل من القدرة على اليجاد خارج الحس‪ ،‬لن الموجود من خارج مشغوفا ل به محجوبا ل عن غيره‪ ،‬وأما هذا فيتسع‬
‫اتساعا ل ل ضيق فيه ول منع حتى إذا اشتهى مشاهدة الشئ مثلل ألف شخص فى ألف مكان فى حالة واحدة‪ ،‬لشاهدوه كما خطر‬
‫ببالهم فى أماكنهم المختلفة‪ ،‬وأما البصار الحاصل عن شخص الشئ الموجود من خارج الحس ل يكون إل فى مكان واحد‪ ،‬وحمل‬
‫أمر الخر على ما هو أوسع وأتم للشهوات وأوفق بها أولى ول نقص فى قدرة اليجاد‪.‬‬
‫وأما الوجه الثالث‪ :‬وهو الوجود العقلى‪ ،‬فأن تكون هذه المحسوسات أمثلة للذات العقلية التى ليست بمحسوسة‪ ،‬لكن العقليات تنقسم‬
‫إلى أنواع كثيرة مختلفة اللذات كالحسيات‪ ،‬فتكون الحسيات أمثلة لها وكل واحد يكون مثالل للذة أخرى مما رتبته فى العقليات‬
‫توازى رتبة المثال فى الحسيات فإنه لو رأى فى المنام الخضرة والماء الجارى والوجه الحسن والنهار المطردة باللبن والعسل‬
‫والخمرة‪ ،‬والشجار المزينة بالجواهر واليواقيت واللئ‪ ،‬والقصور المبنية من الذهب والفضة‪ ،‬والسرر المرصعة بالجواهر‪،‬‬
‫والغلمان الماثلين بين يديه للخدمة‪ ،‬لكان المعبر يفسر ذلك بالسرور ول يحمله على نوع واحد‪ ،‬بل يحمل كل واحد على نوع آخر‬
‫من أنواع السرور وقرة العين يرجع بعضه إلى قهر العداء‪ ،‬وبعضه إلى مشاهدة الصدقاء ‪ ،‬وإن شمل الجميع اسم اللذة والسرور‬
‫فهى مختلفة المراتب مختلفة الذوق لكل واحدة مذاق يفارق الخرة‪ ،‬فكذلك اللذات العقلية ينبغى أن تفهم كذلك‪ ،‬وإن كان مما ل عين‬
‫رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ ،‬فجميع هذه القسام ممكنة‬
‫بداية صفحة ‪379‬‬
‫فيجوز أن يجمع بين الكل لواحد‪ ،‬ويجوز أن يكون نصيب كل واحد بقدر استعداده‪ .‬فالمشغوف بالتقليد والجمود على الصور الذى‬
‫لم تنفتح له طرف الحقائاق تمثل له هذه الصور واللذات‪ ،‬والعارفون المستصغرون لعالم الصور واللذات المحسوسة يفتح لهم من‬
‫لطائاف السرور واللذات العقلية ما يليق بهم ويشفى شرهم وشهوتهم إذ حد الجنة أن فيها لكل امرئ ما يشتهيه‪ ،‬وإذا اختلفت‬
‫الشهوات لم يبعد أن تختلف العقليات واللذات‪ ،‬والقدرة واسعة والقوة البشرية عن الحاطة بعجائاب القدرة قاصرة والرحمة اللهية‬
‫ألقت بواسطة النبوة إلى كافة الخلق القدر الذين احتملته أفهامهم‪ ،‬فيجب التصديق بما فهموه والقرار بما وراء منتهى الفهم فى‬
‫أمور تليق بالكرم اللهى ول تدرك بالفهم البشرى وإنما يدرك ذلك فى مقعد صدق عند مليك مقتدر‪.‬‬
‫فصل‬
‫أما التقرب لمشاهدة النبياء والئامة عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فإن المقصود منه الزيارة والستمداد من سؤال المغفرة وقضاء‬
‫الحوائاج من أزواج النبياء والئامة عليهم الصلة والسلم‪ ،‬والعبارة عن هذا المداد الشفاعة‪ ،‬وهذا يحصل من جهتين‪ :‬الستمداد‬
‫من هذا الجانب والمداد من الجانب الخر‪ ،‬ولزيارة المشاهد أثر عظيم فى هذين الركنين‪ .‬أما الستمداد فهو بانصراف همة‬
‫صاحب الحاجة باستيلء ذكر الشفيع والمزور على الخاطر حتى تصير كلية همته مستغرقة فى ذلك‪ ،‬ويقبل بكليته على ذكره‬
‫وخطورة بباله وهذه الحالة سبب منه لروح ذلك الشفيع‪ ،‬أ‪ ,‬المزور حتى تمده تلك الروح الطيبة بما يستمد منه‪ ،‬ومن أقبل فى الدنيا‬
‫بهمته وكليته على إنسان فى دار الدنيا‪ ،‬فإن ذلك النسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه ويخبره بذلك‪ ،‬فمن لم يكن فى هذا العالم فهو‬
‫أولى بالتنبيه وهو مهيأ لذلك التنبيه‪ ،‬فإن اطلع من هو خارج عن أحوال العالم إلى بعض أحوال العالم ممكن‪ ،‬كما يطلع فى المنام‬
‫على أحوال من هو فى الخرة أهو مثاب أو معاقب‪ ،‬فإن النوم صنو الموت وأخوه‪ ،‬فبسبب النوم صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم‬
‫نكن مستعدين فى حالة اليقظة لها‪ ،‬فكذلك من وصل إلى الدار الخرة ومات موتا ل حقيقلييا كان بالطلع على هذا العالم أولى‬
‫وأحرى‪ ،‬فأما كلية أحوال هذا العالم فى جميع الوقات لم تكن مندرجة فى سلك معرفتهم‪ ،‬كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة فى‬
‫معرفتنا فى منامنا عند الرؤيا ولحاد لمعارف معينات ومخصصات منها همة صاحب الحاجة وهى استيلء صاحب تلك الروح‬
‫العزيزة على صاحب الحاجة‪ ،‬وكما تؤثر مشاهدة صور صورة الحى فى حضور ذكره وخطورة نفسه بالبال‪ ،‬فكذلك تؤثر مشاهدة‬
‫ذلك الميت ومشاهدة تربته التى هى حجاب‬
‫ص ‪380‬‬
‫قالبه‪,‬فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهده ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده‪,‬ومن ظن أنه قادر‬
‫على أن يحضر في نفس ذلك الميت عنده غيبة مشهده كما يحضر عند مشاهدة مشهده‪,‬فذلك خطأ‪,‬فإن للمشاهدة أثرا بيينا ليس للغيبة‬
‫مثله‪,‬ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الستعانة أيضا جزافا ول تخلو من أثر ما كما قال عليه الصلة والسلم‪":‬من‬
‫صلى عليي مرة صليت عليه عشرا" "ومن أجاب المؤذن حيلت له شفاعتي"‪" .‬ومن زار قبريِ حلت له شفاعتي"‪ .‬فالتقرب بقالبه‬
‫الذيِ هو أخص الخواص له وسيلة تامة متقاضية للشفاعة والتقرب بولده الذيِ هو بضعة منه‪ ,‬ولو بعد توالد وتناسل‪,‬والتقرب‬
‫بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه وبعله وعضادته والتقرب بعادته وسيرته والتقرب بكل ماله منها مناسبة إليه تقرب‬
‫موجب للقرب إليه مقتض لشفاعته‪,‬فإنه لفرق عند النبياء في كونهم في دار الدنيا وفي كونهم في دار الخرة ل في طريق‬
‫المعرفة‪ ,‬فإن آلة المعرفة في الدنيا الحواس الظاهرة وفي العقبى آلة يعرف بها الغيب إما في كسوة مثال‪ ,‬وإما على سبيل‬
‫التصريح‪ ,‬وأما الحوال الخر في التقرب والقرب والشفاعة فل تتغير‪ ,‬والركن العظم في هذا الباب المداد والهتمام من جهة‬
‫الممد‪ ,‬وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بذلك المدد‪ ,‬فإنه لو وضع شعر رسول ا صلى ا عليه وسلم أو عضادته أو سوطه على قبر‬
‫عاص مذنب نجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب‪ ,‬وإن كان في دار إنسان أو بلدة ليصيب تلك الدار وأهلها وتلك‬
‫البلدة وسكانها ببركاتها بلء‪,‬وإن لم يشعر بها صاحب الدار وساكن البلدة‪ ,‬فإن اهتمام النبي صلى ا عليه وسلم وهو في العقبى‬
‫مصروف إلى ماهو به منسوب‪ ,‬ودفع المكاره والمراض والعقوبات مفوضة من جهة ا تعالى إلى الملئاكة‪,‬وكل ملك حريص‬
‫على إسعاف ماحرص النبي صلوات ا عليه بهمته إليه عن غيرع‪ ,‬كما كان في حال حياته‪ ,‬فإن تقرب الملئاكة بروحه المقدسة‬
‫بعد موته أزيد من تقربه به في حالة حياته‪.‬‬
‫قد حكي أن أبا طاهر الهجريِ القرمطي رفع إنسانا على عنقه حتى يجر ميزاب الكعبة‪ ,‬فمات النسان على عاتقه وخر هو ميتا‪,‬‬
‫وأن جماعة من المصريين نقبوا في جدار روضة النبي صلى ا عليه وسلم وقصدوا إخراج شخصه ونقله إلى مصر كان ذلك في‬
‫نصف الليل‪ ,‬فسمع أهل المدينة صوتا من الهواء احفظوا نبيكم معاشر المسلمين‪ ,‬احفظوا نبيكم فأوقدوا السراج بل أوقدوا السرج‬
‫والشموع والمشاعل‪ .‬ورأوا ذلك النقب في الجدار وحوله جماعة من المصريين موتى‪.‬وانقل أنه صلى ا عليه وسلم غرس غصنا‬
‫رطبا في قبر إنسان وقال ‪ :‬رفع ا تعالى عن صاحبه العذاب ما دام هذا الغصن رطبا‪ ,‬وذلك من بركات يديه صلى ا عليه وسلم‬
‫وكل من أطاع سلطانا‬
‫ص ‪381‬‬
‫ظم تلك البلدة‪ ,‬فالملئاكة عليهم السلم يعظمون النبى‬ ‫ظمه‪ ,‬فإذا دخل بلده ورأى فيها من جهبة ذلك السلطان أو سوطا له فإنه يع ي‬ ‫وع ي‬
‫ي‬
‫فإذا رأوا ذخائاره في دار أو بلدة أو قبر عظموا صاحبه وخففوا عليه العذاب‪ ,‬ولذلك السبب ينفع الموتى أن توضع على قبورهم‬
‫المصاحف‪ ,‬ويتلى القرآن على رءوس قبورهم‪ ,‬ويكتب القرآن على قراطيس وتوضع القراطيس في أيديِ الموتى‪ ,‬فهذه أنواع‬
‫المناسبات على حسب حال من يريد أن يسوى كل مسموع ومشروع على قضية معقولة والصل في ذلك أن وراء مايتصوره‬
‫العقلء أمورا ورد الشرع بها وليعلم حقائاقها إل ا تعالى والنبياء الذين هم وسائاط بين ا تعالى وبين عباده‪ ,‬وإن اجتمع الحذاق‬
‫وتفكروا في الشكل الموضوع على مناسبة العداد لسهولة الولدة حالة الطلق ماعرفوا تلك الخاصية‪ .‬فكيف يطمع النسان أن‬
‫يعرف حقائاق ما ورد به الشرع من الوامر والنواهي والخبار والوعد والوعيد وغير ذلك‪ ,‬والعقل ضعيف وتصرفه مختصر‬
‫بالضافة إلى تلك العجائاب‪ ,‬والخواص‪ .‬قد قررت يا أخي طيب ا عيشك بعض مايمكن التلويح إليه على وفق ما انتهت فطانتي‬
‫إليه‪ ,‬وأوصيك ومن معك باليمان بهذه الشياء التي ورد الشرع بتصحيحها دون التوقف فيها‪ ,‬ونعوذ بال من التوقف‪ ,‬وسأهديِ‬
‫إليك من بعد أن وفقني ا تعالى عالقا مضنونا آخر اسمه المضنون به على غير أهله وأولى من هذا المصنف فإن في هذا مسائال‬
‫قررتها في عدة مواضع ومسائال لم أقررها إل في ذلك المصنف‪ .‬أما المضنون الموجود فقد كان عزيمتي على تقرير أشياء فيه‬
‫تلويحات وإشارات إلى رموز ليعرفها إل أهلها وا المعين الهاديِ وهو حسبنا وإليه المرجع والمصير‪.‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الجوبة الغزالية في المسائال الخروية‬
‫المضنون الصغير‬
‫سئال الشيخ المام الجل الزاهد السيد حجة السلم زين الدين مقتدى المة قدوة الفريقين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي قدس ا‬
‫حي ")ص ‪ .(72‬ما التسوية وما النفخ وما الروح؟‬ ‫روحه ونور ضريحه عن معنى قوله تعالى‪":‬دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا‬
‫ت هفيهه همن مرو ه‬
‫فقال‪ :‬التسوية فعل في المحل القابل للروح‪ ,‬وهو الطين في حق آدم صلى ا عليه وسلم‪ ,‬والنطفة في حق أولده بالتصفية وتعديل‬
‫المزاج‪ ,‬فإنه كما ليقبل النار يابس محض كالتراب‬
‫ص ‪382‬‬
‫والحجر ول رطب محض كالماء‪ ,‬بل ل تتعلق النار إل بمركب من يابس ورطب ول كل مركب‪ ,‬فإن الطين مركب ولتشتعل فيه‬
‫النار‪ ,‬بل لبد بعد تركيب الطين الكثيف من تردد في أطوار الخلقه حتى يصير نباتا لطيفا‪ ,‬فثبت فيه النار وتشتعل فيه‪ ,‬وكذلك‬
‫الطين بعد أن ينشئاه ا خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتا‪ ,‬فيأكله الدمي فيصير دما فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان‬
‫صفوة الدم الذيِ هو أقرب إلى العتدال‪ ,‬فيصير نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فتزداد عند ذلك اعتدال‪ ,‬ثم ينضجها‬
‫الرحم بحرارته فتزداد تناسبا حتى تنتهي في الصفاء‪ .‬واستواء نسبة الجزاء إلى الغاية فتستعد لقبول الروح وإمساكها‪ ,‬كالفتيلة‬
‫التي تستعد عند شرب الدهن لقبول النار وإمساكها‪ ,‬فالنطفة عند تمام الستواء والصفاء تستحق باستعدادها روحا يدبرها‬
‫ويتصرف فيها‪ ,‬فتفيض إليها من جود الجواد الحق الواهب لكل مسنحق مايستحقه‪ ,‬ولكل مستعد مايقبله على قدر قبوله واحتماله‬
‫من غير منع ولبخل فالتسويه عبارة عن هذه الفعال المرددة لصل النطفة في الطوار السالكة بها إلى صفة الستواء والعتدال‪.‬‬
‫فصل‬
‫وسئال ما النفخ؟‬
‫فقال ‪ :‬النفخ عبارة عما أشعل نور الروح في فتيلة النطفة وللنفخ صورة ونتيجة أما صورته‪ ,‬فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى‬
‫جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب القابل للنار‪ ,‬فالنفخ سبب الشتعال‪ ,‬وصورة النفخ الذيِ هو سبب في حق ا تعالى محال‬
‫والمسبب غير محال‪ ,‬وقد يكنى بالسبب عن الفعل الذيِ يحصل المسبب عنه على سبيل المجاز‪ ,‬وإن لم يكن الفعل المستعار له‬
‫ب ا‬
‫اا دعدلليههم ")المجادلة ‪" .(14‬دفاندتدقلمدنا هملناهلم ")العراف ‪ .(136‬والغضب‬ ‫على صورة الفعل المستعار منه كقوله تعالى‪ ":‬دغ ه‬
‫ض د‬
‫عبارة عن نوع تغير في الغضبان يتأذى به ونتيجته الهلك للمغضوب عليه وإيلمه فعبر عن نتيجة الغضب بالغضب‪ ,‬وعن نتيجة‬
‫النتقام بالنتقام‪ ,‬وكذلك عبر عما ينتج نتيجة النفخ بالنفخ وإن لم يكن على صورة النفخ‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬فما السبب الذيِ اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة؟‬
‫قال‪ :‬هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل‪ .‬أما صفة الفاعل فالجود اللهي الذيِ هو ينبوع للوجود على ماله قبول الوجود‬
‫فهو فياض بذاته على كل حقيقة أوجدها‪ ,‬ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل للستنارة عند‬
‫ارتفاع الحجاب بينهما‪ ,‬فالقابل للستنارة وهي الملونات دون الهواء الذيِ ل لون له وأما‬
‫ص ‪383‬‬
‫صفة القابل فالستواء والعتدال الحاصل بالتسوية‪ ,‬كما قال‪ :‬سويته‪ ,‬ومثاله صقالة الحديد‪ ,‬فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها‬
‫لتقبل الصورة وإن كانت محاذية لوحاتها الصورة واشتعل الثقيل بتصقيلها فكلما حصل الصقال حدثت فيها الصورة المحاذية من‬
‫ذيِ الصور المحاذية‪ ,‬فكذلك إذا حصل الستواء في النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق‪ ,‬بل إنما‬
‫حدث الروح الن لقبله لتغير المحل بحصول الستواؤ الن ل قبله‪ ,‬كما أن الصور فاضت من ذيِ الصورة على المرآة في حكم‬
‫الوهم من غير حدث في الصورة‪ ,‬ولكن كان ليحصل من قبل ل لن الصورة ليست مهيأة لن تطبع في المرآة‪,‬لكن لن المرآة لم‬
‫تكن صقلية قابلة للصور‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬فما الفيض؟‬
‫قال‪ :‬لينبغي أن تفهم من الفيض هنا ماتفهم من فيضان الماء من الناء على اليد‪ ,‬فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء من الماء عن‬
‫الناء واتصاله باليد‪ ,‬بل افهم منه ماتفهمه من فيضان نور الشمس على الحائاط‪ ,‬ولقد غلط قوم في نور الشمس أيضا‪ ,‬فظنوا أنه‬
‫ينفصل شعاع من جرم الشمس ويتصل بالحائاطوينبسط عليه وهو خطأ‪ ,‬بل نور الشمس سبب لحدوث شيء يناسبه في النوربة وإن‬
‫كان أضعف منه في الحائاط المتلون كفيضان الصور على المرآة من ذيِ الصورة‪ ,‬فإنه ليس بمعنى انفصال جزء من صورة‬
‫النسان واتصاله بالمرآة بل على معنى أن صورة النسان مثل سبب لحدوث صورة تماثلها في المرآة المقابلة وليس فيهما اتصال‬
‫وانفصال إل السببية المجردة وكذلك الوجود اللهي سبب لحدوث نور الوجود في كل ماهية قابلة وجود فيعبر عنه بالفيض‪.‬‬
‫فصل‬
‫قيل له‪:‬قد ذكرت التسوية والنفخ‪ ,‬فما الروح وماحقيقته‪ ,‬وهل هو حاكل في البدن حلول الماء في الناء‪ ,‬أو حلول العرض في‬
‫الجوهر‪ ,‬أم هو جوهر‪ ,‬قائام بنفسه؟ فإن كان جوهرا قائاما بنفسه فمتحيز هو أم غير متحيز؟وإن كان متحيزا فما مكانه أهو القلب أو‬
‫الدماغ أو موضع آخر؟ وإن لم يكن متحيزا فكيف يكون جوهرا غير متحيز؟ فقال‪:‬هذا سؤال عن سر الروح الذيِ لم يؤذن لرسول‬
‫ا صلى ا عليه وسلم في كشفه لمن ليس أهل له‪,‬فإن كنت من أهله فاسمع واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في‬
‫إناء‪ ,‬ولهو عرض يحل القلب والدماغ حلول السواد في السود‪ ,‬والعلم في العالم‪ ,‬بل هو جوهر وليس بعرض لنه يعرف نفسه‬
‫وخالقه ويدرك المعقولت‪ ,‬وهذه علوم والعلوم أعارض ولو كان موضوعا والعلم قائام به‪ ,‬لكان قيام العرض بالعرض‪ ,‬وهذا‬
‫خلف‬
‫ص ‪384‬‬
‫المعقول ولن العرض الواحد ليفيد إل واحدا فما قام به والروح يفيد حكمين متغايرين‪ ,‬فإنه حين ما يعرف خالقه يعرف نفسه‪,‬‬
‫فدل على أن الروح ليس بعرض والعرض ليتصف بهذه الصفات ولهو جسم‪ ,‬لن الجسم قابل للقسمة والروح لينقسم‪ ,‬لنه لو‬
‫انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الخر منه جهل بذلك الشيء الواحد بعينه فيكون في حالة واحدة عامل‬
‫بالشيء جاهل به فيتناقص لنه في محل واحد وإل فالسواد والبياض في جزأين من العين متناقض‪ ,‬والعلم والجهل بشيء واحد في‬
‫شخص واحد محال وفي شخصين غير محال‪ ,‬فدل على أنه واحد وهو باتفاق العقلء جزء ليتجزأ أيِ شيء لينقسم إذ لفظ جزء‬
‫لئاق به‪ ,‬لن الجزء إضافة إلى الكل ول كل هنا‪ .‬فل جزء إل أن يراد به مايريد القائال بقوله الواحد جزء من العشرة‪ ,‬فإنك إذا‬
‫أخذت جميع الجزاء التي بها قوام العشرة في كونها عشرة كان الواحد من جملتها وكذلك إذا أخذت جميع الموجودات أو جميع‬
‫مابه قوام النسان في كونه إنسانا كان الروح واحدا من جملتها‪ ,‬فإذا فهمت أنه شيء لينقسم فل يخلو إما أن يكون متحيزا أو غير‬
‫متحيز‪ ,‬وباطل أن يكون متحيزا إذ كل متحيز منقسم‪ ,‬الجزء الذيِ ليتجزأ باطل أن يكون منقسما بأدلة هندسية وعقلية أقربها أنه لو‬
‫فرض جوهر بين جوهرين لكان كل واحد من الطرفين يلقى من الوسط غير مايلقى الخر‪ ,‬فيجوز أن يقوم بالوجه الذيِ يلقاه هذا‬
‫الطرف علم وبالوجه الخر جهل‪ ,‬فيكون عالما جاهل في حالة واحدة بشيء واحد‪ ,‬وكيف ل ولو فرض بسيط مسطح من أجزاء‬
‫لتتجزأ لكان الوجه الذيِ يحاذينا ونراه غير الوجه الخر الذيِ لنراه‪ ,‬فإن الواحد ليكون مرئايا وغير مرئاي في حالة واحدة‪,‬‬
‫ولكانت الشمس إذا حاذت أحد وجهيه استنار بها ذلك الوجه دون الوجه الخر‪ ,‬فإذا ثبت أنه لينقسم وأنه ل يتجزأ ثبت أنه قائام‬
‫بنفسه وغير متحيز أصل‪.‬‬
‫فصل‬
‫فقيل له‪ :‬وماحقيقة‪ ,‬وماصفة هذا الجوهر‪ ,‬وماوجه تعلقه بالبدن؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه؟ قال‬
‫رضي ا عنه‪ :‬لهو داخل ولهو خارج ولهو منفصل ولمتصل‪ ,‬لن مصحح التصاف بالتصال والنفصال الجسمية والتحيز‬
‫قد انتفيا عنه فانفك عن الضدين‪,‬كما أن الجماد لهو عالم ولهو جاهل لن مصحح العلم والجهل الحياة‪ ,‬فإذا انتفت انتفى الضدان‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬هل هو في جهة؟ فقال له‪ :‬هو منزه عن الحلول في المحال والتصال بالجسام والختصاص بالجهات‪,‬‬
‫ص ‪385‬‬
‫فإن كل ذلك صفات الجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ول عرض في جسم‪ ,‬بل هو مقدس عن هذه العوارض‪ .‬فقيل له‪ :‬لم‬
‫منع الرسول صلى ا عليه وسلم عن إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله تعالى‪ ":‬قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي ")السراء‪.(85:‬‬
‫فقال‪ :‬لن الفهام لتحتمله لن الناس قسمان عوام وخواص‪ .‬أما من غلب على طبعه العامية فهذا ليقبله وليصدقه في صفات ا‬
‫تعالى فكيف يصدقه في حق الروح لنسانية‪ ,‬ولهذا أنكرت الكرامية والحنبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا الله‬
‫جسما إذ لم يعلقوا موجودا إل جسما مشارا إليه‪ ,‬ومن ترقى عن العامية قليل نفى الجسمية وما أطاق أن ينفى عوارض الجسمية‬
‫فأثبت الجهة وقد ترقى عن هذه العامية الشعرية والمعتزلة‪ ,‬فأثبتوا موجودا لفي جهة‪.‬فقيل له‪ :‬ولم ليجوز كشف هذا السر مع‬
‫هؤلء؟ فقال‪ :‬لنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير ا تعالى‪ ,‬فإذا ذكرت هذا لبعضهم كفروك وقالوا إنك تصف نفسك بما هو‬
‫صفة الله على الخصوص‪ ,‬فكأنك تدعى اللهية لنفسك‪ .‬فقيل له‪ :‬فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة ل ولغير ا تعالى أيضا؟ فقال ‪:‬‬
‫لنهم قالوا كما يستحيل في ذوات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد يستحيل أيضا أن يجتمع اثنان ل في مكان‪ ,‬لنه إنما‬
‫استحال اجتماع جسمين في مكان واحد‪ ,‬لنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الخر‪ ,‬فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في‬
‫مكان فبما يحصل التمييز والعرفان؟ ولهذا أيضا قالوا‪ :‬ليجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلن يتضادان‪ .‬فقيل‪ :‬هذا‬
‫إشكال قويِ فما جوابه؟ قال‪ :‬جوابه أنهم أخطئاوا حيث ظنوا أن التمييز ليحصل بالمكان بل يحصل التميزبثلثة أمور‪ :‬أحدهما‬
‫بالمكان كجسمين في مكانين‪ ,‬والثاني بالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين‪ ,‬والثالث بالحد والحقيقة كالعراض المختلفة‬
‫في محل واحد مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في جسم واحد‪ ,‬فإن المحل واحد والزمان واحد‪ ,‬ولكن هذه معان مختلفة‬
‫الذوات بحدودها وحقائاقها‪ ,‬فيتميز اللون عن الطعم بذاته لبمكان وزمان ويتميز العلم عن القدرة والرادة بذاته وإن كان الجميع‬
‫شيئاا واحدا‪ ,‬فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائاق فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائاق بذواتها في غير مكان أولى‪.‬‬
‫ص ‪386‬‬
‫فصل‬
‫فقيل‪ :‬هنا دليل آخر على إحالة ما ذكرتموه أظهر من طالب التفرقة وهو أن هذا تشبيه وإثبات لخص وصف ا تعالى في حق‬
‫الروح‪.‬فقال‪ :‬هيهات‪ ,‬فإن قولنا النسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم وإنه تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لنه ليس ذلك أخص‬
‫الوصف ‪ ,‬فكذلك البراءة عن المكان والجهة ليس أخص وصف الله‪,‬بل أخص وصفه أنه قيوم أيِ هو قائام بذاته‪ ,‬وكل ماسواه قائام‬
‫بذاته‪ ,‬وكل ماسواه قائام به‪ ,‬وأنه موجود بذاته لبغيره فكل ماسواه موجود به لبذاته‪ ,‬بل ليس للشياء من ذواتها إل العدم‪ ,‬وإنما‬
‫لها الوجود من غيرها على سبيل العارية‪ ,‬والوجود ل تعاى ذاتي ليس بمستعار‪ ,‬هذه الحقيقة أعني القيومية ليست إل ل‪.‬فقيل له‪:‬‬
‫ذكرت معنى التسوية والنفخ والروح ولم تذكر معنى النسبة في الروح وأنه لم قال من روحي ولم نسبه إلى نفسه‪ ,‬فإنه كان لن‬
‫وجوده به فجميع الشياء أيضا كذلك وقد نسب البشر إلى الطين فقال‪":‬إهرَني دخالهسق دبدشلرا همن هطيءن" )ص‪ (71:‬ثم قال‪" :‬دفإهدذا دساوليتاها‬
‫حي ")ص ‪ (72‬وإن كان معناه جزء من ا تعالى فاض على القلب كما يفيض المال على السائال فيقول‪ :‬أفضت‬ ‫دودندفلخ ا‬
‫ت هفيهه همن مرو ه‬
‫عليه من مالي فهذه تجزئاة لذات ا‪ ,‬وقد أبطلتم هذا وذكرتم أن إفاضته ليست بمعنى انفصال جزء منه‪.‬فقال‪ :‬هذا كقول الشمس لو‬
‫نطقت وقالت ‪ :‬أفضت على الرض من نوريِ‪,‬فيكون صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل من جنس نور الشمس بوجه‬
‫من الوجوه‪ ,‬وإن كان في غاية الضعف بالضافة إلى نور الشمس‪ ,‬وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم‬
‫بجميع الشياء والطلع عليها‪ ,‬وهذه مضاهاة ومناسبة فلذلك خص بالضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصل‪ .‬فقيل له‪:‬‬
‫مامعنى قوله تعالى‪ ":‬قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي " )السراء‪ (85:‬ومامعنى عالم المر وعالم الحق؟ فقال‪ :‬كل مايقع عليه مساحة‬
‫وتقدير وهو عالم الجسام وعوارضها يقال إنه من عالم الخلق‪ ,‬والخلق هنا بمعنى التقدير ل بمعنى اليجاد والحداث يقال‪ :‬خلق‬
‫ت وبعض القوم يخلق ثم ليفريِ‬ ‫ت تفهريِ ما خلق د‬
‫الشيء أيِ قدره قال الشاعر‪ :‬ولن د‬
‫أيِ تقدر ثم تقطع الديم وما ل كمية له ول تقدير‪ ,‬فيقال‪ :‬إنه أمر رباني وذلك‬
‫ص ‪387‬‬
‫للمضاهاة التي ذكرناها وكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشر وأرواح الملئاكة يقال إنه من عالم المر‪ ,‬فعالم المر عبارة‬
‫عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز‪ ,‬وهو ماليدخل تحت المساحة والتقدير لنتفاء الكمية عنه‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬أتتوهم أن الروح ليس مخلوقا وإن كان كذلك فهو قديم؟ فقال‪ :‬قد توهم هذا جماعة وهو جهل‪ ,‬بل نقول‪ :‬إن الروح غير‬
‫مخلوق بمعنى إنه غير مقدر بكمية ولمساحة‪ ,‬فإنه لينقسم وليتحيز ونقول أنه مخلوق‪ ,‬لكنه بمعنى أنه حادث وليس بقديم‪.‬‬
‫وبرهان حدوثه طويل ومقدماته كثيرة‪ ,‬ولكن الحق أن الروح البشرية حدثت عند استعداد النطفة للقبول كما حدثت الصور في‬
‫المرآة بحدوث الصقالة‪ ,‬وإن كانت الصور سابقة الوجود على الصقالة وإيجاد هذا البرهان أنه إن كانت الرواح موجودة قبل‬
‫البدان لكانت إما كثيرة أو واحد وباطل وحدتها وكثرتها فباطل وجودها‪ ,‬وإنما استحال وحدتها بعد التعلق بالبدان لعلمنا ضرورة‬
‫بأن مايعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو ولو كان الجوهر العاقل منهما واحدا لستحال اجتماع المتضادين فيه‪ ,‬كما يستحيل في زيد‬
‫وحده‪ ,‬ونعني بالجوهر العاقل الروح ومحال كثرتها لن الواحد محال أن ل يثنى ولينقسم إذا كان ذا مقدار كالجسام‪ ,‬فالجسم‬
‫ينقسم فإنه ذو مقدار وذو بعض فيتبعض‪ ,‬أما ما ليس له بعض ول مقدار فكيف ينقسم وأما تقدير كثرتها قبل التعلق بالبدن فمحال‬
‫لنها إما أن تكون متماثلة أو مختلفة‪ ,‬وكل ذلك محال‪ ,‬وإنما استحال التماثل لن وجود المثلين محال في الصل‪ ,‬ولهذا يستحيل‬
‫وجود سوادين في محل‪ ,‬وجسمين في مكان واحد لن الثنين يستدعي مغايرة ول مغايرة هنا وسوادان في محلين جائاز لن هذا‬
‫يفارق ذلك في المحل إذا اختص بمحل ل يختص به الخر‪ ,‬وكذلك يجوز محل واحد في زمانين إذ لهذا وصف ليس للخر وهو‬
‫القتران بهذا الزمان الخاص‪ ,‬فليس في الوجود مثلن مطلقا‪ ,‬بل بالضافة كقولنا‪ :‬زيد وعمرو هما مثلن في النسانية والجسمية‪,‬‬
‫وسواد الحبر والغراب مثلن في السوادية‪ ,‬ومحال تغايرهم لن التغاير نوعان‪ :‬أحدهما باختلف النوع والماهية كتغاير الماء‬
‫والنار وتغاير السواد والبياض‪ ,‬والثاني بالعوارض التي ل تدخل في الماهية كتغاير الماء الحار والماء البارد‪ ,‬فإن كان تغاير‬
‫الرواح البشرية بالنوع والماهية فمحال لن الرواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة وهي نوع واحد‪ ,‬وإن كانت متغايرة بالعوارض‬
‫فمحال أيضا لن الحقيقة الواحدة إنما يتغاير عوارضها إذا كانت متعلقة بالجسام منسوبة إليها بنوع ما إذ الختلف في أجزاء‬
‫الجسم ضرورة ولو في القرب من السماء والبعد عنها مثل‪ ,‬أما إذا لم يكن كذلك كان الختلف محال وهذا ربما يحتاجون في‬
‫تحقيقه إلى مزيد تقدير لكن هذا القدر ينبه عليه‪.‬‬
‫ص ‪388‬‬
‫فقيل له‪ :‬كيف يكون حال الرواح بعد مفارقة الجسام ولتعلق لها بالجسام فكيف تكثرت وتغيرت؟‬
‫فقال‪ :‬لنها اكتسبت بعد التعلق بالبدان أوصافا مختلفة من العلم والجهل والصفاء والكدورة وحسن الخلق وقبحها‪ ,‬فبقيت منها‬
‫متغايرة فعقلت كثرتها بخلف ما قبل الجساد فإنه ل سبب لتغايرها‪.‬‬
‫فصل‬
‫فقيل له‪ :‬مامعنى قوله عليه السلم‪ " :‬إن ا تعالى خلق آدم على صورته" ورويِ "على صورة الرحمن"؟ فقال‪ :‬الصور اسم‬
‫مشترك قد يطلق على ترتيب الشكال ووضع بعضها على بعض واختلف تركيبها‪ ,‬وهي الصورة المحسوسة‪ ,‬وقد يطلق على‬
‫ترتيب المعاني التي ليست محسوسة‪ ,‬بل للمعاني ترتيب أيضا وتركيب وتناسب‪ ,‬ويسمى ذلك صورة‪ ,‬فيقال‪ :‬صورة المسألة كذا‬
‫وكذا‪ ,‬وصورة الواقعة وصورة المسألة الحسابية والعقلية كذا‪ ,‬والمراد بالتسوية في هذه الصورة هي الصورة المعنوية‪ ,‬والشارة‬
‫به إلى المضاهاة التي ذكرناها ويرجعه ذلك إلى الذات والصفات والفعال‪ ,‬فحقيقة ذات الروح أنه قائام بنفسه ليس بعرض‬
‫ولبجسم ولجوهر متحيز وليحل المكان والجهة ول و متصل بالبدن والعالم‪ ,‬ول هو منفصل‪ ,‬ول هو داخل في أجسام العالم‬
‫والبدن‪ ,‬ول هو خارج‪ ,‬وهذا كله في حقيقة ذات ا تعالى‪ ,‬وأما الصفات فقد خلق حييا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما‪ ,‬وا‬
‫تعالى كذلك‪ .‬وأما الفعال فمبدأ فعل الدمي إرادة يظهر أثرها في القلب أول فيسريِ منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذيِ هو‬
‫بخار لطيف في تجويف القلب‪ ,‬فيتصاعد منه أثر بواسطة الروح إلى العصاب الخارجة من الدماغ‪ ,‬ومن العصاب إلى الوتار‬
‫والرباطات المتعلقة بالعضل‪ ,‬فتنجذب الوتار فيتحرك بها الصابع‪ ,‬ويتحرك بالصابع القلم‪ ,‬وبالقلم المداد مثل‪ ,‬فيحدث منه‬
‫صورة مايريد كتبه على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل‪ ,‬فإنه لم يتصور في خياله صورة المكتوب أول‬
‫ليمكن إحداثه على البياض ثانيا‪ ,‬ومن استقرأ أفعال ا تعالى وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الرض بواسطة تحريك‬
‫السموات والكواكب‪ ,‬وذلك بطاعة الملئاكة له في تحريك السموات علم أن تصرف الدمي في عالمه أعني بدنه يشبه تصرف‬
‫الخالق في العالم الكبر وهو مثله‪ ,‬وانكشف له أن نسبة شكل القلب إلى تصرفه نسبة العرش ونسبة الدماغ نسبة الكرسي والحواس‬
‫كالملئاكة الذين يطيعون ا طبعا وليستطيعون خلفا‪ ,‬والعصاب والعضاء كالسموات‪ ,‬والقدرة‬
‫ص ‪389‬‬
‫في الصابع كالطبيعة المسخرة المركوزة في الجسام‪ ,‬والقرطاس والقلم والمداد كالغناصر التي هي أمهات المركبات في قبول‬
‫الجمع والتركيب والتفرقة ومرآة التخيل كاللوح المحفوظ فمن اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف معنى قوله عليه السلم‪" :‬‬
‫إن ا تعالى خلق آدم على صورته" ومعرفة ترتيب أفعال ا تعالى معرفة غامضة يحتاج فيها إلى تحصيل علوم كثيرة وما‬
‫ذكرناه إشارة إلى جملة منها‪ .‬قيل له‪ :‬فما معنى قوله عليه السلم‪":‬من عرف نفسه فقد عرف ربه"؟ قال‪ :‬لن الشياء تعرف‬
‫بالمثلة المناسبة‪ ,‬ولول المضاهات المذكورة لم يقدر النسان على الترقي من معرفة نفسه إلى معرفة الخالق‪ ,‬فلول أن ا تعالى‬
‫جمع في الدمي ماهو مثال جملة العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من العوالم‪ ,‬وكأنه رب في عالمه متصرف لما عرف العالم‬
‫والتصرف والربوبية والعقل والقدرة والعلم وسائار الصفات اللهية‪ ,‬فصارت النفس بمضاهاتها وموازناتها مرقاة إلى معرفة خالق‬
‫النفس‪ ,‬وفي استكمال المعرفة بالمسألة التي قبل هذه ما ينكشف الغط وجه هذه المسألة‪ .‬فقيل له‪ :‬إن كانت الرواح حادثة مع‬
‫الجساد فما معنى قوله عليه السلم‪":‬خلق ا الرواح قبل الجساد بألفي عام" وقوله عليه السلم‪":‬أنا أول النبياء خلقا وآخرهم‬
‫بعثا" وقوله‪":‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين"؟فقال‪ :‬ليس في هذا مايدل على قدم الروح‪ ,‬بل يدل على حدوثه‪ ,‬وكونه مخلوقا‪ .‬نعم‬
‫ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على الجسد وأمر الظواهر هيين فإن تأويلها ممكن والبرهان القاطع ليدرء بالظواهر بل يسلط‬
‫على تأويل الظواهر كما في ظواهر التشبيه في حق ا تعالى‪ .‬أما قوله عليه السلم‪":‬خلق ا الرواح قبل الجساد" فلعله أراد‬
‫بالرواح الملئاكة‪ ,‬وبالجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والكواكب والهواء والرض والماء‪ ,‬وكما أن أجساد الدميين‬
‫بجملتهم صغيرة بالضافة إلى جرم الرض وجرم الرض أصغر من جرم الشمس بكثير‪ ,‬ثم لنسبة لجرم الشمس إلى فلكها ول‬
‫لفلكها إلى السموات التي فوقه‪ ,‬ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيه السموات والرض‪ ,‬والكرسي صغير بالضافة إلى‬
‫العرش‪ ,‬فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الجساد‪ ,‬فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح‬
‫البشر بالضافة إلى أرواح الملئاكة كأجسادهم بالضافة إلى أجساد العالم‪ ,‬ولو انفتح لك باب معرفة الرواح لرأيت الرواح‬
‫البشرية بالضافة إلى أرواح الملئاكة كسرج اقتبست من نار عظيم طبق العالم‪ ,‬وتلك النار العظيمة هي أرواح الملئاكة ولرواح‬
‫الملئاكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبته‪ ,‬وليجتمع‬
‫ص ‪390‬‬
‫فى مرتبة واحدة اثنان بخلف الرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع والرتبة‪ .‬أما الملئاكة‪ ,‬فكل واحد نوع برأسه هو كل ذلك‬
‫النوع وإليه الشارة بقوله تعالى ‪ ) :‬وما منا إل له مقام معلوم ]‪ [164‬وإنا لنحن الصافون( ]الصافات‪[165 ,164 :‬‬
‫وبقوله عليه السلم‪ :‬الراكع منهم ل يسجد والقائام ل يركع‪ ,‬وإنه ما من واحد منهم إل له مقام معلوم‪ ,‬فل يفهم إذا من الرواح‬
‫والجساد المطلقة إل أرواح الملئاكة وأجساد العالم‪.‬‬
‫وأما قوله عليه السلم‪" :‬أنا أول النبياء خلقا وآخرهم بعثا "‪ ,‬فالخلق هنا هو التقدير دون اليجاد‪ ,‬فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن‬
‫مولودا مخلوقا‪ ,‬ولكن الغايات والكمالت سابقة فى التقدير لحقة فى الوجود‪ ,‬وهو معنى قولهم‪ :‬أول الفكر آخر العمل‪ .‬بيانه أن‬
‫المهندس المقدر للدار أول ما يمثل فى نفسه صورة الدار‪ ,‬فيحصل فى تقديره دار كاملة‪ ,‬وآخر ما يوجد من أثر أعماله هى الدار‬
‫الكاملة وهى أول الشياء فى حقه تقديرا وآخرها وجودا‪ ,‬لن ما قبلها من ضرب اللبن وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى‬
‫غاية وكمال وهى الدار‪ ,‬ولجلها تقدمت اللت والعمال‪ ,‬فإذا عرفت هذا فاعلم أن المقصود فطرة الدميين إدراكهم بسعادة‬
‫القرب من الحضر اللهية‪ ,‬ولم يكن ذلك إل بتعريف النبياء وكانت النبوة مقصودة باليجاد‪ ,‬والمقصود كمالها وغايتها ل أولها‪,‬‬
‫وإنما تكمل بحسب سنة ا تعالى بالتدريج كما تكمل عمارة الدار بالتدريج لتمهيد أصل النبوة بآدم عليه السلم‪ ,‬ولم يزل ينمو‬
‫ويكمل حتى بلغ الكمال بمحمد عليه السلم‪ ,‬وكان المقصود كمال النبوة وغايتها وتمهيد أوائالها وسيلة إليها كتأسيس البنيان وتمهيد‬
‫أصول الحيطان‪ ,‬فإمه وسيلة إلى كمال صورة الدار ولهذا السر كان خاتم النبيين فأن الزيادة على الكمال نقصان وكمال شكل اللة‬
‫الباطشة كف عله خمس أصابع‪ ,‬فكما أن ذا الصابع الربعة ناقص فذو الصابع الستة ناقص‪ ,‬لن السادسة زيادة على الكفاية فهو‬
‫نقصان فى الحقيقة‪ ,‬وإن كانت زيادة فى الصور‪ ,‬وإليه الشارة بقوله عليه السلم‪ :‬مثل النبوة كمثل دار معمورة لم يبق فيها إل‬
‫موضع لبنة‪ ,‬فكنت أنا موضع تلك اللبنة أو لفظ هذا معناه‪ ,‬فإذا عرفت أن كونه خاتم النبيين ضرورة ل يتصور خلفة إذا بلغ به‬
‫الغاية والكمال‪ ,‬والغاية أول التقدير‪ ,‬آخر فى الوجود‪.‬‬
‫وأما قوله عليه السلم‪" :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين"‪ .‬فهو أيضا إشارة إلى ما ذكرناه‪ ,‬وأنه كان نبيا فى التقدير قبل تمام خلقه‬
‫آدم عليه السلم‪ ,‬لنه لم يشأ خلق آدم إل لينتزع الصافى من ذريته‪ ,‬ول يستصفى تدريجا إلى أن بلغ كمل الصفاء‪ ,‬فقيل الروح‬
‫القدسى النبوى المحمدى ول تفهم هذه الحقيقة إل بأن تعلم أن للدار‪ ,‬مثل وجودين وجود‬
‫ص ‪391‬‬
‫فى ذهن المهندس ودماغه حتى كأنه ينظر إلى صورة الدار‪ ,‬ووجودها خارج الذهن فى العيان‪ .‬والوجود الذهنى سبب الوجود‬
‫الخارجى العينى فهو سابق ل محالة‪ ,‬فكذلك فأعلم أن ا تعالى يقدر أول ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا وإنما التقدير يرسم فى‬
‫اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أول فى اللوح أو فى القرطاس‪ ,‬فتصير الدار موجودة بمكال صورتها نوعا من الوجود‪,‬‬
‫فيكون هو سببا للوجود الحقيقى‪ ,‬كما أن هذه الصورةترسم فى لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجرى على وفق العلم بل العلم‬
‫مجريه‪ ,‬فكذلك تقدير صورة المور اللهية ترسم أول فى اللوح المحفوظ‪ ,‬وإنما ينتقش اللوح المحفوظ من القلم والقلم يجرى على‬
‫وفق العلم‪ ,‬واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصورة فيها‪ ,‬والقلم عبارة عن وجود منه تفيض الصور على اللوح المنقوش‪,‬‬
‫فإن حد القلم هو الناقش لصور‪ ,‬وليس من شرطهما أن يكون قصبا أو خشبا المعلومات فى اللوح‪ ,‬واللوح هو المنتقش بتلك‬
‫الصور‪ ,‬بل من شرطهما أن ل يكونا جسمين فالجسمية ل تدخل فى حد القلمية واللوحية هو ما ذكرنا والزائاد عليه صورته ل‬
‫معناه‪ ,‬فل يبعد أن يكون قلم ا تعالى ولوحه لئاقا بأصبعيه ويده‪ ,‬وكل ذلك على ما يليق بذاته وإلهيته فتقدس عن حقيقة الجسمية‪,‬‬
‫بل جملتها جواهر روحانية‪ .‬عالية بعضها معلم كالقلم‪ ,‬وبعضها متعلم كاللوح‪ ,‬فإن ا تعالى علم بالقلم‪ ,‬فإذا تعلمت نوعية الوجود‬
‫فقد كان نبيا قبا آدم عليه السلم بمعنى الوجود الول التقديرى دون الوجود الثانى الحسى العينى‪ ,‬والحمد ل رب العالمين‪,‬‬
‫والصلة والسلم على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين آمين‪.‬‬
‫بداية الهداية‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الحمد ل حق حمده‪ ,‬والصلة والسلم على خير خلقه محمد رسوله وعبده‪ ,‬وعلى آله وصحبه من بعده‪.‬‬
‫أما بعد‪ ,‬فاعلم أيها الحريص المقبل على العلم‪ ,‬المظهر مننفسه صدق الرغبة وفرض التعطش إلبه‪ ,‬أنك إن كنت تقصد بطلب العلم‬
‫المنافسة والمباهاة والتقدم على القران واستمالة وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنيا‪ ,‬فأنت ساع فه هدم دينك وإهلك نفسك وبيع‬
‫آخرتك بدنياك‪ ,‬فصفقتك خاسرة وتجارتك بائارة ومعلمك معين لك على عصيانك وشريك لك فى خسرانك‪ ,‬وهو كبائاع سيف من‬
‫قاطع طريق كما قال صلى ا عليه وسلم‪" :‬من أعان على معصية ولو بشطر كلمة كان شريكا له فيها"‬
‫وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين ا تعالى من طلب العلم الهداية دون مجرد‬
‫ص ‪392‬‬
‫الرواية فأبشر‪ ,‬فأن الملئاكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت‪ ,‬وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت‪ ,‬ولكن ينبغى لك أن تعلم قبل كل‬
‫شئ أن الهداية التى هى ثمرة العلم‪ ,‬لها بداية ونهاية وظاهر وباطن‪ ,‬ول وصول إلى نهايتها إل بعد إحكام بدايتها‪ ,‬ول عثور على‬
‫باطنها إل بعد الوقوف على ظاهرها‪.‬‬
‫وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك وتمتحن بها قلبك‪ ,‬فإن صادفت قلبك إليها مائال ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة‪,‬‬
‫فدونك التطلع إلى النهايات والتغلغل فى بحار العلوم‪ ,‬وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوقا وبالعمل بمقتضاها مماطل‪,‬‬
‫فأعلم أن نفسك المائالة إلى طلب العلم هى النفس المارة بالسوء‪ ,‬وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره‬
‫فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلك‪ ,‬وقصده أن يروج عليك الشر فى معرض الخير حتى يلحقك بالخسرين أعمال الذين ضل‬
‫سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‪ ,‬وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل العلم ودرجة العلماءوما ورد فيه من‬
‫الثار والخبار‪ ,‬ويلهيك عن قوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬من ازداد علما ولم يزددهدى لم يزدد من ا إل إل بعدا"‪ ,‬وعن قوله‬
‫صلي ا عليه وسلم‪" :‬أشد الناس عذبا يوم القيامة عالم لم ينفعه ا بعلمه"‪ ,‬وكان صلى ا عليه وسلم يقول‪" :‬اللهم إنى أعوذ بك‬
‫من علم ل ينفع وقلب ل يخشعوعمل ل يرفع ودعاء ل تسمع"‪ ,‬وعن قوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬مررت ليلة أسرى بى بأقوام‬
‫تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ قالو كنا نأمر بالخير ول نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه"‪.‬‬
‫فأياك يا مسكين أن تزعن لتزويره فيدلك بحبل غروره ‪ ,‬فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة واحدة! وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم‬
‫ألف مرة!‬
‫واعلم أن الناس غى طلب العلم على ثللثة أحوال‪ :‬رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد‪ ,‬ولم يقصد به إل وجه ا والدار‬
‫الخرة‪ ,‬فهذا من الفائازين‪ ,‬ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة‪ ,‬وينال به العز والجاه والمال‪ ,‬وهو عالم مستشعر فى قلبه‬
‫ركاكة حاله وخسة مقصده؛ فهذا من المخاطرين‪ ,‬فإن عاجلة أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة وبقى أمره فى خطر‬
‫المشيئاة‪ ,‬وإن وفق للتوبة قبل حلول الجل وأضاف إلى العلم والعمل وتدارك ما فرط فيه من الخلل‪ ,‬التحق بالفائازين؛ فأن التائاب‬
‫من الذنب كمن ل ذنب له‪ .‬ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان ‪ ,‬فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال والتفاخر بالجاه والتعزز‬
‫بكثرة التباع‪ ,‬يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن يقضى من الدنيا وطره‪ ,‬وهو مع ذلك يضمر فى نفسه أنه عند ا بمكانة لتسامه‬
‫بسمة العلماء وترسمه برسومهم فى الزى والمنطق‪ ,‬مع تكالبه مع الدنيا ظاهرا وباطنا؛ فهذا من الهالكين ومن‬
‫ص ‪393‬‬
‫الحمقى المغرورين‪ ,‬إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين وهو غافل عن قوله تعالى‪) :‬يا أيها الذين آمنوا لم تقولون‬
‫ما ل تفعلون (]الصف‪ .[2 :‬وهو ممن قال فيهم رسول ا صلى ا عليه وسلم‪" :‬أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال"‪,‬‬
‫فقيل‪ :‬فما هو يا رسول ا؟ فقال‪" :‬علماء السوء"‪ .‬وهذا أن الدجال غايته الضلل‪ ,‬ومثل هذا العالم وأن صرف الناس عن الدنيا‬
‫بلسانه ومقاله فهو داع لهم إليها بأعماله وأحواله‪ ,‬ولسان الحال أفصح من لسان المقال‪ ,‬وطباع الناس إلى المشاهدة فى العمال‬
‫أميل منها إلى المتابعة فى القوال؛ فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله إذ ل يستجرئ الجاهل على الرغبة فى‬
‫الدنيا إل باستجراء العلماء‪ ,‬فقد صار علمه سببا لجراءة عباد ا على معاصيه‪ ,‬ونفسه الجاهلة مدلة مع ذلك تمنيه وترجيه‪,‬‬
‫وتدعوه إلى أن يمن على ا بعلمه‪ ,‬وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد ا‪ ,‬فكن أيها الطالب من الفريق الول‪ ,‬واحذر أن‬
‫تكونمن الفريق الثانى! فكم من مسوف عاجله الجل قبل التوبة فخسر‪ ,‬وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث فتهلك هلكا ل‬
‫يرجى معه فلحك ول ينتظر صلحك‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬فما بداية الهداية لجرب بها نفسى؟‬
‫فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى‪ ,‬ونهايتها باطنة التقوى‪ ,‬فل عاقبة إل بالتقوى‪ ,‬ول هداية إل للمتقين‪ .‬والتقوى هى عبارة عن امتثال‬
‫أوامر ا تعالى واجتناب نواهيه‪ ,‬فهما قسمان‪ .‬وها أنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم التقوى فى القسمين جميعا‪,‬‬
‫وألحق قسما ثالثا ليصير هذا الكتاب جامعا مغنيا وا المستعان‪.‬‬
‫القسم الول فى الطاعات‬
‫اعلم أن أوامر ا تعالى فرائاض ونوافل‪ :‬فالفرض رأس المال وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة‪ ,‬والنفل هو الربح وبه الفوز‬
‫بالدرجات‪ ,‬قال صلى ا عليه وسلم‪" :‬يقول ا تبارك وتعالى‪ :‬ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم‪ ,‬وما زال‬
‫العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‪ ,‬فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به ويده التى‬
‫يبطش بها ورجله التى يمشى بها"‬
‫ولن تصل أيها الطالب إلى القيام بأوامر ا تعالى إل بمراقبة قلبك وجوارحك فى لحظاتك وأنفاسك من حين حتى تصبح إلى حين‬
‫تمسى؛ فاعلم أن ا تعالى مطلع على ضميرك‪ ,‬ومشرف على ظاهرك وباطنك‪ ,‬ومحيط بجميع لحظاتك وخطراتك وخطواتك‪,‬‬
‫وسائار سكناتك وحركاتك‪ ,‬وأنك فى مخالطتك وخلواتك مترر بين يديه‪ ,‬فل يسكن فى الملك والملكوت ساكن ول يتحرك متحرك‬
‫إل وجبار السموات والرض مطلع عليه )يعلم‬
‫ص ‪394‬‬
‫خائانة العين وما تخفى الصدور( ]غافر‪) .[19 :‬يعلم السر وأخفى( ]طه‪ .[7 :‬فتأدب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يدى ا‬
‫تعالى بأدب العبد الذليل المذنب فى حضرة الملك الجبار القهار‪ ,‬واجتهد أن ل يراك مولك حيث نهاك‪ ,‬ول يفقدك حيث أمرك‪,‬‬
‫ولن تقدر على ذلك إل بأن توزع أوقاتك وترتب أورادك من صباحك إلى مسائاك‪ ,‬فاصغ إلى ما يلقى إليك من أوامر ا تعالى‬
‫عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك‪.‬‬
‫فصل غى آداب الستيقاظ من النوم‬
‫فإذا استيقظت من النوم فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر‪ ,‬وليكن أول ما يجرى على قلبك ولسانك ذكر ا تعالى‪ ,‬فقل عند ذلك‪:‬‬
‫أصبحنا وأصبح الملك ل‪ ,‬والعظمة والسلطان ل‪ ,‬والعزة والقدرة ل رب‬ ‫الحمد ل الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور‪,‬‬
‫العالمين؛ أصبحنا على فطرة السلم‪ ,‬وعلى كلمة الخلص‪ ,‬وعلى دين نبينا محمد صلى ا عليه وسلم‪ ,‬وعلى ملة أبينا إبراهيم‬
‫حنيفا مسلما وما كانمن المشركين‪ .‬اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور‪ .‬اللهم أنا نسألك ن‬
‫تبعثا غى هذا اليوم إلى كل خير‪ ,‬ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءا أو نجره إلى مسلم أو يجره أحد إلينا‪ .‬نسألك خير هذا اليوم وخير‬
‫ما فيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشرما فيه‪.‬‬
‫فإذا لبست ثيابك فانو به امتثال أوامر ا تعالى غى ستر عورتك‪ ,‬واحذر أن يكون قصدك من لباسك مراءاة الخلق فتخسر‪.‬‬
‫باب آداب دخول الخلء‬
‫فإذا قصدت بيتن الخلء لقضاء الحاجة فقدم فى الدخول رجلك اليسرى‪ ,‬وفى الخروج رجلك اليمنى‪ ,‬ول تستصحب شيئاا عليه اسم‬
‫ا تعالى ورسوله‪ ,‬ول تدخل حاسر الرأس ول حافى القدمين‪ .‬وقل عند الدخول‪ :‬باسم ا‪ ,‬أعوذ بال من الرجس النجس الخبيث‬
‫المخبث الشيطان الرجيم؛ وعند الخروج‪ :‬غفرانك الحمد ل الذى أذهب عنى ما يؤذينى‪ ,‬وأبقى على ما ينفعنى‪.‬‬
‫وينبغى أن تعد للغسل قبل قضاء الحاجة‪ ,‬وأن ل تستنجى بالماء فى موضع قضاء الحاجة‪ ,‬وأن تستبرئ من البول بالتنحنح والنثر‬
‫ثلثا‪ ,‬وبإمرار اليد اليسرى على أسفل القضيب‪ .‬وإن كنت فى الصحراء فابعد عن عيون الناظرين أو استتر بشئ إن وجدته‪ ,‬ول‬
‫تكشف عورتك قبل النتهاء إلى موضع الجلوس‪ ,‬ول تستقبل الشمس ول القمر‪ ,‬ول‬
‫ص ‪395‬‬
‫تستقبل القبلة ول تستدبرها‪ ,‬ول تجلس فى متحدث الناس‪ ,‬ول تبل فى الماء الراكد وتحت الشجرة المثمرة‪ ,‬ول فى الحجر‪ .‬واحذر‬
‫الرض الصلبة ومهب الريح احترازا من الرشاش‪ ,‬لقوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬إن عامة عذاب القبر منه"‪ .‬واتكئ فى جلوسك‬
‫على الرجل اليسرى‪ ,‬ول تبل قائاما إل عن ضرورة‪ ,‬واجمع فى الستنجاء بين استعمال الحجر والماء‪ ,‬فإذا اردت القتصار عن‬
‫أحدهما فالماء أفضل‪ ,‬وإن اقتصرت على الحجر فعليك أن تستعمل ثلثة أحجار طاهرة منشفة للعين‪ ,‬تمسح بها محل النجو بحيث‬
‫ل تنقل النجاسة عن موضعها‪ ,‬وكذلك تمسح القضيب فى ثلثة مواضع من حجر‪ ,‬فإن لم يحصل النقاء بثلثة فتمم خمسة أو سبعة‬
‫إلى أن ينقى باليتار‪ ,‬فاليتار مستحب والنقاء واجب‪ .‬ول تستنج إل باليد اليسرى‪ ,‬وقل عند الفراغ من الستنجاء‪ :‬اللهم طهر‬
‫قلبى من النفاق‪ ,‬وحصن فرجى من الفواحش‪ ,‬وادلك يدك بعد تمام الستنجاء بالرض أو بحائاط ثم اغسلها‪.‬‬
‫آداب الوضوء‬
‫فإذا فرغت من الستنجاء فل تترك السواك‪ ,‬فإنه مطهرة للفم ومرضاة للرب ومسخطة للشيطان‪ ,‬وصلة بسواك أفضل من سبعين‬
‫صلة بل سواك؛ وروى عن أبى هريرة رضى ا عنه قال‪ :‬قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪" :‬لول أشق على أمتى لمرتهم‬
‫بالسواك فى كل صلة"‪ ,‬وعنه صلى ا عليه وسلم‪" :‬أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على"‪.‬‬
‫ثم اجلس للوضوء مستقبل القبلةعلى موضع مرتفع كى ل يصيبك الرشاش وقل‪ :‬بسم ا الرحمن الرحيم‪ ,‬رب أعوذ بك من‬
‫همزات الشياطين ‪ ,‬وأعوذ بك رب أن يحضرون‪ .‬ثم اغسل يديك ثلثا قبل أن تدخلهما الناء وقل‪ :‬اللهم إنى أسألك اليمن والبركة‪,‬‬
‫وأعوذ بك من الشؤم والهلكةز ثم انو رفع الحدث أو استباحة الصلة؛ ول ينبغى أن تعزب نيتك قبل غسل الوجه فل يصح‬
‫وضوءك‪ .‬ثم خذ غرفة لفيك وتمضمض بها ثلثا‪ ,‬وبالغ فى رد الماء إلى الغلصمة‪ ,‬إل أن تكون صائاما‪ ,‬فترفق وقل‪ :‬اللهم أعنى‬
‫على تلوة كتابك وكثرة الذكر لك‪ ,‬وثبتنى بالقول الثبت فى الحياة الدنيا وفى الخرة‪ .‬ثم خذ غرفة لنفك واستنشق بها ثلثا‪,‬‬
‫واستنثر ما فى النف من الرطوبة‪ ,‬وقل فى الستنشاق‪ :‬اللهم أرحنى رائاحة الجنة وأنت عنى راض؛ وفى الستنثار‪ :‬اللهم إنى‬
‫أعوذ بك من من روائاح النار وسوء الدار‪ .‬ثم خذ غرفة لوجهك واغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن‬
‫من طول‪ ,‬ومن الذن إلى الذن فى العرض‪ ,‬وأوصل الماء إلى موضع التحذيف‪ ,‬وهو يعتاد النساء تنحية الشعر عنه وهو ما بين‬
‫رأس الذن إلى زاوية الجبين‪ ,‬أعنى ما يقع منه فى جبهة الوجه؛ وأوصل الماء إلى منابت الشعور الربعة‪ :‬الحاجبين‬
‫ص ‪396‬‬
‫والشاربين‪ ,‬والهداب والعذارين؛ وهما ما يوازيان الذنين من مبتدأ اللحية‪ .‬يجب إيصال الماء إلى منابت الشعر من اللحية الخفيفة‬
‫دون الكثيفة؛ وقل عند غسل الوجه‪ :‬اللهم بيض وجهى بنورك يوم تبيض وجوه أوليائاك‪ ,‬ول تسود وجهى بظلماتك يوم تسود وجوه‬
‫أعدائاك‪ .‬ول تترك تخليل اللحية الكثيفة‪.‬‬
‫ثم أغسل يدك اليمنى‪ ,‬ثم اليسرى مع المرفقين إلى أنصاف العضدين‪ ,‬فإن الحلية فى الجنة تبلغ مواضع الوضوء‪ ,‬وقل عند غسل‬
‫اليمنى‪ :‬اللهم أعطنى كتابى بيمينى وحاسبنى حسابا يسيرا؛ وعند غسل الشمال‪ :‬اللهم إنى أعوذ بك أن تعطينى كتابى بشمالى أو من‬
‫وراء ظهرى‪.‬‬
‫ثم استوعب رأسك بالمسحبأن تبل يديك‪ ,‬وتلصق رءوس أصابع يديك اليمنى باليسرى‪ ,‬وتضعهما على مقدمة الرأس‪ ,‬وتمرها إلى‬
‫القفا‪ ,‬ثم تردهماللى المقدمة‪ ,‬فهذه مرة؛ تفعل ذلك ثلث مرات؛ وكذلك فى سائار العضاء وقل‪ :‬اللهم غشنى برحمتك‪ ,‬وانزل‬
‫على من بركاتك‪ ,‬وأظللنى تحت ظل عرشك يوم ل ظل إل ظلك؛ اللهم حرم شعرى وبشرى على النار‪.‬‬
‫ثم امسح أظاهرهما وباطنهما بماء جديد وقل‪ :‬اللهم اجعلنى من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪ ,‬اللهم أسمعنى منادى الجنة‬
‫فى الجنة مع البرار‪.‬‬
‫ثم امسح رقبتك وقل‪ :‬اللههم فك رقبتى من النار‪ ,‬وأعوذ بك من السلسل والغلل‪.‬‬
‫ثم أغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين‪ ,‬وخلل بخنصر اليسرى أصابع رجلك اليمنى مبتدئاا بخنصرها حتى تختم‬
‫بخنصراليسرى‪ ,‬وتدخل الصابع من أسفل وقل‪ :‬اللهم ثبت قدمى على الصراط المستقيممع أقدام عبادك الصالحين‪ .‬وكذلك تقول‬
‫عند غسل اليسرى‪ :‬اللهم إنى أعوذ بك أن تزل قدمى على الصراط فى النار يوم تزل أقدام المنافقين والمشركين‪.‬‬
‫وأرفع الماء إلىأنصاف الساقين‪ ,‬وراع التكرار ثلثافى جميع أفعالك‪ .‬فإذا فرغت من الوضوء فارفع بصرك إلى السماء وقل‪ :‬إشهد‬
‫أن ل إله إل ا وحده ل شريك له‪ ,‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‪ ,‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ,‬أشهد أن ل إله إل أنت ‪ ,‬عملت سوءا‬
‫وظلمت نفسى‪ ,‬أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لى وتب على إنك أنت التواب الرحيم‪ ,‬اللهم اجعلنى من التوابين‪ ,‬واجعلنى من‬
‫المتطهرين‪ ,‬واجعلنى من عبادك الصالحين‪ ,‬واجعلنى صبورا شكورا‪ ,‬واجعلنى أذكرك ذكرا كثيرا وأسبحك بكرة وأصيل‪.‬‬
‫ص ‪397‬‬
‫فمن قال هذه الدعوات فى وضوئاه خرجت خطاياه من جميع أعضائاه‪ ,‬وختم على وضوئاه بخاتم‪,‬ورفع له تحت العرش‪ ,‬فلم يزل‬
‫يسبح ا تعالى ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫واجتنب فى وضوئاك سبعا‪ :‬ل تنفض يدك فترش الماء‪ .‬ول تلطم وجهك ول رأسك بالماء لطما‪ .‬ول تتكلم أثناء الوضوء‪ .‬ول تزد‬
‫فى الغسل عن ثلث مرات‪ .‬ول تكثر صب الماء من غير حاجةلمجرد الوسوسة‪ ,‬فللموسوسين شيطان يلعب بهم يقال له الوهان‪,‬‬
‫ول تتوضأ بالماء المشمس ول من الوانى الصفرية فهذه السبعة مكروهة فى الوضوء‪ .‬وفى الخبر أن من ذكر ا عند وضوئاه‬
‫طهر ا جسده كله‪ ,‬ومن لم يذكر ا لم يطهر منه إل ما أصابه الماء‪.‬‬
‫آداب الغسل‬
‫فإذا أصابتك جنابة من احتلم أو وقاع ‪ ,‬فخذ الناء إلى المغتسل واغسل يديك أول ثلثا‪ ,‬وأزل ما على بدنك من قذر‪ ,‬وتوضأ كما‬
‫سبق فى وضوئاك للصلة مع جميع الدعوات؛ وأخر غسل قدميك كيل يضيع الماء‪ .‬فإذا فرغت من الوضوء فصب الماء على‬
‫رأسك ثلثا وأنت ناو رفع الحدث من الجنابة‪ ,‬ثم على شقك اليمن ثلثا ثم اليسر ثلثا‪ .‬وادلك ما أقبل من بدنك وما أدبرثلثا‬
‫ثلثا‪ ,‬وخلل شعر رأسك ولحيتك‪ ,‬وأوصل الماء إلى معاطف البدن ومنابت الشعر ما خف منه وما كثف‪ .‬واحذر أن تمس ذكرك‬
‫بعد الوضوء‪ ,‬فإن أصابته يدك فأعد الوضوء‪ ,‬والفريضه من جملة ذلك كله النية وإزالة النجاسة واستيعاب البدن بالغسل‪.‬‬
‫وفرض الوضوء غسل الوجه واليدين مع المرفقين‪ ,‬ومسح بعض المرفقين‪ ,‬ومسح بعض الرأس‪ ,‬وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة‬
‫مرة مع النية والترتيب‪ ,‬وما عداه سسن مؤكدة فضلها كثير وثوابها جزيل‪ ,‬والمتهاون بها خاسر بل هو بأصل فرائاضه مخاطر‪,‬‬
‫فإن النوافل جوابر للفرائاض‪.‬‬
‫آداب التيمم‬
‫فإن عجزت عن إستعمال الماء لفقده بعد الطلب‪ ,‬أو لعذر من مرض‪ ,‬أو لمانع من الوصول إليه من سبع أو حبس‪ ,‬أو كان الماء‬
‫الحاضر تحتاج إليه لعطشك أو لعطش رفيقك‪ ,‬أو كان ملكا لغيرك ولم يبع إل بأكثر من ثمن المثل‪ ,‬أو كان بك جراحة أو مرض‬
‫تخاف منه على نفسك‪ ,‬فاصبر حتى يدخل وقت الفريضة ثم أقصد صعيدا طيبا عليه تراب خالص‬
‫ص ‪398‬‬
‫طاهر لين‪ ,‬فاضرب عليه بكفيك ضاما بين أصابعك‪ ,‬وانو استباحة فرض الصلة وامسح بهما وجهك كله مرة واحدة‪ ,‬ول تتكلف‬
‫إيصال الغبار إلى منابت الشعر خف أو كثف‪ ,‬ثم انزع خاتمك واضرب ضربة ثانية مفرقا بين أصابعك ‪ ,‬وامسح بهما يديك مع‬
‫مرفقيك‪ ,‬فإن لم تستوعبهما فاضرب ضربة أخرى إلى أن تستوعبهما‪ ,‬ثم امسح إحدى كفيك بالخرى‪ ,‬وامسح ما بين أصابعك‬
‫بالتخليل‪ ,‬وصل به فرضا واحدا وما شئاتمن النوافل‪ ,‬فإن أردت فرضا ثانيا فاستأنف له تيمما آخر‪.‬‬
‫آداب الخروج من المسجد‬
‫فإذا فرغت من طهارتك فصل فى بيتك ركعتى الصبح إن كان الفجرقد طلع‪ ,‬كذلك كان يفعل رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ .‬ثم‬
‫توجه إلى المسجد‪ ,‬ول تدع صلة فى الجماعة لسيما الصبح‪ ,‬فصلة الجماعة تفضل على صلة الفرد بسبع وعشرين درجة‪ .‬فإن‬
‫كنت تتساهل فى مثل هذا الربح فأى فئادة لك فى طلب العلم؟ وإنما ثمرو العل العمل به‪ ,‬فإذا سعيت إلى المسجد فأمشعلى هينة‬
‫وتؤدة وسكينة‪ ,‬ول تعجل‪ ,‬وقل غى طريقك‪ :‬اللهم إنى أسألك بحق السائالين عليك‪ ,‬وبحق الراغبين إليك‪ ,‬وبحق ممشاى هذا إليك‪,‬‬
‫فإنى لم أخرج أشرا ول بطرا ول رياء ول سمعة‪ ,‬بل خرجت إتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك‪ ,‬فأسألك أن تنقذنى من النار‪ ,‬وأن‬
‫تغفر لى ذنوبى فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪.‬‬
‫آداب دخول المسجد‬
‫فإذا أردت الدخول إلى المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل‪ :‬اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم‪ ,‬اللهم اغفر لى ذنوبى‬
‫وافتح لى أبواب رحمتك‪.‬‬
‫ومهما رأيت فى المسجد من يبيع أو يبتاع فقل‪ :‬ل أربح ا تجارتك! وإذا رأيت فيه من ينشد ضالة فقل‪ :‬ل رد ا عليك ضالتك!‬
‫كذلك أمر رسول ا صلى ا عليه وسلم‪.‬‬
‫فإذا دخلت المسجد فل تجلس حتى تصلى ركعتى التحية‪ ,‬فإن لم تكن على طهارة أو لم ترد فعلها كفتك الباقيات الصالحات ثلثا‪,‬‬
‫وقيل أربعا‪ ,‬وقيل ثلثا للمحدث‪ ,‬وواحد للمتوضئ‪ .‬فإن لم تكن صليت فى بيتك ركعتى الفجر فيجزئاك أداؤهما عن التحية؛ فإذا‬
‫فرغت من الركعتين فانو العتكاف وادع بما دعا به رسول ا صلى ا عليه وسلم بعد ركعتى الفجر فقل‪" :‬اللهم إنى أسألك‬
‫رحمة من عندك تهدى بها قلبى‪ ,‬وتجمع بها شملى‪ ,‬وتلم بها شعثى‪ ,‬وترد بها ألفتى‪ ,‬وتصلح بها دينى‪ ,‬وتحفظ بها غائابى‪ ,‬وترفع‬
‫بها شاهدى‪ ,‬وتزكى بها عملى‪ ,‬وتبيض بها وجهى‪ ,‬وتلهمنى بها رشدى‪ ,‬وتقضى بها حاجتى‪ ,‬وتعصمنى بها من‬
‫ص ‪399‬‬
‫كل سوء اللهم إنى أسألك إيمانا خالصادائاما يباشر قلبى‪ ,‬وأسألك يقينا صادقا حتى أعلم أنه لم يصيبنى إل ما كتبته على‪ ,‬ورضنى‬
‫بما قسمته لى‪ .‬اللهم إنى أسألك إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر‪ ,‬وأسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك فى الدنيا والخرة‪ .‬اللهم‬
‫إنى أسألك الفوز عند اللقاء‪ ,‬والصبر عند القضاء‪ ,‬ومنازل الشهداء وعيش السعداء‪ ,‬والنصر على العداء‪ ,‬ومرافقة النبياء‪ .‬اللهم‬
‫إنى أنزل بك حاجتى وإن ضعف }ايى وقصر عملى وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضى المور ويا شافى الصدور كما تجير‬
‫بين البحور أن تجيرنى من عذاب السعير‪ ,‬ومن فتنة القبور‪ ,‬ومن دعوة الثبور‪ .‬اللهم ما قصر عنه رأيى وضعفى عنه عملى ولم‬
‫تبلغه نيتى وأمنيتى من خير وعدته أحدا من عبادك ‪ ,‬أو خير أنت معطيه أحدا من خلقك‪ ,‬فإنى أرغب إليك فيه‪ ,‬وأسألك إياه يا رب‬
‫العالمين‪ .‬اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ول مضلين‪ ,‬حربا لعدائاك‪ ,‬سلما لوليائاك؛ نحب بحبك الناس ونعادى بعداوتك‬
‫منخالفك من خلقك‪ .‬اللهم هذا الدعاء وعليك الجابة‪ ,‬وهذا الجهد وعليك التكلن‪ .‬وإنا ل وإنا إليه راجعون‪ ,‬ول حول ول قوة إل‬
‫بال العلى العظيم‪ .‬اللهم ذا الحبل الشديد والمر الشديد‪ ,‬أسألك المن يوم الوعيد‪ ,‬والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود‪ ,‬الركع‬
‫السجود‪ ,‬الموفين لك بالعهود‪ ,‬إنك رحيم ودود‪,‬وأنت تفعل ما تريد‪ ,‬سبحان من اتصف بالعز وقال به! سبحان من لبس المجدوتكرم‬
‫به!سبحان من ل يبغى التسبيح إل له! سبحان ذى الفضل والنعيم سبحان ذى الجود والكرم! سبحان الذى أحصى كل شئ بعلمه!‬
‫اللهم اجعل لى نورا غى قلبى‪ ,‬ونورا فى قبرى‪ ,‬ونورا فى سمعى‪ ,‬ونورا فى بصرى‪ ,‬ونورا فى شعرى‪ ,‬ونورا فى بشرى‪ ,‬ونورا‬
‫فى لحمى‪ ,‬ونورا فى دمى‪ ,‬ونورا فى عظمى‪ ,‬ونورا من بين يدى‪ ,‬ونورا من خلفى‪ ,‬ونورا عن شمالى‪ ,‬ونورا من فوقى‪,‬‬
‫ونورامن تحتى‪ .‬اللهم زدنى نورا وأعطنى نورا أعظم نور‪ ,‬واجعل لى نورا برحمتك ياأرحم الراحمين"‪.‬‬
‫فإذا فرغت من الدعاء فل تشتغل إلى وقت الفرض إل بذكر أو تسبيح أو قراءة قرآن‪ ,‬فإذا سمعت الذان فى أثناء ذلك فاقطع ماأنت‬
‫فيه واشتغل بجواب المؤذن‪ ,‬فإذا قال المؤذن‪ :‬ا أكبر‪ ,‬فقل مثل ذلك‪ ,‬وكذلك فى كل كلمة إل فى الحيعلتين فقل فيهما‪ :‬لح حول ول‬
‫قوة إل بال العلى العظيم‪ .‬فإذا قال‪ :‬الصلة خير من النوم‪ ,‬فقل‪ :‬صدقت وبررت وأنا على ذلك من الشاهدين‪ .‬فإذا سمعت القامة‬
‫فقل فقل مثل ما يقول إل فى قوله‪ :‬قد قامت الصلة فقل‪ :‬أقامها ا وأدامها ما دامت السموات والرض‪ .‬فإذا فرغت من جواب‬
‫المؤذن فقل‪ :‬اللهم إنى أسألك عند حضور صلتك ‪ ,‬وأصوات دعاتك‪ ,‬وإدبار ليلك‪ ,‬وإقبال نهارك‪ ,‬أن تؤتى محمدا الوسيلة‬
‫والفضيلة والدرجة الرفيعة‪ ,‬وابعثه المقام‬
‫الذيِ وعدته إنك ص ‪400‬المحمود عند‬
‫ل تخلف الميعاد يا أرحم الراحمين فإذا سمعت الذان و أنت في الصلة ثم تدارك الجواب بعد السلم على وجهه فإذا أحرم المام‬
‫بالفرض فل تشتغل إل بالقتداء به و صل الفرض كما سيتلى عليك في كيفية الصلة و آدابها فإذا فرغت فقل اللهم صل على محمد‬
‫و على آل محمد و سلم اللهم أنت السلم و منك السلم وإليك يعود السلم فحينا ربنا بالسلم و أدخلنا الجنة دار السلم تباركت يا ذا‬
‫الجلل و الكرام سبحان ربي العلي العلى ل إله إل ا وحده ل شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي ل يموت‬
‫بيده الخير و هو على كل شيء قدير ل إله إل ا أهل النعمة و الفضل و الثناء الحسن ل إله إل ا و ل نعبد إلإياه مخلصين له‬
‫الدين و لو كره الكافرون‬
‫ثم ادع بعد ذلك بالجوامع الكوامل ما علمه رسول ا صلى ا عليه و سلم عائاشة رضي ا عنها فقل اللهم إني أسألك من الخير‬
‫كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أسألك الجنة و ما‬
‫يقرب إليها من قول و عمل و نية واعتقاد و أعوذ بك من النار و ما يقرب إليها من قول و عمل و نية و اعتقاد و أسألك من خير ما‬
‫سألك منه عبدك و رسولك محمد صلى ا عليه و سلم و أعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك و رسولك محمد صلى ا عليه و‬
‫سلم اللهم و ما قضيت علي من أمر فاجعل عاقبته رشدا ثم ادع بما أوصى به رسول ا صلى ا عليه و سلم فاطمة رضي ا‬
‫عنها فقل‪:‬يا حي يا قيوم يا ذا الجلل و الكرام ل إله إل أنت برحمتك أستغيث و من عذابك أستجير ل تكلني إلى نفسي و ل إلى‬
‫أحد من خلقك طرفة عين و أصلح لي شأني كله بما أصلحت به الصالحين‬
‫ثم قل ما قاله عيسى على نبينا و عليه الصلة و السلم اللهم إني أصبحت ل أستطيع دفع ما أكره و ل أملك نفع ما أرجو و أصبح‬
‫المربيدك ل بيد غيرك و أصبحتمرتهنا بعملي فل فقير أفقر مني إليك و ل غني أغنىمنك عني اللهم ل تشمت بي عدويِ و ل تسؤ‬
‫بي صديقي و ل تجعل مصيبتي في ديني و ل تجعل الدنيا أكبر همي و ل مبلغ علمي و ل تسلط علي بذنبي من ل يرحمني ثم ادع‬
‫بما بدا لك من الدعوات المشهورات و احفظها مما أوردناه في كتاب الدعوات من كتاب إحياء علوم الدين و لتكن أوقاتك بعد‬
‫الصلة إلى طلوع الشمس موزعة على أربع وظائاف‪:‬وظيفة في الدعوات ووظيفة في الذكار و التسبيحات و تكررها في سبحة‬
‫ووظيفة في قراءة القرآن ووظيفة في التفكر فتفكر في ذنوبك و خطاياك و تقصيرك في عبادة مولك و تعرضك‬
‫ص ‪401‬‬
‫لعقابه الليم و سخطه العظيم و ترتب أوقاتك بتدبيرك أورادك في جميع يومك لتتدارك به ما فرطت من تقصيرك وتحترز من‬
‫التعرض لسخط ا تعالى الليم في يومك و تنويِ الخير لجميع المسلمين و تعزم ان ل تشتغل في جميع نهارك إل بطاعة ا تعالى‬
‫و تفصل في قلبك الطاعات التي تقدر عليها و تختار أفضلها و تتأمل تهيئاة أسبابها لتشغل بها و ل ندع عنك التفكر في قرب الجل‬
‫و حلول الموت القاطع للمل و خروج المر عن الختيار و حصول الحسرة و الندامة بطول الغترار‬
‫و ليكن من تسبيحاتك و أذكارك عشر كلمات ‪:‬إحداهن ل إله إل ا وحده ل شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي‬
‫ل يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير الثانية‪:‬ل إله إل ا الملك الحق المبين الثالثة‪:‬ل إله إل ا الواحد القهار رب‬
‫السموات و الرض و ما بينهما العزيز الغفار الرابعة‪:‬سبحان ا و الحمد ل و ل إله إل ا و ا أكبر و ل حول و ل قوة إل بال‬
‫العلي العظيم الخامسة‪ :‬سبوح قدوس رب الملئاكة و الروح السادسة‪ :‬سبحان ا و بحمده سبحان ا العظيم السابعة ‪:‬أستغفر ا‬
‫العظيم الذيِ ل إله إل هو الحي القيوم و أسأله التوبة و المغفرة الثامنة‪:‬اللهم ل ماتع لما أعطيت و ل معطي لما منعت و ل راد لما‬
‫قضيت و ل ينفع ذا الجد منك الجد التاسعة‪:‬اللهم صل على محمد و على آل محمد و صحبه و سلم العاشرة‪:‬بسم ا الذيِ ليضر مع‬
‫اسمه شيء في الرض و ل في السماء و هو السميع العليم تكرر كل واحدة من هذه الكلمات إما مائاة مرة أو سبعين مرة أو عشر‬
‫مرات و هو أقله ليكون المجموع مائاة و لزم هذه الذكارو ل تتكلم قبل طلوع الشمس ففي الخبر أن ذلك أفضل من إعتاق ثمان‬
‫رقاب من ولد إسماعيل على نبينا و عليه الصلة و السلم أعني الشتغال بالذكر إلى طلوع الشمس من غير أن يتخلله كلم‬
‫آداب ما بين طلوع الشمس إلى الزوال‬
‫فإذا طلعت الشمس و ارتفعت قدر رمح فصل ركعتين و ذلك عند زوال وقت الكراهة فإنها مكروهة من بعد فريضة الصبح إلى‬
‫ارتفاع الشمس فإذا أضحى النهار و مضى منه قريب من ربعه فصل صلة الضحى أربعا أو ستا أو ثمانيا مثنى فقد نقلت هذه‬
‫العداد كلها عن رسول ا صلى ا عليه و سلم و الصلة خير كلها فمن شاء فليستكثر و من شاء فليستقلل فليس بين طلوع‬
‫الشمس و الزوال راتية من الصلة إل هذه فما فضل عنها من أوقاتك فلك فيه أربع حالت‪:‬‬
‫ص ‪402‬‬
‫الحالة الولى‪:‬و هي الفضل أن تصرفه في طلب العلم النافع في الدين دون الفضول الذيِ أكب الناس عليه و سموه علما و العلم‬
‫النافع هو ما يزيد في خوفك من ا تعالى و يزيد في بصيرتك بعيوب نفسك و يزيد في معرفتك بعبادة ربك و يقلل من رغبتك في‬
‫الدنيا و يزيد في رغبتك في الخرة و يفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها و يطلعك على مكايد الشيطان و غروره و‬
‫كيفية تلبيسه على علماء السوء حتى عرضهم لمقت ا تعالى و سخطه حيث اشتروا الدنيا بالدين و اتخذوا العلم ذريعة ووسيلة إلى‬
‫أخذ أموال السلطين و أكل أموال الوقاف و اليتامى و المساكين و صرف همتهم طول نهارهم إلى طلب الجاه و المنزلة في قلوب‬
‫الخلق و اضطرهم ذلك المراءاة و المماراة و المناقشة في الكلم و المباهاة و هذا الفن من العلم النافع قد جمعناه في كتاب إحياء‬
‫علوم الدين فإن كنت من أهله فحصله و اعمل به ثم علمه و ادع إليه فمن علم ذلك و عمل به ثم علمه و دعا إليه فذلك يدعى عظيما‬
‫في ملكوت السموات بشهادة عيسى عليه السلم فإذا فرغت من ذلك كله و فرغت من إصلح نفسك ظاهرا و باطنا و فضل شىء‬
‫من أوقاتك فل بأس أن تشتغل بعلم المذهب في الفقه لتعرف به الفروع النادرة في العبادات و طريق التوسط بين الخلق في‬
‫الخصومات عند انكبابهم على الشهوات فذلك أيضا بعد الفراغ من هذه المهمات من جملة فروض الكفايات فإن دعتك نفسك إلى‬
‫ترك ما ذكرناه من الوراد و الذكار استثقال لذلك فاعلم أن الشيطان اللعين قد دس في قلبك الداء الدفين و هو حب المال و الجاه‬
‫فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فيهلكك ثم يسخر منك فإن جبرت نفسك مدة في الوراد و العبارات فكنت ل تستثقلها كسل عنها‬
‫لكن ظهرت رغبتك في تحصيل العلم النافع و لم ترد به إل وجه ا تعالى و الدار الخرة فذلك أفضل من نوافل العبادات مهما‬
‫صحت النية و لكن الشأن في صحة النية فإن لم تصح فهو معدن غرور الجهال و مزلة أقدام الرجال‬
‫الحالة الثانية‪:‬أن ل تقدر على تحصيل العلم النافع في الدين لكن تشتغل بوظائاف العبادات من الذكر و التسبيح و القراءة و الصلة‬
‫فذلك من درجات العابدين و سير الصالحين و تكون أيضابذلك من الفائازين‬
‫الحالة الثالثة ‪:‬أن تشتغل بما يصل منه خير الى المسلمين و يدخل به سرور على قلوب المؤمنين أو يتيسر به العمال الصالحة‬
‫للصالحين كخدمة الفقهاء و الصوفية و أهل الدين و التردد في أشغالهم و السعي في إطعام الفقراء و المساكين و التردد مثل على‬
‫المرضى بالعيادة و على الجنائاز بالتشييع فكل ذلك أفضل من النوافل فإن هذه عبادات و فيها رفق للمسلمين‬
‫ص ‪403‬‬
‫الحالة الرابعة‪:‬إن لم تقو على ذلك فاشتغل بحاجاتك اكتسابا على نفسك أو على عيالك و قد سلم منك المسلمون و أمنوا من لسانك و‬
‫يدك و سلم لك دينك إذا لم ترتكب معصية فتنال بذلك درجة أصحاب اليمين إن لم تكن من أهل الترقي إلى مقامات السابقين فهذا‬
‫أقل الدرجات في مقامات الدين و ما بعد هذا فهو مراتع الشياطين و ذلك بأن تشتغل و العياذ بال بما يهدم دينك أو تؤذيِ عبدا من‬
‫عباد ا تعالى فهذه رتبة الهالكين فإياك أن تكون في هذه الطبقة و اعلم أن العبد في حق دينه على ثلث درجات ‪:‬إما سالم و هو‬
‫المقتصر على آداء الفرائاض و ترك المعاصي أو رابح و هو المتطوع بالقربات و النوافل أو خاسر و هو المقصر على اللوازم فإن‬
‫لم تقدر أن تكون رابحا فاجتهد أن تكون سالما و إياك ثم إياك أن تكون خاسرا‬
‫و العبد في حق سائار العباد له ثلث درجات ‪:‬الولى‪:‬أن ينزل في حقهم منزلة الكرام البررة من الملئاكة و هو أن يسعى في‬
‫أغراضهم رفقا بهم و إدخال للسرور على قلوبهم الثانية‪:‬أن ينزل في حقهم منزلة البهائام و الجمادات فل ينالهم خيره و لكن يكف‬
‫عنهم شره الثالثة‪:‬أن ينزل في حقهم منزلة العقارب و الحيات و السباع الضاريات ل يرجى خيره و ل يتقى شره فإن لم تقدر على‬
‫أن تلتحق بأفق الملئاكة فاحذر أن تنزل عن درجة البهائام و الجمادات إلى مراتب العقارب و الحيات و السباع الضاريات فإن‬
‫رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين فل ترض لها بالهوى إلى أسفل سافلين فلعلك تنجو كفافا ل لك و ل عليك فعليك في بياض‬
‫نهارك أن ل تشتغل إل بما ينفعك في معادك أو معاشك الذيِ ل تستغنى عنه و عن الستعانة به على معادك فإن عجزت عن القيام‬
‫بحق دينك مع مخالطة الناس و كنت ل تسلم فالعزلة أولى لك فعليك بها ففيها النجاة و السلمة فإن كانت الوساوس في العزلة‬
‫تجاذبك إلى ما ل يرضي ا تعالى و لم تقدر على قمعها بوظائاف العبادات فعليك بالنوم فهو أحسن أحوالك و أحوالنا إذا عجزنا‬
‫عن الغنيمة رضينا بالسلمة في الهزيمة فأخس بحال من سلمة دينه في تعطيل حياته إذ النوم أخو الموت و هو تعطيل الحياة و‬
‫التحاق بالجمادات‬
‫آداب الستعداد لسائار الصلوات‬
‫ينبغي أن تستعد لصلة الظهر قبل الزوال فتقدم القيلولة إن كان لك قيام في الليل أو سهر في الخير فإن فيها معونة على قيام الليل‬
‫كما أن في السحور معونة على صيام النهار و القيلولة من غير قيام الليل كالسحور من غير صيام بالنهار و اجتهد أن تستيقظ قبل‬
‫ص ‪404‬‬
‫الزوال و تتوضأ و تحضر المسجد و تصلي تحية المسجد و تنتظر المؤذن فتجيبه ثم تقوم فتصلي أربع ركعات عقب الزوال كان‬
‫رسول ا صلى ا عليه و سلم يطولهن و يقول‪:‬هذا وقت تفتح فيه أبواب السماء فأحب أن يرفع لي فيه عمل صالح و هذه الربع‬
‫قبل الظهر سنة مؤكدة ففي الخبر أن من صلهن فأحسن ركوعهن و سجودهن صلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له إلى الليل‬
‫ثم تصلي الفرض مع المام ثم تصلي بعد الفرض ركعتين فهما من الرواتب الثابتة و ل تشتغل إلى العصر إل بتعليم علم أو إعانة‬
‫مسلم أو قراءة قرآن أو سعي في معاش تستعين به على دينك ثم تصلي أربع ركعات قبل العصر فهي سنة مؤكدة فقد قال رسول ا‬
‫صلى ا عليه و سلم ‪:‬رحم ا امرءا صلى أربعا قبل العصر فاجتهد أن ينالك دعاؤه صلى ا عليه و سلم و ل تشتغل بعد العصر‬
‫إل بمثل ما سبق قبله‬
‫و ل ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق بل ينبغي أن تحاسب نفسك و ترتب أورادك في ليلك و‬
‫نهارك و تعين لكل وقت شغل ل تتعدله و ل تؤثر فيه سواه فبذلك تظهر بركة الوقات فاما إذا تركت نفسك سدى مهمل إهمال‬
‫البهائام ل تدريِ بماذا تشتغل في كل وقت فينقضي أكثر أوقاتك ضائاعا و أوقاتك عمرك و عمرك رأس مالك و عليه تجارتك و به‬
‫وصولك إلى نعيم دار البد في جوار ا تعالى فكل نفس من أنفاسك جوهرة ل قيمة لها إذ ل بدل له فإذا فات فل عود له فل تكن‬
‫كالحمقى المغرورين الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم فأيِ خير في مال يزيد و عمر ينقص و ل تفرح إل‬
‫بزيادة علم أو عمل صالح فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك و مالك وولدك و اصدقاؤك‬
‫ثم إذا اصفرت الشمس فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب و اشتغل بالتسبيح و الستغفار فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل‬
‫الطلوع قال ا تعالى ‪:‬و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها‬
‫و اقرأ قبل غروب الشمس "و الشمس و ضحاها" و الليل اذا يغشى و المعوذتين و لتغرب عليك الشمس و انت في الستغفار فإذا‬
‫سمعت الذان فأجبه و قل بعده ‪ :‬اللهم إني أسألك عند إقبال ليلك و إدبار نهارك و حضور صلتك و أصوات دعاتك أن تؤتي‬
‫محمدا الوسيلة و الفضيلة و الشرف و الدرجة الرفيعة و ابعثه المقام المحمود الذيِ وعدته إنك ل تخلف الميعاد و الدعاء كما سبق‬
‫ثم صل الفرض بعد جواب المؤذن و القامة و صل بعده ركعتين قبل أن تتكلم فهما راتبتا المغرب و إن صليت بعدهما أربعا فهي‬
‫أيضا سنة و إن أمكنك أن تنويِ العتكاف‬
‫ص ‪405‬‬
‫إلى العشاء تحيي ما بين العشائاين بالصلة فافعل فقد ورد في فضل ذلك ما ل يحصى و هي ناشئاة الليل لنها أول نشأته و هي‬
‫صلة الوابين و سئال رسول ا صلى ا عليه و سلم عن قوله تعالى ‪:‬تتجافي جنوبهم عن المضاجع ‪ :‬السجدة ‪ 16‬فقال هي‬
‫الصلة ما بين العشائاين إنها تذهب بملغي أول النهار و تهذب آخره و الملغي جمع ملغاة و هي من اللغو‬
‫فإذا دخل وقت العشاء فصل أربع ركعات قبل الفرض إحياء لما بين الذانين ففضل ذلك كثير و في الخبر أن الدعاء بين الذانين و‬
‫القامة ل يرد ثم صل الفرض و صل الراتبة ركعتين و اقرأفيهما سورة "الم السجدة" و تبارك الملك أو سورة يس و الدخان فذلك‬
‫مأثور عن رسول ا صلى ا عليه و سلم و صل بعدهما أربع ركعات ففي الخبر ما يدل على عظيم فضلهن ثم صل الوتر بعدها‬
‫ثلثا بتسليمتين أو بتسليمة واحدة و كان رسول ا صلى ا عليه و سلم يقرأ فيها سورة سبح اسم ربك العلى و قل يا أيها‬
‫الكافرون و الخلص و المعوذتين فإن كنت عازما على قيام الليل فأخر الوتر ليكون آخر صلتك بالليل وترا ثم اشتغل بعد ذلك‬
‫بمذاكرة علم أو مطالعة كتاب و ل تشتغل باللهو و اللعب فيكون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك فإنما العمال بخواتيمها‬
‫آداب النوم‬
‫فإذا أردت النوم فابسط فراشك مستقبل القبلة و نم على يمينك كما يضجع الميت في لحده و اعلم أن النوم مثل الموت و اليقظة مثل‬
‫البعث و لعل ا تعالى يقبض روحك في ليلتك فكن مستعدا للقائاه بأن تنام على طهارة و تكون وصيتك مكتوبة تحت رأسك و تنام‬
‫تائابا من الذنوب مستغفرا عازما على ان ل تعود إلى معصية و اعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك ا تعالى ة تذكر أنك‬
‫ستضجع في اللحد كذلك وحيدا فريدا ليس معك إل عملك و ل تجزيِ إل بسعيك و ل تستجلب النوم تكلفا بتمهيد الفرش الوطيئاة فإن‬
‫النوم تعطيل للحياة إل إذا كانت يقظتك وبال عليك فنومك سلمة لدينك و اعلم أن الليل و النهار أربع و عشرون ساعة فل يكن‬
‫نومك بالليل و النهار أكثر من ثمان ساعات فيكفيك إن عشت مثل ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة و هو ثلث عمرك و أعد‬
‫عند النوم سواكك و طهورك و اعزم على قيام الليل أو على القيام قبل الصبح فركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البر فاستكثر‬
‫من كنوزك ليوم فقرك فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا مت‬
‫ص ‪406‬‬
‫و قل عند نومك ‪:‬باسمك ربي وضعت جنبي و باسمك أرفعه فاغفر لي ذنبي اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك اللهم باسمك أحيا و‬
‫أموت و أعوذ بك اللهم من شر كل ذيِ شر و من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم اللهم أنت الول فليس‬
‫قبلك شيء و أنت الخر فليس بعدك شيء و أنت الظاهر فليس فوقك شيء و أنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين و‬
‫اغنني من الفقر اللهم أنت خلقت نفسي و أنت تتوفاها لك مماتها و محياها إن أمتها فاغفر لها و إن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به‬
‫عبادك الصالحين اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدين و الدنيا و الخرة اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك و استعملني‬
‫بأحب العمال إليك حتى تقربني إليك زلفى و تبعدني عن سخطك بعد أن أسألك فتعطيني و أستغفرك فتغفر لي و أدعوك فتستجيب‬
‫لي‬
‫ثم اقرأ آية الكرسي و آمن الرسول ‪-‬البقرة إلى آخر السورة و الخلص و المعوذتين و تبارك الملك و ليأخذك النوم و أنت على‬
‫ذكر ا تعالى و على الطهارة فمن فعل ذلك عرج بروحه ألى العرش و كتب مصليا إلى أن يستيقظ فإذا استيقظت فارجع إلى ما‬
‫عرفتك أول و داوم على هذا الترتيب بقية عمرك فإن شقت عليك المداومة فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظارا‬
‫للشفاء و تفكر في قصر عمرك و إن عشت مثل مائاة سنة فهي قليلة بالضافة إلى مقامك في الدار الخرة و هي أبد الباد و تأمل‬
‫أنك تتحمل المشقة و الذل في طلب الدنيا شهرا أو سنة رجاء أن تستريح بها عشرين سنة مثل فكيف ل تتحمل ذلك أياما قلئال‬
‫رجاء الستراحة أبد الباد ؟ و ل تطول أملك فيثقل عليك عملك و قدر قرب الموت و قل في نفسك‪ :‬إن تحمل المشقة اليوم فلعلي‬
‫أموت الليلة و اصبر الليلة فلعلي أموت غدا فإن الموت ل يهجم في وقت مخصوص و حال مخصوص و سن مخصوص فلبد من‬
‫هجومه فالستعداد له أولى من الستعداد للدنيا و أنت تعلم أنك ل تبقى فبها إل مدة يسيرة و لعله لم يبق من أجلك إل يوم واحد أو‬
‫نفس واحد فقدر هذا في قلبك كل يوم و كلف نفسك الصبر على طاعة ا يوما فيوما فإنك لو قدرت البقاء خمسين سنة و ألزمتها‬
‫الصبر على طاعة ا تعالى نفرت و استعصت عليك فإن فعلت ذلك فرحت عند الموت فرحا ل آخر له و إن سوفت و تساهلت‬
‫جاءك الموت في وقت ل تحتسبه و تحسرت تحسرا ل آخر له و "عند الصباح "يحمد القوم السرى" و عند الموت يأتيك الخبر‬
‫اليقين "و لتعلمن نبأه بعد حين" و إذا أرشدناك إلى ترتيب الوراد فلنذكر لك كيفية الصلة و الصوم و آدابهما و آداب المامة و‬
‫القدوة و الجمعة‬
‫ص ‪407‬‬
‫فإذا فرغت من طهارة الخبث و طهارة الحدث في البدن و الثياب و المكان و من ستر العورة من السرة إلى الركبة فاستقبل القبلة‬
‫قائاما مزاوجا بين قدميك بحيث ل تضمهما و استو قائاما ثم اقرأ قل أعوذ برب الناس تحصنا بها من الشيطان الرجيم و أحضر قلبك‬
‫ما أنت فيه و فرغه من الوسواس و انظر بين يديِ من تقوم ومن تناجي و استح أن تناجي مولك بقلب غافل و صدر مشحون‬
‫بوساوس الدنيا و خبائاث الشهوات و اعلم أنه تعالى مطلع على سريرتك و ناظر إلى قلبك فإنما يتقبل ا من صلتك بقدر خشوع و‬
‫خضوعك و تواضعك و تضرعك‬
‫و اعبده في صلتك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فإن لم يحضر قلبك و لم تسكن جوارحك فهذا لقصور معرفتك بجلل ا‬
‫تعالى فقدر أن رجل صالحا من وجوه أهل بيتك ينظر إليك ليعلم كيف صلتك فعند ذلك يحضر قلبك و تسكن جوارحك ثم ارجع‬
‫إلى نفسك و قل ‪:‬يا نفس السوء أل تستحين من خالقك و مولك إذا قدرت اطلع عبد ذليل من عباده عليك و ليس بيدهضرك ول‬
‫نفعك خشعت جوارحك و حسنت صلتك ثم إنك تعلمين أنه مطلع عليك و ل تخشعين لعظمته أهو تعالى عندك أقل من عبد من‬
‫عباده؟ فما أشد طغيانك و جهلك و ما أعظم عداوتك لنفسك‬
‫فعالج قلبك بهذه الحيل فعساه أن يحضر معك في صلتك فإنهليس من صلتك إل ما عقلت منها و أما ما أتيت به مع الغفلة و السهو‬
‫فهو إلى الستغفار و التفكير أحوج فإذا حضر قلبك فل تترك القامة و إن كنت وحدك و إن انتظرت حضور جماعة فأذن ثم أقم‬
‫فإذا أقمت فانو و قل في قلبك أؤديِ فرض الظهر ل تعالى و ليكن ذلك حاضرا في قلبك عند تكبيرك و ل تغرب عنك النية قبل‬
‫الفراغ من التكبير و ارفع يديك عند التكبير بعد إرسالهما أول إلى حذو منكبيك و هما مبسوطتان و أصابعهما منشورة و ل تتكلف‬
‫ضمهما و ل تفريجهما بحيث تحاذيِ بإبهاميك شحمتي أذنيك و برءوس أصابعك أعلى أذنيك و بكفيك منكبيك فإذا استقرتا في‬
‫مقرهما فكبر ثم أرسلهما برفق و ل تدفع يديك عند الرفع و الرسال إلى قدام دفعا و ل إلى خلف رفعا و ل تنفضهما يميناو ل‬
‫شمال فإذا أرسلتهما فاستأنف رفعهما إلى صدرك و أكرم اليمنى بوضعها على اليسرى و انشر أصابع اليمنى على طول ذراعك‬
‫اليسرى و اقبض بها على كوعها و قل بعد التكبير ا أكبر كبيرا و الحمد ل كثيرا و سبحان ا بكرة و أصيل ثم اقرأ "وجهت‬
‫وحهي للذيِ فطر السموات و الرض حنيفا و ما أنا من المشركين"‬
‫ص ‪408‬‬
‫"إن صلتي و نسكي و محيايِ و مماتي ل رب العالمين"ل شريك له و بذلك أمرت و أنا من المسلمين ثم قل أعوذ بال من‬
‫الشيطان الرجيم ثم اقرأ الفاتحة بتشديداتها و اجتهد في الفرق بين الضاد و الظاء في قراءتك في الصلة و قل آمين و ل تصله‬
‫بقوله ول الضالين وصل‬
‫و اجهر بالقراءة في الصبح و المغرب و العشاء أعني في الركعتين الوليين إل أن تكون مأموما و اجهر بالتأمين و اقرأ في‬
‫الصبح بعد الفاتحة من السور الطوال من المفصل و في المغرب من قصاره و في الظهر و العصر و العشاء من أواسطه نحو و‬
‫السماء ذات البروج و ما قاربها من السور و في الصبح في السفر قل يا أيها الكافرون و قل هو ا أحد و ل تصل آخر السورة‬
‫بتكبيرة الركوع و لكن افصل بينهما بمقدار سبحان ا و كن في جميع قيامك مطرقا قاصرا نظرك على مصلك فذلك أجمع لهمك‬
‫و أجدر لحضور قلبك و إياك أن تلتفت يمينا و شمال في صلتك‬
‫ثم كبر للركوعو ارفع يديك كما سبق و مد التكبير إلى انتهاء الركوع ثم ضع راحتيك إلى ركبتيك و أصابعك منشورة و انصب‬
‫ركبتيك و مد ظهورك و عنقك و رأسك مستويا كالصفيحة الواحدة و جاف مرفقيك عن جنبيك و المرأة ل تفعل ذلك بل تضم‬
‫بعضها إلى بعض و قل سبحان ربي العظيم ثلثا و إن كنت منفردا فالزيادة إلى السبع و العشر حسن ثم ارفع رأسك حتى تعتدل‬
‫قائاما و ارفع يديك قائال سمع ا لمن حمده فإذا استويت قائاما فقل ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الرض و ملء ما شئات من‬
‫شيء بعد و إن كنت في قريضة الصبح فاقرأ القنوت في الركعة الثانية في اعتدالك من الركوع ثم اسجد مكبرا غير رافع اليدينو‬
‫ضع أول علي الرض ركبتيك ثم يديك ثم جبهتك مكشوفة و ضع أنفك مع الجبهة و جاف مرفقيك عن جنبيك و أقل بطنك عن‬
‫فخذيك و المرأة ل تفعل ذلك و ضع يديك على الرض حذو منكبيك و ل تفرش ذراعك على الرض و قل سبحان ربي العلى‬
‫ثلثا أو سبعا أو عشرا إن كنت منفردا ثم ارفع رأسك من السجود مكبرا حتى تعتدل جالسا و اجلس على رجلك اليسرى و انصب‬
‫قدمك اليمنى و ضع يديك على فخذيك و الصابع منشورة و قل رب اغفر لي و ارحمني و ارزقني و عافني و اعف عني ثم اسجد‬
‫ثانية كذلك ثم اعتدل جالسا للستراحة في كل ركعة ل تشهد عقبها ثم تقوم و تضع اليدين على الرض و ل تقدم إحدى رجليك في‬
‫حالة الرتفاع و ابتديِء بتكبيرة الرتفاع عند القرب من حد الستراحة و مدها إلى منتصف ارتفاعك‬
‫ص ‪409‬‬
‫إلى القيام و لتكن هذهالجلسة جلسة خفيفة مختطفة و صل الركعة الثانية كالولى و أعد التعوذ في البتداء ثم اجلس في الركعة‬
‫الثانية للتشهد الول و ضع اليد اليمنى في جلوس التشهد على الفخذ اليمنى مقبوضة الصابع إل المسبحة و البهام فترسلهما و‬
‫أشر بمسبحة يمناك عند قولك إل ا ل عند قولك ل إله وضع اليد اليسرى منشورة الصابع على الفخذ اليسرى و اجلس على‬
‫رجلك اليسرى في هذا التشهد كما بين السجدتين و في التشهد الخير متوركا و استكمل الدعاء المعروف المأثور بعد الصلة على‬
‫النبي صلى ا عليه و سلم و اجلس فيه على وركك اليسر و ضع رجلك اليسرى خارجة من تحتك و انصب القدم اليمنى ثم قل‬
‫بعد الفراغ‪:‬السلم عليكم و رحمة ا مرتين الجانبين و التفت بحيث ترى بياض خديك من جانبيكو انو الخروج من الصلة و انو‬
‫السلم على من على جانبيك من الملئاكة و المسلمين و هذه هيئاة صلة المنفرد‬
‫و عماد الصلة الخشوعو حضور القلب مع القراءة و الذكر بالتفهم و قال الحسن البصريِ رحمه ا تعالى كل صلة ل يحضر‬
‫فيها القلب فهي إلى الغقوبة أسرع و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم إن العبد ليصلي الصلة فل يكتب له منها سدسها و ل‬
‫عشرها و إنما يكتب للعبد من صلته بقدر ما عقل منها‬
‫آداب المامة و القدوة‬
‫ينبغي للمام أن يخفف الصلة قال أنس بن مالك رضي ا عنه ما صليت خلف أحد صلة أخف و ل أتم من صلة رسول ا‬
‫صلى ا عليه و سلم و ل يكبر ما لم يفرغ المؤذن من القامة و ما لم تستو الصفوف و يرفع المام صوته بالتكبيرات و ل يرفع‬
‫المأموم صوته إل بقدر ما يسمع نفسه و ينويِ المام المامةلينال الفضل فإذا لم ينو صحت صلة القوم إذا نوو القتداء به و نالوا‬
‫فضل القدوة و يسر بدعاء الستفتاح و التعوذ كالمنفرد و يجهر بالفاتحة و السورة في جميع الصبح و أوليي المغرب و العشاء و‬
‫كذلك المنفرد و يجهر بقوله آمين في الجهرية و كذلك المأموم و يقرن المأموم تأمينه بتأمين المام معا ل تعقيبا له و يسكت المام‬
‫سكتة عقب الفاتحة ليئاوب إليه نفسه و يقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة ليتمكن من الستماع عند قراءة المام و ل‬
‫يقرأ المأموم السورة في الجهرية إل إذا لم يسمع صوت المام و ل يزيد المام على الثلثة في تسبيحات الركوع و السجود و ل‬
‫يزيد في التشهد الول بعد قول اللهم صل علي محمد و يقتصر في الركعتين الخيرتين على الفاتحة و ل يطول على القوم و ل‬
‫يزيد دعاءه في التشهد الخير علي قدر تشهده على رسول ا صلى ا عليه و سلم و ينويِ المام التسليم‬
‫ص ‪410‬‬
‫السلم على القوم‪ ,‬و ينوى القوم بتسليمهم جوابه و يلبث المام ساعة بعدها يفرغ من السلم ويقبل على الناس بوجهه ول يلتفت إن‬
‫كان خلفه نساء لينصرفن أول ول يقوم أحد من القوم حتى يقوم المام وينصرف المام حيث شاء عن يمينه أو شماله واليمين أحب‬
‫إليه ول يخص المام نفسه بالدعاء فى قنوت الصبح بل يقول اللهم اهدنا ويجهر به و يؤمن القوم ول يرفعون أيديهم إذ لم يثبت ذلك‬
‫فى الخبار و يقرأ المأموم بقية القنوت من قوله‪) :‬إنك ل تقضى و ل يقضى عليك ( و ل يقف المأموم وحده بل يدخل فى الصف‬
‫أو يجر إلى نفسه غيره و ل ينبغى للمأموم أن يتقدم على المام فى أفعاله أو يساويه بل ينبغى أن يتأخر عنه ول يهوى للرموع إل‬
‫إذا انتهى المام إلى حد الركوع ول يهوى للسجود ما لم تصل جبهة المام إلى الرض‬
‫ياداب الجمعة‪:‬‬
‫اعلم أن الجمعة عيد المؤمنين وهو يوم شريف خص ا عز وجل به هذه المه و فيه ساعة مهمة ل يوافقها عبد مسلم يسأل ا‬
‫تعالى فيها حاجة إل أعطاه إياها فاستعد لها من يوم الخميس بتنظيف الثياب وبكثرة التسبيح والستغفار عشية الخميس فإنها ساعة‬
‫توازى فى الفضل ساعة يوم الجمعة وانو صوم يوم الجمعة لكن مع الخميس أو السبت إذ جاء فى إفرادها نهى فإذ طلع عليك‬
‫الصبح فاغتسل غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم أى ثابت مؤكد ثم تزين بالثياب البيض فإنها أحب الثياب إلى ا تعالى‬
‫واستعمل من الطيب أطيب ما عندك وبالغ فى تنظيف بدنك بالحلق والقص والتقليم والسواك وسائار أنواع النظافة وتطيب الرائاحة‬
‫ثم بكر إلى الجامع واسع إليه على الهينة والسكينة فقد قال صلى ا عليه وسلم ) من راح إلى الجمعة فى الساعة الولى فكدأنما‬
‫قرب بدنة ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب بدنة ومن راح فى الساعة الثانية‬
‫فكأنما قرب بقرة ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح فى‬
‫الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج المام طويت الصحف ورفعت القلم واجتمعت الملئاكة عند المنبر يستمعون‬
‫الذكر(‬
‫و يقال إن الناس فى قبرهم عند النظر إلى وجه ا تعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة‬
‫ثم إذا دخلت الجامع فاطلب الصف الول فإذا اجتمع الناس فل تتخط رقابهم ول تمر بين أيديهم وهم يصلون واجلس بقرب حائاط‬
‫أو اسطوانة حتى ل يمروا بين يديك‬
‫ص ‪411‬‬
‫ول تقعد حتى تصلى التحية والحسن أن تصلى أربع ركعات تقرأ فى كل ركعة بعد الفاتحة سورة الخلص خمسين مرة ففى‬
‫الخبر أن من فعل ذلك لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له ول تترك التحية وإن كان المام يخطب ومن السنة أن تقرأ فى‬
‫أربع ركعات سورة النعام والكهف وطه ويس فإن لم تقدر فسورة يس والدخان والم السجدة و سورة الملك ول تدع قراءة هذه‬
‫السورة فى ليلة الجمعة ففيها فضل كثير ومن لم يحسن ذلك فليكثر من قراءة سورة الخلص وأكثر من الصلة على رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم فى هذا اليوم خاصة ومهما خرج المام فاقطع الصلة والكلم واشتغل بجواب المؤذن ثم باستماع الخطبة‬
‫والتعاظ بها ودع الكلم رأسا فى الخطبة ففى الخبر أن من قال لصاحبه والمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا فل جمعة له أى‬
‫لن قوله أنصت كلم فينبغى أن ينهى غيره بالشارة ل باللفظ‬
‫ثم اقتد بالمام كما سبق فإذا فرغت وسلمت فاقرأ الفاتحة قبل أن تتكلم سبع مرات والخلص سبعا والمعوذتين سبعا سبعا فذلك‬
‫يعصمك من الجمعة إلى الجمعة الخرى ويكون حرزا لك من الشيطان وقل بعد ذلك )اللهم يا غنى يا حميد يا مبدئ يا معيد يا‬
‫رحيم يا ودود اغننى بحللك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك(‬
‫ثم صل بعد الجمعة ركعتين أو ستا مثنى فكل ذلك مروى عن رسول ا صلى ا عليه وسلم فى أحوال مختلفة‬
‫ثم لزم المسجد إلى المغرب أو إلى العصر وكن حسن المراقبة للساعة الشريفة فإنها مبهمة فى جميع اليوم فعساك أن تدركها و‬
‫أنت خاشع ل تعالى متذلل متضرع ول تحضر فى الجامع مجالس الخلق ول مجالس القصاص بل مجالس العلم النافع وهو الذى‬
‫لخرة فالجهل أعود عليك منه فاستعذ بال‬ ‫يزيد فى خوفك من ا وينقص من رغبتك فى الدنيا فكل علم ل يدعوك من الدنيا إلى ا ي‬
‫من علم ل ينفع وأكثر الدعاء عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب وعند صعود الخطيب المنبر وعند قيام الناس إلى‬
‫الصلة فيوشك أن تكون الساعة الشريفة فى بعض الوقات واجتهد أن تتصدق فى هذا اليوم بما تقدر عليه و إن قل فتجمع بين‬
‫لخرتك فعساه أن يكون‬ ‫الصلة والصوم و الصدقة والقراءة والذكر والعتكاف والرباط واجعل هذا اليوم من السبوع خاصة ي‬
‫كفارة لبقية السبوع‪.‬‬
‫ص ‪412‬‬
‫ياداب الصيام‪:‬‬
‫ل ينبغى أن تقتصر على صوم شهر رمضان فتترك التجارة بالنوافل وكسب الدرجات العالية فى الفراديس فتتحسر إذا نظرت إلى‬
‫منازل الصائامين كما تنظر إلى الكوكب الدرى وهم فى أعلى عليين‬
‫واليام الفاضلة التى شهدت الخبار بشرفها و فضلها وبجزالة الثواب فى صيامها‪ :‬يوم عرفة لغير الحاج ويوم عشوراء والعشر‬
‫الول من ذى الحجة والعشر الول من المحرم ورجب وشعبان وصوم الشهر الحرم من الفضائال وهى ذو القعدة وذو الحجة‬
‫والمحرم ورجب واحد فرد وثلثة سرد وهذه فى السنة وأما فى الشهر فأول الشهر وأوسطه وياخره ولأيام البيض وهى الثالث‬
‫عشر والرابع عشر والخامس عشر وأما فى السبوع فيوم الثنين والخميس والجمعة فتكفر ذنوب السبوع بصوم الثنين‬
‫والخميس والجمعة وتكفر ذنوب الشهر باليوم الول من الشهر واليوم الوسط واليوم الخر واليام البيض وتكفر ذنوب السنة‬
‫بصيام هذه اليام والشهر المذكورة ول تظن إذا صمت أن الصوم هو ترك الطعام والشراب والوقاع فقط فقد قال صلى ا عليه‬
‫وسلم )كم من صائام ليس له من صيامه إل الجوع والعطش( بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها عما يكره ا تعالى بل ينبغى دأن‬
‫تحفظ العين عن النظر إلى المكاره واللسان عن النطق بما ل يعنيك والذن عن الستماع إلى ما حرم ا تعالى فإن المستمع شريك‬
‫القائال وهو أحد المغتابين وكذلك تكف جميع الجوارح كما تكف البطن والفرج ففى الخبر) خمس يفطرن الصائام الكذب والنميمة‬
‫اليمين الكاذبة والنظر بشهوة( وقال صلى ا عليه وسلم )الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائاما فل يرفث ول يجهل فإن امرؤ قاتله أو‬
‫شاتمه فليقل صائام( ثم اجتهد أن تفطر على طعام حلل ول تستكثر فتزيد على ما تأكله كل ليلة لجل صيامك فل فرق إذا استوفيت‬
‫ما تعتاد أن تأكله دفعتين فى دفعة واحدة وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك وتضعيف قوتك لتقوى بها على التقوى وما وعاء‬
‫أبغض إلى ا تعالى من بطن ملئ من حلل فكيف إذا ملئ من حرام!‬
‫فإذا عرفت معنى الصوم فاستكثر منه ما استطعت فإنه أساس العبادات ومفتاح القربات قال رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ا‬
‫تعالى ) كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائاة ضعف إل الصوم فإنه لى وأنا اأجزى به( وقال صلى ا عليه وسلم )والذى نفسى بيده‬
‫لخلوف فم الصائام أطيب‬

‫ص ‪413‬‬
‫ا‬ ‫د‬
‫عند ا من ريح المسك يقول ا عز و جل )إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلى فالصوم لى وأنا أجزى به( وقال صلى ا‬
‫عليه وسلم‪) :‬للجنة باب يقال له الريان ل يدخله إل الصائامون(‬
‫فهذا القدر من شرح الطاعات يكفيك من بداية الهداية فإذا احتجت إلى الزكاة والحج أو إلى مزيد لشرح الصلة والصيام فاطلبه مما‬
‫أوردناه فى كتاب إحياء علوم الدين‬
‫القسم الثانى القول فى اجتناب المعاصى‪:‬‬
‫اعلم أن الدين شطران أحدهما ترك المناهى والخر فعل الطاعات وترك المناهى هو الشد فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد وترك‬
‫الشهوات ل يقدر عليها إل الصديقون فلذلك قال رسول ا صلى ا عليه وسلم )المهاجر من هجر السوء والمجاهد من جاهد‬
‫هواه( واعلم أنك إنما تعصى ا بجوارحك‪ ,‬وهى نعمة من ا عليك وأمانة لديك فاستعانك بنعمة ا على معصيته غاية الكفران‪.‬‬
‫وخيانتك أمانة استودعكها ا غاية الطغيان فأعضاؤك رعاياك فانظر كيف ترعاها فكلكم راع وكل راع مسئاول عن رعيته واعلم‬
‫أن جميع أعضائاك ستشهد عليك فى عرصات القيامة بلسان طلق ذلق أى فصيح تفضحك به على رءوس الخلئاق قال ا تعالى‪:‬‬
‫)يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون( )يس‪(65:‬‬
‫فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصى وخصوصا أعضاءك السبعة فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل منهم جزء مقسوم ول يتعين‬
‫لتلك البواب إل من عصى ا تعالى بهذه العضاء السبعة وهى العين والذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل‬
‫أما العين فإنما خلقت لتهتدى بها فى الظلمات وتستعين بها فى الحاجات وتنظر بها إلى عجائاب ملكوت الرض والسموات وتعتبر‬
‫بما فيها من اليات فاحفظها عن أربع‪ :‬أن تنظر بها إلى غير محرم أو إلى صورة مليحة بشهوة نفس أو تنظر بها إلى مسلم بعين‬
‫الحتقار أو تطلع بها على عيب مسلم وأما الذن فاحفظها عن أن تصغى بها إلى البدعة أو الغيبة أو الفحش أو الخوض فى الباطل‬
‫أو ذكر مساوئ الناس فإنما خلقت لك لتسمع بها كلم ا تعالى و سنة رسول ا صلى ا عليه وسلم وحكمة أوليائاه و تتوصل‬
‫باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائام فى جوار رب العالمين فإذا أصغيت بها إلى شئ من المكاره‪ ,‬صار ما كان عليك‬
‫ص ‪414‬‬
‫وانقلب ما كان سبب فوزك سبب فوزك سبب هلكك هذا غاية الخسران ول تظن أن الثم يختص به القائال دون المستمع ففى‬
‫الخبر أن المستمع شريك القائال وهو أحد المغتابين وأما اللسان فإنما خلق لتكثر به ذكر ا تعالى وتلوة كتابه وترشد به خلق ا‬
‫تعالى إلى طريقه وتظهر به ما فى ضميرك من حاجات دينك ودنياك فإذا استعملته فى غير ما خلق له فقد كفرت نعمة ا تعالى‬
‫فيه وهو أغلب أعضائاك عليه وعلى سائار الخلق ول يكب الناس فى النار على مناخرهم إلى حصائاد ألسنتهم فأستظهر عليه بغاية‬
‫قوتك حتى ل يكبك فى قعر جهنم ففى الخبر ) إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه فيهوى بها فى قعر جهنم سبعين‬
‫خريفا( وروى أنه قتل شهيد فى المعركة على عهد رسول ا صلى ا عليه وسلم فقال قائال هنيئاا له بالجنة فقال صلى ا عليه‬
‫وسلم )وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما ل يعنيه و يبخل بما ل يغنيه( فاحفظ لسانك من ثمانية ‪:‬‬
‫الول‪ :‬الكذب فاحفظ منه لسانك فى الجد و الهزل ول تعود لسانك الكذب هزل فيدعوك إلى الكذب فى الجد والكذب من أمهات‬
‫الكبائار ثم إنك إذا عرفت بذلك سقطت عدالتك والثقة بقولك وتزدريك العين وتحتقرك وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك‬
‫فانظر إلى كذب غيرك وإلى كذب غيرك وإلى نفرة نفسك عنه واستحقارك لصاحبه واستقباحك لما جاء به وكذلك فافعل فى جميع‬
‫عيوب نفسك فإنك ل ترى قبح عيوبك من نفسك بل من غيرك فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك ل محالة فل ترض‬
‫لنفسك ذلك‬
‫الثانى‪ :‬الخلف فى الوعد فإياك أن تعد بشئ ول تفى به بل ينبغى أن يكون إحسانك إلى الناس فعل بل قول فإن اضطررت إلى‬
‫الوعد فإياك أن تخلف إل لعجز أو ضرورة فإن ذلك من أمارات النفاق و خبائاث الخلق قال النبى صلى ا عليه وسلم ‪) :‬ثلث‬
‫من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان(‬
‫الثالث‪ :‬الغيبة فاحفظ لسانك عنها والغيبة أشد من ثلثين زينة فى السلم كذلك ورد فى الخبر ومعنى الغيبة أن تذكر إنسانا بما‬
‫يكرهه لو سمعه فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقا وإياك وغيبة القراء المرائاين وهو أن تفهم المقصود من غير تصريح فتقول‬
‫أصلحه ا فقد ساءنى وغمنى ما جرى عليه فنسأل ا تعالى أن يصلحنا وإياء فإن هذا جمع بين خبيثين أحدهما الغيبة إذا بها‬
‫حصل التفهم والخر تزكية النفس والثناء عليها بالتحرج والصلح ولكن إن كان مقصودك من قولك أصلحه ا تعالى الدعاء فادع‬
‫له فى السر إن اغتممت بسببه فعلمته أنك ل تريد فضيحته وإظهار عيبه وفى إظهارك الغم بعيبه إظهار تعييبه ويكفيك زاجرا عن‬
‫الغيبة قوله تعالى‪) :‬ول يغتب‬
‫ص ‪415‬‬
‫بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه( )الحجرات‪ (12:‬فقد شبهك ا بآكل لحم الميتة فما أجدرك أن‬
‫تحترز منها ويمنعك عن غيبة المسلمين أمر لو تفكرت فيه وهو أن تنظر فى نفسك هل فيك عيب ظاهر أو باطن وهل أنت مفارق‬
‫معصية سرا أو جهرا فإذا عرفت ذلك من نفسك فاعلم أن عجزه من التنزه عما نسبته إليه كعجزك وعذره كعذرك وكما تكره أن‬
‫تفتضح وتذكر عيوبك فهو أيضا يكرهه فإن سترته ستر ا عليك عيوبك وإن فضحته سلط ا عليك ألسنة حدادا يمزقون عرضك‬
‫فى الدنيا ثم يفضحك ا فى الخرة على رءوس الخلئاق يوم القيامة وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك فلم تطلع فيهما على عيب‬
‫ونقص فى دين ول دنيا فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة ول عيب أعظم من الحمق ولو أراد ا بك خيرا لبصرك‬
‫بعيوب نفسك فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك وجهلك ثم إن كنت صادقا فى ظنك فاشكر ا تعالى عليه ول تفسده بثلب‬
‫الناس والتمضمض بأعراضهم فإن ذلك أعظم العيوب‬
‫الرابع‪ :‬المراء والجدال ومناقشة الناس فى الكلم فذلك فيه إذاء للمخاطب وتجهيل له وطعن فيه وفيه ثناء على النفس وتزكية لها‬
‫بمزيد الفطنة والعلم ثم هو مشوش للعبش فإنك ل تمارى سفيها إل ويؤذيك ول تمارى حليما إل ويقليك ويحقد عليك فقد قال صلى‬
‫ا عليه وسلم‪) :‬من ترك المراء وهو مبطل بنى ا له بيتا فى ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بنى ا له بيتا فى أعلى‬
‫الجنة( ول ينبغى أن يخدعك الشيطان ويقول لك أظهر الحق ول تداهن فيه فإن الشيطان أبدا يستجر الحمقى إلى الشر فى معرض‬
‫الخير فل تكن ضحكة للشيطان فيسخر منك فإظهارك الحق حسن مع من يقبله منك وذلك بطريق النصيحة فى الخفية ل بطريق‬
‫المماراة وللنصيحة صفة وهيئاة ويحتاج فيها إلى تلطف وإل صارت فضيحة وكان فسادها أكثر من صلحها ومن خالط متفقة‬
‫العصر غلب على طبعه المراء والجدال وعسر عليه الصمت إذ ألقى إليه علماء السوء أن ذلك هو الفضل والقدرة على المحاجة‬
‫والمناقشة هو الذى يمتدح به ففر منهم فرارك من السد واعلم أن المراء سبب المقت عند ا وعند الخلق‬
‫الخامس‪ :‬تزكية النفس قال ا تعالى‪) :‬فل تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى( )النجم‪ (32:‬وقيل لبعض الحكماء ما الصدق القبيح؟‬
‫فقال ثناء المرء على نفسه فإياك أن تتعود ذلك واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس ويوجب مقتك عند ا تعالى فإذا أردت أن‬
‫تعرف أن ثناءك على نفسك ل يزيد فى قدرك عند غيرك فأنظر إلى أقرانك‬

‫ص ‪416‬‬
‫إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل والجاه والمال كيف يستنكره قلبك عليهم ويستثقله طبعك وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم فاعلم أنهم‬
‫أيضا فى حال تزكيتك لنفسك يذمونك فى قلوبهم ناجزا وسيظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم‬
‫السادس‪ :‬اللعن فإياك أن تلعن شيئاا مما خلق ا تعالى من حيوان أو طعام أو إنسان بعينة ول تقطع بشهادتك على أحد من أهل‬
‫القبلة بشكر أو كفر أو نفاق فإن المطلع على السرائار هو ا تعالى فل تدخل بين العباد وبين ا تعالى واعلم إنك يوم القيامة ل يقال‬
‫لك لم لم تلعن فلنا ولم سكت عنه بل لو لم تلعن إبليس طول عمرك ولم تشغل لسانك بذكره لم تسأل عنه ولم تطالب به يوم القيامة‬
‫وإذا لعنت أحدا من خلق ا تعالى طولبت به ول تذمن شيئاا مما خلق ا تعالى فقد كان النبى صلى ا عليه وسلم ل يذم الطعام‬
‫الردئ قط بل كان إذا اشتهى شيئاا أكله وإل تركها‬
‫السابع‪ :‬الدعاء على الخلق فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق ا تعالى وإن ظلمك فكل أمره إلى ا تعالى ففى الحديث‪:‬‬
‫)إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئاه ثم يبقى للظالم فضل عنده يطالبه به يوم القيامة( وطول بعض الناس لسانه على الحجاج‬
‫فقال بعض السلف إن ا لينتقم للحجاج ممن تعرض له بلسانه كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه‬
‫الثامن‪ :‬المزاح والسخرية والستهزاء بالناس فاحفظ لسانك منه فى الجد والهزل فإنه يريق ماء الوجه ويسقط المهابه ويستجر‬
‫الوحشة ويؤذى القلوب وهو مبدأ اللجاج والغضب والتصارم ويغرس الحقد فى القلوب فل تمازح أحدا فإن مازحك فل تحببه‬
‫فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره وكن من الذين إذا مروا باللغوا مروا كراما فهذه مجامع آفات اللسان ول يعنيك عليك‬
‫إل العزلة أو ملزمة الصمت إل بقدر الضرورة فقد كان أبو بكر الصديق رضى ا عنه يضع حجرا فى فيه ليمنعه ذلك من الكلم‬
‫بغير ضرورة ويشير إلى لسانه ويقول هذا الذى أوردنى الموارد كلها فاحترز منه بجهدك فإنه أقوى أسباب هلك فى الدنيا‬
‫والخرة وأما البطن فاحفظه من تناول الحرام والشبهة واحرص على طلب الحلل فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على‬
‫ما دون الشبع فإن الشبع يقسى القلب ويفسد الذهن ويبطل الحفظ ويثقل العضاء من العبادة والعلم ويقوى الشهوات وينصر جنود‬
‫الشيطان والشبع من الحلل مبدأ كل شر فكيف من الحرام وطلب الحلل فريضة على كل مسلم والعبادة والعلم مع أكل الحرام‬
‫كالبناء على السرجين فإذا قنعت فى السنة بقيص خشن وفى اليوم والليلة برغيفين من الخشكار وتركت التلذذ بأطيب الدم لم‬
‫يعوزك من‬
‫‪417‬‬
‫الحلل ما يكفيك والحلل كثير وليس عليك أن تتيقن بواطن المور بل عليك أن تحترز مما تعلم أنه حرام أو تظن أنه حرام ظنا‬
‫حصل من علمة ناجزة مقرونة بالمال أما المعلوم فظاهر وأما المظنون بعلمة فهو مال السلطان وعماله ومال من ل كسب له إل‬
‫من النياحة أو بيع الخمر أو الربا أو المزامير وغير ذلك من آلت اللهو المحرمة فإن من علمت أن أكثر ماله حرام قطعا فما تأخذه‬
‫من يده وإن أمكن أن يكون حلل نادرا فهو حرام لنه الغالب على الظن ومن الحرام المحض ما يؤكل من الوقاف من غير شرط‬
‫الواقف فمن لم يشتغل بالتفقه فما يأخذه من المدارس حرام ومن ارتكب معصية ترد بها شهادته فما يأخذه باسم الصوفية من وقف‬
‫أو غيره فهو حرام وقد ذكرنا مداخل الشبهات والحلل والحرام فى كتاب مفرد من كتاب إحياء علوم الدين فعليك بطلبه فإن‬
‫معرفته الحلل وطلبه فريضة على كل مسلم كالصلوات الخمس وأما الفرج فاحفظه عن كل ما حرم ا تعالى وكن كما قال ا‬
‫تعالى ‪) :‬والذين هم لفروجهم حافظون ‪ 5‬أل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين( )المؤمنين ‪ (6 5‬والمعارج )‬
‫‪ (30 29‬ول تصل إلى حفظ الفرج إل بحفظ العين عن النظر وحفظ القلب عن التفكير وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع فإن‬
‫هذه محركات المشهوة ومغارسها وأما اليدان فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلما أو تتناول بهما مال حراما أو نؤذى بهما أحدا‬
‫من الخلق أو تخوف بهما فى أمانة أو وديعة أو تكتب بهما ما ل يجوز النطق به فإن القلم أحد اللسانين فاحفظ القلم عما يجب حفظ‬
‫اللسان عنه وأما الرجلن فاحفظهما عن أن تمشى بهما إلى باب سلطان ظالم فإن المشى إلى السلطين الظلمة من غير ضرورة‬
‫وإرهاق معصية كبيرة فإنه تواضع لهم وإكرام لهم على ظلمهم وقد أمر ا بالعراض عنهم فى قوله تعالى‪) :‬ول تركنوا إلى‬
‫الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون ا من أولياء ثم ل تنصرون( )هود‪ (113:‬وإن كان ذلك لسبب طلب مالهم فهو سعى‬
‫إلى حرام وقد قال النبى صلى ا عليه وسلم‪) :‬من تواضع لغنى ذهب ثلثا دينه( وهذا فى غنى صالح فما ظنك بالغنى الظالم!‬
‫وعلى الجملة فحركاتك وسكناتك بأعضائاك نعمة من نعم ا تعالى عليك فل تحرك شيئاا منها فى معصية ا تعالى أصل‬
‫واستعملها فى طاعة ا تعالى واعلم أنك إن قصرت فعليك يرجع وباله وإن شمرت فإليك تعود ثمرته وا غنى عنك وعن عملك‬
‫وإنما كل نفس بما كسبت رهينة وإياك أن تقول إن ا كريم رحيم يغفر الذنوب للعصاة فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل وصاحبها‬
‫ملقب بالحماقة بتلقيب رسول ا صلى ا عليه وسلم حيث‬
‫ص ‪418‬‬
‫قال )الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا المانى( واعلم أن قولك هذا يضاهى‬
‫قول من يريد أن يصير فقيها فى علوم الدين من غير أن يدرس علما واشتغل بالبطالة وقال إن ا كريم رحيم قادر على أن يفيض‬
‫على قلبى من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائاه من غير جهد وتكرار وتعلم وهو كقول من يريد مال فترك الحراثة والتجارة‬
‫والكسب وتعطل وقال إن ا كريم وله خزائان السموات والرض وهو قادر على أن يطلعنى على كنز من كنوزه أستغنى به عن‬
‫الكسب فقد فعل ذلك لبعض عباده فأنت إذا سمعت كلم هذين الرجلين استحمقتهما وسخرت منهما وإن كان ما وصفاه من كرم ا‬
‫تعالى وقدرته صدقا وحقا فكذلك يضحك عليك أرباب البصائار فى الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعى لها وا تعالى يقول‪) :‬وأن‬
‫ليس للنسان إل ما سعى( )النجم‪ (39:‬ويقول‪) :‬إنما تجزون ما كنتم تعملون( )الطور‪ 16:‬التحريم‪ (7:‬ويقول‪) :‬أن البرار لفى‬
‫نعيم ‪ 13‬وإن الفجار لفى جحيم( )النفطار ‪ (14 13‬فإذا لم تترك السعى فى طلب العلم والمال اعتمادا على كرمه فكذلك ل تترك‬
‫التزود للخرة ول تفتر فإن رب الدنيا والخرة واحد وهو فيهما كريم رحيم وليس يزيد له كرم بطاعتك وإنما كرمه فى أن ييسر‬
‫لك طريق الوصول إلى الملك المقيم والنعيم الدائام المخلد بالصبر على ترك الشهوات أياما قلئال وهذا نهاية الكرم فل تحدث نفسك‬
‫بتهويسات الباطلين واقتد بأولى العزم والنهى من النبياء والصالحين ول تطمع فى أن نحصد ما لم تزرع وليت من صام وصلى‬
‫وجاهد واتقى غفر له هذه جمل مما ينبغى أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة وأعمال هذه الجوارح فعليك بتطهير القلب فهو تقوى‬
‫الباطن والقلب هو المضغة التى إذا صلحت صلح بها سائار الجسد وإذا فسدت فسد بها سائار الجسد فاشتغل بإصلحه لتصلح به‬
‫جوارحك وصلحه يكون بملزمة المراقبة‬
‫القول فى معاصى القلب‪:‬‬
‫اعلم أن الصفات المذمومة فى القلب كثيرة وطريق تطهير القلب من رذائالها طويلة وسبيل العلج فيها غامض وقد اندرس بالكلية‬
‫علمه لغفلة الخلق عن أنفسهم واستقصينا ذلك كله فى كتاب إحياء علوم الدين فى ربع المنجيات ولكننا نحذرك الن ثلثا من خبائاث‬
‫القلب وهى الغالبة على متفقة العصر لتأخذ منها حذرك فإنها مهلكات فى أنفسها وهى أمهات الجملة من الخبائاث سواها وهى‬
‫الحسد والرياء والعجب فاجتهد‬
‫ص ‪419‬‬
‫فى تطهير قلبك منها فإن قدرت عليها فتعلم كيفية الحذر مع بقيتها من ربع المهلكات فإن عجزت عن هذا فأنت غيره أعجز ول‬
‫تظنن أنك تسلم بنية صالحة فى تعلم العلم وفى قلبك شئ من الحسد والرياء والعجب وقد قال صلى ا عليه وسلم ثلث مهلكات‬
‫شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه أما الحسد فهو متشعب من الشح فإن البخيل هو الذى يبخل بما فى يده على غيره‬
‫والشحيح هو الذى يبخل بنعمة ا تعالى وهى فى خزائان قدرته تعالى ل فى خزائانه على عباد ا تعالى فشحه أعظم والحسود هو‬
‫الذى يشق عليه إنعام ا تعالى من خزائان قدرته على عبد من عباده بعلم أو مال أو محبة فى قلوب الناس أو حظ من الحظوظ حتى‬
‫إنه ليحب زوالها عنه وإن لم يحصل له بذلك شئ من تلك النعمة فهذا منتهى الخبث فلذلك قال النبى صلى ا عليه وسلم الحسد‬
‫تأكل النار الحطب والحسود هو المعذب الذى ل يرحم ول يزال فى عذاب دائام فى الدنيا فهى ل تخلو من خلق كثير من أقرانه‬
‫ومعارفه ممن أنعم ا عليهم بعلم أو مال أو جاه فل يزال فى عذاب دائام فى الدنيا إلى موته ولعذاب الخرة أشد وأكبر بل ل يصل‬
‫العبد إلى حقيقة اليمان ما لم يحب لسائار المسلمين ما يحب لنفسه بل ينبغى أن يساهم المسلمين فى السراء والضراء فالمسلمون‬
‫كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائار الجسد فإن كنت ل تصادف هذا من قلبك‬
‫فاشتغالك بطلب التخلص من الهلك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات وأما الرياء هو الشرك الخفى وهو أحد‬
‫الشركين وذلك طلبك المنزلة فى قلوب الخلق لتنال بها الجاه والحشمة وحب الجاه من الهوى المتبع وفيه هلك أكثر الناس فما أهلك‬
‫الناس إل الناس ولو أنصفت الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضل عن أعمال العادات ليس يحملها‬
‫عليها إل مراءاة الناس وهى محبطة للعمال كما ورد فى الخبر أن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار فيقول يارب استشهد فى‬
‫سبيلك فيقول ا تعالى بل أردت أن يقال فلن شجاع وقد قيل ذلك وذلك أجرك وكذلك يقال للعالم والحاج والقارئ وأما العجب‬
‫والكبر والفخر فهو الداء العضال وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العزة والستعظام وإلى غيره بعين الحتقار والذل ونتيجته على‬
‫اللسان أن يقول أنا وأنا قال إبليس اللعين أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين )العراف‪ (12:‬وثمرته فى الجالس الترفع‬
‫والتقدم وطلب التصدر فيها وفى المحاورة الستنكاف من أن يرد كلمه عليه‬
‫ص ‪410‬‬
‫ل‬
‫و المتكبر هو الذيِ إن وعظ أنف أو وعظ عنف‪ ،‬فكل من رأى نفسه خيرا من أحد من خلق ا تعالى فهو متكبر‪ ،‬بل ينبغي لك أن‬
‫تعلم أن الخير من هو خير عند ا في دار الخرة‪ ،‬و ذلك غيب موقوف على الخاتمة‪ ،‬فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل‬
‫محض‪ ،‬بل يبتغي أن ل تنظر إلى أحد إل و ترى أنه خير منك‪ ،‬و أن الفضل له على نفسك‪ ،‬فإن رأيت صغيرال قلت ‪ :‬هذا لم يعص‬
‫ا و أنا عصيته فل شك أنه خير مني‪ ،‬و إن رأيت كبيرال قلت ‪ :‬هذا قد عبد ا قبلي فل شك أنه خير مني‪ ،‬و أن كان عالما ل قلت ‪:‬‬
‫هذا قد أعطى ما لم أعط ‪ ،‬و بلغ ما لم أبلغ و علم ما جهلت فكيف أكون مثله ! و إن كان جاهلل قلت ‪ :‬هذا قد عصى ا بجهل و أنا‬
‫عصيته بعلم‪ ،‬فحجة ا على ياكد و ما أدرى بم يختم له‪ ،‬و أن كان كافرال قلت ‪ :‬ل أدرى عسى أن يسلك و يختم له بخير العلم‪ ،‬و‬
‫ينسل بإسلمه عن الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين ‪ ،‬و أما أنا و العياذ بال فعسى أن يضلني ا فأكفر فيختم لي بشر العمل‪،‬‬
‫فيكون غدال هو من المقربين و أنا أكون من الخاسرين ‪.‬‬
‫فل يخرج الكبر من قلبك إل بأن تعرف أن الكبير من هو عند ا تعالى‪ ،‬و ذلك موقوف على الخاتمة ‪ ،‬و هي مشكوك فيها‪ ،‬فيشغلك‬
‫خوف الخاتمة عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد ا تعالى‪ ،‬فيقينك و إيمانك في الحال ل يناقض تجويزك التغير في الستقبال‪،‬‬
‫فإن ا مقلب القلوب يهديِ من يشاء و يضل من يشاء‪.‬‬
‫و الخبار في الحسد و الكبر و الرياء و العجب كثيرة‪ ،‬و يكفيك فيها حديث واحد جامع‪ ،‬فقد روى ابن المبارك بإسناده عن رجل‬
‫أنه قال لمعاذ ‪ :‬حدثني حديثا ل سمعته من رسول ا صلى ا عليه و سلم‪ ،‬قال ‪ :‬فبكى معاذ حتى ظننت أنه ل يسكت‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫واشوقاه إلى رسول ا صلى ا عليه و سلم و إلى لقائاه‪ ،‬ثم قال ‪ :‬كان رسول ا صلى ا عليه و سلم يقول لي ‪ :‬يا معاذ إني‬
‫محدثك بحديث إن أنت حفظته نفعك عند ا‪ ،‬و أن أنت ضيعته و لم تحفظه انقطعت حجتك عند ا تعالى يوم القيامة ‪ :‬يا معاذ إن‬
‫ا تعالى خلق سبع أملك قبل أن يخلق السموات و الرض‪ ،‬فجعل لكل سماء من السبع ملكا ل بوابا ل عليها‪ ،‬فتصعد الحفظة بعمل‬
‫العبد من حين يصبح إلى حين يمسي‪ ،‬له نور كنورالشمس‪ ،‬حتى إذا صعدت إلى السماء الدنيا زكته و كثرته‪ ،‬فيقول الملك الموكل‬
‫بها للحفظة ‪ :‬اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه‪ ،‬انا صاحب الغيبة أمرني ربي أن ل أدع عمل من أغتاب الناس يجاوزني إلى‬
‫غيريِ قال‪ :‬ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد له نور فتزكيه و تكثره حتى تبلغ به السماء الثانية فيقول لهم الملك‬
‫الموكل‪ :‬قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه‪ ،‬أنه أراد بعمله عرض الدنيا‪ ،‬أنا ملك الفخر أمرني ربي أن ل أدع عمله‬
‫يجاوزني إلى غيريِ‪ ،‬إنه كان يفتخر علي في مجالسهم‪ .‬قال ‪ :‬و تصعد الحفظة بعمل العبد يبهج من صدقة و صلة و صيام قد‬
‫أعجب الحفظة‪ ،‬فيجاوزون به إلى‬
‫ص ‪422 – 421‬‬
‫السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها ‪ :‬قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ‪،‬أنا ملك الكبر أمرني ربي أن ل أدع عمله‬
‫يجاوزني إلى غيريِ‪ ،‬إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم‪ .‬قال ‪ :‬و تصعد الحفظة بعمل العبد يزهو كما يزهو الكوكب الدريِ و‬
‫له دويِ من تسبيح و صلة و صيام و حج و عمرة حتى يتجاوزوا به إلى السماء الرابعة‪ ،‬فيقول لهم الملك الموكل بها ‪ :‬قفوا و‬
‫أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و ظهره و بطنه‪ ،‬أنا صاحب العجب أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني إلى غيريِ‪ ،‬إنه كان‬
‫إذا عمل عملل أدخل العجب فيه‪ .‬قال‪ :‬و تصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة‬
‫إلى بعلها‪ ،‬فيقول لهم الملك الموكل بها‪ :‬قفوا و أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و أحملوه على عاتقه‪ ،‬أنا ملك الحسد إنه كان يحسد‬
‫من يتعلم و يعمل بمثل عمله‪ ،‬و كل من كان يأخذ فضلل من العبادة كان يحسدهم و يقع فيهم‪ ،‬أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني‬
‫إلى غيريِ‪ .‬قال‪ :‬و تصعد الحفظة بعمل العبد له ضوء كضوء الشمس من صلة و زكاة و حج و عمرة و جهاد و صيام‪،‬‬
‫فيجاوزون به إلى السماء السادسة‪ ،‬فيقول لهم الملك الموكل بها‪ :‬قفوا و أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه‪ ،‬إنه كان ل يرحم إنسانا ل‬
‫قط من عباد ا أصابه بلء أو مرض‪ ،‬بل كان يشمت به‪،‬أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني إلى غيريِ ‪ .‬قال و‬
‫تصعد الحفظة بعمل العبد من صوم و صلة و نفقة و جهاد وورع‪ ،‬له دويِ كدويِ النحل و ضوء كضوء الشمس‪ ،‬و معه ثلثة‬
‫ألف ملك‪ ،‬فيجاوزون به السماء السابعة‪ ،‬فيقول لهم الملك الموكل بها‪ :‬قفوا و أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه‪ ،‬و اضربوا‬
‫جوارحه و اقفلوا به على قلبه‪ ،‬أنا صاحب الذكر‪ ،‬فإني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي‪ ،‬إنه إنما أراد بعمله غير ا‬
‫تعالى‪ ،‬إنه أراد به رفعة عند الفقهاء‪ ،‬و ذكرال عند العلماء‪ ،‬و صيتا ل في المدائان‪ ،‬أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني إلى غيريِ‪ ،‬و‬
‫كل عمل لم يكن ل تعالى خالصا ل فهو رياء و ل يقبل ا عمل المرائاي‪ .‬قال‪ :‬و تصعد الحفظة بعمل العبد من صلة و صيام و حج‬
‫و عمرة و خلق حسن و صمت و ذكر ا تعالى‪ ،‬فيشيعه ملئاكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى ا تعالى‪ :‬أنتم‬
‫الحفظة على عمل عبديِ و أنا الرقيب على ما في قلبه‪ ،‬إنه لم يردني بهذا العمل و إنما أراد به غيريِ‪ ،‬فعليه لعنتي! فتقول الملئاكة‬
‫كلها ‪ :‬عليه لعنتك و لعنتنا! فتلعنه السموات السبع و من فيهن"‪ .‬ثم بكى معاذ و انتحب انتحابا ل شديدلا؛ و قال معاذ‪ :‬قلت يا رسول ا‬
‫أنت رسول ا و أنا معاذ‪ ،‬فكيف لي بالنجاة و الخلص من ذلك ؟ قال‪ " :‬اقتد بي‪ ،‬وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على‬
‫لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القر يان خاصة‪ ،‬و احمل ذنوبك عليك و ل تحملها عليهم‪ ،‬و ل تزل نفسك بذمهم‪ ،‬و ل ترفع‬
‫نفسك عليهم بوضعهم‪ ،‬و ل تدخل عمل الدنيا في عمل الخرة‪ ،‬و ل تراء بعملك و ل تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء‬
‫خلقك‪ ،‬و ل تناج رجلل و عندك آخر‪ ،‬و ل تعظم على الناس فتنطع خيرات الدنيا و الخرة‪ ،‬و ل تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلب‬
‫النار يوم القيامة في النار‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬و الناشطات نشطا( هل تدريِ ما هن يا معاذ؟ " قلت‪ :‬بأبي أنت و أمي يا رسول ا؟‬
‫قال‪" :‬كلب في النار تنشط اللحم من العظم" قلت‪ :‬بأبي أنت و أمي يا رسول ا‪ ،‬من يطيق هذه الخصال و من ينجو منها؟ قال‪:‬‬
‫"يا معاذ إنه ليسير على من يسره ا تعالى عليه‪ ،‬إنما يكفيك من ذلك أن تحب للناس ما تحب لنفسك‪ ،‬و تكره لهم ما تكره لنفسك‪،‬‬
‫فإذن أنت يا معاذ قد سلمت"‪.‬‬
‫قال خالد بن معدان‪ :‬فما رأيت أحدال أكثر تلوة للقرأن العظيم من معاذ لهذا الحديث العظيم‪ .‬فتأمل أيها الراغب في العلم هذه‬
‫الخصال‪ ،‬و اعلم أن أعظم السباب في رسوخ هذه الخبائاث في القلب طلب العلم لجل المباهاة و المنافسة‪ ،‬فالعامي بمعزل عن‬
‫أكثر هذه الخصال‪ ،‬و المتفقة مستهدف لها‪ ،‬و هو متعرض للهلك بسببها‪ .‬فانظر أيِ أمورك أهم‪ ،‬أتتعلم كيفية الحذر من هذه‬
‫المهلكات و تشتغل بإصلح قلبك و عمارة ياخرتك‪ ،‬أم الهم أن تخوض مع الخائاضين فتطلب من العلم ما هو سبب زيادة الكبر و‬
‫الرياء و الحسد و العجب حتى تهلك مع الهالكين؟‬
‫و اعلم أن هذه الخصال الثلث من أمهات خبائاث القلوب‪ ،‬و لها مغرس واحد و هو حب الدنيا و لذلك قال صلى ا عليه و سلم‪:‬‬
‫لخرة‪ ،‬فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة بيستعين بها على الخرة فالدنيا‬ ‫"حب الدنيا رأس كل خطيئاة"‪ ،‬و مع هذا فالدنيا مزرعة ل ي‬
‫مزرعته‪ ،‬و من أراد الدنيا ليتنعم بها فالدنيا مهلكته‪.‬‬
‫فهذه نبذه يسيرة من ظاهر علم التقوى‪ ،‬وهي بداية الهداية‪ ،‬فإن جربت بها نفسك و طاعتك عليها فعليك بكتاب إحياء علوم الدين‬
‫لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى‪ .‬فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك‪ ،‬فعند ذلك ترتفع الحجب بينك و بين ربك‪ ،‬و تنكشف لك‬
‫أنوار المعارف‪ ،‬و تتفجر من قلبك ينابيع الحكم‪ ،‬و تتضح لك أسرار الملك و الملكوت‪ ،‬و يتسر لك من العلوم ما تستحقر به هذه‬
‫العلوم المحدثة التي لم يكن لها ذكر في زمن الصحابة رضي ا عنهم و التابعين‪.‬‬
‫و إن كنت تطلب العلم من القيل و القال و المراء و الجدال‪ ،‬فما أعظم مصيبتك‪ ،‬و ما أطول تعبك‪ ،‬و ما أعظم حرمانك و خسارتك‪،‬‬
‫فاعمل ما شئات‪ ،‬فإن الدنيا التي تطلبها بالدين ل تسلم لك‪ ،‬و الخرة تسلب منك؛ فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما جميعال‪ ،‬و من ترك‬
‫الدنيا للدين ربحهما جميعا ل‪.‬‬
‫فهذه جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع ا تعالى بأداء أوامره و اجتناب نواهيه‪ .‬و أشير عليك الن بجمل من الداب‬
‫لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع عباد ا تعالى و صحبتك معهم في الدنيا‪.‬‬
‫ص ‪423‬‬
‫القسم الثالث القول في أداب الصحبة‬
‫اعلم أن صاحبك الذيِ ل يفارقك في حضرك و سفرك و نومك و يقظتك‪ ،‬بل في حياتك و موتك‪ ،‬هو ربك و سيدك و مولك و‬
‫خالقك؛ و مهما ذكرته فهو جليسك‪ ،‬إذا قال ا تعالى‪" :‬أنا جليس من ذكرني"‪ ،‬و مهما انكسر قلبك حزنا ل على تقصيرك في حق‬
‫دينك فهو صاحبك و ملزمك‪ ،‬إذ قال ا تعالى ‪":‬أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي"‪ ،‬فلو عرفته حق معرفته لتخذته صاحبا ل و‬
‫تركت الناس جانبلا‪ ،‬فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك فإياك أن تخلي ليلك و نهارك عن وقت تخلو فيه لمولك و تتلذذ معه‬
‫بمناجاتك له‪ ،‬و عند ذلك فعليك أن تتعلم أداب الصحبة مع ا تعالى؛ و أدابها‪ :‬إطراق الرأس‪ ،‬و غض الطرف‪ ،‬و جمع الهم‪ ،‬ودوام‬
‫الصمت‪ ،‬و سكون الجوارح‪ ،‬ومبادرة المر‪ ،‬واجتناب النهى‪ ،‬وقلة العتراض على القدر‪ ،‬ودوام الذكر‪ ،‬وملزمة الفكر‪ ،‬وإيثار‬
‫الحق على الباطل‪ ،‬و اللياس عن الخلق‪ ،‬و الخضوع تحت الهيبة‪ ،‬والنكسار تحت الحياء‪ ،‬والسكون عن حيل الكسب الثقة‬
‫بالضمان‪ ،‬و التوكل على فضل ا تعالى معرفة بحسن الختيار‪ .‬و هذا كله يبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك و نهارك‪ ،‬فإنها‬
‫أداب الصحبة مع صاحب ل يفارقك‪ ،‬و الخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك‪.‬‬
‫و إن كنت عالملا‪ ،‬فأداب العالم‪ :‬الحتمال‪ ،‬و لزوم الحلم‪ ،‬و الجلوس بهيبة على سمت الوقار مع إطراق الرأس‪ ،‬و ترك التكبر على‬
‫جميع العباد إل على الظلمة زجرال لهم عن الظلم‪ ،‬و إيثار التواضع في المحافل و المجالس‪ ،‬و ترك الهزل و الدعابة‪ ،‬و الرفق‬
‫بالمتعلم‪ ،‬و التأني بالمتعجرف‪ ،‬و إصلح البليد بحسن الشارة و ترك الحرد عليه‪ ،‬و ترك النفة من قول ل أدريِ‪ ،‬و صرف الهمة‬
‫إلى السائال و تفهم سؤاله‪ ،‬و قبول الحجة و النقياد للحق بالرجوع إليه عند الهفوة‪ ،‬و منع التعلم عن كل علم يضره‪ ،‬و زجره عن‬
‫أن يريد بالعلم النافع غير وجه ا تعالى‪ ،‬و صد المتعلم أن يشتغل بفرص الكفاية قبل الفراغ من فرض عين‪ ،‬و فرض عينه‬
‫إصلح ظاهره و باطنه بالتقوى‪ ،‬و مؤاخذة نفسه أولل بالتقوى ليقتديِ المتعلم أولل بأعماله و يستفيد ثانيا ل من أقواله‪.‬‬
‫و إن كنت متعلملا‪ ،‬فآداب المتعلم مع العالم‪ :‬أن يبدأه بالتحية و السلم‪ ،‬و أن يقلل بين يديه الكلم‪ ،‬و ل يتكلم ما لم يسأله أستاذه و ل‬
‫ل‪ ،‬و ل يقول في معارضة قوله قال فلن بخلف ما قلت‪ ،‬ول يشير عليه بخلف رأيه فيريِ أنه أعلم‬ ‫يسأل ما لم يستأذن أو ل‬
‫بالصواب من أستاذه‪ ،‬و ل يسأل جليسه في مجلسه‪ ،‬و ل يلتفت إلى الجوانب بل يجلس مطرقا ل عينه ساكنا ل متأدبا ل كأنه في الصلة‪،‬‬
‫و ل يكثر عليه السؤال عند ملله‪ ،‬و إذا قام قام له‪ ،‬و ل يتبعه بكلمه و سؤاله‪ ،‬و ل يسأله في طريقه إلى أن يبلغ إلى منزله‪ ،‬و ل‬
‫يسئ الظن به في أفعال ظاهرها منكرة عنده فهو أعلم بأسراره‪ ،‬و ليذكر عند ذلك قول موسى للخضر عليهما السلم‪" :‬أخرقتها‬
‫لتغرق أهلها لقد جئات شيئاا ل إمرا" الكهف‪ . 71:‬و كونه مخطئاا ل في إنكاره اعتمادال على الظاهر‪.‬‬
‫و إن كان لك والدان فأداب الولد مع الوالدين‪ :‬أن يسمع كلمهما‪ ،‬و يقوم لقيامهما‪ ،‬و يمنثل لمرهما‪ ،‬و ل يمشي أماهما‪ ،‬ول يرفع‬
‫صوته فوق أصواتهما‪ ،‬و يلبي دعوتهما‪ ،‬و يحرص على مرضاتهما‪ ،‬و يخفض لهما جناح الذل‪ ،‬و ل يمن عليهما بالبر و ل بالقيام‬
‫لمرهما‪ ،‬و ل ينظر إليهما شزرلا‪ ،‬ول يقطب وجهه في وجههما‪ ،‬ول يسافر إل بإذنهما‪.‬‬
‫واعلم أن الناس بعد هؤلء في حقك ثلثة أصناف‪ :‬إما أصدقاء‪ ،‬و إما معارف‪ ،‬و إما مجاهيل‪.‬‬
‫يي‬
‫يي‬
‫يي‬
‫يي‬
‫ي‬
‫فإن بليت بالعوام المجهولين ف يياداب مجالستهم‪ :‬ترك الخوض في حديثهم‪ ،‬و قلة الصغاء إلى أراجيفهم‪ ،‬و التغافل عما يجريِ من‬
‫سوء ألفاظهم‪ ،‬و الحترار عن كثرة لقائاهم و الحاجة إليهم‪ ،‬و التنبيه على منكراتهم باللطف و النصح عند رجاء القبول منهم‪.‬‬
‫و أما الخوان و الصدقاء فعليك فيهم و ظيفتان‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬أن تطلب أولل شروط الصحبة و الصداقة‪ ،‬فل تؤاخ إل من يصلح للخوة و الصداقة‪ ،‬قال رسول ا صلى ا عليه و‬
‫سلم‪" :‬المرء على دين خليله‪ ،‬فلينظر أحدكم من يخالل"‪ .‬فإذا طلبت رفيقا ل ليكون شريكك في التعليم و صاحبك في امر دينك و‬
‫دنياك فراع فيه خمس خصال‪:‬‬
‫الولى العقل‪ :‬فل خير في صحبة الحمق‪ ،‬فإلى الوحشة و القطيعة يرجع أخرها‪ ،‬و أحسن أحواله أن يضرك و هو يريد نفعك‪ ،‬و‬
‫العدو العاقل خير من صديق أحمق‪ ،‬قال علي رضي ا عنه‪ :‬فل تصحب اخا الجهل‪ ،‬و إياك و إياه‬
‫فكم من جاهل أردى‪ ،‬حليما ل حين واخاه‬
‫يقاس المرء بالمرء‪ ،‬أذا ما المرء ما شاء‬
‫كحذو النعل بالنعل‪ ،‬إذا ما النعل حاذاه‬
‫و للشيء من الشيء‪ ،‬مقاييس و أشياء‬
‫و للقلب على القلب‪ ،‬دليل حين يلقاه‬
‫الثانية حسن الخلق‪ :‬فل تصحب من ساء خلقه‪ ،‬و الذيِ ل يملك نفيه عند الغضب و الشهوة؛ و قد جمعه علقمة العطارديِ رحمه ا‬
‫تعالى في وصيته لبنه لما حضرته الوفاة فقال‪ :‬يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك‪ ،‬وإن صحبته زانك‪،‬‬
‫و إن قعدت بك مؤونة مانك‪ .‬اصحب من إذا مددت يدك بالخير مدها‪،‬و إن رأى منك حسنة عدها‪ ،‬و إن رأى منك سيئاة سدها‪.‬‬
‫اصحب من إذا قلت له صدق قولك‪ ،‬و إذا حاولت أمرال أعانك و نصرك‪ ،‬و إن تنازعتما في شيء أثرك‪ .‬و قال علي رضي ا عنه‪:‬‬
‫إن أخاك من كان معك‪ ،‬ومن يضر نفسه لينفعك‬
‫ومن إذا ريب الزمان صدعك‪ ،‬شتت فيك شمله ليجمعك‬
‫الثالثة الصلح ‪ :‬فل تصحب فاسقا ل مصرال على معصية كبيرة‪ ،‬لن من يخاف ا ل يصر على معصية كبيرة‪ ،‬ومن ل يخاف ا ل‬
‫تؤمن غوائاله‪ ،‬بل يتغير بتغير الحوال و العراض؛ قال ا تعالى لنبيه صلى ا عليه و سلم‪) :‬و ل تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‬
‫واتبع هواه و كان أمره فرطا( الكهف ‪ . 28‬فاحذر صحبة الفاسق ‪ ،‬فإن مشاهدة الفسق و المعصية على الدوام تزيل قلبك كراهية‬
‫المعصية و يهون عليك أمرها؛ و لذلك هان على القلوب معصية الغيبة‪ ،‬ل لفهم لها‪ ،‬و لو رأوا خاتما ل من ذهب أو ملبوسا ل من حرير‬
‫على فقيه لشتد إنكارهم عليه‪ ،‬و الغيبة أشد من ذلك‪.‬‬
‫الرابعة أن ل يكون حريصا ل على الدنيا‪ :‬فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل؛ لن الطباع مجبولة على التشبه و القتداء‪ ،‬بل‬
‫الطبع يسرق من الطبع من حيث ل يدريِ‪ ،‬فمجالسة الحريص تزيد في حرصك‪ ،‬و مجالسة الزاهد تزيد من زهدك‪.‬‬
‫الخامسة الصدق‪ :‬فل تصحب كذابا ل فإنك منه على غرور‪ ،‬فإنه مثل السراب يقرب منك البعيد و يبعد منك القريب‪.‬‬
‫و لعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس و المساجد‪ ،‬فعليك بأحد أمرين‪ :‬إما العزلة و النفراد ففيها سلمتك‪ ،‬و إما‬
‫تكون مخالطتك مع شركائاك بقدر خصالهم‪ ،‬بأن تعلم أن الخوة ثلثة ‪ :‬أخ لخرتك‪ ،‬فل تراع فيه إل الدين‪ .‬و أخ لدنياك‪ ،‬فل تراع‬
‫فيه إل الخلق الحسن‪ .‬و أخ لتأنس به‪ ،‬فل تراع فيه إل السلمة من شره و فتنته و خبثه‪.‬‬
‫ص ‪427-426‬‬
‫و الناس ثلثة‪ :‬أحدهم مثله مثل الغذاء ل يستغني عنه و الخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت‪ .‬و الثالث مثله مثل‬
‫يي‬
‫الداء ل يحتاج إليه قط و لكن العبد قد يبتلى به‪ ،‬و هو الذيِ ل أنس فيه و ل نفع‪ ،‬فتجب مداراته إلى الخلص منه‪ ،‬و في مشاهدته يي‬
‫فائادة عظيمة إن وفقت لها‪ ،‬وهو أن تشاهد من خبائاث أحواله و أفعاله ما تستقبحه فتجتنبه‪ ،‬فالسعيد من وعظ بغيره‪ ،‬و المؤمن مرا يي ية‬
‫المؤمن‪ ،‬وقيل لعيسى عليه السلم‪ :‬من أدبك؟ فقال‪ :‬ما أدبني أحد و لكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته‪ .‬و لقد صدق على نبينا و عليه‬
‫الصلة و السلم‪ ،‬فلو أجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم لكملت أدابهم واستغنوا عن المؤدبين‪.‬‬
‫الوظيفة الثانية ‪ :‬مراعاة حقوق الصحبة؛ فمنها انعقدت الشركة‪ ،‬و انتظمت بينك و بين شريكك الصحبة‪ ،‬فعليك حقوق يوجبها عقد‬
‫الصحبة و في القيام بها أداب؛ و قد قال صلى ا عليه و سلم‪ " :‬مثل الخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الخرى" و دخل صلى ا‬
‫عيه و سلم أجمة فأجتنى منها سواكين‪ :‬أحدهما معوج و الخر مستقيم‪ ،‬و كان معه بعض أصحابه‪ ،‬فأعطاه المستقيم وأمسك لنفسه‬
‫المعوج فقال ‪ :‬يا رسول ا‪ ،‬أنت أحق مني بالمستقيم‪ ،‬فقال صلى ا عليه و سلم‪" :‬ما من صاحب يصحب صاحبا ل و لو ساعة من‬
‫نهار إل ويسأل عن صحبتيها هل أقام فها حق ا تعالى أن أضاعه" و قال صلى ا عليه و سلم‪" :‬ما اصطحب اثنان قط إل و كان‬
‫أحبهما إلى ا تعالى أرفقهما بصاحبه"‪.‬‬
‫و آداب الصحبة اليثار بالمال‪ ،‬فإن لم يكن هذا فبذل الفضل من المال عند الحاجة‪ ،‬و العانة بالنفس في الحاجات على سبيل‬
‫المبادرة من غير إحواج إلى التماس‪ ،‬و كتمان السر‪ ،‬و ستر العيوب‪ ،‬و السكوت عن تبليغ ما يسؤوه من مذمة الناس إياه‪ ،‬و ابلغ‬
‫ما يسره من ثناء الناس عليه‪ ،‬و حسن الصغاء عند الحديث‪ ،‬و ترك المماراة فيه‪ ،‬و أن يدعوه بأحب أسمائاه إليه‪ ،‬و أن يثني عليه‬
‫بما يعرف من محاسنه‪ ،‬و أن يشكره على صنيعه في وجهه‪ ،‬و أن يذب عنه في غيبته إذا تعرض لعرضه كما يذب عن نفسه‪ ،‬و أن‬
‫ينصحه باللطف و التعرض إذا احتاج إليه‪ ،‬و أن يعفو عن زلته و عفوته فل يعتب عليه‪ ،‬وأن يدعو له في خلوته في حياته و بعد‬
‫مماته‪ ،‬و أن يحسن الوفاء مع أهله و أقاربه بعد موته‪ ،‬و أن يؤثر التخفيف عنه فل يكلفه شيئاا ل من حاجاته و يروح قلبه من مهماته‪،‬‬
‫و أن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مساره‪ ،‬و الحزن على ما يناله من مكاره‪ ،‬وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهر فيكون‬
‫صادقا ل في وده سرال و علنية‪ ،‬و أن يبدأه بالسلم عند إقباله‪ ،‬و أن يوسع له في المجلس‪ ،‬و أن يخرج له من مكانه‪ ،‬و أن يشيعه عند‬
‫قيامه؛ وأن يصمت عند كلمه حتى يفرغ من كلمه و يترك المداخلة في كلمه؛ و على الجملة فيعامله بما يجب أن يعامل به‪ ،‬فمن‬
‫ل يحب لخيه مثل ما يحب لنفسه فأخوته نفاق‪ ،‬و هي عليه وبال في الدنيا و الخرة‪ ،‬فهذا أدبك في حق العوالم المجهولين و في‬
‫حق الصدقاء المؤاخين‪.‬‬
‫و أما القسم الثالث و هم المعارف؛ فاحذر منهم‪ ،‬فإنك ل ترى الشر إل ممن تعرفه‪ ،‬أما الصديق فيعينك و أما المجهول فل يتعرض‬
‫لك‪ ،‬و إنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم‪ .‬فأقلل من المعارف ما قدرت‪ ،‬فإذا بليت بهم في مدرسة أو‬
‫مسجد أو جامع أو سوق أو بلد‪ ،‬فيجب أن ل تستصغر منهم أحدلا‪ ،‬فإنه ل تدريِ لعله خير منك‪ ،‬و ل تنظر إليهم بعين التعظيم لهم‬
‫في حال دنياهم فتهلك‪ ،‬لن الدنيا صغيرة عند ا تعالى صغير ما فيها‪ ،‬و مهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين ا‬
‫تعالى‪ .‬وإياك أن تبذل دينك لتنال به من دنياهم‪ ،‬فل يعقل ذلك أحد إل صغر في أعينهم‪ ،‬ثم حرم ما عندهم‪ .‬و إن عادوك فل تقابلهم‬
‫بالعداوة‪ ،‬فأنك ل تطيق الصبر على مكافأتهم‪ ،‬فيذهب دينك في عدواتهم‪ ،‬و يطول عناؤك معهم ‪ .‬و ل تسكن إليهم في حال إكرامهم‬
‫إياك‪ ،‬و ثنائاهم عليك في وجهك‪ ،‬وإظهارهم المودة لك‪ ،‬فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائاة واحدلا‪ ،‬ول تطمع أن يكون لك‬
‫في السر و العلن واحد‪ .‬و ل تتعجب إن ثلبوك في غيبتك و ل تغضب منهم‪ ،‬فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك حتى في‬
‫أصدقائاك و أقاربك‪ ،‬بل في أستاذك ووالديك‪ ،‬يفإنك تذكرهم في الغيبة بما ل تشاففههم به‪ .‬فاقطع طعمك عن مالهم و جاههم و‬
‫معونتهم؛ فإن الطامع في الكثر خائاب في الم ييال‪ ،‬و هو ذليل ل محالة في الحال‪ .‬و إذا سألت واحدال حاجة فقضاها فاشكر ا تعالى‬
‫واشكره‪ ،‬و إن قصر فل تعاتبه و ل تشكه فيصير عداوة له؛ و كن كالمؤمن يطلب المعاذير‪ ،‬ول تكن كالمنافق يطلب العيوب‪ ،‬و قل‬
‫لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه‪ .‬و ل تعظن أحدال منهم ما لم تتوسم فيه أول مخايل القبول‪ ،‬و إل لم يستمع منك و صار خصما ل‬
‫عليك فإذا أخطئاوا في مسألة وكانوا يأنفون من التعلم فل تعلمهم‪ ،‬فإنهم يستفيدون منك علما ل و يصبحون لك أعداء؛ إل إذا تعلق ذلك‬
‫بمعصية يفارقونها عن جهل منهم‪ ،‬فاذكر الحق بلطف من غير عنف‪ ،‬و إذا رأيت منهم كرامة و خيرال فاشكر ا الذيِ حببك إليهم‪،‬‬
‫و إذا رأيت منهم شرال فكلهم إلى ا تعالى‪ ،‬واستعذ بال من شرهم‪ ،‬ول تعاتبهم‪ ،‬ول تقل لهم‪ :‬لم تعرفوا حقي وأنا فلن ابن فلن‬
‫وأنا الفاضل في العلوم؟ فإن ذلك من كلم الحمقى؛ و أشد الناس حماقة من يزكى نفسه و يثني عليها‪ .‬واعلم أن ا تعالى ل يسلطهم‬
‫عليك إل لذنب سبق منك‪ ،‬واستغفر ا من ذنبك واعلم أن ذلك عقوبة من ا تعالى‪ .‬وكن فيما بينهم سميعا ل لحقهم‪ ،‬أصم عند‬
‫باطلهم‪ ،‬نطوقا بمحاسبتهم‪ ،‬صموتا ل عن مساويهم واحذر مخالطة متفقهة الزمان‪،‬‬
‫ص ‪428‬‬
‫لسيما المشتغلين بالخلف و الجدال‪ ،‬واحذر منهم‪ ،‬فإنهم يتصرفون بك بحسدهم ريب المنون‪ ،‬و يقطعون عليك الظنون‪ ،‬و‬
‫يتغامزون وراءك بالعيون‪ ،‬و يحصون عليك عثراتك في عشيرتهم حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم‪ .‬ل يقيلون لك‬
‫عثرة‪ ،‬ول يغفرون لك زلة‪ ،‬ول يسترون عليك عورة‪ .‬يحاسبونك على النقير و القطمير‪ ،‬و يحسدونك على القليل و الكثير‪ ،‬و‬
‫يحرضون عليك الخوان بالنميمة و البلغات و البهتان‪ .‬إن رضوا فظاهرهم الملق‪ ،‬وإن سخطوا فباطنهم الحنق‪ .‬ظاهرهم ثياب‪،‬‬
‫وباطنهم ذئااب‪ ،‬هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم إل من عصمة ا تعالى؛ فصحبتهم خسران‪ ،‬ومعاشرتهم خذلن‪.‬‬
‫هذا حكم من يظهر لك الصداقة‪ ،‬فكيف من يجاهرك بالعداوة! قال القاضي ابن معروف رحمه ا تعالى ‪:‬‬
‫حذر عدوك مرة‪ ،‬واحذر صديقك ألف مرة‬
‫فلربما انقلب الصديق فكان أعرف بالمضرة‬
‫و كذلك قيل في المعنى ‪:‬‬
‫عدوك من صديقك مستفاد فل تكثرن من الصحاب‬
‫فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب‬
‫و كن كما قال هلل بن العلء الرقي ‪:‬‬
‫لما عفوت ولم أحقد على أحد‪ ،‬أرحت نفسي من هم العداوات‬
‫إني أحيي عدويِ عند رؤيته‪ ،‬لدفع الشر عني بالتحيات‬
‫وأظهر البشر للنسان أبغضه ‪ ،‬كأنه قد مل قلبي مسرات‬
‫و لست أسلم ممن لست أعرفه‪ ،‬فكيف أسلم من أهل المودات‬
‫الناس داء دواء الناس تركهم‪ ،‬و في الجفاء لهم قطع الخوات‬
‫فسالم الناس تسلم من غوائالهم‪ ،‬وكن حريصا ل على كسب المودات‬
‫و خالق الناس واصبر ما بليت بهم‪ ،‬أصم أبكم أعمى ذا تقيات‬
‫و كن أيضا ل كما قال بعض الحكماء‪ :‬الق صديقك و عدوك بوجه الرضا من غير مذلة لهما و ل هيبة منهما‪ ،‬و توقر من غير كبر‪،‬‬
‫و تواضع من غير مذلة‪ ،‬وكن في جميع أمورك في أوسطها‪ .‬فكل طرفي قصد المور ذميم‪ .‬كما قيل‪:‬‬
‫عليك بأوساط المور فإنها طريق إلى نهج الصراط قويم‬
‫ولتك فيها مفرطا او مفرطا فإن كل حال المور ذميم‬
‫و ل تنظر في عطفيك و ل تكثر اللتفات إلى ورائاك‪ ،‬ول تقف على الجماعات‪ ،‬و إذا جلست فل تستوفز‪ .‬و تحفظ من تشبيك‬
‫أصابعك‪ ،‬و العبث بلحيتك و خاتمك‪ ،‬و تخليل أسنانك‪ ،‬و إدخال إصبعك في أنفك‪ ،‬و كثرة بصاقك و تنخمك و طرد الذباب عن‬
‫وجهك‪ ،‬و كثرة التمطي و التثاؤب في وجوه الناس و في الصلة و غيرها‪.‬‬
‫و ليكن مجلسك هادئاا ل و حديثك منظوما ل مرتبا ل‪ .‬واصغ إلى الكلم الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط‪ ،‬ول تسأله‬
‫إعادته‪ .‬واسكت عن المضاحك و الحكايات‪ ،‬تحدث عن إعجابك بولدك و شعرك و كلمك و تصنيفك و سائار ما يخصك‪ .‬و ل‬
‫تتصنع تصنع المرأة في التزين‪ ،‬ول تتبذل تبذل العبد‪ .‬وتوق كثر الكحل و السراف في الدهن‪ .‬ول تلح في الحاجات‪ ،‬ول تشجع‬
‫أحدال على الظلم‪.‬‬
‫و ل تعلم أحدال من أهلك وولدك – فضلل عن غيرهم_ مقدار مالك‪ ،‬فإتهم إن رأوه قليلل هنت عليهم‪ ،‬وإن رأوه كثيرال لم تبلغ قط‬
‫رضاهم‪ .‬واجفهم من غير عنف‪ ،‬و لن لهم من غير ضعف‪ .‬ول تهازل أمتك ول عبدك فيسقط وقارك من قلوبهم‪ .‬و إذا خاصمت‬
‫فتوقر‪،‬و تحفظ من جهلك و عجلتك‪ ،‬و تفكر في حجتك‪ ،‬و ل تكثر الشارة بيدك‪ ،‬ول تكثر اللتفات إلى من ورائاك‪ ،‬ول تجث على‬
‫ركبتك؛ و إذا هدأ غضبك فتكلم‪ .‬وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان‪ .‬و إياك و صديق العافية‪ ،‬فإنه أعدى العداء‪ .‬و ل‬
‫تجعل مالك أكرم من عرضك‪.‬‬
‫فهذا القدر يا فتى يكفيك من بداية الهداية‪ ،‬فجرب بها نفسك‪ ،‬فإنها ثلثة أقسام‪ :‬قسم في أداب الطاعات‪ ،‬و قسم في ترك المعاصي‪ ،‬و‬
‫قسم في مخالطة الخلق‪.‬‬
‫بداية صفحة ‪430‬‬
‫لجملة معاملة العبد مع الخالق ؛ فإن رأيتها مناسبة لنفسك ورأيت قلبك مائال إليها راغبا في العمل بها ‪ ،‬فاعلم أنك عبد نور ا‬
‫تعالى باليمان قلبك ‪ ،‬وشرح به صدرك‬
‫وتحقق أن لهذه البداية نهاية ‪ ،‬ووراءها أسرارا وأغوارا وعلوما ومكاشفات ‪ ،‬وقد أودعناها في كتاب إحياء علوم الدين ‪ ،‬فاشتغل‬
‫بتحصيله‪ .‬وإن رأيت نفسك تستثقل العمل بهذه الوظائاف ‪ ،‬وتنكر هذا الفن من العلم ‪ ،‬وتقول لك نفسك ‪ :‬أنى ينفعك هذا العلم في‬
‫محافل العلماء ؟ ومتى يقدمك هذا على القران والنظراء ؟ وكيف يرفع منصبك في مجالس المراء والوزراء ؟ وكيف يوصل إلى‬
‫الصلة والرزاق وولية الوقاف والقضاء ؟ فاعلم أن الشيطان قد أغواك ‪ ،‬وأنساك منقلبك ومثواك ‪ ،‬فاطلب لك شيطانا مثلك‬
‫ليعلمك ما تظن أنه ينفعك ويوصلك إلى بغيتك‪ .‬ثم اعلم أنه قد ل يصفو لك في محلتك فضل عن قريبتك وبلدتك ‪ ،‬ثم يفوتك الملك‬
‫المقيم والنعيم الدائام في جوار رب العالمين‪.‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة ا وبركاته ‪ ،‬والحمد ل أول وآخرا وظاهرا وباطنا ‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم ‪ ،‬وصلى ا‬
‫على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الدب في الدين‬
‫الحمد ل الذيِ خلقنا فأكمل خلقنا ‪ ،‬وأدبنا فأحسن أدبنا ‪ ،‬وشرفنا بنبيه محمد صلى ا عليه وسلم فأحسن تشريفنا ‪ ،‬ثم أقول وبال‬
‫التوفيق ‪:‬‬
‫إن أكمل الخلق وأعلها ‪ ،‬وأحسن الفعال وأبهاها ‪ ،‬هو الدب في الدين ‪ ،‬وما يقتديِ به المؤمن من فعل رب العالمين ‪ ،‬وأخلق‬
‫النبيين والمرسلين‪ .‬وقد أدبنا ا تعالى في القرآن بما أرانا فيه من البيان ‪ ،‬وأدبنا بنبيه محمد صلى ا عليه وسلم في السنة بما‬
‫أوجب علينا ‪ ،‬فله المنة ‪ ،‬وكذلك بالصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الدب من المؤمنين بما أوجب علينا من القتداء بهم ؛‬
‫وذلك جليل خطره ‪ ،‬كثير عدده ‪ ،‬نذكر بعضه ‪ ،‬لئال يطول شرحه فيعسر فهمه‪.‬‬
‫الداب بين يديِ ا تعالى‬
‫أدب المؤمن بين يديِ ا تعالى‬
‫إطراق الطرف ‪ ،‬وجمع الهم ‪ ،‬ودوام الصمت ‪ ،‬وسكون الجوارح ‪ ،‬ومبادرة امتثال الوامر ‪ ،‬واجتناب المناهي ‪ ،‬وقلة العتراض‬
‫‪ ،‬وحسن الخلق ‪ ،‬ودوام الذكر ‪ ،‬وتنزيه الفكر ‪ ،‬وتقييد الجوارح ‪ ،‬وسكون القلب ‪ ،‬وتعظيم الرب ‪ ،‬وقلة الغضب ‪ ،‬وكتمان الحب ‪،‬‬
‫ودوام الخلص‬
‫بداية صفحة ‪431‬‬
‫وترك النظر إلى الشخاص ‪ ،‬وإيثار الحق ‪ ،‬واليأس من جميع الخلق ‪ ،‬وإخلص العمل ‪ ،‬وصدق القول ‪ ،‬وتنزيه الطلع ‪ ،‬وإحياء‬
‫القربات ‪ ،‬وقلة الشارة ‪ ،‬وكتمان الفائادة ‪ ،‬والغيرة على تبديل السم‪ .‬والغضب عند انتهاك المحارم ‪ ،‬ودوام الهيبة ‪ ،‬واستشعار‬
‫الحياء ‪ ،‬واستعمال الخوف ‪ ،‬والسكون ثقة بالضمان ‪ ،‬والتوكل معرفة بحسن الختيار ‪ ،‬وإسباغ الوضوء على المكاره ‪ ،‬وانتظار‬
‫الصلة بعد الصلة ‪ ،‬وارتعاش القلب خوف فوت الفرض ‪ ،‬ودوام التوبة خوف الصرار ‪ ،‬ودوام التصديق بما غاب ‪ ،‬ووجل‬
‫القلب عند الذكر ‪ ،‬وزيادة النوار عند الوعظ ‪ ،‬واستشعار التوكل عند الفاقة ‪ ،‬وإخراج الصدقة من غير بخل مع المكان‪.‬‬
‫آداب العالم‬
‫لزوم العلم ‪ ،‬والعمل بالعلم ‪ ،‬ودوام الوقار ‪ ،‬ومنع التكبر وترك الدعاء به ‪ ،‬والرفق بالمتعلم ‪ ،‬والتأني بالمتعجرف ‪ ،‬وإصلح‬
‫المسألة للبليد ‪ ،‬وترك النفة من قول ل أدريِ ‪ ،‬وتكون همته عند السؤال خلصة من السائال لخلص السائال ‪ ،‬وترك التكلف ‪،‬‬
‫واستماع الحجة ‪ ،‬والقبول لها وإن كانت من الخصم‬
‫آداب المتعلم مع العالم‬
‫يبدؤه بالسلم ‪ ،‬ويقل بين يديه الكلم ‪ ،‬ويقوم له إذا قام ‪ ،‬ول يقول له ‪ :‬قال فلن خلف ما قلت ‪ ،‬ول يسأل جليسه في مجلسه ‪ ،‬ول‬
‫يبتسم عند مخاطبته ‪ ،‬ول يشير عليه بخلف رأيه ‪ ،‬ول يأخذ بثوبه إذا قام ‪ ،‬ول يستفهمه عن مسألة في طريقه حتى يبلغ إلى منزله‬
‫‪ ،‬ول يكثر عليه عند ملله‪.‬‬
‫آداب المقرئ‬
‫يجلس جلسة الخشية ‪ ،‬واستماع المر ‪ ،‬وإنصات الفهم ‪ ،‬وانتظار الرحمة ‪ ،‬والصغاء إلى المتشابه وإشارة الوقف ‪ ،‬وتعريف‬
‫البتداء ‪ ،‬وبيان الهمزة ‪ ،‬وتعليم العدد ‪ ،‬وتجويد الحرف ‪ ،‬وفائادة الخاتم ‪ ،‬والرفق بالباديِ ‪،‬والسؤال عن المتعلم إذا غاب ‪ ،‬والحث‬
‫له إذا حضر ‪،‬وترك الحديث ‪ ،‬ويبدأ بالمتلقن يلقنه ما يصلي به لنفسه ‪ ،‬أو احتاج إلى أن يؤم غيره‪.‬‬
‫آداب القارئ‬
‫يجلس بين يديه جلسة التواضع ‪ ،‬وجمع الفهم ‪ ،‬وخفض الرأس ‪،‬والستئاذان قبل القراءة ‪ ،‬ثم الستعاذة والتسمية ‪ ،‬والدعاء عند‬
‫الفراغ‬
‫بداية صفحة ‪432‬‬
‫آداب معلم الصبيان‬
‫يبدأ بصلح نفسه ؛ فإن أعينهم إليه ناظرة ‪ ،‬وآذانهم إليه مصغية ‪ ،‬فما استحسنه هو عندهم الحسن ‪ ،‬وما استقبحه فهو عندهم القبيح‬
‫‪ ،‬ويلزم الصمت في جلسته ‪ ،‬والشزر في نظره ‪ ،‬ويكون معظم تأديبه بالرهبة ‪ ،‬ول يكثر الضرب والتعذيب ‪ ،‬ول يحادثهم‬
‫فيجترئاوا عيه ‪ ،‬ول يدعهم يتحدثون فينبسطون بين يديه ‪ ،‬ول يمازح بين أيديهم أحدا ‪ ،‬ويتنزه عما يعطونه ‪ ،‬ويتورع عما بين يديه‬
‫يطرحونه ‪ ،‬ويمنعهم من التحريش ‪ ،‬ويكفهم من التفتيش ‪ ،‬ويقبح عندهم الغيبة ‪ ،‬ويوحش عندهم الكذب والنميمة ‪ ،‬ول يسألهم عن‬
‫أمر ينوبهم فيثقلوه ‪ ،‬ول يكثر الطلب من أهلم فيملوه ‪ ،‬ويعلمهم الطهارة والصلة ‪ ،‬ويعرفهم بما يلحقهم من النجاسة‪.‬‬
‫آداب المحدث‬
‫يقصد الصدق ‪ ،‬ويجتنب الكذب ‪ ،‬ويحدث بالمشهور ‪ ،‬ويرويِ عن الثقات ‪ ،‬ويترك المناكير ‪ ،‬ول يذكر ما جرى بين السلف ‪،‬‬
‫ويعرف الزمان ‪ ،‬ويتحفظ من الزلل والتصحيف واللحن والتحريف ‪ ،‬ويدع المداعبة ‪ ،‬ويقل المشاغبة ‪ ،‬ويشكر النعمة ‪ ،‬إذ جعل‬
‫في درجة الرسول صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬ويلزم التواضع ‪ ،‬ويكون معظم ما يحدث به ما ينتفع المسلمون به من فرائاضهم وسننهم‬
‫وآدابهم في معاني كتاب ربهم عز وجل‪ .‬ول يحمل علمه إلى الوزراء ‪ ،‬ول يغشى أبواب المراء ؛ فإن ذلك يزريِ بالعلماء ‪،‬‬
‫ويذهب بهاء علهم إذا حملوه إلى ملوكهم ومياسيرهم ‪ ،‬ول يحدث بما ل يعلمه في أصله ‪ ،‬ول يقرأ عليه ما ل يراه في كتابه ‪ ،‬ول‬
‫يتحده إذا قرئ عليه ‪ ،‬ويحذر أن يدخل حديثا في حديث‪.‬‬
‫آداب طالب الحديث‬
‫يكتب المشهور ول يكتب الغريب ‪ ،‬ول يكتب المناكير ‪ ،‬ويكتب عن الثقات ‪ ،‬ول يغلبه شهرة الحديث على قرينه ول يشغله طلبه‬
‫عن مروءته وصلته ‪ ،‬يجتنب الغيبة ‪ ،‬وينصت للسماع ‪ ،‬ويلزم الصمت بين يديِ محدثه ‪ ،‬ويكثر التلفت عند إصلح نسخته ‪ ،‬ول‬
‫يقول ‪ :‬سمعت ‪ ،‬وهو ما سمع ‪ ،‬ول ينشره لطلب العلو فيكتب من غير ثقة ‪ ،‬ويلزم أهل المعرفة بالحديث من أهل الدين ‪ ،‬ول يكتب‬
‫عمن ل يعرف الحديث من الصالحين‬
‫آداب الكاتب‬
‫حسن الخط ‪ ،‬وجودة البريِ ‪ ،‬وإعراب اللفظ ‪ ،‬ومعرفة الحساب ‪ ،‬وسداد الرأيِ ‪،‬وحسن اللباس‬
‫بداية صفحة ‪433‬‬
‫وطيب الرائاحة ‪ ،‬والمعرفة بأخبار المتقدمين من الوزراء المتصرفين ‪ ،‬والتخوف من المصادرات ‪ ،‬والعلم بأمر الخراج ‪،‬‬
‫والمسامحة المروءة وحسن العشرة والتحفظ عن الذلة ‪ ،‬وترك الرفث في المجالس ‪ ،‬ونفي المداعبة والمحادثة والمداراة للحاشية‪.‬‬
‫آداب الواعظ‬
‫ترك التكبر ‪ ،‬ودوام الحياء من سيده وإظهار الفاقة إلى خالقه ‪ ،‬وشهوة المنفعة لمستمعه ‪ ،‬والزراء على نفسه لمعرفة عيبه ‪،‬‬
‫والنظر إلى المستمعين إليه بعين السلمة ‪ ،‬وحسن الظن بهم بباطن الديانة ‪ ،‬والياس منهم طلبا للصيانة ‪ ،‬والرفق بالتأديب ‪،‬‬
‫والعطف على المبتدئ ‪ ،‬واعتقاد فعل ما يقول ‪ ،‬لينتفع الناس بما يقول‬
‫آداب المستمع‬
‫إظهار الخشوع ‪ ،‬ودوام الخضوع ‪ ،‬وسلمة الصدر ‪ ،‬وحسن الظن ‪ ،‬واعتقاد القول ‪ ،‬ودوام السكوت ‪ ،‬وقلة التقلب ‪ ،‬وجمع الهم ‪،‬‬
‫وترك التهمة‬
‫آداب الناسك‬
‫يكون وقته معلوما ‪ ،‬وورده مفهوما ‪ ،‬وكلمه مقسوما ‪ ،‬ودمعه مسجوما ‪ ،‬دائاما خشوعه ‪ ،‬لزما خضوعه ‪ ،‬غاضا لطرفه ‪ ،‬عاقا‬
‫لقلبه ‪ ،‬مفكرا في دينه ‪ ،‬مراقبا لوقته ‪ ،‬مداوما لصومه ‪ ،‬ساهرا في ليله ‪ ،‬متورعا في مسكنه ‪ ،‬متقلل في مطعمه ومشربه ‪ ،‬متوقعا‬
‫لنزول أجله ‪ ،‬مجانبا لقرنائاه ‪ ،‬تاركا لشهواته ‪ ،‬محافظا على صلواته ‪ ،‬عالما بزيادة حاله ونقصانه ‪ ،‬ل يحتاج إلى علم غيره مع‬
‫علمه بحاله‪.‬‬
‫آداب اعتزال الناس‬
‫يكون فقيها في دينه ‪ ،‬عارفا بأمر صلته وصيامه وزكاته وحجه ‪ ،‬يعتقد في اعتزالهم دفع شره عنهم ‪ ،‬ويحضر الجمع والجماعات‬
‫‪ ،‬ويشهد الجنائاز ‪ ،‬ويعود المرضى ‪ ،‬ول يخوض في حديثهم ‪ ،‬ول يسأل عما يفسد قلبه من أخبارهم ‪ ،‬ول يطمع نفسه في نائالهم ‪،‬‬
‫حتى ل يكون له حاجة إلى جيرانه ‪ ،‬تكون أوقاته ثلثة ‪ :‬إما أن يصلي ويدرس فيغنم ‪ ،‬أو ينظر في كتبه فيتعلم ‪ ،‬أو ينام فيسلم‪.‬‬
‫يدمن الذكر ‪ ،‬ويكثر الشكر ‪ ،‬حتى يتم له المر ‪ ،‬فإن كان له أهل يتحدث معهم ‪ ،‬ويجتهد في خلوته حتى يرى ميزان عزلته‪.‬‬
‫بداية صفحة ‪434‬‬
‫آداب الصوفي‬
‫قلة الشارة ‪ ،‬وترك الشطح في العبارة ‪ ،‬والتمسك بعلم الشريعة ‪ ،‬ودوام الكد واستعمال الجد ‪ ،‬والستيحاش من الناس ‪ ،‬وترك‬
‫الشهرة في اللباس ‪ ،‬وإظهار التجمل واستشعار التوكل ‪ ،‬واختيار الفقر ودوام الذكر ‪ ،‬وكتمان المحبة وحسن العشرة في الصحبة ‪،‬‬
‫والغض عن المردان وترك مؤاخاة النسوان ودوم درس القرآن‬
‫آداب الشريف‬
‫يصون شرفه ‪ ،‬ول يأكل بنسبه ‪ ،‬ول يتعدى بحسبه ‪ ،‬همته التواضع لربه ‪ ،‬والخوف من سيده ‪ ،‬ويأخذ بالفضل على من دونه ول‬
‫يساويِ من هو مثله ‪ .‬يعرف الفضل لهل العلم وإن كان مثلهم في العلم أو أعلم ‪ ،‬يلزم أهل الدين من أهل الفقه والقرآن ‪ ،‬ويهذب‬
‫أخلقه ويتحفظ في ألفاظه عند غضبه وخطابه ‪ ،‬يكرم جلساءه ويواصل إخوانه ويصون أقاربه ويعين جيرانه ويزين بنفسه أخدانه‬
‫آداب النوم‬
‫يتطهر قبل النوم وينام على يمينه ويذكر ا عز وجل حتى يأخذه النوم ‪ ،‬ويدعو إذا استيقظ ويحمد ا تعالى‬
‫آداب التهجد‬
‫تقليل الغذاء ‪ ،‬ونقصان الماء ‪ ،‬وإصلح النهار باجتناب الغيبة والكذب واللغو ‪ ،‬وترك النظر في المحرمات ‪ ،‬والقيام من النوم بفزع‬
‫وخوف ‪ ،‬وإسباغ الوضوء والنظر في ملكوت السماوات ‪ ،‬والدعاء والحضور في الصلة لفهم التلوة‬
‫آداب الخلء‬
‫التسمية ثم الستعاذة قبل الدخول ‪ ،‬وكشف الثوب برفق بعد قربه من الرض ‪ ،‬ومسح اليد بالتراب بعد الستنجاء مع الغسل ‪،‬‬
‫والستتار قبل الخروج والحمد والشكر بعد الخروج‬
‫آداب الحمام‬
‫ستر العورة ‪ ،‬وغض البصر عن العورات ‪ ،‬وطلب الخلوة ‪ ،‬وترك التكلم ‪ ،‬وقلة التلفت ‪ ،‬ومنع السلم وقلة الجلوس ‪ ،‬وغسل‬
‫الجنابة من قبل الدخول وغسل القدمين إذا خرج بالماء البارد فإنه يذهب الصداع‬
‫بداية صفحة ‪435‬‬
‫آداب الوضوء‬
‫السواك ودوام الذكر مع الغسل ‪ ،‬واستشعار الهيبة ممن يقصد والتوبة مما كان والسكوت بعد الطهارة حتى يدخل في الصلة ‪،‬‬
‫والطهارة في إثر الطهارة وأخذ الشارب ونتف البط وحلق العانة وتقليم الظافر والختتان وغسل البراجم وتعاهد النف ونظافة‬
‫الثوب والبدن‬
‫آداب دخول المسجد‬
‫يبدأ باليمنى ‪ ،‬ويزيل ما في نعله من الذى ‪ ،‬ويذكر اسم ا عز وجل ‪ ،‬ويسلم على من حضر ‪ ،‬فإن كان خاليا سلم على نفسه ‪،‬‬
‫ويسأل ا تعالى أن يفتح له أبواب رحمته ‪ ،‬ويجلس في مواجهة القبلة ‪ ،‬ويلزم المراقبة ‪ ،‬ويقل المخاطبة ‪ ،‬ويترك الملعنة ‪ ،‬ول‬
‫يرفع فيه صوته ‪ ،‬ول يشهر فيه سيفه ‪ ،‬ويمسك بنصال نبله ‪ ،‬ول يصنع صنعة ‪ ،‬ول ينشد ضالة ‪ ،‬ول يبايع ول يشاريِ ول يجامع‬
‫‪ ،‬فإذا انصرف بدأ باليسرى وسأل ا تعالى من فضله ما يعطي‬
‫آداب العتكاف‬
‫دوام الذكر ‪ ،‬وجمع الهم وترك الحديث ولزوم الموضع ‪ ،‬وترك التنقلت وحبس النفس عن مرادها ومنعها في محابها وجبرها‬
‫على طاعة ا عز وجل‬
‫آداب الذان‬
‫يكون المؤذن عارفا بوقته في الصيف وفي الشتاء ‪ ،‬غاضا لطرفه عند صعوده المنارة ‪ ،‬ويلتفت في أذانه عند النداء بالصلة‬
‫والفلح ‪ ،‬ويرتل الذان ‪ ،‬وينحدر في القامة‬
‫آداب المام‬
‫يكون عارفا بالصلة وفرائاضها وسننها ‪ ،‬فقيها بما يحدث له في صلته وما يفسدها ‪ ،‬ول يؤم قوما وهم له كارهون ‪ ،‬يجعل من‬
‫يليه من أهل العلم ويأمرهم بتسوية الصفوف ‪ ،‬ويشير إليهم بلطف ‪ ،‬ول يقرأ بطوال السور فيضجروا ‪ ،‬ول يطيل التسبيح فيملوا ‪،‬‬
‫ول يخفف بحيث يفوت الكمال‬
‫بداية صفحة ‪436‬‬
‫بل يرتب الصلة على قدر قوة ضعفتهم ‪ ،‬ويترفق في ركوعه وسجوده حتى يطمئانوا ‪ ،‬ويسكت سكتة قبل الحمد وبعد الحمد وإذا‬
‫فرغ من السورة ‪ ،‬وينتظر في ركوعه من أحس به ما لم يجحف بمن ورائاه ‪ ،‬وينتظر قبل الصلة من فقد من جيرانه ما لم يخف‬
‫فوت وقته ‪ ،‬ويفرق بين التسليمتين بوقفة خفيفة ‪ ،‬وإذا فرغ نظر إلى ستر ا ومنته ‪ ،‬وازداد شكرا لسيده وأدام له في كل حالته‬
‫الذكر‬
‫آداب الصلة‬
‫خفض الجناح ولزوم الخشوع وإظهار التذليل وحضور القلب ‪ ،‬ونفي الوساوس ‪ ،‬وترك التقلب ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وهدوء الجوارح ‪،‬‬
‫وإطراق الطرف ‪ ،‬ووضع اليمين على الشمال ‪ ،‬والتفكر في التلوة ‪ ،‬والتكبير بالهيبة ‪ ،‬والركوع بالخضوع ‪ ،‬والسجود بالخشوع ‪،‬‬
‫والتسبيح بالتعظيم ‪ ،‬والتشهد بالمشاهدة ‪ ،‬والتسليم بالشفاق ‪ ،‬والنصراف بالخوف ‪ ،‬والسعي بطلب الرضاء‬
‫آداب القراءة‬
‫مداومة الوقار والحياء ومجانبة العبث والخناء ولزوم التواضع والبكاء‬
‫آداب الدعاء‬
‫خشوع القلب ‪ ،‬وجمع الهم وإظهار الذل وحسن النظر وخفض الجناح وسؤال الفاقة ولجأ الغريق ومعرفته بقدر نفسه ‪ ،‬وعظيم‬
‫حرمة المسئاول وبسط الكف عند الرغبة واليقين بالجابة والخوف من الخيبة وانتظار الفرج ‪ ،‬وترك العدوان وصحة القصد واللجأ‬
‫ومسح الوجه بباطن الكف بعد الدعاء‬
‫آداب الجمعة‬
‫التأهب للوقت قبل دخوله ‪ ،‬والطهارة عند حضوره والبكور ‪ ،‬وغسل الجسد ونظافة الثوب وطيب الرائاحة ‪ ،‬وترك التخطي وقلة‬
‫الكلم ‪ ،‬ودوام الذكر والقرب من المام والنصات للخطيب ‪ ،‬والنتشار لطلب العلم ‪ ،‬والمشي بالسكينة والوقار ‪ ،‬وترك تشبيك‬
‫الصابع ‪ ،‬وتقارب الخطى ‪ ،‬ودوام الطراق ‪ ،‬وكثرة الشكر للرزاق ودخول المسجد بخشوع ورد السلم وترك الصلة بعد جلوس‬
‫الخطيب على المنبر‪ .‬ورد السلم عليه بعد إشارته وترك الكلم واعتقاد القبول للموعظة وترك اللتفات عند إقباله ومخاطبته‬
‫وترك القيام إلى الصلة حتى ينزل من المنبر ويفرغ المؤذن من القامة‬
‫بداية صفحة ‪437‬‬
‫آداب الخطيب‬
‫يأتي المسجد وعليه السكينة والوقار‪ .‬ويبدأ بالتحية ويجلس وعليه الهيبة ويمتنع عن التخاطب وينتظر الوقت ‪ ،‬ثم يخطو إلى المنبر‬
‫وعليه الوقار ‪ ،‬كأنه يحب أن يعرض ما يقول على الجبار‪ .‬ثم يصعد للخشوع ويقف على المرقاة بالخشوع ويرتقي بالذكر ‪،‬‬
‫ويلتفت إلى مستمعيه باجتماع الفكر ‪ ،‬ثم يشير إليهم بالسلم ليستمعوا منه الكلم ‪ ،‬ثم يجلس للذان فزعا من الديان ‪ ،‬ثم يخطب‬
‫بالتواضع ‪ ،‬ول يشير بالصابع ‪ ،‬ويعتقد ما يقوله لينتفع به ‪ ،‬ثم يشير إليهم بالدعاء ‪ ،‬وينزل إذا أخذ المؤذن في القامة ‪ ،‬ول يكبر‬
‫حتى يسكتوا ‪ ،‬ثم يتفتح الصلة ‪ ،‬ويرتل ما يقرأ‬
‫آداب العيد‬
‫إحياء ليلته والغتسال في صبيحة يومه ‪ ،‬ونظافة البدن ‪ ،‬وطيب الرائاحة ‪ ،‬وإدامة التكبير ‪ ،‬وكثرة الذكر واستعمال الخشوع ‪،‬‬
‫والتسبيح والحمد بين تضاعف التكبير والنصات للخطبة بعد الصلة ‪ ،‬وأكل اليسير قبل الخروج إن كان فطرا ‪ ،‬والذهاب في‬
‫طريق والرجوع في أخرى ‪ ،‬والنصراف بالشفاق خوف الغيبة‬
‫آداب الخسوف‬
‫دوام الفزع وإظهار الجزع ومبادرة التوبة ‪ ،‬وترك الملل ‪ ،‬وسرعة القيام إلى الصلة وطول القيام فيها واستشعار الحذر‬
‫آداب الستسقاء‬
‫الصيام قبله ‪ ،‬وتقديم التوبة ‪ ،‬ورد الظالم ‪ ،‬وبذل الهمة ‪ ،‬وترك المخافرة ‪ ،‬والغتسال قبل الخروج ‪ ،‬ودوام الصمت ‪ ،‬ورؤية الحال‬
‫التي أوجبت المنع ‪ ،‬والعتراف بالذنب الذيِ نزلت به العقوبة ‪ ،‬واعتقاد ترك العود ‪ ،‬والنصات للخطبة ‪ ،‬والتسبيح بين التكبير ‪،‬‬
‫وكثرة الستغفار وتحويل الزار مع الدعاء‬
‫آداب المريض‬
‫الكثار من ذكر الموت ‪ ،‬والستعداد له بالتوبة ‪ ،‬ودوام الحمد والثناء ل واستعمال التضرع والدعاء ‪ ،‬وإظهار العجز والفاقة ‪،‬‬
‫والتداويِ مع الستعانة بخالق الدواء ‪ ،‬وإظهار الشكر عند القوة ‪ ،‬وقلة الشكوى وإكرام الجلساء وترك المصافحة‬
‫بداية صفحة ‪438‬‬
‫آداب المعزيِ‬
‫خفض الجناح وإظهار الحزن وقلة الحديث وترك التبسم فإنه يورث الحقد‬
‫آداب المشي في الجنازة‬
‫دوام الخشوع وغض البصر وترك الحديث وملحظة الميت بالعتبار والتفكر فيما يجيب به من السؤال والعزم على المبادرة فيما‬
‫يخاف به من المطالبة وخوف حسرة الفوت عند هجوم الموت‬
‫آداب المتصدق‬
‫ينبغي له أداؤها قبل المسألة ‪ ،‬وإخفاء الصدقة عند العطاء ‪ ،‬وكتمانها بعد العطاء ‪ ،‬والرفق بالسائال ول يبدؤه برد الجواب ‪ ،‬ويرد‬
‫عليه بالوسوسة في الوسوسة ‪ ،‬ويمنع نفسه البخل ‪ ،‬ويعطيه ما سأل أو يرده ردا جميل ‪ ،‬فإن عارضه العدو إبليس لعنه ا أن‬
‫السائال يس يستحق فل يرجع بما أنعم ا به عليه بل هو مستحق لها‬
‫آداب السائال‬
‫يبديِ الفاقة بصدق الحقيقة ‪ ،‬ويظهر السؤال بلطافة القول ‪ ،‬ويأخذ ما أعطي بمقابلة الشكر وإن قل ‪ ،‬وحسن الدعاء ‪ ،‬فإن رد عليه‬
‫رجع بجميل قبول العذر وترك المعاودة واللحاح‬
‫آداب الغني‬
‫لزوم التواضع ونفي التكبر ‪ ،‬ودوام الشكر والتوصل إلى أعمال البر ‪،‬والبشاشة بالفقير والقبال عليه ورد السلم على كل أحد ‪،‬‬
‫وإظهار الكفاية ولطافة الكلمة ‪ ،‬وطيب المؤانسة والمساعدة على الخيرات‬
‫آداب الفقير‬
‫لزوم القناعة وكتمان الفاقة وترك البذالة والتضعضع وإلقاء الطمع وإيثار الصيانة وإظهار الكفاية لهل المروءة من أهل الديانة‬
‫وإجلل الغنياء مع قلة الستبشار لهم ‪ ،‬وإظهار الكفاية لهم مع الياس منهم ‪ ،‬وترك الكبر عليهم ‪ ،‬مع نفي التذلل وحفظ القلب عند‬
‫رؤيتهم والتمسك بالدين عند مشاهدتهم‬
‫بداية صفحة ‪439‬‬
‫آداب المهديِ‬
‫رؤية الفضل للمهديِ إليه ‪ ،‬وإظهار السرور بالقبول منه لها ‪ ،‬والشكر عند رؤية المهديِ إليه والستقلل لها وإن كثرت‬
‫آداب المهدى إليه‬
‫إظهار السرور بها وإن قلت ‪ ،‬والدعاء لصاحبها إذا غاب‪ .‬والبشاشة إذا حضر ‪ ،‬والمكافأة إذا قدر ‪ ،‬والثناء عليه إذا أمكن ‪ ،‬وترك‬
‫الخضوع له والتحفظ من ذهاب الدين معه ونفي الطمع معه ثانيا‬
‫آداب اصطناع المعروف‬
‫البداءة به قبل السؤال والمبادرة به عند الوعد ‪ ،‬والتوفير له عند العطاء ‪ ،‬والتسر له بعد الخذ ‪ ،‬وترك المنة بعد القبول ‪ ،‬والمداومة‬
‫على اصطناعه والحذر من انقطاعه‬
‫آداب الصيام‬
‫طيب الغذاء وترك المراء ومجانبة الغيبة ورفض الكذب وترك الذى وصون الجوارح عن القبائاح‬
‫آداب الحج‬
‫آداب الطريق‬
‫طيب النفقة والحسان إلى المكاريِ ومعاونة الرفقة والرفق بالمنقطع وبذل الزاد وحسن الخلق وطيب الكلمة والمزاح من غير‬
‫معصية واختيار التعديل ‪ ،‬والستبشار به عند رؤيته والصغاء عند محادثته ‪ ،‬وقلة المماراة له عند ضجره ‪ ،‬والتغافل عن زلته ‪،‬‬
‫والشكر له خدمته ‪ ،‬والتوصل إلى إيثاره ومساعدته‬
‫آداب الحرام‬
‫غسل الجسد ‪ ،‬ونظافة الزارين وطيب الرائاحة وتعاهد الجياع ‪ ،‬والتلبية بالهيبة ورفع الصوت بحلوة الجابة ‪ ،‬والطواف بتعظيم‬
‫الحرمة ‪ ،‬والسعي بطلب الرضاء والوقوف بمشاهد القيامة وشهور المشعر برؤية الرحمة والحلق برؤية العتق ‪،‬والذبح برؤية‬
‫الكفارة والرمي برؤية الطاعة وطواف الزيارة بمشاهدة المرور وهو من غير حد والرد بحقيقة السف والنصراف بمحبة‬
‫الرجوع‬
‫)ص ‪(440‬‬
‫آداب دخول مكة‬
‫دخول الحرم بالتعظيم‪ ،‬والنظر إلى مكة بالتحسر‪ ،‬ورؤية المسجد بالتفضيل‪ ،‬ونظر البيت بالتكبير والتهليل‪ ،‬ودوام الطواف‪،‬‬
‫ومواصلة العمرة‪ ،‬ودخول البيت بتعظيم الحرمة‪ ،‬ودوام التوبة بعد دخوله‪.‬‬
‫آداب دخول المدينة‬
‫يدخلها بالوقار مع السكينة‪ ،‬والمشاهدة لما كان فيها من الشريعة‪ ،‬والنظر إليها بالعين الرفيعة‪ ،‬ثم يأتي مسجد الرسول صلى ا‬
‫عليه وسلم ومنبره كأنه مشاهد لصلته وخطبته‪ ،‬ثم يأتي قبره وكأنه ناظر إلى شخصه الكريم‪ ،‬ومخاطبته مع خفض الصوت‬
‫بحضرته كأنه معاين لجلسته فيبدؤه بالسلم‪ ،‬ثم يسلم على مضجعيه‪ ،‬ويشاهد محبتهما له‪ ،‬ومشيته بينهما‪ ،‬وإقباله عليهما‪ ،‬ويعاين‬
‫هيبتهما له وإقبالهما عليه‪ ،‬وإذا وادع القبر فل يوليه الظهر‪.‬‬
‫آداب التاجر‬
‫ل يجلس في طريق المسلمين فيضيق عليهم‪ ،‬ويستعمل غللما كيلسا ل يبخس في كيله‪ ،‬ول ينقص في وزنه‪ ،‬يأمره بالرجحان‪،‬‬
‫وترك العجلة في الميزان‪ ،‬يكون في ميزان دراهمه في حدته كالطيار‪ ،‬ومن اعتداله كالمعيار‪ ،‬طويلة خيوطه دقيقة ذوائابه‪ ،‬معبرة‬
‫صنجاته‪ ،‬معتدلة حباته‪ ،‬يبتدئ كل يوم بمسح ميزانه‪ ،‬ويتعاهد نقص أرطاله وصنجاته‪ ،‬يأمر غلمه بالتوقف في كليه الدهان‪ ،‬وإذا‬
‫وقف عليه شريف أكرمه‪ ،‬أو جار فضله‪ ،‬أو ضعيف رحمه‪ ،‬أو غير هؤلء أنصفه‪ ،‬يبيع على قدر أسعاره‪ ،‬إن نقص سعره زاد‬
‫زبونه‪ ،‬كما إنه إن زاد سعره نقص زبونه‪.‬‬
‫وتكون همته في جلوسه درس القرآن‪ ،‬وغض الطرف عن المحارم والغلمان‪ ،‬يشتريِ عرضه باليسير من سفيه يقف عليه‪ ،‬ول يرد‬
‫السائال‪ ،‬ول يمنع البشر من النائال‪.‬‬
‫فإن كان هو المتولي لمره كان ما يلزم غلمه هو أولى به‪ ،‬ويشتريِ الرطال والصنجات والمكيال من الثقات معبرات‪ ،‬ويترك‬
‫المدح للسلعة عند البيع‪ ،‬والذم لها عند الشراء‪ ،‬ويلزم الصدق عند الخبار‪ ،‬ويحذر الفحش عند المزايدة‪ ،‬والكذب عند المحادثة‪،‬‬
‫ويقل الخوض مع أهل السواق‪ ،‬ومداعبة الحداث ويقصر في الخصومات‪.‬‬
‫آداب الصيرفي‬
‫يعتقد الصحة‪ ،‬ويؤديِ المانة‪ ،‬ويحذر الربا ويقرب النسيئاة ول ينفق الرديئاة‪ ،‬ويوفي الوزن‪ ،‬ول يعتقد الغش والغين‪ ،‬متفقلدا‬
‫لمعياره‪ ،‬خائالفا من نقصان صنجانه ومثاقيله‪.‬‬
‫)ص ‪(441‬‬
‫آداب الصائاغ‬
‫استعمال النصيحة‪ ،‬والجتهاد في الجودة‪ ،‬وقلة المطل‪ ،‬ووفاء الوعد‪ ،‬وترك التعديِ في الجرة‪.‬‬
‫آداب الكل‬
‫غسل اليدين قبل الطعام وبعده‪ ،‬والتسمية‪ ،‬والكل باليمين ومما يليه‪ ،‬ويصغر اللقمة‪ ،‬وإجادة المضغ‪ ،‬وقلة النظر إلى وجوه‬
‫الحاضرين‪ ،‬ول يأكل متكلئاا ول يأكل فوق الشبع عند الجوع‪ ،‬ويعتذر إذا شبع حتى ل يخجل الضيف أو من به حاجة‪ ،‬ويأكل من‬
‫جوانب القصعة ول يأكل من ذروتها‪ ،‬ويلعق الصابع بعد الفراغ‪ ،‬ويحمد ا‪ ،‬ول يذكر الموت عن الكل لئال ينغص على‬
‫الحاضرين‪.‬‬
‫آداب الشرب‬
‫صا ول يعبه عبا‪ ،‬ويتنفس في شربه ثللثا ويتبعه‬ ‫ينظر في إنائاه قبل شربه‪ ،‬ويسمي ا تعالى قبله‪ ،‬ويحمده بعده‪ ،‬ويمصه م ل‬
‫بالتحميد‪ ،‬ويرد بالتسيمة بالتسمية؟‪ ،‬ول يشرب قائالما‪ ،‬ويتناول من كان على يمينه إن كان معه غيره‪.‬‬
‫آداب الرجل إذا أراد النكاح‬
‫يطلب الرَدين‪ ،‬ثم بعده الجمال والمال إن أراده‪ ،‬ول يشارط على ما يأتيه‪ ،‬ول يضمره ‪ ،‬ول يخطب على خطبة أخيه‪ ،‬ول يأذن في‬
‫إملكه وعرسه بما يباعده من ربه ويزريه‪ ،‬ول يجلس في خلواته حيث يرى غير حرمته‪ ،‬ول يقبلها بين أهله‪ ،‬ويبدؤها إذا خل في‬
‫سؤاله‪ ،‬ول يكون سفيره كذابا‪ ،‬ول المخبر له نماما من خاصتها‪ ،‬ويسأله عن دينها‪ ،‬ومواظبتها على صلتها ومراعاتها لصيامها‪،‬‬
‫وعن حيائاها ونظافتها‪ ،‬وحسن ألفاظها وقبحها‪ ،‬ولزوم بيتها‪ ،‬وبرها بوالديها‪ ،‬ويتلطف قبل العقد في النظر إليها‪ ،‬وبعده بما يبلغها‬
‫بالكلم الجميل‪ .‬ويبحث في خصال والدها ودينه‪ ،‬وحال والدتها ودينها وأعمالها‪.‬‬
‫آداب المرأة إذا خطبها الرجل‬
‫تأمر من تأمن به من أهلها إن كان صدولقا أن يسأل عن مذهب الخاطب ودينه واعتقاده ومروءته في نفسه وصدقه في وعده‪،‬‬
‫وتنظر دمن أقرباؤه‪ ،‬ومن يغشاه في بيته‪ ،‬وعن مواظبته على صلواته وجماعته‪ ،‬ونصيحته في تجارته وصنعته‪ ،‬ويكون رغبتها في‬
‫دينه دون ماله‪ ،‬أو في سيرته دون شهرته‪ ،‬تعزم معه على القناعة وتكون لوامره مطيعة‪ ،‬فهو آكد لللفة‪ ،‬وأثبت للمودة‪.‬‬
‫)ص ‪(442‬‬
‫آداب الجماع‬
‫طيب الرائاحة ولطافة الكلمة‪ ،‬وإظهار المودة‪ ،‬وتقبيل الشهوة‪ ،‬والتزام المحبة‪ ،‬ثم التسمية‪ ،‬وترك النظر إلى الفرج‪ ،‬فإنه يورث‬
‫العمى‪ ،‬والستر تحت الزار‪ ،‬وترك استقبال القبلة‪.‬‬
‫آداب الرجل مع زوجته‬
‫حسن العشرة‪ ،‬ولطافة الكلمة‪ ،‬وإظهار المودة‪ ،‬والبسط في الخلوة‪ ،‬والتغافل عن الزلة‪ ،‬وإقالة العثرة‪ ،‬وصيانة عرضها‪ ،‬وقلة‬
‫مجادلتها‪ ،‬وبذل المؤونة بل بخل لها‪ ،‬وإكرام أهلها‪ ،‬ودوام الوعد الجميل‪ ،‬وشدة الغيرة عليها‪.‬‬
‫آداب المرأة مع زوجها‬
‫دوام الحياء منه‪ ،‬وقلة المماراة له‪ ،‬ولزوم الطاعة لمره‪ ،‬والسكون عند كلمه‪ ،‬والحفظ له في غيبته‪ ،‬وترك الخيانة في ماله‪،‬‬
‫وطيب الرائاحة‪ ،‬وتعهد الفم ونظافة الثوب‪ ،‬وإظهار القناعة‪ ،‬واستعمال الشفقة‪ ،‬ودوام الزينة‪ ،‬وإكرام أهله وقرابته‪ ،‬ورؤية حاله‬
‫بالفضل‪ ،‬وقبول فعله بالشكر‪ ،‬وإظهار الحب له عند القرب منه‪ ،‬وإظهار السرور عند الرؤية له‪.‬‬
‫آداب الرجل في نفسه‬
‫ل‬
‫لزوم الجمعة والجماعة‪ ،‬ونظافة الملبس‪ ،‬وإدامة السواك‪ ،‬ول يلبس المشهور ول المحقور‪ ،‬ول يطيل ثيابه تكبرا‪ ،‬ول يقصرها‬
‫متمسكلنا‪ ،‬ول يكثر التلفت في مشيته ول ينظر إلى غير حرمته‪ ،‬ول يبصق في حال محادثته ول يكثر قعود على باب داره مع‬
‫جيرانه‪ ،‬ول يكثر لخوانه الحديث عن زوجته وما في بيته‪.‬‬
‫آداب المرأة في نفسها‬
‫أن تكون لزمة لمنزلها‪ ،‬قاعدة في قعر بيتها‪ ،‬ول تكثر صعودها ول اطلعها الكلم لجيرانها‪ ،‬ول تدخل عليهم إل في حال يوجب‬
‫الدخول‪ ،‬تسر بعلها في نظره‪ ،‬وتحفظه في غيبته‪ ،‬ول تخرج من بيتها‪ ،‬وإن خرجت فمتخبئاة تطلب المواضع الخالية‪ ،‬مصونة في‬
‫حاجاتها‪ ،‬بل تتناكر ممن يعرفها‪ ،‬همتها إصلح نفسها‪ ،‬وتدبير بيتها‪ ،‬مقبلة على صلتها وصومها‪ ،‬ناظرة في عيبها‪ ،‬متفكرة في‬
‫دينها‪ ،‬مديمة صمتها‪ ،‬غاضة طرفها‪ ،‬مراقبة لربها‪ ،‬كثيرة الذكر له‪ ،‬طائاعة لبعلها‪ ،‬تحثه على طلبه الحلل‪ ،‬ول تطلب منه الكثير‬
‫من النوال؛‬
‫)ص ‪(443‬‬
‫ظاهرة الحياء‪ ،‬قليلة الخناء‪ ،‬صبورة شكورة‪ ،‬مؤثرة في نفسها‪ ،‬مواسية من حالها وقوتها‪ .‬وإذا استأذن بابها صديق لبعلها‪ ،‬وليس‬
‫بعلها حاضلرا‪ ،‬لم تستفهمه‪ ،‬ول في الكلم تعاوده‪ ،‬غيرة منها على نفسها وبعلها منه‪.‬‬
‫آداب الستئاذان‬
‫المشي بجانب الجدار‪ ،‬ول يقابل الباب‪ ،‬والتسبيح والتحميد قبل الدق‪ ،‬والسلم بعده‪ ،‬وترك السمع إلى من في المنزل‪ ،‬واستئاذان بعد‬
‫السلم‪ ،‬فإن أذن له وإل رجع ولم يقف‪ ،‬ول يقول‪ :‬أنا‪ ،‬بل يقول‪ :‬فلن‪ ،‬إذا استفهم‪.‬‬
‫آداب الجلوس على الطريق‬
‫غض البصر‪ ،‬ونصرة المظلوم‪ ،‬وإغاثة الملهوف‪ ،‬وإغاثة الضعيف‪ ،‬وإرشاد الضال‪ ،‬ورد السلم‪ ،‬وإعطاء السائال‪ ،‬وترك التلفت‪،‬‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق واللطف‪ ،‬فإن أصر فبالرهبة والعنف‪ ،‬ول يصغي إلى الساعي إل ببينة ‪ ،‬ول‬
‫يتجسس‪ ،‬ول يظن بالناس إل خيلرا‪.‬‬
‫آداب المعاشرة‬
‫إذا دخل مجللسا أو جماعة سلم وجلس حيث امتنع وترك التخطي‪ ،‬وخص بالسلم من قرب منه إذا جلس‪ ،‬وإن بلي بمجالسة العامة‬
‫ترك الخوض معهم‪ ،‬ول يصغي إلى أراجيفهم‪ ،‬ويتغافل عما يجريِ من سوء ألفاظهم‪ ،‬ويقل اللقاء لهم إل عند الحاجة‪ ،‬ول‬
‫يستصغر أحلدا من الناس فيهلك‪ ،‬ول يدريِ لعله خير منه‪ ،‬وأطوع ل منه؛ ول ينظر إليهم بعين التعظيم في دنياهم؛ لن الدنيا‬
‫صغيرة عند ا‪ ،‬صغير ما فيها‪ ،‬ول يعظم قدر الدنيا في نفسه‪ ،‬فيعظم أهلها لجلها‪ ،‬فيسقط من عين ا؛ ول يبذل لهم دينه‪ ،‬لينال‬
‫من دنياهم فيصغر في أعينهم‪ ،‬ول يعاديهم‪ ،‬فتظهر له العداوة‪ ،‬ول يطيق ذلك ول يصبر عليه إل أن تكون معاداة في ا عز وجل‪،‬‬
‫فيعاديِ أفعالهم القبيحة‪ ،‬وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة‪ ،‬ول يستكثر إليهم في مودتهم له‪ ،‬وإكرامهم إياه‪ ،‬وحسن بشاشتهم في‬
‫وجهه وثنائاهم عليه‪ ،‬فإن من طلب حقيقة لك لم يجده إل في القل‪ ،‬وإن سكن إليهم وكله الحق إليهم فهلك‪ ،‬ول يطمع أن يكونوا لع‬
‫في الغيب منا له في العلنية‪ ،‬فإنه ل يجد ذلك أبلدا‪ ،‬ول يطمع فيما في أيديهم فيبذل لهم‪ ،‬ويذهب دينه معهم‪ ،‬ول يتكبر عليهم‪ ،‬وإذا‬
‫سأل أحلدا منهم حاجة فقضاها فهو أخ مستفاد‪ ،‬وإن لم يقضها فل يذمه فيكتسب عداوته‪ ،‬ول يعظ أحلدا منهم إل أن يرى فيه أثر‬
‫القبول‪ ،‬وإل عاداه ولم يسمع منه‪.‬‬
‫)ص ‪(444‬‬
‫وإذا رأى منهم خيلرا أو كرامة أو ثناء فليرجع بذلك إلى ا عز وجل‪ .‬ويحمده ويسأله أنه ل يكله إليهم‪ .‬وإذا رأى منهم شلرا أو‬
‫كللما قبيلحا أو غيبة أو شيلئاا يكرهه‪ ،‬فيكل المر إلى ا تعالى‪ ،‬ويستعيذ به من شرهم‪ ،‬ويستعينه عليهم‪ ،‬ول يعاتبهم‪ ،‬فإنه ل يجد‬
‫عندهم للعتاب موضلعا‪ ،‬ويصيرون له أعداء‪ ،‬ول يشفى غيظه‪ ،‬بل يتوب إلى ا تعالى من الذنب الذيِ به سلطهم عليه‪ ،‬ويستغفر‬
‫ا منه‪ ،‬وليكن سميلعا لحقهم‪ ،‬أصم عن باطلهم‪.‬‬
‫آداب الولد مع والديه‬
‫يسمع كلمهما‪ ،‬ويقوم لقيامهما‪ ،‬ويمتثل لمرهما‪ ،‬ويلبي دعوتهما‪ ،‬ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة ول يبرمهما باللحاح‪ ،‬ول‬
‫يمن بالبر لهما‪ ،‬ول بالقيام بأمرهما‪ ،‬ول ينظر إليهما شزلرا ول يعصي لهما أملرا‪.‬‬
‫آداب الخوان‬
‫الستبشار بهم عند اللقاء‪ ،‬والبتداء بالسلم‪ ،‬والمؤانسة والتوسعة عند الجلوس‪ ،‬والتشييع عن القيام‪ ،‬والنصات عن الكلم‪ ،‬وتكره‬
‫المجادلة في المقال‪ ،‬وحسن القول للحكايات‪ ،‬وترك الجواب عند انقضاء الخطاب‪ ،‬والنداء بأحب السماء‪.‬‬
‫آداب الجار‬
‫ابتداؤه بالسلم‪ ،‬ول يطيل معه الكلم‪ ،‬ول يكثر عليه السؤال ويعوده في مرضه‪ ،‬ويعزيه في مصيبته‪ ،‬ويهنيه في فرحه‪ ،‬ويتلطف‬
‫لولده وعبده في الكلم‪ ،‬ويصفح عن زلته‪ ،‬ومعاتبته برفق عند هفوته‪ ،‬ويغض عن حرمته‪ ،‬ويعينه عند صرخته‪ ،‬ول يديم النظر‬
‫إلى خادمته‪.‬‬
‫آداب السيد مع عبده‬
‫ل يكلفه ما ل يطيق من خدمته‪ ،‬ويرفق به عند ضجره ول يكثر ضربه‪ ،‬ول يديم سبه فيجرأ عليه‪ ،‬ويفضح عن زلته‪ ،‬ويقبل‬
‫معذرته‪ ،‬وإذا أصلح له طعالما أجلسه معه على مائادته‪ ،‬أو أعطاه لقلما من طعامه‪.‬‬
‫)ص ‪(445‬‬
‫آداب العبد مع سيده‬
‫يأتمر لمره‪ ،‬وينصحه في غيبته‪ ،‬ويبذل له خدمته‪ ،‬ويحفظه في حرمته‪ ،‬ويرق على ولده‪ ،‬ول يخونه في ماله‪.‬‬
‫آداب السلطان مع الرعية‬
‫استعمال الرفق‪ ،‬وترك التعنيف‪ ،‬والفكر قبل المر‪ ،‬وترك التكبر على الخاصة مع منع العدوان منهم‪ ،‬والتودد إلى العامة مع مزج‬
‫الرهبة لهم‪ ،‬والتطلع على أمور الحاشية‪ ،‬واستعمال المروءة مع أهل العلم‪ ،‬والتوسعة عليهم وعلى الصحاب والقارب‪ ،‬والرفق‬
‫في الجناية‪ ،‬ودوام الحماية‪.‬‬
‫آداب الرعية مع السلطان‬
‫قلة الغشيان لبابه‪ ،‬وترك الستعانة به إل لشيء يلزم أمره‪ ،‬ودوام الهيبة له إن كان ذا رفق‪ ،‬وترك الستجراء عليه وإن كان ذا لين‪،‬‬
‫وقلة السؤال وإن كان مجيلبا‪ ،‬والدعاء له إذا ظهر‪ ،‬وترك الكلم فيه والنشاد إذا غاب‪.‬‬
‫آداب القاضي‬
‫إدمان السكوت‪ ،‬واستعمال الوقار‪ ،‬وهدوء الجوارح‪ ،‬ومنع الحاشية من الفساد والطغيان‪ ،‬والرفق بالرامل‪ ،‬والحتياط لليتيم‪،‬‬
‫والتوقف في الجواب‪ ،‬والرفق بالخصوم‪ ،‬ومنع الميل إلى أحد الخصمين‪ ،‬والمواعظة للمخالف‪ ،‬ودوام اللجإ إلى ا في صواب‬
‫القضاء‪.‬‬
‫آداب الشاهد‬
‫استشعار المانة‪ ،‬وترك الخيانة‪،‬والتثبت في الشهادة‪ ،‬والتحفظ من النسيان‪ ،‬وقلة المجادلة للسلطان‪.‬‬
‫آداب الجهاد‬
‫صدق النية‪ ،‬والغيرة ل تعالى‪ ،‬وبذل المجهود‪ ،‬والسخاء بالمهجة‪ ،‬ونفي شهوة الرجوع‪ ،‬والقصد في أن تكون كلمة ا هي العليا‪،‬‬
‫وترك الغلول‪ ،‬وقضاء دينه قبل الخروج‪ ،‬واستصحاب ذكر ا عند القتال وفي كل حال‪.‬‬
‫)ص ‪(446‬‬
‫آداب اليسر‬
‫ل يؤمل فرلجا من غير ا تعالى‪ ،‬ول يذل نفسه في معصية ا تعالى‪ ،‬ول ييأس من روح ا تعالى‪ ،‬ويجمع همه بين يديِ ا‬
‫تعالى‪ ،‬ويعلم أنه بعين ا‪ ،‬ول ينبسط في مال العدو بما ل يبيحه ا‪ ،‬ول يفرغ إلى غير ا تعالى‪.‬‬
‫آداب جامعة‬
‫قال بعض الحكماء‪:‬‬
‫من الدب‪ :‬الق صديقك وعدوك بوجه الرضاء من غير ذلة لهم‪ ،‬ول هيبة منهم‪ ،‬وتوقر من غير كبر‪ ،‬وكن في جميع أمورك في‬
‫أوساطها‪ ،‬ول تنظر في عطفيك ول تكثر اللتفات‪ ،‬ول تقف على الجماعات‪ ،‬وإذا جلست فترفع وتحذر من تشبيك أصابعك‪،‬‬
‫والعبث بخاتمك‪ ،‬وتخليل أسنانك‪ ،‬وإدخال يدك في أنفك‪ ،‬وطرد الذباب عن وجهك‪ ،‬وكثرة التمطي والتثاؤب‪ .‬وليكن مجلسك هادلئاا‬
‫وكلمك مقسولما واصغ إلى الكلم الحسن ممن يحدثك‪ ،‬بغير إظهار عجب منك ول مسكنة ول إعادة‪ ،‬وغض عن المضاحك‬
‫والحكايات‪ ،‬ول تحدث إعجابك بولدك ول جارتك‪ ،‬ول تتصنع كما تتصنع المرأة‪ ،‬ول تتبذل كما يتبذل العبد‪.‬‬
‫وكن معتدلل في جميع أمورك‪ ،‬وتوق كثرة الكحل والسراف في الدهن‪ ،‬ول تلح في الحكايات‪ .‬ول تعلم أهلك وولدك –فضلل عن‬
‫غيرهم‪ -‬عن مالك؛ فإنهم إن رأوه قليلل هنت عليهم‪ ،‬وإن رأوه كثيلرا لم تبلغ إلى رضاهم؛ وأحبهم من غير عنف‪ ،‬ولن لهم من غير‬
‫ضعف‪.‬‬
‫وإذا خاصمت فتوفر‪ ،‬وتفكر في حجتك‪ ،‬ول تكثر الشارة بيدك‪ ،‬ول تجث على ركبتك‪ ،‬وإذا هدأ غضبك فتكلم‪.‬‬
‫وإن بليت بصحبة السلطان فكن منه على حذر‪ ،‬ول تأمن من انقلبه عليك‪ ،‬وارفق به رفقك بالصبي‪ ،‬وكلمه بما يشاء‪ ،‬وإياك أن‬
‫تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه ولو كان مستملعا لذلك‪.‬‬
‫وإياك وصديق العافية‪ ،‬فإنه أحد العداء لك‪ .‬ول تجعل مالك أكرم عليك من عرضك‪.‬‬
‫وإياك وكثرة البصاق بين الناس‪ ،‬فإن صاحبه ينسب إلى التأنيث‪ ،‬ول تظهر لصديقك كل ما يؤذيك‪ ،‬فإنه متى رأى منك وقعة أعقبك‬
‫العداوة‪.‬‬
‫)ص ‪(447‬‬
‫ول تمازح لبيلبا فيحقد عليك‪ ،‬ول سفيلها فيجترئ عليك؛ لن المزاح يخرق الهيبة‪ ،‬ويسقط المنزلة‪ ،‬ويذهب ماء الوجه‪ ،‬ويعقب‬
‫الحزن‪ ،‬ويزيل حلوة الود‪ ،‬ويشين فقه الفقيه‪ ،‬ويجرئ السفيه‪ ،‬ويميت القلب‪ ،‬ويباعد من الرب‪ ،‬ويعقب الذم‪ ،‬ويفسخ العزم‪ ،‬ويظلم‬
‫السرائار‪ ،‬ويميت الخواطر‪ ،‬ويكثر الذنوب‪ ،‬ويبين العيوب‪.‬‬
‫نسأل ا تعالى أن يهدينا فيمن هدى‪ ،‬ويعافينا فيمن عافى ويتولنا فيمن تولى‪ ،‬ويبارك لنا فيما أعطى‪ ،‬ويقينا شر ما قضى‪ ،‬فإنه ل‬
‫راد لما قضى‪ ،‬ول يعيز من عادى‪ ،‬ول يذيل من والى‪.‬‬
‫تبارك ربنا وتعالى‪ ،‬نستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونسأله أن يصلي بأفضل الصلوات كلها على عبد المصطفى وعلى آله وأصحابه أعلم‬
‫الهدى‪ ،‬وسلم تسليلما كثيلرا‪.‬‬
‫والحمد ل رب العالمين وصلى ا على سيدنا محمد النبي المي‪ ،‬آمين‪.‬‬
‫كيمياء السعادة‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الحمد ل الذيِ أصعد قوالب الصفياء بالمجاهدة‪ ،‬وأسعد قلوب الولياء بالمشاهدة‪ ،‬وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر‪ ،‬وجلى خواطر‬
‫العارفين بالفكر‪ ،‬وحرس سواد العباد عن الفساد‪ ،‬وحبس مراد الزهاد عن السداد‪ ،‬وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات‪ ،‬وصفى‬
‫أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات‪ ،‬وقبل أعمال الخيار بأداء الصلوات‪ ،‬وأيد خصال الحرار بأسيد الصلت‪.‬‬
‫أحمده حمد من رأى آيات قدرته وقوته‪ ،‬وشاهد الشواهد من فردانيته ووحدانيته‪ ،‬وطرق طوارق سيره وبيره‪ ،‬وقطف ثمار معرفته‬
‫من شجر سجده وجوده‪ ،‬وأشكره شكر من اخترق واغترف من نهر فضله وإفضاله‪.‬‬
‫وأؤمن به إيمان من آمن بكتابه وخطابه وأنبيائاه وأصفيائاه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ا وحده ل شريك‬
‫له‪ ،‬وأشهد أن محملدا عبده ورسوله بعثه لصلب الفسقة والفجرة قاصلما‪ ،‬ولاعدرى الجاحدين والمارقين فاصلما‪ ،‬ولباغي الشك‬
‫والشرك قاهلرا‪ ،‬لتباع الحق والحسان ناصلرا؛ فصلوات ا عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪.‬‬
‫عنوان معرفة النفس‬
‫اعلم أن الكيمياء الظاهرية ل تكون في خزائان العوام‪ ،‬وإنما تكون في خزائان الملوك‪ ،‬فكذلك كيمياء السعادة ل تكون إل في خزائان‬
‫ا سبحانه وتعالى؛ ففي السماء جواهر الملئاكة‪ ،‬وفي الرض قلوب الولياء العارفين‪ ،‬فكل من طلب هذه الكيمياء من غير‬
‫حضرة‬
‫)ص ‪(448‬‬
‫النبوة فقد أخطأ الطريق‪ ،‬ويكون عمله كالدينار البهرج‪ ،‬فيظن في نفسه أنه غني وهو مفلس في القيامة كما قال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ك اللديلودم دحهديسد( )ق‪ (22:‬ومن رحمة ا سبحانه وتعالى لعباده أن أرسل إليهم مائاة ألف وأربعة‬ ‫صار د‬ ‫ك هغدطاء د‬
‫ك دفدب د‬ ‫)دفدكدشلفدنا دعن د‬
‫وعشرين ألف نبي يعلمون الناس نسخة الكيمياء‪ ،‬ويعلمونهم كيف يجعلون القلب في كور المجاهدة‪ ،‬وكيف يطهرون القلب من‬
‫ث هفي ال ارَمرَييدن دراسولل هملناهلم ديلتالوا دعدلليههلم آدياهتهه‬‫الخلق المذمومة‪ ،‬وكيف يؤدونه لطرق الصفاء كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬الاهذيِ دبدع د‬
‫حلكدمدة( )الجمعة‪ (2 :‬أيِ يطهرهم من الخلق المذمومة ومن صفات البهائام‪ ،‬ويجعل صفات الملئاكة‬ ‫ب دوالل ه‬
‫دوايدزرَكيههلم دوايدعلرَاماهام اللهكدتا د‬
‫لباسهم وحليتهم‪.‬‬
‫ومقصود هذه الكيمياء أن كل ما كان من صفات النقص يتعرى منه‪ ،‬وكل ما يكون من صفات الكمال يلبسه‪ ،‬وسر هذه الكيمياء أن‬
‫ترجع من الدنيا إلى ا كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬دودتدباتلل إهدلليهه دتلبهتيلل( )المزمل‪ (8 :‬وفضل هذه الكيمياء طويل‪.‬‬
‫فصل في معرفة النفس‬
‫اعلم أن مفتاح معرفة ا تعالى هو معرفة النفس كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬دسانهريههلم آدياهتدنا هفي اللدفاهق دوهفي دأنفاهسههلم دحاتى ديدتدبايدن دلاهلم أداناه‬
‫اللدحمق( )فصلت‪ (53:‬وقال النبي صلى ا عليه وسلم‪ :‬من عرف نفسه فقد عرف ربه‪ ،‬وليس شيء أقرب إليك من نفسك‪ ،‬فإذا لم‬
‫تعرف نفسك فكيف تعرف ربك؟‬
‫فإن قلت إني أعرف نفسي‪ ،‬فإنما تعرف الجسم الظاهريِ الذيِ هو اليد والرجل والرأس والجثة‪ ،‬ول تعرف ما في باطنك من المر‬
‫الذيِ به إذا غضبت طلبت الخصومة‪ ،‬وإذا اشتهيت طلبت النكاح‪ ،‬وإذا جعت طلبت الكل‪ ،‬وإذا عطشت طلبت الشرب‪ ،‬والدواب‬
‫تشاركك في هذه المور‪ ،‬فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة حتى تدريِ أيِ شيء أنت‪ ،‬ومن أين جئات إلى هذا المكان‪ ،‬وليِ‬
‫شيء خلقت‪ ،‬وبأيِ شيء سعادتك‪ ،‬وبأيِ شيء شقاوتك‪.‬‬
‫وقد جمعت في باطنك صفات‪ ،‬منها صفات البهائام‪ ،‬ومنها صفات السباع‪ ،‬ومنها صفات الملئاكة؛ فالروح حقيقة جوهرك‪ ،‬وغيرها‬
‫غريب منك وعارية عندك‪ ،‬فالواجب عليك أن تعرف هذا وتعرف أن لكل واحد من هؤلء غذاء وسعادة؛ فإن سعادة البهائام في‬
‫الكل والشرب والنوم والنكاح‪ ،‬فإن كنت منهم فاجتهد في إعمال الجوف والفرج‪ .‬وسعادة السباع في الضرب والفتك‪ ،‬وسعادة‬
‫الشياطين في المكر والشر والحيل‪ ،‬فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم‪ .‬وسعادة الملئاكة في مشاهدة جمال حضرة الربوبية وليس‬
‫للغضب والشهوة إليهم طريق‪ ،‬فإن كنت من جوهر الملئاكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة اللهية‪،‬‬
‫وتبلغ إلى مشاهدة الجلل والجمال‪ ،‬وتخلص نفسك من قيد الشهوة‬
‫)ص ‪(449‬‬
‫والغضب‪ ،‬وتعلم أن هذه الصفات ليِ شيء ركبت فيك‪ ،‬فما خلقها ا تعالى لتكون أسيرها ولكن خلقها حتى تكون أسراك‪،‬‬
‫وتسخرها للسفر الذيِ قدامك‪ ،‬وتجعل إحداها مركبك والخرى سلحك حتى تصيد بها سعادتك‪ ،‬فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت‬
‫قدميك‪ ،‬وارجع إلى مكان سعادتك‪ ،‬وذلك المكان قرار خواص الحضرة اللهية‪ ،‬وقرار العوام درجة الجنة‪ ،‬فنحتاج إلى معرفة هذه‬
‫ل‪ ،‬فكل من لم يعرف هذه المعاني فنصيبه من القشور‪ ،‬لن الحق يكون عنه محجولبا‪.‬‬ ‫المعاني حتى تعرف من نفسك شيلئاا قلي ل‬
‫فصل‬
‫إذا شئات أن تعرف نفسك فاعلم أنك من شيئاين‪ :‬الول هذا القلب‪ ،‬والثاني يسمى النفس والروح‪ .‬والنفس هو القلب الذيِ تعرفه بعين‬
‫الباطل‪ .‬وحقيقتك الباطن؛ لن الجسد أول وهو الخر والنفس آخر وهو الول؛ ويسمى قللبا‪ ،‬وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي‬
‫في الصدر من الجانب اليسر‪ ،‬لنه يكون الدواب والموتى‪ ،‬وكل شيء تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذيِ يسمى عالم‬
‫الشهادة‪ ،‬وأما حقيقة القلب فليس من هذا العالم‪ ،‬لكنه من عالم الغيب فهو في هذا العالم غريب‪ ،‬وتلك القطعية اللحمية مركبة‪ ،‬وكل‬
‫أعضاء الجسد عساكره وهو الملك‪ ،‬ومعرفة ا ومشاهدة جمال الحضرة صفاته‪ ،‬والتكليف عليه والخطاب معه‪ ،‬وله الثواب وعليه‬
‫العقاب‪ ،‬والسعادة والشقاء تلحقانه والروح الحيواني في كل شيء تبعه ومعه‪ .‬ومعرفة حقيقته ومعرفة صفاته مفتاح معرفة ا‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه لنه جوهر عزيز من جنس الملئاكة‪ ،‬وأصل معدنه من الحضرة اللهية‪ ،‬من ذلك‬
‫المكان جاء وإلى ذلك المكان يعود‪.‬‬
‫فصل‬
‫ك دعهن المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي(‬
‫أما سؤالك ما حقيقة القلب‪ ،‬فلم يجئ في الشريعة أكثر من قول ا تعالى‪) :‬دوديلسأ دالودن د‬
‫)السراء‪ (85 :‬لن الروح جزء من جملة القدرة اللهية وهو من عالم المر‪ ،‬قال ا عز وجل‪) :‬دأل دلاه اللدخللاق دوالدلمار( )العراف‪:‬‬
‫‪ (54‬فالنسان من عالم الخلق من جانب‪ ،‬ومن عالم المر من جانب‪ ،‬فكل شيء يجوز عليه للمساحة والمقدار والكيفية فهو من‬
‫عالم الخلق؛ وليس للقلب مساحة ول مقدار‪ ،‬ولهذا ل يقبل القسمة‪ ،‬ولو قبل القسمة لكان من عالم الخلق‪ ،‬وكان من جانب الجهل‬
‫جاهلل ومن جانب العلم عاللما‪ ،‬وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال‪ .‬وفي معنى آخر هو من عالم المر؛ لن عالم المر‬
‫عبارة عن شيء من الشياء ل يكون للمساحة والتقدير طريق إليه‪ .‬وقد ظن بعضهم أن الروح قديم فغلطوا‪ .‬وقال قوم إنه دعدرض‬
‫فغلطوا‪ ،‬لن‬
‫)ص ‪(450‬‬
‫ضا! وقال قوم إنه جسم‬ ‫العرض ل يقوم بنفسه ويكون تابلعا لغيره‪ .‬فالروح هو أصل ابن آدم‪ ،‬وقالب ابن آدم نبع له‪ ،‬فكيف يكون عر ل‬
‫فغلطوا‪ ،‬لن الجسم يقبل القسمة‪ .‬فالروح الذيِ سميناه قللبا وهو محل معرفة ا تعالى ليس بجسم ول عرض بل هو من جنس‬
‫الملئاكة‪.‬‬
‫ومعرفة الروح صعبة جدا‪ ،‬لنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لن ل حاجة في الدين إلى معرفته‪ ،‬لن الدين هو المجاهدة‬ ‫ل‬
‫والمعرفة علمة الهداية كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا( ]العنكبوت‪ .[69 :‬ومن لم يجتهد حق اجتهاد‬
‫لم يجز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح‪ .‬وأول أس المجاهدة أن تعرف عكر القلب‪ ،‬لن النسان إذا لم يعرف العكسر لم‬
‫يصح له الجهاد‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم أن النفس مركب القلب‪ ،‬وللقلب عساكر كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬وما يعلم جنود ربك إل هو( ]المدثر‪ .[31 :‬والقلب مخلوق‬
‫لعمل الخرة طللبا لسعادته‪ ،‬وسعادته معرفة ربه عز وجل‪ ،‬ومعرفة ربه تعالى تحصل له من صنع ا وهو من جملة عالمه‪ .‬ول‬
‫تحصل له معرفة عجائاب العالم إل من طريق الحواس‪ ،‬والحواس من القلب والقالب مركبه‪ ،‬ثم معرفة صيده ومعرفة شبكته‪،‬‬
‫والقالب ل يقوم إل بالطعام والشراب والحرارة والرطوبة‪ ،‬وهو ضعيف على خطر من الجوع والعطش في الباطن‪ ،‬وعلى خطر‬
‫من الماء والنار في الظاهر‪ ،‬وهو مقابل أعداء كثرة‪.‬‬
‫فصل‬
‫وتحتاج أن تعرف العكسرين؛ وذلك أن العكسر الظاهر هو الشهوة والغضب ومنازلهم في اليدين والرجلين والعينين والذنين‬
‫وجميع العضاء؛ وأما العكسر الباطن فمنازله في الدماغ وهو قويِ الخيال والتفكر والحفظ والتذكر والوهم‪ ،‬ولكل قوة من هذه‬
‫القوى عمل خاص‪ ،‬فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن آدم في الدارين‪ .‬وجملة هذين العسكرين في القلب وهو أميرها‪ ،‬فإن‬
‫أمر اللسان أن يذكر ذكر‪ ،‬وإن أمر اليد أن تبطش بطشت‪ ،‬وإن أمر الرجل أن تسعى سعت‪ ،‬وكذلك الحواس الخمس حتى يحفظ‬
‫نفسه كيما يدخر الزاد للدار الخرة ويحصل الصيد وتتم التجارة ويجمع بذر السعادة‪ ،‬وهؤلء طائاعون للقلب كما أن الملئاكة‬
‫طائاعون للرب سبحانه وتعالى ل يخالفون أمره‪.‬‬
‫)ص ‪(451‬‬
‫فصل في معرفة القلب وعسكره‬
‫اعلم أنه قيل في المثل المشهور‪ :‬إن النفس كالمدينة‪ ،‬واليدين والقدمين وجميع العضاء ضياعها‪ ،‬والقوة الشهوانية واليها‪ ،‬والقوة‬
‫الغضبية شحنتها‪ ،‬والقلب ملكها والعقل وزيرها‪ .‬والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله‪ ،‬لن الوالي وهو الشهوة‪ ،‬كذاب‬
‫فضولي مخلط‪ ،‬والشحنة وهو الغضب شرير قتال خراب‪ ،‬فإن تركهم الملك على ما هم عليه هلكت المدينة وخربت‪ .‬فيجب أن‬
‫يشاور الملك الوزير ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزير‪ ،‬فإذا فعل ذلك استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة‪ .‬وكذلك القلب‬
‫يشاور العقل ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة اللهية‬
‫ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة هلكت نفسه وكان قلبه شقليا في الخرة‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم أن الشهوة والغضب خادمان للنفس جاذبان‪ ،‬يحفظان أمر الطعام والشراب والنكاح لحمل الحواس‪ ،‬ثم النفس خادم الحواس‬
‫شبكة العقل وجواسيسه يبصر بها صنائاع البارئ جلت قدرته‪ ،‬ثم الحواس خادم العقل وهو القلب سراج وشمعة يبصر بنوره‬
‫الحضرة اللهية‪ ،‬لن الجنة وهي نصيب الجوف أو الفرج محتقرة في جنب تلك الجنة‪ .‬ثم العقل خادم القلب‪ ،‬والقلب مخلوق لنظر‬
‫جمال الحضرة اللهية‪ .‬فمن اجتهد في هذه الصنعة فهو عبد حق من غلمان الحضرة‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬وما خلقت الجن‬
‫والنس إل ليعبدون( ]الذاريات‪ .[56 :‬معناه أنا خلقنا القلب وأعطيناه الملك والعسكر‪ ،‬وجعلنا النفس مركبه حتى يسافر عليه من‬
‫عالم التراب إلى أعلى عليين‪ ،‬فإذا أراد أن يؤديِ حق هذه النعمة جاس مثل السلطان في صدر مملكته‪ ،‬وجعل الحضرة اللهية قبلته‬
‫ومقصده‪ ،‬وجعل الخرة وطنه وقراره‪ ،‬والنفس مركبه‪ ،‬والدنيا منزله‪ ،‬واليدين والقدمين خدامه‪ ،‬والعقل وزيره‪ ،‬والشهوة عامله‪،‬‬
‫والغضب شحنته‪ ،‬والحواس جواسيسه‪ .‬وكل واحد موكل بعالم من العوالم يجمع له أحوال العالم‪ .‬وقوة الخيال في مقدم الدماغ‬
‫كالنقيب يجمع عنده أخبار الجواسيس‪ ،‬وقوة الحفظ في وسط الدماغ مثل صاحب الخريطة يجمع الرقاع من يد النقيب ويحفظها إلى‬
‫أن يعرضها على العقل‪ ،‬فإذا بلغت هذه الخبار إلى الوزير يرى أحوال المملكة على مقتضاها‪.‬‬
‫فإذا رأيت واحلدا منهم قد عصى عليك مثل الشهوة والغضب‪ ،‬فعليك بالمجاهدة‪ ،‬ول تقصد قتلهما؛ لن المملكة ل تستقر إل بهما‪.‬‬
‫فإذا فعلت ذلك كنت سعيلدا‪ ،‬وأديت حق النعمة‪ ،‬ووجبت لك الخلعة في وقتها‪ ،‬وإل كنت شقليا ووجب عليك النكال والعقوبة‪.‬‬
‫)ص ‪(452‬‬
‫فصل‬
‫تمام السعادة مبني على ثلثة أشياء‪ :‬قوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العلم‪ ،‬فيحتاج أن يكون أمرها متوسلطا لئال تزيد قوة الشهوة‬
‫فتخرجه إلى الرخص فيهلك‪ ،‬أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الحمق فيهلك؛ فإذا توسطت القوتان بإشارة قوة العدل دل على‬
‫طريق الهداية‪ .‬وكذلك الغضب إذا زاد سهل عليه الضرب والقتل‪ ،‬وإذا نقص ذهبت الغيرة والحمية في الدين والدنيا‪ ،‬وإذا توسط‬
‫كان الصبر والشجاعة والحكمة‪ .‬وكذا الشهوة إذا زادت كان الفسق والفجور‪ ،‬وإن نقصت كان العجز والفتور‪ ،‬وإن توسطت كان‬
‫العفة والقناعة وأمثال ذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫اعلم أن للقلب مع عسكره أحوالل وصفات بعضها يسمى أخلق السوء‪ ،‬وبعضها أخلق الحسن‪ ،‬فبالخلق الحسنة يبلغ درجة‬
‫السعادة‪ ،‬والخلق السيئاة هلكه وخروجه للشقاء‪ ،‬وهذه كلها تبلغ أربعة أجناس‪ :‬أخلق الشياطين‪ ،‬وأخلق البهائام‪ ،‬وأخلق‬
‫السباع‪ ،‬وأخلق الملئاكة‪ .‬فأعمال السوء من الكل والشرب والنوم والنكاح هي أخلق البهائام‪ ،‬وكذلك أعمال الغضب من الضرب‬
‫والقتل والخصومة هي أخلق السباع‪ ،‬وكذلك أعمال النفس وهي المكر والحيلة والغش وغير ذلك هي أخلق الشياطين‪ ،‬وكذلك‬
‫أعمال العقل التي هي الرحمة والعلم والخير هي أخلق الملئاكة‪.‬‬
‫فصل‬
‫واعلم أن في جلد ابن آدم أربعة أشياء‪ :‬الكلب‪ ،‬والخنزير‪ ،‬والشيطان‪ ،‬والملك‪ .‬والكلب مذموم في صفاته‪ ،‬وليس بمذموم في‬
‫صورته‪ .‬وكذلك الشيطان والملئاكة ذمهم ومدحهم في صفاتهم‪ ،‬وليس ذلك في صورهم وخلقهم‪ .‬وكذلك الخنزير مذموم في‬
‫صفاته‪ ،‬وليس بمذموم في خلقته‪.‬‬
‫وقد أمر ابن آدم بأن يكشف ظلم الجهل بنور العقل خولفا من الفتنة كما قال النبي صلى ا عليه وسلم‪" :‬ما من أحد إل وله شيطان‬
‫ولي شيطان‪ ،‬وإن ا قد أعانني على شيطاني حتى ملكته" وكذلك الشهوة والغضب ينبغي أن يكونا تحت يد العقل‪ ،‬فل يفعل شيلئاا‬
‫إل بأمره‪ ،‬فإن فعل ذلك صح له حسن الخلق‪ ،‬وهي صفات الملئاكة وهي بذر السعادة‪ ،‬وإن عمل بخلف ذلك فخدم الشهوة‬
‫والغضب صح له الخلق القبيحة‪ ،‬وهي صفات الشياطين وهو بذر الشقاء‪ ،‬فيتبين له في نومه كأنه قائام مشدود الوسط يخدم الكلب‬
‫والخنزير‪ ،‬فكيف يكون حالك يوم القيامة إذا حبست الملك وهو العقل تحت يد الشهوة والغضب وهما الكلب والخنزير؟‪.‬‬
‫)ص ‪(453‬‬
‫فصل‬
‫واعلم أن النسان في صورة ابن آدم اليوم‪ ،‬وغلدا تنكشف له المعاني فتكون الصور في معنى المعاني؛ فأما الذيِ غلب عليه‬
‫الغضب فيقوم في صورة الكلب‪ ،‬وأما الذيِ غلب عليه الشهوة فيقوم في صورة الخنزير؛ لن الصور تابعة للمعاني‪ ،‬وإنما يبصر‬
‫النائام في نومه ما صح في باطنه‪ .‬وإنما عرفت أن النسان في باطنه هذه الربعة‪ ،‬فيجب أن يراقب حركاته وسكناته‪ ،‬ويعرف من‬
‫أيِ الربعة هو‪ ،‬فإن صفاته تحصل في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة‪ ،‬وإن بقي من جملة الباقيات الصالحات شيء فهو بذر‬
‫السعادة‪ ،‬وإن بقي معه غير ذلك فهو بذر الشقاء‪ ،‬وابن آدم ل ينفك ول ينفصل عن حركة أو سون‪ ،‬وقلبه مثل الزجاج‪ .‬وأخلق‬
‫السوء كالدخان والظلمة‪ ،‬فإذا وصل إليه ذلك أظلم عليه طريق السعادة وأخلق الحسن كالنور والضوء‪ ،‬فإذا وصل إلى القلب‬
‫طهره من ظلم المعاصي كما قال رسول ا صلى ا عليه وسلم‪" :‬أتبع السيئاة الحسنة تمحها"‪ .‬والقلب إما مضيء أو مظلم‪ ،‬ول‬
‫ينجو إل من أتى ا بقلب سليم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ضا في ابن آدم‪ ،‬ولكنه أعطى شيلئاا آخر زيادة عليها الشرف والكمال‪ ،‬وبذلك‬ ‫واعلم أن الشهوة والغضب اللتين في البهائام جعلتا أي ل‬
‫تحصل له معرفة ا تعالى‪ ،‬وجملة عجائاب صنعه‪ ،‬وبه يخلص نفسه من يد الشهوة والغضب وتحصل له صفات الملئاكة‪ ،‬ولذلك‬
‫يظفر بالسباع والبهائام وتصير كلها مسخرة له كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬وسخر لكم ما في السموات وما في الرض جميلعا(‬
‫]الجاثية‪.[13 :‬‬
‫فصل في عجائاب القلب‬
‫اعلم أن للقلب بابين للعلوم‪ :‬واحد للحلم‪ ،‬والثاني لعلم اليقظة‪ ،‬وهو الباب الظاهر إلى الخارج؛ فإن نام غلق باب الحواس‪ ،‬فيفتح‬
‫له باب الباطن‪ ،‬ويكشف له غيب من عالم الملكوت ومن اللوح المحفوظ فيكون مثل الضوء‪ ،‬وربما احتاج كشفه إلى شيء من‬
‫تعبير الحلم‪ ،‬وأما ما كان من الظاهر فيظن الناس أن به اليقظة وأن اليقظة أولى بالمعرفة مع أنه ل يبصر في اليقظة شيء من‬
‫عالم الغيب‪ ،‬وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس‪.‬‬
‫فصل‬
‫ضا‪ ،‬لن فيه صورة كل موجود؛ وإذا قابلت‬ ‫وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة‪ ،‬واللوح المحفوظ مثل المرآة أي ل‬
‫المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما‬
‫)ص ‪(454‬‬
‫في الخرى‪ ،‬وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارلغا من شهوات الدنيا‪ ،‬فإن كان مشغولل بها كان عالم‬
‫الملكوتن محجولبا عنه‪ ،‬وإن كان في حال النوم فارلغا من علئاق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت فظهر فيه بعض الصور التي‬
‫في اللوح المحفوظ‪ ،‬وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال‪ ،‬لذلك يكون الذيِ يبصره تحت ستر القشر‪ ،‬وليس كالحق الصريح‬
‫مكشولفا‪ .‬فإذا مات‪ ،‬أيِ القلب‪ ،‬بموت صاحبه لم يبق خيال ول حواس‪ ،‬وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال‪ ،‬ويقال له‪:‬‬
‫)فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد( ]ق‪.[22 :‬‬
‫فصل‬
‫واعلم أنه ما من أحد إل ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم وبيان الحق على سبيل اللهام‪ ،‬وذلك ل يدخل من طريق الحواس بل‬
‫يدخل في القلب ل يعرف من أين جاء؛ لن القلب من عالم الملكوت‪ ،‬والحواس مخلوقة لهذا العالم‪ ،‬عالم الملك‪ ،‬فلذلك يكون حجابه‬
‫عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارلغا من شغل الحواس‪.‬‬
‫فصل‬
‫ول تظنن أن هذه اللطافة تنفتح بالنوم والموت فقط‪ ،‬بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة‪ ،‬وتخلص من يد الشهوة‬
‫والغضب والخلق القبيحة والعمال الرديئاة‪ .‬فإذا جلس في مكان خال وعطل طريق الحواس‪ ،‬وفتح عين الباطن وسمعه‪ ،‬وجعل‬
‫القلب في مناسبة عالم الملكوت‪ ،‬وقال دائالما‪" :‬ا ا ا" بقلبه دون لسانه‪ ،‬إلى أن يصير ل خبر معه من نفسه ول من العالم‪،‬‬
‫ويبقى ل يرى شيلئاا إل ا سبحانه وتعالى‪ ،‬انفتحت تلك الطاقة‪ ،‬وأبصر في اليقظة الذيِ يبصره في النوم‪ ،‬فتظهر له أرواح الملئاكة‬
‫والنبياء‪ ،‬والصور الحسنة الجميلة الجليلة‪ ،‬وانكشفت له ملكوت السموات والرض‪ ،‬ورأى ما ل يمكن شرحه ول وصفه كما قال‬
‫النبي صلى ا عليه وسلم‪" :‬زويت لي الرض فرأيت مشارقها ومغاربها" وقال ا عز وجل‪) :‬وكذلك نريِ إبراهيم ملكوت‬
‫السموات والرض( ]النعام‪ .[75 :‬لن علوم النبياء عليهم السلم كلها كانت من هذا الطريق ل من طريق الحواس كما قال ا‬
‫سبحانه وتعالى‪) :‬واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلل( ]المزمل‪ .[8 :‬معناه النقطاع عن كل شيء‪ ،‬وتطهير القلب من كل شيء‪،‬‬
‫والبتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية‪ ،‬وهو طريق الصوفية في هذا الزمان‪ .‬وأما طريق التعليم فهو طريق العلماء‪ ،‬وهذه الدرجة‬
‫الكبيرة مختصرة من طريق النبوة‪ ،‬وكذلك علم الولياء لنه وقع في قلوبهم بل واسطة من حضرة الحق كما قال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫)آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا عللما( ]الكهف‪ .[65 :‬وهذه الطريقة ل تفهم إل بالتجربة‪ ،‬وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل‬
‫بالتعليم؛ والواجب التصديق‬
‫)ص ‪(455‬‬
‫بها حتى ل تحرم شعاع سعادتهم‪ ،‬وهو من عجائاب القلب‪ .‬ومن لم يبصر لم يصدق كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬بل كذبوا بما لم‬
‫يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله( ]يونس‪ .[39 :‬وقوله‪) :‬وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم( ]الحقاف‪.[11 :‬‬
‫فصل‬
‫ول تحسب أن هذا خاص بالنبياء والولياء؛ لن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لن يعمل منه مرآة ينظر‬
‫فيها صورة العالم‪ ،‬إل الذيِ صدأ فيحتاج إلى إجلء‪ ،‬أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك‪ ،‬لنه قد تلف‪ ،‬وكذلك كل قلب إذا غلب‬
‫عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة‪ ،‬وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة كما قال النبي صلى ا عليه وسلم‪" :‬كل مولود يولد‬
‫على فطرة السلم" وقال ا تعالى‪) :‬وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى( ]العراف‪ .[172 :‬وكذلك بنو آدم في فطرتهم‬
‫التصديق بالربوبية كما قال سبحانه وتعالى‪) :‬فطرت ا التي فطر الناس عليها( ]الروم‪ .[30 :‬والنبياء والولياء هم بنو آدم‪ ،‬قال‬
‫سبحانه وتعالى‪) :‬قل إنما أنا بشر مثلكم( ]فصلت‪ ,.[6 :‬فكل من زرع حصد‪ ،‬ومن مشى وصل‪ ،‬ومن طلب وجد‪ .‬والطلب ل‬
‫يحصل إل بالمجاهدة –طلب شيخ بالغ عارف قد مشى في هذا الطريق‪ -‬وإذا حصل هذان الشيئاان لحد فقد أراد ا له التوفيق‬
‫والسعادة بحكم أزلي حتى يبلغ إلى هذه الدرجة‪.‬‬
‫فصل‬
‫في أن اللذة والسعادة لبن آدم في معرفة ا سبحانه وتعالى‬
‫اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه‪ ،‬وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور‬
‫الحسنة‪ ،‬ولذة الذن في الصوات الطيبة‪ ،‬وكذلك سائار الجوارح بهذه الصفة؛ ولذة القلب الخاصة بمعرفة ا سبحانه وتعالى‪ ،‬لنه‬
‫مخلوق لها‪ ،‬وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به‪ ،‬مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها‪ ،‬ولو نهي عنها لم يتركها ول يبقى له‬
‫عنها صبر‪ .‬وكذلك إذا وقع في معرفة ا سبحانه وتعالى فرح بها‪ ،‬ولم يصبر عن المشاهدة‪ ،‬لن لذة القلب المعرفة وكلما كانت‬
‫المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن النسان إذا عرف الوزير فرح‪ ،‬ولو علم الملك لكان أعظم فرلحا‪.‬‬
‫وليس موجود أشرف من ا سبحانه وتعالى‪ ،‬لن شرف كل موجود به ومنه‪ ،‬وكل عجائاب العالم آثار صنعته‪ ،‬فل معرفة أعز من‬
‫معرفته‪ ،‬ول لذة أعظم من لذة معرفته‪ ،‬وليس منظر أحسن من منظر حضرته‪ .‬وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس وهي تبطل‬
‫بالموت‪ ،‬ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب فل تبطل بالموت؛ لن القلب ل يهلك بالموت بل تكون لذته أكثر وضوءه أكبر لنه‬
‫خرج من الظلمة إلى الضوء‪.‬‬
‫)ص ‪(456‬‬
‫فصل‬
‫واعلم أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم‪ ،‬وفيها من كل صورة في العالم أثر منه؛ لن هذه العظام كالجبال‪ ،‬ولحمه كالتراب‪،‬‬
‫ضا فإن في باطنه صناع العالم‪ ،‬لن القوة‬ ‫وشعره كالنبات‪ ،‬ورأسه مثل السماء وحواسه مثل الكواكب‪ ،‬وتفصيل ذلك طويل؛ وأي ل‬
‫التي في المعدحة كالطباخ‪ ،‬والتي في الكبد كالخباز‪ ،‬والتي في المعاء كالقصار‪ ،‬والتي تبيض اللبن وتحمر الدم كالصباغ‪ .‬وشرح‬
‫ذلك طويل‪ ،‬والمقصود أن تعلم كم في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك‪ ،‬وأنت في غفلة عنهم‪ ،‬وهم ل يستريحون‪،‬‬
‫ول تعرفهم أنت ول تشكر من أنعم عليك بهم‪.‬‬
‫فصل في معرفة تركيب الجسد ومنافع العضاء التي يقال عنها في علم التشريح‬
‫وهو علم عظيم‪ ،‬والخلق غافلون عنه‪ ،‬وكذلك علم الطلب‪ .‬فكل من أراد أن ينظر في نفسه وعجائاب صنع ا تعالى فيها‪ ،‬يحتاج‬
‫إلى معرفة ثلثة أشياء من الصفات اللهية‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يعرف أن خالق الشخص قادر على الكمال وليس بعاجز‪ ،‬وهو ا سبحانه وتعالى‪ .‬وليس عمل في العالم بأعجب من‬
‫خلق النسان من ماء مهين‪ ،‬وتصوير هذا الشخص بهذه الصورة العجيبة كما قال ا سبحانه وتعالى‪) :‬إنا خلقنا النسان من نطفة‬
‫أمشاج نبتليه( ]النسان‪ .[2 :‬فإعادته بعد الموت أهون عليه؛ لن العادة أسهل من البتداء‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬معرفة علمه سبحانه وتعالى وأنه محيط بالشياء كلها؛ لن هذه العجائاب والغرائاب ل تمكن إل بكمال العلم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن تعلم أن لطفه ورحمته وعنايته متعلقة بالشياء كلها‪ ،‬وأنها ل نهاية لها‪ ،‬لما ترى في النبات والحيوان والمعادن في سعة‬
‫القدرة وحسن الصور واللوان‪.‬‬
‫فصل في تفصيل خلقة بني آدم لنها مفتاح معرفة الصفات اللهية وهو علم شريف‬
‫وذلك معرفة عجائاب الصنائاع اللهية‪ ،‬ومعرفة عظم ا سبحانه وتعالى وقدرته‪ ،‬وهو مختصر معرفة القلب‪ .‬وهو علم شريف إذ‬
‫هو معرفة الصنائاع اللهية‪ ،‬لن النفس كالفرس‪ ،‬والعقل كالراكب‪ ،‬وجماعهما الفارس‪ ،‬ومن لم يعرف نفسه وهو يدعي معرفة‬
‫غيره فهو كالرجل المفلس الذيِ ليس له طعام لنفسه وهو يدعي أنه يقوت فقراء المدينة‪ ،‬فهذا محال‪.‬‬
‫)ص ‪(457‬‬
‫إذا عرفت هذا العز والشرف والكمال والجمال والجلل‪ ،‬بعد أن عرفت جوهر القلب أنه جوهر عزيز قد وهب لك وبعد ذلك خفي‬
‫عنك‪ ،‬فإن لم تطلبه وغفلت عنه وضيعته كان ذلك حسرة عظيمة عليك يوم القيامة؛ فاجتهد في طلبه‪ ،‬واترك أشغال الدنيا كلها!‬
‫وكل شرف لم يظهر في الدنيا فهو في الخرة فرح بل غم‪ ،‬وبقاء بل فناء‪ ،‬وقدرة بل عجز‪ ،‬ومعرفة بل جهل‪ ،‬وجمال وجلل‬
‫عظيمان؛ وأما اليوم فليس شيء أعجز منه لنه مسكين ناقص؛ وإنما الشرف غلدا إذا طرح من هذه الكيمياء على جوهر قلبه حتى‬
‫يخلص منه شبه البهائام‪ ،‬ويبلغ درجة الملئاكة‪ ،‬فإن رجع إلى شهوات الدنيا فضلت عليه البهائام يوم القيامة لنها تصير إلى التراب‪،‬‬
‫ويبقى هو في العذاب‪ .‬نعوذ بال من ذلك‪ ،‬ونستجير به‪ ،‬وهو نعم المولى ونعم النصير‪ ،‬والحمد ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا على‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫القواعد العشر‬
‫الحمد ل الموفق‪ ،‬الذيِ وفق قلوب الحباب لموافقة مراسيم السنة وأحكام الكتاب‪ ،‬الفتاح الذيِ فتح بصائار أبصارهم فأبصروا‬
‫مواقع نبال الرتياب في مقاتل أهل الحجاب‪ ،‬الملهم الذيِ ألهمهم الحجة البيضاء بالمحجة الخضراء فأصابوا أبكار الصواب‪،‬‬
‫ناداهم بلسان شأن المحبة من جنان المودة كيف ينام المحب عن مشاهدة الحباب! فأكحلوا نواظرهم بإثمد السهاد‪ ،‬وجفوا من‬
‫مضاجعهم أطيب الرقاد‪ ،‬وجدوا في أثر الطلب مع الطلب‪ ،‬وجعلوا نهارهم ليلل‪ ،‬وأفراحهم ويلل‪ ،‬وأرخوا لعز مولهم ذيلل‪،‬‬
‫وتذللوا على العتاب‪ ،‬فأقامهم في الحاضرة والبادية‪ ،‬وأسمعهم أوامرهم ونواهيه‪ ،‬فيا سعادتهم بتوفيقهم لوقوفهم على البواب!‬
‫وكشف لهم الحجاب عن جماله‪ ،‬وكشط الضباب عن محاسن أثواب مقاله‪ ،‬فردوا حيارى بمحاسن التراب‪ .‬أجروا مدامعهم جريان‬
‫النهار‪ ،‬وأبدوا فجائاعهم عن زمن تولى من جر الزار على الوزار‪ ،‬وطرقوا الباب فأتاهم الجواب يا عباديِ أنا التواب على من‬
‫أقلع عن الحوبة وإلي أناب‪.‬‬
‫روق لهم في دار الوصال شراب التصال‪ ،‬فناهيك به من شراب! فتلذذوا بمناجاته‪ ،‬وغابوا عن حضورهم في حضراته‪ ،‬وعدا كل‬
‫بعقله المصاب‪ .‬فأين المهاجر في الهواجر‪ ،‬ومن أكحل المحاجر بالحناجر‪ .‬طوباه قد فاز بطيب الخطاب!‬
‫)ص ‪(458‬‬
‫قد كشف المولى منيع الحجاب وأسمع الحباب طيب الخطاب‬
‫وأحضروا حضرة أنس بها غابوا فعاشوا بعد موت العقاب‬
‫وفي مقام القرب أدناهم لما سقاهم في المقام الشراب‬
‫ضا من المن أجل الكتاب‬ ‫وأتحفوا من فضله بالوفا مح ل‬
‫هم الملوك الشم من خلقه ضنائان الحق لعز الحجاب‬
‫قد تبعوا نهج سبيل الهدى واتبعوا حكم نصوص الكتاب‬
‫واستمسكوا بسنة خير الورى وحاسبوا من قبيل يوم الحساب‬
‫وناقشوا أنفسهم خيفة من غضب الحق وهول العقاب‬
‫إذا أتى الليل تراهم به فرحى لجمع الفرق تحت النقاب‬
‫يحيونه بالذكر كي يحييهم بذكره في جمع أهل الثواب‬
‫يراهم الحق يباهي بهم بهم عن الخلق يزول العذاب‬
‫عليهم مني سلم سما ما لمع البرق أو أهل السحاب‬
‫أحمده حملدا أستوجب به الثواب‪ ،‬وأشكره شكلرا تزيد به زيادات أولي اللباب‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ا وحده ل شريك له‪ ،‬شهادة‬
‫تنزيه عن الحلول والنحياز‪ ،‬والظهور‪ ،‬والبطون‪ ،‬والبتداء والنتهاء‪ ،‬والشتهار‪ ،‬والحتجاب؛ وتقدست ذاته المقدسة عن مقالت‬
‫أولي الجهالت من الكم والكيف والين والمكان والزمان والياب والذهاب‪ ،‬وأمجده بما أبرزه بحكمته من الكوان عن التفكر‬
‫والتدبر والمعاونة والمشاورة والراحة والنصب والنتصاب‪ ،‬وأعظمه عن التشبيه والتمثيل والتعديل والتحويل والتبديل والتركيب‬
‫والرتكاب‪ .‬وأشهد أن سيدنا محملدا عبده ورسوله أشرف محبوب‪ ،‬وأعظم الشراف‪،‬‬
‫)ص ‪(459‬‬
‫وأخص الحباب؛ أرسله بفضل الكتاب وفصل الخطاب‪ ،‬وأيده بأفضل كتاب وأجمل خطاب؛ أفصح العراب بالعراب‬
‫والختصار والسهاب‪ ،‬وأعجز بلغاء الحزاب ببدائاع النفي واليجاب‪ ،‬فأنقذ الحباب من مهاويِ الرتياب ومغاويِ العراب‪،‬‬
‫بالعقاب على العقاب‪ ،‬وكشف عن وجه نور السلم مكفرات ظلمات الشراك والضباب؛ صلى ا عليه وعلى آله وأصحابه‬
‫والحباب‪ ،‬وعلى الخلفاء الراشدين القطاب‪ :‬أبي بكر وأبي حفص وأبي عمرو وأبي تراب‪ ،‬صلة تحلنا دار النعيم وتخرجنا عن‬
‫دار العذاب‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬نفحنا ا وإياك بنسائام قربه‪ ،‬وسقانا وإياك من كاسات حبه؛ فإن بيان كيفية طريقنا‪ ،‬وبرهان أهل تحقيقنا‪ ،‬مبني على عشرة‬
‫قواعد توقظ النائام وتقيم القاعد‪:‬‬
‫القاعدة الولى‬
‫النية الصادقة الواقعة من غير التواء‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪" :‬وإنما لكل امرئ ما نوى"‪.‬‬
‫والمراد بالنية عزم القلب‪ ،‬وبالصادقة إنهاؤها للفعل والترك للرب‪ ،‬وبالواقعة استمرارها على هذه الخلة الثيرة؛ لن التكرار تأثيلرا‬
‫ليس لغيره‪ ،‬وعلمتها عدم تغيير جزمه بأعراض فانية وباقية في عزمه‪ ،‬فإن العمل للحق ول بد من الحق فل يترك ما عزم عليه‬
‫للخلق‪.‬‬
‫القاعدة الثانية‬
‫العمل ل من غير شريك ول اشتراك لقوله عليه السلم‪" :‬اعبد ا كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وعلمته أن ل يرضى‬
‫بغير الحق‪ ،‬ويرى ما سواه قاطلعا‪ ،‬فيجتنب الخلق لقول النبي المختار‪" :‬تعس عبد الدينار"‪.‬‬
‫وليترك ا سبحانه وتعالى جميع أمانيه‪ ،‬لقوله عليه السلم‪" :‬من حسن إسلم المرء تركه ما ل يعنيه" وآكدها الشبهات فاحذرها أن‬
‫تصيبك‪ ،‬لقوله عليه السلم‪" :‬دع ما يريبك إلى ما ل يريبك"‪.‬‬
‫فإذا صحت هذه الصول الثلثة أثمرت أغصانها لك القربى‪ ،‬فتكون بالصورة في الدنيا وبالمعنى في العقبى‪ ،‬وعلى قدر همك‬
‫وثباتك على الفعل والترك تحظى من الحديث المشهور‪" :‬كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أصحاب القبور"‪.‬‬
‫وعلمة القناعة الكتفاء بما يذهب الحر والبرد والمسغبة لقوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬حسب ابن آدم لقيمات يقمن بها صلبه" فل‬
‫يميل إلى صاحب القمح صاحب الشعير‪ ،‬وإلى النقرة صاحب النقير‪ .‬والمستغني بالحلل ل يقصد المباح‪ ،‬ول يخفض إلى الشبهة‬
‫الجناح‪ .‬وعلمة الغريب‬
‫ص ‪640‬‬
‫الحمل الخفيف‪ ،‬وعدم الئاتلف بالثقيل‪ ،‬وترك السؤال فإنه يؤويِ إلى ظل الدخيل‪ .‬وعلمة عابر السبيل إسراع الجابة‪ ،‬ورضاه‬
‫بما سبق إليه واستطابه‪ .‬وعلمة الميت إيثار مهمات دينه والمسألة في غوالب حينه‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‬
‫موافقة الحق بالتفاق والوفاق ومخالفة النفس بالصبر على الفراق والمشاق‪ ،‬وترك الهوى‪ ،‬وجفاء الملذ والمكان والخلف‪ .‬ومن‬
‫تعوده خرج عن الحجاب ودخل في النكشاف‪ ،‬فعاد نومه سهلرا‪ ،‬واختلطه عزلة‪ ،‬وشبعه جولعا‪ ،‬وعزته ذلة‪ ،‬ومكالمته صملتا‪،‬‬
‫وكثرته قلة‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‬
‫الهمة العالية عن التسويف يفسدك؛ فقد جاء‪ :‬ل تترك عمل يومك للغد؛ لن بعض العمال من بعضها‪ ،‬وإل فمن رضي بالدنى‬
‫حرم العلى‪ .‬والكامل المتبع هو السنى ل المتشيع والمعتزل المبتدع‪ ،‬لقوله عليه السلم‪" :‬يا أحبابي عليكم بالسواد العظم" قالوا‪:‬‬
‫يا رسول ا وما السواد العظم؟ قال‪" :‬ما أنا عليه وأصحابي"‪.‬‬
‫القاعدة السادسة‬
‫العجز والذلة؛ ل بمعنى الكسل في الطاعات وترك الجتهاد‪ ،‬بل عجزك عن كل فعل إل بقدرة الحق الجواد‪ ،‬وأن ترى الخلق بعين‬
‫التوقير والحترام‪ ،‬فإن بعضهم وسائاط بعض‪ ،‬إجللل لحضرة ذيِ الجلل والكرام؛ لن سنة ا سبحانه وتعالى إذا أراد شيلئاا ما‬
‫أضافه إليه بنفي الوسائاط‪ ،‬وإن أراد جلل حضرته تعظيما أضافه لغيره رعاية للضوابط‪ .‬فإذا علمت أن الكل بيد ا سبحانه‬
‫وتعالى والمرجع إليه وتكبرت‪ ،‬فقد تكبرت عليه إل بأمر وصل إليك من لديه‪ .‬فاجعل عجزك في جنبه ومسكنتك له بالعتذار‪،‬‬
‫ولتتصور قدرة فإنها منازعة في القتدار‪.‬‬
‫ص ‪461‬‬
‫القاعدة السابعة‬
‫الخوف والرخاء معنى‪ ،‬وعدم الطمئانان بجلل الحسان إل عند العيان‪ ،‬فحسن الظن منك بالجواد الحسان‪.‬‬
‫القاعدة الثامنة‬
‫دوام الورد إما في حق الحق أو حق العباد‪ ،‬فإن من ليس ورد فماله من الموارد إمداد‪ ،‬فامديم يمل الحل بملله بخلف الذيِ يغيب‬
‫بأعماله وأقواله‪ ،‬فإن النفس تنبسط بذلك جهلرا وسلرا‪ ،‬وترعي حقوق العباد كما يتوقع منهم خيلرا وشلرا‪ ،‬فيحب ويبغض لهم ما يحب‬
‫ويبغض لنفسه خيلرا وشلرا‪ ،‬ويعلم ل تعالى ما يرضى كما يحب أن يفعل ا ما يرضى‪.‬‬
‫القاعدة التاسعة‬
‫المداومة على المراقبة ول يغيب عن ا سبحانه وتعالى طرفة عين؛ فمن داوم على مراقبة قلبه ل سبحانه وتعالى ونفى غير ا‬
‫وجد ا وإحسانه وعلم اليقين يحصل ذلك لك بجمتله وهو أن ترى الحركات والسكنات والعيان بتتحريكه وتسكينه وقدرته‬
‫سبحانه ل يستغني عنه شئ‪ .‬ثم تزيد مراقبته إلى أن تترقى إلى علم اليقين‪ ،‬ثم يفنى عن ذلك به‪ ،‬وذلك حقيقة اليقين فيقول‪ :‬ما رأيت‬
‫شيلئاا إل رأيت ا سبحانه وتعالى‪ ،‬هو القيوم على كل شئ بقيوميته‪ ،‬وذلك الشئ هو القائام بأمره وبقدرته على حسب المشاهدة‬
‫والمحاضرة‪ ،‬فتأدب مع الخلق وعاشر أحسن المعاشرة؛ قال صلى ا عليه وسلم‪":‬أدبني ربي فأحسن تأديبي"‪.‬‬
‫القاعدة العاشرة‬
‫علم ما يجب الشتغال به ظاهلرا وباطلنا اجتهالدا؛ لن من ظن أنه استغنى عن الطاعية فهو مفلس معالدا لقوله سبحانه ل رب إل‬
‫اا{]آل عمران‪.[31:‬‬ ‫اد دفااتهباعوهني ايلحهبلباكام ا‬
‫حمبودن ا‬
‫سواه‪} :‬قالل هإن اكناتلم ات ه‬
‫فهذا ما بنيت على أعمدة قواعده قصولرا من غير قصور‪ ،‬وأسست عليه شرامخ الحجار لربات الحجور‪ ،‬وحرثته بمحراث فدن‪،‬‬
‫وبذرته بصنوف حبوب السعادة‪ ،‬وغرست في فرادسه الذكار‪ ،‬وأجريب في جناته من الوراد والنهار‪ ،‬وفرشته بشقائاق نعمان‬
‫المجاهدة‪ ،‬ومهدته بحدائاق حقائاق المكابدة؛ راجليا حصاد زرعي بمناجل الهمم‪ ،‬وقاصلدا غنيمة إنفاقي من مواهب الكرم‪ ،‬وا تعالى‬
‫يزكيه وايلربيه‪ ،‬ويرتع فيه من ظهر فيه‪ ،‬ومن التحق به ممن يحييه‪ ،‬إنه الجواد الكريم البر الرحيم‪.‬‬
‫ص ‪462‬‬
‫والسلم على من اتبع الهدى‪ ،‬فما ابتدع وانتفع ولحق بعباد ا الصالحين وحزبه المفلحين ورحمته وبركاته‪ ،‬وصلى ا وسلم على‬
‫سيدنا محمد نور النوار المعارف وسر أسرار العوارف‪ ،‬وعلى آله وصحبه وتابعي سبيله وحزبه‪ ،‬والحمد ل الذيِ تتم بنعمته‬
‫الصالحات وتعم البركات آمين‪.‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الكشف والتبيين‬
‫في غرور الخلق أجمعين‬
‫وصلى ا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين!! به ثقتي‪.‬‬
‫الحمد ل وحده‪ ،‬وصلى ا على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬فهذا كتاب الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين‪.‬‬
‫اعلم أن الخلق قسمان‪ :‬حيوان وغير حيوان‪ .‬والحيوان قسمان‪ :‬مكلف وغير مكلف؛ فالمكلف من خاطبه وا بالعبادة‪ ،‬وأمره بها‪،‬‬
‫ووعده بالثواب عليها‪ ،‬ونهاه عن المعاصي‪ ،‬وحذره العقوبة؛ وغير المكلف من لم يخاطبه بذلك‪ .‬ثم المكلف قسمان‪ :‬مؤمن وكافر‪.‬‬
‫والمؤمن قسمان‪ :‬طائاع وعاص؛ وكل واحد من الطائاعين والعاصين ينقسم إلى قسمين‪ :‬عالم وجاهل‪.‬‬
‫ثم رأيت الغرور لزلما لجميع المكلفين والمؤمنين والكافرين إل من عصمه ا رب العالمين‪ .‬وأنا إن شاء ا تعالى أكشف عن‬
‫غرورهم‪ ،‬وأبين الحجة فيه‪ ،‬وأوضحه غاية اليضاح‪ ،‬وأبينه غاية البيان‪ ،‬بأوجز ما يكون من العبارة‪ ،‬وأبدع ما يكون من الشارة؛‬
‫فأقول وما توفيقي إل بال‪:‬‬
‫واعلم أن المغرورين من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف‪ :‬صنف من العلماء‪ ،‬وصنف من العباد‪ ،‬وصنف من أرباب‬
‫الموال‪ ،‬وصنف من المتصوفة‪ .‬فأول ما نبدأ به غرور الكفار‪ ،‬وهم في غرورهم قسمان‪ :‬منهم من غرته الحياة الدنيا فهم الذين‬
‫قالوا‪ :‬النقد خير من النسيئاة‪ ،‬ولذات الديا يقين ولذات الخرة شك‪ ،‬ول يترك اليقين بالشك؛ وهذا قياس فاسد‪ ،‬وهو قياس إبليس لعنه‬
‫ا في قوله أنا خير منه‪ ،‬فظن أن الخيرية في السبب‪.‬‬
‫وعلج هذا الغرور شيئاان إما بتصديق وهو اليمان‪ ،‬وإما ببرهان‪ .‬أما التصديق فهو أن يصدق ا تعالى في قوله‪} :‬دودما هعندد ا‬
‫اه‬
‫دخليسر دوأدلبدقى{ ]القصص‪ .[60:‬وقوله تعالى‪} :‬دودما اللدحدياةا المدلنديا إهلا دمدتااع اللاغاروهر{ ]آل عمران‪ ،185 :‬الحديد‪ .[20 :‬وتصديق‬
‫الرسول فيما جاء به وأما البرهان فهو أن يعرف وجه فساد قياسه أن قوله‪" :‬الدنيا نقد والخرة نسيئاة" مقدمة صحيحة‪ ،‬وأما قوله‪:‬‬
‫"النقد خير من النسيئاة" فهو محل‬
‫ص ‪463‬‬
‫التلبيس‪ ،‬وليس المر كذلك‪ ،‬بل إن كان النقد مثل النسيئاة في المقدار والمقصود فهو خير‪ ،‬وإن كان أقل منها فلنسيئاة خير منه؛‬
‫ومعلوم أن الخرة أبدية والدنيا غير أبدية‪ .‬وأما قولهم‪" :‬لذات الدنيا يقين ولذات الخرة شك" فهو أيضا باطل؛ بل ذلك يقين عند‬
‫المؤمنين‪ ،‬وليقينه مدركان‪ :‬أحدهما اليمان ولتصديق على وجه التقليد للنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحادق في الدواء‪،‬‬
‫والمدرك الثاني الوحي للنبياء واللهام للولياء‪ .‬ول تظن أن معرفة النبي صلى ا عليه وسلم لمور الخرة ولمور الدنيا تقليد‬
‫لجبريل عليه السلم‪ ،‬فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة‪ ،‬والنبي صلى ا عليه وسلم حاشاه من ذلك‪ ،‬بل قد انكشف له الشياء‬
‫وشاهدها بنور البصيرة كما شاهد المحسوسات بالعين الظاهرة‪.‬‬
‫فصل‬
‫والمؤمنون بألسنتهم وعقائادهم إذا ضيعوا أوامر ا‪ ،‬وهي العمال الصالحة‪ ،‬وتدنسوا بالشهات‪ ،‬فهم مشاركون الكفار في هذا‬
‫الغرور‪ ،‬فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميلعا غرور‪.‬‬
‫فأما غرور الكافرين بال فمثاله قول بعضهم في أنفسهم بألسنتهم‪ :‬إنه إن كان ا معيدنا فنحن أحق به من غيرنا؛ كما أخبر ا‬
‫ت إهدلى دررَبي‬ ‫ظمن الاسادعدة دقاهئادملة دودلهئان مرهدد م‬ ‫ظمن دأن دتهبيدد دههذهه أددبلدا * دودما أد ا‬ ‫عنهم في سورة الكهف ]اليتان‪ [36 ،35 :‬حيث قال‪} :‬دما أد ا‬
‫جددان دخليلرا رَملندها امندقدللبا{ وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه ا‪ ،‬وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم ا عليهم في الدنيا‬ ‫دلد ه‬
‫فيقيسون عليها نعم الخرة‪ ،‬ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب ا عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الخرة‪ .‬كما أخبر ا عنهم‬
‫اا هبدما دناقوال{ ]المجادلة‪ .[8 :‬ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء فيزدروهم ويقولون‪} :‬أددهاؤلء دمان‬ ‫أنهم يقولون‪} :‬لدلول ايدعرَذابدنا ا‬
‫د‬ ‫ا‬
‫اا دعلدليههم رَمن دبليهندنا{]النعام‪ .[53:‬ويقولون‪} :‬للو كادن خليلرا اما دسدبقونا إهلليهه{ ]الحقاف‪ .[11 :‬وترتيب القياس الذيِ نظم قلوبهم أنهم‬
‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬
‫ل‬
‫يقولون‪" :‬قد أحسن ا إلينا بنعيم الدنيا‪ ،‬وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن" وليس كذلك‪ ،‬بل يكون محسنا ول يكون‬
‫محلبا‪ ،‬بل ربما يكون الحسان سبب هلكه على التدريج؛ ولك محض الغرور بال تعالى‪ ،‬ولذلك قال صلى ا عليه وسلم‪" :‬إن ا‬
‫يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه"‪ .‬وكذلك كان أرباب البصائار إذا أقبلت‬
‫لندساان إهدذا دما البدتلها درمباه‬ ‫د‬
‫عليهم الدنيا حزنوا‪ ،‬وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا وقالوا مرحلبا بشعائار الصالحين‪ ،‬وقد قال تعالى‪} :‬أاما ا ه‬
‫دفأ دلكدردماه دودناعدماه دفدياقوال دررَبي أدلكدردمهن{ ]الفجر‪ .[15 :‬وقال تعالى‪} :‬ديلحدسابودن أداندما انهممداهم هبهه همن اماءل دودبهنيدن * ندساهراع لاهلم هفي الخليدرا ه‬
‫ت‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ا‬
‫ث ل ديلعدلامودن{ ]العراف‪ ،182 :‬القلم‪} .[44 :‬دوأ المهلي‬ ‫دبل يل ديلشاعارودن{ ]المؤمنون‪ .[56 ،55 :‬وقال تعالى‪} :‬دسدنلسدتلدهراجاهم رَملن دحلي ا‬
‫دلاهلم إهان دكليهديِ دمهتيسن{ ]العراف‪:‬‬
‫ص ‪464‬‬
‫ب اكرَل دشليءء دحاتى إهدذا دفهراحولا هبدما اأواتولا أددخلذدنااهم دبلغدتلة دفإهدذا اهم‬ ‫‪ ،183‬القلم‪ .[45 :‬وقال تعالى‪} :‬دفدلاما دناسولا دما اذرَكارولا هبهه دفدتلحدنا دعدلليههلم أدلبدوا د‬
‫مملبلهاسودن{ ]النعام‪ .[44 :‬فلم يؤمن بال من آمن بهذا الغرور‪ .‬ومنشأ هذا الغرور الجهل بال وبصفاته‪ ،‬فمن عرف ا فل يأمن من‬
‫مكره‪ .‬ول ينظرون إلى فرعون وهامان والنمرود ماذا حل بهم مع ما أعطاهم ا من المال‪ ،‬وقد حذر ا من مكره فقال تعالى‪:‬‬
‫اا دخليار اللدماهكهريدن{ ]آل عمران‪.[54 :‬‬ ‫اا دو ا‬ ‫اه إهلا اللدقلوام اللدخاهسارودن{ ]العراف‪ .[99 :‬وقال تعالى‪} :‬دودمدكارولا دودمدكدر ا‬ ‫}دفلد ديألدمان دملكدر ا‬
‫وقال تعالى‪} :‬دفدمرَههل الدكاهفهريدن ألمههلاهلم اردوليلداا{ ]الطارق‪ .[17 :‬فمن أوله ا نعمة فليذر أن تكون نقمة‪.‬‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫فصل‬
‫وأما غرور العصاة من المؤمنين فقولهم‪" :‬غفور رحيم وإنما نرجو عفوه"‪ .‬فاتكلوا على ذلك وأهملوا العمال ‪ -‬وذلك من قبل‬
‫الرجاء محمود في الدين‪ -‬وإن رحمة ا واسعة‪ ،‬ونعمته شاملة‪ ،‬وكرمه عميم‪ ،‬إنا موحدون مؤمنون‪ ،‬ونرجو بوسيلة اليمان‪،‬‬
‫والكرم والحسان‪ .‬وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلح الباء والمهات‪ ،‬وذلك نهاية الغرور‪ ،‬فإن آبائاهم مع صلحهم وورعهم‬
‫كانوا خائافين‪ ،‬ونظم قياسهم الذيِ سول لهم الشيطان‪ :‬أن من أحب إنسالنا أحب أولده‪ ،‬فإن ا قد أحب آباءكم فهو يحبكم‪ ،‬فل‬
‫تحتاجون إلى الطاعة فاتكلوا على ذلك واغتروا بال‪ .‬ولم يعلموا أن نولحا عليه السلم أراد أن يحمل إبنه في السفينة‪ ،‬فمنع‪ ،‬وأغرقه‬
‫ا بأشد ما أغرق به قوم نوح‪ ،‬وأن النبي صلى ا عليه وسلم استأذن في زيارة قبر أمه وفي الستغفار لها‪ ،‬فاذن له في الزيارة‬
‫لندساهن إهلا دما‬ ‫س له ه‬ ‫ولم يؤذن له في الستغفار ونسوا قوله تعالى‪} :‬دول دتهزار دواهزدرةس هولزدر أ الخدرى{ ]فاطر‪ .[18 :‬وقوله تعالى‪} :‬دودأن لالي د‬
‫دسدعى{ ]النجم‪ .[39 :‬فإن من ظن أنه ينجو بتقى أبيه‪ ،‬كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يرويِ بشرب أبيه‪ ،‬والتقوى فرض عين ل‬
‫يجزيِ فيها والد عن والده‪ ،‬وعند جزاء التقوى يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه إل على سبيل الشفاعة‪ .‬ونسوا قوله‬
‫صلى ا عليه وسلم‪" :‬الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت‪ ،‬والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا الماني"‪ ،‬وقوله‬
‫حيسم{ ]البقرة‪ .[218 :‬وقال‬ ‫اا دغافوسر ار ه‬ ‫اه دو ا‬ ‫ت ا‬ ‫ك ديلراجودن درلحدم د‬ ‫اه أ الولدهئا د‬
‫تعالى‪} :‬إهان الاهذيدن آدمانولا دوالاهذيدن دهادجارولا دودجادهادولا هفي دسهبيهل ا‬
‫تعالى‪} :‬دجدزاء هبدما دكاانوا ديلعدمالودن{ ]السجدة‪ .[17 :‬وهل يصح الرجاء إل إذا تقدمه عمل؟ فإن لم يتقدمه عمل فهو غرور ل محالة‪،‬‬
‫وإنما ورد الرجاء لتبريد حرارة الخوف واليأس‪ ،‬ولتلك الفائادة نطق به القرآن والترغب في الزيادة ل محالة‪.‬‬
‫ص ‪465‬‬
‫فصل‬
‫ويقرب منهم غرور طوائاف لهم طاعات ومعاص‪ ،‬إل أن معاصيهم أكثر‪ ،‬وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن ترجح كفة حسناتهم‪،‬‬
‫وكفة سيئااتهم أكثر‪ .‬وهذا غاية الجهل‪ ،‬فترى الواحد يتصدق بدراهم عديدة من الحلل والحرام‪ ،‬ويكون ما يتناوله من أموال الناس‬
‫والشبهات أضعافه‪ ،‬فهو كمن وضع في كفة الميزان عشرة دراهم ووضع في الكفة الخرى أللفا‪ .‬وأراد أن تميل الكفة التي فيها‬
‫العشرة‪ ،‬وذلك غاية الجهل‪.‬‬
‫فصل‬
‫ويقرب منهم غرور طوائاف لهم طاعات ومعاص‪ ،‬إل أن معاصيهم أكثر‪ ،‬وهم يتوقعون االمغفرة ويطنون أن ترجح كفة حسناتهم‪،‬‬
‫وكفة سيئااتهم أكثر‪ .‬وهذا غاية الجهل‪ ،‬فترى الواحد يتصدق بدراهم عديدة من الحلل والحرام‪ ،‬ويكون ما يتناوله من أموال الناس‬
‫والشبهات أضعافه‪ ،‬فهو كمن وضع في كفة الميزان عشرة دراهم ووضع في الكفة الخرى أللفا‪ .‬وأراد أن تميل الكفة التي فيها‬
‫العشرة‪ ،‬وذلك غاية الجهل‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومنهم من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه‪ ،‬لنه ل يحاسب نفسه ول يتفقد معاصيها‪ ،‬وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها‪ ،‬كالذيِ‬
‫يستغفر ا بلسانه ويسبح بالليل والنهار مثلل مائاة مرة وألف مرة‪ ،‬ثم يغتاب المسلمين ويكلم بما ل يرضاه ا طول النهار‪ ،‬ويلتفت‬
‫إلى ما ورد من فضل التسبيح ويغفل عما ورد في عقوبة الكذابينن والنمامين والمنافقين؛ وذلك محض الغرور‪ ،‬فحفظ لسانه عن‬
‫المعاصي آكد من تسبيحه‪ ،‬فسبحان من صدنا عن التنبيه‪.‬‬
‫فصل‬
‫بيان أصناف المغرورين وأقسام كل صنف‬
‫الصنف الول من المغرورين‪ :‬العلماء‬
‫وهم فرق‪:‬‬
‫)فرقة منهم( لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية‪ ،‬تعمقوا فيها‪ ،‬واشتغلوا بها‪ ،‬وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي‬
‫وإلزامها الطاعات‪ ،‬واغتروا بعلمهم‪ ،‬وطنوا أنهم عند ا بمكان‪ ،‬وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا ل يعذب ا مثلهم‪ ،‬بل يقبل شفاعتهم‬
‫في الخلق ول يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم‪ .‬وهم مغرورون‪ ،‬فإنهم لو نطروا بعين البصرية لعلموا أن العلم علمان‪ :‬علم معاملة‪،‬‬
‫وعلم مكاشفة وهو العلم بال تعالى وبصفاته؛ فلبد من علوم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة‪ ،‬وهي المعاملة بمعرفة الحلل‬
‫والحرام‪ ،‬ومعرفة أخلق النفس المذمومة والمحمودة‪ .‬ومثلهم مثل طبيب يطبب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه فلم يفعل‪،‬‬
‫وهل يننفع الدواء بالوصف؟ هيهات ل ينفع الدواء إل من شربه بعد الحمية؛ وغفلوا عن قوله تعالى‪} :‬دقلد أدلفدلدح دمن دزاكادها * دودقلد‬
‫ب دمن دداسادهاا{ ]الشمس‪ .[10 ،9 :‬ولم يقل‪" :‬من يعلم تزكيتها وكتب علمها وعلمها الناس"‪.‬‬ ‫دخا د‬
‫ص ‪466‬‬
‫وغفلوا عن قوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬من ازداد عللما ولم يزدد هلدى لم يزدد من ا إل بعلدا"‪ ،‬وقوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬إن‬
‫أشد الناس عذالبا يوم القيامة عالم لم ينفعه ا بعلمه"‪ ،‬وغير ذلك كثير‪ .‬وهؤلء مغرورين نعوذ بال من حالهم‪ ،‬وإنما غلب علبهم‬
‫حب الدنيا وحب انفسهم وطلب الراحة العاجلة‪ ،‬وظنوا أن علمهم ينجيهم في الخرة من غير عمل‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( أحكموا العلم والعمل الظاهر‪ ،‬وتركوا المعاصي الظاهرة‪ ،‬وغفلوا عن قلوبهم‪ ،‬فلم يمحوا منها الصفات المذمومة‬
‫عند ا كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلو وإرادة السوء بالقران والشركاء وطلب الشهرة في البلد والعباد‪ ،‬وذلك‬
‫غرور سببه غفلتهم عن قوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬الرياء الشرك الصغر" وقوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬الحسد يأكل الحسنات‬
‫كما تأكل النار الحطب" وقوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"‪ ،‬إلى غير‬
‫ب دسهليءم{ ]الشعراء‪ .[89 :‬فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم؛‬ ‫ذلك من الخبار‪ ،‬وغفلوا عن قوله تعالى‪} :‬إهلا دملن أددتى ا‬
‫اد هبدقلل ء‬
‫ومن ل يصغى قلبه ل تصح طاعته‪ ،‬وهو كمريض طهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلء وشرب الدددواء‪ ،‬فاشتغل بالطلء‬
‫وترك شرب الدواء‪ ،‬فأزال ما بظاهره ولم يزل ما بباطنه‪ ،‬وأصل ما على ظاهره مما في باطنه‪ ،‬فل يزال جربه يزداد أبلدا مما في‬
‫باطنه‪ ،‬فلو زال ما في باطنه استراح الظاهر؛ فكذلك الخبائاث إذا كانت كامنة في القلب يظهر أحدها على الجوارح‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( علموا هذة الخلق الباطنة وعلموا أنها مذمومة من جهة الشرع‪ ،‬إل أنهم لجل تعجبهم بأنفسهم يطنون أنهم‬
‫متفكون عنها‪ ،‬وأنهم أرفع عند ا من أن يبتليهم بذلك‪ ،‬وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم‪ ،‬فأما هم فهم أبلغ عند ا‬
‫من أن يبتليهم بذلك‪ ،‬وطهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة‪ ،‬وطلب العلو والشرف‪ ،‬وغرورهم أنهم ظنوا أن ذلك ليس بكبر وإنما‬
‫هو عز للدين وإظهار لشرف العلم ونصرة دين ا‪ ،‬وغفلوا عن فرح إبليس به‪ ،‬وعن نصرة النبي صلى ا عليه وسلم بما كانت‬
‫وبماذا أرغم الكافرين‪ ،‬وغفلوا عن تواضع الصحابة وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم‪ ،‬حتى عوتب عمر رضي ا عنه على بذاذته عند‬
‫قدوم الشام فقال‪ :‬إنا قوم أعزنا ا بالسلم ل نطلب العز في غيره‪.‬‬
‫ثم هذا الغرور يطلب عز الدين بالثياب الرفيعة‪ ،‬ويزعم انه يطلب عز العلم وشرف الدين‪ ،‬ومهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو‬
‫فيمن رد عليه شيلئاا من كلمه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ويقول‪ :‬إنما هو غضب للحق‪ ،‬ورد على المبطل في عداوته وظلمه‪ ،‬وهذا‬
‫مغرور‪ ،‬فغنه لو طعن على غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح‪ ،‬وإن أظهر الغضب عند الناس فقلبه ربما‬
‫يحبه‪ ،‬وربما يظهر العلم ويقول‪ :‬غرضي به أفيد الخلق؛ وهو به مراءء‪ ،‬لنه لو كان غرضه صلح الخلق لحب صلحهم على يد‬
‫غيره ممن هو مثله أو فوقه أو دونه‪.‬‬
‫ص ‪467‬‬
‫وربما يدخل على السلطين ويتودد إليهم ويثني عليهم‪ ،‬فإذا سئال عن ذلك قال‪ :‬إنما غرضي أن أنفع المسلمين وأدفع عنهم الضرر؛‬
‫وهو مغرور‪ ،‬فلو كان غرضه ذلك لفرح به إذا جرى على يد غيره‪ ،‬ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع في أحد لغضب‪.‬‬
‫وربما أخذ من أموالهم‪ ،‬فإذا خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان‪ :‬هذا مال بل مالك‪ ،‬وهو لمصالح المسلمين‪ ،‬وأنت إمام المسلمين‬
‫وعالمهم‪ ،‬وبك قوام الدين‪ .‬وهذة ثلث تلبيسات‪ :‬أحدهما أنه مال ل مالك له‪ ،‬والثاني أنه لمصالح المسلمين‪ ،‬والثالث أنه إمام؛ وهل‬
‫يكون إماما إل من اعرض عن الدنيا كالنبياء وكالصحابة وأفاضل علماء هذة المة؟ وثمله كما قال عيسى عليه السلم‪ :‬العالم‬
‫السوء كصخرة وقعت في فم الواديِ‪ ،‬فل هي تشرب الماء ول هي تترك الماء يخلص إلى الزرع‪.‬‬
‫وأصناف غرور أهل العلم كثيرة وما يفسد هؤلء أكثر مما يصلحونه‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( أحكموا العلوم‪ ،‬وطهروا الجوارح‪ ،‬وبينوها بالطاعات‪ ،‬واجتنبوا ظاهر المعاصي‪ ،‬وتفقدوا أخلق النفس وصفات‬
‫القلب من الرياء والحسد والكبر والحقد وطلب العلو‪ ،‬وجاهدوا أنفسهم في التبريِ منها‪ ،‬وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية؛‬
‫ولكنهم مغرورونإذ في زوايا القلب بقايا من مكايد الشيطانن وخبايا خدع النفس ما ذق وغمض‪ ،‬فلم يتفطنوا لها وأهملوها‪ .‬ومثلهم‬
‫كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش‪ ،‬فدار عليه وفتش عن كل حشيش فقلعه‪ ،‬إل أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت‬
‫الرض ويظن أن الكل قد ظهر وبرز‪ ،‬فلما غفل عنها ظهرت وافسدت عليه الزرع؛ فهؤلء إن غيروا تغيروا‪ ،‬وربما تركوا‬
‫مخالطة الخلق استكبارا عنهمن وربما نظروا إلى الخلق بعين الحقارة‪ ،‬وربما يجتهد البعض في تحسين منظره كيل ينظر إليه بعين‬
‫الركاكة‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( تركوا المهم من العلوم‪ ،‬واقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات‘ ةتفاصيل المعاملت الدنيوية‬
‫الجارية بين الخلق لمصالح المعايش‪ ،‬وخصصوا إسم الفقيه وسموه الفقه وعلم المذهب‪ ،‬وربما ضيعوا مع ذلك علم العمال‬
‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬لم يتفقدوا الجوارح‪ ،‬ولم يحرسوا اللسان عن الغيبة‪ ،‬والبطن عن الحرام‪ ،‬والرجل عن السعي إلى السلطين‪،‬‬
‫وكذا سائار الجوارح‪ ،‬ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد وسائار المهلكات‪.‬‬
‫وهؤلء مغرورين من وجهين‪:‬‬
‫أخدهما‪ :‬من حيث العلم؛ وقد ذكرنا وجه علجه في كتاب الحياء‪ ،‬وأن مثلهم كمثل المريض الذيِ تعلم الداء من الحكماء ولم يعلمه‬
‫أو يعمله‪ ،‬فهؤلء مشرفون على الهلك من حيث إنهم تركوا تزكية أنفسم وتخليها‪ ،‬واشتغلوا بكتاب الحيض والديات واللعان‬
‫والظهارن وضيعوا أعمارهم فيها‪ .‬وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم‪ ،‬ورجوع أحدهم قاضليا ومفتليا؛ ويطعن كل واحد منهم‬
‫في صاحبه‪ ،‬فإذا اجتمعوا زال الطعن‪.‬‬
‫ص ‪468‬‬
‫والثاني‪ :‬من حيث العلم؛ وذلك لظنهم أنه ل علم إل بذلك وأنه الموصل المنجي‪ ،‬وإنما الموصل المنجي حب ا تعالى؛ ول يتصور‬
‫حب ا تعالى إل بمعرفته؛ ومعرفته ثلث‪ :‬معرفة الذات‪ ،‬ومعرفة الصفات‪ ،‬ومعرفة الفعال‪ .‬وهؤلء مثل من اقتصر على بيع‬
‫الزاد في طريق الحاج ولم يعلموا أن الفقه هو الفقه عن ا‪ ،‬ومعرفة صفاته المخوفة والمزجرة‪ ،‬ليستشعر القلب الخوف‪ ،‬ويلزم‬
‫التقويِ‪ ،‬كما قال تعالى‪} :‬فلول نفر من كل فرقة منهم طائافة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون{‬
‫]التوبة‪.[122 :‬‬
‫ومن هؤلء من اقتصر من علم الفقه على الخلفيات‪ ،‬ول يهمه إل تعلم طريق المجادلة واللزام وإفحام الخصم ودفع الحق لجل‬
‫الغلبة والمباهاة‪ ،‬فهو طول الليل والنهار في التفتيش في مناقضات أرباب المذاهب‪ ،‬والتفقد لعيوب القران‪ ،‬وهؤلء لم يقصدوا‬
‫العلم وإنما قصدوا مباهاة القران‪ ،‬ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيلرا لهم من علم ل ينفع إل في الدنيا والتكبر‪ ،‬وذلك ينقلب في‬
‫الخرة نالرا تلظى‪.‬‬
‫وأما أدلة المذهب فيشمل عليها كتاب ا وسنة رسول ا صلى ا عليه وسلم فما أقبح غرور هؤلء!‬
‫)وفرقة أخرى( اشتغلوا بعلم الكلم والمجادلة‪ ،‬والرد على المخالفين وتتبع متناقضاتهم‪ ،‬واستكثروا من علم المقولت المختلفة‪،‬‬
‫واشتغل بتعليم الطريق في مناظرة هؤلء وافحامهم‪ ،‬ولكنهم على فرقتين‪ :‬إحداهما ضالة مضلة والخرى محقة‪ ،‬أما غرور الفرقة‬
‫ضا؛ وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا‬ ‫الضلة فلغفلتها على ضلضلتها وظنها بنفسها النجاة‪ ،‬وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بع ل‬
‫لشروط الدلة ومنهاجها‪ ،‬فرأوا الشبهة دليلل والدليل شبهة‪ .‬وأما غرور الفرقة المحقة فمن حيث إنهم ظنوا الجدل أنه أهم المور‬
‫وأفضل القربات في دين ا‪ ،‬وزعموا أنه ل يتم لحد دينه ما لم يبحث‪ ،‬وأن من صدق ا من غير بحث وتحرير لدليل فليس‬
‫بمؤمن ول بكامل ول بمقرب عند ا تعالى‪ .‬ولم يلتفتوا إلى القرن الول‪ ،‬وأن النبي صلى ا عهليه وسلم شهد لهم بأنهم خير‬
‫الخلق ولم يطلب منهم الدليل‪ .‬وروى أبةا أمامة الباهلي رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال‪" :‬ما ضل قوم قط إل‬
‫أوتوا الجدل"‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( اشتغلوا بالوعظ‪ ،‬وإعلء رتبة من يتكلم في أخلق النفس وصفات القلب‪ ،‬من الخوف واالرجاء والصبر والشكر‬
‫والتوكل والزهد واليقين والخلص والصدق‪ .‬وهم مغرورن لنهم لنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذة الصفات ودعوا الخلق إليها‬
‫فقد اتصفوا بها‪ ،‬وهم منفكون عنها إل من قدر يسير ل ينفك عنه عوام المسلمين‪ .‬وغرور هؤلء أشد الغرور‪ ،‬لنهم يعجبون‬
‫بأنفسهم غاية العجاب‪ ،‬ويظنون أنهم ما يبحروا في علم المحبة إل وهم الناجين عند ا‪ ،‬وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلم الزهاد‬
‫مع خلوهم من العمل‪.‬‬
‫وهؤلء أشد غرولرا ممن كان قبلهم‪ ،‬لنهم يظنون أنهم يحببون في ا ورسله‪ ،‬وما قدروا على تحقيق دقائاق الخلص إل وهو‬
‫مخلصون‪ ،‬ول وقفوا على حفايا عيوب النفس إل وهم عنها منزهون‪ ،‬وكذلك جميع الصفات‪ ،‬وهم أحب في الدنيا من كل أحد‪،‬‬
‫ص ‪469‬‬

‫ويظهرون الزهد فى الدنيا لشدة حرصهم عليها وقوة رغبتهم فيها‪ ،‬ويحثون على الخلص وهم غير مخلصين‪ ،‬ويظهرون الدعاء‬
‫الى ا وهم منه فارون‪ ،‬ويخوفون بال وهم منه آمنون‪ ،‬ويذكرون بال وهم ناسون‪ ،‬ويقربون الى ا وهم عنه متباعدون‪ ،‬ويذمون‬
‫الصفات المذمومة وهم بها متصفون‪ ،‬ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا‪ ،‬لو منعوا عن مجالسهم التى‬
‫يدعون فيها الناس الى ا لضاقت عليهم الرض بما رحبت ‪.‬‬
‫ويزعمون ان غرضهم إصلح الخلق‪ ،‬ولو ظهر من أقران أحدهم من أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا‪،‬‬
‫ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق ا إليه ‪ .‬فهؤلء أعظم غرورا‪،‬وأبعد عن التنبيه والرجوع‬
‫إلى السداد ‪.‬‬
‫وفرقة اخرى عدلوا عن المهم الواجب فى الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إل من عصمه ا‪ ،‬فاشتغلوا بالطاعات والشطح‬
‫وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للغراق ‪ .‬وطائافة اشتغلوا بتيارات النكت وتسجيع اللفاظ وتلفيقها‪ ،‬وأكثر‬
‫همهم فى السجاع والستشهاد بأشعار الوصال والفراق ‪ .‬وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض‬
‫فاسدة ‪ .‬فهؤلء شياطين النس ضلوا وأضلوا‪ ،‬فإن الولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلمهم ووعظهم‪،‬‬
‫وأما هؤلء فإنهم يصدون عن سبيل ا‪ ،‬ويجرون الخلق إلى الغراض والغرور بال بلفظ الخرافة‪ ،‬وجرأة على المعاصى ورغبة‬
‫فى الدنيا‪ ،‬لسيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيلء والمرائاى‪ ،‬ويعظهم بالقنوط من رحمة ا حتى ييأسوا من رحمته ‪.‬‬
‫وفرقه أخرى منهم قنعوا بكلم الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا‪ ،‬فيعيدونها على نحو ما يحفظون من كلم من حفظوه من غير إحاطة‬
‫بمعانيه‪ ،‬فيعظهم الواحد منهم بذلك على المنابر‪ ،‬وبعضهم يعظون الناس فى السواق مع الجلساء‪ ،‬ويظن أنه تاج عند ا وأنه‬
‫مغفور له بحفظه كلم الزهاد مع خلوه من العمل ‪ .‬وهؤلء أشد غرورا ممن كان قبلهم‬
‫وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم فى علم الحديث‪ ،‬أعنى فى سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه‪ ،‬وطلب السانيد الغريبة العالية ‪.‬‬
‫فهم أحدهم أن يدور فى البلد ويروى عن الشيوخ ليقول ‪ :‬أنا أروى عن فلن‪ ،‬ولقيت فلنا‪ ،‬ومعى من السانيد ماليسمع غيرى ‪.‬‬
‫وغرورهم من وجوه ‪ :‬منها أنهم كحملة السفار‪ ،‬فإنهم ليصرفون العناية إلى فهم السنة وتدبر معانيها‪ ،‬وإنما هم مقتصرون على‬
‫النقل‪ ،‬ويظنون أن ذلك يكفيهم‪،‬وهيهات بل المقصود من الحديث فهمه وتدبر معانيه‪ ،‬فالول فى الحديث السماع ثم الحفظ ثم الفهم‬
‫ثم العمل ثم النشر‪ ،‬وهؤلء اقتصرواعلى السماع ثم لم يحكموه‪ ،‬وإن كان ل فائادة فى القتصار عليه والحديث فى هذا الزمان يقرأه‬
‫الصبيان‪ ،‬وهم غرة غافلون‪ ،‬والشيخ الذى يقرأ عليه ربما يكون غافل حتى يصحف الحديث ول يعلم‪ ،‬وربما ينام ويروى عنه‬
‫الحديث وهو‬
‫ص ‪470‬‬
‫ل يعلم وكل ذلك مغرور وإنما الصل فى استماع الحديث أن يسمعه من رسول ا صلى ا عليه وسلم فيحفظه كما سمعه ويؤديه‬
‫كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع فإن عجز عن سماعه من رسول ا صلى ا عليه وسلم سمعه من‬
‫الصحابة أو من التابعين فيصير سماعه منهم كسماعه من رسول ا صلى ا عليه وسلم وهو أن يصغى ويحفظ ويرويه كما‬
‫حفظه حتى ل يشك فى حرف واحد منه وإن شك فإنه لم يجز له أن يرويه أو يعلم به ويخطئ به إن أخطأ‬
‫وحفظ الحديث يكون بطريقتين‪ :‬أحدهما بالقلب مع الستدامة والذكر والثانى يكتب ما يسمع ويصحح المكتوب ويحفظه كيل تصل‬
‫اليه يد من يغيره ويكون حفظه للكتاب أن يكون فى خزانته محروسا حتى ل تمتد اليه يد غيره أصل ول يجوز أن يكتب سماع‬
‫الصبى والغافل والنائام ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الصبى فى المهد‪.‬‬
‫وللسماع شروط كثيرة والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته وله مفهومات كثيرة كما للقرآن وروى عن أبى سفيان ابن أبى‬
‫الخير المنهى أنه حضر فى مجلس زاهر بن أحمد الرخسى فكان أول حديث روى قوله صلى ا عليه وسلم‪" :‬من حسن إسلم‬
‫المرء تركه مال يعنيه"‬
‫فقام وقال‪ :‬يكفينى هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره‪ .‬فهكذا هو سماع الناس‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء المة إذ‬
‫قوام الدين والسنة بعلم النحو واللغة فأفنوا أعمارهم فى دقائاق النحو واللغة وذلك غرور عظيم فلو عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة‬
‫الترك والمضيع عمره فى لغة العرب كالمضيع عمره فى لغة الترك والهند وغيرهم وإنما فارقهم من أجل ورود الشرع وكفى من‬
‫اللغة علم الغريب فى الكتاب والسنة ومن النحو ما يتعلق بالكتاب والسنة وأما التعمق فيه الى درجة التناهى فهو فضول مستغنى‬
‫عنه وصاحبه مغرور‬
‫الصنف الثانى من المغرورين أصحاب العبادات والعمال‬
‫والمغرورون منهم فرق كثيرة‪:‬‬
‫منهم غروره فى الصلة‪.‬‬
‫منهم غروره فى تلوة القرآن‬
‫منهم غروره فى الحج‪.‬‬
‫منهم غروره فى الجهاد‪.‬‬
‫منهم غروره فى الزهد‪.‬‬
‫)ومنهم فرقة(أهملوا الفرائاض واشتغلوا بالنوافل وربما تعمقوا فيها حتى يخرجوا الى السرف والعدوان كالذى تغلب عليه الوسوسة‬
‫فى الوضوء فيبالغ ول يرتضى الماء المحكوم بطاهرته فى الشرع ويقدر الحتمالت البعيدة قريبة فى النجاسة وإذ آل المر‬
‫ص ‪471‬‬
‫الى أكل الحرام قدر الحتمالت القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض ولو انقلب هذا الحتياط من الماء الى الطعام لكانأولى‬
‫بدليل سير الصحابة رضى ا عنهم فقد توضأ عمر رضى ا عنه بماء فى جرة نصرانية مع احتمال ظهور المجاسة وكان مع‬
‫هذا يدع أبوابا من الحلل خوفا من الوقوع فى الحرام‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( غلبت عليهم الوسوسةفى نية الصلة فل يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة‬
‫وربما أخرج الصلة عن الوقت وإن أتم تكبيرة الحرام يكون فى قلبه تردد فى صحة نيته وقد يتوسوس فى التكبير حتى يغير فى‬
‫صفة التكبير لشدة الحتياط ويفوته الستماع للفاتحة ويفعل ذلك فى أول الصلة ثم يغفل فى جميعها ول يحضر قلبه ويغتر بذلك‬
‫ولم يعلم أن حضور القلب فى الصلة هو الواجب وإنما غره إبليس وزين له ذلك وقال له‪ :‬ذلك الحتياط تتميز بع عن العوام وأنت‬
‫على خير عند ربك‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( غلبت عليهم الوسوسة فى إخراج حروف الفاتحة من مخارجها وكذلك سائار الذكار فل يزال يحتاط فى التشديدات‬
‫والفرق بين الضاد والظاء ل يهمه غير ذلك ول يتفكر فى أسرار فاتحة الكتاب ول فى معانيها ولم يعلم أنه لم يكلف الخالق فى‬
‫تلوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إل بما جرت به عادتهم فى الكلم وهذا غرور عظيم ومثلهم من حمل رسالة الى مجلس‬
‫السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها فأخذ يؤدى الرسالة ويتأنق فى مخارج الحروف ويعيدها مرة بعد مرة وهو مع ذلك غافل عن‬
‫مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فهذا ل شك أنه تقام عليه السياسة ويرد الى دار المجانين ويحكم عليه بفقد عقله‪.‬‬
‫)فرقة أخرى( اغتروا بتلوة القرآن فيهدروا به هدرا ربما يختمون فى اليوم و الليلةختمة وألسنتهم تجرى به وقلوبهم تتردد فى‬
‫أودية المانى والتفكر فى الدنيا ول تتفكر فى معانى القرآن لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر‬
‫بمواضع العتبار منه ويتلذذ به من حيث المعنى ل من حيث النظم فمن قرأ كتاب ا فى اليوم والليلة مائاة مرة ثم ترك أوامره‬
‫ونواهيه يستحق العقوبة وربما كان له صوت طيب فهو يقرأ ويتلذذ به ويغتر باستلذاذه ويظن أن ذلك لذة مناجاة ا سبحانه وسماع‬
‫كلمه وهيهات ما أبعده إذ لذته فى صوته فلو أدرك لذة كلم ا ما نظر الى صوته وطيبه ول تعلق خاطره به ولذة كلم ا إنما‬
‫هى من حيث المعنى فهو فى غرور عظيم‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر وصاموا اليام الشريفة وهم فى ذلك ل يحفظون ألسنتهم عن الغيبة ول‬
‫خواطرهم عن الرياء ول بطونهم عن الحرام عند الفطار ول من الهذيان بأنواع الفضول فهؤلء تركوا الواجب واتبعوا المندوب‬
‫وظنوا أنهم يسلمون وهيهات إنما يسلم من أتى ا بقلب سليم فهم مغرورون أشد الغرور‪.‬‬
‫ص ‪472‬‬
‫)وفرقة أخرى( اغتروا بالحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلل وربما ضيعوا‬
‫الصلة المكتوبة فى الطريق وربما عجزوا عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة حتى يؤخذ منه ول يحترزون‬
‫الطريق من الرفث والخصام وربما جمع بعضهم الحرام فأنفقه على الرفقاء فى الطريق وهو يطلب به الرياء والسمعة فيعصى ا‬
‫فى كسب الحرام أول وفى انفاقه للرياء ثانيا ثم يبلغ الى الكعبة ويحضرها بقلب ملوث برذائال الخلق وذميم الصفات وهو مع ذلك‬
‫يظن أنه على خير من ربه وهو مغرور‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( أخذت فى طريق الخشية والمر بالمعروف والنهى عن المنكر و ينكر أحدهم الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه‬
‫وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر منكرا وأنكره عليه أحد غضب وقال‪ :‬انا المحتسب فكيف تنكر على وقد‬
‫يجمع الناس فى المسجد ومن تأخر عنه أغلظ عليه فى القول وربما عرض له الرياء والسمعة والرياسة وعلمته أنه لو قام‬
‫بالمسجد غيره تجرأ عليه ومنهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن ل ولو جاء غيره وأذن فى وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال‪ :‬لم أخذ‬
‫حقى وزوحمت ومنهم من يتقيد امام مسجد يظن أنه خير وغرضه أن يقال إنه إمام مسجد كذا وكذا وعلمته أنه لو قدم غيره وإن‬
‫كان أورع منه وأعلم ثقل عليه ذلك‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهما و لم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا ظواهرهم وبطونهم وربما كانت قلوبهم‬
‫متعلقة ببلدهم ومنازلهم وتراهم يتحدثون بذلك ويقولون جاورت بمكة كذا وكذا سنة وهذا مغرور لن القوم له أن يكون فى بلده‬
‫وقلبه متعلق بمكة وإن جاور فليحفظ حق الجوار فإن جاور بمكة حفظ حق ا وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبى صلى ا عليه‬
‫وسلم ومن يقدر على ذلك وهؤلء مغرورون بالظواهر فظنوا أن الحيطان تنجيهم وهيهات وربما لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها‬
‫على فقير وما أصعب المجاورة فى حق الخلق فكيف مجاورة الخالق وما أحسن مجاورته بحفظ جوارحه وقلبه‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( زهدت فى المال وقنعت من الطعام واللباس بالدون ومن المسكن بالمساجد و ظنوا أنهم أدركوا رتبة الزهاد ومع‬
‫ذلك راغبون فى الرياسة والجاه والرياسة إنما تحصل بأحد أشياء‪ :‬إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد تركوا أهون المرين‬
‫وبادروا إلى أعظم المهلكات لن الجاه أعظم من المال ولو ترك أحدهم الجاه وأخذ المال كان إلى السلم أقرب؟‬
‫وهؤلء مغرورون ظنوا أنهم من الزهاد فى الدنيا وهم لم يعلموا معنى الدنيا وربما يقدم الغنياء على الفقراء ومنهم من يعجب‬
‫بعلمه ومنهم من يؤثر الخلوة والعزلة وهو عن شروطها خال ومنهم من يعطى المال فل يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده وهو‬
‫راغب فى المال والناس خائاف من ذمهم ومنهم من شدد على نفسه فى أعمال الجوارح حتى يصلى فى‬
‫ص ‪473‬‬
‫اليوم والليلة مثل ألف ركعة ويختم القرآن وهو فى جميع ذلك ل تخطر له مراعاة القلب وتفقده من الرياء و الكبر والعجب وسائار‬
‫المهلكات وربما يظن أن العبادات الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات وهيهات ذرة من ذى تقوى وخلق واحد من خلق الكياس‬
‫أفضل من أمثال الجبال عمل بالجوارح ثم قد يغتر بقول من يقول له‪ :‬إنك من أوتاد الرض أو من أولياء ا وأحبابه فيفرح بذلك‬
‫ويظهر له تزكية نفسه ولو شوتم يوما واحدا مرتين أو ثلثا لكفر وجاهد من فعل ذلك وربما قال لمن سبه ل يغفر ا لك أبدا‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائاض فترى أحدهم يفرح بصلة الضحى وصلة الليل وأمثال هذه‬
‫النوافل ول يجد لصلة الفرض لذة ول خيرا من ا تعالى لشدة حرصه على المبادرة بها فى أول الوقت وينسى قوله صلى ا‬
‫عليه وسلم‪" :‬ما تقرب المتقربون بأفضل من أداء ما افترضه ا عليهم"‪.‬‬
‫وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور بل قد يتعين على النسان فرضان‪ :‬أحدهما يفوت ولأخر ل يفوت أو نفلن أحدهما‬
‫يضيق وقته والخر يتسع وقته فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا ونظائار ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة وإنما‬
‫الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائاض كلها على النوافل وتقديم فروض العيان على فروض الكفايات التى ل‬
‫قائام بها على ما قام بها غيره وتقديم الهم من فروض العيان على من دونه وتقديم مايفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد‬
‫وتقديم نفقة الوالدين على الحج وتقديم الجمعة لذا حضر وقتها على العيد وتقديم الدين على فروض غيره وما أعظم العبد أن ينفذ‬
‫ذلك ويتنبه ولكن الغرور فى الترتيب دقيق حفى ل يقدر عليه إل العلماء الراسخون فى العلم‪.‬‬
‫الصنف الثالث من المغرورين أرباب الموال‬
‫وهم فرق كثيرة‪:‬‬
‫)فرقة منهم( يحرصون على بناء المساجد والمدارسو الرباطات والقناطر والصهاريج للماء وما يظهر للناس ويكتبون أسماءهم‬
‫بالجر عليه ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون أنهن استحقوا المغفرة بذلك وقد اغتروا فيه من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنهم اكتسبوا من الظلم والشبهات والرشا والجاهات المحظورة فهؤلء قد تعرضوا لسخط ا فى كسبها فإذا عصوا ا فى‬
‫كسبها فالواجب عليهم التوبة ورد الموال الى أهلها إن كانوا أحياء والى ورثتهم ان لم يبق منهم أحد وانقرضوا وان لم يبق لهم‬
‫ورثة فالواجب عليهم أن يصرفوها فى أهم المصالح وربما يكون الهم التفرقة على المساكين فأى فائادة فى بنيان يستغنى عنه‬
‫ويموت بتركه وإنما غلب على هؤلء الرياء والشهرة ولذة الذكر‪.‬‬
‫ص ‪474‬‬
‫والوجه الثانى‪ :‬أنهم يظنون بأنفسهم الخلص وقصد الخير فى النفاق وعلو البنية ولو كلف واحد منهم أن ينفق دينارا على‬
‫مسكين لم تسمح نفسه بذلك لن حب المدح والثناء مستكين فى باطنه‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( ربما اكتسبوا المال الحلل واجتنبوا الحرام وأنفقوا على المساجد وهم أيضا مغرورون من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪:‬الرياء وطلب السمعة والثناء فإنه ربما يكون فى جواره وبلده فقراء وصرف المال اليهم أهم فإن المساجد كثيرة والغرض‬
‫منها الجامع وحده فيجزئ عن غيره وليس الغرض بناء مسجد فى كل سكة وكل درب والمساكين والفقراء محتاجون وإنما عليهم‬
‫دفع المال فى بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس ول يسمع فى الثناء عليه من عند الخلق فيظنأنه يعمل ل وهو يعمل لغير ا‬
‫)ونيته أعلم بذلك وإنما نيته عليه غضب وقال إنما قصدت ا عز وجل(‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه يصرف فى زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهى عنها الشاغلة قلوب المصلين لنهم ينظرون اليها فتشغلهم عن‬
‫الخضوع فى الصلة عن حضور القلب وهو المقصود فى الصلة فكل ما طرأ فى صلتهم وفى غير صلتهم فهو فى ميزان الذى‬
‫بناه إذ ل يحل تزيين المسجد بوجه قال الحسين رضى ا عنه‪ :‬لما أراد رسول ا صلى ا عليه وسلم أن يبنى مسجده بالمدينة‬
‫أتاه جبريل وقال‪ :‬ابنه سبعة أذرع طول فى السماء فل تزخرفه ول تنقشه فهؤلء رأوا المنكر معروفا واتكلوا عليه فهم مغرورون‬
‫فى ذلك‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( ينفقون الموال فى الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشكر‬
‫وإفشاء المعروف فيكرهون التصدق فى السر ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم خيانة عليهم وكفرانا للمعروف وربما تركوا‬
‫جيرانهم جائاعين ولذلك قال ابن عباس رضى ا عنه‪ :‬فى أخر الزمان يكثر الحاج بل سبب يهوى السفر ويبسط لهم فى الرزق‬
‫ويرجعون مجرمين يهوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال وجاره مأثور الى جنبه فل يواسيه ول يتفقده‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( من أرباب المول يحتفظون بالموال ويمسكونها بحكم البخل ويشتغلون بالعبادة البدنية التى ل يحتاجون فيها الى‬
‫نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن وهم مغرورون لن البخل المهلك قد استولى على بطونهم فهم محتاجون الى قمعه‬
‫بإخراج المال فاشتغلوا بطلب فضائال وهم مشتغلون عنها ومثلهم كمثل من دخلت فى ثوبه حية وقد أشرف على الهلك فاشتغل‬
‫بطلب السكنجبين ليسكن به الصفراء ومن لدغته الحية كيف يحتاج الى ذلك وقيل لبشر الحافى‪ :‬إن فلنا كثير الصوم و الصلة‬
‫فقال‪ :‬المسكين ترك حاله ودخل فى حال غيره إنما حال هذا إطعام الطعام للجائاع والنفاق على المساكين فهو أفضل له من تجويع‬
‫نفسه ومن صلته مع جمعه الدنيا ومنعه الفقراء‪.‬‬
‫ص ‪475‬‬
‫)وفرقة أخرى( غلب عليها البخل فل تسمح نفوسهم إل بأداء الزكاة فقط ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الردئ الذى يرغبون‬
‫عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد فى حوائاجهم أو من يحتاجون اليه فى المستقبل للستئاجار له فى الخدمة ومن لهم فيه‬
‫على الجملة غرض ويسلمونها الى شخص بعينه واحد من الكبار ممن يستظهر بخشيته لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجته وكل‬
‫ذلك مفسد للنية ومحبط للعمل وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع ل وهو فاجر إذ يطلب بعبادة ا غرضا من غيره فهذا وأمثاله‬
‫مغرورون بالموال‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( من عوام الخلق أرباب الموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم فاتخذوا‬
‫ذلك عادة ويظنون أن لهم أجرا على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون التعاظ فهم مغرورون لن فضل مجالس الذكر إنما‬
‫يحصل لكونها مرغبة فى الخير فإن لم تهيج الرغبة فل خير فيها والرغبة محمودة لنها تبعث على العمل فإن لم تبعث على العمل‬
‫فل خير فيها وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ وربما تداخله رقة كرقة النساء فيبكى وربما يسمع كلما مخوفا فل يزال يصفر بين‬
‫يديه ويقول يا سل سلم ونعوذ بال و حسبى ا ول حول ول قوة ال بال ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور وإنما مثله كمثل‬
‫المريض الذى يحضر مجالس الطباء ويسمع ما يصفونه من الدوية ول يفعلها ول يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك وكذلك‬
‫الجائاع الذى يحضر عند من يصف الطعمة اللذيذة فكل وعظ ل يغير منك صفة تغييرا تتغير به أفعالك حتى تقبل ا عزوجل‬
‫وتعرض عن الدنيا وتقبل اقبال قويا وإن لم تفعل بذلك الوعظ كان زيادة حجة عليك فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا‪.‬‬
‫الصنف الرابع من المغروروين المتصوفة‬
‫وما أغلب الغرور على هؤلء وما المتصوفة ال من أهل هذا الزمن ال من عصمه ا اغتروا بالزى والمنطق والهيئاة فشابهوا‬
‫الصادقين من الصوفية فى زيهم وهيئاتهم وألفاظهم وأجابهم ومراسمهم واصطلحتهم وأحوالهم الظاهرة فى السماع والرقص‬
‫والطهارة والصلة والجلوس على السجادة مع إطراق الرأس وإدخاله فى الجيب كالمتفكر مع تنفيس الصعداء وفى خفض الصوت‬
‫من الحديث وفى الصياح الى غير ذلك فلما تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك ينجيهم فلم يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة والرياضة والمراقبة‬
‫للقلب وتطهير الباطن والظاهر من الثام الجلية والخفية وكل ذلك من منازل التصوف ثم إنهم يتكالبون على الحرام والشبهات‬
‫وأموال السلطين ويتنافسون فى الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما‬
‫خالفه فى شئ من غرضه‪.‬‬
‫ص ‪476‬‬
‫فهؤلء غرورهم ظاهر فمثلهم كمثل العجوزسمعت أن الشجعان والبطال والمقاتلين ثبتت أسماؤهم فى الديوان فتزينت بزيهم‬
‫ووصلت الى الملك فعرضت على ميزان العرض فوجدت عجوز سوء فقيل لها أما تستحى فى استهزائاك بالملك اطرحوها حول‬
‫الفيل فطرحت حول الفيل فركضها فقتلها‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( زادت على هؤلء فى الغرور إذ صعب عليها القتداء فى بذالة الثياب والرضا بالدون فى المطعم والمنكح‬
‫والمسكن وأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بدا من التزيى بزيهم فتركت الخز والبريسم وطلبت المرقعات النفيسة والفوط‬
‫الرفيعة والسجادات المصوغات وقيمتها أكثر من قيمة الخز والبريسم ول يجتنبون معصية ظاهرة فكيف بالباطنة وإنما غرضهم‬
‫رغد العيش وأكل أموال السلطين وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وضرر هؤلء على المسلمين أشد من ضرر اللصوص‬
‫لنهم هؤلء يسرقون القلوب بالزى فيقتدى بهم غيرهم فيكونون سبب هلكهم فإن اطلع على فضائاحهم فيظنون أن أهل التصوف‬
‫كذلك فيصرخون بذم الصوفية على الطلق‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( ادعت علم المكاشفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والوصل والملزمة فى عين الشهود والوصول الى القرب‬
‫ول يعرف ذلك والوصول اليه ال باللفظ والسم فتلقف من اللفاظ الطامة كلمات فهو يرددها وهو يظن أن ذلك من أعلى علم‬
‫الولين والخرين فهو ينظر الى الفقهاء والمقرئاين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الزدراء فضل عن العوام حتى إن الفلح‬
‫ليترك فلحته والحائاك حياكته ويلزمهم أياما معدودة فيتلقف تلك الكلمات الزائافة فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحى ويخبر عن‬
‫أسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول فى العباد‪ :‬أجراء متعبون ويقول فى العلماء‪ :‬إنهم بالحديث محجوبون ويدعى‬
‫لنفسه أنه الواصل الى الحق وأنه من المقربين وهو عند ا من الفجار المنافقين وعند أرباب القلوب من الحمقاء الجاهلين لم يحكم‬
‫قط علما ولم يهذب خلقا ولم يرتب علما ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان ولو اشتغل بما ينفعه كان أحسن له‪.‬‬
‫)فرقة أخرى( جاوزت هؤلء فأحسنت العمال وطلبت الحلل واشتغلت بتفقد القلب وصار أحدهم يدعى المقامات من الزهد‬
‫والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلمتها وآفاتها فمنهم من يدعى الوجد ويحب ا‬
‫ويزعم أنه واله بال ولعله قد يخيل بال خيالت فاسدة هى بدعة أو كفر فيدعى حب ا قبل معرفته وذلك ل يتصور قط ثم إنه ل‬
‫يخلو قط مايفارقه ما يكرهه ا وإيثار هوى النفس على أوامر ا وعن ترك بعض المور حياء من الخلق ولو خل بنفسه لما‬
‫تركها حياء من ا وليس يدرى أن كل ذلك يناقض الحب وبعضهم يميل الى القناعة والتوكل فيخوض البوادى من غير زاد‬
‫ليصحح التوكل وليس يدرى أن ذلك بدعة لم‬
‫ص ‪477‬‬
‫تنقل عن الصحابة وسلف هذه المة وكانةا أعلم بالتوكل منه مافهموا التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد‬
‫وهم متوكلون على ا ل على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سب من السباب واثق به‪.‬‬
‫وما مقام من المنجيات المنجية ال وفيع غرور وقد اغتر بها قوم وقد ذكرنا مداخل الفات فيها فى ربع المنجيات من كتاب الحياء‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( ضيقت على أنفسها أمر القوت حتى طلبت منه الحلل الخالص وأهملت تفقد القلب والجوارج من غير هذه‬
‫الخصلة الواحدة‪.‬‬
‫ومنهم من استعمل الحلل فى مطعمه وملبسه ومكسبه ويتعمق فى ذلك ولم يدر أن ا لم يرض من العباد إل الكمال فى الطاعات‬
‫فمن اتبع البعض واهمل البعض فهو مغرور‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة فقصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا فوما وتكلفوا خدمتهم واتخذوا ذلك شبكة‬
‫لحطام الدنيا وجمعا للمال وإنما غرضهم التكثير والتكبير وهم يظهرون الخدمة والتواضع ويطلبون أن غرضهم الرتفاق‬
‫وغرضهم الستتباع ويظهرون أن غرضهم الخدمة وهم يجمعون الحرام والشبهات لينفقوا عليهم فتكثر أتباعهم وينتشر بتلك‬
‫الخدمة ذكرهم ومنهم من يأخذ من أموال السلطين وينفق عليهم ومنهم من يأخذ من أموال السلطين والظلمة لينفق ذلك بطريق‬
‫الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والنفاق والباعث للجميع إنما هو الرياء والسمعة وذلك إهمالهم لجميع أوامر ا‬
‫ورضاهم بأخذ الحرام والنفاق منه مومثال الذى ينفق المال الحرام فى طريق الحج كمن يعمر مسجدا ويطينه بالعذرة وغيرها من‬
‫النجاسات ويزعم أن قصده العمارة‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الخلق وتطهير النفس من عيوبها فصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب‬
‫النفس ومعرفة خدعها علما وحرفة لهم فهم فى جميع أحوالهم مشتغلون بالتحفظ من عيوب النفس باستنباط دقيق الكلم فى آفاتها‬
‫فيقولون هذا فى النفس عيب والغفلة عن كونه عيبا عيب ويستعفون فيه بكلمات مسلسلة فضيعوا فى ذلك أوقاتهم لنهم وقعوا مع‬
‫أنفسهم ولم يتعلقوا بخالقهم ومثلهم من اشتغل بأوقات الحج وعوائاقه ولم يسلك طريق الحج وذلك ل يغنيه عن الحج فهو مغرور‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( جاوزت هذه المرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتحت لهم أبواب المعرفة فلما شموا من مبادئ المعرفة رائاحة‬
‫تعجبوا منها وفرحوا بها أعجبتهم غرائابها فتعلقت قلوبهم باللتفات اليها والتفكر فيها وفى كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على‬
‫غيرهم وذلك غرور لن عجائاب طريق ا ليس له نهاية فمن وقف مع كل أعجوبة‬
‫ص ‪478‬‬
‫وتقيد قصرت خطاه وحرم الوصول الى المقصد ومثال ذلك من قدم على ملك فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار‬
‫ولم يكن قد رآها قبل ذلك ول رأى مثلها فوقف ينظر اليها حتى فاته الوقت الذى يكون فيه لقاء الملك فانصرف خائابا‪.‬‬
‫)وفرقة أخرى( جاوزت هؤلء ولم تلتفت الى ما يفيض عليها من النوار فى الطريق ول الى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم‬
‫يلتفتوا اليها ول عرجوا عليها بل أخذوا جادين فى السير فلما قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلوا فوقفوا ولم يتعدوا ذلك فغلطوا فإن‬
‫ل سبحانه وتعالى سبعين حجابا من ونور وظلمة ول يصل السالك الى حجاب من تلك الحجب ال ويظن أنه قد وصل واليه‬
‫الشارة بقوله إخبارا عن إبراهيم عليه السلم " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال ل أحب الفلين"]النعام‪:‬‬
‫‪.[76‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫سر العالمين وكشف ما فى الدارين‬
‫خطبة الكتاب‬
‫الحمدل الول فى ربوبيته والقديم فى أزليته والحكيم فى سلطنته والكريم فى عزنته ل شبيه له فى ذاته وصنعته ول نظير له فى‬
‫مملكته صانع كل شئ مصنوع بقدرته المتكلم بكلمه الزلى ليس بخارج من صفته أحمده على نعمته وأستعين به على دفع نقمته‬
‫هو ا ربى وحده ل شريك له الواحد فى ربوبيته الذى يختص من يشاء برحمته ختم النبياء بمحمد صلى ا عليه وسلم وعلى آله‬
‫وعترته‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فما رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة وسألنى جماعة من ملوك الرض أن أضع لهم كتابا‬
‫معدوم المثل لنيل مقاصدهم واقتناص الممالك وما يعينهم على ذلك استخرت ا فوضعت لهم كتابا وسميته بكتاب " سر العالمين‬
‫وكشف ما فى الدارين" وبوبته أبوابا ومقالت وأحزابا وذكرت فيه مراتب صوابا وجعلته دال على طلب المملكة وحاثا عليها‬
‫وواضعا لتحصيلها أساسا جامعا لمعانيها وذكرت كيفية ترتيبها وتدبيرها فهو يصلح للعالم الزاهد وشريك شرك المالك بتطيب‬
‫قلوب الجند وجذبهم اليه بالمواعظ فأول من استحسنه وقرأه على بالمدرسة النظامية سرا من الناس فى النوبة الثانية بعد رجوعى‬
‫من السفر رجل من أرض المغرب يقال له محمد بن تومرت من أهل سلمية وتوسمت منه الملك وهو كتاب عزيز ل يجوز بذله‬
‫لنه تحته أسرارا تفتقر الى كشف إذ طباع العالم نافرة عنها وتحته علوم عزيزة وإشارات كثيرة دالى على غوامض أسرار ل‬
‫يعرفها إل فحول العلماء فال يوفقك للعمل به فإنه دال على كل ما تريد إن شاء ا تعالى‪.‬‬
‫ص ‪479‬‬
‫ترجمة البواب وهى ثلثون مقالة‬
‫فصل‬
‫اعلم أن الملك عظيم وعقيم عليه وقع الشتباك والمناقشة بين الصالح والطالح والخاسر والرابح فمنه يتشعب الحسد وكل عرض‬
‫وغرض مزعزع فلبد من أصل ومرتبة وتحصيل وصبر وجمع أموال لبلوغ المال وأم الغرر فى تحصيله هو علو الهمة كما قال‬
‫معاوية رضى ا عنه ‪ :‬هموا بمعالى المور لتنالوها! فإنى لم أكن للخلفة أهل فهممت بها فنلتها وقد سرت بك قصص الولين‬
‫فانظر فى أخبارهم وآثارهم! فما بلغ أحد درجة الملك بأب وأم غير قليل وكم نزع الملك من يد وارث مستحق مثل بيت نبينا محمد‬
‫صلى ا عليه وسلم‪.‬‬
‫وسنتلوا عليك نبذا من قصة ذى القرنين‪:‬وهو صعب بن جبل وأبوه نساج واسم أمه هيلنة كان يتيما فى بنى حمير سمعت أمه ببيت‬
‫الصنائاع فى مدينة قسكنطين فحملت ابنها الى ذلك البيت فشاهد صورة الملك فوق الصنائاع فقالت أمه يا بنى اختر منها ماتريد‬
‫فوضع يده على تاج الملك فانتهرته مرارا فلم ينته فنظر اليها يونان فقال له أنت هيلنة وهذا ابنك صعب بن جبل؟ فقالت نعم فقال‬
‫آخذ عهد ذى القرنين وزمامه على أنى وذريتى فى أمانك فأنت الملك الذى تسحب ذيلك بطريق التملك شرقا وغربا فحملته أمه الى‬
‫أرض بابل كاتمة أمره فكان من بدو أمره وشواهد سعادته ثلث منامات رآهن فى ثلث ليال فأولهن أنه رأى كأن الرض صارت‬
‫خبزا فأكلها وفى الثانية رأى أنه قد شرب البحار وأكل طينها وفى الثالثة رأى كأنه رقى فى السماء فقد نجومها ورماهن فى‬
‫الرض وركب الشمس وسحب ناحية القمر فما اجتمع بالخضر عليه السلم فسر عليه فبشره بنيل الملك العظم وستصحب نبيا‬
‫وحكيما وكم من مثله إن اعتبرت فاركب بسر علو الهمة وحصل النتهاء ليتم لك كيمياؤها وصير عندك نديما كاتما مطلعا على‬
‫كتبها أعنى بها كتب سر العالمين ثم حصل أرباب صناعة التقليب الذين هم علماء تقلب الكيمياء قادرين على صبغ الحمر‬
‫والبيض فإن كنت قليل الحجال ضعيف العضد وقليل المال فكن كثير الفضل والعلم واتخذ لنفسك زاوية على طريق التزهد‬
‫واجذب اليك تلميذ وكثرعددهم واتخذ طريق الكرامات لينصبوا إليك واستهوا الكبار واسلك طريق الصلح وزنها لنفسك واختل‬
‫فإذا هب نسيم سعادتك فاكشف لتلميذك ما الناس عليه من فسق وفجور وارتكاب ما ل يجوز من كل أمر منكر و أمر أصحابك‬
‫تستهوى وتجذب كل طائافة منهم لطائافة قوم أخرين فإذا استقوت شرذمتك فخذ الخواص من الناس باللين والموعظة والمعاندين‬
‫بالجدل وأولى الغلظة بالغلظة ألم تر الى بدو السلم " قل‬
‫ص ‪480‬‬
‫ب {محمد ‪ . 4‬وعند‬ ‫ب الرَردقا ه‬
‫ضلر د‬ ‫}قالل ديا أدميدها اللدكاهفارودن {الكافرون ‪ . 1‬فلما وصل إلى قمة السعادة قر سيفه }دفهإذا لدهقياتام الاهذيدن دكدفاروا دف د‬
‫الضعف والمسالمة أخذ الجزية والصلح }دوهإن دجدناحولا هللاسللهم دفالجدنلح دلدها {النفال ‪ . 61‬وعند ربح السعادة ‪ ,‬وارتفاع أطناب خيم‬
‫اا دعهزيسز دحهكيسم {النفال‬‫خدردة دو ي‬
‫اا ايهرياد ال ه‬‫ض المدلنديا دو ي‬ ‫ض اتهريادودن دعدر د‬ ‫خدن هفي الدلر ه‬
‫الرادة }دما دكادن لهدنهبيي دأن دياكودن دلاه أدلسدرى دحاتى ايلث ه‬
‫‪ .67‬فكن أيها الطالب للملك على هذه الوتائار ‪ ,‬وخاطب الناس على قدر عقولهم ‪ ,‬وأظهر العدل ‪ ,‬واحترم أولي الفضل ‪ ,‬وأشبع‬
‫الجند ‪ ,‬واجبر الكسير ‪ ,‬وأنصف ولو من نفسك ‪ ,‬وأشبع احاجابك وحكامك وعمالك فإن لم تفعل سرت الرشوة إلى بطلن الحق‬
‫وتعطيله ‪ ,‬وفشا ظلمك في الرعية ‪ ,‬ومالت القلوب عنك ‪ ,‬وربما ذهبت باطنا ل وظاهرال ‪ .‬واعلم أن المظلوم له همة تكون وافية في‬
‫عكس أغراضك ‪ ,‬مثل همم أرباب الستقامة ‪ ,‬فإنها مؤثرة في الفلك لستجلب ماء الغمام ‪ .‬وسأتلوا عليك قصة السلطان ابن‬
‫سملتكين وقد نفذ رسولل إلى ملك الهند وقال ‪ :‬ما سبب طول أعماركم مع جحودكم للصانع وتكذيبكم للرسل والوسائاط ‪ ,‬ونحن‬
‫قصار العمار مع تصديقنا وإيماننا ؟ فقال ملك الهند لرسوله ‪ :‬انظر إلى هذه الشجرة التي فوقها ثمرة ‪ ,‬ل أعطيك الجواب حتى‬
‫تنقطع ‪ .‬ثم أمر بالدرار عليه وحسن القامة ‪ ,‬فضاق صدره وتعلقت همته بقلعها ‪ ,‬فلم يك إل مدة قريبة إذ سمع هزة وقعت‬
‫والناس يهرعون ‪ ,‬ومشى معهم ‪ ,‬فإذا الشجرة واقعة والملك مفكر ‪ ,‬فلما بصر الملك بالرسول قال له ‪ :‬اذهب فهذا جوابك ‪ ,‬وقل‬
‫للسلطان هذه همة واحدة أثرت في قلع شجرة مثمرة ‪ ,‬فكيف همم جماعة من المظلومين ل تؤثر في قلع الظالمين ! إذ دعاء‬
‫المظلوم محمول فوق الغمام ‪ ,‬وقد ورد في بعض الكتب السالفة ‪ :‬أنا الظام إن لم أنتقم من الظالم ‪ .‬واعلم أن العدل وبسط باع‬
‫السلطنة بالهيبة مثل القتل والصلب والقطع يثمر المن وتمهيد الرض وطمأنينة قلوب الرعية ‪ ,‬إذ السلطان ظل ربه في الرض‬
‫ص دحدياةس {البقرة‬ ‫وملجؤها ‪ ,‬يأوى إليه كل مظلوم ‪ .‬ول تستهب وضع الشيء في مكانه إذ " القتل أنفى للقتل " }دولداكلم هفي اللهق د‬
‫صا ه‬
‫‪ . 179‬وكان عمرو بن العاص صحابيا ل بدريا ل نبه معاوية رضي ا عنه وجسره على فظائاع الفعال بقصائاده اللمية والنونية‬
‫التي قال فيها ‪:‬‬
‫يِ هفي الحلهق ل نفد دلاه‬ ‫امدعاو ي‬
‫ك فلته‬ ‫ع‬‫ل‬
‫ل د د‬ ‫باي‬‫د‬ ‫أ‬ ‫م‬‫د‬ ‫ل‬ ‫رَ‬
‫ني‬ ‫إ‬ ‫يِ‬
‫ي‬ ‫امدعاو‬
‫حدده‬‫فينا ل وللو دمارة في الدلههر دوا ه‬
‫ا‬ ‫س‬ ‫د‬
‫دودكلم للاشيهخ هعلنهديِ ملن دخدزايا‬
‫دتادمل دلدها الدمدغاهزيِ والدمدخاهزيِ‬
‫وطريق آخر في استدعاء المملكة وترتيبها وهو بذل الموال ‪ ,‬وطريق آخر وهو‬
‫ص ‪481‬‬
‫بالسيف معقود ‪ ,‬لكنه مفتقر إلى ترك الشح مع الجند وإجلء دعوة المظلوم ‪ ,‬ول يتعرض إلى الشقوص الموقوفة ‪.‬‬
‫ولتجعل للرعية والسواد في كل يوم لمطالعة أحوالهم ‪ ,‬فقد يتشعب الظلم مع الغفلة ل سيما مع الحاجاب والعمال ‪ ,‬ولتنظر في‬
‫مخازيِ الكتاب فما كذبت بنت كسرى إذ سمعته ديوانا ل ‪ ,‬ولتنظر في وقت العشيي ما كتبه الكاتاب بالنهار ‪ ,‬ل يتم عليه حيل أرباب‬
‫صاد لغفلة الملك عنه ‪ .‬فإذا أردت أن ل تنحجب عنك حال فامنع الكلم ‪ ,‬وأمر بأخذ القصاص ‪,‬‬ ‫الدساتير ‪ ,‬فكم من مظلوم عن حقه ا‬
‫ووقع فيها بما تراه وا تعالى أعلم ‪.‬‬
‫باب الترتيب في قعود الملك وسياسته ونومه وليلته‬
‫إذا صليت صبحك تقعد في ذكر ا تعالى إلى طلوع الشمس ‪ ,‬ثم تأمر أهل دارك ومن حولك بما تريده من حوائاجك من مأكل‬
‫ومشرب ‪ ,‬ثم تركب لتسمع أو يلقاك محجوب أو تلبي مظلوما ل أو تطلع على الحوادث ‪ ,‬ثم تعود وأنت محفوف بالقعقعة والسلح‬
‫والتحرز من طمع العداء ‪ ,‬ثم تقعد في دار عيد لك لكشف المظالم وسماع الرسل ‪ :‬تترك الناس صفين يمينا ل وشمالل والوسط‬
‫مفتوح لئال يحجب عنك منظوسر وصاحب حاجة وتسأل عمن تنكره ‪ ,‬ول تستخدم من ل تعرفه إل بخبرة أو ضمان أو تسليم إلى‬
‫عقيدة ‪ .‬وليكن لك جماعة من أرباب العلم والعقل والتجارب في الرأيِ والمشورة ‪ ,‬ووزراء خير ل فسقة ‪ ,‬فمن ليس بأمين لنفسه‬
‫فكيف على سواه ؟ ثم تنهض من مجلسك في الظهر ‪ ,‬وليكن للملك عين في الديوان لما يجريِ فإذا دخل منزله بسط الطعام ومد‬
‫الخوان للجند والخوان ‪ .‬وليكن كثير التعهد والتفقد وجبر القلوب المنكسرة ‪ .‬وليكن على الطبيخ أميسن ما أساء إليه ‪ ,‬فإن القلع ثمر‬
‫الساءة ‪ ,‬ثم يأخذ طعم الطبيخ طابخه ‪ ,‬ثم حامله ‪ ,‬ثم واضعه عند الملك ‪ ,‬يغمس اللقمة ‪ ,‬في جميعه ‪ ,‬فقد مات شهريار بن ذار‬
‫بنصف تفاحة قطعت ‪ ,‬وقد مات شاسان بنصف قدح شراب سلم شريكه مع عطبه ‪ ,‬وقد اسرَم النبي صلى ا عليه وسلم بذراع‬
‫مشويِ للسر في محبته له لقرب المشرع من المسعى ‪ ,‬وقد دسام أبو لؤلؤة السهرَكينة التي قتل بها ابن الخطاب رضي ا عنه ‪ ,‬ودسام‬
‫عبد الرحمن بن ملجم سييفا ضرب به قمة أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم ا وجهه ‪ ,‬ودسامت حصار بنت خوجة بنت كعب‬
‫ب عنب غير مغسول ‪.‬‬ ‫الغساني زوجها الحسن بن علي رضي ا عنهما ‪ ,‬وكان الصل أنه شاء يوما ل دح ي‬
‫وكم مثل ذا في الدهر ما ليس يحصر‬
‫وتحترز من السموم في طعامك وشرابك ولباسك ومنامك حتى مناديل فراشك ‪ ,‬وليكن خارج العالم مجردال مسودال مداخلل في‬
‫معرفة غوامض أحوالهم بالترسل والتجسس‬
‫ص ‪482‬‬
‫وكشف علوم من البلد بجواسيس شارحة متنكرة مختلفة مثل فقير و صوفيي وتاجر وطبيب وكتبة ‪ ,‬وقد كان المأمون له أصحاب‬
‫خير يستجلبون له أخبارال من الطرقية ‪ .‬هكذا سنن الملوك ‪.‬‬
‫فصل وهو المقالة الثالثة‬
‫ويستحب للملك سهر أول الليل إلى نصفه لقضاء المهمات والقصص المستورات ‪ ,‬ونوم النهار عون على سهر الليل يذهب تعب‬
‫السهر ‪ ,‬والحماام من غير إطالة محبوب ‪ ,‬والتعهد بالشربة الموافقة للمزجة ‪ .‬وليحترز من تزوير العلئام ويمتحن ويستدرك ‪,‬‬
‫فالخطوط تشتبه ‪ ,‬فأول داهية عثمان بن عفان رضي ا عنه كانت من توقيع محمد بن أبي بكر رضي ا عنهما وهي مذكورة في‬
‫سير الناس يتداول بها القصاص ‪ .‬ول يفضل السراريِ والنساء ‪ ,‬فقد يحصل من مراجيح الغيرة ما ل طاقة به ‪ ,‬فكم محمول على‬
‫الغيرة ثمرتها أعظم من ثمرة الحسد ‪ .‬ويجب على الملك أن يكون وحيدال ل أحد له من حيث السياسية ‪ ,‬ول يركن إلى المن من‬
‫خوف الذم ‪ ,‬فبرهان الشعر ظاهر من قوله ‪:‬‬
‫دفدللم دتدزلل هقلااة الهلنصاف دقاطدعية‬
‫حم‬ ‫لناهم دولدلو دكاانوا دذهويِ در ه‬ ‫دبليدن ا د‬
‫ل‬
‫ويجب عليه التعهد لصحاب أبيه ولو كان فقيرا ‪ ,‬ومراعاة أصحابه الذين كانوا معه قبل سلسل التمليك ‪ ,‬فمن لطافة رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم أنه كانت تردد إليه امرأة يهودية فنهض لها قائاما ل فقالت له في ذلك عائاشة رضي ا عنها ‪ :‬أتقوم لمرأة‬
‫ليماهن " وبزيادة الشعر قادح ‪.‬‬ ‫يهودية قائاما ل ؟ فقال ‪ " :‬دههذهه دكادن ل‬
‫ت دتدتدراداد إدلليدنا في دزدمهن دخديدجدة رضي ا عنها دواحلسان الدعلهد همدن ا ه‬
‫ل اتلهق في بئار شربت ازلددلها‬
‫دقدذدرال فمنه يقال إنك غادر‬
‫باب في ترتيب الخلفة والمملكة‬
‫اختلف العلماء في ترتيب الخلفة وتحصيلها لمن أدلمارها إليه ‪ ,‬فمنهم من زعم أنها بالنص ‪ ,‬ودليلهم قوله تعالى ‪} :‬اقل لرَللامدخلاهفيدن همدن‬
‫اا أدلجرال دحدسنا ل دوهإن دتدتدولالوا دكدما دتدولالياتم رَمن دقلبال‬
‫س دشهديءد اتدقاهتالودناهلم أدلو ايلسلهامودن دفهإن اتهطياعوا ايلؤهتاكام ا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫اللدلعدرا ه‬
‫ب دساتلددعلودن إهدلى دقلوءم ألوهلي دبأ ء‬
‫ايدعرَذلباكلم دعذابا أهليما {الفتح ‪ . 16‬وقد دعاهم أبو بكر رضي ا عنه إلى الطاعة بعد رسول ا صلى ا عليه وسلم فأجابوه ‪ .‬وقال‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ك اهدو الدخهليدفاة هملن‬ ‫جهه دحهديثا ل {التحريم ‪ . 3‬قال في الحديث ‪ " :‬إان أددبا د‬ ‫ض أدلزدوا ه‬ ‫بعض المفسرين في قوله تعالى ‪} :‬دوإهلذ أددسار الانهبمي إهدلى دبلع ه‬
‫دبلعهديِ " وقالت امرأة ‪ :‬إذا فقدناك فإلى من نرجع ؟ فأشار إلى أبي بكر رضي ا عنه ولنه أيم بالمسلمين على بقاء‬
‫ص ‪483‬‬
‫رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ,‬والمامة عماد الدين ‪ .‬هذا جملة ما يتعلق به القائالون بالنصوص ‪ ,‬ثم تألوا لو كان عليي أول‬
‫الخلفاء لنسحب عليه ذيل الفتى ولم يأتوا بفتوح ول مناقب ‪ .‬ول يقدح في كونه رابعا ل كما ل يقدح في نبوة رسول ا إذا كان آخرال‬
‫‪ .‬والذين عدلوا عن هذه الطريق زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء على زعمكم وأهويتكم ‪ ,‬فقد وقع الميزان في الخلفة والحكام مثل‬
‫داود وسليمان وزكريا ويحيى ‪ ,‬قالوا لزواجه ‪ :‬لمن الخلفة ؟ فبهذا تعلقوا وهذا باطل ‪ ,‬ولو كان ميراثا ل لكان العباس ‪ ,‬لكن‬
‫أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم عيد غدير اخرَم باتفاق الجميع وهو يقول ‪ " :‬دملن اكلن ا‬
‫ت‬
‫دملولها دفدعلهرَي دملولها " فقال عمر ‪ :‬بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت موليِ ومولى كل مولى ‪ ,‬فهذا تسايم ورضى وتحكيم ‪ .‬ثم بعد‬
‫ذلك غلب الهوى لحب الرياسة ‪ ,‬وحمل عمود الخلفة وعقود النبوة وخفقان الهوى فعادوا إلى الخلف الول ‪ ,‬فنبذوه وراء‬
‫ظهورهم واشتروا به ثمنا ل قليلل ‪ .‬ولما مات رسول ا صلى ا عليه وسلم قال قبل وفاته ‪ " :‬الئااتوا هبدددواة ل اهزيل لداكلم إهلشدكال اللمهر‬
‫د‬
‫حمق لددها دبلعهديِ " قال عمر رضي ا عنه ‪ :‬دعوا الرجل فإنه ليهجر ‪ ,‬وقيل يهدر ‪.‬فإذا بطل تعلقكم بتأويل النصوص‬ ‫دوأدلذاكدر دمهن الاملسدت ه‬
‫فعدتم إلى الجماع ‪ :‬وهذا منصوص أيضا ‪ ,‬فإن العباس وأولده ‪ ,‬وعلييا وزوجته وأولده لم يحضروا حلقة البيعة ‪ ,‬وخالفكم‬ ‫ل‬
‫أصحاب السقيفة في متابعة الخزرجي ‪ .‬ودخل محمد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال ‪ :‬يا بني ائات بعمك لوصي له‬
‫ص بها لولدك إن كان حاقا ل ‪ ,‬أو ل فقد مكنتها بك‬ ‫بالخلفة ! فقال ‪ :‬يا أبت أكتب على حق أو باطل ؟ فقال ‪ :‬على حق ‪ ,‬فقال ‪ :‬دو رَ‬
‫لسواك ‪ ,‬ثم خرج إلى عليى ‪ .‬فجرى قوله على منبر رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ :‬قوموني لست خيركم ‪ .‬أفقال هزلل أو جدال أو‬
‫امتحانا ل ؟ فإن كان هزلل فالخلفاء منزهون عن الهزل ‪ ,‬وإن قاله جرَدا فهذا نقض للخلفة ‪ ,‬وإن قاله امتحانا ل ‪} ...‬دودندزلعدنا دما هفي‬
‫صادوهرههم رَملن هغيل {العراف ‪ . 43‬فإذا ثبت هذا فقد صارت إجماعا ل منهم وشورى بينهم ‪ .‬هذا الكلم في الصدر الول ‪ ,‬أما في‬ ‫ا‬
‫زمن عليى رضي ا عنه ومن نازعه فقد قطع المشرع صلى ا عليه وسلم طول اكرَم الخلفة بقوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬إهدذا‬
‫ابويدع لللدخهليدفدتليهن دفالقاتالوا ال ادخدرى هملناهما " والعجب كل العجب من حق واحد كيف ينقسم ضربين ‪ ,‬والخلفة ليست بقسم ينقسم ‪ ,‬ول‬
‫بعرض يتفرق ‪ ,‬ول بجوهر يحد ‪ ,‬فكيف يوهب ويباع ‪ .‬وفي حديث أبي حازم ‪ :‬أول حكومة تجريِ في المعاد بين علي ومعاوية‬
‫ك الهفدئااة الدباهغدياة " فل‬‫فيحكم ا لعليي بالحق والباقون تحت المشيئاة ‪ .‬وقول المشرع صلى ا عليه وسلم لعمار بن ياسر ‪ " :‬دتلقاتلا د‬
‫ينبغي للمام أن يكون باغيا ل ‪ .‬والمامة ل تليق لشخصين كما ل تليق الربوبية لثنين ‪ .‬إنما الذين بعدهم طائافة تزعم أن يزيد لم يكن‬
‫راضيا ل بقتل الحسين ‪ ,‬فسأضرب لك مثلل في‬
‫ص ‪484‬‬
‫ملكين اقتتل فملك أحدهما أفتراه يقتله العسكر على غير اختيار صاحبها إل غلطا ل ؟ ومثل الحسين ل يحتمل حاله الغليظة لما جرى‬
‫من القتال والعطش وحمل الرأس إجماعا ل من جماهير المشيرين ‪ .‬وقالت اليمة المغنية حيث مدحت في غنائاها ‪ ,‬أفتراه قتلها بغضا ل‬
‫لعلي أم لها ؟ وقول يزيد بن معاوية لعلي بن الحسين زين العابدين ‪ :‬أنت ابن الذيِ قتله ا ‪ ,‬قال ‪ :‬أنا ابن الذيِ قتله الناس ‪ ,‬ثم تل‬
‫قوله تعالى ‪} :‬دودمن ديلقاتلل املؤهمنا ل ممدتدعرَمدال {النساء ‪ . 93‬أفتراك يا يزيد تجعل لربك جزاء جهنم وتخلد فيها وتغضبه عليه وتلعنه وتعد‬
‫له عذابا ل أليما ل ؟ فإن قلت إن هذه البراهين معطلة ل يحكم بصحتها حاكم الشرع ‪ ,‬فنقول في حججكم مثل ما تقولون ‪ .‬ثم إجماع‬
‫صا أم السنة‬ ‫الجماهير بشتم عليي ألف شهر على المنابر أمركم الكتاب أم السنة أم الرسول ؟ ثم الذين من بعدهم ممن غيرهم أخذوا ن ا‬
‫أم إجماعا ل ؟ لكن قد أخذوها بسيف أبي مسلم الخراساني ‪ ,‬فانظروا إلى قطع أعمالكم بسيف المشرع حيث قال لكم ‪ " :‬الخلفة‬
‫بعديِ ثلثون ثم يتولى املدكا جبروت " بقوله للعباس رضي ا عنه ‪ " :‬يا أبا الربعين ملكا ل " ولم يقل خليفة ‪ .‬والملوك كثير واحد‬
‫في زمانه فيا أيها الطالب للملك حصل الله وحمل الله وابذل واصبر واحذر واقرب وطول واحتمل وصالح حتى تقدر وا تعالى‬
‫أعلم ‪.‬‬
‫فصل وهي المقالة الخامسة‬
‫إذا أردت ترتيب ملك في الملك فاشتهر رجال الدول بعد تحصيلك المال ‪ ,‬ثم تابع وشايع ‪ ,‬وأدلك بعضا ل على بعض للجذب فهو كما‬
‫قال المتقدمون ‪:‬‬
‫ك دفالغدتنلمها‬ ‫ت هريااح د‬ ‫إهدذا دهاب ل‬
‫فاعلقدبى كال خافقة اساكوان‬
‫واجعل قواعد المملكة على الكبار على هيئاة ترتيب الجسور والقناطر لدتجوز عليها ‪ ,‬أن تناول أغراضك ‪ ,‬فإن وجدت مشاركا د‬
‫فداوه بأنواع المعالجة وآخر الدواء الكيي ‪ ,‬ثم انظر إلى دستور عدد الجند وعدد القرباء ومعرفة الداخل والخارج والزيادة ‪,‬‬
‫واستعرض الجيش في سنتك ثلث مرات ‪ ,‬واجعل طلئاعك أربعمائاة نفر من أمنائاك ‪ .‬وإذا أردت الغزو فأشع الخبر ‪ ,‬فإذا وجدت‬
‫أو طفقت إلى مضاق ترتب جيشك صفوفا ل وراء صفوف ‪ ,‬وحمل مع أصحابك ليبذلوا السيف في الصف المنهزم من أصحابك ‪,‬‬
‫وكن مشرفا ل عليهم من نشز ولو نصبت أعلمك زورال من غير حمل ‪ ,‬وادخر لنفسك أجود الخيل والرجال ‪ ,‬واعلم أن خامرك في‬
‫الول هو يخامرك في الخر ويؤفك معك ‪ ,‬وبددها وغن شئات في العسكر ‪ ,‬وأبرك كمينا ل من أجود رجالك ‪ ,‬فإذا وجدت الفئ في‬
‫ث مكان خوف‬ ‫جار العداء إلى قريب الكمين ‪ ,‬وليكن بينكم علمة ‪ ,‬فإذا عزمت إلى قتال قومك فعجل ول تطل في املك ه‬ ‫القتال فالسدت ه‬
‫الفشل‬
‫ص ‪485‬‬
‫والمفاسخة كما عمل ذو القرنين في عسكر دارا فأفشلهم وبذلهم وفسخهم وبرطلهم ‪ .‬فتقدم واعلم وكن بذالل ل متأخرال ‪ ,‬وانظر في‬
‫دساتير الرحيل فكاثر إن شئات وقرَلل ‪ ,‬وليكن لك عين على معرفة القائالين والغم على من قاتل ‪ ,‬واعزل عن الجبان على الهوينا ‪ ,‬ثم‬
‫احتسب على خزائانك وخزانك بمعرفة ما فيها وما ينقص ويزداد ‪ .‬وإن لم يكن لك بد من التزويج فاستبد إلى أموال ورجال ودين‬
‫وجمال ‪ ,‬وإن كان الشرع قد أمر بذات الدين ‪ .‬واعلم أن الملك بغير جواسيس وأخذ أخباره كالجسد الذيِ ل روح فيه ‪ .‬وحصل‬
‫آلت الحصون مما يحتاج إليه في الضيق فإنك ل تدريِ لعل ا يحدث بعد ذلك أمرال ‪ .‬ول تتم لهيئاة الرعية واختلف الجند ‪ .‬وامنع‬
‫الفقهاء عن الكلم في الفتن ‪ ,‬وأمر نوابك أن ينظروا ما عند الخلق من الطعمة في المحل ‪ ,‬ول تمنع الناس من تحصيل الطعمة‬
‫فإنه لك وللناس عند الحاجة ‪ .‬وانظر فيمن امتنع عن الزراعة إن كان لفقر فدقرَوه وإن كان لظلم فانصره ‪ ,‬كما قال ملك الهند ‪ :‬أنا‬
‫أفرح لكثرة دجاج البلد ‪ ,‬فإنه فرع المارة ‪ .‬واغتم لكثرة الخاطبين خوفا ل من ظلم المقاطع ‪ ,‬وقد كان ذو القرنين يحويِ دساتيره‬
‫هلى أعداء الغرباء وتسلم عليه المرأة بقدر من اللبن فإذا رآه سمنا ل ضحك لجودة الربيع ‪ ,‬وكان يقول أنا أمسك الفلح إذا أخذ مثله‬
‫وأميل المقطع فأخذ معناه إنما المقطع بالخير فإن لم يجده انتقل ‪ ,‬والملك بفلحه إذا هو خازانه وبه يسطو ويجيد وينعم ويطلق‬
‫وينظر في الخزائان والمراء ‪ .‬وإذا قدر على تبديل الطعام بغيره فليفعل ‪ ,‬فقد كان المأمون يستعرض السلح واللت مثل الخيم‬
‫والمجانيق حتى قال لمير دوابه ‪ :‬رتب مخاليك كما ترتب معاليك ‪.‬‬
‫فصل وهو المقالة السادسة في ترتيب الولة‬
‫ل ترتب في الحصون إل وليا ل شفيقا ل رفيقا ل بالخلق ‪ ,‬ول تكلفه ثقلل فتستقضه من بلدك ‪ ,‬وأشبعه وجند الحصن ‪ ,‬وانظر في مراكز‬
‫طف بنفسك أيها الوالي على أعلى سورك ‪ ,‬ول تخالط جندك بالليل‬ ‫خيره ومائاه وحرسه وسوره ‪ ,‬وتذلل حراسك في البروج ‪ ,‬و ا‬
‫خوف المخامرة ‪ ,‬واسأل عن أعدائاك ول تحقر القليل فإن الذبابة تقتل جملل ‪ ,‬وكم من عقرب أمات الفعى لسعها كما قيل ‪:‬‬
‫ول دتلحقادرلن أبدال صغيرال فربما‬
‫تموت الفاعي من سموم العقارب‬
‫واحذر من مكر ذيِ الحن فقد قيل ‪:‬‬
‫ص دبلعدد حين‬ ‫دوإهان الاجلردح ينغ ا‬
‫إهدذا دكادن الدبهنا داء دعدلى دفدساد‬
‫ص ‪486‬‬
‫ول يكون الوالي شريب خمر ‪ ,‬وهكذا المير ‪ ,‬فلو حضر في مجالسهم فليحاكم بالجلد ‪ ,‬ففي الخمر بليا وآفات وزلزل عقل‬
‫وحدوث بليا وإظهار حقود ‪ ,‬إذ صاحب الملك مرموق بالحسد ‪ ,‬قال النجاشي لجعفر بن أبي طالب رضي ا عنه ‪ :‬كيف سيرة‬
‫نبيكم في الكل مع أصحابه ؟ فقال ‪ :‬يأكل على الرض ‪ ,‬فقال ‪ :‬ذلك تواضع لجذب قلوب أصحابه ‪ ,‬فقال النجاشي ‪ :‬لو كان ملكا ل‬
‫لكل وحده على خوانه في مجمع معروف له ‪ ,‬وزباديِ مخصوصة ‪ .‬ثم الورق إن كان مقطعا ل فمعروف ‪ ,‬وإن كان ذهبا ل فشهر‬
‫بشهر ‪ .‬ول بأس بالسلم عليه وهو موصول بهم والمعاهدة لرسل الملك وإقامة ناموسه عند الغرباء والمنشدين والقصاد ‪ .‬وكان‬
‫سليمان يقسم أسبوعه بعضه للجند وبعضه للقضايا وبعضه للقضايا وبعضه للعبادة وتذكار الحكم والنساء ‪ ,‬كما يقول ‪ :‬يا أرباب‬
‫المملكة عليكم بأهل العلم والصلح ‪ ,‬فإنهم يرشدونكم إذا ضللتم ‪ ,‬ويعرفونكم إذا جهلتم ‪ ,‬ويستعطفونك إذا غضبتم ‪ ,‬وينفقونكم إذا‬
‫حرمتم ‪ .‬وقال أمير المؤمنين على بن أبي طالب ‪:‬‬
‫ب أخا الجهل ه‬ ‫صدح ل‬ ‫فل دت ل‬
‫ك وإياها‬ ‫وإيا د‬
‫فكم من جاهل أدلرددى‬
‫حليما ل حين آخاه‬
‫ايقاس المراء بالمرء‬
‫إذا ما المدراء ما شاها‬
‫ئ‬
‫وللشائ على الش ه‬
‫س وأشباها‬ ‫مقاديي س‬
‫وللقلب على القلب‬
‫دليل حين يلقاها‬
‫ك المنادمة والمسامرة والقلل من الهزليات والمضحكات ‪ ,‬وليكن وزيره قابلل قائالل بالعلم والصلح ‪ ,‬امدنرَزلل للناس في‬ ‫وليقل المل ا‬
‫طبقاتهم ‪ ,‬فل تنظروا في حسن البزة مع عموم الجهل ‪ ,‬فقد نقل إلينا أن بهلولل دخل إلى مجلس هارون فجلس في أدنى المجلس‬
‫فقال له هارون ‪ :‬ارفع رأسك إلى صدر المجلس ! فقال البهلول ‪ :‬مجلسي يفنى فأين صدره ؟ ثم أنشد ‪:‬‬
‫ف النعال‬ ‫ص ا‬ ‫ضب د‬ ‫اكلن رجلل والر د‬
‫ب الصددار بغير الكماهل‬ ‫ل ايطدل ا‬
‫فإلن تصادرت بل آلة‬
‫ف النعاهل‬‫ص ا‬ ‫صلددر ي‬ ‫ت ذاك ال ا‬ ‫دجدعل د‬
‫ص ‪487‬‬
‫ومن جملة قبول الملك أن يختار لنفسه طعاما ل يخصه ‪ ,‬وقد كان المأمون يحب المأمونية ‪ ,‬ومهلب العراق يحب المهلبية ‪ ,‬وكان بنو‬
‫أمية يكثرون من أكل الهرايس والزلبيا ‪ ,‬ولم يغسلوا اللحم ‪ ,‬بل يكشفون الجلد فيأخذون من تحت الجلد ما يختارون فيتدارون‬
‫ف الهودقااع‬ ‫ضع د‬
‫حيدن د‬‫جلبهريل ه‬ ‫ت هإلى دأخي ه‬‫اليديِ هبدزدفر اللحم ‪ .‬وقد روى أبو طالب المكي أن النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪ " :‬دشدكلو ا‬
‫ت لدظلههريِ هبها دخليرال " ‪ .‬وقد كان ذو القرنين يحب الزرباح لتسكينها للخلط الصفراويِ ‪ ,‬ووجد بخارا حاارا‬
‫ل‬ ‫س دفدودجلد ا‬‫هبأ دلكهل الدهدراي ه‬
‫ا‬ ‫ل‬
‫تولد عن صفراء ‪ ,‬فانزعج له جبينه فمزج بالبطيخ مالء وعسل وخل فشربه فقال ‪ :‬سكن جبيني ‪ ,‬فسمى بذلك السم ‪ ,‬وكان يخلط‬
‫خشن الدقيق وناعمه فيتخذ له منه خبزال ‪ ,‬فقال الحكيم من جوشك ‪ :‬أراد الخبز الجريش للمعدة الضعيفة أو الحلقة البلغمية أجود‬
‫وأعود ‪ ,‬والخبز السميد يورث الخفق وهذا مشاهد عيانا ل من عمل القفاع ‪.‬‬
‫فصل وهو المقالة السابعة في ترتيب حاشية الدولة‬
‫يستحب للدفاراش أن يكون رشييقا ‪ ,‬خفيف النفس ‪ ,‬ظاهر القوة ‪ ,‬طيب الريح ‪ ,‬عارفا ل بترتيبه الخبز والخضروات ‪ ,‬كامل العدة ؛‬
‫وهكذا تقول في الطباخ والشاربرَي ‪ ,‬ويكون دار شربة كامل المشارب من الماء البارد والشربة والقفاع السك السكنجبيني ‪ ,‬وشربه‬
‫نافع بإذن ا تعالى على الريق ‪ ,‬وهو محمص للطعام مفتح للجوف ‪ .‬واعلم أن آداب أهل التصوف في المآكل والمشارب هي آداب‬
‫الملوك ؛ وترك إبراهيم بن أدهم هكلبلر الملك ‪ .‬ومسك آداب الطعام والئاتدام بالحوامض أولى ‪ .‬والركابية والسعادة خفاف السرعة‬
‫شباب ‪ ,‬وهكذا جميع المقاتلين والشيوخ المعنية بالرأيِ ‪ .‬ويحط العسكر في دندشهز من الصدر أولى للتحصين واغتنام الهوية ‪.‬‬
‫والخمول في الشتاء أجمل ‪ ,‬والتهيئاة لما يختاره في الصيف ‪ ,‬ورحل السلطان لقلقل السفر عند نزول الشمس في السرطان ‪,‬‬
‫وسكونه عند نزولها آخر القوس ‪ ,‬إذ فصول السنة أربعة ‪ :‬فمن نصف حزيران إلى نصف أيلول صيف ‪ ,‬ثم إلى نصف كانون‬
‫الول خريف ‪ ,‬ثم إلى نصف آذار شتاء ‪ ,‬ثم إلى نصف حزيران ربيع ‪ ,‬وهكذا أقسام منازل الشمس ‪ ,‬والخبر النبويِ يؤيده ‪ " :‬إهدذا‬
‫صدفت المشاهوار دتدغايدرت المداهوار " ‪ .‬فإن ركب بعد صلة العصر وإل قعد لكشف المظالم أو لكتب القصص وهو يسمعهم في عزلة‬ ‫الندت د‬
‫‪ ,‬كان السابقون من الملوك إذا قعدوا للسلم يقعدون وراء شباك ويدخل من شاء إليهم خوف الغتيال في المزاحمة ‪ ,‬ويفتش على‬
‫ث والسمين ‪ .‬ويستحب أن يطالع كتب الطب والتواريخ وشاهنامة‬ ‫غوامض ما يجريِ حتى يكون له صاحب خبر في البلد يرفع الغ ا‬
‫العجم وقصص التابعين‬
‫ص ‪488‬‬
‫للعجم والديلم مثل ما جرى للشهرباز درستم زاد وكان النبي يومئاذ سليمان عليه السلم فأوقع الوقائاع بينهم حتى هلك بعضهم‬
‫ببعض ‪ .‬وليكن مع الملك جنود لحذر ما يجريِ ‪ ,‬وحفظه في الحامام فكثير هلكوا فيه ‪ ,‬وحاماام داره أجمل ‪ .‬وعليكم بكتم مرضه‬
‫وموته حتى يستقر الملك فيمن شاء ا من عباده بعد البيعة والمتابعة وتقرير القواعد ‪ .‬وكن أيها الملك مسارعا ل في الثناء والثواب‬
‫فإنه الذكر المخلد ‪ ,‬وأكثر ما تنظر في كتب ابن أبي الدنيا ‪ ,‬وتواريخ الطبريِ ‪ ,‬مذهب الشافعي ‪ ,‬أو ما تختار من المذاهب ‪ .‬ول‬
‫تظهر البدعة ولو كانت فيك ‪ ,‬كالكاسرة وسوبويه هلكوا بمتابعة الهواء ‪ .‬وللنعم أجنحة الجر فيقوها بالشكر ‪ .‬واجعل بينك وبين‬
‫ك الموت فأسار إليه‬ ‫ا طريقا ل إلى الصلح ‪ ,‬فقد حكى أن ملكا ل قمع دمدلك الموت عنانه فقبضه على ما يريد ‪ ,‬وأن ملكا ل صالحا ل أتاه دمدل ا‬
‫في أذنه فقال ‪ :‬مرحبا ل بك فأنت أطيب القادمين وأحب النازلين وأحب المنتظرين فافعل ما أمرت به ! فقال دمدلك الموت ‪ :‬ل أقبضك‬
‫إل على ما تختار ‪ ,‬فتوضأ وسجد فقبضه في سجوده وا تعالى أعلم ‪.‬‬
‫ومن لطائاف الحكايات الملكية أن محمود بن بويه لما ملك أرض العراق أعطى ألف دينار ليفراش له ‪ ,‬وقال اذهب إلى مدينة‬
‫أصفهان إلى شارع السلطان ففي صدر الدرب بيت فيه شيخ وعجوز ‪ ,‬ادخل إليهما فسلم عليهما وقل لهما ابنكما يقول لكما كيف‬
‫أنتما من وحشة فراقه ! فلما وصل إليهما فأخبرهما قال ‪ :‬خذ ما جئات به لك ‪ ,‬قال الغلم ‪ :‬أنتما فقيران وبكما حاجة إليه ‪ ,‬فقال‬
‫الشيخ ‪ :‬غنى النفس باق ‪ ,‬ثم تنفس وتمثل بهذه البيات ‪:‬‬
‫س دجمياعها‬ ‫ب لو يقا ا‬ ‫علاي ثيا س‬
‫س منهن أكثرا‬ ‫س لكان الفل ا‬ ‫بفلد ه‬
‫س ببعضها‬ ‫س لو تقا ا‬ ‫وفيهن نف س‬
‫س الدودرى كانت أددجال وأكبرا‬ ‫نفو ا‬
‫صدل السيف إخلاق عهده‬ ‫ضار دن ل‬ ‫وما د‬
‫ضدبا حيث دواجلهدتاه دفدرى‬ ‫إذا كان دع ل‬
‫ويستحب أن يكون مغرَني الملك مغنايا نديِ الصوت شجايا ‪ ,‬ل خارجا ل ولحانا ل ‪ ,‬عالما ل بالصوات ثقيلها وخفيفها وهزجها ورملها‬
‫وصوفيها ‪ ,‬وأصواتها الثقال مثل قول أبي الشيص ‪:‬‬
‫جاد الدملمدة في هواك دلذيدذةا‬ ‫أد ه‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫احابا لههذكرك دفلديلمهني اللوم‬
‫ومثل قول أبي النواس في الوزن ‪:‬‬
‫س وعصمة ما مثلها‬ ‫ك المنافو ه‬ ‫هشلر ا‬
‫للهامطدمهئارَن دودعلقدلة الدملسدتهوفز‬
‫ص ‪489‬‬
‫ت‬‫إهلن دطادل لدلم ديلهلدلك دوإهلن ههدي أدلودجدز ل‬
‫جز‬ ‫ث أانها دللم اتو ه‬ ‫دواد المحد ا‬
‫وفي المستهل والعمل شعر بني عامر مجنون ليلى ‪:‬‬
‫ظروا‬ ‫دخهليلرَي اقوما في عطالة دفألن ا‬
‫أددناسر ‪...‬‬
‫ب امللدتقسى‬‫ك دنارال دفههدي في جن ه‬ ‫دفإلن دت ا‬
‫صلفقا‬
‫د‬ ‫صفقها‬ ‫ل‬ ‫ي‬‫و‬
‫د د‬ ‫روها‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫ذ‬ ‫ي‬
‫همدن ال رَ ه د‬
‫ح‬ ‫ري‬
‫يِ أدلوقدتدها طيماعة‬
‫د‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ليم عد رَ‬
‫لوبة دسدفءر أدلن ديكون لددها وفقا‬
‫دودحاط بها درلحهلي قليل س دفإهانها‬
‫ت هبهه الهعلشقا‬ ‫لوال أطلدل دعدرلف ا‬
‫وليكن المغني عالما ل بطريق الغاني ‪ ,‬مطليعا على كتاب الموسيقى الموضوع للرئايس أبي على بن سينا ‪ ,‬وقد شرحناه في ‪" :‬‬
‫كتاب السبيل لبناء السبيل " وسأذكر لك نكتة منه فأقول كما قيل ‪ :‬إن لدروان الفلك أصواتا ل لو سمعها عاقل أو لبيب لما ثبت ‪,‬‬
‫ومنها أخذ موسى ترجيع النغمات من المربع والمسدس والمثمن ‪ ,‬والنصارى عملوا ببعضه ‪ ,‬فاللحان للروم ‪ ,‬والتجنيس للعراق ‪,‬‬
‫والزقالق للعجم ‪ ,‬والطبول للزنج أو الحبشة ‪ ,‬والبوق لليهود ‪ ,‬وهو سبعون دستا ل مثل دستان الرحيل يقول في وزنه ‪ :‬اركب فأنت‬
‫المظفر ‪ .‬اركب فال أكبر ‪ .‬ودستان الحرب والنزول وغيره ‪ .‬وقال سقراط ‪ :‬اشتباك نغمات الصوات من هياكل العبادات تحل‬
‫وتعقد في الفلك الدائارة ‪ ,‬مثل همة إصابة العين والسحر والستسقاء وسنذكرها في مواضعها ‪ .‬وكن مع الملك كما قال بعض‬
‫الحكماء ‪:‬‬
‫ك دفالب ل‬
‫س‬ ‫د‬ ‫المل‬ ‫إهدذا دخددم د‬
‫ت‬
‫من التورَقى أشد دملدبس‬
‫ا‬
‫ت أعمى‬ ‫دوالداخلل إهدذا ما دددخل د‬
‫ت أخدرس‬‫ل‬ ‫د‬ ‫دوالخارلج إذا ما دخدرلج د‬
‫فصل وهو المقالة الثامنة‬
‫يعقد الوزير في دسته وحاجبه على رأسه ‪ ,‬ول يلصقه أحد في المنعة ‪ ,‬وكتابه لديه والمجلس ملن هيبة ووقارال ‪ .‬والحوائاج إلى‬
‫الحاجب ‪ ,‬والرفع إلى الكتاب ‪ ,‬والطلع إلى الوزير ‪ ,‬ورفع المر إلى الملك ‪ ,‬فأول ما يبدأ بمصالح الحاشية بعد الملك والوزير‬
‫حتى إلى‬
‫ص ‪490‬‬
‫التقليد‪ ،‬وقيل ل يحضر الملك الجمعة إل في مكان معزول في مقصورة له خاصة‪ ،‬وأصحابه في دائارة المقصورة من خارج‪،‬‬
‫والباب مغلق‪ ،‬وعنده من يكون إليه‪ ،‬ويخرج هو وأصحابه في آخر الناس في باب له‪ .‬وليكن له يومان في السبوع للختم والزيارة‪،‬‬
‫ثم يقرأ له بعد الصبح فل يعجلون حتى يفرغ الخر‪ ،‬ثم يقرأ التوبة فإذا فرغوا وعظ وأنشد المنشد‪ ،‬ثم يقرءون‪ :‬قل هو ا أحد‪،‬‬
‫والمعوذتين‪ ،‬والفاتحة‪ ،‬وآلم إلى المفلحون‪ .‬ثم يختم المام بتصديقه حقيقة ويدعو للملك والمسلمين‪ .‬وليكن للملك في السبوع خلوة‬
‫عبادة وتذكار‪ ،‬والنظر في الحساب والموال‪ ،‬والنظر في دساتير البلد‪ .‬وا أعلم‪.‬‬
‫فصل وهو المقالة التاسعة‬
‫في ترتين الخباز والطباخ والقصاب‬
‫ل يكن القصاب عدواا في الدين فإنه ل يتحرى النجاسة‪ ،‬وهكذا الخباز والطباخ‪ ،‬ويتفقد المعاجن وآلت الطبخ والدقيق واللحم‪.‬‬
‫وليكن الطباخ عالما ل بصناعته وعنده كتب الطبائاخ لكشاجم‪ ،‬والشربة والدهان والحلوات والريح الطيبة واللوان الغريبة‪،‬‬
‫وأحسن المآكل وأطيبها وأنفعها وأقواها للعافية‪ ،‬وهو لحم مرضوض مقليو مرشوش بالمياه الحامضة يحشى به العجين فيقلى‪.‬‬
‫وأطيب الحلوات ما كثر خبزه‪ .‬وأنفع الهرايس لمن به حرارة المزاج‪ ،‬وهو اللون النوني من البزرة يقلى‪ ،‬وقد هجرت اللوان‬
‫الظريفة باستيلء الترك واتخاذهم السنبرشح والعرائاس والسالة والطظماج والسترك والبورك المعمول باللحم والحوائاج الحادة‬
‫المعمولة في العجين‪.‬‬
‫فإذا كنت ذا فنون في طلب الطبائاخ فاتجه لكتبها‪ ،‬وقد ذكرنا منها آخر كتاب السبيل‪ ،‬وإذا أردت العقلية فعليك بكتاب المقاص‬
‫وكتاب النجاة للرئايس‪ ،‬وإن شئات فيه الغاية القصوى فاطلع على الكتب الصولية الدينية خاصة كتب شيخنا إمام الحرمين مثل‬
‫"المحيط" و"الرشاد" ومن كتبنا النافعة في ذلك "كتاب القتصاد في العتقاد" و"كتاب قواعد العقائاد" من أول "كتاب الحياء"‬
‫و"الرسالة تاقدسية"‪ .‬وإذا أردت الطب فكثير‪ ،‬وأنفعها ما عمل به من الكتب‪ .‬واطلع على جميع العلوم الشرعية لتعلم الحق من‬
‫الغيى والهوى وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫ثم نرجع إلى تحرير مقامات العمال‪:‬‬
‫ل تستخدم في العمالة إل عارفا ل بفنون الحساب والجبر والمقابلة والمساحة‪ ،‬بحيت لو قيل له‪ :‬ما تقول في أرض ذات زوايا ل يقدر‬
‫حفظها بحائاط ول قصب؟ قال‪ :‬تذرع بالذراع والشبر‪ .‬ويمتحن في علم الحساب كما يمتحن الكتاب‪ ،‬والرسالة والجوبة وكتب‬
‫الدساتير‪،‬‬
‫ص ‪491‬‬
‫فإن ولعت برسالة ابن عباد والصابي فل بأس بأخذ الزبد‪ .‬وليكن صاحب النشاء كثير الفضل والتوقف في الديوان في الزمان‬
‫القصير وفي الزمان الطويل إلى النزول من الركوب‪ ،‬ثم يحاسبهم على ما إليهم‪ ،‬ويستوعب من كل القرباء‪ ،‬ويسأل عن المظالم‪،‬‬
‫ول يكن ملوما ل ول ضجورلا‪ ،‬ول ضخابا ل ول طياشا ل ول لقابلا‪ ،‬وقالوا يجوز له لعب الشطرنج ول يلعب بالزهر‪ ،‬لنه يخرق الحرمة‬
‫بالقمار‪ ،‬فقد ذكر أن أزدشير لما أخرج النرد قيل له‪ :‬ما يستحق إل قطع اليد‪ ،‬قال‪ :‬سأقطعها بتركه‪ .‬كما قيل للحجاج بن يوسف وقد‬
‫شكى إليه من أكل التراب‪ :‬ألق عليه من همتك وعزيمتك! فلم يأكله بعدها أبدال‪.‬‬
‫واعلم أيها الملك أن علو الهمه مع الصبر حتى في الصفوف واختلفه في الثمن كل ذلك بالهمه والخدمة‪ ،‬أل ترى إلى قول أمير‬
‫المؤمنين علي كرم ا وجهه‪:‬‬
‫بقدر الكرَد تكتسب المعالي‬
‫ومن طلب العل سهر الليالي‬
‫دتاروام الهعاز ثم تنام ليلل‬
‫ض البحدر من طلب الللي‬ ‫يخو ا‬
‫دلدتلقال الصخر من قادلل الجبال‬
‫ب هإلاى من منن الرجاهل‬ ‫أددح م‬
‫وقالوا للفتى في الكسب عاسر‬
‫ت‪ :‬العاار في ذرَل الاسؤاهل‬ ‫فقل ا‬
‫إذا عاش الفتى ستين عاما ل‬
‫فنصف العمر تمحقه الليالي‬
‫وربيع العمر يمضي ليس ايلددريِ‬
‫ضى في يمين أو شمال‬ ‫أدايلق د‬
‫وربع العمر أمراض وشيب‬
‫وشغسل بالتفكر والعيال‬
‫فحب المرء طودل العمر قبح‬
‫وقسمته على هذا المثال‬
‫فصل وهو المقالة العاشرة‬
‫ك فإن قدرت على مشاركته فل تبدده‬ ‫ك إذا أردت معاندة الملك فاعتبر جيشك وخلصه من المواطأة والنفاق‪ ،‬ثم زن مال د‬ ‫اعلم أيها الدمله ا‬
‫بالغي‪ ،‬وقلل ذلك وافتح له أبوابا ل موجبة‪،‬‬
‫ص ‪292‬‬
‫وإن خفته ول طاقة لك به فمل إلى مصالحته فالزمان يدور كالكواكب‪ ،‬وحبب من قدرت من أصحابه ولو برشوة‪ ،‬وفاسخهم وألق‬
‫بينهم‪ ،‬وكاتب بعضهم على بعض‪ ،‬وإن خفت أحدال من دولتك فداهن وسلم وتواضع‪ ،‬فربما تجد المل‪ ،‬وإذا كشر الزمان فاصبر‬
‫لعضه فلبد أن يبتسم لك‪ .‬وإن عزمت على حصار مكان فأوقع الخلف في الحصن‪ ،‬كتب سليمان إلى رستم‪" :‬أما بعد فإني‬
‫لخشى عليك من مخامرة الذين معك‪ ،‬فربما يسلمونك لعدائاك" ثم كتب إلى كبار أصحاب رستم‪" :‬خافوا على أنفسكم‪ ،‬وهذه خطة‬
‫إليى في اغتيالكم‪ ،‬وقد زعم أنكم نافقتوه‪ ،‬فإن سلم حصنه إلى شهرباز فل تكون الدائارة إل عليكم"‪ .‬فلما قام القتال بينها فروا جميعا ل‬
‫إلى شهرباز‪ ،‬وكمن سليمان عليها بعد الكسر‪ ،‬وسلم بأصحابه فقتل رستم وقبض على شهرباز‪ ،‬ومر السيف على الفئاتين فأصابهم‬
‫مثل نوبة بني إسرائايل مع بختنصر‪ :‬أوقع الخلف فى الحصن ‪ ،‬فتحمل النساء على فجأة المبارزة‪ ،‬ثم تسجن على ذلك أو أقطعه‬
‫للذين ل خير لهم‪ .‬ول تنهبهم فتنصف بنفسك من نفسك‪ ،‬فتكون كالذيِ طابت له حلوة العسل فعمد إلى خراب كوارة النحل‪ ،‬فتكون‬
‫أشقى الثلثة‪ :‬يروح المظلوم بالثواب‪ ،‬والظالم بالنتهاب وتظفر أنت بمرارة الحساب‪ ،‬ومتى يعم الخراب يا غراب‪ .‬ثم تكتب إلى‬
‫أهل الحصن ولو في نشابة‪ :‬من أراد خيره فاينزل إلينا! في قدر فلك الحصار فيكون حزيران‪ .‬واحفظ البلد بالمقطعين من السياسة‬
‫واللئاذين بالدواب‪ ،‬وليكن لك في كل قرية علمة‪ ،‬وعاقب المخالف بأنواع ما تريد ما لم تجاوز النصفة‪ ،‬ومد المشترى‪ ،‬ثم انصب‬
‫الخواص‪ ،‬وشرع الثياب وصواني فيها ذهب‪ ،‬وفرق القتال في حنيات الحصن‪ ،‬وأمنع خروجهم ودخولهم خوف الغتيال‪ ،‬وقد‬
‫كان صلى ا عليه وسلم عام خيبر مكنهم من الخروج‪ ،‬أطعمهم‪ ،‬وخرج الكثر منهم ثم منعهم من الدخول‪ .‬فإن اتفق له جهة أخرى‬
‫ترك على الحصن مقطعين مع طائافة من خواصه فإن اتفق قتال نقب ورزق ومنجنيق فافعل ورهب وغزغز رمحك وتقعقع وليكن‬
‫باطنك على أهل السواد سليما ل وا تعالى أعلم‪.‬‬
‫فصل وهو المقالة الحادية عشرة‬
‫افتقد آلت سفرك قبل خروجك‪ ،‬وناد في سفرك لعسكرك بالعلم قبل الخروج بمدة‪ ،‬واترك بعدك من يتفقد الناس‪ ،‬وليكن عندك‬
‫صناع فيما تحتاج إليه‪ ،‬وليكن لسوق عسكرك أمناء تحفظه بالتغليظ في السياسة‪ ،‬وليكن وزيرك عالما ل بكتب أرباب السياسات مثل‬
‫المماليك والمسالك وسياسات المعرى التي أودعها الرئايس في آخر كتابه المسمى بالدوية القلبية‪ ،‬وكتاب قوانين الملك لبن مرة‪.‬‬
‫ويقتني مثل كتب البيزرة لكشاجم‪ ،‬وكتب البيطرة لبن قتيبة‪ ،‬والمنهل الروى‪ ،‬فهذا يحتوى على أصناف البزاة وأدويتها ودائاها‪.‬‬
‫وأصناف‬
‫ص ‪493‬‬
‫الخيول ستون صنفلا‪،‬وكان السكندر ينظر الدابة فيعرف مرضها‪ ،‬وهذا هو الطب الصعب‪ ،‬إذ ل يمكن فيه من المساءلة‪ .‬وكان‬
‫يقف في شباك أو خيمة مشرفة على الدواب وعلفها فقيل له‪ :‬أتباشر هذا المر بنفسك؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬نها لنفسي‪ .‬أمغص له فرس فسقاه‬
‫ماء الشنان مبردال فهدأ‪ .‬ومن جملةالخواص تمشيتها على قبور أهل الذمة‪ ،‬فقد سئال رسول ا صلى ا عليه وسلم عن ذلك فقال‪:‬‬
‫صراسخ هملن دتلحت دفدتلفدزاغ ودتلشدفى" وهذه الخواص كثيرة من الحيوان والنبات والجماد‪ ،‬فقد‬ ‫صدعدقا ا‬
‫ت دو ا‬ ‫"اتلسدماع هملن قاابوهر أدلههل الرَذامة د‬
‫ذكرنا أشياء منها في فصول هذا الكتاب‪ ،‬وقد روى أبو هريرة رضى ا عنه قال‪" :‬لما فتح عمر بن الخطاب رضى ا عنه مدينة‬
‫القدس وأمر فيها عبد ا بن مسعود‪ ،‬فأتيته مهاجرال إليها‪ ،‬فدخلت عليه فلم أر له حاجبا ل ول بوابلا‪،‬فسألته عن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬سمعت‬
‫رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول‪ :‬من افتقد قضيم دابته بيده ونقاء بيده كان له بكل حبة عشر حسنات‪ ،‬أفتراني أعطي هذا‬
‫الثواب لغيريِ! افتقد نفسك وما ينجيك هو خير لك من كبرك الذيِ يطغيك"‪ .‬ومثل هذا نقل عن أبي حازم قال‪ :‬دخلت على عمر بن‬
‫عبد العزيز رحمة ا تعالى‪ ،‬فأخذ المصباح ينطفئ فقلت‪ :‬أما أنبه غلمك؟ فقال ل‪ ،‬فقولت‪ :‬أقوم أنا؟ فقال ل‪ ،‬ثم قام عمر وأصلحه‬
‫ثم قعد وهو يقول‪ :‬قمت وأنا عمر وقعدت وأنا عمر‪ ،‬قبحا ل لوجوه المتكبرين! ثم أنشد‪:‬‬
‫ضدعا‬‫لنساان دزادد دتواد ا‬ ‫إهدذا دعظدم ا ه‬
‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫لنساان زادد تدرفعا‬ ‫وإد لؤدم ا ه‬
‫كذا الغصن إن تقو ادلثمار تناله‬
‫وإن ديلعدر عن حمل الثمار دتدمانعا‬
‫فصل وهو المقالة الثانية عشر‬
‫في ذكر صفات منامك‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫أيها الملك‪ ،‬إذا كنت في سفر فبرجا أو حرسا حادا أو مشاعل‪ ،‬وكن متيقظا لنفسك‪ ،‬واشبع بالنهار واسهر بالليل بالمنادمة‬
‫والقصص والسير وتدبير الشغال‪ .‬وإن كنت في الحصن فشد حراسة الباب والسور‪ ،‬وليكن البواب من جملة البرانيي‪ ،‬ونم وحدك‬
‫في مقصورة لطيفة‪ ،‬وأهلك خارجها والمفتاح عندك‪ ،‬فإذا استدعت نفسك بعض جواريك فل تستدع الباردة الثقيلة‪ ،‬فمعاشرة‬
‫الوحش الخفيف خير من حسن الثقيل‪ ،‬قيل لجعفر الصادق رحمه ا تعالى‪ :‬لم تختار السود على البيض؟ فقال‪ :‬مصيف ومشتى‪،‬‬
‫وأخونة شتى‪ .‬قال عبد الملك بن مروان‪ :‬أطيب الجماع أفحشه‪ .‬وقد شكا بعض الملوك من قلة النعاظ‪ ،‬وكان‬
‫ص ‪494‬‬
‫يخاف الدوية الحارة‪ ،‬فاتخذوا له كتاب الباه بطريق الحكايات فعلت فلنة وفعل بفلنة كما قال ابن الحجاج‪:‬‬
‫ما دكهرلهن النرَساء للاشيب إلا‬
‫أيناه املؤذسن دبدنلوهم المذاكور‬
‫وانظر البيت الذيِ في القصيدة اليتيمة‪:‬‬
‫ولها دهكن رداب مجسته‬
‫ضرَيق الدمسالههك حره دولقاد‬ ‫د‬
‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫دوإهذا طدعنت طدعنت في لدبد‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ت ديدكااد ديلندشمد‬ ‫وهإذا دجدذاب د‬
‫واختلف جاريتان عند المأمون سوداء وبيضاء‪ ،‬فقال البيضاء‪ :‬الثلج يصلح للدواء‪ ،‬وبياض الشمس عجب‪ ،‬وخير الثياب البيض‪،‬‬
‫والبيض أحسن من الفحم‪ .‬فقالت السوداء‪:‬‬
‫يعلندبر أدلشدهب وعود قماريِ‬
‫يتعاطى علندد العدناهق لذيذا‬
‫وفحم الشتاء خير من حمأة الصيف الباردة‪ ،‬وعيب الشيب شديد‪ ،‬والبياض في العين عمى‪ ،‬وليلة القدر خير من ألف شهر‪:‬‬
‫ب ديطلااباه‬ ‫دودسوااد الاشبا ه‬
‫ت دحقيا ل دعاجول‬ ‫الدغانيا ا‬
‫وسواد ثياب بني العباس أهيب‪ ،‬وعندنا مجامر الشتاء بساتين المصيف‪ .‬ثم أنشدت‪:‬‬
‫أحب لحبها السودان حتى‬
‫أحب لجلها اسودد الكلب‬
‫وهو لكثرة عزة‪.‬‬
‫وحكى لي من أثق به أن المنصور أغرى بقتل العلويين حتى نفر أكثرهم إلى اليمن‪ ،‬فلما وصلت النوبة إلى المأمون وكان يتولى‬
‫محبة أهل البيت‪ ،‬فسأل عمن بقى من الشراف الفاطميين‪ ،‬فأخبروه عن قوم منهم بأرض اليمن‪ ،‬فنفذ إليهم ليستعطفهم‪ ،‬فأجمعوا‬
‫رأيهم على أن كل واحد منهم يبعث شخصا ل يشبه به وكيله أو غلمه‪ ،‬فإن كان خيرال فما يضره‪ ،‬وإن كانت الخرى فلهم السوة‬
‫بالسادات‪ ،‬فما وصلوا إلى المأمون أكرمهم وأعطاهم وتزوجوا وتوطنوا‪ .‬فإذا وجدت شريفا ل مفتخرال غير ذاك ولزكى فهو منهم‪،‬‬
‫إذ هذا البيت المعظم ل انبساط للفحشاء على منازلهم‪ ،‬وهو معنى قوله‪" :‬نحن أهل البيت ل نفجر ول يفجر بنا" وا أعلم‪.‬‬
‫ص ‪495‬‬
‫فصل وهو المقالة الثالثة عشرة‬
‫في حيل اليمين‬
‫اعقد على نفسك عقد الدور لبن سريج‪ ،‬وقد كنت ل أقول به‪ ،‬ثم رأيت الخمر المغلى بالثوم له منفعة لرباب القولنج البارد‪،‬‬
‫وجماعة من أصحابنا يقولون به‪ ،‬وكل مسألة خلف إذا حكم الحاكم بصحتها زال خلفها‪ .‬ويشترط في نسخة اليمين معاني تؤول‬
‫منهم إلى الفسخ بالتأويل‪ ،‬واليمين على نية المستحلف‪ .‬واحترز فى عقد الوكيل وأعم اللفاظ‪ :‬كلما وقع عليك طلقي وطلق وكيلي‬
‫فأنت طالق ثلثا ل‪ .‬ل تمنع أيها الملك قول الحكماء والفتوى بها‪ ،‬وإذا اخترتها فليكن باطنلا‪ ،‬وخطوط الشهود والحكام عندك‪ ،‬وإن‬
‫ادعى نفيه فسلم إليه ول تسلم إلى العامي عنانه‪ ،‬فهو جهول باليمين والعنان‪ .‬واحذر اليمين بكل ما يتعلق بال وبكلماته وصفاته‪،‬‬
‫واختلف العلماء فيما له حرمة غير هذا‪ ،‬وأما اليمين الغموس فإنها تذر الديار بلقع‪ ،‬وذلك أن يحلف على ما يعلم كذبه‪ .‬واقعد أيها‬
‫الملك قعود المتأدبين‪ ،‬وكن قلقل الكلم‪ ،‬ول تخطئ المفتين‪ ،‬ولكن قابل بعضهم ببعض‪ ،‬وقد سمعت ما قال عليه الصلة والسلم‪" :‬‬
‫استفت نفسك وإن أفتوك‪ ،‬فالحلل بين‪ ،‬والحرام بين‪ ،‬وبينهما أمور متشابهات‪ ،‬فذر ما يريبك إلى ما ل يريبك" وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪" :‬من جعل الحلل له قوتا ل أجيبت دعوته‪ ،‬وعلمت مروءته‪ ،‬وحسنت سريرته‪ ،‬وعلت كلمته‪ ،‬وحصلت أمنيته‪ ،‬وطابت‬
‫هيئاته‪ ،‬وطهرت ذريته‪ ،‬وتنورت نطفته‪ ،‬وذرفت دمعته‪ ،‬وظهرت حكمته‪ ،‬وقل غضبه‪ ،‬ورق قلبه‪ ،‬وخف ذنبه يا على رد درهم‬
‫مظلمة أفضل عند ا من أربعة الف حجة مقبولة‪ ،‬يا علي من غضب غضب ا عليه‪ ،‬ومن ظلم ظلم‪ ،‬ومن أكثر من الصدقة‬
‫نصر في ذريته"‪ .‬في الحرام هو أن معاد النفوس واحد‪ ،‬ومرجعها إليه بعد القبض‪ ،‬فإذا ظلم بعضها سرى الظلم في كلها‪ ،‬وهو‬
‫س دجهميلعا دودملن أدلحديادها دفدكأ داندما أدلحديا الانادسو دجهميلعا"‬ ‫س أدلو دفدساءد هفي الدلر ه‬
‫ض دفدكأ داندما دقدتدل الانا د‬ ‫معنى قوله تعالى‪ " :‬أداناه دمن دقدتدل دنلفلسا هبدغليهر دنلف ء‬
‫المائادة ‪.22‬‬
‫فإذا أوصلت إلى النفوس برال وصدقة وخيرال وعدلل وإشفاقلا‪ ،‬سرى ذلك إلى جميع النفوس بعد القبض فصار خيرلا‪ ،‬فإذا وصل بهم‬
‫كان ذلك خيرال للجميع‪ ،‬أل ترى قول الرجل لمرأته‪ :‬بعضك طالق‪ ،‬كيف يسريِ الطلق في الكل؟ إذ الطلق ل يتبعض‪.‬‬
‫وليكن لك أيها الملك إمام يؤم بك‪ ،‬وليكن عالما ل دينا ل يعرف بذلك‪ ،‬وليكن شيخا ل أو أعمى‪ .‬وعلم مماليكك خطأ ل ورموزلا‪ ،‬فإن اتفق أن‬
‫يكون المعلم خادما ل أو شيخا ل فأولى‪ .‬والنساء امرأة دينة‪ .‬واعلم أيها الملك أن أهل الزمان فاسدون لتشاغل الرجال بالرجال‬
‫ص ‪496‬‬
‫والنساء بالنساء‪ ،‬وهو أعظم المقت والسخط‪ ،‬ومنه حصلت الباحة لبعض الطوائاف حتى بسطوا فيه وأقاموا لهم فيه شبها ل نقلية‬
‫ض دجهميلعا" البقرة ‪ .29‬قالوا‪ :‬هكذا كان الناس على المنهج القديم‬ ‫وعقلية‪ :‬أما النقلية فقوله تعالى‪ " :‬اهدو الاهذيِ دخدلدق دلاكلم دما هفي الدلر ه‬
‫ليس تحليل ول تحريم‪ ،‬ولكن النبياء حللوا أشياء وحرموا أشياء‪ .‬وقال تعالى‪ " :‬وويسل للمشركين * ٱيلذين ل يؤتون ٱليزكىوة"‬
‫فصلت‪ .6،7 :‬وقد تعلقوا بإباحة أبي بكر رضى ا عنه أموال بني حنيفة‪ ،‬وزعموا أن الخطاب من الرسل إما أن يكون لموجود أو‬
‫لمعدوم‪ ،‬فالمعدوم ل يخاطب والموجود المخاطب في زمانهم فقد درج معهم فمن هذه الشبهة تمسك أرباب الباحة مثل النصيرية‬
‫وغيرهم‪ ،‬وسنذكر تعلقاتكم في أماكنها‪ .‬وقد عرفتك أيها الطالب طريقك النفيسة مثل لبس النظيف والطيب وقلة الكلم بطريق‬
‫الختصار‪.‬‬
‫وأدب أصحابك أن ل يشكو منهم قريب ول بعيد مثل قول الحكماء‪ :‬ثلثسة إن لم تظلمهم ظلموك‪ :‬ولدك وزوجتك والمملوك‪ .‬وإياك‬
‫وقرب الملوك‪ ،‬فإن قربوك فتنوك‪ ،‬وإن بعدوك أحزنوك‪.‬‬
‫وهذه وصايا الملوك‪ ،‬فإن هممت بتحصيله فربما أعانتك السعادة‪ ،‬وإن أراد ا أمرال هيأ أسبابه وحرك القضاء بتحريكه‪ ،‬وقد كان‬
‫ا قادرال على تحصيل الرطب لمريم من غير هز كما قال النظم البديع‪:‬‬
‫أدلدلم دتدر أدان ا دقادل لدملرديدم‬
‫ك الجذدع دياساقط اليرطب‬ ‫ودهيزى إهلدلي د‬
‫ولدلو دشادء أدلحدنى الجذع من غير هزها‬
‫ي‬
‫ب‬‫ودلكانما الشيادء دتجهريِ لها دسب د‬
‫فإن وقع لك صناعة الحجرين الحمر والبيض فحصله‪ ،‬ولكن ذاك عنك بعيد‪ ،‬وبالمهمة يفتح عليك بعض هذه الطريق‪ ،‬أما سمعت‬
‫في رموز أمير المؤمنين رضى ا عنه أن في الزئابق الرجراج مع الشب المصعد لمالل هنيأ؟ فذوو الهمم القصيرة يقصرونك عن‬
‫نيل مقاصدك‪ ،‬وإل فمن طلب وجد ومن جيد وجد‪ ،‬ولهذه مثل‪ ،‬وهو أن بعض المتصوفة سمع هذا الحديث فقال‪ :‬سأجرب نفسي في‬
‫طلب المملكة‪ ،‬وكان فيه آلة من علم وأدب‪ ،‬وكان محلل قابلل للمك‪ ،‬فتقرب إلى الفراشين فخدم معهم ففشا أمره في السيرة الحميدة‪،‬‬
‫ثم مات مهتارهم فصار مكانه‪ ،‬ثم عبث في الديوان حتى انتقل إلى مكان زمامهم‪ ،‬فلما انتشر شكره وذاع خبره وذكره اقبض الوزير‬
‫وارتب مكانه‪ ،‬فساس الرعية وأظهر العدل واستراح الناس من ثقل ما كانوا فيه‪ ،‬حتى مات الملك فتصور مكانه وتزوج ابنته‪،‬‬
‫فاجتهد فى التدريج والتطويل وحصل‪ .‬وقد شاهدت محمد بن صباح إذ تزهد تحت حصن أددلملوت وكان أهل الحصون‬
‫ص ‪297‬‬
‫يشتهون أن تطلع إليهم فلم يفعل‪ ،‬وهو يحصل المريدين ويعلم طريق الرادة والتلمذة وشيئاا ل من الجدل‪ ،‬ثم جعل يمهذر بكلم على‬
‫قدر عقولهم من جملته‪ :‬ما تقول في قائال ل إله ا هل هو محق أو غير محق؟ فإن قلت محق فليزمونك باليهود والنصارى‪ ،‬وإن‬
‫قلت غير محق‪ ،‬قالوا فلم تتعلق بها؟ ثم جذب الناس وجعل يقول للمريدين‪ :‬أما ترون الناس قد تركوا الشريعة! فلما كبر المر‬
‫خرج إليهم بطريق المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فصبا إليه خلق كثير‪ ،‬وخرج صاحب القلعة إلى الصيد‪ ،‬وفشا أمره‬
‫ومذهبه حتى صنفت في الرد عليهم كتابا ل وسميته قواصم الباطنية ومنتظرهم فلبد في آخر الزمان أن يهجروا الشرائاع ويبيحوا‬
‫المحرمات فانظر هذه الطريق التي شرعنا لك أيها الملك وجعلناها إشارة وسلما ل تنال بها مقاصدك‪.‬‬
‫وكان عمر بن الخطاب رضى ا عنه أمر الحطيئاة أن تجمع حديث عبس وذبيان‪ ،‬ول بأس يجمع هذه الكتاب‪ ،‬حتى تنور نيران‬
‫النخوة‪ ،‬فتمد باع همتكك إلى أسنى طلبتك وأقصاها وأعلها‪ .‬وقصص النبياء تكفيك إن غفلت‪ ،‬وقد علمت صبر النبياء على نيل‬
‫المقاصد مع العداء حتى فازوا بالنيل‪ .‬وقد سمعت حديث داود بن شعيا ولد سليمان عليهما الصلة والسلم وكان صبيا ل فلما حاول‬
‫وعضدته يد السعادة فقتل جالوت حتى تزوج ابنة طالوت وكان طالوت دباغا ل‪ .‬وهكذا سير الملوك‪ ،‬فانظر في كتاب‪" :‬السباب‬
‫والمعارف" لبن قتيبة ودع النظر في الصغر‪ ،‬وانظر الشاعر كيف يقول‪:‬‬
‫ل دتأدمنن إذا ما كنت د ذا أد ه‬
‫ب‬
‫دمدع الاخموهل بأ دلن دتلردقى إلى الدفدلهك‬
‫دبليدنا دتدرى الاذهب البريدز اماطدردحا‬
‫ض إذ صادر إكليلل على الملك‬ ‫في الر ه‬
‫وبطعم الحديد وذوقه يتأدب الكرم عند كسحه‪ ،‬وإذا ترك عجمه سنة هلك‪ ،‬أل ترى إلى الحيوان البهم كيف بالضرب والدب يتعلم‬
‫الرقص والتطاير؟ ولما مات هارون استخلف المين وفر المأمون إلى مدينة أصفهان ومعه الحسن بن سهل‪ ،‬وكان المأمون ذا‬
‫فنون وعلوم وآداب‪ ،‬فقعد المأمون في المسجد الجامع وقد فرشه باللبد زهدال والناس يهرعون إليه لتعلم العلوم‪ ،‬وابن سهل يومئ‬
‫إلى الطوائاف ويقول لهم‪ :‬أليس هذا هو الخليفة حقلا؟ فبايعوه! ويقول لهم‪ :‬سنة هذا سنة الولين الطاهرين‪ ،‬فلم يزل يستدرج الناس‬
‫حتى حوى عسكره ثمانين ألفا ل‪ .‬وكانت العاجم تسمع بطريق المين الفاسد ففروا وطلبوا المأمون‪ ،‬حتى عقد‬
‫ص ‪298‬‬
‫الجيوش لطاهر بن الحسين فدخل على المين فقتله‪ ،‬واستولى المأمون‪ .‬فكم من هذه السير المنقولة! وإنما نسمعك بعضها تقوية‬
‫وإعانة لهمتك‪.‬‬
‫والولع بكتب الولين مثل كليلة ودمنة والمغازيِ وحديث عبد الوهاب‪ ،‬ول يلزمك من سقمها وصحتها شئ قال الشافعي رضى ا‬
‫عنه‪ :‬مسقط الرأس مسقط النسان‪ .‬فكن وفاي العهد والكلم‪ ،‬وليكن لك محتسب يحتسب عليك وعلى من في دارك من المسلمين‪ ،‬ثم‬
‫ينظر في مشارع البلد ومصالحه والسعار‪ ،‬وإن كان قد نهى عن التسعير لكنه ليس به بأس‪ ،‬فقد فسدت الناس وقلت المانات كما‬
‫ذكر في كتب الملحم لرسول ا صلى ا عليه وسلم‪ .‬وخطبة المام فيما يتجدد‪ .‬ويكون للسعادة مباد وتناه‪ ،‬فقد نقل أن ا تعالى‬
‫لما بعث نبيه موسى عليه الصلة والسلم قيل لفرعون‪ :‬تلميذك موسى يخاطب علة العلل‪ ،‬فأمر بإحضاره وقال‪ :‬يا بني تزعم أنك‬
‫تخاطب علة العلل؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬بم نلت هذا؟ قال‪ :‬بسهم السعادة‪ ،‬فقال‪ :‬من أيِ جهاتك تسمع كلمه؟ فقال‪ :‬من جهاتي الست‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إن لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين‪ ،‬فقال بعض الحسدة الحاضرين‪ :‬إن عصيى سرنديب إذا‬
‫نقلت إلى هذه البلد تكون حيات‪ ،‬فقال له موسى‪ :‬خذها إليك‪ ،‬فإن كان كما تقول فستكون وإل فتبطل‪ ،‬فبهت الرجل وبطل‪ ،‬فقال‬
‫فرعون‪ :‬اتبعوه فقد جاء بخرق العادات‪.‬‬
‫والسعادة الكلية هى من الفيض الول‪ ،‬ثم يفيض من طريق التحريِ إلى كل محل بما يقبله‪ .‬والفيض الول من العلة الولى يتناشى‬
‫بطريق الفيض الوهمي الذيِ عجزت العقول عن تحصيل كنهه‪ .‬والذيِ صدر عن علة العلل من الفيض الول هو العقل الفعال‬
‫الصادر بالكلية عنه‪ ،‬والنفس الكلية هي التي تفيض النفوس عنها‪ ،‬والذيِ يتجلى للخلق من العقل هو بقدر نزول الشعاع للشمس في‬
‫النوافذ والنور‪ .‬ومثل تجلى العقل للنبياء كمثل الشمس المنخرقة في الرض الفلة‪ ،‬وهو معنى قوله عليه الصلة والسلم‪" :‬خلق‬
‫ا الخلق في ظلمة ثم رش عليهم شيئاا ل من نوره‪ ،‬فمن أصابه شئ من ذلك النور اهتدى‪ ،‬ومن لم يصبه فظلمات بعضها فوق‬
‫صلددرها له ل ه‬
‫للسدلهم دفاهدو دعدلىى انوءر‬ ‫ك" الشرح‪ .1:‬وقوله تعالى‪ " :‬أددفدملن دشدردح ا‬
‫اا د‬ ‫صلددر د‬‫ك د‬ ‫بعض" وهو معنى قوله تعالى‪ " :‬أددللم دنلشدرلح دل د‬
‫هملن دررَبهه " الزمر‪ .22 :‬وهو الذيِ تجلى لبراهيم عليه الصلة والسلم وكان في بدئاه ضعيف شاهد من نوره الكوكب‪ ،‬فلما تجلى‬
‫لبراهيم عليه الصلة والسلم‪ ،‬وتقوى جناح همته بطريق المجاهدة‪ ،‬وانخرقت له النوار القدسية من رؤية حالة باطنه وسره‪،‬‬
‫شاهد الشمس والقمر‪ ،‬فلما صفت العلة وخلصت الخلة شاهد بمقياس الحظ أصل العلة الولى التي فيها مبدأ فيض السعادة‪ ،‬فقال‬
‫ت"‬‫ت دولجههدي لهلاهذيِ دفدطدر الاسدمدوا ه‬ ‫عند وجود سهم السعادة والحظ " دواجله ا‬
‫ص ‪399‬‬
‫ض" النعام‪ .79 :‬فلما وجد انخراق النور اللهي لم يلتفت إلى مال ول ولد‪ ،‬فنهب يد النتقاد ماله وولده‪ ،‬فجعل ذلك غرامة‬ ‫دوالدلر د‬
‫بطريق التصوف لوجود حاله فقال في رفض ترك نقصه عند وجود حقه ورؤيته الكمال‪ :‬ها هو ذا جسديِ للنيران وولديِ للقربان‪،‬‬
‫ومالي للفيضان‪.‬‬
‫فكن أيها الملك على هذه الطريقة والوتيرة حتى ينكشف لك ستر الباطن عن منهج الحق‪ ،‬فتقعد على كرسي طب أحوال العالمين‪،‬‬
‫فتجس بمقياس الفراسة طريق معرفة الظالم من المظلوم‪ .‬واعلم أن الغني والموال هي مدخرة لتحصيل المملكة الدنيوية‬
‫والخروية‪ ،‬فإذا صح لك هذا الطريق غلبت بسهم السعادة من عصاك‪ ،‬ومنه يحصل لك تسخير الهمم العلوية‪ .‬ول يراد الخلق إل‬
‫للثواب والثناء وإل فما هي إل أرواح سائارة عن أجساد خالية‪.‬وقد ورد في لطائاف الحكايات أن الملئاكة قال بعضهم لبعض‪ :‬اتخذ‬
‫ربنا من نطفة رديئاة خليلد وقد أعطاه ملكا ل عظيملا‪ ،‬فأوحى ا تعالى للملئاكة اعهدوا إلى أزهدكم ورئايسكم! فوقع التفاق على‬
‫جبريل وميكائايل فنزل إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه عند رابية للحلب‪ ،‬وكان لبراهيم أربعة آلف راع‪ ،‬وأربعة آلف كلب‪ ،‬في‬
‫عنق كل كلب طوق من ذهب أحمر‪ ،‬وأربعون ألف غنمة حلبة‪ ،‬وما شاء ا من الخيل والجمال‪ ،‬فوقف الملكان في طريق الجمع‬
‫فقال أحدهما بلذاذة صوت‪ :‬سبوح قدوس‪ ،‬فجاوبه اآخر‪ :‬رب الملئاكة والروح‪ ،‬فقال‪ :‬أعيداها ولكما نصف مالي! ثم قال‪ :‬أعيداهما‬
‫ولكما مالي وولديِ وجسديِ! فنادت ملئاكة السموات‪ :‬هذا هو الكرم‪ ،‬فسمعوا مناديا ل من العرش يقول‪ :‬الخليل موافق لخليله‪ .‬فكن‬
‫أيها الملك غير مبال بوجود المال وعدمه إذا سلمت لك نفس رياستك وقلة مملكتك‪ .‬وسنذكر حكايات الكرم في مواضعها من‬
‫كتاب‪" :‬السلسبيل" وكتب "إحياء علوم الدين" فإذا أردت اقتفاء آثار السابقين فقد ذكر في كتاب فتوح سيف الدين الكوفي أن أهل‬
‫الشام لما أثقلهم الحصتر وقالوا ل نسلم إل لمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى ا عنه‪ ،‬فلما علم عمر ذلك حصل فرسا ل‬
‫وحمارلا‪ ،‬فقال له كبار أهل المدينة‪ :‬المملكة بناموسها‪ ،‬فأجابهم بأن المملكة معطيها صاحب السماء‪ ،‬فصفوا خواطركم وعلم هممكم‬
‫لتبصروا السعادة بمقاييس النوار من وراء الفلك‪ .‬ثم سار إلى الشام فاتفق له أن وقع به الحمار في غدير ماء متغير وحمأة‪،‬‬
‫فابتلت مرقعته‪ ،‬وكانت نوبته‪ ،‬فعرضوا عليه ركوب الفرس فأبى‪ ،‬وقالوا‪ :‬قد أقبلت العساكر والرهابين لتسلم عليك‪ ،‬فغير ما عليك!‬
‫فلم يلتفت حتى أقبل عليه جملة الشاميين بنواقيسهم وقبعاتهم‪ ،‬فلما رأوه في تلك الحالة قالوا بأجمعهم‪ :‬أنت عمر ولك نسلم ولك‬
‫نطيع وندين‪ ،‬كما قال المسيح‪" :‬إذا وصلكم صاحب المرقعة المبلولة بالماء والتراب فسلموا إليه"‪ .‬فهذا خبر سر معارف رسول ا‬
‫صلى ا عليه وسلم‪ ،‬كيف صفا ووفى‪،‬‬
‫ص ‪500‬‬
‫فعرفه سر ماكان وما يكون ‪ .‬ومن تلك النوار اعتصر الناس ملحم رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ ،‬وقمر النبوة الذى هو أخوه‬
‫وشريكه فى نوره اعتصر كتيبا ل مثل الجفر والجامعة وكتاب خطبة البيان وهى حاوية على أكثر ما يكون فى الزمان ‪.‬‬
‫وإن طلب أحد الهدنة فهادنه إن كان مسلما ل ‪ ،‬وإن كان كافرال وقدرت عليه فل تهاون كيل تفوت الفرصة ‪ ،‬ولتكن الهدنة إلى أمد‬
‫معلوم وأقلها أربعة أشهر فإن صفت همتك وكانت روحانية لها مجانسة فى الملكوت العلى ‪ ،‬وعلو همتك ظاهرة ‪ ،‬فخذ طريقا ل‬
‫صلحا ل من تثليث وتسديس من نجم ناظر اليك ل إلى سواك ويخر له ‘ فإن تونست به صار لك وزيرال ‪ ،‬والصل فى البخور هو‬
‫علو الهمة ‪ ،‬وتزكية النفس وتقليل المأكل ‪ ،‬والنقطاع فى الخلوة ‪ ،‬ودوام الذكر ‪ ،‬ينخرق لك من رؤية الغيب من علم الباطن أنوار‬
‫المكاشفة ‪ ،‬فتصير الملك والفلك حديثا ل يغلب ل هوتك على ناسوتك ‪ ،‬فتصير زيتا ل لمصباح مشكاة النوار اللهية كما قيل‬
‫)شعر(‪:‬‬
‫ثقلت ازدجادجات أددتلتنا فرلغا‬
‫ف الرااح‬ ‫ت دبصر ه‬ ‫دحاتى إدذا املدئا ل‬
‫ت‬‫خافت دفدكاددت ل أدلن دتهطيدر هبدما دحدو ل‬
‫ف هباللروداح‬ ‫ودكذا الاجاسوام دتخ م‬
‫وإذا حصل لك خمير السعادة من العلة الولى التى هى مبدأ كل علة بطريق المجاهدة فى تحصيلها ‪ ،‬أفرغت عليك أنوار المحبة ‪،‬‬
‫فصار الخلق لك طائاعين بل سيف يسيف بينهم‪ ،‬ثم يبسط باع فيهم كما كتب بعض الملوك على درع له )شعر(‪:‬‬
‫ت له‬ ‫دعدلاى هدلرسع دتهلين ا الاملردهدفا ا‬
‫من الاشجاعهة ل من نسج داود‬
‫صايرنى‬ ‫دو إهاننى فيهه أمر ا د‬
‫س فى بحهر همدن الجود‬ ‫ه‬ ‫اليأ‬ ‫من‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نار‬ ‫د‬
‫فإن انسد عليك باب المجاهدة وغلقت ‪ ،‬ورأيت باب الطلب مسدودال فل ترض بالمناقصة ‪ ،‬بل تميل إلى الزهد فإن الناس رجلن‬
‫ناسك ومالك ‪ ،‬كما تمثل عمر رضى ا عنه ببيت الفرزدق استشهادال به ثم أنشد )شعر(‪:‬‬
‫إهاما اذدبادبا فل تعبأ هبدملنقصة‬
‫أو قيمة الرأس دواحدذلر أن دتدقدع دوسطا‬
‫ومثلها قال أمير المؤمنين عليى رضى ا عنه )شعر(‪:‬‬
‫هإذا دمادلم ل دتاكلن مطاسعا‬
‫كما تضلرضى دفاكلن عبدال مطيعا ل‬
‫‪.............................................‬‬
‫ص ‪501‬‬
‫دفإلن دللم تملهك المدنيا جميعا ل‬
‫كما دتلخدتار دفالتاركها جميعا‬
‫اهما شيئاان من نسك وملك‬
‫س‬
‫اينيلن الفتى شدرفا درهفيعا‬‫د‬
‫ش بكرَل شئ‬ ‫إهدذا المرءث عا د‬
‫ضيعا‬‫ش به دو ه‬ ‫سوى هذين ه عا د‬
‫وكتب معاوية إلى ابنه يزيد‪ :‬إن فاتك يابنى الملك فل يفوتنك المحراب وبهذا الطريق نال الناس مطالبهم حتى رأينا الملوك‬
‫متقاطرين على باب الزهاد ‪ ،‬ولهذا قال القشيرى ‪:‬‬
‫ب للميهر‬ ‫إهدذا ما الدفهقير ا هببا ه‬
‫س الفقير‬ ‫ه د‬‫ئا‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫المير‬ ‫س‬
‫ه د‬‫ئا‬‫ل‬ ‫ب‬ ‫د‬
‫ف‬
‫ب الفقير‬ ‫دوأداما الميار ببا ه‬
‫فنعم المير وهنعدم الفقير‬
‫واعلم أنه إذا حصلت القلوب بمعرفة صمديتها ‪ ،‬وانكشف لها نور الجلل بالبراهين الباطنة ‪ ،‬وحصلت التخلية والتصفية ‪ ،‬كوشف‬
‫بالعالم العلوى والخروى وعلم سر معانيها ‪ ،‬فهو كالذى كوشف بمعرفة الكيمياء الكبر ‪ ،‬فتصير الملئاكة له خداما ل ‪ ،‬فيشاهد‬
‫ث ؟" قال‪ :‬أصبحت بال مؤمنا حقا يل ‪ ،‬فقال‬ ‫ت ديا حار ا‬ ‫أساور الجنة وأسرها كما قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬دكليف دأصلببلح د‬
‫ك ؟" فقال ‪ :‬أعرضت نفسى عن الدنيا فاستوى عندى ذهبها ومدرها ‪ ،‬وكأنى‬ ‫عليه السلم ‪ " :‬إهان لكل دحق دحقيدقسة دفما د دحقيدقاة إيمان د‬
‫د‬ ‫ل‬
‫بأهل الجنة فى الجنة يتزاورون ‪ ،‬وبأهل النار فى النار يتعاورون ‪ ،‬وكأنى بعرش ربى بارزا ‪ .‬فقال عليه السلم ‪ " :‬امؤمسن ناودر ا‬
‫ك‪،‬دو اثلالثا هلررَب د‬
‫ك"‪.‬‬ ‫ك‪،‬دو اثلالثا هلهدرهعهيات د‬
‫ك ألثلثا ل ‪:‬اثلالثا لهدنلفهس د‬‫ك دوددلهدر د‬‫ك دوايادم د‬ ‫ت فأللدزلم! والقهسلم اعلمدر د‬ ‫دقلدباه الدن دعدرلف د‬
‫واعلم أن الناس بك لئاذون لطلب منافعهم ‪،‬وكل أحد يريدك لنفسه إل ا ‪،‬فإنه يريدك لك ‪،‬فكن معه ولزمه ول تستهويك المانى‬
‫‪،‬فالظل لبد أن يزول ولو عمرت ما عاش آدم ‪،‬أخبرنى الستاذ الجوينى عن مشايخه ‪:‬قيل لمحمود بن بويه ‪:‬كيف عمدت إلى طلب‬
‫ل؟ فقال ‪:‬سمعت امرأة تنقر د مافا وتقول بيتا ل لعمر بن سبطى )شعر(‪:‬‬ ‫المملكة ولم تكن لها أه ل‬
‫ب دودجاسدردبدلدغ المنا‬ ‫ب دخا د‬ ‫دملن دها د‬
‫د‬ ‫د‬ ‫د‬
‫والداهر هفيه اعذوبة دوعذاب‬ ‫ا‬ ‫رَ‬
‫فحملنى ذلك على طلبها فطلبتها ونلتها ‪.‬‬
‫‪...........................................................‬‬
‫ص ‪502‬‬
‫وقد تحالى المتنبى حيث قال )شعر (‪:‬‬
‫ب واثلقا بال وثبة حازم‬ ‫دفهث ل‬
‫ديدرى الموت فى الهيجا جنا الانلحهل فى الفم‬
‫وانظر إلى علو همة الحلج ‪ ،‬وإن كان قد قال الحاسدون فيه ورجموه بالحلول ‪،‬وقد تلقى الموت غير خائاف ‪ ،‬ونطق ظاهره بما‬
‫أعمى جهلتهم ‪،‬حتى قيل لبى العباس بن شريح ‪ :‬ما تقول فى الحلج ؟ قال ‪ :‬ما أقول فى رجل هو أفقه منى فى الفقه ‪ ،‬وفى الحقيقة‬
‫ما أفهم ما يقول ‪،‬فقيل له ‪:‬ما سمعت منه من جملة ما سمعت ؟ قال ‪:‬سمعت فى بعض كلمه وهو يشير إلينا ‪ :‬من حضر بطلت‬
‫ت ااالمدقارهبيدن"لنهم واقعون‬ ‫ت الدلبدراهرسرَيئاا ا‬
‫شهادته ‪ ،‬ومن غاب صحت ‪ ،‬وفى مثل هذا قال رسول ا )صلى ا عليه وسلم (‪":‬دحسدنا ا‬
‫مع صف التجلى ‪،‬فما لهم والندم على ما كان والخوف مما يكون ‪ ،‬صفت أحوالهم فى راووق المجاهدة ‪ ،‬فامتنعوا بطريق الدلل ل‬
‫عن اللتفات إلى غيره ‪ ،‬فطاروا بأجنحة علومهم المجموعة فى المجاهدة والتصفية والتزكية فخرقوا حجاب الناسوت حتى وصلوا‬
‫إليه ‪ ،‬ضاقت بهم العبودية فخرجوا عن حيز العالمين ‪،‬فمزجت الناسوتية بصفات اللهوتية ‪،‬ثم عادت النفوس الطاهرة إل معادنها‬
‫‪،‬فهبت عليهم نسمات واجب الوجود ‪،‬فحلوا فى خيام الراحة بعد البعث فى مقعد صدق عند مليك مقتدر كما قال السكران من العشق‬
‫)شعر(‪:‬‬
‫ب هفنااء اكلماه‬‫إهانما الح م‬
‫حدم ا امرأل قال به‬ ‫در ه‬
‫ضدحى هبدقللهبى سالما‬ ‫إهان دملن أد ل‬
‫دللم يذلر منه سوى قالبه‬
‫هفى هظلهل الاشوهق قلبى راقد‬
‫من هجير الهجرقد قال به‬
‫فإن لم تكن أيها الملك الطالب ل بهمة علوية ول بيد باسطة سبعية فأنت كما قيل )شعر(‪:‬‬
‫إهدذا كنت ل اتلردجى لدفع ملمة‬
‫ول لذوى الحاجات هعندك مطمع‬
‫ول أنت ذو جاه ءايعاش بجاهه‬
‫ول أنت يوم الحشر ماملن ديلشفع‬
‫ك فى المدنيا دوملواتك واحد‬ ‫ش د‬‫دفدعلي ا‬
‫وعود خلل من حياتهك أنفع‬
‫‪..............................................................‬‬
‫ص ‪503‬‬
‫ومثله )شعر(‪:‬‬
‫ب الدقلتال والهقدتاال علينا‬ ‫اكهت د‬
‫وعلى الغانيات هدجمر الاذيو ههل‬
‫وقد مر بك شعر آخر ‪:‬‬
‫ت دفام ل‬
‫ت‬ ‫إهلن لدلم دياكدن ابمد همدن ادلملو ه‬
‫ت هظلهل السل الذوابل‬ ‫دتلح د‬
‫وكن آخلذا بقلوب الناس بكتب وهدايا ‪،‬واستجلب مودات الكبار ‪،‬والخدمة للخبار ‪،‬وإكرام العلماء ‪،‬وإمدادت أحوال الناس ‪،‬وسد‬
‫صدل دملن دق دطدعهنى‬ ‫ت أدلن أدلعافو دعاملن دظدلدمنى دوأد ه‬ ‫خللهم ‪،‬والصفح عن زلتهم ‪،‬ولنظر كيف أدبك المصطفى عليه السلم حيث قال ‪":‬أ اهملر ا‬
‫دوأ العهطى دملن دحدردمهنى ‪،‬دوأدلن أدلجدعدل اساكوهتى هفلكدرلة دودكلهمى هعلبدرلة"‪ .‬إن أردت الجواب فل تعجل ‪،‬واستعرض كلم الرسل متفرقين غير‬
‫مجمعين ‪ ،‬وأعط الجواب على تؤدة ‪،‬وأرض الرسل ينبسط ثناؤك ‪،‬فقد قيل إنه لما دخل حكيم العرب على كسرى أجزل له العطاء‬
‫ك الداياام اندداولادها دبليدن‬
‫‪،‬فلمه بعض الكبار ‪،‬فقال الملك ‪:‬مملكة وجمع لؤم داءان ودواء فالغلبة للكثر ‪.‬واتعظ بقول ا تعالى ‪{:‬دوتلل د‬
‫الدناس })آل عمران ‪ .(140:‬فهكذا قد انتقلت من سواك إليك ‪،‬وستنتقل منك إلى سواك ‪،‬وانظر إلى المثال المضروبة فى شعر‬
‫أمير المؤمنين عليه السلم )شعر(‪:‬‬
‫س فى زمهن القباهل كالدشجرة‬ ‫الانا ا‬
‫دودحلودلها الناس مادامت لها ثمره‬
‫صرافوا‬ ‫ت من حملها الن د‬ ‫دحاتى إذا ما دعدر ل‬
‫ل‬
‫عنها عقوقا دودقلد كانوا بها برره‬
‫دودحادوالوا قطعها من بعد ما شفقوا‬
‫دهرال عليها من الرياهح والغبره‬
‫ض كلهم‬ ‫ت أدلهل اللر ه‬ ‫ت اماروءا ا‬ ‫دقلا ل‬
‫س العشر من عشره‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫ي‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ف‬ ‫القل‬ ‫إل‬
‫ل دتلحهمدن امرأل دحاتى اتدجرَراباه‬
‫ا‬
‫دفارابما لم يوافق خلبارها خدبدره‬
‫د‬
‫واصطف لك من الناس من تركن إليه فقد اصطفى ا من الناس رسل لومن الملئاكة ‪،‬وا أعلم حيث يجعل رسالته ‪.‬واذا عزمت‬
‫لثر "من دخل أربعين الحمام أمن من الفقر " والخال ليلة الخميس‬ ‫على دخول الحمام فالفضل يوم الربعاء ‪،‬ففى ا ل‬
‫‪........................................................‬‬
‫ص ‪504‬‬
‫والجمعة لطلب حاجاتك من ا الكريم ‪ ،‬ففيها بلغ النبياء والعلماء وأرباب المقاصد والرياسة )شعر(‪:‬‬
‫ت أدلذاكارها‬ ‫دوكادن ما دكادن هماما دللس ا‬
‫فظان خيرا ول تسألل دعهن الخبهر‬‫ل‬
‫وفى يوم الجمعة ساعة من أدركها بلغ حاجته ‪،‬فقد قيل هى أول النهار ‪،‬وقيل وسطه ‪،‬وقيل آخره ‪ ،‬وهكذا نقل عن فاطمة صلوات‬
‫ا عليها أنها كانت تترك جارية لها لنعرفها غروب الشمس من يوم الجمعة ‪.‬واقرأ فيها سورة النعام ول تكلم فيها أحدال ‪،‬فإذا‬
‫ث ديلجدعال هردسادلدتاه} )النعام ‪.(124:‬فاسأل ‪،‬‬ ‫وصلت إلى قوله تعالى ‪{:‬اا أدلعدلام دحلي ا‬
‫لن ا ماراد قسم من أقسم عليه من النبيين ‪ .‬وكل من النبياء كان له خاصية فى يومه ‪ ،‬مثل السبت لموسى ‪،‬والحد لعيسى ‪،‬‬
‫والثنين لبراهيم ‪،‬وفى يوم الثلثاء جاءت البشارات لنوح عليه السلم بالنصرة ‪ ،‬وفى يوم الربعاء انتصر زرادشت على أهل‬
‫أرمينية ‪ ،‬وكان الخميس والجمعة لرسول ا )صلى ا عليه وسلم (‪.‬‬
‫وقد قال المنجمون فى أيام السبوع ما قالوا وجعلوا لكل كوكب يوما ل‪:‬فالسبت عندهم لزحل ‪،‬والحد للشمس ‪ ،‬والثنين للقمر‬
‫‪،‬والثلثاء للمريخ ‪،‬والربعاء لعطارد ‪ ،‬والخميس للمشترى ‪ ،‬والجمعة للزهرة ‪ .‬وقد ذكر الجمهور منهم أن طالع رسول ا صلى‬
‫ا عليه وسلم توله الزهرة ‪ ،‬وهم لم يطلعوا على السرار ‪ ،‬ونحن نكشف نبذال من ذلك فنقول بأن موسى دعا إلى المغرب لتحكيم‬
‫زحل فى تلك الجهة ‪،‬وقبلة عيسى إلى المشرق نحو الشمس ‪،‬وقبلة نبينا محمد )صلى ا عليه وسلم (إلى جهة الكعبة وهذا سر لم‬
‫يطلع عليه أحد إل من شاء ا‪،‬وذلك أنه إذا قام مستقبل القبلة الحرام كان سهم زحل يمينا ‪،‬وسهم الشمس شمال ‪،‬والجدى فى مقابلة‬
‫وسط الكتفين ‪،‬والنسر الطائار وسعد بلغ فى جهة العلوية ‪،‬فتم مع السعادة ماتم ‪،‬فأصيب بسهم السعادة مالم يصبه أحد سواه‪،‬فبلغت‬
‫حجته ‪،‬وعلت كلمته ‪،‬ودامت دولته ‪،‬وسعدت أمته ‪،‬وعضدت شريعته ‪،‬فنصرها الترك من المشرق وأهل الغرب حتى بلغ أنهم‬
‫أمنوا ل بالسيف بل بالكتب)شعر(‪:‬‬
‫أوائال الركب مالى منهم خبر‬
‫وهكذا البيت الثانى ‪.‬‬
‫واسمع قصة عيسى عليه السلم مع جالنيوس ملك الساحل وطبيبهم ‪،‬حين نفذ إلى عيسى ‪:‬إنا ل نطلب منك إحياء الموتى بل هذا‬
‫الرجل المسلول اشفه لنا فى هذا الشهر كانون وأنا أوءمن بك !قال المسيح ‪:‬ائاتونى ببطيخة ‪،‬فسقاه منها ‪،‬فقام الرجل شيئاا ل أسود على‬
‫هيئاة الخبز المحرق ‪،‬فقام بقدرة ا تعالى سليملال مرض به ‪.‬ثم قال عيسى عليه السلم ‪:‬يهددنى جالينوس ‪،‬ثم دخل هيكل العبادة فما‬
‫انتصف الليل إل وثار على جالينوس علة‬
‫‪..............................................................................‬‬
‫ص ‪505‬‬
‫أسطوريا والكراثية ‪،‬فمات بها قبل الصبح ‪ .‬وحدثنى يوسف بن على بأرض الهركان التى بنبات أرضها خواص عظيمة نذكر نبذا‬
‫منه فى أماكن من هذا الكتاب ‪،‬وشيئاا لفى كتاب "السلسبيل " قال يوسف شيخ السلم ‪:‬دخلت المعرة على زمان المعرى وقد وشى‬
‫به الوزير إلى الملك محمود بن صالح ‪،‬وقال إن المعرى رجل برهمى ل يرى إفساد الصورة وأكل الحيوان ‪،‬وإنه يزعم أن الرسالة‬
‫تحصل بصفاء العقل ‪ ،‬ولم يزل الوزير جاهدا حتى حمل الملك على إحضار الشيخ أبى العلء المعرى ‪،‬فأنفذ وراءه خمسين‬
‫فارسلا‪ ،‬فدخل إلى الشيخ رجلن من أصحابه وأعلماه بالقصة ‪،‬فدخل المعرى المسجد وأنزل الفرسان فى دار الضيافة ‪،‬فدخل مسلم‬
‫عم المعرى على الشيخ وقال ‪:‬يا ابن أخى قد نزلت بنا حادثة ‪،‬يطلبك الملك ‪،‬فإن منعنا عنك عجزنا ‪،‬وإن سلمناك كنا عارا ل عند‬
‫ذوى الذمام وتكون الذمام على آل ننوخ ‪،‬فقال المعرى ‪:‬خفف عنك غمك وأكرم أضيافك ‪،‬فلى سلطان يذب عنى ويحامى عمن‬
‫هوفى حماه ‪،‬ثم قال الشيخ لغلمه ‪:‬قدم الماء !فقدمه إليه واغتسل به‪،‬فلم يزل يصلى حتى انتصف الليل ومر أكثره ‪،‬ثم قال لغلمه‬
‫‪:‬أين المريخ ؟فقال ‪:‬هو فى منزلة كذا وكذا فقال ‪:‬ارقبه واضرب وتدا تحته ‪ ،‬وعقد خيطا لفى يدى متصل لبالوتد !ففعل به ذلك‬
‫فسمعناه يقول ‪:‬يا علة العلل ‪،‬ياقديم الزل ‪ ،‬ياصانع المصنوعات ‪،‬أنا فى حماك الذى ل يضام ‪ ،‬ثم جعل يقول الوزير الوزير حتى‬
‫برق بارق الصبح ‪،‬فسمعنا هذة عظيمة ‪،‬فسألنا عنها فقيل هى دار الضيافة وقعت على ثمانية وأربعين رجل ل‪ .‬وعند طلوع الشمس‬
‫جاءنا كتاب الطائار يقول فيه ‪:‬ل تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير ‪ .‬ثم التفت الشيخ إلى ي‬
‫وقال‪ :‬من أى أرض أنت ؟فقلت ‪:‬من أرض ا تعالى ‪،‬فقال ‪:‬أنت من أرض الهركاز ‪،‬أنت يوسف بن على ‪،‬حملوك على قتلى‬
‫وزعموا أنى زنديق ‪،‬وكان حجتنا بالشام ‪،‬ثم قال لى ‪:‬اكتب على صفة الحالة )شعر(‪:‬‬
‫دبااتوا وحتفى أمانى لنيتهم‬
‫ضروا منى على بال ه‬ ‫وبت للم ديلح ا‬‫د‬
‫ودفاوقوا لى إشارات سهامههم‬
‫صدبدحت لوقلعا منى بأمياهل‬ ‫دفأ د ل‬
‫دفدما ظنونك أدان اجلندى ملئاكة‬
‫ف وحجاهل‬ ‫دواجلنددهم بين طوا ء‬
‫ت‬‫لدهقياتهم بعصا موسى التى دمدندع ل‬
‫ل‬
‫فرعون ملكا ونجت آل إسراهل‬
‫أقيم خمسين صوم الدهر ألفه‬
‫واد من الرَذكر أبكارلالصال‬
‫‪............................................................................‬‬
‫ص ‪506‬‬
‫عيديهن أفطار فى عامين إذا حضرا‬
‫عيد الضاحى ويقافو عيد شوال ه‬
‫س فى حلءل‬ ‫ت الجل ا‬ ‫هإذا دتدنافتس ه‬
‫س القض سريالى‬ ‫درأيتنى من خسي ه‬ ‫ا‬
‫ل آكل الحيوادن الادهر مأثرة‬
‫ف من سوهء أعمالى وآمالى‬ ‫أخا ا‬
‫دندهلياتاهلم عن حرام الاشرع كيلهم‬
‫وديأمرهونى بترهك المنزهل العالى‬
‫وأدلعاباد ا ل أرجوا دمائاويته‬
‫لكن تعبد إكراءم وإجلهل‬
‫صوان دينى عن اجلعءل أؤمله‬ ‫أد ا‬
‫إذا تعبد أقوام بأجعاهل‬
‫فإذا كنت أيها الملك على هذا الوصف بلغت المقاصد ‪ ،‬ووصلت إلى المشرب الهنى ‪،‬‬
‫ولكبت أعداءك ‪ ،‬وتصير مثل دعاء القلنسوة والنجاشى ‪ ،‬وربما تكون أنت الملك السفيانى يفتح لك الحصون من غير تعب ‪ ،‬ويجود‬
‫بك الذرع والضرع والزرع ‪،‬إذ الناس بالمال ‪ ،‬وربما لسعد بهذه الحالت كما سعد السكندر ‪ .‬فما قد كان يجوز أن يكون ‪ ،‬وقد‬
‫قال فى خطبة البيان ‪ :‬لبد من ظهور ملك عادل زاهد خائاف ‪ ،‬يمهد البلد ويحسن إلى العباد وهذا بعد ثلث وسبعين بما شاء ا ‪.‬‬
‫وهذه من الخواطر الربانية كيف ظهرت فراشتها فى كشف المور المغيبة ‪ ،‬فإذا رق حجاب القلب يرتفع السد ‪ ،‬يتبين له ما فى‬
‫اللوح المحفوظ فيخبر بما فى عالم الغيب من غير ريب ‪ ،‬وا عالم الغيب يعلمه من يشاء ‪ ،‬والملوك تودع سرها عند من تحبه‬
‫وتختاره ‪ ،‬وقد سمعت حكاية أيار مع ا لسلطان محمود ‪ ،‬فانتبه أيها الملك لهذه النكت والشارات ‪ ،‬وقد نصحت لكم إن كنتم تحبون‬
‫الناصحين ‪ .‬والملك بالعلماء أليق من الفجرة الفاسقين ‪ ،‬ولكن ليقضى ا أمرال كان مفعول ‪ ،‬ول بد للرض من ناصر واوراث‬
‫يورثها من يشاء من عباده‬
‫‪...............................‬‬
‫ص ‪507‬‬
‫حيهم‬‫ا ادلرحدمهن الار ه‬
‫بسم ه‬
‫أعلم أن الناموس هو مفتقر إليه فى بعض الحيان كالدواء ‪ ،‬ولكم نكشف شرح مشقة الحوال عند العوام ‪ ،‬فإن الشرع خاطب‬
‫الناس على قدر عقولهم ‪ ،‬والمنزه ذكر خاطب كل أحد بما يستحقه ويعقله ‪ ،‬فلقوم ولدان مخلدون ‪ ،‬ولقوم سدر مخضود وطلح‬
‫ضرةس )‪ (22‬إلى رهبدها نا دهظرةس { ا]لقيامة ‪.[23 ،22‬‬ ‫منضود ‪ ،‬ولرباب الهمم العالية }اواجوهس يومئاءذ انا ه‬
‫والمنشد قد نبه فى نظمه )شعر (‪:‬‬
‫إهاما اذبالبا فل دتلعدبأ بمنقصة‬
‫د‬ ‫د‬
‫أو قمة الارأس دواحذلر أن دتدقدع وسطا‬
‫واعلم أن الزمان حبيب أهله ‪ ،‬وطائافة تخترع لها مذهبا ل فى الناموس بطريق الزهد ‪ ،‬كالسبح ‪ ،‬والمرقعات ‪ ،‬وجلود الغنم ‪،‬‬
‫والبرانس ‪ ،‬وأذان الذيل ‪ ،‬والنقطاع فى الكهفان وكبر المور بحيث أن يقول لصاحبه اذهب ففى الموضع الفلنى كذا وكذا ‪.‬‬
‫وطائافة تظهر النور ‪ ،‬وأخرى تقعد بين القبور ‪ ،‬وإظهار الخزعبلت والنيرنجيات بمعرض الكرامات ‪ ،‬ودهن القدام ‪ ،‬والخوض‬
‫فى النور ‪ ،‬وإظهار الخرق من سمندل الصين التى يذهب وسخها النار ‪،‬وإظهار الخفف ‪ ،‬ومد الشعبذة ‪ ،‬وضرب طلسم على النعل‬
‫فيعبر الماء ‪ ،‬ووقوف السجادة فى الهواء ‪،‬وشعلة القناديل ‪،‬وإشعال السراج بالماء دون الدهن ‪ ،‬وكثير من ذلك ل عدد لها ‪ .‬والفرق‬
‫بين المعجزة والسحر والكرامة هو دواء الشئ وإظهاره للناس ‪ ،‬كالقرآن المجيد ‪ ،‬فهو المعجز الكبر ‪ ،‬والناموس العظم ‪ ،‬فل‬
‫تطلى على الملك حالت المبرهن ‪ .‬وأما أرباب الكرامات والمكاشفات فهم الذين استخدموا وخدموا ‪ ،‬واستعملوا وعملوا ‪ ،‬فكشف‬
‫لهم العمل سد الغفلة ‪ ،‬وضرب جهة الذكر ما فى الشبه القلبية فأزال زرقها وسوادها ‪ ،‬ووقعت المشاهدة عقيب المجاهدة ‪ ،‬فتنورت‬
‫القلوب بنور الصدق والتصديق ‪ ،‬فهامت النفوس المقدسة فى مهامة المروج الصمدية ‪ ،‬وانكشف سر اللوح المحفوظ من دار‬
‫الديمومية ‪ ،‬وظهرت الخواطرالصافية عن الجسام الرذلة المعلومة فأغرقت فى قلب كمال الوجود ‪،‬ووافت من صحبة أهل الجود‬
‫‪ ،‬وبزغت لهم أقمار الحقائاق من فلك الطرائاق ‪ ،‬فكان باب بدو البداية رؤية كوكب ضعيف ‪ ،‬ثم انبسط النور الربانى من نقش‬
‫عرش اليمان فصار قمرال إبراهيم يليا‪ ،‬ثم انجست عيون المحبة الربانية عن فيض شمس الحقيقة البرهانية ‪ ،‬ثم رق القلب الصادق‬
‫الصافى الوافى على ابراق علرَو الهمة فصادفت فلكا ل وملكا ل ‪ ،‬ثم صفقت أجنحة الشتياق فصادفت عقار المحبة ممزوجا ل بمياه‬
‫الخوف ‪ ،‬شربت لما قربت ‪ ،‬وطربت وتقربت ‪ ،‬وشقت ثياب البشرية والتحقت به بالكلية ‪ ،‬وأنشدت فى سكرها )شعر(‪:‬‬
‫‪.........................................................................‬‬
‫ص ‪508‬‬
‫دولددقلد دخلدلعت اعلى العواذل دسللوهتى‬
‫ت هبالدحدردميهن ل أنسااكام‬ ‫دو دحدللف ا‬
‫ففتحت أبواب مجالس الطرب ‪ ،‬ونادى العاشق الصادق من عظيم الويل ‪ .‬والحرب عجز عن حمل حلوة الخلة فنادى بين شوارع‬
‫دروب الكروب ‪:‬‬
‫بال ربكما اعودجا على دسكنى‬
‫ب يعطافه‬ ‫ودعاهتدباه ا دلعدل العت د‬
‫ودعرَرضاه بى وقول فى حديثكما‬
‫ما باال عبداك بالهجراهن تتلفها‬
‫دفإهلن تبسدم قول فى ملطفة‬
‫ما ضر ا لو بوصاءل منك تسعافه‬
‫وإن بدا لكما من مالكى غض س‬
‫ب‬
‫فغالطاه وقول لسنا دنلعهرافه‬
‫فإذا شوهد منه ضعف الحمل أماتته يد القدرة تحمل التنيين ‪ ،‬فهو معروف فى البداية بالجنون ‪ ،‬وفى النهاية بالفنون ‪ ،‬فنراه فى حال‬
‫بدايته يتشبب بالنغمات والسماع ‪ ،‬إن اتخذه دأبه وعادته صرف وجهه عن الباب فضرب بينهم بسور له باب ‪ ،‬وإن جعل ذلك‬
‫جسرال يحوز به من العلم الصغر إلى العلم الكبر وهو علم المعارف ‪ ،‬فيدخل فى حالت العاشقين ومقامات الصادقين ‪ ،‬فيقبل‬
‫تحت أشجار الحكم اللهوتيه عند رب العالمين ‪ ،‬فتنكسر زجاجات جمسانية ويدور به دولب سعادته ‪ ،‬فأقل مقامه إظهار كرامته ‪،‬‬
‫فإذا رأى أحدال من أحبائاه وضع خده تحت نعله وترابه ‪ ،‬كما نقل فى الحكايات المجنونية فى ليلى العامرية أنه ارثى على كتفه كلب‬
‫يطعمه ويسقيه ‪ ،‬وقيل له فى ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬رأيته يحرس باب ليلى ‪ ،‬ثم أنشد حين تأود )شعر(‪:‬‬
‫ردأى المجنوان فى الفلوت كللبا‬
‫د‬
‫ضام إليه بالحسان ذليل‬ ‫ف د‬
‫فلموه على ما كان منه‬
‫ت الكلب دنليل‬ ‫وقالوا لدم دمدنلح د‬
‫فقال ذروا دملدماكام فعينى‬
‫رأته مرة فى باب ليلى‬
‫وهذا يعضده ما روى " أن النبى صلى ا عليه وآله وسلم قيل له ‪ :‬أل تصلى على فلن وقد مات ؟ فقال ‪ :‬ل أ ا د‬
‫صرَلى على دملن دللم‬
‫صرَل ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬أنا رأيته يصلى ركعتى‬ ‫اي د‬
‫‪......................................‬‬
‫ص ‪509‬‬
‫صرَل هإل ا دنافدللة" ! فجاءه جبريل عليه السلم أمين الحضرة وقال له ‪" :‬‬ ‫صرَلى دعلى دملن دللم اي د‬ ‫العيد ‪ ،‬فقال عليه السلم ‪ " :‬دكليف أ ا د‬
‫يامحمد أليس رأوه فى بابنا مرة إدذا رددته من بابى فبباب من يقف ؟ يامحمد إنى قد غفرت له فصلت عليه ملئاكتى ‪ ،‬إن ا لغنى‬
‫عن العالمين"‪.‬‬
‫المقالة الرابعة عشرة‬
‫" فى المواعظ التى تجلب قلوب الناس إلى طاعة الملك "‬
‫إنا قد عيرفناك بطريق ثلثة داعية إلى الملك ‪ ،‬وها نحن نعرفك بطريقة أخرى فنقول ‪ :‬يا أيها المعيب القائال من فلن حتى يثبت‬
‫على الملك بماله وآله وملكه ومقال أبيه وأمه ‪ ،‬فنقول له ‪ :‬من كان نمرود بن كنعان ‪ ،‬وعاد صاحب الجنان ؟ فإدريس مخيط الخيام‬
‫‪ ،‬ونوح نجار اليام ‪ ،‬وإبراهيم راعى الضأن ‪ ،‬وداود زراد ‪ ،‬وطالوت دباغ‪ ،‬وصالح اتجر ‪ ،‬وسليمان خواص ‪ ،‬وعيسى سراج ‪،‬‬
‫ك دملن دتدشااء دودتلنهزاع اللاملل د‬
‫ك هماملن دتدشااء دواتهعمز دملن دتدشااء دواتهذمل دملن دتدشااء{]آل عمران ‪. [ 26 :‬‬ ‫وآدم حراث ‪ ،‬أما تتعظ بقوله } اتلؤهتي اللاملل د‬
‫واعلم أنه لبد لك من ملك تقتدى به وتميل إليه ‪ ،‬فللحيوان أمير ومقدم كالنحل والنمل وغيره ‪ .‬إن فهمت بآذان العقل فكن أطوع من‬
‫ضيف ‪ ،‬وإل هامتك والسيف ‪ .‬أما سمعت قول المشرع عليه السلم‪ " :‬أطيعوا أميركم ولو كان عبدال حبشيا ل "‪ .‬قال ا تعالى ‪":‬‬
‫أهطيعوا ا وأطياعوا الاراسول دوأ الولى الدلمهر همناكلم{ ] النساء ‪ . [59 :‬فإن فهمت المواعظ فقد قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪" :‬‬
‫ل تشابكوا المساعيد فإنى سيدهم " فإن عربد الجهل فانظر إلى البازى والعقارب والنسر والذباب كما نظمه ذوو اللباب )شعر(‪:‬‬
‫ياطالب الرَرلزهق الاسناى بقوة‬
‫هيهات أنت بباطهن مشغوف‬
‫ت النسوار بقوة هجيف الدفل‬ ‫ردعدع ه‬
‫ف‬‫ب الشهدد دولهدو ضعي ا‬ ‫وردعى الذبا ا‬
‫لول ‪ ،‬وإذا سمعت بالمرتاضين فكن بهم مل يلما فإن خواص‬ ‫وأنت أيها العاقل لتشابك الزمان والدول ‪ ،‬ول تفتن بما جرى للقوم ا ا‬
‫أنفاس القوم فيها جذب مغناطيسى أما سمعت بذى القرنين لما سمع بأرباب الهمم الهندية ‪ ،‬وهو أربعون رجلل ‪ ،‬اتخذ لهم ما‬
‫أزعجهم وفرق هممهم ‪ ،‬مثل زعجة الطبول والبواق ‪ ،‬فتفرقت هممهم فداسهم‪ .‬وانظر إلى المعانى التى أودعناها فى كتاب الملك‬
‫فإنها كافية ‪ ،‬واستزاد من الشارات ول تكذب الكلمات فإنها أخوات المعجزات ‪ ،‬واعلم أنه ل يستقيم جسم من غسر رأس ‪ ،‬ول‬
‫ض من غير عمارة ‪ ،‬وفلحة وتجارة ‪ ،‬وموت وحياة ‪ ،‬وغنى وفقر وملك وسياسة ‪ ،‬وإمارة‬ ‫سماء من غير شمس ‪ ،‬ول تلحاسان أر س‬
‫ووزارة ‪ ،‬فالمور منظومة بعضها ببعض ‪ ،‬كما سنبين لك فيما بعد‬
‫‪............................‬‬

‫)ص ‪(510‬‬
‫المقالة الخامسة عشرة‬
‫في قطع دليل المستدل‬
‫مسألة ما يقول في الدليل‪ :‬ما أخذ منكم يا معاشر المناظرين إل وقد تمسك بدليل يصلح عقده أن يكون دليلل‪ ،‬فيعارضه مناظرة بما‬
‫يناقضه‪ ،‬والمنقوض كيف يكون دليلل والناقض إذا نقض بغيره فقد دخلته العلة فبطل عن منهج الدليل‪ ،‬وعارضه العلة بالنقض‬
‫فصار كل دليل مزلزلل معلولما غير مقطوع‪ ،‬فإن كان منقولل أو معقولل وعارضه النقض فقد بطل حكمه أو قوله‪ ،‬فإن قلت بطل‬
‫قوله فقد هدرت الشرع‪ ،‬لن الحمك والقول ملعا‪ ،‬فأين آثار فقه المستدل؟ وإن كان دليلك معقولل قيالسا فكيف يستند بالقياس إلى‬
‫منقول منقوض؟ وإن كان غير قياس فكيف يمشي به السؤال؟ فبطل الكلم في النظر‪ ،‬وإذا علمت أن كلمك مدخل تحت العلة‬
‫والمعلوم‪ ،‬فما العلة التي تنفصل عن المعلوم؟ أم هي غير منفصلة عن المعلول؟ فإن كانت العلة غير منفصلة عن المعلول فكيف‬
‫يجوز أن يكون دليلل؟ وإن كانت داخلة في المعلول فإما أن تكون جنسه أو غيره‪ ،‬فإن قلت إنها غيره فأين دليلك لتبيان القول؟ وإن‬
‫قلت بأنها جنسه فكيف يأتي بعد مبين من غير نتيجة بأنها علة** ومعلول؟ وكل من فقهت نفسه لشيء فهو فقيه‪ ،‬فكيف خص الفقه؟‬
‫وأين آثار التخصيص به والدليل المقطوع له؟ وما النظر وما معنى المناظرة والمجاورة؟ فإن قلت المجاورة هو زوال الشكال من‬
‫الحجة بطريق التبيين‪ ،‬كما يقال التبعيض إن فللنا أعرب حين بين‪ ،‬وفلن بيض قصيدته ورسالته‪ ،‬فأين آثار تبيين حجتك إذا قطع‬
‫الدليل والبرهان؟ وإن قلت الجدال المتشابكة أو جدال الجيل حين حاستك بعضه ببعض‪ ،‬فما ينفعك هذه المقالة اللغوية واللفظات‬
‫الصطلحية إذا كان متن دليلك مقطولعا بالنقض والعلة الداخلة عليه من الخصوم‪ .‬فل بد من جواب فخور يفهم الخاطر‪ ،‬فما هذا‬
‫مقام أو مقال يحتمل المغالطة والمدافعة‪ ،‬فإن كان جوابك من غير السؤال فهو مداخله ضعيفة به‪ ،‬وإن كان من نفس المسألة فل بد‬
‫من برهان قاطع غير منقوض‪ ،‬فالمنقوض معلول ل يصلح أن يكون جوالبا‪ .‬وإذا سئالت عن الحجة والمعرفة بالشيء فإما أن يكون‬
‫معرفتك برهان قاطع نقلل أو عقلل غير منقوض‪ ،‬فمشه وكن به مستدلل‪ ،‬فالمعرفة بالشيء إما بنفسه أو بغيره‪ ،‬فإن كان بنفسه فهو‬
‫البرهان المقطوع به إذا لم يكن سبيل البعض داخلل عليه‪ ،‬فالبرهان التصديقية كان برهانها تصديقها مثل ما تقول‪ :‬هذا رجل‪ ،‬فل‬
‫تفتقر أن تبرهنه‪ ،‬وهذا ليل أو نهار‪ ،‬أو عشرة أكثر من خمسة‪ ،‬فهذا ل يطرد عليه معنى في بعض ول ينعكس‪ ،‬لن تصديقه ينقسم‬
‫ول ينقسم ول يفتقر إلى برهان‪ ،‬فأت بدليل على مثل هذا المعنى! فقد علمت أن هذه العلة ل تفارق معلولها‪ ،‬وأن المعل ل يكون‬
‫لجهل أو لفهم أو قبحه‪،‬‬
‫)ص ‪(511‬‬
‫وإنما يكون براهين تصديقية أو براهين معلولة أو منقولة غير منقوضة‪ ،‬فإذا دخل النقض أزال حكم الدليل‪ ،‬فهذا معنى قولنا قطع‬
‫الدليل‪ .‬ثم تستدلون بأخبار الحاد والمراسيل وقد علمتم بالملزم فيها من الطعن والتشكيك‪ ،‬ثم المتواتر بنفسه عندكم فهو دليل‪ ،‬ول‬
‫يعتبرون فيه العلم‪ ،‬إذ هممكم إنما هو وقائاع وخصومات وإظهار مناقشات في رياسات‪ ،‬و الباحث عن إظهار الحق قليل‪.‬‬
‫المقالة السادسة عشرة‬
‫في كتاب الطهارة وآدابها وأسبابها‬
‫واعلم أن الطهارة فرض ظاهلرا أو باطلنا‪ ،‬فأما الباطن فطهارة القلب من كل شيء سوى ا‪ ،‬فإذا وجدت من القلب هذه الطهارة‬
‫الصافية الكاملة صار القلب محلل للفيض الرباني والعلوم اللدنية اللهية‪ ،‬وكشف أغطية السرار عن نير نهار القدس‪ ،‬فابنجست‬
‫عيون الكرامات‪ ،‬وترقى العقل من حضيض الشهوات إلى سماء الخاصة ومعارفها‪ ،‬ثم إلى سماء كشف أسرار الربوبية‪ ،‬ثم يترقى‬
‫العقل الجوهر الكامل إلى كرسي المراقبة‪ ،‬ثم إلى عشر حضرة القدس‪ ،‬ثم تقدم له موائاد فوائاد تحف المحبة فيشرق أنواها على‬
‫هياكل الطباع المظلمة‪ ،‬ويجريِ قلم التوحيد فوق لوحد التمجيد بطريق التأييد‪ ،‬فمنهم شقي وسعيد‪ .‬وإذا كشفت لك هذه المملكة‬
‫الباطنة لم تلتفت على الموت‪ ،‬فإن الموت هو جامع بين الحباب‪ ،‬وفي الطباع المتنافرات مفرق بينهم )فتمنوا الموت إن كنتم‬
‫صادقين( ]البقرة‪ .[94 :‬وقد سمعت النظم فيه شعلرا‪:‬‬
‫سهل عليك الذيِ تلقاه من ألم إن كان شملك بالحباب يجتمع‬
‫فإذا طلعت عليك كاسات الوصال في دار التخلية‪ ،‬وهبت ريح النسيم‪ ،‬ونادى مناديِ التقديم )وفي ذلك فليتنافس المتنافسون(‬
‫]المطففين‪ .[26 :‬فعند ذلك تصير روحك مللكا يضيء‪ ،‬ولو لم تمسسه نار‪.‬‬
‫واعلم أن ا تعالى خلق الخلق وصنفهم ثلثة أصناف‪ :‬فطائافة عقل مجدر وهم الملئاكة‪ ،‬وطائافة شهوة مجردة وهم البهائام‪ ،‬وطائافة‬
‫عقل وشهوة وهم بنو آدم وهم وسط بين الطائافتين‪ .‬فمن غلب عقله شهوته التحق بالملئاكة‪ ،‬ومن غلبت شهوته عقله التحق بالبهائام‬
‫)فاستقم كما أمرت( ]هود‪.[112 :‬‬
‫ثم نعود إلى الطهارة الظاهرة‪ ،‬قدم الماء الطاهر في الناء المخمر‪ ،‬واغسل يديك قبل الوضوء ثللثا‪ ،‬واستقبل لوضوئاك القبلة‪ ،‬وكن‬
‫على نشز خوف النضح وعليك بالتسمية‬
‫)ص ‪(512‬‬
‫والسواك والنية في مبدأ الفرض‪ ،‬ففرض الوضوء ستة‪ :‬النية عند أول جزء من الوجه‪ ،‬ثم غسل الوجه‪ ،‬ثم غسل اليدين إلى‬
‫المرفقين‪ ،‬ومسح المقبل من الرأس‪ ،‬وغسل الرجلين مع الكعبين‪ ،‬ثم الترتيب في الموالة في أصح الوجهين‪ ،‬ثم غسل الحيض‬
‫والجنابة بوضوء‪ ،‬وغسل ثللثا ثللثا‪ ،‬ونية غسل الجنابة أو الحيض‪ .‬ثم مناقض الوضوء وهي‪ :‬النوم قاعلدا متمكلنا‪ ،‬ثم زوال العقل‬
‫بأيِ فن كان‪ ،‬ثم لمس الرجل المرأة ول حائال بينهما‪ ،‬وينتقض طهر اللمس دون الملموس في أصح الوجهتين‪ ،‬ولمس الفرج ثم‬
‫آداب دخول المسجد بالقدم اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج‪ ،‬ول يستدبر ول يستقبل القبلة ول الشمس والقمر إل من وراء‬
‫ستر وحائال‪ ،‬وينحي ما عليه اسم ا من عليه‪ ،‬ويجوز الستنجاء بكل طاهر إل ماله حرمة كالمطعم وغيره‪ ،‬ول يجوز الستنجاء‬
‫بعظم أو جارح أو بما يؤذيِ المحل‪ ،‬فقد قال صلى ا عليه وسلم‪" :‬ل تستنجوا بالعظم فإنه طعام إخوانكم الشياطين" فإن ا يكسوه‬
‫لحلما فيأكلوه‪ .‬والفضل أن يعقب الستجمار بالماء وهي طهارة أهل فناء‪ ،‬ويقول في دخوله‪" :‬اللهم إني أعوذ بك من الخبث‬
‫والخبائاث‪ ،‬ومن الشيطان الرجس النجس" فإن خرج يقول‪" :‬غفرانك الحمد ل الذيِ أخرج عني الذى وعافاني" ول يجوز البول‬
‫في الماء الراكد‪ ،‬ول ثقب أرض‪ ،‬ول على قارعة طريق أو شاطئ‪ ،‬وتحت شجرة مثمرة وغيره‪ .‬ثم يجوز التيمم من عذر طارئ‪،‬‬
‫أو برد مخوف طارئ‪ ،‬أو جراح‪ ،‬أو حدوث ثمين‪ ،‬فيجوز التيمم بتراب وغبار تعلق باليد‪ ،‬ويجوز عن الحيض والجنابة مع‬
‫العذار المخوفة الموجودة‪ ،‬بضربتين لوجهه ويديه‪ .‬قال غيرنا‪ :‬يجوز التيمم بكل ما صعد عن الرض من حجر أو جدار‪ ،‬ولكن‬
‫بعد دخول الوقت‪ ،‬ونزع الخاتم من اليد‪ .‬ويجوز للمتيمم أن يصلي بالمتوضئ‪ ،‬فقد فعل ذلك أصحاب رسول ا صلى ا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ويجوز المسح على الجبائار بشرط الطهارة‪.‬‬
‫كتاب الصلة وهو مقالتان‬
‫مقالة في الحكام الظاهرة‪ ،‬والمقالة الخرى في الحكام الباطنة وما يجد فيها العارفون‬
‫اعلم أن الصلوات الفرض هي خمس صلوات وركعاتها سبع عشرة ركعة‪ ،‬وأكمل سنتها ثماني عشرة ركعة‪ .‬وأحكامها الظاهرة‬
‫مثل كمال الوضوء بالماء الطاهر‪ ،‬وطهارة الثوب والبدن والمكان‪ ،‬واستقبال القبلة‪ ،‬والتيان بتشديدات الفاتحة‪ ،‬والطمأنينة في‬
‫الركوع والسجود‪ ،‬والعتدال بين السجدتين‪ ،‬والرفع من الركوع‪ ،‬وقولك في الركوع ثلث مرات‪" :‬سبحان ربي العظيم وبحمده"‬
‫وتقول في السجود‪" :‬سبحان ربي العلى وبحمده" مثلها‪ ،‬وهو أقل الكمال‪ ،‬ثم الكتناف‪ ،‬ومعرفة الوقات‪ :‬فوقت الصبح إذا تبين‬
‫الفجر الثاني ويبقى وقت الداء إلى طلوع الشمس‪ ،‬ووقت الظهر إذا غربت الشمس من وسط الفلك‬
‫)ص ‪(513‬‬
‫ويبقى وقت الداء إلى وقت العصر إذا صر ظل كل شيء مثله وزاد عليه أدنى زيادة‪ ،‬ويبقى وقت الداء إلى غروب الشمس‬
‫والمغرب مع طلوع الليل‪ ،‬ووقت العشاء إذا غاب الشفق الحمر‪ ،‬وعند أبي حنيفة والمزني إذا غاب الشفق البيض‪ ،‬وهو وقت‬
‫صلة المتقين والبرار‪ .‬والذان شرط ل فرض إل على الكفاية‪ .‬ثم تلزم قوانين الداب‪ ،‬وتستحي من ا كما تستحي من سلطانك‪،‬‬
‫أما سمعت الخبر‪ :‬ل تجعلني أهون الناظرين إليك‪ ،‬قال ا تعالى‪) :‬فاستقم كما أمرت( ]البلد‪ .[7 :‬وتعظم شعائار ا وتأتي بها في‬
‫أوقاتها إل الظهر في شدة الحر كما قال‪" :‬أبردوا بالظهر‪ ،‬ونوروا في الفجر‪ ،‬وأخروا في العصر"‪ .‬ثم تأتي بكوامل النوافل مثل‬
‫الضحى‪ ،‬والتراويح‪ ،‬والصلة بين المغربين‪ ،‬وأوراد الليل والسحر‪ ،‬وسنن يوم الجمعة العشرة وآدابها مثل الغتسال‪ ،‬والسبق‬
‫إليها‪ ،‬وقراءة الكهف‪ ،‬وكثرة الصلة على رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وتواظب فيها على الصلة السبعينية قبل الزوال‪،‬‬
‫وتطلب فعلها في الحياء‪ ،‬وتأتي فيها بصلة الحاجة من اثنتي عشرة ركعة بست تسليمات تقرأ بعد الفاتحة آية الكرسي مرة‪،‬‬
‫وثلث مرات‪) :‬قل هو ا أحد( فإذا فرغت من جميع الصلة تسجد بعد السلم فتقول في سجودك‪" :‬سبحان الذيِ لبس العز وقال‬
‫به‪ ،‬سبحان الذيِ تعطف بالمجد وتكرم به‪ ،‬سبحان الذيِ أحصى كل شيء بعلمه‪ ،‬سبحان الذيِ ل ينبغي التسبيح إل له‪ ،‬سبحان ذيِ‬
‫العز والكرم‪ ،‬سبحان ذيِ الطول والرحمة‪ ،‬أسألك اللهم بمعاقد العز من عرشك‪ ،‬ومنتهى الرحمة من كتابك‪ ،‬وباسمك العظم‪،‬‬
‫وجدك العلى‪ ،‬وبكلماتك التامات كلها التي ل يجاوزهن بر ول فاجر‪ ،‬أن تصلي على محمد وآل محمد" ثم تسأل** حوائاجك‬
‫الجائازة‪ .‬ول تصل في المواضع النجسة والمواضع المغصوبة‪ ،‬ول في ثوب حرير‪ ،‬وفي في خاتم ذهب‪ .‬وتقوم بالمسكنة به والذل‬
‫والصغار‪ ،‬فإذا اجتمع الناس تحسبه القيامة‪ ،‬وتحسب صوت المؤذن كنفخ الصور‪ ،‬فظهور الخطيب في الموعظة كتجلي الحق‬
‫بعتب الخلق والتوبيخ‪ ،‬وقيام الناس في الصلة كقيامهم في الموقف ثم النصراف في المسجد كتفرقهم يوم المعاد‪ :‬فريق في الجنة‪،‬‬
‫وفريق في السعير‪.‬‬
‫والسر في الوضوء هو طهارة العضاء وتنبيهها‪ .‬والشجرة الدمية كغيرها من الشجر ل بد لها من خدمة‪ ،‬فتقليم فروعها كقص‬
‫الظافر والحلق‪ ،‬وشربها الماء كالوضوء والغسل‪ ،‬وتنظيفها وخدمتها كحسن آدابها‪ ،‬وترك الفضلت الدنيوية إنبات بقول العلوم‬
‫عن سواقي الخدمة‪ ،‬وصون النفوس عن القبائاح والرذائال سباطها وحرمتها‪ ،‬وجريان مياه الفضل في مجاريِ أنهار العقول يكسب‬
‫في الشجرة نوح حمام المحبة وصفير بلبل التوحيد‪ ،‬وتمام المعرفة وأنوار اليقين في برك البركات‪ ،‬وصفاء نسيم الصدق في جواز‬
‫أحداق المعرفة‪ .‬وأهداب الشجرة مخاطبة بأنوار اليمان‪ ،‬ومناديِ الزل يناديِ بقلوب المريدين‪ :‬سيروا من‬
‫)ص ‪(514‬‬
‫قوالب الغيار إلى الشجرة الزيتونة المباركة التي ليست بشرقية ول غربية )يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار( ]النور‪.[35 :‬‬
‫هذا معنى قوله تعالى‪" :‬ل يزال عبديِ المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته صرت سمعه الذيِ يسمع به‪ ،‬وبصره‬
‫الذيِ يبصر به‪ ،‬فبي يسمع وبي يبصر‪ ،‬فمن يبصر ويسمع بي أقل ما أعطيه أن أخرق بيني وبينه روزنة يراني بها‪ ،‬وينظر من‬
‫غير مثال‪ ،‬وأعطيه نولرا يفرق به بين حقائاق معلومات"‪ .‬معناه تحمل قلوبهم في صلتهم إلى حظيرة القدس فيشاهدون جلل‬
‫الربوبية من الديمومية‪ ،‬وتظهر لهم شموس المعرفة من صفاء سماء حقائاق القلوب‪ ،‬وتنجلي لهم حالت الخرة بذاتها مثل ميزان‬
‫العقل وصراط اليقين‪ ،‬وهو معنى قوله عليه السلم‪" :‬أرحنا بها يا بلل" ومعنى قوله تعالى‪) :‬واسجد واقترب( ]العلق‪ .[19 :‬قال‬
‫جعفر الصادق رضي ا عنه‪" :‬عند سجود العارف لذيِ المعارج يرفع الحجاب فيرفع القلوب الطاهرة إلى سدرة المنتهى‪ ،‬فيتجلى‬
‫لها أنوار القدس ويفتح لها أبواب جنات حرم الحق‪ ،‬فيعطي ما تريد لتابعتها لما تريد" كما تمثل فيه بعض أهل التوحيد )شعر(‪:‬‬
‫أريد عطاءها وتريد مني فأترك ما أريد لما تريد‬
‫وإذا صفت القلوب في الصلة من الوساوس والمرذلة‪ ،‬حظيت بالمشاهدة لرفع غمام الغم وظلم الوساوس عن عرصات القلوب‪،‬‬
‫فهناك نشاهد الفلك والملك مثل ما نظمه القاضي البستي‪:‬‬
‫رؤية الحق بالعمى عن سواه وعيون ترنو به ستراه‬
‫هو في الكل ظاهر غير أن اللهو بالعيش والهوا ستراه‬
‫وسأضرب لك مثلل فأقول‪ :‬اعلم أن القلب كعرصة فيها شجرة أراد أحد أن يصلي تحتها فوجد فيها عشاش طيور بزقازق وهدير‬
‫منعته عن لذة قراءته ومناجاته‪ ،‬فإن تشاغل بطرد الطيور فاته الوقت‪ ،‬فل سبيل إلى وجود اللذة إلى قطعها‪ ،‬وأنت قد غرست في‬
‫قلبك شجرة حب الدنيا‪ ،‬وملت الشجرة بوسواس اكتسابك وهمك وغمك‪ ،‬فإن قطعتها صفا حالك وعظم إجللك وتجلى جللك كما‬
‫قال الجنيد‪:‬‬
‫تركت هم الدنيا فصفا عيشي وتركت هم الخرة فصفا قلبي‬
‫والسر في الصلة إنما هو كتقرب الخادم إلى المخدوم إذ يراه في قواليب الذل والنكسار )عسى أن يبعثك ربك مقالما محمولدا(‬
‫]السراء‪ .[79 :‬وهو معنى قول سقراط‪:‬‬
‫)ص ‪(515‬‬
‫اشتباك نغمات الصوات من هياكل العبادات‪ ،‬تحل ما يعقد في الفلك الدائارات‪ .‬إذ باب خواص الدعية مفتوح ترجم عنه القرآن‪:‬‬
‫)إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح( ]فاطر‪ .[10 :‬وصفة داود مع المزامير معروفة‪ ،‬كان إذا كان له حاجة جاء بزهاد‬
‫المجاهدة‪ ،‬وأقامهم في محاريبهم‪ ،‬ووكل بكل واحد منهم صاحب مزمار ليقطع بلذة نغمه قلب المريد إلى حاجة داود‪ ،‬فتسرع‬
‫الجابة كإجابة الستسقاء‪ ،‬والسحر المعول به متأثرة من الهمة‪.‬‬
‫واعلم أن الوزان القلبية ل تظهر إل بطهارة المحل‪ ،‬فإذا ارتفع السد من القلب بانت موازين معارف القلوب‪ ،‬وامتد فيها صراط‬
‫الحق‪ ،‬وفتحت أبواب المعرفة بال‪ ،‬وبانت أنفاس حميم حب الدنيا‪ ،‬كما قيل‪ :‬هناك حميمها القاسي‪ ،‬حميمها جنة فيها الحمام‪ .‬فإذا‬
‫كان على هذه الوتيرة‪ ،‬فاجعل حوائاجك من مولك في خدمتك‪ ،‬وتطيب بطيب المعرفة‪ ،‬والبس ثياب شعار الندم‪ ،‬وضع خدك على‬
‫تراب التواضع‪ ،‬واعلم أن لكل شيء وزلنا‪ :‬ووزن الشعر بعروضه‪ ،‬وأوزان المميز بالنظر‪ ،‬وأوزان المأكول والمشروب بالكفتين‬
‫والقبان‪ ،‬وميزان الصوفية بأوقات النهار‪ ،‬وميزان الخطب بتعديل الكلم‪ ،‬وميزان القيمة بقصاص الفعال‪ ،‬فكفة ظلمة ظلمك وكفة‬
‫نور طهارة أعمالك‪ .‬فاعلم حالك واستقم في أحوالك‪ ،‬فإبراهيم لما بان له ميزان النظر قال بطريق التشكيك‪ :‬هذا ربي‪ ،‬فلما استقام‬
‫بين كفتي الحوال قال‪ :‬وجهت وجهي‪.‬‬
‫المقالة السابعة عشرة‬
‫اعلم أن الخواص غير محصورة وليس لها تأويل يحل فتؤخذ بذواتها‪ ،‬كالصبر المسهل‪ ،‬والسقمونيا‪ ،‬والشيء المقبض‪ ،‬ليس علينا‬
‫أن نسأل لهم أسهل هذا أو قبض هذا‪ ،‬فكيف نعترض طبيب الشرع فيما جاء به من التحليل والتحريم‪ ،‬أو ليس حجر يشم يذهب‬
‫النفخة! فكيف تشك في شفاء خواص القرآن وما فيه من التحرير‪ ،‬وفيه قوارع مخصوصة لمعاني مخصوصة مثل سورة الواقعة‬
‫للغناء والمال‪ ،‬وإذهاب الغم بسورة الدخان‪ ،‬ورفع البلء والتحرز بسورة الكهف‪ ،‬وخاصيتها )فما اسطاعوا أن يظهروه وما‬
‫استطاعوا له نقلبا( ]الكهف‪ .[97 :‬ول يجوز قراءة الية وحدها إل بإضافة السورة إليهم كما قلتم ل يجوز استعمال الدوية‬
‫المفردة‪.‬‬
‫مسألة في تعجيز المنجم‬
‫تقول‪ :‬يا حكيم هذا النجم الفاعل المتصرف في العبد‪ ،‬المولد في نقطة الكرة‪ ،‬كيف نصرف فيه بطبعه أم بجنسه أم بخاصيته؟ فإن‬
‫قلت بالطبع فالطباع مختلفة‪ ،‬وإن قلت‬
‫)ص ‪(516‬‬
‫بالجنس فذاك سماويِ وهذا ترابي‪ ،‬وإن قلت بالخاصية فالخاصية عرض ل بقاء له‪ ،‬وإن سلمنا إليك بالخاصية فهل هي نفس النجم‬
‫أم في نفس الشخص؟ فل بد من الكشف والتبيين وإقامة البرهان‪ .‬أما السحر فهو عمل وكلم قد تداولوه بينهم في أوقات معلومة‬
‫وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة‪ ،‬فإذا أردت أن تولد طلسلما يصلح لما تريد فخذ من كل ثلثة أحرف حرلفا‪ ،‬فإذا اجتمعت لك‬
‫في التأليف ثلثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريد‪ ،‬فانظر في الوسط لب عند ساعة التأليف فهو يصلح لما دلت عليه‬
‫ضا عن الجيم ج ح خ خذ الصاد ص ط ظ خذ العين فيصير عقرلبا‬ ‫الدقيقة من الساعة‪ ،‬ومثاله أ ب ت ث فتأخذ الجيم والثاء أليق عو ل‬
‫لتدوير الحروف فضع صورتها على خاتم والقمر في العقرب‪ ،‬تكف خاصيتها عنك أذى النساء‪ ،‬ترمي الخاتم في الماء فينفع سقياه‬
‫الملسوع‪ .‬وتلقي به سولءا بين من أردت‪ ،‬وترش من مائاه على سطح المبغض أو طريقه أو داره فإنه يستضر من سنة‪ .‬وخذ صورة‬
‫أسد والقمر في السد‪ ،‬وانقشه على خاتم بسواد ومعه كلمة وهي‪" :‬أتينا طائاعين"‪ ،‬فتدخل به إلى الملك فيذله ا لك‪.‬‬
‫ذكر كلمات تذل الملوك‪) :‬ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( "ذل البحر لبني إسراهيل"‪" .‬شاهدت الوجوه"‪ .‬فهم ل يبصرون‬
‫ول يعقلون ول يسمعون‪.‬‬
‫ذكر كلمات يأمن بها الخائاف من السلطان بقدرة ا‪ :‬ل تزال تقول وأنت داخل إليه أو قاعد عنده في نفسك‪ :‬يا قديم الحسان‬
‫بإحسانك القديم‪.‬‬
‫ذكر كلمات تصدق بها عند لسان السلطان‪ :‬تقول عند الدخول عليه‪) :‬اليوم نختم على أفواههم( ]يس‪) .[65 :‬ول يؤذن لهم‬
‫فيعتذرون( ]المرسلت‪) .[36 :‬صم بكم عمي فهم ل يرجعون( ]البقرة‪ .[18 :‬ول يعقلون‪.‬‬
‫ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم‪ :‬تأخذ أفرالدا من شعير حزام وتقول عليه أربع مرات‪ :‬هاطاش ماطاش هطاشنة‬
‫)وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة( ]المائادة‪ .[64 :‬وترميه من حيث ل يشعرون وتنظر ما يصنع ا‪.‬‬
‫ذكر ما يبغض بين الشخصين‪ :‬يكتب على بيضة وتشوى وتطعم )ومزقناهم كل ممزق( ]سبأ‪) .[19 :‬وحيل بينهم( ]سبأ‪.[54 :‬‬
‫ضا‪ .‬ويكتب على بيضة مخيط عليها بخام مضيق سبع ضادات وتوضع في مجمرة ملة‪ ،‬فإنها تستويِ ول تحترق الخرقة‪،‬‬ ‫قطلعا‪ ،‬بغ ل‬
‫وتطعم البيضة للمحموم‪ ،‬وكثير مثل هذا‪ .‬وقد حصرناها وشرحناها في كتاب عين الحياة‪ ،‬وهو صغير الحجم كثير الفوائاد‪ ،‬وفيه‬
‫المقالة اللهية التي هي سبب الجمع بين الجساد والرواح بطريق بعث الكسير‪ .‬اعلم أن الصناعة اللهية ل تخلق‪ ،‬إن كانت‬
‫فتكون وإن لم تكن فليس بصحيح‪ ،‬لن جماهير الناس أجمعوا على‪ :‬إن كانت فل شك أن تكون‪.‬‬
‫)ص ‪(517‬‬
‫ودللت المنقول والمعقول قائامة دالة على الجواز‪ ،‬فالمنقول قوله تعالى‪) :‬ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد‬
‫مثله( ]الرعد‪ .[17 :‬وقوله تعالى‪) :‬إنما أوتيته على علم عنديِ( ]القصص‪ .[78 :‬وأما المعقود دل عليه عمل الصابون‪ ،‬فإنه جامع‬
‫بين الضداد‪ ،‬ماسك الطباع الدهنية والمائاية والنازية‪ ،‬فلما حصل تجميده على تجميده‪ ،‬دل بتجميده على تجميده‪ ،‬ولو لم تكن‬
‫صناعة صحيحة لما كان البريز كثيلرا لبعد المعدن‪ ،‬وهي حالة مصنوعة كسائار المصنوعات‪ ،‬وقد ضاع العالم فيها‪ ،‬وضيعت‬
‫الموال في تحصيلها‪ ،‬فلم يظفر بها إل الرجال الفراد المطلعون على علوم خواص النبات وخواص الحيوان‪ .‬ولكن يا موسى ل‬
‫بد لك من خضر يعلمك معنى خرق السفينة وقتل الغلم وإقامة الجدار‪ ،‬مع معرفة الخصال الثلثة حصل له كشف الكنز )وكان‬
‫تحته كنز لهما( ]الكهف‪ .[82 :‬فإذا خرقت سفينة الصنعة‪ ،‬وقتلت غلم الزئابق البق حتى يصير ماء زللل‪ ،‬فأضف إليه جدار‬
‫تصعيد الزرنيخ‪ ،‬فإذا صح على هيئاة التراب فتوضع وزلنا بوزن‪ ،‬فبعد حسن السبك وقوام التصعيد وصارت الرض فضة يتخذ‬
‫منها دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين‪ .‬واعلم أن الزرنيخ اسم مركب فأوله زر بالعجمية‪ ،‬فإذا صح لك فأنخ بجمال غنائاك‬
‫على باب أستاذك ومعلمك‪ ،‬وسر بذيِ القرنين من عقلك إلى مغرب الشمس الذهبية عند عين حيوان من نبات طأطأ‪ ،‬فبياضها‬
‫للبيض‪ ،‬وصفارها للصفر‪ ،‬هي دواء العيون إذا نامت العيون‪ ،‬ثم سر إلى مطلع شمس حرارة زئابق البق وحصله‪ ،‬فإذا بلغت‬
‫بين السدين فانفخ عليه من نار لطيفة طيبة‪ ،‬فإذا صح إكسيرها أو لم يصح فارجع إلى حد الطلق‪ ،‬فإن صح لك فهو الكسير اللؤلؤ‬
‫الكبير فحصله فإنه موجود‪ ،‬وإن لم يقدر على تحصيله‪ ،‬والعمل بها قد ذكرناه في كتاب عين الحياة‪ ،‬فعليك بمداراته والصبر على‬
‫التطويل‪.‬‬
‫واعلم أن هذه الصناعة هي صناعة ربانية ل يقدر عليها إل البدال والرجال والبطال الذين كشف ا الرين عن عيون قلوبهم‪،‬‬
‫وهذه ل تصح إل للطلئاع الذيِ يريد به عولنا على الخرة أو وفاء دين أو دفع شين‪ ،‬وهي حريزة غريزة‪ ،‬ولها أربعون صناعة‬
‫صا دالة مظهرة لبدائاعها وصناعتها‬ ‫قبلها ليكون عولنا عليها‪ :‬مثل عمل الكحال والبراد والدوية والدوانيق‪ ،‬ونحن نذكر خوا ل‬
‫مذكورة في كتاب عين الحياة‪ ،‬وأعظم ملكها الكبر هو تصاعد الزرنيخ‪ ،‬ومعرفة أجزائاه‪ ،‬وزمانه المعتدل الصالح النافع للبدان‪،‬‬
‫غير مضر من حر وبرد‪ ،‬وهذه الصناعة الفضية التي يسميها أرباب الصنعة القمرية‪ ،‬فقد تعمل فيما يتصعد من إكسير بياض‬
‫البيض‪ ،‬وأصلح ذلك هو الزرنيخ المصعد قوالما معتدلل ووزلنا واحلدا معروف الصفة‪ .‬فافهم واعرف زمانه المعتدل وخف عليه من‬
‫الحر المحرق والبرد الممزق والمفرق‪ ،‬فتربيته‬
‫)ص ‪(518‬‬
‫كتربية الطفال مفتقر إلى العتدال‪ .‬فابدأ أولل بصنائاع البرار والكحال‪ ،‬مثل الغريزيِ الصغير والكبير‪ ،‬والجلء الصدفي‪،‬‬
‫وبرود الحسك‪ ،‬وبرود المياه‪ ،‬وهو أن يجتمع المياه مثل مياه التفاح والحصرم والرمان وتضيف إليه عرق الماميرون وعرق الريح‬
‫ودواوديِ جعفران وبهمني سهر وماء الرازيانج وتوتليا أخضر رقيق وهو المرادني‪ ،‬فإذا صح هذا كله فاجبله بهذه المياه مع ماء‬
‫صا أو تصحنه جل‪ ،‬فهذا‬ ‫الرازيانج وماء الحسك ثم نشفه بين الشمس والظل‪ ،‬فإذا أمسكت نفسه وزالت رطوبته فاعمل منه فصو ل‬
‫هو التوتيا الهنديِ الذيِ يساويِ مثقاله مثقالل‪ ،‬ول بأس معه بماء الماميثا‪ .‬وماحي العالم هذا هو البرود الجامع والجلء النافع‬
‫والتوتيا الهنديِ القاطع‪ ،‬فإن عملت منه شيلئاا فما يكون وهو رطب حار‪ ،‬هذا هو كيمياء البرار وبه يحصل لك إن شئات مكسلبا‬
‫تستريح من تعب غيره‪.‬‬
‫إذا أردت عمل الدن‪ :‬خذ ما شئات من الدن الخرق الصحيح وتضيف إليه لكل جزء ثلثة أجزاء من شمع صافي‪ ،‬وتطبخه بنار‬
‫لطيفة بقدر ما يمتزج وتحطه‪ ،‬فهو الدن‪ .‬وكل مصنوع ل بد له من خمير خالص وهو إكسيره‪.‬‬
‫صفة عمل الزعفران‪ :‬تأخذن أصفر لحم البقر‪ .‬وليكن من فخذه ل سميلنا‪ ،‬وتطبخه بالخل والزعفران ثم تبرده وتغسله شعرات‬
‫زعفرانية‪ ،‬ثم تضيف إلى كل أربعة أجزاء جزلءا من الزعفران الخالص‪.‬‬
‫فأما عمل المسك والزيادة‪ :‬تأخذ من الخالص خمسة أجزاء وتضيف إليه مثله من الخبز المحترق‪ ،‬أو الكبد المشوية المحترقة‪ ،‬أو‬
‫جزء فأرة مسكية‪ ،‬من كل واحد جزلءا يضاف إلى الجزء الصلي من مسك أو زباد‪.‬‬
‫فهو الشارة كافية إن عقلت بصدق العمل‪ ،‬فقد قالت الشطيات‪ :‬لقمة من القدر تكفي لمن يشم الرائاحة وفضل لقمة يتحتم لمن لم يكن‬
‫شبعان‪ ،‬والصنائاع مغطاة فإذا كشفت بان سرها‪ .‬والعجائاب ظاهرة في كتاب عين الحياة‪.‬‬
‫واعلم أن المسك هو من دم غزال بريِ يأكل من أطايب الفاوية البرية كالفلفل والقرنفل وغير ذلك‪ ،‬وقد قيل في العنبر إنه ينبع من‬
‫عين بأرض مدينة عنصوريا‪ ،‬والكافور هو من عين‪ ،‬فيعجن العنبر بأوراق بحرية بين أشهب وأبيض وما شئات من اللوان‪ ،‬وقد‬
‫نزل من السماء عشرة أشياء كالمن والشيرخشك والترنجبين واللذن‪ ،‬وقيل هو عين في جبال مرعش‪ ،‬وينزل من السماء القطر‬
‫مع السحاب‪ ،‬يضاف إليه شيء من الزوائاد فيطبخ بماء الشعير فيسقى للمرأة التي ل لبن لها ول حيض فتحيض هذه ويدر لبن هذه‪،‬‬
‫وقد ينزل من السماء ضفدع أخضر يصلح للبواسير‪ ،‬وقد ينزل من السماء بأرض سقسين حنطة حمراء لينة باردة على طعم الزبد‬
‫والعسل والثلج‪ ،‬إذا أخذ من دقيقها‬
‫)ص ‪(519‬‬
‫وكحلت بها العيون المعيبة زال عيبها‪ ،‬ومن ههنا أخذ من أخذ‪ ،‬وإذا بخر بعضها تحت أحد أبصر الملئاكة‪ ،‬وبه يبخر لعطارد‬
‫فيكلمه‪ .‬وقد قويت عزائام المنجمين بأن النبياء بخروا‪ ،‬فالكليم بخر لزحل أول ساعة من يوم السبت‪ ،‬والمسيح بخر للمشترى‪،‬‬
‫وإبراهيم بخر يوم الحد للشمس وللمريخ يوم الثلثاء‪ ،‬وقد بخر زرادشت للمريخ وعطارد‪ ،‬وقد بخر محمد رسولنا للزهرة يوم‬
‫الجمعة‪ ،‬واختفى في غار حراء‪ ،‬فكانت تأتيه في صورة جبرائايلية وهو تمثال لدحية الكلبي‪.‬‬
‫ومن أراد أن يبصر الجن مشاهدة ومصادقة ومخاطبة‪ ،‬ويسمع كلمهم ويعينونه على ما يريد‪ ،‬فليقرأ سورة الجن في بيت خال من‬
‫يوم بطالة في أحد أو أربعاء‪ ،‬وبين يديه بخور اللبان‪ ،‬ويخط له مندلل يقعد فيه ول ينقطع عنه البخور وهو يقرأ )قل أوحي إلي أنه‬
‫استمع نفر من الجن( أربعين مرة‪ ،‬وهو يمثلهم ويحدث إليهم‪ ،‬فإذا خرجوا إليه ل يخافهم‪ ،‬ويستخدم منهم من شاء على ما يشاء من‬
‫سحر وطلسم وهياج وتسخير وإظهار كنوز وحب وتبغيض‪.‬‬
‫واعلم أن من الخواص النباتية ما يطول شرحه‪ ،‬ونحن نشير إلى بعضه‪:‬‬
‫من أراد أن ل يبصره ول تراه العيون فليزرع الخروع عند بدو زراعة القطن في رأس سنور أسود‪ ،‬فإذا طلع يخيط عليه كيلسا‪،‬‬
‫ويربيه حتى يجنى القطن‪ ،‬ثم يقطف العنقود كما هو بكيسه ويشقه حجرة‪ ،‬ويأخذ مرآة بيده‪ ،‬ثم يقطف منه حبة حبة ويضعها في فمه‬
‫وينظر صورته في المرآة‪ ،‬فأيِ حبة لم يشاهد فيها نفسه عند نظر المرآة فليمسك عليها‪.‬‬
‫ولهم البهر الضم وهو نبت في الرض على صورة ابن آدم‪ ،‬فهذا يصلح لمن عقله على نفسه لو مر بحجر لتبعه الحجر‪.‬‬
‫ولهم حشيشة تسمى بحشيشة الراسن‪ ،‬تبخر من أوراقها على اسم من تريد فيأتيك وإن لم يرد‪ ،‬ولكن بشرط أن تقول هذه الكلمات‬
‫على البخور‪ ،‬تقول‪" :‬يا جامع ياجن اجمعوا وقدموا لق لق عاجلل عاجلل اشروثا كبيبا أل صبي‪ :‬ائاتنا كرلها أو طولعا‪ :‬قالتا أتينا‬
‫طائاعين"‪ .‬وليكن في يوم الحد أو أربعاء‪ .‬وهذا حشيش الراسن يعمل منه شراب يسمى شراب الملئاكة يصلح لرباب الخلط‬
‫المتساوية‪ .‬ويصلح للنساء العجفاوات من شدة الحرارة‪ ،‬وتجفف ورقه ويعمل منه برود يصلح للعين التي ارتخت أجفانها‪ ،‬وقد‬
‫يعمل منه دواء يقويِ اللثة‪ ،‬وقد يبخر منه تحت صاحب الحمى فيبرأ‪ ،‬أو يبخر تحت النفساء ذات المشيمة المعلقة فتنزل‪ ،‬وقد يسلق‬
‫ورقه بالخل مع ورق الزيتون فينفع السنان الضاربة‪.‬‬
‫ولهم نبات ل أصل له في الرض وهو على هيئاة العنقود على شجر البطم والبلوط‬
‫صفحة ‪520‬‬
‫ويسمى حب العصفور‪ ،‬ويسمى حب دبق صيد العصافير‪ ،‬يصلح بخوره للبيوت‪ ،‬خاصيته طرد الشيطان‪ ،‬ويبطل السحر المدفون‬
‫مثل مشاقة الشعر المقعد‪ ،‬وبرادات المشاط والوتار المعقدة‪ ،‬فبهذه دخل السحر على محمد صلى ا عليه وسلم‪ ،‬ولهذا قال صلى‬
‫ا عليه وسلم‪" :‬ضيعوا مشاقات الشعور فبها يعقد أكثر السحور‪ ،‬وأعظم العبر في الولياء والبر التي تترك قريب النار يا‬
‫عائاشة"‪ .‬وعزيمتها عشر آيات من آخر سورة الرعد‪ .‬وهذا الحب يعمل منه الند فيؤخذ منه جزء‪ ،‬وجزء من عروق القسط وعروق‬
‫الزعفران‪ ،‬وشيء من برادة العود القماريِ‪ ،‬يدق ويطبخ جميعا ل إل حب العصفور‪ ،‬فيطبخ جميعا بماء الورد الجيد العرق الغاية‪،‬‬
‫فإذا تجبل وصار طينا ل يحط إلى الرض‪ ،‬وإذا برد عمل منه الند على ما تريد‪.‬‬
‫أما صفة عمل الدرانيق النافعة فقد سبقنا إلى ذكرها وعملها‪ ،‬ولكن أقرب ما تأخذه هو أن تضيف البندق المدقوق مع الجوز واللوز‬
‫والسمسم القليل والفستق‪ ،‬فيعجن جميع هذا بالعسل الشهاد مع قليل من ماء الور ويرفع‪ ،‬ففيه منفعة وخاصية لسم العقرب‪ ،‬وفيه‬
‫خاصية للوقاع‪.‬‬
‫وجوز اللوز الهنديِ الحديث على الهريسة والحنطة نافع في الوقاع ويصلح لمن وثبت عليه الرايح الباردة‪ .‬أما الترياق الكبر فهو‬
‫أربعون حاجة مع لحوم الحيات مشروحة في كتاب عين الحياة‪.‬‬
‫واعلم ان النبات والدهان والحيوان ما يطول شرحه ول يشغل كتابنا به‪ ،‬لكني أذكر لك عمل إساءة وهي الظنبوث‪ :‬تأخذ من‬
‫بصاصات الربيع ما تريد على ما تريد واسم من تريد في ساعة محمومة‪ ،‬فتضعها في قارورة زيت بأعلى النار‪ ،‬فتعلمه ظنبوث إن‬
‫شئات حبشية للبعض‪ ،‬وإن شئات قرشية للمحبة‪ ،‬وإن شئات فارسية للسلطان‪ ،‬وإن شئات كرمانية للخروج من المضرة والمراض‪،‬‬
‫وتعلقها في الشمس وكلما نقصت تزيدها دهنلا‪ ،‬ثم تتركها في نافذة ظاهرة وتربيها وتخدمها وتبخرها‪ ،‬وتقول عندها في كل يوم هذه‬
‫الكمات "أيها الظنبوث الطاهر كوني لما أريد" وهو يبخرها‪ ،‬ول يبخرها إل طاهرال ل حائاضا ل ول جنبلا‪ ،‬فهي تنقص عند نقص‬
‫الهلل وتزداد بزيادته‪ .‬فهذا من جملة الخواص الدهنية‪ ،‬وفي الدهن ما يطلى به الجسم فل يعمل فيه النار‪ ،‬وفي الحجار ما يعمل‬
‫منها فأس أو قدوم فإذا نقر به ل يسمع صوته‪ ،‬وفي الحجار ما إذا وضع في التنور سقط خبزه‪ .‬وقد عرفت خاصية المغناطيس‬
‫وأما خواص الحيوان فتطلبه في كتابه‪.‬‬
‫صفحة ‪521‬‬
‫المقالة الثامنة عشرة‬
‫في عزائام التسخير‬
‫تقف أول ساعة من يوم السبت مستقبل الغرب بثياب سوداء وزرق بأبخرة مذكورة مثل الليان والحرمل وقشور الرمان والخردل‬
‫البريِ‪ ،‬ثم تقول في وقت سعيد من تثليث أو تسديس مناط إلى شرف فتقول‪" :‬أيها السلطان العظم والملك العرمرم‪ ،‬مالك الفلك‬
‫التابعة له النجوم‪ ،‬الخاسف المزلزل‪ :‬زحل أنت أشرف الكواكب وسيدها وقائادها ومؤيدها‪ ،‬أسألك أن تعطيني وأن تمنحني ما‬
‫يصلح منك لي" وتقول يوم الحد عند طلوع الشمس وأنت مستقبلها بهمة مصروفة إليها‪" :‬أيتها السيدة الرفيعة والملئاكية المطيعة‬
‫والمدبرة الكبيرة التي جادت بفيضها على الظلم فصارت نورلا‪ ،‬ذاتها طاهرة وسلطتها قاهرة‪ ،‬أسألك أن تعطيني ما يصلح منك‬
‫لي‪ ،‬واصرفي همتك علي وأنت الملكة العزيزة والسلطانة الحريزة بحق من سخرك وهو الملك العظيم"‪ .‬وتقول أول ساعة من يوم‬
‫الثنين" "أيها الكوكب الظهر‪ ،‬والقمر البهر‪ ،‬البارد الرطب الحال في الفلك المعتدل البارد اللطيف‪ ،‬أسألك بحقك وبحق الملك‬
‫المعطيك من نوره‪ ،‬أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي" وتقول في يوم الثلثاء مخاطب المريخ‪" :‬أيها السلطان الحاد النوريِ‬
‫النار النوراني والفتن الرضية‪ ،‬صاحب الحرب والصلح والدم‪ ،‬أسألك بحق سلطتتك ودولتك وقهرك أن تعطيني ما يصلح لي‬
‫منك" وتخاطب يوم الربعاء فتقول‪" :‬أيها الكوكب اللطيف الشريف‪ ،‬والكوكب الكاتب الحاسب العالم‪ ،‬ممازج الفلك ووزيره‬
‫وملطفه ومشيره بلطافة أخلقك وطيب أعراقك وحسن سمعتك وصفاتك الحميدة وأخلقك المجيدة الحسنة الطيبة أن تعطيني ما‬
‫يصلح منك"‪ ،‬ولتكن على الماء في فروج من حشيش أخضر وهواء لطيف بنفس فرحة وريح طيب وأنت متصف بصفات الكتاب‬
‫وتبخر في يوم الخميس للمشترى فتقول في دعائاك‪" :‬أيها الكوكب الدين الصالح التقي الرفيع البديع المطيع السميع السريع الذاكر‬
‫الشاكر الناشر والحامد الباهر الخائاف المستغفر عندك أكثر أحياء الموات والذيِ يبريِء من كل داء أسألك بحق دينك وأمانتك‬
‫ومودتك ومروءتك وطاعتك أن تعطيني ما يصلح لي منك"وتقول في يوم الجمعة مخاطبا ل للزهرة‪" :‬أيتها النفس الطاهرة والزهرة‬
‫الزاهدة الباهرة ذات اللهو والطرب والرقص والعب والشرب والكل‪ ،‬الفرحة النزهة الناظرة والمزينة الطائاعة لربها الحرة‬
‫الطاهرة‪ ،‬أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي" فأما يوم السبت فهو مخصوص عندهم لموسى لنه زحلي‪ ،‬والحد مخصوص‬
‫بسليمان وجماعة من النبياء وصاحبة الشمس وفيه يتبخر الملوك لها‪،‬‬
‫صفحة ‪522‬‬
‫ويوم الثنين هو للقمر يصلح للوزارات والوزراء‪ ،‬ويوم الثلثاء للمريخ وفيه بخر إبراهيم الخليل‪ ،‬ويوم الربعاء لعطارد وفيه‬
‫بخر زرداشت وهو نبي المجوس صاحب كتاب سبطا‪ ،‬ويوم الخميس مخصوص عيسى‪ ،‬وأما يوم الجمعة فهو لمحمد صلى ا‬
‫عليه وسلم‪ .‬فالذيِ يطلب من زحل وهو كيوان مثل المنافع الرضية وإظهار الكنوز وشق النهار والشجار‪ ،‬وأما ما يخص‬
‫الشمس فمثل الملك والملكة‪ ،‬والقمر لئاق بالوزارات‪ ،‬والمريخ بالحروب والبأس‪ ،‬وعطارد للكتابة والنقش والحساب والهندسة‬
‫والعلوم الدقائاق والعزائام ومخاطبات الجن كما سبق ذكره‪ ،‬وأما المشتريِ فهو للزهد والديانة وحل الطلسمات السماوية‪ ،‬ثم الجمعة‬
‫للزهرة‪ .‬قالوا‪ :‬إنما أمر باجتماع الخلق عند نصف النهار في هيكل العبادات لجتماع خواص النفاس ليؤثر ذلك في حصول‬
‫المطالب لشرف نفسه الفياض منه على تابعيه من قولهم في لحظة واحدة اللهم صلى على محمد وآل محمد‪.‬‬
‫واعلم أن الناس قد اختلفوا في الخاصية كما ذكرناه في أول الكتاب‪ ،‬وخواص النبات والحيوان كثيرة‪ ،‬وقد ذكرنا منها فصلل طويلل‬
‫زائادال خارجا ل عن الحاجة‪ .‬وكم في الحيوان من خواص ل تعرفه مثل مرارة الدب للسمن وشحمها أيضا ل ولحمها مع تحريمه يذهب‬
‫بالرباح‪ ،‬وأكباد الرانت تنفع الكباد‪ ،‬وعيونها للعيون‪ ،‬وشمحها للرباح‪ ،‬ويصلح منه طلل لمعنى‪ .‬وشحم الخنزير في علف‬
‫الدواب‪ ،‬ودهن البيض للشعر‪ ،‬وما قطع من الكرم ينفع في الشعر‪ ،‬ودهن الشوك والحنطة للثواليل‪ .‬وشحم القنفذ للرباح‪ ،‬وقصبه‬
‫مع السكر للطحال وزنا ل وسفا ل‪ .‬ومخ الحمار قاتل‪ ،‬وفي الهدهد منافع ذكره صاحب كتاب الحيوان‪ .‬والجوز الهنديِ في الهرايس‬
‫نافع للجماع‪ ،‬ومعاجين وأدهان أتلف‪ .‬والفصد محمود والحجامة أحمد‪ .‬والقيء ينظف‪ .‬والقليل من لباب الخيار نافع‪ .‬والشواذج‬
‫للمبرود أجمل‪ .‬والحنطيات لصاحب الجماع يغنى‪ .‬وأكل الهرايس أفضل‪ .‬وشراب الرمان في المعدة موحل‪ .‬والبطيخ فيه فوائاد‪:‬‬
‫مطمعم ومشرب‪ ،‬وريح طيب‪ ،‬ومقطع سال‪ ،‬ومدر البول‪ ،‬ومقطر لغسل المثانة‪ ،‬ويذهب مع القيء الخلط‪ .‬وفيه مضار‪ :‬ينشف‬
‫الخلق‪ ،‬ويزيد الصفراء‪ ،‬ويورث الحكاك‪ ،‬ودفعه بالسكنجبين‪ .‬والقبيت المحلى يقطع الشهوات‪ ،‬ويعصم ويسمن مع الريح الطيب‪.‬‬
‫وخير الفواكه أنضجها‪ ،‬وأجودها قبل الطعام إل الكمثرى فقليله نافع بعد الطعام‪ .‬وتقليل النرد أجود لعينك‪ :‬عن صفة الطيب فدت‪.‬‬
‫والجائاع درهم او أقل‪ .‬وقد تصعب مداواة المتخوم‪ .‬ويكره تعجيل الماء عقيب الطعام‪ ،‬ويستحب امتصاصه‪ ،‬ويكره عبه‪ ،‬وأكل‬
‫الحوامض في الصيف أنفع‪ ،‬والسوادج في الشتاء‪ .‬وأنفع الفواكه الغديِ مثل التين والعنب‪ ،‬وأنفع الرمان الملسي قليله بعد الطعام‬
‫أو عند النوم‪ ،‬وهو مضر بأصحاب الجماع لسيما حامضه‪.‬‬
‫فصل وهو المقالة التاسعة عشرة في الشربة‬
‫أما السكنجبين فهو أول ما صنع لذيِ القرنين‪ ،‬وأجود المعتد‪ ،‬وإبقاء المنعقد‪ .‬وشراب الرمان يوحل المعدة وفيه تبريد الكبد‪.‬‬
‫وشراب الخشخاش والبنفسج والنيلوفر فوائاد عملها في الرأس‪ .‬وشراب الراسن يعمل في الخلط السوداويِ حتى زعم أبو نصر‬
‫الفارابي أنه يغنى عن المفرح الصفير‪ .‬وأما شراب التفاح وما يتخذ منه ففيه الفوائاد القلبية‪ .‬وأما شراب الورد فهو يسهل الخلط‬
‫الصفراويِ‪ ،‬فإن أعنته بدرهم ونصف ثريد‪ ،‬ودرهمين سورنجان‪ ،‬فيكون سفوفا ل قبل شراب الورد أو بعده‪ .‬وأما الرباب فرب‬
‫السفرجل يعصم المحرور‪ ،‬ورب التفاح يعمل في النميجة الواردة عن ضعف القلب إذا كان من حرارة‪ ،‬ورب التوت فخاصيته في‬
‫الحلق‪ .‬وجميع الشربة والربوب فالغناء عنها بالحمية مع العود إلى العادة القديمة كما جاء في حديث "المعدة بيت الداء والحمية‬
‫رأس الدواء‪ ،‬وعودوا كل بدن ما اعتاد" ول بأس لمن اعتاد الشربة أن يتعهدها عند الحاجة إليها‪ ،‬قال أبو طالب المكي رضي ا‬
‫عنه‪ :‬ل تتعرضوا مع العافية إلى الدواء فربما يفضها‪ .‬وشرب الدواء في الخريف أولى من الربيع‪ ،‬لقربه من المآكل التي تحدث‬
‫السهولة‪ .‬وأما البقول فأنفعها الهليون والسفناج‪ .‬روى ابن قتيبة أن النبي صلى ا عليه وسلم قال‪" :‬أربع حشائاش من الجبنة يقطر‬
‫عليها كل ليلة قطرة من ماء الجنة‪ ،‬وهي السفناج والهندبا والهليون والخس‪ ،‬ففي الهندباء تبريد‪ ،‬وفي السفناج والهليون ترطيب‪،‬‬
‫والخس يولد دما ل صالحا ل"‪ .‬وأنفع الهليون ما عمل بمخاض البيض والزيرباج‪ ،‬وأنفع البيض مخاخه‪ ،‬وأجود الخيار القليل من‬
‫باطنه‪ ،‬وأما الكرفس فإنه يفتح السدد قليله‪ ،‬وقد يتبرك به الناس في بعض البلد‪ .‬والسداب يورث الجذام إذ أصله من خرء الذباب‪.‬‬
‫قال صلى ا عليه وسلم في التين‪ :‬التين خاصية قطع الناسور ويدر دم الحيض‪ ،‬وأنفعه الغديِ الصغير الزرق البالغ‪ ،‬وأكله على‬
‫الريق أنفع وآخره أجود من أوله‪ .‬وأول البطيخ أجود من آخره‪ .‬وخيار الخريف حمى‪ ،‬وريحان الخريف زكام‪ ،‬والشرب في كوز‬
‫الجماعة يورث اللم‪ ،‬وسره من أبخرة الفواه‪ .‬وحقن البول يورث حصاة المثانة‪ .‬وشرب بذر البطيخ السقي يعمل في عسر‬
‫البول‪ ،‬وغديه إذا دق مع الكشنة أو العدس ينعم البدن ويزيل الزهكة‪ .‬ويكره الغسل في الحمام بالعدس والمواضع النجسة‪ ،‬ويجوز‬
‫الغسل بالعدس في الواني‪ ،‬ودارك الشنان ينشف رطوبات البدان ويسمر اللوان‪ .‬ومعجون السمسم فيه ترطيب الشعر وتنعم‬
‫البدن وشقاق القدمين أمان من الجذام‪ .‬وأكل اليقطين يعمل في الخلط السوداويِ‪ .‬وحلوة القرع تزيل التجفيف‪ .‬والزيرباج فأعدل‬
‫اللوان‪ ،‬لكن بشرط أن يضاف إلى الخشخاش المرضوض‪.‬‬
‫صفحة ‪524‬‬
‫واللوز المحمص المرضوض من الدارجيني والزعفران يحل بالماء الورد والعسل يوضع في رأس البطيخ‪ ،‬هذه حيلتهم على‬
‫السكنجبين‪ .‬وأنفع الحلوة ما كثر خبزه‪ ،‬وأرطبها حلوة البيض‪ ،‬والقطايف أميرها‪ .‬والمسير ثقيل في المعدة‪ ،‬وأجود السهل الناعم‬
‫مثل الصابونية والكافورية‪ .‬وأما خبيص اللوز فثقيل‪ ،‬وأجود الناضج الكثير الخسخاش‪ .‬وأما الهرايس فأجودها أنضجها وأحقها‬
‫بلحم الحديث من المعز والضأن قال صلى ا عليه وسلم‪" :‬شكوت إلى أخي جبرائايل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهرايس فوجدت‬
‫لمريِ جبرال"‪ .‬والغكثار من لحم الدجاج يورث الحرارة في الطراف‪ .‬والمأمونية بالخروف المشويِ أجمل لكنها أثقل‪ .‬هذا فصل‬
‫إشارة في الدوية وأنفعها ما دام وقل حسابه‪ ،‬فهذا طعام المترفين‪ ،‬فقد قدم عثمان إلى النبي صلى ا عليه وسلم وآله وسلم قطايفا ل‬
‫بالقند والفستق ودهن القرع‪ ،‬ففرك وجهه صلى ا عليه وسلم ثم قال‪" :‬آه من طعام المترفين وحساب المترفين" وقدم قعب من‬
‫حليب وتمر إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقال‪" :‬كليه يا عائاشة بالسمن يكن أليق"‪ .‬وكان يأكل النيت بعسل العرفط والمعافير‪.‬‬
‫فمن ترك شهورات الدنيا وهو قادر عليها كتب له من الجر ما ل يعد‪ ،‬والسر فيه أنه اوقع بينه وبين نفسه فسكت عن اللذات‬
‫والشهوات‪ ،‬فإذا فارقت هذا العالم الخسيس والحبس المظلم والجسد المعتم لم تتأسف على مفارقة المحقورات‪ ،‬رقت على عالمها‬
‫وشرفت بعلمها‪ ،‬مثل العلوم المرسومة المنتقشة عليها‪ ،‬مثل علم التوحيد‪ ،‬والعلم بال وحده بالبراهين النقلية والعقلية‪ ،‬يحدث به لك‬
‫جناح تخرق به عالم الملكوت‪ ،‬إذ الرواح ثلثة‪ :‬نفس العارف‪ ،‬والناسك‪ ،‬والزاهد‪ ،‬إذا اجتمعت الثلثة فل يضرها الموت ول‬
‫الفوت‪ ،‬لنها كاملة رقت إلى عالم الكمال فهي تحظى بما ليس في الجنة من المقامات العلوية والنوار القدسية في الحضرة‬
‫الصمدية‪ ،‬مجاورة للملئاكة الروحانية‪ ،‬تجتمع إليها وتسمع عليها من العلوم المودعة عندها‪ ،‬فهي تنفصل عن عالم الكون والفساد‬
‫ووتلتحق بعالم البقاء الذيِ ليس فيه نقص ول نفاد "أعددت لعباديِ في جنتي ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب‬
‫بشر" اعلم أن هذا الحديث يدل على أن وراء نعيم الجنة نعيما ل ل تدركه النفوس إل مع مشاهدة‪ ،‬فهذا يعجز عن صفة مشاهدة‪ ،‬لنها‬
‫لذة ذاتية تجوز عن حد التعبير والتفسير‪ ،‬كما لو قيل للعنين عن لذة الجماع لما عقل‪ ،‬ومدرك اللذة ل يقدر على تعبيره‪ ،‬فهذا ل‬
‫يدركه إل شاهده وهو النظر إلى ا الكريم‪ .‬وأنت تريد أن تعرف لذة المشاهدة من غير إبصار‪ ،‬كما ل ينتفع الجبان بذكر الحرب‬
‫من غير مشاهدة ول مواقعة‪ ،‬وكيف تطمع مع الغفلة برفع الحجاب وقد سمعت أن زين العابدين عليه صلوات ا كان إذا قام في‬
‫صلته يرفع السد بينه وبين محبوبه فيطاف بقلبه في عالم الملكوت العلى؟ وهو معنى قول امير المؤمنين علي عليه السلم‪:‬‬
‫سلوني عن طريق السموات فإني أخبركم بها‪.‬‬
‫صفحة ‪525‬‬
‫وأنت أيها المبطل الغافل عبد نفسك واسير شهوتك وتريد أن تلحق بالبرار والمقربين‪ ،‬أو تطعن مع حجتك وجهلك في كرامات‬
‫الصالحين! )شعر(‪:‬‬
‫تريدين إدراك المعالي رخيصة ولبد دون الشهد من إبر النحل‬
‫تريدين أن أرضى وأنت بخيلة فمن ذا الذيِ يرضي الحبة بالبخل‬
‫فجاهد ول تجاهد‪ ،‬واركب فرس حسن ظنك‪ ،‬واقطع الغاية حتى تكون آية‪ ،‬والبس ثوب الشفاء إن أحببت اللقاء‪ ،‬وارض بالعيش‬
‫الطفيف إن أحببت أن ترقى في عالم المجد غلى قلة حمى الملكوت‪ ،‬قال صلى ا عليه وآله وسلم‪" :‬ظفر الزاهدون بعز الدنيا‬
‫ونعيم الخرة"‪ ،‬وسلم المجنون على ليلى فأبت رد السلم فقال لها‪ :‬ولم؟ فقالت‪ :‬أخبرت أنك نمت البارحة لحظة‪ ،‬ولو كنت صادقا ل‬
‫لما نمت عنا‪ ،‬فقال‪ :‬عسر علي زيارتكم فأحببت أن أراكم في المنام فنمت‪ ،‬فقالت له ليلى‪ :‬كأن شخصي قد زال عن قلبك ومثالي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬عزمت عن المثال فاستفقت إلى التمثال‪ ،‬فأنشدت ليلى‪:‬‬
‫لم يكن المجنون في حالة إل وقد كنت كما كانا‬
‫بل لي عليه الفضل من أجل ما باح وإني مت كتمانا‬
‫قالوا‪ :‬يا رسول ا إن بشرال وهندال ماتا في حبهما‪ ،‬فقال صلى ا عليه وسلم‪" :‬عجزوا عن حمل المحبة فماتا"‪ ،‬ثم قالت عائاشة‪:‬‬
‫حتى لك يورثك شوقا ل وفقرلا؟ فقالت‪ :‬أو أبقى بعدك ل كنت إن بقيت‪ ،‬فقالت‪" :‬ستبقين ولكن تشقين حتى تلقين"‪ ،‬ثم قال‪" :‬يا عائاشة‬
‫إذا مات الزوجان المتحابات فلينظر أحدهما رفيقه كانتظار الغائاب"‪) .‬شعر(‪:‬‬
‫نرى تقدم الغياب حتى نراهم ونأخذ شوقا ل منهم حين نأنس‬
‫لقد ضاقت الدنيا علينا ببعدكم كمن غص بالماء الفرات فييأس‬
‫لئان غبتم عن ظاهر المر بيننا فما أنا إل للمحبة أدرس‬
‫إذا ما جلسنا نذكر البين بيننا تضيق القوافي منكم حيث أجلس‬
‫صفحة ‪526‬‬
‫ولما حضر الموت الصديق قالت زوجته‪ :‬وافراقاه! فقال الصديق‪ :‬بل أنا وآفرحاه بلقاء الحباب! فل تخف الموت إن كنت مشتاقا ل‬
‫إلى أحبابك‪ ،‬فلبد من اللقاء في دار البقاء‪ ،‬فشمر عليك‪ ،‬وقدم بين يديك عساك تظفر بسهرك‪ ،‬فمن ادلج بلغ المنزل‪ ،‬ومن جعل‬
‫الليل له جملل قطع عليه مفاوز الهلكات‪) .‬شعر(‪:‬‬
‫فثب واثقا ل بال وثبة ماجد ترى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم‬
‫وشق الجنيد حبيبته لما سمع صبيا ل يترنم ويقول‪ :‬أرى زماني يمر بخشن وينقضي بالمغالطة‪ ،‬وقد تركني زماني بحالي مالي حال‪،‬‬
‫إذا صحت العمال وطينت الجسام وسهر العاشقون وقللوا الزاد والرقاد‪ ،‬فتحت أبواب بساتين الشتياق‪ ،‬ونزعت شموس‬
‫المعرفة‪ ،‬وأزهرت مزاهر القرب من وراء الحجب‪ ،‬وأشرقت هياكل القلب من أنوار جمال الرب‪ ،‬ورفع الحجاب وقطعت‬
‫الماني‪ ،‬ونادى العاشق بمعشوقه‪ ،‬كوشف بالكائانات‪ ،‬وشاهد حقائاق الموجودات‪ ،‬وحظى بانواع المكاشفات‪ ،‬ونثر عليه نثار‬
‫الكرامات‪ ،‬وبشر بأعلى المقامات‪ .‬وقال أبو الحسن النوريِ‪ :‬دخلنا على أبي يزيد البسطامي فوجدنا لديه رطبلا‪ ،‬فقال كلوه فإنه هدية‬
‫الخضر جاء بها من عند رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وأنا ما طلبتها إل من ا تعالى‪ ،‬ما طلبتها بواسطة الخضر‪ ،‬أكلها علي‬
‫يديِ الخضر‪ ،‬ثم دخلنا عليه في الجمعة الثانية فوجدنا بين يديه رطبا ل في طبق ذهب أحمر‪ ،‬فقلنا‪ :‬ما تطعمنا منه؟ فقال ل هي لي ول‬
‫لكم‪ ،‬فقلنا‪ :‬كيف حديثها؟ فقال‪ :‬كنت قاعدال بالليل أتلو القرآن فسمعت خذ الهدية منا ل واسطة بيننا‪ .‬واعلم أيها الغافل المحجوب عن‬
‫لذة المعرفة أن أحباب ا يتدللون عليه كما يتدلل المعشوق على عاشقه‪ ،‬كما قال رابعة‪ :‬بحق ما كان بيني وبينك البارجة اجمع‬
‫اليوم بيني وبين شيخنا يونس بن عبيد! فدخل يونس فقال‪ :‬يا رابعة ضيعت دعوة فيما لبد أن يكون‪ ،‬فقالت‪ :‬يا شيخ دع عنك هذا‬
‫فأين آثار دلل الحباب وأنت تريد سببا ل بلش‪ ،‬فهذا طلب الوباش‪ .‬قال الجنيد لرجل يعطي أجرة الفعلة‪ :‬أما تعطيني معهم يا‬
‫شيخ؟ فقال الرجل‪ :‬يا أحمق تمني نفسك بالبطالة لو عملت لخذت‪ .‬وقد مر الشبلي بدار فسمع صاحبة الدار تقول لزوجها‪ :‬ل نمن‬
‫عليك إل بقدر فعلك‪ ،‬تريد بلش عناق وزقاق‪ ،‬فقال الزوج الكسل يعمل أكثر من هذا‪ ،‬وأنشد‪:‬‬
‫قد فاتني مقصديِ فذبت جوى حطت ليدنا مصائاب الكسل‬
‫لو علمت لرضيت عني خليلة‬
‫صفحة ‪527‬‬
‫المقالة العشرون‬
‫في المأكل والمشرب وآداب المائادة‬
‫اعلم أن ا تعالى خلق هذه الصورة الدمية وجعل لها غذاء وهو سبب بقائاها‪ ،‬فالناس فيه ضروب‪ :‬فطائافة تقنع بالقليل من المأكل‪،‬‬
‫وهي المتقنعة التي يصلح أن يكون منها متعبدون‪ ،‬والتي هي شبيه الملئاكة بخصالها وخللها ونومها ومأكلها‪ ،‬فكلما قل الغذاء‬
‫كنت مشبها ل لسكان السماء‪ ،‬وثمرته العافية والغناء عن الطيب‪ ،‬ومن قلة الكل يحصل رقة القلب وقلة المخرج‪ ،‬فمن كانت همته ما‬
‫يدخل في بطنه كانت قيمته ما يخرج منها‪ ،‬القلل من المراق والفواكه أسلم‪ .‬واعلم أن كثرة المأكل ككثرة الرفاق ل تربح من‬
‫كثرتهم خيرلا‪ ،‬ألم تر إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم ما كان يجمع بين الدامين؟ فهذا فيه زهد وطب‪ .‬وفي البطون بطون نارية‬
‫تأكل ما يلقى إليها‪ ،‬والنار لها سبعة أبواب‪ ،‬وللبطون مثلها‪ ،‬مثل باب الحرص‪ ،‬وباب الشره‪ ،‬وباب النميمة‪ ،‬وباب شدة الجوع‪،‬‬
‫وقلة المبالة بالخطايا والمأكل الحرام اشد الذنوب وأعظمها‪ .‬وللجسد سبعة ابواب دالة على أبواب جهنم‪ ،‬مثل السمع والبصر‬
‫واللسان والبطن والفرج واليدان والقدمان‪ .‬فهذه أبواب السعاية الدالة على القبائاح وأعظمها البطون‪ ،‬وأعظم الفعال القبيحة مظالم‬
‫العبيد‪ ،‬وقال النبي صلى ا عليه وسلم‪" :‬من أكل لقمتين من حرام حجبت دعوته أربعين صباحلا‪ ،‬ومن مل بطنه كانت النار أولى‬
‫به"‪ .‬والحرام مثل المغصوب والسرقة‪ ،‬وأخذ القصاص والجناية بغير أذن ربها‪ ،‬وقطع الطريق‪ ،‬وقبول الرشوة‪ ،‬والجارات على‬
‫الطاعات‪ ،‬وابتياع الحرام واجرة الحجامات‪ ،‬وأخذ ما ل يستحق محتى نوبة الماء‪ ،‬وأنواع كثيرة ذكرناها في كتب "الحياء" من‬
‫الحلل والحرام‪ .‬وأما المكاسب الحلل فأصلها الحلل مثل البيض والبلوط والمن والحشيش والحطب‪ .‬وأما الصيد ففيه كلم بين‬
‫العلماء فتركه أجمل‪ ،‬وعملك بيدك مع النصح أجل وأكسب‪ .‬اجتمع أبو الحسين النوريِ وأبو يزيد وسفيان بن عيينة فأخذوا ببعض‬
‫أجرتهم خبزال وتصدقوا بالباقي‪ ،‬فلما قعدوا لكل الزاد قال سفيان‪ :‬هل تعلمون منكم النصح في الحصاد؟ فقالوا‪ :‬ل نعلم‪ :‬فتركوا‬
‫الخبز مكانه وراحوا‪ .‬واعلم أن سر الحرام غامض نكشف بعضه فنقول‪ :‬إن الصانع واحد والخلق من فيضه‪ ،‬فالمعتديِ على بعض‬
‫أجزاء الفيض يسريِ بعدوانه إلى الكل كما قال تعالى في القاتل‪" :‬فكأنما قتل الناس جميعا ل ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ل"‬
‫)المائادة‪ .(32 :‬والقياس إذا قال‪ :‬شعرك طالق‪ ،‬سرى طالق في جميع جسدها‪ ،‬وهكذا إذا تصدقت فقد أرضيت الصانع والمصنوع‪.‬‬
‫واللقمة الطيبة وهي الحلل أفضل عند ا من صدقات كثيرة‪ ،‬فإذا أردت الكل فكل ما دنا من الرض بالصابع الثلثة بعد‬
‫الجوع‪ ،‬وقم قبل الشبع‪ ،‬واقعدوا كقعودك بين يديِ شيخك للتعليم‪ .‬واعلم أن ا سبحانه وتعالى قد نزع البركة من الحار والحرام‪،‬‬
‫وفي المأكل الحار أربع مضار‪ :‬يهدم السنان‪ ،‬ويصفر اللوان‪ ،‬ويزيل الكبد‪ ،‬وربما يخاف عليه من أذى المصران‪ .‬وغسل اليدين‬
‫من الطعام وبعده‪ .‬ول يجوز أكل المنتن للزوجين إل يإذن بعضهم بعضلا‪ ،‬والسر فيه أن يورث النفرة بين الزوجين‪ .‬والريح الطيب‬
‫مؤلف ومحبب‪ .‬وترك غسل اليدين يقمل الثوب ويولد رائاحة كريهة وربما على ما ورد أن الشيطان يسترضع اليد ويستحسن‬
‫الصورة فيألفها‪ .‬ولما كان المقصود من الحلل تصفية القلوب وتقليل الذنوب‪ ،‬صار طلبه فرضا ل كطلب العلم فإن العلم إذا لم يدل‬
‫على خير فهو ضرر‪ ،‬وفي الحديث "من أكل الحلل سنة كشف له عن طراز العرش وصفت أنوار خواطره"‪ .‬وهو كيمياء السعادة‬
‫البدية‪ ،‬ينشرح به الصدور‪ ،‬وتصفو به أنوار المعرفة ويثبت في القلب عين الحكم‪ ،‬وبه تنكشف غشاوة الغفلة‪ ،‬وترفع سدود‬
‫الغرور‪ ،‬فيبين صفاء سماء التوحيد‪ ،‬وينكشف له اللوح المجيد‪ ،‬وتسمع بأذن صفا خاطرك هدير تسبيح الملئاكة المقربين‪.‬‬
‫واعلم أن النفوس ل تكون مرهونة بعد الموت إل بمظالم العبيد‪ ،‬والسر مطالبة حاضرة بين غريمين بين يديِ حاكم عدل عليم باق‪.‬‬
‫والمساواة واقعة بين العبدين إل من أتى ا بقلب سليم‪ ،‬تخلصت الذمم من المظالم‪ ،‬وانفك قيد النفوس‪ ،‬فصارت الرواح أين‬
‫تختار‪ ،‬ولهذا قال صلى ا عليه وسلم‪" :‬إن الرواح لتزور بيوتها وأهلها‪ ،‬فإن رأتهم بخير شكرت وإل نفرت وهي تناديِ يا أهلي‬
‫إياكم والدنيا فل تغرنكم كما غررت بي" وهذا هو سر نداء الندم وأما الرواح الطيبة الطاهرة من الدنس والثام والمظالم فهي‬
‫تطير أين شاءت واختارت على صور ذكرها الناس‪ ،‬إما جوهر‪ ،‬أو هيئاة ملك‪ ،‬أو جسم لطيف‪ ،‬والكل مدرك حساس عليم بمفارقة‬
‫الجسد‪ .‬فبقدر انتقاش علمك يا هاديِ سيرقى العلم فوق الجهول‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬إن رد درهم مظلمة أفضل عند ا من أربعة آلف‬
‫حجة مقبولة" فإذا كان حجتك واجتهادك خوفا ل من الثام فاقطع أصولها‪.‬‬
‫المقالة الحادية والعشرون‬
‫في تهذيب النفوس‬
‫اعلم أن نفسك أشد عداوة لك كما في الحديث‪" :‬نفسك التي بين جنبيك هي أعدى عدوك تدعوك إلى الوبال وترشدك على الضلل‪،‬‬
‫وتوقعك في الدناءة‪ ،‬وتركبك نفس الهوى‪ ،‬وتوقعك‪ ،‬وتطمعك‪ ،‬وتهلكك‪ ،‬وتملكك‪ ،‬فاقطع خصالها وخللها وشرها وشركها‬
‫وطمعها وولعها وشبعها"‪ .‬وفي الحديث‪" :‬أن ا تعالى لما خلق النفس قال لها‪ :‬من أنا؟ فقالت‪ :‬وانا من أنا؟ فعذبها بأنواع العذاب‪،‬‬
‫فكلما قال لها من أنا فتقول وأنا من أنا‪ ،‬حتى عذبها بالجوع والتواضع‪ ،‬فقالت‪ :‬أنت ا الذيِ ل إله إل أنت" فنفسك زنجية تطالبك‬
‫بالشهوات‪ ،‬فإذا شبعت طمعت‪ ،‬وإذا عصيت رفضت‪ ،‬هي الموقعة في البليا وهي أم الرزايا‪ ،‬هي الذئاب الكلب‪ ،‬والسد الحرب‪،‬‬
‫والكلب النهم‪ ،‬والعدو القرم‪ ،‬دائاها كثير ودواؤها قليل‪ ،‬وأعظم وسائال السلمة منها الخلف لها )شعر(‪:‬‬
‫إذا طالبتك النفس يوما ل بشهوة وكان عليها للهواء طريق‬
‫فخالف هواها ما استطعت فإنما هواها عدو والخلف صديق‬
‫ول يجد المريض حسن الشفاء إل بالصبر على مر الدواء‪ ،‬فعذبها بما تهذبها‪ ،‬فقد أنشد البستي لنفسه )شعر(‪:‬‬
‫العاقل يهزا بي والخلوة تهذيبي‬
‫ما أصعب أحوالي ونفسي كالذيب‬
‫فإذا عزمت على تهذيبها فاضربها بسياط تعذيبها‪ ،‬واقمع بالتواضع كبرها‪ ،‬واطبخها بنار المتحان‪ ،‬واجعل العلم لها سيد الخدان‪،‬‬
‫والعمل الصالح لها مولى الخلن‪ .‬وتعلم الخلق اللطيفة‪ ،‬وتكسب العمال الصالحة‪ ،‬والطف واظرف‪ ،‬وتكايس ول تتيابس‪.‬‬
‫واعلم أن ا لطيف‪ ،‬وليس من شأن اللطيف أن يعذب اللطيف والمهذب لنفسه والمعذبها بنيران المجاهدة‪ ,‬واعلم أن الخير عادة‬
‫والشر لجاجة‪ .‬فربها بالنوافل‪ ،‬وهذبها بين يديِ شيخك بالسمع والطاعة‪ ،‬واعلم أن حرمة الشيخ أعطم من حرمة الوالدين‪ ،‬والشيخ‬
‫هو الوالد على الحقيقة‪ ،‬والمرشد إلى الطريق‪ ،‬والمخرج للمريد من ظلم الجهل إلى نور المعرفة‪ ،‬وإلى السعادة البدية‪ ،‬والنجاة‬
‫الحاصلة‪ ،‬واللتحاق بالملئاكة‪ ،‬لن الشيخ هو الطبيب للذنوب‪ ،‬وأما الوالدان فهاجت نيران شهواتهما لقضاء الوطر‪ ،‬وجنيت أنت‬
‫من ثمار الشهوة ما تقدمت نيتها بايجادك عند الوطء وكان سببا ل لخراجك من ظلم العدم إلى ظلم الجهل ودار المكايدة والعناء‪ ،‬فقد‬
‫أجادا نقلل وقصرال وعقلل‪ .‬وأنشدني المعريِ لنفسه وأنا شاب في صحبة يوسف بن علي شيخ السلم‪:‬‬
‫أنا صائام طول الحياة وإنما فطريِ الحمام ويوم ذاك أعيد‬
‫ص ‪530‬‬
‫قد فاز من صبح و ليل أو دنا‬
‫شعرى و أيدنى الزمان اليد‬
‫قالوا فلن جيد لصديقه‬
‫كذبا أتوا ما فى البرية جيد‬
‫فأميرهم نال المارة بالخنا‬
‫و نقيبهم بصلته يتصيد‬
‫كن من تشاء مهجنا أو خالصا‬
‫فإذا رزقت حجى فأنت السيد‬
‫و ا ما سمعوا مقالة صادق‬
‫إل و ظنوا أنه متزيد‬
‫هذا الشعر فى بحر لزوم ما ل يلزم‪.‬‬
‫و من علمة علمك أنهم إذا مرجوا ل تلتفت‪ ،‬و إذا مزحوا ل تتزلزل‪،‬و إذا كابروك ل تحول‪ .‬و كابد نفسك عن المزاعقة و‬
‫المصايحة‪ ،‬فالكبر مطيب النفس‪ ،‬فإذا أردت الغاية الكبرى فى تهذيبها فأقصرها فى بيت أربعين صباحا ل أو أربعة أشهر‪ ،‬و هو‬
‫الفضل‪ ،‬و انقطع كأنك ميت‪ ،‬و ل تبق لك حاجة‪ ،‬و حصل من الزاد ما وافقك و أعانك كما تحصل طريق مكة‪ ،‬ثم اركب مطية‬
‫متابعة الشرع‪ ،‬ثم سر فى فلوات قمع النفس‪ ،‬و ليكن البيت مظلما ل و زمان الشتاء أولى‪ .‬و ل تأت بغير الفرائاض من الصلوات‪ ،‬و‬
‫ل تنم إل غلبة‪ ،‬و كل ثلثى أكلك بعد الجوع‪ ،‬و مقداره من اللقم الوسيطة ستة و ثلثون لقمة‪ .‬و ليكن ذكرك ل إله إل ا الحى‬
‫القيوم‪ ،‬فإذا دكدل اللسان فقل بقلبك و ل تخف من الواردات عليك فقد يجيئاك صورة قبيحة‪ ،‬و خيالت قاطعة‪ ،‬و جن و شياطين و‬
‫ملئاكة و معلمون‪ ،‬فواحد يقول أعلمك الكيمياء‪ ،‬و آخر يمنيك بالكنوز‪ ،‬و هذا يوعدك‪ ،‬و هذا يهددك‪ ،‬فل تلفت‪ ،‬فإنه‪ ،‬سيظهر لك‬
‫مع الصدق و ترك التجربة عجائاب و فنون‪ ،‬فعند ذلك تذوب كثائاف الحجب عن القلب‪ ،‬و ترفع ستور الغفلة بين قلبك و بين اللوح‬
‫المحفوظ فتشاهد ما فيه‪ ،‬و تنتقل إلى الخلئاق معاينة‪ ،‬و ينكشف لك فى اليقظة‪ ،‬ما كنت تشاهده فى المنام‪ ،‬فيستنير القلب‪ ،‬و ينشرح‬
‫الصدر بأنوار الجلل‪ ،‬و تنخرق الكائانات‪ ،‬و تنكشف المستورات‪ ،‬و تظهر الكرامات التى هو أخوات المعجزات‪ ،‬و بينهما فرق‬
‫فى التحدى و الظهار و الستتار‪ ،‬بل إذا وصل العبد إلى درجة التمكين صار الكل بحكمه‪ ،‬ما شاء فعل أو قال‪ ) :‬وأما بنعمة ربك‬
‫فحدث ( [ الضحى‪ . ] 11 :‬و كل ما تجده فى الخلوة تعرفه شيخك‪ ،‬فالشيخ فى قومه كالنبى فى أمته‪ ،‬و من ليس له شيخ فالشيطان‬
‫شيخه ‪ ,‬و من مات بغير شيخ فقد مات ميتة الجاهلية‪ ،‬فيعلمه‬
‫ص ‪531‬‬
‫و يدله و يعرفه طريق الوصول إلى ا تعالى و صاحب الخلوة يهب عليه نسيم القرب من دواخل الحجب‪ ،‬و ينكشف له أسرار‬
‫قلوب المخلوقين‪ ،‬و يزوره البدال‪ ،‬فتراه فرحا ل طيب الخلق حسن العشرة‪ ،‬دعب لعب‪ ،‬لن ا يكون قد تجلى بقلبه‪ ،‬فيسمع كلمه‪،‬‬
‫و يبلغ منه مرامه‪ ،‬و يكاشف شموس المشاهدة‪ ،‬و يعلم المخفيات‪ ،‬و يطلع على الكائانات‪ .‬و من علمات الواصل بال‪ :‬حسن‬
‫الخلق‪ ،‬و كثرة العلم‪ ،‬و حلوة الكلم‪ ،‬و التواضع‪ ،‬و صاحب هذا الطريق مع علمه العزيز ل عبوس‪ ،‬و ل حقود‪ ،‬و ل متكبر‪ ،‬و ل‬
‫ظالم ‪ ،‬و ل متجبر‪ ،‬و ل أكول‪ ،‬و ل شروب‪ ،‬و ل نؤوم‪ ،‬نفسه ملكوتية‪ ،‬قدوى جبرائايل همته‪ ،‬و نفخ إسرافيل سعادته فى صور‬
‫همته‪ ،‬فحدا به حادى محبته‪ ،‬و سار به فى بيداء معرفته‪ ،‬حتى تجلى له بيت الجلل‪ ،‬فانكشف منه خاصيته يمشى بها على الماء و‬
‫الهواء و يطوى له بها البعيد‪ .‬فاقربوا من هذا الرجل تكتسبون من قربه و فيض خاصيته ما اكتسبه الهلل من قرب الشمس‪ .‬و‬
‫ربما ينتقل أحوال البدال إلى التلميذ و المريدين كما انتقلت النبوة من موسى إلى يوشع بن نون‪.‬‬
‫و اعلم أن الحوال و المقامات ل يصدقها إل من عرفها‪ ،‬كما ل يصدق علم الكيمياء إل من عالجه و عرفه‪ ،‬فكل من يكلم عند‬
‫الصانع الواصل العليم فقد هدى‪ ،‬فإن العمى ل يبصر القمر‪ ،‬و الزمن ل يعدو خلف الطريدة‪ .‬و أنت تغيب و ليس فيك نصيب‪ ،‬و‬
‫ل أنت محب و ل حبيب‪ ،‬بطنك ملءة و عينك محيطة و لسانك معقود‪ ،‬و عملك قليل و أملك طويل ‪ ،‬و ذنبك عزيز و ربك بصير‪.‬‬
‫فأسمع مناديك فى جانب واديك قال‪ :‬ل تعب الحرائار حتى تكون مثلهم‪ ،‬و اخش بمفلح نادى من وراء اللوح‪ .‬فأحسن الظن فإنك قد‬
‫طرحت فطرحت‪ ،‬و جرحت فجرحت‪ ،‬و لو أوصلت لوصلت‪ ،‬و لو خدمت لخدمت‪ ،‬لكنك متشبت تجعل ط م ع وهى خالية من‬
‫النقط فهلكت و ما ملكت‪ ،‬و ما فاتك فاتك و الندم تجده عند وفاتك‪ .‬و اعلم أن ا مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون )شعر(‪:‬‬
‫قل للكثيب المعدنى‬
‫إلى متى تتعنى‬
‫فل حياتك تصفو‬
‫و ل بناتتـــــهنا‬
‫المقالة الثانية و العشرون‬
‫فى الذكار‬
‫و اعلم أن اليات الدالت على الذكر و الخبار كثيرة‪ ،‬فمن ذلك قوله تعالى‪ ) :‬فاذكرونى أذكركم ( [ البقرة‪ . ] 152 :‬و قوله‬
‫تعالى‪ ) :‬اذكروا ا ذكرا كثيرا (‬
‫ص ‪532‬‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫[ الحزاب‪ .]41 :‬و قوله‪) :‬و لذكر ا أكبر( [ العنكبوت‪ .]45 :‬و قوله ) و اذكر ربك فى نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر‬
‫من القول بالغدو و الصال و ل تكن من الغافلين( [العراب‪ .]205:‬بين المراتب و الوقات‪ .‬و الذكر الخفى أجمل‪ ،‬إذ ليس فيه‬
‫أذى لسامعه‪ ،‬و هو خالص عن الرياء و النفاق‪ ،‬مثل صوم السر و صدقته‪ ،‬و الحث عليه كثير‪ .‬و قد سئال رسول ا صلى ا عليه‬
‫و سلم فى رجل يتصدق بمال حلل و آخر يذكر ا من صلة الصبح إلى طلوع الشمس فأى الرجلين أفضل؟ فقال‪ " :‬و لذكر ا‬
‫أكبر"‪ .‬و فى الحديث‪" :‬أنه من ذكر ا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فله أجر من تصديق بمائاة ناقة حمراء حملها من ذهب‬
‫أحمر‪ ،‬و كأنه قد أعتق ثمانية رقاب من بنى عبد المطلب"‪ .‬ثم الذكر له ثلث وظائاف‪ :‬فذكر الظاهر بلقلقة اللسان‪ ،‬فهذا يستحب فى‬
‫التلوات من هياكل العبادات‪ ،‬و الذكر الخفى أعلى ضروب العبادات و الصدقات‪ ،‬و ذكر القلب و منه يحدث الغناء من العالم و‬
‫الشتغال بالمحبوب‪ " :‬أنا ذاكر من ذكرنى‪ ،‬و جليس من شكرنى‪ ،‬و حبيب من أحبنى‪ .‬من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى‪ ,‬و من‬
‫ذكرنى فى مل من قومه ذكرته فى مل من ملئاكتى " ثم يحصل من الفناء الول فناء ثان و هو ان يغيب عن النفس لمشاهدة‬
‫حضرة القدس‪ ,‬فيصير الذكر لك عادة وعبادة‪ .‬كشف الموت عنك أعباء الثقال عدت فى عادة ذكرك مع الملئاكة الذاكرين‪ ،‬إذ‬
‫الخير عادة‪ .‬و يطاف بك فى ساحة حظيرة القدس و تحظى بقرب من ذكرت ‪ ،‬و هو قرب إكرام و منزل احتشام‪ .‬و من هذا الذكر‬
‫ما هو قرآن‪ ،‬ثم بعده تسبيح‪ ،‬ثم صلوات النبى صلى ا عليه وسلم‪ ،‬ثم استغفار و دعاء‪ .‬فهذه وظائافه‪ ,‬فواظب عليه فإنه يكشف لك‬
‫من سر الربوبية ما يغنيك عن ملتمس كل حال‪ ،‬تشاهد الملئاكة‪ ،‬و يخدمك مؤمن الجن‪ ،‬و يطيعك أعضاؤك و يزول وقر أذنك‬
‫فتسمع تسبيح الجمادات )و إن من شىء إل يسبح بحمده و لكن ل تفقهون تسبيحهم( [السراء‪ .]44 :‬و قد يحصل من ثمر الذكر‬
‫أكثر ما مر بك فى تهذيب النفوس‪ ،‬و يثمرعليك أيضا ما أثمر على زين العابدين ذى الثفنات السجاد‪ ،‬فإنه كان يسجد بين الليل و‬
‫النهار ألف سجدة فأثمر عليه‪ ،‬كان إذا قام فى صلته يكشف له الكائانات فيطلع على حومة حظيرة القدس‪ .‬و به بلغ أصحاب‬
‫المقامات درجات المكاشفات و السير على الماء و الهواء‪ ،‬و به سمت الملئاكة إلى أعلى قلل الشرف‪ ،‬و استحقوا دوام البقاء للتنزه‬
‫عن المأكل و المشرب مع مداومات الذكر و شراب الفكر‪ ،‬و هو التنزيه و التسبيح من الملئاكة‪ ،‬و به تجذب الملوك إلى المتزهدين‬
‫‪ ،‬و به تنال مراتب العاشقين‪ ،‬و يحدث منه خاصة جذب القلوب‪ ,‬و قد يقف الذاكر الصادق على باب الداب‪ ،‬و ينحل بالذكر طريق‬
‫السباب‪ ،‬فتخلع نعل حب الدنيا عن قدم إقدامه‪ ،‬و يقطع عوسج وساوسهم ببلوغ مرامه‪ ،‬و يقف على طور صفاء قلبه فى وادى‬
‫تقديس لبه هناك فيسمع كلم ربه ‪ ) :‬إنى أنا ا رب العالمين ( [القصص‪.]30 :‬‬
‫ص ‪533‬‬
‫و يكفيك ما مر بك من قصة أمية بن أبى الصلت الثقفى‪ :‬كان يترشح إلى طلب النبوة فقال لجيه‪ :‬ها أنا أنا فاصطنع لى طعاما ل! قال‬
‫فبينما هو نائام إذ رأيت قد نزل طائاران من النافذة فشق أحدهما صدره ثم أخرج منه نكتة سوداء‪ ،‬فقال أحدهما‪ :‬أوعى؟ قال ‪ :‬نعم‬
‫وعى علوم الولين‪ ،‬فقال‪ :‬أو زكى؟ فقال ‪ :‬ل‪ ،‬فقال‪ :‬رد فؤاده إليه فليست النبوة له إنما هى لسللة آل عبد المطلب‪ .‬فلما انتبه‬
‫أخبرته بالقصة فبكى و تمثل‪:‬‬
‫باتت همومى تسرى طوارقها‬
‫أغض عينى و الدمع سابقها‬
‫مما أتانى من اليقين و لم‬
‫أوت براءة يقض ناطقها‬
‫إما لظى عليـــــه واقـــــــدة‬
‫النار محيط بهم سرادقها‬
‫أم أسكن الجنة التى وعد البرار‬
‫حـــفت بهم حــــدائاقـــهـــا‬
‫هما فريقان فرقة تدخل الجنة‬
‫مصفــــوفـــة نمارقــــها‬
‫و فرقة منهما قد أدخلت النار‬
‫و ســــيئاــــاتهم مرافقها‬
‫ل يستوى المنزلن ثم و ل‬
‫العمال ل يستوى طرائاقها‬
‫تعاهدت هذه النفوس إذا‬
‫همت بخير عاقت عوائافها‬
‫و صدها للشفاء عن طلب‬
‫الجنة دنيا ا ما حقها‬
‫عبد وعى نفسه فعاتبها‬
‫يعلم أن البصير رامقها‬
‫ما رغبة النفس فى الحياة‬
‫لتحيا طويل فالموت لحقها‬
‫يوشك من فر من منيته‬
‫يوما على غرة يوافقها‬
‫إن لم تمت غبطة تمت هوما‬
‫الموت كأس و المرء ذائاقها‬
‫ص ‪534‬‬
‫و بها مات مصدوع الكبد‪ :‬منعه شركه عن نيل مقصده ‪ ،‬إذ الشهوات قاطعة‪ ،‬و اللذات مانعة‪ .‬و من رام الماء صبر على الكدر‪ ،‬و‬
‫من قطع الليل خلص عن حر الطريق‪ ,‬و من جعل نفسه ذات الشهوات كان مسقطه الكنيف و الخلوات‪ ,‬و من قطع العلو بهمة‬
‫الجاهدات نال أعظم المراتب بالصبر على المصائاب و النوائاب‪ .‬و ما صاحب المأكل الكثير يحظى بسوء التدبير‪ ,‬و هو مستور ل‬
‫يفلح أبدال‪.‬‬
‫المقالة الثالثة و العشرون‬
‫فى جهاد النفس و التدبير‬
‫قال النبى صلى ا عليه و سلم‪ " :‬رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر "‪ .‬قالوا يا رسول ا و ما الجهاد الكبر؟ فقال ‪":‬‬
‫هى مجاهدة النفس " و قال صلى ا ل عليه و سلم‪ " :‬أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك "‪ .‬و قال صلى ا عليه و سلم‪ " :‬بعثت‬
‫لتمم مكارم الخلق "‪ .‬و اعلم أن النفس أخلقها ذميمة غير مستقيمة‪ ،‬فإن فيها مع صغر حجمها‪ .‬كما قلناه‪ .‬ما فى السموات و‬
‫الرضين‪ ،‬و هى النار الوصدة فيها ذئااب الغيبة‪ ,‬و كلب الشهوة‪ ,‬و سباع الغضب‪ ,‬و نمور المخالفة‪ ,‬و ثعالب الحيلة‪ ,‬و كمين‬
‫الشياطين بعسكر الهوى‪ ،‬و مناجيق المتحان‪ ،‬و وساوس القبيح‪ ,‬كل هذا ممكن تحت قلة قلعة النفوس محيط بربضها و حصنها‪ .‬و‬
‫اعلم أن القلب مدينة و ساكنها الملك‪ ,‬و هى النفس اللطيفة‪ ,‬المدركة‪ ,‬العالمة‪ ,‬الطاهرة‪ ,‬الربانية‪ ,‬الخارجة عن صفة النفخة المشار‬
‫بها إلى الروح‪ ,‬و هى محجوبة بالبخرة الظاهرة المتولدة من دم القلب الذى هو الشكل الصنوبرى و اللحم المجوف‪ .‬و ما هذا هو‬
‫القلب المخاطب و إنما العقل‪ ,‬فهو المخاطب من قوله تعالى‪) :‬و اتقون يا أولى اللباب ([البقرة‪ .]197 :‬و قوله تعالى‪ ) :‬إن فى‬
‫ذلك لذكرى لمن كان له قلب ([ق‪ .]37 :‬و هو معنى قوله‪ ) :‬أذسن واعيسة ([الحاقة‪ .]12 :‬و النفس المشار إليها هى أسيرة الشهوات‪,‬‬
‫مقيدة بقيد الغفلت‪ ,‬مشوهة مستورة بالخيالت‪ ,‬عاشقة للدنيا قد أطمعت ببخسها‪ ,‬فأصبحت محبطة‪ ,‬سكرى‪ ,‬قلقة‪ ,‬حيرانة‪,‬‬
‫مشغولة بخدمة الجسد الترابى تحمله للكنيف‪ ،‬مشغولة بتربيته و تغذيته‪ ,‬ألفته فعشقته‪ ,‬فإذا فرق بينها تأسف‪ ,‬حتى إذا مر عليها‬
‫بمثل ما خدمته بطول المدة نسبته و أنكرته كأنها ما عرفته‪ ,‬فإذا ردت إليه نفرت حتى تسمع إشارة القدس ) يا أيتها النفس المطمئانة‬
‫"‪ "27‬ارجعى إلى ربك ([السورة‪ .]28,27:‬هذا خطاب موجد لموجود غير مفقود إذ ل يجوز خطاب المعدوم‪ ,‬و من شواهد ذلك‬
‫قوله صلى ا عليه و سلم‪ " :‬تعرض على أعمال أمتى فى كل اثنين و خميس‪ ،‬فما كان من حسنة أسر بها‪ ,‬و ما كان من سيئاة‬
‫أستغفر لها‪ ,‬اشتد غضب ا على الزناة "‪ .‬و قوله صلى ا عليه و سلم ‪ " :‬أكثروا من الصلة على فإن صلتكم على معروضة "‬
‫فأيها المكذب المذبذب‬
‫ص ‪535‬‬
‫الغافل المتأول‪ ،‬أتراك تعجز الصانع القادر؟ تزعم يا مسكين أن ل عود للجسام و الرواح إلى الصانع القديم القادر‪ ،‬أهو ذاك أم‬
‫غيره سواه؟ أتتجحد عليه و تتحكم و تعجزه فى قدرته و آيته و نبوته؟ أفمن رباك فى بطن أمك أفل يربيك فى بطن قبرك؟ ثم تقول‪:‬‬
‫تختلط العظام بعضا ل ببعض‪ ,‬فكيف السبيل إلى تخليصها؟ فانظر إلى الصانع كيف يخلص التراب وبرادات الذهب و الفضة و‬
‫الحديد‪ ,‬و هو أجزاء تعجز أنت خلصها‪ .‬فالصانع القادر ليس بمعجز و ل يدخل تحت طوق ما تريد‪ ،‬و إنما أنت عاجز تعجز و‬
‫تغتر بمقالت ابى على بن سينا‪ ،‬أقد صار عندك أصدق من محمد صلى ا عليه وسلم؟ فانظر إلى فعل هذا و هذا‪ ,‬ثم احكم بالفسق‬
‫و العدالة‪ ,‬و ارفع الحكومة إلى حاكم عقلك فى التصديق و التعديل و احسبها حكمين‪ ,‬فإن قلت هذا عقل و هذا نقل فانظر ما‬
‫يذكرون لك من حوائاج طلبك‪ ,‬أل تسأله عن خواصها و براهينها و تقول ‪ :‬لم يقبض هذا و يسهل هذا؟ فيكون جوابك عنده إنما أنت‬
‫معارض أم مريض‪ ,‬فكيف تعارض طبيب آخرتك و قد كان الذين قبلك أكثر منك بصيرة و عقلل‪ ,‬علموا أن العتراض و التعجيز‬
‫كفر فأسلموا منه و آمنوا‪ .‬فجاهد نفسك و اتبع شرعك فل تخالف نبيك‪ ,‬و أكرم كتابك فهو هدية ا إليك‪ .‬و قبيح بمن أكرمه ملكه‬
‫بهديته أن يستهين بها‪ .‬و عن قليل تلتقى و تتواقف و تستحيى‪ ،‬و إن كانت الروح راجعة إلى مبادئاها عند بارئاها‪ ،‬فإن صدق الشرع‬
‫فهناك يتبين غليظ التوبيخ‪ .‬و الجماهير أكثر منك‪ ،‬إذ أنت منخرط فى سلك نظام الحاد ل التواتر‪ .‬تبعت طاعة نفسك فأردتك إلى‬
‫البليا‪ ,‬و إل فانظر الليل و النهار‪ ,‬و الصيف و الشتاء و الربيع و الخريف‪ ,‬و تنقل الحوال فيهما‪ ,‬و إحياء الرض بعد موتها‪ ,‬و‬
‫نومك و انتباهك بغير اختيارك‪ ,‬و آيات كثيرة أنت عنها غافل‪ ,‬ثم ارجع إلى مجاهدة نفسك تمح صفاتها الذميمة و تثبيت صفاتها‬
‫الحميدة المستقيمة‪ .‬فاقمع الغضب بالرضا‪ ,‬و الكبر بالتواضع‪ ،‬و البخل بالبذل‪ ،‬و المساك بالصدقة‪ ,‬و الصمت بالذكر‪ ،‬و النوم‬
‫باليقظة‪ ,‬و الشبع بالجوع‪ ,‬و الغفلة بالنتباه‪ ,‬و الخلطة بالخلوة‪ ,‬و الشتراك بالعزلة‪ ,‬و المداهنة بالصدق‪ ,‬و الشهوة بالقمع‪ ,‬و‬
‫الباطل بالحق‪ ,‬فإذا محوت صفات آفاتك بأن لك عند ستر الغفلة كيف يحيى الموتى و هو على كل شىء قدير‪ .‬لكنك شيطان مريد‪،‬‬
‫و تزعم أنك ل مريد‪ ،‬فأين آثار حلوة التوحيد؟ نام واحد من بنى إسرائايل فى موعظة داود عليه السلم‪ ,‬فأوحى ا تعالى أن يا‬
‫داود من إدعى محبتى ثم ينام عند ذكرى فقد كذب‪ .‬لما أمر إبراهيم عليه السلم بذبح إسماعيل عليه السلم فى منامه فقال‪ :‬يا أبت‬
‫هذا جزاء من نام عن خليله‪ ،‬و آدم لما نام خلقت حواء‪ .‬قال الشاعر )شعر (‪:‬‬
‫عجبا ل للمحب كيف ينام‬
‫ب حراام‬‫كال نوءم على المح ه‬
‫ص ‪536‬‬
‫و اعلم أن قلبك هو المدينة التى أشرنا‪ ،‬فيقدم شيطان نفسك إلى تعبئاة جيوش الهوى‪ ،‬و عساكر حب الدنيا‪ ,‬و نقاب الوساوس‪ ,‬و‬
‫نقاب التمنى‪ ,‬و مشاغل سوء الظن‪ ,‬و مناجيق المخالفة‪ ,‬و بوق الكير‪ ,‬و طبول إساءة السمعة‪ ,‬و أسياف خيل الشره‪ ,‬و زحف‬
‫رجل المكر )و أجلب عليهم بخيلك و رجلك ([السراء‪ .]64 :‬فإذا أحاطت هذه الجيوش بهذه المدينة‪ ,‬و لم يكن لها زاد و ل رجال‬
‫من الخلق الحميدة‪ ,‬هلكت المدينة إن لم يدفع عنها البلء‪ ،‬و سلب الملك و خربت مدينته‪ ,‬و نام عنها حارس الذكر‪ ،‬و تهدمت‬
‫أبراج الصدق‪ ،‬قعد شيطان الشمس على سدة أسرار القلب‪ ,‬و هتك أستار خزائان العمال‪ ,‬و دارت فى المدينة عوانية الشك‪ ,‬و‬
‫قطعت أشجار المعاملة‪ ,‬و نهبت أموال العمال‪ ,‬و أكلت ثمار المال‪ ,‬و وقع الشك فى الكتاب‪ ،‬و نفرت النفوس عن مصاحبات‬
‫الصحاب‪ ,‬و عصى كل موله‪ ,‬و تبع كل منهم هواه‪ ,‬و كبكبوا على مناخرهم فى النار و قالوا يا ويلنا ) ما لنا ل نرى رجال كنا‬
‫نعدهم من الشرار "‪ "63‬أتخذناهم سخريا ل أم زاغت عنهم البصار ([ص‪ .]63,63 :‬و كل ما الناس فيه من التشكيك و البليا هى‬
‫الشبه و الحرام‪ ,‬و إل فصف زادك و انظر لشرح نور اليمان فى سرك و فؤادك ينكشف لك زادك ليوم بعثك و معادك‪ .‬هى النفس‬
‫ما عودتها تتعود‪ ,‬و اعلم أنك بنفس المجاهدة تهذب نفسك حتى تصير ملكا روحانيا ل‪ ,‬و بمتابعة الغفلة و الشهوات تصير شيطانا ل‬
‫رجيما ل‪ .‬فجاهد النفس المارة بالسوء تمح صفات آفاتها حتى تصير لوامة ثم انقل اللوامة إلى مقام المطمئانة كما ينقل السلطان‬
‫فراشة إلى مقام الكاتب‪ ,‬ثم إلى مقام الوزير‪ ,‬ثم يتصرف مع نصحه فى ملكه فينظر إل حسناته فيكون عنده سيئاات هذا مقام حسنات‬
‫سابقة كما قيل‪ :‬حسنات البرار سيئاات المقربين‪ .‬و الطريق إلى ا بعدد أنفاس الخلئاق‪ ,‬و المقامات تعلو مع النفاس‪ ,‬كان صلى‬
‫ا عليه و سلم يعلو من مقام إلى مقام‪ ,‬و هى مقامات الكشف و المعارف بها نبه حيث قال‪ " :‬إنه ليغان على قلبى‪ ،‬و إنى لستغفر‬
‫ا فى اليوم مائاة مرة" و الرين أشد من الغين‪ .‬و اسمع نظم أمير المؤمنين علدى عليه السلم فى النفس‪:‬‬
‫صيرت عن اللذات حتى تولت‬
‫و ألزمت نفسى صبرها فاستمرت‬
‫و كانت على اليام نفسى عزيزة‬
‫فلما رأت عزمى على الذل ذلت‬
‫و قلت لها يا نفس موتى كريمة‬
‫فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت‬
‫فل الجود يفنيها إذا هى أقبلت‬
‫و ل البخل يبقيها إذا ما تولت‬
‫و ما النفس إل حيث يجعلها الفتى‬
‫فإن أطعمت تاقت و إل تسلت‬
‫ص ‪537‬‬
‫فهذبها و عذبها‪ ،‬و قربها من بابها‪ ،‬و انظر مقام النبياء و الولياء فيها‪ ،‬و اغتنم الثواب و الثناء فما ذكر الصادقين كذكر الفاسقين )‬
‫و لتعلمن نبأه بعد حين ([ص‪ .]88 :‬و قد سمعت مقالت اللعابات‪ ،‬و كم لى كرارلا‪ ،‬فلك لذا التوانى غائالة و للقبيح خميرة‪ ،‬يتبين‬
‫بعد قليل و الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا‪ .‬و لكنك كالعود النخر ل يحمل ثمرال و ل يظل بشرلا‪ ،‬و كالمرأة القرعاء التى باهت‬
‫صاحبات الشعور الزور فإذا كشفت عن رأسها هتكت بين جلسها‪ ،‬و أنت قد رضيت بقعقعة ثيابك و نذل ثوابك‪ .‬غدال ترحل‬
‫القوافل‪ ،‬و تبقى على الطريق يا غافل‪ ،‬و تقعد بغير زاد و تقول لشاويش القافلة ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت‪ ،‬هيهات‬
‫غلق الرهن فل يقال‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ما السر فى نقطة دمعة الميت على خده؟ فقال‪ " :‬أما الصغير لما يشاهد من حال أبوية فى‬
‫اللوح‪ ،‬و أما الكبير فيكاشف بأعماله و انتقال زوجته و أمواله" فبم تتنبه و هذا الحال أنت فيه و به‪ ،‬كما قيل‪ :‬عود نخر ما يحمل‪ ،‬و‬
‫أقرع ما يمتشط و ما يجىء من مربح مزبلة لسبيل‪ .‬فأنا أرفعك و همتك تضعك‪ ،‬ل شك أن الغلبة لك‪ .‬فمن كانت همته ما يدخل فى‬
‫بطنه كانت قيمته ما يخرج منها‪ .‬إن فهمت فإنتبه ‪ ،‬وإل فأنت بنفسك أخبر‪ ،‬و نصحت و لكن ل تحبون الناصحين‪.‬‬
‫المقالة الرابعة و العشرون‬
‫فى المحبة و الشوق و المشاهدة و المكاشفة و المواعظ‬
‫و الزواجر النقلية و العقلية‬
‫اعلم أن المحبة جائازة و جارية أولل بين ا و أوليائاه و قد نوه بها القرآن من قوله‪ ) :‬و الذين آمنوا أشد حبا ل ([البقرة‪ .]165 :‬و‬
‫قوله‪ ) :‬يحبهم و يحبونه ([المائادة‪ .]54 :‬فإن قلت و ثارت نفسك الخبيثة‪ :‬كيف تحب من تراه و ليس من جنسك؟ فقد تحب الصانع‬
‫لما يظهر من حسن صناعته‪ ،‬فانظر إلى بساطه و ما فيه من بدائاع النقوش و الخضر و الشجار و الثمار و النهار‪ ،‬و إلى الفلك و‬
‫ما فيه من الليل و النهار و شموس و أقمار و كواكب كبار و صغار‪ ،‬فهذه آيات صناعة الصانع دالت على استمرار وجوده‪,‬‬
‫فسبحان صانع المصنوعات! فترتيب نفسك إن عقلت أعظم مما رأيت و سمعت‪ .‬و الذى يدلك و هو من أقوى الدلئال فى محبته لذة‬
‫سامع كلمه‪ ,‬إذ هو معجز ل نظير له‪ ,‬فبه يستدل على محبة المتكلم‪ ,‬أما سمعت نظم الشعراء‪:‬‬
‫ب قالت لترابها‬ ‫و كاع ء‬
‫يا قوم ما أعجب هذا الضرير‬
‫أيعشق النسان من ل يرى‬
‫فقلت و الدمع بعينى غزير‬
‫إن كان طرفى ل يرى شخصها‬
‫فإنها قد صورت فى الضمير‬
‫و قال جرير‪:‬‬
‫يا قوم أذنى لبعض الحى عاشقة‬
‫و الذن تعشق قبل العين أحيانا‬
‫إن العيون التى فى طرفها مرض‬
‫قتلننا ثم لم يحيين قتلنا‬
‫يصرعن ذا اللب حتى ل حراك به‬
‫وهن أضعف خلق ا أركانا‬
‫و أما الخبار فكثيرة و قد ذكرناها فى كتب الحياء‪ ،‬و إشارة من جملتها كافية مثل قوله‪ " :‬كذب من ادعى محبتى‪ ,‬و إذا جن الليل‬
‫نام عنى " و مثل قوله‪ " :‬ل يزال عبدى المؤمن يتقرب إلدى بالنوافل حتى أحبه‪ ,‬فإذا أحببته صرت سمعه الذى يسمع به و بصره‬
‫الذى يبصر به " الحديث‪ .‬و اعلم أن الحب و العشق واحد‪ ,‬و الفضل فيه هو هيام العاشق بالمعشوق‪ ,‬و هو النظر لستحسان‬
‫بعض الصور بطريقة الولع به نار عن طريق بخار حاد من خاطر ذكى لوذعى سبك نيران المجاهدة فطهرت أبخرة نيرانها من‬
‫وراء مؤخرات الدماغ‪ ,‬و ظهرت ملوحات الفكر فى العشق من متقدمات اليافوخ‪ ,‬و فتحت مصاريع خلوة القلب فأقعد خيال‬
‫المعشوق قبالة عين اليقين و النفس تصقل مرآة المجاهدة فى نظر جمال المحبوب‪ ,‬و الصل فى المحبة هو المنادمة و اللفة و‬
‫استحسان كلم المعشوق‪ ،‬فعند ذلك تثور همة لطلب بقدح نيران الشوق‪ ,‬فتستغلب عليه حالة العشق فيصير فى الشوارع مجنونا ل ما‬
‫صارت نيران الماليخوليا‪ ,‬فخلط الكلم‪ ,‬و احتراق البلغم و الخلط‪ ,‬و صفقت سماء القلب لتجلى قمر المعشوق‪ ,‬فيبقى العاشق‬
‫والها ل والعا ل تائاها ل فى تجلى جلل المعشوق‪ ,‬فإذا انكشفت البلغم فارت عرائاس القلب تحمل صوانى نثار الشعار‪ ،‬و رقصت‬
‫عرائاس المال فى مجالس الصوال‪ ،‬فزمر مزمار التمنى‪ ,‬و ضرب مزهر التأنى كما قال سابق الرجال‪:‬‬
‫تمنيتها حتى إذا ما تمثلت‬
‫طربت كأنى قد دعوت ولبت‬
‫تمنيتها حتى إذا ما رأيتها‬
‫رأيت المنايا شرعا قد أظلت‬
‫تمنيت أحاليب الرعايا وخيمة‬
‫بنجد و ما يقض لها ما تمنت‬
‫ص ‪539‬‬
‫فل تنسيا أن يعفو ا عنكما‬
‫و لوما إذا صليتما حيث صلت‬
‫فيا ليتنى أحجار حائاط مسجد‬
‫لعزة إذ فيه تصلى و ولت‬
‫ثم هيج الغبار فترى بخار التمنى‪ ,‬و يقوى بخار العناء‪ ,‬فترى التقسيم الواقع فى القلوب‪ ,‬فهناك ل نوح و ل قرار‪ ,‬و يظهر مبادىء‬
‫التحول و الصفار‪ ,‬و يبرز أعراض السهر‪ ,‬و تقدح نيران العشق لهزال سمان البدان‪ ,‬و ينشد المغنى من غير توان‪:‬‬
‫و جه الذى يعشق معروف‬
‫لنه أصفر منحوف‬
‫ليس كمن أضحى له جثة‬
‫كأنه للذبح معلوف‬
‫فى الحديث " ينادى مناد فى كل ليلة‪ :‬أل لعن ا الكول النؤوم " ابن آدم لهذا خلقت؟ تقنع ليخف حسابك‪ ,‬و يصح جسدك‪ ,‬و يقل‬
‫أمراضك‪ ,‬و ينصلح أغراضك و يقل منامك‪ ,‬و يكثر ذكرك‪ ,‬فيهديك محبوبك إليه‪ ,‬فيجذبك إلى طاعته و يعصمك عن معصيته‪.‬‬
‫فأكثر من النوافل تفلح و السلم‪.‬‬
‫ذكر الشوق و المكاشفة‬
‫اعلم أن الشوق هو الداعى إلى حالة المكاشفة‪ ،‬و الشوق هو التمنى للقاء المعشوق‪ ,‬و لقاء المعشوق ل يحصل إل بالمكاشفة‪ ،‬و‬
‫المكاشفة إما أن تكون عيانا ل أو قلبية و هو تجلى المعشوق بحالة يحملها قلب العاشق‪ ,‬لكن العيان هو أفضل‪ ,‬بل بشرط جامع بين‬
‫القلب و العين كحالة رسول ا صلى ا عليه وسلم‪ ,‬فإنه كاشفه ليلة إسرائاه بالتجلى القلبى و النظرى لصحة الروايتين عن عائاشة‬
‫و على و ابن عباس‪ .‬و اعلم أن حقيقة المكاشفة هى عين النظر إلى المحبوب‪ ،‬و لكن يتفاوت على قدر درجات المحبين‪ ,‬و ليس‬
‫نظر الخلق كله واحدلا‪ ،‬فأدنى درجات النظر القلبى‪ ,‬أما النظر البصرى فهو عند قوم عرض غير دائام‪ ,‬و أعظم المنزلين هو الجمع‬
‫بين النظر و القلب‪ ,‬فإذا‪ ,‬رفعت ستور الغفلة و الهواء تجلى المحبوب فتلشى المحب حتى يخرج من الستور و البشرية و الحجاب‬
‫الجسمانى فيرى الحجاب و يسمع الخطاب ) و ما كان لبشر أن يكلمه ا إل وحيا أو من وراء حجاب ([الشورى‪ .]51 :‬فعند ذلك‬
‫يمتد له خطاب من الهواء فى جميع ما يحدث فى الكائانات فيصير عيسوى الحال ) و أنبئاكم بما تأكلون و ما تدخرون فى بيوتكم‬
‫([آل عمران‪ .]49 :‬فيصير الملئاكة و مؤمنو الجن بحكمه‬
‫وطاعته وينخرق بينه وبين ا روزنة يعلم بها خلصة صفاء اسرار الكائانات ‪ ،‬ولكن بشرط خير العلم ‪ ،‬والعمل بصدق من غير‬
‫تجربة ‪.‬فإذا هبت نسمات اللطف برفع حجاب الغفلة ‪ ،‬انقلبت له الكائانات على مايريد ‪ ،‬إذ الرادتان امتزجتا واحدة كما سبق فى‬
‫أحوال الصوفية من قولهم ‪:‬‬
‫فإذا أبصرتنا أبصرته‬
‫وإذا ابصرته ابصرتنا‬
‫فيصير الناسوت معنى لطيفا يحدث له من الغيب قوة يقبل بها جميع الواردات عليه فمنه ثمار الكرامات والتحدث بالمور الغيبيات‬
‫‪ ،‬يعرفه الباحث من جنسه وسائار الطير له منكر ‪ ،‬فتتجوهر النفس بزوال العراض الفاسدة عنها ‪ ،‬فتصير قدسية ل يخفى المور‬
‫الغيبية ‪ .‬فإن قلت ‪ :‬هذا نوع مشاركة عزت على النبياء فكيف ينالها الولياء؟فاعلم أن أصل الغيب هو من ا القديم ‪ ،‬فمنته عليهم‬
‫إطلعهم على شيء من علوم الغيب ‪ ،‬أما سمعته يقول‪ ) :‬عالم الغيب فل يظهر على غيبه أحد ‪ ،‬إل من ارتضى من رسول (‬
‫"الجن‪ .26،27:‬وقوله ) من رسول ( وهو ستر على الحال لئال يحسب أجلف العامة أنها مشاركة غيبية ‪ ،‬وهذا غير بعيد إذ‬
‫خزائان الملوك يطلع عليها المملوك ‪ ،‬والمور المستورة من المعشوق فقد يشاهدها العاشق الصادق قياسا بالصورة الحسناء‬
‫يشاهدها مالكها وهى مستورة عن الغير ) وتلك المثال نضربها للناس وما يعقلها إل العالمون ( "العنكبوت ‪ ."43:‬وقد سمعت‬
‫الجنيد يقول ‪ :‬كل أحد حلج لكن ليس كل أحد خراج ‪ ،‬وقال أبو زيد البسطامى ‪ :‬من وصل درجة التمكين فهو طبيب يقعد على‬
‫سرير أسرار الخلق ‪ ،‬فيطلع بإذن مالكه على خواطر أسرار الملوك مثل اطلع مملوك المحبوب عليك فى حالتك ‪ ،‬أليس فاطمة‬
‫السلماسية كانت تخرج وقد أذن مؤذن الظهر من سلماس فتصلى الظهر جماعة فى بسطام ؟ فإن قلت ‪ :‬هذا غير ممكن ‪ ،‬فإنها حالة‬
‫لم تنخرق للنبياء فكيف لغيرهم ؟ الجواب أنك تحكم على ا أو على نفسك ‪ ،‬فإن كان على نفسك فأنت أخبر وإن كان على ا‬
‫فأنت أصغر ‪ .‬فمن عجز عن عدد عروقه وعظامه ول يحصر عدد أدوار عمامته على هامته ‪ ،‬فكيف يدخل بين ا وبين غلمه ؟‬
‫ثم ما علمت ما أعطى ا للنبياء ‪ ،‬فإن علمت بعض علومهم من طريق النقل فالمعجز يكذب العقل ويحكم عليه ‪ ،‬فبواطن أسرارك‬
‫ليطلع عليها ولدك ول جارك ‪ ،‬فكيف مليكك وجبارك ‪ ،‬وقد قال لك ) فل يظهر على غيبه أحدلا‪ ،‬إل من ارتضى من رسول (‬
‫الجن ‪ . 26،27‬وأنت غير واصل إلى كشف ستور الوصول ‪ ،‬فإذا بلغت المنى والسؤال تعرف ما بين ا والرسول ‪ .‬وقد قلنا‬
‫سابقا ل ‪ :‬جاهد ول تجاهد ‪ ،‬فالمجاهدة تزيل غبار الشكوك مع المشاهدة ‪ ،‬وأنت معصب العين بعصابة حطام الدنيا ‪ ،‬وهمتك ضعيفة‬
‫خسيسة ‪ ،‬فأين خنافسة الكنيف من المقام الشريف ! وحسن الظن وهو الكسير العظيم الذى به يقلب كل جهل علما ل ‪ ،‬فمن تمسك به‬
‫فقد استراح ‪ .‬فهذا نوع المحبة والشوق والمكاشفة على وجه الختصار ‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما الزواجر والوعظيات فمثل اليات الرادعة المذكرة للوعد والوعيد ‪ ،‬والخبار المذكورة للفزعة ‪ ،‬والحكايات الجاذبة‬
‫والشعار المخوفة والمشوقة ‪ ،‬فخوفوا المبتدئ وشوقوا المنتهى ‪ ،‬لن المبتدئ هو قريب من خروج دار الجهل فيضرب عليه سور‬
‫من التخويف خوفا ل من الزيغ والميل ‪ ،‬وأما المنتهى فقد غفر الذنب ورق القلب وأصابه عناء المجاهدة ‪ ،‬فلبد للجمل من حاد لقطع‬
‫الوادى ‪ .‬فالمجاهدة قلشية ‪ ،‬والنغمات تنشية ‪ ،‬قياسا ل بأرض ميتة تحيا بوابل المطر فتهتز وتربو وتنبت وتنثر على المريد نثار‬
‫الهمم ‪ .‬انظر كيف قال أبو حيان التوحيدى ‪ :‬إن كنت تنكر أن للنغمات فائادة ونفعا ل ‪ ،‬فانظر إلى البل اللواتى هن أغلظ منك طبعا ل‬
‫‪ ،‬تصفى إلى قول الحداة فتنقطع الفلوات قطعا ل ‪ .‬فعليك بالخلوات الربعينية التى يسميها مشايخ العجم جله ‪ ،‬فهى عند العجم الجلء‬
‫‪ ،‬واعتد بها ‪ ،‬وليكن زادك وزنا ل تنقص كل يوم منه لقمة ‪ ،‬أو تزن مأكلك بعود ندى فهو ينقص على قدر جفافه فقلل ول تتعلل ‪،‬‬
‫خفف وطفف فى مأكلك تلتحق بعالم الملئاكة ففى الحديث ) أكثركم شبعا فى الدنيا أطولكم جوعا يوم القيامة ( ‪ .‬وإذا فعلت ذلك‬
‫تستغى النفس بالقدس وتصير لك بها أنس ‪ ،‬فل تتخذ على محبة الدنيا والفلس ‪ ،‬فينتقل إليك حالة الصفة المحمدية )صلى ا عليه‬
‫وسلم ( من قوله ‪ ) :‬لست كأحدكم ‪ ،‬أنا أظل وأبيت عند ربى فيطعمى ويسقينى ( فهو حالت الصادقين ومنازل المتقين ‪ ،‬فلتكن‬
‫من المكذبين الضالين ‪ ،‬فإن عجزت عن مقام المقربين ‪ ،‬فكن من أصحاب اليمين ‪ ،‬والحمد ل رب العالمين ‪.‬‬
‫المقالة الخامسة والعشرون‬
‫فى العلم والعمل‬
‫اعلم أن الخواص من خلق ا تعالى ثلثة ‪ :‬عالم وعارف وناسك ‪ ،‬فأما العالم فهو الذى علم واطلع على العلوم الظاهرة فعمل بها‬
‫فورثه ا بعمله العلوم الباطنة ‪ :‬مثل علم المحبة ‪ ،‬وعلم الشوق والرضى ‪ ،‬وعلم القدر ‪ ،‬وعلم المكاشفة والمراقبة وعلم القبض‬
‫والبسط ‪ .‬فهذه علوم الصوفية الصادقة الواقية ‪ ،‬مثل الحسن ‪ ،‬وسفيان ‪ ،‬والفضيل بن عياض ‪ ،‬وأبى يزيد البسطامى ‪ ،‬وأبى‬
‫الحسين النورى ‪ ،‬وحبيب العجمى ‪ ،‬ومعروف الكرخى ‪ ،‬وشقيق‬
‫البلخى ومحمد بن خفيف وبشر بن سعيد وأحمد الخوارزمى وأحمد الدارانى ‪ ،‬وحارث المحسابى وسرى السقطى ‪ ،‬وأبى الحسين‬
‫بن منصور الحلج ‪ ،‬والجنيد والشبلى ‪ ،‬وأبى نعيم القاضى ‪ .‬فهذه الطائافة اللهية نبغ ذكرهم ليسوا كالطائافة المشغولة بالعلوم‬
‫والشهوات وصرفوا همومهم إلى الزيدية والقرصين فأتتهم المعاملت ‪ :‬بيضوا الثياب وسودوا الكتاب ‪ ،‬صقلوا الخرق ول نقلوا‬
‫عن الخرق ‪ ،‬وجعلوا المرقعات شركا على الشهوات ‪ .‬فهؤلء هم الزنابيل وألئاك هم القناديل ‪ ،‬وأولئاك تمسكوا بالواحد الشاهد ‪،‬‬
‫وهؤلء انصبوا إلى محبة الشاهد ‪ .‬أولئاك هجروا المناصب وهؤلء دبوا إلى المناصب ‪ ،‬أكثر كلمهم اذهبوا لمذهب حتى يذهب ‪،‬‬
‫والخلف عندهم كورق الخلف ‪ .‬الصول عندهم فضول والنحو عندهم محو ‪ .‬أكثر علومهم الرقص والشبابة ‪ ،‬ل يفرقون بين‬
‫القرابة والصحابة ‪ .‬فما أكثر عيوبهم ‪ ،‬لقد نسوا محبوبهم ‪ .‬تشاغلوا بمأكل الدويرات ‪ ،‬ونسوا مدارج الطاعات ‪ .‬نصبوا السجادات‬
‫لجل الخلق ‪ ،‬ونسوا ا والحق ‪ .‬فهؤلء الذين جاء فيهم الحديث ‪ ) :‬إن ا ينزع مرقعاتهم ويعلقها على أبواب الجنة ويكتب عليها‬
‫مرقعات زور ( ‪ .‬تركوها مناصب لل كتساب ووهبوها لكلب أهل الكهف واقتسموا جلده عليهم عوضا ل من مرقعاتهم ‪ .‬فهؤلء‬
‫صوفية الدنيا وأولئاك صوفية الخرى ‪ ،‬جمعوا بين العمل والعمل وسهروا حتى ظفروا فنالوا ‪ ،‬صدقوا فحققوا ‪ ،‬علموا ثم عملوا ‪،‬‬
‫فجمعوا بين المقال والحال ‪ ،‬فهم أهل العلم والمغفرة والنسك والزهادة ‪ ،‬فأحدث لهم جميع هذه الحالت خاصية قوة الهيئاة ‪،‬‬
‫فطاردوا بأجنحة الشتياق إلى رياض القدس وحظيرة الصمدية فاقتطفوا علوم الغيب ‪ ،‬فقالوا هؤلء فقراء الخرة وصوفيتها الذين‬
‫علموا أن النعمة هى من المنعم فتركوا السباب جوانب ‪ .‬وأما علماء الخرة فمثل الحسن البصرى ‪ ،‬وسفيان بن عيينة والثورى‬
‫صاحب المذهب ‪ ،‬والطائاى الظاهرى ‪ ،‬وأبو سعيد الخدرى ‪ ،‬وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفى ‪ ،‬ومالك بن أنس المدنى ‪ ،‬ومحمد‬
‫بن إدريس الشافعى المطلبى ‪ ،‬وأحمد بن حنبل الشيبانى ‪ ،‬والمزنى وابن شريح ‪ ،‬والحداد ‪ ،‬والقفال ‪ ،‬وأبو الطيب ‪ ،‬وأبو حامد ‪،‬‬
‫وأستاذنا إمام الحرمين أبو المعالى الجوينى ‪ ،‬والشيخ المام أبو إسحاق إبراهيم الفيروزابادى المعروف بالشيرازى ‪ ،‬فقد جرى له‬
‫مع شيخنا نوبة عند السلطان وكنت أحضرها ‪ ،‬فما رأيتهم طلبوا بالمناظرة غير إظهار الحق ‪ ،‬ل غلبة ول صقل كلم ‪ ،‬ول نقص‬
‫فى الخبر النبوى ‪ ،‬ول تأويل باطل فى متن آية ‪ ،‬ول مزاعقة ول مخاصمة ‪ ،‬بل هو على طريق الفائادة والمباحثة ‪ .‬فأولئاك من‬
‫علماء الخرة الذين شبهوا صحب رسول ا ) صلى ا عليه وسلم ( بترديد الفتاوى من واحد إلى واحد ‪ ،‬وقالوا أميركم أحق‬
‫بالتقليد ونحن علماء السوء نشتغل بسواد الليقة وبرى القلم والتصدى والتحدى وذرب اللسان وسواد الطيلسان وقعقة الثياب وطول‬
‫الردان وسعة الكمام والصيحة والدهشة‬
‫وذكور إناث العجم ) ولينبئاك مثل خبير ( فاطر ‪ . 14:‬فانظر الفرق بين الطوائاف والفرق ‪ :‬أليس فى الحديث ) من ترك المراء‬
‫وهو محق بنى له بيت فى أعلى الجنة فنحن ل بيوت ول تخوت ‪ ،‬ول حور ول سخوت ‪ ،‬رأى الشافعى مناما ل وكان قد تكلم فى‬
‫المسألة مع أبى يوسف ‪ ،‬فرأى كأنه قد أدخل الجنة ‪ ،‬فرأى حورال وهى تشرق العرصة من نورها ‪ ،‬قال ‪ :‬لمن أنت ؟ فقالت ‪ :‬لمن‬
‫ترك المراء وهو محق ‪ ،‬ثم ولت وهى تقول ‪:‬‬
‫خلطوا الحق بالقبائاح زورا‬
‫ثم مالوا إلى المراء نسورا‬
‫ثم راموا من الله بدورا‬
‫قد فجرتم من المقال قبورا‬
‫أيا مالكم تنالون دورا‬
‫سوف تجزون فى المعاد فجورا‬
‫وطلبتم من الله أجورا‬
‫سوف تلقون فى الجحيم أجورا‬
‫ثم قالت ‪ :‬ياشافعى ما تنال بالقال والقيل هذه الثياب والخلخيل ‪ ،‬إن كنت صادقا ل وتريد أن تكون للجنة مالكا ل فعليك بالعلم والعمل‬
‫مثل مالك ‪ ،‬فمن أراد الممالك يصير على المهالك ‪ .‬ثم انتبهت فعلمت أن مراء هؤلء ل يقود إل إلى الهوى ‪ ،‬والخرة عند ربك‬
‫للمتقين ‪ .‬وفى الحديث ) إن العلم يهتف بالعمل ‪ ،‬فإن أجاب وإل ارتحل ( فهؤلء علماء الدنيا وعلماء الخرة ‪ ،‬وفقراء الدنيا‬
‫وفقراء الخرة ‪ ،‬وأنت مشغول بالكرم عن الكرامات ‪ ،‬وبالقصور عن القصور العاليات ‪ ،‬أنت مثل الذيب وهمك فى التشكيك‬
‫والتكذيب ‪.‬‬
‫سوف ترى إذا انجلى الغبار‬
‫أسابق تحتك أم حمار‬
‫أما العلوم فكثيرة ‪ ،‬وأقربها ما دل على الخرة ‪ :‬مثل علم الشريعة ‪ ،‬وتفاسير الواحدى ‪ ،‬وأمتان الصحاح ‪ ،‬وقراءة القرآن ‪،‬‬
‫ومحافظات الوراد المذكورة فى كتب الحياء وإن أردت حسن العقيدة على وجه الختصار فعليك بلواقح الدلة وهو لشيخنا إمام‬
‫الحرمين ‪ ،‬وإل قواعد العقائاد ‪ .‬وإن أردت سلوك طريق السلف الصالح فعليك بكتاب نجاة البرار ‪ ،‬وهو آخر ما صنفناه فى أصول‬
‫الدين ‪ .‬وقد ذكرنا لك التصانيف فى معرض هذا الكتاب ‪ ،‬فاقرأ ما شئات واعمل ما شئات فإن اللقاء قريب واعلم أن فصول السنة‬
‫معروفة ‪ :‬مثل صيفها ‪ ،‬وخريفها ‪ ،‬وشتائاها وربيعها ‪ ،‬فمن الحمل إلى الجوزاء ربيع ‪ ،‬ومن السرطان إلى آخر السنبلة صيف ‪،‬‬
‫ومن الميزان إلى آخر القوس خريف ‪ ،‬ومن الجدى إلى الحوت شتاء‬
‫) وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب () يونس ‪( 5 :‬قال أمير المؤمنين على عليه السلم ‪ :‬هذا الهواء إذا أقبل فتلقوه ‪ ،‬وإذا‬
‫أدبر فتوقوه ‪ ،‬فإنه يفعل بأبشاركم كما يفعل بأشجاركم ‪ ،‬أوله وآخره محرق ‪ .‬ففى العلوم ما يضر مثل العمل بالسحر والكهانة ‪،‬‬
‫وصيغ الصفر فضة يضر فى الخرة إذا قلبها فضة بالصناعة وباعها ‪ ،‬وفى المكاسب مكاسب خسيسة تأباها النفوس كالغسال ‪،‬‬
‫والحفار ‪ ،‬والكناس ‪ ،‬والحجام ‪ ،‬والصنائاع من جملة العلوم المفهومة التى تعينك على طلب العلم الخروى ‪ ،‬فكن عالما ل عاملل تنال‬
‫المقصد السنى فى دار ا الحسنى ‪ ،‬هنالك تستقر نفسك من غير ضجر ) فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر (‬
‫)القمر ‪( 55 ، 54‬‬
‫فصل فى أعاجيب الفنون والسفار‬
‫قال صلى ا عليه وآله وسلم " إن بالمغرب ههنا لرضا بيضاء من وراء قاف ل تقطعها الشمس فى أربعين سنة " قالوا ‪:‬‬
‫يارسول ا أو فيها خلق ؟ قال " نعم فيها مؤمنون ل يعصون ا طرفة عين ‪ ،‬ل يعرفون آدم ول إبليس ‪ ،‬بينهما الملئاكة يعلمونهم‬
‫شريعتنا ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز " قالوا يارسول ا زدنا من هذه العاجيب ! فقال " إن لى صديقة من مؤمنى‬
‫الجن غابت عنى سنين فسألتها أين كنت ‪ ،‬فقالت ‪ :‬كنت عند أختى من وراء الرض البيضاء التى وراء قاف بهزد ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أو هم‬
‫مؤمنون؟ فقالت نعم ‪ ،‬قرأت عليهم كتابك فأمن به قومنا ‪ .‬فقلت ‪ :‬وماوراء تلك الرض ؟ فقالت جبال ثلج وماء وهواء وظلماء ‪ ،‬ثم‬
‫وراء ذلك جهنم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أو تصعد الشمس فى تلك البلد ؟ فقالت ‪ :‬نعم "‬
‫وأما حديث تميم بن حبيب الدارى فعجب ‪ ،‬حيث اختطفه الجن ‪ ،‬فشاهد من عجائابها حتى رأى القصر الذى فيه الدجال مقيدال فقال له‬
‫‪ :‬من أى المم أنت ؟ فقال ‪ :‬من أمة محمد )صلى ا عليه وسلم ( فقال ‪ :‬أوقد بعث ؟ فقال نعم ‪ ،‬فقال ‪ :‬آن أوان خروجى ‪.‬‬
‫وأما حديث جن العقبة فأعجب ‪ ،‬قال عبد ا بن مسعود ‪ " :‬مشيت مع رسول ا )صلى ا عليه وسلم ( وعلى بن أبى طالب عليه‬
‫السلم فى ليلة مظلمة حتى وقف بنا على ثقب ‪ ،‬فظهر منه رجل فقال ‪ :‬انزل بنا يارسول ا ! فناولنى فاضل ثيابه ‪ ،‬ثم أخذ بيده‬
‫على عليه السلم ونزل فى الثقب وأقعدنى مكانى فلما برق بارق الصبح عادا ومعهما رجال يشبهون الزط فقال ‪ :‬هؤلء إخوانك‬
‫المؤمنون ‪ ،‬وكان معى ماء فيه منبوذ شيئ من التمر ‪ ،‬فشرب منه ثم توضأ ‪ .‬صح ذلك من غير نزاع ‪ ،‬وقد أوله أرباب الهوى على‬
‫اختيار ما يريدون ‪ ،‬فمن أراد أن يعلم حقيقة هذا وغيره فلينظرون فى كتاب " مغايب المذاهب " وهو من جملة تصانيفنا ‪.‬‬
‫وأما قصة زعيم بن بلعام فهى عجيبة ‪ ،‬قد أراد أن ينظر من أين منبع النيل ‪ ،‬فلم يزل يسير حتى وجد الخضر فقال له ‪ :‬ستدخل‬
‫مواضع ‪ ،‬ثم أعطاه علئامها ‪ ،‬فوصل إلى جبل وفيه قبة من ياقوت على أربعة أعمدة ‪ ،‬والنيل يخرج من تحتها وفيه فاكهة ل تتغير‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬فرقبت رأس الجبل فرأيت وراءه بساتين وقصورال ودورال وعالما ل غزيرال ‪ ،‬وكنت شيخا أبيض الشعر ‪ ،‬فهب على نسيم سود‬
‫شعرى وأعاد شبابى ‪ ،‬فنوديت من تلك القصور ‪ :‬إلينا يازعيم إلينا ‪ ،‬فهذه دار المتقين ! فجذبنى الخضر ومنعنى ‪ ،‬فهذت سر قوله )‬
‫صلى ا عليه وسلم ( سبعة أنهار من الجنة ‪ :‬جيحون وسيحون ودجلة وفرات ونيل وعين بالبردن وبالمقدس عين سلوان ‪ ،‬لن‬
‫منها ماء زمزم ‪ .‬وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفان ‪ ،‬فحديثهما طويل ‪ ،‬وإشارة منه كافية ‪ ،‬فقد بلغ من سفرهما حتى‬
‫وصل إلى المكان الذى فيه سليمان ‪ ،‬فتقدم بلوقيا ليأخذ الخاتم من أصبعه ‪ ،‬فنفخ فيه التنين الموكل معه ‪ ،‬فأحرقه فضربه عفان‬
‫بقارورة فأحياه ‪ ،‬ثم مد يده ثانية وثالثة فأحياه بعد ثلث ‪ ،‬فمد يده رابعة فاحترق وهلك فخرج عفان وهو يقول ‪ :‬أهلك الشيطان‬
‫أهلك الشيطان ‪ ،‬فناداه التنين ‪ :‬ادن أنت وجرب ‪ ،‬فهذا الخاتم ل يقع فى يد أحد إل فى يد محمد ) صلى ا عليه وسلم ( إذا بعث ‪،‬‬
‫فقل له إن أهل المل العلى قد اختلفوا فى فضلك وفضل النبياء قبلك ‪ ،‬فاختارك ا على النبياء ‪ ،‬ثم أمرنى فنزعت خاتم سليمان‬
‫فجئاتك به ‪ ،‬فأخذه رسول ا ) صلى ا عليه وسلم ( فأعطاه عليا ل فوضعه فى أصبعه ‪ ،‬فحضر الطير والجان والناس يشاهدون‬
‫ويشهدون ‪ ،‬ثم دخل الدمرياط الجنى ‪ ،‬وحديثه طويل ‪ ،‬فلما كانوا فى صلة الظهر تصور جبرائايل عليه السلم بصورة سائال‬
‫طائاف بين الصفوف ‪ ،‬فبينما هم فى الركوع إذ وقف السائال من وراء على عليه السلم طالبا ل ‪ ،‬فأشار على بيده فطار الخاتم إلى‬
‫السائال ‪ ،‬فضجت الملئاكة تعجبا ل ‪ ،‬فجاء جبرائايل مهنيا ل وهو يقول أنتم أهل بيت أنعم ا عليكم ) ليذهب عنكم الرجس أهل البيت‬
‫ويطهركم تطهيرال( " الحزاب ‪ "33 :‬فأخبر النبى بذلك عليا ل فقال على عليه السلم ‪ :‬ما نصنع بنعيم زائال ‪ ،‬وملك حائال ودنيا‬
‫حللها حساب ‪ ،‬وفى حرامها عقاب ؟ فإن اعترض المفتى وقال ‪ :‬كيف قاتل معاوية على الدنيا ‪ ،‬فالجواب أنه قاتل على حق هو له‬
‫يصل به إلى حق ‪ ،‬وأما التحكم فباطل غير صحيح لن التحكيم إنما يكون على موجود ومحدود ومعروف ومعلوم غير مجهول ‪،‬‬
‫هذا فقه وشرع ‪ ،‬ثم قولوا ما تريدون ‪ ،‬فمن أراد أن ينظر فى كشف ما جرى فيطلع فى كتاب صنفته وسميته " كتاب نسيم التسنيم "‬
‫وفى قصص ذى القرنين كفاية ‪ ،‬وكتاب رياض النديم لبن أبى الدنيا ‪ ،‬وانظر فى كتاب القاليم ‪ ،‬وانظر فى كتاب المسالك‬
‫والممالك ‪ ،‬وكتب الماوردى الموصلى ‪.‬‬
‫ثم إذا أردت أن تعرف سعة الفلك بعضها على بعض ‪ ،‬فاعلم أن سعة الرض قطع الكوكب فى ليلة واحدة ‪ ،‬وأما‬
‫الفلك الهوائاى فقد يقطعه القمر فى شهر فانظر الفرق فى‬
‫ليلة وشهر ‪ ،‬ثم الفلك النارى يقطعة الشمس فى سنة ‪ ،‬ثم فلك زحل وهو العلى يقطع فلكه فى ست وثلثين سنة ‪ ،‬ثم فوقه الكرسى‬
‫والعرش الذى هو سقف الجنان الثمانية التى واحدة منهن بعرض السموات والرضين ‪ .‬وخذ دليلك من هذا المساق المذكور ‪ ،‬فما‬
‫لهمتك ناقصة ل ترفعها إلى درج المعالى ‪ ،‬ول تكسوها سهم السعادة بل أنت مشغول بعلف النفس وخدمتها ‪ ،‬فأنت كالذى عشق‬
‫حمارة فاشتغل بها ففاته سير القافلة ‪ ،‬فظهر له قاطع الطريق ‪ .‬وهذه دار أحلم والنبياء مفسرو المنام ‪ ،‬فعند النتباه يتبين لك‬
‫صحة التأويل أما سمعت الشارة ‪ " :‬والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" ؟ ومثلك فى دنياك كمثل طفلين فى بطن واحد قال أحدهما‬
‫لصاحبه ‪ :‬أما أخرج ‪ ،‬عسى أن أرى غير هذا المكان والعالم ! فلما خرج رأى سعة الدنيا ‪ ،‬هل يطيب له أن يعود إلى ضيق بطن‬
‫أمه ؟ وهكذا إذا خرجت إلى سعة آخرتك ل يطيب لك العود إلى دنيا حملتك كضيق حمل أمك ‪ .‬ومثلك فى باب مولك كرجل أراد‬
‫الدخول إلى ملك وهو جائاع ‪ ،‬فوجد على باب الملك كلبا ل ورغيفا ل ‪ ،‬فالكلب يصده عن الدخول ؛ فإن كان ذا همة عالية آثر حضرة‬
‫الملك على الرغيف ‪ ،‬فيدخل إلى الملك فيحظى بالمآكل اللينة وينسى جوعه ‪ ،‬لنه شغل الكلب برغيفه فتشاغل الكلب بالرغيف ‪،‬‬
‫ودخل الرجل إلى الملك ‪ ،‬وإن كانت همته فى بطنه أكل رغيفه فصده الكلب عن دخول الملك ‪ ،‬ثم يتعفن الرغيف فى بطنه ‪ ،‬فبعد‬
‫ساعة رماه ‪ .‬فدنياك هو الرغيف ‪ ،‬والكلب هو الشيطان يصادك عن دخول الملك ‪ ،‬فارم الرغيف إلى الكلب تستريح ‪ ،‬واكتسب من‬
‫جواهر العمال تشرف بها عند عرض البضائاع ‪ ،‬ونيل المدخر الباقى فى دار زفاف الحور وفتح أبواب القصور ‪ ،‬فأنت مثالك‬
‫كجماعة سافرت إلى وادى الظلمات فقال لهم الخبير بالمكان ‪ :‬احملوا من حصاها تظفروا ! فصاحب حسن الظن حمل فأوقر ‪،‬‬
‫والمتشكك بطل فتحقر ‪ ،‬فلما خرجوا من ضياء الشمس إلى الوادى وشاهدوا بضائاعهم ‪ ،‬فإذا هى در ويواقيت ‪ ،‬فندم البطال وفاز‬
‫الحمال ‪ .‬فهذه صورة أعمالك فى دنياك ‪ ،‬فإما أن تنادم فتصير غلما ل ‪ ،‬وإما أن تعمل فتحظى من ا تحية وسلما ل فدع كبرك ‪،‬‬
‫وقلل شبعك ‪ ،‬ونظف بطنك ‪ ،‬ومن النوم عينك ‪ ،‬عساك أن تقطع شينك ‪ ،‬وتوفى دينك ‪ ،‬فأنت الذى تنتنك العرقة ‪ ،‬وتوهنك البقة ‪،‬‬
‫وتقتلك الشرقة ‪ ،‬وملبسك من قزة ‪ ،‬وحلوتك من نحلة ‪ ،‬وخبزك من طينة وأنت غدال مستور باللبنة تؤاخذ بنعيمك ‪ ،‬أما سمعت‬
‫النبى حاسبه ا على شبعه مرة واحدة من خبز شعير وتمر وقال له ‪ ) :‬ثم لتسألن يومئاذ عن النعيم ( ‪.‬‬
‫فصل فى علو الهمم ونيلها لمقاصدها‬
‫اعلم أن الهمة هى إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصده بالتوجيه إليه دون غيره من غير قلب قاصده لسواه ‪ .‬وصاحب الهمة ل‬
‫يكون همه فى مقصده لنيل أغراض متفرقة ‪،‬‬
‫كمن أراد أعمال ل يقع فى يده غير عمل واحد ‪ .‬الهمم فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها ‪ .‬إن همة كل أحد‬
‫على قدر نفسه فى علوها وطهارتها أل ترى إلى أصحاب الصنائاع الخسيسة كاكناس والزبال والسكاف والدباغ والغسال فهؤلء‬
‫هممهم على قدر خسائاس أنفسهم النازلة ‪ ،‬لسابق ما قدر لهم عند اعتصار خمير السعادة من عجين الطالع فى خمير الولدة ‪ ،‬وهذا‬
‫حال يتعلل به العاجز ‪ ،‬إذ الملك معشوقك فل تألف الخسائاس ؛ فليس هذا أنسابا ل معروفة بأب وأم ‪ ،‬وإنما هى بعلو الهمة كما كانت‬
‫من أول الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك ثم كلما تباعد الفيض عن النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل‬
‫الحيوان بعد فيض النسان ‪ ،‬ال ترى إلى همة الفيل والحمار فى المأكل والمشرب؟ فهذا همه بريح ‪ ،‬وهذا تبن وشعير ‪ ،‬وانظر‬
‫إلى همة ذى القرنين وهو ابن هيلنة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة إلى الملك ولم ينزل إلى الصنائاع ‪ ،‬فمثله فى العالم كثير ‪.‬‬
‫ومن جملة علو همته إظهار اليغزن الذى أشاع بذكره المسافرون ‪ ،‬واتخذ المتقدمون ألحان الموسيقى التى زعموا أنها معتصرة‬
‫من دورات ألحان الفلك حين تدور ‪ ،‬ويسمع له نغمات بطرائاق وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس ‪ .‬وطائافة أخرى‬
‫زعمت أن العود متخذ من شكل طائار معلق فى جبل ‪ ،‬فى أنفه أنقاب مخارج العود ‪ .‬وهذا من جملة فروع الهمم ‪ ،‬فنيل المقاصد‬
‫من غير همة غم عمن تعلق بها ‪ ،‬فاكتساب الهمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر ونيل مقصد المملكة ‪،‬‬
‫هو بالشتغال فيما يجذبها من التهاب وما يشاكلها ‪ .‬فإن قلت هذه سعادات أزلية ‪ ،‬فمن قدر له فى السابق شيئ أخذه وبلغه ول يمحى‬
‫ما سطر على جبين العبد ‪ ،‬فقد صدقت ‪ ،‬ولكن مت تحت غبار طلب العز ل على مزابل الشهوات بالذل كما مر بك النشاد السابق‬
‫) شعر ( ‪:‬‬
‫اطلب العز فى لظى وذر الذل‬
‫ولو كان فى جنان الخلود‬
‫وقد سمعت كلما ل لمعاوية إذ قال ‪ :‬هموا بمعالى المور لتنالوها ‪ ،‬فإنى لم أكن للخلفة أهلل فهممت بها فنلتها ‪ .‬وقد‬
‫ذكرت حكاية فى كتاب " سر خزانة الهدى والمد القصى إلى سدرة المنتهى" أنه مات بعض الملوك ‪ ،‬فغلقت المدينة وقالوا ‪ :‬ل‬
‫نملكها إل لملك كان فى ساعده علمة نور شعشعانى ‪ ،‬فورد إليهم رجل فقير وفى ساعده نور كما كان فى ساعد الملك المتقدم ‪،‬‬
‫وكان ينظر إليه وزير المدينة بعين الدراية بعد أن ملكوه البلد ‪ ،‬فدخل الوزير إليه بهدية وهى قشرة من عود قنارى كجفنة كبيرة ‪،‬‬
‫فقال الملك ‪ :‬من أين لك هذا ؟ فقال الوزير ‪ :‬كثير مثل هذا يجئ فى نهرنا ‪ ،‬فقال الملك ‪ :‬ل تستقر فى الوزارة حتى تأتينى بخيره‬
‫وفى أى بلد يكون ‪ ،‬فاتخذ الوزير له مركبا ل فسار حتى دخل تحت جبل ‪ ،‬فلما قطعه‬
‫بخروجه إلى جانبه الخر رأى بلدال أشجارها كلها مثل هديته ‪ ،‬ثم رأى جماعة قائامة منقطعين فى الجبل فقال ‪ :‬ما الذى يريد‬
‫هؤلء ويفعلون؟ فقالوا كلهم فى طلب الملك يتجرعون سنة مع أنواع المجاهدات فمن رقى على مساعده نور أبيض فهو مستحق‬
‫الملك‪ ،‬فلما عاد الوزير أخبر الملك بقصة ما رآه فقال الملك ‪ :‬ل تحتقر فتحتقر ‪ ،‬وسافر واعمل لتذكر ‪ ،‬فهذا علو الهمة بالجوع‬
‫والمجاهدات ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬ل يغرنك الجواشن والبيض ‪.‬‬
‫وقد رأيت بعينك مشار علو الهمة فإن أردت ذلك فعليك بالجوع والعلم والخلوات يكشف لك العلمات بسرائار الكائانات ‪،‬‬
‫فاطلب وجد واجتهد ‪ ،‬فنيل مقاصد الرجال من غير تعب هذيان ‪ .‬والحمد ل رب العالمين ‪ ،‬وصلة ا وسلمه على سيد المرسلين‬
‫آمين ‪.‬بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫الدرة الفاخرة فى كشف علوم الخرة‬
‫خطبة الكتاب‬
‫الحمد ل الذى خص نفسه بالدوام ‪ ،‬وحكم على من سواه بالنصرام ‪ ،‬وجعل الموت حال أهل الكفر والسلم ‪ ،‬وفصل بعلمه بين‬
‫تفاصيل الحكام ‪ ،‬وجعل حكم الخرة خلفا ل للمعهود من اليام ‪ ،‬وأنهج ذلك لمن يشاء من خلقه أهل الكرام ‪ ،‬وصلى ا على سيدنا‬
‫محمد رسول الملك العلم ‪ ،‬وعلى آله وصحبه الذين خصهم بجزيل النعام فى دار السلم ‪.‬‬
‫أما بعد ‪ ،‬فقد قال تعالى ) كل نفس ذائاقة الموت( "آل عمران ‪ . "185 :‬وثبت ذلك فى كتابه العزيز فى ثلثة مواضع ‪.‬‬
‫وإنما أراد ا سبحانه وتعالى الموتات الثلث للعالمين ‪ ،‬فالمتحيز إلى العالم الدنيوى يموت ‪ ،‬والمتحيز إلى العالم الملكوتى يموت ‪،‬‬
‫والمتحيز إلى العالم الجبروتى يموت ‪ .‬فالول آدم وذريته وجميع الحيوانات على ضروبه الثلث ‪ ،‬والملكوتى وهو الثانى أصناف‬
‫الملئاكة والجن ‪ ،‬وأهل الجبروتى فهم المصطفون من الملئاكة ‪ .‬قال ا تعالى ‪ ) :‬ا يصطفى من الملئاكة رسل ومن الناس (‬
‫الحج ‪ . 75 :‬فهم كروبيون وروحانيون وحملة العرش وأصحاب سرادقات الجلل الذين وصفهم ا تعالى فى كتابه وأثنى عليهم‬
‫حيث يقول ‪ ) :‬ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته ول يستحسرون ‪ ،‬يسبحون الليل والنهار ل يفترون( النبياء ‪ 19‬و ‪ . 20‬وهم‬
‫أهل حظيرة القدس المعينون المنعوتون بقول ا تعالى ‪ ) :‬لتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ( النبياء ‪ . 17:‬وهم يموتون على هذه‬
‫المكانة من ا تعالى والقربى ‪ ،‬وليس زلفاهم بمانعة لهم من الموت ‪ .‬فأول ما أذكر لك عن الموت الدنيوى فألق أذنيك لتعى‬
‫ماأورده وأصفه لك بنقل عن النتقال من حال إلى حال إن كنت مصدقا ل بال ورسوله واليوم الخر ‪ ،‬فإنى ما آتيك إل بينة ‪ ،‬شهد ا‬
‫على ما أقول ويصدق مقالتى القرآن ‪ ،‬وما صح من حديث رسول ا ) صلى ا عليه وسلم (‬
‫فصل‬
‫لما قبض ا القبضتين اللتين قبضهما عندما مسح على ظهر آدم عليه السلم ‪ ،‬فكل ما جمعه فى جمعه الول إنما جمع من شقه‬
‫اليمن ‪ ،‬وكل ماجمع فى الخر إنما جمع من شقه اليسر ‪ ،‬ثم بسط قبضته سبحانه فنظر إليهم آدم فى راحتيه الكريمتين وهم أمثال‬
‫الذر ثم قال ‪ :‬هؤلء إلى الجنة ول أبالى فهم بعمل أهل الجنة يعملون وهؤلء إلى النار ول أبالى فهم بعمل أهل النار يعملون ‪.‬‬
‫فقال آدم عليه السلم ‪ :‬يارب وما عمل أهل النار ؟ قال الشرك بى ‪ ،‬وتكذيب رسلى ‪ ،‬وعصيان كتابى فى المر والنهى ‪ .‬قال آدم‬
‫عليه السلم ‪ :‬أشهدهم على أنفسهم عسى أن ل يفعلوا فأشهدهم على أنفسهم ‪ :‬ألست بربكم ؟ قالوا ‪ :‬بلى شهدنا! وأشهد عليهم‬
‫الملئاكة وآدم أنهم أقروا بربوبيته ثم ردهم إلى مكانهم ‪ .‬وإنما كانوا أحياء أنفسا ل من غير أجسام ‪ ،‬فلما ردهم إلى صلب أدم عليه‬
‫السلم أماتهم وقبض أرواحهم وجعلها عنده فى خزانة من خزائان العرش ‪ ،‬فإذا سقطت النقطة المتعوسة أقرت فى الرحم حتى‬
‫تمت صورتها والنفس فيها ميتة ‪ .‬فلجوهرها الملكوتى منعت الجسد من النتن ‪ ،‬فإذا نفخ ا تعالى فيها الروح رد إليها سرها‬
‫المقبوض منها الذى خبأه زمانا ل فى خزانة العرش فاضطرب المولود ‪ .‬فكم من مولود دب فى بطن أمه فربما سمعته الوالدة أو لم‬
‫تسمعه ! فهذه موتة أولى وحياة ثانية‪.‬‬
‫فصل‬
‫ثم إن ا عز وجل أقامه فى الدنيا أيام حياته حتى استوفى أجله المحدود ورزقه المقدور وآثار المكتوبة ‪ .‬فإذا دنت موتته ‪ ،‬وهى‬
‫الموتة الدنيوية ‪ ،‬فحينئاذ نزل عليه أربعة من الملئاكة ‪ :‬ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ‪ ،‬وملك يجذبها من قدمه اليسرى ‪ ،‬وملك‬
‫يجذبها من يده اليمنى ‪ ،‬وملك يجذبها من يده اليسرى ‪ .‬وربما كشف للميت عن المر الملكوتى قبل أن يغرغر ‪ ،‬فيعاين الملئاكة‬
‫على حقيقة عمله على ما يتحيزون إليه من عالمهم ‪ ،‬فإن كان لسانه منطلقا ل تحدث بوجودهم ‪ ،‬فربما أعاد على نفسه الحديث بما‬
‫رأى ‪ ،‬وظن أن ذلك من فعل الشيطان ‪ ،‬فسكن حتى يعقل لسانه ‪ ،‬وهم يجذبونها من أطراف البنان ورءوس الصابع والنفس تنسل‬
‫انسلل القذارة من السقاء ‪ ،‬والفاجر تسل روحه كالسفود من الصوف المبلول ‪ ،‬هكذا حكى صاحب الشرع عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫والميت يظن أن بطنه ملئات شوكا ل كأنما نفسه تخرج من خرم إبرة ‪ ،‬وكأنما السماء انطبقت على الرض وهو بينهما ولهذا سئال‬
‫كعب ) رضى ا عنه ( عن الموت فقال ‪ :‬كغصن شوك أدخل فى جوف رجل فجذبه إنسان ذو قوة فقطع‬
‫ص)‪(550‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫ما قطع وأبقى ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬لسكرة من سكرات الموت أشد من ثلثمائاة ضربة بالسيف " ‪ .‬فعندما يرشح جسده‬
‫عرقا ل ‪ ،‬وتزور عيناه ‪ ،‬وتمتد أرنبته ‪ ،‬وترتفع أضلعه ‪ ،‬ويعلو نفسه ‪ ،‬ويصفر لونه ‪ .‬ولما عانيت عائاشة رسول ا صلى ا عليه‬
‫وسلم في هذه الحالة وهو مستبق في حجرها وهي تكفف الدمع جعلت تقول شعرال ‪:‬‬
‫ت وما توجاع‬ ‫من الهايعا ه‬ ‫ك‬‫ص د‬ ‫هبدنلفهسدي ألفديِه ما غ س‬
‫ت ذا روعة تفزاع‬ ‫وما كن د‬ ‫وما مسسك الجسن من قبل ذا‬
‫صباغ إذا ينقاع‬ ‫كمثل ال س‬ ‫ومالي انظر في وجهك‬
‫ك قد تسطاع‬ ‫فأنواار دولجهه د‬ ‫ت‬‫إذا شحب اللوان من دمسي ء‬
‫فإذا احتضرت نفسه إلى القلب خرس لسانه عن النطق ‪ ،‬وما أحد ينطق والنفس مجموعة في صدره لوجهين ‪ :‬أحدهما أن المر‬
‫عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه ‪.‬‬
‫أل ترى أن النسان إذا أصابته ضربة في صدره بقى مدهوشا ل ‪ ،‬فتارة يتكلم وتارة ل يقدر على الكلم ‪ ،‬وكل مطعون يطعن‬
‫بصوت إل مطعون الصدر فإنه يخر ميتا ل من غير تصويت ؟‪ .‬وأما الخر فإن السر الذيِ فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة‬
‫الغريزية قد ذهب فصار نفسه متغير الحالتين ‪ :‬حال الرتفاع والبرودة ‪ ،‬لنه فقد الحرارة ‪ ،‬فعند هذا الحال تختلف أحوال الموتى ‪،‬‬
‫فمنهم من يطعنه الملك حينئاذ بحربة مسمومة قد سقيت سسما ل من نار ‪ ،‬فتقر النفس وتفيض خارجة فيأخذها في يده ترعد أشبه شيء‬
‫بالزئابق على قدر النحلة شخصا ل إنسانيلا‪ ،‬ثم الملئاكة تناولها الزبانية ‪ ،‬ومن الموتى من تحذف نفسه رويدال حتى تنحصر في‬
‫الحنجرة وليس يبقى في الحنجرة إل شعبة متصلة بالقلب ‪ ،‬فحينئاذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة ‪ ،‬فإن النفس ل تفارق القلب حتى‬
‫يطعن ‪ .‬وسر تلك الحربة أنها تغمس في بحر الموت ‪ ،‬فإذا وضعت على القلب صار سرها في سائار الجسد كالسم الناقع ‪ ،‬لن سر‬
‫الحياة إنما هو موضوع في القلب ويؤثر سره عند النشأة الولى ‪ ،‬وقد قال بعض المتكلمين ‪ :‬الحياة غير النفس ‪ ،‬ومعناها اختلط‬
‫النفس بالجسد ‪ .‬وعند استقرار النفس في الترقي والرتفاع يعرض عليه الفتن ‪ ،‬وذلك لن إبليس قد أنقذ أعوانه إلى هذا النسان‬
‫خاصة ‪ ،‬واستعملهم عليه ‪ ،‬ووكلهم به ‪ ،‬فيأتون المرء وهو في تلك الحال فيمتثلون له في صورة من سلف من الحباء الميتين‬
‫الباغيين له النصح في دار الدنيا كالب والم والخ والخت والصديق‬
‫ص)‪(551‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫الحميم ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬أنت تموت يا فلن ونحن سبقناك في هذا الشأن ‪ ،‬فمت يهوذسيا ل فهو الدين المقبول عند ا تعالى ! فإن انصرفوا‬
‫عنه وأبى جاءه آخرون وقالوا له ‪ :‬مت نصرانيا ل فإنه دين المسيح ونسخ به دين موسى ! ويذكرون له عقائاد كل ملة ‪ .‬فعند ذلك‬
‫ت اللدوسهاب ا{]‬‫ك درلحدملة إهسنك ددأن د‬ ‫يزيغ ا من يريد زيغه ‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى ‪ } :‬درسبدنا ل اتهزلغ قاالودبدنا دبلعدد إهلذ دهددليدتدنا دوده ل‬
‫ب دلدنا همن لسادن د‬
‫آل عمران ‪.[8:‬أيِ ل تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا إلى اليمان ‪ .‬فإذا أراد ا تعالى بعبده هداية وتثبيتا ل جاءته‬
‫الرحمة ‪ ،‬وقيل هو جبريل عليه السلم ‪ ،‬فيطرد عنه الشيطان ويمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت ضاحكا ل ل محالة ‪ .‬وكثير‬
‫من يرى مبتسما ل في هذه الحالة فرحا ل مسرورال بالبشير الذيِ جاء رحمة ا من ا تعالى يقول ‪ :‬يا فلن ما تعرفني ؟ أنا جبريل‬
‫وهؤلء أعداؤك من الشياطين ‪ ،‬مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية ! فما شيء أحب إلى النسان وأفرح منه بذلك الملك ‪،‬‬
‫ت اللدوسهاب ا{] آل عمران ‪ .[8:‬ثم الموت على الفطرة ‪ .‬ومن الناس من يطعن‬ ‫ك درلحدملة إهسنك ددأن د‬‫ب دلدنا همن لسادن د‬‫وهو قوله تعالى ‪ } :‬دوده ل‬
‫وهو قائام يصلي ‪ ،‬أو نائام ‪ ،‬أو مار في بعض أشغاله ‪ ،‬أو منعكف على اللهو ‪ ،‬وهو البغتة ‪ ،‬فتقبض نفسه مرة واحدة ‪ .‬ومن الناس‬
‫من إذا بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين ‪ ،‬وأحدق به جيرانه من الموتى ‪ ،‬وحينئاذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إل‬
‫النسان ‪ ،‬ولو سمعه لصعق ‪ .‬وآخر ما يفقد من الميت السمع ‪ ،‬لن الروح إذا فارقت القلب بأسرها فسد البصر ‪ ،‬وأما السمع فل‬
‫يفقد حتى تقبض النفس ‪ ،‬لهذا قال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬لدقسانوا دملودتااكلم دشدهادددة أدلن لد هإله إل س ا دوأدسن امدحسمدال دراسوال ا " ونهى عن‬
‫الكثار بها عليهم لما يجدونه من الهول العظم والكرب القصم ‪ .‬فإذا نظرت إلى الميت قد سال لعابه وتقلصت شفتاه واسود‬
‫وجهه وازرقت عيناه فاعلم بأنه شقي ‪ ،‬قد كشف له عن حقيقة شقوته في الخرة ‪ ،‬وإذا رأيت الميت جاف الفم كأنه يضحك ‪،‬‬
‫شر بما يلقاه في الخرة من السرور ‪ ،‬وكشف له عن حقيقة كرامته ‪ .‬فإذا قبض الملك‬ ‫منطلق الوجه ‪ ،‬مكسورة عينه ‪ ،‬فاعلم أنه اب س‬
‫النفس السعيدة تناولها ملكان هحسان الوجوه ‪ ،‬عليهما أثواب حسنة ‪ ،‬ولهما روائاح طيبة ‪ ،‬فليفونها في حريره من حرير الجنة وهي‬
‫على قدر النحلة شخصا ل إنسانسيا ل ما فقد من عقله ول علمه المكتسب في دار الدنيا ‪ ،‬فيعرجون به في الهواء ‪ ،‬منهم من يعرف ومنهم‬
‫من ل يعرف ‪ ،‬فل تزال تمر بالمم السالفة والقرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر حتى تنتهي إلى سماء الدنيا ‪ ،‬فيقرع المين‬
‫الباب ‪ ،‬فيقال للمين ‪ :‬من أنت ؟ فيقول ‪ :‬أنا صلصيائايل ‪ .‬أيِ جبريل ‪ .‬وهذا فلن معي بأحسن أسمائاه وأحبها إليه ؛ فيقولون له ‪:‬‬
‫نعم الرجل كان فلن وكانت عقيدته حسنة غير شاك ‪ .‬ثم ينتهي إلى السماء الثانية فيقرع المين الباب فيقال ‪ :‬من أنت ؟ فيقول‬
‫مقالته الولى فيقال ‪ :‬أهلل وسهلل بفلن ‪،‬‬
‫ص) ‪(552‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫كان محافظا ل على صلته وجميع فرائاضها ‪ .‬ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة فيقرع المين الباب فيقال ‪ :‬من أنت ؟ فيقول‬
‫المين مقالته الولى والثانية ‪ ،‬فيقال ‪ :‬كان يرعى ا في حق ماله ول يتمسك منه بشيء ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة‬
‫فيقرع الباب فيقال ‪ :‬من أنت ؟ فيقول كدأبه في مقالته ‪ ،‬فيقال ‪ :‬أهلل بفلن كان يصوم فيحسن الصوم ويحفظه من إدراك الرفث‬
‫وحرام الطعام ‪ .‬ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع الباب فيقال ‪ :‬من أنت ؟ فيقول كعادته ‪ ،‬فيقول كعادته ‪ ،‬فيقال ‪ :‬مرحبا ل بفلن‬
‫كان كثير الستغفار بالسحار ويتصدق بالسر ويكفل اليتام ‪ .‬ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي إلى سرادقات الجلل فيقرع الباب فيقول‬
‫المين مثل قوله‪ ،‬فيقال ‪ :‬أهلل وسهلل بالعبد الصالح والنفس الطيبة ‪ ،‬كان كثير الستغفار وينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف‬
‫ل من الملئاكة كلهم يبشرونه بالجنة ويصافحونه حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى فيقرع الباب فيقول‬ ‫ويكرم المساكين ‪ .‬ويمر بم ء‬
‫المين كدأبه في مقالته ‪ ،‬فيقال ‪ :‬أهلل وسهلل ومرحبا ل بفلن ‪ ،‬كان عمله عملل صالحا ل لوجه ا تعالى ‪ .‬ثم يفتح له فيمر في بحر‬
‫من نار ‪ ،‬ثم يمر في بحر من نور ‪ ،‬ثم يمر في بحر من ظلمة ‪ ،‬ثم يمر في بحر من ماء ‪ ،‬ثم يمر في بحر من ثلج ‪ ،‬ثم يمر في بحر‬
‫من برد ‪ ،‬طول كل بحر منها ألف عام ‪ ،‬ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن وهي ثمانون ألفا ل من السرادقات ‪ ،‬لكل‬
‫سرادق ثمانون ألف شرافة ‪ ،‬على كل شرافة قمر يهلل ل تعالى ويسبحه ويقدسه ‪ ،‬ولو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا لعبد من‬
‫دون ا ولحرقها نوره ‪ ،‬فحينئاذ ينادى مناءد من الحضرة القدسية من وراء السرادقات ‪ :‬من هذه النفس التي جئاتم بها ؟ فيقول ‪:‬‬
‫فلن بن فلن ‪ ،‬فيقول الجليل جل جلله ‪ :‬قربوه فنعم العبد كنت عبديِ ! فإذا وقفه بين يديه الكريمتين أخجله ببعض اللوم والمعاتبة‬
‫حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه سبحانه ‪ .‬كما رويِ عن يحيى بن أكثم القاضي وقد ارئاي في المنام فقيل له ‪ :‬ما فعل ا بك ؟ فقال‬
‫‪ :‬وقفني بين يديه ثم قال يا شيخ السوء فعلت كذا وفعلت كذا ‪ ،‬فقال يارب ما بهذا حدثت عنك ‪ ،‬قال ‪ :‬فبماذا حدثت عني يا يحيى ؟‬
‫فقلت ‪ :‬حدثني الزهريِ عن معمر عن عروة عن عائاشة عن النبي صلى ا عليه وسلم عن جبريل عنك سبحانك أنك قلت إني‬
‫لستحي أن أعذب شيبة شابت في السلم ‪ .‬فقال ‪ :‬يا يحيى صدقت وصدق الزهريِ وصدق معمر وصدق عروة وصدقت عائاشة‬
‫وصدق محمد وصدق جبريل ‪ ،‬وقد غفرت لك ‪ .‬وعن ابن بنانه وقد ارئاي في المنام فقيل له ‪ :‬ما فعل ا بك ؟ فقال ‪ :‬وقفني بين يديه‬
‫الكريمتين وقال أنت الذيِ تخلص كلمك حتى يقال ما أفصحه ؟ قلت ‪ :‬سبحانك إني كنت في الدنيا أصفك ‪ ،‬قال قل كما كنت تقول‬
‫في دار الدنيا ! قلت ‪:‬‬
‫ص)‪(553‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫أماتهم الذيِ خلقهم ‪ ،‬وأسكنهم الذيِ أنطقهم ‪ ،‬وسيوجدهم كما أعدمهم ‪ ،‬وسيجمعهم كما فرقهم ‪.‬‬
‫قال لي ‪ :‬صدقت اذهب قد غفرت لك ‪.‬‬
‫وعن منصور بن عمار أنه رئاي في المنام فقيل له ‪ :‬ما فعل ا بك ؟ قال ‪ :‬وقفني بين يديه الكريمتين وقال لي بماذا جئاتني يا‬
‫منصور ؟ قلت ‪ :‬بستة وثلثين حجة ‪ ،‬قال لي ‪ :‬ما قبلت منها ول واحدة ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬بماذا جئاتني ؟ قلت ‪ :‬بثلثمائاة وستين ختمه‬
‫قرأتها لوجهك الكريم ‪ ،‬قال ‪ :‬ما قبلت منها واحدة ‪ ،‬ثم قال لي ‪ :‬بماذا جئاتني يا منصور ؟ فقلت ‪ :‬جئاتك برحمتك ‪ ،‬قال سبحانه ‪:‬‬
‫الن جئاتني ‪ ،‬اذهب فقد غفرت لك ! وكثير من هذه الحكايات تخبر بهذه المور ‪ .‬وإنما حدثتك شيئاا ل ليقتديِ به المقتديِ وا‬
‫المستعان ‪.‬‬
‫ومن الناس من إذا انتهى إلى الكرسي وسمع النداء ردوه ‪ ،‬فمنهم من يرد من الحجب ‪ ،‬وإنما‬
‫يصل إلى ا تعالى عارفوه ‪ ،‬ول يقف بين يديه إل أهل المقام الرابع فصاعدال‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما الفاجر فتؤخذ نفسه عنفا ل ‪ ،‬فإذا وجهه كآكل الحنظل ‪ ،‬والملك يقول ‪ :‬اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث ! فإذا له‬
‫صراخ أعظم ما يكون كصراخ الحمير ‪ ،‬فإذا عزرائايل ناولها زبانيلة قباح الوجوه ‪ ،‬سود الثياب ‪ ،‬منتني الريح ‪ ،‬بأيديهم مسوح من‬
‫شعر ‪ ،‬فيلقونها فيه ‪ ،‬فتستحيل شخصا ل إنسانيا ل على قدر الجرادة ‪ ،‬فإن الكافر أعظم جرما ل من المؤمن ‪ ،‬يعنى الجسم في الخرة ‪.‬‬
‫وفي الصحيح أن ضرس الكافر في النار مثل أحد ‪ .‬قال فيعرج به حتى ينتهي إلى باب سماء الدنيا ‪ ،‬فيقرع المين الباب ‪ ،‬فيقال ‪:‬‬
‫من أنت ؟ فيقول ‪ :‬أنا قياييل ‪ ،‬فيقال ‪ :‬من معك ؟ فيقول ‪ :‬فلن بن فلن ‪ ،‬بأقبح أسمائاه وأبغضها إليه في دار الدنيا ‪ ،‬فيقال ‪ :‬ل أهلل‬
‫خيا دهط { ] العراف ‪:‬‬ ‫ب السسدماهء دول ديلداخالودن الدجسندة دحستى ديلهدج اللدجدمال هفي دسسم الل ه‬ ‫ول سهلل ! ول يفتح له أبواب السماء } ل اتدفستاح دلاهلم أدلبدوا ا‬
‫‪ . [40‬فإذا سمع المين هذه المين هذه المقالة طرحه من يده فتهويِ به الريح في مكان سحيق ‪ ،‬أيِ بعيد ‪ ،‬وهو قوله عز وجل ‪} :‬‬
‫حيءق {] الحج ‪ .[31 :‬فيا له من خزيِ حل به !‬ ‫طليار أدلو دتلههويِ هبهه السرياح هفي دمكا دءن دس ه‬‫ل دفدكأ دسندما دخسر همدن السسدماهء دفدتلخدطفااه ال س‬
‫دودمن ايلشهرلك هبا ه‬
‫فإذا انتهى به الرض ابتدرته الزبانية وسارت به إلى سجين وهي صخرة عظيمة تأويِ إليها أرواح الفجار ‪ .‬وأما اليهود‬
‫والنصارى فمردودون من الكرسي إلى قبورهم ‪ ،‬هذا من مات منهم على شريعته ويشاهد غسله ودفنه ‪ ،‬وأما المشرك فل يشاهد‬
‫شيئاا ل من ذلك لنه قد هوى به ‪ ،‬وأما المنافق فمثل الثاني ايدرد ممقوتا ل مطرودال إلى حفرته ‪ ،‬وأما المقصرون من المؤمنين فتختلف‬
‫أنواعهم ‪ :‬فمنهم من ترد صلته ‪ ،‬لن العبد إذا‬
‫ص)‪(554‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫نقر في صلته سارقا ل لها تلف كما يتلف الثواب الخلق ويضرب بها وجهه ثم تعرج وهي تقول ضيعك ا كما ضيعتني ‪ .‬ومنهم من‬
‫ترد زكاته ‪ ،‬لن إنما يزكي ليقال فلن متصدق ‪ ،‬وربما وضعها عند النسوان فاستجلب بها محبتهن ‪ ،‬ولقد رأيناه ‪ ،‬عافنا ا مما‬
‫حل به ‪ .‬ومن الناس من يرد صومه ‪ ،‬لنه صام عن الطعام ولم يصم عن الكلم ‪ ،‬فهو رفث وخسران ‪ ،‬فخرج الشهر عنه وقد‬
‫لهوجه ‪ .‬ومن الناس من يرده حجه ‪ ،‬لنه إنما حج ليقال فلن حج أو يكون حج بمال خبيث ‪ .‬ومن الناس من يرده العقوق ‪.‬‬
‫وسائار أحوال البر كلها ل يعرفها إل العلماء بأسرار المعاملت وتخصيص العمل الذيِ للملك الوهاب ‪ .‬فكل هذه المعاني جاءت‬
‫بها الثار والخبار كالخبر الذيِ رواه معاذ بن جبل رضي ا عنه في رد العمال وغيرها ‪ .‬وإنما أردت تقريب المر ‪ ،‬ولول‬
‫الختصار لكنت ملت الدواوين من تصحيح ذلك ‪ ،‬وأهل الشرع يعرفونه صحة ذلك كما يعرفون أبنائاهم ‪ .‬فإذا أردت النفس إلى‬
‫الجسد ووجدته قد اخذ في غسله عن كان قد غسل ‪ ،‬فتقعد عند رأسه حتى يغسل ‪ ،‬فيكشف ا عن بصر من يشاء من الصالحين‬
‫فينظرها على صورتها الدنيوية ‪.‬‬
‫وقد حدث شخص ابنا ل له فإذا هو بشخص قاعد عند رأسه ‪ ،‬فأدركه الوهم ‪ ،‬فترك الجهة التي رأى فيها الشخص وتحول إلى الجهة‬
‫الخرى ‪ ،‬فلم يزل ينظره حتى أدرج الميت في كنفه ‪ ،‬فعاد إليه ذلك الشخص فشاهده العالم وهو على النعش ‪ .‬كما رويِ عن غير‬
‫واحد من الصالحين أنه نادى ميتا ل وهو في النعش ‪ :‬أين فلن وأين الروح ؟ فانتفض الكفن من تلقاه صدره مرتين أو ثلثة ‪ .‬وعن‬
‫الربيع بن خيثم أنه اضطرب في يد غاسله ‪ .‬وقد علم أن الميت تكلم في نعشه على عهد الصديق وذكر فضله وفضل الفاروق‪.‬‬
‫وإنما هي النفس تشاهد أمرال ملكوتيا ل ويكشف ا عن سمع من يشاء ‪ ،‬فإذا أدرج الميت في أكفانه صارت الروح ملتصقة بالصدر‬
‫خارجة ولها خوار وعجيج وهي تقول أسرعوا بي إلى أيِ رحمة ربي لو علمتم ما أنتم حاملوني إليه ! فإن كان ممن يبشر بالشقاء‬
‫يقول رويدال بي إلى أيِ عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملون إليه ‪ .‬ولجل ذلك كان رسول ا صلى ا عليه وسلم ل يمر به جنازة إل‬
‫قام لها قياما ل‪ .‬وفي الصحيح أنه صلى ا عليه وسلم مرت جنازة فقام لها تعظيما ل فقيل ‪ :‬يا رسول ا إنه يهوديِ ‪ ،‬فقال ‪ :‬أليس نفسا ل‬
‫؟ وإنما كان يفعله لنه كشف له عن أسرار الملكوت ‪ ،‬فكان يسر بالميت إذا مر به لنه من أهل فهمه ومعانيه ‪ .‬فإذا دخل الميت‬
‫القبر وأهيل عليه التراب ناداه القبر كنت تفرح على ظهريِ والن تأكلك الديدان في بطني ‪ ،‬ويكثر عليه مثل هذه اللفاظ الموبخة‬
‫حتى يسسوى عليه التراب ‪ ،‬ثم يناديه ملك يقال له رومان ‪ .‬وقد رويِ عن ابن مسعود رضي ا عنه قال ‪ :‬يا رسول ا ما أول ما‬
‫يلقى الميت إذا دخل قبره ؟ قال ‪ " :‬يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إل أنت ‪ ،‬فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلل‬
‫المقابر فيقول ‪ :‬يا عبد ا اكتب‬
‫ص )‪(555‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫عملك! فيقول ‪ :‬ليس معي دواة ول قرطاس ‪ ،‬فيقول ‪ :‬هيهات! كفك قرطاسك ‪ ،‬ومدادك ريقك ‪ ،‬وقلمك إصبعك ‪ ،‬فيقطع قطعة من‬
‫كفنه ثم يجعل العبد يكتب ‪ ،‬وإن كان غير كاتب في الدنيا فيكتب حينئاذ حسناته وسيئااته كيوم واحد ‪ ،‬ثم يطويِ الملك الرقعة ويعلقها‬
‫في عنقه ‪ .‬ثم قرأ رسول ا صلى ا عليه وسلم ‪ } :‬دواكسل هإندساءن أدللدزلمدناها دطاهئادرها هفي اعانهقهه {] السراء‪ .[13:‬فإذا فرغ من ذلك خل‬
‫عليه فستانا القبر وهما ملكان أسودان يخرقان الرض بأنيابهما ‪ ،‬لهما شعور مسدولة يجرانها على الرض ‪ ،‬كلمهما كالرعد‬
‫القاصف ‪ ،‬وأعينهما كالبرق الخاطف ‪ ،‬ونفسهما كالريح العاصف ‪ ،‬وبيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلن ما‬
‫رفعاه ‪ ،‬ولو ضرب به أعظم جبل لجعله دكلا‪ ،‬فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت وولت هاربة ‪ ،‬فتدخل في منخر الميت ‪ ،‬فيحيا الميت‬
‫من الصدر ويكون كهيئاته عند الغرغرة ‪ ،‬ول يقدر على حركة ‪ ،‬غير أنه يسمع وينظر ‪ .‬قال ‪ :‬فيسألنه بعنف ‪ ،‬وينهرانه بجفاء ‪،‬‬
‫وقد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفتح فيه ووجد فيه فرحة ‪ ،‬فيقولن له ‪ :‬من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وما قبلتك ؟‬
‫فمن وفقه ا وثبته بالقول الثابت قال ‪ :‬من وكلكما علسى ومن أرسلكما إلسى ؟ ثم يقول ‪ :‬ا ربي ‪ ،‬ومحمد نبسيي ‪ ،‬والسلم ديني ‪،‬‬
‫وهذا ما يقوله ‪ ،‬إل العلماء الخيار فيقول أحدهما للخر صدق لقد كفى شرنا ولقن حجته ‪ ،‬ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة‬
‫ويفتحان له بابا ل إلى الجنة من تلقاء يمينه ‪ ،‬ثم يفرشان له من حريرها وريحانها ‪ ،‬ويدخل عليه من نسيمها وروائاحها ‪ ،‬ويأتيه عمله‬
‫في صورة أحب الشخاص إليه يؤنسه ويحدثه ويمل قبره نورال ول يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة فليس‬
‫شيء أحب إليه من قيامها ‪ .‬ودونه في المنزلة المؤمن القليل العلم والعمل ‪ ،‬ليس معه حظه من العلم ول أسرار الملكوت ‪ ،‬يلج عليه‬
‫عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيبة الريح ‪ ،‬حسن الثياب ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬أما تعرفني ؟ فيقول ‪ :‬من أنت الذيِ مسن ا علسي بك‬
‫في غربتي ؟ فيقول ‪ :‬أنا عملك الصالح ل تحزن ول توجل ! فعما قليل يلج عليك منكر ونكير يسألنك فل تدهش ‪ ،‬ثم يلقنه حجته ‪،‬‬
‫فبينما هو كذلك إذ دخل عليه كما تقدم ذكرهما فينهرانه ويقعدانه مستندال ويقولن له ‪ .‬من ربك ؟ فيسبق إلى القول الول فيقول ‪ :‬ا‬
‫ربي ‪ ،‬ومحمد نبسيي والقرآن إمامي ‪ ،‬والكعبة قبلتي ‪ ،‬وإبراهيم أبي ‪ ،‬وملته ملتي ‪ ،‬غير مستعجم ‪ ،‬فيقولن له ‪ :‬صدقت ! ويفعلنه‬
‫به كالول ‪ ،‬إل أنهما يفتحان له بابا ل من النار من تلقاء شماله ‪ ،‬فينظر إلى حسياتها وعقاربها وأغللها وسلسلها وحميمها وجميع ما‬
‫فيها من صديدها وزقومها ‪ ،‬فيفزع فيقولن له ‪ :‬ل عليك سوء ‪ ،‬هذا موضعك كان من النار قد أبدله ا تعالى به موضعك هذا من‬
‫الجنة ‪ ،‬نم سعيدال ! ثم يغلقان عنه باب النار ولم يدر ما مسر عليه من الشهور والعوام والدهور‪ .‬ومن الناس من ينعجم في مسألته ‪،‬‬
‫وإن كانت عقيدته‬
‫ص)‪(556‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫مختلفة امتنع أن يقول ا ربي ‪ ،‬وأخذ يذكر غيرها من اللفاظ ‪ ،‬فيضربانه ضربة يشتعل قبره منها نارال ‪ ،‬ثم يطفأ عنه أياما ل ‪ ،‬ثم‬
‫يشتعل عليه أيضا ل ‪ ،‬ثم دأبه ما بقيت الدنيا ‪ .‬ومن الناس من يعتاص عليه ويعسر أن يقول السلم ديني ‪ ،‬بشك كان يتوهمه ‪ ،‬أو فتنة‬
‫تقع به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره نارال كالول ‪ .‬ومن الناس من يعسر عليه أن يقول القرآن إمامي ‪،‬‬
‫لنه يتلوه ول يتعظ به ول يعمل بأوامره ول ينتهي بنواهيه ‪ ،‬يطوف عليه دهره ول يعظ نفسه خيره ‪ ،‬فيفعل به ما فعل بالولين ‪.‬‬
‫خسنوصا ل وهو‬ ‫ومن الناس من يستحيل عمله جروال يعذب به في قبره على قدر جرمه ‪ .‬في الخبار أن من الناس من يستحيل عمله ه‬
‫ولد الخنزير ‪ .‬ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول محمد نبسيي ‪ ،‬لنه كان ناسيا ل لسنته ‪ .‬ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول‬
‫الكعبة قبلتي ‪ ،‬لقلة تحريه في صلته ‪ ،‬أو فساد في وضوئاه ‪ ،‬أو التفات في صلته ‪ ،‬أو اختلل في ركوعه وسجوده ‪ ،‬ويكفيك ما‬
‫رويِ في فضائالها أن ا ل يقبل صلة ممن عليه صلة ومن عليه ثوب حرام ‪ .‬ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول أبي إبراهيم‬
‫‪ ،‬لنه سمع كلما ل يوما ل أوهمه أن إبراهيم كان يهودسيا ل أو نصرانسيا ل ‪ ،‬فإذا هو شاب مرتاب ‪ ،‬فيفعل به ما فعل بالخرين ‪ .‬وكل هذه‬
‫النواع كشفناها في كتاب الحياء ‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما الفاجر فيقولن له ‪ :‬من ربك ؟ فيقول ‪ :‬ل أدريِ ‪ ،‬فيقولن له ‪ :‬ل دريت ول عرفت ! ثم يضربانه بتلك المقامع الحديد حتى‬
‫يتجلجل في الرض السابعة ‪ ،‬ثم تنقضه الرض في قبره ‪ ،‬ثم يضربانه سبع مرات ‪ ،‬ثم تختلف أحوالهم فمنهم من يستحيل عمله‬
‫كلبا ل ينهشه حتى تقوم الساعة ‪ ،‬وهم المرتابون ‪ ،‬وهي أنواع تعتريِ أهل القبور ‪ ،‬وإنما آثرنا الختصار في ذكرها ‪ ،‬وأصلها أن‬
‫الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذيِ كان يخافه في الدنيا ‪ ،‬فمن الناس من يخاف الجرو أكثر ‪ ،‬وطبائاع الخلق مفترقة ‪ .‬نسأل ا‬
‫السلمة والغفران قبل الندامة ‪.‬‬
‫وقد رويِ عن غير واحد من الموتى أنه ارئاي في المنام فقيل له ‪ :‬كيف كان حالك ؟ فقال ‪ :‬صليت بل وضوء فوكل ا علسى ذئابا ل‬
‫يروعني في قبريِ ‪ ،‬فحالي معه أسوأ حال ‪ .‬وآخر رئاي في المنام فقيل ‪ :‬ما فعل ا بك ؟ فقال دعني فإني لم أتمكن في غسل يوم‬
‫من الجنابة فألبسني ا ثوبا ل من نار أتقلب فيها إلى يوم القيامة ‪ .‬ورئاي آخر فقيل ‪ :‬ما فعل ا بك ؟ فقال ‪ :‬الغاسل الذيِ غسلني‬
‫حملني بعنف فخدشني مسمار كان في المغتسل قائاما ل فتألمت منه ‪ ،‬فلما أصبح الصباح سئال الغاسل فقال ‪ :‬كان ذلك من غير‬
‫اختياريِ ‪ .‬ورئاي آخر في المنام فقيل له ‪ :‬كيف حالك أددو لم تمت ؟ قال نعم ‪ ،‬وأنا بخير ‪ ،‬غير أن الحجر كسر ضلعي‬
‫ص)‪(557‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫عندما اسسوى علي التراب فأضرني ‪ .‬ففتح القبر فوجدوه كما قال ‪ .‬وآخر جاء إلى ولده في النوم فقال له ‪ :‬يا ولد السوء أصلح قبر‬
‫أبيك ‪ ،‬لقد آذاه المطر ! فلما أصبح بعث الرجل إلى قبر أبيه فوجد جدولل من الماء وقد أتى عليه من سيل ‪ ،‬وإذا بالقبر مملوء من‬
‫الماء ‪ .‬وعن أعرابي أنه قال لولده ‪ :‬ما فعل بك ؟ قال ما ضرني إل أن دفنت بإزاء فلن وكان فاسقا ل قد روعني ما يعذب به من‬
‫أنواع العذاب ‪.‬‬
‫وكثيرال ما جاء في مثل هذه الخبار حكايات تبين أهل القبور يؤلمون في قبورهم ‪ ،‬وكفى بالخبر دللة حيث يقول صاحب الشرع‬
‫ت هفي دقلبهرهه دكدما ايؤدلام الدحسي في دبليته " وقد نهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن كسر عظام‬ ‫صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬ايلؤدلام الدمسي ا‬
‫الميت ‪.‬‬
‫ا‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫وقد مر برجل قاعد على فناء قبر فنهاه وقال ‪ ":‬ل تلؤذوا الملوتى في قابوهرهلم " ‪ .‬وقد زار النبي صلى ا عليه وسلم قبر أمه آمنة‬
‫ت دأن أدازودر دقلبدرها دفأ دهذدن لي ‪ ،‬دفازواروا‬ ‫ت رسبي في اللستلغدفار لددها دفلدلم ديأدذلن هلي ‪ ،‬اثسم اسدتأدذلن ا‬ ‫فبكى وأبكى من كان معه ثم قال ‪ ":‬اسلتأذلن ا‬
‫ت " ‪ .‬وكان إذا حضر إلى المقابر ليزورها يقول صلى ا عليه وسلم ‪ ":‬دسلما ل دعدلى ألههل السددياهر مدن‬ ‫الاقبودر فإسنها اتدذسكار ادلملو د‬
‫س‬ ‫د‬
‫حاقون د‪ ،‬ألنتلم دلدنا دفدرط دونلحان دلاكلم دتدبسع ‪ ،‬اللاهسم الغهفر دلدنا دودلاهلم دودتدجادولز بدعلفدوك ددعسنا ودعلناهلم " فكان يعلم‬
‫الامسلمين دوإسنا هإن دشادء ا باكلم ل ه‬
‫نساءه صلى ا عليه وسلم إذا خرج النساء إلى المقابر يقول لهن قولوا هذا الكلم ‪ ،‬ويعلمهن إياه ‪ .‬وقال صالح المزني ‪ :‬سألت‬
‫ك دحلسرةس‬ ‫صسلوا دبيدن القاابور دفإن دذل د‬
‫بعض العلماء ليِ شيء نهي عن الصلة في المقبرة ؟ فقال ‪ :‬ورد حديث ‪ ،‬فاستدل بحديث " ل ات د‬
‫ل املندتهى لددها " ‪ .‬ورويِ عن بعضهم أنه قال ‪ :‬قمت أصلي ذات يوم في المقابر وقد اشتد الحر وقوى ‪ ،‬إذ رأيت شخصا يشبه أبي‬
‫ل‬
‫جالسا ل على ظهر قبره ‪ ،‬فسجدت فزعلا‪ ،‬فسمعته يقول ‪ :‬ضاقت عليك الرض رحبا ل حتى جئات تؤذينا بصلتك منذ زمان ‪ .‬وفي‬
‫ب بابكاء‬ ‫ت لايعسذ ا‬ ‫الحديث الصحيح أن رسول ا صلى ا عليه وسلم مر بيتيم يبكي على قبر أمه فبكى رحمة له ثم قال ‪ " :‬إسن الدمسي د‬
‫أدلهلههه دعلليهه " أيِ يحزنه ويسوءه ‪ .‬فكم من ميت رئاي في المنام فقيل له كيف حالك يا فلن فبقول حال سوء ساء حالي من فلن‬
‫وفلنة كانا يكثران البكاء والنواح علي ‪ .‬إل أن الزنادقة ينكرون ذلك قبله ‪ .‬ورسول ا صلى ا عليه وسلم قال ‪ " :‬دما هملن أددحد‬
‫خهيه الاملؤهمهن همسملن ديلعهرفااه هفي الادلنيا دفايدسلسام دعدلليهه إهل س دعدردفاه دودرسد دعدلليهه " وكذا حسدث عليه الصلة والسلم وقد انصرف‬ ‫هملناكلم ديامسر هبدقلبهر أد ه‬
‫عن جنازة دفنوها أنه يسمع قرع نعالهم وهم بغيره أسمع وأسمع ‪ .‬ومات بعض الفقهاء ولم يوص بشيء ثم طاف على أهل بيته‬
‫بالليل وقال ‪ :‬أعطوا فلنا ل كيت وكيت من الزرع ! وادفعوا لفلن كتابه الذيِ كان عنديِ مودوعا ل منذ زمان ! فلما أصبحوا ذكر كل‬
‫واحد منهم لخيه ما رأى ‪ ،‬ثم إنهم وجدوه بعد زمان في زوايا البيت ‪ .‬عن بعضهم قال ‪ :‬اتخذ أبونا لنا مؤدبا ل يعلمنا الكتابة في الدار‬
‫فمات ‪ ،‬فخرجنا إلى قبره بعد ستة أيام وجعلنا نتذاكر‬
‫ص)‪(558‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫أمر ا عز وجل ‪ ،‬فمر بنا طبق من تين فاشتريناه وأكلنا ه ورمينا الذناب على القبر ‪ ،‬فلما كان تلك الليلة رأى أبونا الشيخ في‬
‫المنام فقال له ‪ :‬كيف حالك ؟ فقال ‪ :‬بخير ‪ ،‬غير أن أولدك اتخذوا قبريِ مزبلة ‪ ،‬وتحدثوا علسي بكلم هو كفر ‪ ،‬فخاصمنا أبونا‬
‫للشيخ وقال ‪ :‬إن الشيخ قال لي إنهم قالوا عند قبريِ شيئاا ل يشبه الكفر ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬يا سبحان ا ل يزال يؤدبنا في الدنيا والخرة ‪ .‬ومن‬
‫هذه الحكايات كثير إل أني ذكرت هذا القدر أمثالل ومواعظ لايعتبر بالقل‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما أهل القبور فعلى أربعة أحوال ‪:‬فمنهم القاعد على عقبه حتى تنتثر العين ‪ ،‬وتورم الجثة ‪ ،‬ويعود الجسم ترابا ل ‪ ،‬ثم ل يزال بعد‬
‫ذلك طوافا ل في الملكوت دون سماء الدنيا ‪ ،‬ومنهم من يرسل ا عليه نعسة فل يدريِ ما فعل حتى ينتبه مع النفخة الولى ثم يموت‬
‫‪،‬ومنهم من ل يقوم على قبره إل شهرين أو ثلثا ل ‪ ،‬ثم تركب نفسه على طير يهويِ به في الجنة ‪ ،‬وهو الحديث الصحيح حيث يقول‬
‫صاحب الشرع صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬دندسدماة الاملؤهمهن هملن دطاهئار ديلعلداق في دشدجدرهة الدجسنة " وفي المعنى الصحيح والوجه الحسن ‪.‬‬
‫ضر تعلق بهلم في دشدجدرهة الدجسنهة " ‪ .‬ومن الناس من إذا بادت‬ ‫شدهددااء هفي دحدواصهل ا‬
‫طايور اخ ل‬ ‫وكذلك سئال عن أرواح الشهداء فقال ‪ " :‬ال س‬
‫عينه عرج به إلى الصور فل يزال لزما ل له حتى ينفخ في الصور ‪ .‬والنوع الرابع خص به النبياء والولياء ولهم الخيار‪ ،‬فمنهم‬
‫من يكون طوافا ل في الرض حتى تقوم الساعة ‪ ،‬وكثيرال ما يرى في الليل ‪ ،‬وأظن الصديق منهم والفاروق ‪ .‬والرسول صلى ا‬
‫عليه وسلم له الخيار في طواف العوالم الثلثة ‪ .‬وعن هذه الرادة قال يوما ل تنبيها ل وإشارة صلى ا عليه وسلم ‪ " :‬إني أدلكدرام دعلى‬
‫ض ألكدثدر هملن دثلث " وكانت ثلث عشرات ‪ ،‬لن الحسين قتل على رأس الثلثين سنة فغضب على أهل‬ ‫ا هملن أدلن ديددعني هفي الدلر ه‬
‫الرض وعرج إلى السماء ‪ ،‬وقد رآه بعض الصالحين في النوم فقال ‪ :‬يا رسول ا بأبي أنت وأمي ما ترى في فتن أمتك ؟ قال ‪:‬‬
‫زادهم ا فتنة ! قتلوا الحسين ولم يحفظوني فيه‪ .‬ثم جعل يعدد كلما ل اشتبه على الراويِ ‪ .‬ومنهم من اختار السماء السابعة‬
‫كإبراهيم عليه السلم ‪ ،‬وفي الحديث أنه أمر به صلى ا عليه وسلم وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور وقد أحدق به أولد‬
‫المسلمين ‪ .‬وعيسى عليه السلم في السماء الخامسة ‪ ،‬وفي كل سماء رسل وأنبياء ل يخرجون منها ول يبرحون حتى الصعقة ‪،‬‬
‫وليس منهم من له الخيار والكليم والروح والحبيب ‪ ،‬هؤلء ينتهون حيث أرادوا من العالمين ‪ ،‬وأما الولياء فمنهم من وقف على‬
‫البعثة الدنيوية كما رويِ عن أبي يزيد أنه تحت العرش يأكل من مائادة ‪ .‬وعلى هذه النواع الربعة حال أهل القبور يعذبون‬
‫ويرحمون ويهانون‬
‫ص)‪(559‬‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫ويكرمون ‪ ،‬فالذين هم منهم ايحدقون بالميت إذا احتضر حتى يضيق بهم رحاب المنازل ‪ ،‬وربما كشف له فيراهم ويفطن بهم ‪ ،‬وقد‬
‫رأيت من حدث بهذا النوع ‪ ،‬وقد رأيت بعض الصحاب كشف عن بصيرته فنظر إلى ولده الميت قد ولج البيت والميت يفيق‬
‫ويتصور ‪ .‬وهذه الفوائاد الملكوتية إنما تكون لكريم أو نسيب ‪ .‬نسأل ا أن يجود لنا بمعرفة ما نخوض به بحر أسرارها حتى يرتفع‬
‫الشك والرتياب‪.‬‬
‫ومع هذه النواع الموصوفة ل يعقل منهم تكوين الليل والنهار إل من كان عينه باقية لم يعرج به علوال‪ .‬فمنهم من يعرف الجمعة‬
‫والعياد وإذا خرج أحد من الدنيا اجتمعوا إليه وعرفوه ‪ ،‬فهذا يسأل عن زوجته وهذا يأل عن والده ‪ ،‬وكل واحد يسأل عن أربه ‪.‬‬
‫وربما مات الميت فلم يلق أحد معارفه لزيغ يصيبه عند الموت ‪ ،‬فيموت يهودسيا ل أو نصرانسيا ل فيصير إلى عساكرهم ‪ ،‬فإذا قدم أحد‬
‫من الدنيا سأله جيرانه ‪ :‬ما علمك بفلن ؟ فيقول لهم ‪ :‬قد مات ‪ ،‬فيقال ‪ :‬إنا ل وإنا إليه راجعون ! ما رأيناه سلك به إلى أمه الهاوية‬
‫‪ .‬وقد رئاي بعض الناس فقيل له ‪ :‬ما فعل ا بك ؟ قال ‪ :‬أنا وفلن وفلن ‪ ،‬وعد خمسة من أصحابه ‪ ،‬في خير كثير ونعمة ‪ ،‬وكان‬
‫قتله الخوارج مع أصحابه المعروفين ‪ .‬وسئال عن جار له ما فعل ا به ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما رأيناه ‪ ،‬وإنما كان هذا المنكور ألقى نفسه في‬
‫اليم حتى مات غرقا ل ‪ ،‬وأظنه وا مع قاتلي أنفسهم ‪.‬‬
‫ا‬ ‫ل‬
‫وفي الصحيح أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ‪ " :‬دملن دقدتدل دنفدساه هبدحديددة دجادء ديلوهم القيادمة دودحهديددتاه هفي ديهده ديدتدوسجأ هبها هفي دبطهنهه‬
‫في دبلطهن دجدهسندم دخالدال امدخسلدال هفيدها أددبدال ‪ ،‬دودملن دتدرسدى هملن دجدبءل دفدقدتدل دنلفدساه دفاهدو ديدتدرسدى هفي ناهر دجدهسنم د" الحديث ‪ .‬وكذلك المرأة تموت بحد‬
‫‪ ،‬ل تزال تجد ذلك اللم حتى النفخة ‪ ،‬فهذه حياة ثانية ‪ .‬وقد صح أن آدم عليه السلم لقي موسى عليه السلم فقال له ‪ :‬أنت الذيِ‬
‫خلقك ا بيده ‪ ،‬ونفخ فيك من روحه ‪ ،‬وأسجد لك ملئاكته ‪ ،‬وأسكنك جنته فلم عصيته ؟ قال له ‪ :‬يا موسى نعم ‪ ،‬فقال له ‪ :‬في كم‬
‫سنة وجدت الذنب قدر على قبل فعله ؟ قال له ‪ :‬كتب عليك قبل أن تفعله بخمسين ألف سنة ‪ ،‬قال ‪ :‬يا موسى أفتلومني على ذنب‬
‫قدر علسي قبل أن أفعله بخمسين ألف عام ؟ وفي الصحيح أن رسول ا صلى ا عليه وسلم صلى بالمرسلين ليلة أسرى به ركعتين‬
‫‪ ،‬وأنه سلم على هارون عليه السلم ‪ ،‬فدعا له بالرحمة ولمته ‪ ،‬وأنه سلم على إدريس فدعا له بالرحمة ولمته ‪ ،‬وكان أولئاك قد‬
‫ماتوا وبادت أعينهم ‪ .‬وإنما هي الحياة النفس ‪ ،‬وبعد هذا الحياء حياة ثالثة ‪ ،‬والحياة الولية يوم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم‬
‫س هنديام فإدذا‬
‫قالوا بلى شهدنا ! ول يعتد بالحياة الدنيوية ‪ ،‬فإنها مسخرة للتنعم ‪ .‬ويروى عنه عليه الصلة والسلم أنه قال ‪ " :‬السنا ا‬
‫دمااتوا الندتدباهوا "‬
‫فهذه أحوال الموات إذا بادت أعينهم ‪ :‬منهم المستقر ‪ ،‬ومنهم الطواف ‪ ،‬ومنهم‬
‫ص ‪560‬‬
‫ضودن دعلدليدها اغادليوا دودعهش يليا دوديلودم دتاقوام الاسادعاة‬
‫المضروب عليه‪ ،‬ومنهم المعذب‪ ،‬والدليل على صحة ذلك قوله تعالى ‪ ) :‬الاناار ايلعدر ا‬
‫ب ( ) غافر ‪ .( 46 :‬واليوم بيان العذاب البرزخ‪.‬‬ ‫خالوا آدل هفلردعلودن أددشاد اللدعدذا ه‬ ‫أدلد ه‬
‫فصل‬
‫فإذا أراد ا تعالى قيام الساعة دون النفخ في الصور على السر الذيِ بيناه في الحياء‪ ،‬فإذا الجبال تتطاير وتسير مثل السحاب‪،‬‬
‫وإذا البحار قد تفجرت بعضها في بعض‪ ،‬وتكورت الشمس فعادت سوداء مزبرة‪ ،‬وسجرت الجبال على أمثال عالم الهواء‪ ،‬ودخل‬
‫العالم بعضه في بعض‪ ،‬وانتثرت النجوم كالسلك إذا انتثر نظمه‪ ،‬وعادت السماء كالدهن الورد تدور دوران الرحى‪ ،‬والرض قد‬
‫زلزلت زلزالل شديدال تارة تنقبض وتارة تنبسط كالديم‪ ،‬حتى أن ا يأمر بخلع الفلك‪ ،‬فل يبقى في الرضين السبع ول‬
‫السماوات السبع ول في الكرسي حي كائان إل وقد ذهبت نفسه‪ ،‬وإن كان روحانيا ل ذهبت روحه‪ ،‬وقد خلت الرض من عمارها‪،‬‬
‫والسماء من سكانها على ضروب الموحدين‪ .‬ثم إن ا جل جلله يتجلى في المقام فيقبض السماوات السبع في يمينه‪ ،‬والرضين‬
‫السبع الخرى‪ ،‬ثم يقول ا عز وجل‪ :‬يا دنيا يا دنية أين أربابك وأين أصحابك‪ ،‬منيهتهم ببهجتك وشغلهتهم عن آخرتهم بزهوك‪ ،‬ثم‬
‫يثني على نفسه بما شاء‪ ،‬ويفتخر بالبقاء المستمر والعز الدائام‪ ،‬والملك الباقي‪ ،‬والقدرة القاهرة‪ ،‬والحكمة الباهرة‪ ،‬ثم يقول تعالى ‪:‬‬
‫لمن الملك اليوم‪ ،‬فل يجيبه أحد‪ ،‬فيجيب نفسه بنفسه بأن يقول‪ :‬ل الواحد القهار‪ .‬ثم يفعل فعلل أعظم من الول وهو أن يأخذ‬
‫السموات على إصبع والرضين على إصبع ثم يهزها ويقول سبحانه ‪ :‬أنا الملك الديان أين عبدة الوثان الذين عبدوا غيريِ من‬
‫دوني‪ ،‬وأشركوا بي وأكلوا رزقي‪ ،‬أين الذين تقووا برزقي على المعاصي‪ ،‬أين الجبابرة‪ ،‬أين من تكبر وافتخر‪ ،‬لمن الملك اليوم‪،‬‬
‫كالمرة الولى‪ .‬ثم يمكث كذلك سبحانه وتعالى ما شاء ا وليس من العرش إلى المقام نسمة تلوح تعقل‪ ،‬وقد ضرب ا على آذان‬
‫الحور والولدان في جنتهم‪ .‬ثم يكشف ا سبحانه وتعالى عن بئار في سقر‪ ،‬فيخرج منها لهيب النار‪ ،‬فتشتعل في الربعة عشر‬
‫بحرال كما تشتعل النار في الصوف المنفوش‪ ،‬فما تدع منها قطرة واحدة‪ ،‬وتدع الرضين جملة سوداء والسموات كأنها عكر الزيت‬
‫والنحاس المذاب‪ ،‬فإذا دنا اللهيب أن يتعلق بعنان السماء زجر ا النار زجرة فخمدت‪ ،‬ثم ل يرفع لها لهيب‪ ،‬ثم يفتح ا سبحانه‬
‫وتعالى خزانة من خزائان العرش فيها بحر الحياة‪ ،‬فتمطر الرض‪ ،‬فإذا هو كمني الرجال‪ ،‬فيلقى الرض عطشى ميتة هامدة فتحيا‬
‫ص ‪561‬‬
‫وتهتز ول يزال المطر عليها حتى يعملها‪ ،‬ويكون الماء أربعين ذراعلا‪ ،‬فإذا جاء الجسام تنبت في العصعص‪ .‬وفي الحديث أن‬
‫النسان يبدأ من عجب الذنب ومنه يعود‪ ،‬وفي رواية أخرى ) يبلى المرء كله إل عجب الذنب منه ابديِء ومنه يعود ( وهو عظم‬
‫على قدر الحمصة ليس له مخ‪ ،‬فمنه تنبت الجسام في مقابرها كما ينبت البقل‪ ،‬حتى يشتبك بعضها في بعض‪ ،‬فإذا رأس هذا عند‬
‫ب دحهفي س‬
‫ظ‬ ‫ص الدلر ا‬
‫ض هملناهلم دوهعلندددنا هكدتا س‬ ‫منكب هذا‪ ،‬ويد هذا عند عجز هذا لكثرة البشر‪ .‬وفي معنى قوله عز وجل ‪ ) :‬دقلد دعلهلمدنا دما دتلنقا ا‬
‫( ) ق ‪ .( 4 :‬نبهنا عليه في كتابنا الحياء‪ .‬فإذا تمت النشأة على حسبها ‪ :‬الصبي صبي‪ ،‬والشيخ شيخ‪ ،‬والكهل كهل‪ ،‬والفتى فتى‪،‬‬
‫والشاب شاب‪ ،‬أمر الجليل جل جلله أن تهب ريح من تحت العرش فيها نار لطيفة‪ ،‬فيكشف ذلك عن الرض‪ ،‬وتبقى الرض‬
‫ل‪ ،‬وهو الكثيب المهيل‪ ،‬ثم يحيي ا سبحانه وتعالى إسرافيل فينفخ‬ ‫بارزة ليس فيها حدب ول عوج ول أمت‪ ،‬وقد عادت الجبال رما ل‬
‫في الصور من صخرة ببيت المقدس‪ ،‬والصور قرن من نور له أربعة عشرة دارة‪ ،‬الدارة الواحدة فيها ثقوب بعدد أرواح البرية‪،‬‬
‫فتخرج أروح البرايا لها دويِ كدويِ النحل فتمل ما بين الخافقين‪ ،‬ثم تذهب كل نسمة إلى جثتها‪ .‬فسبحان ملهمهم إياها! حتى‬
‫ظارودن ( ) الزمر ‪ .( 86 :‬والزجرة‬ ‫الوحش والطير وكل ذيِ روح‪ ،‬فإذا الكل كما قال تعالى ‪) :‬اثام انهفدخ هفيهه أ الخدرى دفإهدذا اهلم هقدياسم ديلن ا‬
‫حددةس )‪ (13‬دفإهدذا اهلم هبالاساههدرهة ( ) النازعات ‪ .( 14 ،13 :‬والساهرة‬ ‫العظيمة هي الصيحة كما قال ا تعالى ‪ ) :‬دفإهاندما ههدي دزلجدرةس دوا ه‬
‫هي الرض السفلى‪ ،‬لنهم فتحوا أبصارهم عند قيامهم فنظروا إلى جبال منسوقة‪ ،‬وبحار منزوفة‪ ،‬والرض ل عوج فيها ول‬
‫أمت‪ ،‬والمت الشيء المرتفع كالربوة‪ ،‬والعوج الرض المنخفضة كالوهدة والودية‪ ،‬وإنما صارت مستوية كأنها صفحة قاعدة‪.‬‬
‫فتعجبوا لما نظروا من الساهرة وقعد كل واحد منهم على قبره عريانا ل منتظرال متعجبا ل متفكرال معتبرال كما قال صلى ا عليه وسلم‬
‫في الصحيح ‪ ) :‬عراة غرلل ( أيِ غير مختونين‪ ،‬إل قوما ل ماتوا في الغربة مؤمنين لم يكفنوا‪ ،‬فإنهم يحشرون وقد كسوا ثيابا ل من‬
‫الجنة‪ ،‬وأقواما ل ماتوا شهداء فيقومون وقد كسوا من الجنة‪ ،‬وأقواما ل أيضا ل من أمة محمد صلى ا عليه وسلم متحرين السنة ما‬
‫خالفوا عنها سم الخياط‪ ،‬فإن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ‪ ) :‬بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها وسائار المم‬
‫عراة ( رواه أبو سفيان مسندال‪ .‬وقال صلى ا عليه وسلم ‪ ) :‬يحشر الميت في ثيابه ( وبعض الموتى لما احتضر قال ‪ :‬اكسوني‬
‫الثوب الفلني‪ ،‬فمنع منه حتى مات في غللة ليس عليه غيرها‪ ،‬فرئاي في المنان بعد أيام ثلثة كأنه حزين فقال له ‪ :‬ما بالك؟‬
‫فأعرض عن خطابه ثم قال ‪ :‬منعتموني ثوبي وجعلتموني أحشر في هذه الغللة ل غير‪.‬‬
‫ص ‪562‬‬
‫فصل في القامة التي بين النفختين‬
‫وهي الموتة الثانية‪ ،‬لنها منعت من الحواس الباطنة‪ ،‬والموت الجسماني منع من الحواس الظاهرة‪ ،‬لن الجرام هي الفاعلة‬
‫للحركة‪ ،‬ولنهم ل يصلون ول يصومون ول هم يتعبدون‪ ،‬ولو أدخل ا ملكا ل في جثة لقام فيها‪ ،‬لنه ذو حرص على التحيز إلى‬
‫عالمه‪ .‬والنفس جوهر بسيط‪ ،‬فإذا ركبت في الجسد صحت حياته وأفعاله‪.‬‬
‫واختلف الناس في هذه المدة الكائانة بين النفختين‪ ،‬واستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة‪ ،‬وحدثني من ل أشك في علمه ول‬
‫معرفته أن أمر ذلك ل يعلمه إل ا تعالى لنه من أسرار الربوبية‪ ،‬وكذلك حدثني أن الستثناء واقع عليه سبحانه وتعالى خاصة‪،‬‬
‫فقلت ‪ :‬ما معنى قول النبي صلى ا عليه وسلم ‪ ) :‬أنا أول من تنشق الرض عنه يوم القيامة‪ ،‬فإذا أخي موسى آخذ بقائامة العرش‬
‫فل أدريِ أبعث قبلي أم كان ممن استثناه ا عز وجل؟ ( فل يخرج من هذا الحديث على ما نقدره إل غير الجسام‪ ،‬وإن كان‬
‫موسى الن ل جثة له‪ ،‬ويعد الستثناء الذيِ عن رسول ا صلى ا عليه وسلم في أمر الفزع‪ ،‬لن البرايا عند الصعقة وعند‬
‫الفزعة كما قال كعب وقد حدث في مجلس عمر بن الخطاب رضي ا عنه عن هول المقام حيث قال ‪ :‬فلو كان ذلك يابن الخطاب‬
‫عمل سبعين نبيا ل لظننت أنك ل تنجو من ذلك اليوم إل قوما ل استثناهم ا في هول الفزع والصعق وهم أهل المقام الرابع‪ .‬ل شك أن‬
‫موسى أحدهم والستثناء من بلوغ المر‪ ،‬ولو كان هناك أحد لجاب ا تعالى حين يقول لمن الملك اليوم لقال ‪ :‬لك يا واحد يا‬
‫قهار‪.‬‬
‫فصل‬
‫فإذا استوى كل أحد قاعدال على قبره فمنهم العريان والمكسو والسود والبيض‪ ،‬ومنهم من يكون له نور كالمصباح العظيم‪ ،‬ومنهم‬
‫من يكون له نور كالشمس‪ ،‬إل أن واحد منهم ل يزال مطرقا ل برأسه ما يدريِ ما يصنع ألف عام‪ ،‬حتى تظهر نار من المغرب لها‬
‫دويِ تسوق الخلق إلى المحشر‪ ،‬فيندهش لها رءوس الخليقة إنسا ل وجنلا‪ ،‬ووحشا ل وطيرلا‪ ،‬فيأخذ كل واحد عمله ويقول قم وانهض‬
‫ل‪ ،‬ومنهم من تشخص عمله له حمارلا‪ ،‬ومنهم من تشخص له عمله‬ ‫إلى المحشر‪ ،‬فمن كان له حينئاذ عمل جيد تشخص عمله بغ ل‬
‫كبشلا‪ ،‬تارة يحمله وتارة يلقيه‪ .‬ويجعل لكل واحد نور شعاعي بين يديه‪ ،‬وعن يمينه مثله‪ ،‬يسريِ بين يديه في الظلمات وهو قوله‬
‫تعالى ‪ ) :‬انواراهلم ديلسدعى دبليدن أدليهديههلم دوهبأ دليدماهنههلم ( ) التحريم ‪ .( 8 :‬وليس عن شمائالهم نور بل ظلمة حالكة ل يستطيع أحد ينظر فيها‪،‬‬
‫يحتار‬
‫ص ‪563‬‬
‫فيها الكفار ويتردد المرتابون‪ ،‬والمؤمن ينظر إلى قوة حلكها وشدة حندسها ويحمد ا على ما أعطاه من النور المهتدى به في تلك‬
‫الشدة‪ ،‬ويسعى بين أيديهم‪ ،‬لن ا يكشف للعبد المؤمن المتنعم عن أحوال أهل الشقاء المعذبين ليستبين له سبيل الفائادة‪ ،‬كما فعل‬
‫ت‬ ‫صهردف ل‬ ‫حيهم ( ) الصافات ‪ .( 55 :‬وكما قال سبحانه وتعالى‪ ) :‬دوإهدذا ا‬ ‫أهل الجنة وأهل النار حيث يقول ‪ ) :‬دفااطدلدع دفدرآها هفي دسدواهء اللدج ه‬
‫ب الاناهر دقاالوا درابدنا ل دتلجدعللدنا دمدع اللدقلوهم الاظالههميدن ( ) العراف ‪ .( 47 :‬لن أربعا ل ل يعرف قدرها إل أربعة‪ :‬ل‬ ‫صدحا ه‬ ‫صااراهلم هتللدقادء أد ل‬
‫أدلب د‬
‫يعرف قدر الحياة إل الموتى‪ ،‬ول يعرف قدر الشدة إل أهل النعم‪ ،‬ول يعرف قدر الغنى إل الفقراء‪ ،‬ول يعرف قدر الصحة إل‬
‫المرضى‪ .‬ومن الناس من يسعى على قدميه وعلى أطراف بنانه‪ ،‬ومنهم من له نور ينطفئ تارة ويشتعل أخرى‪ ،‬وإنما نورهم عند‬
‫البعث على قدر إيمانهم‪ ،‬وسرعة خطواتهم على قدر أعمالهم‪ .‬قيل لرسول ا صلى ا عليه وسلم في حديث صحيح ‪ :‬كيف نحشر‬
‫يا رسول ا ؟ قال ‪ ) :‬اثنان على بعير‪ ،‬وخمسة على بعير‪ ،‬وعشرة على بعير ( ومعنى هذا الحديث وا أعلم أن قوما ل يتلقون في‬
‫السلم فيرحمهم ا تعالى ‪ ،‬خلق لهم من أعمالهم بعيرال يركبون عليه‪ ،‬وهذا من ضعف العمل‪ ،‬لنهم مشتركون معهم‪ ،‬فهم كقوم‬
‫خرجوا في سفر بعيد وليس معهم أحد‪ ،‬منهم من يشتريِ مطية توصله‪ ،‬فاشترك في ثمنها رجلن أو ثلثة‪ ،‬فاشتروا مطية يتعقبون‬
‫عليها في الطريق وقد يبلغ بعير مع عشرة‪ .‬فهذا العجز في العمل معناه قبض السيد في المال‪ ،‬أيِ منع التصرف فيه‪ ،‬ومع هذا يحكم‬
‫له بالسلمة‪ .‬فاعمل هداك ا عملل يكون لك بعيرال خالصا ل من الشركة‪ ،‬واعلم أن ذلك هو المتجر الرابح‪ ،‬فالمتقون وافدون كما قال‬
‫شار اللاماتهقيدن إهدلى الارلحدمهن دولفلدا ( ) مريم ‪ .( 85 :‬وفي غريب الحديث أن رسول ا صلى ا عليه‬ ‫الجليل جل جلله ‪ ) :‬ديلودم دنلح ا‬
‫وسلم قال يوما ل لصحابه ‪ ) :‬كان رجل من بني إسرائايل كثيرا ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم (‪ .‬قالوا له ‪ :‬وما كان يصنع؟‬
‫ل‬
‫قال ‪ ) :‬ورث من أبيه مالل كثيرال فاشترى بستانا ل فحبسه للمساكين وقال هذا بستاني عند ا‪ ،‬وفرق دنانير عديدة في الضعفاء وقال‬
‫بهذا أشتريِ جارية من ا تعالى وعبيدلا‪ ،‬وأعتق رقابا ل كثيرة وقال هؤلء خدمي عند ا‪ ،‬والتفت ذات يوم إلى رجل ضرير البصر‬
‫فرآه تارة يمشي وتارة يكبو فابتاع له مطية يسير عليها وقال هذه مطيتي عند ا أركبها‪ .‬والذيِ نفسي بيده لكأنني أنظر إليها وقد‬
‫جيء بها مسرجة ملجمة لركبها في الموقف (‪ .‬وقيل في تفسير قوله تعالى ‪ ) :‬أددفدملن ديلمهشي امهكليبا دعدلى دولجهههه أدلهددى أداملن ديلمهشي دسهولييا‬
‫صدراءط املسدتهقيءم ( ) الملك ‪ .( 22 :‬أنه مثل ضربه ا تعالى ليوم القيامة في حشر المؤمنين والكافرين‪ ،‬كما قال ا تعالى ‪) :‬‬ ‫دعدلى ه‬
‫دودناسواق الاملجهرهميدن إهلى دجدهندم هولردا ( ) مريم ‪ .( 86 :‬أيِ مشاة على وجوههم‪ ،‬هذا قول بعض المفسرين‪ ،‬وليس المر كما حكاه‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫وإنما السر في ذلك أنه تارة يمشي وتارة يكبو‬
‫ص ‪564‬‬
‫على وجهه‪ ،‬والذيِ تأوله بعيد‪ ،‬لن ا تعالى ذكر الرجل فقال تعالى ‪ ) :‬دوأدلراجلااهلم هبدما دكاانوا ديلعدمالودن ( ) النور ‪ .( 24 :‬وقوله )‬
‫صليما ( ) السراء ‪ .( 97 :‬تفسير غير المقصد الذيِ أرادوه‪ ،‬وترك الشارة التي نبأك عليها‪ ،‬فقد رأيت العرب‬ ‫اعلمليا دوابلكلما دو ا‬
‫يمثلون بها ويقولون ‪ :‬هذا يمشي على وجهه‪ ،‬إذا كان يكبو‪ ،‬ومعناه‪ :‬عميا ل عن النور الذيِ يشعشع بين أيديِ المؤمنين وعن أيمانهم‪،‬‬
‫وليس العمى الكلي إرادتهم‪ ،‬لنه ل خلف أنهم ينظرون السماء تنشق بالغمام‪ ،‬والملئاكة تنزل‪ ،‬والجبال تسير‪ ،‬والكواكب تنثر‪.‬‬
‫صارودن ( ) الطور ‪ .( 15 :‬فمعنى العمى في القيامة الخوض‬ ‫وكل أهوال يوم القيامة تفسير قوله تعالى ‪ ) :‬أددفهسلحسر دهدذا أدلم أدلناتلم ل اتلب ه‬
‫في الظملة والمنع عن النظر إلى الكريم‪ ،‬إذ نور ا سبحانه وتعالى تشرق به الرض البيضاء‪ ،‬وهم قد ضرب على أبصارهم‬
‫ف‬ ‫غشاوة ل ينظرون إلى شيء من ذلك‪ .‬كذلك ضرب على آذانهم فل يسمعون كلم ا تعالى والملئاكة الذين ينادون ‪ ) :‬ل دخلو س‬
‫دعدللياكلم دول أدلناتلم دتلحدزانودن ( ) العراف ‪ ) .( 49 :‬الداخالوا اللدجاندة أدلناتلم دوأدلزدوااجاكلم اتلحدبارودن ( ) الزخرف ‪ .( 70 :‬وكذلك منعوا من‬
‫الكلم كأنهم بكم‪ ،‬يفسره قوله تعالى ‪ ) :‬دهدذا ديلوام ل ديلنهطاقودن )‪ (35‬دول ايلؤدذان دلاهلم دفديلعدتهذارودن ( ) المرسلت ‪ .( 36 ،35 :‬والممنوع‬
‫من الشيء موصوف بالضعف عن قدرته وإن كانت الصفة فيه موجودة كأنها معدومة الوجود في حال دون حال‪.‬‬
‫ومن الناس من يحشر بفتنته الدنيوية‪ ،‬فقوم مفتونون بالعود وعاكفون عليه دهرهم‪ ،‬فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه‬
‫من يده ويقول سحقا ل لك شغلتني عن ذكر ا ! فيعود إليه ويقول أنا صاحبك حتى يحكم ا بيننا وهو خير الحاكمين‪ .‬وكذلك يبعث‬
‫السكران سكرانا ل والزامر زامرال وكل أحد على الحال الذيِ صده عن سبيل ا‪ ،‬ومثله الحديث الذيِ رويِ في الصحيح ) إن شارب‬
‫الخمر يحشر والكوز معلق في عنقه والقدح بيده‪ ،‬وهو أنتن من كل جيفة على الرض‪ ،‬يلعنه كل من يمر عليه من الخلق (‪.‬‬
‫والميت أيضا ل يحشر بظلمته‪ ،‬وفي الصحيح أن المقتول في سبيل ا يأتي يوم القيامة وجرحه يشخب دما ل‪ .‬اللون لون الدم‪ ،‬والريح‬
‫ريح المسك‪ ،‬حتى يقف بين يديِ ا عز وجل‪ .‬فإذا ساقتهم الملئاكة زمرال وأفواجا ل تحت كل واحد ما قدر له‪ ،‬وجمعوا في صعيد‬
‫واحد من إنس وجن وشيطان ووحش وسبع وطير‪ ،‬تحولهم الملئاكة إلى الرض الثانية وهي أرض بيضاء من فضة نورية‪،‬‬
‫وصارت الملئاكة من وراء العالمين حلقة واحدة فإذا هم أكثر من أهل الرض بعشر مرات‪ .‬ثم إن ا سبحانه وتعالى يأمر ملئاكة‬
‫السماء الثانية فيحدثون حلقة واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة‪ .‬ثم تنزل ملئاكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل فتكون حلقة‬
‫واحدة أكثر منهم ثلثين ضعفا ل‪ .‬ثم تنزل ملئاكة السماء الرابعة فيحدقون بالكل حلقة واحدة‬
‫ص ‪565‬‬
‫فإذا هم مثلهم بأربعين ضعفا ‪ .‬ثم تنزل ملئاكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائاهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة‪ .‬ثم‬ ‫ل‬
‫تنزل ملئاكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم ستين مرة‪ .‬ثم تنزل ملئاكة السماء السابعة فيحدقون‬
‫من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم سبعين مرة‪ .‬والخلق تتداخل ويندرج بعضهم في بعض حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام‪،‬‬
‫ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الذان وإلى الصدر وإلى الحلقوم وإلى المنكبين وإلى الركبتين‪ ،‬ومنهم من‬
‫يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام‪ ،‬ومنهم من يصيبه البلل كالعطش إذا شرب الماء‪ .‬وأصحاب الرأيِ هم أصحاب الكراسي‪،‬‬
‫ف دعدللياكلم دول أدلناتلم دتلحدزانودن ( ) العراف ‪ .( 49 :‬وحدثني بعض‬ ‫وأصحاب الكعبين قوم يموتون غرقى‪ ،‬والملئاكة تناديهم ) ل دخلو س‬
‫العارفين أنهم الوابون كالفضيل ابن عياض وغيره إذ النبي صلى ا عليه وسلم قال ‪ ) :‬التائاب من الذنب كمن ل ذنب له ( فإن‬
‫دليل ذلك قول مطلق‪.‬‬
‫وهذه الصناف الثلثة‪ :‬أهل الرأيِ‪ ،‬والرشح‪ ،‬وأهل الكعب‪ ،‬هم الذين تبيض وجوههم ومن دونهم تسود وجوههم‪ .‬وكيف ل يكون‬
‫القلق والعرق والرق قد قربت الشمس من رءوسهم حتى لو أن أحدال مد يده يضاعف حرها سبعين مرة! وقال بعض السلف‪ :‬لو‬
‫طلعت الشمس على الرض كهيئاتها يوم القيامة لحرقت الرض‪ ،‬وأذابت الصخر‪ ،‬ونشفت النهار‪ .‬فبينما الخلئاق يمرحون وهم‬
‫حهد اللدقاهاهر‬ ‫ت دودبدرازوا ه ا ه‬
‫ل اللدوا ه‬ ‫ض دغليدر الدلر ه‬
‫ض دوالاسدمادوا ا‬ ‫في تلك الرض البيضاء التي ذكرها ا تعالى حيث يقول ‪ ) :‬ديلودم اتدبادال الدلر ا‬
‫( ) إبراهيم ‪ .( 48 :‬وهم على أنواع في المحشر‪ ،‬وملوك أهل الدنيا كالذر كما رويِ في الخبر عن صفة المتكبر‪ .‬وليس هم كهيئاة‬
‫الذر عينلا‪ ،‬غير أن القدام تطأ عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم وانخفاضهم‪.‬‬
‫وقوم يشربون ماءال باردال عذبا ل صافيلا‪ ،‬لن الصبيان يطوفون على آبائاهم بكئاوس من أنهار الجنة يسقونهم‪ .‬وعن بعض السلف‬
‫الصالحين أنه نام فرأى القيامة قد قامت وكأنه في الموقف عطشان‪ ،‬ورأى صبيانا ل صغارال يسقون الناس قال فناديتهم ‪ :‬ناولني‬
‫شربة ماء ! فقال لي واحد منهم ‪ :‬ألك فينا ولد؟ فقلت ‪ :‬ل‪ ،‬قال ‪ :‬فل إذال‪ .‬وفي هذا فضل التزويج‪ .‬ولهذا الولد الساقي شروط‬
‫ذكرناها في كتابنا ) الحياء (‪.‬‬
‫وقوم قد دنا على رءوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيبة‪ ،‬ول يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذيِ‬
‫وصفناه في كتابنا ) الحياء (‪ ،‬وهو من بعض أسرار القرآن‪ ،‬فتوجل له القلوب وتخشع له البصار لعظم نقره‪ ،‬وتساق الرءوس‬
‫من المؤمنين والكافرين يظنون ذلك عذابا ل يزداد في هول القيامة‪ ،‬فإذا بالعرش يحمله ثمانية‬
‫‪566‬‬
‫أملك يسير قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة‪ ،‬وأفواج الملئاكة وأنواع الغمام بأصوات التسبيح ل تطيقه العقول‪ ،‬حتى‬
‫يستقر العرش في تلك الرض البيضاء التي خلقها ا تعالى لهذا الشأن خاصة‪ ،‬فتطرق الرءوس وتحصر وتنحبس‪ ،‬وتشفق‬
‫البرايا‪ ،‬وترعب النبياء‪ ،‬وتخاف العلماء‪ ،‬وتفزع الولياء والشهداء من عذاب ا الذيِ ل يطيقه شيء فبينما هم كذلك إذ غشيهم‬
‫نور غلب على نور الشمس التي كانوا في حرها‪ ،‬فل يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام والجليل ل يكلمهم كلمة واحدة‪،‬‬
‫فحينئاذ تذهب الناس إلى آدم عليه السلم فيقولون ‪ :‬يا آدم يا أبا البشر المر علينا شديد‪ .‬وأما الكافر فيقول ‪ :‬يا رب ارحمني ولو إلى‬
‫النار‪ ،‬من شدة ما يرى من الهول‪ .‬ويقولون ‪ :‬يا آدم‪ :‬أنت الذيِ خلقك ا بيده‪ ،‬وأسجد لك ملئاكته‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬اشفع لنا‬
‫في فصل القضاء! فيؤمر بكل حيث يشاء سبحانه وتعالى فيفعل بهم ما يشاء فيقول ‪ :‬عصيت ا حيث نهاني عن أكل الشجرة‪ ،‬وأنا‬
‫أستحي أن أكلمه في هذه الحالة‪ ،‬ولكن اذهبوا إلى نوح عليه السلم فإنه أول المسلمين! فيقيمون ألف عام يتشاورون فيما بينهم‪ ،‬ثم‬
‫يذهبون إلى نوح فيقولون له ‪ :‬أنت أول المرسلين‪ ،‬فيذكرون له مثل ذلك‪ ،‬ثم يطلبون منه الشفاعة في فصل القضاء بينهم‪ ،‬فيقول ‪،‬‬
‫إنني دعوت دعوة أغرقت بها أهل الرض‪ ،‬وإني أستحي من ا تعالى أن أسأله مثل ذلك‪ ،‬ولكن انطلقوا إلى إبراهيم خليل ا‬
‫تعالى‪ ،‬هو سماكم المسلمين من قبل فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام ثم يأتونه عليه السلم فيقولون له ‪ :‬يا إبراهيم يا‬
‫أبا المسلمين أنت الذيِ اتخذك ا خليلل فاشفع لنا إلى ا لعله يفصل فيما بين خلقه! فيقول لهم ‪ :‬إني كذبت في السلم ثلث كذبات‬
‫جادلت بها عن دين ا ‪ ،‬فأنا أستحي من ا أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام‪ ،‬ولكن اذهبوا إلى موسى عليه السلم فإنه اتخذه‬
‫ا كليما ل وقربه نجيا ل عسى أن يشفع لكم‪ .‬فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال يزيد شدة والموقف ضيقا ل فيأتون موسى فيقولون‬
‫له ‪ :‬يا بن عمران أنت الذيِ اتخذك ا كليما ل وقربك نجيا ل وأنزل إليك التوراة‪ ،‬فاشفع لنا في فصل القضاء فقد طال المقام واشتد‬
‫الزحام وتراكمت القدام ونادى أهل الكفر السلم من طول المقام! فيقول لهم موسى ‪ :‬إني سألت ا تعالى أن يأخذ آل فرعون‬
‫بالسنين وأن يجعلهم مثلل للخرين‪ ،‬وأنا أستحي من ا تعالى أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام مع أسباب جرت بيني وبينه في‬
‫المناجاة يلوح فيها تعريض الهلك‪ ،‬إل أنه ذو رحمة واسعة ورب غفور‪ ،‬لكن اذهبوا إلى عيسى عليه السلم فإنه من أصح‬
‫المرسلين يقينلا‪ ،‬وأكثرهم معرفة بال تعالى‪ ،‬وأشدهم زهدال وأبلغهم حكمة‪ ،‬فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال‬
‫يزيد شدة والموقف يزداد ضيقلا‪ ،‬وهو يقولون ‪ :‬حتى متى نحن من رسول إلى رسول ومن كريم إلى كريم؟ فيأتون‬
‫ص ‪567‬‬
‫عيسى عليه السلم فيقولون له ‪ :‬أنت روح ا وكلمته‪ ،‬وأنت الذيِ سماه ا وجيها ل في الدنيا والخرة‪ ،‬اشفع لنا إلى ربك في فصل‬
‫القضاء! فيقول إن قومي اتخذوني وأمي إلهين من دون ا ‪ ،‬فكيف أشفع عند من عبدت معه وسميت له ابنا ل وسمي لي أبلا‪ ،‬ولكن‬
‫أرأيتم لو كان لحدكم كيس فيه نفقة وعليه خاتم أكان يبلغ إلى ما في الكيس حتى يفيض الخاتم؟ قالوا ‪ :‬نعم يا نبي ا ‪ ،‬قال لهم ‪:‬‬
‫اذهبوا إلى سيد المرسلين وخاتم النبيين أخي العرب‪ ،‬فإنه ادخر دعوته شفاعة لمته‪ ،‬وكثيرال ما آذاه قومه ‪ :‬شجوا جبينه‪ ،‬وكسروا‬
‫ب‬‫رباعيته‪ ،‬وجعلوا بينه وبين الجنة نسبلا‪ ،‬وإنه لحسنهم فخارلا‪ ،‬وأكبرهم شرفلا‪ ،‬وهو يقول كما قال الصديق لخوته ‪ ) :‬ل دتلثهري د‬
‫حهميدن ( ) يوسف ‪ .( 92 :‬وجعل يتلو عليهم من فضائاله صلى ا عليه وسلم ما لم تمجه‬ ‫اا دلاكلم دواهدو أدلردحام الارا ه‬
‫دعدللياكام اللديلودم ديلغهفار ا‬
‫آذانهم حتى امتلت نفوسهم حرصا ل على الذهاب إليه‪ ،‬فساروا حتى أتوا إلى منبره صلى ا عليه وسلم وقالوا له ‪ :‬أنت حبيب ا‬
‫والحبيب أوجه الوسائاط‪ ،‬اشفع لنا إلى ربك! فقد ذهبنا إلى أبينا آدم فأحالنا إلى نوح‪ ،‬فذهبنا إلى نوح فأحالنا على إبراهيم‪ ،‬وذهبنا‬
‫إلى إبراهيم فأحالنا على موسى‪ ،‬فذهبنا إلى موسى فأحالنا على عيسى‪ ،‬فذهبنا إلى عيسى فأحالنا عليك صلى ا عليك وسلم‪ ،‬وليس‬
‫بعدك مطلب ول عنك مهرب‪ ،‬فيقول صلى ا عليه وسلم ‪ :‬أنا لها حتى يأذن ا لمن يشاء ويرضى‪ .‬ثم ينطلق صلى ا عليه وسلم‬
‫إلى سرادقات الجلل فيستأذن فيؤذن له‪ ،‬ثم يرفع الحجاب ويلج إلى العرش ويخر ساجدال يمكث فيها ألفلا‪ ،‬ثم يحمد ا تعالى بمحامد‬
‫ما حمده بها أحد قط‪ .‬قال بعض العارفين‪ :‬إن تلك المحامد التي أثنى ا بها على نفسه يوم فراغه من خلقه‪ .‬فيتحرك العرش تعظيما ل‬
‫وقد حاز صحيفة من الصحف التي تقدم ذكرها في ) الحياء ( والناس في تلك المدة قد ضاق مكانهم‪ ،‬وساءت أحوالهم‪ ،‬وترادفت‬
‫أهوالهم‪ ،‬وقد طوق كل واحد منهم ما بخل به في الدنيا ‪ :‬فمانع زكاة البل يحمل بعيرال على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل‬
‫العظيم‪ .‬والرغاء والخوار كالرعد القاصف‪ .‬ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالل قد ملئات من الجنس الذيِ كان يبخل به‪،‬‬
‫برال كان أو شعيرلا‪ ،‬أثقل ما يكون‪ ،‬يناديِ تحته بالويل والثبور‪ ،‬ومانع زكاة المال يحمل شجاعا ل أقرع له زبيبتان‪ ،‬وذنبه قد صب في‬
‫منخره‪ ،‬واستدار بجيده‪ ،‬وثقل على كاهله‪ ،‬حتى كأنه يطوق به كل رحى في الرض‪ .‬وكل واحد يناديِ ما هذا فتقول لهم الملئاكة ‪:‬‬
‫خالوا هبهه ديلودم اللهقديادمهة ( ) آل عمران ‪ ( 180 :‬وآخرون قد‬ ‫هذا ما بخلتم به رغبة فيه وشحا ل عليه‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ ) :‬دسايدطاواقودن دما دب ه‬
‫عظمت فروجهم وهي تسيل صديدال تتأذى بنتنهم جيرانهم‪ ،‬وآخرون قد صلبوا على جذوع النيران‪ ،‬وآخرون قد خرجت ألسنتهم‬
‫على صدورهم أقبح ما يكون‪ ،‬وهم الزناة واللطة والكاذبون‪ ،‬وآخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي‪ ،‬وهم آكلوا الربا‪.‬‬
‫وكل ذنب قد بدا سوء ذنبه ظاهرال عليه‪.‬‬
‫ص ‪568‬‬
‫فصل‬
‫فيناديِ الجليل جل جلله يا محمد ارفع رأسك‪ ،‬وقل يسمع لك‪ ،‬واشفع تشفع‪ ،‬فيقول صلى ا عليه وسلم ‪ :‬يا رب افصل بين عبادك!‬
‫وقد أفصح كل واحد بذنبه في عصات يوم القيامة‪ .‬فيأتي النداء نعم يا محمد‪ ،‬ويأمر ا بالجنة فتزخرف ويؤتى بها ولها نسيم طيب‬
‫أعبق ما يكون وأزكى‪ ،‬فيوجد ريحها مسيرة خمسمائاة عام‪ ،‬فتبرد القلوب‪ ،‬وتحيا النفوس‪ ،‬إل من كانت أعمالهم خبيثة فإنهم منعوا‬
‫من ريحها‪ ،‬فتوضع عن يمين العرش‪ .‬ثم يأمر ا تعالى أن يؤتى بالنار‪ ،‬فترعب وتفزع‪ ،‬وتقول للمرسلين إليها من الملئاكة ‪:‬‬
‫أتعلمون أن ا خلقا ل يعذبني به؟ فيقولون ‪ :‬ل وعزته! وإنما أرسل إليك لتنتقمي من عصاة ربك‪ ،‬ولمثل هذا اليوم خلقت‪ ،‬فيأتون بها‬
‫تمشي على أربع قوائام‪ ،‬تقاد بسبعين ألف زمام‪ ،‬في كل زمام سبعون ألف حلقة لو جمع حديد الدنيا كلها ما عدل منها حلقة واحدة‪،‬‬
‫على كل حلقة سبعون ألف زباني لو أمر زباني منهم أن يدك الجبال لدكها وأن يهد الرض لهدها‪ ،‬وإذا لها شهيق ودويِ وشرر‬
‫ودخان‪ ،‬تفور حتى الفق ظلمة‪ ،‬فإذا كان بينها وبين الخلق مقدار ألف عام انفلتت من أيديِ الزبانية حتى تأتي إلى أهل الموقف ولها‬
‫صلصة تصفيق وسحيق فيقال ‪ :‬ما هذا؟ فيقال ‪ :‬جنهم انفلتت من أيديِ سائاقيها ولم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها‪ ،‬فجثوا الكل‬
‫على الركب‪ ،‬حتى المتوسلون‪ ،‬ويتعلق إبراهيم وموسى وعيسى بالعرش‪ ،‬هذا قد نسي الذبيح‪ ،‬وهذا قد نسي هارون‪ ،‬وهذا قد نسي‬
‫مريم‪ ،‬ويجعل كل واحد منهم يقول ‪ :‬يا رب نفسي ل أسألك اليوم غيرها‪ .‬وهو الصح عنديِ‪ .‬ومحمد عليه الصلة والسلم يقول ‪:‬‬
‫أمتي سلمها ونجها يا رب! وليس في الموقف من تحمله ركبتاه وهو قوله تعالى ‪ ) :‬دودتدرى اكال أ اامءة دجاهثديلة اكمل أ اامءة اتلددعى إهدلى هكدتاهبدها (‬
‫) الجاثية ‪ .( 28 :‬وعند تفلتها تكبو من الحنق والغيظ وهو قوله تعالى ‪ ) :‬إهدذا درأدلتاهلم هملن دمدكاءن دبهعيءد دسهماعوا لددها دتدغميلظا دودزهفيلرا ( )‬
‫الفرقان ‪ .( 12 :‬أيِ تعظيما ل وحنقلا‪ ،‬يقول سبحانه وتعالى تكاد تميز أيِ تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها فيبرز صلى ا عليه‬
‫وسلم ويأخذ بخطامها ويقول لها ارجعي مدحورة إلى خلفك حتى تأتيك أفواجك! فتقول‪ :‬خل سبيلي فإنك يا محمد علاي حرام‪،‬‬
‫فيناديِ مناد من سرادقات العرش‪ :‬اسمعي منه وأطيعي له! ثم تجذب وتجعل على شمال العرش‪ ،‬ويتحدث أهل الموقف بجذبها‪،‬‬
‫ك هإل درلحدملة لهللدعادلهميدن ( ) النبياء ‪ .( 107 :‬فهناك ينصب الميزان‪ ،‬وهو كفتان‪ :‬كفة‬ ‫فيخف وجلهم وهو قوله تعالى ‪ ) :‬دودما أدلردسللدنا د‬
‫من نور عن يمين العرش‪ ،‬وكفة عن يساره من ظلمة‪ ،‬ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس تعظيما ل له وتواضعلا‪ ،‬إل الكفار فإن‬
‫ف دعلن دساءق دوايلددعلودن إهدلى المساجوهد دفل ديلسدتهطياعودن (‪) .‬‬ ‫أصلبهم تعود حديدال فل يقدرون على السجود وهو قوله تعالى ‪ ) :‬ديلودم ايلكدش ا‬
‫القلم ‪.( 42 :‬‬
‫ص ‪569‬‬
‫وروى البخاريِ في تفسيره مسندال إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ‪ ) :‬يكشف ا عن ساقه يوم القيامة فيسجد كل مؤمن‬
‫ومؤمنة ( وقد أشفقت من تأويل الحديث وعدلت عن منكريه‪ ،‬وكذا أشفقت من ذكر صفة الميزان وزيفت قول واضعيه بالمثل‬
‫وجعلته محيزال إلى العالم الملكوتي‪ ،‬فإن الحسنات والسيئاات أعراض‪ ،‬ول يصح وزن العراض إل بالميزان الملكوتي‪ .‬فبينما‬
‫الناس ساجدون إذ نادى الجليل بصوت يسمعه من دباعد كما يسمعه من دقارب ‪ :‬أنا الملك أنا الديان ‪ -‬حكاه البخاريِ ‪ -‬ل يجاوزني‬
‫ظلم ظالم‪ ،‬فإن جاوزني فأنا الظالم‪ .‬ثم يحكم بين البهائام‪ ،‬ويقتص للجماء من القرناء‪ ،‬ويفصل بين الوحش والطير‪ ،‬ثم يقول لها‪:‬‬
‫كوني ترابا ل! فتسوى بها الرض‪ .‬ويتمنى الكافر فيقول ياليتني كنت ترابا ل! ثم يخرج النداء من قبل ا ‪ :‬أين اللوح المحفوظ‪ ،‬فيرى‬
‫به هوج عظيم فيقول ا ‪ :‬أين ما سطرت فيك من توراة وإنجيل وفرقان‪ ،‬فيقول‪ :‬سلبني الروح المين‪ ،‬فيؤتى به يرعد وتصطك‬
‫ركبتاه فيقول ا ‪ :‬يا جبريل هذا اللوح يزعم أنك نقلت منه كلمي ووحيي أصدق؟ فيقول‪ :‬نعم يا رب! فيقول له‪ :‬فما فعلت فيه؟‬
‫فيقول‪ :‬أنهيت التوراة إلى موسى‪ ،‬والنجيل إلى عيسى‪ ،‬والفرقان إلى محمد صلى ا عليه وسلم‪ ،‬وانهيت إلى كل رسول رسالته‪،‬‬
‫وإلى أهال الصحف صحائافهم‪ .‬فإذا بالنداء‪ :‬يا نوح! فيؤتى به يرعد وتصطك فرائاصه فيقول له يا نوح زعم جبريل أنك من‬
‫المرسلين‪ ،‬قال‪ :‬صدق‪ ،‬فيقول له‪ :‬ما فعلت مع قومك؟ قال دعوتهم ليلل ونهارال فلم يزدهم دعائاي إل فرارال‪ .‬فإذا بالنداء‪ :‬يا قوم نوح!‬
‫فيؤتى بهم زمرة واحدة فيقال هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء‪ ،‬وينكرون الرسالة‪،‬‬
‫فيقول ا‪ :‬يا نوح ألك بينة عليهم؟ فيقول‪ :‬نعم يا رب بينتي محمد وأمته‪ ،‬فيؤتى بالنبي فيقول ا عز وجل ‪ :‬يا محمد هذا نوح‬
‫يستشهدك‪ ،‬فيشهد له بتبليغ الرسالة ويقرأ صلى ا عليه وسلم ) إهانا أدلردسللدنا انولحا ( ) نوح ‪ .( 1 :‬إلى آخرها فيقول الجليل ‪ :‬قد‬
‫وجب عليكم الحق وحقت عليكم كلمة العذاب‪ ،‬فقد حقت على الكافرين‪ ،‬فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل ول‬
‫ت دعاسد‬ ‫حساب‪ .‬ثم ينادى‪ :‬أين عاد؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح‪ ،‬فيشهد عليهم النبي وخيار أمته فيتلو ) دكاذدب ل‬
‫اللاملردسهليدن ( ) الشعراء ‪ .( 123 :‬فيؤم بهم إلى النار‪ .‬ثم ينادى‪ :‬يا صالح ويا ثمود! فيأتون فيستشهدون عندما يندكرون النبي صلى‬
‫ت دثامواد اللاملردسهليدن ( ) الشعراء ‪ .(141 :‬إلى آخر القصة‪ ،‬فيفعل بهم مثلهم‪ .‬ول يزال يخرج أمة بعد أمة‬ ‫ا عليه وسلم‪ ،‬فيتلو ) دكاذدب ل‬
‫د‬ ‫ا‬
‫ك دكهثيلرا ( ) الفرقان ‪ .( 38 :‬وقوله ‪ ) :‬ثام ألردسللدنا‬ ‫قد أخبر عنهم القرآن بيانلا‪ ،‬وذكرهم فيه إشارة‪ ،‬كقوله تعالى ‪ ) :‬دوقاارولنا دبليدن دذله د‬
‫اا دجادءلتاهلم اراسلااهلم ( )‬ ‫اراسدلدنا دتلتدرى اكال دما دجادء أ ااملة دراسولادها دكاذابوها ( ) المؤمنون ‪ .( 44 :‬وقوله ) دوالاهذيدن هملن دبلعهدههلم ل ديلعدلاماهلم هإل ا‬
‫إبراهيم ‪ .( 9 :‬وفي هذا تنبيه‬
‫صفحة ‪570‬‬
‫على أولئاك القرون الطاغية كقوم يارخ و مارخ و دوح و أسر و ما أشبه ذلك‪ ،‬حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس و تبع و قوم‬
‫إبراهيم‪ ،‬و في كل ذلك ل يروج‪ ،‬أيِ يرتفع لهم ميزان‪ ،‬و ل يوضع لهم حساب‪ ،‬و هم عن ربهم يومئاذ محجوبون‪ ،‬و الترجمان‬
‫يكلمهم لان من نظر إليه ا و كلمه لم يعذب‪ .‬ثم ينادى بموسى فيأتي و هو يرعد كأنه ورقة في ريح عاصف فيقول له‪ :‬يا موسى‬
‫إن جبريل زعم أنه بلغك الرسالة و التوراة‪ ،‬فتشهد له بالبلغ؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال ‪ :‬فارجع إلى منبرك و اتل ما أوحي إليك! فيرقى‬
‫المنبر و يقرأ فينصت كل من في الموقف‪ ،‬فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسبها يوم أنزلت حتى يتوهم الخبار أنهم ما عرفوها‬
‫يولما‪ .‬ثم ينادى‪ :‬يا داود فيأتي و هو يرعد كأنه ورقة في ريح عاصف‪ ،‬و يقول جل ثناؤه‪ :‬يا داود زعم جبريل أنه بلغك الزبور‪،‬‬
‫فتشهد له بالبلغ؟ قال‪ :‬نعم يارب‪ ،‬فيقول له‪ :‬فارجع إلى منبرك و اتل ما أوحي إليك فيرقى و يقرأ و هو أحسن صولتا‪ .‬و في‬
‫الصحيح أنه صاحب مزامير أهل الجنة‪ .‬فيسمع صوته أمام تابوت السكينة‪ ،‬فيقتحم الجموع و يتخطى الصفوف حتى يصل إلى‬
‫داود‪ ،‬فيتعلق به فيقول‪ :‬أما وعظك الزبور حتى نويت لي شلرا؟ فيخجله و يسكته مفحلم‪ ،‬فيرتج الموقف لما يرى الناس من شأن‬
‫داود عليه السلم‪ .‬ثم يتعلق به فيسوقه إلى ا‪ ،‬فيرخى عليهم الستر‪ ،‬فيقول ‪ :‬يارب أنصفني منه! فإنه تعمدني بالهلك‪ ،‬و جعلني‬
‫أقاتل حتى قتلت‪ ،‬و تزوج امرأتي و عنده يومئاذ تسع و تسعون امرأة غيرها‪ ،‬فيلتفت الجليل إلى داود فيقول له‪ :‬أصدق فيما يقول؟‬
‫فيقول له‪ :‬نعم يارب‪ ،‬و هو منكس رأسه حيالء و توقلعا لما ينزل به من العذاب‪ ،‬و رجاء فيما وعده ا من المغفرة‪ ،‬فكان إذا خاف‬
‫نكس رأسه‪ ،‬و إذا طمع و رجا رفعه‪ ،‬فيقول ا تعالى‪ :‬قد عوضتك عن ذلك كذا و كذا من القصور و الولدان‪ ،‬فيقول‪ :‬رضيت‬
‫يارب‪ .‬ثم يقول لداود‪ :‬اذهب قد غفرت لك‪.‬‬
‫و كذا شأنه سبحانه و تعالى مع من أكرمه‪ ،‬يعطي عنه من سعة رفده و عظيم عفوه‪ ،‬ثم يقول له‪ :‬ارجع إلى منبرك و اقرأ مما بقى‬
‫من الزبور! فيفعل حينئاذ‪ ،‬فيؤمر ببني إسرائايل أن ينقسموا قسمين‪ :‬قسم مع المؤمنين‪ ،‬و قسم مع المجرمين‪ .‬ثم يناديِ المناديِ‪ :‬أين‬
‫عيسى ابن مريم؟ فيؤتى به فيقول له‪ :‬أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون ا؟ فيحمد ما شاء ا‪ ،‬و يثني عليه كثيلرا‪ ،‬ثم‬
‫ت قاللاتاه دفدقلد دعلهلمدتاه دتلعدلام دما هفي دنلفهسي‬ ‫س هلي هبدحيق هإن اكن ا‬ ‫ك دما دياكوان هلي أدلن أداقودل دما دللي د‬ ‫يعطف على نفسه بالذم و الحتقار و يقول‪) :‬اسلبدحادن د‬
‫صدقاهلم ( المائادة‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫صاهدهقيدن ه‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ب ( المائادة‪ .116 :‬فيضحك ا تعالى و يقول‪) :‬دهذا ديوام دينفاع ال ا‬ ‫ك دأن د‬
‫ت دعلاام اللاغايو ه‬ ‫ك إهان د‬‫دولد أدلعلدام دما هفي دنلفهس د‬
‫‪ .119‬صدقت يا عيسى ارجع إلى منبرك و اتل النجيل‪.‬‬
‫صفحة ‪571‬‬
‫الذيِ بلغك جبريل فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬ثم يقرأ فتشخص إليه الرءوس من حسن ترديده و ترجيعه‪ ،‬فإنه أحكم الناس به رواية‪ ،‬فيأتي به‬
‫ضا طرليا حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا منه آيه قط‪ .‬ثم ينقسم النصارى فرقتين‪ :‬المجرمون مع المجرمين‪ ،‬و المؤمنون مع‬ ‫غ ل‬
‫المؤمنين‪ .‬ثم يخرج النداء‪ :‬أين محمد؟ فيؤتى به صلى ا عليه و سلم فيقول له‪ :‬يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن‪ ،‬فيقول‬
‫ضا طرليا عليه حلوة يستبشر بها‬ ‫نعم يارب‪ ،‬فيقول له‪ :‬ارجع إلى منبرك و اقرأ ! فيتلو صلى ا عليه و سلم القرآن فيأتي به غ ل‬
‫المتقون‪ ،‬و إذا وجوههم ضاحكة مستبشرة‪ ،‬و المجرمين وجوههم مغبرة‪ .‬و يستدل على السؤال المتقدم للرسل و المم بقوله تعالى‪:‬‬
‫جلباتلم دقاالولا لد‬ ‫اا المراسدل دفدياقوال دمادذا أ ا ه‬ ‫)دفلددنلسأ دلدان الاهذيدن أ الرهسدل إهلدليههلم دولددنلسأ دلدان اللاملردسهليدن ( العراف ‪ 6 :‬و قيل بقول تعالى‪) :‬ديلودم ديلجدماع ا‬
‫ب ( المائادة ‪ .109 :‬و الول أصح‪ ،‬حكيناه في الحياء لن الرسل يتفاضلون و المسيح عليه السلم‬ ‫ت دعلاام اللاغايو ه‬ ‫ك دأن د‬
‫هعللدم دلدنا إهان د‬
‫من أجلهم لنه روح ا و كلمته‪ .‬إذا تل النبي صلى ا عليه و سلم القرآن توهمت المة أنهم ما سمعوه قط‪ ،‬و قد قالوا للصمعي‪:‬‬
‫تزعم أنك أحفظهم لكتاب ا تعالى‪ ،‬قال‪ :‬يابن أخي يوم أسمعه من النبي صلى ا عليه و سلم كأني ما سمعته قط‪ .‬فإذا فرغت‬
‫قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرادقات الجلل‪) :‬دوالمدتاازوا اللديلودم أدميدها اللاملجهرامودن ( يس‪ .59 :‬فيرتج الموقف و يقوم فيه روع‬
‫عظيم‪ ،‬و الملئاكة قد امتزجت بالجن و الجن ببني آدم‪ .‬و لج الكل لجة واحدة‪ .‬ثم يخرج النداء‪ :‬يا آدم ابعث من نبيك بعلثا إلى النار!‬
‫فيقول‪ :‬كم يارب؟ فيقول له‪ :‬من كل ألف تسعمائاة و تسعة و تسعين إلى النار و واحلدا إلى الجنة‪ .‬فل يزال يستخرج من سائار‬
‫الملحدين و الغافلين و الفاسقين حتى ل يبقى إل قدر حفنة الرب كما قال الصديق‪ :‬نحو حفنة من حفنات الرب‪ .‬ثم يقرب اللعين من‬
‫الشياطين فمنهم من يزيغ له الميزان فإذا سيئااته ترجح على حسناته‪ ،‬و كل من وصلت له الشريعة لبد له من الميزان‪ .‬فإذا اعتزلوا‬
‫ب‬
‫حدسا ه‬ ‫ا دسهرياع الل ه‬ ‫و أيقنوا أنهم هالكون قالوا‪ :‬آدم ظلمنا و مكن الزبانية من نواصينا‪ ،‬فإذا النداء من قبل ا تعالى )ل ا‬
‫ظللدم اللديلودم إهان ا د‬
‫( غافر‪ .17 :‬فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق و المغرب فيه جميع أعمال الخلئاق‪ ،‬فما من صغيرة و ل كبيرة إل‬
‫ك أددحلدا ( الكهف‪49 :‬‬ ‫أحصاها ) دول ديلظلهام درمب د‬
‫و ذلك أن أعمال الخلئاق كل يوم تعرض على ا فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم و هو قوله تعالى‪) :‬ديلودم‬
‫دتلشدهاد دعدلليههلم أدللهسدناتاهلم دوأدليهديههلم دوأدلراجلااهم هبدما دكاانوا ديلعدمالودن ( النور ‪ .24 :‬و قد جاء الخبر أن رجلل منهم يوقف بين يديِ ا تعالى‬
‫فيقول له‪ :‬يا عبد السوء كنت مجرلما عاصليا‪ ،‬فيقول‪ :‬ما فعلت‪ ،‬فيقال له‪ :‬عليك بينة فيؤتى بحفظته فيقول‪ :‬كذبوا علي‪،‬‬
‫صفحة ‪572‬‬
‫س اتدجاهدال دعن انلفهسدها ( النحل ‪ 111 :‬و يختم على فيه و هو قوله تعالى‪:‬‬ ‫ف‬‫ل‬ ‫د‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫م‬ ‫ا‬
‫ك‬ ‫تي‬ ‫ه‬ ‫و يجادل على نفسه و هو قوله تعالى ‪) :‬ديلودم دتأل‬
‫ء‬
‫)اللديلودم دنلخهتام دعدلى أدلفدواههههلم دواتدكلرَامدنا أدليهديههلم دودتلشدهاد أدلراجلااهلم هبدما دكاانوا ديلكهسابودن ( يس‪ .65 :‬فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار‪،‬‬
‫فيجعل يلوم جوارحه فتقول له‪ :‬ليس عن اختيارنا‪ ،‬أنطقنا ا الذيِ أنطق كل شيء‪ .‬ثم يدفعون بعد الفراغ إلى خزنة جهنم فترتج‬
‫أصواتهم بالبكاء و الضجيج‪ ،‬و يكون لهم رجة عظيمة حين يعرض الموحدون المؤمنون‪ ،‬فتحدق بهم الملئاكة تلقى كل واحد منهم‬
‫يقول‪ ) :‬دهدذا ديلواماكام الاهذيِ اكناتلم اتودعادودن ( النبياء ‪ .103 :‬و الفزع الكبر في أربعة مواضع‪ :‬عند نقر اناقور‪ ،‬و عند تفلت جهنم من‬
‫الخزنة‪ ،‬و عند إخراج بعث آدم‪ ،‬و عند دفعهم إلى الخزانة‪ .‬فإذا بقى الموقف ليس فيه إل المؤمنون‪ ،‬و المسلمون المحسنون‪ ،‬و‬
‫العارفون‪ ،‬و الصديقون‪ ،‬و الشهداء‪ ،‬و الصالحون‪ ،‬و المرسلون‪ ،‬ليس فيهم مرتاب و ل منافق و ل زنديق فيقول ا تعالى‪ :‬يا أهل‬
‫الموقف من ربكم؟ فيقولون‪ :‬ا‪ ،‬فيقول لهم‪ :‬تعرفونه؟ فيقولون ‪ :‬نعم‪ ،‬يسار العرش لو جعلت البحار سبعة في نقرة إبهامه ما‬
‫ظهرت فيقول لهم‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬بأمر ا‪ ،‬فيقولون‪ :‬نعوذ بال منك! فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الربعة عشر‬
‫في نقرة إبهامه ما ظهرت فيقول لهم‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيتعوذون بال منه‪ .‬ثم يتجلى لهم ا تعالى في الصورة التي كانوا يعرفونها و‬
‫سمعوه و هو يضحك فيسجدون له جميعهم فيقول أهلل بكم‪ ،‬ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط و‬
‫الناس أفواج‪ ،‬أعني المرسلين ثم النبيين ثم الصديقين ثم المحسنين ثم الشهداء ثم المؤمنين ثم العارفين‪ ،‬و يبقى المسلمون منهم‬
‫المكبوب على وجهه‪ ،‬و منهم المحبوس في العراف‪ ،‬و منهم قصروا عن تمام اليمان‪ ،‬و منهم من يجوز الصراط على مائاة عام‪،‬‬
‫و آخر يجوز على ألف عام‪ ،‬و مع ذلك ل تحرق النار كل من رأى ربه عيالنا ل يضام في رؤيته‪ .‬و أم ا المسلم و المحسن و المؤمن‬
‫فقد كشفنا عن مقام كل واحد منهم في كتابنا المسمى " بالستدراج " و هم في زمرة النطلق قد كثر مرورهم و ترددهم بالجوع و‬
‫العطش‪ ،‬قد تفتت أكبادهم‪ ،‬لهم نفس كالدخان‪ ،‬يشؤبون من الحوض بكئاوس عدد نجوم السماء‪ ،‬و ماؤه من نهر الكوثر‪ ،‬و قدره من‬
‫ل‪ ،‬و عرضه من عدن إلى يثرب‪ ،‬و هو قوله عليه الصلة و السلم‪ " :‬منبريِ على حوضي " أيِ على أحد‬ ‫إيلياء إلى صنعاء طو ل‬
‫حافتيه في المكيال و المقدار‪ ،‬و المذادون عنه هم المشتغلون في حبس الصراط بمساويِء قبائاح ذنوبهم‪ ،‬فكم من متوضيء ل‬
‫يحسن أن يسبغ وضوءه‪ ،‬و كم من مصل لم يسأل عن صلته اتخذ صلته حكاية قد عريت من الخضوع و الخشوع لو قرصه نملة‬
‫للتفت‪ ،‬و العارفون بجلل ا لو قطعت أيديهم و أرجلهم ما ارتجوا‪ ،‬لذلك شغلتهم الهيبة و الفكرة لعلمهم بقدر من قاموا بين يديه‪،‬‬
‫فربما رجل لسعته العقرب في‬
‫صفحة ‪573‬‬
‫مجلس أمير المراء لم يتحرك صبلرا عليها و تعظيلما للمير في المجلس‪ ،‬فهذه حالة الدميين مع المخلوق ل يملك لنفسه ضلرا و ل‬
‫نفلعا‪ ،‬فكيف حال من يكون قائالما بين يديِ ا عز و جل و هيبته و سلطانه و عظمته و جبروته! و حكى الظالم العارف أنه يؤتى به‬
‫إلى ا تعالى فتخرج عليه المظالم و يتعلق به المظلوم فيقول له‪ :‬التفت أيها المظلوم فوق رأسك! فإذا بقصر عظيم تحار فيه‬
‫البصار فيقول‪ :‬ما هذا يارب؟ فيقول‪ :‬إنه للبيع فاشتره مني ! فيقول‪ :‬ليس معي ثمنه‪ ،‬فيقول‪ :‬إن ثمن هذا أن تبريِء مظلمة أخيك‬
‫فالقصر لك‪ ،‬فيقول قد فعلت يارب‪ .‬هكذا يفعل ا بالظالمين الوابين و هو قوله تعالى‪) :‬دفإهاناه دكادن لهلداواهبيدن دغافولرا ( السراء‪.25 :‬‬
‫والواب الذيِ أقلع عن الذنب فلم يعد أبلدا‪ ،‬و قد سمى داود عليه السلم أوالبا و غيره من المرسلين‪.‬‬
‫فصل في كيفية دعاء أهل الموقف و ذكر الختلف فيما جاء تفسيره‬
‫و في الصحيح أن أول ما يقضي ا تعالى في الدماء‪ ،‬و أول من يعطي ا أجورهم الذين ذهبت أبصارهم‪ .‬نعم ينادى يوم القيامة‬
‫بالمكفوفين فيقال لهم‪ :‬أنتم أحرى‪ ،‬أيِ أحق من ينظر إليه‪ ،‬ثم يستحي ا منهم فيقول لهم‪ :‬اذهبوا إلى ذات اليمين ! و يعقد لهم راية‪،‬‬
‫و تجعل في يد شعيب عليه السلم‪ ،‬فيصير أمامهم و معهم من ملئاكة النور ما ل يحصي عددهم إل ا‪ ،‬يزفونهم كما تزف‬
‫العروس‪ ،‬فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف‪ ،‬و صفة أحدهم في الصبر و الحلم كابن عباس و من ضاهاه من هذه المة‪ .‬ثم‬
‫ينادى‪ :‬أين أهل البلء؟ و يريد المجذومين‪ ،‬فيؤتى بهم فيحييهم ا بتحية طيبة بالغة‪ ،‬فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية‬
‫خضراء‪ ،‬ثم تجعل في يد يوسف عليه السلم و يصير أمامهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء و تجعل بيد أيوب عليه‬
‫السلم فيصير أمامهم إلى ذات اليمين و صفة المبتلى صبر و حلم ‪ :‬كعقيل بن أبي طالب و من ضاهاه من هذه المة‪ .‬ثم يأمر بهم‬
‫إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء‪ ،‬ثم تجعل في يد يوسف عليه السلم و يصير أمامهم إلى ذات اليمين‪ ،‬و صفة الشباب‬
‫صبر و حلم كراشد بن سليمان و من ضاهاه من هذه المة‪ .‬ثم يخرج النداء ‪ :‬أين المتحابون في ا؟ فيؤتى بهم إلى ا فيترحب بهم‬
‫و يقول ما شاء ا‪ ،‬ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين‪ ،‬و صفة المتحابين في ا صبر و حلم ل يسخط و ل يسيء من توارد الحوال‬
‫النيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي ا عنه و من ضاها من هذه المة‪ .‬ثم يخرج النداء‪ :‬أين الباكون من خشية ا؟‬
‫فيؤتى بهم إلى ا فتوزن دموعهم و دماء الشهداء و مداد العلماء فيرجح الدمع‪ ،‬فيؤمر بهم إلى ذات اليمين‬
‫صفحة ‪574‬‬
‫و يعقد لهم راية ملونة لنهم بكوا في أنواع مختلفة‪ :‬هذا بكى خولفا‪ ،‬و هذا بكى طملعا‪ ،‬و هذا بكى ندلما‪ ،‬و تجعل بيد نوح عليه السلم‬
‫فتهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون علمنا أبكاهم‪ ،‬فإذا النداء‪ :‬على رسلك يا نوح ! فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء و دم‬
‫الشهداء فيرجح دم الشهداء على مداد العلماء‪ ،‬فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية مزعفرة و تجعل في يد يحي ثم ينطلق‬
‫أمامهم‪ ،‬فهم العلماء بالتقدم‪ ،‬و يقولون‪ :‬عن علمنا قاتلوا‪ ،‬فنحن أحق منهم بالتقدم فيضحك ا عز و جل و يقول‪ :‬هم عنديِ كأنبيائاي‬
‫اشفعوا فيمن تشاءون ! فيشفع العالم في أهل بيته و جيرانه و إخوانه‪ ،‬ويامر كل واحد منهم مللكا يناديِ في الناس‪ :‬أل إن فللنا العالم‬
‫قد أمره ا أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة أو سقاه شربة ماء حين عطش‪ ،‬فيقوم إليه من فعل معه شيلئاا من ذلك فيشفع‬
‫له‪ .‬و في الصحيح ) إن أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم العلماء (‪ ،‬و يعقد لهم راية بيضاء تجعل في يد إبراهيم عليه السلم‬
‫فإنه أشد المرسلين مكاشفة‪ .‬و نضرب عن هذا الفن‪ .‬ثم يناديِ مناد‪ :‬أين الفقراء؟ فيؤتى بهم إلى ا تعالى‪ ،‬فيقول لهم‪ :‬مرحلبا بمن‬
‫كانت الدنيا سجنهم‪ ،‬ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين و تعقد لهم راية صفراء و تجعل في يد عيسى عليه السلم و يصير أمامهم إلى‬
‫ذات اليمين‪ .‬ثم ينادى‪ :‬أين الغنياء؟ فيؤتى بهم إلى ا تعالى فيعدد لهم ما خولهم خمسمائاة عام‪ ،‬ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين و تعقد‬
‫لهم راية ملونة و تجعل بيد سليمان عليه السلم و يصير أمامهم إلى ذات اليمين‪ .‬و في الحديث‪ ) :‬إن أربعة يستشهد عليهم بأربعة‪:‬‬
‫ينادى بالغنياء و أهل الغبطة فيقال لهم‪ :‬ما شغلكم عن عبادة ا؟ فيقولون‪ :‬أعطانا مللكا و غبطة شغلتنا عن القيام بحقه‪ ،‬فيقال‪ :‬من‬
‫أعظم مللكا أنتم أم سليمان؟ فيقولون‪ :‬سليمان‪ ،‬فيقال‪:‬ما شغله ذلك عن القيام بحقي‪ .‬ثميقال‪ :‬أين أهل البلء؟ فيؤتى بهم فيقولون لهم‪:‬‬
‫أيِ شيء شغلكم عن عبادة ا؟ فيقولون‪ :‬ابتلنا ا في الدنيا فشغلنا عن ذكره و القيام بحقه‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬من أشد بللء أنتم أم أيوب؟‬
‫فيقولون‪ :‬أيوب‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬ما شغله ذلك عن القيام بحق ا‪ .‬ثم ينادى أين الشباب و المماليك؟ فيؤتى بهم فيقال لهم‪ :‬أيِ شيء‬
‫شغلكم عن عبادة ا؟ فيقولون‪ :‬أعطانا جمالل و حسلنا فتنا به فكنا مشغولين عن القيام بحقه‪ ،‬و تقول المماليك‪ :‬شغلنا رق العبودية‪،‬‬
‫فيقال لهم أنتم أكثر جمالل أم يوسف؟ فيقولون‪ :‬يوسف‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬ما شغله ذلك و هو في الرق عن القيام بحق ا‪ .‬ثم ينادى‪ :‬أين‬
‫الفقراء؟ فيؤتى بهم فيقال لهم‪ :‬ما شغلكم عن القيام بحق ا؟ فيقولون‪ :‬ابتلينا في الدنيا بالفقر فشغلنا عن القيام بحق ا‪ ،‬فيقال لهم‬
‫من أشد فقلرا عيسى أم أنتم؟ فيقولون‪ :‬عيسى‪ ،‬فيقال‪ :‬ما شغله عن ذكرنا(‪ .‬فمن ابتلى بشيء من هذه الربع فليذكر صاحبه‪ .‬و قد‬
‫كان صلى ا عليه و سلم يقول في دعائاه ) اللهم إني أعوذ بك من فتنة الغنى و الفقر ( فاعتبروا بالمسيح فقد صح أنه ما كان‬
‫صفحة ‪575‬‬
‫يملك شيلئاا قط‪ ،‬و قد لبس جبة صوف ‪ 20‬سنة‪ ،‬و ما كان له في سياحته إل كوز و سبحةو مشط‪ ،‬فرأى يولما رجلل يشرب بيده‬
‫فرمى الكوز و لم يمسكه بعد‪ ،‬و رأى رجلل آخر يخلل لحيته بيده فرمى المشط من يده و لم يمسكه بعد‪ .‬و كان يقول عليه السلم‪:‬‬
‫دابتي رجليِ و بيوتي كهوف الرض‪ ،‬و طعامي نباتها‪ ،‬و شرابي أنهارها‪ .‬و في بعض الصحف المنزلة‪ :‬يابن آدم حسنة و سيئاة‬
‫ضا إذا استهين بكفارته و لم يقتص‪ ،‬فاحذرهما فإنه فعل عظيم‪ ،‬و الكبائار قد يرجى‬ ‫من أنواع الحياة و لقتل متعملدا و الخطأ أي ل‬
‫لصاحبها الشفاعة بعد التخليص‪ ،‬فأكرمهم يخرج من النار بعد ألف سنة و قد امتحش‪ .‬و كان الحسن البصريِ رحمه ا تعالى يقول‬
‫في كلمه‪ :‬يا ليتني ذلك الرجل و ل شك أنه كان رحمه ا تعالى عاللما بأحكام الخرة‪ .‬و يؤتى يوم القيامة برجل لم يجد حسنة‬
‫ترجح بها ميزانه أو قد اعتدلت بالسوية فيقول ا تعالى رحمة منه‪ :‬اذهب في الناسس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة‪ ،‬فيسير‬
‫يجوس خلل الناس فما يجد أحلدا يكلمه في ذلك‪ ،‬و كل من كلمه و سأله يقول‪ :‬أخشى أن يخف ميزاني أنا أحوج إليها منك‪ ،‬فييأس‬
‫فيقول له رجل‪ :‬ما الذيِ تطلب؟ فيقول له‪ :‬حسنة واحدة‪ ،‬فلقد مررت بقوم لهم منها ألوف فبخلوا علي‪ ،‬فيقول له الرجل‪ .‬لقد لقيت‬
‫ا تعالى فما وجدت في صحيفتي إل حسنة واحدة و ما أظن أنها تغني عني فخذها هبة مني إليك‪ ،‬فينطلق بها فرلحا مسرولرا فيقول‬
‫ا له‪ :‬كيف جاء لك؟ و هو سبحانه أعلم‪ ،‬فيقول ما كان منه مع الرجل‪ ،‬فيدعى بالرجل الذيِ أعطاه الحسنة فيقول ا تعالى‪ :‬كرمي‬
‫أوسع من كرمك‪ ،‬خذ بيد أخيك و انطلق إلى الجنة ! و إذا استوى كفتا الميزان لرجل فيقول ا‪ :‬ل هو من أهل الجنة و ل هو من‬
‫أهل النار‪ ،‬فيأتي الملك بصحيفة يضعها في كفة السيئاات فيها مكتوب أف فترجح على الحسنة لنها كلمة عقوق‪ ،‬فيؤمر به إلىالنار‬
‫فيلتفت الرجل و يطلب أن يرده ا إليه‪ ،‬فيقول‪ :‬ردوه ثم يقول له ‪ :‬أيها العبد العاق ليِ شيء تطلب؟ فيقول‪ :‬إلهي إني رأيت أني‬
‫سائار إلى النار لبد لي منه‪ ،‬و كنت عالقا لبي فضعف علي عذاب أبي و أنقذه منها! قال فيضحك ا و يقول‪ :‬عققته في الدنيا و‬
‫بررته في الخرة‪ ،‬خذ بيد أبيك و انطلق به إلى الجنة ! فما من أحد يذهب به إلىالنار إل و الملئاكة توقفه لعلمهم بسر أحكام الخرة‪،‬‬
‫حتى لقد ينادى بقوم ل خلق لهم خلقوا حطلبا لها و حشلوا فيقال‪ ) :‬دوهقافواهلم إهاناهم املسائاوالودن ( الصافات‪ .24 :‬فنحبس تلك الزمرة‬
‫صارودن ( الصافات‪ .25 :‬فيستسلمون و يعترفون بالذنب كما قال ا تعالى‪) :‬دفالعدتدرافوا هبدذنهبههلم‬ ‫حتى يخرج النداء فيهم‪) :‬دما لداكلم ل دتدنا د‬
‫( الملك‪ .11:‬فيدفعون دفعة واحدة إلى النار‪ .‬و كذا يؤتى بأهل الكبائار من المة شيولخا و عجائاز و نسالءا و شبالبا‪ ،‬فإذا نظر إليهم‬
‫مالك خازن جهنم قال‪ :‬أنتم معاشر الشقياء مالي أرى أيديكم ل تغسل و لم تسودوجوهكم؟ ما ورد‬
‫صفحة ‪576‬‬
‫علي أحسن حالل منكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا مالك نحن أشقياء أمة محمد دعنا نبكي على ذنوبنا! فيقول لهم‪ :‬ابكوا فلن ينفعكم البكاء‪ ،‬فكم من‬
‫شيخ وضع يده على لحيته يقول وا شيبتاه وا طول حزناه ! و كم من كهل يناديِ وا طول مصيبتاه وا ذل مقاماه ! و كم من شاب‬
‫يناديِ وا شباباه و كم من امرأة قد قبضت على شعرها و قالت وا سوءتاه وا فضيحتاه! فإذا النداء من قبل ا تعالى‪ :‬يا مالك أدخلهم‬
‫النار من الباب الول ! فإذا همت النار أن تأخذهم يقولون بأجمعهم ‪ :‬ل إله إل ا‪ ،‬فتفر النار منهم مسيرة خمسمائاة عام‪ ،‬فيأخذون‬
‫في البكاء‪ ،‬و إذا النداء‪ :‬يا نار خذيهم يا مالك أدخلهم الباب الول ! فعند ذلك يسم صلصلة كصلصلة الرعد فإذا النار همت أن‬
‫تحرق القلوب زجرها مالك و جعل يقول‪ :‬ل تحرقي قللبا فيه القرآن‪ ،‬و كذلك وعاء لليمان‪ ،‬و ل تحرقي جبالها سجدت للرحمن !‬
‫فيعودون فيها‪ ،‬و إذا برجل يعلو صوته على صوت أهل النار فيخرج و قد امتحش فيقول ا له‪ :‬مالك أكثر أهل النار صيالحا؟‬
‫ط همن ارلحدمهة دررَبهه‬ ‫فيقول‪ :‬يارب حاسبتني و لم أقنط من رحمتك‪ ،‬و علمت أنك تسمعني فأكثرت الصياح‪ ،‬فيقول ا تعالى‪) :‬دودمن ديلقدن ا‬
‫ضاملودن ( الحجر ‪ .56 :‬اذهب فقد غفرت لك و كذا يخرج من النار فيقول ا له‪ :‬خرجت من النار فبأيِ عمل تدخل الجنة؟‬ ‫إهلا ال ا‬
‫فيقول‪ :‬يارب ما أسألك منها إل يسيلرا‪ ،‬فترفع له شجرة فيقول ا‪ :‬أرأيت إن أعطيتك هذه الشجرة تسألني غيرها؟ فيقول ل و‬
‫عزتك يارب ! فيقول ا‪ :‬هي هبة مني إليك‪ ،‬فإذا أكل منها و استظل بظلها رفعت له شجرة أخرى أحسن منها فيجعل يكثر النظر‬
‫إليها فيقول ا تعالى‪ :‬مالك لعلك أحببتها؟ فيقول‪ :‬نعم يارب‪ ،‬فيقول له‪ :‬إن أعطيتك إياها هل تسألني غيرها؟ فيقول ‪ :‬ل يارب‪ ،‬فإذا‬
‫أكل و استظل بظلها رفعت له شجرة أحسن منها فيجعل ينظر إليها فيقول ا له‪ :‬إن أعطيتك إياها تسألني غيرها؟ فيقول‪ :‬ل و‬
‫عزتك يارب ل أسألك غيرها‪ ،‬فيضحك ا عز و جل فيدخله الجنة‪ .‬و من غريب حكم الخرة أن الرجل يؤتى به إلى ا فيحاسبه و‬
‫يوبخه و توزن له حسناته و سيئااته و هو في ذلك كله يظن يقيلنا أن ا ما اشتغل إل بحسابه و وزنه‪ ،‬و لعل في تلك اللحظة حاسب‬
‫ضا‪ ،‬و ل يسمع أحدهم‬ ‫فيها آلف ألوف ما ل يحصي عدتهم إل ا‪ ،‬كل منهم يظن إن الحساب له وحده‪ ،‬و كذا ل يرى بعضهم بع ل‬
‫حددءة ( لقمان‪ .28:‬و‬ ‫كلم الخر‪ ،‬بل كل واحد تحت أستاره‪ .‬فسبحان من هذا شأنه و قوله تعالى‪) :‬اما دخللقااكلم دول دبلعاثاكلم إهلا دكدنلف ء‬
‫س دوا ه‬
‫هو في قوله سر عجيب من أسرار الملكوت‪ ،‬إذ ليس لملكه حد محدود‪ ،‬فسبحان من ل يشغله شأن عن شأن ! و في هذه الحالة يأتي‬
‫الرجل إلى ولده فيقول له‪ :‬يا بني إني كسوتك حيث ل تقدر تكسو نفسك‪ ،‬و أطعمتك طعالما و سقيتك شرالبا حيث كنت عاجلزا عن‬
‫ذلك‪ ،‬و كفلتك صغيلرا حيث كنت ل تستطيع دفع الضراء و ل جلب السراء‪ ،‬فكم من فاكهة تمنيتها‬
‫صفحة ‪577‬‬
‫فابتعتها لك‪ ،‬حسبك ما ترى من هول يوم القيامة و سيئاات أبيك كثيرة فتحمل عني منها و لو سيئاة فيخفف عني‪ ،‬و أعطني و لو‬
‫حسنة أزيدها في الميزان ! فيفر منه الولد و يقول له‪ :‬أنا أحوج منك إليها و كذلك يفعل الفصيل مع الفصيلة و الصاحب و الخ و‬
‫صيدلهتهه الاهتي اتلؤويهه ( المعارج‪:‬‬ ‫حدبهتهه دودبهنيهه ( عبس ‪ ) . 36-34 :‬دودف ه‬ ‫خيهه * دوأ ارَمهه دوأدهبيهه *دو د‬
‫صا ه‬ ‫هو قوله تعالى‪ ) :‬ديلودم ديهفمر اللدملراء هملن أد ه‬
‫‪ .13‬و في الحديث ) يحشر الناس عراة ( قالت عائاشة رضي ا عنها‪ :‬و اسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقرأ النبي صلى ا‬
‫عليه و سلم‪ ) :‬لكل امريِء منهم يومئاذ شأن يغنيه (‪ .‬لن شدة الهول و عظم الكرب تشغلهم أن ينظر بعضهم إلى بعض‪ .‬فإذا استقر‬
‫الناس في صعيد واحد طلعت عليهم سحابة سوداء فأمطرتهم صحلفا منشرة‪ ،‬فإذا صحيفة المؤمن ورقة ورد‪ ،‬و صحيفة الكافر‬
‫ورقة سدر‪ ،‬و الكل مكتوب فتتطاير الصحف فإذا هي بالميامن و المياسر‪ ،‬و ليس عن اختيار‪ ،‬و إنما هي تقع بيمينه و بشماله و هو‬
‫شولرا ( السراء‪ .13 :‬و حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد‬ ‫قوله تعالى‪) :‬دوانلخهراج دلاه ديلودم اللهقديادمهة هكدتالبا ديللدقاها دمن ا‬
‫بعد جواز الصراط‪ ،‬و هو غلط من قائاله فإنه تعين أن يرده م قد جاز الصراط‪ ،‬ففي السبعة جسور يهلك الناس‪ .‬و السبعون ألفال‬
‫الذين يدخلون الجنة بغير حساب ل يرفع لهم ميزان و ل يأخذون صحلفا‪ ،‬و إنما هي براءة مكتوب فيها ) ل إله إل ا محمد رسول‬
‫ا هذه براءة فلن بن فلن بدخول الجنة و نجاته من النار ( فإذا غفرت ذنوبه أخذ الملك بعضده و جاس به خلل الموقف و نادى‪:‬‬
‫هذا فلن بن فلن قد غفر ا له ذنوبه و سعد سعادة ل يشقى بعدها أبلدا‪ ،‬فما مر عليه شيء أسر من ذلك المقام‪ .‬و الرسل يوم‬
‫القيامة على المنابر و النبياء و العلماء على منابر صغار دونهم‪ ،‬و منبر كل رسول على قدره ‪ ،‬و العلماء العاملون على كراسي‬
‫من نوره‪ ،‬و الشهداء و الصالحون كقراء القرآن و المؤذنون على كسبان المسك‪ .‬و هذه الطائافة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين‬
‫يطلبون الشفاعة من آدم عليه السلم و نوح حتى ينتهوا إلى رسول ا صلى ا عليه و سلم‪ ،‬و قد جاء أن القرآن يأتي يوم القيامة‬
‫في صورة رجل حسن الوجه و الخلق فيشفع‪ ،‬فيشفع السلم مثله‪ ،‬فيخصم و يخاصمعن صاحبه‪ ،‬و قد ذكرنا حكاية السلم مع‬
‫عمر بن الخطاب رضي ا عنه في كتاب الحياء بعد مخاصمته‪ ،‬فيتعلق به من شاء ا فيهوى بهم إلى الجنة‪ .‬وكذلك تأتي الدنيا‬
‫في صورة عجوز شمطاء أقبح ما يكون فيقال للناس‪ :‬أتعرفون هذه؟ فيقولون‪ :‬نعوذ بال من هذه ! هذه الدنيا كنتم تتحاسدون عليها‬
‫و تتباغضون فيها‪ .‬و كذلك يؤتى بالجمعة في صورة عروس تزف‪ ،‬فيحدق بها المؤمنون‪ ،‬و يحاط بهم كثبان المسك و الكافور‪،‬‬
‫عليهم نور يتعجب منه كل من رآه في الموقف‪ ،‬فلم تزل بهم حتى تدخلهم الجنة‪ .‬فانظر إلى رحمة ا تعالى و جود القرآن و‬
‫السلم و الجمعة‪ ،‬و كيف هم أشخاص‪ :‬القرآن موجود جبروتي‪،‬‬
‫صفحة ‪578‬‬
‫و السلم ملكوتي كالصيام و الصلة والصبر‪ .‬و ل يلتفت إلى من احتج في تلشي النفس عند الموت بقوله صلى ا عليه و سلم‬
‫يوم الخندق‪ ) :‬اللهم رب الجسام البالية و الرواح الفانية ( فإن ذلك كله يحوج إلى العلوم و قد نبهنا عليه في غير هذا الكتاب‪ .‬و‬
‫قصدنا الختصار لسلوك طريق السنة‪ ،‬و ل يلتفت إلى البدع الطارئاة على الشريعة من شياطين النس‪ .‬فبشر المؤمنين بالرشاد و‬
‫سلوك المراد‪.‬‬
‫نسأل ا العصمة و التوفيق بمنه و كرمه آمين‪ .‬و حسبنا ا و نعم الوكيل‪ ،‬و صلى ا على سيدنا محمد و على آله وصحبه و سلم‪.‬‬
‫بسم اللله الرحمن الرحيم‬
‫كتاب المنقذ من الضلل‬
‫المدخل‬
‫الحمد ل الذيِ يفتتح بحمده كل رسالة و مقالة‪ ،‬و الصلة على محمد المصطفى صاحب النبوة و الرسالة‪ ،‬و على آله و أصحابه‬
‫الهادين من الضللة‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فقد سألتني أيها الخ في الدين‪ ،‬أن أبث إليك غاية العلوم و أسرارها‪ ،‬و غائالة المذاهب و أغوارها‪ ،‬و أحكي لك ما قاسيته‬
‫في استخلص الحق من بين اضطراب الفرق‪ ،‬مع تباين المسالك و الطرق‪ ،‬و ما استجرأت عليه من الرتفاع عن حضيض التقليد‬
‫إلى يفاع الستفسار‪ ،‬و ما استفدته أولل من علم الكلم و ما اجتويته ثانلي من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد‬
‫المام‪ ،‬و ما ازدريته ثاللثا من طرق التفلسف‪ ،‬و ما ارتضيته آخلرا من طريقة التصوف‪ ،‬و ما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن‬
‫أقاوبل الخلق من لباب الحق‪ ،‬و ما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة‪ ،‬و ما دعاني إلى معاودتي نيسابور بعد طول‬
‫المدة‪ ،‬فابتدرت لجابتك إلى مطلبك بعد الوقوف على صدق رغبتك‪ ،‬و قلت مستعيلنا بال و متوكلل عليه و مستوثلقا منه و ملتجئاال‬
‫إليه‪:‬‬
‫اعلموا أحسن ا تعالى إرشادكم‪ ،‬و ألن للحق قيادكم أن اختلف الخلق في الديان و الملل‪ ،‬ثم اختلف الئامة في المذاهب على‬
‫ب‬‫حلز ء‬ ‫كثرة الفرق و تباين الطرق‪ ،‬بحر عميق غرق فيه الكثرون‪ ،‬و ما نجا منه إل القلون‪ .‬و كل فؤيق يزعم أنه الناجي‪ ،‬و )اكمل ه‬
‫هبدما دلددليههلم دفهراحودن ( الروم‪ .32:‬هو الذيِ وعدنا به سيد المرسلين‪ ،‬صلوات ا عليه‪ ،‬و هو الصادق الصدوق حيث قال‪ ) :‬ستفرق‬
‫أمتي ثللثا و سبعون فرقة‪ ،‬الناجية منها واحدة ( فقد كان ما وعد أن يكون‪.‬‬
‫و لم أزل في عنفوان شبابي‪ ،‬منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الن و قد‬
‫صفحة ‪579‬‬
‫ناف السن على الخمسين‪ ،‬أقتحم لجة هذا البحر العميق‪ ،‬و أخوض غمرته غمض الجسور‪ ،‬ل خوض الجبان الحذور‪ ،‬و أتوغل في‬
‫كل مظلمة ‪ ،‬و أتهجم على كل مشكلة ‪ ،‬و أتقحم كل ورطة ‪ ،‬و أتفحص عن عقيدة كل فرقة‪ ،‬و استكشف أسرار مذهب كل طائافة‪،‬‬
‫لميز بين محق و مبطل‪ ،‬و متسنن و مبتدع ل أغادر باطنليا إل و أحب أن أطلع على بطانته‪ ،‬و ل ظاهرليا إل و أريد أن أعلم‬
‫حاصل ظهارته‪ ،‬و ل فلسفليا إل و أقصد الوقوف على كنه فلسفته‪ ،‬و ل متكللما إل و أجتهد في الطلع على غاية كلمه و مجادلته‪،‬‬
‫و ل صوفليا إل و أحرص على العثور على سر صوفيته‪ ،‬و ل متعبلدا إل و أترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ‪ ،‬و ل زنديلقا‬
‫معطلل إل و أتجسس وراءه للتنبيه لسباب جرأته في تعطيله و زندقته‪.‬‬
‫و قد كان التعطش إلى درك حقائاق المور دأبي و ديدني من أول أمريِ و ريعان عمريِ‪ ،‬غريزة و فطرة من ا وضعتا في جبلتي‬
‫‪ ،‬ل باختياريِ و حيلتي‪ ،‬حتى انحلت عني رابطة التقليد و انكسرت على العقائاد الموروثة على قرب عهد شرة الصبا‪ ،‬إذ رأيت‬
‫صبيان النصارى ل يكون لهم نشوء إل على التنصر‪ ،‬و صبيان اليهود ل نشوء لهم إل على التهود‪ ،‬و صبيان المسلمين ل نشوء‬
‫لهم إل على السلم‪ .‬و سمعت الحديث المرويِ عن رسول ا صلى ا عليه و سلم يقول‪ ) :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه‬
‫يهدانه و ينصرانه و يمجسانه ( فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الصلية و حقيقة العقائاد العارضة بتقليد الوالدين و الستاذين‪ ،‬و‬
‫التمييز بين هذه التقليدات‪ ،‬و أوائالها تلقينات‪ ،‬و في تمييز الحق منها عن الباطل اختلفات‪ ،‬فقلت في نفسي‪ :‬إنما مطلوبي العلم‬
‫بحقائاق المور‪ ،‬فل بد من طلب حقيقة العلم ما هي‪ ،‬فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذيِ يكشف فيه المعلوم انكشالفا ل يبقى معه‬
‫ريب‪ ،‬و ل يقارنه إمكان الغلط و الوهم‪ ،‬و ل يتسع القلب لتقدير ذلك‪ ،‬بل المان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارلنا لليقين مقارنة لو‬
‫تحدى بإظهار بطلنه مثلل من يقلب الحجر ذهلبا و العصا ثعبالنا‪ ،‬لم يورث ذلك شلكا و إنكالرا‪ ،‬فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من‬
‫الثلثة‪ ،‬فلو قال لي قائال‪ :‬ل‪ ،‬بل الثلثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبالنا و قلبها‪ ،‬وشاهدت ذلك منه‪ ،‬لم أشك بسببه في‬
‫معرفتي‪ ،‬و لم يحصل لي منه إل التعجب من كيفية قدرته عليه ‪ ،‬فأما الشك فيما علمته فل‪.‬‬
‫ثم علمت أن كل ما ل أعلمه على هذا الوجه و ل أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم ل ثقة به و ل أمان معه‪ ،‬و كل علم ل أمان‬
‫معه فليس بعلم يقيني‪.‬‬
‫)‪ ( 1‬مداخل السفسطة و جحد العلوم‬
‫ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلل من علم موصوف بهذه الصفة إل في الحسيات ة الضروريات‪ .‬قلت‪ :‬الن بعد حصول‬
‫اليأسل مطمه في اقتباس المشكلت إل‪.‬‬
‫‪-580-‬‬
‫من الجليات وهى الحسيات والضروريات فل بد من إحكامها أول لتيقن أثقتى بالمحسوسات وأمانى من الغلط فى الضروريات‬
‫من جنس أمانى الذى كان من قبل فى التقليديات ومن جنس أمانى أكثر الخلق فى النظريات أم هو أمان محقق لغدر فيه ول غائالة‬
‫له؟فأقبلت بجد بليغ أتأمل فى المحسوسات والضروريات وأنظر هل يمكننى أن أشكك نفسى فيها فانتهى بى طول التشكيك إلى أن‬
‫لم تسمح نفسى بتسليم المان فى المحسوسات أيضا وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة‬
‫البصر؟وهى تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتكم بنفى الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه‬
‫لم يتحرك دفعة بغتة بل على التدرج ذرة ذرة حتى لم تكن له حالة وقوف وتنظر الى الكوكب فتراه صغيرا فى مقدار الدينار ثم‬
‫الدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الرض فى المقدار وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه‬
‫حاكم العقل ويخونه تكذيبا ل سبيل إلى مدافعته فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا فلعله ل ثقة ال بالعقليات التى هى من‬
‫الوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلثة والنفى والثبات ل يجتمعان فى الشئ الواحد و الشئ الواحد ليكون حادثا قديما موجودا‬
‫معدوما واجبا محال فقالت المحسوسات بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بى فجاء حاكم العقل‬
‫فكذبنى ولول حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقى؟فلعل وراء إدراك العقل حاكما اخر إذا تجلى كذب العقل فى حكمه كما تجلى‬
‫حاكم العقل فكذب الحس فى حكمه وعدم تجلى ذلك الدراك ليدل على استحالته فتوقفت النفس فى جواب ذلك قليل وأيدت إشكالها‬
‫بالمنام وقالت أما تراك تعتقد فى النوم أمورا وتتخيل أحوال وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ول تشك فى تلك الحالة فيها ثم تستيقظ فتعلم‬
‫أنه لم يكن لجميع متخيلتك ومعتقداتك أصل وطائال فبم تأمن أن يكون جميع ماتعتقده فى يقظتك بحس أو عقل هو حق بالضافة‬
‫الى حالتك التى انت فيها لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك كنسبة يقظتك الى منامك وتكون يقظتك نوما‬
‫بالضافة اليها؟فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ماتوهمت بعقلك خيالت لحاصل لها ولعل تلم الحالة ماتدعيه الصوفية أنها‬
‫حالتهم إذ يزعمون أنهم يشاهدون فى أحوالهم التى لهم إذا غاصوا فى أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوال ل توافق هذه المعقولت‬
‫ولعل تلك الحالة هى الموت إذ قال رسول ا صلى ا عليه وسلم الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوافلعل الحياة الدنيا نوم بالضافة الى‬
‫الخرة فإذا مات ظهرت له الشياء على خلف مايشاهده الن‬
‫‪-581-‬‬
‫ويقال له عند ذلك)فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد( فلما خطرت لى هذه الخواطر وانقدحت فى النفس حاولت لذلك علجا‬
‫فلم يتيسر إذا لم يكن دفعه إل بالدليل ولم يكن نصب دليل إل من تركيبالعلوم الولية فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل‬
‫فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السقسطة بحكم الحال ل بحكم النطق والمقال حتى شفى ا تعالى من‬
‫ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على امن ويقين ولم يكن ذلك‬
‫ينظم دليل وتركيب كلم بل بنور قذفه ا تعالى فى الصدر وذلك النور مفتاح أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على‬
‫الدة المحررة فقد ضيق رحمة ا تعالى الواسعة ولما سئال رسول ا صى ا عليه وسلم عن الشرح ومعناه فى قوله تعالى)فمن‬
‫يرد ا أن يهديه يشرح صدره للسلم( النعام ‪ 125‬قال‪) :‬هو نور يقذفه ا تعالى فى القلب( فقيل وماعلمتة فقال )التجافى عن‬
‫دار الغرور والنابة الى دار الخلود( وهو الذى قال عليه السلم فيه)إن ا تعالى خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره(‬
‫فمن ذلك النور ينبغى أن يطلب الكشف وذلك النور ينبجس من الجود اللهى فى بعض الحايين ويجب الترصد له كما قال عليه‬
‫السلم )إن لربكم أيام دهركم نفحات أل فتعرضوا لها( والمقصود من ذلك هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد فى الطب حتى ينتهى‬
‫إلى طلب ما ليطلب فإن الوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب فقد واختفى ومن طلب ماليطلب فل يتهم‬
‫بالتقصير فى طلب ما يطلب‬
‫القول فى أصناف الطالبين‬
‫ولما شفانى ا تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده انحصرت أصناف الطالبين عندى فى أربع فرق‬
‫‪-1‬المتكلمون‪:‬وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر‬
‫‪-2‬الباطنية‪:‬وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصصون بالقتباس من المام المعصوم‬
‫‪-3‬الفلسفة‪:‬وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان‬
‫‪ -4‬الصوفية‪:‬وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة‬
‫فقلت فى نفسى الحق ليعدو عن هذه الصناف الربعة فهؤلء هم السالكون سبل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم فل يبقى فى درك‬
‫الحق مطمع إذ ل مطمع فى‬
‫‪-582-‬‬
‫الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته إذ من شرط المقلد أن ل يعلم أنه مقلد فأذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده وهو شعب ليرأب‬
‫وشعث ل يلم بالتلفيق والتأليف ال أن يذاب بالنار ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة‬
‫فابتدرت لسلوك هذه الطرق باستقصاء ماعند هذه الفرق مبتدئاا بعلم الكلم ومثنيا بطريق الفلسفة ومثلثا بتعليمات الباطنية‬
‫ومربعابطريق الصوفية‬
‫‪-1‬علم الكلم مقصودة وحاصله‬
‫ثم إنى ابتدأت بعلم الكلم فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين منهم وصنفت فيه ما أردت أن أصنف فصادفته علما وافيا‬
‫بمقصوده غير واف بمقصودى وانما مقصوده حفظ عقيدة اهل السنه وحراستها عن تشويش أهل البدعة فقد ألقى ا تعالى إلى‬
‫عباده على لسان رسوله عقيدة هى الحق على مافيه صلح دينهم ودنياهم كما نطق بمعرفته القران والخبار ثم ألقى الشيطان فى‬
‫وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها فأنشأ ا تعالى طائافة المتكلمين وحرك‬
‫دواعيهم لنصرة السنة بكلم مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلف السنة المأثورة فمنه نشأ علم الكلم وأهله‬
‫فلقد قام طائافة منهم بما ندبهم ا تعالى اليه فاحسنوا الذب عن السنة والنظال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة والتغيير فى وجه‬
‫مااحث البدعة ولكنهم اعتمدوا فى ذلك على مقدمات القبول من القران والخبار وكان اكثر خوضهم فى استخراج مناقضات‬
‫الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم وهذا قليل النفع فى جنب من ل يسلم سوى الضروريات شيئاا اصل فلم يكن الكلم فى حقى‬
‫كافيا ول لدائاى الذى كنت أشكوه شافيا نعم لما نشأت صنعة الكلم وكثر الخوض فيه وطالت المدة تشوف المتكلمون الى مجاوزة‬
‫الذب عن السنة بالبحث عن حقائاق المور وخاضوا فى البحث عن الجواهر والعراض وأحكامها ولكن لما لم يكن ذلك مقصود‬
‫علمهم لم يبلغ كلمهم فيه الغاية القصوى فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة فى اختلفات الخلق ول أبعد أن يكون قد‬
‫حصل ذلك لغيرى بل لست أشك فى حصول ذلك لطائافة ولكن حصول مشوبا بالتقليد فى بعض المور التى ليست من الوليات‬
‫والغرض الن حكاية حالى ل النكار على من استشفى به فإنه أدويته الشفاء تختلف باختلف الداء وكم من دواء ينتفع به مريض‬
‫ويستضر به آخر‬
‫‪-583-‬‬
‫‪-2‬الفلسفة‬
‫محصولها‬
‫المذموم منها وماليذم‬
‫ومايكفر به قائاله وما ليكفر به‬
‫ومايبتدع فيه وما ليبتدع‬
‫وبيان ماسرقه الفلسفة من كلم أهل الحق‬
‫وبيان مامزجوه بكلم أهل الحق لترويج باطلهم فى درج ذلك‬
‫وكيفية عدم قبول البشر وحصول تفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل‬
‫وكيفية استخلص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلمهم‬
‫ثم انى ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلم بعلم الفلسفة وعلمت يقينا أنه ليقف على فساد نوع من العلوم من ليقف على منتهى ذلك‬
‫العلم حتى يساوى أعلمهم فى أصل العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على مالم يطلع عليه صاحب العلم من غرره وغائاله‬
‫فإذا ذلك يمكن أن يكون مايدعيه من فساده حقا ولم أر أحدا من علماء السلم صرف عنايته وهمته الى ذلك‬
‫ولم يكن فى كتب المتكلمين من كلمهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم ال كلماتمعقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد ليظن الغترار بها‬
‫بغافل عامى فضل عمن يدعى دقائاق العلوم فعلت أن ردالمذهب قبل فهمه والطلع على كنهه رمى فى عماية فشمرت عنى ساق‬
‫الجد فى تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة باستاذ بالتدريس والفادة لثلثمائاة نفر من الطلبة ببغداد‬
‫فأطلعنى ا سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة فى هذهالوقات المختلسة على منتهى علومهم فى أقل من سنتين ثم لم أزل أواظب‬
‫على التفكير فيه بعد فهمه قريبا من سنة اعاوده وأردده وأتفقد غوائاله وأغواره حتى اطلعت على مافيه من خداع وتلبيس وتحقيق‬
‫وتخييل واطلع لم أشك فيه‬
‫فاسمع الن حكايته وحكاية حاصل علومهم فإنى رأيتهم أصنافا ورأيت علومهم أقساما وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر‬
‫واللحاد وان كان بين القدماء منهم والقدمين وبين الواخر منهم والوائال تفاوت عظيم فى البعد عن الحق والقرب منه‬
‫‪-584-‬‬
‫أصناف الفلسفة واتصاف كافتهم بالكفر‬
‫أعلم أنهم على كثرة فرقهم واختلف مذاهبهم ينقسمون إلى ثلثة أقسام الدهريون والطبيعيون واللهيون‬
‫الصنف الول الدهريون وهم طائافة من القدمين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه‬
‫لبصانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا وهؤلء هم الزنادقة‬
‫الصنف الثانى الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائاب الحيوان والنبات وأكثروا الخوض فى تشريح‬
‫أعضاء الحيوانات فرأوا فيها من عجائاب صنع ا تعالى وبدائاع حكمته مااضطروا معه الى العتراف بقادر حكيم مطلع على‬
‫غايات المور ومقاصدها ول يطالع التشريح وعجائاب منافع العضاء مطالع ال ويحصل له هذا العلم الضرورى بكمال تدبير‬
‫البانى لبنية الحيوان ل سيما بنية النسان إل أن هؤء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عنهم لعتدال المزاج تأثير عظيم فى قوام‬
‫الحيوان به فظنوا ان القوة العاقلة من النسان تابعة لمزاجه أيضا وأنها تبطل ببطلن مزاجه فينعدم ثم أذا انعدم فل يعقل إعادة‬
‫المعدوم كما زعموا فذهبوا الى النفس تموت ول تعود فجحدوا الخرة وأنكروا الجنة والنار والحشر والنشر والقيامة والحساب فلم‬
‫يبق عندهم للطاعة ثواب ول للمعصية عقاب فانحل عنهم اللجام وانهمكوا فى الشهوات انهماك النعام‬
‫وهؤلء أيضا زنادقة ‪:‬لن أصل اليمان حد اليمان باليوم الخر وهؤلء جحدوا اليوم الخر وإن آمنوا بال وبصفاته‬
‫الصنف الثالث اللهيون وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلطون وأفلطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو‬
‫الذى رتب لهم المنطق وهذب لهم العلوم وحرر لهم مالم يكن محررا من قبل وأنضج لهم ماكان فجا من علومهم وهم بجملتهم ردوا‬
‫على الصنفين الولين من الدهرية والطبيعة وأوردوا فى الكشف عن فضائاحهم ماأغنوا به غيرهم)وكفى ا المؤمنين‬
‫القتال(بتقاتلهم ثم رد ارسطاطاليس على أفلطون وسقراط ومن كان قبله من اللهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم ال‬
‫أنه أستبقى أيضا من رذائال كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزع منها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة السلميين كابن‬
‫سينا والفارابى وغيرهما على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة السلميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما‬
‫‪-585-‬‬
‫ليس يخلو عن تخبيط وتخبيط يتشوش فيه قلب المطالع حتى ليفهم وما ليفهم كيف يرد أو يقبل؟ ومجموع ماصح عندنا من فلسفة‬
‫أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر فى ثلثة أقسام‬
‫‪-1‬قسم يجب التكفير به‬
‫‪-2‬وقسم يجب التبديع به‬
‫‪-3‬وقسم ليجب إنكاره أصل‬
‫أقسام علومهم‬
‫اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذى تطلبه ست أقسام ياضية ومنطقية وطبيعية والهية وسياسية وخلقية‬
‫‪-1‬أما الرياضية فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئاة العلم وليس يتعلق شئ منها بالمور الدينية نفيا واثباتا بل هى أمور‬
‫برهانية لسبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها وقد تولدت منها آفتان‬
‫الولى من ينظر فيها يتعجب من دقائاقها ومن ظهور براهينها فيحسن بسبب ذلك اعتقاده فى الفلسفة ويحسب أن جميع علومهم فى‬
‫الوضوح ووثاقة البرهان كهذا العلم ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيهم وتهاونهم بالشرع ماتناولته اللسن فيكفر بالتقليد المحض‬
‫ويقول لو كان الدين حقا لما اختفى على هؤلء مع تدقيقهم فى هذا العلم فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم فيستدل على ان الحق‬
‫هو الجحد والنكار للدين وكم رأيت ممن ضل عن الحق بهذا القدر ول مستند له سواه وإذا قيل لع الحاذق فى صناعة واحدة ليس‬
‫يلزم أن يكون حاذقا فى كل صناعة فل يلزم أن يكون الحاذق فى الفقه والكلم حاذقا فى الطب ول أن يكون الجاهل بالعقليات‬
‫جاهل بالنحو بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم فى غيرها فكلم الوائال فى‬
‫الرياضيات برهانى وفى اللهيات تخمينى ل يعرف ذلك ال من جربه وخاض فيه فهذا إذا قرر على هذا الذى اتخذ بالتقليد لم يقع‬
‫منه موقع القبول بل تحمله غلبة الهوى وشهوة البطالة وحب التكايس على ان يصر على تحسين الظن بهم فى العلوم كلها‬
‫فهذه آفة عظيمة لجلها يجب زجر كل من يخوض فى تلك العلوم فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين لكن لما كانت من مبادئ علومهم‬
‫يسرى اليه شرهم وشؤمهم فقل من يخوض فى آفة إل وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى‬
‫‪-586-‬‬
‫الفة الثانية نشأت من صديق للسلم جاهل ظن أن الدين ينبغى أن ينصر بإنكار كل علم منسوب اليهم فأنكر جميع علومهم‬
‫وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم فى الكسوف والخسوف وزعم أن ماقالوه على خلف الشرع فلما قرع ذلك سمع من عرف‬
‫ذلك البرهان القاطع لم يشك فى برهانه لكن اعتقد أن السلم مبنى على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حبا وللسلم‬
‫بغضا ولقد عظم على الدين جناية من ظن ان السلم ينصر بإنكار هذه العلوم وليس فى الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفى‬
‫والثبات ول فى هذه العلوم تعرض للمور الدينية وقوله عليه السلم)إن الشمس والقمر آيتان من آيات ذكر ا تعالى ل ينخسفان‬
‫لموت أحد ول لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر ا تعالى وإلى الصلة (وليس فى هذا مايوجب إنكار علم الحساب المعروف‬
‫بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتهما على وجه مخصوص أما قوله عليه الصلة والسلم)لكن ا إذا تجلى لشئ خضع‬
‫له( فليس توجد هذه الزيادة فى الصحاح أصل فهذا حكم الرياضيات وآفاتها‬
‫‪-2‬وأما المنطقيات فل يتعلق شئ منها بالدين نفيا وإثباتا بل هو النظر فى طرق الدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية‬
‫تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان وليس‬
‫فى هذا كل ماينبغى أن ينكر بل هو من جنس ماذكرة المتكلمون وأهل النظر فى الدلة وانما يفارقونهم بالعبارات والصطلحات‬
‫وبزيادة الستقصاء فى التعريفات والتشعيبات ومثال كلمهم فيها قولهم إذا ثبت أن كل )أ( )ب( لزم أن بعض )ب( )أ(أى إذا ثبت‬
‫ان كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئاية وأى لهذا بمهمات‬
‫الدين حتى يجحد وينكرفإذا أنكر لم يحصل من إنكارة عن أهل المنطق إل سوء العتقاد فى عقل المنكر بل فى دينه الذى يزعم أنه‬
‫موقوف على مثل هذا النكار نعم لهم نوع من الظلم فى هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطا يعلم أنها تورث اليقين ل‬
‫محالة لكنهم عند النتهاء الى المقاصد الدينية ماامكنهم الوفاء بتلك الشروط بل تساهلوا غاية التساهل وربما ينظر فى المنطق أيضا‬
‫من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ماينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك لبراهين فاستعجل بالكفر قبل النتهاء الى العلوم‬
‫اللهية‬
‫فهذه الفة أيضا متطرقة إليه‬
‫‪-3‬وأما علم الطبيعيات فهو يبحث عن عالم السموات وكواكبها وماتحتها من الجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار ومن‬
‫الجسام المركبة كالحيوان والنبات‬
‫‪-587-‬‬
‫والمعادن وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها وذلك يضاهى بحث الطبيب عن جسم النسان وأعضائاة الرئايسية والخادمة‬
‫وأسباب استحالة مزاجه‬
‫وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب فليس من شرطه أيضا إنكار ذلك العلم إل فى مئالمعينة ذكرناها فى كتاب )تهافت‬
‫الفلسفة(وماعداها مما يجب المخالفة فيها فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها وأصل جملتها أن يعلم أن الطبيعة مسخرة ل تعالى‬
‫لتعمل بنفسها بل هى مستعملة من جهة فاطرها والشمس والقمر والنجوم والطبائاع مسخرات بأمره ل فعل لشئ منها بذاته‬
‫‪-4‬وأما اللهيات ففيا أكثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه فى المنطق ولذلك كثر الختلف بينهم فيها‬
‫ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب السلميين على مانقله الفارابى وابن سينا ولكن مجموع ماغلطوا فيه يرجع الى‬
‫عشرين أصل يجب تكفيرهم فى ثلثة منها وتبديعهم فى سبعة عشر ولبطال مذهبهم فى هذه المسائال العشرين صنفنا كتاب‬
‫)التهافت(‬
‫أما المسائال الثلث فقد خالفوا فيها كافة المسلمين وذلك فى قولهم‬
‫‪1‬إن الجساد لتحشر وإنما المثاب والمعاقب هى الرواح المجردة والمثوبات والعقوبات روحانية لجسمانية‬
‫ولقد صدقوا فى إثبات الروحانية فإنها كائانة أيضا ولكن كذبوا فى إنكار الجسمانية وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به‬
‫‪-2‬ومن ذلك قولهم )إن ا تعالى يعلم الكليات دون الجزئايات(وهذا أيضا كفر صؤيح بل الحق أنه)ل يعزب عنه مثقال ذرة فى‬
‫السموات ول فى الرض(‬
‫‪-3‬ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأوليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شئ من هذه المسائال وأما ماوراء ذلك من نفيهم الصفات‬
‫وقولهم إنه عليم بالذات لبعلم زائاد على الذات ومايجرى مجراه فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة ول يجب تكفير المعتزلة‬
‫بمثل ذلك وقد ذكرنا فى كتاب )فيصل التفرقة بين السلم والزندقة(مايتبين فيه فساد رأى من يتسارع إلى التكفير فى كل مايخالف‬
‫مذهبه‬
‫‪-5‬وأما السياسيات فجميع كلمهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالمور الدنيوية واليالة السلطانية وإنما أخذوها من‬
‫كتب ا المنزلة على النبياء ومن الحكم المأثورة عن سلف النبياء‬
‫‪-6‬وإما الخلقية فجميع كلمهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلقها وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها‬
‫وإنما آخذوها من كلم الصوفية‬
‫‪-588-‬‬
‫وهم المتألهون المثابرون على ذكر ا تعالى وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى ا تعالى بالعراض عن ملذ الدنيا وقد‬
‫انكشف لهم فى مجاهداتهم من أخلق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ماصرحوا بها فأخذها الفلسفة ومزجوها بكلمهم توسل‬
‫بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم ولقد كان فى عصرهم بل فى كل عصر جماعة من المتألهين ل يخلى ا سبحانه العالم عنهم فإنهم‬
‫أوتاد الرض ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل الرض كما ورد فى الخبر حيث قال عليه السلم )بهم تمطرون وبهم ترزقون ومنهم‬
‫كان أصحاب الكهف(‬
‫وكانوا فى سالف الزمنة على مانطق به القرآن فتولد من مزجهم كلم النبوة وكلم الصوفية يكتبهم آفتان ‪:‬آفة فى حق القابل وآفة‬
‫فى حق الرد‬
‫‪-1‬أما الفة التى هى فى حق الراد فعظيمة إذ ظنت طائافة من الضعفاء أن ذلك الكلم إذ كان مدونا فى كتبهم وممزوجا بباطلهم‬
‫ينبغى ‪ ،‬يهجر ول يذكر بل ينكر على كل من يذكره لنهم إذ لم يسمعوه أول إل منهم فسيق ألى عقولهم الضعيفة أنه باطل ويقول‬
‫)هذا كلم النصرانى( ول يتوقف ريثما يتأمل أن النصرانى كافر باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلة‬
‫والسلم فإن لم يكن كافا إل باعتبار إنكاره فل ينبغى أن يخالف فى غير ماهو به كافر مما هو حق فى نفسه وأن كان أيضا حقا‬
‫عنده وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال ل الرجال بالحق والعاقل يقتدى بقول أمير المؤمنين على بن أبى طالب‬
‫رضى ا عنه حيث قال )لتعرف الخق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله( والعاقل يعرف الحق ثم ينظر فى نفس القول فإذا‬
‫كان حقا قبله سواء كان قائاله مبطل أو محقا بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلل عالما بأن معدن الذهب‬
‫الرغام ول بأس على الصراف إن أدخل يده فى كيس القلب وانتزع البريز الخالص من الزيف والبهرج مهما كان واثقا ببصيرته‬
‫فإنما يزجر عن معاملة القلب القروى دون الصير فى البصير ويمنع من ساحل البحر الخرق دون السباح الحاذق ويصد عن‬
‫مس الحية الصبى دون المعزم البارع‬
‫ولعمرى لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة وكمال العقل وتمام اللة فى تمييز الحق عن الباطل والهدى عن‬
‫الضللة وجب حسم الباب فى زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضللة ماأمكن إذ لسيلمون عن الفة الثانية التى سنذكرها أصل‬
‫وإن سلموا عن هذه الفة التى ذكرناها ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة فى تصانيفنا فى أسرار علوم الدين طائافة من‬
‫الذين لم تستحكم فى العلوم سرائارهم ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب‬
‫‪-589-‬‬
‫بصائارهم وزعمت أن تلك الكلمات من كلم الوائال مع أن بعضها من مولدات الخواطر ول يبعد أن يقع الحافر على الحافر‬
‫وبعضها يوجد فى الكتب الشرعية وأكثرها موجود معناه فى كتب الصوفية وهب أنها لم توجد إل فى كتبهم فإذا كان ذلك الكلم‬
‫معقول فى نفسه مؤيدا بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والي\سنة فلم ينبغى أن يهجر ويترك فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى‬
‫أن نهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل للزمنا أن نهجر كثيرا من الحق ولزمنا أن نهجر جملة آيات القرآن وأخبار الرسول‬
‫وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية لن صاحب كتاب )إخوان الصفا(وأوردها فى كتابه مستشهدا بها ومستدرجا قلوب‬
‫الحمقى بواسطتها إلى باطله ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه فى كتبهم وأقل درجات العالم أن‬
‫يتميز عن العامى الغمر فل يعاف العسل وإن وجده فى محجمة الحجام ويتحقق أن المحجمة لتتغير ذات العسل فإن نفرة الطبع‬
‫منه مبنية على جهل عامى منشؤة أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر فيظن أن الدم مستقذر لكونه فى المحجمة وليدرى أنه‬
‫مستقذر لصفته فى ذاته فإذا عدمت هذه الصفة فى العسل فكونه فى ظرفه ل يسكبه تلك الصفة فل ينبغى أن يوجب له الستقذار‬
‫وهذا وهم باطل وهو غالب على أكثر الخلق فمهما نسبت الكلم وأسندته إلى قائال حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطل وإن‬
‫أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقا فأبدا يعرفون الرجال بالحق وهو غاية الضلل هذه آفة الراد‬
‫‪-2‬ة القبول فإن من نظر فى كتهم )كإخوان الصفا( وغيره فرأى مامزجوه بكلمهم من الحكم النبوية والكلمات الصوفية ربما‬
‫استحسنها وقبلها وحسن اعتقاده فيها فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظن حصل فيها رآه واستحسنه وذلك نوع‬
‫استدراج إلى الباطل‬
‫ولجل هذه الفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر وكما يجب صون من ل يحسن السباحة عن مزالق‬
‫الشطوط يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيات يجب صون السماع عن مختلط‬
‫تلك الكلمات وكما يجب على المعزم أن ليمس الحية بين يدى ولده الطفل إذا علم أنه سيقتدى به ويظن أنه مثله بل يجب عليه أن‬
‫يحذره بأن يحذر هو فى نفسه ول يمسها بين يديه فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله وكما أن المعزم الحاذق إذا أخذ الحية وميز‬
‫بين الترياق والسم فاستخرج منه الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه وكذلك الصراف الناقد البصير‬
‫إذا أدخل يده فى كيس القلب وأخرج منه البريز‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫الخالص ‪ ،‬واطرح الزيف والبهرج فليس له أن يشح بالجيد المرضي علي من يحتاج ‪ ،‬كذلك العالم ‪ .‬وكما أن المحتاج إلي التريقا ‪،‬‬
‫إذا اشمأزت نفسه منه ‪ ،‬حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم ‪ ،‬وجب تعريفه والفقير المضطر إلي المال إذا نفر‬
‫عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلب وجب تنيهه علي أن نفرته جهل محض ‪ ،‬وهو سبب حرمانه عن الفائادة التي هي‬
‫مطلبه‪ ،‬وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد ل يجعل زيفا كما ل يجعل الزيف جيدا فكذلك قرب الجوار بين الحق‬
‫والباطل ل يحق باطل‪ ،‬كما ليجعل الباطل حقا‬
‫فهذا مقدار ما أردناه من آفة الفلسفة وغائالتها ‪.‬‬
‫‪ -3‬القول في مذهب التعليم وغائالته‬
‫ثم إني فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييق ما يزيف منه ‪ ،‬علمت أن ذلك أيضا غير واف بكمال الغرض وأن العقل‬
‫ليس مستقل بالحاطة بجميع المطالب ‪ ،‬ول كاشفا للغطاء عن جميع المعضلت وكان قد نبغت نابغة التعليمية وشاع بين الخلق‬
‫تحدثهم بمعرفة معني ألمور من جهة المام المعصوم القائام بالحق عن لي أن أبحث عن مقالتهم لطلع علي ما في كتبهم ثم اتفق‬
‫أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلفة ‪ ،‬بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم ‪ ،‬فلم يسعني مدافعته‪ ،‬وصار ذلك مستحثا‬
‫من خارج ‪ ،‬ضميمة للباعث الصلي من الباطن‪ ،‬فابتدأت يطلب كتبهم وجع مقالتهم وكان قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة‬
‫التي ولدتها خواطر أهل العصر ل علي المنهج المعهود من سلفهم‪ ،‬فجمعت تلك الكلمات ورتبتها ترتيبا محكما مقارنا للتحقيق‬
‫واستوفيت الجواب عنها حتي أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم ‪ ،‬وقال ‪ " :‬هذا سعي لهم‪ ،‬فإنهم كانوا‬
‫يععجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لول تحقيقك لها وترتييك إياها " وهذا النكار من وجه حق‪ ،‬فلقد أنكر أحمدبن‬
‫حنبل علي الحارث‬
‫المحاسبي رحمها ا تصنيفه في الرد علي المعتزلة فقال الحارث ‪ " :‬الرد علي البدعة فرض " فقال أحمد " نعم‪ ،‬ولكن حكيت‬
‫شبهتهم أول ثم أجبت عتها‪ ،‬فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ول يلتفت إلي الجواب‪ ،‬أو ينظر إلي الجواب‪ ،‬ول يفهم‬
‫كنهه؟"‬
‫وما ذكره أحمد حق‪ ،‬ولكن في شبهة لم تنشر ولم تشتهر‪ ،‬فأما إذا انتشرت‪ ،‬فالجواب عنها واجب وليمكن الجواب عنها إل بعد‬
‫الحكاية‪ .‬نعم‪ ،‬ينبغي أل يتكلف إيرادها ‪ ،‬ولم أتكلف أنا ذلك‪ ،‬بل كنتن قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي‬

‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬


‫المختلفين إلي‪ ،‬بعد أن قد التحق بهم‪ ،‬وانتحل مذهبهم‪ ،‬وحكي أنهم يضحكون علي تصانيف المصنفين في الرد عليهم‪ ،‬بأنهم لم‬
‫يفهموا بعد حجتهم‪ .‬وذكر تلك الحجة وحكاها عنهم فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة غن أصل حجتهم فلذلك أوردتها‪ ،‬ول أن‬
‫يظن بي أني وإن سمعتها لم أفهمها؛ فلذلك قررتها ‪.‬‬
‫والمقصود أني قررت شبهتهم إلي أقصي المكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان‪.‬‬
‫والحاصل ‪ :‬أنه ل حاصل عند هؤلء‪ ،‬ول طائال لكلمهم‪ .‬ولول سوء نصرة الصديق الجاهل‪ ،‬لما انتهت تلك البدعة مع ضعفها‪.‬‬
‫إلي هذه الدرجة؛ ولكن شدة التعصب‪ ،‬دعت الذابين عن الحق إلي تطويل النزاع معهم في مقدمات كلمهم‪ ،‬وإلي مجادلتهم في كل‬
‫ما نطقوا به‪ ،‬فجادلوهم في دعواهم " الحاجة إلي التعليم والمعلم" ودعواهم " ل يصلح كل معلم‪ ،‬بل لبد من معلم معصوم"‬
‫وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلي التعليم وإلي المعلم وضعف قول المنكرين في مقابلتهم‪ ،‬فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك‬
‫من قوة مذهبهم‪ ،‬وضعف مذهب المخالفين لهم ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجهله بطريقه بل الصواب العتراف‬
‫بالحاجة إلي المعلم‪ ،‬وأنه لبد وأن يكون المعلم معصوما‪ ،‬ولكن معلمنا المعصوم هو محمد عليه الصلة والسلم‪ ،‬فإذا قالوا ‪ :‬طهو‬
‫ميت" فنقول " ومعلمكم غائاب" فإذا قالوا ‪:‬‬
‫" معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلد وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل "‪ ،‬فنقول ‪ ":‬ومعلمنا قد علم الدعاة‬
‫وبثهم في البلد وأكمل التعليم إذ قال ا تعالي ‪ " :‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" ) المائادة ‪ (3:‬وبعد كمال التعليم ل‬
‫يضر موت المعلم كما ل يضر غيبته ‪.‬‬
‫فبقي قولهم ‪ " :‬كيف تحكمون فيما لم تسمعوه؟ أبالنص ولم تسمعوه‪ ،‬أم بالجتهاد والرأيِ وهو مظنة الخالف؟" فنقول ‪ " :‬نفعل ما‬
‫فعله معاذ إذ بعثه رسول ا صلي ا عليه وسلم إلي اليمين‪ ،‬إذ كان يحكم بالنص عند وجود النص وبالجتهاد عند عدمه؛ بل كما‬
‫يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن المام إلي أقاصي البلد<؛ إذ ل يمكنهم أن يحكموا بالنص‪ ،‬فإن النصوص المتناهية ل تستوعب الوقائاع‬
‫الغير المتناهية‪ ،‬ول يمكنهم الرجوع في كا واقعة إلي بلدة المام وإلي أن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتي قد مات وفات‬
‫النتفاع بالرجوع‬
‫فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق غل أن يصلي بالجتهاد‪ ،‬إذ لو سافر إلي بلدة المام لمعرفة القبلة‪ ،‬فلت وقت الصلة‪ ،‬فأذن‬
‫جازت الصلة إلي غير القبلة بناء علي الظن "‬
‫ويقال ‪ ":‬إن المخطئ في الجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران" فكذلك في جميع المجتهدات‪ ،‬وكذلك أمر صرف الزكاة إلي‬
‫الفقير‪ ،‬ورما يظنه بإجتهاده وهي غني باطنا ل بإخفاء ماله‪ ،‬ول يكون هو مؤخذا به وإن أخطأ‪ ،‬لنه لم يؤاخذ إل بموجب ظنه‪.‬‬

‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬


‫فإن قال ‪ " :‬ظن مخالفه كظنه " فنقول ‪ ":‬هومأمور بإتباع ظن نفسه‪ ،‬كالمجتهد في القبلة يتبع ظن نفسه وإن خالفه غيره"‪ ،‬فإن قال‪:‬‬
‫" فالمقلد يتبع أبا حنيفة أو الشافعي رحمها ا‪ ،‬أم غيرهما" فأقول ‪ " :‬فالمقلد في القبلة عند الشتباه‪ ،‬إذا اختلف عليه المجتهدون‬
‫كيف يصنع"؟‬
‫فيقول ‪ " :‬له مع نفسه اجتهاد في معرفته الفضل العلم بدلئال القبلة‪ ،‬فيتبع ذلك الجتهاد فكذلك‪ ،‬في المذاهب"‬
‫فرد الخلق إلي الجتهاد ضرورة النبياء والئامة مع العلم بأنهم قد يخطئاون‪ ،‬بل قال رسول ا صلي ا عليه وسلم ‪ ":‬أنا أحكم‬
‫بالظاهر وا يتولي السرائار" أيِ ‪ :‬أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود وربما أخطي فيه ول سبيل إلي المن من الخطأ‬
‫للنبياء في مثل هذه المجتهدات فكيف نطمع في ذلك ؟‬
‫ولهم ههنا سؤالن ‪ :‬أحدهما قولهم هذا ‪ :‬وإن صح في المجتهدات فل يصح في قواعد العقائاد‪ ،‬إذ المخطي فيها غير معذور فكيف‬
‫السبيل إليه؟ فأقول‪ ":‬قواعد العقائاد يشمل عليها الكتاب والسنة وما وراء ذلك من التفصيل والمتنازع فيه يعرف الحق فيه بالوزن‬
‫بالقسطاس المستقيم " فإن قال ‪ " :‬خصومك يخالفونك في ذلك الميزان " فأقول ‪ " :‬ل يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه‬
‫أهل المنطق‪ ،‬لنه موافق لما شرطوه في المنطق غير مخالف له‪ .‬ول يخالف فيه المتكلم‪ ،‬لنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات‪،‬‬
‫وبه يعرف الحق في الكلميات" فإن قال ‪ " :‬فإن كان في يدك مثل هذا الميزان‪ ،‬فلم ل ترفع الخلف بين الخلق؟" فأقول " لو‬
‫أصغوا إلي لرفعت الخلف بينهم وذكرت طريق رفع الخلف في كتاب " القسطاس المستقيم" فـتأمله لتعلم إنه حق وأنه يرفع‬
‫الخلق قطعا ل لو أصغوا‪ ،‬ول يصغون إليه بأجمعهم! بل قد أصغي إلي طائافة فرفعت الخلف بينهم وإمامك يريد رفع الخلف بينهم‬
‫مع عدم إصغائاهم فلم لم يرفع إلي الن ؟ ولم لم يرفع علي رضي ا عنه وهو رأس الئامة؟ أو يدعي أنه يقدر علي حمل كافتهم‬
‫علي الصفاء قهرال فلم لم يحملهم إلي الن؟ وليِ يوم أجله؟ وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إل زيادة خلف وزيادة مخالف؟‬
‫نعم !‬
‫كان يخشي من الخلف نوع من الضر ل ينتهي إلي سفك الدماء‪ ،‬وتخريب البلد‪ ،‬وإيتام الولد‪ ،‬وقطع الطريق‪،‬والغارة علي‬
‫الموال‪ .‬وقد حدث في العالم من بركات رفعكم الخلف مالم يكن بمثله عهد" فإن قال ‪ " :‬ادعيت أنك ترفع الخلف بين الخلق‬
‫ولكن المتحير بين أهل المذاهب المتعارضة والختلفات المتقابلة لم يلزمه الصغاء إليك دون خصمك وأكثر الخصوم يخالفونك‬
‫ول فرق بينك وبينهم "‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫وهذا هو سؤالهم الثاني فأقول ‪ :‬هذا أول ينقلب عليك‪ ،‬إذا دعوت هذا المتحير إلي نفسك فيقول المتحير‪:‬‬
‫بم صرت أولي من مخاليفك وأكثر أهل العلم يخالفونك؟ فليت شعريِ بماذا تجيب ! أتجيب بأن تقول إمامي منصوص عليه ؟ فمن‬
‫يصدقك في دعويِ النص وهو لم يسمع النص من الرسول ؟ وإنما لم يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم علي أختراعك وتكذيبك ثم‬
‫هب أنه سلم لك النص‪ ،‬فأن كان متحيرال في أصل النبوة فقال ‪ :‬هب أن إمامك يدلي بمعجزة عيسي فيقول ‪ :‬الدليل علي صدقي أني‬
‫أحيي أباك ‪ ،‬فأحياه فناطقني بأنه محق‪ ،‬فبماذا أعلم صدقه؟ ولم يعرف كافة الخلق صدق عيسي بهذه المعجزة‪ ،‬بل عليه من السئالة‬
‫المشكلة ما ل يدفع إل بدقيق النظر العقلي؛ والنظر العقلي ل يوثق به عندك‪ ،‬ول يعرف دللة المعجزة علي الصدق ما لم يعرف‬
‫السحر والتمييز بينه وبين المعجزة‪ ،‬وما لم يعرف أن ا ل يضل عباده‪ .‬سؤال الضلل وعسر تحرير الجواب عنه مشهور فبماذا‬
‫تدفع جميع ذلك؟ ولم يكن إمامك أولي بالمتابعة من مخالفيه ! فيرجع إلي الدلة النظرية التي تنكرها‪ ،‬فخصمه يدلي بمثل تلك الدلة‬
‫وأوضح منها‬
‫وهذه السؤال قد انقلب عليهم انقلبا عظيما ل لو اجتمع أولهم وآخرهم علي أن يجيبوا عنه جوابا لم يقدروا عليه وإنما نشأ الفساد من‬
‫جماعة من الصعفة ناظروهم فلم يشتغلوا بالقلب بل بالجواب؛ وذلك مما يطول فيه الكلم‪ ،‬ول يسبق سريعا إلي الفهام‪ ،‬فل يصلح‬
‫للفحام‬
‫فأن قال قائال ‪ :‬ط فهذا هو القلب فهل عنه جواب ؟ " فأقول ‪ :‬نعم‪ ،‬جوابه أن المتحير لو قال أنا متحير ولم يعين المسألة التي هو‬
‫متحير فيها‪ ،‬يقال له ‪ :‬أنت كمريض يقول أنا مريض‪ ،‬ول يذكر عيم مرضه‪ ،‬ويطلب علجه فيقال له‪ :‬ليس في الوجود علج‬
‫للمرض المطلق‪ ،‬بل لمرض معين من صداع أو إسهال أو غيرهما‪ .‬فكذلك المتحير ينبغي أن يعين ما هو متحير فيه‪ ،‬فإن عين‬
‫المسألة عرفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة التي ل يفهمها أحد إل ويعترف بأنه الميزان الحق الذيِ يوثق بكل ما يوزن به‪،‬‬
‫فيفهم الميزان‪ ،‬ويفهم أيضا صحة الوزن‪ ،‬كما يفهم متعلم الحساب نفس الحساب‪ ،‬وكون المحاسب المعلم عالما بالحساب وصادقا‬
‫فيه‪ .‬وقد أوضحت ذلك في كتاب " القسطاس المستقيم" في مقدار عشرين ورقة؛ فليتأمل !‪.‬‬
‫وليس المقصود الن بيا‪ ،‬فساد مذهبهم‪ ،‬فقد ذكرت ذلك عن في كتاب " المستظهريِ" أول‪ ،‬وفي كتاب " حجة الحق" ثانيا؛ وهو‬
‫جواب كلم لهم عرض علي ببغداد‪ ،‬وفي كتاب " مفصل الخلف" الذيِ هو اثنا عشر فصلل ؛ وهو جواب عرض علي بهمذان؛‬
‫وفي كتاب " الدرج" المرقوم بالجداول رابعا‪ ،‬وهو من ركيك كلمهم الذيِ عرض علي‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫بطوس‪ ،‬وفي كتاب " القسطاس المستقيم" خامسلا‪ ،‬وهعو كتاب مستقل بنسفه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار الستغناء عن‬
‫المام المعصوم لمن احاط به‬
‫بل المقصود أن هؤلء ليس معهم شئ من الشفاء المنجى من ظلمات الراء‪ ،‬بل هم عجزهم عن إقامة البرهان علي تعيين المام‪،‬‬
‫طال ما جاريناهم فصدقناهم في الحاجة إلي التعليم وإلي المعلم المعصوم‪ ،‬وأنه الذيِ عينوه ثم سألناهم عن العلم الذيِ تعلموه من‬
‫هذا المعصوم وعرضضنا عليهم إشكالت فلم يفهموها‪ ،‬فضلل عن القيام بحلها؛ فلما عجزوا أحالوا علي المام الغائاب وقالوا ‪ :‬إنه‬
‫ل‪ ،‬كالمتضمخ‬ ‫ليد من السفر إليه والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب العلم وفي التبجح بالظفر به ولم يتعلموا منه شيئاا ل اص ل‬
‫بالنجاسة يتعب في طلب الماء حتي إذا وجده لم يستعمله وبقي متضمخا ل بالخبائاث‬
‫ومنهم من ادعي شيئاا ل من علمهم‪ ،‬فكان حاصل ما ذكره شيئاا ل من ركيك فلسفة فيثاغورس‪ ،‬وهو رجل من قدماء الوائال‪ ،‬ومذهبه‬
‫أرك مذاهب الفلسفة‪ ،‬وقد رد عليه أرسطاطاليس‪ ،‬بل استرك كلمه واسترذله؛ وهو المحكي في كتاب " إخوان الصفا" وهو علي‬
‫التحقيق حشو الفلسفة‬
‫فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغث‪ ،‬ويظن بأنه ظفر بأقصي مقاصد العلوم!‬
‫فهؤلء أيضا جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم‪ ،‬فرجع حاصلهم إلي استدارج العوام وضعفاء العقول بيبان الحاجة إلي المعلم‪،‬‬
‫ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلي التعليم بكلم قويِ مفحم‪ ،‬حتي إذا ساعدهم علي الحاجة إلي المعلم مساعد وقال ‪ :‬هات علمه‬
‫وأفدنا من تعليمه ! وقف قال ‪ :‬الن إذا سلمت لي هذا فاطليه‪ ،‬فإنما غرضي هذا القدر فقط ‪ .‬إذ علم أنه لو زاد علي ذلك لفتضح‬
‫ولعجز عن حل أدني الشكالت ؛ بل عجز عن فهمه فضلل عن جوابه‬
‫فهذا حقيقة حالهم فاخبرهم تقلهم فلما خبرناهم نفضا اليد عنهم ايضا ل‬
‫‪ -4‬طرق الصوفية‬
‫ثم أني فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي علي طريق الصوفية وعلمت أن طريقهم أنما تتم بعلم وعمل؛ وكان حاصل عملهم قطع‬
‫عقبات النفس‪ ،‬والتنزه عن أخلقها المذمومة وصفاتها الخبيثة‪ ،‬حتي يتوصل بها إلي تخلية القلب عن غير ا تعالي وتحليته بذكر‬
‫ا‬
‫وكان العلم أيسر علي من العمل‪ ،‬فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لبي طالب المكي رحمه ا‪ ،‬وكتب‬
‫الحارث المحاسبي‪ ،‬والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس ا أرواحهم‪ ،‬غير ذلك من كلم‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫مشايخهم‪ ،‬حتي اطلعت عهلي كنه مقاصدهم العلمية‪ ،‬وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقها بالتعليم والسماع‪ ،‬فظهر لي أن‬
‫اخص خواصهم ما ل يمكن الوصول إليه بالتعليم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد‬
‫الشبع واسبابها وشروطهما‪ ،‬وبين أن يكون صحيحا وشعبانلا‪ ،‬وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلء‬
‫أبخرة تتصاعد من المعدة علي معادن الفكر‪ ،‬وبين أن يكون سكرانا بل السكران ل يعرف حد السكر‪ ،‬وعلمه وهو سكران وما معه‬
‫من علمه شئ‪ ،‬والصاحي يعرف حد السكر واركانه وما معه من السكر شئ والطبيب في حالة المرضي يعرف حد الصحة‬
‫وأسبابها وأدويتها وهو فاقد الصحة فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها ‪ ،‬وبين أن يكون حالك الزهد‬
‫وعزوف النفس عن الدنيا‬
‫فعلمت يقينا ل أنهم أرباب الحوال ل أصحاب القوال‪ ،‬وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته‪ ،‬ولم يبق غل ما ل سبيل إليه‬
‫بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك‬
‫وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفى العلوم الشرعية والعقليةإيمان يقيني‬
‫بال تعالي وبالنبوة وباليوم الخر‪ .‬فهذه الصول الثلثة من افيمان كانت رسخت في نفسي ل بدليل معين محرر بل بأسباب‬
‫وقرائان وتجاريب ل تدخل تحت الحصر تفاصيلها‬
‫وكان قد ظهر عنديِ أنه ال مطمع لي في سعادة الخرة إل بالتقويِ كف النفس عن الهويِ‪ ،‬وأن رأس ذلك كله قطع علقة القلب‬
‫عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور‪ ،‬والناية إلي دار الخلود‪ ،‬والقبال بكنه الهمة علي ا تعالي؛ وأن ذلك ل يتم إل بالعراض‬
‫عن الجاه والمال‪ ،‬والهرب من الشواغل والعلئاق‬
‫ثم لحظت أحوالى‪ ،‬فإذا أنا منغمس في العلئاق وقد أحدقت بي من الجوانب‪ ،‬ولحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم‪ ،‬فإذا أنا‬
‫فيها مقبل علي علوم غير مهمة ول نافعة في طريق الخرة‪ .‬ثم تفكرت في نيتي في التدريس‪ ،‬فإذا هي غير خالصة لوجه ا‬
‫تعالي‪ ،‬بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت‪ ،‬فتيقنت أني علي شفا جرف هار‪ ،‬وأني قد أشفيت علي النار إن لم أشتغل‬
‫بتلفي الحوال‬
‫فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد علي مقام الختيار‪ ،‬أصمم العزم علي الخروج من بغداد ومفارقة تلك الحوال يوما ل وأقدم فيه رجلل‬
‫وأؤخر عنه أخريِ‪ ،‬لتصدق لي رغبة في طلب الخرة بكرة إل ويحمل عليها جند الهوى حملة فتفترها عشية‪ .‬فصارت شهوات‬
‫الدنيا تجاذبني بسلسلها إلي المقام‪ ،‬ومناديِ اليمان يناديِ‪ :‬الرحيل ! الرحيل! قلم يبق من العمر إل قليل‪ ،‬وبين يديك السفر‬
‫الطويل‪ ،‬وجميع ما أنت فيه من‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫العلم‪ .‬والعمل رياء وتخييل‪ ،‬فإن لم تستعد الن للخرة فمتي تستعد؟ وإن لم تقطع الن هذه العلئاق فمتي تقطع؟ فعند ذلك تنبعث‬
‫الداعية‪ ،‬وينجزم علي الهرب والفرار‬
‫ثم يعود الشيطان ويقول هذه حالة عارضة إياك أن تطاوعها‪ ،‬فإنها سريعة الزوال‪ ،‬فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض‪،‬‬
‫والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص‪ ،‬والمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم‪ ،‬ربما التفتت إليه نفسك ول يتيسر لك‬
‫المعاودة‬
‫فلم ازل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الخرة قريبا من ستة أشهر‪ ،‬أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائاة وفي هذا‬
‫الشهر جاوز المر حد الختيار إلي الضطرار‪ ،‬إذ أقفل ا علي لساني حتي اعتقل عن التدريس‪ ،‬فكنت أجاهد نفسي أن أدرس‬
‫يوما ل واحدال تطييبا ل لقلوب المختلفين إلي‪ ،‬فكان ل ينطق لساني بكلمة واحدة ول أستطيعها البتة‪ ،‬حتي أورثت هذه العقلة فى لساني‬
‫حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب‪ ،‬فكان لينساغ لي ثريد‪ ،‬ول تنهضم لي لقمة؛ وتعديِ إلي ضعف‬
‫القويِ‪ ،‬حتي قطع الطباء طمعهم من العلج‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلي المزاج‪ ،‬فل سبيل إليه بعلج‪ ،‬إل بأن‬
‫يتراوح السر عن الهم الملم‬
‫ثم لما أحسست بعجزيِ وسقط بالكلية اختياريِ‪ ،‬التجأت إلى ا تعالي التجاء المضطر الذيِ ل حيلة له‪ ،‬فأجابني الذيِ يجيب‬
‫المضطر إذا دعاه‪ ،‬وسهل علي قلبي العراض عن الجاه والمال والولد والصحاب‪ ،‬وأظهرتعزم الخروج إلي مكة وأنا أدبر في‬
‫نفسي سفر الشام حذرا أن يطلع الخليفة وجملة ألصحاب علي عزمي في المقام بالشاك فتلطفت بلطائاف الحيل في الخروج من‬
‫بغداد علي عزم أل أعاود أبدأل واستهدفت لئامة أهل العراق كافة‪ ،‬إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون العراض عما كنت فيه سببا ل‬
‫دينيا؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب العلي في الدين وكان ذلك مبلغهم من العلم‬
‫ثم ارتبك الناس في الستنباطات‪ ،‬وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان لستشعار من جهة الولة وأما من قرب من الولة فكان‬
‫يشاهد إلحاحهم فى التعلق بي والنكباب علي وإعراضي عنهم وعن اللتفات إلي قلوبهم‪ ،‬فيقولون ‪ :‬هذا امر سماويِ‪ ،‬وليس له‬
‫سبب إل عين أصابت أهل السلم وزمرة العلم ففارقت بغداد‪ ،‬وفرت ما كان معي من المال‪ ،‬ولم أدخر إل قدر الكفاف وقوت‬
‫الطفال‪ ،‬ترخيصا ل بأن مال العراق مرصد للمصالح لكونه وقفا علي المسلمين؛ فلم ار في العالم مالل ياخذه العالم لعياله أصلح منه‬
‫ثم دخلت الشام وأقمت به قريبا من سنتين ل شغل لي إل العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة‪ ،‬اشتغالل يتزكية النفس وتهذيب‬
‫الخلق وتصفية القلب لذكر ا تعالي‪ ،‬كما كنت حصلته من علم الصوفية وكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق منارة المسجد طول‬
‫النهار وأغلق بابها علي نفسي‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫ثم رحلت منها إلي بيت المقدس‪ ،‬أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها علي نفسي‪.‬ثم تحركت في داعية فريضة الحج والستمداد من‬
‫بركات مكة والمدنية‪ ،‬وزيارة رسول ا تعالي عليه لسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات اله عليه فسرت إلي الحجاز‬
‫ثم جذبتني الهمم ودعوات الطفال إلي الوطن‪ ،‬فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه؛ فآثرت العزلة به أيضا حرصا ل‬
‫على الخلوة وتفية القلب للذكر‬
‫وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير فى وجه المراد‪ ،‬وتشوش صفوة الخلوة‪ ،‬وكان ليصفو لي الحال‬
‫في أوقات متفرقة؛ لكنى مع ذلك ل اقطع طمعى منها‪ ،‬فتدفعني عنها العوائاق وأعود إليها‪ .‬فدمت علي ذلك مقدار عشر سنين‪،‬‬
‫وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور ل يمكن إحصاؤها واستقصاؤها‪ .‬والقدر الذى‬
‫أذكره لينتفع به ‪ :‬أني علمت يقينا ل أن الصوفية هم السابقون لطريق ا تعالي خاصة‪ ،‬وأن سيرنهم أحسن السير‪ ،‬وطريقهم أصوب‬
‫الطرق‪ ،‬وأخلقهم أزكي الخلق؛ بل لو جمع عقل العقلء‪ ،‬وحكمة الحكماء‪ ،‬وعلم الواقفين علي أسرار الشرع من العلماء‪،‬‬
‫ليغيروا شيئاا ل من سيرهم واخلقهم ويبدلوا بما هو خير منه‪ ،‬لم يجدوا إليع سبيلل فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم‬
‫مقتبسة من نور مشكاة النبوة؛ وليس وراء نور النبوة علي وجه الرض نور يستضاء به‬
‫وبالجملة فماذا يقول القائالون في طريق طهارتها هي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سويِ ا تعالي‪ ،‬ومفتاحها الجاى منها‬
‫مجريِ التحريم من الصلة استغراق القلب بالكلية بذكر ا‪ ،‬وآخرها الفناء بالكلية في ا وهذا آخرها بالضافة إلي ما ل يكاد‬
‫يدخل تحت الختيار والكسب من أوائالها وهي على الحقيق أول الطريقة‪ ،‬وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه‬
‫ومن أول الطريقة تبتدئ المشاهدات والمكاشفات‪ ،‬حتي إنهم في يقظتهم يشاهدون الملئاكة وأرواح النبياء‪ ،‬ويسمعون منهم‬
‫أصواتا ل ويقتبسون منهم فوائاد ثم يترقي الحال من مشاهدة الصور والمثال إلي درجات يضيق عنها نطاق النطق‪ ،‬فل يحاول معبر‬
‫أن يعبر عنها إل اشتمل لفظه علي خطأ صريح ل يمكنه الحتراز عنه‪ .‬وعلي الجملة ينتهي المر إلي قرب يكاد يتخيل منه طائافة‬
‫الحلول وطائافة التحاد وطائافة الوصول وكل ذلك خطأ‪ ،‬وقد بينا وجه الخطأ في كتاب المقصد السني بل لذيِ لبسته تلك الحالة ل‬
‫ينبغي أن يزيد علي أن يقول ‪:‬‬
‫وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرال ولتسال عن الخبر!!‬
‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬
‫وبالجملة فمن لم يزرق منه شيئاا ل بالذوق ‪ ،‬فليس يدرك من حقيقة النبوة إل السم وكرامات الولياء علي التحقيق هي بدايات النبياء‬
‫وكان ذلك أول حال رسول ا صلي ا عليه وسلم حيث تبتل حين أقبل إلي جبا حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد‪ ،‬حتي قال‬
‫العرب‪ " :‬إن محمدال عشق ربه" وهذه حالة يتحققها بالذوق من سلك سبيلها‪ ،‬فمن يرزق الذوق قيتقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر‬
‫معهم الصحبة‪ ،‬حتي يفهم ذلك بقرائان ألحوال يقينا ل ومن جالسهم استفاد منهم هذا اليمان‪ ،‬فهم القوم ل يشقي جليسهم‪ ،‬ومن لم‬
‫يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقينا بشواهد البرهان علي ما ذكرناه في كتاب " عجائاب القلب" من كتب " إحياء علوم الدين"‬
‫والتحقيق بالبرهان علم‪ ،‬وملبسة عين تلك الحالة ذوق‪ ،‬والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان؛ فهذه ثلث درجات"‬
‫يرفع ا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" ) المجادلة‪ (11:‬ووراء هؤلء قوم جهال‪ ،‬هم المنكرون لصل ذلك‬
‫النتعجبون من هذه الكلم‪ ،‬يستمعون ويسخرون ويقولون‪ :‬العجب! إنهم كيف يهذون! وفيهم قال ا تعالي‪ ) :‬ومنهم من يستمع إليك‬
‫حتي إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئاك الذين طبع ا علي قلوبهم واتبعوا أهواءهم( ) محمد ‪(16:‬‬
‫فأصمهم وأعمي أبصارهم‬
‫ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم حقيقة النبوة وخاصيتها ولبد من التنبيه علي أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها‬
‫حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها‬
‫ل‬
‫اعلم أن جوهر النسان فى أصل الفطرة خلق خاليا ساذجا معه عوالم اللع تعالي‪ ،‬والعوالم كثيرة ل يحصيها إل ا تعالي كما قال ‪:‬‬
‫) وما يعلم جنود ربك إل هو()المدثر‪ (31:‬وإنما خبره عن العوالم بواسطة الدارك‪ ،‬وكل إدراك من الداركات خلق ليطلع‬
‫النسان به علي عالم من الموجودات‪ ،‬ونعني بالعوالم أجناس الموجودات كالحرارة والبرودة‪ ،‬والرطوبةواليبوسة‪ ،‬واللين‬
‫والخشونة وغيرها‪ .‬واللمس قاصر عن أللوان والصوات قطعا ل بل هي كالمعدومة في حق اللمس‬
‫ثم تخلق لح حاسة البصر‪ ،‬فيدرك بها اللوان والشكال؛ وهو أوسع عوالم المحسوسات‪ .‬ثم ينفخ فيه السمع‪ ،‬فيسمع ألصوات‬
‫والنغمات‬
‫ثم يخلق له الذوق وكذلك إلي أن يجاوز عالم المحسوسات‪ ،‬فيخلق فيه التمييز‬

‫مجموعة رسائال المام الغزالي‬


‫وهو قريب من سبع سنين‪ ،‬وهو طور آخر من أطوار وجوده‪ ،‬فيدرك فيه أمورا زائادة علي عالم المحسوسات‪ ،‬لبد منها شئ في‬
‫عالم الحس‬
‫ل‬
‫ثم يترقي إلي طور آخر‪ ،‬فيخلق له العقل‪ ،‬فيدرك الواجيات والجائازات والمستحيلت‪ ،‬وأمورا لتوجد في ألطوار التي قبله ووراء‬
‫العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخريِ يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل‪ ،‬وأمورال أخريِ معزول عنها كعزل قوة التمييز‬
‫عن إدراك المعقولت‪ ،‬وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز‪ .‬وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لباها‬
‫واستبعدها‪ ،‬فكذلك بعض العقلء أبي مدركات النبوة واستبعدها؛ وذلك عين الجهل‪ ،‬إذ ل مستند له إل أنه طور لم يبلغه ولم يوجد‬
‫في حقه‪ ،‬فيظن أنه غير موجود في نفسه والكمه لو يعلم بالتواتر ولتسامع اللوان والشكال وحكي لو ذلك ابتداء‪ ،‬لم يفهمها ولم‬
‫يقر بها‪ .‬وقد قرب ا تعالي ذلك علي خلقه بان أعطاهم أنموذجا ل من خاصية النبوة وه النوم‪ ،‬إذ النائام يدرك ما سيكون من الغيب‬
‫إما صريحا ل وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير‪ .‬وهذا لو لم يجر النسان من نفسه وقيل له ‪ " :‬إن من الناس من يسقط مغشيا ل‬
‫عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب " لنكره‪ ،‬واقام البرهان علي استحالته وقال ‪ :‬القويِ الحاسة‬
‫أسباب الدراك فمن ليدرك ألشياء مع وجودها وحضورها‪ ،‬فبأن ليدركها مع ركودها أولي وأحق‪ .‬وهذا نوع قياس يكذبه الوجود‬
‫والمشاهدة؛ فكما أن لعقل طور من أطوار الدمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعا ل من المعقولت‪ ،‬والحواس معزولة عنها‬
‫فالنبوة أيضا ل عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب‪ ،‬وامور ل يدركها العقل‬
‫والشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها أو في وجودها ووقوعها أو في حصولها لشخص معين ودليل ‘مكانها ووجودها‪ ،‬ودليل‬
‫وجودها وجود معارف العالم ل يتصور أن تنال بالعقل كعلمي الطب والنجوم فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لتدرك إل‬
‫بإلهام إلهي وتوفبق من جهة ا تعالي‪ ،‬ول سبيل إليها بتجربة فمن ألحكام النجومية ما ل يقع إل في كل ألف سنة مرة‪ ،‬فكيف ينال‬
‫ذلك بالتجربة؟ وكذلك خواص الدوية‬
‫فتبين بهذا البرهان أن أفمكان وجود طريق لدراك هذا لجنس الخارج عن مدركات العقل إحديِ خواص النبوة ولها خواص كثيرة‬
‫سواها؛ وما ذكرناه قطرة من بحرها‪ ،‬وإنما ذكرناها لن معك أنموذجا منها وهو مدركاتك في النوم‪ ،‬ومعك علوم من جنسها في‬
‫الطب والنجوم‪ ،‬وهي معجزات النبياء ل سبيل إليها للعقلء ببضاعة العقل اصلل‬
‫وأما ماعدا من خواص النبوة إنما يدرك بالذوق من سلوك طريق التصوف لن هذا فهمته بانموذج رزقته وهو النوم‪ ،‬ولوله لما‬
‫صدقت به‪.‬فإن كان للنبي خاصة ليس لك‬
‫ص ‪600‬‬
‫منها أنموذج فل نفهمها أصل ‪ ,‬فكيف تصدق بها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم ‪ ,‬وذلك النموذج يحصل فى أوائال طريق التصوف ‪,‬‬
‫فيحصل به من الذوق بالقدر الحاصل ‪ ,‬ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس ‪ .‬هذه الخاصية الواحدة تكفيك لليمان بأصل‬
‫النبوة ‪.‬‬
‫فإن وقع لك الشك فى شخص معين أنه نبى أم ل ‪ ,‬فل يحصل اليقين إل بمعرفة أحواله ‪ ,‬إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع ‪ ,‬فإنك‬
‫إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم ‪ ,‬ول تعجز أيضا عن‬
‫معرفة كون الشافعى رحمه ا فقيها ‪ ,‬وكون جالينوس طبيبا ‪ ,‬معرفة بالحقيقة ل بالتقليد عن الغير ‪ ,‬بل بأن تتعلم شيئاا من الفقه‬
‫والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ‪ ,‬فيحصل لك علم ضرورى بحالهما ‪ .‬فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر فى القران‬
‫والخبار يحصل لك العلم الضرورى بكونه صلى ا عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ‪ ,‬وعضد ذلك بتجربة ما قاله فى‬
‫العبادات وتأثيرها فى تصفية القلوب ‪ ,‬وكيف صدق فى قوله ‪ ":‬من عمل بما علم ورثه ا علم مالم يعلم " وكيف صدق فى قوله ‪":‬‬
‫من أعان ظالما سلطه ا عليه " وكيف صدق فى قوله ‪ ":‬من أصبح وهمومه هم واحد كفاه ا تعالى هموم الدنيا والخرة" فإذا‬
‫جربت ذلك فى ألف وألفين والف حصل لك علم ضرورى ل تتمارى فيه ‪.‬‬
‫فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ‪ ,‬ل من قلب العصا ثعبانا وشق القمر ‪ ,‬فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائان‬
‫الكثيرة الخارجة عن الحصر ‪ ,‬ربما ظننت أنه سحر وتخييل ‪ ,‬وأنه من ا إضلل فإنه " يضل من يشاء ويهدى من يشاء " )‬
‫فاطر ‪. ( 8 :‬‬
‫وترد عليه أسئالة المعجزات ‪ ,‬فإن كان مستندا إيمانك إلى كلم منظور فى وجه دللة المعجزة ‪ ,‬فينجزم إيمانك بكلم مرتب فى‬
‫وجه الشكال والشبهة عليها ‪ ,‬فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلئال والقرائان فى جملة نظرك ‪ ,‬حتى يحصل لك علم ضرورى‬
‫ل يمكنك ذكر مستنده على التعيين ‪ ,‬كالذى يخبره جماعة بخبر متواتر ل يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين بل‬
‫من حيث ل يدرى ‪ ,‬ول يخرج عن جملة ذلك ول بتعيين الحاد ‪ ,‬فهذا هو اليمان القوى العملى ‪ .‬وأما الذوق فهو كالمشاهدة‬
‫والخذ باليد ‪ ,‬ول يوجد إل فى طريق الصوفية ‪.‬‬
‫فهذا القدر من حقيقة النبوة كاف فى الغرض الذى أقصده الن ‪ ,‬وسأذكر وجه الحاجة إليه ‪.‬‬
‫ص ‪601‬‬
‫سبب نشر العلم بعد العراض عنه‬
‫ثم إنى لما واظبت على العزلة والخلوة قريبا من عشر سنين ‪ ,‬وبان فى أثناء ذلك على الضرورى من أسباب ل أحصيها ‪ ,‬مرة‬
‫بالذوق ‪ ,‬ومرة بالعلم البرهانى ‪ ,‬ومرة بالقبول اليمانى ‪ :‬أن النسان خلق من بدن وقلب ‪ ,‬وأعنى بالقلب حقيقة روحه التى هى‬
‫محل معرفة ا ‪ ,‬دون اللحم والدم الذى يشارك فيه الميت والبهيمة ‪ ,‬وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيها هلكه ‪ ,‬وأن‬
‫القلب كذلك له صحة وسلمة ‪ ,‬ول ينجو " إل من أتى ا بقلب سليم " ) الشعراء ‪ .( 89 :‬وله مرض فيه هلكه البدى الخروى‬
‫‪ ,‬كما قال تعالى ‪ " :‬في قلوبهم مرض " ) البقرة ‪ , 10‬المائادة ‪ , 52 :‬والنفال ‪ , 49 :‬والتوبة ‪ , 125 :‬الحج ‪ , 53 :‬والحزاب‬
‫‪ , 60 , 12 :‬محمد ‪ , 29 , 20 :‬والمدثر ‪ . ( 31 :‬وأن الجهل بال سم مهلك ‪ ,‬وأن معصية ا بمتابعة الهوى داؤه المرض ‪,‬‬
‫وان معرفة ا تعالى ترياقه المحي ‪ ,‬وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافى ‪ ,‬وانه ل سبيل إلى معالجته بإزالة مرضه وكسب‬
‫صحته إل بأدوية ‪ ,‬كما ل سبيل إلى معالجة البدن إل بذلك ‪ .‬وكما أن أدوية البدن تؤثر فى كسب الصحة بخاصية فيها ‪ ,‬ل يدركها‬
‫العقلء ببضاعة العقل ‪ ,‬بل يجب فيها تقليد الطباء الذين اخذوها من النبياء ‪ ,‬الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الشياء ‪,‬‬
‫فكذلك بان لى ‪ ,‬على الضرورة ‪ ,‬أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة النبياء ‪ ,‬ليدرك وجه تأثيرها‬
‫ببضاعة عقل العقلء ‪ ,‬بل يجب فيها تقليد النبياء الذين ادركوا تلك الخواص بنور النبوة ل ببضاعة العقل ‪ .‬وكما ان الدوية‬
‫تركبت من أخلط مختلفة ‪ ,‬وبعضها ضعف البعض فى الوزن والمقدار ‪ ,‬فل يخلو اختلف مقاديرها عن سر هو قبيل الخواص ‪,‬‬
‫فكذلك العبادات التى هى أدوية القلوب ‪ ,‬مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ‪ ,‬حتى أن السجود ضعف الركوع ‪ ,‬وصلة‬
‫الصبح نصف صلة العصر فى المقدار ‪ ,‬ول يخلو عن سر من السرار ‪ ,‬هو من قبيل الخواص التى يطلع عليها إل بنور النبوة‬
‫ولقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط بطرق العقل لها حكمة ‪ ,‬أو ظن أنها ذكرت على سبيل التفاق ‪ ,‬ل عن سر إلهى فيها‬
‫يقتضيها بطريق الخاصية ‪ ,‬وكما أن فى الدوية أصول هى أركانها ‪ ,‬وزوائاد هى متمماتها ‪ ,‬لكل واحد منها خصوص تأثير فى‬
‫أعمال أصولها ‪ ,‬كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل أثار أركان العبادات ‪.‬‬
‫وعلى الجملة ‪ :‬فالنبياء أطباء أمراض القلوب ‪ ,‬وإنما فائادة العقل وتصرفه غن عرفنا ذلك ‪ ,‬ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفيه بالعجز‬
‫عن درك ما يدرك بعين النبوة ‪ ,‬وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائادين ‪ ,‬وتسليم المرضى المتحيرين للى الطباء‬
‫المشفقين ‪.‬‬
‫ص ‪602‬‬
‫وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ‪ ,‬إل عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه ‪ .‬فهذه أمور عرفناها بالضرورة‬
‫الجارية مجرى المشاهدة ‪ ,‬فى مدة الخلوة والعزلة ‪.‬‬
‫ثم رأينا فتور العتقادات فى أصل النبوة ‪ ,‬ثم فى جقيقة النبوة ‪ ,‬ثم فى العمل بما شرحته النبوة ‪ ,‬وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ‪,‬‬
‫فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ‪ ,‬وضعف إيمانهم ‪ ,‬فإذا هى أربعة ‪:‬‬
‫سبب من الخائاضين فى علم الفلسفة ‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫وسبب من الخائاضين فى طرق التصوف ‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وسبب فى المنتسبين إلى دعوى التعليم ‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وسبب من معاملة الموسومين بالعلم بين الناس ‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫فإنى تتبعت مدة أحاد الخلق ‪ ,‬أسأل من يقصر منهم فى متابعة الشرع ‪ ,‬وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره ‪ ,‬وقلت له ‪":‬‬
‫مالك تقصر فيها ؟ فإن كنت تؤمن بالخرة ولست تستعد لها و تبيعها بالدنيا ‪ ,‬فهذه حماقة ! فإنك ل تبيع الثنين بواحد ‪ ,‬فكيف تبيع‬
‫ما ل نهاية له بأيام معدودة ؟ وإن كنت ل تؤمن ‪ ,‬فأنت كافر ‪ ,‬فدبر نفسك فى طلب اليمان ‪ ,‬وانظر ما سبب كفرك الخفى الذى هو‬
‫مذهبك باطنا ‪ ,‬وهو سبب جرأتك ظاهرا ‪ ,‬وإن كنت ل تصرح به تجمل باليمان وتشرفا بذكر الشرع !"‪.‬‬
‫فقائال يقول ‪ :‬هذ امر لو وجبت المحافظة عليه ‪ ,‬لكان العلماء أجدر بذلك ‪ ,‬وفلن من المشاهير بين الفضلء ل يصلى ‪ ,‬وفلن‬
‫يشرب الخمر ‪ ,‬وفلن يأكل أموال الوقاف وأموال اليتامى ‪ ,‬وفلن يأكل اموال الوقاف وأموال اليتامى ‪ ,‬وفلن يأكل إدرار‬
‫السلطان ول يحترز عن الحرام ‪ ,‬وفلن يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة ! وهلم إمثاله ‪....‬‬
‫وقائال ثان يدعى علم التصوف ‪ ,‬ويزعم أنه بلغ مبلغا ترقى عن الحاجة إلى العباردة وقائال ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات‬
‫أهل الباحة ! وهؤلء هم الذين ضلوا عن التصوف ‪.‬‬
‫وقائال رابع لقى أهل التعليم فيقول ‪ ":‬الحق مشكل ‪ ,‬والطريق إليه مسدود ‪ ,‬والختلف فيه كثير ‪ ,‬وليس بعض المذاهب أولى من‬
‫بعض ‪ ,‬وأدله العقول متعارضة ‪ ,‬فل ثقة برأى أهل الرأى ‪ ,‬والداعى إلى التعليم متحكم ل حجة له ‪ ,‬فكيف أدع اليقين بالشك ؟"‪.‬‬
‫وقائال خامس يقول ‪ ":‬لست أفهل هذا تقليدا ‪ ,‬ولكنى قرأت علم الفلسفة ‪ ,‬وأدركت حقيقة النبوة ‪ ,‬وأن حاسلها يرجع إلى الحكمة‬
‫والمصلحة ‪ ,‬وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والسترسال فى الشهوات ‪ ,‬فما أنا من‬
‫العوام‬
‫ص ‪603‬‬
‫الجهال حتى أدخل فى حجر التكليف ‪ ,‬وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغن عنها فيها عن التقليد !؟"‪.‬‬
‫هذا منتهى إيمان من قرأ مذهب فلسفة اللهين منهم ‪ ,‬وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبى نصر الفارابى هؤلء هم المتجملون‬
‫بالسلم ‪ .‬وربما ترى الواحد منهم يقرأ القران ‪ ,‬ويحضر الجماعات والصلوات ‪ ,‬ويعظم الشريعة بلسانه ‪ ,‬ولكنه مع ذلك ل يترك‬
‫شرب الخمر ‪ ,‬وانواعا من الفسق والفجور ! وإذا قيل له ‪ " :‬إذا كانت النبوة غير صحيحة فلم تصلى ؟" فربما يقول ‪ ":‬لرياضة‬
‫الجسد ‪ ,‬ولعادة أهل البلد ‪ ,‬وحفظ المال والولد !" وربما قال ‪ ":‬الشريعة صحيحة ‪ ,‬والنبوة حث " فيقال ‪ :‬فلم تشرب الخمر ؟ فيقول‬
‫‪ " :‬إنما نهى الخمر لنها تورث العداوة والبغضاء ‪ ,‬وأنا بحكمتى محترز عن ذلك ‪ ,‬وإنى أقصد به تشحيذ خاطرى " ‪ .‬حتى إن‬
‫ابن سينا ذكر فى وصية له كتب فيها ‪ :‬أنه عاهد ا تعالى على كذا وكذا ‪ ,‬وان يعظم الوضاع الشرعية ‪ ,‬ول يقصر فى العبادات‬
‫الدينية ول يشرب تلهيا بل تداويا وتشافيا ‪ ,‬فكان منتهى حالته فى صفاء الغيمان والتزام العبادات ‪ ,‬أن استسنى الخمر اغرض‬
‫التشافى ‪.‬‬
‫فهذا إيمان من يدعى اليمان منهم ‪ ,‬وقد انخدع بهم جماعة ‪ ,‬زادهم انخداعهم ضعف اعتراض المعترضين عليهم ‪ ,‬إذ اعترضوا‬
‫بمجاهدة علم النفس والمنطق ‪ ,‬وغير ذلك مما هو ضرورى لهم ‪ ,‬على ما بينا علته من قبل ‪.‬‬
‫فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذة السباب ‪ ,‬ورأيت نفسى لزمة مجتهدة ملبة بكشف هذة الشيهة ‪,‬‬
‫حتى كان فضح هؤلء أيسر عندى من شربة ماء لكثرة خوضى فى علومهم وطرقهم ‪ ,‬اعنى طرق الصوفية والفلسفة والتعليمية‬
‫والمتوسمين من العلماء ‪ ,‬انقدح فى نفسى أن ذلك متعين فى الوقت محتوم ‪ .‬فماذا تغنيك الخلوة والعزلة وقد عم الداء ‪ ,‬ومرض‬
‫الطباء ‪ ,‬وأشرف الخلق على الهلك ؟ ثم قلت فى نفسى ‪:‬متى تشتغل أنت بكشف هذة الغمة ومصادمة هذة الظلمة ‪ ,‬والزمان‬
‫زمان الفترة ‪ ,‬والدور دور الباطل ؟ ولو اشتغلت بدعوة الخلق عن طرقهم إلى الحق لعاداك أهل الزمان فى جمعهم ‪ .‬وانى تقاومهم‬
‫‪ ,‬فكيف تعايشهم ‪ ,‬ول يتم ذلك إل بزمان الساعد وسلطان متدين قاهر ؟ فترخصت بينى وبين ا تعالى بالستمرار على العزلة ‪,‬‬
‫تعلل بالعجز عن إظهار الحق بالحجة ‪ ,‬فقدر ا تعالى أن حرك داعية سلطلن الوقت من نفسه ل بتحريك من خارج ‪ ,‬فأمر أمر‬
‫إلزام بالنهوض إلى نيسابور لتدارك هذة الفتنة ‪ ,‬وبلغ اللزام حدا كاد ينتهى لو أصررت على الخلف إلى حد الوحشة ‪ ,‬فخطر لى‬
‫أن سبب الرخصة قد ضعف ‪ ,‬فل ينبغى ان يكون باعثك على ملزمة العزلة الكسل والستراحة ‪ ,‬عن أذى الخلق ‪ ,‬ولم ترخص‬
‫نفسك لعسر مقاساة الخلق ‪ ,‬وا تعالى يقول ‪ :‬بسم ا الرحمن الرحيم ) الم )‪(1‬‬
‫ص ‪604‬‬
‫أحسب الناس أن يتركوا أن يقولو أمنا وهم ل يفتنون )‪ (2‬ولقد قتنا الذين من قبلهم فليعلمن ا الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ( )‬
‫العنكبوت ‪.(3-1 :‬‬
‫ويقول عزوجل لرسوله وهو اعز خلقه ‪ ) :‬ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ول مبدل‬
‫لكلمات ا ولقد جاءك من نبأ المرسلين ( ) النعام ‪.( 34 :‬‬
‫صدراءط مملسدتهقيءم )‪ (5‬دتنهزيدل‬ ‫ك دلهمدن اللاملردسهليدن )‪ (4‬دعدلى ه‬ ‫ويقول عزوجل ‪ :‬بسم ا الرحمن الرحيم )يس )‪ (1‬دواللقالرآهن اللدحهكيهم )‪ (3‬إهان د‬
‫حيهم )‪ (6‬لهاتنهذدر دقلولما اما اأنهذدر آدبااؤاهلم دفاهلم دغاهفالودن )‪ (7‬دلدقلد دحاق اللدقلوال دعدلى أدلكدثهرههلم دفاهلم ل ايلؤهمانودن )‪ (8‬إهانا دجدعللدنا هفي أدلعدناهقههلم‬ ‫اللدعهزيهز الار ه‬
‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫صارودن )‪ (10‬دودسدواء‬ ‫ه‬ ‫ل‬
‫ب‬ ‫ي‬
‫ا‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫م‬‫ه‬‫ا‬
‫ل ل‬ ‫د‬
‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ا‬ ‫د‬
‫نا‬ ‫ل‬
‫ي‬ ‫د‬
‫ش‬ ‫ل‬
‫غ‬ ‫أ‬‫ف‬‫د‬ ‫ي‬
‫دا‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬‫ه‬
‫ههل د‬ ‫ف‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫د‬
‫خ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫دا‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬‫ه‬‫دي‬ ‫ل‬
‫ي‬
‫د د د ه د ه ه هل د د ه‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫ي‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫د‬
‫نا‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫ع‬‫ج‬‫و‬ ‫(‬‫‪9‬‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫د د‬‫حو‬
‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ق‬ ‫م‬
‫م‬ ‫هم‬
‫ا‬ ‫د‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫ه‬ ‫قا‬‫د‬ ‫ذ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫د‬
‫لى‬ ‫أدلغللل دفههدي ه‬
‫إ‬
‫د‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫ب فدبشلرها هبدمغهفدرءة دوألجءر كهريءم )‪( (12‬‬ ‫رَ‬ ‫د‬ ‫دعلدليههلم أددأندذلردتاهلم ألم للم تنهذلراهلم ل ايلؤهمنودن )‪ (11‬إهندما تنهذار دمهن اتدبدع الذكدر دوخهشدي الارلحدمن هبالغلي ه‬
‫د‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫رَ‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬
‫) يس ‪ . (11-1 :‬فشاورت فى ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات فاتفقوا على الشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية‬
‫‪ ,‬وانصاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة تشهد بأن هذة الحركة مبدأ خير ورشد ‪ ,‬وقدرها ا سبحانه على رأس‬
‫هذة المائاة ‪ ,‬وقد وعد ا سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مائاة ‪ ,‬فا ستحكم الرجاء ‪ ,‬وغلب حسن الظن بسبب هذة الشهادات‬
‫ويسر ا تعالى هذة الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا الهم فى ذى القعدة سنة تسع وتسعين واربعمائاة ‪ ,‬وكان الخروج من بغداد فى‬
‫ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائاة ‪ ,‬وللغت مدة العزلة إحدى عشر سنة ‪ ,‬وهذة العزلة ‪ ,‬كما لم يكن الخروج من بغداد‬
‫والنزوع عن تلك الحوال مما يخطر إمكانه أصل بالبال وا تعالى مقلب القلوب والحوال و " قلب المؤمن بين أصبعين من‬
‫اصابع الرحمن " وانا أعلم أنى رجعت إلى نشر العلم فما رجعت ‪ ,‬فإن الرجوع عود إلى ما كان ‪ ,‬وكنت فى ذلك الزمان أنشر‬
‫العلم الذى يكسب الجاه ‪ ,‬وأدعوا إليه بقولى وعملى ‪ ,‬وكان ذلك قصدى ونيتى ‪ ,‬واما الن فأدعوا إلى العلم الذى به يترك الجاه ‪,‬‬
‫ويعرف به سقوط رتبة الجاه ‪.‬‬
‫هذا الن نيتى وقصدى وامنيتى ‪ ,‬يعلم ا ذلك منى ‪ ,‬وانا أبغى ان أصلح نفسى وغيرى ‪ ,‬ولست ادرى أأصل إلى مرادى ‪ ,‬أم‬
‫أخترم دون غرضى ؟ ولكنى أؤمن إيمان يقين ومشاهدة انه ل حول ولقوة إل بال العلى العظيم ‪ ,‬وأنى لم أتحرك لكنه حركنى ‪,‬‬
‫وأنى لم أعمل لكنه استعملنى ‪ ,‬فأساله ان يصلحنى اول ‪ ,‬ثم يصلح بى ويهدينى ‪ ,‬ثم يهدى بى ‪ ,‬وأن يرينى الحق حقا ويرزقنى‬
‫اتباعه ‪ ,‬ويرينى الباطل باطل ويرزقنى اجتنابه ‪.‬‬
‫ص ‪605‬‬
‫ونعود الن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف اليمان فيمن ذكر بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم ‪:‬‬
‫واما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من اهل التعليم ‪ ,‬فعرجه ما ذكرناه فى كتاب " كيمياء السعادة "‪.‬‬
‫واما من فسد ليمانه بطريق الفلسفة حتى أنكر أصل النبوة ‪ ,‬فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة ‪ ,‬بدليل وجود خواص‬
‫الدوية والنجوم وغيرها ‪ ,‬وإنما قدمنا هذة المقدمة لجل لذلك ‪ ,‬وإنما اوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم لنه من نفس عملهم‬
‫‪ .‬ونحن لكل عالم بفن من العلوم ‪ ,‬كالنجوم والطبيعة والسحر والطلمسات مثل من نفس علمه برهان النبوة ‪.‬‬
‫وأما من أصبت النبوة بلسانه وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ‪ ,‬فهو على التحقيق كافرة بالنبوة ‪ ,‬مؤمن بحكم له طابع‬
‫مخصوص ‪ ,‬يقضى طابعه ان يكون متبرعا ‪ ,‬وليس هذا من النبوة فى شئ ‪ ,‬بل اليمان بالنبوة ان يقر بإثبات طور وراء العقل‬
‫تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة والعقل معزول عنها ‪ ,‬كعزل السمع عن إدراك اللوان ‪ ,‬والبصر عن إدراك الصوات ‪,‬‬
‫وجميع الحواس عن إدراك المعقولت ‪ ,‬فإن لم يجوز هذا ‪ ,‬فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده ‪ ,‬وعن جوز هذا ‪ ,‬فقد‬
‫أثبت أن ههنا أمورا تسمى خواص ل يدور تصرف العقل حواليها أصل ‪ ,‬بل يكاد العقل يكذبها ويقضى باستحالتها ‪ ,‬فإن وزن‬
‫دانق من الفيون سم قاتل ‪ ,‬لنه يجمد الدم فى العروق لفرط برودته ‪ .‬والذى يدعى علم الطبيعة ‪ ,‬يزعم أن ما يبرد من المركبات‬
‫إنما يبرد بعنصرى الماء والتراب فهما العنصران الباردان ‪ .‬ومعلوم أن أرطال من الماء والتراب ل يبلغ تبريدها فى الباطن إلى‬
‫هذا الحد ‪ ,‬فلو أخبر طبيعى بهذا ولم يجربه لقال ‪ " :‬هذا محال ‪ ,‬والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائاية والهوائاية والنارية ل‬
‫تزيد بهما برودة ‪ ,‬فنقدر الكل ماء وترابا فل يوجب هذا الفراط بالتبريد ‪ ,‬فإن انضم إليه حاران فبأن ل يوجب أولى " ‪ .‬ويقدر هذا‬
‫برهانا ‪ .‬وأكثر براهين الفلسفة فى الطبيعات واللهيات مبنى على هذا الجنس ‪ ,‬فإنهم تصوروا المور على قدر ما وجدوه‬
‫وعقلوه ‪ .‬ومالم يألفوه قدروا استحالته ‪ .‬ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة ‪ ,‬ودعى مدع انه عند ركود الحواس يعلم الغيب ‪ ,‬لنكره‬
‫المتصفون بمثل هذه العقول ‪ .‬ولو قيل لواحد ‪ " :‬هل يجوز ان يكون فى الدنيا شئ هو بقدار حبة يوضع فى بلدة ليأكل تلك البلدة‬
‫بجملتها ثم ياكل نفسه ‪ ,‬فل يبقى شيئ من البلدة وما فيها ول يبقى هو نفسه " ؟ لقال ‪ : :‬هذا محال وهو من جملة الخرافات !" وهذه‬
‫حالة النار ينكرها من لك ير النار إذا‬
‫ص ‪606‬‬
‫سمعها ‪ ,‬واكثر إنكار عجائاب الخرة هو من هذا القبيل ‪ .‬فنقول للطبيعى ‪ " :‬قد اضطررت إلى أن تقول ‪ :‬فى الفيون خاصية غى‬
‫التبريد ليس على قياس المعقول بالطبيعة ‪ ,‬فلم ل يجوز ان يكون فى الوضاع الشرعية من الخواص فى مداواة القلوب وتصفيتها‬
‫ما ليدرك بالحكمة العقلية ‪ ,‬بل ل يبصر ذلك إل بعين النبوة ؟" بل قد اعترفوا بخواص هى أعجب من هذا فيما أوردوه فى كتبهم ‪,‬‬
‫وهى من الخواص العجيبة المجربة فى معالجة الحامل التى عسر عليها الطلق بهذا الشكل ‪:‬‬
‫يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ‪ ,‬وتنظر الحامل بعينها ‪ ,‬وتضعهما تحت قدميها ‪ ,‬فيسرع فى الولد فى الحال إلى الخروج ‪ .‬وقد‬
‫أقرورا بإمكان ذلك وأوردوه فى كتاب " عجائاب الخواص " وهو شكل فيه تسعة بيوت يرقم فيها رقوم مخصوصة ‪ ,‬يكون‬
‫مجموع ما جدول واحد خمسة عشر ‪ ,‬قرأته فى طول الشكل أو فى عرضه أو جوانبه ‪.‬‬
‫فياليت شعرى ! من يصدق بذلك ثم ل يتسع عقله للتصديق بان تقدير صلة الصبح بركعتين ‪ ,‬والظهر باربع ‪ ,‬والمغرب بثلث ‪,‬‬
‫هى لخواص غير معلومة بنظر الحكمة ؟ وسببها اختلف هذة الوقات ‪ ,‬وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة ‪ .‬والعجب أنا لو‬
‫غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لعللوا اختلف هذة الوقات ‪ ,‬فنقول ‪ " :‬أليس يختلف الحكم فى المطالع بأن تكون الشمس وسط‬
‫السماء ‪ ,‬أو فى الغارب ‪ ,‬حتى يبنوا على هذا تسييرلتهم اختلف العلج وتفاوت العمار والجال ‪ ,‬ول فرق بين الزوال وبين كون‬
‫الشمس فى وسط السماء ‪ ,‬وبين المغرب وبين كون الشمس فى الغارب ‪ ,‬فهل لتصديقه سبيل ؟" إل أن ذلك يسمعه بعبارة المنجم ‪,‬‬
‫لعله جرب كذبه مائاة مرة ‪ ,‬ول يزال يعاود تصديقه حتى لو قال له المنجم له ‪ :‬إذا كانت الشمس وسط السماء ‪ ,‬ونظر إليها الكوكب‬
‫الفلنى ‪ ,‬والطالع هو البرج الفلنى ‪ ,‬فلبست ثوبا جديا فى ذلك الوقت ‪ ,‬قتلت فى ذلك الثوب ! فإنه ل يلبس الثوب فى ذلك الوقت ‪,‬‬
‫وربما يقاسى فيه البرد الشديد ‪ ,‬وربما سمعه من منجم وقد عرف كذبه مرات ‪.‬‬
‫فليت شعرى ! من يتسع عقله لقبول هذه البدائاه ويظطر إلى العتراف بأنها خواص ‪ ,‬معرفتها معجزة لبعض النبياء ‪ ,‬فكيف ينكر‬
‫مثل ذلك فيما يسمعه من قول نبى صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب ! فمن أنكر فلسفى إمكان هذه الخواص فى أعداد‬
‫الركعات ورمى الجمار وعدد أركان الحج وسائار تعبدات الشرع ‪ ,‬لم يجد بينها وبين خواص الدوية والنجوم فرقا أصل ‪ .‬فمن‬
‫قال ‪ " :‬قد جربت شيئاا من النجوم وشيئاا من الطب ‪ ,‬فوجدت بعضه صادقا ‪ ,‬فانقدح فى نفسى تصديقه ‪ ,‬وسقط من قلبى استعباده‬
‫ونفرته وهذا لم اجربه ‪ ,‬فبم اعلم وجوده وتحقيقه إن أقررت بإمكانه ؟ " فأقول ‪ " :‬إنك ل تقصر على تصديق ما جربته ‪ ,‬بل‬
‫سمعت اخبار المجربين وقلدتهم ‪ ,‬فاسمع أقوال النبياء فقد جربوا شاهدوا الحق فى‬
‫ص ‪607‬‬
‫جميع ما ورد به الشرع ‪ ,‬واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض لك "‪ .‬على أنى أقول ‪ :‬وإن لم تجربه فيقضى عقلك بوجوب‬
‫التصديق والتباع قطعا ‪ ,‬فإنا لو فرضنا رجل بلغ وعقل ولم يجرب المرض فمرض ‪ ,‬وله والد مشفق حاذق بالطب ‪ ,‬يسمع دعواه‬
‫فى معرفة الطب منذ عقل ‪ ,‬فعجن له والده دواء فقال ‪ " :‬هذا يصلح لمرضك ‪ ,‬ويشفيك من سقمك " فماذا يقتضيه عقله ‪ ,‬وإن كان‬
‫الدواء مرا كريه المذاق ‪ ,‬أيتناوله ؟ أو يكذب ويقول ‪ :‬أنا ل أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ولم أجربه ؟ فل شك أنك‬
‫تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائار فى توقفك ! فإن قلت ‪ :‬فبم أعرف شفقة النبى عليه الصلة والسلم ومعرفته‬
‫بالطب ؟ فأقول ‪ :‬وبم عرفت شفقت أبيك وليس أمرا محسوسا ؟ بل عرفتها بقرائان أحواله وشواهد أعماله فى مصادره وموارده‬
‫علما ضروريا ل تتمارى فيه ‪.‬‬
‫ومن نظر فى أقوال رسول ا عليه الصلة والسلم ‪ ,‬وما ورد من الخبار فى اهتمامه بإرشاد الخلق وتلطفه فى جر الناس بأنواع‬
‫الرفق واللطف إلى تحسين الخلق وإصلح ذات البين ‪ ,‬وبالجملة إلى ماليصلح إل به دينهاهم ‪ ,‬حصل له علم ضرورى بأن‬
‫شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده ‪ .‬ولذا نظر إلى عجائاب ما ظهر عليه من الفعال ‪ ,‬وإلى عجائاب الغيب الذى‬
‫أخبر عنه القران على لسانه وفى الخبار ‪ ,‬وإلى ما ذكره فى أخر الزمان فظهر ذلك كما ذكره ‪ ,‬علم علما ضرويا أنه بلغ الطور‬
‫الذى زراء العقل ‪ ,‬وانفتحت له العين التى يتكشف منها الغيب الذى ل يدركه إل الخواص ‪ ,‬والمور التى ل تدركها العقول ‪ .‬فهذا‬
‫هو منهاج العلم الضرورى بتصديق النبى عليه الصلة والسلم ‪ .‬فجرب وتأمل القرأن وطالع الخبار تعرف ذلك بالعيان ‪.‬‬
‫وهذا القدر يكفى فى تنبيه المتفلسفة ‪ ,‬ذكرناه لشدة الحاجة إليه فى هذا الزمان ‪.‬‬
‫وأما السبب الرابع ‪ :‬هو ضعف اليمان بسبب سوء سيرة العلماء ‪ .‬فيداوى هذا المرض بثلثة أمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن تقول أن العالم الذى توعم أنه يأكل الحرام ‪ ,‬معرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر ولحم الخنزير والربا ‪,‬‬
‫بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمية ‪ .‬وأنت تعرف ذلك وتفعله ل لعدم إيمانك بأنه معصية ‪ ,‬بل لشهواتك الغالبة عليك ‪ ,‬فشهواته‬
‫كشهواتك ‪ ,‬وقد غلبته كما غلبتك ‪ ,‬فعلمه بمسائال وراء هذا هذا يتميز به عنك ‪ ,‬ل يناسبه زيادة زجر عن هذا المحظور المعين ‪.‬‬
‫وكم من مؤمن بالطب ل يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ‪ ,‬وإن زجره الطبيب عنه ! ول يدل على ذلك أنه غير ضار ‪ ,‬أو على‬
‫أن اليمان بالطب غير صحيح ‪ ,‬هذا محمل هفوات العلماء ‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬أن يقال للعامى ‪ :‬ينبغى أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخرا لنفسه فى الخرة ‪ ,‬ويظن أن علمه ينجيه ‪ ,‬ويكون شفيعا له‬
‫حتى يتساهل معه فى أعناله لفضيلة علمه ‪ .‬وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه ‪ ,‬فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له ‪ ,‬وهو ممكن‬
‫‪,‬‬
‫ص ‪608‬‬
‫فهو وإن ترك العمل يدلى بالعلم ‪ .‬أما أنت أيها العامى إذا نظرت إليه ‪ ,‬وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ‪ ,‬فتهلك لسوء عملك‬
‫ول شفيع لك ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬وهو الحقيقة ‪ ,‬أن العالم الحقيقى ل يصادف معصية إل على سبيل الهفوة ‪ ,‬و ل يكون مصرا على المعاصى أصل ‪ ,‬إذ‬
‫العلم الحقيقى ما يعرف أن المعصية سم مهلك ‪ ,‬وأن الخرة خير من الدنيا ‪ ,‬ومن عرف ذلك ل يبيع الخير بما هو أدنى منه ‪ .‬وهذا‬
‫العلم ل يحصل بأنواع العلوم التى يشتغيل بها اكثر الناس ‪ ,‬فلذلك ل يزيدهم ذلك العلم إل جرأة على معصية ا تعالى ‪ .‬وأما العلم‬
‫الحقيقى فيزيد صاحبه خشية وخوفا ورجاء ‪ ,‬وذلك يحول بينه وبين المعاصى ‪ ,‬إل الهفوات التى ل ينفك عنها البشر فى الفترات ‪,‬‬
‫وذلك يحول بينه وبين المعاصى ‪ ,‬إل الهفوات التى ل ينفك عنها البشر فى الفترات ‪ ,‬وذلك ل يدل على ضعف اليمان ‪ ,‬فالمؤمن‬
‫مفتن تواب ‪ ,‬وهو بعيد عن الصرار والكباب ‪.‬‬
‫هذا ما أردت أن أذكره فى ذم الفلسفة والتعليم وأفاتهما ‪ ,‬وافات من انكر عليهما ل بطريقة ‪.‬ونسأل ا العظيم ان يجعلنا ممن أثره‬
‫واجتباه ‪ ,‬وأرشده إلى الحق وهذاه ‪ ,‬وألهمه ذكره حتى ل ينساه ‪ ,‬وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ‪ ,‬واستخلصه‬
‫لنفسه حتى ل يعبد إل أياه ‪.‬‬
‫وصلى ا على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه ‪.‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫كتاب‬
‫حجة السلم المام الغزالى‬
‫المواعظ فى الحاديث القدسية‬
‫الحمد ل تذكر للعباد ‪ ,‬وتقوية للمتقين من المسلمين إلى العبادة ‪ ,‬والصلة على صاحب الملة الظاهرة ‪ ,‬والرضوان على أله‬
‫وأصحابه وألهم ‪ ,‬وعلى من تبعهم بإحسان وعلماء المة فى كل زمان ‪.‬‬
‫كتاب الموعظة فيه حسنة نافعة ‪ ,‬نفعنا ا تعالى‬
‫الموعظة الولى‬
‫يقول ا تعالى ‪ " :‬ياأبن أدم ي ! عجبن لمن أيقن بالموت كيف يفرح ‪ ,‬وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يجمع المال ‪ ,‬وعجبت لمن‬
‫أيقن بالقبر كيف يضحك ‪ ,‬وعجبت لمن أيقن ببقاء الخرة ونعمها كيف يستريح ‪ ,‬وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا كيف يطمئان‬
‫إليها ‪ ,‬وعجبت لمن هو عالم باللسان وجاهل بالقلب ‪ ,‬وعجبت لمن هو مطهسر بالماء وغير طاهر بالقلب ‪ ,‬وعجبت لمن‬
‫ص ‪609‬‬
‫يشتغل بعيوب الناس وهو غافل عن عيوب نفسه ‪ ,‬أومن لمن يعلم أن ا تعالى مطلع عليه كيف يعصيه ‪ ,‬أو لمن يعلم أنه يموت‬
‫وحده ويدخل القبره وحده ‪ ,‬ويحاسب وحده كيف يستأنس بالناس ‪ ,‬ل إله إل أنا حقا ل ‪ ,‬وأن محمسدا عبديِ ورسولي "‬
‫الموعظة الثانية‬
‫يقول ا تعالى " شهدت نفسي ‪ ,‬أن ل إله إل أنا وحديِ‪ ,‬ل شريك لي ومحمد عبديِ ورسولى ‪ .‬من لم يرض بقضائاي ولم يصبر‬
‫على بلئاي ولم يشكر على نعمائاي ولم يقنع بعطائاي فليطلب ربا ل سوائاي ‪ ,‬ومن اصبح حزينا ل على الدنيا فكأنما اصبح ساخطا ل علي‬
‫ومن اشتكى مصيبلة نزلت به إلى غيريِ فقد شكاني ‪ ,‬ومن دخل على غني فتواضع له من أجل غنائاه ذهب ثلث دينه ومن لطم‬
‫وجهه على ميت فكأنما أخذ رمحا ل يقاتلني به ‪ ,‬ومن كسر عودال على قبر ميت فكأنما هدم كعبتي بيده ‪ ,‬ومن لم يبال من أين يأكل لم‬
‫أبال من ايِ باب ادخله في جهنم ‪ ,‬ومن لم يكن في الزياده في دينه فهو في النقصان ‪ ,‬ومن كان في النقصان فالموت خيسر له ‪,‬‬
‫ومن عمل بما علم أورثه ا تعالى علم مالم يعلم ‪ ,‬من أطال أمله لم يخلص عمله "‪.‬‬
‫الموغظة الثالثة‬
‫يقول ا تعالى ‪" :‬ياابن ادم ! ا قنع تستغنى ‪ ,‬وترك الحسد تستريح ‪ ,‬و اجتنب الحرام تخلص دينك ‪ ,‬ومن ترك الغيبه ظهرت له‬
‫مجبتى ‪ ,‬ومن اعتزل عن الناس سلم منهم ‪ ,‬ومن قل كلمه كمل عقله ‪ ,‬ومن رضي من ا بالقليل فقد وثق بال تعالى ‪ .‬يابن ادم !‬
‫انت بما تعلم ل تعمل كيف تتطلب ما ل تعلم ؟ ياابن ادم ! تعمل فى الدنيا كأنك ل تموت غدا ‪ ,‬وتجمع المال كانك مخلدا أبدا ‪ .‬يادنيا‬
‫احرمى الحريص عليك ‪ ,‬وابتغى الزاهد فيك ‪ ,‬وكونى حلوة فى عيم الناظرين "‪.‬‬
‫الموعظة الرابعة‬
‫يقول ا تعالى ‪ " :‬يابن ادم ! من اصبح حزينا على الدنيا لم يزدد من ا إل بعدا ‪ ,‬وفى الدنيا إل كدا ‪ ,‬وفى الخرة إل جهدا ‪,‬‬
‫وألزم ا تعالى قلبه هما ل ينقطع عنه أبدا ‪ ,‬وشغل ل يفرغ عنه أبدا ‪ ,‬وفقرا لينال غنى أبدا ‪ ,‬وامال تشغله أبدا ‪ .‬ياابن ادم !‬
‫تنقص كل يوم من عمرك وأنت ل تدرى ‪ ,‬وأتيك كل يوم برزقك وانت ل تحمد ‪ ,‬فل بالقليل تقنع ‪ ,‬ول بالكثير تشبع ‪ .‬يابن ادم ! ما‬
‫من يوم إل وياتيك رزقك من عندى ‪ ,‬وما من ليلة إل وياتينى الملئاكة من‬

‫ص ‪610‬‬
‫عندك بعمل قبيح ؛ تأكل رزقى وتعصينى ‪ ،‬وأنت تدعونى فأستجب لك ‪ ،‬وخيرى إليك نازل وشيرك إلاى واصل ؛ فنعم المولى أنا‬
‫لك ! وبئاس العبد أنت لى ! تسئالنى ما أعطيك ‪ ،‬وأساتر عليك سواة بعد سواة فضيحة‪ ،‬وأنا أستحيى منك وأنت ل تستحى منى ‪،‬‬
‫تنسانى وتذكر غيرى ‪ ،‬وتخاف الناس وتأمن منى ‪ ،‬وتخاف مقتهم‪ ،‬وتأمن غضبى((‪.‬‬
‫الموعظة الخامسة‬
‫صار التوبة‪ ،‬وايطول المل‪ ،‬ويرجو الخرة بغير عمل؛ يقول قول العابدين ويعمل عمل‬ ‫يقول ا تعالى ))يابن آدم! ل تكن ممن ايدق ا‬
‫المنافقين‪ .‬إن اأعطى لم يقنع‪ ،‬وإن امنع لم يصبر‪ .‬يأامر بالخير ول يفعله‪ .‬وينهى عن الشر ولم ينته عنه‪ .‬يحب الصالحين وليس‬
‫منهم‪ ،‬ويبغض الامنافقين وهو منهم‪ .‬يقول ما ل يفعل‪ ،‬ويفعل ما ل يؤمر‪ ،‬ويستوفى ما ل ايوفى‪ .‬يابن آدم! ما من يوم جديد إل‬
‫والرض تخاطبك فى قولها تقول لك‪ :‬يابن آدم! تمشى على ظهرى‪ ،‬ثم اتخزن فى بطنى‪ ،‬وتأكل الشهوات على ظهرى‪ ،‬ويأكلك‬
‫الدود فى بطنى‪ .‬يابن آدم! أنا بيت الوحشة‪ ،‬وأنا بيت الامسائالة‪ ،‬وأنا بيت الوحدة‪ ،‬وأنا بيت الظلمة‪ ،‬وأنا بيت الحييات والعقارب‪،‬‬
‫فاعامرنى ول تخيربنى((‪.‬‬
‫الموعظة السادسة‬
‫يقول ا تعالى ‪)) :‬يابن آدم ما خلقاتاكم لستكثر بكم من قيلة‪ ،‬ول لستأنس بكم من وحشة‪ ،‬ول لستعين بكم على أمر عجزت عنه‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وتشكرونى كثيرال وتسبحونى ابكرلة وأصيلل‪ .‬يابن آدم! لو أن أولكم‬ ‫ول لجلب منفعة‪ ،‬ول لدفع مضيرة‪ ،‬بل خلقاتاكم لتعبدونى طوي ل‬
‫وآخركم‪ ،‬وجنكم وإنسكم‪ ،‬وصغيركم وكبيركم‪ ،‬واحاركم وعبدكم‪ ،‬اجتمعوا على طاعتى ما زاد ذلك فى املكى مثقال ذرة‪ .‬ومن جاهد‬
‫فإنما يجاهد لنفسه‪ ،‬إن ا لغنسى عن العالمين‪ .‬يابن آدم! كما تؤهذى تؤدذى بك‪ ،‬وكما تعمل ايعمل بك((‬
‫الموعظة السابعة‬
‫يقول ا تعالى ‪)) :‬يابن آدم! يا عبيد الدينار والدراهم! إنى خلقاتاهما لكم لتأكلوا بهما رزقى‪ ،‬وتلبسوا بهما ثيابى‪ ،‬واتسبحونى‬
‫واتقيدسونى؛ ثم تأخذون كتابى وتجعلونه وراءكم‪ ،‬وتأخذون الدينار والدراهم وتجعلونها فوق رءوسكم‪ ،‬ورفعتم بيوتكم وخفضتم‬
‫صة‪ ،‬ايرى ظاهرها مليحا ل وباطنها‬ ‫ص د‬ ‫بيوتى‪ ،‬فل أنتم أخيار ول انتم أحرار؛ أنتم عبيد الدنيا‪ ،‬واجتماع مثلكم كمثل القبور المج ا‬
‫قبيحلا‪ ،‬وكذا اتصدلحون للناس واتدحبون إليهم‬
‫ص ‪611‬‬
‫بألسنتكم الحلوة‪ ،‬وأفعالكم الجميلة‪ ،‬واتدباعدون بقلوبكم القاسية وأحوالكم الخبيثة ‪ .‬يابن آدم! أخلص عملك واسألنى! فإنى أعطيك‬
‫أكثر مما يطلب السائالون((‪.‬‬
‫الموعظة الثامنة‬
‫يقول ا تعالى‪ )) :‬يابن آدم! ما خلقتكم عبثلا‪ ،‬ول خلقتكم سدى‪ ،‬وما أنا بغافل‪ ،‬وإنى بكم خبير‪ .‬ولن تنالوا ما عندى إل بالصبر على‬
‫ما تكرهون فى رضائاى‪ ،‬والصبر لكم على طاعتى أيسر لكم من الصبر على معصيتى‪ ،‬وترك الذنب أيسر لكم من اعتذارى من‬
‫حر النار‪ ،‬وعذاب الدنيا أيسر لكم من عذاب الخرة‪ ،‬يابن آدم! كلكم ضال إل من هديته‪ ،‬وكلكم امسىء إل من عصمته‪ ،‬وتوبوا إلى‬
‫أرحمكم‪ ،‬ول تهتكوا أسراركم عند من ل يخدفى عليه سمركم((‪.‬‬
‫الموعظة التاسعة‬
‫صادوهر دواهلدى دودرلحدمسة لرَللاملؤهمهنيدن﴾ ]يونس‪ [57 :‬فلم ل‬ ‫يقول ا تعالى‪﴿ :‬ديا أدميدها الانا ا‬
‫س دقلد دجادءلتاكم املوهعدظسة رَمن اررَباكلم دوهشدفاسء لرَدما هفي ال م‬
‫صدلكم‪ ،‬ول اتكهلمون إل من كالماكم‪ ،‬ول اتطعمون إل من أطعمكم‪ ،‬ول تاـكرمون‬ ‫تحسنون إل لمن أحسن إليكم‪ ،‬ول تصلون إل من و د‬
‫صلون‬ ‫إل من أكرمكم؟ وليس لحد على أحد فضل‪ ،‬إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله‪ ،‬الذين ايحسنون إلى من أساء إليهم‪ ،‬ودي ه‬
‫من قطعهم‪ ،‬ويعفون عمن حرمهم‪ ،‬ويأتمنون من خانهم‪ ،‬وايدكالمون من هجرهم‪ ،‬ويكرمون من اهانهم‪ ،‬وإنى بكم لخبير((‪.‬‬
‫الموعظة الحادية عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪ )) :‬ياأيها الناس! إنما الدنيا دار لمن ل دار له‪ ،‬ومال لمن ل مال له‪ ،‬ولها يجمع من ل عقل له‪ ،‬وبها يفرح من ل فهم‬
‫له‪ ،‬وعليها يحرص من ل توكل له‪ ،‬ويطلب شهواتها‪ ،‬من ل معرفة له؛ فمن أراد نعمة زائالة‪ ،‬وحياة منقطعة‪ ،‬فقد ظلم نفسه وعصا‬
‫ض ۖ اقل لرَالـهه ۚ دكدت د‬
‫ب دعدلىى دنلفهسهه‬ ‫ت دواللدلر ه‬‫ربه‪ ،‬ونسى الخرة وغرته دنياه‪ ،‬وأراد ظاهر الثم وباطن هذا‪﴿ .‬اقل لرَدمن اما هفي الاسدمادوا ه‬
‫ب هفيهه ۚ الاهذيدن دخهساروا دأنفادساهلم دفاهلم دل ايلؤهمانودن ﴾ ]النعام‪.[12:‬‬ ‫الارلحدمدة ۚ دلديلجدمدعاناكلم إهدلىى ديلوهم اللهقديادمهة دل درلي د‬
‫ص ‪612‬‬
‫يابن آدم! راعونى وتاجرونى‪ ،‬وعاملونى وأسفلونى فى ربحكم‪ .‬عندى ما ل عيسن رأت‪ ،‬ول أذسن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر‪ ،‬ول تنفذ خزائانى ول تناقص‪ ،‬وأنا الدواهاب الكريم((‪.‬‬
‫الموعظة الثانية عشرة‬
‫يِ دفالردهابوهن ﴾‬‫ف هبدعلههداكلم دوإهايا د‬ ‫ت دعدللياكلم دوأدلوافوا هبدعلههديِ اأو ه‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! ﴿ديا دبهني إهلسدراهئايدل الذاكاروا هنلعدمهتدي الاهتي أدلندعلم ا‬
‫]البقرة‪ .[40 :‬كما ل تهتدى السبيل إل بدليل‪ ،‬كذلك ل طريق إلى الجنة بل عمل‪ .‬وكما ل ايجمع المال إل بنصب‪ ،‬كذلك ل تدخلون‬
‫الجنة إل بالصبر على عبادتى‪ .‬فتقربوا إلى ا بالنوافل‪ ،‬واطلبوا رضائاى برضا المساكين عنكم‪ ،‬وارغبوا إلى رحمتى بمجالس‬
‫العلماء‪ ،‬فإن رحمتى ل تفارقهم طرفة عين‪ .‬قال ا تعالى ‪ :‬يا موسى‪ ،‬اسمع ما أقول‪ ،‬فالدحمق أنه من تاكبر على مسكين حشراته يوم‬
‫القيامة على صورة الاذر‪ ،‬ومن تواضع له رفعته فى الدنيا والخرة‪ ،‬ومن تعرض لهتك سر مسكين حشرته يوم القيامة غير مستور‬
‫سره‪ ،‬ومن أهان فقيرال فقد بارزنى بالمحاربة‪ ،‬ومن يؤمن بى صافدحته الملئاكة فى الدنيا والخرة((‪.‬‬
‫الموعظة الثالثة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪ )) :‬يابن آدم! كم من سراج قد أطف دأته ريح الهوى‪ ،‬وكم من عابد قد أفسده العجب‪ ،‬وكم من غنى أفسده الدغناء‪ ،‬وكم‬
‫من فقير أفسده الفقر‪ ،‬وكم من صحيح أفسدته العافية‪ ،‬وكم من عالم أفسده العلم‪ ،‬وكم من جاهل أفسده الجهل؛ فلول مشايسخ اراكسع ‪،‬‬
‫ضسع‪ ،‬وبهائام رثاتسع‪ ،‬لدجعلت السماء من فوقكم حديدلا‪ ،‬والرض صفصفلا‪ ،‬والتراب رمادلا‪ ،‬ولما أنزلت عليكم‬ ‫ب اخاشسع‪ ،‬وأطفاسل ار ا‬ ‫وشبا س‬
‫ل‬
‫من السماء قطرة‪ ،‬ولما أنبتت فى الرض من حبة‪ ،‬ولصببت عليكم العذاب صيبا ((‪.‬‬
‫الموعظة الرابعة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! اطلبونى بقدر حاجتكم إلى‪ ،‬واعصونى بقدر صبركم على النار‪ ،‬ول تنظروا إلى آجالكم المستأخرة‪،‬‬
‫ك إهال دولجدهاه ۚ دلاه اللاحلكام دوإهدلليهه اتلردجاعودن﴾ ]القصص‪.[88 :‬‬ ‫وأرزاقكم الحاصرة‪ ،‬وذنوبكم المستترة و ﴿اكمل دشليءء دهاله س‬
‫الموعظة الخامسة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! إن صلح دينكم ولحمكم ودمكم‪ ،‬صلح عملكم‬
‫ص ‪613‬‬
‫ولحمكم ودمكم‪ ،‬وإن فسد دينكم فسد عملكم ولحمكم ودمكم فل تكن كالمصباح يحرق نفسه ويضىء للناس‪ ،‬وأخرج حب الدنيا من‬
‫قلبك‪ ،‬فإنى ل أجمع حب الدنيا وحبى فى قلب واحد أبدال وارفق بنفسك فى جمع الرزق‪ ،‬فإن الرزق مقسوم‪ ،‬والحريص محروم‪،‬‬
‫والبخيل مذموم‪ ،‬والنعمة ل تدوم‪ ،‬والستقصاء شؤم‪ ،‬والجل معلوم‪ ،‬والحق معلوم‪ ،‬وخير حكمة ا الخشوع‪ ،‬وخير الغناء‬
‫القناعة‪ ،‬وخير الزاد التقوى‪ ،‬خير ما أتى فى القلوب اليقين‪ ،‬وخير ما اأعطيتم العافية((‪.‬‬
‫الموعظة السادسة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪﴿ :‬ديا أدميدها الهذيدن آدمنوا لهدم تقولودن دما ل تفدعلودن﴾ ]الصف‪ .[1 :‬وكم تقولون وتخلفون‪ ،‬وكم تنهون عمل لستم عنه‬
‫ا‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫تنتهون‪ ،‬وكم تأامرون ول تفعلون‪ ،‬وكم تجمعون ما ل تأكلون‪ ،‬وكم توبة يوم بعد يوم تؤخرون‪ ،‬عاما ل بعد عام ثم لم اتنظرون‪،‬‬
‫أعندكم من الموت أمان؟ أم بيدكم براءة من النار؟ أم تحققتم الفوز بالجنان؟ أم بينكم وبين الرحمن رحمة؟ أبدطدرتكم النعم‪ ،‬وأفسدكم‬
‫الحسان‪ ،‬وغركم من الدنيا طول المل‪ .‬ول تغتنموا الصحة والسلمة‪ ،‬فأيامكم معلومة‪ ،‬وأنفاسكم معدودة‪ ،‬وقيدموا لنفسكم لما بقى‬
‫فى أيديكم‪ .‬يابن آدم! أنك تقادم على عملك‪ ،‬وإن كل يوم يهدم من عمرك‪ ،‬من يوم خرجت من بطن امك‪ ،‬وتدنو كل يوم من قبرك‬
‫حتى تدخله‪ .‬يابن آدم! دمدثدلاكم فى الدنيا كمثل الذباب‪ ،‬كلما وقع فى العسل انتشب فيه‪ ،‬فكذلك أنت‪ ،‬ل تكن كالحطب الذى يحرق نفسه‬
‫لغيره بالنار((‪.‬‬
‫الموعظة السابعة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! اعمل كما أمرتك‪ ،‬وانته عما نهيتك عنه‪ ،‬أجعلك حيا ل ل تموت أبدال ‪ ،‬وأنا حى ل اموت أبدلا‪ ،‬وإذا قلت‬
‫للشىء كن فيكون‪ .‬يابن آدم! إن كان قولك مليحلا‪ ،‬وعملك قبيحا ل فأنت رئايس المنافقين؛ وإذا كان ظاهرك مليحا ل وباطنك قبيحلا‪ ،‬فأنت‬
‫من الهالكين‪ .‬ايخادعون ا وهو خادعهم‪﴿ ،‬ايدخاهداعودن الالـده دوالاهذيدن آدمانوا دودما ديلخدداعودن إهال دأنفادساهلم دودما ديلشاعارودن﴾ ]البقرة‪ .[9 :‬يابن‬
‫آدم! ل يدخل الجنة إل من تواضع لعظمتى‪ ،‬وقدطع النهار بذكرى‪ ،‬وكف نفسه عن الشهوات من أجلى؛ فإنى آوى الغريب وأؤمن‬
‫الفقير‪ ،‬وأكرم اليتيم‪ ،‬وأكون له كالب الرحيم‪ ،‬وللرامل كالزوج العطوف الشفوق‪ .‬فمن كانت هذه صفته كنت مجيبا ل له‪ ،‬إذا دعانى‬
‫شيئاا ل أستجيبه‪ ،‬وإذا سألنى أعطيته((‪.‬‬
‫الموعظة الثامنة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! إلى من تشكونى وليس لمثلى تشكو؟ وإلى من تنسونى‬
‫ص ‪614‬‬
‫ولم أستوجب منكم ذلك؟ وإلى من تكفرونى ولست بظلم للعبيد؟ وإلى متى تجحد نعمتى؟ وإلى متى تستخف بكتابى‪ ،‬ولم اكلفك ما‬
‫ل تطيق؟ وإلى متى تجفونى؟ وإلى متى تجحدونى وليس لكم رب غيرى؟ وإذا مرضتم فأى طبيب من دونى يشفيكم؟ فقد‬
‫شكوتمونى وسخطتم قضائاى‪ ،‬وأنا الذى أرسلت السماء عليكم مدرارا فقلتم مطرنا بهذا النجم‪ ،‬وأنا الذى انزلت عليكم رحمتى قدرا‬
‫مقدورا مكيول معدودا موزونا مقسوما‪ ،‬فإذا جاء أحدكم قوت ثلثة أيام‪ ،‬قال‪ :‬أنا بدشير ولست بخير‪ ،‬فقد جحد نعمتى‪ ،‬ومن منع‬
‫الزكاة من ماله فقد استخف بكتابى‪ ،‬وإذا علم بوقت الصلة لم يفرغ لها فقد غفل عنى((‪.‬‬
‫الموعظة التاسعة عشرة‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! اصبر وتواضع أرفعك‪ ،‬واشكرنى أزدك‪ ،‬واستغفرنى أغفر لك‪ ،‬وإذا دعوتنى أستجب لك‪ ،‬واتب إلى‬
‫صل رحمك أزد فى أجلك‪ ،‬واطلب منى العافية بطول الصحة‪،‬‬ ‫أاتب عليك‪ ،‬واسألنى اأعطك‪ ،‬وتصادق اأبارك لك فى رزقك‪ ،‬و ه‬
‫والسلمة فى الوحدة‪ ،‬والخلص فى الرغبة‪ ،‬والورع فى التوبة‪ ،‬والغناء فى القناعة‪ .‬يابن آدم! كيف تطمع فى العبادة مع الشبع؟‬
‫وكيف تطمع فى حب ا مع حب المال؟ وكيف تطمع فى الخوف مع خوف الفقر؟ وكيف تطمع فى الورع مع الحرص على الدنيا؟‬
‫وكيف تطمع فى مرضاة ا بغير المساكين؟ وكيف تطمع فى الرضا مع البخل؟ وكيف تطمع فى الجنة مع حب الدنيا ومع المدح؟‬
‫وكيف تطمع فى السعادة مع قلة العلم؟((‪.‬‬
‫الموعظة العشرين‬
‫س ل عيش كالتدبير‪ ،‬ول ورع كالكف عن الذى‪ ،‬ول احب أرفع من الدب‪ ،‬ول شفيع كالتوبة‪ ،‬ول‬ ‫يقول ا تعالى‪ )) :‬يا أيها النا ي‬
‫عبادة كالعلم‪ ،‬ول صلة كالخشية‪ ،‬ول دظدفر كالصبر‪ ،‬ول سعادة كالتوفيق‪ ،‬ول زين أزين من العقل‪ ،‬ول رفيق آنس من اللحللم‪ .‬يابن‬
‫آدم! تفارغ لعبادتى أمل قلبك غنى‪ ،‬واأبارك فى رزقك‪ ،‬واأحل فى جسمك راحة ‪ ،‬ول تغفل عن ذكرى‪ ،‬فإن غفلت أمل قلبك فقرلا‪،‬‬
‫وبدنك تعبا ل ونصبلا‪ ،‬وصدرك هملا‪ ،‬ولو أبصرت ما بقى من عمرك لزهدت فيما بقى من أملك‪ .‬يابن آدم! بعافيتى وقويت على‬
‫طاعتى ‪ ،‬وبتوفيقى أديت فريضتى‪ ،‬وبرزقى قوربت على معصيتى‪ ،‬بمشيئاتى تشاء ما تشاء‪ ،‬وبإرادتى تريد ما تريد لنفسك‪،‬‬
‫وبنعمتى اقمت وقعدت ورجعت‪ ،‬وبكنفى أمسيت وأصبحت‪ ،‬وفى فضلى عشت‪ ،‬وفى نعمتى تقالبت‪ ،‬وبعافيتى تجملت؛ ثم تنسانى‬
‫شكرى؟((‪.‬‬ ‫وتذكر غيرى‪ ،‬فلهدم ل تؤدى حيقى و ا‬
‫)ص ‪(615‬‬
‫الموعظة الحادية والعشرون‬
‫يقول ا تعالى‪ )) :‬يا ابن آدم! الموت يكشف أسرارك‪ ،‬والقيامة تبلو أخبارك‪ ،‬والعذاب يهتك أسرارك‪ ،‬فإذا أذنبت ذنبا فل تنظر‬
‫ت رزلقا قليلل فل تنظر إلى قلته‪ ،‬ولكن انظر إلى من رزقك؛ ول تحقر الذنب‬ ‫إلى صغره‪ ،‬ولكن انظر إلى من عصيت‪ ،‬وإذا ارزق د‬
‫الصغير‪ ،‬فإنك ل تدريِ بأيِ ذنب عصيته‪ ،‬ول تأمن من مكريِ‪ ،‬فإن مكريِ أخفى عليك من دبيب النمل على الصفا في الليلة‬
‫المظلمة‪ .‬يا ابن آدم! هل عصيتني فذكرت غضبي؟ وهل انتهيت عما نهيتك؟ وهل أديت فريضتي كما أمرتك؟ وهل واسيت‬
‫المساكين من مالك؟ وهل أحسنت إلى من أساء إليك؟ وهل عفوت عمن ظلمك؟ وهل وصلت من قطعك؟ وهل أنصفت من خانك؟‬
‫وهل كلمت من هجرك؟ وهل أدبت ولدك؟ وهل أرضيت جيرانك؟ وهل سألت العلماء عن أمر دينك وادنياك؟ فإني ل أنظر إلى‬
‫صوركم ول إلى محاسنكم‪ ،‬ولكن أنظر إلى قلوبكم‪ ،‬وأرضى بهذه الخصال منكم((‪.‬‬
‫الموعظة الثانية والعشرون‬
‫يقول ا تعالى‪ )) :‬يا ابن آدم! انظر إلى نفسك وإلى جميع خلقي‪ ،‬فإن وجدت أعز عليك من نفسك‪ ،‬فاصرف كرامته إليك‪ ،‬وإل‬
‫اه دعدللياكلم دوهميدثادقاه الاهذيِ دوادثدقاكلم هبهه إهلذ قاللاتلم دسهملعدنا‬
‫أكرم نفسك بالتوبة والعمل الصالح إن كانت نفسك عليك عزيزة‪) .‬دوالذاكاروا هنلعدمدة ا‬
‫ف دسدنءة( )المعارج‪) (4 :‬ديلوام‬ ‫دوأددطلعدنا( )المائادة‪ (7 :‬واتقوا ا قبل يوم القيامة‪ ،‬يوم التغابن‪ ،‬يوم الحاقة‪) ،‬ديلوءم دكادن هملقدداارها دخلمهسيدن أدلل د‬
‫دل دينهطاقودن }‪ {35‬دودل ايلؤدذان دلاهلم دفديلعدتهذارودن( )المرسلت‪ (35،36 :‬يوم الطامة‪ ،‬يوم الصيحة )ديلولما دعابولسا دقلمدطهريلرا( )النسان‪:‬‬
‫ل( )النفطار‪ .(19 :‬يوم الديمومة‪ ،‬يوم الزلزلة‪ ،‬يوم القارعة‪ ،‬يوم فيه ترجف‬ ‫س دشليلئاا دواللدلمار ديلودمهئاءذ ه ا ه‬ ‫س لهدنلف ء‬
‫ك دنلف س‬
‫‪) .(10‬ديلودم دل دتلمله ا‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫مواقع الجبال‪ ،‬وحلول النكال‪ ،‬وتعجيل الزوال‪ ،‬يوم الصيحة والدرك‪ ،‬يوم فيه تشيب الولدان‪) ،‬دولد دتكونوا دكالهذيدن دقالوا دسهملعدنا دواهلم‬
‫لد ديلسدماعودن( )النفال‪.(21 :‬‬
‫الموعظة الثالثة والعشرون‬
‫ا هذلكلرا دكهثيلرا دودسرَباحوها ابلكدرلة‬ ‫يقول ا تعالى‪) :‬ديا أدميدها الاهذيدن آدمانوا الذاكاروا دا‬
‫)ص ‪(616‬‬
‫صيل( )الحزاب‪ .(41،42:‬يا موسى بن عمران يا صاحب البيان‪ ،‬اسمع كلمي! فأنا ا الملك الديان‪ ،‬ليس بيني وبينك‬ ‫دوأد ه‬
‫ل‬
‫ترجمان‪ ،‬دبشر آكل الربا بغضب الرحمن‪ ،‬ومضعفات النيران‪ .‬يابن آدم! إذا وجدت قساوة في قلبك‪ ،‬وسقلما في بدنك‪ ،‬وحرمانا في‬ ‫رَ‬
‫رزقك‪ ،‬ونقيصة في مالك‪ ،‬فاعلم بأنك تكلمت بما ل يعنيك‪ .‬يابن آدم! ما يستقيم دينك حتى يستقيم لسانك‪ ،‬ول يستقيم لسانك حتى‬
‫تستحيي من ربك‪ .‬يابن آدم! إذا نظرت في عيوب الناس ونسيت عيبك‪ ،‬فقد أرضيت الشيطان وأغضبت الرحمن‪ .‬يابن آدم! لسانك‬
‫أسد‪ ،‬إن أطلقته قتلك‪ ،‬فهلكك في إطلق لسانك‪.‬‬
‫الموعظة الرابعة والعشرون‬
‫خذوها دعديوا( )فاطر‪ .(6:‬اعلموا اليوم الذيِ تحشرون فيه فولجا فولجا‪ ،‬وتقومون‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ا‬
‫يقول ا تعالى‪ :‬يابن آدم! )إهان الشليطادن لكلم دعدكو فات ه‬
‫شار اللاماتهقيدن إهدلى الارلحدمهن دولفلدا‬ ‫بين يديِ الرحمن صفا صفا‪ ،‬وتقرؤون الكتاب حرفا حرفا‪ ،‬وتسألون عما عملتم سرا وجهلرا‪) .‬ديلودم دنلح ا‬
‫) ‪ ( 85‬دودناسواق اللاملجهرهميدن إهدلى دجدهاندم هولرلدا( )مريم‪ (85،86 :‬لكم وعد ووعيد‪ ،‬فإني أنا ا ل شبيه لي‪ ،‬وليس سلطان كسلطاني‪.‬‬
‫من صام لي في دهره خالصا أفطرته بألواني‪ ،‬ومن بات في ليله قائالما كان له شأن من شأني‪ ،‬ومن غض عينه عن محارمي أمنته‬
‫من نيراني‪ .‬فأنا الرب فاعرفوني‪ ،‬وأنا المنعم فاشكروني‪ ،‬وأنا الحافظ فاحفظوني‪ ،‬وأنا الناصر فانصروني‪ ،‬وأنا الغافر‬
‫فاستغفروني‪ ،‬وأنا المقصود فاقصدوني‪ ،‬وأنا المعطي فاسألوني‪ ،‬وأنا المعبود فاعبدوني‪ ،‬وأنا العالم فاحذروني‪.‬‬
‫الموعظة الخامسة والعشرون‬
‫اا أداناه دل إهلدده إهال اهدو دواللدمدلهئادكاة دواأوالو اللهعللهم دقاهئالما هباللهقلسهط دل إهلدده إهال اهدو اللدعهزياز اللدحهكيام )‪ (18‬إهان الرَديدن‬ ‫يقول ا تعالى‪ :‬يابن آدم! )دشههدد ا‬
‫خدرهة همدن اللدخاهسهريدن( )آل عمران‪:‬‬ ‫اه الهلسلام( )آل عمران‪) .(19 ،18 :‬دودمن ديلبدتهغ دغليدر الهلسلدهم هدينا ل دفدلن ايلقدبدل هملناه دواهدو هفي ال ه‬ ‫هعلندد ا‬
‫صا فأطاعه نجا‪ ،‬ومن عرف الشيطان فعصاه سلم‪ ،‬ومن عرف الحق‬ ‫‪ .(85‬وبشر كل شيء أحسن بالجنة‪ .‬ومن عرف ا خال ل‬
‫يِ‪ .‬وإن‬ ‫فاتبعه أمن‪ ،‬ومن عرف الباطل فاتقاه فاز‪ ،‬ومن عرف الشيطان والدنيا ثم رفضهما سعد‪ ،‬ومن عرف الخرة ثم طلبها اهد د‬
‫ا يهديِ من يشاء وإليه تقلبون‪ .‬يابن آدم! إذا كان ا تعالى قد تكفل لك بالرزق‪ ،‬فطول اهتمامك لماذا؟ وإذا كان الخلف من ا‬
‫فالبخل لماذا؟ وإذا كان إبليس عدو ا تعالى فالغفلة لماذا؟ وإذا كانت العقوبة بالنار‪ ،‬فالستراحة لماذا؟ وإذا كان ثواب ا الجنة‪،‬‬
‫فالمعصية لماذا؟ وإذا كان‬
‫)ص‪(617 :‬‬
‫حب اكل املخدتاءل دفاخوءر( )الحديد‪.(23 :‬‬ ‫كل شيء بقضائاي فالجزع لماذا؟ )لكيل دتألدسلوا دعدلى دما دفادتاكلم دول دتلفدراحوا هبدما آدتااكلم دواا ل اي ه‬
‫الموعظة السادسة والعشرون‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! أكثروا من الزاد فإن الطريق بعيد‪ ،‬وجدد القيام ل فإن البحر عميق‪ ،‬وحققوا العمل فإن الصراط دقيق‪،‬‬
‫وأخلص الفعل فإن الناقد بصير‪ .‬فشهواتك في الجنة‪ ،‬وراحتك إلى الخرة‪ ،‬ولديك الحور العين‪ ،‬وكن لي أكن لك‪ ،‬وتقرب إليي في‬
‫هوان الدنيا وحب البرار‪ ،‬فإن ا ل يضيع أجر المحسنين((‪.‬‬
‫الموعظة السابعة والعشرون‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! كيف تعصون وأنتم تجزعون من حر الشمس‪ ،‬وجهنم لها سبع طبقات‪ ،‬فيها نيران يأكل بعضها بع ل‬
‫ضا‪،‬‬
‫في كل منها سبعون ألف شعب من النار‪ ،‬في كل شعب سبعون ألف دار‪ ،‬وفي كل دار سبعون ألف بيت‪ ،‬وفي كل بيت سبعون ألف‬
‫بئار‪ ،‬وفي كل بئار سبعون ألف تابوت من نار‪ ،‬وفي كل تابوت سبعون ألف عقرب من نار‪ ،‬على كل تابوت سبعون ألف شجرة من‬
‫زقوم تحت كل شجرة سبعون ألف قائاد من نار‪ ،‬مع كل قائاد سبعون ألف ملك من نار‪ ،‬وسبعون ألف ثعبان من نار‪ ،‬طول كل ثعبان‬
‫سبعون ألف ذراع من نار‪ ،‬في جوف كل ثعبان بحر من السم السود‪ ،‬ولكل عقرب ألف ذنب‪ ،‬طول كل ذنب سبعون ألف ذراع‪،‬‬
‫شوءر )‪ (3‬دواللدبلي ه‬
‫ت‬ ‫طوءر )‪ (2‬هفي دريق امن ا‬ ‫ب املس ا‬‫في كل ذدنب سبعون ألف رطل من السم الحمر‪ ،‬فبنفسي أحلف‪) ،‬دوالمطوهر )‪ (1‬دوهكدتا ء‬
‫ف اللدملرافوهع )‪ (5‬دواللدبلحهر اللدملساجوهر )‪) ((6‬الطور‪ .(6-1 :‬يابن آدم! ما خلقت النيران إل لكل كافر‪ ،‬ونمام‬ ‫اللدملعاموهر )‪ (4‬دوالاسلق ه‬
‫وعاق الوالدين والمرائاي‪ ،‬ومانع الزكاة من ماله‪ ،‬والزاني‪ ،‬وآكل الربا‪ ،‬وشارب الخمر‪ ،‬وظالم اليتيم‪ ،‬والجير الغادر‪ ،‬والنائاحة‪،‬‬
‫حيلما( )الفرقان‪:‬‬ ‫اا دغافولرا در ه‬ ‫ت دودكادن ا‬ ‫ك ايدبرَدال ا‬
‫اا دسرَيدئااهتههلم دحدسدنا ء‬ ‫صالهلحا دفأ الودلهئا د‬
‫ب دوآدمدن دودعهمدل دعدملل د‬
‫ولكل مؤذيِ الجيران‪) ،‬إهال دملن دتا د‬
‫‪ (7‬فارحموا أنفسكم يا عباديِ! فإن البدان ضعيفة‪ ،‬والسفر بعيد‪ ،‬والحمل ثقيل‪ ،‬والصراط دقيق‪ ،‬والناقد بصير‪ ،‬والقاضي رب‬
‫العالمين((‪.‬‬
‫الموعظة الثامنة والعشرون‬
‫يقول ا تعالى‪ )) :‬يا أيها الناس كيف رغبتم في دنيا فانية زائالة‪ ،‬وحياة منقطعة؟ فإن للطائاعين الجنان يدخلون من أبوابها الثمانية‪،‬‬
‫في كل جنة سبعون ألف روضة‪ ،‬في كل‬
‫)ص‪(618 :‬‬
‫روضة سبعون ألف قصر من الياقوت‪ ،‬في كل قصر سبعون ألف دار من الزمرد‪ ،‬في كل دار سبعون ألف بيت من الذهب‬
‫الحمر‪ ،‬في كل بيت سبعون ألف مقصورة من الفضة البيضاء‪ ،‬في كل مقصورة سبعون مائادة من الغبر‪ ،‬على كل مائادة سبعون‬
‫ألف صحفة من الجواهر‪ ،‬في كل صحفة سبعون ألف لون من الطعام‪ ،‬حول كل مقصورة سبعون ألف سرير من الذهب الحمر‪،‬‬
‫على كل سرير سبعون ألف فراش من الحرير والستبرق والديباج‪ ،‬حول كل سرير سبعون ألف نهر من ماء الحياة واللبن والعسل‬
‫والخمر‪ ،‬في وسط كل نهر سبعون ألف لون من الثمار‪ ،‬في كل بيت سبعون ألف خيمة من الرجوان‪ ،‬على كل فراش حوراء من‬
‫الحور العين‪ ،‬بين يديها سبعون ألف وصيفة كأنهن بيض مكنون‪ ،‬على رأس كل قصر سبعون ألف قبة‪ ،‬في كل قبة سبعون ألف‬
‫هدية من الرحمن‪ ،‬ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪) ،‬دودفاهكدهءة هماما ديدتدخايارودن )‪ (20‬دودللحهم دطليءر هماما‬
‫ديلشدتاهودن )‪ (21‬دواحوسر هعيسن )‪ (22‬دكأ دلمدثاهل اللملؤلاهؤ اللدملكانوهن )‪ (23‬دجدزالء هبدما دكاانوا ديلعدمالودن( )الواقعة‪ .(24-20:‬ل يموتون فيها ول‬
‫جيدن( )الحجر‪:‬‬ ‫يهرمون‪ ،‬ول يحزنون ول يصومون‪ ،‬ول يصلون ول يمرضون‪ ،‬ول يبولون ول يتغوطون )دودما اهلم هملندها هباملخدر ه‬
‫‪ .(48‬فمن طلبها وذكر كرامتي وجواريِ ونعمتي فليتقرب إلي بالصدق‪ ،‬والستهانة بالدنيا‪ ،‬والقناعة بالقليل((‪.‬‬
‫الموعظة التاسعة والعشرون‬
‫يقول ا تعالى‪)) :‬يابن آدم! المال مالي وانت عبديِ‪ ،‬فما لك من مالي غل ما أكلت فافنيت‪ ،‬أو لبست فأبليت‪ ،‬أو تصدقت فأبقيت‪.‬‬
‫فأنا وأنت ثلثة أقسام‪ :‬فواحد لي‪ ،‬وواحد لك‪ ،‬وواحد بيني وبينك؛ فأما الذيِ لي فروحك‪ ،‬وأما الذيِ لك فعملك‪ ،‬وأما الذيِ بيني‬
‫وبينك‪ ،‬فمنك الدعاء ومني الجابة‪ .‬يابن آدم! تورع واقنع ترني‪ ،‬واعبدني تصر إليي‪ ،‬واطلبني تجدني‪ .‬يابن آدم! إذا كنت مثل‬
‫المراء الذين دخلوا النار بالفجور والعرب بالمعصية‪ ،‬والعلماء بالحسد‪ ،‬والتجار بالخيانة‪ ،‬والجبرية بالجهالة‪ ،‬والصناع والعباد‬
‫بالرياء‪ ،‬والغنياء بالكبر‪ ،‬والفقراء بالكذب‪ ،‬فأين من يطلب الجنة؟((‪.‬‬
‫الموعظة الثلثون‬
‫يقول ا تعالى‪) :‬يا أميها د اليهذيدن آدمانولا لااتاقوا ا دحاق اتدقاهتهه دولد دتامواتان إهلا دوأناتم امسهلماودن( )آل عمران‪ .(102 :‬يابن آدم! إنما مثل العلم‬
‫ل عمل كمثل البرق والرعد بل مطر‪ ،‬ومثل العمل بل علم كمثل شجرة بل ثمرة‪ ،‬ومثل العالم بل عمل كمثل قوس بل‬
‫)ص‪(619:‬‬
‫وتر‪ ،‬ومثل المال بل زكاة كمثل من يزرع الملح على الصفا‪ ،‬ومثل الموعظة عند الحمق كمثل الدر والجواهر عند البهائام‪ ،‬ومثل‬
‫القاسي مع العلم كمثل حجر باقع‪ .‬ومثل الموعظة عند من ل يرغب فيها كمثل المزمار عند القبور‪ ،‬ومثل الصدقة من الحرام كمثل‬
‫من يغسل الناء القذر على ثوب ببوله‪ ،‬ومثل الصلة بل زكاة كمثل جثة بل روح‪ ،‬ومثل العالم بل توبة كمثل البناء بل أساس‪،‬‬
‫اه إهال اللدقلوام اللدخاهسارودن( )العراف‪.(99:‬‬ ‫اه دفل ديألدمان دملكدر ا‬
‫)أددفأ دهمانوا دملكدر ا‬
‫الموعظة الحادية والثلثون‬
‫يقول ا تعالى‪) :‬يابن آدم! بقدر ميلك إلى الدنيا ومحبتي من قلبك‪ ،‬فإني ل أجمع حبي وحب الدنيا في قلب واحد أبلدا‪ ،‬يابن آدم!‬
‫تورع تعرفني‪ ،‬وتجوع ترني‪ ،‬وتجرد لعبادتي تصل إلي‪ ،‬وأخلص من الرياء عملك‪ ،‬األبسك محبتي‪ ،‬وتفرغ لذكريِ‪ ،‬أذكرك عند‬
‫ملئاكتي‪ .‬يابن آدم! في قلبك غير ا وترجو غير ا ا‪ ،‬إلى متى تقول ا تعالى‪ ،‬وتخاف غير ا؟ ولو عرفت حقا لما همك غير‬
‫ا‪ ،‬ولم تخف إل ا‪ ،‬ولم تفتر لسانك عن ذكر ا‪ ،‬فإن الستيصال عن الصرار بتوبة الكاذبين‪ .‬يابن آدم! لو خفت من النار كما‬
‫خفق من الفقر لغنيتك من حيث لم تحتسب‪ .‬يابن آدم! ولو رغبت في الجنة كما ترغب في الدنيا‪ ،‬لسعدتك في الدارين‪ ،‬ولو‬
‫ضا لسلمت عليكم الملئاكة بكرة وعشيا‪ ،‬ولو أحببتم عباديِ كما تحبون الدنيا لكرمتكم كرامة‬ ‫ذكرتموني كما يذكر بعضكم بع ل‬
‫المرسلين‪ ،‬فل تملئاوا قلوبكم بحب الدنيا‪ ،‬فزوالها قريب(‪.‬‬
‫الموعظة الثانية والثلثون‬
‫يقول ا تعالى‪) :‬صبرك على قليل من المعصية أيسر عليك من صبرك على كثير من عذاب جهنم‪) ،‬إهان دعدذادبدها دكادن دغدرالما(‬
‫ك راحة طويلة فيها نعيم مقيم‪ .‬يابن آدم! عليك بالثقة بما ضمنت لك قبل أن‬ ‫)الفرقان‪ .(65 :‬وصبرك على قليل من الطاعة ايعهقاب د‬
‫أطعم رزقك لغيرك‪ ،‬وازهد في الدنيا قبل أن أزهد فيك‪ ،‬وتخلص من الشبهات قبل أن تفنى حسناتك يوم الحساب‪ ،‬واعمر قلبك‬
‫بذكر الخرة‪ ،‬فليس لك مسكن غير القبر‪ .‬يابن آدم! من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات‪ ،‬و من خاف النار كف عن الشر‪،‬‬
‫ومن نهى نفسه عن الشهوات نال الدرجات العلى‪ .‬ويا موسى بن عمران! إذا أصابتك مصيبة وأنت على غير طهارة فل تلومن إل‬
‫نفسك‪ .‬يا موسى! الفقر من الحسنات هو الموت الكبر‪ .‬يا موسى! من لم يشاور ندم‪ ،‬ومن استخار ل يندم(‪.‬‬
‫الموعظة الثالثة والثلثون‬
‫يقول ا تعالى عز وجل‪) :‬من طلب السمعة بعمله كان كمن ينقل الماء على ظهره‬
‫بداية صفحة ‪620‬‬
‫إلى الجبل ‪ ،‬يناله التعب و النصب و ل يقبل من عمله شئ‪ ،‬و كلما اتحد بالماء ل يلين ‪ .‬يا بن آدم ! اعلم أني لم أقبل من العمل إل ما‬
‫كان خالصا لوجهي ‪ ،‬فطوبى للمخلصين ! يا بن آدم ! إذا رأيت الفقر مقبلل فقل ‪ :‬مرحبا بشعائار الصالحين ‪ ،‬و إذا رأيت الغنى نقبل‬
‫فقل ‪ :‬ذنوب عجلت عقوبة ‪ ،‬و لذا رأيت الضيف محبوسا ل هناك فقل ‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم‪ .‬يا بن آدم ! المال لي ‪ ،‬و أنت‬
‫عبديِ ‪ ،‬و الضيف رسولي ‪ ،‬أما تخشى أن أسلبك نعمتي ؟ الرزق رزقي ‪ ،‬و الشكر لك ‪ ،‬و نفعه عائاد عليك ‪ ،‬أفل تحمدني على ما‬
‫أنعمت عليك ؟ يابن آدم ! ثلث واجبات عليك ‪ :‬زكاة مالك ‪ ،‬و صلة رحمك ‪ ،‬و أمر عائالتك و أضيافك ‪ ،‬فإذا لم تفعل ما أوجبته‬
‫عليك ‪ ،‬جعلتك نكال للعالمين ‪ .‬يا بن آدم إذا لم ترع حق جارك كما ترعى حث عيالك ‪ ،‬لم أنظر إليك ‪ ،‬و لم أقبل عملك ‪ ،‬و لم‬
‫أستجب لدعائاك ‪ .‬يا بن آدم ! ل تتكل على مخلوق مثلك فأتكلك إليه ‪ ،‬و ل تتكبر على خلقي فإن أولك من نطفة ‪ ،‬و إني أخرجتها‬
‫من مخرج البول ‪ ) ،‬من بين الصلب و الترائاب ( ] الطارق ‪ . [7 :‬و ل تنظر إلى ما حرمت عليك ‪ ،‬فإن الدود أول ما يأكل منك‬
‫عينيك ؛ و اعلم أنك محاسب على النظرة و المحبة ‪ ،‬و اذكر مقامك غدال بين يديِ ‪ ،‬فإني ل أغفل عن سريرتك طرفة عين ‪ ،‬إني‬
‫عليم بذات الصدور"‪.‬‬
‫الموعظة الرابعة و الثلثون‬
‫يقول ا عزوجل‪ :‬يا بن آدم ! اخدمني ‪ ،‬فإني أحب من خدمني ‪ ،‬و استخدم له عباديِ ‪ ،‬فإنك ل تدريِ قدر ما عصيتني فيما مضى‬
‫من عمرك ‪ ،‬و لقدر ما تعصيني فيما بقى منه ؛ فل تنس ذكرى ‪ ،‬فإني فعال لما أريد ‪ ،‬و اعبدني ‪ ،‬فإنك عبد ذليل و أنا رب جليل ‪.‬‬
‫لو أن إخوانك و محبيك من بني آدم وجدوا رائاحة ذنوبك ‪ ،‬و اطلعوا منك على ما أعلمه منها ‪ ،‬لما جالسوك و ل قاربوك ‪ ،‬فكيف و‬
‫هي في كل يوم زائادة ‪ ،‬و عمرك في كل يوم في نقصان منذ ولدتك أمك ! يا بن آدم ليس من انكسر مركبه و عاد على لوح من‬
‫خشب ‪ ،‬و أحاطته المواج في البحر بأعظم مصيبة منك ؛ فكن من ذنوبك على ااا و حين و من عملك على خطر ‪ .‬يا بن آدم ! إني‬
‫انظر إليك بالعافية ‪ ،‬و استر عليك ذنوبك ‪ ،‬و أنا غني عنك و أنت إلى بالمعاصي مع حاجتك إلي ‪ .‬يا بن آدم! تداريِ إلى متى ؟‬
‫تعمر الدنيا و هي فانية و تخرب الخرة و هي باقية ‪ .‬يا بن آدم ! تداريِ خلقي و تخافهم خوفا من مقتهم ‪ .‬يا بن آدم! لو أن أهل‬
‫السموات و الرض استغفروا لك لكان ينبغي لك أن تبكي على ذنوبك ‪ ،‬لنك ل تدريِ على أيِ حال تلقاني ‪ .‬يا موسى بن عمران‬
‫! اسمع ما أقول ‪ ،‬و الحق أقول ‪ :‬إنه ل يؤمن بي عبد من عباديِ حتى يأمن الناس شره و ظلمه و كيده و نميمته و بغيه و حسده ‪ .‬يا‬
‫موسى ‪ ) ،‬و قل الحق من ربكم فمن شاء فيؤمن و من شاء فليكفر ( ] الكهف ‪.[ 29 :‬‬
‫بداية صفحة ‪621‬‬
‫الموعظة الخامسة و الثلثون‬
‫يقول ا عزوجل ‪ ):‬يا بن آدم ! إنك أصبحت بين نعمتين ‪ ،‬ل تدريِ أيهما أعظم ضدك ‪ ،‬أذنوبك المستورة عن الناس أم الثناء و‬
‫الحسن عليك و لو علم الناس ما أعلمه ‪ ،‬ما سلموا عليك ‪ .‬و أعظم من ذلك العافية ‪ ،‬و غناك عنهم ‪ ،‬و حاجتهم إليك ‪ ،‬و كف أذاهم‬
‫عنك ‪ .‬فاحمدني و اعرف قدر نعمتي عليك ‪ ،‬و أخلص عملك من الرياء ‪ ،‬و تزود كزاد المسافر الخائاف ‪ ،‬و جعل خيرك تحت‬
‫عرشي ‪ .‬يا بن آدم ! قلوبكم القاسية تبكي من أعمالكم و أعمالكم تبكي من أبدانكم ‪ ،‬و أبدانكم تبكي من ألسنتكم ‪ ،‬و ألسنتكم تبكي من‬
‫أعينكم ‪ .‬يا بن آدم ! خزائاني ل تنفذ أبدال فبقدر ما تنفق أنفق عليك ‪ ،‬و بقدر ما تمسك أمسك عليك ‪ .‬و إنما بخلك على المساكين بما‬
‫رزقتك لسوء ظنك و خوفك من الفقر ‪ ،‬و عدم ثقتك فدي ‪ ،‬لني جعلت أصل خلقتك الهتمام بالرزق ‪ ،‬فإذا اهتممت بالرزق و‬
‫رزقتك ‪ ،‬فأنفق و ل تبخل برزقي على عباديِ ‪ ،‬فقد ضمنت لك الخلف ‪ ،‬و و عدتك الجر ‪ ،‬فلم تشك في كتابي ؟ و من لم يصدق‬
‫بوعديِ ‪ ،‬و من لم يصدق بأنبيائاي ‪ ،‬فقد جحد ربوبيتي ‪ ،‬و من جحد ربوبيتي كببته في النار على وجهه" ‪.‬‬
‫الموعظة السادسة و الثلثون‬
‫قال ا تعالى‪ ":‬يا بن آدم ! أنا ا ل إله إل أنا فاعبدوني و اشكروا لي و ل تكفرون ‪ .‬يا بن آدم ! من عادى لي وليا ‪ ،‬فقد بارزني‬
‫بالمحاربة ‪ .‬و اشتد غضبي على من ظلم من ليس له ناصر غيريِ ؛ من رضى بما قسمت له ‪ ،‬باركت له في رزقه ‪ ،‬و أتته الدنيا‬
‫راغمة و إن كان ل يريدها "‪.‬‬
‫الموعظة السابعة و الثلثون‬
‫بقول ا عزوجل ‪ ":‬يا بن آدم ! ضع يدك على صدرك فما أحببته لنفسك ‪ ،‬فأحبه لغيرك ‪ .‬يا بن آدم ! جسدك ضعيف ‪ ،‬و لسانك‬
‫خفيف و قلبك جبار ‪ .‬يا بن آدم ! غايتك الموت فاعمل له قبل أن يأتيك ‪ .‬يا بن آدم ! لم أخلق عضوال من أعضائاك حتى خلقت له‬
‫رزقا ‪ .‬يا بن آدم ! لو خلقتك أبكم لتحسرت على البصر ‪ ،‬و لو خلقتك أصم لتحسرت على السمع ‪ .‬فاعرف قدر نعمتي عليك ‪ ،‬و‬
‫اشكر لي و ل تكفرني ‪ .‬فإلي المصير ‪ .‬يا بن آدم ! ما قسمته لك فل تتعب في طلبه ‪ ،‬و كل ما قسمته لك فهو يطلبك حتى تستوفيه ‪.‬‬
‫يا بن آدم ! ل تحلف بي كاذبا ل فمن حلف بي كاذبا ل أدخلته النار ‪ .‬يا بن آدم ! إذا أكلت رزقي ‪ ،‬فاتبع طاعتي ‪ .‬يا بن آدم ! ل‬
‫بداية صفحة ‪622‬‬
‫تطالبني برزق غد ‪ ،‬فإني ل أطالبك بعمل غد ‪ .‬يا بن آدم ! لو تركت الدنيا لحد من عباديِ ‪ ،‬لتركتها على أنبيائاي حتى يدعوا‬
‫عباديِ إلى طاعتي ‪ ،‬و إلى إقامة أمريِ ‪ .‬يا بن آدم ! اعمل لنفسك قبل نزول الموت بك ‪ ،‬و ل تغرنك الخطيئاة ‪ ،‬فإن على آثارها‬
‫السفر ‪ ،‬و لتلهك الحياة و طول المل عن التوبة ‪ ،‬فإنك تندم على تأخيرها حين ل ينفعك الندم ‪ .‬يا بن آدم! إذا لم تخرج حقي من‬
‫المال الذيِ رزقتك إياه ‪ ،‬و منعت منه الفقراء ‪ ،‬حقوقهم ‪ ،‬سلط عليك جبار يأخذه منك ‪ ،‬و ل أثيبك عليه ‪ .‬يا بن آدم! إن أردت‬
‫رحمتي فالزم طاعتي ‪ ،‬و إن خشيت عذابي فاخذر من معصيتي ‪ .‬يا بن آدم! رضيت منك بالعمل القليل ‪ ،‬و أنت ل ترضى بالرزق‬
‫الكثير ‪ .‬يا بن آدم! إذا كسبت المال فاذكر الحساب ‪ ،‬و إذا جلست على الطعام فاذكر الجائاع ‪ ،‬و إذا دعتك نفسك على القدرة على‬
‫الضعيف فاذكر قدرة ا عليك ‪ ،‬و لوشاء ا لسلطه ‪ ،‬و إذا نزل بك بلء فاستعن بل حول و ل قوة إل بال العلي العظيم ‪ ،‬و إذا‬
‫مرضت فعالج نفسك بالصدقة ‪ ،‬و إذا أصابتك مصيبة فقل ‪ :‬إنا ل و إنا إليه راجعون "‪.‬‬
‫الموعظة الثامنة و الثلثون‬
‫يقول ا عزوجل ‪ ":‬يا بن آدم! افعل الخير ‪ ،‬فإنه مفتاح الجنة و يقود إليها ‪ ،‬و اجتنب الشر فإنه مفتاح النار و يقود إليها ‪ .‬يا بن آدم!‬
‫اعلم أن الذيِ تبنيه للخراب ‪ ،‬و أن عمرك للخراب و جسدك للتراب ‪ ،‬و ما جمعته للورثة ؛ فالنعيم لغيرك ‪ ،‬و الحساب عليك ‪ ،‬و‬
‫العقاب لك و الندم ‪ ،‬و الصاحب لك في القير العمل ؛ فحاسب نفسك قبل أن تحاسب ‪ ،‬و الزم طاعتي ‪ ،‬و احذر معصيتي ‪ ،‬و ارض‬
‫بما آتيتك ‪ ،‬و كن من الشاكرين ‪ .‬يا بن آدم! من أذنب ذنبا ل و هو ضاحك ‪ ،‬أدخلته النار وهو باك ‪ ،‬و من جلس باكيا من خشيتي‬
‫أدخلته الجنة و هو ضاحك ‪ .‬يا بن آدم! كم من غني يتمنى الفقر يوم حسابه ‪ ،‬وكم من جبار أذله الموت ‪ ،‬و كم من حلو مرره‬
‫الموت ‪ ،‬و كم من مسرور بنعمته كدرها عليه الموت ‪ ،‬و كم من فرحة أورثت حزنا طويل ‪ .‬يا بن آدم! لو تعلم البهائام ما تعلمون‬
‫من الموت ‪ ،‬ىمتنعت من الكل و الشرب حتى تموت جوعا ل و عطشا ل ‪ .‬يا بن آدم! لو لم يقدر عليك إل الموت و شدته لكان يجب‬
‫عليك أن ل تهدأ باليل ‪ ،‬و لتقر بالنهار ‪ ،‬فكيف و ما بعده أشد منه ؟ يا بن آدم! اجعل سره وراءك بما تناله من النعم في آخرتك ‪،‬‬
‫و ليكن أسفك على ما فاتك منها خيرات ‪ ،‬و ما آتيك من دنياك فل تفرح به ‪ ،‬و ما فاتك منها فل تأس عليه ‪ .‬يا بن آدم! من التراب‬
‫خلقتك ‪ ،‬و إلى التراب أعيدك ‪ ،‬و من التراب أبعثك ‪ ،‬فودع الدنيا و تهيأ للموت ‪ ،‬و اعلم أني إذا أحببت عبدال زويت عنه الدنيا و‬
‫استعملته للخرة ‪ ،‬و أريته عيوب الدنيا فيحذرها ‪ ،‬و يعمل بعمل الجنة فأدخله الجنة برحمتي ؛ و إذا بغضت عبدال أشغلته عني‬
‫بالدنيا و استعملته بعملها ‪ ،‬فيكون من أهل النار فأدخله النار ‪.‬‬
‫بداية صفحة ‪623‬‬
‫يا بن آدم! كل عمر فان و إن طال ‪ ،‬و الدنيا كفئ الظلل ] يمكث[ قليلل ثم يذهب فل بعود إليك ‪ .‬يا بن آدم! أنا الذيِ خلقتك و أنا‬
‫الذيِ رزقتك ‪ ،‬و أنا الذيِ أحييتك ‪ ،‬و أنا الذيِ أميتك ‪ ،‬و أنا الذيِ أبعثك ‪ ،‬و أنا الذيِ أحاسبك ‪ ،‬فإن عملت شرال رأيته ‪ ،‬مع أنك ل‬
‫تملك لنفسك ضرال و ل نفعا ل و ل موتا ل و ل حياة و ل نشورال ‪ .‬يا بن آدم! أطعني و اخدمني و ل تهتم بالرزق ‪ ،‬فقد كفيتك أمره ‪ ،‬و‬
‫لتحمل هم شئ قد كفيته ‪ .‬يا بن آدم! كيف تحمل أمر شئ لم يقدر لك و لم تدركه ‪ ،‬كما أنك لم تأخذ ثواب عمل لم تعمله ‪ .‬يا بن آدم!‬
‫من كان سبيله الموت فكيف تفرح بالدنيا ؟ و من كان بيته القبر فكيف يسر في بيته في دار الدنيا ؟ يا بن آدم! رزق قليل و أنت‬
‫شاكر خير من كثير ] و أنت[ غير شاكر ‪ .‬يا بن آدم! خير مالك ما قدمته ‪ ،‬و شر مالك ما خلقته في الدنيا ‪ ،‬فقدم لنفسك خيرال تجده‬
‫عنديِ قبل أن يأخذك الموت ‪ .‬يا بن آدم! من كان مهموملا‪ ،‬فأنا الذيِ فرجت همه ‪ ،‬ومن كان مستغفرال ‪ ،‬فأنا الذيِ أغفر له ‪ ،‬و من‬
‫كان تائابا ل ‪ /‬فأنا الذيِ نهيته ‪ ،‬و من كان عاريا ‪ ،‬فأنا الذيِ كسوته ‪ ،‬ومن كان خائافا ‪ ،‬فأنا الذيِ أمن خوفه ‪ ،‬ومن كان جائاعا ‪ ،‬فأنا‬
‫الذيِ أشبعه ‪ ،‬و إذا كان عبديِ على طاعتي و أرضى أمريِ ‪ ،‬يسرت له أمره و شددت له أزره ‪ ،‬و شرحت له صدره‪ ،‬يا موسى !‬
‫من استغنى بأموال الفقراء و اليتامة أفقرته في الدنيا و عذبته في الخرة ‪ ،‬ومن تجبر على الفقراء و الضعفاء أعقبت بناءه الخراب‬
‫‪ ،‬و أسكنته النار ‪ ) ،‬إن هذا لفي الصحف الولى * صحف إبراهيم و موسى ( ] العلى ‪."[ 19 ،18 :‬‬
‫بسم ا الرحمن الرحيم‬
‫قانون التأويل‬
‫الحمد ل رب العالمين ‪ ،‬و الصلة و السلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ‪ ،‬و على ىله ‪ ،‬و صحبه أجمعين ‪ .‬و بعد ‪:‬‬
‫فقد سئال المام الزاهد أبو حامد محمد بن محمد ]بن محمد [ الغزالي الطوسي رحمة ا عن بيان معنى قول رسول ا صلى ا‬
‫عليه وسلم ‪ ":‬إن الشيطان يجريِ من أحدكم مجرى الدم "‪ ،‬هل هو يمازجه كالماء بالماء ‪ ،‬أم هو مثل الحاطة بالعود ؟ و هل هو‬
‫مباشرته للقلوب بتخايل من خارج تنقلها القوب إلى الحوايِ فتثبت فيها فيكون منها الوسواس ‪ ،‬أم يباشر جوهره جوهر القلوب ؟ و‬
‫هل يمكن جمع بين ما رسمته النبوة من هذا الوصف ‪ ،‬و مثله في ترائاي الجن لبني آدم في صور الحيوانات ‪ ،‬و في أشكال سواها‬
‫المختلفة ‪ ،‬مترائاي الملئاكة عليهم الصلة و السلم للنبياء في صور بني آدم ؟ أم صورتهم على تلك المثلة فينكشف الغطاء عنها‬
‫لمن قدر له رؤيتها ‪ ،‬ثم يحدث فيها كثافة جسمانية كما يحدث في الملئاكة ؟ و هل من سبيل إلى الجمع بين هذا القول من الشرع في‬
‫الجن و الشياطين ‪ ،‬و بين قول الفلسفة إنها أمثلة و عبارة عن الخلط الريعة التي في داخل الجسام لتدبيرها ‪ ،‬أم ل ؟‬
‫بداية صفحة ‪624‬‬
‫و ما يظهر من المصروعين هل هو كلم الجني الذيِ يصرعه ‪ ،‬أم هو اسان المصروع ببر سام يعتريه من شدة ما يناله منه؟ و‬
‫كيف إخبارهم بالغوائاب التي في القوى و لم تخرج بعد إلى الفعل ؟ و الطبيعيون يقولون في ذلك ما تعلمه من ثوران خلط الشوداء‬
‫و غلبته فيكون منه ذلك و يسمونهم بخلط الريح ‪ ،‬و هل بينهما علة جامعة أم ل ؟ و كيف المثل الذيِ أخبر به النبي صلى ا عليه و‬
‫سلم في إدبار الشيطان عند الذان و له حصاص ؛ هل أريد بذلك المثل منا تقول العرب ‪ :‬مضرط الحجارة ‪ ،‬و فلن يحدث من‬
‫الشدة ‪ ،‬أم يتصور في ذلك الوقت جسم يكون منه ما يكون من التغذيِ ؟ و كيف يكون الروث و العظم لهم غذاء و قد يكون بالشم ‪،‬‬
‫و البسيط ل تصح فيه الحواس المركبة ؟‬
‫و كيف يكون الحقيقة في البرزخ ؟ و هل أهله من قبيل أهل الجنة ‪ ،‬أم من قبيل أهل النار ؟ فليس هناك منزلة تتصور إل في الجنة‬
‫و النار ‪ ،‬و إن قيل إنه الفصل المشترك المعبر عنه بالسور الذيِ له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب ‪ ،‬هل هو‬
‫صحيح ‪ ،‬أم هو غيره ؟‬

‫ص ‪630‬‬
‫وأما الكلم المسموع من المصروع فهو كلمه ‪ ،‬وقوله القائال تكلم الجنى بلسانه كلم غير معقول‪ .‬نعم ‪ ،‬الجن سبب‬
‫لوقوع خواطر وتمثيلت وخيالت فى قلبه ‪ ،‬تنبعث بسببه داعية الكلم والحركة ؛ وكلمه مثل كلم النائام ‪ ،‬والنائام هو المتكلم ل‬
‫غيره‪ .‬وأما إخبار المصروع بالغيب فسببه أن جميع ما كان وما يكون مسطور ثابت فى شئ خلقه ا ‪ ،‬تارة يسمى لوحا ‪ ،‬وتارة‬
‫إمالما ‪ ،‬وتارة كتالبا ‪ ،‬كما قال ا تعالى ‪) :‬هفي هكدتا ء‬
‫ب ممهبيءن( ]النعام ‪ ،59 :‬يونس ‪ ،61:‬هود ‪ ،6 :‬النمل ‪ ،75:‬سبأ‪) .[3:‬هفي إهدماءم‬
‫امهبيءن( ]يس‪.[12:‬وثبوت الشياء فيه كثبوت القرآن فى دماغ الحافظ للقرآن ‪ ،‬وليس مثل الرقوم المكتوبة المرتبة فى جسم متناه؛‬
‫لن غير المتناهى ل يمكن أن يكتب فى المتناهى كهذه الكتب الظاهرة‪ .‬والقلب مثل مرآة ‪ ،‬واللوح مثل مرآة ‪ ،‬ولكن بينهما حجاب‪،‬‬
‫فإذا ارتفع تراءى فى القلب الصور التى فى اللوح ‪ .‬والحجاب هو الشاغل ‪ ،‬والقلب فى الدنيا مشغول‪ ،‬وأكثر اشتغاله التفكر فيما‬
‫يورده الحس عليه ؛ فإنه من الحواس فى شغل دائام‪ .‬فإذا ركدت الحواس بالنوم أو الصرع ‪ ،‬ولم يكن من فساد الخلط شاغل آخر‬
‫فى الباطن ‪ ،‬ربما يرى القلب بعض تلك الصور المكتوبة فى اللوح ؛ وتحقيق هذا يطول ‪ ،‬وقد أشرت إلى ملمح منه فى كتاب "‬
‫عجائاب القلب "‪ .‬وكذلك ما يظهر عند سكرات الموت حتى ينكشف للنسان موضعه من الجنة فيكون بشرى ‪ ،‬أو من النار والعياذ‬
‫بال فيكون نذيلرا ؛ لن الحواس تركد فى مقدمات الموت قبل زهوق الروح‪.‬‬
‫وأما حديث غذاء الشيطان من العظم ‪ ،‬وحصاصه ‪ ،‬وحديث الحوض ‪ ،‬والبرزخ فما عندى فى تفصيل المراد به تحقيق؛‬
‫بل بعض ذلك مما أوصى بالكف فيه عن التأويل ‪ ،‬وبعضه مدركه النقل المحض ‪ ،‬وبضاعتى فى علم الحديث مزجاة ‪ ،‬فموضع‬
‫الحوض ل يعرف إل بمجرد النقل فيرجع فيه إلى الحاديث ‪ .‬والبرزخ يمكن أن يكون المراد به مرتبة بين الجنة والنار لمن ليست‬
‫له حسنة ول سيئاة ‪ ،‬كالمجنون ‪ ،‬والذى لم تبلغه الدعوة ‪ .‬والحكم بأن المراد إحداهما دون الخرى تخمين إل أن يدل عليه النقل ‪،‬‬
‫وا سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ‪.‬‬
‫ص ‪631‬‬
‫الفهرس‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪5‬‬ ‫الحكمة فى مخلوقات ا عز وجل‬
‫‪50‬‬ ‫معراج السالكين‬
‫‪100‬‬ ‫روضة الطالبين وعمدة السالكين‬
‫‪174‬‬ ‫قواعد العقائاد فى التوحيد‬
‫‪178‬‬ ‫خلصة التصانيف فى التصوف‬
‫‪194‬‬ ‫القسطاس المستقيم‬
‫‪229‬‬ ‫منهاج العارفين‬
‫‪239‬‬ ‫الرسالة اللدنية‬
‫‪253‬‬ ‫فصل التفرقة‬
‫‪274‬‬ ‫أيها الولد‬
‫‪286‬‬ ‫مشكاة النوار‬
‫‪312‬‬ ‫رسالة الطير‬
‫‪316‬‬ ‫الرسالة الوعظية‬
‫‪319‬‬ ‫إلجام العوام عن علم الكلم‬
‫‪355‬‬ ‫المضنون به على غير أهله‬
‫‪381‬‬ ‫الجوبة الغزالية فى المسائال الخروية‬
‫‪391‬‬ ‫بداية الهداية‬
‫‪430‬‬ ‫الدب فى الدين‬
‫‪447‬‬ ‫كيمياء السعادة‬
‫‪457‬‬ ‫القواعد العشر‬
‫‪462‬‬ ‫الكشف والتبيين‬
‫ص ‪632‬‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪478‬‬ ‫سر العالمين وكشف ما فى الدارين‬
‫‪548‬‬ ‫الدرة الفاخرة فى كشف علوم الخرة‬
‫‪578‬‬ ‫المنقذ من الضلل‬
‫‪608‬‬ ‫المواعظ فى الحاديث القدسية‬
‫‪623‬‬ ‫قانون التأويل‬
‫‪631‬‬ ‫الفهرس‬

You might also like