Professional Documents
Culture Documents
مجموع رسائل الإمام الغزالي
مجموع رسائل الإمام الغزالي
ص 40
انظر إلى الغراب لما كان مكروها ل خلق في في طبعه الحذر لصيانة نفسه حتى كأنه يعلم الغيب فيما يتقصده ،وألهم الحتيال في
إخفاء عشه لصون فراخه وقل احتفاله بالنثى خشية أن تشغله عن شدة حذره ،ولذلك قل أن يرى مجتمعا ل مع أنثى ،فهذا أبدال دأبه
وحاله مع من له عقل وفطنة وتراه مع البهائام على خلف ذلك فيقف على ظهورها ويأكل من دم البعير ،ومن أرواث الدواب وقت
تبرزها ،وإذا وجد شيئاا ل من قوته وأكل منه وشبع دفن باقيه حتى يعاوده وقتا ل آخر ،فما خلق هذا في طبعه ودبره بهذا التدبير
العجيب إل ا ،لنه ل عقل له ول روية.
انظر إلى الحدأة لما كانت مكروهة حفظت نفسها بقوة طيرانها وتعاليها وحفظت في أمر قوتها بقوة بصرها ،فإنها ترى ما تقتات به
في الرض مع علوها في الجو فتنحط نحوه بسرعة ،وألهمت معرفة من هو مقبل ،ومن هو مدبر فتخطف ما تخطفه من الناس من
ورائاهم .ول تخطف مما يستقبلها لئال يمنعها المستقبل بيديه ،وأعينت لما كان غذاؤها من هذه الوجوه بأن جعلت لها مخالب كأنها
السنانير ل يكاد يسقط منها ما ترفعه ،فسبحان المدبر الحكيم.
ل
انظر إلى الحيوان المسمى حرباء وما فيه من التدبير ،فإنه خلق بطيئاا في نهضته ،وكان ل بد له من قوته ،فخلق في صورة
عجيبة ،فخلقت عيناه تدور لكل جهة من غير حركة في جسده ول قصد إليه ويبقى جامدال كأنه ليس من الحيوان ،ثم أعطي مع
السكون وهو أنه يتشكل في لون الشجر التي يكون عليها حتى يكاد يختلط لونه بلونها ،ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب أو
غيره أخرج لسانه فيخطف ذلك بسعة خفوق البرق ،ثم يعود على حالته كأنه جزء من الشجرة ،وجعل ا لسانه بخلف المعتاد
ليلحق به ما بعد عنه بثلثة أشبار أو نحوه ،فقد سخر له ما يصطاد به على هذه المسافة ،وإذا رأى ما يريعه ويخيفه شكل على هيئاة
وشكل ينفرد منه من من يصطاد من الحيوان ويكرهه .فانظر هذه الشياء التي خلقت فيه لجل قلة نهضته فأعين بها.
انظر إلى الحيوان الذيِ يسمى سبع الذباب وما أعطي من الحيلة والرفق فيما يقتات به ،فإنك تجده يحس بالذباب قد وقع قريبا ل منه
فيركد مليا ل حتى كأنه ميت أو جماد ل حراك به ،فإذا أحس أن الذباب قد اطمأن دب منه دبيبا ل دقيقا ل حتى ل ينفره حتى إذا صار
قريبا ل منه بحيث يناله بوثبه وثب عليه فأخذه ،فإذا أخذه اشتمل عليه بجسده كله خشية أن يتخلص منه الذباب فل يزال قابضا ل عليه
حتى يحس ببطلن حركته فيقبل عليه فتغذى منه بما يلئامه فانظر إلى هذه الحيلة من فعله أو هي مخلوقة من أجل رزقه فسبحانه
البارئ الحكيم.
ص 41
انظر إلى الذر والبعوض الذيِ اوهن ا قوتها وأصغر قدرتها وضرب بها المثل في كتابه ،هل تجد فيه نقصا ل عما فيه صلحها من
جناح تطير به ورجل تعتمد عليها وبصر تقصد به موضعا ل تنال فيه قوتها وآلة لهضم غذائاها وإخراج فضلته .وانظر هل يمكن أن
يعيش من غير قوت وهل يمكن أن يكون القوت في غير محل واحد ،وإخراج فضلته من غير منفذ ،ثم انظر كيف دبرها العزيز
الحكيم ،فسواها وقدر أعضاءها واستودعها العلم والمعرفة بمنافعها ومضارها ،وكله دليل على علمه وقدرته وحكمته البالغة ،فهي
بعوضة صغرت في النظر ،ومع هذا فلو أن أهل السموات والرض من الملئاكة ،فمن دونهم من العالمين وسائار الخلق أجمعين
أرادوا أن يعرفوا كيف قسم الخالق سبحانه أجزاءها وحسن اعتدال صورتها في أعضائاها لما قدروا على ذلك إل تظاهرال لمنظر
العجز منهم على عدم علم حقيقة الخبر ،ولو اجتمعوا ثم تفكروا كيف ركبت معرفتها حتى عرفت أن ما بين الجلد واللحم دما ل وهو
الذيِ منه غذاؤها ،ولول معرفتها به لم تدم على مصه تطعمه وكيف همتها التي قصدت بها أن تطير إلى الموضع الذيِ ألهمها ربها
أن فيه غذاءها ،وكيف خرق سمعها ،وكيف سمعت حس من يقصدها وكيف عرفت أن نجاتها في الفرار إذا ولت هاربة ممن
قصدها فلن يدرك ذلك منها الخلئاق أجمعون ،ولو جزءوها ،ما ازدادوا في أمرها إل عمى وبعدال عن المعرفة ،فهذه الحكمة
والقدرة في بعوضة فما ظنك بجميع مخلوقاته سبحانه وتعالى علوال كبيرال.
باب في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم
قال ا تعالى ) :دواهدو الاهذيِ دساخدر اللدبلحدر لهدتألاكالوا هملناه دللحلما دطهرلييا ( ) النحل .( 14 :
انظر واعتبر بما خلق ا تعالى في البحار والنهار من الحيوان المختلف الصور والشكال ،وما فيه من اليات البينات ،فإنه
تعالى لما جعل مسكنه في الماء لم يخلق له قوائام ولم يخلق فيه رئاة ،لنه ل يتمشى وهو منغمس في لجة الماء ،وخلقت له مكان
القوائام أجنحة شداد يحركها من جانبه فيسير بها حيث شاء ،وكسا جلده كسوة متداخلة صلبة تخالف لحمه متراصة كأنها درع لتتقيه
ما يعتديِ عليه وما يؤذيه ،وما لم يخلق له من السمك تلك الكسوة وهي القشر المتداخل المخلوق على ظاهره ،خلق له جلدال غليظا ل
متقنا ل له مقام تلك الكسوة لغيره ،وخلق له بصرال وسمعا ل وشما ل ليستعين بذلك على نيل قوته والهرب مما يؤذيه.
وانظر كيف أعطي في قعر البحر ما يناسبه في نيل القوت والهرب مما يضره ،ولما علم ا سبحانه أن بعضه غذاء لبعض كثره
وجعل أكثر أصنافه يحمل ولم يجعل الحمل منه
ص 42
مخصوصا ل بالنثى دون الذكر كحيوان البر ،بل جعل الذكر والنثى جنسا ل واحدال يخلق في بطونها مرة واحدة في وقت معلوم
ذريعة مجتمعة مشتملة على عدد ل ينحصر ،فيخلق من جوف واحد عددال ل يحصى ،وذلك من كل برزة حوتا ل من الجنس ومن
جنس آخر يخلق في النهار وغيرها بغير توالد فيخلق منها أعدادال ل تنحصر دفعة واحدة ،ومنه صنف يتوالد بالذكر والنثى،
وهذا الجنس يخلق له يدان ورجلن مثل السلحفاة والتمساح وماشاكلهما فيتولد منها بيض ،فإذا فقس البيض بحرارة الشمس خرج
من كل بيضة واحد من الجنس ،ولما علم ا سبحانه وتعالى أن السمك في البحر ل يمكن أن يحضن ما يخرج من بزره ألقى
الروح في بزر جميعه عندما يولد فيجد فيه جميع ما يحتاج من العضاء عند إلقاء الروح فيه فيستقل ول يفتقر إلى أحد في كمال
خلقه ،فانظر إلى هذه الحكمة واللطف حيث لك يمكن حضانته في البحر ول تربيته ول معونته البتة جعله مستقلل بنفسه مستغنيا ل
عن ذلك كله ،ثم إن ا سبحانه كثره ،لن منه قوت جنسه وقوتا ل لبني آدم والطير فلذلك كان كثيرلا ،ثم انظر إلى سرعة حركته وإن
لم تكن له آلة كغيره من الحيوان وانظر إلى حركة ذنبه وانقسامه ،وكيف يعتدل بذلك في سيره كما تعتدل السفينة برجلها في
سيرها ،وخلقت أرياشه ألواحا ل من جانبيه ليعتدل بهما أيضا ل في سيره فهو بمنزلة المركب ،وانظر إلى عظامه كيف خلقت مثل
العمد يبنى عليها ،ففي كل موضع منه ما يليق به من صوة العظم المشاكل لذلك العضو ،فهو كإنشاء المركب يمتد العظم الجافي
الذيِ هو قوته ويخرج من أضلع إلى مراقي البطن والظهر وعظام الرأس يحتاج إليه من المر وبه قوامه .وانظر إلى ما كان منه
كاسرال كيف أعين على نيل قوته لصلبة اللحم وقوة النهضة وكثرة السنان حتى أنه لكثر أسنانه تكون العضة الواحدة تجزيه عن
المضغ.
انظر إلى ما خلق ا في البحر ضعيفا ل قليل الحركة مثل أصناف الصدف والحلزون كيف حفظ بأن خلق عليه ذلك الحصن الذيِ
هو صلب كالرخام ليصونه ويحفظه ،وجعل له بيتا ل وسكنلا ،وجعل ما يولى جسده ناعما ل أنعم ما يكون ،وربما ضر ببيت بعض
أصناف الحلزون حتى ل يكون فيه مطمع البتة ،وأصناف منه خلقت في محائاز مفتوحة ل يمكن صيانتها لنفسها لتغلقها ول يضيق
مسلكها ،فجعل ا لها من الجبال والحجارة مغطى ،وجعل لها أسبابا ل تلتصق بها في الجبل فل يستطاع إخراجها إل بغاية الجهد
وجعل لها قوتا ل من رطوبة الجبل تتأتى حياتها بذلك.
وأما الحلزون الذيِ بيته كأنه كوكب فإنه يخرج رأسه يرعى ،فإذا أحس بما يؤذيه أدخل رأسه في بيته وختم عليه بطابع صلب
يقرب من صلبة بيته فيغيب أثره بالجملة فانظر هذا اللطف وأن ا لم يهمل شيئاا ل .واعلم أن ا حافظ لما في البحار وما في الكام
والجبال .فتبارك الذيِ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ص 43
وانظر إلى أنواع من السمك يرعى قرب البر الصغير منها والجا ل في العماق ،وخلق ا في جوفه صبغا ل كأنه حبر وهو يخلق له
فيه من فضلة غذائاه كما يخلق اللبن في الضرع ،فإذا أحس ما يؤذيه أخرج من جوفه ما يعكر موضعه ،ثم يذهب في الماء الذيِ
تغير فل يعرف كيف ذهب ول كيف طريقه من تغيير الماء فعل ا ذلك له وقاية لنفسه وفعل فيه مصالح أخرى ل يعلمها إل
خالقها .انظر إلى نوع آخر من السمك أعين بأجنحة مثل أجنحة الخفاش ينتقل بها من موضع إلى موضع في الهواء من وجه الماء
يظهر لمن ل يعرف ذلك أنه من طيور البر .انظر إلى نوع آخر من أنواع السماك ضعيف وكثيرال ما يكون في النهار ،وجعل ا
فيه خاصية تصونه إذا اقتربت منه يد من يأخذه وفيه الروح تخدر البدن واليد فيعجز قاصده عن أخذه بذلك السبب ،فلو ملئات الكتب
بعجائاب حكم ا في خلق واحد لمتلت الكتب وعجز البشر عن استكمالها وما هو المذكور في كل نوع تنبيه يشير إلى أمر عظيم.
باب في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائاب حكمة ا تعالى
ت دبلهدجءة دما دكادن دلاكلم أدلن اتلنهباتوا دشدجدردها
ض دوأدلنـدزدل دلاكلم همدن الاسدماهء دمالء دفأ دلندبلتدنا هبهه دحدداهئادق دذا دت دوالدلر د
قال ا تعالى ) :أداملن دخدلدق الاسدمادوا ه
أدإهلدسه دمدع ا
اه دبلل اهلم دقلوسم ديلعهدالودن ( ) النمل .( 60 :
انظر وفقك ا وسددك إلى ما على وجه الرض من النبات وما في نظره من النعم من حسن منظره وبهجته ونضارته التي ل يعد
لها شيء من مناظر الرض ،ثم انظر إلى جعل البارئ فيه من ضروب المنافع والمطاعم والروائاح والمآرب التي ل تحصى،
وخلق فيه الحب والنوى مخلوقا ل لحفظ أنواع النبات ،وجعل الثمار للغذاء والتفكه والتيان منها للعلف والرعي ،والحطب للوقود،
والخشاب للعمارة وإنشاء السفن ولغير ذلك من العمال التي يطول تعدادها ،والورق والزهار والصول والعروق والفروع
والصموغ لضروب من المصالح ل تحصى .أرأيت لو وجدت الثمار مجموعة من الرض ولم يكن تنبت على هذا السوق الحاملة
لها ما كان يحصل من الخلل في عدم الخشاب والحطب و التيان بالعلف وسائار المنافع ،وإن وجد الغذاء بالثمرات والتفكه بها .ثم
انظر ما جعل ا فيها من البركات حتى صارت الحبة الواحدة تخلف مائاة حبة وأكثر من ذلك وأقل ،والحكمة في زيادتها وبركاتها
حصول القتيات وما فضل ادخر للمور المهمة والزراعات ،وذلك في المثال كملك أراد عمارة بلدة فأعطى أهله من البذر ما
يبذرونه وفضلة يتقوتون بها إلى إدراك زرعهم ،فهذه من الحكمة التي أعم ا بها البلد وأصلح بها العباد ،وكذلك الشجر
ص 44
والنخل يزكو وتتضاعف ثمراتها حتى تكون الحبة الواحدة الشيء العظيم ليكون فيه ما يأكله العباد ويصرفونه في مآربهم ويفضل
ما يدخر ويغرس فيدوم جنسه ويؤمن انقطاعه ،لول نموه وبقاء ما يخلفه لكان ما أصابته جائاحة ينقطع فل يوجد ما يخلف.
تأمل في هذه الحبوب فإنها تخرج في أوعية تشبه الخرائاط لتصونها إلى أن تشتد وتستحكم كنا تغلق البشيمة على الجنين ،فأما
البزر وما أشبه من الحبوب ،فإنه يخرج من قشور صلبة على رءوسها أمثال السنة ليمنع الطير .فانظر كيف حصنت الحبوب
بهذه الحصون وحجبت لئال يتمكن الطير منها فيصيب بها ،وإن كان يناله منها قوته إل أن حاجة الدمي أشد واولى .تأمل الحكمة
في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائام كحاجة الحيوانات ولم يخلق فيها حركات تتبعث بعها ول
آلت توصل إليها غذاءها جعلت أصولها مركوزة في الرض لتجذب الماء من الرض ،فتتغذى بها أصولها وما عل منها من
الغصان و الوراق والثمار ،فصارت الرض كالم المربية لها ،وصارت أصولها وعروقها كالفواه الملتقمة لها ،وكأنها ترضع
لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان أمهاتها .ألم ترى إلى عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالطناب من كل جانب ليثبت
منصته فل يسقط ول يميل ،فهكذا أمر النبات كله له عروق منتشرة في الرض ممتدة إلى كل جانب وتمسكه وتقيمه ،ولول ذلك لم
تثبت الشجار العالية ،ل سيما في الرياح العاصفة .فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة واقتدى الناس في اعمالهم
بحكمة ا في مصنوعاته ،وتأمل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة ،فمنها غلظ ممتدة في طولها وعرضها،
منها دقائاق تتخلل تلك الغلظ منسوجة نسجا ل دقيقا ل عجيبلا ،لو كان مما يصنع بأيديِ البشر لما فرغ من ورقة شجرة واحدة إل في
مدة طويلة ،وكان يحتاج إلى آلت وطول علج .فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة ما يمل السهل والجبال وبقاع الرض
بغير اللة ول حركة إل قدرة البارئ وإرادته وحكمه ،ثم انظر تلك العروق كيف تتخلل الورق بأسره لتسقيه وتوصل إليه المادة
وهي بمنزلة العروق المبثوثة في بدن النسان لتوصيل الغذاء إلى كل عضو منه ،وأما ما غلظ من العروق فإنها تمسك الورق
بصلبتها وقوتها لئال ينتهك ويتمزق.
ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه ،فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامه إذا عدم ما يغرس أو عاقه سبب ،فصار ذلك كالشيء
النفيس الذيِ يخزن في مواضع شتى لعظم الحاجة إليه ،فإن حدث على الذيِ في بعض المواضع من حادث وجد منه في موضع
آخر ،ثم في صلبته يمسك رخاوة الثمار ورقتها ،ولوله لسرحت وسرح الفساد إليها قبل إدراكها ،وفي بعضها حب يؤكل وينتفع
بدهنه ويستعمل في مصالح .ثم انظر إلى خلق ا
ص 45
تعالى فوق النواة من الرطب وفوق العجم من العنبة والهيئاة التي تخرج عليها ،وما في ذلك من الطعم واللذة والستمتاع للعباد ،ثم
تأمل خلق الحب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائاب ،كالمودع في الماء الذيِ يخلق منه الحيوان وهو سر ل يعلم حقيقته إل ا
سبحانه وما علم من ذلك يطول شرحه.
ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلبة وخلقت في ظاهره قشرة حتى أنه بسبب ذلك إن سقط في تراب أو غيره ل يفسد سريعا ل ،
وإذا ادخر لوقت الزراعة بقى محفوظلا ،فصار قشره الخارج حافظا ل لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظه،
عندما يوضع في الرض ويسقى يخرج منه عرق في النوى وغصن في الهواء ،وكما ازداد غصنا ل ازداد عرقا ل تتقوى به أصل
الشجرة وينصرف الغذاء منه إلى الغصن فهي كذلك إذ يتم غصنها قوتها فتكون الفروع محفوظة عن السقوط بالهواء والنكسار
بالنقل أو بغيره ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة فيقسمه ا سبحانه بالقسط وميزان الحق ،فينصرف للورق غذاء
صالح له وللعروق المشتبكة في الوراق لتصال الغذاء إلى جوانب الورق ما يليق لغذائاها ،وللثمار غذاء صالح لها ،وللقماع
واللحا والزهار غذاء صالح لكل من ذلك ما يليق به ويصلحه ،فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها وطعمها ورائاحتها وألوانها
المختلفة وحلوتها وطيبها ،ثم انظر كيف جعل ا سبحانه خروج الوراق سابقا ل لخروج الثمار لن الثمرة ضعيفة عند خروجها
تتضرر بحر الشمس وبرد الهواء ،فكانت الوراق ساترة لها ،وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من الشمس والهواء ل غنى
للثمرة عنها فيحفظها ذلك من المن والعفن وغير ذلك من الفساد.
ثم انظر كيف رتب البارئ سبحانه الشجار والثمار والزهار ،وجعلها مختلفة اللوان والشكال والطعوم والروائاح .فأشكالها ما
بين طويل وقصير وجليل وحقير .وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر ،ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف
ومتوسط ،وطعومها ما بين حلو وحامض ومز وتفه ومر ،وروائاحها إلى عطرات لذيذات مختلفات ،وقد أوضح الكتاب العزيز من
ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور برؤيتها وتنتعش النفوس لرونق بهجتها ،وأودع ا سبحانه فيها منافع ل تحصى مختلفة التأثير.
فمنها ما تقوى به القلوب ،ومنها أغذية تحفظ الحياة ،وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولها ،وخلق فيها بروزال لحفظ نوعها تزرع عند
ت هبالمدلههن دو ه
صلبءغ هللهكهليدن جفافها وانفصال وقت نضارتها .انظر وتأمل ما في قوله عز وجل ) :دودشدجدرلة دتلخاراج هملن ا
طوهر دسليدنادء دتلناب ا
( ) المؤمنون .( 20 :فأخرج سبحانه فيما
ص 46
بين الحجرو الماء زيتا ل صافيا ل لذيذال نافعا ل كما اخرج اللبن من بين رفث ودم ،ومن أخرج من النخل شرابا ل عسلل مختلفا ل ألوانه فيه
شفاء للناس ،ولو جمعت هذه الشياء في مستقر لكانت مثل النهار وكل ذلك لمنافع العباد .فانظر ما فيه من العبرة لذويِ الفكار،
ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للعلى من الشجرة ،وكيف قسم البارئ في غذاء النخلة ،فقسم للجذر ما
يصلح لها وللجريد ،وما فيه من السل ما يصلح لها ويناسب جريدها ويرسل للثمرة ما يليق بها ،وكذلك الليف الحافظ للصول مع
الثمرة وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها فوق بعض مجموعة من غلف متقن يحفظها مما
يفسدها ويغيرها حتى إذا قويت صلحت أن تبرز للشمس والهواء ،فشق عنها غلفها بالتدريج ،وهو الذيِ كان حافظا ل لها ،فيصير
يفترق شيئاا ل بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكتمل قوتها ،فتظهر جميعها حتى ما يضر بها ما يلقاها
من حر وبرد ،ثم تراها في النضج والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها فيلتذ حينئاءذ بأكلها ويمكن النتفاع بادخارها وتصف في
المآرب التي هيئات لها ،واعتبر ذلك في جميع الشجار ،فإنك ترى من أسباب الحفظ ولطائاف الصنع ما يتعبر به كل ذيِ فهم ولب،
فمن ذلك خلق الرمانة وما فيها من غرائاب التدبير ،فإنك ترى فيها شحما ل مركوما ل في نواصيها غليظ السفل رقيق العلى كأمثال
التلل في تلوينه أو البناء الذيِ وسع أسفله للستقرار ورقق أعله حتى صار مرصوفا ل رصفا ل كأنه منضد باليديِ ،بل تعجز
اليديِ عن ذلك التداخل الذيِ نظم حبها في الشحم المذكور ،وتراه مقسوما ل أقساملا ،وكل قسم منه مقسوم مقسوم بلفائاف رقيقة
منسوجة أعجب نسج وألطفه لتحجب حبها حتى ل يلتقي بعضه ببعض فيفسد ول يلحق البلوغ والنهاية ،وعليها قشر غليظ يجمع
ذلك كله ،ومن حكمة هذه الصنعة أن حبها لو كان حشوها منه صرفا ل بغير حواجز لم يمد بعضه بعضا ل في الغذاء ،فجعل ذلك
الشحم خلله ليمده بالغذاء ،أل ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ممدودة منه بعروق رقاق توصل إلى الحب
غذاءها ،وإلى حبة حبة غذاءها ومن رقها وضعفها ل تكدر على القل ول تعرف بها ،ثم انظر ما يصير من الحلوة في الحب من
أصول مرة شديدة المرارة قابضة ،ثم تلك اللفائاف على الحب تمسكه على الضطراب وتحفظه ،ثم حفظ الجميع وغشاه بقشر
صلب شديد القبض والمرارة وقاية له من الفات ،فإن هذا النوع من النبات للعباد به انتفاعات وهو ما بين غذاء ودواء وتدعو
الحاجة إليه في غير زمانه الذيِ يجني فيه من شجرة فحفظ على هذه الصفة لذلك.
انظر إلى عود الرمانة الذيِ يِ متعلقة به كيف خلق مثبتا ل متقنا ل حتى تستكمل خلقها فل تسقط قبل بلوغها الغاية المحتاج إليها وهي
من الثمرة المختصة بالنسان دون غيره من
ص 47
الحيوان .انظر إلى النبات الممتد على وجه الرض مثل البطيخ واليقطين وما أشبه ذلك وما فيه من التدبير ،فإنه لما كان عود هذا
النبات رقيقا ل ريانا ل ذا احتياج إلى الماء ل ينبت إل به جعل ما ينبت به منبسطا ل على وجه الرض ،فلو كان منتصبا ل قائاما ل كغيره من
الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينها ،فكانت تسقط قبل بلوغها بلوغ غاياتها ،فهي تمتد على وجه الرض
لبلوغ الغاية وتحمل الرض عودها وأصل الشجرة والسقي بمدها .وانظر هذه الصناف كيف ل تخلق إل في الزمن الصالح لها
ولمن تناولها ،فهي له معونة عند الحاجة إليها ولو أتت في زمان البرد لنفرت النفوس عنها ولضرت بأكثر من يأكلها.
ثم انظر إلى النخل لما كانت النثى منه تحتاج إلى التلقيح خلق فيها الذكر الذيِ تحتاج إليه لذلك حتى صار الذكر في النخل كأنه
الذكر في الحيوان ،وذلك ليتم خلق بزراعته تحفظ أصول هذا النوع .ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة ،فواحد يفور
في البدن فيستخرج الفضلت الغليظة ،وأخر لشد البطن في الطبيعة ،وآخر للسهال ،وآخر للقئ ،وآخر لروائاحه ،وآخر للمرضى
والضعفاء ،وكل ذلك من الماء ،فسبحان من دبر ملكه بأحسن التدبير.
باب ما تستشعر به القلوب من العظمة لعلم الغيوب
ض دودملن هفيههان دوإهلن هملن دشليءء هإل ايدسرَباح هبدحلمهدهه دودلهكلن ل دتلفدقاهودن دتلسهبيدحاهلم إهاناه دكادن ت الاسلباع دوالدلر ا قال ا العظيم ) :اتدسرَباح دلاه الاسدمادوا ا
دحهليلما دغافولرا ( ) السراء ( 44 :
ض ( ) الشورى ( 5 : ه ر ل د ل ا في نل م ل ن روا ف ل
غ د
ت ل
س ي
د ه د ه د هل د د ه د هد هو مه ب
رَ ر دمل حب ن حو ا ب
رَ س
د ي
ا ا
ة د
ك ئا مل ل
ل
هه ا د د هوا ن ه ق ول د
ف ل
ن م نر ا
ت ديدتدف د ه
ل ط وقال تعالى ) :دتدكااد الاسدمادوا ا
خيفهتهه ( ) الرعد .( 13 : د ا د ل
وقال تعالى ) :دوايدسرَباح الارلعاد هبدحلمهدهه دوالدملهئاكة هملن ه
اعلم وفقنا ا وإياك أن جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب من بدائاع الخلق وعجائاب الصنع وما ظهر في مخلوقاته من الحكم آيات
بينات ،وبراهين واضحة ،ودلئال دالت على جلل بارئاها وقدرته ونفوذ مشيئاته وظهور عظمته ،فإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى
إليك وهي نفسك رأيت فيها من العجائاب واليات ما سبق التنبيه عليه وأعظم منع ،ثم إنك إذا نظرت إلى مستقرك وهي الرض
وأجلت فكرك فيها وأطلت النظر في استرسال ذهنك فيما جعل فيها وعليها من جبال شامخات ،وما أحيط بها من بحار زاخرات،
وما جرى فيها من النهار ،وما انبث فيها من أصناف النباتات والشجار ،وما بث فيها من
ص 48
الدواب إلى غير ذلك مما يعتبر به أولو اللباب ،ثم إذا نظرت إلى سعتها وبعد أكنافها ،وعلمت عجز الخلئاق عن الحاطة بجميع
جهاتها وأطرافها ،ثم إذا نظرت فيما ذكرته العلماء عن نسبة هذا الحق العظيم إلى السماء وأن الرض وما فيها بالنسبة إلى السماء
كحلقة ملقاة في أرض فلة وما ذكره النظار من أن الشمس في قدرها تزيد على قدر الرض مائاة ونيفا ل وستين جزءلا ،وأن من
الكواكب ما يزيد عن الرض مائاة مرة ،ثم إنك ترى هذه النيرات كلها من شمس وقمر ونجوم قد حوتها السموات وهي مركوزة
فيها ،ففكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم كيف يكون قدرها ،ثم انظر كيف ترى الشمس والقمر والنجوم والسماء الجامعة
لذلك في حدقة عينك مع صغرها ،وبهذا تعرف بعد هذا كله منك وعظم ارتقائاه ،ولجل البعد ترى هذه النيرات صغيرة في رأيِ
العين ،ثم انظر إلى عظم حركتها وأنت ل تحس بها ول تدركها لبعدها ،ثم إنك ل تشك أن الفلك يسير في لحظة قدر الرض مائاة
مرة وأكثر من ذلك وأنت غافل عن ذلك ،ثم فكر في عظم قدر هذه الشياء ،واسمع قسم الرب سبحانه بها في مواضع من الكتاب
ك دما الاطاهراق ) (2الانلجام ت اللاباروهج ( ) البروج ) ( 1 :دوالاسدماهء دوالاطاهرهق ) (1دودما أدلددرا د العزيز فقال عز وجل ) :دوالاسدماهء دذا ه
ب ( ) الطارق ( 3 - 1 الاثاهق ا
وقال ) :دفل أ القهسام هبدمدواهقهع المناجوهم ) (75دوإهاناه دلدقدسسم دللو دتلعدلامودن دعهظيسم ( ) الواقعة ( 76 ، 75 :
إلى غير ذلك من اليِ ،ثم ترق بنظرك إلى ما حواه العالم العلويِ من الملئاكة وما فيها من الخلق العظيم ،وما اخبر به جبريل عليه
السلم النبي صلى ا عليه وسلم عن إسرافيل عليه السلم ،يقول جبريل :فكيف لو رأيِ إسرافيل ،وإن العرش لعلى كاهله ،وإن
ض ( ) البقرة .( 255 :فما ت دوالدلر د رجليه لفي تخوم الرض السفلى ،وأعظم من هذا كله قوله عز وجل ) :دوهسدع اكلرهسمياه الاسدمادوا ه
ظنك بمخلوق وسع هذا المر العظيم ،فارفع نظرك إلى البارئ العظيم واستدل بهذا الخلق العظيم على قدر هذا الخالق العظيم،
وعلى جلله وقدرته وعلمه ،ونفوذ مشيئاته وإتقان حكمته في بريته ،وانظر كيف جميع هذا الصنع العظيم ممسوك بغير عمد تقله،
ول علئاق من فوقعه ترفعه وتثبته ،فمن نظر في ملكوت السموات والرض ونظر ذلك بعقله ولبه ،استفاد بذلك المعرفة بربه
والتعظيم لمره ،وليس للمتفكرين إلى غير ذلك سبيل ،وكلما ردد العقل الموفق النظر والتفكر في عجائاب الصنع وبدائاع الخلق
ازداد معرفة ويقينا ل وإذعانا ل لبارئاه وتعظيملا ،ثم الخلق في ذلك متفاوتون ،فكل مثال من ذلك على حسب ما وهبه له من نور العقل
ونور الهداية .وأعظم شيء موصل إلى هذه الفوائاد المشار إليها تلوة الكتاب العزيز ،وتفهم ما ورد فيه وتدبر آياته مع ملزمة
تقوى ا سبحانه.
ص 49
فهذا هو باب المرعفة بال واليقين بما عند ا ،ثم انظر وتأمل ما نشير إليه ،فإنك علمت على الجملة أن رسول ا صلى ا عليه
وسلم أسرى به إلى أن بلغ المنتهى ورأى من آيات ربه الكبرى .واطلع على ملكوت ربه وتحقق أمر الخرة والولي .ودنا من ربه
ب هزلدهني هعلللما ( ) طه .( 114 :حتى كان كقاب قوسين أو أدنى .فما ظنك بعلم من شرف بهذا المعنى ثم أمر بأن يقول ) :دوقالل در رَ
علمك بمعرفته ومن عليك بنور هدايته واستعملنا وإياك بطاعته .وجعلنا بكرمه أجمعين من أهل وليته بمنه وكرمه وجوده إنه
ولي ذلك.
صفحة 50
بسم ا الرحمن الرحيم
معراج السالكين
فاتحة معراج السالكين
اللهم إنا نحمدك و نشرك معتقدين فيك أنك ل ترتاح إلى الشكر ارتياح ذويِ الحاجات لكن النفوس المؤيدة تأبى إل الشكر لمنعمها.
سبحانك أيها الرب الرحيم علمت مع نفوذ علمك و أمهلت مع شدة بطشك و لم تمنع الرزق من جاهر بعصيانك .تعاليت أنت
القريب الظاهر الول الخر ل تستفزك سطوة العبيد و أنت أقرب إليهم من حبل الوريد.
و نسألك اللهم صلة زاكية مباركة على نبي الرحمة و منقذ هذه المة محمد عبدك الدال عليك و الهاديِ إليك.
إخواني نصحت لكم فهل تحبون الناصحين و تحريت رشدكم فهل علي إل البلغ المبين و ما تغني النصيحة .و قد عم الداء و
مرض الطباء و استشفي بغير الشفاء و اعتيض من البصر بالعمى .و خبثت القلوب و رين عليها .و عطلت البصائار و نسب
التقصير إليها .و اتخذت آيات ا هزلوا و لعلبا .و صيرت أغراض الخرة إلى العاجلة سبلبا فل موقظ من غفلة و ل زاجر عن زلة:
غرقى فل داع لنهج أقوام دمرضى عن الخيرات في بحر الردى
صرفت وجوههم لوجه الدرهم شغفوا بكل رذيلة مذمومة
ناموا عن المقصود لم يستيقظوا ستكون يقظتهم لخطب أعظم
فنعوذ بال أن نكون ممن رغب عن طريق هو لها سالك ،و قال هلك الناس و هو في جملتهم هالك.
اعلم أيها الخ أن الباعث على إسعافك في مطلوبك غرضان مهمان .و لما اقتصرت في طلبك على موافقتهما و دارت رغبتك
على تحصيل حقيقة مقصودهما .و اقتصرت همتك من بين العلوم على العلوم اللهية و زعمت أن مقصودك طلب الخلص من
شر العتقادات الفاسدة ،و الهرب من الراء المجانية للحق المعاندة .رأيت تقديم التنبيه على الغرضين المذكورين لنيتوجب العذر
فيما انتدبنا إليه ،و ليكون ذلك المهم الكبر الذيِ نبهنا عليه.
الغرض الول :ما شاهدناه من فساد الزمان و أخذه في الزدياد و كثرة الراء
صفحة 51
و فساد العتقاد ،و عدم ذاب يبذل في الجتهاد ،و يمرها على كف النتقاد ،و لول سياسة الملوك لعمت الخافقين ظلمها ،و رسخ
في كل القطار قدمها ليقضي ا أملرا كان مفعولل .و يبقى ءسلما كان إبقاؤه عليه وعلدا مسئاولل .و لكن تعاقب الزمان و طرو
الحوادث و كثرة الصوارف و فتور الهمم داعية إلى الفسا ،و الداء يزداد كل يوم أغذية السوء كالذنوب فرأيت إبراز هذه النبذ
لتكون مغنية للسائالين و معينة للسالكين و منفعة باقية في الخرين.
و الهم من هذا الغرض التنبيه على غوائال الراء البشعة التي استهوت عقول أكثر الناس و هم في ازدياد من هذا الفن ،و هو سبب
فتور الشرائاع و هو عند النبياء على مر اليام و النفوس مولعة بكل غريب لم تألفه و غامض لم تعهده فل يسلم الغمز الجاهل من
الوقوع فيه و الفطن المتباطيء عن الغترار بما يظهر من مبادئاه.
و قد كثرت ترهات هذه الطائافة لعلتين:
إحداهما :الزهد في الرد عليهم.
و الثانية :بدار الجهال بمجادلة الرد على ما قرر لديهم كمقابلتهم بإنكار علوم التعاليم الربعة من الهندسة و الحساب و المنطق و
معرفة المواكب و ثبوتها .و هي مقدمات علومهم و عنوان كلمهم و عنصر براهينهم و لم يحكموا فيما حاولوا شيلئاا كإحكامهم لها.
و المنطق على مر اليام و كر الدهور ينقحونه و يهذبونه إلى زمان أفلطون فزاد ترتيلبا و ميز فيه السفسطة من الجدل .و حذا
حذوه تلميذه أرسطو فرتب صناعة البرهان .و هذب الكتب الثمانية .و كذلك علم الهيئاة و الهندسة استخرجوهما من السندهند كتاب
ضا تعاقبته اليام و هو الذيِ يحصل منه الهندسة و الهيئاة فل معنى لمناكرتهم في كليات هذه التعاليم ،فليطالبوا بتصحيح مسائالها أي ل
الجزئاية و استعمالها و تصحيح الشكال و المقدمات في العلم اللهي فإنهم تساهلوا فيها و لم يستعملوها البتة فهناك موضع
المضايقة ،و أما إنكار كون الرض كرية و أخذها المكان الوسط من الفلك و ارتفاع القاليم و انخفاضها و تحقيق الجهات و
الفاق و الكسوفات فل معنى لنكار ذلك و مناظرتهم في إبطاله ،فهذا أحد الغرضين و تحت تنبيه على المواضع التي نتكلم على
اختلفهم فيها و نورد ذلك متفرلقا في الكتاب إن شاء ا تعالى.
الغرض الثاني :أن الحق ل يعرف قدره وحده ما لم يعرف نقيضه و ضده فبضدها تتميز الشياء و بمقصدها التنبيه على الطريق
السلم ،و الصراط القوم .و لبد من ذكر الطريق المنحطة عنه ليصنف في ذلك الناظر في هذا الكتاب فيعلم أنا لم ننتدب لضئايل و
ل أضربنا عن سيرة الوائال في سكوتهم إل لخطب جليل .و لنضيف ذلك إلى الغرض الثاني فيتضح لديه العذر و ليعرف مقدار
النعمة فيطلبها بالشكر فنقول الناطقون بكلمة الشهادة سبع فرق.
صفحة 52
الفرقة الولى :طائافة نطقوا بالشهادة من غير التفات إلى ما تنطويِ عليه من المعنىو ل احتفاء بالوظائاف كأجلف العراب و
العاجم و لكنهم كالنعام بل هم أضل سبيلل .فلهم حكم المشيئاة و هم المرادون بقوله تعالى ) :اقل لالم اتلؤهمانوا دودلهكن اقوالوا أدلسدللمدنا ( "
الحجرات " 14و السيف عند هؤلء أصدق أنباء من الكتب ،و هو أحد ما يساسون به.
الفرقة الثانية :طائافة نطقت بكلمة الشهادة تقليلدا مأخولذا من الباء و المهات و المعلمين لكنهم مقبلين على وظائاف الشرع ،فهؤلء
ت ( " الحزاب: هم المسلمون على الحقيقة ،و لهم تقدمة على الفرقة الولى و هم المرادون بقوله تعالى )إهان اللاملسلههميدن دواللاملسلهدما ه
اه ( " لقمان" 22: " 35و بقوله سبحانه )دودمن ايلسلهلم دولجدهاه إهدلى ا
الفرقة الثالثة :قوم اعتقدوا الشريعة وضدقوا بها و لم يقتصروا على درجة المسلمين ،بل استعملوا النظر و الستدلل و
ذبوا عن حرم الدين ،و هؤلء أكثر المتكلمين من أهل السنة و هم أصحاب الحديث و هم المؤمنون المسلمون ،فهم أخص إذا
السلم أعم .و قد فصل صلى ا عليه و سلم بين السلم و اليمان في حديث السائالو قال تعالى) :إهان اللاملسلههميدن دواللاملسلهدما ه
ت
ت ( " الحزاب" 35 : دواللاملؤهمهنيدن دواللاملؤهمدنا ه
ي ل ا
ك اهام الاملؤهمنودن دحقا ( " النفال " 4 : ل و قال تعالى )أ الولدهئا د
الفرقة الرابعة :فرقة ترقوا عن هذه الطريقة إلى درجة اليقين و الثلج ،فإن التصديق منقسم إلى التام و الناقص فمن صدق الشيء و
استعمال ضرلبا من القناع سمى مصدلقا ،و لكن التام هو الذيِ يصدق بالشيء عن برهان و مع قيام البرهان على أن ذلك البرهان
ل يجوز أن يكون بخلف ما تقرر عليه و ل في حين ما بالذات و ل بالعرض .و ل يجوز أن يبعث نبي صادق بضده أصلل و لو
بعث بنقيضه لعتقد تكذيبه ،فإن قيل :فهذا تصريح يتفاضل المؤمنين في إيمانهم .قلت فهو الصحيح و قد قال النبي صلى ا عليه
و سلم " :السلم بضع و سبعون شعبة " و قال صلى ا عليه و سلم " :يخرج من النار من في قلبه مثقال حية من خردل من
إيمان" ،و اليمان في اللفظ اللغويِ هو التصديق و قد قدمنا أن التصديق ينقسم إلى التام و الناقص .فإن قيل :بل التصديق ل
يتفاضل و اليمان يكون بمعنى العمل ،أما اليمان التصديق فهو الشهور في اللغة و هو الصل و هو في العمال منقول و
الستمساك بحقيقة اللغة أولى حتى يدل الدليل ،و قد دليل الشرع على تفاضل اليمان بما ذكرناز فإن قيل :هب انا سلمنا أن اليمان
هو التصديق فما الدليل على لنقسام التصديق في نفسه؟ قانا :التصديق عبارة عن العتقاد ،و العتقاد لفظ عام و حقيقته ركون
النفس إلى متخيل إما في نفسه أو إثباته ،ثم المعتقدات إن كانت في النفس كما هي عليه من خارج فهو اعتقاد للشيء و تصور
صفحة 53
له و علم به على ما هو عليه ،و متى كان من خارج على خلف ما هو في النفس فهو تصديق و تصور ناقص إذ من اعتقد زيلدا
أبيض فوجده أسود نقص اعتقاده.
الفرقة الخامسة :أقوام اعتقدوا السلم و صحته ،و لكن اعتقدوا في الله تعالى و صفاته ما نسبوا به إلى البدعة و الفسق.
الفرقة السادسة :أقوام أضافوا إلى ذلك ما نسبوا به إلى الكفر كمن صدق بالنبوة من الفلسفة ،و اعتقد أن ذلك يرجع إلى ملك قائام
ثم اقتضى له مولده أن يكون حسن السياية فاضلل متنولعا فهؤلء كفرة و هذا تصور ل ينفع.
الفرقة السابعة :أقوام مظهرون للسلم مبطنون للتعطيل المحض فهؤلء شرار الفرق خالدون في الدرك السفل من النار .و المم
كلها على خلف هذه الطائافة و هي يسمع بها و قل ما ترى إل آحالدا يحملهم الستخفاف على ذلك ،و المم مطبقة على وجود
الصانع و إن استعمل بعضهم معه الشركاء ،على اختلف القول بالشرك من المعبودات من الحجار و الحياء و الكواكب .و قد
سميت هذا الكتاب " :بمعراج السالكين " و ا سبحانه يحملنا على الرأيِ الحق بعزته.
المعراج الول
ليعلم أولل أن ابتداءنا بهذا المعراج و تقديمنا له على أمثاله له ثلثة أغراض:
أحدها :استعمال الطوائاف المذكورة له و اقتصارهم عليه فنرقيهم إلى سواه.
الثاني :أنه مقدمة لما نذكره من معرفة النفس و قواها و بيان العوالم و أنها على مضاهاتها.
الثالث :أن نبين فيه ألفاظ و مصطلحات تغني عن تكرار بيانها و تمييز عالم الغيب عن عالم الشهادة .و الحد المميز لهما ،و ما
العالم الذيِ وقع الخلف في حدوثه و قدمه .و كمية هذه المعارج سبعة.
اعلم أن حقيقة العروج الصعود عللوا تقول :عرجت في السلم أعرج .و اللفاظ لها وجهان من الدللة ،فوجه في الدللة على
الشياء الجسمانية كمفهوم السلم و العروج .و الوجه الثاني :الدللة على معاني الجسمانيات و أرواحهاإما بطريق وضع اللغة و
إما بالمجاز و الستعارة.
و لما كان السالك الباحث إلى معرفة بارئاه تعالى طللبا للترقي عن ظلمات الجهل و أسفل السافلين من حضيض البهائام و الجهلة ،و
كانت البراهين و الدلة الموصلة إلى درجة العلوم شبه السلم الجسماني الموصل إلى العلو الجسماني ،و كانت مفردات البراهين و
مقدمات القياس و أجزاؤه مادة له منها يتألف حاكت أضلع السلم فإذا التسمية ل مشاحة
صفحة 54
اه هذيِ اللدمدعاهرهج 3دتلعاراج اللدملهئادكاة دوالمرواح إهدلليهه ( المعارج 4-2 :و من قام عند س دلاه دداهفسع 2رَمدن ا فيها إذ هي مفيدة قال ا تعالى )دللي د
البرهان عند استحالة وجهه للباريِء تعالى يعرج إليه فيها طلب معنى عقلليا ليحمل اللفظ عليه ،و قد ذم ا تعالى فرعون اعتقاد
ب ( " غافر " 36و صلرلحا لادعرَلي أدلبلااغ الدلسدبا د كون السباب و المعارج جسمانية في قوله تعالى) :دودقادل هفلردعلوان ديا دهادماان البهن هلي د
صاد دعهن الاسهبيهل ( " غافر " 37فالدلة سلليم الخلق إلى ربهم و الذهول عنها هو ك ازرَيدن لههفلردعلودن اسواء دعدملههه دو ا قال تعالى ) دودكدذله د
ت هفي دبلحءر لمرَجيي ( " النور ." 40فعبر ظلادما ءالمعبر عنها بالحجب و قد ذكر ا تعالى ذلك في نعت الكافر ،فقال عز من قائال) :أدلو دك ا
عن العتقادات السائادة بالظلمات و عن ترادف الشكوك بترادف الموج ،و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم ) إن ل سبعين
حجالبا من نور و ظلمة لو كشفها لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره( و ليس المراد بالحجب إل الطرق الموصلة إليه .فلو
كانت براهين فهي حجب نور ،و لو كانت شبلها فهي حجب ظلمة.
و الدليل على ذلك قوله :أحرقت سبحات وجهه فإنها لو كانت جسمانية لحترق وجهه بأولها أو بآحادها و لم يشترط في الحراق
إل مجموعها .و البرهان الحق على أن الباريِء سبحانه ل يصلح أن يكون محجولبا لعلتين:
إحداها :أن الحجاب ليس إل للجسام و الباريِء تعالى ليس بجسم.
و الثانية :أن المحجوب يجب أن يكون في جهة و الباريِء سبحانه ل جهة له بوجه .و إنما اراد صلى ا عليه و سلم أن هذا السالك
الباحث لو انكشف إليه هذه الموانع المانعة من تحقيق معرفة معبوده لحرقت الشياء التي استدل بها ما انتهى إليه بصره ،فعبر
بالحتراق عن الضمحلل فهذا تحقيق هذه العبارات .و مضمون هذه الشارات ،و العالم هو السلم إلى معرفة الباريِء سبحانه،
فهو الخط اللهي المكتوب المودع المعاني اللهية ،و العقلء على مختلف طبقاتهم يقرءونه و معنى قراءتهم له فهمهم للحكمة التي
ض ( " يونس ." 101و قال سبحانه) :دسانهريههلم آدياهتدنا هفي الدفاهق ت دوالدلر ه ظارولا دمادذا هفي الاسدمادوا ه وضع دالل عليها .قال تعالى )قاهل ان ا
ض ( " إبراهيم ." 10و لما كان النسان ه ر ل د ل وا
د ته وا ما
د د سا ال ر ط
ه د
فا كك د
ش ا
ه ا فيه د أ) تعالى قال دوهفي دأنفاهسههلم ( " فصلت ." 53 :و
ه
محجولبا مركلبا من مواد مختلفة متضادة و كان محجوبل عن عالم الغيب ،و نعني بعالم الغيب كل غائاب عن إدراك الحس و لم ل
يتوصل إلى معرفته إل بجد و تيقظ و قوة مفكرة خصته الحكمة اللهية بأن جعلته دفتلرا جاملعا مدبلجا فيكون في ذلك فائادتان:
صارودن( " الذاريات إحداهما :النعام عليه بإلزام أمور عجيبة تكون له مفاتيح لما غاب عنه كما قال تعالى) :دوهفي دأنفاهساكلم أددفل اتلب ه
." 21فهو يستدل بما شاهد في نفسه على ما لم يشاهد.
صفحة 55
ولما كانت الدلة و الحجج منقسمة إلى التم و النقص و كان طريق البرهان و تأليفهعلى الشرائاط الصحيحة و كانت الدلة
متعذرة على العوام ،و كان القناع و قياس التمثيل و الستقراء أقرب إلى أكثر الذهان خصت الحكمة اللهية الصور النسانية
بضروب من عجائاب العوالم و غرائابها المستدل بها فيكون ضرلبا من التمثيل و الستقراء الذيِ يقاس به الشاهد على الغائاب و
كأكثر ما عاملت به النبياء عليهم السلم الخلق بهذا النوع من لن مقابلتهم بغير هذا الطريق صعب قال تعالى) :الداع إهدلى دسهبيهل دررَب د
حلكدمهة دواللدملوهعدظهة اللدحدسدنهة ( " النحل " 125و لهذا جعلنا هذا المعراج أولل و أحلنا العوام على القتصار على تعلمه ،و ذكرنا هبالل ه
انقسامهم إلى طبقتين فيما تقدم فهذه إحدى فوائاده و حكمه.
الحكمة الثانية :و ها فائادتان .إحداهما :يستحق به العقوبة ،و بالثانية :المثوبة.
فالولى :استعماله لما يثق به و هو محسوس عنده مشاهد فشرطه أن ل يتعداه و أن ل يتحمل بأكثر مما يحتمل ،فمن البر ما يكون
عقولقا و الشيء متى جاوز حده انقلب إلى ضده.
و الثانية :أن ل يتعمل الستدلل به في ما ل يصح و قضى على الغائات بما ل يقطع به على الشاهد و يزعم القطع به.
و الفرق بينه و بين ما أمرنا استعماله أنه أمر باستعماله على جهة الحكمة و هو أن يكون له ذاكلرا أو مزجلرا من غير قاطع ،و هذا
المستدل يزعم أنه يقطع بما اخذ عنه من القياس كمن يزعم أن للباريِء سبحانه صورة كصورة النسان و أن علمه كعلمنا أو قدرته
ض دول دخللدق دأنفاهسههلم ( " ت دوالدلر ه كاقتدارنا .و ينتهي إلى ضرب من ضروب التجسم .قال ا تعالى) :دما أدلشدهدمتاهلم دخللدق الاسدمادوا ه
الكهف ." 51و إنما نستعمل من ذلك ما أحسنا أو شهدت التجربة به مما يزعمه المتعنتون بالتشريح على طول الدهر فهذا مما ل
يمتنع.
و إذا فهمت هذا القدر و ساعدت عليه و أنست لقوله صلى ا عليه و سلم ) إن ا خلق آدم على صورته ( و فهمت أن معنى ذلك
خلقه خلقة على شبه العالم ،فاعلم أن النسان عبارة عن حيوان ناطق مائات منتصب القامة ضحاك ،فهذا حد يتناول نفسه و جسمه
لضرورة الفصل بينه و بين الشخاص الحية و إل فقولنا حيولن ناطق يتناول نفسه فقط .ثم هذا الحيوان الناطق أعني النسان
تنقسم جملته في التقسيم الكلي إلى ثلثة أشياء :نفس و روح و جسم.
فالجسم :هو المؤتلف من المواد و العناصر الحاملة لروحه و نفسه و هو الشكل المنتصب ذو الوجه و اليدين و الرجلين الضاحك.
و أما الروح :فهو الجاريِ في العروق و الضوارب و الشرايين.
و اما النفس :فهو الجوهر القائام بنفسه الذيِ ليس هو في موضع و ل يحل شيلئاا ،و سنشبع الكلم عليه مقدار ما يحتمله الموضع
فنتكلم على الجسم بمقدار ما يرشد إلى
صفحة 56
لندسادن همن اسلدلءة رَمن هطيءن ( " المؤمنون ه ا د
نا ل
ق د ل خد ل
د قد د ل و د ) : تعالى قال فنقول النفس، أمر من نذكره أن عسى لما ل
نا معي يكون و الغرض.
حي ( " الحجر ." 29فأخبر تبارك و تعالى عن ثلثة أمور جسمه و روحه و ت هفيهه همن مرو ه ." 12و قال تعالى) :دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا
نفسه ،و حقيقة الروح الحرارة الغريزية المنبعثة في العصاب و العضلت و هي موجودة للبهيمة و بها حياتها ،و الفصل بين
حي ( " الحجر ." 29فلو كان ت هفيهه همن مرو ه الدمي و البهيمة هي النفس التي أضافها ا تعالى إليه و في قوله تعالى) :دودندفلخ ا
للنسان هذه النفس دون الروح المخلوقة للبهيمة لقصر عن أفعال البهيمة في الكل و الجماع و التصرف ،و لو أن البهيمة أعطت
النفس التي اعطيها النسان لكانت عاقلة مكلفة فخرج من الجملة أن للنسان رولحا و نفلسا و جسلما ،و للبهيمة جسلما و رولحا ل
غير ،فأما آدم عليه السلم فمخلوق من التراب و الماء و الهواء و النار و قد قال تعالى ذلك في قوله سبحانه ) همن اسلدلءة رَمن هطيءن
( " المؤمنون ." 12و في قوله سبحانه) :دودجدعللدنا همدن اللدماء اكال دشليءء دحيي أددفل ايلؤهمانودن (" النبياء " 30و أما النار فقوله تعالى:
صاءل دكاللدفاخاهر(" الرحمن ." 14فأول الدرجات التراب ،قيل له طين فإذا مرت عليه دهور بكرور الشمس و اكتسب منها صلل د
)همن د
يبلسا و جفالفا قيل له صلصال كالفخار لنشوفته ،و معلوم ببرهان العقل أن مؤدى حر الشمس إليه هو الهواء ،فصح بالرهان
الشرعي و العقلي كون آدم عليه السلم على الصورة التي تقدمت ليجعل ا تعالى تدريج بنيه من نطفة خرجت يتلقفها الناث إلى
انقطاعها و تمام القوى،و ذلك حين الساعة و تمام الخلقز فأول النسان نطفة ثم علقة ،ثم مضغةن ثم تنبت فيه العظام ،و تكسى
لحلما ،فالنطفة الخارجة من النسان مسلولة كقشر الحبة من الحبة لكنها مياعة و كالنواة فإن النخلة السحوق فيها و لكن مدمجة ،و
لكن من شاهد عقد الثمار تيقن هذا ،فإن الرمانة مثلل تخرج من أصغر ما يمكن غير أنك ترى الشكل مصغلرا ثم تقويها الطبائاع من
خارج بما يجانسها فتصرف تلك الشكال الكاملة إلى انتهائاها و ما فيها.
و من أرسل النطفة و أبصر السقط تحقق ذلك فإنك ترى أشكاله كخطوط مكتوبة ،و حدقتاه كحبات شونيز و وضوح ذلك ل يحوج
إلى مزيد تأمل ،فالنقطة مسلولة مائاعة بالطبع لما انسلت عنه بذوبان فطريِ ل جبلي ل حيلة فيه ،و لذلك يشبه الولد أباه في خلقه و
خلقه.
فإن قيل الغذية تستحيل دلما في الكبد ،ثم تستحيل منليا و كانت قبل ذلك نباتات انفعلت عن الطبائاع الربع ،فلزم أن يكون غير الب
إذا انفعلت عن غيره.
قلنا :المر كذلك و لكن العتبار بحين انفصالها عن الب ،فحين انفصالها تنبعث من عروقه .و عصبه و كبده بحركة ما ،فتكسب
حينئاذ طبعه .و هذا المر متسلسل إلى آدم
صفحة 57
عليه السلم و عنده يقف المر فإن جسمه و نفسه ليسا مأخوذين عن آدم آخر فإن ذلك محال .و فيه إثبات أشخلص ل أول لها و هو
محال :فإن الشخص بالضرورة ذو أولية و هو تحت النوع و إذا ثبت هذا فاعلم أن الصور النسانية تنقسم إلى أربع أرباع.
الول :الرأس .و الثاني :اليدان .و الثالث :البدن .و الرابع :الرجلن.
ثم عظامه منقسمة إلى مائاتي و ثمانية أربعين عظلما .و في الثالث :أربعون عظلما .و في الرابع :أربع و ثمانون عظلما ،ثم خلق ا
سبحانه لهذه العظام رباطات تمسكها ،فعدة عروق شكل النسان ثلثمائاة و ستون عرلقا .و بهذه العروق تكون الحركة و القبض و
البسط.
فرأس هذه العروق في الفؤاد ،و هو العرق المسمى بالنياط البهر و منزلته مع القلب بمنزلة الحاجب للملك يتبقف أمره ثم يخرجه
إلى الخدمة ،ثم هذه العروق متصلة بالمعدة تمتص منها قوة الطعام و الشراب الذيِ يدخلها ثم تقسمه بين الكبد ،و المرارة ،و
الطحال ،و الرئاة ،و خلق البهر مستبطن الصلب ،و هو آخذ من مجمع الكاهل ،إلى مجمع الوركين ،إلى مجمع الحالبين ،إلى
مجمع الصدر بين الترقوتين و هو نهر الجسد العظم و هو مقسوم لربعة عروق لقسام الجسد الربعة ،لكل جزء منها عرق
يتفرق إلى ستين عرلقا و لليدين و الرجلين عرق يتفرق إلى مائاتي عرق.
و الجزء من الول من النهر الول :و هي أربعة أنهار يتفرق منه عرقان من مجمع الكاهل يسقيان العنق ،و يتفرق من مجمع
الصدر بين الترقوتين عرقان يصعدان إلى العنق و هما الوريدان ،ثم يتفرق من كل واحد عرقان ،ثم جميع هذه العروق ينبعث فيها
الغذاء إلى كل عضو من الرأس ،و من الشفتين و غيرهما.
و أما العروق من البدن من الربع الثاني :و هو أحد النهار الربعة من النهر العظم يتفرق منه عرقان لكل يد عرق من مجمع
الصدر من الترقوتين إلى ما بين المنكبين و هما الكحلن ،ثم يتشعب من كل واحد منها أربعة عروق سواهما فتسقي العضدين و
أجزاءهما ،فذلك عشرة عروق لكل يد خمسة عروقثم يتفرق من كل واحد من العشرة أربعة تسقي الساعدين ،فذلك خمسون عرلقا
لكل ساعد منها خمسة و عشرون ،ثم يتفرق من كل واحد من الخمسين عرلقا عروق أخرى فتسقي الكفين و الصابع.
و أما الجزء الثالث :فالبطن يفترق منع عرقان من مجمع الحالبين إلى اليدين .يفترق من كل واحد منهما تسعة و عشرون عرقال
سواهما يدفع إلى كل جزء حصته من الغذاء :للضلع الربعة و ثلثون ،و لسائار أجزاء البطن ستة و عشرون :للعصعص
عرقان ،و أربعة للمذاكير ،و اثنان للكليتين ،و اثنان للمثانة ،و اثنان يسقيان المعدة ،و اثنان للكبد ،واثنان
صفحة 58
للطحال ،و اثنان للفؤاد ،و اثنان للمرارة ،و اثنان للرئاة ،و اثنان للثديين ،و ثلثون للضلع لكل ضلع عرقان.
و أما الجزء الرابع :و هما الرجلن .ففيهما الوتين عرق يفترق منه عرقان ،و هما النسيان.و هماللفخذين لكل فخذ عرق من مجمع
الوركين يسقيان الفخذينو أجزاءهما و يفترق من كل واحد منهما أربع عروق ،ثم يفترق من الربعة خمسون عرلقا تنتكس في
الساقين لكل ساق خمسة و عشرون عرلقا ،فقد صار جملة النسان جملة مناسبة للعوالمو جزئاياتها ،فهو مشبه للعالم العلى بنفسه
و مشبه للعناصر بما فيه من ماء و هواء و نار و تراب .و يضاهي الجواهر الرضية .أما الحيواني ،فبروحه الحيواني .و أما
النباتية ،النامية فبما ذكرناه من عروقه و نموه و تغذيِ .و أما الجمادية قبعظامه فهذه المشابهة الكلية.
ثم تعرض أجزاءه على كل جزء من العالم فتجده يضاهيه ،و شرح ذلك مما يطول و لو استوفينا فيه العمار الطويلة و آباد السنين
لما نفد .و عليك أن تمتحن ذلك بكل ما تشاهده ،و تبحث فتجد في عالم جسمك مثل ذلك بل فيه ما يضاهي قوى الحيوان كجرأة
السد ،و خبث الثعلب ،و طيش القرد ،و صلبة الخنزير و هكذا
ثم الغذاء إذا استقر في المعدة طبخته الكبد ،و هي حارة رطبة لصقة في المعدة من الجانب اليمن ،يمتص منها صفو الغذاء و كل
حار رطب لمشاكلتها له فتصفيه بجوهرها ،و فيها أنابيب كالمصفى فتجذبه صفو العروق و تنقله و يسير فيها حسب ما قدمناه .و
أما المرارة فهي معدة الخلق الذيِ يقال له المرارة الصفراء و هي حارة يابسة لصقة في المعدة من الجانب اليمن مما يلي الكبد،
يمتص منها من صفو الغذاء كل حار يابس للمشاكلة فتصفيه بجوهرها .ثم تحتلبه العروق كما ذكرناه .و الخلط الثالث المرة
السوداء و معدته الطحال .و هو بارد يابس لصق بالمعدة من الجانب اليسر فيمص من الغذاء كل مشاكل له .و الرابع البلغم هو
بارد رطب و له الرئاة تمتص من الغذاء ما يشاكلها .و الحلقوم رأس الرئاة على طبيعة الطحال و هو معد للنفس و هو الحنجرة .و
رأس الحلقوم مغطاة بطبق و اللهاة مدلة عليه ،و القلب في الجانب اليسر تحت الجانب اليسر .والرحم في الجانب اليمن لصق
بعروق الفؤاد .و هو معدن الشهوة .و المعدة معتدلة المزاج و هي كالقدر و تلك الوعية كلها كالثافي .و لها فمان :مدخل و هو
مسلك المريِء إلى الفم .و الفم الثاني يخرج منه الثقال و تخدم المعدة .و للصرة أربع قوى :إحداهما جاذبة ،و الثانية ممسكة ،و
الثالثة هاضمة ،و الرابعة دافعة.
فالجاذبة :حارة رطبة تقويِ الدم و تجر الطعام و الشراب من الفم إلى المعدة .و كل ما شاكلها تصيره دلما و هي منحدرة أسفل
المعدة إلى أسفل البطن فتخرج غير متغيرة الشم تشاكل ريح الجنوب.
و أما الممسكة :فباردة يابسة تقويِ المرة السوداء و تمسك الطعام و الشراب في المعدة ،و ل سبيل للمعدة أن تمسك شيلئاا دونها و
تخرج متغيرة الشم تضاهي ريح الشمال و هما على مضادة الجاذبة فبذلك يعتدلن.
و أما الهاضمة :فتقويِ المرة الصفرا ،و تهضم الطعام بالحر ،و يعينها الكبد فيصعد من افم غير متغير الشم و هي حارة يابسة
كريح الدبور.
و أما الدافعة :فباردة رطبة تقويِ البلغم .و قد توقع الطعام و الشراب من المعدة إلى المعاء إلى العفاج إلى الرض بذلك وكلت،
و هي باردة رطبة معادلة للرياح الهاضمة .و صلح المزجة و فسادها تابع لهذه المور .و العلم الطبيعي معد لصلحها هو
فائادته و غرضه ،و النفس تكتسب بالمجاورة من هذه الطبائاع ملكة عند غلبتها كالطيش و الحدة عند غلبة الصفراء ،و الغم و الهم و
قلة النشاط عند غلبة السوداء إلى غير ذلك كما يكتسبه الرفيق من رفيقه .و متى كانت هذه الطبائاع جارية على اعتدال كانت النفس
أجرى إلى السلمة ،و جميع هذا كله بتقدير ا تعالى و تدبيره ل إله إل هو .فمتى تأمل هذا النضد المحكم و الترتيب المنظم و
معادلة بعض القوى لبعض و كيف خلقت اليد للبطش ،و اللسان للكلم ،و الحدقة للرؤية ،و كيف خلقت على شكل ملئام للنور
فجعلت جاملدا في أغشية لطيفة مكفنة بالشفار و جعل للشفار أهداب تقيها الغبرات و النور الكثيف أن يغشيها علم أن ذلك دال
على أن لهذا لبصنع العجيب و المر الغريب مدبلرا دبره و عليلما أتقنه.
و هذا ل يخفى على ذيِ بصيرة فإنا قد وجدنا هذا الشكل النسانيعلى أتم الحكمة التي تقتضيها العقول فل تخلو هذه الصنيعة
العجيبة ،إما أن يكون صنعت نفسها أو صنعها جماد أو صنعها مخلوق حي أو صنعها بارئاها و هو ا تعالى .و بطل أن تصنع
نفسها لن وجود الفاعل يجب أن يتقدم على المغعول .و بطل أن يكون الشيء مفعولل من حيث هو فاعل أو فاعلل من حيث هو
مفعول .و بطل أن يصدر عن مخلوق حي طبيعة أو غيرها ،فإنا نقول :الطبيعة ما معناها فل تخلو أن تكون جمالدا أو حليا .فإن
كان جمالدا كان القول فيه ما تقدم ،و إن كان حليا قلنا هذا الحي ل يخلو أن يكون له فاعل أو ل فاعل له.
فإن قيل له فاعل آخر فالطبيعة كآدم في افتقارها إلى محدث .و إن كانت الطبيعة حية ل فاعل لها و ل علة فهي الله فأسقطوا لفظ
الطبيعة و قولوا إله .فهو الذيِ نريد بيانه ،فإن حوادث ل أولية لها محال إل إذا قلنا فعلت الطبيعة طبيعة فذلك منتف فلبد من
استناد الحوادث إلى مبدأ ل علة له و ليس بمفعول أصلل .و هذا يبطل اعتقاد من يقول آدم من آدم آخر.
ص 60
قلنا :نتبعه فيلزمه التسلسل وهو محال فصح أن الشكل النسانى تنتهض منه الدللة على بارئاه ومصوره مع ما فيه منالعجائاب
الدالة على العالم فليس فى العالم أمر غريب مشكل إل وفيه مفتاح علمه .فال تبارك وتعالى خلقه على مضاهاة العالم ،فهو نسخة
مختصرة منه .ومن تأمل أحوال النبياء ومعجزاتهم وكرامات الولياء وما جعل ا سبحانه فى قوى النفس بل يشاهده كل أحد من
نفسه فى المنامات التى تعلم بمغيبات المور وعاقبتها ،وما يبصره النسان فى النوم من السماء والرض والبحار وسعتها .وهو ل
يتسع بمقدار ما يبصره كما أنه يبصر السماء على سعتها بعين وهى فى دور الدرهم .وهذا من المر العجيب علم أن لهذه العجائاب
مدبرا دبرها وصانعا أتقنها ،وعجائاب النسان ل تحصى بل فيه من الخواص عجائاب مما يستعمله الطباء منه .فسبحان الفاطر
العليم.
المعراج الثانى
ولما فرغنا فى المعراج الول من معامله أصحابه بالسهل من الحكمة والقريب الظاهر من الدللة التى ل يخفى نورها ول يتلعثم
ضلههل ا
اا دفدما دلاه هملن دهاءد( ]الرعد . [33 :فلنرتق إلى المعراج فيها إل من جعل له الرأى المعكوس والمثل المنكوس ) :دودمن اي ل
الثانى :وهذا المعراج لطبقتين :للمحققين الذكياء والمتحذقين التقياء .وهو لتقرير النفس وهل هى باقية أم ل؟ وهذا المعراج
كالقطب لسائار العلوم وله يجتهد المجتهدون ويعمل العاملون ول فائادة أعظم منه ،فإن نبوة النبياء والثواب والعقاب والجنة والنار
وسائار أنباء الدنيا والخرة المأخوذة عن الرسل ل تثبت متى أبطلت هذه المسألة ،فإن النفس إذا لم يكن لها بقاء فجميع ما أخبرنا به
وأطعمنا فيه فباطل وبحسب ما نثق به من هذه المسألة نجتهد .وبحسب ما يغيب عنا ننظر ،وبهذه المسألة كفرت الزنادقة فإنهم
اعتقدوا أن حقيقة النسان مزاج معتدل كالنبات متى اعتدلت قواه بقى ،ومتى غلب عليه حر أو برد فسد ودثر .ثم ل ترتجى بعد
ذلك موتا ول حياة ول نشورا ،فاستخفوا لذلك بالخلق واستهانوا بالنبياء كقول أمية بن خلف لحد الصحابة :لوتين مالل وولدال.
وذلك لنه استخف وقال أنتم تزعمون أنكم أصحاب أموال فى الخرة وسيكون لى هناك مال وسأقضيك منه.
وعلى هذا المعراج يدور الناس فهو أس العلوم وإذا اضمحل فل ثابت ،ولذلك لم تبينه الرسل وا أعلم ،لن كلم غيرهم بين أن
يقبل أو يرد أو يصدق أو يكذب ،وكلم الرسل عليهم السلم ليس كذلك ،فإن المسألة فى نهاية الغموض والذهان أكثرها ضعيفة
ك دعهن فربما لم تفهم مقاصدهم فتعترض من قولهم على قولهم فلم يوردوا فيها إل إشارات ورموزال .وفى القرآن العزيز) :دوديلسأ دالودن د
المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ]السراء[85:
ص 61
وقال تعالى فى عيسى عليه السلم )دودكلهدماتاه أدللدقادها إهدلى دملرديدم دواروسح رَملناه( ]النساء .[171 :وقال النبى صلى ا عليه وسلم "أرواح
الشهداء فى حواصل طيور خضر" .وهذه كلها ظاهرة عند العلماء مكشوفة وعند غيرهم معقولة ،وقد اختلف الناس فيها على مر
السنين واليام ،فزعم أفلطون أن النفس والروح واحدة وهى النفس الكلية وأنه مع البدان كالشمس مع الرض تنثر شعاعها على
المواضع فيأخذ كل موضع نصيبه على قدره ،وزعم أنها تألف الجسم بضرب من المناسبة بالطبع فإذا حصلت فيه ألفته وشغفت
به ولتزال فيه وليس هى عنده حالة فى الجسام ،وإنما هى كالمغناطيس مع الحديد فى الملزمة والنفعال ومناسبة الطبيعة.
وليس أحدهما حال فى الثانى لكن ينفعل له بضرب من واسطة خفيه هى الطبع ول تزال فيه إلى أن يفسد البدن ،كما أن الحديد
يخلق مع طول المدة فل يقبل تجاذب المغناطيس .وزعم آخرون أن النفس عرض وأن حقيقة الحياة معنى يكون عند اعتدال
المزاج ،فإذا مات النسان فنيت روحه وهؤلء ذاهبون إلى أن النفس محدثة ،وزعم أفلطون أنها قديمة ،وذهبت فرقة ثالثة إلى
أنها محدثة عند حدوث البدن وهى مع ذلك ل تفنى .ومن حقق من الفلسفة على هذا المذهب والكثر على مذهب أفلطون.
وسنكشف إن شاء ا تعالى غائالة مذهبهم فى المعراج الثالث :حدوث العالم العلى .فلنرسم ههنا ثلثة فصول:
الفصل الول :فى قوى النفس وعلة تحرك البدن بها.
الفصل الثانى :فى كون النفس جوهرال غير متحيز قائاما ل بنفسه مستغنيا ل عن المحل.
الفصل الثالث :فى أن النفس ل تعدم وأنها باقية.
الفصل الول فى قوى النفس وعله تحرك البدن بها
ربما اعتقد من ل تحقيق لديه أن الشرع يزجر عن التعرض لهذا القدر فى تصحيح أو إبطال وليس فى الشرع دليل على ذلك وقوله
سبحانه ) :قل الروح من أمر ربى( .جواب مقنع إذا فهم المر بما هو عليه ولو أراد تعالى الزجر لذكر الحكم عليه وقد كشفنا عن
القوى الجسمانية وهذا الجسم يجرى من النفس مجرى الثوب من الجسم ،فإن الجسم يحرك الثوب بواسطه أعضائاه ،والنفس
تحرك البدن بواسطة قوى خفية ومناسبة .وقوى النفس تظهر فى مواضع من البدن ،وربما بلغت عشرال نذكرها والنفس فى ذاتها
واحدة وإنما ترجع التسمية إلى الله كقولنا سمع وبصر وشم وذوق ولمس .والنفس هى الذائاقة الشامة المدركة ،فهذه خمس قوى
ظاهرة ،والدليل على أن النفس هى المدركة دون هذه العضاء أن العروق متى حدث بها سدد تمنع اتصال النفس بها بطلت
كالحذر والموت وهذا مشاهد ل يفتقر إلى
ص 62
دليل .والقوى تنقسم إلى قسمين إلى محركة وإلى مدركة ،والمدركة قسمان :ظاهرة وباطنة ،فالظاهرة ما ذكرناه والباطنة ثلث:
أحدهما :الخيالية والوهمية والفكرية ،فالخيالية فى مقدم الدماغ وراء القوة المبصرة خاصيتها بقاء صور الشياء المرئاية فيها بعد
تغميض العين وانقطاع ما يدركه الحواس ويسمى الحس المشترك.
الثانية :الوهمية وهى التى تدرك المعانى ،فالولى مختصة بقوى المعانى وصورها وموادها ،وهذه تحفظ المعانى دون صورها
وموادها إذ تدرك الشاة عداوة الذئاب مجردة فتنفر عنه .والسخلة تدرك حنان الم فتألفها ومحلها التجويف الخير من الدماغ.
الثالثة :القوة المفكرة وشأنها أن تركب الصور بعضها مع بعض .وهى فى التجويف الوسط بين حافظ الصور وحافظ المعانى
فهى حائاكة وهى المرادة برمز القائال:
رجلن خياط وآخر حائاك
متقابلن على السماك العزل
مازال ينسج ذاك خرقة مدبر
ويخيط صاحبه ثياب المقبل
ومواضع هذه القوى مبرهنة بصناعة الطب ،فإن الفات متى نزلت بهذه المواضع عدمت هذه المدركات ،وزعموا أن القوة التى
تنطبع فيها صور المحسوسات تحفظ تلك الصور فتبقى فيها بعد قبولها بحسب الحواس الخمس إذا تكرر ذلك عليها والشئ يحفظ
الشئ بغير القوة التى بها يقبل إذ الماء يقبل النطباع ول يحفظ بخلف الشمع فإنه يقبل بالرطوبة ويحفظ باليبس والحافظة تصون
المتخيلة كما أن القوى الذاكرة تصون الحافظة.
والقوى المحركة إما باعثة على الحركة ،وإما مباشرة للحركة .فالباعثة هى القوة النزوعية الشوقية ومتى رأت أمرال يترغب فيه
أو يترهب منه بعثث القوة المحركة المباشرة على الفعل ،فتنبعث فى العصاب والعضلت والرباطات من القلب .إما ببسط عن
جهة المبدأ وإما بقبض إليه إذ هى إذا فرحت نشرت الدماء فى العروق فكان الفرح .وإذا حزنت انجذبت فانجذب الروح الحيوانى
إلى القلب فاغتم وحزن .ثم من شأن النفس إدراك المعلومات المغيبة .ولها قوتان إما عملية وإما علمية .فالعملية قوة هى مبدأ
محرك لبدن النسان إلى الصناعات النسانية ..وأما العلمية فهى المدركة لحقائاق العلوم مجردة عن المادة والصورة .وهى
القضايا الكلية المجردة وهى للعقل وبهذه القوة تتلقف عن الملئاكة العلوم .وبالقوة الثانية تصلح ما وكلت به من المور الجسمانية .
وهذه المور كلها محسوسة يستند برهانها إلى الحس فل نطول بتمهيده كما أن ما ذكرناه من الجسمانية أكثرها محسوس وما
ص 63
غاب فقلدنا فيه المعتنين بالتشريح على أنه أكثر ما يوصف .وإذا فهمت الجسم والقوى الحيوانية وأنالنفس هى المحركة الباعثة
وأنقواها باعتبار الضافة إلى المواضع كان كالثوب الواحد يسمى موضع منه كما ل وموضع منه طوقا ل وموضع منه جيبا ل .وقد قدمنا
أن لها قوتين عملية وعلمية .وأن العلمية مستعدة لقبول العلوم إلى ما ل يتناهى بالقوة وأن الجسم منفعل للقوى المحركة والمحركة
العملية تحت هذه العلمية الشوقية النزوعية .ومنها مبدأ الفعل إلى أن يبرز ويظهر.
فإن قيل :فلم ل ترى النفس فإن فى رؤيتها ما يدل على صحة وجودها وهل تخيلناها.
قلنا :فهاتان مسألتان أحدهما لم ل ترى ،والثانية لم ل تتخيل .فالجواب عن أحدهما وهى لم ل ترى بثلثة أجوبة:
أحدهما :أن كل موجود ليس من شرطه أن يرى .إذ صحة وجود الموجود ل تستدعى أن يكون مرئايا فإن الحوال اللزمة للشئ
إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون عرضية ،والموجود من الحوال اللزمة ذاتى وكونه مرئايا عرضى له إذ يثبت وجود الموجود
مع عدم من يراه ،ومع ذلك يثبت الموجود ول يبطل وجود عدم الرائاى له .والدليل على ذلك وجود البارئ سبحانه وتعالى فى
الزل ل إلى نهاية ولم ير حتى الن وذلك ل يبطل وجوده .نعم يستدعى الوجود أن يثبت له ما يصحح وجوده والشئ قد يستدل
عليه إما بقضايا عقلية وإما بأثر يثبت للحس فيقضى عليه.
وقد شاهدنا آثار النفس ووجود أنفسنا بالضرورة ،وعلمنا أن فى أجسامنا معنى يزيد عليها بالضرورة إذ يبقى الجسم ول روح له
ويكون الجنين تاما فى الشهر الرابع ول روح له.
الجواب الثانى :أن المرئاى يجب أن يكون من الرائاى فى جهة وعلى مسافة يكون قابل لللوان إذ هى العلة فى إظهار المبصرات .
وإننا قلنا إن النفس ل تقبل اللوان إذ اللون مركب من أمور تجتمع.
الجواب الثالث :أن المرئاى لبد أن يكون فى حيز ،وسنقيم الدليل على أن القوة العقلية ل حيز لها.
الفصل الثانى فى كون النفس جوهرا
النفس جوهر قائام بنفسه ولبد من كشف هذه العبارة .فنقول :على جهات فيقال للقوة الغازية نفس وكذلك المنمية وكذلك النباتية .
وهذه أنفس وليست المراد فى هذا الغرض .فأول النفوس النباتية ثم الغازية ثم النامية ثم الحيوانية .وهذه أول مراتب خروج
ص 64
فعل النفس من القوة إلى الفعل ،فالنفوس الحيوانية هى كمال جسم طبيعى بها يحس ويتحرك ،والبهيمة والنسان يشتركان فى هذه
النفس ،وهذه النفس ،هى حرارة مودعة فى النطفة ،ودم الطمث المتجمع فى الرحم لها كالقالب ،فإذا أسقط المنى على بقية دم
يجتمع فى الرحم انتشر عليه كالنتق فى اللبن وعقده بحره فسخن وامتد بالحر من خارج وتزايدت الحرارة الغريزية .فأول ما
يتكون القلب ثم تنتشر من العروق والعصب وينتقش ذلك الجزء فيه إلى أن تكمل أعضاء الجنين ،ومن يوم تسقط النطفة فى الرحم
إلى يوم خروجها مقدار ما تقطع الشمس ثلثة أرباع الفلك .والنطفة تستمد الحر من جهة الم والم من الغذية ،فإذا دخلت فى
الشهر التاسع صارت كالمفتول الخشن المشرب بالزيت الصافى فى شدة الملءمة والتأتى للشتعال .وهذا مثل بل المر أغمض
وأدق.
ل
فالنفس الحيوانية لباب الغذاء والنباتات والعناصر ،فإذا بلغت هذه الرتبة استحقت من الجود اللهى نفسا .فحينئاذ يوجد الرب تعالى
قوة من عالم المر كما قال تعالى )قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ]السراء . [85:وقال تعالى )ارولحا رَملن أدلمهردنا( ]الشورى . [52:
حي( ]الحجر .[29:والعالم من محدب الفلك التاسع من الصفحة التى تلى جهة فوق ت هفيهه همن مرو ه وقال تعالى )دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا
ك إهلا اهدو( ]المدثر .[31:وقد تبرهن فى العلم الطبيعى أنه ل والتى تلى أقدامنا إلينا مملوءة جنودال وملئاكة ) :دودما ديلعدلام اجانودد دررَب د
يجوز أنيكون عالم خارج الكرة التاسعة ،وأن ل خلء البتة وأن كل موجود للبارئ تعالى فهو داخل فى جوف هذه الكرة .فأما
الجسام فهى تستحيل عن العناصر الربعة فكل ما تحت مقعر فلك القمر مستحيل متغير ،والعناصر يستحيل بعضها إلى بعض
وماعدا ذلك فهو جواهر من حوادث آخر ،والنفس من جنس تلك الجواهر ل من العناصر فهى روحانية محضة وهى نفس صغيرة
موازية لنفس العالم الكبير.
وقد تكرر منا أن النسان موجود على مضاهاه العالم ،فالنفس جوهر ورحانى لطيف ول يجب أن ينكر المنكر ذلك وهو يشاهد
شعاع الشمس وروحانيته وبساطته ،حتى أن قرصها يكون بالمغرب وشعاعها بالمشرق فما إل أن تغيب خلف جبل فينقطع الشعاع
الذى بالمشرق يلزمان .ولو كان جسما لما انقطع ذلك آحاد السنين ،وكذلك إذا أخذت مرآة وعكست بها الشعاع انعكس ذلك إلى
حيث شئات ،ثم تقطعه عن موضع عكسته إليه ل فى زمان ،وجوهر الشعاع بالضافه إلى جوهر النفس كثيف فليس فى العالم
موضع بيت ول زاوية إل وهو معمور بما ل يعلمه إل ا تعالى .ولذلك أمر النبى صلى ا عليه وسلم بالستر فى الخلوة وهو أن
ب دعهتيسد( ]ق . [18:وقال تعالى فى النسان : ظ همن دقلوءل إهلا لدددليهه درهقي س يجامع الرجل امرأته عريانين ،وقد قال تعالى ) :دما ديللهف ا
ب إهلدليهه هملن دحلبهل اللدوهريهد( ] ق .[16 :فالرواح )دودنلحان أدلقدر ا
ص 65
مشحون بها العالم .وإنما نبهنا على ذلك تنبيها أن للنفس شبه عنصر تكون منه يناسب لطاقتها فإذا تأتت الروح الحيوانية أوجد ا
تعالى نفسا ل جوهلرا لطيلفا روحانليا عاللما بالقوة فى طبائاعه أن يعلم المورويقل بارئاه ،فيتشبث بهذا الجسم ويشتغل به وينشأ معه
حتى ل يعرف سواه ويشتد إلفه وحرصه عليه من ا تعالى فيحرك الجسام .وذلك كمثل الحديد فإنه يكون جمادال ل يتحرك فإذا
انضاف إليه أمر يقوى طبيعته وخاصيته قوى الثر فيه ،ويأتى المحل لفعل النفس الكلية فحركت الحديد فجرى ودار وتراه كالحى
فليزال على تلك الحال حتى ينخرم ذلك الفطام وتزول تلك الملئاكة.
ولما كانت النفس روحانية قبلت عن الروحانى وتأثرت عنه .فلول العقول المعبر عنها بالملئاكة الممتدة للنفوس من خارج لما
عقلت معقولل البتة فإن النفس عالمة بالقوة فقط والملئاكة تخرج ما فى القوة إلى القعل حتى يصيرها عالمة بالفعل فأعلى طبقة فى
الستمداد النبياء صلى ا عليهم وسلم ،ثم يليهم .وذلك بحسب تهذيب النفس والعكوف على هذه الجنبة وهذا هو المعنى بقوله
ليدمادن دوأدايدداهم هباروءح رَملناه(
ب هفي قاالوهبههام ا ه س( ]المائادة .[110:وقال تعالى فى الولياء ) :أ الودلهئا د
ك دكدت د ك هباروهح اللقااد ه تعالى ) :إهلذ أدايدمت د
]المجادلة . [22:الناس فى الخذ من الملك تفاوتا ل نهاية له ومن الناس من ل يأخذ شيئاا وهم المرادون بقوله تعالى ) :إهلن اهلم إهلا
ضمل دسهبيل( ]الفرقان .[44:وإنما أوجد ل سبحانه النفس لمتحان الدمى ،ولو أوجدها مبرأة من المادة لم يكن دكالدلندعاهم دبلل اهلم أد د
ف دتلعدملودن( ]يونس .[14:وذلك أن الملئاكة عرفت أن الموجود فى مادة ا ا
منها عصيان فجعلها فى مادة كما قال تعالى ) :لهدننظدر دكلي د
ك الرَددماء( ]البقرة .[30:فالنفس تكتسب فى بدنهاالكمال لكى تلحق بالملئاكة أو يعصى فقالوا ) :أددتلجدعال هفيدها دمن ايلفهساد هفيدها دوديلسهف ا
الشياطين إما بالعلى أو بالخس .ثم هى بعد ذلك حية لن كونها موجودة مع البدن ل يدل على عدمها بعدم البدن فإن عنصريهما
مختلفان.
والدليل على ذلك أن نفوس الملئاكة وذوات الفلك ل تتغير إل أن يريد بارئاها والفلك تقبله بجواهرها ،ولن الفناء هو انحلل
التركيب والنفس بسيطة ل مركبة والدليل عليه علمها بالمور العقلية والمغيبة كالنبوة والكهانة ،ول يصح البته أن يعقل الجسم
باتفاق العلماء والعقلء والمزاج عبارة عن اعتدال الخلط فى الجسم والخلط جسم فيستحيل أن تكون مدركة عاقلة .وإنما
العاقل المدرك جوهر يناسب جوهر الملئاكة وكل جنس فل يلئام إل جنسه .ولما كان الجسم كثيفا صرف فى الخدمة والحركات
والمور الجمسانية ،ولما
ص 66
كانت .النفس لطيفة أعدت للدارات والقدر والعلوم حالة فى النفس ،والعلم ل ينقسم فمحله ل ينقسم ولن الجسم لو كانت حركته
منه للزم فى الفلك أن تكون حركته منه ،وقد تبرهن أن حركته من نفس محركة ،وكل متحرك فى يكون محركا نفسه أصل
ويبطل أن يحركه جسم آخر إذ لو حركه جسم لستبد هو بالفعل فيبقى أن يحركه غير جسم وغير الجسم ل تركيب فيه ،وما يفسد
فإنما يفسد لجتماعه من متنافرات فينحل.
وقد تقدم أن النفس ل مركبة ،فالنفس تنحل وما ل ينحل يبقى فالنفس تبقى .ثم نقول :جميع ما هو جوهر فهو إما قائام بنفسه .وإما
على ما يعتقده المتكلمون فإن الجواهر عندهم متماثلة ول فرق بين جوهر النفس وجوهر الجسم .وإنما تختلف الجواهر عندهم
بالعراض ويستحيل أن يكون الجوهر عندهم يحل محل فى الجوهر أو يقوم به ،فلو كان الجسم جوهرا والنفس جوهرا لم يصح
أن تكون النفس صفة للجسم ول أولى منه لتماثلها فى الجوهرية .وإذا بطل أن تكون جوهرا أو عرضا لم يبقى أن تكون جوهرا
قائاما بنفسه ليست بعرض ول بجوهر.
فإن قيل :ل يعقل فى العقل إل جوهر وعرض .وأما جوهر ثالث فل يدرى.
ضاقلنا :هذا إل أن سخف بل ليس فى العقل حصر يدل على ذلك ،وإنما أوجب تلك القسمة المشاهدة من حيث لم تشاهد إل عر ل
وجوهلرا وهذا قياس التمثيل وهو قياس باطل ،وسنعد كتالبا لتقرير البراهين إن ساعدت القدار بحول ا تعالى .وإذا ثبت وجود
معنى ثالث بالبرهان.
قلنا :هذا المعنى ل يخلو أن يجب له المحل أو يجوز عليه أو يستحيل .وبطل أن يجب له ،فإن الواجب العقلى ل يفتقر إلى
مخصص وذلك يلزم أن يكون النفس أبلدا غير خالية من محل ونحن نشاهد تركها للبدن فلبد من مدة تمر عليها ل تكون فيها فى
محل .هذا لو قلنا إنها تنتقل من هذا الجسم إلى جسم ،فنقول مابين النتقالين ل تكون فى جسم والحكم الواجب ل ينتقض فى زمان
ما .ثم نقول :من زعم أنها تنتقل إلىمحل فعليه الدليل وهذا ل يقوم عليه دليل البتة وإذا بطل أن يكون المحل واجبا لها بقى أن يقال
جائاز عليها ،وما جاز على الشئ افتقر إلى مخصص والمخصص ل يؤثر فى محل إل أن يكون المحل قابل للتأثير ،وقد قدمنا أن
النفس يستحيل إنطباعها فى الجسم فصح وثبت أنها يستحيل عليها المحل.
الفصل الثالث فى أن النفس ل تعدم وأنها باقية
وقد قدمنا اختلف الفرق فى ماهية النفس وتقدم مذهب كل فريق ،والذى نخص
ص 67
به الن هذه المسألة أن نقول :تنحصر المذاهب فى مذهبين :إما أن يقال إن النفس قديمة على مذهب أفلطون فإن البارئ تعالى
عنده علة وجودها والمعلول عنده ل ينعدم إل بانعدام علته والبارئ تعالى ل ينعدم فالنفس ل تنعدم هذا مذهبه.
وذهبت طائافة من محققيهم أنالنفس محدثة وهو مذهب ابن سينا ،ولكن اتفق الكل على أنها ل تنعدم وبذلك أخبرت النبياء عليهم
اا دعلناهلم( ]المائادة .[119:وقال تعالى ) :دولد دتلحدسدبان الاهذيدن قاهتالولا هفي دسهبيهل ا ه
ا ضدي االسلم .وقال تعالى ) :دخالههديدن هفيدها أددبلدا ار ه
أدلمدوالتا دبلل أدلحدياء هعندد دررَبههلم ايلردزاقودن( ]آل عمران .[169 :وقال سبحانه فى نفس الكافر ) :ثام ل دياموت هفيدها دول ديلحديى( ]العلى :
ا ا
ت إلا اللدملودتدة ا ا
لودلى( ]الدخان [56 :فإذا هما طرفان: 13وطه .[74:وقال تعالى فى أهل الجنة ) :ل دياذواقودن هفيدها اللدملو د ه
أحدهما :عدمها واتفق المؤالف والمخالف على أنها ل تنعدم حاشا طائافة من الدهرية ل التفات إليهم.
الطرف الثانى :وهو ابتداؤها .فذهب السلميون والقائالون بالشرائاع إلى أنها محدثة لها ابتداء لكنها جوهر ل يقبل العدم .وذهبت
طائافة من الفلسفة إلى أنها محدثة ولكن مذهبهم يعود إلى مذهب أفلطون .وذلك معنى الحدوث عندهم انتقال ماهية الجوهر
كالماء إذا أشعل تحته النار ففنى فلم يفن عندهم تحقيقا ،لكن الماء عندهم استحال هواء وكذلك الهواء إذا استحال نارال فالحدوث
عندهم عبارة عن تغيير حال الجوهر .وإذا فهمت هذا من مذهبهم فحدوث النفس عندهم عبارة عن انتقال جوهرها من حالة إلى
حالة كانتقال الماء إلى الهواء والذى يرجع إليه مذهبهم وا أعلم أن العناصر الحاصلة فى مقعر فلك القمر المنفعلة عن الفلك
تولد النفس منها .وحاصل ذلك راجع إلى أشعة الكواكب ولكن عندهم بين النفوس والجسام مناسبة وعلقة لبد منها .وذلك يكون
ابتداء الجسم للكائان من الغذية بأن تكون تلك الغذية تنقسم ما بين البروج ،فإذا انفعل الجسم وخرج إلى صفحة العالم من طالع
مخصوص انجرت تلك الشعة التى للكواكب إلى الجسم بمناسبة مختصة من جهة مختصة بالطبع ،وعلى هذا بنوا آراء
الطلمسات ،فإن ابن آدم عندهم طلسم فيحتالون بأبخرة وعقاقير وجواهر مختصة من جواهر الرض تلئام طبيعة الكواكب والحب
والمنافرة عندهم على قدر تناسب الطبيعة ولهم فى هذا كلم طويل .والذى يقوم عليه البرهان أن النفس حادثة إذ البارئ تعالى
موصوف بالقتدار على خلق جواهر ل تعدم .وسنورد إن شاء ا تعالى أصل مذاهبهم فى المعراج الثالث فى حدوث العالم
العلوى فل معنى ليراد ذلك فى هذه المسألة فلنتكلم على أنها ل تعدم .فنقول :الشئ ل يوصف بالعدم ما لم يقل إنه قابل للعدم.
وإذا كانت النفس قابلة للعدم فل تخلو أن يكون
ص 68
ذلك فى طبعها ويكون العدم ذاتيا له .وإما أن تعدم لختلل شرط فى وجودها .وإما أن تعدم لرادة بارئاها أن تنعدم .وبطل إن
يكون العدم من صفات ذاتها إذ ذلك يؤدى إلى أن تبقى زمانين وهو محال وبطل أن يقال هى باقية بشرط إذ قدمنا أن القائام بنفسه ل
يفتقر إلى شرط .وبطل أن يقال تعدم لرادة بارئاها فإن إرادة بارئاها يعلم إل من جهة الرسل عليهم السلم وقد أخبرت الرسل
عليهم السلم إنها ل تعدم وا ولى الهداية.
المعراج الثالث
لم يختلف أحد من ذوى العقول أن الصور الجسمانية فى عالم الكون والفساد حادثة مفتقرة إلى علة فى وجودها إما بارئ وإما
طبيعة على ما قدمناه وعالم الحس والشهادة والكون والفساد كل ما حواه فلك القمر وحصل مقعره .واختلف فى العوالم العلوية
وهى نفوس الفلك وعقولها وما فيها من الكواكب وغيرها .فأطبقت الفلسفة على قدم ذلك بل خلف فى العتقاد .واختلف
عبارتهم فى التغيير عن حصولها عن البارئ تعالى وهو المبدأ عندهم وجرى المبدأ الثانى الذى هو علة لما تحته البارئ سبحانه
فجرى النور من الشمس ونور الشمس ضرورى الوجود معها فل ينعدم .والبارئ سبحانه عندهم علة وهو معه كالمعنى الطبيعى
وغير متقدم عليه التقدم الطبيعى ،بل معنى تقدمه عليه بالمرتبة كتقدم الملك على الوزير والوزير على الحاجب ،ثم سموه بعد ذلك
ضا وكل على سبيل المجاز ل الحقيقة. حدوثا ا وفعلل وفي د
والعالم عندهم ينقسم إلى قسمين :قائام بنفسه وغير قائام بنفسه .فما ليس قائاما بنفسه هى العراض وحدوثها عندهم عن دوران
الفلك والنتقالت فتسرى الدوار من شئ إلى شئ وتكتسب الجواهر بذلك أحوال وماهو قائام بنفسه منقسم إلى ثلثة أقسام :أجسام
وهى أخس الجواهر وعقول أشرف الموجودات ونفوس وهى واسطة بين الجسام والعقول وهى فى حكم الرابطة بين العقول
والجسام كالحرف الرابط بين السم والفعل والكلمة وهى غير مؤثرات فى الجسام .ثم الجسام عشرة تسع سموات والعاشر
عناصر التى هى حشو فلك القمر .ثم السموات التسع حية عندهم ناطقة ولها ترتيب ودرجات وهو أن البارئ تعالى عن قولهم
فاض عنه على الطريق التى ذكرناها العقل الول وهو العلم ،والكلمة عند أكثرهم وهو جوهر قائام بنفسه ليس بجسم ول هو منطبع
فى جسم يعرف نفسه ويعرف بارئاه وهو ملك .وربما زعموا أنه هو القلم .ثم لزم عن وجوده ثلثة أشياء :عقل ونفس الفلك
والقصى وهو التاسع وهو السماء وجرمها ،ثم لزم من العقل الثانى عقل ثالث ونفس وفلك الكواكب الثابتة وجرمه ،ولزم عن
العقل الثالث عقل رابع ونفس
ص 69
فلك زحل وجرمه ،ولزم عن العقل الرابع عقل خامس ونفس وفلك المشترى وجرمه هكذا إلى فلك القمر ،ثم ما فى حشو الفلك ثم
المواد التى تسير فى سبب حركات الكواكب امتزاجات مختلفة تنفعل منها المعادن والحيوانات والنباتات ،فالعقول عشرة والفلك
تسعة ومجموع ذلك تسعة عشر .وزعم بعضهم أن ذلك هو المراد بقوله تعالى ) :دعدلليدها هتلسدعدة دعدشدر( ]المدثر . [30:وزعم
بعضهم أن ذلك الثنى عشر برجا ل والسبع للدارى وإلى هذا يرجع حقيقة مذهبهم وعليه مدار سائار مذاهبهم فى كل فن ،واتفقوا
على أن ا تعالى واحد وحدانية ل تقبل النقسام ل بالحس ول بالعقل ولغير ذلك ،وأنه ل معنى له يزيد على ذاته من علم أو
قدرة أو غير ذلك .هذا هو مذهب المحققين منهم الذى اتفقوا عليه.
ل ل
وما يظهر من الختلف فى أقوالهم فى العالم كتحير جالينوس حيث قال :ل أعلم قديما أو حديثا فقد قال الفارابى من محققبهم أو
معنى ذلك أن العالم يتعارض عليه فهو ضربان لنقسامه فى نفسه إلى القديم والحادث .فإذا انفرد الكلم ارتفع الغلط .فمعنى قولهم
العالم محدث له معنيان :أحدهما حقيقة ،والخر مجاز .فأما ما هو حقيقة فهو تركيب الصور فى عالم الكون والفساد من المادة .
وأما المجاز فتسيمتهم العلة الولى حدوثا ل وفيضا ل وذلك راجع إلى تسمية مجردة ،فأنه ل يصح عندهم أن يصدر حادث من قديم
البتة.
ولنرسم فصلين أحدهما يقتضى الدللة على أن العالم محدث ،ويتضمن الثانى الكشف عن أدلتهم فى أن السماء حية.
الفصل الول
لهم على مذهبهم أدلة نوردها وننفصلعنها قالوا يستحيل أن يصدر حادث عن قديم حدوثا ل ل واسطة له لن الله إذا فرضنا وجوده
فى الزل موجود معه البته والموجودات لم تصدر منه لن إيجادها لم يظهر به بل كان عنده حيز المكان المجرد ،ثم إنه أحدث
العالم فإحداثه ل يخلو من حالين :إما أن يكون بقى على حالته الولى ،وإما أن يكون حدثت له صفة تقتضى الحداث .وذلك يلزم
السؤال .بلم ؟ فيقال :لم خصص هذا الوقت بالفعل دون الوقت السابق أو يحال المر على فقد آله ووجودها ،ويبطل أن يكون
لرادة حادثة فإن الحادث ل يحل التقديم ويبطل أن يخلقها فى محل ثم يريد بها وكل هذا باطل .وأما قولهم إنه لم يفعل ثم فعل فذلك
يوجب تغيير الحال.
قلنا :ذلك فإنه تعالى لم يزال عالما ل وليزال ،ومقتضى علمه إيجاد الخلق فى المبدأ الذى أوجدهم فيه وقصد إلى خلقهم حين ابتدأ
خلقهم ،وذلك راجع إلى إظهار الفعل
ص 70
و ليس من شرط العالم إذا كان قادرا أن يلزم المعلوم و المقدور .و البارىء تعالى ل يقال له لم ،فبسقط ما موهوا به ،فإن قالوا:
البارىء تعالى ل علم له.
قلنا :بل هو عالم ل يتغير عما علم فى وقت ما ل فى الماضى و ل فى المستقبل كما يدل علبه ،و من الدليل على حدوث هذا العالم
أن فى القول يقدمه إثبات حوادث ل نهاية لها .فلك الشمس يدور فى سنه ،و فلك زحل فى ثلثين سنة ،فتقع أدوار الشمس فى زحل
فى ثلث العشر،و تقع أدوار الشمس فى أدوار المشترى فى نصف السدس ،فإنه يقع مدة اثنتى عشرة سنة ،فإذا كانت دورات زحل
ل نهاية لها و ل عداد ،و كذلك الشمس و كذلك المشترى فذلك يبطل ان تقع الشمس لحدهما فى التكسير على ما وصفنا ،بل فلك
الكواكب الذى يدور عندهم فى ستة و ثلثين ألف سنة مرة .ثم نقول اعداد هذه الدورات ل تنفك أن تكون شفعا أو وترا أو شفعا و
وترا أو ل شفع و ل وتر و بطل أن يقال ل شفع و ل وتر ،فإن العداد إما شفع و إما وتر ،و قد صححتم هذه المقدمة فى المنطق ،و
كذلك إن قلتم شفعا و وترا ،فإن قلتم شفعا فما ل نهاية له ل يعوزه واحد يصير العدد وترا و محق أن يعوزه و إن قيل وترا ثبتت
النهاية.
فإن قيل :ما ل يتناهى ل يقبل النصاف بالشفع و الوتر.
قلنا :هذا محال إذ جملته قامت من سدس و عشر تقبل ذلك بالضرورة و غاية كلمهم مطالبة البارىء سبحانه بما خص و وقت
المبدأ من غيره ،و هذا العتراض ل يعقل له مناسبة و ل يلزم بحال ،فكل ما يهزون به يحمل على العلم و الدارة على أن نقول
ربما الصلح بهم خلقهم فى الوقت الذى وجدوا فيه.
الفصل الثانى
و هذا الفصل ينقيم إلى ثلثة أقسام:
القسم الول :فى ذهابهم إلى السماء حية
و الثانى :قولهم إن السماء عالمة بجزئايات العالم.
و الثالث :فى ترتيب الحركات
قالوا :السماء حية و لها نفس :نسبة نفسها إلى جسمها كنسبة أنفسنا إلى اجسامنا.
و كما تنقسم حركاتنا إلى الطبيعة و الرادية كذلك حركة هذة إراديها و طبيعيها قصدها عبادة رب العزة و التقرب منه إذ كل
تحرك إرادى لغرض إذ بذلك يفارق العاقل سائار الحيوان .ثم قصد التقرب الغرض به عندهم التشبه بالبارىء تعالى فى الصفات
ل فى الذات ،فإن الكمال العظم و البهاء التم و الجود الفخم ل رب العالمين .و كل وجود بالضافه إلى وجوده
ص 71
ناقص ،و الملك اقرب إليه و نعنى بصفات الباىء تعالى العلم والحلم و الجود و الرحمة و النزاهة عن الظلم إلى غير ذلك .و
النسان متى استعمل هذه الصفات قرب من الملك فهو قرب مناسبة فى الخلق و الصفات ل فى المكان و كذلك الملئاكة مع بارئاهم
قالوا :و المنهى طبقة الدميين التشبة بالملئاكة .و الملئاكة عندهم عبارة عن النفوس المحركة للسموات ،قالو :و كمالتها تنقسم
إلى ما بالقوة و ما بالفعل ،فما هو بالفعل كونها على شكل كرى و ذلك بالفعل حاضر أبدا و ما لها بالقوة الهيئاة فى الوضع و الين
فكل وضع ممكن لها ،و ما لم يمكنها فلعدم ثباتها تحركت تبغيها فل تزال تطلب وضعا بعد وضع ،إنما قصدة التشبة ببارئاة فى
صفات الكمال فهو يتحرك لفاضة الجود على ما تحته من العوالم إذ ليست تختلف فى التثليث و التربيع و المقابلة و اختلف
الطوالع .و هذا الكل ل يقوم علية برهان ،فإن الحركة المشرقية هل كانت المغربية و هل كانت المغربية مشرقية .فأما عنوان
أدلتهم فى أنها حية فزعموا أن السماء متحركة.
قالوا :و هذا معلوم بالحس و الضرورة و مل جسم متحرك فله محرك و لبد .و هذه مقدمة أخرى إذ لو تحرك الجسم بمجرد كونه
جسما لكانت الجسام كلها متحركة ،و المحرك لها إما أن يكون طبيعة لها كهوى الحجر إلى أسفل .و إما أن يكون المحرك لها
خارجا عنها كرمى الحجر إلى فوق فيكون قاسرا له على ذلك .و إما أن تتحرك بإرادتها و يبطل أن تكون حركتها قسرية ،لن
محركها إما جسم فيلزم فيه ما لزم فى هذا ،و إما أن نقول يحركها اللة تعالى بغير واسطة .قالوا :وذلك محال لنه لو حركه من
حيث إنه خالف للزم أن يحرك كل جسم فل بد من اختصاص الحركة بمزية ،و ل يمكن أن يقال تحركها بالرادة لن إرادته تناسب
الجسام نسبة واحدة ،فلم خصت هذه بالتحرك دون غيرها و الحركة الطبيعية فيها محال لن الطبيعة تلزم ضربا واحدا .ثم
الحركة الدورية ل يصح فيها فإن كل مضروب عنه فل يلزم عودها إليه فتتساوى الماكن ،و نحن نسلم جميع ما ذلك ذكروا حاشا
قولهم يبطل أن تتحرك لرادة ا إذ يلزم ذلك فى شكل السماء و تحركها على نقطتين ،و لم اختصت بهذة الصورة.
القسم الثانى :قالوا إذ صح أن السماء متحركة بلرادة فهى عالمة مطلعة على جزئايات العالم ،قالو :و المراد باللوح المحفوظ
نفوس السموات و أن انتقاش جزئايات المعلومات و ما فيها كانتقاش المعلومات فى القوة العاقلة فى النسان ،قالوا :و الملئاكة
السماويات نفوس السماوات و الكروبيون المقربون العقول المجردة التى هى جواهر قائامة ل تتحيز و ل تتصرف فى الجسام ،و
استدلوا على أن السماء عالمة بالجزئايات ،بأن قالوا :الحركة الدورية إرادية و الرادة تتبع المراد .و المراد الكلى ل يتوجه إليه
الراده الكلية و الرادة
ص 72
الكلية ل يصدر منها شىء ،فإن كل ما خرج من الفعل موجود و جزئاى و نسبة الرادة الكلية إلى الجزئايات على وتيرة واحدة فل
يصدر عنها شىء جزئاى ،بل ل بد من إرادة جزئاية للحركة المعينة و ذلك يلزم تصورة لتلك الحركات الجزئاية بقوة جسمانية إذ من
ضرورة كل إرادة تصور مرادها ،و إذا ثبت تصورها الجزئايات علمت ما يلزم منها من اختلف النسب من الرض مع اختلف
أجزاءة فى الطلوع الغروب و الستواء ،فإذا الحركات السببية للمسببات سلسل تنتهى إلى الحركة السماوية الرادية و النسان
إنما ل يعلم ما يقع فى المستقبل بجهله بالسباب ،و هذا كله باطل فى حق السماء فإنه موجود إلى تتابع حوادث ل نهاية لها و هذا
محال .نعم يصح هذا فى حق البارىء تعالى من حيث إن المعلومات عنده على وتيرة واحدة تابعة لرادته و علمه ،و ذلك ل يلزمه
على شكل يوجب له ذلك أو دوران و ما لزم عن شكل و دور افتقد إلى مريد موجود لذات الشكل و الدور فمر يده بالعلم أول و
يبطل تساوى الخالق و المخلوق فى العلم فإنه إذا علم الفلك لوازم الحركات إلى ما ل نهايه له و علم البارىء سبحانه لوازمها إلى
ما ل نهاية له ،فل يخلو علمهما لها إما أن يتطابقا أو يتضادا ،و متى تطابقا أو تضادا فهو نقصان لمن يستحق الكمال التم ،و قد
اتفقوا على أن البارىء تعالى منفرد بذلك.
القسم الثالث :ما ذكرناه فى القسمين السابقين ينقسم إلى ما ل يصح و ل يقوم علية برهان و إلى ما ل يقوم علية برهان ،كعلمنا أن
السموات متحركة و أن الحركات مختلفة فى التغريب و التشريق و أختلف المطالع و الغارب و تعلق الحوادث بذلك ،لكنا نزعم
أن ذلك تابع لرادة البارىء سبحانة و علمة فى كل دقيقة من الزمان و هم يزعمون أن السماء و نفوس الفلك مستقلة بذلك من
جهة إرادتها و علمها ،فنجعل هذا القسم ثلثة فصول :
الفصل الول :فى أن ا سبحانة عالم بالمعلومات
الفصل الثانى :أنه مريد للكائانات
الفصل الثالث :فى غرض القسم فى ترتيب الحركات
الفصل الول فى أن ا سبحانة عالم بالمعلومات
اتفق المثبتون للصانع على أن ا تعالى عالم ،و اختلفوا فيما هو به عالم و هل علمه زائاد عليه أم ل ،و هذا التفاق فى إثبات العلم
كاف و نزيده بيانا أن تقول ل يخلو العالم أن يكون له محدث أو ل محدث له ،فإن لم يكن له محدث بطل بما قدمناه .و إن كان له
محدث لم يخل أن يحدثه وهو عالم به أو غير عالم به .فإن قيل :أحدثه و ل علم له به فهو إما مقهور أو ذاهل و هذا باطل إذ ذاك
محال و قد تقدم ما ينفية فلم يبق إل أنه عالم.
ص 73
فإن فيل :هو عالم و لكن بالكليات ،و أما الجزئايات فذلك يوجب تجدد علمه بتجدد الوارد و ذلك باطل ،و الذى يلزم فى حدوث جزء
منه ،فإن الحدوث ل يختلف فلو صح أن تحدث خردلة دون علمه لجاز أن تحدث السماء دون علمه.
فإن قيل :سلمنا أن محثا ل يحدث و هو ل يعلم به ،بل للملئاكة الموكلين بذلك فى علمهم بالمعلومات استقلل و هذا منتهى شبههم.
قلنا :ذلك محال فإن الباىء سبحانه عندكم عقل محض و من شرط العقل المحض المبرأ عن المادة أن ل يجهل معلوما ،و إنما طرأ
الجهل على النسان من حيث هو فى مادة فاشتغل بها عن غيرها .فنقول :قد علمتم أن السماء عالمة بالجزئايات فهل أوجبتم ذلك
لرب العزة على الوجه الذى أثبتوه للسماء؟ فإن قالوا :يلزم طرؤ الحوادث عليه .قلنا :ل يلزم لن علمه قديم علم ما يكون من
تركيبات العالم و انتقالته إلى منتهى و على اصلكم من حيث علم السباب الول يلزمه علمها و علم توابعها و توابع توابعها ،فإن
من علم علم المسبب و ما من سبب إل و له مسبب هكذا إلى منقطع السلسلة .ثم الحدوث و التغير يطرآن على الحوادث و هى
جارية على ما علم فعلمه واحد ل يتغير و إنما تغيرت هى من حيث علم تغيرها فى علمه أنها يترتب بعضها على بعض.
فإن قيل:فهل علمه زائاد على زاته أو هو عين زاته؟
قلنا :ذهبت المعتزله إلى أن ذاته عين علمه ،و ذهبت الشعريه و أكثر الفرق إلى أن علمه غير ذاته .و الذى أعتقده أن ا سبحانه
عالم و قد قام الدليل على علمه ،فهذه مقدمة المقدمة الثانية إن ثبت أن إثبات كون العلم مغايرا ل للذات محال ،و ذلك أن نقول ل يخلو
أن يكون العلم نفس الذات و هذا ل نعتقده ،أو نقول أنه زائاد عليها و هو مذهبكم .فإن كان زائادال عليها فل يخلو أن يستقل دون الذات
بأن يكون واجب الوجود أو تكون الذات شرطا ل فيه ،فإن استقل دون الذات و كان قديما قائاما ل بنفسه فهما إلهان الذات و العلم و ذلك
محال.
فإن قيل :الذت من شرطه؟
قلنا :ل يخلو أن يكون قديما ل أو محدثا ل .فإن كان قديما ل بطل أن يكون القديم شرط القديم ،و إن كان محدثا ل فل يخلو إما أن يقوم بذات
البارىء تعالى أو بغيره ،فإن قام به لزم قيام الحوادث بذاته و هذا باطل و إن كان بغيره ،فالعلم إذال ليس من صفات ذاته.
فإن قيل :فهذا إذال نفس اعتقاد المعتزلة .قلت :نفارقهم بفضل و هو أن مذهبنا ان ا سبحانه عالم بالكليات و الجزئايات و ل يطلق
عليه ل علمه ذاته و ل غيرها لن التحكم بإضافة إسم إلى البارىء تعالى و إطلقه طريقة الشرع ،و ليس فى حكم الشرع ما يدل
على
ص 74
أن العلم زائاد ،بل ورد ذلك مطلقا ل و شهدت أدلة العقول على أن ا تعالى عالم ،و أن العلم ل يصح أن يكون موجودال قديما ل قائاما ل
بنفسه مستغنيا ل عن البارىء تعالى و بطل أيضا ل أن يكون قديما ل يفتقر إلى شرط.
الفصل الثانى فى أنه مريد للكائانات
هذا الفصل معقود للرادة ،و هى مسألة مشكلة و عليها انبنى تعطيل المعطلة فلبد من تفصيل القول فيها إن شاء ا تعالى فنقول:
الرادة حقيقتها المفهومة إجماع النفس على الفعل عند انبساط القوة المنزوعة ،و يحركها إلية فى القوة الخيالية شىء يرغب فيه أو
يهرب عنه ،و هكذا الوصف مستحيل فى ذات البارىء تعالى ،فإذال الرادة اللهية عبارة عن إيقاعه الفعل مع أنه غير ذاهل عنه
فالقصد إلى إحداث المحدث و العمد إليه سمى إرادة.
و حقيقة ذلك تؤول إلى خروج الفعل من القوة إلى الفعل .و قد فام الدليل على أن ا تعالى عالم و أنه مبدىء العالم و ثبت افتقار
العالم إليه ،و اتفق على ذلك الكافة و إن سموه عله فقد أطبقوا على العالم ل قوام له دونه و ثبت علمه به و علمه تعالى بالمعلومات
فيما كان أو يكون على وتيرة واحدة ل يتغير و ل يجهل و ل يذهل .و العلم متى أضيف إليه فهو قبل الفعل أبدال و دائاما ل بعده ثم
تعلق العلم بأنه سيكون إذا أضيف إلى جهة المعلومات فتنقسم المعلومات فى حقه إلى ما يكون و إلى ما كان فكل ما يكون فهو فى
القوة و ما كان فقد خرج إلى الفعل فتغير حال المعلو م ل العلم .
و هذه قاعدة عظيمة إذا فهمت على هذه الرتبة ،و إذا تقرر هذا فكل ما هو فى القوة سيكون فالرب سبحانه مريد لن يكون من
حيث رتب تعالى السباب على ما جرى به علمه فهى مطابقة على ما سبق به العلم ،فإطلق الرادة فى هذا الموضوع على معنى
أن المراد معلوم و نظم القياس كل مراد معلوم ،و كل معلوم جار على ما أراد ا تعالى،و كل مراد جار على علم ا تعالى .و إذا
صح أن يكون العلم علة المراد الذىفى القوة فما هو بالفعل تابع لما فى القوة و المر ظاهر ،فما خرج إلى الفعل فنفس حدوثة دليل
على إقاع ا نعالى له و إقاعه له هو المطلوب بالرادة تابعه للعلم.
فإن قيل :فالمعلومات هل هى متناهية أو ل متناهية؟
قلنا :هذا السؤال يفتقر إلى تفصيل فل يخلو السائال أن يضيف التناهى إلى المعلومات فمن ضرورة العقل أن يكون المعلوم محاطا ل
به ،و كل محاط به فمحدود ،و كل محدود متناه فكل معلوم متناه كان المعلوم فى القوة أو خرج إلى الفعل ،فإذا العالم بأسره من
الكرة التاسعة و ما يحويه و توابعها من أجناسها و أنواعها و أشخاصها و ما يلزم عنه متناه محصور فى علم ا تعالى.
ص 75
فإن قيل :هذا مسلم و لكن السؤال هل البارىء تعالى عالم بما ل يتناهى أم ل؟
قيل :هذا سؤال مستحيل من هذا الوجه فإن كل معلوم متناه فكان حاصل السؤال أن نقول كل غير متناه أم ل .و هذا انحراف عن
صوب الصواب.
فإن قيل :فهل يقال يصلح أن يكون العلم حاصرال لما يتناهى أو ل؟
قلنا :العلم فى نفسه ل يصح التصاف به متى فرض إل مضافا ل إلى معلوم و إل بطلت خاصية العلم فمتى أضيف كان المعلوم
منحصرال .فبقى أن يقال ذلك على وجه واحد و هو أن يكون العلم القديم يتعلق بأن عوالم تتعاقب و هى متى أضيفت إلى نفسها
انحصرت ،و متى أضيف و التناهى إلى علم ا تعالى بطل لن العلم ل يقال فيه متناه أو غير متناه ،و هذا أصل الغلط فربما ظن
من ل حقيقة عنده أن المعلومات متى كانت متناهيه كان علم ا تعالى متناهيلا ،و هيهات ما قدروا ا حق قدره ،فالمعلومات هى
المتصفه بالنهايه من حيث تقبل التناهى حتى زعم أكثر المتكلمين أن الكيفيات ل يقال متناهية أو غير متناهية ،فكيف بعلم البارىء
تعالى؟ فإنه ليس من قبيل العراض و ل من قبيل الجواهر ،فكيفما أدرت المسألة رجع حكم النهاية إلى المعلوم ل إلى العلم و ذلك
ل نقص من قدر ا تعالى و ل يقال له بذلك عاجز.
الفصل الثالث فى ترتيب الحركات
ل خفاء على ذى بصيرة أحاط علما ل بما قررنا من افتقار العالم إلى البارىء تعالى و إثبات العلم له ،فإن المعلوم ل يخرج عن العلم
إذ ذرة فى السموات أو فى الرض ل تتحرك أو تسكن إل و هى مقيدة فى علم البارىء تعالى فى كتاب ل يضل ربى و ل ينسى و
ما من حركة ول قبض و ل بسط و ل وسوسة و ل هاجس إل و البارىء تعالى عالم بذلك الن كعلمه فى الزل و كعلمه بعد
انقضاء الفعل ،و كيف ل و قد قدمناه أن أكثر المنتمين إلى الحذف و العلم بالله جل جلله برهنوا على أن الفلك عالم بجزئايات
العالم ،و قد أقروا بأن الفلك مسخر لمدبر عليم قاصد بحركته التقرب لبارئاه تعالى ،فمن أولى باتصاف الكمال السيد أو العبد
فسبحانه ذى العرش المجيد و البطش الشديد }ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد{ )ق (18:و هو أدنى إلى عبده من حبل الوريد }
ما يكون من نجوى ثلثة إل هو رابعهم و ل خمسة إل هو سادسهم و ل أدنى من ذلك و ل أكثر إل هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئاهم
بما عملوا يوم القيامة إن ا بكل شىء عليم{ ]المجادلة [7:و قال تعالى } :و عنده مفاتح الغيب ل يعلمها إل هو و يعلم ما فى البر
ب مبين{ ]النعام [59:و هذه و البحر و ما تسقط من ورقة إل يعلمها و ل حبة فى ظلمات الرض و ل رطب و ل يابس إل فى كتا ء
الية من
ص 76
الى التى هى أم الكتاب ،فذكر تعالى أن عندة مفاتح الغيب .و من قام عندة البرهان بما تقدم طلب معنى تحمل المفاتح علية ،و قد
اهتدت الفلسفة إليه لو أضافوا ذلك إلى رب العزة ،فإن السباب و مسبباتها علمها عز و جل و ل يصح أن يعلمها أول ثم ل يعلمها
بعد حدوثها إذ ذاك يؤدى إلى تغيره ،و يبطل أن يعلمها علما ل كليا ل ثم تستجد له علم عند حدوثها و ذلك أيضا ل باطل ،و صح أن ا
تعالى عالم بها قبل كونها علما ل بدقائاقها ل يعدوه ،فلو صح أن يتعداه لخروج عن كونه عالما ل بها ،و إذا ثبت ذلك بحسب ما ترتب
فى العلم ترتب فى الوجود فل يعدو منها شىء علمه و إن اردت مثلل فالخبز ل يخبز ما لم يكن عجينلا ،و ل يصح أن يكون عجينا ل
ما لم يكون دقيقا ل و ل يصح أن يكون دقيقا ل ما لم يكن قمحلا ،و ل بد من طحنها و ل بد من حجر طحين و من محرك للرحى و
صفات المحرك ،فهذه أسباب لزمه ضروريه لبد منها ،فهكذا فافهم الباىء مع علله تبارك و تعالى ،فالسباب هى المفاتيح و
المسببات هى المفتوحات بها ،و ل يصح أن يستولى عليها غيره و من علم بعضها فبتعلمه و من علم بعضا ل ل يأتى عليه حميعا ل
كائانا ل من كان نبيا ل مرسلل أو ملكا ل مقربا ل ،و ذكر تعالى الظلمة نهاية فى تعظيم علمه بالشياء الغامضه التى فى غاية الغموض ،و
كذلك ذكر الرطب و اليابس من حيث إن كل رطب يقتضى البارد و الحار و كذلك لليابس إذ ذلك من ضرورته.
فالسموات و الرض و ما فيهما من علمه و له المثل العلى كسفرة بين يدى أحدنا يدير ما فيها بما يشاء و علمه بجزئايات المور
و ما بينهما إلى علمه و قدرته أنذر و أحقر من نسبة السفرة إلى إحاطة علم بما ل يتقدر و ل يتناهى ،و إنما هو ضرب مثل لكنه
تعالى تقدس عن الجوارح و الدوات و المباشرة و كان اللئاق بجلله أن تنفعل له الشياء بمجرد قصوده لكونها ،و لكن خص
بعلمه و حكمته أن يكون العالم على نظام و ترتيب ليترتب بعضه على بعض ،و هذا نعلمه بالضروره و ل ينكر و ل يتمارى فيه و
ل استحالة فية .و إنما الممتنع أن يكون فى ملكه ما ل يريد أو يفعل شيئاا ل محدث دونه أو يحدث ما ل يعلم فى ملكه تعالى و تقدس
عن ذلك سبحانه .و إذا حصلت ما تقدم علمت أن مبدأ الحركه منه تعالى إذ قام عندك برهان على جرى العالم كله و ترتيبه على
السابق و أن علمه ل يتغير ،و تقدم لك أن العالم منفعل له ،و ذلك لزم ااعالم لزوما ل ضروريا ل و هو تعالى مخطار و الحديد منطبع
للمغناطيس بخاصية فبه .و هذا فى عالم الحس فما ظنك برب العزة ذى الجلل و الكمال؟
و إذا فهمت هذا فاعلم أن الحركات ثلثة :إما على الوسط كتحرك الفلك ،و إما من الوسط كالهواء و البخرة الصاعدة علولا ،و
إما إلى الوسط كحركة الحجر إلى أسفل يطلب
ص 77
مركزه يطبع فيه .ثم هذه الحرطه ضربان :ضرورية و اختيارية ,و لها نسبتان :نسبة نفسها و نسبة إلى بارئاها فمتى أضيف فعلها
إلى بارئاها فهو مختار لها بأجمعها ليس شىء منها إل بتدبيره و حكمه و قضائاه و حكمه له اقتضت كونها على جهة مخصوصة و
زمان معين و شخص معين تقدمت تلك الحركة أو تأخرت كانت بالقوة أو بالفعل .و هذا لزم ضرورة.
و أما النسبة الثانية و هى نسبتها إلى المتحركين فتنقسم ثلثة أقسام :إما مختارة و هذا يختص بالحيوان ،و إما مضطرة و هذا
يشتمل الجماد و الحيوان و هو إما ملزم و إما عرضى.
فأما الفعال المختارة فهى موقوفة على إشارة النفس و تحركها و الشياء التى تحت النفس طائاعة لها انطباع النفس لبارئاها جعل
ذلك فى طبيعة الخلقة و النفس منفعلة بإشارة العقل و العقل منفعل لبارئاه تعالى .و أما نفوس الملئاكه فحركتهم الختيارية عن
عقولهم و عقولهم عن بارئاهم فل عصيان فى افعالهم البتة كما قال ا تعالى } ل يعصون ا ما أمرهم و يعلون ما يؤمرون{
]التحريم .[6 :فهم أبدال جارون على علم بارئاهم تعالى و موافقون لما يرضاه .و أما غير ذلك من الحيوانات المركبة من المواد فلم
تكن مجردة عن المادة و كان لها علوق بالبدان و كان للنفس جنبتان :جنبة إلى المل العلى و جنبة إلى العالم السفل ،و نعنى
بذلك كونها بالفصل المشترك أى هى مأمورة بأن تراعى جهتين جهة الملئاكة بأن تكون متشبهة فى الفضائال بها و أن تكزن عاكفة
كعكوفهم على عبادة بارئاهم ،فهذه جنبة أمرت بمراعاتها.
الجنبة الثانية :و هى الجنبة السفلى و هى علقتها بالجسم المنفعل من المواد المركبة من الطباع و هى مولعة بإصلحه و سياسته
كالمك الذى عمر بلده و ولع بسد ثغره و إصلح رعاياه و عمارة أرضه و مقابلة عدوه و جلب المنافع إليه و دفع المضار عنه ،و
صارت النفس متحيرة تطالبها الجنبتان كل واحدة بأن توفيها من العدل قسطها و تجريها على القانون العدل و السيرة اللهية .و لما
خلقها ا تعالى على هذا النسق و الترتيب خصت الحكمة اللهية النسان بأن أعانه و قواه و أعطاه أدوات و مكنه من الجنبتين و
أيده من جهة الجنبة العليا بالعقل ليتلقف به عن ملئاكة ا و رسلة و يفهم به مراد بارئاه ،فكان حاله مع النفس كعبد بعث إلى ثغر
بعثه ملك مطاع الوامر مخوف الزواجر فأمره بسد الثغور و إدرار القوات و مقاتلة العداء و أن يطابق غرضه مع بعده عنه،
ثم قال :قد مكنتك من ثلثة أشياء :تكون عونا ل لك و ل حجه لك على بعدها أحدها الثغر الذى بعثك إليه ،فقد أكملت قصورة و دوره
و حصونه و أنهاره و جدرانه و أشجاره و ثماره و آلته ما تكررت و تناهت.
الثانى :دفعت إليك عبيدال و أعوانا ل و خداما ل و جعلت فى طباعهم النفعال لك فمر بما شئات فيهم تمتثل إن شئات من حق أو باطل ،ل
يخالفون لغبتك و ل يعصون إمرتك ،فعليك بالسيرة الحسنة فيهم و ر تغتر بتمكينى فإنى ذو بطش شديد و إن حلمت.
ص 78
الثالث :إنى دفعت إليك وزيرال جكيما ل عليما ل متطلعا ل على ما فى العالم بأسره عالما ل بالسيرة الحميدة و الطرق الرشيدة ،عارفا ل
بعواقب المور و قد أحللته من نفسى بمنزلة الوزير و أكرمتك بأن جعلته وزيرك فاحذر أن تنفذ أمرال دونه و ل تغتر بما جعلته فى
طباع العبيد من طاعتك و لبما جعلت فى نفسك من القوة فما غبن من استشار ،و هذا الوزير الذى يستمد من آرائاى فى كل حين
فقد تحققت ذلك منه لنه ل يعصينى طرفة عين فصار العبد فى الثغر بهذه الثلثة أشياء .فمثال النفس مثال العبد ،و مثال الثغر
مثال الجسم ،و مثال ما فيه من العدد و القوات مثال ما فى الجسم من الطبائاع و القوى حسب ما ذكرناه فى المعراج الول .و مثال
لوازم الثغر و نوائابه مثال ما يقوم به الجسم من الغذية والمنافع ،و مثال الوزير مثال العقل ،و مثال الملك مثال البارىء تعالى و
له المثل العلى.
فإذا فهمت هذا فاعلم أن النفس منبثة القوى فى الجسم كما قدمناه ،و أن ا تعالى سخر ا الحواس الباطنة و العضاء
الظاهرةبالطبع فمتى تحركت إلى أمر ما تأتى هذا فى طباعها ما لم يمنع مانع من هذا المر .فإن اعتبرنا جهة المنفعل فهى
مضطرة ،و إن اعتبرنا جهة النفس فى نزوعها و انبعاثها للمطلوب و سبب حركتها هل هو إرادى أو اضطرارى قلنا :هذا محل
غموض عجز أكثر الخلق فيه عن النهوض و ذلك لبعد غوره و دقة مسلكه ،و هذه المسأله المعروفه بالقدر و النزاع فيها من خلق
آدم عليه السلم إلى هلم جرلا ،و حقنا لضعف قوانا و قلة استعمال عقولنا الموهومه لنا و اشتغالنا بالرذائال الدنيويه و الخداع
الخزعبلتية أن ل نتعرض لهذا المقام ،ملكل مقام مقال و لكل طريقة رجال ،و لكن نخوضها خوض الجبان الجذور ل خوض
الشجاع الجسور فتقول :قد قدمنا انقسام الحركات و إن بناء الكلم على حركات النسان و ل شك أن منها الضرورية و
الختيارية.
فأما الضرورية ،فطبيعة لزمه سنتكلم عليها عند تكلمنا عليها إن شاء ا تعالى كلنة و لم يختلف أحد فيها أنه ل يتعلق بها ثواب و
عقاب ،و أما النزاع فى الختيارية فإن هذه مرتبطة بالتكاليف فلبد من فهم المثال الول فهو تمهيد قدمناه لهذا الموضع ،فنقول قد
قدمنا أن للنفس جنبتين مثلنا ذلك بالوزير و الثغر ،فالجنبة العالية جنبة الوزير و الجنبة الخسيسة جنبة الثغر ،فمتى كانت النفس
تحركت نحو الفضائال فذلك تلقف عن العقل و العقل عن بارئاه فهى مثابة على تحركها و نزوعها إلى غرض مولها ،و المفعولت
واقعة بفعل ا تعالى و تحركها نعنى عند انبعاث الداعية عند إنصاتها إلى العقل و حقيقة الضراب عن الثغر و دواعيه و استعمال
العلم بتنظيف المحل إذ ل يرد إل على محل قابل له بإزالتها الصوارف و الموانع بإشارة العقل ،و تدبيره هى مثابة عليه من حيث
إنها واسطة إلى انفعال الجسام ،و كثيرال ما قدمنا أن العالم منقسم إلى عقول فاعلة مجردة .و هى الشريفة ،و إلى
ص 79
أجسام ،خسيسة و هى الكثيفة التى هى المفعولة كما أن العقول فاعلة .و لما استحال على العقول المجردة المباشرة و كانت فى
طرف من مضادة الجسام كما أن العلم فى طرف و الجهل فى طرف ،و كان ضدال مطلقا ل قضت الحكمة اللهية لها بأن أظهرت
تأثيرها بتدريج فجعلت نفسا ل ممتزجه تشبه العقول من وجه و الجسام من وجه ،و ذلك راجع إلى مناسبة و المناسبة راجعه إلى و
جهين ،إما إلى جنبة أسفل فبالرزائال و إما جنبة أعلى فبالفضائال.فالنفس معلقة بينهما و الجسام تنفعل للنفوس و النفوس للعقول و
العقول للبارىء سبحانه ،فالمبدأ الول هو الله فخرزج المر من عنده كخرزج المر من عند الملك إلى الوزير .ثم من الوزير
إلى الحاجب ،ثم إلى المضروب أو المكرم ،و ا المثل العلى فالرب سبحانه هو المبدأ و الطاعات متى خرجت إلى حيز الفعل
فهى من ا تعالى ،باتفاق الكافة متى خرجت إلى حيز الفعل فهى من ا تعالى والنفس مثابة على حهة التوسط من حيث أنها آله،
و ما مثل ذلك إل مثل إكرام الشرع لجسام الموتى بالتنظيف و الكفان و الحنوط و القبور و تحريم إهانتها و إحراقها ،و إن كان ل
لحسنة لها فى ذلك بل الفضل اللهى ل حد له .و ل يجرى على مقدار .و لو كان البارىء تعالى ل يفعل شيئاا ل إل باستحقاق الفاعل
تحقيقا ل لمثوبته لم يكن كريما ل مطلقا ل و لم يطلق عليه لكن من عدله ،فإن العادل من قارع الحسنة بالحسنة و الكريم من وهب من غير
يد متقدمة ،فخص تبارك و تعالى الجسام بالمكرمة من حيث إنها كانت آلت مستعملة فى الطاعات مع اتفاق الخلق أن للفعل
تحقيقا ل للرواح ،فكذلك النفس بالضافة إلى العقل يكرمها البارىء سبحانه على جهة الوساطة و إن كانت ل فعل لها تحقيقا ل للمشير
بذلك و الملهم إلية و المحرك هو العقل .إذ الحاجب و إن شكره المكرم من جهة الملك فالوزير أحق بالشكر من حيث بلغ إليه
فاليفهم أن العقل مشكور من جهة الوساطة و أن الشكر المجرد و الحمد المؤبد ل وحده الذى كان المبدأ ،فلو لم يرد التوفيق من
عنده لما كان للعقل ثبوت أصلل إذ هو مربوب ،فالجواد المطلق و الكريم المحض هو ا رب العالمين و لم يشك ذو عقل أن
الفضائال من ا ،و إنما أختلفوا فى الشر فزعمت المعتزلة أن الشر ليس من ا تعالى .و لما رأو تلزم الفعال أخرجوا الفعل إلى
العبد و جعلوه مسبدال به.
ل ل
فإن قيل :الشكال باق فإن الحركة التى هى الصلة مثل إن كانت فعل للعبد فل مدخل للبارىء تعالى فيها ،و غن كانت ل فل
مدخل للعبد فيها و يستحيل أن يكون الفعل مشتركا ل كما زعمت الشعرية.
قلنا :الحركات مضافة إلى الجسام فبطل التقسيم ،و النفس ل حركة لها فى نفسها فإنها إنما لها الشارة و التدبير و الجسم معها
كالمغناطيس مع الحديد ،و ل يقال للحديد إذا تحرك إن المغناطيس حل فبه فظهرت الحركة عليه ،بل فعل فيه بخاصيته فبطل
السؤال.
ص 80
فإن قيل :أن بطل في الحركة فل تخلو النفس عن الرادة والسؤال في الرادة باق .قلنا :إرادة الخير تابعة للعلم ,وقد قدمنا ان
النفس تابعة للعقل والتحرك من جهة العقل خير محض فهو محرك من جهة البارئ تعالى ,ولليست أعنى الحركة الجسمانية ,بل
أعنى الشوقية النزوعية وهو عكوفها والتفانها إلى الجنبة العليا ,وحقيقة ذلك راجعة إلى ترك جنبه أسفل ,والترك ليس هو بفعل
وإنما هو عدم فعل شيئاان :النزوع وهو فعل ا تعالى ,والثاني وهو ترك الضداد وهى ملحظة الجنبة السفلى وذلك ترك عدم
وليس بفعل .
فإن قيل :الترك إذا كان اختيارا او اضطرارا ل فالسؤال لزم .
قلنا :هو اختياريِ من وجه واضطراراى من وجه اخر ,وفهم هذا يستدعى تجديد عهد بما سبق ,وهو أن النفس وأن سلطت على
العالم السفل فهى تتوصل إليه بألة الجسم ,ثم أفعالها تظهر فى الجسم فى مواضع عشر أحصيناها فيما تقدم .فمنها ,الحواس
الخمس من الشم والذوق واللمس والسمع والبصر .وهذة علة وسبب للقوى الخمس الباطنة ,أعنى القوة الخيالية والذاكرة
والحافظة ,فإن هذة القوى كالجواسيس فى المدينة يرفعون الخبار إلى الخدمة والخواص كالكتبة و الحجاب والوزراء ,فيما يقيد
عند الجواسيس يرفعونه إلى الكتبة وما يقيد عند الكاتب يرفعه إلى الملك وهى النفس .ثم اختلفت مدركات الحواس الخمسة فكانت
حاسة البصر موكلة بعالم اللوان على اختلفها فى الصفات والمقادير ,وحاسة الذوق بكل مطعوم ,وهكذا إلى تمامها وكلما
رفعت من هذة محفوظة عند الكتب الخزان ,وقد قلنا :الجسم كالثغر وإن النفس مشغولة بافتقادها ثغرها فى كل دقيقة فلزوم هذة
المدركات للنفس ضرورى أعنى عند صرف الهمة إليه يلزم طبعا ,فإنك متى حدقت بصرك إلى مرئاى حصلت لك رؤيته
بالضرورة شئات أو أبيت ,وكذلك سائار الحواس الخمس فل تطويل فحوصل البصار للنفس مختار ,فصح وثبت ان الجنبة
السفلى الجسمانية افعالها جسمانية محضة والفعال الجسمانية كلها ضرورية طبيعية فقد انقضت المباحثة وتفرغ الكلم من هذا
الجانب من حيث وقفنا الفعال بعد اسبابها على إرادة النفس ,وإرادتها هى الفيصل بين الجنبتين جنبة أعلى وجنبة أسفل ,وكما
وكلت بسياسة جنبة أعلى على وجه مخصوص وكان له وجهان إلى جنبة اضطرارى واختيارى ,فإذا استعملت السبب حصل
المسبب بالضرورة ,فحصول المسبب من جهة أعلى أو من جهة أسفل ضرورى ل ثواب عليه ,فقد استرحنا من هذا الطرف
وهو الطرف الضرورى وبقى الختياريِ فوقفنا من جهة الجنبة السفلى على نزوع النفس وإرادتها ,وكذلك أيضا من جهة فوق
فتوقف البحث والنظر على هذة الدقيقة وهى الرادة والنزوع ,وقد قدمنا انه تارة يكون اضطراريا وتارة
ص 81
يكون اختياريا محضا ,وذلك ل يتحصل برهان مخصوص بل النفس يدخل الخير إليها من جهة العقل وهو انفعالها للعقل عند
إشارته فهى مثابة لنزوعها ونزوعها يظهر تأثيره فى الجسم إذ ليظهر الثر فيها باكثر من الشوق والعشق المطلق فتثاب على جهة
الوساطة كما قدمناه .
وأما الشر :فيدخل عليها من جهة الخير فيكون اول خيرا ثم ينعكس .ومثال ذلك :أنك متى ركبت دابة استعرتها من دار رجل
فتصرفت بها فى حاجتك ,وكانت دابة جموحة صعبة المرام فخطرت بها على مولها فنزعت إلى دار سيدها فصرفت عنانها
فتقاعست فعاقبتها بالسوط وألمتها وتحملت عليها فل شك انك يمكنك صرفها وقد تعديت ,فإن حقك أن ل تخربها على دارها ,فلو
أنك سقتها إلى دار سيدها وادخلت يدها عتبة الباب ,ثم لفحتها لم تطعك بوجه بل تدخل كرها وربما جرحت راسك وألمتك وكنت
عند العقلء مذموما ,فإنك مكنتها من طبيعتها .ثم أردت حجابها وقد كتب ا تعالى فى كتابه السابق وقضى بقضائاه المحتم بإن
يمكن الطبائاع من مطبعاتها .فالنار متى تمكنت من القطن احرقت ضرورة ,فليفهم ان القوى الحيوانية المنفعلة عن الطبائاع لها
نزوع بالطبع إلى مركزها والروح الحيوانية الشهوانية بالطبع والعنصر تميل إلى عنصرها كالحجر يهوى إلى أسفل ,والنفس
متى مكنت الجواسيس ابتداء حتى صار لهم ذلك ملكة فذلك لزم ضرورى خلقه ا تعالى ,وإنما تعاقب من حيث لم تحرس
جواسيسها ابتداء ,وهذا كما انا نقول للرجل النظرة الولى فجاة لك حلل ,فإنها لزمة ضرورة فل يتعلق التكليف عليها ,وإياك
والثانية فإن العين إذ تنفتحت على صورة جميلة فمالت الطبيعة لزم ذلك لزوما ضروريا .لو انفرد لم تعاقب النفس عليه ,وإنما
على إهمالها إشارة العقل فى الكف ابتداء ,فمتى تكررت الجواسيس على القوى الباطنة لزم النفس ذلك وشغلها غهى مأمورة أن
تلزم الجنبة العليا ,والمر كله ل تعالى فهو المخترع للفعال ,وهو موجد السباب الول ,فالمسببات أفعاله فهذا ل حيلة فيه
وهذا أقصى الغرض من تكرير هذا المسالة .
وفى الحديث :حاج أدم موسى فقال :أنت الذى أخرج الناس من الجنة ؟ فقال :أتلومنى على امر قد قدر على قبل أن اخلق ,فغلبه
ادم عليه السلم ,وشهد له رسول ا صلى ا عليه وسم حيث قال " :فحاج أدم موسى " فإذا الشعرية والمعتزلة والمجبرة قد
تكلموا على الفعال الجسمانية ولم تتعرض لها ,وإنما تكلمنا على النزوع الشوقى وجعلناه السبب ووافقنا الجبرية فى الفعال
الجسمانية .وهذا منهى الكلم فى الجنس النسانى من الحيوان .
واما الحركات البهائام فهم موكلون بالجنبة السفلى ,عاكفون عليها ل علم لهم بالجنبة العليا ,وكيف تنكر وانت تبصر كثيرا من
الخلق كأصناف السودان وغيرهم ل فرق بينهم
ص 82
وبين البهائام ل يعرفون الملئاكة ول بارئاهم ,بل يعبدون الثمار والشجار كما قال تعالى " :إن هم إل كالنعام بل هم أضل " [
الفرقان . ] 44 :ومحرك الحيوان ما تورد الحواس على القوة المتخيلة فهى فيهم كالقوة العقلية ,فالدابة تتأدب بأداب القوة
الخيالية متى انتقش فيها أمر محذور ,فإنها إذا راته حذرته وذلك امر نافع وليبعد ان تكون لها قوة الحافظة تحفظ بها الصور .
واما العوالم العلوية فترتب حركاتها ل يحبط بها إل ا تعالى وحده العالم بمدئاها ,وإنما أدركنا منها ما تكرر علينا بالتجربة او
بإشارة العقل إليه إشارة جميلة ,وذلك كنمو اجسامنا بالعذية والغذية من النباتات والنباتات كائانة من الماء والتراب فهى منفعلت
عن الهواء والنار وهما كالفاعلين ,وهذان بالضافة إلى الماء والتراب يكونان فاعلين بمعنى حصول التاثير لهما حصول الذبح
بالسكين ,ولكن إذا انفردت الشاة ,والسكين لم يتم الفعل أصل ولبد من سبب جامع ,والنار والهواء امتزجت معهما اشعة
الكواكب وازدحمت فى منقعر فلك القمر ودارت بالرض كرتها كما تدور الهالة بالقمر ,ثم هذه الشعة تتحرك بمحركات هى
تابعة لها وهى الكواكب السبعة ,وقد زعمت الفلسفة ان هذة الكواكب حية وأنها مع العالم السفل كنحن مع اجسامنا .وان لها
الفعل الختيارى والفعل الضطرارى .وهذا ابتداع ل ننكره فلم يدل على إبطاله كتاب ولسنة ول إجماع ,ومن أنكر كون ذلك
من الناس فعلى طريق التغليظ ولبرهان البتة ,فلنجعل ذلك جائازا إذ مذهبنا ان البارئ تعالى هو الفاعل المطلق وانه مسبب
السباب وموكلها بمسبباتها ,فسواء على مذهبنا كانت حية او جمادا فقصارى المر أن تكون كنحن و ل ننكر وجودنا ول تصرفنا
عالمنا ,ومنافرة هذا رعونة محضة وحماقة تامة ,ولنقل قول يهون ذلك فربما زعم السامع ان تكون الملئاكة مرئاية والظواهر
دلت على أنها محجوبة فنقول :الموجودات على ثلث مراتب موجودات تعقل وهل موجودة ول ترى .وهى العقول مدركة
تدرك بالعقول ل بالبصار .الثانى :النفوس وهى مدركة بالعقول ول يجوز أن ترى .والثالث :وهى تدرك بالعقول والبصار
ول تدرك هى أنفسها ول غيرها .فما نشاهده من العالم العلى إنما هى أجسام النفوس والعقول ,وحقيقة الملك إنما هى نفسه ل
جسمه كما أن حقيقة النسان نفسه وليدرك إل جسمه فقط .ونحن ل ندرك نفسه بل انقطعت العقول فى درك ما هية نفسه
بالبصيرة فكيف بالبصر ؟ فلنتكلم على هذه الجسام الظاهرة .فنقول :سبب النفعالت الهواء بالبصيرة فكيف بالبصر ؟ فلنتكلم
على هذه الجسام الظاهرة .فنقول :سبب النفعالت الهواء والنار وما تحت فلك القمر مرتبط بالدوائار ودوران الفلك التاسع ,
فإنه منقسم إلى اثنى عشر برجا ,ثم الكواكب السيارة مقسطة عليها فمنها ماله بيت ومنها ماله بيتان ,ثم لهذه الجسام طبائاع
مختلفة حاصلها الحر والبرد والرطوبة واليبوسة .وهذه الطبائاع وسائاط لنفعال المنفعلت
ص 83
فتمر الكواكب على البروج واختلف الحركات ,وكون خذه الكواكب فى درجاتها ومراكزها واختلف مطالعها كما تقول مثل :
إذا جمعت الشمس والقمر فى رطب دل على المطر العظيم .وتفصيل هذا محال على علم النجوم ,وليس هذا موضعه فلكل مقام
مقال وإنما غرضنا التنبيه .
وأصل هذا كله الحركة المشرقية التى هى المشرق للى المغرب ,وقد حكينا عن الفلسفة فيما تقدم علة ذلك وكيفية تقسيمهم
العقول والنفوس وأنكرنا عليهم كون البارئ تعالى كذلك علة وأنها ملزمة له ,وأنكرنا دعولهم الحصر ل غير وإل فيجوز مثل
ذلك جوازا يرده إلى طريقتنا فى التوحيد المخض .فإن معتقدنا أن ا تعالى واحد وحدانية محضة صرفة وأنه هو القائام على
العالم حتى لو تصور عدمه لم يكن له ثبوت أصل ,والتصديق بما جاء به المرسلون ,ومن هذه الحركات الدورية تتاتج الحركات
وتتناسق ,وقد تكلمنا فى ذلك كلما بليغا فل معنى لتكراره .
فإن قيل :بم تنكرون على من يعتقد أن هذه النوار الظاهرة فاعلة أو عللة أو حية ,فإن ا تعالى يقول " :ا نور السموات
والرض" )النور . (35 :وربما قالت المجوس إن هذا النور إله ؟
قلنا :نعتقد لهذا فضل فى المعراج الذى يلى هذا إن شاء ا تعالى وهو المعراج الرابع .
المعراج الرابع
اعلم أيها الخ أن ا تبارك وتعالى هو نور السماوات والرض ,ولسنا نعتقد بكونه نورا كونه شعاعا منبسطا مرئايا على الجدران
,بل ذلك على نسبة أخرى .فاعلم أن النور يطلق على ستة أشياء :
أحدها :نور حسيس بحسب عنصره ل دوام له فهو عرض سريع الزوال مفتقر إلى مواد عنصرية ,وهذا هو ضوء النيران .
الثانى :هو أشرف من هذا وإن كان عنصريا فهو شريف بحسب نسبته وبحسب نفسه ,وهو نور البصر فهو يدرك الشياء ويدرك
اللوان والمدركات .
الثالث :نور شريف هو نور محض قائام بنفسه يدرك الشياء على حقائاقها ويدرك نتائاجها وهو العقل والنفس ,وهذه المور
منقسمة إلى ما يدرك به ويدرك نفسه وهو العقل ,
ص 84
وهو نور حقيقى وإلى ما يدرك به ول يدرك نفسه كالنيران والبصر والشمس ,والقرأن يسمى نورا وهو الخامس ,والرسول
يسمى نورا ولكن يستعار لهما من هذا معنى النورانية ولهذا يسمى العلم نورا .
الخامس :النور المطلق وهو البارئ تعالى ومعناه فى الروحانية أكثر من معنى العقل ,فإن معنى العقل هو نورانية العقل وهى
كشف الحقائاق وبهذا المعنى يقال للبارئ تعالى الحق المبين والعالم بخفيات المور .فهذة ستة انوار بالستعارة للقران والرسول
صلى ا عليه وسلم حقيقتها البارئ تعالى وهو مجاز فيما عدا ذلك .
فإن قيل :فقوله تعالى " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" )النور .(35 :
قلنا :المراد بهذا النور العقلى ,فههنا أربعة اشياء :المشكاة والزجاجة والمصباح والزيتونة .واما المشكاة فمثالها النفس ,ومثال
الزجاجة القوة الخيالية ,والمصباح كالعقل ,والزيتونة التى هى الشجرة العقل الفعال ,ولما كان المصباح الذى هو النور ل بد فى
إظهار ثمرته وحكمته للجسام من ألة جسمانية تشاكل الجسام كالنور يفتقر إلى زيت يناسب النار بالحر ويناسب الفتيل بالرطوبة
,فكثيرا ما قدمنا أن العقل ل يباشر كانت واسطته النفس فهى المشكاة ,ثم كانت النفس ل بد لها من حيلة فى معرفة المحسوسات
كما قررناه فجعلت له الحكمة اللهية قوى .فمنها القوة الخيالية التي يرسم فيها ما تورده الحواس ,فكان مثالها مثال الزجاجة ,
وإنما خض الزجاج لنطباع المرئايات فيه كالمراة الصقيلة التى يبصر فيها ,ولن الزجاجة أصفى الجوهر من حيث يشف ما
وراءها ,والنبياء عليهم السلم يعلمون الغيب بواسطة القوة فيعبرون الصورة ويفهمونها .ولها علم مختص وهو علم تعبير
الرؤيا ينفرد بخواص هذه القوة .وأما الشجرة ,فهى العقل الفعال من حيث انفعلت الشياء عنه فلما أن المصباح الواحد توقد منه
المصابيح لم يقل سبحانه نبت ,فإن النبات يدل على نقصان الصل وإنما قال تعالى " :توقد" .فنبه بالوقيد على أن الشجرة ل
تنقص ,وعلى أن هذه الشجرة ليست الشجرة المعهودة ,لن الشجرة ل يوقد منها وخصها بالزيتونة لدوام ورقها وفوائادها
وغزارة منفعتها وكثرة ورقها وشعبها ,وأنها وإن كانت زيتونة فيخرج منها نار تستضئ بها ,ووجه المشابهة واستيعابه يطول ,
وقد شرحناه فى كتاب ) مشكاة النوار( .وأما النار فهى عبارة عن النوار اللهية ,ويحتمل وجها أخر أن تكون الشجرة الرسول
صلى ا عليه وسلم والنار الملك .
فإن قيل :عظم اختلف الصوفية فى هذا العرض من حيث تحقق الملءمة والملزمة النورانية ,وهو المصباح والمشكاة
والزجاجة والشجرة والنار ,فقد جعلت مثال المشكاة النفس ,ومثال الزجاجة الخيال ,ومثال المصباح العقلى الجزئاى ,ومثال
الشجرة العقل
ص 85
الكلى ,مثال النار اللهى وإشراقه .وهذه كلها ل توصف بالكثافة والتجسيم على ما تقدم .وقد وصف ا تعالى بأن قال " نور
على نور " ) النور . (35 :فبهذه الموجودات تشاكلها وتناسبها إذا تشاكلت وتناسب لصفاء النفس وبعدها عن الكدورات فظاهر
مذهبهم يشير إلى الحلول وقذ أنشدوا فى ذلك :
رق الزجاج وراقت الخمر وتشابها فتشاكل المر
فكأنما خمر ول قدح وكانما قدح ول خمر
قلنا :عين الحلول واعتقاده خطأ محض وسفاهة صرفه .
فإن قيل :قول الصوفية مشهور حتى قال احدهم :انا الحق ,وقال اخر :سبحانى .وقال :ما فى الجنة إل ا .
قلنا :إذا قررنا إبطال الحلول أتينا على مذهبهم .فنقول :حثيثة الحلول انطباق جواهر على جوهر أو جسم على جسم أو عرض
فى جوهر وقد قدمنا بالبرهان الحق ان العقول والنفوس قائامة بانفسها ل تحمل شيئاا البته ولهى محمولة ,فأغنانا ذلك عن إعادته
وهذا فر رب العزة أعظم .
فإن قيل :فيرجع الكل لبى الله وتكون العقول والنفوس ل يفارقها البارئ تعالى إل بالفصل ,فإنهم اجتمعوا فى الجوهرية
وحقيقة الحياة والقيام يالنفس .
قلنا :ل نثبت للبارئ تعالى ما لثبتناه للنفس فإنها ل قوام لها وقد قام البرهان على حدوثها وذلك يبطل ان تكون هى هو ,فإن فى
ذلك لزوم أن يكون العالم كله ألهة وهو محال ,ويبطل أن يحل النفوس أو يطبع فيها انطباع الخمر فى اللبن كما زعمت النصارى
فى المسيح ,فإن ذلك من صفات الجسام فلم يبق إل أن اللزم راجع إلى معنى النفعال وإيجاده بالفعل أى وقوف الشارات
والحركات عليه فيكون هو المحرك القايض الباسط والنفوس معه كالحديد مع المغناطيس على وجهة التمثيل .ول المثل العلى
ونفى الوساطة على الطريق التى قدمناها .ومن حقق من الصوفية وعلم وقوف الشياء عليه وان المور ل قوام لها دونه .قال
أحدهم :مافى الجنة إل ا تعالى مبالغة فى التوحيد ,وقال أخر :سبحانى فغنه رأى الياء مكان الضافة ,فإن الفرق ضرب من
الشرك فى قوله سبحان ا ,فإجراء الوصاف ل يعتد بها إل الفصل .
فإن قلنا :سبحان الكريم نفى للبخل ,وإذا قلنا :سبحان ا فمعناه نفى الشريك ول يكون إل مع توهم الشريك ,فالموحدون منهم
بلغ بهم التوحيد إلى أن رأوا التبرؤ منه
ص 86
سوء ادب ولكن الكلم إذا وقع بالضرورة إليه والتجئ إلى النطق به لمعنى للهرب فقد وقعوا فى أشد كما زعمت الفلسفة أن
البارئ تعالى ل يقال له موجود ,فإن يؤدى إلى دخوله مع الموجودات تحت الجنس وهذا نفى معنى وهو سهل .
المعراج الخامس
هذا المعراج معقود للنبوة والنبى ومعنى ذلك .والمم فى ذلك على ثلث فرق :فرقة تنقية وفرقة تثيته ,وهى فرقتان :
طائافة :تزعم أن ذلك أوجبه مولده ,فكانت لنفسه قوة تنفعل لها المور وأوجب لها المولد أن يكون فاصل حسن السيرة ,هذا
مذهب الفلسفة .
والفرقة الثانية :اعتقدوا معنى النبوة ,وهو حصولها لشخص يخرق ا تعالى العادة على يديه بإظهار فعل غريب ,واشترطوا ان
ينضم إليها ثمانية شروط :
أحدها :أن تكون فى زمن تصح فيه الرسالة .
الثانى :خرق العادة بالمعجزة .
الثالث :ان يقترن بدعواه تحد .
الرابع :أن يوافق دعواه بعمله .
الخامس :أن يتعلق مقاله بالقلب .
السادس :أن ل يظهر على وجهه ما يدل على كذبه .
السابع :أن يكشف القناع فى التحدى .
الثامن :أن يعجز الخلق عن معارضته ,ويلتحق بهذا شرط تاسع وهو كون المعجزة من جنس ما يتعاطاه أهل زمانه ,ثم ما
يحصل إلى الرسول إما بواسطة أشخاص الملئاكة بأن يتمثل له بشرا سويا أو على صورة ما ,وإما بغير واسطة بان ينقش ا
تعالى ذلك نقشا فى الحاسة المتخيلة ,وقد قال تعالى " :وما كان لبشر أن يكلمه ا إل وحيا " ) الشورى . ( 51 :وهو ما
يحصل فى قوته الخيالية وهو المعروف باللهام ,كما قال تعالى " :وأوحينا إلى أم موسى " ) القصص . ( 7 :او من وراء
حجاب ,أو بواسطة ملك من الملئاكة وهو الحجاب ,أو يرسل رسول فيوحى بإذنه ما يشاء ,ونبينا صلى ا عليه وسلم قد ظهر
على يده من خرق العوائاد ما ظهر على أيدى الرسل ,وذلك ينقسم إلى ما بقى وإلى ما كان ,فمعجزاته من شق القمر ,وكلم
الذراع ,وحنين الجذع ,واستدعاء المطر ,ونبع الماء من بين أصابعه ,وجعل قليل الطعام كثيرا وغير ذلك ,واما ما بقى
فالقران وما اعلم به من الشراط والدلول ,وقد كان ذلك ونحن نشاهده ,ويبطل أن تكون النبوة بمعنى الملك ,فإن النباء بالغيب
معنى اخر
ص 87
خلف السياسة ,ويبطل أن يكون ذلك سحرا ,فإن الساحر ل قيام لسحره إل به ,ولهذه الشريعة خمسمائاة عام ,ثم هذا القران
الذى عجز الخلئاق عن أخرهم عن التيان بمثله إلى هلم جرا ,وكان صلى ا عليه وسلم أمينا نشأ بين أميين ل معرفة لهم بالعلوم
فأتى بهذا القران الذى اشتمل على علوم الولين والخرين ,وكل من شك فى نبوته عليه السلم ,فليتامل بعده عليه السلم عن
العلوم ثم لينظر القران وما يبطوى عليه من الصنائاع العلمية من الللهيات والمنطقيات والجدل والخطابة وسائار الشياء التى
حصلها الولون والخرون من العلوم وسمته علما او فلسفة وكيف فيه أشكال الراهين قائامة والجدل على وجهه والقيسة على
وجهها مع ما تجرد إليه من العلم الدينى ,وهو سياسة الخلق المعبر عنها بالحكام الشرعية وهو يتيم نشأ فى حجر عمه لم تعلمه
قط قريش ولمارس علما ,ولو مارس علما ودرس لما انتهى أبدا الباد إلى النظم فضل عن هذة المعانى الغريبة ,وكل من حاول
معارضته قصدمعارضه النظم وهو قصاراه ,ثم لم يات إل بالكلم الغث المشترك ,ولو أنه تحرى من تعاطى المعارضة إلى
انطواء القران على هذة الصنائاع العلمية وقصد تضمينها لما تعاطى المعارضة أبد البدين ,ولتقنع حياء مما جاء به ومن شك فى
ان ذلك امر إلهى وتابيد ربانى ,فقد طبع ا على قلبه نعوذ بال من ذلك ,وصلى ا على سيدنا محمد كما هدنا من ظلمات الشك
وعلى أله وصحبه ومحبيه وسلم تسليما .
المعراج السادس
ما اتى من القول من طريق الرسول صلى ا عليه وسلم ضربان وخبر .والطلب ضربان أمر ونهى ,وقد تكلمنا على المر
والنهى وأصول الحمام الشرعية وكيف فى رسالة القطاب ,وأما الخبر فينقسم إلى أخبار عمن مضى كأخبار المم وعما ياتى
كامور الزمن وأنباء الخرة وكل ما نطق به القران وتواتر عن الرسول صلى ا عليه وسلم فهو يقين ل شك فيه .وهو منقسم إلى
ما يحتمل التأويل وإلى ماليحتمل ,فكل ما احتمل عذر المؤول له وما ل يحتمل التأويل ةتركه تارك عن قصد كفر بتركه .
والمور المشكلة ثلث مسائال :إحداهما :مسألة النفس وقد فرعنا منها .الثانية :مسألة حشر الجساد .الثالثة :الجنة والنار .
مسألة قال ا تعالى " :كما بدأنا أول خلق نعيده " ) النبياء . ( 104 :وهذا هو نص فى العادة ,وقال تعالى فى العظام " قل
يحييها الذيِ أنشأها اول مرة " ) يس . (69 :وقال تعالى " :وا أنبتكم من الرض نباتا ) (17ثم يعيدمن فيها ويخركم إخراجا"
) نوح . ( 18 , 17 :وأكثر أى فى البعث ,وهو نص فى إعادة النفس إلى قوالب الجسام ول مراء فى ذلك ومن امتنع عنه شك
فى صدق الرسول أو كفر عمدا .والمنكرون له فرقتان :
ص 88
طائافة زعمت أن ل بقاء للنفس ,فإن العالم متناسخ تابع لدورات الفلك ل إلى نهاية وقد تقدم الرد على هذه الطائافة .
الطائافة الثانية :وهم من السلمين وهم اكثر المتصرفة .زعموا أن النفس باقية وان الجساد ل تعاد ,وحجتهم أن الجسم مستحيل
عن أغذية مأكولة والغذية نباتات ولحوم ,وربما أكل شخص أخر فيجتمع جسم واحد من الجسام ,فلو أعيد لبطلت تلك الجسام
المأكولة ولبطل حشرها ,وإن حشرت زال جسم هذا الكل وهذا تطويل يستغنى عنه ,فإنا نقول :ل نلتزم لكم أن ا تعالى بعيد
عين الجسام ,بل ضمن أن يرد النفس إلى خلق جديد وتراه كما فعل ذلك ابتداء ,وقد ورد فى الخبر :إن ا تعالى ينزل قطرا
فيكون ذلك أصل لخلقه الجسام وهو قادر على اختراع ما يشاء .وكيف ل ,وقد قال علماؤكم المتقدمون من أهل الهند وغيرهم .
عمر العالم ستة وثلثون ألف سنة .وقالوا أيضا :خمسون ألفا على اختلف بينهم فى ذلك .وقالوا :ثلثة وستون سنة ثم يعاد
جديدا ,وتبدل الرض غير الرض والسموات ويرجع القطب اليمانى شماليا والمعمور غامرا وبالعكس والبر بحرا والبحر برا .
فإن قالوا :هذة ل فائادة لكم فيه ,فإنه يلزم أن يبدل ثانيا .
قلنا :ذلك جائازة فى قدرة ا تعالى ,ولكن الرسل عليهم السلم أخبرت أنه ل يفعل ذلك وان للعالم ثلث حالت :حالة عدم تقدمت
وحالة وجود نحن فيها وحالة إعادة .
مسألة قالوا :انكرنا وجود الجنة والنار يعنى أن تكون لذاتهما والمهما محسومة جسمانية .
قلنا :علة الستحالة عندكم تاثبر الطباءع فى الجسام بواسطة حركات الكواكب ,وقد قال قدمائاكم إن للعالم تحويل .وأخبرت به
الرسل عليهم السلم وتتابعت على ذلك ,فتلك القضية بخلف هذه ,فبم تنكرون على من يزعم أن هذه القضية كما اقتضت أسبابها
الفناء تقتضى أسباب تلك البقاء وتكون الحكمة فيها ان تكون غرضا مقصود البقاء فى الجسام ,وكيف ل .وقد قال الجماهير منكم
بل الطباق على ذلك ان جوهر الشمس ل يقبل البقاء ,واتفقتم على ان جوهر الشمي ل يقبل الفناء والجسم عندكم ,وإن تركب
وكان تركيبه حادثا فجواهره قديمة ولم يتوال نصب السباب على جهة تقتضى البقاء .ثم الجنة والنار عبارتان عن قطرتين يكون
احدهما فيه قصور الذهب والفضة والؤلؤ والياقوت والثمار ثم لمن استقر فيها بل موت وواجد هذه اللذات أبدا ل يألم ول يحزن
ول يجوع ول يظمأ ول يسمعون فيها لغوا ول تأثيما إل قيل سلما سلما ,والخر على الضد من هذا وهو النار وبال الهداية .
ص 89
المعراج السابع
غرضنا فيه بيان معنى الموت ,وهل هو كمال او نقصان ,فالموت فساد المزاج وقصور الجسم عن النفعال للنفس لعدم الحس
والحركة ,فمن زعم أن النفس قديمة زعم أنه ترك المفس البدن كالرجل ارتحل عن بيت أضيف فيه إلى داره وعلى الرسم المتقدم
كمن لبس ثوبا حتى انقطع وتخرق عليه فسقط عنه الثوب وبقى عريانا منكشفا ,والملك الموكل بالموت موكل بسبب الموت وهو
سوق اللم وبعث النفس على السباب المهلكة ,فيكون الموت بواسطته ول يبعد فى العقل أن يكون للنفس ملئاكة تتلقاها بالسخ
والبشرى كما شهدت به الظواهر .وأما هل الموت كمال أو نقص ؟ فحقيقة النقص الرجوع من العلى إلى الدنى ,والكمال التقاء
من الدنى إلى العلى فإن النسان إن كان يرتقى إلى العلى بسبب الموت فهو كمال .وذلك أنه متردد فى أطوار الخلقة من كونه
ترابا وغذاء ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم تكون مولودا رضيعا ثم فطيما ثم غلما ثم شابا ثم كهل وجاهل عالما
وجمادا ثم حيا مدركا ,وما من منزلة من هذه المنازل إذا أضفناها إلى ما قبلها وتجدها كمال ,والنسان لو جعل له عقل فى بطن
أمه أن يتبدل بما سواها وذلك لللفة وينشد لهذا :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
لرحب مما كان فيه وأرغد وإل فما يبكيه منها وإنها
إذا باشر الدنيا استسهل الدنيا استسهل كأنه بما سوف يلقى من أذاها يهدد
فلول عدم اللفة ووحشة التبدل لما بكى والنفس خوارة ,بل الشيخ الكبير على طول تجربته إذا رحل من داره إلى دار أخرى يجد
ألما وسهرا وربما لم يبنم وكذلك الغريب وإنما كانت الغربة مؤلمة لعدم اللفة حتى قال الشاعر فى ذلك :
وحبب أوطان الرجال اليهم مأرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا اوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فحنوا لذلكل
ص 90
و قال أخر:
أحب بلد ا ما بين منعج
إلى و سلمى أن يصوب سحابها
بلد بها نيطت عليها تمائامى
و أول أرض مس جلدى ترابها
و علىالجملة :فعلوم الشريعة بأسرها فىالمر و النهى محذرة هذا المقام و لذلك أمرت الرسل كلها عليها السلم الخلق بالقبال عن
الدنيا رغب الزهاد فى ترك الوطن والهل و الولد ورغد العيش .قال عليه السلم ":كن فى الدنيا كأنك غريب أوعابر سبيل وعد
نفسك فى أهل القبور" .وقال عليه السلم ":انما الدنيا كظل شجرة استظل الرجل بها ثم زال عنها و تركها" ,فامقصد الرياضة و
تمرين النفس على الشدائاد .و أن تمحى هذه المور عن النفس و أن تزال عنها اللفة و أن تكتسب بغضا لهذه المور فاذا ماتت و
ان استبسئات ما حصلت فيه فل تجد غيره فهى مضطرة اليه ثم ل تلبس ال يسيرا و تفرح فرحا ل نهاية له و اذا كانت وضرة
ومشغولة بالمال و الولد و القبال على الشهوات و العكوف على الملذ الدنيوية مع انها سائاقة الى النفس مذهل ومكربا وشاغل
عن الموت فانه انتقال من ضد الى ضد وهو هلكة فأمر الرب تعالى لطفا منه بالعباد أن يكون للعبد بين الضدين تدريج و قد جعل
تعالى لذلك مثل ظاهرا فى الحياة الدنيا فى الزمنة فجعلها أربعة أقسام على ممر الشمس فى بروجها فجعل أعدل الزمن تنبت فيه
الجسام و تنمو فيه الناميات وتتلون اللوان وتخرج الرض زخرفها .وقد قال تعالى":إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من
السماء فاختلط به نبات الرض"]يونس [24:فهذه المدة من الزمان كحال النبات للنسان و الربيع ل يصير بهذه المنزلة إل بزمن
متقدم عليه وهى النقلة الشتوية فإنها باردة رطبة تنزل فيها المطار و تسخن فى الرض وتختمر بها فهى كحال البداية للنسان.
فلو أن ا تعالى يخرج الخلق من الشتاء الى الصيف بغير فصل الربيع لهلكوا عن أخرهم ,فان النباتات و البدان استولى عليها
البرد و الرطوبة و النقلة الصيفية الغالب عليها المستولى فيها الحر واليبس .فلو خرجوا من البرد المفرط الى الحر المفرط ومن
الضد الذى هو الرطوبة الى المضاد له وهو اليبس لكانت هلكة لكن ا تعالى بحكمته فصل بفصل فيه تناسب الفصلين معا فأوله
البرودة و آخره بالحرارة على تدرج خفى ل تحس به الجسام إل بعد انقضائاه و ذلك بمر الشمس على الثمان و العشرين منزلة فى
المنطقة الوسطى التى تجرى فيها الكواكب فلها مشرقان وهما منتهى تحركها فى الفق الشرقى فى الطرفين فإذا انتهت نهابتها
فيكون الجنوب فى الخر ويكون الشتاء بذلك الفق الضعف.
فحينئاذ شعاعها فى المواضع يجذب البلة و تتصاعد به أبخرة البحار و ينعكس الحر
ص 91
فى بطن الرض و يسقط ورق الثمار لن الماء ينجذب من أعاليها إلى أسفلها من حيث أن البخرة الحارة ينفيها البرد من أعلى
الرض فتطلب المركز فإذا استحرت الرض استدعت الرطوبات فجذبت النباتات فإذا زالت الرطوبات من الوراق و الغصان
غلب عليها اليبس فتكمشت و تساقطت ويكون الطرف الثانى ثم إذا غلب عليها الحر و اليبس فيكون القيظ كيفما انجذبت الشمس
على تدريج لنها تقيم فى كل برج شهرا وتقطع فى كل يوم من البرج درجة والدرجة ل تحس وهى تسير فكلما انجذبت زاد حرها
وفى ازدياد حرها تسخن الرض وتتحلل الرطوبات وتسخن أغصان الشجار من فوق فإذا استحر الغصن استدعى الماء وطلب
رطوبة الجزء الذى تحته ويستدعيه الذى تحته من الذى تحته حتى يقع الستدعاء من قاع الشجرة و تستدعيه الشجرة من الرض
و الرض وبعضها من بعض فإذا حصل الماء فى العود أذابته الشمس وجرى فى العود بطبخها وبما تستمد من لطيف الماء
ولطيف التراب يحيله الشمس ثمرة ثم تخرج ما فى طبع ذلك العود من الثمرة بإذن ا تعالى.
والشكل يخرج بطبعه الذى ركبه فىه الفاطر العليم بواسطة حر الشمس فى اقبالها وادبارها حسب ما تمر فى البروج فالشمس
جعلها البارئ سبحانه سبب الحرث والنسل وهى علة النباتات و الحيوانات والمعادن إذ سبب المعادن أبخرة تحتقن فى الرض
فيكون منها أدخنة كبريتية فيمر عليها نشع الماء فى الرض فتعقده وهذا مبرهن عند المشتغلين بعلوم التحليل و الكيمياء فإنهم
زعموا أن الزئابق ينعقد بإشمام رائاحة الكبريت وإمدادم من خارج بان يذاب و يطرح عليه أو يفلى ويترك فيه .ثم عند اجتماع الماء
و الكبريت تكون مادة الجوهر فى الرض اما باعتدال امتزاج و صبغ فيكون منه الذهب أو بافراط فبكون منه النحاس أو بتقصير
خفيف فتكون منه الفضة هذه الحركة الشمسية متعلق بالحركة الشرقية ومثال ذلك الرحى مع قطبها فان القطب يقطع شبرا فى شبر
وأخر دائارة الحجر تقطع خمسة أشبار أو أكثر فى الستدارة فكذا الطواحين وكذلك الدوائار والسواقى فان الدائارة العظمى المحركة
للحجار التى تدور بحركة الماء تقطع ما مسافته فى الستدارة عشرون ذراعا أو أكثر ورأس المغزل يقطع على استدارة دور
الدينار والمدة واحدة و كذلك برهن أصحاب النظر فى علم الثقال والمقادير أن الحركة الكلية هى سبب حركة الفلك و أنها
واحدة و كذلك نشاهد الثانية )هى الساقية( يدور الحمار فيها الى جهة ويختلف دوران تلك الدوائار فالحمار يقطع على استدارة و
القوس العظم الذى يكون عليه الطونس يقطع على استدارة فى جهة أخرى و دوائار أخر تقطع فى جهة أخرى.
قالوا :ولما كانت الشمس حارة نارية الجوهر جعلت الحكمة اللهية و التقدير الربانى
ص 92
لها نظير على مضادة طبعها إذ لو دام الحر المفرط لحرق فسخن ا تعالى القمر يمر ببرده فيبرد ما استحر فيكون النامى معتدل
بينهما ثم جعلت حركتعه سريعة لن حركته لو ساروت حركة الشمس لما وصل نفعه الى الناميات بل الى فساده وكذلك أيضا لم
يصل حر الشمس ال بعد فسادها انفعل عنه و كانت حركته سريعة .قال تعالى" :هو الذى جعل الشمس ضياء و القمر نورا "
]يونس .[5:وهذا أيضا غرض أخر يخص النفوس الحية فإن الشمس هى النور الذى به تخرج الحيوان من القوة الى الفعل و لها
فى النفوس البشرية تأثير بديع فبالنور قوام الكل و جعل القمر مرآة يقبل ضياءها باليل و يعيده على الخلق ختى ل يفقدونه ليلهم و
ل نهارهم وربما توهم متوهم أن الفق قد يخلو من نور الشمس و هذا توهم فاسد و الفق معمور بأنوار الشمس و السوات
والرض ل تغيب عنها طرفة عين و إنما ينكر الناس ذلك بإضافة حالهم فى كون الشمس فى مقابلتهم على وجه أفقهم إذ يكون
النور فى عنفوانه كثيرا فل يزال القرص يبعد عن أرضهم و تقل النوار فحال النور عند العصر بخلف حاله عند الظهر و حاله
عند المغرب بخلف حاله عند العصر و حاله عند مغيب الشفق بخلف حاله عند المغرب و حاله نصف الليل بخلف حاله عند
مغيب الشفق .وهو أبعد ما يكون النور من ذلك الفق ولذلك تكون الظلمة وتضعف رؤيته للنسان فى ذلك الوقت و لكن مع ذلك
إذا لم يكن بينه و بين السماء حائال من سقف أو سحاب يبصر فإن النور ل ينعدم وهو مع ضعفه ينتفع به فإن نور الكواكب مع
الشمس و هى واقعة على الرض فإذا قربت الشمس من جهة المشرق زاد النور من جهة المشرق فل تزال كذلك حتى تشتد فيكون
فجرا أول فإذا كثر كان فجرا ثانيا فإذا تزايد كان اسفارا فإذا طلع القرص كان نهارا.
وأما فى الليلى المقمرة فيكبر جرم القمر و لقربه من الرض يتسع النور فيه وينعكس أو بعده منها وإذا كان منها على أربعة عشر
منزلة كان ضوءه .قالوا :وفى خاصية القمر جذب الرطوبات و الشمس تحلل وهذه الكواكب إنما تؤثر فى العناصر الدائارة
بالرض لنها تناسبها فى اللطافة و تقرب من المنفعلت من جهة أخرى فهى واسطة بين الحيوانات و النباتات و المعادن تناسب
الكوكب بالبساطة و المنفعلت بالكثافة وقد قالوا:إن المنفعلت تنفعل من هذه العناصر وإن الحيوانات و المعادن هى أنفس الهواء
والماء والنار والرض لكنهم قالوا ذلك إنما يكون على طريق دور فإذا تكونت ثم فسدت عادت عناصر فهى يستحيل بعضها الى
بعض ولذلك قالوا سمى عالم الكون والفساد .ول يبعد أن تكون شعاعات الكوكب هى المؤثرة و هذه العناصر واسعة بين المؤثرات
وبينها وا تعالى أعلم .فإنها أبعد عن قبول الفساد وآية ذلك أن شعاعات الكواكب هى من الشمس و من نفسها أيضا فلو كانت
تنقص أو تتزايد لقبلت الكون والفساد ولظهر ذلك عليها.
ص 93
وقد زعم القدماء أن النار المحدقة بالرض إنما هى من الدخنة و القتارات الصاعدة و الهوية المحرقة و الهواء من البخارات
المتحللة من الرض و الماء على حسب ماتكلموا على ذلك فى استقصاءات وأيضا فل يتجه أن تتحرك هذه العناصر دون مباشرة
وذلك عند هبوب الرياح وتموج الهواء وا أعلم.
و قد ذكر القدماء أن المطار والثلوج والرياح إنما تكون حسب ما تكون النيرات ف مواضع مخصوصة من بروج مخصوصة
فلتكن أشعتها التابعة لحركتها هى الممتزجة لهذه العناصر المحركة لها ثم لنفوس النيران محركات حسب ما تتحرك وتترقى فى
الحركة الى الحركة الكلية كما سبق و قد زعم الوائال أن تلك الحركةعن شوق و اختيار عقلى مستند الى مشيئاة البارئ تعالى
وارادته فهوالبارئ المبدع الخالق المصور ل يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ول فى الرض ول أصغر من ذلك ول أكبر إل
فى كتاب مبين فهو مرتب الكل أحسن ترتيب و مقدره أكمل تقدير و الكل متصرفون جارون على منهاج ذلك الترتيب المحكم و
التقدير المتقن ل يزيد ذرة و ل ينقص ذرة كذلك ينقرض الولون ويتبعهم الخرون و السماء كما هى و نجومها والرض بما فيها
من النباتات و الحيوانات وغير ذلك لم تطرأ عليها شئ ينكرونه ول تزال كذلك حتى يعيده بارئاه تعالى تارة أخرى كما بدأ حيث
قال تعال :طكما بدأكم تعودون" ]العراف .[29:فالعالم بأسره كالشخص النسانى البشرى ذو عمر ومبدأ وأخر .و قد تقدم مرارا
أن ا سبحانه خلق النسان على صورة العالم فأوله بشر ضعيف على تدريج كما سبق فى المعراج الول.
فأول ما يخلق ا تعالى مادة يتكون منها ثم يخلق فيه الروح الحيوانى و ل يزال يتدرج فيه قليل قليل و كذلك النفس الناطقة فيه
تظهر قواها شيئاا فشيئاا فأضعفها حالة الرضيع ل يزال ينمو الى أن يشب فتخلق له الوهام و الظنون فتكون عنده كالقوة العقلية فإذا
كبر قليل خلقت فيه القوة الهيولنية وهو العقل الغريزى وهى المبادئ الول و هذا فى العادة من الخمسة عشر الى الثامنية عشر
عاما ثم ل تزال كذلك حتى يخلق فيه العقل النظرى وهو أن يدرك المور الجائازة والمستحيلة فهى كعيون تفتح قلبه و مثاله
النسان فى بيت مظلمفإذا قابله السراج على بعد نظر نظرا ضعيفا فل يزال السراج يقرب منه و نظره يكثر الى أن يتصل به
فيقوى نظره نظرا كليا فلو اتفق أن يتخذ السراج به حتى يكون فى دماغه ملبسا لقواه لكان أكثر كذلك فافهم أن القوة النفسية ل
تزال تتزايد الى مالنهاية فليميز ما بين النبى والصبى من الدرجات قالنفس آخذه فى الكمال من حين تخلق الى حين موتها فالموت
إذا كمال الجسام لن النفوس تنزع المادة و تلتحق بالفق الملئاكة وهى الجنة العليا و هى جنة الملئاكة فلن كانت نفسا شقية كان
كمل باعتبار تخليصها عن
ص 94
المادة و نقصانا من حيث تتخلف عن الجنبة العليل فل تزال كئايبة حزينة على جسمها وملذها وحواسها فإنها لم تعهد تركه قط ولم
ترتض ذاتها على ترك الملذ وكانت حين نزعها كئايبة على البدن فل تزال فى حسرة وندامة وألم ونهش وعقاب وحيات وسلسلو
أغلل أبد البدين ودهر الداهرين إل من شاء ربك "إل ماشاء ربم إن ربك فعال لما يريد" ]هود .[107:فإذا أوجب على كل من
رزقه ا تعالى عقل و ميز بارئاه ونفسه أن يسعى فى حيلة الخلص وليكن فى أثناء الحيل الدنيوية و الخروية و ذلك هو السعى
المطلق وليكن فى الدنيا كمن امتحنه سلطان زمانه وبعثه الى أرض يكرهها و يكره أهلها وأغذيتهم ولغتهم فإذا حصل بينهم علم أنه
متى اعتزلهم وتركهم قتلوه وعذبوه وإن خالطهم كفوا عنه فيكون أبدا يعاملهم بظاهرة فيكلمهم و يأكل معهم ولكن قلبه وهمته
وعشقه لقطره الذى خرج منه فإذا أخرجه الملك من بينهم ورده الى قطره كان فرحا على مفارقتهم مسرورا لقطره فلو عكف
عليهم و صرف همته اليهم ثم بعث اليهه لكان خروجه خروجا كدرا فإنه ربما عشق نسائاهم و سيرتهم فل يزال معذبا وهذا غاية
البيان فى معنى الموت وقد فعمت العالم بأسره و حقائاقه فإن أنت استعملت ذهنك وفكرتك حتى انفهم لك ذلك كنت ربانيا و نعم
العبد لبارئاك وناسبت الملئاكة فوقعت المحبة واللفة بينكما وإن أنت لم تعبأ به ولم تعول عليه أو علمت ظاهره دون باطنه فما أقل
نفعك به وما أعظم حسرتك أعاذنا ا وإياك من ذلك هذا تمام السبعة المعارج التى تستعمل فيها القوة الفكرية و هى نهاية الغرض
الذى أوردناه و ربما تقربنا الى ا تعالى و رغبنا فيما عنده فى أن ننبه على الشياء التى تكون ميزانا و مرآة للقوة المفكرة حتى ل
تغلظ فى أكثر تصرفاتها فإن خلف الناس قد كثر و مذاهبهم جمة ل تنحصر ومن عول على أخذ العلم عن إمام ل سيما مذهب
المامية فإنهم زعموا أن الرض ل تخلو طرفة عين من إمام قائام ل تعالى بحجة يخرج الخلق من التخمين الى اليقين و ينجيهم من
ظلمات الشكوك فعلى مذهبهم ل يضر إن سافر النسان عن المام و زال عن بلده والمسائال أبدا ل تنحصر فيحتاج أن يراجعه كل
دقيق وجليل .وحق هذا التنبيه أن يكون مستقبل بنفسه مستوعبا فى أسفار كثيرة ومجلدات عديدة و لكن صادفت بالرغبة أيها الخ
قلبا مشتغل مشتبك الفكر ولسانا كليل قد تخمر بين أمور متنافرة وبقى معلقا بين الدنيا و الخرة فإن تلفاه ا سبحانه بدعاء
الصلحاء وضراعة الصدقاء و الصفياء وإل قل أشياؤه وعاش معيشة ضنكا فى دنياه وا سبحانه ينفع بعضا ببعض بعزته.
ص 95
السعادة ضربان سعادة مطلقة وسعادة مقيدة
فأما السعادة المطلقة ما اتصلت فى الدنيا الى مال نهاية له و المقيدة ما كانت مقصورة على حال و زمان وكل سعادة فبسبب
والسبب من أنواع الحجج فأما السعادة المقيدة فتحصل بأربعة أسباب :أعلى السباب العلمية احترازا عن الحرف والصناعات
وهى إما سفسطة وإما خطابة وإماجدل وإما شعر أما السفسطة فنهايتها وغرضها ل مقصودها أن تؤلف قياسا و تنظم حجة تشبه
الحق و ليست بحق بنفسها لتغلب خصمك من حيث ل يشعر كما أنك إذا قلت :أليس النجار صانعا فيقول :نعم فتقول :أليس هو
جسما؟ فيقول أليس البارئ سبحانه صانعا؟ فتقول :نعم فيقول :فهو إذا جسم فهذا قياس مؤلف ولكنه فاسد وسفسطة ومباهتة ودخل
من الفساد قوله :فكل صانع جسم فإنه خطأ وإل فما الدليل عليه؟ فنهاية سعادة هذا التمويه على الخصم و هى منقسمة الى التلبيس
فى النظم كما قدمناه الى التلبيس فى شبه الحروف و السماء كما إذا قلت العين تبصر و الدينار عين فالدينار يبصر فهذا غلط من
جهة اشتراك السم وحده أن تقول حد الدينار غير حد العين فهما مختلفان فى الحد و الحقيقة و كذلك فى النقط مثل قوله تعالى
"عذابى أصيب به من أشاء" ]العراف [156:ومن أساء واستيعاب هذا يحتاج الى مجلدة و أما الخطابة فغرضها اقناع للسامع بما
تسكن نفسه اليه سكونا تاما من غير أن تبلغ اليقين و هذا كما يفعلع الخطيب من الناس فإنه ينظم كلما عذبا مشجعا يذكرهم الموت
ويفرغهم و يخوفهم وغرضه اليقاع فى نفسهم وأما المشاعر فغرضه اليقاع فى النفس و تحريك القوة الشهوانية و الغضبية بأن
يشبه الشياء بعضها ببعض كقول القائال:
هو البحر غص فيه إذا كان راكدا
على الدر واحذرهإذا كان مزبدا
فهذا إذا سمعه الممدوح انبسطت له نفسه لنه شبه جوده واتساعه بالبحر وأنه ذو صولة كالبحر وقد يحرك الشاعر القوة الغضبية
كقول القائال:
لو كان يخفى عن الرحمن خافية
من العباد خفت عنه بنو أسد
وكقول الشعراء ينفر زوجته عن النكاح:
فل تنكحى إن فرق الدهر بيننا
أغم القفاو الوجه جعد النامل
حتى أن النسان يشبه له الشئ الحسن بالقبيح فينافره كما إذا قيل له وقد شرب فى
ص 96
محجمته خرجت من كور الزجاج فيقال له بها يمص الدم للمجذوم و المبروص فينافرها ول يشرب بها وكما إذا أرسل عليه حبل
ثم قيل له :عليك نفر وقيل له:إن هذا العسل أصفر كأنه عذرة نفر من ذلك واستبشعه فهذا غرض الخطابة و الشعر و أما الجدل
فغايته غلبة من يخاطبه بأشياء مشهورة كما قال تعالى لليهود" :إن زعمتم أنكم أولياء ل من دون الناس فتمنو الموت إن كنتم
صادقين" ]الجمهة .[6:فإنه علم فى العادة أن المحب يحب لقاء الحبيب وتأليف القياس فإنه أن يقال إن كنت تحب لقاء زيد فأنت
صديقهلكنك تحب لقاءه فأنت إذا صديقه فيجئ البيان فيه على وفق المقدمة ونظم القياس لليهود أن يقال إن كان اليهودى يحب لقاء
ا تعالى فهو ولى ولكنه يكره لقاء ا تعالى فإذا ليس هو بولى وكما قال ابراهيم عليه السلم للذى حاجه ":فإن ا يأتى بالشمس
من المشرق فأت بها من المغرب" ]البقرة .[258:فغاية هذه العلوم موقوفة على منافع دنيوية إل أن تصرف الى الخرة كما فعلت
النبياء عليهم السلم فى خطاباتهم وجدلهم فالدنيا ركاب الخرة و هى مضرة إذا طلبت لتفسها ونافعة إذا طلبت للخرة فإذا مقدار
سعادة هذه العلوم ما يقصد مقدار بها.
و إما العلوم التى يطلب بها السعادة العلمية النافعة فتنقسم الى أربعة أقسام :طبيعية ورياضية وسياسية و الهية و الغرض بالطبيعة
معرفة العالم وتركيبه ومزاجه و معرفة النباتات والحيوان والمعادن و المراض والمزجة و صلحها وفسادها وهو خادم معين
كالخبز و الغذاء للنسان و كذلك هو مع تلك العلوم.
وأما الرياضيات فأربعة أنواع :الهندسة والحساب والمنطق والنجوم فأما الهندسة :فمقصودها معرفة الطوال والكميات والمقادير
وهى الة يستعان بها و الحساب غرضه معلوم و المنطق غرضه تمييز المور العقلية من المحسوسات وتمييز البرهان من الشك
فى العتقاد واما علم النجوم مقصوده معرفة الفلك وحركتها و كواكبها و سائار أحكامها و فائادته معرفة الكائانات.
وأما اللهيات فمقصوده أربعة أشياء العلم بال سبحانه وملئاكته وكتبه ورسله واليوم الخر و أما السياسة فمقصوده تهذيب النفس
فى جلب منفعة ودفع مضرة ما عاجلة و الخلق مع سائار هذه العلوم وهى معهم إما كالغذاء لهم وإما كالدواء و الرسل مبعوثون
لتبيين الجميع ومقاديرها فى السعادة على ما ذكرنا لكن تختلف أشخاص الناس وحالتهم على اختلف قرائاحهم و غرائازهم و
مقدار قبولعم وعقولهم والتقسيم يأتى على هذه النسبة فنقول :أما ما هو كالغذاء فكالعلوم اللهية فل غناء بأحد منها فإن سائار هذه
العلوم دورانها على بيانه و الخالق هو الصل ول حال لمن جهل باريه وأما ماهو كالدواء فيخص ويعم فى بعض العلوم السياسية
وهى ماتعلق منها بفروض العيان فعلى كل شخص أن يعرف هذا
ص 97
فى العلم السياسى وأما فى غيره من العلوم فيستعمل النسان منه مقدار حاجته ان احتاج اليه وال فالشتغال بما يفيد أحسن إذ
النسان ذو شغل كثير و"أما ماهو كالداء فهو يضر بالنسبة الى حالت الشخاص وهو كل شئ متى أوصلناه الى شخص وجدناه
يضربه فهو دواء فى حقه فإن العسل وإن كان حلوا عند من أفرط عليه البلغم فهو مر عند من أفرط عليه المرة الصفراء إذ هو فى
حقه داء و العلوم إنما هى بالضافة فلقد يوجد ا تعالى:
خلق تضر الحقائاق بهم
كما تضر رياح الورد بالجعل
وقد قال صلى ا عليه وسلم "حدثوا الناس بما يفهمون" وقال عيسى عليه السلم" :ل تعلقوا الدر فى أعناق الخنازير".
فمن منح الجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فإن قلت هذ لشك فيه غير أن العلوم اللهية يختلف فيها وقد كثرت فوق السلميين فعلى رأى من أعول فاعلم أخى أنك متى كنت
ذاهبا الى تعرف الحق بالرجال من غير أن تتكل على بصيرتك فقد ضل سعيك فإن العالم من الرجال إنما هو كالشمس أو كالسراج
يعطى الضوء ثم انظر ببصرك فإن كنت أعمى فما يغنى عنك السراج والشمس فمن عول على التقليد هلك هلكا مطلقا.
فإن قلت :فكيف الخلص فيه؟ فهذا الن حديث يطول ويحتاج الى اطناب واسهاب وقد أعلمتك انى مشتغل مبدد لشمل النفس كليل
الخاطر و لكن لتعلم أن الوصاف الراجعة الى ا تعالى تنقسم الى ثلثة أقسام إما وصف يجب له وإما مستحيل عليه وإما جائاز
فى حكمه فل يتلقف أحد الجائازين بسبب إل من جهة الرسول صلى ا عليه وسلم فكل واجب أو مستحيل فخذه من جهة العقل.
فإن قلت :ذلك اطلب فمن أين آخذه وكيف أتوصل إليه؟ فأقول :سأبين لك منه مقدارا يليق بهذه العجالة.
فإن قلت :وكيف أصنع أيضا فى فروع الحكام و هى المور السياسية فقد اختلفت الئامة كمالك والشافعى وأبوحنيفة وأحمد
وغيرهم؟ فأقول :فإذا الشكال من جهة الخلف فى أصول الدين وفروعه وقد كشف العى فى أصول الدين ووعدتك بالباقى وأما
الخلف فى الفروع فلك فيه حيلتان :إحداهما أن تعرف أصول الفقه وأحكام الشريعة معرفة دون تقليق ثم تعمل بما علمته وتترك
الناس جانبا خالفت أو وافقت فهذه حيلة وقد جعلت
ص 98
فى ذلك كتابا سميته ) برسالة القطاب( تختص بأصول الفقه خاصة على الطريق البرهانى فإن شئات فاحفظها واحفظ أحكام
الحديث والسنة أو تكون عندك كتبها وذلك منحصر فى ثلثة أسفار :أما أحكام الحديث فقد جمعها الزبدونى وأحكامها الفرائاض
لسماعيل القاضى وغيره وأحكامها الحكام لبى الحسن الطبرى الملقب بشفاء العليل وبأصول الفقه تهتدىالى ما غاب عنك فإن
تعذر هذا عليك فعليك بجملة ثانية وهو أن تنظر كل مختلف فتصير الى الطرف الكمل مثال ذلك مذهب أبى حنيفة فى التوضؤ
بالنبيذ فاستعمل أنت مذهب مالك فى تركه فهو أحوط وكذلك مذهب الشافعى فى التوجيه والبسملة وقراءة القرآن فى الصلة
فاستعمله فهو أحوط من مذهب مالك فيه فهاتان حيلتان لطريق الكمال فإن عجزت عنها فعليك بتقليد إمام واحد فاعمل على مذهبه
فإحكام الظاهر يسير الخطب قد فهمت هذا وإنما المشكل على هو أمر المور العقلية حتى أميز الحق من الباطل فقد علمت من هذا
طريق الخلص فى الفروع فاعلم أن المور التى تخوض فيها قوة المفكرة ترجع الى أرعة أقسام :معقولت ومحسوسات
ومقبولت ومشهورات.
فأما المعقولت :فما ل يدرك إل بالعقل على التجريد كعلمنا أن الضدين ل يجتمعان وأن الشئ ل يصح أن يكون متحركا ساكنا فى
حال واحدة وأن الواحد قبل الثنين وأن الحادث له أول وأن ماكان مع الحوادث معية زمانها فهو حادث فكل ما ل تدريه إل من
جهة العقل.
وأما المحسوسات :فما تدريه من جهة الحواس الخمس كالفرق بين اللوان والفرق بين الطعوم والملموسات والفرق بين
المسموعات والفرق بين المشمومات والفرق بين المذوقات.
وأما المشهورات :فهى العادات الراجعة الى عادات الخلق والبلد والمم والزمنة كعادة الناس فى اللباس والفرح والغانى
والحاديث والسير الكريمة كترك الظلم وبر الوالدين وشكر المنعم والكف عن الجار والنصفة من الظالم وإفشاء السلم التى هى
الن متممات الحكام الشرعية وهى من قبل الرسل تعقل وقد كانت العرب وسائار المم السالف كالهند وغيرهم يستنون بذلك
وعلى الجملة لكل أمة ملك يحمى من الظلم و بذلك قوام العالم
أما المقبولت :فما أخذ من طريق الخبار وهو كل ما يخبر به العدل الثقة أو الثقات فمتى ورد عليك شئ من أى علم كان وفرع
سمعك أو أورد عليك فانظر وسل من أى قبيل هو من هذه الربعة أقسام :فأما العقليات فل تتبدل أحكامها عما هى عليه فى العقل
والمحسوسات ل تتبدل ولكن يتطرق إليها الغلط بآفات تحدث فى اللت الجسمانية.
ص 99
وأما المقبولت والمشهورات فغير موثوق بها فإنها تختلف باختلف المم والبلد وحالت الشخاص فالحق كل قبيل بقبيله وميزه
من سواه فل تغلط أبدا الباد فما قام عندك من دليل عقل أو حس على شئ وتصححت أجزاء حده وبرهانه وتبرهن لك البرهان
على صحة تلك الجزاء والبرهان تبرهن به على مطلوبك فهو برهان حق وماورد عليك مما سوى ذلك فأنزله على مرتبته فل تعد
شيئاا من حده ول تجعل المقبول معقول ول المعقول مقبول ول المشهور محسوسا ول المحسوس مشهورا ثم انظر كيف مأخذ
المقبول مثل أن القرآن معجزة رسول ا صلى ا عليه وسلم فتعلم قطعا أن هذا القرآن مأخوذ عن نبينا محمد صلى ا عليه وسلم
ابن عبد ا ابن عبد المطلب بن هاشم الكائان بمكة صلى ا عليه وسلم وكذلك تعلم بوجوده وسيرته المستفيضة.
وأما الحكام فمأخذها مقبولة ول يلزم أن تبرهن لنا لن الخلق محتاجون إليها ولو أدركوا الحكام بعقولهم لما كانت فائادة رسول
ا صلى ا عليه وسلم وإذا لم يكن فى عقولهم استقلل بها أول فكذلك أخرا إذا اتصلت بهم فلذلك لم يطلب أن يقوم على الحكام
برهان.
وهذا منتهى ما أردنا أن نشير به من المدخل الى العلوم اللهية وننبه به على السرار الروحانية فإن ساعد الدهر السليم والغريزة
المعتدلة على الحاق ما فى معناه به كفى المسترشد وإل تشوق الى المطالعة والرب تبارك وتعالى المسئاول أن يلم الشغث ويجبر
الصدع وينير البصيرة ويجرى على اللسان الصدق ويختم بالخير ويجعلنا به وله فيما نأتى ونذر وأن يتجاوز عنا إذا وفدنا اليه
محتاجين الى عفوه فقراء الى فضله منقطعين عن الهل والوطن مخلفين البناء مبعدين الباء قد حيل بيننا وبين القريب
والصاحب ونفانا الموالى والقارب إذا برقت العين وخفت الشفة ويبست القدم وحيث ل ينطقون ول يؤذن لهم فيعتذرون ل
يستجيب لمن دعاه ل يرى شق الجيوب عليه حين وفاته أذكركم ا تعالى إخوانى وأوصيكم به فكونوا به ول تغرنكم الحياة الدنيا
ول يغرنكم باللهالغرور ثم الصلة على بنى الرحمة وشفيع المة محمد صلى ا وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد ل رب
العالمين.
صفحة 100
روضة الطالبين وعمدة السالكين .بسم ا الرحمن الرحيم .خطبة الكتاب .قال الشيخ المام العالم العلمة الوحد حجة السلم أبو
حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي تغمده ا برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته :الحمد ل الذيِ أحرق قلوب
أوليائاه بنيران محبته ،واستوفى هممهم وأرواحهم بالشوق إلى لقائاه ومشاهدته ،ووقف أبصارهم وبصائارهم على ملحظة جمال
حضرته حتى أصبحوا من نسيم روح الوصال سكرى وأصبحت قلوبهم من ملحظة الجلل والهيبة حيرى ،فلم يروا في الكونين
إل إياه ،وإن أصبحت لبصارهم صور عبرت إلى الصور بصائارهم ،وإن قرعت أسماعهم نغمة سبقت إلى المحبوب سرائارهم،
وإن ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مهيج أو مشوق لم يكن انزعاجهم إل إليه ول طربهم إل به ،ول
قلقهم إل عليه ،ول حزنهم إل فيه ،ول شوقهم إل إلى ما لديه ،و أتبعائاهم إل له ،ول ترددهم إل حواليه فمنه سماعهم ،وإليه
استماعهم فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم .أولئاك الذين اصطفاهم لوليته واستخلصهم من بين أصفيائاه وخاصته ،وصلى
ا على المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئامة الحق وقادته وسلم تسليما ل .أما بعد :فقد ألفت هذا الكتاب ليتمسك به طالب الحق
ويستعين به على سلوكه إن شاء ا تعالى ،وأستعين في ذلك بال تعالى من الخلل والزلل وهو خير ناصر ومعين وإياه أسأل أن
ينفع به إن قريب مجيب وسميته) :روضة الطلبين وعمدة السالكين( وفيه أبواب ومقدمة وفصول :المقدمة في تمهيد الكتاب .أعلم
أن انقطاع الخلق عن الحق بوقوفهم مع الخلق ومع أنفسهم ورؤيتهم أفعالهم وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة باختلف أهويتهم التي
نفوس البشر مجبولة عليها وحب الجاه والمال والدنيا والرئااسة والشهرة وطول المل والتسويف والشح ولهوى ولعجب وفحش
أغذيتهم من المطعم والمشرب والملبس وفساد دنياهم وغلبة الشهوات النفسانية على قلوبهم وترك مجاهدة لنفس وإهمالها ترفع في
شهواتها ورعونتها والتزين للناس والتلبس بالوصاف المذمومة نحو الغل والحقد والحسد والجهل والحمق والرياء والنفاق،
ك دكادن دعلناه دملساؤولل" السراء.36 : وانبعاث الجوارح في غير طاعة ا تعالى كالعين والسمع واللسان واليد والرجل" :اكمل أ الودلهئا د
والكسل والبلدة والغفلة وغير ذلك مما يبعد عن ا تعالى.
صفحة 101
الباب الول :في بيان أركان الدين .الباب الثاني :في بيان معنى الدب .الباب الثالث :في بيامن معنى السلوك والتصرف .الباب
الرابع :في بيان الوصول والوصال .الباب الخامس :في بيان معنى التوحيد والمعرفة .الباب السادس :في بيان النفس والروح
والقلب والعقل .الباب السابع :في بيان معنى المحبة .الباب الثامن :في بيان معنى النس بال تعالى .الباب التاسع :في بيان معنى
الحياء والمراقبة .الباب العاشر :في بيان معنى القرب .الباب الحاديِ عشر :في بيان شرف العلم ووجوب طلبه .الباب الثاني
عشر :في بيان معنى السماء لحسنى .الباب الثالث عشر :في بيان العتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة .الباب الرابع عشر :في
بيان صفات ا تعالى .الباب الخامس عشر :في بيان معنى حقيقة الخلص .الباب السادس عشر :في الرد على أجاز الصغائار
على النبي صلى ا عليه وسلم .الباب السابع عشر :في بيان الخواطر وأقسامها .الباب الثامن عشر :في بيان معنى آفات اللسان.
الباب التاسع عشر :في البطن وحفظه .الباب العشرون :في بيان الشيطان ومخادعاته .الباب الحاديِ والعشرون :في بيان ما تجب
رعايته .الباب الثاني والعشرون :في بيان معنى حسن الخلق وسوئاه .الباب الثالث والعشرون :في بيان معنى الفكر .الباب الرابع
والعشرون :في بيان معنى التوبة .الباب الخامس والعشرون :في بيان الصبر .الباب السادس العشرون :في بيان الخوف .الباب
السابع والعشرون :في بيان الرجاء .الباب الثامن والعشرون :في بيان الفقر .الباب التاسع والعشرون :في بيان الزهد .الباب
الثلثون :في بيان المحاسبة .الباب الحاديِ والثلثون :في بيان الشكر .الباب الثاني والثلثون :في بيان التوكل.
صفحة 102
الباب الثالث والثلثون :في النية .الباب الرابع والثلثون :في بيان الصدق .الباب الخامس والثلثون :في بيان الرضا .الباب
السادس والثلثون :في بيان النهي عن الغيبة .الباب السابع والثلثون :في بيان الفتوة .الباب الثامن والثلثون :في بيان مكارم
الخلق .الباب التاسع والثلثون :في بيان القناعة .الباب الربعون :في بيان السائال .الباب الحاديِ والربعون :في الشفقة على
خلق ا تعالى .الباب الثاني والربعون :في بيان آفة الذنوب .الباب الثالث والربعون :في صفة صلة أهل القرب .فصل في آن
ما سوى الحق حجاب عنه .أعلم أن الوقوف مع الخلق والنفس حجاب عن الحق ورؤية الفعال شرك ،لن أفعال العباد مضافة إلى
ا تعالى خلقا ل وإيجادال وإلى العبد كسبا ل ليثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية ،فحين تعلق العبد بشيء ما يوجده القتدار
اللهي يسمى كسبا ل .هذا مذهب أهل السنة ،فقدرة العبد عند مباشرة العمل ل قبله فحينما يباشر العمل يخلق ا تعالى له اقتدارا عند
ل
مباشرته فيسمى كسبا ل .فمن نسب المشيئاة والكسب إلى نفسه فهو قدريِ ،ومن نفاهما عن نفسه فهو جبريِ ،ومن نسب المشيئاة غلى
ا تعالى والكسب إلى العبد فهو سني صوفي رشيد ،وفيه كلم طويل ليس هذا موضعه ،سيأتي قريبا ل إن شاء ا تعالى .وأما
النحراف عن العقيدة الصحيحة ،فلغلبة الهواء على القلوب والتعصب لمذهب أهل البدع .قال بعض الئامة :رب أقوام تنجيهم
عقائادهم مع قلة عملهم ،ورب أقوام تهلكهم عقائادهم مع كثرة عملهم ،وحب الجاه والمال والدنيا سم قاتل ،والرئااسة والشهرة
يورثان الكبر والدخول في الدنيا وهما فساد الدين .قال بعضهم :ما عملت عملل وأطلع عليه الناس إل أسقطته .وأما طول المل:
فإنه يمنع من حسن العمل ويصد عن الحق والتسويف من أعظم جنود الشيطان ،وأما الشح والهوى وإعجاب المرء بنفسه :فهن من
المهلكات.
صفحة 103
وأما فحش الغذاء :فإنه يظلم القلب ويورث القسوة والبعد عن ا تعالى ،وطيب الغذاء ينور القلب ويورث الرقة والقرب من ا
ت دما دردزلقدنااكلم( البقرة .172 :والطيبات هي الحلل :أطيب مطعمك عز وجل .قال ا تعالى) :ديا أدميدها الاهذيدن آدمانولا اكالولا همن دطرَيدبا ه
ومشربك وما عليك أل تقوم الليل ول تصوم النهار ،وطيب المطعم أصل كبير في طريق القوم ،ولو قام العبد قيام السارية لم ينفعه
ذلك ،حتى يعلم ما يدخل جوفه .وأسرع الناس جوازال على الصراط أكثرهم ورعا ل في الدنيا .يقول ا عز وجل" :عبديِ تجوع
تراني تتورع تعرفني تجرد تصل إلي" قال ا تعالى" :وأما الورعون فأستحي أن أعذبهم" قال بعض السادة من الكابر :عليك
بالعلم والجوع والخمول والصوم فإن العلم نور يستضاء به ،والجوع حكمة .قال ابو يزيد :ما جعت ل يوما ل إل وجدت في قلبي بابا ل
س دكهملثلههه دشليسء( الشورى:
من الحكمة لم أجده قبل .والخمول راحة وسلمة ،ولصوم صفة صمدانية ما مثلها شيء لقوله تعالى )دللي د
.11فمن تلبس بها أورث العلم والمعرفة والمشاهدة ،ولذلك قال تعالى" :كل عمل ابن آدم له إل الصوم فإنه لي وأنا الذيِ أجزيِ
له" .ولخلوف فم الصائام عند ا أطيب من ريح المسك والشتغال بالدنيا وغلبة الشهوات على القلب يورث جميع الوصاف
المذمومة فل طمع في القرب ما لم تبدل الوصاف المذمومة بالمحمودة .قال بعضهم :ما دام العبد ملوثا ل بالغير ل يصلح قلبه
للقرب والمجالسة حتى يطهر قلبه من السوى .قال عثمان رضي ا عنه) :لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن لنها
بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم دون غيره( .فصل .أعلم أن ما سوى الحق حجاب عنه .ولول ظلمة الكون لظهر نور الغيب،
ولول فتنة لنفس لرتفعت الحجب ،ولول العوائاق لنكشفت الحقائاق ،ولول العلل لبرزت القدرة ،ولول الطمع لرسخت المحبة،
ولول حظ باق لحرق الرواح الشتياق ،ولول البعد لشوهد الرب ،فإذا انكشف الحجاب تجشم هذه السباب وارتفعت العوائاق
بقطع هذه العلئاق :بدا لك سر طال عنك اكتتامه ،ولح صباح كنت أنت ظلمه ،فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ،ولولك لم يطبع
عليك ختامه ،فإن غبت عنه حل فيه وطنبت ،على منكب الكشف المصون خيامه.
صفحة 104
وجاء حديث ل يمل سماعه ،شهي إلينا نثره ونظامه .قال بعضهم :إذا أراد ا بعبد سوءال مد عليه باب العمل وفتح عليه باب
الكسل .جاء رجل إلى معاذ فقال :أخبرني عن رجلين أحدهما يجتهد في العبادة كثير في لعمل قليل الذنوب إل أنه ضعيف اليقين
يعتوره الشك .قال معاذ :ليحبطن شكه أعماله .قال :فأخبرني عن رجل قليل العمل إل أنه قويِ اليقين وهو في ذلك كثير الذنوب
فسكت .فقال :وا لئان أحبط شك الول أعمال بره ليحبطن يقين هذا ذنوبه كلها .قال فأخذه معاذ بيده .وقال :ما رأيت الذيِ هو أفقه
من هذا .فصل في عمل أبي يزيد البسطامي .قال أبو يزيد البسطامي رضي ا عنه) :مكث اثنتى عشرة سنة حداد نفسي ،وخمس
سنين كنت أجلو مرآة قلبي ،وسنة أنظر فيما بينهما فإذا في وسطى )نار فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي
فرأيت الخلق موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات( .ومعنى هذا الكلم – وا أعلم – أنه عمل في مجاهدة نفسه وإزالة أدغالها
وخبثها وما حشيت به من العجب والكبر والحرص والحقد والحسد وما شابه ذلك مما هو من مألوفات النفس ،فعمد إلى إزالة ذلك
بأن أدخل نفسه كبر التخويف ،ثم طرقها بمطارق المر والنهي حتى أجهده ذلك .فظن أنها قد تصفت ،ثم نظر في مرآة إخلص
قلبه ،فإذا بقايا من الشرك الخفي وهو الرياء والنظر إلى العمال وملحظة الثواب والعقاب والتشوف إلى الكرامات والمواهب.
وهذا شرك في الخلص عند أهل الختصاص وهو الزنار الذيِ أشار إليه فعمل في قطعه :يعني قطع نفسه وفطمها عن العلئاق
وأعرض عن الحلئاق حتى أمات من نفسه ما كان حيا ل وأحيا من قلبه ما كان ميتا ل حتى ثبت قدمه في شهود القدم وأنزل ما سواه
منزلة العدم .فعند ذلك كبر على الخلق أربع تكبيرات وانصرف إلى الحق ،ومعنى قوله :كبرت على الخلق أربع تكبيرات لن
الميت يكبر عليه أربع تكبيرات ،ولن حجاب الخلق عن الحق أربع :النفس ،والهوى ،والشيطان والدنيا .فأمات نفسه وهواه
ورفض شيطانه ودنياه فلذلك كبر على كل واحدة ممن فنى عنه تكبيرة لنه هو الكبر وما سواه أذل وأصغر ثم أعلم أنك ل تصل
إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات :العقبة الولى :فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.
صفحة 105
العقبة الثانية :فطم النفس عن المألوفات العادية .العقبة الثالثة :فطم القلب عن الرعونات البشرية .العقبة الرابعة :فطم السر عن
الكدورات الطبيعية .العقبة الخامسة :فطم الروح عن البخارات الحسية .العقبة السادسة :فطم العقل عن الخيالت الوهمية .فتشرف
من العقبة الولى على ينابيع الحكم القلبية ،وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية وتلوح لك من العقبة الثالثة أعلم
المناجاة الملكوتية ،وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلت القريبة ،وتطلع لك في الخامسة أقمار المشاهدات الحيية ،وتهبط
من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية .فهنالك تغيب مما تشاهد من اللطائاف التية عن الكثائاف الحية ،فإذا أرادك
بخصوصيته الصطفائاية سفاك بكأس محبته شربة فتزداد بذلك الشرب ظمأ وبالذوق شوقلان وبالقرب طلبا ل وبالسكون قلقا ل .فإذا
تمكن منك هذا السكر أدهشك فإذا أدهشك حيرك ،فأنت ها هنا مريد ،فإذا فنيت ذاتك وذهبت صفاتك وفنيت ببقائاه عن فنائاك وخلع
عليك خلعة )قبي يسمع ويي يبصر( فيكون هو مستوليك وواليك ،فإن نطقت فبأذكاره وإن نظرت فبأنواره ،وإن تحركت فبإقداره،
وإن بطشت فبإقتداره ،فهنالك تذهب الثنينية واستحالت البينية ،فإن رسخ قدمك وتمكن سرك حال سكرك .قلت :هو وإن غلب
عليك وجدك تجاوز بك حدك عن حد الثبوت .قلت أنت :فأنت في الول متمكن ،وفي الثاني مسئالون ومن هنا أشكل على الفهام
حل رمز هذا الكلم .الباب الول .في بيان أركان الدين .أعلم أن كلمتي الشهادة على إيجازهما يتضمنان إثبات ذات الله سبحانه
وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق رسول ا صلى ا عليه وسلم .وبناء اليمان على هذه الركان الربعة :الركن الول:
في معرفة ذات ا سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي :العلم بوجود ا تعالى ،وقدمه وبقائاه ،وأنه ليس بجوهر ول
جسم ،ول عرض ،وأنه ليس بمختص بجهة ،ول مستقر على مكان ،وأنه يرى وأنه واحد .الركن الثاني :في معرفة صفات ا
سبحانه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي :العلم بكونه تعالى حيلا ،عالملا ،قادرلا ،مريدلا ،سميعلا ،بصيرلا ،متكلملا ،صادقا ل في
أخباره ،منزها ل عن حلول الحوادث ،وأنه قديم الصفات.
صفحة 106
الركن الثالث :في معرفة أفعال ا سباحنه وتعالى ومداره على عشرة أصول وهي :أن أفعال العباد مخلوقة ا تعالى ومرادة له
وأنها مكتسبة لهم ،وأنه منفصل بالخلق ،وأنه له تكليف ما ليطاق ،وله إيلم البرىء ول يجب عليه رعاية الصلح ،وأنه ل واجب
إل بالشرع وأن بعثة النبياء صلى ا عليهم وسلم جائازة ،وأن نبوة نبينا محمد صلى ا عليه وسلم ثابتة مؤبدة بالمعجزات .الركن
الرابع :في السمعيات ومداره على عشرة أصول وهي :الحشر والنشر ،وعذاب القبر ،وسؤال منكر ونكير ،والميزان ،والصراط،
وخلق الجنة والنار ،وأحكام المامة .الباب الثاني .في بيلن الدب .رويِ عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال" :أدبني ربي
فأحسن تأديبي" والدب تأديب الظاهر والباطن ،فإذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار صوفيا ل أديبلا ،ومن ألزم نفسه آداب السنة نور
ا قلبه بنور المعرفة ،ول مقام أشرف من متابعة الحبيب صلى ا عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلقه والتأدب بآدابه قولل
وفعلل وعقدال ونية .وبالنصاف قيما بين ا تعالى وبين العبد في ثلثة :في الستعانة والجهد والدب ،فمن العبد الستعانة ،ومن
ا العانة على التوبة ،ومن العبد الجهد ،ومن ا التوفيق ،ومن العبد الدب ،ومن ا الكرامة .ومن تأدب بآداب الصالحين ،فإنه
يصلح لبساط الكرامة ،وبآداب الولياء لبساط القربة ،وبآداب الصديقين لبساط المشاهدة ،وبآداب النبياء لبساط النس والنبساط،
ومن حرم الدب حرم جوامع الخيرات ،ومن لم تريضه أوامر المشايخ وتأديباتهم ،فإنه ل يتأدب بكتاب ول سنة ،ومن لم يقم بآداب
أهل البداية كيف يستقيم له دعوى مقامات أهل النهاية .ومن لم يعرف ا عز وجل لم يقبل عليه ،ومن لم يتأدب بأمره ونهيه كان
عن الدب في عزلة .وآداب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها برؤية مجربها .العبد يصل بطاعته إلى الجنة وبأدبه إلى ا
تعالى ،والتوحيد موجب يوجب اليمان فمن ل إيمان له ل توحيد له واليمان موجب يوجب الشريعة فمن ل شريعة له ل إيمان له
ول توحيد له ،والشريعة موجب يوجب الدب فمن ل أدب له فل شريعة له ول إيمان له ول توحيد له ،وترك الدب موجب يوجب
الطرد ،فمن أساء الدب على البساط رد إلى الباب ،ومن أساء الدب على الباب رد إلى سياسة الدواب ،وأنفع الداب النفقة في
الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما ا عليك وإذا ترك العارف أدبه مع معروفة فقد هلك مع الهالكين .وقيل :ثلث خصال ليس
معهن غربة :مجانية أهل الريب ،وحسن الدب ،وكف
صفحة 107
الذى ،وأهل الدين أكثر آدابهم في تهذيب النفوس ،وتأديب الجوارح ،وحفظ الحدود ،وترك الشهوات ،وأهل الخصوصية أكثر
آدابهم في طهارة القلوب ،ومراعاة السرار ،والوفاء بالعهود ،وحفظ الوقت ،وقلة اللتفات إلى الخواطر ،وحسن الدب في مواقف
الطلب ،وإدمان الحضور ،ومن قهر نفسه بالدب فهو الذيِ يعبد ا بالخلص .وقيل :هو معرفة اليقين .وقيل يقول الحق سبحانه:
"من آلزمنه القيام مع أسمائاي وصفاتي ألزمته الدب ،ومن أراد الكشف عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب ،فأختر أيهما شئات :الدب
أو العطب؟ ومن لم يتأدب للوقت فوقته مقت ،وإذا خرج المريد عن استعمال الدب فإنه يرجع من حيث جاء" .وحكى عن أبي
عبيد القاسم بنم سلم قال :دخلت مكة فربما كنت أقعد بحذاء الكعبة وربما كنت أستلقي وأمد رجلي فجاءتني عائاشة المكية فقالت
لي :يا أبا عبيد :يقال إنك من أهل العلم اقبل مني كلمة ل تجالسه إل بالدب وإل فيمحى اسمك من ديوان أهل القرب ،قال أبو
عبيد:وكانت من العارقات وقال بعضهم :الزم الدب ظاهرال وباطنا ل فما أساء أحد الدب في ظاهر إل عوقب ظاهرلا ،وما اساء أحد
الدب باطنا ل إل عوقب باطنا ل فالدب استخراج ما في القوة والخلق إلى الفعل وهذا يكون لمن ركبت السجية الصالحة فيه والسجية
فعل الحق ل قدرة للبشر على تكوينها كتكون النار في الزناد إذ هو فعل ا المحض واستخراجه يكسب الدمي فهكذا الداب
منبعها بالسجايا الصالحة والمنح اللهية ،ولما هيأ ا تعالى بواطن الصوفية بتكميل السجايا الكاملة فيها تواصلوا بحسن الممارسة
والرياضة إلى استخراج ما في النفوس مركوزة بخلق ا إلى الفعل فصاروا مؤدبين مهذبين .فصل في آداب أهل الحضرة اللهية
لهل القرب .كل الداب تتلقى من رسول ا صلى ا عليه وسلم ،فإنه صلى ا عليه وسلم مجمع الداب ظاهرال وباطنلا ،وأخبر
ا سبحانه عن حسن أدبه في الحضرة بقوله تعالى) :دما دزادغ اللدبصار ودما دطدغى( النجم .17 :وهذه غامضة من غوامض الداب
اختص بها رسول ا صلى ا عليه وسلم أخبر ا عن اعتدال قلبه لمقدس في العراض والقبال أعرض عما سوى ا ،وتوجه
إلى ا ،وترك وراء ظهر ،لرضين والدار العالجة بحظوظها والسموات والدار الخرة بحظوظها ول لحقه السف على الفائات
في إعراضه .قال ا تعالى) :لهدكليل دتألدسوا دعدلى دما دفادتاكلم( الحديد .23 :فهذا الخطاب للعموم ،وما زاغ البصر إخبار عن حال النبي
صلى ا عليه وسلم بوصف خاص من معنى ما خاطب به العموم ،فكان ما زاغ البصر حالع في طرف العراض ،وفي طرف
القبال تلقى ما ورد عليه في مقام :قاب قوسين بالروح والقلب ،ثم فر من ا حياء منه وهيبة وإجللل وطوى نفسه في مطاويِ
انسكاره وافتقاره ،لكيل تنبسط النفس فتطغى ،فإن الطغيان عند
صفحة 108
لندسادن دلديلطدغى ) (6دأن درآها السدتلغدنى( العلق .7 ،6 :ولنفس عند المواهب الواردة ا ن
ها ه إ ا لكل ) تعالى ا قال . النفس وصف الستغناء
ل
على الروح والقلب تسترق السمع ومتى نالت قسطا من المنح استغنت وطغت ،والطغيان يظهر منه فرط البسط ،والفراط في
البسط يد باب المزيد ،وطغيان النفس لضيق وعاتها من المواهب فموسى عليه السلم صح له في الحضرة أحد الظرفين .ما زاغ
بصره ،وما التفت إلى ما فاته متأسفا ل لحسن أدبه ،ولكن امتل من المنح واسترقت النفس السمع وتطلعت إلى القسط والحظ فلما
ظار إدلليك( العراف: حظيت النفس استغنت وطفح عليها ما وصل إليها وضاق نطاقها فتجاوز الحد من فرط البسط وقال) :أدهرهني دأن ا
.143فمنع ولم يطق صبرال وثباتا ل في قضاء المزيد وظهر الفرق من الحبيب والكليم عليهما الصلة والسلم .وقال سهل بن عبد
ا التستريِ :لم يرجع رسول لله صلى ا عليه وسلم إلى شاهد نفسه ول إلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدال بكليته لربه .يشاهد ما
يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحلوهذا الكلم لمن اعتبره موافق لكا شرحناه برمز في ذلك من كلم سهل
بن عبد ا ،وا أعلم .الباب الثالث .في بيان معنى السلوك والتصرف .أعلم :أن السلوك هو تهذيب الخلق والعمال
والمعارف .وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن ،والعبد في جميع ذلك مشغول عن ربه إل أنه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد
للوصول .والذيِ يفسد على السالك سلوكه شيئاان :اتباع الرخص بالتأويلت ،والقتداء بأهل الغلط من متبعي الشهوات .ومن ضيع
حكم وقته فهو جاهل ،ومن قصر فيه فهو غافل ،ومن أهمله فهو عاجز .ل تصح إرادة المريد حتى يكون ا ورسوله وسواس
قلبه ،ويكون نهاره صائاما ل ولسانه صامتا ل .لن كثرة الطعام والكلم والمنام نقصى القلب .وظهره راكعا ل وجبهته ساجدة وعينه
دامعة وغامضة ،وقلبه حزينا ل ولسانه ذاكرال .وبالجملة :قد شغل كل عضو فيه ومعنى فيه بوظيفة ندبه ا ورسوله إليها وترك ما
كره ا ورسوله له .وللورع معانقا ل ولهوائاه تاركا ل مطلقا ل وراثيا ل جميع ما وفقه ا تعالى له من فضل ا عليه ،ويجتهد أن يكون
ذلك كله احتسابا ل ل ثوابلا ،وعبادة ل عادة ،لنه من لحظ المعمول له اشتغل به عن رؤية العمال ونفسه تاركا ل للشهوات ،فصحة
الرادة ترك الختيار والسكون إلى مجاريِ القدار كما قيل :أريد وصاله ويريد هجريِ ،فأترك ما أريد لما يريد .وافن عن الخلق
بحكم ا وعن هواك بأمر ا ،وعن إرادتك بفعل ا ،فحينئاذ
صفحة 109
تصلح أن تكون وعاء لعلم ا فعلمة فنائاك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم والياس عما في أيديهم ،وعلمة فنائاك
عنك وعن هواك ترك التكسب ،والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر فل تتحرك فيك بك ،ول تعتمد عليك لك ،ول تذب عنك
ول تضر نفسك ،لكن تكل ذلك كله إى من توله أولل ليتوله آخرلا ،كما كان ذلك موكلل إليه في حال كونك مغيبا ل في الرحم ،وكونك
رضيعا ل في مهدك ،وعلمة فنائاك عن إرادتك بفعل ا أن ل تريد مرادال قط لنك ل تريد مع إرادة ا سواها ،بل يجريِ فعله فيك
فتكون أنت إرادة ا وفعله ساكن الجوارح مطمئان الجنان ،مشروح الصدر ،منور الوجه ،عامر البطن ،تقلبك القدرة ويدعوك
لسان الزل ،ويعلمك رب الملك ،ويكسوك من نور الحلل ،وينزلك منازل من سلف من أولى العلم .فصل في لزوم العزلة .على
السالك أن يلزم العزلة ليستظهر بها على أعدائاه .وهي نوعان :فريضة وفضيلة .فالفريضة :العزلة عن الشر أهله .والفضيلة
العزلة عن الفضول وأهله .وقيل :الخلوة غير العزلة ،والخلوة عن الغيار ،والعزلة من النفس وما تدعو إليه وتشغل عن ا.
وقيل :السلمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وواحدة في العزلة .وقيل :الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت عما ل
يعني .والعاشرة في العزلة عن الناس .كثير من ندم على الكلم وقل من ندم على السكوت .وقيل :الخلوة أصل والخلطة عارض.
فيلزم الصل ول يخالط إل بقدر الحاجة ،وإذا خالط يلزم الصمت فإنه أصل .وإذا صفا لك من زمانك واحد ،فهو المراد فأين ذاك
الواحد .وقيل :الخلوة بالقلب فيكون مستغرقا ل بكليته مع ا تعلى معكوفا ل قلبه عليه مشغوفا ل به والها ل إليه متحققا ل كأنه بين يديه.
قيل :أول مبادئ السالك أن يكثر الذكر بقلبه ولسانه بقوة حتى يسريِ الذكر في أعضائاه وعروقه ،وينتقل الذكر إلى قلبه فحينئاذ
يسكت لسانه ويبقى قلبه ذاكرال يقول )ا ا( باطنا ل مع عدم رؤيته لذكره ،ثم يسكن قلبه ويبقى ملحظا ل لمطلوبه مستغرقا ل به معكوفا ل
ك اللايلودم ه ه
ل عليه مشغوفا ل إليه مشاهدال له ،ثم يغيب عن نفسه بمشاهدته ،ثم يفنى عن كليته بكليته حتى كأنه في حضرة )لههمهن اللاملل ا
حهد اللدقدهاهر( غافر .16 :فحينئاذ يتجلى الحق على قلبه فيضطرب عند ذلك ويندهش ويغلب عليه السكر وحالة الحضور اللدوا ه
والجلل والتعظيم ،فل يبقى فيه متسع لغير مطلوبه العظم .كما قيل :فل حاجة لهل الحضور إلى غير شهود عوانه .وقيل :في
قوله تعالى) :وشاهد ومشهود( البروج.3 :
ص 110 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
فالشاهد :هو ا ،والمشهود :هو عكس جمال الحضرة الصمدية فهو الشاهد والمشهود.
فصل
يا حبيبى أطبق جفنيك وانظر ماذا ترى ،فإن قلت ل أرى شيئاا حينئاذ فهو خطأ منك بل تبصر .ولكن ظلم الوجود لفرط قربه من
بصيرتك ل تجده .فإن أحببت أن تجده وتبصره قدامك مع أنك مطبق جفنيك ،فانقص من وجودك شيئاا فشيئاا أو أبعد من وجودك
شيئاا وطريق تنقيصه والبعاد منه قليلل المجاهدة ومعنى المجاهدة بذل الجهد فى دفع الغيار أو قتل الغيار والغيار الوجود
والنفس والشيطان .وبذل الجهد مضبوط بطرق :
الول :تقليل الغذاء بالتدريج ،فإن مدد الوجود والنفس والشيطان من الغذاء ،فإذا قل الغذاء قل سلطانه .
والثانى:ترك الختيار وإفنائاه فى اختيار شيخ مأمون ليختار له ما يصلحه ،فإنه مثل الطفل الصبى الذى لم يبلغ مبلغ الرجال أو
السفيه المبذر .وكل هؤلء لبد لهم من وصى أو ولى أو قاض أو سلطان يتولى أمرهم.
والثالث :من الطرق طريقة الجنيد قدس ا روحه وهو ثمان شرائاط .دوام الوضوء،ودوام الصوم،ودوام السكوت ،ودوام الخلوة
ودوام الذكر وهو قول )ل اله إل ا (
ودوام ربط القلب بالشيخ واستفادة علم الواقعات منه بفناء تصرفه فى تصرف الشيخ ,ودوام نفى الخواطر ,ودوام ترك العتراض
على ا تعالى فى كل ما يرد منه عليه ضيرلاكان أو نفعا لوترك السؤال عنه من جنة او تعوذ من نار .
والفرق بين الوجود والنفس والشيطان فى مقام المشاهدة :أن الوجود شديد الظلمة فى الول ,فإذا صفا قليلل تشكل قدامك بشكل
الغيم السود فإذا عرش الشيطان كان أحمر فإذا صلح وفنى الحظوظ منه وبقى الحقوق صفا وابيض مثل المزن ،والنفس إذا بدت
فلونها لون السماء وهى الزرقة ,ولها نبعان كنبعان الماء من اصل الينبوع .فإذا كانت عرش الشيطان فكأنها عين من ظلمة ونار
ويكون نبعها أقل .فإن الشيطان ل خير فيه وفيضان النفس على الوجود وتربيته منها فإن صفت وزكت أفاضت عليه الخير وما
نبت منه .فإن أفاضت عليه الشر فكذلك ينبت منه الشر ,والشيطان نار غير صافية ممتزجة بظلمات الكفر فى هيئاة عظيمة وقد
يتشكل قدامك كأنه زنجى طويل ذو هيبة يسعى كأنه يطلب الدخول فيك .فإذا طلبت منه النفكاك فقل فى قلبك يا غياث المستغيثين
أغثنا فإنه يفر عنك .
ص 111 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
فصل فى التصوف
حكم الصوفى أن يكون الفقر زينته والصبر حليته والرضى مطيته والتوكل شأنه .
وا عزوجل وحده حسبه يستعمل جوارحه فى الطاعات وقطع الشهوات والزهد فى الدنيا والتورع عن جميع حظوظ النفس وأن
ل يكون له رغبة فى الدنيا البته ,فإن كان ول بيد فل تجاوز
رغبته كفايته ويكون صافى القلب من الدنس اولهدها ل بحب ربه فارال الى ا تعالى بسره يأوى اليه كل شىء ,ويأنس به وهو ل يأوى
إلى شىء ,أى ل يركن إلى شىء
ول يأنس بشىء سوى معبوده آخذ بالولى والهم والحوط فى دينه مؤثرا ا على كل شىء .
التصوف :طرح النفس فى العبودية وتعلق القلب بالربوبية .وقيل :كتمان الفاقات ومدافعة الفات .
وقال سهيل بن عبد ا :الصوفى من صفا من الكدر وامتلء من الفكر واستوى عنده الذهب والمدر .وقيل :التصوف تصفية
القلب عن مرافقة البرية ،ومفارقة الخلق الطبيعية ،وإخماد صفات البشرية ،ومجانية الدواعى النفسانية ،ومنازلة الصفات
الروحانية ،والتعلق بالعلوم الحقيقية وإتباع رسول ا صلى ا عليه وسلم فى الشريعة .وقيل :الصوفى هو الذى يكون دائام
التصفية ليزال يصفى الوقات عن شوب القدار بتصفية القلب عن شوب النفس ومعينه على على هذه دوام إفتقاره الى موله ،
فبدوام الفتقار يتفطن للكدر كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه ،فبدوام
تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائام بربه على قلبه وقائام بقلبه على نفسه .قال ا تعالى( كونوا قوامين ل شهداء
بالقسط()المائادة (8:وهذه ل على النفس هو تحقق بالتصوف.
فصل فى أصول التصوف
أكل الحلل والقتداء برسول ا صلى ا عليه وسلم فى أخلقه وأفعاله وأوامره وسنته .ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ل
يقتدى به فى هذا المر لن علمنا مضبوط بالكتاب والسنه .أخذ هذا المذهب بالورع والتقوى ل بالدعاوى.
التصوف:أوله علم وأوسطه عمل وأخره موهبة .فالعلم :يكشف عن المراد ،والعمل :يعين على الطلب ،والموهبة :تبلغ غاية
المل.
والعمل :يعين على الطلب ،والموهبة :تبلغ غاية المل .
وأهله على ثلث طبقات :مريد طالب ،ومتوسط سائار ،ومنته واصل .فالمريد صاحب وقته ،والمتوسط صاحب حال ،والمنتهى
صاحب يقين ،وأفضل الشياء عندهم عد النفاس .فمقام
ص 112 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
المريد المجاهدات والمكابدات وتجرع المرارات ومجانية الحظوظ وما على فيه تبعة .ومقام المتوسط ركوب الهوال فى طلب
المراد ومراعاة الصدق وإستعمال الدب فى المقامات وهو مطالب بأداب المنازل وهو صاحب تلوين ،لنه ينتقل من حال إلى
حال وهو الزيادة .ومقام المنتهى الصحو والثبات وإجابة الحق من حيث دعاه قد تجاوز المقامات ،وهو فى محل التمكين ل تغيره
الهوال ول تؤثر فيه الحوال.قد استوى فى حال الشدة او الرخاء والمنع والعطاء والجفاء والوفاء – أكله كجوعه ونومه كسهره .
قد فنيت حظوظه وبقيت حقوقه ظاهرة مع الخلق،وباطنه مع الحق كل ذلك من أحوال النبى صلى ا عليه وسلم .المنتهى لو
نصب له سنان
فى أعلى شاهق فى الرض وهبت له الرياح الثمانية ما حركت منه شعرة واحدة.وقيل :سموا صوفية لنهم وقفوا فى الصف
الول بين يدى ا عز وجل بإرتفاع هممهم وإقبالهم على ا تعالى بقلوبهم ووقوفهم بين يديه بسرائارهم .
فصل فى الملمتيه
حكم الملمتى أن ليظهر خيرا ول يضمر شرا .وشرح هذا :هو أن الملمتى تشربت عروقه طعم الخلص وتحقق بالصدق فل
يحب أن يطلع أحد على حاله وأعماله .
والملمتيه لهم مزيد إختصاص بالتمسك والخلص يرون كتم الحوال ويتلذذون بكتمها حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لحد
إستوحشوا من ذلك ،كما يستوحش العاصى من ظهور معصيته .فالملمتى عظم موقع الخلص وموضعه وتمسك به معتمدا به
.والصوفى غاب فى إخلصه.
قال أبو يعقوب السوسى :متى شهدوا فى إخلصه والخلص إحتاج إخلصهم إلى إخلص .قال بعضهم :صدق الخلص
نسيان رؤية الخلق بدوام النظر الى الحق ،والملمتى يرى فيخفى عمله وحاله .قال جعفر الخلدى :سألت أبا القاسم الجنيد
قلت:بين الخلص والصدق فرق؟قال :نعم الصدق أصل وهو الول والخلص فرع وهو تابع.
وقال :بينهما فرق لن الخلص ل يكون إل بعد الدخول فى العمل .ثم قال :إنما هو إخلص ومخالصة الخلص وخالصته
كائانة فى المخالصة .فعلى هذا الخلص حال الملمتى ،ومخالصة الخلص حال الصوفى ،والخالصة الكائانة فى المخالصة
ثمرة مخالصة الخلص وهو فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه ،بل غيبته عن رؤية قيامه وهو الستغراق فى العين عن
الثار والتخلص عن لوث الستتار وهو فقد حال الصوفى .والملمتى مقيم فى أوطان إخلصه غير متطلع إلى حقيقة إخلصه.
وهذا فرق واضح بين الملمتى والصوفى .فالملمتى وإن كان متمسكا بعروة الخلص مستفرشا بساط الصدق .ولكن عليه بقية
رؤية الخلق وما أحسنها من بقية تحقق الخلص والصدق .والصوفى صفاء من هذه البقية فى طرفى العمل والترك للخلق
وعزلهم بالكلية ورائاهم بعين الفناء والزوال ،ولح له ناصية التوحيد وعاين سر)كل شئ هالك إل وجهه ()القصص .(88:كما قال
بعضهم فى بعض غلباته :ليس فى الدارين غير ا .وقد يكون إخفاء
ص 113 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
الملمتى الحال على وجهين :أحد الوجهين لتحقيق الخلص والصدق ،والوجه الخر وهو التم لستر الحال عن غيره بنوع
غيره،
فإنه من خل بمحبوبه يكره إطلع الغير عليه ،بل يبلغ فى صدق المحبة أن يكره اطلع احد على حبه لمحبوبه ،وهذا وإن على
ففى طريق الصوفى علة و نقص .فعلى هذا يتقدم الملمتى على المتصوف ويتأخر عن الصوفى .وقيل :من أصول أهل
الملمة أن الذكر على أربعة أقسام :ذكر اللسان ،وذكر القلب ،وذكر بالسر ،وذكر بالروح .فإذا صح ذكر الروح سكت السر
والقلب واللسان عن الذكر وذلك ذكر المشاهدة ،وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان عن الذكر
وذلك ذكر الهيبة ،وإذا صح ذكر القلب عن الذكر وذلك ذكر اللء والنعماء ،وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر .
وذلك ذكر العادة .
ولكل واحد من هذه الذكار عندهم أفة ،فأفة ذكر الروح إطلع السر عليه وأفة ذكر السر إطلع القلب عليه ،وأفة ذكر القلب
إطلع النفس عليه ،وأفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه وطلب ثواب أو ظن أنه يصل إلى شئ من المقامات به
وأقل الناس قيمة عندهم من يريد إظهاره وإقبال الخلق عليه بذلك .وسر هذا الصل الذى بنو عليه أن ذكر الروح ذكر اللذات ،
وذكر السر ذكر الصفات بزعمهم ،وذكر القلب من اللء والنعماء ذكر أثر الصفات ،وذكر النفس متعرض للعلت ،فمعنى
قولهم :إطلع السر على الروح يشيرون إلى التحقيق بالفناء عن ذكر الذات ،وذكر الهيبة فى ذلك الوقت ذكر الصفات وهو وجود
الهيبة ،ووجود الهيبة يستدعى وجودا أو بقية ،وذلك يناقض حال الفناء .وهكذا ذكر السر وجود هيبة وهو ذكر الصفات مشعر
بنصيب القرب ،وذكر القرب الذى هو ذكر اللء والنعماء مشعر ببعد ما ل به إشتغال بذكر النعمة وذهول عن المنعم ،والشتغال
برؤية العطاء عن رؤية المعط ضرب من بعد المنزلة وإطلع النفس نظرا إلى الغراض إعتداد بوجود العمل ،وذلك عين
العتلل حقيقة ،وهذه إقسام هذه الطائافة وبعضها أعلى من بعض .وا أعلم.
الباب الرابع
فى بيان معنى الوصول والوصال
إعلم:أن الوصول هو أن ايكشف للعبد حلية الحق ويصير مستغرقا به ،فإن نظر إلى معرفته فل يعرف إل ا وإن نظر إلى همته
فل همة له سواه .فيكون كله مشغولد بكله مشاهدة وهيما ول يلتفت فى ذلك إلى نفسه ليعيمر ظاهره بالعباده أو باطنه بتهذيب
الخلق وكل ذلك طهارة وهى البداية ,وأما النهاية أن ينسلخ من نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول,فافهم
جدا :ومعنى الوصال هو الرؤية والمشاهدة بسر القلب فى الدنيا وبعين الرأس فى الخرة ,فليس معنى الوصال إتصال الذات
بالذات تعالى ا عن ذلك عليواد كبيرا.قال بعضهم:
وإن طــــرفي موصـــــول برؤيتــه
وإن تباعد عن مثوايِ مثواه
ص 114 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
إعلم :أن مباني الصوفية على أربعة أشياء وهى :إجتهاد ,وسلوك ,وسير,وطير.
فالجتهاد:التحقق بحقائاق السلم .والسلوك :التحقق بحقائاق اليمان .والسير:التحقق بحقائاق الحسان .والطير:الجذبة بطريق
الجود والحسان إلى معرفة الملك المنان ,منزلة الجتهاد من السلوك ,منزلة الستنجاء من الوضوء ,فمن ل إستنجاء له ل
وضوء له
فهكذا من ل إجتهاد له ل سلوك له ,ومنزل السلوك من السير منزلة الوضوء من الصلة فمن ل وضوء له ل صلة له .فكذا من
ل سلوك له ل سير له .وبعده الطير وهو الوصول ,وا تعالى أعلم.
فهذة طريق السالكين ومنازل السائارين ,وبعد ذلك طريق الوصول ومنازل الواصلين وهو الطير .وا أعلم
فصـل فى التصال
قال الثوريِ :التصال مكاشفات القلوب ومشاهدات السرار فى مقام الذهول.
إعلم :أن التصال والمواصلة فيما أشارت اليه الشيوخ وكل من وصل الى صفو اليقين بطريق الذوق والوجد فهو رتبة من
الوصول .ثم يتفاوتون فمنهم من يجد ا بطريق الفعال وهو رتبة فى التجلي فيفنى فعله وفعل غيره لوقوفه مع ا تعالى ويخرج
فى هذه الحالة من التدبير والختيار .وهذة رتبة فى الوصول .ومنهم من يوقف فى مقام الهيبة والنس بما يكاشف قلبه من مطالعة
الجلل والجمال ,وهذا تجلى بطريق الصفات وهو رتبة فى الوصول .ومنهم من يرقى الى مقام الفناء مستمليا على باطنه أنوار
اليقين والمشاهدة مغيبا فى شهوده عن وجوده ,وهذا ضرب من تجلى الذات لخواص المقربين ,وهذة رتبة فى الوصول وفوق هذا
الحق اليقين ويكون من ذلك فى الدنيا للخواص لمح وهو سريان نور المشاهدة فى كليه العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه
حتى قالبه.وهذا من أعلى الرتب الوصول ,وإذا تحققتا الحقائاق يعلم العبد مع هذه الحوال لشريفة أنه يعد فى أول المنزل .فأين
الوصول ؟ هيهات منازل طريق الوصول ل تقطع أبد الباد فى الخرة البديِ .فكيف فى العمر القصير الدنيويِ؟ وا أعلم.
رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
ص 115
الباب الخامس
فى بيان معنى التوحيد والمعرفة ويضاف إليهما البصيرة
والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة واليقين واللهام
والفراسة لنها من مواريثهما
أما التوحيد :فهو إفراد القدم عن الحدوث والعراض عن الحادث والقبال القديم على القديم حتى ل يشهد نفسه فضل عن غيره,
لنه لو شاهد نفسه فى حال توحيد الحق تعالى أو غيره لكان مثنيا ل موحدداد ذاته القديمة بوصف الوحدانية موصوفة وبنعت
الفردانية منعوته ,وصفات المحدثات من المشاكلة والمماثلة والتصال والنفصال والمقارنة والمجاورة والمخالطة والحلول
والخروج والدخول والتغيير والزوال والتبدل والنفتال من قدس ذاته ونزاهة صفاته مسلوبة ،ول ينسب نقصان الى كمال
جماله وكمال جمال احديته مبرا عن وصمة ملحظة الفكار ،وجلل
صمديته معرى عن مزاحمة ملبسة الذكار ،ضاقت عبارات المبارزين فى ميدان الفصاحة عن وصف كبريائاه ،وعجز بيان
السابقين فى عرصة المعرفة عن تعريف ذاته تعالى ,وتعالى إدراكه عن مناولة الحواس ومحاولة القياس ،وليس لصحاب
البصائار فى أشعة النور عظمته سبيل التعامى والتغاشى .إن قلت :أين ؟ فالمكان خلقه و ،وإن قلت :متى ؟ فالزمان إيجاده ،وإن
قلت :كيف ؟ فالمشابهة والكيف مفعولة ،وإن قلت :كم.؟ فالمقدار والكمية مجعولة ،أزل والبد مندرج تحت إحاطته ،والكون
والمكان منطو فى بساطه كل ما يسع العقل والفهم والحواس والقياس ذات ا تعالى مقدسة عنه إذ كل ذلك محدث والمحدث ل
يدرك إل المحدث دليل وجوده وبرهان شهوده الدراك فى هذا المقام عجز .والعجز عن الدراك إدراك .ل يصل بكنه الواحد
إل الواحد ،وكل ما انتهى إدراك الموحد اليه فهو غاية إدراكه ل غاية الواحد تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكل من ادعى أن معرفة
الواحد منحصرة فى معرفته فهو بالحقيقة ممكور ومغرور .وقوله تعالى ) وغركم بال الغرور ()الحديد (14:إشارة إلى هذا
الغرور
فصل فى التوحيد
والتوحيد فى البداية نفى التفرقة والوقوف على الجمع .وأما فى النهاية فيمكن ان يكون الموحد حال التفرقة مستغرقا فى عين
الجمع وفى عين الجمع بعين الجمع ناظرا الى التفرقة بحيث كل واحد من الجمع والتفرقة ل يمنع من الخر .وهذا هو كمال
التوحيد وذلك أن بصير حال التوحيد وصفا لزما لذات الموحد ،وتتلشى وتضمحل ظلمة رسوم وجوده فى غلبة إشراق أنوار
توحيده ،ونور علم توحيده يستتر ويندرج فى نور حاله على مثال إندراج الكواكب فى نور الشمس ،فلما استبان الصبح أدرج
ضوئاه بإسفاره أضواء نور الكواكب .وفى هذا المقام يستغرق وجود الموحد فى مشاهدة جمال الواحد فى عين الجمع بحيث ل
يشاهد غير ذات الواحد تعالى وغير صفاته عز وجل واستلبه أمواج بح التوحيد وغرق فى عين الجمع من هنا.
رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
ص 116
قال الجنيد -:قدس ا روحه -معنى ذلك اضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ويكون ا تعالى كما يزل .وقيل :من وقع فى
بحار التوحيد ل يزداد على ممر الزمان إل عطشا.
فصل فى بيان أنواع التوحيد
اعلم :أن إثبات التوحيد خمسة أشياء فى أصول التوحيد لبد لكل مكلف من إعتقادهن.
إحداها :وجود البارئ تعالى ليبرأ به من التعطيل .
ثانيها :وحدانيته تعالى ليبرأ به من الشرك .
وثالثها :تنزيهه تعالى عن كونه جوهرا أو عرضا .وعن لوازم كل منها ليبرأ به من التشبيه.
ورابعها :إبداعه تعالى بقدرته واختياره لكل ما سواه ليبرأ به عن القول بالعلة والمعلول.
وخامسها :تدبيره تعالى لجميع مبتدعاته ليبرأ به عن تدبير الطبائاع والكواكب والملئاكه؛ وقوله )ل اله إل ا( يدل على الخمسة.
0
فصل
إتفق المسلمون على أن ا تعالى موصوف بكل كمال .برىء من كل نقصان؛ لكنهم اختلفو فى بعض الوصاف فاعتقد بعضهم
انها كمال فأثبتها له واعتقد أخرون أنها نقصان فنفوها عنه .ولذلك أمثله :
إحدها :قول المعتزله أن النسان خالق لفعاله ؛ لن ا لو خلقها ثم نسبها إليه ؛ ولنه لو فعالها مع أنه لم يفعلها وعذبه عليها مع
أنه يوجدها ؛ لكان ظالما له والظلم نقصان .وكيف يصح أن يفعل شيئاأ ثم يلوم غيره عليه ويقول له :كيف فعلته ولم فعلته؟ وأهل
السنة يقولون :وجدنا كمال الله فى التفرد ونفى القدرة عيب ونقصان،وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيب البهائام
والمجانين والطفال ،لنه يتصرف فى ملكه كيف يشاء)ل يسأل عما يفعل( )النبياء (23:والقول بالتحسين والتقبيح باطل فرأوا
أن يكون هو الخالق لفعال العباد ورأوا تعذيبهم على ما ل يخلقون جائازال من أفعاله غير قبيح.
ص 117 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
المثال الثانى :اختلف المجسمة مع المنزهة .قالت المجسمة :لو لم يكن جسما ي لكان معدوما ي ول عيب اقبح من العدم .وكذا النفى
عن الجهات قول بعدمه لن من ل جهة له ل يتصور وجوده .وقالت المنزهة :لو كان جسما ي لكان حادثا ي ولقاتة كمال الزلية والنفى
عن الجهات كلها انما يوجب عدم من كان محدودا ي منحصرا ي فى الجهات .فأما ما كان موجودا ي قديما ي لم يزل ول جهة فل ينصرف
اليه النفى.
المثال الثالث :ايجاد المعتزلى على ا ان يثبت الطائاعين كيل يظلمه والظلم نقصان ،وقول الشعرى :ليس ذلك بظلم اذ ل يجب
علية حق لغيره اذ لو وجب عليه حق غيره لكان فى قيده والتقييد بالغيار نقصان.
المثال الرابع :قول المعتزلة ان ا تعالى يريد الطاعات وان لم تقع ،لن ارادتها كمال ويكره المعاصى و ان وقعت ،لن ارادتها
نقصان .وقول الشعرى :لو اردا ما يقع لكان ذلك نقصا ي فى ارادته لكللها عن النفوز فيما تعلقت به ولو كره المعاصى مع وقوعها
لكان ذلك كلل ي فى كراهته .وكذلك نقصان.
المثال الخامس :ايجاب المعتزلى على ا تعالى رعاية الصلح لعباده لما فى تركه من النقصان .وقول الشعرى :ل يلزمه ذلك
لن اللزام نقصان وكمال الله ان ل يكون فيه قيد المتألهين .وبال التوفيق.
فصل
اعلم :أن من نسب المشيئاه ،والكسب إلى نفسه فهو قدرة ،ومن نفاهما عن نفسة فهو جبرى .ومن نسب المشيئاة إلى ا تعالى
والكسب الى العبد فهو سنى صوفى رشيد ،فقدرة العبد وحركته خلق للرب تعالى وهما وصف للعبد وكسب ليه :والقدر اسم لما
صدر مقدرا ي عن فعل القادر والقضاء هو الخلق ،والفرق بين القضاء والقدر هو أن القدر أعم والقضاء أخص ،فتدبير الوليات
قدر وسوق تلك القدار بمقاديرها وهيئااتها إلى مقتضياتيها هو القضاء ،فالقدر إذا ي تقدير المر بدءا ي والقضاء فصله وقطع ذلك
المر كما يقال قضى القاضى.
رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
ص 118
فصل فى الهواء
إعلم أن أهل الهواء المختلفه ست فرق ،وكل إثنين منها ضدان وهى :التشبيه والتعطيل والجبر والقدر ،والرفض والنصب ،وكل
واحده منها تفترق الى اثنتى عشرة فرقه ،فالتشبيهه والتعطيل ضدان والجبر والقدر ضدان ،والرفض والنصب ضدان ،وكل من
هؤلء منحرفون عن الصراط المستقيم ،والفرقة الناجية الوسط وهم أهل السنة والجماعه .فأما الفرقه المشبهه بالغوا وغلوا فى
إثبات الصفات حتى شبهوا وجوزوا النتقال والحلول والستقرار والجلوس وما أشبه ذلك ،وأما الفرقة المعطلة :فإنهم بالغوا
وغلوا وبالغو فى نفى التشبيه حتى وقعوا فى التعطيل ،وأما أهل السنة والجماعة :فإنهم سلكو الطريق الوسط وأثبتوا صفات ا
تعالى كما وردت من غير تشبيه أو تعطيل ،فعلمت بذلك سبيل الشيطان ما عليه المشبة والمعطلة ،وأما الجبرية والقدرية :فكل
منهم بعيد عن الصراط المستقيم ،فمن نفى المشيئاة والكسب عن نفسه فهو جبرى ،ومن نسبها إلى نفسه فهو قدرى ،ومن نسب
المشيئاة إلى ا تعالى والكسب إلى العبد فهو سنى ،وأما الرافضة والناصبة :فكل منهما بعيدعن الصراط .فالرافضى :ادعى
محبة أهل البيت وبالغ فى سب الصحابة وبغضهم ،والناصبى :بالغ فى التعصب من جهة الصحابة حتى وقع فى عداوة أهل
البيت ونسب عليا رضى ا عنه إلى الظلم والكفر ،وأما أهل السنة :فإنهم سلكوا الطريق
الوسط فأحبوا أهل البيت وأحبوا الصحابة وحفظ ا تعالى ألسنتهم من الوقيعة فى أحد منهم إل بالحمد والثناء عليهم فلله الحمد
والمنة والشكر.
فصل فى القضاء
القضاء يطلق تارة على المر المبرم نحو قوله تعالى )فإذا قضى أمرال فإنما يقول له كن فيكون ()غافر (68:وتارة يراد به
العلم بوجوب الحكم الواجب ل تعالى كقوله تعالى )وقضى ربك أل تعبدوا إل إياه()السراء (23:إذ لو كان هذا من القضاء
المبرم لما عبد غيره تعالى إذ يستحيل تخلف الثر عن مؤثره ،وكذا قوله تعالى )وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون()الذاريات:
(56والمراد به العلم إذ لو كان قضاء وحكما مبرما لعبده الكل فنشأ الخلف لعدم الفرقان.
ص 119 رسائال المام الغزالى ----------------------------------------
فصل
إعلم أن ا تعالى قضى فيما قضاه أزلل أن المور يكون منوطا بالعبد موقوفا عليه فى أفعاله وأقواله ما قضاه فقد أمضاه فل يجوز
تغيره ول يقال :إن ا تعالى يغير ما قضاه لنه تعالى ل يعارض نفسه فيما قضاه ،إذ لم يكن عبثا ول تبعا للشهوات تعالى عن
ذلكح ،وإنما قضى بمقتضى الحكمة وما صدر عن الحكمة فل مغير له ،فما قضاه منوطا بفعل العبد ،ف كالحرث والنسل ،وما
قضاه موقوفا على فعل العبد كالدعاء والستغفار .
واعلم:أن ا تعالى أثبت فعل العبد فى مواضع نحو قوله تعالى )جزاءا بما كانو يعملون()الواقعة (23:وقوله تعالى ) :فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم ( )التوبة (5 :ومحاه فى مواضع أخر نحو قوله تعالى ) :فلم تقتلوهم ولكن ا قتلهم وما رميت إذ
رميت ولكن ا رمى( )النفال (17:والحكمة فيه أنه تعالى خالق الفعال ومقدرها والعبد كاسبها ومسببها ،فالعبد يعمل العبادة
وا تعالى يجازى عليها ولول نسبة هذه الفعال خلقا وكسبا لما سمى عابدا ومعبودا فثبت أن العبد عابد كاسب وأن ا تعالى
معبود خالق ،واعلم أن الفعال قسمان :
أحدهما :قوله ما يقع من العبد وهو الكسب المنسوب اليه ولهذا أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وثبتت الحاجة إالى العقول لتقوم بها
الحجة وتتضح بها لحجة .
الثانى :ما يقع على العبد جزاء وهو ما بيد ا تعالى ويد العبد وكلهما ل يكون إل بما كسبت يد العبد لقوله تعالى ):وما أصابكم
من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ( ) الشورى (30 :وما ناسب هذه الية ،فمن فهم هذه الجملة أمكنه أن يفقه المراد
من كلم ا تعالى فيما هو المضاف الى العباد ،زمثال ذلك :قطع الجلد يد السارق .يصح أن يقول :القاطع هو الجلد لنه
كاسب ،ويصح أن يقال :إن ا تعالى هو القاطع بيد الجلد لنه تعالى هو المجازى للمقطوع لما بدا منه ،ويصح أن يقال إن
السارق هو القاطع ليده لنه هو المبتدئ لما جناه فل يقع عليه إل لما كسبت يداه ،فيكون الفعل الواجد من الرب تعالى جزءا من
المقطوع ابتداء ومن القاطع كسبا ول يناقض أحد أحدا وأدلته واضحة فى الكتاب ،ومن فهم هذه الجملة حق فهمها لم يخف إل من
نفسه ولم يرج إل رحمة ا سبحانه وتعالى .قال :أين عبد ا كلنا فى ذات ا تعالى ،يعنى إن نظرنا إالى قضائاه نتوهم أن العبد
معذور ل يفعل ،وإن نظرنا إالى المر والنهى وإالى اختيار العبد ربما يظن أن العبد مستبد بما يفعل ،بل الحق فيه أن يعتقد أن
العبد غير مستغن عن ا تعالى فى سائار احواله.
ص 120
أفعاله وأقواله ،وأحواله ،بل هو متقلب فى مشيئاته وأنه غير مجبور ول مسخر كالحيوانات والجمادات ،بل هو موقف فى ضمن
أسباب السعادة ومخذول أو مطرود فى ضمن أسباب الشقاوة.
فصل
لو قيل :إن كان القدرة الحادثة أثر فى المقدور فهو شرك خفى ،وإن لم يكن لها أثر فهو جبر .يقال :إنما شركا ل إذا كان لها فى
التخلق أثر ،وإنما أثرها فى الكسب وا تعالى ليس بكاسب حتى يكون شركا ل ولو لم يكن لها أثر فى المقدور لزم أن يكون وجودها
كعدمها فهو إذال قدير بل قدرة وهو محال.
وأعلم أن من ظن ا تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل وأمر ونهى ووعظ وتواعد لغير قادر محتار ،فهو مختل المزاج يحتاج إلى
علج ولسبب اختلف الناس فى الستدلل بالقرآن قبل فهمه وقعوا فى الجبر والقدر ،لنهم لم يفرقوا بين قدرة الخالق القديمة وبين
قدرة المخلوق الحادثة والفرق بينهما أن القدرة القديمة مستقلة بالخلق ول مدخل لها فى الكسب ،وأن القدرة الحادثة مستقلة
س دشليلئاااد لد ديلظلهام الانا د
بالكسب ول مدخل لها فى الخلق والظلم إنما ينسب إلى الحادثة ،وأما القديمة فمبرأة عنه لقوله تعالى )إهان ا
س دأنفادساهلم ديلظلهامودن(دودلهكان الانا د
]يونس [44:
فصل الفرق وبين العلم والمعرفة
ل ل
وأما المعرفة :فهى نفس القرب وهو ما أخذ القلب وأثر فيه أثرا يوثرفى الجوارح .فالعلم :كرؤية النار مثل .والمعرفة :
كالصطلء بها ،والمعرفة فى اللغة :هو العلم الذى ل يقبل الشك وفى العرف اسم العلم تقدمه نكره ،وفى عبارة الصوفية المعرفة
هو العلم الذى ل يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات ا تعالى وصفاته .فإن قيل :ما معرفة الذات وما معرفة الصفات؟ يقال :معرفة
الذات أن يعلم أن ا تعالى موجود واحد فرد وذات وشئ عظيم قائام بنفسه ول يشبهه شئ وأما معرفة الصفات :فأن تعرف أن ا
تعالى حى عالم قادر سميع بصير إلى غير ذلك من الصفات .فإن قيل :ما سر المعرفة؟ يقال :سرها وروحها التوحيد ،وذلك بأن
تنزه حياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلمه عن التشبيه بصفات الخلق :ليس كمثله شئ.
فإن قيل :ما علمة المعرفة ؟ يقال :حياة القلب مع ا تعالى ،أوحى ا تعالى إلى داود عليه السلم أتدى ما معرفتى ؟ قال :ل.
قال :حياة القلب فى مشاهدتى.
ص 121
فإن قيل :ففى أى مقال تصح المعرفة الحقيقية؟ يقال :فى مقام الرؤية والمشاهدة بسر القلب ،وإنما يرى ليعرف ،لن المعرفة
الحقيقية فى باطن الدارة فيرفع ا تعالى بعض الحجب قيريهم نور ذاته وصفاته عز وجل من وراء حجاب ليعرفوه تعالى ،ول
يرفع الحجب بالكلية لكيل يحترق الرائاى .قال بعضهم بلسان الحال:
ليتمت الخلئاق أجمعينا ولو أنى ظهرت بل حجاب
به تحيا القلوب العاشقينا ولكن الحجاب لطيف معنى
اعلم :أن تجلى العظمة يوجب الخوف والهيبة ،وتجلى الحسن والجمال يوجب العشق ،وتجلى الصفات يوجب المحبة ،وتجلى
الذات يوجب التوحيد قال بعض العارفين :وا ما نال رجل الدنيا إل أعمى ا قلبه وبطل عليه عمله إن ا تعالى خلق الدنيا
مظلمة ،وجعل الشمس فيها ضياء ،وجعل لقلوب مظلمة ،وجعل المعرفة فيها ضياء ،فإذا جاءه السحاب ذهب نور الشمس ،فكذلك
يجئ حب الدنيا فيذهب بنور المعرفة من القلب.
وقيل :حقيقة المعرفة نور يطرح فى قلب المؤمن وليس فى الخزانة شئ أعز من المعرفة .وقال بعضهم :إن شمس قلب العارف
آضوأ وأشرف من شمس النهار ،لن شمس النهار قد تكسف وشمس القلوب ل كسوف لهاوشمس النهار تغرب بالليل دون شمس
القلوب وأنشدوا فى ذلك:
غير شمس القلوب لن تغيب إن شمس النهار تغرب ليل
إشياقا إلى لقاء الحبيب من أحب الحبيب طار إليه
وقال ذو النون :حقيقة المعرفة اطلع الحق على أسرار بمواصلة لطائاف النوار وأنشدوا فيه
نور الله بسر السر فى الحجب للعارفين قلوب يعرفون بها
بكم عن النطق فى دعواه بالكذب صم عن الخلق عمى عن مناظرهم
وسئال بعضهم :متى يعرف العبد أنه على تحقيق المعرفة؟ فقال :إذا لم يجد لى قلبه مكانا ا لغير ربع ،وقال بعضهم :حقيقة المعرفة
مشاهدة الحق بل واسطة ول كيف ول سبهة،
ص 122
كما سئال أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى ا عنه فقيل :يا أمير المؤمنين أتعبد من ترى أو من ل ترى؟ فقال :ل بل أعبد
من أرى ل رؤية عيان ،ولكن رؤية القلب .وقيل لجعفر الصادق رضى ا عنه :هل رأيت ا عز وجل؟ :لم أكن لعبد ربا ل لم
أراه .قيل :وكيف رأيته وهو الذى ل تدركه البصارظ قال :لم تره البصار بمشاهدة العيان ،ولكن تراه القلوب بحقائاق اليمان ،
ول يدرك ول يقاس بالناس؟
وسئال بعض العارفين عن حقيقة المعرفة .فقال :تخيله السر عن كل إرادة وترك ما عليه العادة وسكون القلب إلى ا تعالى بل
علقة وترك اللتفات منه إلى ما سواه ،ول يمكن معرفة منه ذاته ول معرفة صفاته عز وجل ،ول يعرف من هو إل هو تبارك
وتعالى والمجد ل وحده.
فصل وأما البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة
فهى أسماء مرادفة على معنى واحد ،وإنما تحصل التفرقة فى كمال الوضوح ل فى أصله ،فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور
العين من العين ،والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس من العين فتدرك بذلك الجليات والخفيات .وأما الحياة :فهى نفس
التوحيد قال تعالى ) :أددو دمن دكادن دمليلتا دفأ دلحديليدناها( ] النعام . [122:وأما اليقين :فأعلم أن العتقاد والعلم إذا استوليا على القلب ولم
يكن لهما معارض أثمرا فى القلب المعرفة ،فسميت هذه المعرفة يقينا ل ،لن حقيقة صفاء العلم المكتسب حتى كالعلم الضرورى
ويصير القلب مشاهدال لجميع ما أخبر عنه الشرع من أمر الدنيا والخرة .يقال :أيقن الماء إذا صفا من كدورته.
وأما االلهام :فهو حصول هذه المعرفة بغير سبب ول اكتساب ،بل بإلهام من ا تعالى بعد طهارة القلب عن استحسان ما فى
الكونين.
وأما الفراسة :فهى التوسم بعلمة من ا تعالى بينه وبين العبد يستدل بها على أحكام باطنه ،وذلك ل يكون إل فى درجة التقريب
وهو دون اللهام ،لن اللهام ل يفتقر إلى علمة والفراسة تفتقر إلى علمة ،وهو عام وخاص ،وا سبحانه وتعالى أعلم.
الباب السادس
فى بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل
أعلم أن هذه السامى مشتركة بين مسميات مختلفة ونحن نشرح من معانيها ما يتعلق بغرضنا.
ص 123
الول :لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين:
أحدهما :اللحم الصنبورى الشكل المودع فى الجانب اليسر من الصدر وفى باطنه تجويف فيه دم أسود وهو منبع الروح الحيوانى
ومعدتى.
والمعنى الثانى :هى لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسمانى تعلق يضاهى تعلق العراض بالجسام والوصاف
بالموصفات ،وتلك اللطيفة هى حقيقة النسان المدرك العالم المخاطب المطالب المثاب المعاقب.
اللفظ الثانى :الروح وهو أيضا ل يتعلق بغرضنا لمعنيين:
أحدهما :جسم لطيف بخارى حامله دم أسود منبعه تجويف القلب الجسمانى ،وينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائار أجزاء
البدن وجريانها فى البدن وفيضان أنوار الحياة ،والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائاها يضاهى فيضان النور من
السراج فى زوايا البيت .فالحياة :مثالها النور الحاصل فى الحيطان والروح مثاله السراج ،وسريان الروح وحركته فى الباطن
مثال حركة السراج فى جوانب البيت بتحرك محركه فالطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف
أنضجته حرارة القلب.
ك دعهن والمعنى الثانى :هو اللطيفة العالمة المدركة من النسان الذى هو أحد معنى القلب وهو الذى أراده ا تعالى بقوله )دوديلسأ دالودن د
المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ] السراء .[85 :وهو أمر عجيب ربانى أكثر العقول والفهام عن درك فهم حقيقته.
اللفظ الثالث :النفس وهو أيضا ل مشترك بين معنيين:
أحدهما :أنه يراد به المعنى الجامع لقوتى الغضب والشهوة فى النسان وهذا الستعمال هو الغالب على الصوفية فهم يريدون
بالنفس الصل الجامع للصفات المذمومة من النسان فيقولون :ل بد من مجاهدة النفس وكسر شهوتها ،وإليه الشارة بقوله صلى
ا عليه وسلم " :أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك"
والمعنى الثانى :اللطيفة التى ذكرناها وهى حقيقة النسان ونفسه وذاته ،ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلف أحوالها ،
س اللاملطدمهئااناة . فإذا سكنت تحت المر وزايلها الضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئانة قال تعالى)" :دياأداياتدها الانلف ا
ضايلة( ] الفجر [27.28 :والنفس بالمعنى الول ل يتصور رجوعها إلى ا تعالى ،فإنها مبعدة عن ضديلة املر هجهعي إهدلى دررَبهك درا ه
الر ه
ا سبحانه وتعالى وهى حزب الشيطان ،وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية سميت النفس اللوامة ،فإذا
تركت العتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعى الشيطان سميت النفس المارة بالسوء.
اللفظ الرابع :العقل والمتعلق بغرضننا منه معنيان:
ص 124
أحدهما :أنه يطلق ويراد به العلم بحقائاق المور .فيكون عبارة عن صفة العلم الذى محله خزانة القلب.
والثانى :قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم ،فيكزن القلب أعنى تلك اللطيفة التى هى حقيقة النسان وحيث ورد فى القرآن والسنة
ذكر القلب فالمراد به المعنى الذى يفقهه من النسان ويعرف حقيقة الشياء ،وقد يكنى عنه بالقلب الجسمانى الذى فى الص
ر لن بينه وبين تلك اللطيفة العالمة التى هى حقيقة النسان علقة خاصة لن تعلقها بسائار البدن إنما هو بوسطتها فهو ممتلكها
ومطيتها والمجرى الول لتدبيرها وتصرفها .فالقلب الجسمانى والصدر بالنسبة إلى النسان كالعرش الكرسى بالنسبة إلى ا
تعالى من وجه.
فصل فى بيان جنود القلب
اعلم :أن ا تعالى فى القلب والرواح وغيرها من العوالم جنودال مجندة ل يعلم حقيقتها وتفصيل عددها إل ا تعالى .ونحن الن
نشير إلى بعض جنود القلب وهو الذى يتعلق بغرضنا .فاعلم أن له جندين جند يرى بالبصار وجنج ل يرى إل بالبصائار ،فالقلب
فى حكم الملك ،والجنود فى حكم الخدم والعوان.
فأما جنوده المشاهدة بالبصر فهى اليد والرجل والذن والعين واللسان فجملة جنود القلب تحصره ثلثة أصناف:
الصنف الول :باعث مستحث إلى جلب الموافق النافع كالشهورة وإما إلى دفع المخالف الضار كالغضب وقد يعبر عن هذا
الباعث بالرادة.
الصنف الثانى :هو المحرك للعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد وقد يعبر عنه بالقدرة وهى جنود مبثوثة فى سائار العضاء.
الصنف الثالث :هو المدرك المعرف بهذه الشياء كالجواسيس وهو قوة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهى مبثوثة فى
العضاء الظاهرة المركبة من اللحم والشحم والعصب والدم والعظم التى أعدت آلت لهذه الجنود .ويعبر عن العمل هذا الصنف
بالعلم والدراك ،وهذا الصنف الثالث هو المدرك من هذه الجملة ،وينقسم إلىما أسكن المنازل الظاهرة وهى الحواس الخمس.
أعنى السمع والبصر والشم والذوق واللمس ،وإلى ما أسكن منازل باطنة وهى تجاويف الدماغ وهى أيضا ل خمسة :حس مشترك
وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ.
فأما الحس المشترك فيرسم فيها صورة ما أدته إليها الحواس الظاهرة مما أدركته كما ترسم الصورة فى المرآة ومحل تصرفها
مقدم البطن الول من الدماغ.
ص 125
القوة الثانية :الخيال وهى خزانة الحس المشترك يخزن فيها ما ارتسم فيه لتحفظها له إلى وقت حاجته إليه ،فإن له قوة القبول
وليس له قوة الحفظ والخيال له قوة الحفظ وليس له قوة القبول ومحل تصرف الخيال مؤخر البطن من الدماغ.
القوة الثالثة :الوهم موضع تصرفه مقدم البطن المؤخر من الدماغ ،لن تصرفه هو المعانى الجزئاية المتنوعة من الصور
المخزونة فى الخيال فكانت بعدها فى الرتبة لتقليبها منه.
القوة الرابعة :الحافظ ومحل تصرفها مؤخر البطن المؤخر من الدماغ يلى محل تصرف الوهم لنها خزانتهز
القوة الخامسة :المتصرفة ومحل تصرفها فى وسك الدماغ ،لنها أشرف القوى ولنها تأخذ من الخيال فى حال دون حال وتعطيه
أيضا ل فى حال دون حال فى النوم واليقظة ،وتعطى الحافظة وتطلب منها عند النسيان فكان الليق بها أن تكون بين الحرارتين
ليسهل عليها أخذها منهما وإعطاؤها إياهما وا أعلم.
وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقار إلى المركب والزاد لسفره إلى ا تعالى وقطع المنازل إلى لقائاه الذى لجله خلق
وإنما مركبه البدن ،وإنما زاده العلم والعمل وليس يمكن أن يصل العبد إلى ا تعالى ما لم يسكن البدن وتجاوز الدنيا ليتزود منها
للمنزل القصى فافتقر إلى تعهد بدنه بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما يؤذيه ،ويمكن من أسباب الهلك
فافتقر لجل الغذاء إلى جندين :باطن وهو الشهوة ،وظاهر وهو العضاء الحالبة للغذاء فخلق فى القلب من الشهوات ما احتاج
إليه وخلقت العضاء التى هى الت الشهوة وافتقر لجل دفع المهلكات إلى جندين :باطن ،وهو الغضب ،الذى يدفع المهلكات
وينتقم من العداء ،وظاهر وهى اليد والرجل والسلحة التى بها تعمل بمقتضى الغضب ثم المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء،
ل تنفهى شهوة معرفة الغذاء وأليه فافتقر فى المعرفة إلى جندين باطن :وهو إدارك السمع والبصر والشم والمذاق واللمس ،
وظاهر :وهو العين والذن والنف وغيرها وتفصيل الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ول تحويه مجلدات كثيرة ،فسبحان
الكريم الحليم.
فصل
اعلم :أن القسمة ثلثة :الجسم والعرض والجوهر الفرد .فالروح الحيوانى جسم لطيف كأنه سراج مشعل ،والحياة هو السراج
والدم دهنه والحس والحركة نوره ،والشهوة حرارته ،والغضب دخانه ،والقوة الطالبة للغذاء الساكنة فى الكبد خادمه وحارسه
ووكيله .وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات ،لنه مشترك بين البهائام وسائار الحيوانات والنسان
ص 126
هو جسم وأثاره أعراض ،وهذا الروح ل يهتدى إلى العلم .ول يعرف طريق الصنوع ولحق الصانع ،وإنما هو خادم أسير يموت
البدن لو يزيد دهن الدم وينطفئ لزيادة الحرارة ولو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة ،وأنطفاؤه سبب موت البدن وليس خطاب البارئ
جلت عظمته وتكليف الشارع عليه الصلة والسلم لهذا الروح ،لن البهائام وسائار الحيوانات غير مكلفين ول مخاطبين بأحكام
الشرع ،والنسانإنما يكلف ويخاطب لجل معنى آخر وجد عنده زائاد خاصا ل وذلك المعنى هو النفس الناطقة والروح اللطيفة ،
ك دعهن المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي
وهذا الروح ليس بسم ول عرض ،لنه من أمر ا تعالى كما أخبر بقوله تعالى) :دوديلسأ دالودن د
دودما اأوهتياتم رَمن اللهعللهم إهلا دقهليلل( ] السراء . [85 :وأمر ا تعالى ليس بجسم ول عرض ،بل هو جوهر ثابت دائام ل يقبل الفساد ول
يضمحل ول يفنى ول يموت ،بل يفارق البدن وينتظر العود إليه يوم القيامة كما ورد به الشرع ،وهذا الروح يتولد منه صلح
البدن وفساده والروح الحيوانى وجميع القوى كلها من جنوده ،فإذا فارق الروح الحيوانى البدن ،تعطل أحوال القوى الحيوانية
فيسكن المتحرك ،فيقال لذلك السكزن موت ،وإن كان الروح من أمر ا تعالى فى البدن كالغريب ،فاعلم أنه ل يحل فى محل ول
يسكن فى مكان وليس البدن مكان الروح ول محل القلب ،بل البدن آلة الروح وا أعلم.
فصل
جهديدن( ] سورة الحجر . [29 :قال رحمة ا حي دفدقاعولا دلاه دسا ه فى بيان المعنى المراد من قوله تعالى )دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا
ت هفيهه همن مرو ه
تعالى ورضى عنه:
أما التسوية :فهى عبارة عن فعل فى المحل القابل للروح وهو الطين فى حق آدم عليه السلم ،والنطفة فى حق أولده بالتصفية
وتعديل المزاج زالتردد فى أطوار الخلقة إلى الغاية حتى ينتهى فى الصفاء ومناسبة الجزاء إلى الغابة فيستعد لقبول الروح
وإمساكها كاستعداد الفتيلة بعد شرب الدهن لقبول النار وإمساكها.
وأما النفخ :فهو عبارة عن اشتعال نور الروح فى المحل القابل ،فالنفخ سبب الشتعال وصورة النفخ فى حق ا تعالى محال ،
والسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ وهو الشتعال فى فتيلة النطفة ،وللنفخ صورة ونتيجة.
وأما صورته :فهو إخراج هواء من جوف لنافخ إلى جوف المنفوخ فيه .وهو فتيلة النطفة .فيشتغل فيها .وأما الذى شتعل به نور
الروح فهو صفة فى الفاعل وصفة فى المحل القابل ،وأما صفة الفاعل فالجود الذى ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل
موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ،ومثالها فيضان نور الشمس على
ص 127
كل قابل الستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما ،والقابل هو الملونات دون الهواء الذى ل لون له .وأما صفة القابل فالستواء
واعتدال الحاصل فى التسوية كما قال تعالى) :دفإهدذا دساولياتاه( .
ومثال صفة القابل :صفات المرآة قبل صقالتها ل تقبل الصورة وإن كانت محاذية لها ،فإذا صقلت حدثت فيها صورة من ذى
الصورة المحاذية لها فكذلك إذا حصل على الستواء فى النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير فى الخالق تعالى
الن ل بل إنما حدث الروح قبله لتغير المحل بحصول الستواء الن ل قبله.
وأما فيضان الجود ،فالمراد به أن الجود اللهى سبب لحددوث أنوار الوجود فى كل ماهية قابلة للجود فعبر عنه بالفيض ل كما
يفهم من فيض الماء من الناء على اليد فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء مما فى اإناء واتصاله باليد ،فإن ذلك عبارة عن انفصال
جزء مما فى الناء واتصاله باليد ،فإن ا سبحانه يتعالى عن مثل هذا.
وأما كشف معنى ماهية الروح ومعرفة حقيقتها فهو من سر الذى لم يؤذن لرسول ا صلى ا عليه وسلم فى كشفه لمن ليس من
أهله فإن كنت من أهله فاسمع .واعلم أن الروح ليس بجسم يحل فى البدن حلول الماء فى الناء ،ول هو عرض يحل فى القلب أو
الدماغ حلول الواد فى السود والعلم فى العالم ،بل هو جوهر ل يتجزأ باتفاق أهل البصائار ،لنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه
العلم بالشئ ويجزء آخر منه الجهل بذلك الشئ بعينه فيكون فى حالة واحدة عالما ل بشئ وجاهلل به وذلك محال ،فدل بذلك على أنه
واحد ل ينقسم.
فإن قيل :لم منع رسول ا صلى ا عليه وسلم إفشاء الروحوكشف حقيقةتهظ فيقال :لنه يتصف بصفات ل تحملها الفهام إذا
الناس قسمان عوام وخواص أما من غلب على طبعه العامية فإن ل يصدق بما هو وصف الروح أن يكون وصفا ل ل تعالى ،فكيف
يصدق به فى وصف الروح النسانى؟ وكذلك أنكرت الكرامة والحنبلية وغيرهم ممن غلبت عليهم العامية بتنزيه الله تعالى عن
الجسمية وعوارضها إذا ل يعقلون موجودال إل متجسما ل مشار إليه.
من ترقى عن العامية قليلل نفى الجسمية عن الله تعالى .وما أطلق أن ينفى عوارض الجسمية عنه ،فأثبت الجهة وترقى عن هذه
العامية الشعرية والمعتزلة فنزهوا الله تعالى عن الجسمية والجهة.
فإن قيل :لم ل يجوز كشف هذا السر مع هؤلء؟ فيقال :لنهم أحالوا أن تكون هذه الصفة لغير ا تعالى ،فإذا ذكرت هذا معهم
كفروك ،وقالوا :هذا تشبيه لنك تصف نفسك بما هو صفة الله تعالى على الخصوص وذلك جهل بأخص أوصاف ا تعالى.
فإن قيل :إن النسان حى عالم قادر مريد سميع بصير متكلم وا تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لن هذه الصفات ليست أخص
أوصاف ا تعالى ،فكذلك البراءة عن المكان
ص 128
والجهة ليست أخص وصف الله تعالى ،بل أخص وصفه تعالى أنه قيوم أى قائام بذلته وكل ما سواه قائام به وهو موجود بذاته ل
بغيره وليس للشياء من أنفسها إل العدم ،وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية فالوجود ل تعالى ذاتى ليس بمستعار وما
سواه فوجوده منه تعالى ل من نفسه وهذه القيومية ليست إل ل تعالى.
حي( ( ] سورة الحجر .[29 :فأعلم أن الروح منزهة فإن قيل :ما معنى نسبة الروح إلى ا تعالى فى قوله )دودندفلخ ا
ت هفيهه همن مرو ه
عن الجهة والمكان وفى قوتها العلم بجميع المعلومات والطلع عليها ،فهذه مضاهاة ومناسبة ليست لغيره من الجسمانيات ،
فلذلك اختصت بالضافة إلى ا تعالى.
فإن قيل :فما معنى قوله )قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( ( ] السراء .[85 :وما معنى عالم المر وعالم الخلق؟ فيقال :إن كل ما يقع
عليه مساحة وتقدير فهو الجسام وعوارضها .فهذا هو عام الخلق والخلق ها هنا بمعنى التقدير ل بمعنى اليجاد والحداث .يقال :
خلق الشئ أى قدره وكل ما ل كمية له ول تقدير .يقال :إنه أمر ربانى وتلك المضاهاة التى ذكرناها ،فكل ما هو من خذا الجنس
من أرواح البشرية وأرواح الملئاكة يقال :إنه من عالم المر وعالم المر عبارة عن الموجودات الخارجية عن الحس والخيال
والجهة والمكان والتحيز والدخول تحت المساحة والتقدير لنتقاء الكمية منه.
فإن قيل :ما معنى قول النبى صلى ا عليه وسلم " :إن ا خلق آدم على صورة" وروى " على صورة لرحمن" فيقال:إن
الصورة اسم مشترك قد يطلق على ترتيب الشكال ووضع بعضها على بعض واختلف تركيبها وهى الصورة المحسوسة .وقد
يطلق على ترتيب المعانى التى ليست محسوسة وللمعانى أيضا ل تركيب وترتيب وتناسب يسمى ذلك صورة .يقال :صورة المسألة
كذا وصورة الواقعة كذا وصورة العلوم الجسمانية والعقلية كذا ،فالمسألة بالصورة المذكورة هى الصورة المعقولة وحقيقة ذات
الروح أنه قائام بنفسه ليس بعرض ول جسم ول جوهر متحيز ول بحل المكان والجهة ،ول هو متصل بالبدن والعالم ،ول هو
منفصل ،ول هو داخ البدن والعالم ول من الخارج .وهذا كله صفات ذات ا تعالى.
ص 129
وأما الصفات :فقد خلق حيا ا عالما ل مريدال بصيرال متكلما ل وا تعالى كذلك وأما الفعال :فمبدأ الدمى إرادة يظهر أثرها أزلل فى
القلب فبنتشر منه أثر بواسطة الروح الحيوانى الذى هو بخار لطيف فى تجويف ويتصاعد إلى الدماغ ،ثم يسرى منه أثر إلى
العضاء إلى أن تصل الثار إلى الصايع مثلل فتتحرك بالصابع القلم وبالقلم المداد ،فيحدث منه صورة ما يريد كتبه على
لل يمكن لحداثه على البياض .اانيا ل فمن استقرأ أفعال القرطاس فى خزانة التخيل ،فإنه ما لم يتصور فى خياله صورة المكتوب أو ل
ا تعالى وكيفية إحداث الحيوان والنبات على الرض بواسطة تحريك الكواكب والسموات بواسطة الملئاكة عم أن تصرف
الدمى فى عالمه يشبه تصرف الخالق سبحانه فى العالم الكبر ،فحينئاذ يعرف قوله صلى ا عليه وسلم " إن ا خلق آدم عليه
السلم على صورته".
لغن قيل :فإذا كانت الرواح حادثة مع الجسام فما معنى قوله عليه الصلة والسلم ":خلق ا تعالى الرواح قبل خلق الجسام
بألفى عام" ،وقوله " أنا أول النبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين" .فاعلم أن شيئاا من ذلك ل يدل على قدم
الروح لكن قوله " :أنا أول النبياء خلقا" .ربما دل بظاهره على تقدم وجوده عى حده وغير الظاهر متعين .فإن تأويله يمكن
والبرهان القاطع ل يدرأ بالظاهر بل ليسلط على تأويل الظاهر ،كما فى ظواهر التشبيه فى حق ا تعالى.
فأما قوله " :خلق ا تعالى الرواح قبل الجساد بالفى عام" أراد بالرواح أرواح الملئاكة ،والجسام أجسام العالم من العرش
والكرسى والسموات والكواكب والهواء والماء والرض.
وأما قوله " أنا أول النبياء خلقا ل" فالحخلق هما هنا بمعنى التقدير دون اليجاد ،فإنه صلى ا عليه وسلم قبل أن تلده أمه لم يكن
موجودال مخلوقا ا ،ولكن الغايات والكمالت سابقة فى التقدير لحقة فى الوجود ،فإن ا تعالى يقدر أولل أى يرسم فى اللوح
المحفوظ المور اللهية على وفق علمه تعالى ،فإذا فهمت نوعى الوجود الحسى العينى .هذا آخر الكلم فى معنى الروح وا
أعلم.
صفحة 130
الباب السابع
في بيان معنى المحبة
اعلم :أن المحبة ميراث التوحيد والمعرفة وكل مقام وحال قبلها فلها يرد ومنها يستفاد .و أما المعرفة الخالصة بها :فكل ما يتعلق
بذات ا تعالى وصفاته من سلب نقص واثبات كمال وهي واجبة بالكتاب والسنة و إجماع المة ،وإنما وقع الخلف في حقيقتها
ومعناها وليس للمحبة معنى غير الميل الى اللذيذ الموافق ،واعلم أن معرفة ا تعالى بنفسها ذكر ا تعالى ،لنها حضور معه
وشهود له ومن علمته في بدايته اللوائاح والطوالع واللوامع والبروق ،وهذه ألفاظ متقاربة المعاني والفرق بين البرق والوجد أن
البرق ‘ذن في دخول طريق التوحيد والوجد يصحبك فيها فإذا دام صار ذوقا.
وأما الذوق :فهو استحلء وشرب لما شاهد من ضياء البرق .وأما اللحظ :فهو اسم يعبر به عن رؤية الحق تعالى بالقبل ،كما
قال عليه الصلة والسلم " :اعبد ا كأنك تراه " .وأما الوقت :فهو اسم ظرف للكائان فيه من الحوال فوقت العبد ما هو فيه.
وأما الصفاء :فهو اسم للبراءة من الكدر .وأما النفس :فهو تنفس العبد لعجزه عن حمل الحوال الواردة عليه إما صعدا وإما
تلفظا بكلم أو إشارة مما هو فيه ،لن العبد مادام حيا لبد أن يروح بدخول النفس وخروجه فإذا قوى النفس أدى الى الغرق .وأما
الغرق :فهو عدم القدرة على النفس لكظمه فهو غير متنفس ول غائاب فإذا قوى عليه دخل في الغيبة .وأما الغيبة :فهي اسم للذهول
عن المهمات بما هو أهم منها .وأما السكر :فهو اسم يشار به الى سقول التمالك في الطرب فإذا لحقته العناية أصحاه ليزيده علما
،لن السكران ل يرتقى بالمسكر في الحق والصحو إنما هو بالحق .أما السكر في الحق :فهو أن يتبرأ من نفسه ومن التذاذه
وأحواله فإذا منح بعد ذلك بشهود الذات كوصف بالقيومية وهي صفات اللوهية فأفتنه عما سوى معبوده ثم فنى عن فنائاه .وأما
الفناء :فحقيقته في الحس تلشي الجسام والعراض وذهابها بالكلية .
ولما كان ما سوى ا تعالى موجودا بال وقائاما به ل بنفسه كان وجوده مجازا وكان القائام بنفسه المقيم لغيره وجوده ثابتا حقيقيا
استعير لمن أكرم بهذه المعرفة لفظ الفناء لتلشي الموجودات في عين قلبه حيث شهد الكل مع القدرة ،كالطفل ل حكم له في الفعل
،فإذا أيد هذا العبد وكمل رقاه الى مقام البقاء .لنه إذا لم يبق في القلب التفات الى غير ا تعالى لدوام الشغل به عبر عن هذه
الحالة بالبقاء مع ا بال تعالى ،والوجود والبقاء اسمان
صفحة 131
مترادفان على معنى واحد ،فالوجود اسم للظفر بحقيقة الشيء والبقاء هو أجل الحقائاق التي يقصد الظفر بها .وكذلك مقام الجمع .
قال بعض السادة :الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الشارة ومعناه أن يكون مذكورا بال تعالى ومذكورا منه تعالى والحمد ل وحده .
الباب الثامن
في بيان معنى النس بال تعالى
اعلم :أن من أجل مواريث المحبة النس .أما حقيقة النس :فهو استبشار القلب وفرحه لما انكشف له من قرب ا تعالى وجماله
وكماله .وقال بعضهم :حقيقة القرب فقد جس الشياء من القلب وهدوء الضمير الى ا تعالى.
قلت :وهذا هو الوسيلة لنيل القرب ل نفس القرب ،لن هذا طهور القلب عما سوى ا تعالى وإذا تطهر القلب عما سوى ا
تعالى كان حاضرا مع العبد ،لنه ليس بين العبد وبين ا إل حجاب نفسه وعوارضها .فإذا فني عنها وعن عوارضها وعلم قيام
العالم كله بقدرة ا تعالى عرف قرب ا تعالى بها كشفا وإرادته تخصيصا وقدرته إيجادا وإبقاء و الصفات التي ل تفارق
الموصوف بل صفاته قائامة بالموصوف ،فإذا نطق العارف فل ينطق بنفسه ،وإذا سمع بنفسه ،وهكذا ورد في الحديث فالعارفون
تنشأ أحوالهم عن قرب ا تعالى .وأما البرار :فتنشأ أحوالهم عن ملحظة علمهم بوجود الرب مطلقا مع العلم باقتداره على
المنع والعطاء والسعاد والشقاء ،والعارفون يرون ربهم في الدنيا بعين اليقان والبصائار ،وفي الخرى بالبصار أيِ بالعين
قريب منهم في الدارين وليس قربه منهم في الخرى مخالفا لقربه في الدنيا ال بمزيد اللطف والعطف ،وإل فقد ارتفع هنا وهناك
قرب المسافة ولم يكن بينه وبين مخلوق إضافة ل في الدنيا وفي الخرة البتة ،وهذه المعرفة مثمرة النس بشرط الصفاء والنس
يثمر السكينة فهي صولة تعدل طغيان القلب وتثبته وتوقفه على حد العتدال في آداب الحضرة ،لن لذة القرب في النس تطير
ألباب العارفين وتوجب لهم الطغيان ،لن النسان يطغى عند الغنى.
وأما الطمأنينة :فهي وجود من بعد اعتدال بفرح واستبشار لمعرفة القلب بالمزيد وهو مستصحبة مع النس لنها مقصودة في
ذاتها ،والسكينة وسيلة تحثها على الدب والعتدال ،ومن ثمرات المحبة :النبساط والدلل ذلك أن السن إذا دام أنسه واستحكم
ولم يشوشه قلق القلب لقصور نظره على طيب حاله ثمر ذلك انبساطا في القوال والفعال والمناجاة ،فل يليق ذلك بحال التعظيم
والجلل الموجبان للمهابة ،فإنه يليق بالمستأنس المنبسط ما ل يليق بالهائاب ،وذلك أن من أفعال ا الجائازة له أن يرضى على
قوم بفعلهم
صفحة 132
ويغضب به على آخرين أحوالهم وللحكمة السابقة فيهم ،ولذلك يغار على كلمه أن يسمعه إل لهل خاصته .قال ا تعالى " :
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذنهم وقرا" السراء . 46وعبر عن السر في ذلك فقال " :ولو علم ا فيهم خيرا
لسمعهم" النفال .23وهذا حجاب الغيرة فحقيقتها حفظ الوقت مع الحق أن يشوشه مشوش شحا عليه ،ومن ثمرات المحبة
الشوق وهو أفضل من النس ،لن النس قصر نظره على ما انكشف له جمال المحبوب ولم يمتد نظره الى ما غاب عنه
والمشتاق كالعطشان الذيِ ل ترويه البحار لمعرفته بأن الذيِ انكشف لهم من المور اللهية بالنسبة لما غاب عنه كالذرة بالنسبة
إلى سعة الوجود ول المثل العلى .وهذه املعرفة توجب النزعاج والقلق والتعطش الدائام ،لن حقيقة القلق سرعة الحركة لنيل
المطلوب مع اسقاط الصبر ،وحقيقة التعطش شدة الطلب لما تأكدت الحاجة إليه ،ومن اشتد قلقه وتعطشه وجد وحقيقة الوجد هو
الشوق الغالب على قلب الطالب ،وهذا الوجد بعد حصوله له أحوال :
الول :الدهش .قال تعالى " :فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن" يوسف . 31وحقيقة الدهش غيبة القلب عن إحساسه لما فاجأه
من المر العظيم .
الثاني :الهيمان إذا سكن قليل وتكرر طروقه صار القلب متعجبا متحيرا من حسنه وبهائاه وهذا هو الهيمان ،لن حقيقة الهيمان
ذهاب التماسك تعجبا وتحيرا وهو أثبت دواما .
الثالث :أنسه وتمكينه منه حتى كأنه لم يدخل عليه داخل ولم يطرقه طارق وهذا هو التمكين.
قال الشيخ رحمه ا :التمكين إشارة الى غاية الستقرار ،وذلك أن أيِ حالة وجدها المحب مع ا مرة تقوى عليه ،ومرة يقوى
عليها ،ومرة يتلون ،ومرة يثبت إلى أن يتمكن فيستقر ،وهذا جار في كل حال ،فإذا استقر ارتقى إلى غيره ليكون المرتقى إليه
حال والمرتقى عنه مقاما وا أعلم.
واعلم :أن هذه الحوال إن وجدها العبد في المل دون الخلء فهو معول يجب عليه المحاسبة ومطالبة نفسه بالعلمات ،وإن
وجدها في
الخلء دون الملء فهو حسن ولكنه ناقص عن ذروة الكمال إذ الكمال استواء الحالت خلء وملء حضرا وسفرا وفراغا وشغل،
لن الفراغ شرط في البداية ل في النهاية .وأما حد الواجب من المحبة :فهو الميل المسبب عن نفس العتقاد بأصول اليمان فيما
يتعلق بذات ا وصفات ه ،فإن جهل أصل من الصول نقصت المحبة بقدره وكان عليه إثمان :إثم الجهل وإثم فقد ثمرته .وأما
حقيقة اليمان فهو حضور القلب مع ا تعالى وشهوده الثار الدالة على وجوده ،وا تعالى أعلم وقد قيل :
صفحة 133
وليس يدركه بالحول محتال النس بال ل يحويه بطال
وكلهم صفوة ل عمال والنسون رجال كلهم نجب
ومن غلب عليه حال النس ولم تكن شهوة إل النفراد والخلوة .وقال الواسطي :ل يصل إلى محل النس من لم يستوحش من
الكوان كلها .وقال أبو الحسين الوراق :ل يكون النس بال إل ومعه التعظيم .لن من استأنست به سقط عن قلبك تعظيمه إل ا
تعالى ،فإنك لن تزيد به أنسا إل ازددت منه هيبة وتعظيما.
وقد يكون النس ،النس بطاعة ا وذكره وتلوة كلمه وسائار أبواب القربات .وهذا القدر من النس نعمة من ا تعالى ومنحة،
ولكن ليس هو حال النس الذيِ يكون للمحبين ،والنس حال شريف عند طهارة الباطن وكنسه بصدق الزهد وكمال التقوى وقطع
السباب والعلئاق ومحو الخواطر والهواجس .وحقيقته عنديِ كنس الوجود بثقل لئاح العظمة وانتشار الروح في ميادين الفتوح
وله استقلل بنفسه يشتمل على القرب فيجمعه به عن الهيبة في الهيبة اجتماع الروح وهذا الوصف الذات .وهيبة الذات يكون في
مقام البقاء بعد العبور على ممر الفناء وهما غير النس والهيبة اللذان يذهبان بوجود الفناء ،لن الهيبة والنس قبل الفناء ظهرا
من مطالعة الصفات من الجلل والجمال وذاك مقام التلوين ،وما ذكرنا بعد الفناء في مقام التمكين والبقاء من مطالعة الذات ومن
النس خضوع النفس المطمئانة ومن الهيبة خشوعها ،والخضوع والخشوع يتقاربان ويفترقان بفرق لطيف يدرك بإيماء الروح
وا تعالى أعلم.
الباب التاسع
في بيان معنى الحياء والمراقبة ويضاف إليهما الحسان لنه غايتهما وكذلك الرعاية والحرمة والدب لنهن من ثمراتهما
اعلم :أن الحياء أول مقام من مقامات المقربين كما أن التوبة أول مقام من مقامات المتقين .أما العلم الحامل على الحياء :فهو علم
العبد باطلع ا تعالى عليه .وهذا واجب ،لنه من اليمان بال وبال تعالى .وكذا معرفته بعيوب نفسه وقصورها عن القيام بحق
ربه سبحانه وتعالى وهذا أيضا واجب لنه من اليمان بال تعالى فينفتح من هاتين المعرفتين حال يسمى الحياء ،وهو إطراق عين
القلب خجل من ا تعالى كتقصيره في واجب حقه تعالى ،والقدر الواجب من هذه الحالة ما يحث على ترك المحظورات وفعل
الواجبات .وأما المراقبة والحسان :فهما لفظان متداخلن على معنى واحد .فأما ثمرة بداية المراقبة فهو
صفحة 134
رعاية الخواطر وكشف ما التبس منها والدب مع ا تعالى بحرمة مراقبته والحياء على الوصف العام والخاص ،وأما الوصف
العام ما أمر به رسول ا صلى ا عليه وسلم في قوله " :استحيوا من ا حق الحياء " قالوا :إنا نستحيي يا رسول ا قال :
"ليس ذلك ولكن من استحيا من ا حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت والبلى .ومن أراد
الخرة وترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من ا حق الحياء " .
وهذا الحياء من المقامات ،وأما الحياء الخاص من الحوال وهو ما نقل عن عثمان بن عفان رضي ا عنه أنه قال :إني لغتسل
في البيت المظلم فأنطويِ حياء من ا عزوجل .وعن أحمد بن صالح قال :سمعت محمد بن عبدون يقول :سمعت أبا العباس
المؤذن يقول :قال لي سرى :احفظ عني ما أقول لك إن الحياء والنس يطوفان بالقلوب ،فإذا وجدا قلبا فيه الزهد والورع حطا
وإل رحل ،والحياء إطراق الروح إجلل لتعظيم الجلل والنس التذاذ الروح بكمال الجمال ،فإذا اجتمعا فهو الغاية في المنى
والنهاية العظمى.
قال بعض الحكماء :من تكلم في الحياء وليستحيي من ا عزوجل فيما يتكلم فهو مستدرج .وقال ذو النون :الحياء وجود الهيبة
في القلب مع حشمة ما سبق منك إلى ربك.
قال ابن عطاء :العلم الكبر :الهيبة والحياء فإذا ذهب عنه الهيبة والحياء فل خير فيه .قال سليمان :إن العباد عملوا على أربع
درجات على الخوف والرجاء والتعظيم والحياء ،وأشرفهم منزلة من عمل على الحياء لما أيقن أن ا تعالى يراه على كل حال
استحيا من حسناته أكثر مما استحيا العاصون من سيئااتهم .وقال بعضهم :الغالب على قلوب المستحبين الجلل والتعظيم دائاما
عند نظر ا تعالى إليهم .وأنشد الشيخ أبو النجيب السهرورديِ:
أطرقت من إجلله أشتاقه فإذا بدا
وصيانة لجماله ل خيفة بل هيبة
والعيش في إقباله الموت في إدباره
وأروم طيف خياله وأصد عنه تجلدا
والمراقبة على درجتين مراقبة الصديقين و مراقبة أصحاب اليمين.
أما الدرجة الولى :فهي مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم
صفحة 135
والجلل ،وهو أن يكون القلب مستغرقا بملحظة ذلك الجلل ومنكسرا تحت الهيبة فل يبقى له متسع لللتفاتات إلى الغير أصل،
وهذه المراقبة ليطول النظر في تفصيل ثوابها فإنها مقصورة على القلب .أما الجوارح :فإنها تتعطل عن اللتفات إلى المناجاة
فضل عن المنظورات ،فإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة فل يحتاج إلى تدبير وتسبب في حفظها عن النحرف عن سنن
السداد.
وأما الدرجة الثانية :فهي مراقبة الورعين من أصحاب اليمين ،وهم قوم غلب اطلع ا تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولكن لم
تدهشهم ملحظة الجلل ،بل بقيت قلوبهم على حد العتدال متسعة للتلفت إلى الحوال والعمال إل أنها مع ممارسة العمال ل
تخلو عن المراقبة .نعم غلب عليهم الحياء من ا تعالى فل يقدمون ول يحجمون إل بدع التثبت فيه ويمتنعون من كل ما
يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون ا تعالى في الدنيا مطلعا عليهم فل يحتاجون الى انتظار القيامة ،وتعرف اختلف الدرجتين
بالمشاهدات وا أعلم.
الباب العاشر
في بيان معنى القرب
قال ا تعالى للرسول عليه الصلة والسلم " :واسجد واقترب" العلق 19
وقد ورد أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده ،فالساجد إذا أذيق طهم السجود يقرب ،لنه يسجد ويطوى بسجوده بساط الكون
ما كان وما يكون ويسجد على طرف رداء العظمة فيقرب .
قال بعضهم :إني ل أجد الحضور ،فأقول :يا ا أو يارب فأجد ذلك أثقل عليي من الجبال .قيل :ولم ذلك ؟ قال :لن النداء
يكون من وراء حجاب ،وهل رأيت جليسا يناديِ جليسه؟ وإنما هي إشارات وملحظات ومناغاة وملطفات ،وهذا الذيِ وصفه
مقام عزيز يتحقق فيه القرب ولكنه مشعر بمحو مؤذن بسكر يكون ذلك لمن غابت نفسه في نور روحه لغلبة سكره وقوه محوه ،
فإذا صحا وأفاق تتخلص الروح من النفس والنفس من الروح ويعود كل من العبد إلى محله ومقامه .فيقول :يا ا ويارب بلسان
النفس المطمئانة العائادة إلى مقام حاجتها ومحل عبوديتها والروح يشتغل بفتوحه بكمال الحال عن القوال ،وهذا أتم وأقرب من
الول ،لنه في حق القرب باستقلل الروح بالفتوح وأقام رسم العبودية بعود حكم النفس إلى محل الفتقار وحظ القرب ليزال
يتوفر للروح بإقامة رسم العبودية من النفس.
وقال الجنيد :إن ا تعالى يقرب من قلوب عباده على قدر قربهم منه ،فانظر ماذا
صفحة 136
تقرب من قلبك .وقال أبو يعقوب السوسي :مادام العبد يكون بالقرب لم يكن قريبا حتى يغيب عن القرب بالقرب فإذا ذهب عن
رؤية القرب بالقرب فذلك قرب وقد قال قائالهم:
قد تحققتك في السر فناجاك لساني
فاجتماعنا لمعان وافترقنا لمعاني
إن لم يكن عيبك التعظيم عن لحظ عياني
فلقد صيرك الوجد من الحشاء داني
وقال ذو النون :ما ازداد أحد من ا قربة إل ازداد هيبة .وقال سهل :أدنى مقام من مقامات القرب الحياء .وقال النصر آباديِ :
باتباع السنة تنال المعرفة ،وبأداء الفرائاض تنال القرب ،وبالمواظبة على النوافل تنال المحبة ،والحمدل وحده.
الباب الحاديِ عشر
في بيان شرف العلم ووجوب طلبه والقدر الواجب منه
اعلم :أن العلم والعمل لجلهما خلقت السموات والرض ومافيهما.
قال ا تعالى " :الذيِ خلق سبع سموات ومن الرض مثلهن يتنزل المر بينهن لتعلموا أن ا على كل شيء قدير وأن ا قد
أحاط بكل شيء علما " الطلق 12وكفى بهذه الية دليل على شرف العلم ووجوب طلبه ل سيما علم التوحيد.
قال ا تعالى " :وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون" الذاريات . 56وكفى بهذه الية دليل على شرف العبادة ولزوم القبال
عليها فأعظم بأمرين هما المقصود من خلق الدارين فحق العبد أن ليشتغل إل بهما وأن ل يتعب إل لهما ثم العلم هو أشرف
الجوهرين ،ولكن لبد من العبادة مع العلم و إل كان العلم هباء منثورا .
واعلم :أنه يجب تقديم العلم على العبادة لمرين :أحدهما :لتصح لك العبادة وتسلم .والثاني :هو أن العلم النافع يثمر الخشية
والمهابة ل تعالى في قلب العبد وهما يثمران طاعة ويحجزان عن المعصية بعون ا تعالى وتوفيقه ،وليس وراء هذين مقصد
للعبد في عبادة ربه سبحانه وتعالى .فعليك بالعلم النافع فيجب عليك أول أن تعرف المعبود ثم تعبده وكيف تعبد من لتعرفه بأسمائاه
وصفات ذاته وما يجب له وما يستحيل عليه في
صفحة 137
نعته فربما تعتقد اعتقادا في صفاته شيئاا مما يخالف الحق فتكون عبادتك هباء منثورا .ثم عليك أن تعلم ما يلزمك فعله من
الواجبات الشرعية لتفعله على ما أمرت به وما يلزمك تركه من المناهي الشرعية لتتركه.
واعلم :أن العلم الذيِ طلبه فرض لزم لكل مكلف ثلثة أنواع :
الول :علم التوحيد والذيِ يتعين عليك منه هو مقدار ما تعرف به أصول الدين وقواعد العقائاد كافية فيه.
الثاني :علم السر وهو ما يتعلق بالقبل ومساعيه من مواجبه ومناهيه .
الثالث :علم العبادات الظاهرة المتعلقة بالبدان والموال ،ثم إن من ا عليك بعلم ما وجب عليك علمه وعمل ما وجب عليك
عمله وترك ما وجب عليك تركه فقد أديت ما أوجبه ا تعالى عليك وصرت من العلماء العالمين ،وبال التوفيق .
الباب الثاتي عشر
في بيان معاني السماء الحسنى
اعلم :أن جملة السماء الحسنى ترجع إلى ذات و سبع صفات على مذهب أهل السنة خلفا للمعتزلة و الفلسفة ,ثم إن السم غير
المسمى و هذا هو الحق,فحد السم أنه اللفظ الموضوع للدللة على المسمى .
و اعلم أن كمال العبد و سعادته إنما هو في التخلق بأخلق ا تعالى و التحلى بمعاني أسمائاه و صفاته بقدر ما يتصور في حقه ,و
ل تظنن أن المشاركة بكل وصف يوجب المماثلة.
هيهات ألم تعلم أن ا موجود ل في محل ,و أن ا تعالى حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم فاعل و النسان كذلك ايضا .
أفترى أن مثبت هذه الوصاف للنسان يكون مشبها ممثل .
هيهات ليس المر كذلك ,بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع و الماهية و الخاصية اللهية أنه الموجود الواجب الوجود
بذاته الذيِ بقدرته يوجد كل ما في المكان و جود على أحسن وجوه النظام و الكمال ,وهذه الخاصية ل يتصور فيها مشاركة و ل
مماثلة البتة بل ل يعرفها إل ا تعالى و تقدس ,فالخالق كلهم لم يعرفوا إل احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع حى عالم
قادر ,و هذه المعرفة لها طريقتان :أحدهما :يتعلق بالعالم و معلومه يحتاج إلى مدبر و الخر :يتعلق بال تعالى معلومه أسام
مشتقة من صفات غير داخله في حقيقة الذات وماهيتها ,فإن قلنا حى عالم قادر معناه شئ مبهم له وصف الحياة و القدرة فما
عرف أحد إل تقسه أول ثم قايس بين صفات ا تعالى و بين صفات نفسه و تتعالى صفات ا تعالى عن أن تشبه صفاتنا ,فإذا
يستحيل أن يعرف ا تعالى بالحقيقة
صفحة 138
غير ا تعالى ,بل يستحيل أن يعرف النبوة غير النبي .و أما من ليس بنبى فل يعرف من النبوة إل اسمها .
فإن قيل :فما نهاية معرفة العارفين بال تعالى ؟ فنقول نهاية معرفتهم هو أن ينكشف لهم استحالة معرفة حقيقة ذات ا تعالى لغير
ا تعالى و إنما اتساع معرفة العارفين بال تعالى و انما تكون في معرفة أسمائاه وصفاته فبقدر ما ينكشف لهم من معلوماته و
عجائاب مقدوراته و بدائاع آياته في الدنيا و الخرة يكون تفاوتهم في معرفته سبحانه و تعالى و ا أعلم
فصل
اعلم :ان جملة معاني أسماء ا تعالى الحسنى ترجع إلى عشرة أقسام :
الول :ما يدل على الذات فقط .كقولك :ا ويقرب منه اسم الحق تعالى إذا أريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود.
الثاني :ما يرجع إلى الذات مع سلب مثل القدوس و السلم و الغني و الحد ونظائارها ,فإن القدوس هو المسلوب عنه كل ما يخطر
بالبال و يدخل في الوهم ,و السلم هو المسلوب عنه كل عيب ونقص ,و الغني هو المسلوب عنه كل حاجة ,و الحد هو
المسلوب عنه النظير و القسمة .
الثالث :ما يرجع إلى الذات مع إضافة كالعلى و العظيم .و الول و الخر ,و الظاهر و الباطن ونظائارها .فإن العلى هو الذات
الذى هو فوق سائار الذوات في الرتبة فهي إضافة ,و العظيم ما يدل على الذان من حيث تجاوز حدود الدراكات ,و الول هو
السابق على دليل العقل ,و الباطن هو الذات بالضافة الى إدراك الحس و الوهم.
الرابع :ما يرجع الى الذات مع سلب و إضافة كالملك و العزيز ,فإن الملك هو الذات التى ل تحتاج الى إليها كل شئ :و العزيز
هو الذيِ ل نظير له وهو ما تشتد الحاجة إليه و يصعب نيله و الوصول إليه .
الخامس :مايرجع الى الذات مع صفه ثبوته كالحى و العالم و القادر و المريد والسميع و البصير و المتكلم .
السادس :مايرجع الى العلم مع إضافة كالحكيم و الخبير و الشهيد و المحصى .فإن الحكيم يدل على العلم مضافا إلى أشرف
المعلومات ,و الخبير يدل على العلم مضافا إلى المور الباطنة ,و الشهيد يدل على العالم مضافا إلى ما يشاهد و المحصى يدل
على العلم الذيِ يحيط بمعلومات محصورات معدودة التفصيل .
صفحة 139
السابع :ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة كالقوى والمتين والقهار فإن القوة هي تمام القدرة ،والمتانة شدتها والقهر تأثيرها في
المقدورة بالغلبة .
الثامن :ما يرجع إلى الرادة مع فعل وإضافة كالرحمن والرحيم والرءوف والودود .فإن الرحمة ترجع إلى الرادة مضافة إلى
قضاء حاجة المحتاج الضعيف ،والرأفة شدة الرحمة وهي المبالغة في الرحمة ،والودود يرجع إلى الرادة مضافا إلى الحسان
والنعام وفعل الرحمة يستدعي محتاجا وفعل الود ل يستدعي ذلك بالنعام على سبيل البتداء.
التاسع :ما يرجع إلى الذات مع صفة إضافية كالخالق والبارئ والمصور والوهاب والرزاق والفتاح والباسط والقابض والخافض
والرافع والمعز والمذل والعدل والمقيت والمغيث والمجيب والواسع والباحث والمبديِ والمعيد والمحيي والمميت والمقدم والمؤخر
والولي والبر والتواب والمنتقم والمقسط والجامع والمعطي والمانع والمغني والهاديِ ونظائارها .
العاشر :ما يرجع إلى الدللة على الفعل مع إضافة كالمجيد والكريم واللطيف .فإن المجيد يدل على سعة الكرام مع شرف الذات.
والكريم كذلك ،واللطيف يدل على الفعل مع الرفق ،ول تخرج هذه السامي وغيرها من مجموع هذه السامي عن الترادف مع
رجوعها إلى هذه الصفات المشهورة والمحصورة وا تعالى أعلم.
اعلم :أن معاني أسماء ا الحسنى مندرجة في أربع كلمات وهن الباقيات الصالحات )سبجان ا والحمدل ول إله إل ا وا
أكبر(.
الكلمة الولى :سبحان ا ومعناها في كلم العرب التنزيه والسلب فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات ا تعالى
وصفاته فما كان من أسمائاه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب ،والسلم هو الذيِ سلم من كل
آفة.
الكلمة الثانية :قول الحمدل وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته سبحانه وتعالى ،فما كان من أسمائاه متضمنا
الثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحتها فنفينا بسبحان ا كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه ،وأثبتنا بالحمدل
كل كمال عرفناه وكل جلل أدركناه وراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الجمال بقولنا ا
أكبر.
وهي الكلمة الثالثة ومعناها :إنه أجل مما نفيناه ومما أثبتناه وذلك معنى قوله عليه الصلة والسلم " :ل أحصي ثناء عليك أنت
كما أثنيت على نفسك " ،فما كان من أسمائاه متضمنا فوق ما عرفناه وأدركناه كالعلى والمتعالي فهو مندرج تحت قولنا :ا
أكبر في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الموجودين من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا ل إله إل ا.
صفحة 140
وهي الكلمة الرابعة :إذ اللوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ول يستحق العبودية إل من اتصف بجميع ما ذكرناه ،فما كان من
أسمائاه متضمنا ل للجميع على الجمال كالواحد الحد وذو الجلل والكرام فهو مندرج تحت قولنا ل إله إل ا .وإنما استحق
العبودية لما وجب له من أوصاف الجمال ونعوت الكمال التى ل يصفها الواصفون ول يعدها العادون ولو أدرجت الباقيات
الصالحات في كلمة على سبيل الجمالى وهى :الحمد ل لندرجت فيها كما قال السيد الجليل والمام الحفيل على بن أبي طالب
رضي ا عنه ) :لو شئات أن أوقر بعيرال من قول الحمد ل لفعلت( .فإن الحمد ل هو الثناء والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وسلب
النقص أخرى ،وتارة بالعتراف بالعجز عن إدراك الدراك تارة بإثبات التفرد بالكمال والتفرد والكمال من أعلى مراتب المدح
والكمال .وقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات الصالحات لن اللف واللم فيها لستغراق جنس المدح والحمد ما
عملناه وجهلناه ول خروج للمدح عن شئ مما ذكرناه .ول يستحق اللهية إل من اتصف بجميع ما ذكرناه ،ول يخرج عن هذا
العتقاد ملك مقرب ول نبى مرسل ول أحد من أهل الملك إل من خذله ا واتبع هواه وكان أمره فرطا ل وعصى موله أولئاك قوم
قد غمرهم ذل الحجاب وطردوا عن الباب وأبعدوا عن ذلك الجناب ،وحق لمن حجب في الدنيا عن إجلله ومعرفته أن يحجب فى
الخرة عن إكرامه ورؤيته.
الباب الثالث عشر
فى العتقاد والتمسك بعقيدة صحيحة ومعنى العتقاد اتخاذ عقد صورة علم أو ظن في القلب بوجود المغيبات والعلم العتقاد
الجازم الثابت المطابق للواقع
وقال بعض الكبار :العلم نور إذا نزل في القلب ينقذ شعاعه إلى حيث المعلوم ويتعلق به كما يتعلق نور العين بالمرئاى العتقاد
الصحيح هو الخالى عن التعطيل واللحاد والتشبيه والتجسم والتكييف والنقص والحلول والتحاد والباحة
و غير ذلك ،وأن يكون معه التنزيه والعظمة والكبرياء كما كانت الصحابة رضى ا عنهم .ودليله الكتاب والسنة واجتماع
المة ،ثم قال :على العبد أن يتعلم أن ا تعالى واحد فرد صمد فى ذاته وصفاته ،ل مثل له في ذاته ول نظير له فى صفاته ،ل
شريك له فى ملكه ،ول حدوث في صفاته ،ول زوال ول بداية لقدمه ول نهاية لبقائاه دائام الوجود ول آخر له قيوم الموجودات ل
انقطاع له لم يزل ول يزال موصوفا بصفات الجلل والجمال ل نهاية لكبريائاه ول غاية لعظمته وجلله .ليس بجسم ول جسمانى
ول بروح ول روحانى ول بجوهر محدود ول
صفحة 141
تحله الجواهر ،بل هو خالق الشياء أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوال أحد منزه عن الحركة والنتقال والجهة والمكان
وأنه تعالى قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد .قربه من الخلق ليس كقرب الخلق بعضهم من بعض ،بل
هو قريب يليق به تعالى.
سئال الجنيد – قدس ا تعالى روحه – عن القرب فقال :قريب ل بالتزاق وبعيد ل بافتراق ول كيفية لقربه معيته ،كما أنه ليس
كمثله شىء كذلك قربه ومعيته ليس كمعية أحد وقربه وأنه تعالى كان ولم يكن معه شىء وهو الن على ما هو عليه.
فصل
اعلم :أن من أجرى الستواء على العرش على ما ينبئ عنه ظاهر اللفظ وهو الستقرار على العرش .فقد التزم التجسيم وإن
تشكك في ذلك كان فى حكم المصمم على التجسيم أيضلا ،وإن قطع باستحالة الستقرار على العرش فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد
أهل الحق .وكذلك من أجرى النزول على ما ينبئ عنه ظاهر اللفظ وهو الحركة والنتقال ،فقد التزم التجسيم أيضلا ،وإن قطع
باستحالة الحركة والنتقال فقد تأول الظاهر وهو اعتقاد أهل الحق.
واعلم :أن العراض عن تأويل المتشاب خوفا ا من الوقوع في محظور من العتقاد يجر إلى الشك واليهام واستزلل العوام
وتطريق الشبهات إلى أصول الدين وتعريض بعض آيات كتاب ا العزيز إلى رجم الظنون والحمد ل وحده وهذه العقيدة
الصحيحة السليمة لصاحب قلب سليم سلم من البدعة ومن استيلء وساوس الشيطان و هواجس النفس وزين بالتقوى وأيد بالهدى
وهذب بالورع وغذى بالذكر وا تعالى أعلم.
الباب الرابع عشر
في بيان صفات ا تعالى
الصفات الثبوتية سبعة وهى :الحياة والعلم والرادة والقدرة والسمع والبصر والكلم ،وكل صفة من هذه الصفات لها تعلق إل
الحياة فإنها ينبوع الكمالت ،فالعلم يتعلق بكل واجب وجائاز ومستحيل ،فالواجب هو ذات ا تعالى وصفاته ،والجائاز هو جميع
الممكنات ،والمستحيل هو الذى ل يمكن وجوده ،والرادة تعلقها تخصيص والتخصيص
صفحة 142
ترجيح أحد الممكنات من العدم إلى الوجود على ما يريد أن يبرزه ،والقدرة تعلقها تأثير والتأثير هو إبراز معدوم أو إعدام موجود
،فلول سبق العلم لم يحصل
تخصيص الرادة ،ولول تخصيص الرادة لم يحصل تأثير القدرة ،والسمع يتعلق بكل مسموع قديم أو حادث ،والكلم يتعلق
بجميع ما يتعلق به العلم ،وهذه الصفات كلها قائامة بذات ا تعالى وهى منقسمة إلى ما يتعلق بغيره كشفا ل كالعلم والسمع والبصر ،
وإلى ما يتعلق بغيره من غير كشف ول تأثير :كالكلم ،وأعمها تعلقا ل :العلم والكلم وأخصها السمع ومتوسطها البصر ،والبقاء
هو استمرار الوجود وليس هو وصفا ل زائادال على مفهوم الذات ،فالشعرية يقولون الحق سبحانه وتعالى حى بحياة ،عالم بعلم ،قادر
بقدرة ،مريد بإرادة سميع بسمع ،بصير ببصر متكلم بكلم.
ومذهب القدرية :أنه حى بذاته ،قادر بذاته مريد بذاته ،سميع بذاته ،يصير بذاته ،متكلم بذاته وهو خطأ.
ومذهب الطبائاعية :أن النار محرقة بطبعها ،والماء مرو بطبعه ،والعيش مشبع بطبعه ،والفلك والكواكب مؤثرة بطبعها وقس
عليه جميع السباب.
ومذهب أهل الحق أن المؤثر هو قدرة ا تعالى وأن السباب ل اثر لها ،وا أعلم.
واعلم :أن الصفات السبع عند الشاعرة معان زائادة على مفهوم الذات وهى ثابتة العيان والحكام ،ومعنى ثبوت العيان أنها
ليست نفس الذات .وقال غيرهم من السادة :اعلم أن السماء والصفات نسب وإضافات ترجع إلى عين واحدة إذ ل كثرة هناك
بوجود أعيان زائادة على الذات المقدسة ،كما زعم من لعلم له بال تعالى من بعض النظار .فلو كانت أعيانا ل زائادة وما هو إله إل
بها لكان معلول لها فل يخلو أن تكون هى عينه .فالشىء ل يكون معلول لنفسه .أو ل تكون فالله ل يكون معلولل لعلة ليست عينه.
لن ذلك يقتضى افتقاره وافتقار الله محال فكون السماء والصفات أعيانا ل زائادة محال ،فافهم جيدال والحمد ل وحده.
الباب الخامس عشر
في بيان حقيقة الخلص والرياء وحكمهما وتأثيرهما
اعلم :أن الخلص عند علمائانا إخلصان :إخلص العمل وإخلص طلب الجر.
صفحة 143
فأما إخلص العمل :فهو إرادة التقرب إلى ا تعالى وتعظيم أمره وإجابة دعوته والباعث عليه العتقاد الصحيح وضد هذا
الخلص النفاق .وهو التقرب إلى من دون ا تعالى .وأما إخلص طلب الجر :فهو إرادة نفع الخرة بعمل الخير وضد هذا
الخلص :الرياء وهو إرادة نفع الدنيا بعمل الخرة سواء أراده ا تعالى أو من الناس ،لن
العتبار في الرياء بالمراد ل بالمراد منه ،وأما تأثيرهما :فهو أن إخلص العمل يجعل الفعل قربة وإخلص طلب الجر يجعله
مقبولل وافر الجر.
وأما النفاق :فإنه يحبط العمل ويخرجه عن كونه قربة والرياء يوجب رده ،وأما موضع الخلص وفي اى طاعة يقع ويجب،
فاعلم أن العمال عند بعض العلماء ثلثة أقسام :قسم يقع فيه إخلصان جميعا ل وهو العبادة الظاهرة الصلية ،وقسم ل يقع فيه
إخلص طلب الجر دون إخلص العمل وهو المباحات المأخوذة للعدة .وقال شيخنا :إن كل عمل يحتمل الصرف إلى غير ا
تعالى من العبادات الصلية يقع فيه إخلص العمل والعبادات الباطنة أكثرها يقع فيها إخلص العمل .وأما الخلص في طلب
الجر :فكان شيخنا يقول :إذا أراد العامل من ا تعالى بالعبادات الباطنة نفع الدنيا فهو أيضا ل رياء .قلت :فل يبعد إذا أن يقع في
كثير من العبادات الباطنة الخلصان ،وكذلك النوافل .يجب عليها الخلصان جميعا ل عند الشروع فيها .وأما المباحات المأخوذة
للعدة :فإنه يقع إخلص طلب الجر دون إخلص العمل إذ هى ل تصلح بنفسها أن تكون قربة ،بل هى عدة على القربة وهذا
مواضعها ،وأما وقتها :فهو أن إخلص العمل يكون مع الفعل يقارنه ل محالة ويتأخر عنه ،وإخلص طلب الجر ربما يتأخر
عنه .وعند بعض العلماء ربما يعتبر فيه وقت الفراغ من العمل ،فإذا فرغ العمل على إخلص ورياء فقد انقضى المر ول يمكن
استدراكه بعد ،وا أعلم.
فصل
اعلم :أنه يجب على العبد أن يتحفظ في العمل من عشرة أشياء :النفاق والرياء والتخليط والمن والندامة والعجب والحسرة
والتهاون وخوف ملمة الناس .ثم ذكر شيخنا رحمة ا تعالى ضد كل خصلة منها وإضرارها بالعمل ،فضد النفاق إخلص العمل
ل تعالى ،وضد الرياء إخلص طلب الجر ،وضد التخليط التقوى ،وضد المن تسليم العمل ل تعالى ،وضد الذى تحصين العمل،
وضد الندامة تثبيت النفس ،وضد العجب ذكر المنة ل تعالى ،وضد الحسرة اغتنام الخير ،وضد التهاون تعظيم التوفيق ،وضد
خوف ملمة الناس خشية ا تعالى.
صفحة 144
ثم اعلم أن النفاق يحبط العمل والرياء يوجب رده ،والمن والذى يحبطان الصدقة في الوقت .وعند بعض المشايخ يذهبان
أضعافها ،وأما الندامة فإنها تحبط العمل في قولهم جميعلا ،والعجب يذهب أضعاف العمل والحسرة والتهاون يخففان العمل .فعليك
يقطع هذه العقبة المخوفة الخطرة وبال التوفيق.
مجموعة رسائال المام الغزالي:
صفحة 144
الباب السادس عشر
في الرد على من أجاز الصغائار على النبياء صلى ا عليهم وسلم
قال القاضي عياض رحمه ا تعالى في كتابة الشفا:
اعلم ان المجوزين للصغائار على النبياء صلى ا عليهم وسلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة
من القران والحديث ان التزموا ظواهرها افضت بهم الى تجويز الكبائار وخرق الجماع ما ل يقول به مسلم ,فكيف وكل ما
احتجوا به مما اختلفوا المفسرون في معناه وتقابلت الحتمالت في مقتضاه وجاءت اقاويل فقهاء السلف بخلف ما التزموه من
ذلك فاذا لم يكن مذهبهم اجماعا وكان الخلف فيما احتجوا به قديما ل وقامت الدللة على خطأ قولهم وصحة غيره وجب تركه
والمصير الى ما صح وا تعالى اعلم.
فصل فيما يجب على النام من حقوق النبي عليه أفضل الصلة والسلم
أولها :تصديقه في كل ما جاء به وما قاله ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان أنه رسول ا الى كل الناس كافة واتباعه في
جميع ماأمر به أو نهى عنه ,وكذلك محبته ومناصحته وتوقيره وبره والصلة عليه كل ذلك واجب ,لنه مما جاء به صلى ا
عليه وسلم.
واعلم ان المة مجتمعة على عصمة النبي صلى ا عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه فل يصل الى ظاهره بشيء من أنواع
الذى ول الى باطنه بشيء من الوساوس ,وكذا عصمته عن الجهل بال تعالى وصفاته او كونه على حالة تنافي العلم بشيء من
ذلك كله جملة بعد النبوة عقل واجماعا وقبلها سمعا ونقل ,ول بشيء مما قرره من أمور الشرع واداه عن ربه عز وجل من
الوحي قطعا وعقل وشرعا ,وكذا عصمته من الكذب وخلف القول من نبأه ا تعلى وأرسله قصدال او غير قصد واستحالته عليه
عقلل واجماعا ل لمناقضته للمعجزة وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعا ل ,وكذا عصمته في جميع حالته من رضى وغضب وجد وهزل
وصحة ومرض وكذا استحالة السهو والنسيان والغفلة والغلط عليه في الخبار والقوال لبلغية اجماعا ل لمناقضته وجواز السهو
عليه في الفعال البلغية بشرط ان ل يقر عليه بل ينسبه عليه على الفور لتظهر فائادة النسيان من معرفة الحكم والتباع له فيما
صفحة 145
يشرعه ,وفرقوا بين السهو في الفعال البلغية والقوال البلغية المعجزة على الصدق في القول ومخالفة ذلك يناقض المعجزة
واما السهو في الفعال :فغير مناقض للمعجزة ول قادح في النبوة ,نعم بل حالة النسيان هنا في حقه صلى ا عليه وسلم سبب
افادة علم وتقرير شرع كما قال صلى ا عليه وسلم :اني)) لست انسى ولكني انسى لسن(( .وهذه الحالة بعيدة عن سمات النقص
بل هو زيادة في التبليغ وتمام عليه في النعمة وأما ما ليس طريقة البلغ ول بيان الحكام من افعاله صلى ا عليه وسلم وما
يختص من امور دينه واذكار قلبه فالذيِ ذهب اليه جماعة الصوفية واصحاب علم القلوب استحالة السهو والنسيان والغفلت
والفترات عليه في جملة ,وأجاز ذلك الكثر من طبقات علماء المة وذلك بما كلفه من سياسة المة ومقاساة الخلق ومعاناة الهل
وملحظة العداء ولكن ليس على سبيل التكرار ول التصال بل على سبيل الندور وليس هذا في شيء يحط من مرتبته او يناقض
معجزته صلى ا عليه وسلم.
واعلم انه يجوز طريان اللم والوجاع على ظاهر جسم النبي ليتحقق بشريته ول ل يصل شيئ من ذلك الى باطنه لتعلقه بمشاهدة
ربه عز وجل والنس به ثم اعلم ان المصير في جميع ما ذكرنا في حق النبياء والملئاكة كالمصير في حق نبينا محمد وعليهم
اجمعين.
فصل في بيان ما يجب على النبي وما يحرم عليه وما يباح له وما خص به الفضائال دون غيره
فأما ما يجب عليه فهو التهجد والوتر والضحى والضحية والمشاورة وتخيير الزوجات والسواك ومصابرة العدو وان كثروا
وتغيير المنكر.
وأما ما يحرم عليه دون غيره فهو الخط والشعر والصدقة والزكاة ومد عينيه الى ما متع به غيره والمخادعة في الحرب ومسك
الزوجة المكارهة وفي طلق الرغبة واكل الكراث والثوم والبصل والكل متكئاا وفيه خلف والصح الكراهية ل التحريم ونكاح
الحرة الكتابية والمة المسلمة وغيرها والصلة على المدين على خلف فيه ولاصلح انه صلى بعد ذلك ونزعه لمة الحرب قبل
القتال.
واما ما يباح له صلى ا عليه وسلم فهو حكمه لنفسه ولفرعه وشهادته وقبوله ايضا لهما وخمس الخمس وحل الغنائام ومن ارادها
لزم زوجها طلقها ,وله النكاح بل مهر لمن شاء ويصح نكاحه بلفظ الهبة ويجوز اخذخ طعام المحتاج ويلزم المضطر بذله
ويحيي ما شاء من موات ويقتضى بعلمه ابداد ويجب على خاطره دفع قاصده بسوء ول ينتقض وضوءه بالنوم ول باللمس على
الصح ول يورث ماله ويلزم الخلية اجابته ويعقد نكاحه بل ولي ول
صفحة 146
شهود وله الزيادة على اربع وعلى وتسع في الصح وله النكاح في الحرام ويصح نكاحه من نفسه وممن شاء.
وانا ما خص به من الفضائال فهو ان ازواجه الئاي مات عنهم حرام على غيره قطعا ل وكذا اللتي فارقهن بعد الدخول في الصح
وهن امهات المؤمنين وشرعه صلى ا عليه وسلم ناسخ لما قبله يستمر الى انقضاء البد وكتابة المعجز المستمر السالم من
التبديل والتحريف وهو حجة ا تعالى على عباده وجعلت له الرض مسجدال وطهوراد وأعطى خمسة شفاعات وخص بالشفاعة
العظمى وهو اول من يقرع باب الجنة وامته خير امة ول تجتمع على ضلل وهو اول شافع مشفع واول من تنشق عليه الرض
وتصف امته كالملئاكة يوم القيامة وفضلته طاهرة على الصح يتبرك بها ويشفى بها ويرى من ورائاه كما يرى امامه ول يحل
مناداته من وراء حجرته وصلته في النقل قاعداد في اجره كصلته في الوقوف ول يجوز ندائاه باسمه واعطى جوامع الكلم.
فصل
اعلم ان ا تعالى قد حرم اذى النبي صلى ا عليه وسلم في القران ولعن مؤذيه واجتمعت المة على قتل مستقصيه وسابه من
الملسمين تصريحا ل كان او تعريضا ل واما ما هو حقه سب او نقص.
فاعلم انه من سبه او عابه او الحق به نقصا ل في خلقه او خلقه او دينه او خصلة من خصاله او نسبه او عرض به او سبهه بشيء
على طريق السب له او الزراء عليه او التصغير بلسانه فهو ساب له وسابه بقتل وكذا حكم من غيره بما جرى من البتلء
والمحنة عليه او غمضه ببعض العوارض البشرية الجائازة عليه وهكذا كله باجماع من العلماء من لدن الصحابة الى الن.
قال ابن المنذر رحمه ا تعالى :أجمع عوام اهل العلم على ان من سب رسول ا صلى ا عليه ويسلم يقتل وممن قال بذلك مالك
والليث واحمد واسحاق ومذهب الشافعي وهو مقتضى مذهب ابي بكر الصديق رضي ا عنه وعنهم فل تقبل توبته عند هؤلء
وبمثله قال ابو حنيفة واصحابه والثورى واهل الكوفة والوزاعي في المسلم لكنهم قالوا :هي ردة ,وا أعلم.
صفحة 147
الباب السابع عشر
في معرفة الخواطر واقسامها ومحاربة الشيطان وقهره والتدبير في دفع شره وان يستعيذ بال تعالى منه اول ثم يحاربه بثلثا
اشياء
احدهما :ان تعرف مكائاده وحيله ومخادعاته.
والثاني ان تستخف بدعوته فل تعلق قلبك بها.
والثالث ان تديم ذكر ا تعالى بقلبك ولسانك فان ذكر ا تعالى في جنب الشيطان كالكلة في جنب ادم ,فأما معرفة مكائاده فانه
يستبين لك بمعرفة الخواطر واقسامها ,فاعلم ان الخواطر اثار تحدث في قلب العبد تبعثه على الفعل او الترك وحدوث جميعها في
القلب من ا تعالى اذ هو خالق كل شيء لكنها اربعة اقسام :فقسم منها يحدثه ا تعالى في قلب العيد ابتداء فيقال له الخاطر فقط,
وقسم يحدثه موافقا د لطبع النسان فيقال له هو النفس ,وقسم يحدثه عقب دعوة الشيطان فينسب اليه ويقال له الوسواس وقسم يحدثه
ا ويقال له اللهام ,ثم اعلم ان الخاطر الذيِ من قبل ا تعالى ابتداء قد يكون خيرا س اكراما ل والزاما ل للحجة .وقد يكون شرا ا امتحانا ا
,والخاطر الذيِ يكون من قبل الملهم ل يكون ال بخير اذ هو ناصح مرشد ل يرسل ال لذلك ,والخاطر الذيِ يكون من قبل هوى
النفس ل يكون ال بالشر وقد يكون بالخير ل لذاته فهذه انواعها:
ثم اعلم انك محتاج الى ثلثة فصول:
فاما الفصل الول قال العلماء رضي ا عنهم اجمعين اذا اردت ان تعرف خاطر الخير من خاطر الشر وتفرق بينهما فزنه باحد
الموازين الثلثة يبين لك حاله:
فالول هو ان تعرضه على الشرع فان وافق جنسه فهو خير وان كان بالضد اما برخصة او بشبهة فهو شر ,فان لم يبين لك بهذا
الميزان فاعرضه على القتداء بالصالحين ,فان كان فيه اقتداؤهم فهو خير ول فهو شر ,وان لم يبين لك بهذا الميزان ,فاعرضه
على النفس والهوى ,فان كان مما تميل النفس ميل طبع ل ميل رجاء الى ا تعالى فهو شر.
واما الفصل الثاني :اذا اردت ان تفرق بين خاطر شر ابتداء من قبل الشيطان او من قبل النفس او من ا تعالى ,فانظر فيه ثلثة
اوجه:
صفحة 148مجموعه رسائال المام الغزالي
أحدها :إن وجدته ثابتا راتبا مصمما على حاله واحد فهو من ا تعالي او من هوى نفسه ،و إن وجدته مترددا مظطربا فهو من
الشطان.
وثانيا :إن وجدته عقب ذنت احدثته فهو من ا تعالي ول يزول فهمو من هوى النفس ،وإن وجدته يضعف من ذكر ا فهو من
الشيطان .
وثالثها :إن وجدته ل يضعف ول يقل من ذكر ا تعالى ول يزول فهوى من هوى النفس ,وإن وجدته يضعف من ذكر ا فهو
شيطان.
وأما الفصل الثالث :إذا أردت ان تفرق بين خاطر خير يكون من ا تعالى او من الملك فانظر فى ذلك من ثلثة أوجه :
أحدها:إن كان مصمما على حاله واحده فهو من ا تعالي ،وإن كان مترددا فهو من الملك إذا هو بمنزلة ناصح .
والثاني :إن كان عقب اجتهاد منك وطاعه فهو من ا تعالى ،وإل فهو من الملك .
والثالث :إن كان فى الصول والعمال الباطنه فهو من ا تعالى وإن كان في الفروع والعمال الظاهرة فهو من الملك فى الكثر
،إذا الملك ل سبيل له إلى معرفه باطن العبد في قول أكثرهم ،وأما خاطر الخير الذيِ يكون من قبل الشيطان استدراجا إلى شر
يربو عليه عليه ،فانظر فإن وجدن نفسك فى ذلك الفعل الذيِ يخطر بقلبك مع نشاط ل مع خشيه ،ومع عجلة ل مع تأن ،ومه آمن
ل مع خوف ،ومع عمى العاقبه ل مع بصيره ،فاعلن انه من الشيطان فاجتنبته ،وإن وجدت نفسك على ضد ذلك فاعلم انه من ا
تعالي او من الملك قلت انا وكان النشاط خفة فى النسان للفعل من غير بصيره وذكر ثواب ينشط فى ذلك .واما التأني فمحمود إل
فى مواضع معدوده ،وإما الخوف :فيحتمل أن يكون فى أتمامه وأدائاه على حقه وقبول ا تعالى إياه.
وأما بضارة العاقبه :فبأن تتبصر وتتيقن أنه رشد وخير ،ويحتمل ان يكون لرؤيه الثواب فى العقبى ورجائاه .فهذه الفصول
الثلثه التى لزمتك معرفتها فارعا فإنها من العلوم اللطيفه والسرار الشريفه فى هذا المر ،وبال التوفيق ولي الهدايه.
الباب الثامن عشر
في بيان معنى آفات اللسان وهى عشرون آفة
أولها :الكلم فيها ل يعني ،ثم فضول الكلم ،ثم الخوض فى الباطل ،ثم الرايِ والمجادله ،ثم الخصومه ،ثم التقعير فى الكلم ،
ثم الفحش والسب واللعن ،ثم الشعر ،ثم المزاح ،ثم السخريه والستهزاء ،ثم إفشاء سر الغير ،ثم الوعد الكاذب ،ثم الكذب فى
صفحة 149
القول واليمين ،ثم الغيبه والنميمه ذو اللسانين ،ثم المدح ،ثم الخطأ فى فحوى الكلم ،ثم سؤال العوام عم ل يبلغه فهمهم من
صفات ا تعالي .فأما حد الكلم فيما ل يعني :فهو ان يتكلم بما لو سكت عنه لم يأثم ولم يتضرر فى حال ول مآال .وأما فضول
الكلم :فهو من الزيادة على قدر الحاجه فيما يغني .
وأما الخوض فى الباطل :فهو الكلم فى المعاصي كحكايه أحوال الوقاع ومجالس الخمور وتجبر الظلمه وكحكايه مذاب اهل
الهواء .وكذا حكايه ماجرة بين الصحابه
رضى ا عنهم آجمعين على وجه الغستنقاص ببعضهم ام الراء :فهو العتراض على الغير بإظهار خلل فى لفظه او معناه او
قصده به .وأما المجادله :فهو من مراء يتعلق بالمذاهب وتقريرها .واما الخصومه :فهى لجاج فى الكلم بإظهاره اللدد على
قصد اليذاء ومزج الخصومه بكلمات مؤذيه ل يحتاج إليها فى نصر الحجه .وأما التعقرفى الكلم فهو تكلف الفصاحه بالتشدق .
وأما الفحش :فهو التعبير عم المور المستقبحه بالعبارات الصريحه .وأما اللعن :فهو مايكون لجماد أو لحيوان أو لنسان وكل
ذلك منهى عنه لن اللعن هو البعاد عن ا ،وليجوز اللعن إل على من بتصف بصفه تبعده عن ا تعالى والصفات المقتضيه
للعن ثلثه :الكفر والبدعه والفسق فيجوز لعن كل صنه من هذه الثلثة فأما لعن شخصيه بعينه من هذه الصناف فل يجوز غل
على من علم موته على الكفر كفرعون وابي جهل وابي لهب ل حتمال موته على السلم اما الشعر :فحسنه حسن وقبيحه قبيح
كالكلم .وأما المزاح :فهو منهى عنه إل عن سيسر ل كذب فيه ول أذى – واما السخريه :فهى التنيه على العلوم والنقائاض
على وجه الضحك منه ومهما كان مؤذيا حرم وإل فل .واما إفشاء السر :فهو حرام وإذا كان فيه إضرار وإم لك يكن فيه إضرار
فهو لوم .وأما الوعد الكاذب :فهو من علمات النفاق وذلك إنه إذا كان حال الوعد عازما على الخلف وإذا أخلف من غير عذر .
وأنا من عزم على الوفاء وطرا له عذر منعه من الوفاء فذلك ليس بنفاق ،ولكن ينبقى ان يحرز من صورة النفاق أيضا .وأما
الكذب في القول واليمين :فهو من قبائاح الذنوب .أما ما رخص فيه من الكذب :فاعلم ان الكلم وسيله إلى القاصد فكل مقصود
محمود يمكن التوسل إليه بالصدق والكذب جميعا ،فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوسل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح ،
وإن كان تحصيل ذلك المقصود واجبا فهذا ظابطه ،وإما حكم الغيبه :فأعلم انها محرمه بالكتاب والسنه وإجماع المه إل ما
يستثنى منها .وأما حدها :فهو ان ذكر اخاك المسلم فى حال غيبته بما فيه مما يكرهه لو بلغه وسواء ذكر بنقص فى دينه او دنياه
او قوله او فعله والغمز والرمز و الشاره واليماء والتعريض والكتابه ،فكل ذلك حرام .
الصفحة رقم 150
مجموعة رسائال المام الغزالي
أما السباب الباعثة على الغيبة فمنها :ما يتخص بأهل الدين والخاصة من العلماء .فأما ما يخص بالعامة فهو الغضب والحقد
والحسد وموافقة الرفقاء في الهزل واللعب والستهانة والستحقار والتصنع والمباهاة والترفع على الغير وإرادة التبرؤ من غيب
نسب إليه ينسبه إلى فعله والمبادرة بتقبيح حال من يخشى أن يستقبح حاله عند كبير أو محتشم.
وأما ما يختص بأهل الدين والخاصة من العلماء :فهو الغضب ل تعالى على فاعل المنكر والتعجب من فعله والشفقة عليه
والرحمة .فهذه من أمغض السباب وأخفاها ،لن الشيطان يخيل للجهلة من العلماء أن الغضب والتخيل إذا كانت ل تعالي كانت
عذرال مرخصا ل في ذكر السم بالغيبة حاجات مخصوصة ل مندرجة عنها في ذكر السم بالغيبة وهي التظلم إلى الحكام والستفتاء
والستعانة على إزالة المنكر والتحذير والنصيحة ولتعريف باللقب .فهذه ثلثة أمور هي المستثناة فب الشرع من الغيبة
للضرورة.
وأما معالجة مرضها :فهو أن تعلم إنك متعرض لسخط ا تعالى بغيبة أخيك المسلم ومحبط لحسناتك على صحائاف من إستغبته.
وأما أركان التربة منها :فهي العلم والندم والقلع والعزم وإستحلل من إستغتبته بذكر ما إغتبته به إل أن يتعذر عليك فتدعو له.
وأما حكم النميمة :فاعلم ،ها محمرمة بالكتاب والسنة وإجماع المة ،وأما حدها :فهو نقل كلم بعض الناس إلى بعض على قصد
الفساد ،وسواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما .وأما سببها :فهو إما إدارة السوء بالمنقول عنه أو التحبب إلى
المنقول إليه والخوض في الباطل .وأما معالجة مرضها :فهو أن تكف لسانك عنها حذرال من ضررها.
وأما أ}كان التوبة منها :فهي العلم والندم والقلع والعزم .وأما ماذا يجب على من نقلت إليه نميمة فهو ستة أمور وهي :أن ل
يصدقه وأن ينهاه ،وأن يبغضه في ا تعالى لنه بغيض عند ا تعالى ،ويجب بغض من يبغضه ا تعالى ،وأن ل ينم عليه ،
وأن ل يتجسس عن المنقول عنه ،وأن ل يسئ الظن.
وأعلم أن سوء الظن بالمسلم كسوء القول .وحده أن تحكم على أخيك المسلم بالسوء بما ل تعلمه ،أما ذو اللسانين :فهو الذيِ ينقل
كلم المتعادين بعضهم إلى بعض على جهة الفساد ،فإن لم ينقل كلنا ل ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من العداوة أو وعد
كلهما بأن يضره أو أثنى عليهما في معاداداتهما أو أثنى على أحدهما ،وكان إن خرجمن عنده يذمه فهو ذو لسانين في ذلك كله ،
بل ينبغي له أن يسكت أو يثني على المحق
صفحة 151
منهما في حضوره وغيبته وعند عدوه .وأما المدح :فهو منهى عنه بعض المواضع ،وفيه ست آفات أربع في المادح وإثنان في
الممدوح .فأما المادح التي في المادح.
فالولى :إنه قد يفرط في المدح حتى ينتهي إلى الكذب.
وثانيها :إنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد ل يكون كذلك ،أو إنه قد ل يكون معتقدال لجميع ما يقوله فيصير به مرائايا ل
منافقا ل.
وثالثهما :أنه قد يقول ما ل يتحققه فيكون كاذبا ل مزكيا ل من لم يزكه ا تعالى وهذا هلك.
ورابهما :إنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائاز لن ا تعالى يغضب إذا مدح الفاسق ،وأما الممدوح فيضره
بالمدح من وجهين :
أحدهما :أنه يحدث فيه كبرال وعجبا ل وهما مهلكان.
والثاني :أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به وفتر ورضى عن نفسه وقل تشمره لر آخرته .ولهذا قال الرسول ا صلى ا عليه
وسلم " قطعت عنق صاحبك" فإن سلم المدح عن هذه ألفات لم يكن به بأس ،بل ربما كان مندوبا ل إليه .ولذلك أثنى رسول ا
صلى ا عليه وسلم على الصحابة رضي ا عنهم أجمعين حتى قال " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح" وقال
" لو لم أبعث لبعثت يا عمر " .وأيِ ثناء يزيد على هذا ولكنه عن صدق وبصيرة وكان أجل رتبة من أن يورثهما ذلك كبرال
وإعجابا ل ،بل مدح النسان قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إل أن يكون مما لم يورثه ذلك كبرال وإعجابا ل .كما قال صلى ا عليه
وسلم" أنا سيد ولد أدم ول فخر " أيِ لست أقوله تفاخرال كما يقوله الناس بالثناء على أنفسهم وذلك أن أفتخاره صلى ا عليه وسلم
إنما كان بال تعالى وبقربه ل بكونه مقدما على غيره من ولد آدم عليه الصلة والسلم ،وأما الغفلة عن دقائاق الخطأ في فحوى
الكلم :فهو مثل أن يقول :مطرنا بنوء كذا وكذا أو يقول للعنب كرما ل أو نحو ذلك مما نهى عنه من اللفاظ .وأما سؤال العوام
عما ل يبلغه فهمهم من صفات ا تعالى فهو مثل أن يسأل عن بعض صفات ا تعالى أو عن كلمه أو عن الحروف هل هي
حادثة أو قديمة فكل ذلك مذموم سؤالهم عنه لعدم فهمهم عنه لئال يلتبس عليهم الحق بالباطل وا تعالى أعلم .
الباب التاسع
في بيان البطن وحفظه
في البطن وحفظه ،لن المعدن ومنه تهيج المور في العضاء من خير وشر ،فعليك
صفحة 152
بصيانته عن الحرام .وكذا عن الشبهة ثم فضول أن كانت لك همة في عبادة ا تعالى فأما الحرام أو الشبهة :فإنما يلزمك التحفظ
عنها لثلثة أمور:
الةل :حذرال من نار جهنم.
والثاني :أن آكل الحرام والشبهة مطرود ل يوفق للعبادة إذا ل يصلح لخدمة ا تعالى تعالى إل كل قلب طاهر .قلت :أليس قد
منع ا تعالى الجنب من دخول بيته والمحدث من كتابه مع إنهما أثر مباح ؟ فكيف بمن هو منغمس في قذر الحرام والشبهة متى
يدعو إلى خدمة ا تعالى وذكره الشريف ) كل فل يكون ذلك ( .
والثالث :أن آكل الحرام والشبهة محروم ،وإن اتفق له فعل خير فهو مردود عليه وليس له منه إل العناء والكد.
وأما حكم الحرام والشبهة وحدهما :فاعلم أن الولى في حدهما أن ما يتقينت كونه ملكا ل للغير منهيا ل عنه في الشرع أو غلب على
ظنك فهو حرام وأما ما تياوت فيه الماراتان فهو شبهة بشبهة إنه حرام ويشبه أنه حلل ثم اتلمتناع من الذيِ هو حرام محض
حتم واجب ،والمتناع من الذيِ شبهة تقوى وورع .وأما حكمه :فإعلم ما هو الصل في هذا الكتاب ،وهو أن هنأ شيئاين :
أحدهما :حكم الشرع وظاهره .والثاني :حكم الورع وحقه .فحكم الشرع أن تأخذ مما آتاك ا ممن ظاهره صلح ،ول تسأل
إل أن يتبيين لك أنه عصب أو حرام بعينه ،وحكم الورع أن تأخذ من أحد شيئاا ل حتى تبحث عنه غاية البحث فتتيقن أن ل شبهة
بحال وإل فترده .فإن قلت :فكان الورع يخالف الشرع وحكمه فأعلم أن الورع من الشرع أيضا ل وكلهما واحد في الصل ،ولكن
للشرع حكمان حكم الجواز وحكم الفضل الحوط فالجائاز نقول له حكم الشرع والفضل والحوط نقول له ورع واللع تعالى أعلم
.
وأما حد فضول الحلل :فإعلم أن أحوال المباح في الجملة أقسام :
القسم الل :أن يأخذ العبد مفاخرال مكاثرال مرائايا ل فهذا يستوجب على ظاهرة فعله اللوم وعلى باطنه عذاب النار ،لن ذلك القصد
منه معصية وقد وقع الوعيد لمن قصده .
القسم الثاني :أن يأخذ الحلل لشهوة نفسه فذلك منه شيء يوجب الحبس والحساب.
القسم الثالث :أن يأخذ من الحلل في حال العذرقدرال يستعيين به على عبادة ربه سبحانه وتعالى ويقتصر عليه فذلك منه حسنه
وأدب ،ول حساب عليه ول عتاب بل يستوجب به الجر والمدح ،وا تعالى أعلم .
صفحة 153
الباب العشرون
في بيان معرفة حيل الشيطان ومخادعاته
قال رحمه ا تعالى ورضى عنه :أما معرفة الحيل والمخادعات من الشيطان مع إبن آدم في الطاعات فهي من سبعة أوجه:
أحدهما :أنه ينهاه عن الطاعات فإن عصمه ا منه أمره بالتسويف فإن سلمه ا منه أمره بالعجلة فإن نجاه ا منه أمره بإتمام
العمل مراءاة فإن حفظه ا تعالى منه أدخل عليه لعجب ،فإن رأس منه ا تعالى عليه أمره بالجتهاد في السر وقال له إن ا
تعالى سيظهره عليك يريد بذلك جريان الرياء فإن أكتفى بعلم ا تعالى نجا منه ،فإن لم يطعمه في شيئ من ذلك كله وعجز عنه
وقال له ل حاجة لك إلى هذا العمل لنك إن خلقت سعيدال لم يضرك ترك العمل ،وإن خلقت شقيا ل لم ينفعك فعله ،فإن عصمه ا
تعالى منه ،وقال له :أنا عبدوعلى العبد إمتثال أمر سيده ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد نجا منه بتوفيق ا تعالى وإل هلك .
فصل في الحذر من النفس
قال رحمه ا تعالى ورضى عنه :العائاق الرابع النفس ثم عليك بالحذر من هذه ا لنفس فإنها أضر العداء وعلجها أعسر الشياء
لنها عدو من داخل ،واللص إذا كان من أهل البيت عزت الحيلة فيه وعظم ضرره ولنها أيضا ل عدو محبوب والنسان عم عن
عيب محبوبه ل يكاد يرى عيبه ول يبصره ،ثم الحيلة في أمرها أن تلجمها بالجام التقوى ولورع ليحصل لك الفائادة المتثال
والنتهاء وأعلم أنه ل يذل النفس ويكسر هواها إل ثلثة أشياء :
الول :منعها عن شهوتها .
الثاني :حمل أثقال العبادات عليها .
الثالث :الستعانة بال تعالى والتضرع إليه وإل فل يخلص من شرها إل بها سبحانه وتعالى.
فصل في بيان ما يواخذ العبد به من أعمال القلب
وما ل يؤاخذ به
أعلم :أن ها هنا أربعة أحوال للقلب قبل العمل بالجوارح .
صفحة 154
أحدهما :الخاطر وهو حديث النفس ثم الميل ثم العتقاد ثم الهم .فأما الخاطر :فل يواخذ به لنه ل يدخل تحت الختيار ،وكذلك
الميل وهيجان شهوة النفس ،لنهما ل يدخلن تحت الختبار ،أيضا ل وهما المراد بقوله صلى ا عليه وسلم " عفا ا لمتي ما
حدثت به أنفسها" فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ول يتبعها عزم على الفعل .فأما الهم والعزم فل
يسميان حديث النفس.
وأما الثالث :وهو لعتقاد ،وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن يكون إضطراريا ل أو إختبارال والحوال تختلف فيه
.فالختياريِ منه يواخذ به والضطراريِ ل يواخذ به .
ل ل
وأما الرابع :وهو الهم بالفعل ،فإنه يواخذ به إل إن لم يفعل نظر فإن تركه خوفا من ا تعالى زندما على همه كنب له حسنة ،
وإن تعوق الفعل بعائاق أو تركه ل خوفا ل من ا تعالى كتب عليه سيئاة ،فإن همه فعل من القلب إختياريِ والدليل القاطع فيه :ما
روىعن سيدنا ومولنا رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال " :إذا ألتقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل :يا
رسول ا هذا القاتل فما المقتول ؟ قال " لنه أراد قتل صاحبه" وهذا نص في إنه صار من أهل النار بمجرد الرادة مع قتل
مظلوما ل فكيف يظن أنه ل يواخذ بالنية والهم كلما دخل تحت إختيار القلب فإنه مواخذ به إل أن يكفره بحسنة ونقض العزم بالندم
حسنة ،فلذلك كتبت حسنة وأما فوات المراد بعائاق فليس بحسنة.
الباب الحاديِ والعشرون
في بيان ما يجب رعايته من حقوق ا تعالى وهو ضربان
الول :فعل الواجبات
والثاني :ترك المحرمات ففعل كل واجب تقوى وترك كل محرم تقوى فمن لتى بخصلة منها فقد وفى في نفسه بها ما رتب على
تركها من شر الدنيا والخرة مع ما يحصل له من نعيم الجنان ورضا الرحمن.
وأعلم :أنه ل يتقرب إلى ا تعالى إل بطاعته وطاعته فعل واجب أو مندوب وترك محرم أو مكروه ،فمن تقواه تقديم ما قدم ا
تعالى من الواجبات على المندوبات ،وتقديم ما قدمه من إجتناب المحارم المحرامات على ترك المكروهات ما يفعله الجاهلون
الذين يظنون أنهم إلى ا متقربون وهم منه متباعدون فيضع أحدهم الوجبات حفظا ل للمندوبات ،ويرتكب المحرمات تصونا ل على
ترك المكروهات .فكم من مقيم على صور الطاعات مع إنطواء قلبه على الرياء والغل والحسد والكبر والعجاب بالعمل
والدلل على ا تعالى بالطاعات ،والتقوى قسمان أحدهما متعلق بالقلوب وهو قسمان :
صفحة 155
الول :واجب كأخلص العمل و اليمان.
و الثاني :محرم كالرياء و تعظيم الوثان .والثاني منها :متعلق بالعضاء الظاهرة كنظر العين .وبطش اليديِ ومشى الرجل
ونطق اللسان .واعلم أنه أذا صحت التقوى أثمر الورع و الورع ترك ما ل بأس به خوفا من الوقوع فيما به بأس ،وا تعالى
أعلم.
فصل
اعلم :ان خيرات الدنيا و الخرة قد جمعت تحت خصلة واحدة وهى التقوى ،وتأمل مافي القرآن من ذكرها كم علق بها من خير
وكم وعد عليها من ثواب وكم أضاف اليها من سعادة .ثم أعلم أن الذيِ يختص به هذا الشأن من أمر العبادة ثلثة أصول :
الول :التوفيق و التأييد أول حتى تعمل وهو للمتقين ،كما قال ا تعالى )) :أنا ا مع الذين اتقوا (( .
و الثاني :أصلح العمل و اتمام التقصير حتى يتم وهو للمتقين ،كما قال ا تعالى )) :يصلح لكم أعمالكم (( .الحزاب . 81:
و الثالث :قبول العمل اذا تم وهو للمتقين ،كما قال ا تعالى )) :انما يتقبل ا من المتقين (( المائادة .27:ومدار العبادة على
هذه الصول الثلثة التوفيق و الصلح والقبول .وقد وعد ا تعالى ذللك كله على التقوى و أ:رم به المتقى سأل أو لم يسأل
فالتقوى هي الغاية التي ل متجاوز عنها و ل مقصد دونها .
ثم أعلم ان حد التقوى في قول شيوخنا :هو تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق عنهك مثله حتى يجعل العبد من قوة العزم على تركها
وقاية بينه وبين العاصي .فأذا وطن قلبه على ذلك فيحنئاذ يوصف بأنه متق ،ويقال لذللك التوبة و العزم تقوى .
ثم أعلم أن منازل التقوى ثلثة :تقوى عن الشرك ،وتقوى عن البدع ،وتقوى عن المعاصي الفرعية ،ثم شرور ضربان أصلى
وهو مانهى عنه تأديبا كالمعاصي المحضة ،وشيء غير أصلى وهو ما نهى عنه تأديبا وهي فضول الحلل كالمباحات المأخوذة
بالشهوات .فالولى :تقوى فرض يلزم بتركها عذاب .والثانية :تقوى خير وادب يلزوم بتركها الحبس و الحساب و اللوم .فمن
أتى الولى فهو في الدرجة الولى من التقوى وتلك منزلة مستقيم الطاعة ،ومن أتى الثانية :فهو الدرجة العليا من التقوى فأذا
جمع العبد اجتناب كل معصية وفضول ،فقد استكمل معنى التقوى و هو الورع الكامل الذيِ هو ملك أمر الدين .وأما الذيِ ل بد
منه هاهنا فهو مراعاة العضاء الخمسة فإنهن الصول وهي :العين والذن واللسان والبطن والقلب .فليحرص عليها بالصيانة لها
عن كل ما يخاف منه ضررال
صفحة 156
من حرام و فضول و اسراف من حلل ،فأذا حصلت صيانة هذه العضاء فترجو أن تكفى سائار أركانه وتكون قد قمت بحق
التقوى بجميع بدنك ا تعالى .
واعلم أن علماء الخرة رضى ا عنهم أجمعين قد ذكروا فيما يحتاج اليه العبد من هذا المر سبعين خصلة محمودة في اضدادها
المذمومة ،ثم الفعال و المساعي الواجبة المحظورة نحو ذلك فنظرنا في الصول التي ل بد من ذكرها في علج القلب ،و ل
غنية عنها البتة في شأن العبادة فرأينا أربعة أمور وهو أفات المجتهدين وفتن القلوب تعوق وتشين وتفسد ،وأربعة في مقابلتها فيها
قوام العباد و انتظام العبادة واصلح القلوب .والفات البع الول :المل و الستعجال و الحسد والكبر .و المناقب الربع :
قصر المل و التأني في المور و النصيحة للخلق و التواضع و الخشوع .فهذه هي الصول في علج القلوب وفسادها ،فابذل
المجهود في التحرز من هذه الفات و التحصيل لهذه المتاقب تكفى المؤنة و تظفر بالمقصود ان شاء ا تعالى .
فاما طول المل :فانه العائاق عن كل خير ،وطاعة الجالب لكل شر وفتنته الذيِ يوقع الخلق في جميع البليات .واعلم انه طال
أملك هاج لك من أربعة اشياء :
الول :ترك الطاعة و الكسل تقول :سوف أفعل .
والثاني :ترك التوبة و تسويفها تقول :سوف أتوب
و الثالث :يجرك الى الرغبة في الدنيا و الحرص عليها تقول :ايِ شي أكل و البس فتهتم لها و أقل مافي الباب أنه يشتغل قلبك
ويضيع عليك وقتك ويكثر عليك همك .
و الرابع :القسوة في القلب و النسيان للخرة ،لنك اذا أملت العيش الطويل ل تذكر الخرة بل ل تذكر الموت و ل القبر ،فأذا
يصير فكرك في الدنيا فيقسو قلبك من ذلك كما قال ا تعالى )) :فطال عليهم المد فقست قلوبهم (( .الحديد . 16:وانما رقة
القلب وصفوه بذكر الموت و القبر و أحوال الخرة .
و أما حد كول المل ،فقال العلماء :هو أرادة الحياة للوقت المتراخى بالحكم ،وقصر المل ترك الحكم فيه بقيده بالستثناء بمشيئاة
ا ا تعالى وعلمه في الذكر أو بشرط اصلح في الرادة .فاذا ذكرت حياتك بأنك تعيش بعد نفس أو ساعة ثانية بالحكم و القطع
فأنت أمل ة ذلك منك معصية اذ هو حكم على الغيب ،فأن قيدته بالمشيئاة و العلم ل تعالى بأن تقول :أعيش ان شاء ا تعالى ،فقد
خرجت عن حكم المل ووصفت بقصر المل من حيث تركت الحكم فيه ،و المراد بالذكر ذكر القلب ثو المراد منه توطين القلب
على ذلك و التثبيت للقلب عليه ،فافهمه راشدا ،ثم المل ضربان :أمل العامة و أمل الخاصة .فأمل
صفحة 157
العامة :هو ان يريد البقاء لجمع الدنيا و التمتع بها .فهذه معصية وضدها قصر المل .
وأمل الخاصة :هو انه يريد البقاء لتمام عمل خير فيه خطر ،وهو ما ل يستقين الصلح له فيه .فانه ربما يكون خير معين ل
يكون للعبد فيه أو في اتمامه صلح بل يقع في انه ل يقوم بهذا الخير ،فاذا ليس للعبد ابتداء في صلة أو صوم او غيرهما أن يحكم
بأن يتمه اذ هو غيب ول ان يقصد ذلك قطعا ،بل يفيد يقيده بالستثناء وشرط الصلح ليتخلص من عيب المل وضد ذا المل فيما
قال اللعلماء :النية المحمودة لن الناوى بالنية المحمودة يكون ممتنعا من المل فهذا حكمه ،واما النية المحمودة :فهى الصل
الصيل وقذ ذكروا في حدها الجامع التام أنها أرادة أخذ عمل مبتدأ به قبل سائار العمال بالحكم مع ارادة اتمامه بالتفويض و
الستثناء .
فان قيل :لم جاز الحكم في البتداء ووجب التفويض و الستثناء في التمام ؟ فيقال :لفقد الخطر في البتداء اذ هو الحال البتداء
ليس بشيء متزاح عنك ولثبوت الخطر في التمام ،لنه يقع في وقت متزاخ ،ففيه خطران :خطر الوصول لنك ل تدريِ هل لك
في ذلك صلح أم ل .فاذا حصلت الرادة على هذه الشروط تكون حينئاذ نيه محمودة مخرجة عن حكم المل و افاته ،و ا
تعالى أعلم .
واعلم ان حصن تقصير المل هو ذكر هجوم الموت واخذه على غفلة و غرة فاحتفظ بهذه الجملة فان الحاجة ماسة اليها ودع منك
القيل و القال من غير طائال وا الموفق .و أما الستعجال و الترقي :فانه الخصلة المفوته للمقاصد الموقعة في المعاصي .
و أعلم أن الصل الصبادة وملكها الورع و الورع اصله النظر البالغ في كل شي و البحث التام عند كل شي هو بصدده من اكل و
الشرب ولبس وكلم و فعل .فــاذا كان الرجل مستعجل في المور غير متأن متثبت لم يقع منه نظر وتوقف في المور كما يجب
ويسارع الكل الى الكل كل الطعام فأنه يقع في الحرام و الشبهة و الى كل الكلم فانه يقع في الزلل و كذلك في كل امر يفوته
الورع و ايِ خير في عبادة بل ورع فحق على العبد ان يهتم لزالة هذ الفة وا الموفق .و ما حد العجلة :فهو المعنى الراتب في
القلب الباعث على القدام على المر بأول خاطر دون التوقف وضدها الناة وهي المعنى الراتب في القلب الباعث على الحتياط
في المور و التأنى في اتباعها و العمل بها .
وأما التوقف :فضدها التعسف و الفرق بين التوقف و التأنى ان التوقف يكون قبل الدخول في المر حتى يؤديِ الى كل جزء منه
حقه .
وأما الحسد :فهو المفسد للطاعات الباعث على الخطيئاات المورث للتعب والهم في غير فائادة ،بل مع كل وزر و الموجب عمى
القلب كفى بالحاسد اضلل وخسرانا انه عدو
صفحة 158
لنعمة ا تعالى ومعاند لرادته وساخط لقضائاه .واما حد الحسد :فهو أرادة زوال نعمة ا تعالى عن أخيك المسلم مما له في
صلح ،فانه لم ترد زوالها ولكن أردت لنفسك مثلها فهى غبطة ،فان لم يكن له فيها صلح فأردت زوالها عنه فذلك غيرة فهذا هو
الفرق بين الخصال .و أما الحسد :فالنصيحة وهي أرادة بقاء نعمة ا تعالى على أخيك المسلم
فيما له فيما صلح ،فان اشتبه عليك المر فل ترد زوال نعمة عن أحد من المسلمين ول بقاءها ال مقيدا بالتويفض الى ا تعالى
لتخلص من حكم الحسد تحصل لك فائادة النصيحة .أما حصن النصيحة المانع من الحسد :فهو ذكر ما اوجبه ا من موالة
المسلمين ،وحصن هذا الحصن هو ذكر ما عظم ا تعالى من حقه ورفع قدره وما له عند ا تعالى من الكرامات في العقبى وما
لك من الفوائاد الدينية الدنيوية دنيا و أخرى وا الموفق .وأما الكبر :فهو الخصلة المهلكة رأسا أما تسمع قول ا تعالى عن
ابليس )) :أبى و استكبر وكان من الكافرين (( البقرة . 34 :واما حد الكبر :فاعلم انه خاطر في رفع النفس و استعظامها و
التكبر اتباع ما ينافى التواضع و كل واحد منهما عام وخاص ،فالتواضع العام هو الكتفاء بالدون من الملبس و المسكن ومافي
معناها و التكبر في مقابلته الترفع عن ذلك وهو معصية كبيرة .
واعلم ان حصن التواضع العام هو ان تذكر مبدأك ومنتهاك ،وما انت عليه الن من ضروب الفات و القذار ،وحصن التواضع
الخاص وهو ذكر عقوبة العادل عن الحق فهذه جملة كافية كافية لمن استبصر وا تعالى الموفق .
الباب الثاني و العشرون في
بيان المعنى حقيقة حسن الخلق وسوئاه
اعلم ان السعادة كلها و الباقيات الصالحات أجمعها التى تبقى معك اذا غرقت سفينتك في شيئاين :الول :سلمة القلب وطهارته
من غير ا تعالى لقوله )) :ال من أتى ا بقلب سليم (( الشعراء . 89 :و الثاني :امتلء القلب بمعرفة ا تعالى التر هي
المقصودة من خلق العالــم وبعثه الرسل صلى ا عليهم وسلم ،وحسن الخلق :هو الجامع لهما ول أعلم خصلة تزيد عليه في
الفضل ،ولذلك امتدح ا تعالى به نبيه محمدا صلى ا عليه وسلم فقال ا تعالى )) :وانك لعلى خلق العظيم (( .القلم . 4:وقال
ا تعالى )) :اليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه (( .فاطر . 1 :و الكل الطيب هو التوحيد و المعرفة و العمل
الصالح هو الطهارة القلب الرافعة لقدر التوحيد و المعرفة ،ومعنى الرفعة
الصفحة رقم 159
ل ل
هو حضور القلب وتأثيره بهما لينقاد خضوعا ومسكنة ومهابة .فحينئاذ يكون قريبا من ا تعالى .فأما حقسقة حسن الخلق :فاعلم
أن للنسان صورة باطنة وهي التي بعثت النبياء عليهم السلم بتقويمها وتزكيتها وكمال إعتدالها وذلك أن تصدر عنها الخلق
المحمودة بسهولة بل روية ول فكر .وهذا هو معنى حقيقة حسن الخلق ،وسوء الخلق يكون بعكس ذلك .واعلم أن جملة
الخلق المحمودة والمذمومة تصدر عن ثلث صفات هن كالمهات :
الصفة الولى :العقل وقوته وإعتداله بالعلم والحكمة وحقيقة الحكمة معرفة الحق من الباطل في العتقادات والصدق من الكذب
في القوال والحسن من القبيح في الفعال.
الصفة الثانية :قوة الغضب الدافعة للضرر وهي خلقت لذلك فكمالها وإعتدالها أن تكون منقادة للحكمة أن أشارت الحكمة لها
بالسترسال أسترسلت أو بالنقباض إنقبضت كالكلب المعلم .
الصفة الثالثة :قوة الشهوة الجالبة للنفع وهي خلقت أيضا ل مطيعة للعقل فحسنها وإعتدالها في إذعانها للحكمة .وإعلم أن المطلوب
من الخلق العتدال والوقوف على وسط المور لقوله ) :ول تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط ( ) سورة
السراء (29فصار العدل من هذه الصفات الثلث ركنا ل رابعا ل .فأما مثال العتدال في الصفات فبحسبها وإعتدالها يصدر عنها
التدبير وجودة الذهن والتفطن لدقائاق العمال وخفايا آفات النفس ،وأما إفراطها فيصدر عنه المكر والخداع والدهاء وشبه ذلك ،
ومن تفريطها يصدر البله والغباوة والحمق والجنون .فأما الغباوة :فهي قلة التجربة والحمق صحة القصد مع فساد السلوك
والجنون فسادهما جميعا ل .وأما قوة الغضب :فلها إعتدال يسمى الشجاعة يصدر عنه الكرم والنجدة وكظم الغيظ والوفاء بالعهد ،
ولها إفراط يصدر عنه التكبر والعجب والستعاطة وشبه ذلك ،ولها تفريط يصدر عنه المهانة والذلة والجزع والنقباض مع
تناول الحق الواجب .وأما قوة الشهوة :فلها إعتدال يسمى العفة يصدر عنه السخاء والصبر ولورع والمساعدةوقلة الطمع ،ولها
إفراط يصدر عن الحرص والشره وشبههما ،ولها تفريط يصدر عنه الحسد والشماته والعتب وشبه ذلك فأمهات محاسن الخلق
الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والمكمل لكل واحدة من الثلث وما سوى ذلك فروع لهذه الربعة ،لم يبلغ كمال هذه الربع إل
سيدنا رسول ا صلى ا عليه وسلم وبال التوفيق .
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 160
فصل في بيان حد التواضع وحقيقته ونهايته وعلمته
وعلى الجملة فالتواضع متخلق بأخلق ا تعالى وكفى بها شرفا ل في الخرة وهو معنى قوله صلى ا عليه وسلم " :من تواضدع ل
رفدعاه ا" .فأما حد التواضع :فهو ضبط الحوال والختيار عن التفريط والفراط فل تتكبر ول تتخاسس .وأما حقيقته :فهو
الذل والذعان والنقياد للحق بسهولة والحق يطلق على ا تعالى وعلى أمره .وأما نهايته :فهو أن ل يحس بالذل إذا مدح ول
يتألم بالذم إذا ذم لعلمه بحكمة ا سبحانه وتعالى وتوحده بالفعال ،لن العبد ل يحس بالذل بين يديِ سيده وهذه طريقة الموحدين ،
لن المتواضع يرى لنفسه قدرال فيضعه والموحد ل يرى لنفسه قدرال حتى يضعه .فالمتواضع ضابط لفعاله الختيارية فل يتكبر
ول يتخاسس ،وإن جرى عليه ذل من غير اختياره ،وطريقة الولياء الرضى ووجدان اللذة ،لنه جرى بقدر ا تعالى وعلمه
وإرادته فهو ل يحس بالذل لقصور نظره على حكم ا تعالى وجميل فعله إنما يحس بالذل المتكبر الجاهل الغافل القاصر نظره
على فعل الفعال ،وكلما كان أكثر ذل كان أكثر كبرال .وأما العلماء بال تعالى فل يشهدون لغير ا ول يتهمونه في حكم من
الحكام ،بل يعرفون أن ذلك علمة كرامتهم.
وقد أشار بعض الئامة رحمهم ا تعالى إلى أن المعرفة ل توجد إل في قلوب المتواضعين الذين صار الذل صفتهم الذاتية فهم
بقدرة ا تعالى ونظره ينقلبون إن رفعوا إلى السماء لم يزدادوا في نفوسهم كمالل وإن خفضوا إلى منتهى الخفض لم يجدوا في
أنفسهم نقصا ل كذلك ،لنهم مسلوبوا الرادة والختيار لعلمهم أن الكمال المطلق فيما حكم ا تعالى وقضاء فيهم ،ولنهم يجدون
المزيد من ا تعالى في أحوالهم بذلك فهو رتب المقربين .وأما الصالحون فتواضعهم على قدر معرفتهم بنفسهم وربهم .وأما
علمة التواضع :فهو أ ،ل يأنف من الحق إذا أمر به ،فإن وجد في نفسه ألفة من ذلك فهو متكبر عن قبول الحق وذلك معصية
كبيرة ،وا تعالى أعلم.
الباب الثالث والعشرون
في بيان معنى الفكر ومقدماته ولواحقه
فمقدماته مساع وتيقظ وذكر ولواحقه العلم ،لن من سمع تيقظ ،ومن تيقظ تذكر ومن تذكر تفكر ،ومن تفكر علم ،ومن علم إن
كان علما ل يراد للعمل ،وإذ كان علما ل يراد لذاته سعد والسعادة غاية المطلب.
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 161
أما السماع :فحقيقته النتفاع بالمسموع من حكمه أو موعظة وما يضاهيهما ،وشرطه الستماع وهو الصغاء وهو واجب في
استماع كل علم هو فرض عين مدركه السمع ومستحب فيما سواه في العلوم المحمودة ويحرم فيما حرم الشارع من المحرمات
ويكره فيما يكره استماعه.
وأما اليقظة :فحقيقتها انتباه القلب للخير .وعلمة النتباه :القومة والنهوض عن ورطة الفترة والقومة واجبة على الفور في
الوامر والنواهي الفورية وهي متعلقة بكل مقام .
وأما التذكر :فهو تكرار المعارف على القلب لتثبت وترسخ.
وأما التفكر :فهو أ ،تجمع بين علمين مناسبين للعلم الذيِ أنت طالبه بشرط عدم الشك فيهما وفراغ القلب من غيرهما ويحدق النظر
فيهما تحديقا ل بالغا ل فلم يشعر إل وقد انتقل القلب من الميل الخسيس إلى الميل النفيس إحضارال لمعرفتين يسمى تذكرال والتذكر يتعلق
بالعقد والقول والفعل والترك وهو واجب فيما يجب تذكره ،ويحرم بتذكر المعاصي إن أدى إلى استجلبها .وحصول المعرفة
الثالثة المقصود من هاتين المعرفتين يسمى تفكرال ،والتفكر واجب عند الشك وعند ورود الشبهة وعند علج المراض الواجب
إزالتها من القلوب .
وأما العلم فيندرج في خمسة أقسام :
الول :من العلوم الواجبة علم أصول اليمان بال وملئاكته وكتبه ورسله واليوم الخر.
الثاني :علم العبادات المتعلقة بالبدان والموال.
الثالث :علم يتعلق بالحواس الخمس اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر.
الرابع :علم الخلق المذمومة الواجب إزالتها من القلب.
الخامس :علم الخلق المحمودة الواجبة ل تعالى على القلوب.
الباب الرابع والعشرون
في بيان معنى التوبة ويضاف إليها الفرار والنابة والخبات لنهن من ثمراتها
أما التوبة :فحقيقتها الرجوع من المعصية إلى الطاعة ،ومن الطريق البعيدة إلى الطريق القريبة وتنظيم من علم وحال وعمل.
وكذلك كل مقام فالعلم هو الصل الذيِ هو عقد من عقود اليمان بال تعالى أو ل تعالى ،والحال ما ينشأ عنها من المواجيد ،
والعمل هو ما تنشئاه المواجيد على القلوب والجوارح من العمال ن ويتقدم التوبة واجبان:
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 162
الواجب الول :معرفة الذنب المرجوع عنه أنه ذنب.
الواجب الثاني :أنه ل يستبد بالتوبة بنفسه ،لن ا تعالى هو خالقها في نفسها ومسير أسبابها ،وهو من اليمان تعالى لتعلقه
بالقدرة ،والثاني من اليمان له لتعلقه بأخباره.
وأما أركانها فأربعة :علم وندم وعزم وترك والقدر الواجب من الندم ما يحث على الترك.
وأما الفرار :فحقيقته الهرب من المعصية إلى الطاعة ،وهذا هو الفرار الواجب المبني على أصل اليمان ورجوع العبد من
الشواغل الملهية إلى ا تعالى ،ومن الحسن إلى الحسن هو أيضا توبة ورجوع ،وبه كمال السعادة في الخرة ،وهذا هو الفرار
الواجب المبني على كمال اليمان ،وعلى هذا فل نهاية لمراتب التوبة ومراقبها وهذا هو النابة لن حقيقة النابة تكرار الرجوع
إلى ا تعالى وإن لم يتقدمه ذنب.
وأما الخبات :فهو الذعان والنقياد للحق بسهولة .
واعلم أن التوبة تصح من كل ذنب ل دون ذنب ،وا تعالى أعلم.
الباب الخامس والعشرون
في بيان الصبر ويضاف إليه الرياضة والتهذيب لنهما من ثمراته
أما علمه :فهو تصديق ا تعالى فيما أخبرنا به من عداوة النفس والشيطان والشهوات للعقل والمعرفة والملك الملهم للخير ،وأن
القتال بينهم دائام فمن خذل جند الشيطان ونصر حزب ا أدخله جنته وهذا واجب لنه من اليمان بال تعالى ،وأما الحال الناشئ
عن هذا اليمان ،فهو ثبات باعث الهوى والقدر الواجب منه تقويته بالوعد والوعيد إلى أن يغلب حزب ا تعالى جند الشيطان "أل
إن حزب ا هم الغالبون".
وأما الرياضة :فهو تمرين النفس على الخير ونقلها من الخفيف إلى الثقيل باللطف والتدريج إلى أ ،يرتقى إلى حالة يصير ما كان
عنده من الحوال والعمال شاقا ل سهلل هينا ل .
وأما التهذيب :فهو امتحان النفس واختيار أحوالها في دعوى المقامات هل صدقت أو كذبت ،وعلمة اعتدال مقام الصبر أن
تصدر عنه العمال بسهولة بل مانع ول منازع .وا تعالى الموفق.
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 163
الباب السادس والعشرون
في الخوف ويضاف إليه الحزن والقبض والشفاق والخشوع
لنهن من أنواعه وكذلك الورع لنه من ثمراته
أما علمه :فهو مطالعة صفات اللوهية وتعلقها بالتقريب والبعاد والسعاد والشقاء من غير وسيلة ول سابقة ،وهذا الخوف يراد
لذاته ويجب اعتقاده لنه من اليمان بال تعالى ينتفع بهذا الخوف من أخرجته رؤية كثرة العمال إلى الذلل والمن من مكر ا
إذ ل يأمن من مكر ا إل القوم الخاسرون.
وأما الخوف المراد لغيره ،فهو قسمان أحدهما :خوف سلب النعمة وهو يحث على الدب ورؤية المنة .والثاني :خوف
العقوبات المرتبة على الجنايات ،والقدر الواجب منه ما يحث على ترك المحظورات وفعل الواجبات .وأما حاله ،فهو تألم القلب
وانزعاجه بسبب توقع مكروه أو على فائات .فإن كان محمودين كان له حكمهما في الوجوب والستحباب ،وان كانا مكروهين له
حكمهما في الحظر والكرامة.
وأما حقيقة القبض :فهو يطرق القلب تارة يعلم سببه فحكمه حكم الحزن ،وما لم يعلم سببه فهو عقوبة للمريدين لسبب إفراطهم في
البسط.
وأما حقيقة الشفاق :فهو اتخاذ الخوف بالرجاء واعتدالهما ،وأما حقيقة الخشوع فهو سكون القلب والجوارح وعدم حركتهما لما
عاين القلب من عظيم أو مفزع.
وأما حقيقة الورع :فهو مجانبة الشيء حذرا من ضرورة ،وا تعالى أعلم.
الباب السابع والعشرون
في بيان الرجاء ويضاف إليه الرغبة ،لنها من أنواعه وكذلك البسط لنه من ثمراته
أما علمه :فهو أيضا ل مطالعة الصفات القديمة التي يصدر عنها كل ما ساء وسر ونقع وضر ،فمن عرف هذا من صفاته خافه
ورجاه وهذا هو الرجاء المقصود لذاته ،لنه ل يتوقع بحسنة ول يندفع بسيئاة إنما ينشأ عن فضل ا تعالى لمن سبقت له السعادة ،
ويندفع بهذا الرجاء من أخرجه الخوف إلى القنوط.
وأما الرجاء والمراد لغيره :فهو ما يحث على تكثير الطاعات ،فإن لم يحث على تكثير الطاعات كان تمنيا ل ،لن حقيقة الرجاء
هو ارتياح القلب وانشراحه لنتظار محبوب تقدمت أسبابه.
وأما الرغبة :فهي استيلء هذا الحال على قلب الراجي حتى كأنه يشاهد به المأمول فهي كمال الرجاء ومنتهى حقيقته.
وأما البسط :فهو انشراح القلب وانفتاح طريق الهدى له بروح الرجاء.
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 164
الباب الثامن والعشرون
في بيان الفقر ولواحقه التبتل والفناء والتجريد
أما الفقر :فهو الفقد والحتياج ،ولكن الحتياج على ضربين :مطلق ومقيد .
أما المطلق :فهو احتياج العبد إلى العبد إلى موجد يوجده وإلى بقاء بعد اليجاد وإلى هداية إلى موجده وهذا هو الفقر إلى ا تعالى
،لن ا هو موجده ومبقيه وهاديه إليه وهذا الفقر واجب لنه من اليمان بال ول.
وأما الحال الذيِ ينشأ عن هذه المعرفة :فهو شهود العبد لفقره وحاجته إلى ا تعالى على الدوام.
وأما الحتياج المقيد :فهو احتياج العبد إلى الوسائال التي تقوم بها ذاته ويستعان على تحصيلها بالمال هو المفقود المحتاج إليه ،
فالفقر المطلق يراد لذاته لتعلقه بال تعالى ،والمقيد يراد لغيره وهو التبتل والنقطاع إلى ا وهما الوسيلة للغنى بال تعالى وهو
تعلق القلب به سبحانه وتعالى ،والغنى بال تعالى وسيلة إلى تجريده عما سوى ا تعالى ،ول يجب من التجريد إل اعتقاد تجريد
القديم عن الحادث ،وا تعالى أعلم.
الباب التاسع والعشرون
في بيان الزهد ويضاف إليه اليثار والفتوة لنهما من أخلقه وكذلك مقام المراد ،لنه من مواريثه
أما العلم الذيِ هو سبب الزهد في الدنيا :فهو اليمان ل تعالى وهو قوله تعالى } :بل تؤثرون الحياة الدنيا ) (16والخرة خير
وأبقى { ]العلى . [ 17، 16:وأما سبب الزهد فيما سوى ا تعالى من نعيم الجنة وغيرها ،فهو إضافة حقارة الوجود إلى ا
تعالى وكماله ،وهذا هو الزهد المراد لذاته وهو من اليمان بال تعالى لتعلقه بالجلل والكمال ،والزهد الذيِ قبله مراد لغيره وهو
فراغ القلب لهذه المعرفة ،والقدر الواجب من الزهد المراد لغيره ما يحث على الفراغ لوقات الواجبات والزهد ل يتعلق إل
بالمباح .ومن شرطه أن يكون مقدورا عليه.
وأما ثمرته :فهو اليثار وهو أعلى درجات السخاء ،لن السخاء هو بذل ما ل يحتاج إليه سمحا ل ل تكلفا ،واليثار هو بذل ما هو
محتاج إليه سمحا ل بغير عوض ول غرض إل لتخلقه بأخلق ا سبحانه وتعالى.
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 165
وأما الفتوة :فهي ترجع إلى أخلق المروءة ،فمن قام بواجب الشرع وواجب المروءة فهو الفتى ،ومن شارك أبناء الدنيا فيما هم
فيه فل فتوة له ول مروءة .وأما مقام المراد ،فهو الذيِ وقف على حقيقة المر بغير منازع ول مدافع ولم يشغله عن ا تعالى
شيء وا أعلم.
الباب الثلثون
في بيان المحاسبة ولواحقها العتصام والستقامة لنهما الثمرة المقصودة
اما المحاسبة فحقيقتها تفقد ما مضى وما يستقبل وهي واجبة بإجماع المة .أما العلم الحامل عليها :فهو اليمان بمحاسبة ا
تعالى .وهذه المحاسبة توجب العتصام والفرق بين العتصام والستقامة أن العتصام هو التمسك بكتاب ا تعالى والحفظ
لحدوده والستقامة هي الثبات والعتدال عن الميل إلى طرفي المر المعتصم به والستقامة مرادة لذاتها ولغيرها .أما كونها
لذاتها فلنها وسيلة إلى الدخول في مقام الجمع من واديِ التفرقة ،وا أعلم.
الباب الحاديِ والثلثون
في بيان الشكر ،ولواحقه السرور ،لنه من أحواله والحكمة لنها من أعماله
أما العلم الذيِ هو سبب الشكر :فهو أن تعلم أن النعم كلها من ا تعالى وحده .وهذا واجب ،لنه من اليمان بال تعالى قال ا
تعالى { :وما بكم من نعمة فمن ا }]النحل . [ 53:وشكر المنعم واجب وهو من اليمان .وأما الحال الناشئ عن هذا العلم فهو
الفرح والسرور بأنعم ا فهذا الفرح شكر بنفسه ،لنه مراد لذاته وهو واجب لنه من اليمان بال تعالى وهو ثمرة اليمان بال
تعالى .وأما عمل الشكر :مراد لذاته ولغيره أما كونه مرادال لذاته فلن العمل باستعمال النعمة فيما خلقت له من تمام الحكمة .أما
كونه مرادال لغيره فلحفظ النعم الموجودة والزيادة عليها .وعلى الجملة ،فالشكر هو استعمال النعمة فيما خلقت له فمن اعتدلت له
أحواله حتى وضع كل شيء موضعه كان حكيما ل لن الحكمة وضع كل شيء محله علما ل كان أو عملل وبال التوفيق.
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 166
الباب الثاني والثلثون
في بيان التوكل ولواحقه التفويض والتسليم والثقة والرضا لنهن من آدابه
أما العلم الحامل على التوكل :فهو أن تعلم أن ا قائام بنفسه وأنه مقيم لغيره ،ثم تعلم سعة علمه وحكمته وكمال قدرته.
وأما الحال الناشئ عن هذا العلم :فهو اعتماد القلب على ا تعالى وسكونه ،وعدم اضطرابه لتعلقه بال تعالى ،ول يجب على
من علم التوكل وحاله إل ما يكف عن السباب المحظورة .والتوكل مع شرفة منخفض الرتبة عن التفويض والتسليم ،لن غايته
طلب جلب النفع ودفع الضر ،والتفويض والتسليم حقيقتهما النقياد والذعان للمر وترك الختيار في جملة ما حكم ا تعالى به.
وأما الثقة :فمعناها الربط على القلب وعدم النفصام على ما حواه من التصديقات وهي حاله مكملة لجميع المقامات والحوال.
وأما الرضا :فإنما يكون بعد المقضى به ،والتفويض والتسليم يكون قبل المضي به والقدر الواجب من الرضا هو أن يكون
راضيا ل بعقله وأن يكون راضيا بعقله وان يكون كارها ل بطبعه ،لن الكراهية ل تدخل تحت اختيار العبد ،فمن كره بعقله شيئاا ل مما
امتحن ا تعالى به عباده في الدنيا والخرة أو شكا بلسانه آثم وخرج عن واجب الرضا وبال التوفيق.
الباب الثالث والثلثون
في بيان النية ويضاف إليها القصد والعزم والرادة لنهن من توابعها
فأما النية :فهي الوسيلة بعد اليمان إلى السعادة العظمى في الولى والعقبى ،فإذا عرفت هذا وجب عليك فهم حقيقتها أو تحصينها
مما يشوبها من الخطوط الدنيوية وجوبا ل وعن الغراض والعواض الخروية استحبابا ل .فأما النية :فهي عبارة عن تميز
الغراض بعضها عن بعض فأما القصد :فهو جمع الهمة نحو الغرض المطلوب والعزم هو تقوية القصد وتنشيطه ،والرادة
تصرف الموانع المثبطة.
الباب الرابع والثلثون
في بيان الصدق ويضاف إليه النفصال والتصال والتحقيق والتفريد لنهن من علماته
اما الصدق في حق ا تعالى ،فهو وصف ذاتي راجع إلى معنى كلمه.
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 167
وأما الصدق في وصف العبد :فهو استواء السر والعلنية والظاهر والباطن ،وبالصدق يتحقق جميع المقامات والحوال حتى أن
الخلص مع جللته يفتقر إلى الصدق والصدق ل يفتقر إلى شيء ،لن حقيقة الخلص في العبادة هو إرادة ا تعالى بالطاعة ،
فقد يراد ا تعالى بالصلة مثلل ولكنه غافل من حضور القلب فيها والصدق هو إرادة ا تعالى بالعبادة ،مع حضوره مع ا
تعالى فكل صادق مخلص وليس كل مخلص صادقا ل .وهذا معنى النفصال والتصال ،لنه انفصل عن غير ا تعالى واتصل
بالحضور بال تعالى.
وأما التحقيق :فهو تمييز المقامات والحوال بعضها من بعض وتخليصها من الغيار والشوائاب .
وأما التفريد :فهو وقوف العبد مع ا تعالى بل علم ول حال لشهوده تفرد ا تعالى بإيجاد كل موجود وشمول قدرته كل مقدور.
الباب الخامس والثلثون
في بيان الرضا
قال الحارث :الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم ،وقال ذو النون :الرضا سرور القلب بمر القضاء .وقال رسول ا صلى
ا عليه وسلم " :ذاق طعم اليمان من رضا بال ربا" وقال عليه السلم " :إن ا بحكمته جعل الروح في الرضا واليقين ،وجعل
الهم والحزن في الشك والسخط" .وقال الجنيد :الرضا هو صحة العلم الواصل إلى القلوب ،فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى
الرضا ،وليس الرضا والمحبة كالخوف والرجاء فإنهما حالن ل يفارقان العبد في الدنيا والخرة ،لنه في الجنة ل يستغنى عن
الرضا والمحبة .وقال ابن عطاء :الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار ا تعالى للعبد أنه اختار له الفضل فيرضى له وهو ترك
السخط ،وقال ابو تراب :ليس ينال الرضا من ا من الدنيا في قلبه مقدار .وقال سرى :خمس من أخلق المقربين الرضا عن
ا تعالى ،فيما تحب وتكره والحيلة بالتحبب إليه ،والحياء من ا تعالى ،والنس به ،والوحشة فيما سواه .وقال الفضيل الرضا
أن ل يتمنى فوق منزلته شيئاا ل ،وقال ابن سمعون :الرضا بالحق والرضا به والرضا عنه الرضا به مدبرا ومختارال والرضا عنه
قاسما ل ومعطيا ل ،والرضا له إلها وربا ل.
ل ل ل ل
سئال أبو سعيد :هل يجوز أن يكون راضيا ساخطا ؟ قال :نعم يجوز أ ،يكون راضيا عن ربه ساخطا على نفسه وعلى كل قاطع
يقطعه عن ا تعالى.
وقال بعضهم للحسن بن علي رضي ا عنهما إن أبا ذر يقول :الفقر أحب إلي من
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 168
الغنى ،والسقم أحب إلي من الصحة .فقال :رحم ا أبا ذر .أما أنا فأقول من اتكل على حسن اختيار ا تعالى له لم يتمن أنه في
غير الحالة التي اختارها ا.
وقال علي عليه السلم :من جلس على بساط السؤال لم يرض عن ا في كل حال ،وقال :الشلبي :بين يديِ الجنيد :ل حول ول
قوة إل بال قال قولك هذا إذا ضيق صدر فقال :صدقت فقال :ضيق الصدر ترك الرضا بالقضاء ،وهذا قاله الجنيد تنبيها منه
على أصل الرضا ،وذلك لن الرضا يحصل لنشراح القلب وانفساحه وانشراح القلب من نور اليقين ،فإذا تمكن النور من الباطن
اتسع الصدر وانفتح عين البصيرة وعاين حسن تدبير ا تعالى فينتزع السخط والضجر ،لن انشراح القلب يتضمن حلوة الحب
وفعل المحبوب بوقوع الرضا عند المحب الصادق ،لن المحب يرى أن الفعل من المحبوب مراده .كما قيل :وكل ما يفعل
المحبوب محبوب فالقوم يكرهون خدمة الغيار ويأبون مخالطتهم أيضا .فإن من ل يحب طريقهم ربما استضر بالنظر إليهم أكثر
مما ينتفع بهم.
ورد في الخبر :المؤمن مرآة المؤمن .فأيِ وقت ظهر من أحدهم أثر التفرقة نافروه ،لن التفرقة تظهر بظهور النفوس وظهور
النفوس من تضييع حق الوقت .فأيِ وقت ظهرت نفس الفقير علموا خروجه من دائارة الجمعية وحكموا له بتضييع حكم الوقت
وإهمال السياسة وحسن الرعاية فيعاد بالمناقشة إلى دائارة الجمعية.
الباب السادس والثلثون
في بيان النهي عن الغيبة
قال ا عز وجل {أيحب أحدكم أ ،يأكل لحم أخيه ميتا } ]الحجرات [ 12 :وعن أبي هريرة رضي ا عنه :أن رجلل كان عند
رسول ا صلى ا عليه وسلم فقام النبي صلى ا عليه وسلم ولم يقم الرجل ،فقال بعض القوم :ما أعجز فلنا ل ،فقال " :أكلتم
لحم أخيكم واغتبتموه" .
وقيل :أوحى ا تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلم " :من مات تائابا ل من الغيبة فهو آخر رجل يدخل الجنة ،ومن مات
مصرال عليها فهو أول من يدخل النار "
ل
وقيل :دعى ابراهيم بن أدهم إلى دعوة فحضر فذكروا رجل لم يأتهم بالغيبة .فقال ابراهيم :إنما فعل بي هذا نفسي حيث حضرت
موضعا ل يغتاب فيه الناس فخرج ولم يأكل ثلثة أيام.
وقيل :مثل الذيِ يغتاب الناس كمثل من نصب منجنيقا ل يرمي به حسناته شرقا ل وغربا ل.
وقيل :يؤتى العبد يوم القيامة كتابه فل يرى فيه حسنة فيقول :أين صلتي وصيامي
مجموعة رسائال المام الغزالي ص 168
وطاعتي ؟ فيقال :ذهب عملك باغتيابك الناس ،وقيل :من اغتيب بغيبة غفر ا له نصف ذنوبه.
وقيل :يعطى الرجل كتابه بيمينه فيرى فيه حسنات لم يعلمها ،فيقال :هذا بما اغتابك الناس وأنت لم تشعر .وقيل للحسن البصريِ
:إ ،فلنا ل اغتابك فبعث إليه طبقا ل فيه حلوى وقال :بلغني أنك أهديت إلى حسناتك فكافأتك.
وعن الجنيد قال :كنت ببغداد في مكان أنتظر جنازة أصلي عليها فلقيت فقيرال عليه أثر النسك يسأل الناس ،فقلت في نفسي /لو
عمل هذا عملل به يصون نفسه كان أجمل به .فلما انصرفت إلى منزلي وكان لي شيء من الورد بالليل فلما قضيته ونمت رأيت
ذلك الفقير جاءوا به على خوان ممدود ،وقالوا لي :كل لحمة فقد اغتبته فكشف لي عن الحال ،فقلت :ما اغتبته إنما قلت في
نفسي .فقيل :ما أنت ممن يرضى منك بمثله اذهب واستحلله فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته يلتقط من الماء أوراقا ل من البقل
مما يتساقط من غسل البقل ،فسلمت عليه ،فقال :يأ أبا القاسم تعود ؟ فقلت :ل فقال :غفر ا لنا ولك.
الباب السابع والثلثون
في بيان الفتوة
الفتى من تخلى عن تدبير نفسه وماله وولده ووهب الكل لمن له الكل بل ليس له ما يهب فإنها ذهبت في قوله تعالى { إن ا اشترى
من المؤمنين أ،فسهم وأموالهم } ]التوبة . [ 111:تخلق بقوله تعالى { :إن ا يأمر بالعدل والحسان} ]النحل . [ 90:ما ترك
العدل والحسان من طاعة ا تعالى شيئاا ل إل جمعه ،وما ترك الفحشاء والمنكر من معصية ا تعالى شيئاا ل إل جمعه .فتوة العامة
بالموال ،وفتوة الخاصة بالموال والفعال ،وفتوة خاص اخواص بهما والحوال ،وفتوة النبياء بهما والسرار ،وهو الذيِ
ليس في باطنه دعوى ول في ظاهره تصنع ومراءاة ،وسره الذيِ بينه وبين ا تعالى ل يطلع عليه صدره ،فكيف الخلق .ومن
شأن الفتى النظر إلى الخلق بعين الرضى وإلى نفسه بعين السخط ومعرفة حقوق من هو فوقه ومثله ودونه ول يتعرض لخوانه
بزلة أو حقرة أو كذب ،وينظر إلى الخلق كأنهم أولياء غير مستقبح منهم إل ما خالف الشرع مع أن ذلك ينسبه إلى الشيطان ذنبا ل
ل إلى أخيه المسلم .فكيف إلى ا عز وجل مع أنه يغيره بيده ،فإن لم يستطع فبقلبه والياس من الخلق وترك السؤال والتعريض
وكتمان الفقر وإظهار الغنى وترك الدعوى وكتمان المعنى واحتمال الذى ،وأ ،يؤثر مراد غيره على هواه خلقا ل وفعلل ،وأن ل
يزال في
صفحة 170
حاجة غيره ويعطي بل امتنان ول يطالب أحدال بواجب حقه ويطالب نفسه بحقوق الناس ويرى الفضل لهم ويلزم نفسه التقصير في
جميع ما بأتي به ،ول يستنكر ما يأتي به ،ومن شأن الفتى ترك كل ما للنفس فيه حظ ،ويستويِ عنده المدح والذم من العامة ،ومن
شأنه الصدق والوفاء والسخاء والحياء وحسن الخلق وكرم النفس وملطفة الخوان ومجانبة سماع القبيح من الصدقاء ،وكرم
العهد بالوفاء والتباعد عن الحقد والحسد والغش ،ومن شأنه الحب والبغض في ا والتوسعة على الخوان من ماله وجاهه إن
أمكنه .وترك المتنان عليهم بذلك وصحبة الخيار ومجانبة الشرار ،ويكون خصما ل على نفسه لربه وا يكون له خصما ل غيرها
فيجتهد في كسر هواها ،لنه قيل :الفتى من كسر الصنام وهي صنم النسان.
ومن شأن الفتى أن ل ينافر فقيرال لفقره ،ول يعارض غنيا ل لغناه ،ويعرض عن الكونين ،ويستويِ عنده المقيم والطارئ ،ومن
يعرف ومن ل يعرف ،ول تمييز بين الولي والكافر من جهة الكل ،ول يدخر ول يعتذر ويظهر النعمة ويسر المحبة وإذا كان في
عشرة فل يتغير إن كان ما أتى به عشيره أقل أو أكثر ،وأن ل يحمير وجه أحد فيما لم يندبه الشرع إليه .ول يربح على صديق وما
خرج عنه ل يرجع فيه وإن أعطي شكر وإن منع صبر ،بل إن أعطي آثر وإن منع شكر الفتوة أن ل يشتغل بالخلق عن الحق،
وفتوة العارف بمعروفه ،وفتوة غيره بمعتاده ومألوفه.
فصل في السخاء
السخاء :تقديم حظوظ الخوان على حظك مطلقا ل دنيويا ل وأخرويا ل والمبادرة إلى العطاء قبل السؤال وترك المتنان بما أعطى
وتعجيله وتصغيره وتستيره ،بل بذل النفس والروح والمال على الخلق على غاية الحياء ،وأن يكره أن يرى ذل السؤال في وجوه
المسلمين وسخاء النفس بما في أيديِ الناس أكبر من سخائاها وبالبذل ومروءة القناعة ،والرضى أكبر من مروءة العطاء وأكبر من
ذلك كله السخاء بالحكمة.
الباب الثامن والثلثون
في بيان مكارم الخلق
ض دعهن اللدجاهههليدن( ]العراف.[199 : ف دوأدلعهر ل قال تعالى) :اخهذ اللدعلفدو دولأاملر هباللاعلر ه
معناه تعفو عمن ظلمك ،وتعطي من حرمك .وتصل من قطعك ،وتعرض عمن جهل عليك ،وتحسن إلى من أساء إليك ،فكان صلى
ا عليه وسلم مبعوثا ل بمكارم الخلق يقول) :اللهم
صفحة 171
اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون( .ومن السخاء إفشاء الاسلم .وإطعام الطعام ،وصلة الرحام ،والصلة بالليل والناس نيام ،ونيل
المكارم باجتناب المحارم .مكارم الخلق من أعمال أهل الجنة قول لطيف يتبعه فعل شريف .مكافأة المحسن بأكثر من إحسانه.
صاحب مكارم الخلق هو الذيِ ل يحوجك أن تسأله ول يزال يعتذر ضد اللئايم الذيِ ل يزال يفتخر ،والتغافل عن زلل الخوان
والمسارعة إلى قضاء حوائاجهم ،وطرح الدنيا لمن يحتاج إليها.
الباب التاسع والثلثون
في بيان القناعة
صالهلحا هملن دذدكءر أدلو أ الندثى دواهدو املؤهمسن دفدلانلحهيدياناه دحديالة دطرَيدبلة( ]النحل .[97 :قال كثير من المفسرين :الحياة م ع نل
قال ا تعالى :د د ه د د
ل م )
ي
الطيبة في الدنيا القناعة :والقناعة موهبة من ا عز وجيل .وقال رسول ا صلى ا عليه وسلم) :القناعة كنز ل يفنى( .وعنه عليه
الصلة والاسلم) :من أراد صاحبا ل فال يكفيه .ومن أراد مؤنسا ل فالقرآن يكفيه ،ومن أراد كنزال فالقناعة يكفيه ،ومن أراد واعظا ل
فالموت يكفيه ،ومن لم يكفه هذه الربع فالنار تكفيه( .وعن أبي هريرة رضي ا عنه أنه قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم:
)كن ورعا ل تكن أعبد الناس ،وكن قنعا ل تكن أشكر الناس ،وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنلا ،وأحسن مجاورة من جاورك تكن
مسلملا ،وأقل من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب( .وقيل في قوله تعالى) :دلديلرازدقاناهام ا
اا هرلزلقا دحدسلنا( ]الحج .[58 :يعني
القناعة.
وقال وهب :إن العز والغنى خرجا يجولن فلقيا القناعة فاستقرا فيها.
وفي الزبور) :القانع غني وإن كان جائاعا ل( .وفي التوراة) :قنع ابن آدم فاستغنى اعتزل الناس فسلم ،ترك الحسد فظهرت مروءته،
تعب قليلل فاستراح طويلل( .وقيل :وضع ا تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع) :العز في الطاعة ،والذل في المعصية،
والهيبة في قيام الليل ،والحكمة في البطن الخالي ،والغنى في القناعة(.
وقال بعضهم :انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص .وقيل :من تعبت عيناه إلى ما في أيديِ الناس طال حزنه.
وقيل :إن أبا يزيد غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له فقال لصاحبه :نعلق الثياب في جدران الكروم فقال :ل تغرز الوتد في
جدران الناس ،فقال :نعيلقه في الاشجر .فقال ل ،لنه يكسر الغصان .فقال :نبسطه على الحشيش .فقال ل ،علف الدواب ،ثم والى
بظهره للشمس والقميص على ظهره حتى جف جانبه ،ثم قلبه حتى جف الجانب الخر.
صفحة 172
الباب الربعون
في بيان السائال
من سأل وعنده قوت يومه فقد قطع الطريق على الضعفاء والمساكين ،من كانت نيته طلب الخرة جعل ا غناه في قلبه وجمع
شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ،ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل ا الفقر بين عينيه وشتت شمله وأمره ول يأتيه منها إل ما كتب
له ،ومن جعل الهموم هما لي واحدال كفاه ا هم الدنيا والخرة ،ومن تشعبت عليه الهموم لم يبال ا تعالى في أيِ أوديتها هلك ،جميع
الدنيا من أولها إلى آخرها ما تساويِ غم ساعة ،فكيف بعمرك القصير مع قليل يصيبك منها ،من رضي بما قسم ا له بارك ا له
فيه ووسع عليه من اكتفى عن السؤال فقد أعطي خير النوال ،من احتجت إليه هنت عليه .إذا أردت أن تعيش ح يلرا فل تلزم مؤنة
نفسك غيرها والزم القناعة ،كيف يليق بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد عند موله كل ما يريد ،ولو يعلم الناس ما في المسألة
ما سأل أحد شيئاا ل .ولو يعلم الناس ما في حق السائال ما حرموا من سألهم أبدلا ،لو صدق السائال ما قدس من رده .ما من رجل سأل
رجلل حاجة فقضاها أو لم يقضها إل غار ماء وجهه أربعين يوما ل.
الباب الحاديِ والربعون
في بيان الشفقة على خلق ا تعالى
اعلم أن الشفقة على خلق ا تعالى تعظيم لمر ا تعالى ،وذلك أن تعطيهم من نفسك ما يطلبون وأن ل تحملهم ما ل يطيقون ،وأن
ل تخاطبهم بما ل يعلمون ،ول بما يعلمون ،وأن يسرك ما يسرهم ،وأن يحزنك ما يحزنهم وفكرك في كيفية تحصيل منفعتهم
الدينية والدنيوية إليهم ،وكيفية دفع ما يضرهم في دينهم ودنياهم حتى لو سقط الذباب على وجه أحدهم لوجدت لها ألما ل في قلبك،
وأن تكون لن تحفظ قلب مؤمن شرعا ل أحب إليك من كذا وكذا حجة وغزوة ،وأن تختار عز أخيك على عزك وذل نفسك على ذل
أخيك.
الباب الثاني والربعون
في بيان آفة الذنوب
طوبى لمن مات ماتت ذنوبه ،قيل :أعظم الذنوب من ظلم من لم يعرفه ولم يره.
صفحة 173
من أطاع ا تعالى سخر له كل شيء ،ومن عصاه سخره لكل شيء وسلط عليه كل شيء ،لو لم يكن في الصرار على الذنب من
الشؤم إل أن يكون كل ما يصيبه فهو عقوبة من سعة أو من ضيقة أو صحة أو سقم لكان كافيلا ،ولو لم يكن في ترك المعصية إل
ضد ذلك لكان كافيا ل .إن العبد ليحرم الرزق بالذنبيصيبه .ليست اللعنة سوادال في الوجه أو نقصا ي في المال إنما اللعنة في أن ل
يخرج من ذنب إل وقع في مثله أو شر منه .ل تكن في التوبة أعجز منك في الذنب ما أنكرت من تغير الزمان والخوان
والزوجات ،فالذنوب أورثت ذلك حتى في خلق الدابة وفأر البيت ،ونسيان القرآن ،أو شيء من العلم ،أو تلوته من الحرار،
والعقوبة موضوعة للشدة والمشقة ،فعثوبة كل من حيث ل يشترك حتى الحتلم وقد تكون عقوبة الذنب ذنبا ل مثله إذا عظم كثواب
الطاعة .ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم.
الباب الثالث والربعون
في صفة صلة أهل القرب
إذا دخلت في الصلة فانس الدنيا وأهلها وأقبل على ا تعالى إقبالك عليه يوم القيامة ،واذكر وقوفك بين يديِ ا ليس بينك وبينه
ترجمان وهو مقبل عليك تناجيه وتعلم بين يديِ من أنت واقف فإنه الملك العظيم.
وقيل لبعضهم :كيف تكبر التكبيرة الولى؟ فقال :ينبغي إذا قلت :ا أكبر أن يكون مصحوبك في ا التعظيم مع اللف .والهيبة مع
اللم والمراقبة والفرق مع الهاء.
واعلم أن من الناس من إذا قال ا أكبر غاب في مطالعة العظمة ،صار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلة،
ثم يلقي الخردلة فما يخشى من الوسوسة وحديث النفس وما يتخايل في الباطن هو من الكون الذيِ صار بمنزلة الخردلة وألقيت
فكيف تزاحم الوسوسة مثل هذا العبد ،وا تعالى أعلم.
جعلنا ا وإياكم من عباده المقربين وعلمائاه العاملين وأصفيائاه المخلصين ،وصلى ا على سيدنا محمد خاتم النبيين وقائاد الغر
المحجلين ،وعلى آله وصحبه المقربين وأزواجه الطيبين الطاهرين وذريته المخلصين ،وعلى سائار النبياء والمرسلين والملئاكة
المقربين ،صلوات ا وسلمه عليهم أجمعين ،والحمدل رب العالمين.
صفحة 174
قواعد العقائاد في التوحيد
بسم ا الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
الحمدل المبدئ المعيد الفعال لما يريد ،ذيِ العرش المجيد والبطش الشديد ،الهاديِ صفوة العبيد ،إلى المنهج الرشيد ،والمسلك
السديد ،والمنعم عليهم بعد شهادة التوحيد ،بحراسة عقائادهم عن ظلمات التشكيك والترديد ،السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى
صلى ا عليه وسلم ،واقتفاء آثار صحبه الكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي
ل يدركها إل من ألقى السمع وهو شهيد ،وهو أنه في ذاته واحد ل شريك له ،فرد ل مثل له ،صمد ل ضد له ،منفرد ل ند له ،وأنه
واحد قديم ل أول له ،أزلي ل بداية له ،مستمر الوجود ل آخر له ،أبديِ ل نهاية له ،قيوم ل انقطاع له ،دائام ل انصرام له ،لم يزل
ول يزال موصوفا ل بنعوت الجلل ،ل يقضي عليه بالنقضاء والنفصال بتصرم الباد وانقراض الجال .بل هو الول والخر
والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
التنزيه :وأنه ليس بجسم مصور ول جوهر محدود مقدر .وأنه ل يماثل الجسام في التقدير ول في قبول النقسام .وأنه ليس
بجوهر ول تحله الجواهر ،ول بعرض ول تحله العراض ،بل ل يماثل موجودال ول يماثله موجود ،ليس كمثله شيء ،ول هو
كمثل شيء ،وأنه ل يحده المقدار ،ول تحويه القطار ،ول تحيط به الجهات ول تكتنفه الرضون ،ول السماوات وأنه مستو على
العرش على الوجه الذيِ قاله ،وبالمعنى الذيِ أراده استواء منزها ل عن المماسة والستقرار والتمكن والحلول والنتقال .ل يحمله
العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته ،وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم
الثرى .فوقية ل تزيده قربا ل إلى العرش والسماء ،كما ل تزيده بعدال عن الرض والثراى ،بل هو رفيع الدرجات عن العرش
والسماء ،كما أنه رفيع الدرجات عن الرض والثرى ،ومع ذلك قريب من كل موجود ،وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ،وهو
على كل شيء شهيد ،إذ ل يماثل قربه قرب الجسام كما ل تماثل ذاته ذات الجسام وأنه ل يحل في شيء ول يحل فيه شيء،
تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان ،بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الن على ما عليه كان وأنه بائان
من خلقه
صفحة 175
بصفاته ،ليس في ذاته سواه ول قي سواه ذاته ،وأنه مقدس عن التغيير والنتقال ل تحله الحوادث ول تعتريه العواقب ،بل ل
يزال في نعوت جلله منزهلاعن الزوال به ،وفي صفات كماله مستغنيلافي زيادة الستكمال ،وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول
مرئاي الذات بالبصار نعمة منه ،ولطفا ل بالبرار في دار القرار ،واتمام للنعم بالنظر إلى وجهه الكريم.
الحياة والقدرة :وأنه تعالى حى قادر ،جبار قاهر ل يعتريه قصور ول عجز ،ول تأخذه سنة ول نوم ،ول يعارضه فناء ول
موت ،وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت ،له الساطان والقهر والخلق والمر ،والسموات مطويات بيمينه والخلئاق
مقهورون في قبضته ،وأنه المفرد بالخلق والختراع المتوحد باليجاد والبداع ،خلق الخلق وأعمالهم وقدر أرزاقهم آجالهم ل يشذ
عن قبضته مقدور .ول يعزب عن قدرته تصاريف المور ل تحصى مقدوراته ول تتناهى معلوماته.
العلم :وأنه عالم بجميع المعلومات محيط علمه بما يجريِ في تخوم الرضين إلى أعلى السموات ،ل يغزب عن علمه مثقال ذرة
،في الرض ول في السماء،بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر في جو
الهواء ،ويعلم السر و أخفى ويطلع على هواجس الضمائار ،وحركات الخواطر ،وخفيا السرائار بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا ل به
في أزل الزال ،ل بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والنتقالز
الرادة :وأنه تعالى مريد للكائانات مدبر للحادثات فل يجريِ في الملك والملكوت قليل أو كثير ،صغير أو كبير ،خير أو شر ،نفع
أو ضر ،إيمان أو كفر ،عرفان أو نكر ،فوز أو خسران ،زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إل بقضائاه وقدره وحكمته ومشيئاته،
فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ،ل يخرج عن مشيئاة لفته ناظر ول فلتة خاطر ،بل هو المبدئ المعيد الفعال لما يريد ،ل رادد لحكمه
ول معقب لقضائاه ،ول مهرب لعبد من معصيته إل بتوفيقه ورحمته .ول قوة له على طاعته إل بمشيئاته وإرادته ،فلو اجتمع النس
والجن والملئاكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئاته لعجزوا عن ذلك أن إرادته قائامة بذاته
في جملة صفاته ،لم يزل كذلك موصوفا ل بها مريدال في أزله من غير تقدم ول تأخر ،بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير
تبدل ول تغير ،دبر المور ل بترتيب أفكار ول تربص زمان فلذلك لم يشغله شأن عن شأن.
السمع والبصر :أنه تعالى سميع بصير يسمع ويرى ،ل يعزب عن سمعه مسموع
صفحة 176
وإن خفى ،ول يغيب عن بصره مرئاى وإن دق ،ول يحجب عن سمعه بعد ،ول يدفع رؤيته ظلم .يرى من غير حدقه وأجفان،
ويسمع من غير أصمخة آذان ،كما بعلم من غير قلب ،ويبطش من غير جارحة ،ويخلق من غير آلة إذ ل تشبه صفاته صفات
الخلق ،كما ل تشبه ذاته ذوات الخلق.
الكلم :وأنه تعالى متكلم آمر ناه واعد متوعد بكلم أزلي قديم قائام بذاته ل يشبه كلم الخلق ،فليس بصوت يحدث من انسلل
هواء أو اصطكاك أجرام ،ول بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان ،وأن القرآن والتوراة والنجيل والزبور كتبه المنزلة
على رسله عليهم السلم ،وأن القرآن مقروء باللسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب ،وأنه مع ذلك قديم قائام بذات ا
تعالى ،ل يقبل النفصال والفتراق بالنتقال إلى القلوب والوراق ،أن موسى عليه السلم سمع كلم ا بغير صوت ول حرف،
كما يرى البرارذات ا تعالى في الخرة من غير جوهر ول عرض .وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا لعالما ل قادرال مريدال
سميعا ل بصيرال متكلمأ ل بالحياة والعلم والقدرة والرادة والسمع والبصر والكلم ل بمجرد الذات.
الفعال :وأنه سبحانه وتعالى ل موجود سواه إل وهو حادث بفعله وفائاض في عدله على أحسن الوجوه وأكملها أتمها وأعدلها،
وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته ول يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ول يتصور
الظلم من ا تعالى ،فإنه ل يصادف لغيره ملكا ل حتى يكون تصرفه فيه ظلملا ،فكل ما سواه من إنس أو جن وشيطان وملك وسماء و
أرض وحيوان ونبات وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس :حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعلا ،وأنشأه بعد أن لم يكن شيئالا،
إذ كان في الجل موجودال وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد إظهارال لقدرته وتحقيقا ل لما سبق من إرادته وحق في الزل
من كلمته ل لفتقاره إليه وحاجته،وأنه تعالى متفضل بالخلق والختراع والتكليف ل عن وجوب ،ومتطول بالنعام والصلح ل
عن لزوم ،له الفضل والحسان والنعمة والمتنان .إذا كان قادرال على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب اللم
والوصاب ،ولو فعل ذلك لكان منه عدلل ولم يكن قبيحا ل ول ظلملا،وأنه يثيب عباده على الطاعات بحكم الكرم والوعد ل بحكم
الستحقاق واللزوم إذ ل يجب عليه فعل ول يتصور منه ظلم ول يجب لحد عليه حق ،وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق
بإيجابه على لسان أنبيائاه ل بمجرد العقل ،ولكنه بعث الرسل وأظهرصدقهم بالمعجزات الظاهرة ،فبلغوا أمره ونهيه ووعده
ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به ،وأنه تعالى بعث النبي الدمي القرشي محمد صلى ا عليه وسلم برسالته
إلىكافة العرب
صفحة 177
والعجم والجن والنس فنسخ بشرعه الشرائاع إل ما قرر ،وفضله على سائار النبياء وجعله سيد البشر ومنع كمال اليمان بشهادة
التوحيد ،وهي :قول لإله إل ا ما لم يقترن بها شهادة الرسول ،وهي محمد رسول ا فألزم الخلق تصديقه في جميع ما أقر به
من الدنيا والخرة ،وأنه ل يقبل إيمان عبد حتى يوقن بما أخبر عنه بعد الموت ،وأوله س{ال منكر ونكير .وهما شخصان مهيبان
هائالن يقعدان العبد في قبره سويا دل ذا روح وجسد ويسألنه عن التوحيد والرسالة ويقولن :من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهما
فتانا القبر وسؤالهما أول فتنه للقبر بعد الموت ،وأن يؤمن بعذاب القبر ،وأنه حق وحكمه عدل على الجسم والروح على ما يشاء،
ويوقن بالميزان ذى الكفتين واللسان ،وصفته في العظم أنه مثل طباق السموات والرضين توزن فيه العمال بقدرة ا تعالى،
والصنج يومئاذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقا ل لكمال العدل ،وتطرح صحائاف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور فيثقل بها
الميزان على قدر درجانها عند ا بفضل ا تعالى ،وتطرح صحائاف السيئاات في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل ا تعالى،
وأن يمن بأن الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم ا
تعالى فيهوى بهم إلى النار ،وتثبت عليه أقدام المؤمنين فيساقون إلى دار القرار ،وأن يؤمن بالحوض المورود :حوض محمد
صلى ا عليه وسلم يشرب منه المؤمن قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدلا ،عرضه السماء،
فيه ميزابان يصبان الكوثر ،ويؤمن بيوم الحساب وإلى مسامح فيه ،وإلى من يدخل الجنة بغير حساب ،وهم المقربون فيسأل من
شاء من النبياء عن تبليغ الرسالة ،ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين ،ويسأل المبدعين عن السنة ،ويسأل المسلمين عن
العمال ،ويؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد النتقام حتى ل يبقى في جهنم موحد بفضل ا تعالى ،ويؤمن بشفاعة النبياء ثم
العلماء ثم الشهداء ثم سائار المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته ،ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل ا
تعالى ،ول يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها كل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان،وأن يعتقد فضل الصحابة ورتبتهم ،وأن
فضل الناس بعد رسول ا صلى ا عليه وسلم :أبو بكر ،ثم عمر ،ثم عثمان ،ثم علي رضي ا عنهم ،وأن يحسن الظن بجميع
الصحابة ويثني عليهم كما أثنى ا تعالى ورسوله صلى ا عليه وسلم عليهم أجمعين ،فكل ذلك مما وردت فيه السنة وشهدت
الثار ،فمن اعتقد جميع ذلك موقنا ل به كان من أهل الحق وعصابة السنة ،وفارق رهط الضلل والبدعة .فنسأل ا تعالى كمال
اليقين ،والثبات في الدنيا لنا ولكافة المسلمين إنه أرحم الراحمين ،وصلى ا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صفحة 178
خلصة التصانيف في التصدوف
خطبة الكتاب
الحمد ل الذيِ أودع لطائاف أسراره قلوب العارفين ،وجعل البيان طريقا ل لوصولها إلى المسترشدين والصلة والسلم على
أفصح النبياء لسانا ل وأوضحهم بياتا ل ،وعلى آله وصحبه الهادين ،وعلى جميع علماء شريعته العاملين.
أما بعد :فيقول المستعين بربه المبين الفقير إليه) ،محمد أمين( تاشافعي مذهبلا ،النقشبنديِ مشربلا ،الكرديِ نسبه ،الربلي بلدة،
الزهريِ إقامة :إنه قد أظفرني ا وله الحمد بدرة غربية ،من العلوم اللهية ،موحشة بوشاح اللغة الفارسية .فاحتجت عمن ليس
له إلمام بها وهو من أنفس تصانيف العالم العلمة والبحر الفهامة ،حجة السلم الشيخ محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي
صاحب )كتاب الحياء( وهو الغني عن التعريف قدس ا سره ،وأفاض على المسلمين بره ،فرأيت من نصيحة المسلمين ،وخدمة
الدين ،أن أستعين بال على ترجمتها من )الفارسية إلى العربية( مع رقة اللفظ وجزاله المعنى وسهولة المبنى كي ينتفع بها الخاص
والعام .وا أسأل أن يمن علينا بالفوز بدار السلم .قال ناقلها الفارسي في بيان سبب تأليف الستاذ لهذه الرسالة الموسومة
)بخلصة التصانيف( بعد الثناء على ا تعالى وما يتصل به ما هذا ترجمته :
أما بعد :فقد كان رجل من تلمذة حجة السلم محمد بن محمد بن محمد الغزالي قدس ا سره العالى قد تعب في تحصيل
العلوم مدة من السنين حتى حاز من كل فن نصيبا ل وافرال ففي ذات يوم صار يتفكر في نفسه ويقول :إني قد أتعبت نفسي مدة طويلة
في تحصيل العلوم ،والن ل أدريِ أيِ علم أنفع لي منها ليكون سببا ل لهدايتي ويقودني في عرصات القيامة .ول أدريِ أيضا ل غير
النافع منها حتى أتباعد أحترز منه كما قال عليه الصلة والسلم ) :نعوذ بال من علم ل ينفع( .وما زالت هذه الفكرة غلبت عليه
حتى حملته على أن يكتب إلى شيخه كتابا ل يستفتيه فيه عن قصته هذه ومسائال أخرى .ويطلب منه مع ذلك النصيحة والدعاء.
قال غيه :موليِ إن كان الطريف إلى جوابي مدونا ل في كتبك العديدة كإحياء العلوم ،وكيمياء السعادة وجواهر القرآن وميزان
العمل والقسطاس المستقيم ومعراج القدس ومنهاج العابدين وأمثالها .فإن خادمك ضعيف كليل الطرف عن المطالعة فيها ،فأطلب
من سيديِ وأستاذيِ مختصرال أقرؤه كل يوم وأعمل بما فيه إلى آخر ما قال ،فكتب الشبخ في رده الكتاب التي وأرسله إليه وهو
قوله رضي ا عنه.
صفحة 179
اعلم أيها الولد العزيز ،و الصاحب المخلص أطال ا بقائاك في طاعته و سلك بك طريق أحبابه .أن جميع نصائاح الولين و
الخرين مجموعة في أحاديث سيد المرسلين صلى ا عليه و سلم لنه هو الذيِ أوتى جوامع الكلم ،فكل ناصح مهما نصح فهو
متطفل على موائاد نصحه صلى ا عليه و سلم) :فإن وصلك شيء من النصائاح النبوية فل حاجة لك إلى نصائاحي .وإن لم يصل
إليك شيء منها فقل لي ما الذيِ حصلته من علومك فيما أمضيته من عمرك الذيِ ضيعته سدى(.
أيهل الولد :كل نصائاح الولين و الخرين في مقالت سيد المرسلين مكتوبة للعالمين ،وكل منها يفيد فائادة تامة .فمنها هذا الحديث
و هو)) :علمة إعراض ا تعالى عن العبد اشتغاله بما ل يعنيه ،وإن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن
تطول عليه حسرته ،ومن جاوز الربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار(( .فهذه النصيحة و الموعظة كافية لهل الدنيا.
يا ولديِ :فعل النصيحة سهل و الصعوبة في قبولها و العمل بها لن طعم النصيحة في فم عابد الهوى مر و المنهيات محبوبة على
العموم .خصوصا عند من يبذل همته في طلب علوم الرسم و الفضل و المهارة و نحوها لكتساب العز و الشرف الدنيويِ لنه إنما
يقصد بتحصيل العلوم مجرد العلم مجرد العلم دون العمل له لينسب إليه العلم و يقال :فلن عالم فاضل فهذه عقيدة فاسدة و هذا
القدر هو )نهاية مذهب الفلسفة( و العياذ بال إذ غايتهم تحصيل العلم بدون التفات إاى العمل ،ولم يعلموا أن العلم يكون عليهم
حجة بالغة و هم في غفلة عن قوله صلى ا عليه و سلم)) :إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم ل ينفعه ا بعلمه((.
و روى المام أحمد و البيهقي عن منصور بن زاذان قال)) :بلغنا أن العالم إذا لم ينتفع بعلمه ,تصيح أهل النار من نتن ريحه
ويقولون له :ماذا كنت تفعل يا خبيث ،فقد آذيتنا بنتن ريحك .أما يكفيك ما نحن فيه من الذيِ والشر؟ فيقول لهم :كنت عالما فلم
أنتفع بعلمي((.
وحكي أن بعض أكابر أصحاب الجنيد رآه في نومه بعد وفاته فقال :ما فعل ا بك ؟
قال :طاحت تلك الشارات .وغابت تلك العبارات .وفنيت تلك العلوم .ونفذت تلك الرسوم ,وما نفعنا إل ركيعات ،كنا نركعها
في جوف الليل.
أيها الولد :ينبغي أن ل تكون مفلسا من العمال خاليا من الحوال والمعاني الشريفة العالية ،واعلم يقينا أن العلم بمجرده ل يأخذ
بيدك يوم القيامة ويتضح لك هذا بضرب مثال ،أرأيت لو أن رجل يحسن الحرب بينما هو يسير في مفازة ومعه عشرة سيوف
هندية وقسي وسهام في غاية الجودة ،وقد تقلد بها إذ فاجأه أسد عظيم هل تدفع عنه هذه
ص 180
السلحة بمجردها من شر السد شيئاا ل ،أنت على يقين تام بأنها ل تغني عنه شيئاا ل حتى يستعملها فيما قصد منها ،فكذلك لو أن
شخصا ل علم مئاة ألف مسألة ولم يعمل بواحدة ،فأنت تعلم أن هذا العلم ل يفيده فائادة ما .ولنضرب لك مثالل آخر فنقول :لو أن
شخصا ل به مرض وضعف من الحرارة والصفراء وعلم علما ل ليس معه شك أن شفاءه في تناول السكنجبين ولكنه لم يتناوله ،فهذا
العلم ليس بنافع في الشفاء ول دافع للداء حتى يعمل به :
لو كلت ألفي رطل خمر لم تكن لتصير نشوانا ل إذا لم تشرب
فاعلم أنه ل يفيدك كثرة تحصيل العلم وجمع الكتب ما لم تعمل .
يا ولديِ :إن لم تكن مستعدال لئاقا ل لرحمة الله عز وجل بالعمل الصالح لم تصل إليك رحمته .واسمع الدليل من القرآن } :وأن
ليس للنسان إل ما سعى { ) النجم . ( 39 :
يا ولديِ :إن ظننت أن هذه الية منسوخة فماذا تقول في قوله تعالى في آيات أخرى } :فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملل
صالحا ل { ) الكهف . ( 110 :وفي قوله } :جزاء بما كانوا يعملون { ) الواقعة . ( 24 :وفي قوله } :إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلل ) (107خالدين فيها { ) الكهف . ( 108 ، 107 :وفي قوله } :إل من تاب وآمن
وعمل صالحا ل { ) الفرقان . ( 70 :وماذا تقول في حديث " :بني السلم على خمس :شهادة أن ل إله إل ا وأن محمدال رسول
ا ،وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت من استطاع إليه سبيلل " .وفي حديث " :اليمان إقرار باللسان
،وتصديق بالجنان ،وعمل بالركان " .والدلئال على أن سلمة العبد بالعمل كثيرة ل تعد ول تحصى .فإن خطر لك من كلمي
أن العبد يدخل الجنة بعمله ل بفضل ا ورحمته فما فهمت كلمي !
واعلم أني ل أقول ذلك ،بل أقول إن العبد يدخل الجنة بفضل ا وكرمه ورحمته ،غير أن رحمة ا تعالى ل تصل إلى العبد إل
إذا كان مستعدال لها ولئاقا ل لن يكون محلل لها ،ول يكون كذلك إل بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وملزمة الطاعات
والقرب والخلص في العمل كما يشير إليه قوله تعالى } :إن رحمت ا قريب من المحسنين { ) العراف . ( 56 :حيث أخبر
تعالى بقرب رحمته من المحسنين ،وقد قال صلى ا عليه وسلم " :الحسان أن تعبد ا كأنك تراه " ،فهو يفيد بعد رحمته من
غير المحسنين .فإن لم تكن مستعدال لرحمته على الوجه المذكور ل تصل إليك رحمته ،وإذا لم تصل إليك رحمته ل تدخل الجنة ،
فإن قال أحد إن العبد يدخل الجنة بمجرد اليمان .قلنا :نعم .ولكن حتى
ص 181
يذوق صعوبة العقبات التي ل يسهلها إل صالحات العمال إذ ل يصل العبد إليها إل بالعبور على الصراط ،وما مشينا عليه إل
على صورة مشينا على الصراط المعنويِ في هذه الدار ،وما اختلف الناس في السرعة والبطء إل باختلفهم هنا في المبادرة إلى
الطاعة والتخلف عنها ،فمن تحفظ هنا حفظ هناك ،ومن أبطأ هنا زلت به قدمه هناك ،كما أن شربنا من حوض النبي صلى ا
عليه وآله وسلم يكون بقدر تضلعنا من الشريعة المطهرة ،وإذال فمعنى كون دخول الجنة بفضل ا أن يوفقك لصالح العمل بفضله
لتكون صالحا ل ومتهيئاا ل لرحمته وفضله فيدخلك الجنة .
يا ولديِ :اعلم يقينا ل أنك إن لم تعمل لم تأخذ أجرة العمل .
وحكي أن عبدال من بني إسرائايل عبد ا مخلصا ل سنين عديدة فأراد البارئ جل وعل أن يظهر إخلصه للملئاكة ،فبعث ا ملكا ل
يخبره أن ا تعالى يقول :إلى متى تسعى هذا السعي وتتعب نفسك في العبادة ،وأنت من أهل النار ؟ فأخبره الملك بما قاله المولى
.فقال العبد في جوابه :أنا عبد ،وشأن العبد العبودية .وهو إله ،وشأن اللوهية ل يعلمه إل هو .فرجع الملك إلى ربه وقال :
إلهي أنت تعلم السر وأخفى وتعلم ما قاله عبدك ،فقال ا تعالى :إذا كان هذا العبد مع ضعفه لم يرجع عنا ،فكيف نرجع عنه مع
كرمنا ؟! ..اشهدوا يا ملئاكتي أني غفرت له .
د ا ا
يا ولديِ :اسمع حديث النبي صلى ا عليه وسلم ماذا يقول " :حاسبوا أنفسكم قبل أن تحادسبوا ،وهزنوا قبل أن توزنوا " .وقال
أمير المؤمنين علي كرم ا وجهه " :من ظن أنه بدون الجهد يصل إلى الجنة فهو متمن .ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو
متعن " .وقال الحسن البصريِ رحمه ا تعالى " :طلب الجنة بل عمل ذنب من الذنوب " .وفي الحديث القدسي " :ما أقل
حياء من يطمع في جنتي بغير عمل ،كيف أجود برحمتي على من بخل بطاعتي ؟! " وقال أحد الكابر " :الحقيقة ترك ملحظة
سالعمل ،ل ترك العمل " .وفي حديث المصطفى صلى ا عليه وآله وسلم أحسن وأشرف وأوضح من الكل ،حيث قال " :الدكرَي ا
من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ،والحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا " .
يا ولديِ :كثيرال ما أحييت الليالي بتكرار العلم والمطالعة ول أدريِ ما الباعث لك على ذلك .إن كان غرضك الدنيا وجذب
حطامها وتحصيل المناصب والمباهاة على أقرانك وأمثالك ،فويل لك ثم ويل لك .وإن كان غرضك إحياء الشريعة والدين
المحمديِ وتهذيب الخلق ،فطوبى لك ثم طوبى لك ،ولقد صدق من قال :
سهر العيون لغير وجهك ضائاع وبكاؤهن لغير فقدك باطل
ص 182
وقال رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم " :عش ما شئات فإنك ميت ،وأحبب من شئات فإنك مفارقه ،واعمل ما شئات فإنك
مجزيِ به " .ما فائادتك في تحصيل علم الكلم والخلف والطب والدواوين والشعار والنجوم والنحو والتصريف وغيرها ؟! ما
حصلت غير تضييع عمرك في الغفلة عن جلل ا وعظمته وقدره ،لني قرأت في إنجيل عيسى عليه السلم :إن العبد إذا مات
ووضع في قبره يسأله ا تعالى بنفسه أربعين سؤالل " :عبديِ قد طهرت منظر الخلق سنين ،هل طهرت منظريِ ساعة ؟ " .
يا ولديِ :كل يوم ينادى في قلبك وإن لم تسمع ) ..ما تصنع بغيريِ وأنت محفوف بخيريِ؟! (
يا ولديِ :العلم بغير عمل جنوني ،والعلم بغير علم أجنبي ،لن العلم إن لم يباعدك اليوم عن المعاصي ولم يصيرك طائاعا ل لم
يباعدك غدال من نار جهنم ،فإن لم تعمل اليوم ولم تتدارك ما فاتك من اليام الماضية ،غدال في القيامة تقول } :فارجعنا نعمل
صالحا ل { ) السجدة . ( 12 :فيقال لك :أيها الحمق أنت أتيت منها فكيف ترجع إليها ؟! .
يا ولديِ :الهمة العالية أن تصرف روحك في الطاعات قبل فرار روحك من الجسد بالموت ،لن الدنيا منزلتك إلى أن تصل إلى
المقابر ،وهؤلء القوم الذين في منازل المقابر ينتظرونك في كل لحظة إلى أن تصل إليهم ،فالحذر من أن تذهب بغير زاد .قال
الصديق الكبر " :الجساد قفص الطيور أو اصطبل الدواب " .فتأمل في نفسك من أيهما أنت .فإن كنت من الطيور أصحاب
العشاش سمعت صوت طبل } :ارجعي إلى ربك راضية مرضية { )الفجر . ( 28 :فطر لتجلس بمكان أعلى ،وإن كنت من
الدواب – والعياذ بال – كنت ممن قال ا فيهم } :أولئاك كالنعام بل هم أضل { )العراف . ( 179 :واعلم يقينا ل أنك حينئاءذ
بعثت ذخيرتك في زاوية إلى هاوية .
نقل أن الحسن البصريِ عطش يوما ل وكان شديد الحر فأتي له بقدح من الماء البارد فلما مسه بيده وأحس ببرودة مائاه صاح صيحة
عظيمة وخير مغشيا ل عليه ،فوقع القدح من يده .فلما أفاق قيل له :ما الذيِ حصل لك ؟ قال :ذكرت آية أهل النار حين يذكرون
أهل الجنة } :أن أفيضوا علينا من الماء { ) العراف ( 50 :
يا ولديِ :إن كان يكفيك العلم المجرد ولم تحتج إلى العمل فماذا تقول في نداء :هل من سائال ؟ هل من تائاب ؟ هل من متسغفر ؟ ..
لنه ورد في أخبار صحيحة أنه إذا مضى نصف الليل والناس نيام يناديِ المولى سبحانه وتعالى بنفسه " :هل من تائاب ؟ هل من
سائال ؟ هل من مستغفر ؟ " ،ولذلك صار القيام والستغفار بالسحار مطلوبا ل .قال تعالى } :كانوا قليلل من الليل ما يهجعون )
(17وبالسحار هم يتسغفرون { )الذاريات ( 18 ، 17 :
ص 183
قيل :إن جماعة من الصحابة رضي ا عنهم كانوا جالسين ذات يوم بين يديِ النبي صلى ا عليه وآله وسلم فذكروا عبد ا بن
عمر بن الخطاب بخير ،فقال صلى ا عليه وآله وسلم " :هنعم الرجل ،لو يصلي الليل " .وأيضا ل قال رسول ا صلى ا عليه
وآله وسلم لحد الصحابة " :ل تكثر النوم بالليل ،فإن كثرة النوم بالليل تدع صاحبها فقيرال يوم القيامة " .
يا ولديِ :قوله تعالى } :ومن الليل فتهجد به نافلة لك { )السراء (89 :أمر } .وبالسحار هم يستغفرون { شكر } .
والمستغفرين بالسحار { ذكر .يقول النبي صلى ا عليه وآله وسلم " :ثلثة أصوات يحبها ا تعالى :صوت الديك ،وصوت
الذيِ يقرأ القرآن ،وصوت المستغفرين بالسحار " .ويقول سفيان الثوريِ رحمه ا :إن ل تعالى ريحا ل تهب وقت السحار ،
تحمل الذكار والستغفار إلى الملك الجبار .وأيضا ل له :إذا كان أول الليل ،نادى مناءد من تحت العرش " :أل ليقم العابدون "
فيقومون فيصلون ما شاء ا ،ثم يناديِ مناد في شطر الليل " :أل ليقم القانتون " فيقومون فيصلون إلى السحر ،فإذا كان السحر
يناديِ مناد " :أل ليقم المستغفرون " فيقومون فيستغفرون ،فإذا طلع الفجر نادى مناءد " :أل ليقم الغافلون " فيقومون من
مفرشتهم كالموتى نشروا من قبورهم .
يا ولديِ :ورد في وصايا لقمان أنه قال لبنه " :يا بني ،ل يكونن الديك أكيس منك ،يناديِ بالسحار وأنت نائام " .وما أجمل
وأليق من قول القائال حين قال :
لقد هتفت في اجلنهح ليل حمامسة على فنن دولهنا ل وإني نائام
ت – وبيت ا – لو كنت عاشقا ل لما سبقتني بالبكاء الحمائام كذب ا
وأزعم أني هائام ذو صبابة لربي ول أبكي وتبكي البهائام
يا ولديِ ) :خلصة النصيحة( أن تعلم حقيقة الطاعة والعبادة ما هي ؟ العبادة هي متابعة الشارع صلى ا عليه وآله وسلم في
الوامر والنواهي ،فإن فعلت فعلل ولست بمأمور به فليس بعبادة ،وإن كان ذلك الفعل في صورة العبادة ،بل قد يكون عصيانا ل
وإن كان صوما ل وصللة .أل ترى أنه إذا صام شخص يوم العيدين وأيام التشريق يكون عاصيا ل ؟! وإن كان ما فعله في صورة
العبادة لنه لم يؤمن به ،وكذا من صلى في الوقات المكروهة أو في المواضع المغصوبة يكون آثما ل .
واعلم أنه إذا مزح شخص مع محرمه فإنه مأجور وإن كان ذلك في صورة لعب ،لن هذا اللعب مأمور به ،وبذا صار معلوما ل
أن العبادة الحقيقية هي امتثال المر ل مجرد الصلة والصوم ،لن الصلة والصوم ل يكونان عبادة إل إذا كان مأمورال بهما .
ص 184
يا ولديِ :فليكن جميع أحوالك وأقوالك مأمورال به موافقا ل للشريعة ،لن علم وعمل المخلوقات بغير فتوى المصطفى صلى ا
عليه وآله وسلم ضللة وسبب للبعد عن ا تعالى ،ولهذا نسخ المصطفى صلى ا عليه وآله وسلم العمال السابقة ،فل تحرك
لسانك بكلمة تكون غير مأمور بها .وكن متيقنا ل أن طريق ا تعالى ل تقدر أن تصل إليه بغير ما لم تؤمر به ،ول تصل إليه أيضا ل
بالشطحات والترهات الصوفية ترسما ل ،بل ل تصل إلى هذا الطريق إل بقطع الهوى والشهوة وحظوظ النفس بسيف المجاهدات ل
بوثبات الشطحات والترهات ،فإن زعمت الوصول اغترارال منك بما تبديه من الكلم الرقيق وصفاء اليام والوقات وصلفة
اللسان مع تعلق القلب بالشهوات والغفلة كان ذلك علملة على الشقاء والوبال ،وإذا لم تقهر الهوى والنفس بالمجاهدات ،وتصيرها
تحت الشرع لم يكن القلب حيا ل بنور المعرفة .
يا ولديِ :سألت أسئالة بعضها ل يكيف بالقول ول بالكتابة لنه ذوقي ،وكل ما كان ذوقيا ل ل يكيف بالقول ول بالكتابة فل تعلمه إل
إذا وصلت إليه ،وما مثلك في ذلك إل كمثل من جهل الحلوة أو المرارة مثلل وأراد أن يكفيه بمجرد القول والكتابة فل يقدر البتة .
يا ولديِ :إن كتب هعينين لحد عيرف لذة الجماع ،يسأله عن لذة الجماع .كتب إليه في جوابه :إن هذا ذوقي ل تعرفه إل إذا
وصلت إليه ،وإل فل يكيف بالقول والكتابة .
يا ولديِ :بعض أسئالتك من هذا القبيل .وأما القدر الذيِ يكيف بالقول والكتابة فقد بينته في كتابنا )إحياء العلوم( وغيره من
التصانيف فاطلبه هناك ،وأما هنا فما قلنا على طريقة الشارة :وسألتني عما يجب على مريد طريق الحق جل وعل .
فاعلم :أن أول ما يجب عليه ،العتقاد السليم الخالي من البدع .
الثاني :التوبة النصوح بأن ل يرجع إلى الزلت .
الثالث :إرضاء الخصماء حتى ل يبقى عليه حق المخلوق .
الرابع :تحصيل علم الشريعة بقدر ما يعمل بأوامر ا ويقف عن نواهيه ،ول يجب عليه من علم الشريعة سوى ذلك ،وأما غير
علم الشريعة فيكفيه أن يتعلم القدر الذيِ به خلصه ونجاته ،وهذا الكلم يكون معلوما ل لك .اينقل حكاية وردت عن المشايخ وهي
أن الشبلي رحمه ا قال :إني خدمت أربعمئاة أستاذ ،وقرأت عليهم أربعة آلف حديث ،واخترت منها حديثا ل واحدال وعملت به
وتركت الباقي ،لني تأملت في هذا الحديث الواحد فرأيت فيه خلصي ونجاتي ،وأيضا ل رأيت أن علم الولين والخرين مندرج
فيه ،وهو قوله صلى ا عليه وآله وسلم " :اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ،واعمل لخرتك بقدر بقائاك فيها ،واعمل ل بقدر
حاجتك إليه ،واعمل للنار بقدر صبرك عليها " .
يا ولديِ :من هذا الحديث اعلم لك أنك ل تحتاج للعلم الكثير ،وتحصيل كثرة العلم من فروض الكفاية ل من فروض العيان ،
وتأمل هذه الحكاية حتى تكون متيقنا ل .ورد
ص 185
أن حاتما ل الصم كان من تلمذة شفيق البلخي رحمة ا عليهما ،فقال شفيق ذات يوم :يا حاتم كم سنة أنت في صحبتي ؟ قال :
ثلثا ل وثلثين سنة .فقال :ما الذيِ حصلته من العلوم وكم فائادة أخذت مني ؟ قال :تحصلت على ثمان فوائاد .قال شفيق :إنا ل
وإنا إليه راجعون ،يا حاتم أنا صرفت عمريِ معك في تعليمك ،وأنت ما تحصلت مني سوى على هذه الفوائاد ! فقال حاتم :يا
أستاذيِ ،إن طلبت مني الصدق فما تحصلت على غير الذيِ قلته ،ولم أطلب تحصيل غيرها ؛ لني تيقنت أني ل أتحصل على
خلصي ونجاتي في الدارين إل بهذه الثمانية ،وإن ما سواها مستغءن عنه بها .قال شفيق :قل لي ما هذه الفوائاد الثمانية؟ فقال :
الولى :نظرت في المخلوقات ورأيت كل واحد منهم اختار محبوبا ل ،فالبعض يصحب المحب إلى مرض الموت والبعض إلى
طرف القبر ،وبعد ذلك يودعونه ويرجعون ول يدخلون معه القبر ،وتأملت لجد محبوبا ل يكون لي رفيقا ل وأنيسا ل في القبر فما
وجدت سوى العمل الصالح ،فلهذا اخترته وجعلته محبوبا ل ليكون رفيقا ل ومؤنسا ل في القبر .فقال شفيق :أحسنت يا حاتم .
الثانية :نظرت في المخلوقات فرأيت الكل أسير النفس والهوى ،وتأملت قوله تعالى } :وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن
الهوى ) (40فإن الجنة هي المأوى { )النازعات . (41 ، 40 :فعلمت يقينا ل أن القرآن حق ،وخالفت النفس المارة بالسوء ،
وشددت المنطقة في المجاهدات ،وما أعطيتها مآربها وآمالها حتى انقادت تحت طاعة الحق .قال شفيق :بارك ا فيك .
الثالثة :نظرت إلى هذا الخلق ،فرأيت كل واحد يسعى ويتعب في تحصيل شيء من حطام الدنيا ،وما تحصلوا عليه حفظوه
وفرحوا به لظنهم أنهم تحصلوا على شيء ،ثم نظرت في قوله تعالى } :ما عندكم ينفد وما عند ا باءق { )النحل . (96 :فما
حصلته وجمعته في سنين ،تصدقت به على الفقراء وجعلته وديعة عند ا ليكون لي عنده باقيا ل وزادال مدخرال لخرتي .قال شفيق
:أحسنت .
الرابعة :إني نظرت في هذا العالم فرأيت قوما ل يظنون أن شرف النسان وعزه بكثرة القارب والعشائار ويفتخرون بها .وقوما ل
يظنون أن شرف النسان وكبرياءه بكثرة الموال والولد فافتخروا بها ،وبعضهم يظنون أن العز والشرف بالغضب والسب
والضرب وسفك الدماء فافتخروا بذلك ،ونظرت في قوله تعالى } :إن أكرمكم عند ا أتقاكم { ) الحجرات ( 13 :فعلمت أن
القرآن حق ،وأن ظنون الخلق خطأ ،فاخترت التقوى حتى أكون عند ا من المكرمين .قال شفيق :أحسنت .
ص 186
الخامسة :نظرت إلى هذا الخلق ،فرأيت قوما ل يبغض ويحسد بعضهم بعضا ل بسبب حب المال والجاه ،وإني نظرت إلى قوله
تعالى } :نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا { )الزخرف . (32 :وإني علمت أن هذه القسمة ثابتة في الزل ل اختيار
لحد فيها ،فما حسدت أحدال بعد ،ورضيت بقسمة البارئ تعالى واصطلحت مع أهل الدنيا .قال شفيق :أحسنت .
السادسة :نظرت إلى هذا العالم فرأيت بعضهم يعاديِ بعضا ل بسبب أغراض نفسانية ووساوس شيطانية ،ونظرت في قوله تعالى :
} إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوال { )فاطر . ( 6 :وعلمت أن القرآن حق ،وأن غير الشيطان واتباعه ل يكون عدوال فاتخذت
الشيطان عدويِ ولم أطعه في أمر ما ،وامتثلت أمر ا تعالى وراقبت عظمته ولم أعاد أحدال من خلقه ،وعلمت أن الصراط
المستقيم في قوله تعالى } :ألم أعهد إليكم يا بني آدم أل تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ) (60وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
{ )يس . ( 61 ، 60 :قال شفيق :أحسنت يا حاتم .
السابعة :نظرت في هذا العالم فرأيت كل واحد يصرف غاية جهده وقد أذل نفسه في تحصيل القوت ،وبسبب ذلك قد وقعوا في
الحرام والشبهات ،ونظرت في قوله تعالى } :وما من دابة في الرض إل على ا رزقها { )هود . ( 6 :وفي قوله تعالى } :
وأن ليس للنسان إل ما سعى { )النجم . (39 :فعلمت أني أحد الدواب في الرض ،وأن رزقي مضمون منه تعالى ،وأني
مكلف بالسعي في طلب الخرة فاشتغلت بالخالق .قال شفيق :أحسنت .
الثامنة :نظرت إلى هذا الخلق فرأيت بعضها يعتمد على ماله وملكه ،وبعضا ل يعتمد على حرفته وصناعته ،وبعضا ل يعتمد على
مخلوق مثله ،وتأملت في قوله تعالى } :ومن يتوكل على ا فهو حسبه { )الطلق . ( 3 :فتوكلت على ا تعالى وهو حسبي
ونعم الوكيل .قال شفيق :أحسنت يا حاتم ،وفقك ا تعالى ،إني نظرت في التوراة والنجيل والزبور والفرقان فوجدت ما في
الكتب الربعة ل يخرج عن هذه الفوائاد الثمانية ،والذيِ يعمل بها كأنه يعمل بما في الكتب الربعة .وبهذه الحكاية صار معلوما ل
لك أنك ل تحتاج إلى كثرة العلم ،ولنرجع الن إلى ما نحن فيه ونذكر لك مما يجب في حق سالك طريق الحق .
ب ليدله على الطريق ويرفع عنه الخلق المذمومة ،ويضع مكانها الخلق المحمودة .ومعنى الخامس :أن يكون له مرشد ومر ي
التربية أن يكون المربي كالمزارع الذيِ يربي الزرع ،فكلما رأى حجرال أو نباتا ل مضرال بالزرع قلعه وطرحه خارجا ل ،ويسقي
الزرع مرارال إلى أن ينمو ويتربى ،ليكون أحسن من غيره ،وإذا علمت أن الزرع محتاج إلى المربي ،علمت أنه لبد
ص 187
ل
للسالك من مرشد مرب البتة ،لن ا تعالى أرسل الرسل عليهم الصلة والسلم للخلق ليكونوا دليل لهم ويرشدوهم إلى الطريق
المستقيم .وقبل انتقال المصطفى عليه الصلة والسلم إلى الدار الخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نوابا ل عنه ليدلوا الخلق إلى
طريق ا ،وهكذا إلى يوم القيامة ،فالسالك ل يستغني عن المرشد البتة .
وشرط المرشد أن يكون عالما ل ،لكن ليس كل عالم يصلح للرشاد ،بل لبد أن يكون عالما ل له أهلية صناعة الرشاد ،ولهذا
المرشد علمات ونحن نذكر لك ما لبد له منها بطريق الجمال حتى ل يدعي الرشاد كل متحير .
فالمرشد هو الذيِ يكون قد خرج من باطنه حب المال والجاه وتأسس بنيان تربيته على يد مرشد كذلك ،وهلم حتى تنتهي
السلسلة إلى النبي صلى ا عليه وآله وسلم ،وذاق بعض الرياضات كقلة الكل والكلم والنوم ،وكثرة الصلة والصدقة والصوم
،واقتبس نورال من أنوار سيدنا محمد صلى ا عليه وآله وسلم ،واشتهر بالسيرة الحسنة والخلق المحمودة من صبر وشكر
وتوكل ويقين وطمأنينة وسخاء وقناعة وأمانة وحلم وتواضع ومعرفة وصدق ووقار وحياء وسكون وتأن وأمثالها ،وتطهر من
الخلق الذميمة كالكبر والبخل والحسد والحقد والحرص والمل الطويل والطيش ونحوها ،وسلم من تعصب المتعصبين ،
واستغنى عن علم المكلفين بالعلم المتلقى عن رسول ا صلى ا عليه وآله وسلم ،فالقتداء بمثل هذا المرشد هو عين الصواب ،
والظفر بمثله نادر لسيما في هذا الزمان ،فإنه كثر فيه من يدعي الرشاد وهو في الحقيقة يدعو الناس إلى اللهو واللغو ،بل ادعى
كثير من الملحدين الرشاد بمخالفة الشريعة ،وبسبب غلبة هؤلء المدعين اختفى المرشدون الحقيقيون في أركان الزوايا ،وبما
ذكرناه علم بعض علمات المرشد الحقيقي ،حتى أنه من وجد متخلفا ل بها علم أنه من المرشدين ،ومن لم يكن متخلفا ل بها علم أنه
من المدعين ،فإن تحصل أحد على مثل هذا المرشد وقبله المرشد وجب عليه احترامه ظاهرال وباطنا ل .
فالحترام الظاهريِ أل يجادله ول ينكر عليه ول يقيم الحجة عليه في أيِ مسألة ذكرها .وإن تحقق خطأه ،وأن ل يظهر نفسه
أمام المرشد بفرش السجادة إل أن يكون إماما ل ،فإذا فرغ من الصلة ترك السجادة تأدبا ل معه ،وأن ل ينتقل كثيرال في حضرته ،
وأن يفعل كل ما أمره به قدر استطاعته ،وأن ل يسجد له ول لغيره لنه كفر ،وأن يبالغ في امتثال أمره ولو كان ظاهره في
صورة معصية .
ل
والحترام الباطني أن كل ما سلمه له في الظاهر ل ينكره في الباطن وإل كان منافقا ،فإن لم يقدر على ذلك ترك صحبته حتى
يكون في باطنه موافقا ل لما في ظاهره لنه ل فائادة في الصحبة مع النكار ،بل ربما تكون سببا ل في هلكه .
ص 188
السادس :مخالفة سياسة النفس وهذا ل يتيسر إل بترك جلساء السوء لتقصر عنه يد تصرف شيطان النس والجن وترفع عنه
التلوثات الشيطانية .
السابع :أن تختار جميع أحوال الفقراء ،لن أصل هذا الطريق فراغ القلب من حب الدنيا ،فإذا لم تختر جميع أحوال الفقراء ،
وجدت في قلبك السباب الدنيوية فقل أن تقدر على الخلص من حبها فترك السباب يكون سببا ل لفراغ القلب من حب الدنيا ،ول
يتيسر لك هذا الترك إل بذلك الختيار ،وهذه السبعة واجبة على سالك طريق ا .
وسألت أيضا ل ما هو التصوف ؟ فاعلم أن التصوف شيئاان في الصدق مع ا تعالى وحسن المعاملة مع الناس ،فكل من صدق مع
ا وأحسن معاملة الخلق فهو صوفي ،والصدق مع ا تعالى هو أن يفني العبد حظوظ نفسه لمره تعالى ،وحسن المعاملة مع
الخلق هو أن ل يفضل مراده على مرادهم ما دام مرادهم موافقا ل للشرع ،لن كل من رضي بمخالفة الشرع أو خالفه ل يكون
صوفيا ل وإن ادعى التصوف يكون كذابا ل .
وسألت ما هي العبودية ؟ فاعلم أن العبودية هي عبارة عن دوام حضور العبد مع الحق تعالى بل شعور الغير ،بل مع الذهول
عن كل ما سواه وهي ل تتأتى إل بثلثة أشياء :
الول :النتباه لمر الشارع .
الثاني :الرضا بالقضاء والقدر وقسمة ا تعالى .
الثالث :ترك طلب اختيار نفسك وفرحك باختيار ا تعالى لك .
وسألت ما هو التوكل ؟ فاعلم أن التوكل أن تثق بما وعد به ا وثوقا ل ل تضعفه الحوادث مهما كثرت وتعاظمت .يعني أن يكون
لك تمام اليقين بأن كل ما قسم لك يصل إليك وإن اجتمع أهل الدنيا ليدفعوه عنك ،وكل ما لم يقسم لك لن يصل إليك وإن ساعدك
أهل الدنيا .
وكذلك سألت ما هو الخلص ؟ فاعلم أن الخلص هو أن تكون أفعالك كلها صادرة ل تعالى بحيث ل يكون في قلبك التفات
لشيء من الخلق حين العمل ول بعده ،كأن تحب ظهور أثر الطاعة عليك من نور الوجه وظهور أثر السجود في جبهتك .ومن
علمات إخلصك أن ل تفرح بثناء الخلق عليك ول تحزن بذمهم لك ،بل يستويِ عندك المران ،واعلم أن الرياء يتولد من
عظمة الخلق عندك فعلجه أن ترى الخلق مسخرال لقدرة ا ،وتلحظ أن الناس مثل الجمادات ل قدرة ول إرادة لهم فل يقدرون
أن يوصلوا إليك نفعا ل ول ضرال ،فإذا فعلت ذلك خلصت من هذا المرض ،وإل فما دمت تظن أن الخلق قادرون ومريدون ل يرتفع
عنك الرياء .
يا ولديِ :أما بقية أسئالتك فبعضها مسطر في كتبي فاطلبه هناك ،وبعضها ل تنبغي كتابته ،لكن إذا عملت بما علمت يكشف لك
حقيقته .
ص 189
يا ولديِ :إذا أشكل عليك شيء بعد هذا فل تسألني إل بلسان الحال .قال تعالى } :ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرال
لهم { )الحجرات ( 5 :واقبل نصيحة الخضر عليه السلم المشار إليها بقوله تعالى } :فل تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه
ذكرال { )الكهف . (70 :ول تستعجل بالسؤال لنك تصل إلى وقت يكون هو المبين لك ،أل ترى إشارة قوله تعالى } :سأريكم
آياتي فل تستعجلون { )النبياء . (37 :واعلم يقينا ل أنك إذا لم تسر لم تصل ولم تدر ،قال تعالى } :أولم يسيروا في الرض
فينظروا { )الروم ، 9 :غافر ( 21 :
يا ولديِ ،إذا ذهبت في طريق ا سريعا ل ترى العجائاب .
يا ولديِ ،ل بد لك مع العمل من بذل روحك في سبيل الوصول إلى حضرة الحق ،فإن العمل بدون بذل الروح ل يفيد .قال ذو
النون المصريِ رحمة ا تعالى عليه لحد التلمذة :إن قدرت على بذل الروح فتعال ،وإل فل تشتغل بترهات الصوفية والقال .
يا ولديِ ،أختصر لك النصيحة في ثمانية أشياء :أربعة تركية وأربعة فعلية ،حتى ل يكون علمك يوم القيامة خصما ل لك وحجلة
عليك .
أما التركية فأحدها :ترك المناظرة بقدر إمكانك وإقامة الحجة على كل من يذكر مسألة ،فإن آفات ذلك كثيرة وضرها أكثر من
نفعها ،إذ هي منبع كل الخلق الذميمة كالرياء والحقد والكبر والعداوة والمباهاة وغيرها ،فإن وقعت بينك وبين غيرك مسألة
وأنت تريد بالمناظرة أن ينكشف الحق جاز لك البحث في تلك المسألة بهذه النية ،ولصدق هذه النية علمتان :
إحداهما :أل تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو لسان خصمك ،بل تحب أن تنكشف الحقيقة على يد خصمك ،ليكون
ذلك أدعى له إلى قبولها ،لن قبوله من نفسه أقرب إلى قبوله منك .
ثانيهما :أن يكون البحث في الخلوة أحب إليك منه في المل .أما إذا قلت لحد مسألة وأنت تعلم أن الحق بيدك وهو يستهزئ ،
فالحذر من أن تقيم الحجة معه واترك الكلم ،فإنه يؤديِ إلى الوحشة فل تكون معه فائادة ،وها هنا أذكر لك فائادة .
اعلم أن السؤال عن الشياء المشكلة مثل عرض المريض علته على الطبيب والجواب مثل سعي الطبيب في شفاء المريض ،
فالجهلء مرضى والعلماء أطباؤهم ،والعالم الناقص ل يليق أن يكون طبيبا ل لهم ،بل الذيِ يداويِ المرضى هو العالم الكامل لنه
هو الذيِ يؤمل فيه أن يعرف حقيقة العلة ،وقد يكون المرض شديدال ل يمكن علجه ،فمهارة الطبيب تكون في عدم الشتغال
بمداواته ،واعلم أن مرض الجهل أربعة أقسام :ثلثة ل علج لها ،وواحد يمكن علجه .
بداية الصفحة 190
مجموعة رسائال المام الغزالي
فالول :أن يكون السؤال أو العتراض ناشئاا عن حسد والحسد مرض ل علج له ،واعلم أنك كلما أجبته بأيِ جواب تزينه
وتوضحه له ل يزيده جوابك إل حسدا ول يزيده حده إل تتكبرا ،فينبغي أل تشتغل بجوابه وما أحسن قو الشاعر :
كل العداوة قد ترجى إزالتها إل عداوة من عاداك من حسد
وتدبيره :أن تتركه بمرضه وتعرض عنه عمل بقوله تعالى ) :فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا( )لبنجم :
. (29فإذا تعرضت له واشتغلت بمداواته فقد أشعلت نار حسده التي هي مما يحبط العمال ،كما في الحديث )الحسد يأكل
الحسنات كما تأكل النار الحطب (.
الثاني :أن تكون العلة من الحماقة وهذا ليمكن علجه لقول عيسى عليه السلم) :ما عجزت عن إحياء الموتى ولكن عجزت عن
إصلح الحمق( .وهذا هو الذيِ اشتغل يومين أو ثلثة بتحصيل العلم ولم يشرع في العلوم العقلية أصل ومع هذا يعترض على
العلماء الذين صرفوا عمرهم في تحصيل العلوم ولم يعلم أن العتراض على العالم العظيم من طالب صغير ليكون إل من الجهل
وعدم المعرفة ،فهذا لم يعرف قدر نفسه ول قدر هذا العالم من حماقته وعدم معرفته ،فينبغي أن تعرض عن هذا أيضا ول تشتغل
بجوابه.
الثالث :أن يكون السائال مسترشدا ليش فيه أهلية لفهم كلم الكابر لقصور فهمه عنه ،ويسأل عن جهة الستفادة عن غوامض
المور التي يكون قاصرا عن ادراك حقائاقها ،ول يرى قصور فهمه فل تشتغل بجوابه أيضا ،لن النبي صلى ا عليه وسلم قال :
) نحن معاشر النبياء أمرنا بأن نكلم الناس على قدر عقولهم (.
الرابع :أن يكون مسترشدا ذكيا لبيبا عاقل ليش مغلوب الغضب والشهوة والحسد وحب المال والجاه ،بل طالبا لطريق الحق ،
سائال من غيرتعنت ،فهذا المريض يمكن علجه فالشتغال بجوابه لئاق بل واجب .
الثاني :أن تحترزمن الوعظ والتذكير إل أن تعلم أنك علمت أول بما تقول مؤل قبل أن تتكلم .قال ا تعالي لعيسى عليه السلم :
) يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي مني ( .فإن كنت وابتلك ا بالوعظ فاحترز من شيئاين :الول أن
تحرز من التكلف في الكلم بالعبارات والشارات والشطحات والشعا ،لن ا تعالى يعد المتكلفين في الكلم أعداء له لن
التكلف يدل على خراب باطن صاحبه وغفلة عقله وقلبه ،مع أن المقصود من التذكير استحضار مصائاب الخرة والتقصير في
خدمة المولى جل وعل ،فتأمل في العمر الضي والعقبات التي في الطريق حتى تخرج من الدنيا بسلمة اليمان وتنجو من هول
قبضة ملك الموت وسؤال منكر ونكير ورد جوابهما.
نهاية الصفحة 190
بداية الصفحة 191
مجموعة رسائال المام الغزالي
وأيضا تأمل في هول القيامة ومواقفها وحسابها والميزان والعبور على الصراط والنار ومصائابها ،فهذا هو الذيِ ينبغي تذكير
الخلق به وتطلعه على تقصيرهم وعيوبهم لجل أن توقع القلوب أهل المجلس خوف حرارة النار ومصائابها ،ليتذكروا تفريطهم
في الزمن الماضي بالندم عليه والتحسر على ضياع العمر الذيِ انقضى بغير طاعة .
فالجملة المذكورة بالكيفيةالمتقدمة يقال لها وعظ مع عدم التكلف في الكلم بالفصاحة والتسجيع وغير ذلك ،لن مثل الوعظ كمثل
صاحب بيت فيه عيال ،وقد جاء السيل وهو يخاف أن يأخذ البيت ويغرق الولد ويناديِ الحذر الحذر ،ياأهل البيت اهربوا لن
السيل وصلكم ،فهذا الرجل في هذه الحالة ل يقول الكلم بالتكلف والعبارات والسجيع والشارات ،فمثل الواعظ للخلق يكون
هكذا ،وينبغي أل يميل قلبك حال وعظك إلى صراخ الصارخين وبكاء الباكين وغوغاء أهل المجلس بقولهم :إن هذا الوعظ إلى
تحويلهم عن الدنيا إلى الخرة ،وعن المعصية إلى الطاعة ،وعن الغفلة إلى التيقظ ،وعن الغرور إلى التقوى ،وأن يكون كلمه
في علم الزهد والعبودية وأن ينظر إلى رغبتهم هل هي خلف رضى الخالق أو ل ،وإى ميل قلوبهم هل هو خلف الشرع أو ل ،
وغلى أعمالهم وأخلقهم الذميمة والحميدة أيهما أغلب ،والذيِ خوفه غالب فيرجه إلى الرجاء ،والذيِ رجاؤه غالب فيرجعه إلى
الخوف بكيفية بتصرفون بها من المجلس بحيث لم يبق معهم صفات ذميمة ظاهرا وباطنا ،ويتصفون بالصفات الحميدة ،
ويرغبون ويحرصون على الطاعات التي تكاسلوا عنها ،ويكرهون المعاصي التي كانوا يحرصون عليها وكل وعظ لم يكن ولم
يقل هكذا يكون وبال على الواعظ والموعوظ ،بل يكون الواعظ غول وشيطانا لنه يضل الناس عن طريق الحق ويهلكهم هلكا
أبديا ،ويجب على الخلق أن يهربوا منه ،لن الفساد الذيِ يفعله ل يقدر الشياطين أن يفعلوه ،وكل من له يد القدرة يجب عليه أن
ينزله عن المنبر ليدفعه لنه من المر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث :أل تميل إلى الملوك والمراء والحكام ول تخالطهم ول تجالسهم بل ول تنظر إليهم ،لن في مخالطتهم ومجالستهم آفات
كثيرة ،وإن ابتليت برؤيتهم ومجالستهم فاترك مدحهم وثناءهم ،وإذا جاءوا لزيارتك فسبيلك أن يون هكذا ،فإن ا يغضب إذا
مدح الفاسق والظالم .ومن دعا لظالم بكول البقاء فقد أحب أن يعصي ا تعالى في أرضه.
الرابع :أل تقبل منهم شيئاا وإن علمت أنه حلل ،لن الطمع في مالهم يكون سببا لفساد الدين والمداهنة والمحاباة ومراعاة جانبهم
والموافقة في ظلمهم ،ويتولد منها فسقهم وفجورهم ،وهذا كله هلك في الدين وأقل مضرة يتولد منها أن تحبهم ،وكل من يحب
نهاية الصفحة 191
بداية الصفحة 192
مجموعة رسائال المام الغزالي
أحدا يحب طول عمره ،وإذا أحب طول عمره أحب طول ظلمه وخراب العالم .وسأل ا المان من أن يضللك الشيطان عن
طريق الحق لنه يقول لك الولى أن تأخذ منهم الدراهم وتعطيها للدراويش وتريح المساكين بصرفها عليهم ،لنك تصرفها في
الضرورة وأبواب الخير ،وأما هو فيصرفها في الفسق والفجور ،لن الشيطان بهذا الطريق سفك دماء خلق كثير .وآفات الطمع
كثيرة ذكرتها في كتابنا )إحياء العلوم( فاطلبها هنا .يا ولديِ ،اجتنب هذه الربعة التركية .
وأما الفعلية فأربعة أيضا ول بد أن تعمل بها .
الول :يلزمك أن تؤديِ ما أمرك ا تعالي به مثل ما تحب أن تؤديِ عبدك ما أمرته به ،وأنت راض عنه وكل شيء وكل شيء ل
ترضى بفعله من عبدك فل ترضى عن نفسك بفعله في تحقيق عبوديتك ل تعالى ،ومع ذلك فليس هو عبدك حقيقة لنك اشتريته
بالدراهم وأنت في الحقيقة عبد ل لنك مخلوق له و هو خالق لك .
الثاني :أن تعامل الخلق بما تحب أن يعاملوك به .قال رسول ا صلى ا عليه وسلم ) :ل يكمل إيمان العبد حتى يحب لسائار
الناس ما يحب لنفسه (.
الثالث :أن تشتغل بالعلم النافع في الواقع ونفس المر وهو الذيِ لو علمت أنه بقى من عمرك أسبوع لو لم تشتغل بسواه ،ومن
المعلوم أنه إذا كان كذلك ل تشتغل بعلم النحو والصرف والطب وأمثالها ،لنك تعلم أن هذه العلوم ل تنفع في إغاثتك ،بل تشتغل
بمراقبة قلبك ومعرفة صفاته فتشتغل بتطهيره من الخلق الذميمة وعلئاق الدنيا وتحليته بالخلق الحسنة ومحبة الحق وتشتغل
بالعبادة .
يا ولديِ :اسمع كلمة واحدة وتأمل في حقيقتها واعمل بها تجد فيها خلصك ونجاتك إليه .إن أخبرت أن السلطان قاصد زيارتك
في هذا السبوع مثل ،فأنا اعلم أنك ل تشتغل في هذا السبوع بشي غير إصلح ما تعلم أن عين السلطان تقع عليه .إذا علمت ما
ذكرناه تحققت بالولى أنه ل ينبغي لك إل أن تشتغل بإصلح ما تعلم أنه محل نظر ا تعالى وهو القلب .قال رسول ا صلى ا
عليه وسلم ) :إن ا ل ينظر إلى صوركم ول إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبم ونياتكم ( .وإن أردت أن تعلم علم أحوال القلوب
فاطلبه من كتابي ) إحياء العلوم ( ،وسائار تصانيفي ،وهذا فرض عين على كل مسلم وباقي العلوم فرض كفاية ،إل أن تعلم بقدر
ما تتحصل به على امتثال الوامر واجتناب النواهي .
الرابع :أن تدخر لعيالك من القوت ما يزيد على السنة لن النبي صلى ا عليه وسلم قال لزواجه ) :اللهم اجعل رزق آل محمد
كفافا(ولم يقل ذلك لكل أزواجه .بل قال لمن لم يكن لهن قوة اليقين .أما مثل السيدة عائاشة رضي ا عنها فلم يرتب لها قوت سنة
ول يوم.
نهاية الصفحة 192
بداية الصفحة 193
مجموعة رسائال المام الغزالي
يا ولديِ :جميع ما طلبته مني كتبته لك في هذه الرسالة ،فينبغي أن تعمل بكل ما فيها ،وفي أثنا عملك اذكرني بصالح دعائاك ،أما
ما طلبته من الدعية فمذكورة في الصحاح وتاريخ أهل البيت فاطلبها هناك واذكر لك هذا الدعاء فاقرأه على الدوام خصوصا
عقب الصلوات وهو :
اللهم إني أسألك من النعمة تمامها ،ومن العصمة دوامها ،ومن الرحمه شمولها ،ومن العافية حصولها ،ومن العيش أرغده ،
ومن العمر أسعده ،ومن الغحسان أتمه ،ومن النعام أعمه ،ومن الفضل أعذبه ،ومن اللطف أقربه ،ومن العمل أصلحه ،ومن
العلم أنفعه ،ومن الرزق أوسعه ،اللهم كن لنا ول تكن علينا ،اللهم اختم بالسعادة آجالنا ،وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية
غدونا وآصالنا ،وجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ،واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ،ومن علينا بإصلح عيوبنا ،واجعل
التقوى زادنا ،وفي دينك اجتهادنا ،وعليك توكلنا واعتمادنا .إلهنا ثبتنا على نهج الستقامة ،واعذنا من موجبات الندامة يوم
القيامة ،وخفف عنا ثقل الوزار ،وارزقنا عيشة البرار ،واكفنا واصرف عنا شر الشرار واعتق رقابنا ،ورقاب آبائانا وأمهاتنا
من النار والدين والمظالم ياعزيز يا غفار ،ياكريم ياستار ،يا حليم يا جبار برحمتك يا أرحم الراحمين ،وصلى ا وسلم على خير
خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين ،والحمد ل رب العالمين آمين .
خاتمة للمعرب
اعلم أن تصفية القلب ل تتم إل بطريقة الذر لقوله صلى ا عليه وسلم ) :إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلؤها ذكر ا
تعالى ( .ثم إن الذكر إما باللسان وإما بالقلب ،فذكر اللسان لتحصيل ذكر القلب ،وذكر القلب لتحصيل المراقبة ،وأقرب
التصفية للقلب الشتغال بذكر الطريقة النقشبندية وهو الذكر باسم الذات أو النفي والثبات ،وكيفية نذكر اسم الذات أن يتلفظ الذاكر
بلسان القلب لفظة )ا ( .لن القلب كله لسان وكله سمع وكله بصر .وأما كيفية ذكر النفي والثبات فهي أن تلفظ بلسان القلب )ل
إله( نافيا بها جميع تعلقات القلب عما سوى ا ثم يتلفظ بلسان القلب )إل ا ( مثبتا بها وجود وحدانية الحق فيه ،فإذا ذكر الذاكر
هذين السمين بهذه الكيفية تحصل له صفوة القلب وزكاه ،ويكون عارفا بال تعالى واصل إليه ويقدم وظيفة الذر به سائار العبادات
بعد الفرائاض ورواتبها في جميع الوقات إلى أن تحصل في قلبه ملكة حميدة ،وبعد ذلك يجوز له جميع الفضائال من العبادات لنه
عرف طرق الستفاضة من ا وعرف طريق التقرب إليه:
فذكر ا أحسن في الطريق من الورد المرتب للصة
نهاية الصفحة 193
بداية الصفحة 194
وأحسن من قراءة قول حق ومن عمل بكل النافلت
لن الذكر يجلى صداء قلب ويرفع عنه كل الحاجيات
وجاهد في جميع الوقت والزم بذكر ا تشهد واردات
توجه للله ودع سواه وراقب وارتفع للعاليات
والمراقبة هي رؤية جناب الحق سبحانه وتعالى بعين البصيرة على الدوام مع التعظيم ،وهي أقرب الطرق إلى ا تعالى من حيث
التقرب إليه .كما قيل :القصد إلى ا عز وجل بالقلوب أبلغ من حركات العضاء في العمال بالصلة والسلم والذكار
والوراد ونحوها ،لن صاحب الهمة العالية ل يزال عامل بقلبه وإن لم تساعده على العمال جوارحه فهو يكون دائاما في التقرب
وأبدا في التجب .
ثم اعلم أن الذاكر إذا بلغ مرتبة المراقبة ثبتت له وحدة الوجود اللهية وتحقق بداوم العبودية ،فإذا دوام على المراقبة ترقى إلى
المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أن أنوار وجود وحده الذات اللهية محيطة بجميع الشياء ،وأنه تعالى متجل بصفاته
وأسمائاه في مصنوعاته وبحسب استعداد المشاهدين يصير البتهاج بأنوار الربوبية والستكشاف بأسرار الحدية .
تمت في شهر رجب سنة 1327
القسطاس المستقيم
بسم ا الرحمن الرحيم
ميزان حقيقة المعرفة
أحمد ا تعالى أول ،وأصلى على نبيه المصطفى ثانيا ،وأقول :إخواني ،هل فيكم من يعيرني سمعه لحدثه بشيء من أسمارى
،فقد استقبلني في أسفارى رفيق من رفقاءأهل التعليم وغافصنى بالسؤال والجدال مغافضة من يتحدى باليد البيضاء والحجة
الغراء وقال لي :أراك تدعى كمال المعرفة ،فبأيِ ميزان تزن حقيقة المعرفة ؟ أبميزان الرأى والقياس ،وذلك في غاية التعارض
واللتباس ولجله ثار الخلف بين الناس ؟ أم بميزان التعليم فيلزمك اتباع المام المعصوم ،وما أراك تحرص على طلبه ؟ فقلت :
أما ميزان الرأى والقياس ،
نهاية الصفحة 194
بداية الصفحة 195
مجموعة رسائال المام الغزالي
فحاش ا أن أعتصم به فإنه ميزان الشيطان .ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة .فأسأل ا تعالى أن يكفيني شره
عن الدين فإنه للدين صديق جاهل ،وهو شر من عدو عاقل ولو رزق سعادة مذهب أهل التعليم ،لتعلم أول الجدال من القرآن
الكريم ،حيث قال تعالى ) :ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجاغدلهم بالتي هي أحسن ( ) النحل (125 :
واعلم أن المدعو إلى ا تعالى بالحكمة قوم وبالموعظة قوم بالمجادلة قوم ،فإن الحكمة إن غذى بها أهل الموعظة أضرت بهم كما
تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم الطير .وأن المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئاز طبع الرجل القوى
من الرتضاع بلبن الدمي .وأن من استعمل الجدال مع أهل الجدال ل بالطريق الحسن كما تعلم من القرآن كان كمن غذى
البدوى بخبز البر وهو لم يألف إل التمر أو البلديِ بالتمر وهو لم يألف إل البر ،وليته كانت له أسوة حسنة كما تعلم من القرأن في
إبراهيم الخليل صلوات ا علليه حيث حاج خصمه فقال ) ربي الذيِ يحي ويميت ( )البقرة . (258 :
فلما رأى أن ذلك ل يناسبه وليس حسنا عنده حين قال ) :أنا أحيي وأميت ( ) البقرة . (125عدل إلى الوفق لطبعه والقرب إلى
فهمه فقال ) :فإن ا يأتي الشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذيِ كفر ( ) البقرة . (258 :ولم يركب الخليل ظهر
اللجاج في تحقيق عجزه عن إحياء الموتى إذ علم أن ذلك يعسر عليه فهمه فإن ظن أن القتل إماته من جهته وتحقيق ذلك يلئام
قريحته ول يناسب حده في البصيرة ودرجته ،ولم يكن من قصد الخليل إفناؤه بل إحياؤه ،والتغذية بالغذاء والموافق إحياء.
واللجاج بالرهاق إلى ما ل يوافق إفناء .فهذه دقائاق ل تدرك إل بنور التعليم المقتبس من إشراق عالم النبوة ،وفلذلك حرموا
التفطن له إذ حرموا من سر مذهب التعليم .
فقال :إذا استوغرت سبيلهم واستوهنت دليلهم فبماذا تزن معرفتك .
فقلت :أزنها بالقسطاس المستقيم ليظهر لي حقها وباطلها ،ومستقيمها ومائالها :اتباعا ل تعالى وتعليما من القرآن المنزل على
لسان نبيه الصادق حيث قال ) :وزنوا بالقسطاس المستقيم ( ) السراء . (35 :
فقال :وما القسطاس المستقيم ؟
قلت :هي الموازين الخمس التي أنلها ا في كتابه وعلم أنبياءه الوزن بها .فمن تعلم من رسول ا صلى ا عليه وسلم ووزن
بميزان ا اهتدى .ومن ضل عنها إلى الرأيِ والقياس فقد ضل وتردى .
فقال :أين الموازين في القرآن وهل هذا ال إفك وبهتان ؟
نهاية الصفحة 195
بداية الصفحة 196
مجموعة رسائال المام الغزالي
قلت :ألم تسمع قوله تعالى في سورة الرحمن ) :الرحمن )( علم القرآن )( خلق النسان )( علمه البيان ( إلى قوله ) :ووضع
الميزان )( أل تطغوا في الميزان )( وأقيموا الوزن بالقسطول تخسروا الميزان ( )الرحمن . (9-1 :ألم تسمع قوله في سورة
الحديد ) :لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ( )الحديد .(25 :أتظن أ ،الميزان المقرون
بالكتاب هو الميزان البر والشعير والذهب والفضة ؟ أتتوهم أن الميزان القابل وضعه برفع السماء في قوله ) :والسماء رفعها
ووضع الميزان ( )الرحمن . (7 :وهو الطيار والقيان ،وما أبعد هذا الحسبان و أعظم هذت البهتان ،فاتق ا ول تعسف في
التأويل .واعلم يقينا أن هذا الميزان هو ميزان معرفة ا تعالى ومعرفة ملئاكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته لتتعلم كيفية الوزن
به من أنبيائاه كما تعلموا هم من ملئاكته .فإن ا تعالى هو المعلم الول ،والثاني جبريل ،والثالث الرسول صلى ا عليه وسلم ،
والخلق كلهم يتعلمون من الرسل ما ليس لهم طريق إلى المعرفة به إل بهم .
فقال :فبم عرفت أن ذلك الميزان صادق أم كاذب ؟ أبعقلك ونظرك ؟ فالعقول متعارضة .أم بالمام المعصوم الصادق القائام
بالحق في العالم ؟ وهو مذهبي الديِ أدعوا إليه .
فقلت :ذلك أيضا أعرفهبالتعليم ،ولكن من إمام الئامة محمد بن عبدا بن عبد المطلب صلى ا عليه وسلم فإني وإن كنت ل أراه
فإني أسمع تعليمه الذيِ تواتر إلى تواترا ل أشك فيه :وإنما تعليمه القرآن ،وبيان صدق موازينالقرآن معلوم من نفس القرآن فقال
) :هات برهانك ( وأخرج من القرآن ميزانك .أظهر لي كيف فهمت من نفس القرآن صدقه وصحته.
فقلت له :حدثني أنت بم تعرف صحة ميزان الذهب والفضة وصدقه ومعرفة ذلك فرض دينك إذا كان عليك دين حتى نقضيه تاما
من غير نقصان .أو كان لك على غيرك دين حتى تأخذه عدل من غير رجحان ،فإذا دخلت سوقا من أسواق المسلمين وأخذت
ميزانا من الموازين وقضيت أو استقضيت به الدين ،فبم تعرف أنك لم تظلم بنقصان في الداء أو برجحان في الستيفاء ؟
فقال :أحسن الظن بالمسلمين ،وأقول إنهم ل يشتغلون بالمعاملة إل بعد تعديل الموازين ،فإن عرض لي شك في بعض الموازين
أخذته ورفعته ونظرت إلى كفتي الميزان ولسانه ،فإذا استوى انتصاب اللسان من غير ميل إلى أحد الجانبين ورأيت مع ذلك تقابل
الكفتين .عرفت أنه ميزان صحيح صادق .
قلت :هب أن اللسان قد انتصب على الستواء ،وأن الكفتين متحاذيتان على السواء ،فمن أين تعلم أن الميزان صادق ؟
نهاية الصفحة 196
بداية الصفحة 197
مجموعة رسائال المام الغزالي
فقال :أعلم ذلك علما ضروريا يحصل لي من مقدمتين :إحداهما تجريبية ،والخرى حسية .أما التجريبية فهي أني علمت
بالتجربة أن الثقيل يهزيِ إلى السفل ،وأن الثقل أشد هويا فأقول :لو كانت إحدى الكفتين أثقل لكانت أشد هويا فهذه مقدمة كلية
تجريبية حاصلة عنديِ ضرورة .والمقدمة الثانية هي أن هذا الميزان بعينه رأيته لم تهو إحدى كفتيه ،بل حاذت الخرى محاذاة
مساواة.وهذه مقدمة حسية شاهدتها بالبصر فل أشك ل في المقدمة الحسية ول في الولى وهي مقدمة لتجربة .فيلزم في قلبي من
هاتين المقدمتين نتيجة ضرورية وهي العلم باستواء الميزان .إذ أقول :لو كانت إحداهما أثقل لكانت أهوى ومحسوس أنها ليست
بأهوى ،فمعلوم أنها ليست بأثقل .
قلت له :فهل هذا إل رأيِ وقياس عقلي ؟
قال :هيهات فإن هذا علم ضروريِ لزم من مقامات يقينية حصل اليقين بها من التجربة والحس فكيف يكون هذا رأيا وقياسا .
والرأيِ والقياس حدس وتخمين ل يفيدان برد اليقين وأنا أحس في هذا برد اليقين .
قلت :فإن عرفت صحة الميزان بهذا البرهان فبم عرفت الصنجة والمثقال .فلعله أخف أو أثقل من المثقال الصحيح ؟
فقال :إن شككت في هذا أخذت عيارة من صنجة معلومة عنديِ فأقابله بها فإذا ساوى علمت أن الذهب إذا ساواه كان مساويا
لصحنجتي فإن المساويِ للمساويِ مساو.
قلت :هل تعلم واضع الميزان في الصل من هو ،وهل هو الواضع الول ؟ والذيِ وضعه يعلم هذا الوزن .
قال :ل ،ومن أين أحتاج إليه وقد عرفت صحة الميزان بالمشاهدة والعيان .بل آكل البقل من حيث يؤتى به ول أسأل ن المبقلة ،
فإن واضع الميزان ل يراد لعينه ،بل يراد ليعرف منه صحة الميزان وكيفية الوزن به .وأنا قد عرفته كما حكيته ،وعرفته
فاستغنيت عن مراجعة صاحب الميزان عند كل وزن فإن ذلك يطول ول يظفر به في كل حين مع أني في غنية عنه.
قلت :فإن أتيتك بميزان في المعرفة مثل هذا وأوضح منه وأزيد عليه أ‘رف واضعه ومعلمه ومستعمله فيكون واضعه هو ا
ومعلمه جبريل ومستعمله الخليل ومحمد وسائار النبيين عليهم السلم أجمعين .وقد شهد ا تعالى لهم في ذلك بالصدق .فهل تقبل
ذلك مني ؟ وهل تصدق به ؟
فقال :إيِ وا وكيف ل أصدق به إن كان في الظهور مثل ما حكيته لي .
فقلت :الن أتوسم فيك شمائال الكياسة .وقد صدق رجائاي في تقويمك وتفهيمك
نهاية الصفحة 197
بداية الصفحة 198
مجموعة رسائال المام الغزالي
حقيقة مذهبك في تعليمك فأكشف لك عن الموازين الخمسة .المنزلة في القرآن لتستغني به عن كل إمام وتجاوز حد العميان فيكون
إمامك المصطفى صلى ا عليه وسلم ،وقائادك القرآن ،ومعيارك المشاهد والعيان .فأعلم أن موازين القرآن في الصل ثلثة :
ميزان التعادل ،وميزان التلزم ،وميزان التعاند .لكن ميزان التعادل ينقسم إلى ثلثة أقسام :إلى الكبر ،والوسط ،والصغر
،فيصير الجميع خمس .
القول في الميزان الكبر من موازين التعادل
ثم ،قال لي هذا الرفيق الكيس من رفقاء أهل التعليم :اشرح لي الميزان الكبر من موازين التعادل أول واشرح لي معنى هذه
اللقاب وهي التعادل والتلزم والتعاند ،والكبر والوسط والصغر ،فإنها ألقاب عجيبة .ول شك في أن تحتها معاني دقيقة .
فقلت :أما معنى هذه اللقاب فل تفهمها إل بعد شرحها وفهم معانيها لتدرك بعد ذلك مناسبة ألقابها لحقائاقها .وأعلمك أول أن
الميزان يشبه الميزان الديِ حكيته في المعنى دون الصور فإنه ميزان روحاني فل يساويِ الجسماني ،ومن أين يلزم أن ساويه
والموازين الجسمانية أيضا تختلف ،فإن القلسطون ميزان ،والطيار ميزان ،بل الصطرلب ميزان لمقادير حركات الفلك ،
والمسكرة ميزان لمقادير البعاد في الخطوط ،والشاقول ميزان لتحقيق الستقامة والنحناء .وهي وإن اختلفت صورها مشتركة
في أنها تعرفبها الزيادة والنقصان .بل العروض ميزان الشعر يعرف يعرف به أوزان الشعر ليتميز منزحفه عن مستقيمه وهو
أشد روحانية من الموازين المجسمة ،ولكنه غير متجرد عن علئاق الجسام لنه ميزان الصوات ول ينفصل الصوت عن الجسم
.وأشد الموازين يوم القيامة إذ به توزن أعمال العباد وعقائادهم ومعارفهم ،والمعرفة واليمان ل تعلق لهما بالجسام ،ولذلك كان
ميزانهما روحيا صرفا ،وكذلك ميزان القرآن للمعرفة روحاني ،لكن يرتبط تعريفه في عالم الشهادة بغلف لذلك الغلف التصاق
بالجسام وإن لم يكن جسما فإن تعريف الغير في هذا العالم ل يمكن إل مشافهة وذلك بالصوات .والصوت جسماني ،أو
بالمكاتبة وهي الرقوم وهي أيضا نقش في وجه القرطاس وهو جسم .هذا حكم غلفه الذيِ يعرض فيه وإنما هو في نفسه روحاني
محض ل علقة له مع الجسام إذ توزن به معرفة ا الخارجة عن عالم الجسام المقدس عن أن يناسب الجهات والقطار فضل
عن نفس الجسام ،ولكنه مه ذلك ذو عمود وكفتين ،والكفتان متعلقتان بالعمود فالعمود مشترك في الكفتين لرتباط كل واحدة
منهما به هذا في ميزان التعادل ،وأما ميزان التلزم فهو بالقبان أشبه لنه ذو كفة واحدة ولكن يقابلها من الجانب الخر الرمانة
وبها يظهر التفاوت والتقدير .
نهاية الصفحة 198
بداية الصفحة 199
مجموعة رسائال المام الغزالي
فقال :هذه طنطة عظيمة فأين المعنى فإني أسمع جعجعة ول رأيِ طحنا .
فقلت له :اصبر ) ول تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ( )طه . (114 :واعلم أن العجلة من
الشيطان والتأني من ا .واعلم أن الميزان الكبر هو ميزان الخليل صلوات ا عليه وسلم الذيِ استعمله مع نمرود فمنه تعلمنا
هذا الميزان لكن بواسطة القرآن ،وذلك أن نمرود ادعى اللهية ،وكانت اللهية عنده بالتفاق عبارة عن القادر على كل شيء.
فقال إبراهيم :الله إلهي لنه الذيِ يحيي ويميت وهو القادر عليه وأنت ل تقدر عليه .فقال ) :أنا أحيي وأميت ( يعني أنه يحيي
النطفة بالوقاع ويميت بالقتل ،فعلم إبراهيم صلى ا عليه وسلم أ ،ذلك يعسر عليه فهم بطلنه فعدل إلى ما هو أوضح عنده .
فقال ) :فإن ا يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذيِ كفر ( ) البقرة (258 :وقد أثنى ا عليه فقال ) :
وتلك حجتنا اتيناها إبراهيم على قومه ( ) النعام . (83 :فعلمت من هذا أن الحجة والبرهان في قول إبراهيم وميزانه .فنظرت
في يفية وزنه كما نظرت أنت في ميزان الذهب والفضة فرأيت في هذه الحجة أصلينقد ازدوجا فتولد منهما نتيجة هي معرفة إذ
القرآن مبناه على الحذف واليجاز .وكمال صورة هذا الميزان أن تقول كل من يقدر على اطلع الشمس فهو الله ،فهذا الصل
.وإلهي هو القادر على الطلع وهذا أصل آخر .فلزم من مجموعهما أن إلهي هو الله دونك يا نمرود .فانظر الن هل يكن أن
تعترف بالصلين معترف ثم يشك في النتيجة ،أو هل يتصور أن يشك في هذين الصلين شاك ؟ فإن قولنا :الله هو القادر على
اطلع الشمس ل شك فيه لن الله كان عندهم وعند كل أحد عبارة عن القادر على كل شيء ،وإطلع الشمس هو من جملة تلك
الشياء وهذا أصل معلوم بالوضع والتفاق .وقولنا :القادر على الطلع هو ا تعالى دونك معلوم بالمشاهدة فإن عجز نمرود
وعجز كل أحد سوى من يحرك الشمس مشاهد بالحس ونعني بالله محرك الشمس ومطلعها .فيلزمنا من معرفة الصل الول
المعلوم بالوضع المتفق عليه.ومن الصل الثاني المعلوم بالمشاهدة أن نمرود ليش هو القدر على تحريك الشمس .فنعلم بعد معرفة
هذين الصلين أن نمرود ليس بإله وإنما الله هو ا تعالى .فراجع نفسك الن هل ترى هذا أوضح من المقدمة التجريبية والحسية
اللتين عليهما صحة ميزان الذهب والفضة .
فقال :هذه المعرفة لزمة منه بالضرورة ول يمكنني أن أشك في لزوم هذه النتيجة منهما ،ولكن هذا ل ينفعني إل في هذا الموضع
وعلى الوجه الذيِ استعمله الخليل عليه الصلة والسلم وذلك في نفي إلهية نمرود وإقرار اللهية لمن تفرد بإطلع الشمس ،فكيف
إذن بها سائار المعارف التي تشكل علي وأحتاج إلى تمييز الحق فيها عن الباطل ؟
نهاية الصفحة 199
فقلت من وزن الذهب بميزان يمكنه أن يزن به الفضة و سائار الجواهر ,لن الموزون عرف مقداره ل لنه ذهب بل لنه ذو
مقدار ,و لذلك هذا البرهان كشف لنا عن هذه المعرفة ل لعينها ,بل لنها حقيقة من الحقائاق و معنى من المعاني فنتأمل انه لم
تلزم منه هذه النتيجة و نأخذ روحه و نجرده عن هذا المثال الخاص حتى ننتفع به حيث أردنا و إنما لزم هذا لن الحكم على الصفة
حكم على الموصوف بالضرورة ’ بيانه أن إيجاز هذه الحجة إن ربي مطلع و المطلع الله فيلزم منه أن ربي أله فالمطلع صفة
الرب ,و قد حكمنا على المطلع الذيِ هو صفته اللهية فلزم منه الحكم على ربي باللهية ,و كذلك في كل مقام حصلت لي معرفة
بصفة الشيئ و حصلت معرفة أخرى بثبوت حكم لتلك الصفة فيتولد منهما معرفة ثالثة بثبوت الحكم على الموصوف بالضرورة .
فقال :هذا يكاد دركه يدق على فهمي ,فإن تشككت فيه فمذا أصنع حتى يزول الشك ؟
قلت :خذ عيارة من الصنجة المعروفة عندك كما فعلت في ميزان الذهب و الفضة .
فقال :كيف أخذ عيارها ,و أين الصنجة المعروفة من هذا الفن ؟
قلت :الصنجة العروفة هي العلوم الولية الضرورية المستفادة إما من الحس أو من التجربة أو غريزة العقل ,فأنظر في
الولويات هل تتصور أن يثبت حكم على صفة إل و يتعدى إلى الموصوف ,فإذا مر بين يديك مثل حيوان منتفخ البطن و هو بغل
,فقال قائال هذا حامل ,فقلت له ,ألم تعلم أن البغل عقيم ل يلد ؟ فقل :نعم أعلم هذا بالتجربة .
فقلت له :فهل تعلم أن هذا بغل ؟ فنظر فقال ,فقال نعم قد عرفت ذلك بالحس و البصار .
فقلت :فالن تعرف انه ليس بحامل فل يمكنه أن يشك فيه بعد معرفة الصلين اللذين أحدهما تجريبي و الخر حسي ,بل يكون
العلم بأنه ليس بحامل علما ضروريا متولدا من بين العلمين السابقين كما تولد علمك في الميزان من العلم التجريبي بان الثقل هاو ,
و العلم الحسي بأن إحدى الكفتين ليست هاوية بالضافة إلى الخرى .
فقال :قد فهمت هذا فهما واضحا ,ولكن لم يظهر لي أن السبب لزومه أن الحكم على الصفة الحكم على الموصوف .
فقلت :تأمل فإن قولك :هذا بغل ,وصف و الصفة هو البغل و قولك :كل بغل عقيم ,حكم على البغل الذيِ هو صفة بالعقم فلزم
حكم بالعقم على الحيوان الموصوف بأنه بغل ,و كذلك إذا ظهر لك مثل أن كل حيوان حساس ثم ظهر لك في الدود أنه حيوان
فعل يمكنك أن تشك في أنه حساس و منهاجه أن تقول :كل دود حيوان و كل حيوان حساس فكل دود حساس لنك قلت كل دود
حيوان وصف الدود بأنه حيوان ,و الحيوان صفته ,فإذا حكمت على الحيوان بأنه حساس أو جسم أو غيره دخل فيه الدود ل
محالة و هذا ضروريِ ل يمكن الشك فيه .تعم شرط هذا أن تكون الصفة مساوية للموصوف أو اعم منه حتى يكون الحكم عليه
يشمل الموصوف به بالضرورة ,و كذلك من سلم في النظر الفقهي ,أن كل نبيذ مسكر ,و كل مسكر حرام ,ثم يمكنه أن يشك في
أن كل نبيذ حرام لن المسكر وصف النبيذ ,فالحكم عليه بالتحريم يتناول النبيذ إذ يدخل فيه الوصف ل محالة ,فكذلك في جميع
أبواب النظريات .
فقال :قد فهمت فهما ضروريا أن إيقاع الزدواج بين أصلين على هذا الوجه لنتيجة ضرورية ,و إن برهان الخليل صلوات ا
عليه برهان صحيح و ميزانه ميزان صادق و تعلمت حده و حقيقته و عرفت عياره من الصنجات المعروفة عنديِ ,و لكني
أشتهي أن أعرف مثال لستعمال هذا الميزان في مظان الشكال في العلوم فإن هذه المثلة واضحة بنفسها ول يحتاج فيها إلى
ميزان و برهان .
فقلت هيهات فبعض هذه المثلة معلومة بأنفسها بل هي متولدة من ازدواج الصلين إذ ل يعرف كون هذا الحيوان مثل عقيما إل
من عرف بالحس انه بغل و بالتجربة أن البغل ل يلد ,و إنما واضح بنفسه هو الول .فأما المتولد من أصلين فله أب و أم فل
يكون أوليا واضحا بنفسه بل بغيره ,و لكن ذلك الغير أعني الصلين قد يكون واضحا في بعض الحوال ,و ذلك بعد التجربة و
بعد البصار ,و كذلك يكون النبيذ حراما ليس واضحا بنفسه بل يعرف بأصلين .
أحدهما :أنه مسكر و هذا يعلم بالتجربة .
و الثاني :إن كل مسكر حرام و هذا بالخبر الوارد عن الشارع صلى ا عليه و سلم .فهذا يعرفك كيفية الوزن بهذا الميزان ,و
كيفية استعماله و إن أردت مثل أغمض من هذا فأمثلة ذلك عندنا ل تنحصر ول تنتهي بل بهذا الميزان عرفنا أكثر الغوامض فأقنع
منه بمثال واحد .
فمن الغوامض أن النسان ليس حادثا بنفسه إذا له مسبب و صانع و كذلك العالم .فإذا راجعنا هذا الميزان و عرفنا أن له صانعا و
أن صانعه عالم .فإنا نقول :كل جائاز فله سبب ,و اختصاص العالم أو النسان بمقداره الذيِ اختلف به جائاز .فإذن يلزم منه سببا
ول يقدر على التشكيك في هذه النتيجة من سلم الصلين و عرفهما .و لكن إن شك في الصلين يستنتج أيضا معرفتهما من أصلين
آخرين واضحين غلى أن ينتهي إلى العلوم الولية التي ل يمكن التشكيك فيها ,فإن العلوم الخفية الولية هي أصوت العلوم
الغامضة الجليلة و هي بدورها ,و لكن يستثمرها منها من يحسن الستثمار بالحراثة و الستنتاج بإيقاع الزدواج بينهما .
فإن قلت أنا شاك في الصلين جميعا فلم قلت إن كل جائاز فله سبب ؟ و لم قلت إن اختصاص النسان بمقدار مخصوص جائاز و
ليس بواجب ؟ فأقول :أما قولي :كل حائاز له سبب ,فواضح إذا فهمت معنى الجائاز لني اعني بالجائاز ما يتردد بين قسمين ,
متساويين ,فإذا تساوى شيئاان لم يختص أحدهما بوجود و عدم من ذاته لن ما ثبت للشيئ ,ثبت لمثله بالضرورة و هذا أولى .و
أما قولي اختصاص النسان بهذا المقدار مثل جائاز وليس واجب ,كقولي :غن الخط الذيِ يكتبه الكاتب و له مقدار مخصص
جائاز إذ الخط من حيث إنه خط ل يتعين له مقدار واحد بل يتصور أن يكون أطول و اقصر .فاختصاصه بمقدار عما هو أطول و
أقصر سببه الفاعل ل محالة ,إذ نسبة المقادير إلى قبول الخط لها متساوية ,و هذا ضروريِ .
كذلك نسبة المقادير إلى شكل النسان و أطرافه متساوية فتخصيصها ل محالة بفاعل .ثم أرتقى منه و أقول :فاعله عالم لنه كل
فعل مرتب محكم فيسند إلى علم فاعله و بنية النسان مرتبة محكمة فل بد أن يستند ترتيبها و تدريبها إلى علم فاعل بها .فههنا
أصلن إذا عرفتهما لم تشك في النتيجة احدهما أن بنية الدمي بنية مرتبة محكمة هذا يعرف بالمشاهدة من تناسب أعضائاه و
استعداده كل واحد لمقصود خاص كاليد للبطش و الرجل للمشي ,و معرفة تشريح العضاء يورث علما ضروريا به ,و أما
افتقار المرتب المنظوم إلى علم واضح أيضا فل يشك العاقل في أن الخط المنظوم ل يصدر إل من عالم بالكتابة و إن كان بواسطة
القلم الذيِ ل يعلم ,و أن البناء الصالح لفادة مقاصد الكتنان كالبيت و الحمام و الطاحونة و غيرها ل يصدر إل من عالم البناء ,
فإن أمكن التشكيك في شيئ من هذا فطريقه أن يرتقي منه إلى أوضح منه حتى يرتقي غلى أولويات .و شرح ذلك ليس من غرضا
بل الغرض أن نبين أن ازدواج الولويات على الوجه الذيِ أوقعه الخليل عليه السلم ميزان صادق مفيد لمعرفة حقيقية .ول قائال
بالبطال هذا فإنه إبطال لتعليم ا تعالى أنبياءه و إبطال لما أثنى ا عليه إذ قال ) :و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ( "
النعام ." 83و التعليم ل محالة حق إن لم يكن الرأيِ حقا و في إبطال الرأيِ و التعليم جميعا ول قائال به أصل.
القول في الميزان الوسط :
قال :قد فهمت الميزان الكبر وحده و عياره و مظنته و حقيقة استعماله فإشرح لي الميزان الوسط ما هو ,و من أين حصل
تعليمه ,و من وضعه ,و من استعمله
فقلت الميزان الوسط أيضا للخليل عليه السلم حيث قال ) :ل أحب الفلين ( " النعام . "76و كمال صورة هذا الميزان أن
القمر أفل فالقمر ليس بإله .
و لكن القران على إيجاز و الضمار مبناه ,لكن اللهية عن القمر ل يصدر ضروريا إل بمعرفة هذين الصلين و هو أن القمر
أفل و أن الله ليس بآفل فل اعلمه ضرورة ول حسا .
قلت و ليس غرض من حكاية هذا الميزان أن أعرفك أن القمر ليس بآفل ,بل غني أعلمك أن هذا الميزان صادق و المعرفة
الحاصلة منه بهذا الطريق من الوزن ضرورية ,و غنما حصل العلم به في حق الخليل عليه السلم .إذ كان معلوما عنده أن بآفل ,
و أن لم يكن ذلك العلم أوليا له بل مستفادا من أصلين آخرين يستنتجان العلم بأن الله ليس بمتغير و كل متغير حادث ,و الفول
هو التغير فبنى الوزن على المعلوم عنده ,فخذ أنت الميزان و استعمله حيث يحصل لك العلم بالصلين .
قال :فهمت بالضرورة أن هذا الميزان صادق و أن هذه المعرفة تلزم في الصلين إذ ضارا معلومين ,و لكن أريد أن تشرح لي
عياره من الصنجة المعروفة عنديِ ثم مثال استعمله في مضان الغموض فإن نفى اللهية عن القمر كالواضح عنديِ .
قلت :أما حده ,فهو أن كل مثلين وصف احدهما بوصف فسلب ذلك الوصف عن الخر فهما متباينان أيِ احدهما يسلب ذلك
الوصف عن الخر ول يوصف به ,و لما كان حد الميزان الكبر أن الحكم على العم حكم على الخص و يندرج فيه ل محالة ,
فحد هذا أن الذيِ ينفي عنه ما يثبت لغيره مباين لذلك الغير ,فالله ينفي عنه الفول و القمر يثبت له الفول ,فهذا يوجب التباين
بين الغلة و القمر و هو أن يكون القمر إلها ول الغلة قمرا .
و قد علم ا تعالى نبيه محمدا صلى ا عليه و سلم الوزن بهذا الميزان في مواضع كثيرة من القرآن إقتداء بأبيه الخليل صلوات
ا عليهما ,فاكتفى بالتنبيه على موضوعين و اطلب الباقي من اليات القرآن .
أحدهما :قوله تعالى لنبيه )) :قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق (( " المائادة " 18
و ذلك أنهم ادعوا أنهم أبناء ا فعلمه ا تعالى كيفية إظهار خطاياهم بالقسطاس المستقيم ,فقال )) :قل فلم يعذبكم بذنوبكم (( .و
كمال صورة هذا الميزان أن البنين ل يذبحون ,و انتم معذبون ,فإذا لستم أبنائاه فهنا أصلن :أما أن البنين ل يعذبون فيعرف
بالتجربة ,و أما انتم معذبون فيعرف بالشهادة و يلزم منهما ضرورة نفي النبوة .
الموضع الثاني :قوله تعالى )) :قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء ل من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين )
(6ول يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم (( " الجمعة . " 7 , 6و ذلك أنهم ادعوا الولية ,و كان من المعلوم أن الوالي يتمنى لقاء
وليه ,و كان من المعلوم أنهم ل يتمنون الموت الذيِ هو سبب اللقاء فلزم ضرورة أنهم ليسوا أولياء ل .و كمال ضرورة هذا
الميزان أن يقال :كل ولي يتمنى لقاء وليه و اليهودى ليس يتمنى لقاء ا فلزم منه أنه ليس بولي ل .و حده أن التمني يوصف به
الولي و ينفي عن اليهود فيكون الولي و اليهودى متباينين لسلب أحدهما عن الخر فل يكون الولي يهوديا ول اليهودى وليا .و اما
عياره من الصنجة المعلومة فما عنديِ أنك تحتاج إليه مع وضوحه ,و لكن إن أردت إستضهارا فأنضر انك إذا عرفا أن الحجر
جماد ثم عرفت أن النسان ليس بجماد كيف يلزمك منه أن تعرف أن النسان ليس بحجر لن الجمادية تثبت للحجر و تنفي عن
النسان :فل جرم أن يكون النسان مسلوبا عن الحجر و الحجر مسلوبا عن النسان فل النسان حجرا ول الحجر إنسانا .و أما
مظنة إستعماله في مواضع الغموض فكثير و احد شطريِ المعرفة التقديس و هو ما يتقدس عنه الرب تعالى علوا كبيرا و جميع
معارفه توزن بهذا الميزان إذ الخليل عليه السلم استعمل هذا الميزان في التقديس ,و علمنا كيفية الوزن به إذ عرف بهذا الميزان
نفى الجسمية عن ا تعالى .و كذلك نقول أن الله ليس بجوهر متحيز .و نقول ليس بعرض لن العرض ليس يحي العالم و الله
حي عالم فليس بعرض ,و كذلك سائار أبواب التقديس تولد معرفتها أيضا من ازدواج أصلين على هذا الوجه .
أحدهما :أصل سالب مضمون النفي .
و الثاني :أصل موجب مضمونه الثبات و تتولد منهما معرفة النفي و التقديس
القول في الميزان الصغر :
قال :قد فهمت هذا أيضا فهما ضروريا فإشرح لي الميزان الصغر وحده و عياره و مظنة و استعماله و الغوامض .
قلت :الميزان الصغر تعلمته من ا تعالى حيث علمه محمدا صلى ا عليه و سلم في القرآن ,و ذلك في قوله تعالى )) :و ما
قدر ا حق قدره إذ قالوا ما أنزل ا على بشر من شيئ قل من انزل الكتاب الذيِ جاء به موسى نورا و هدى للناس (( " النعام
" 97و وجه الوزن بهذا الميزان نقول قولهم بنفي إنزال الوحي على البشر قوله باطل الزدواج المنتج بين الصلين :
أحدهما :أن موسى عليه السلم بشر .
و الثاني أن موسى عليه السلم انزل عليه الكتاب فيلزم منه بالضرورة قضية خاصة و هو أن بعض البشر انزل عليه الكتاب و
تبطل به الدعوى العامة بأنه ل ينزل كتاب على بشر أصل .أما لصل الول و هو قولنا موسى بشر فمعلوم بالحس و أما الثاني
هو أن موسى منزل عليه الكتب فكان معلوما بإعترافهم ,إذ كانوا يخفون بعضه و يظهرون بعضه كما قال تعالى )) :تبدونها و
تخفون كثيرا (( " النعام , " 91و إنما ذكر هذا في معرض المجادلة بالحسن ,و من خاصية المجادلة أنه يكفي فيه لغيره فإن
النتيجة تلزمه إذا كان هو معترفا به ,و أكثر أدلة القرآن تجريِ على هذا الوجه ,فإن صادفت من نفسك إمكان الشك في بعض
أصولها و مقدمتها ,فإعلم أن المقصود بها محاجة ما لم يشك فيه ,و أما أنت فالمقصود في حقك أن تعلم منه كيف الوزن في سائار
المواضع و أما عيار هذا الميزان أن من يقول ل يتصور أن يمشي الحيوان بغير رجل ,فيعلم منك إذ قلت الحية حيوان و الحية
تمشي بغير رجل فيلزم منه أن بعض الحيوان بغير رجل ,و أن قول من يقول ل يمشي الحيوان إل برجل قول باطل منقوض و
أما موضع استعماله من الغوامض فكثير ,فإن بعض الناس مثل يقول كل كذب فهو قبيح لعينه فنقول من رأى نبيا من النبياء أو
الولياء قد إختفى من ظالم فسأله الظالم عن موضعه فأخفاه قوله هل هو كذب ,قال :نعم قلنا :فهل هو قبيح :قال :ل بل القبيح
الصدق المفضي إلى هلكه فنقول له :أنظر إلى الميزان فإنا نقول قوله في إخفاء محله كذب فهو أصل معلوم ,و هذا القول ليس
قبيح و هو الصل الثاني ,فيلزم منه أن كل كذب ليس قبيح فتأمل الن هل يتصور الشك في هذه النتيجة بعد العتراف بالصلين ,
و هل هذا أوضح مما ذكرته من المقدمة التجريبية و الحية في معرفة ميزان التقديس ,و أما حد هذا الميزان فهو أن كل وصفين
اجتمعا على شيئ واحد فبعض آحاد الوصفين ل بد أن يوصف بالخرة بالضرورة ول يلزم أن يوصف بأنه كله لزوما ضروريا ,
بل قد يكون في بعض الحوال و قد ل يكون فل يوثق ,أل ترى أن النسان يجتمع عليه الوصف بأنه حيوان و أنه جسم فيلزم منه
بالضرورة أن بعض الجسم حيوان بأنه جسم فإن وصف كل وصف بالخر إذا لم يكن ضروريا في كل حال لم تكن المعرفة
الحاصلة به ضرورية ,ثم قال الرفيق قد فهمت هذه الموازين الثلثة ,و لكن لما خصصت الول بإسم الكبر بالوسط بالثالث
بالصغر ؟
قلت :لن الكبر هو الذيِ يتسع لشياء كثيرة ,و الصغر خلفه ,و الوسط بينهما و الميزان الول أوسع الموازين ,إذ يمكن أن
يستفيد منه المعرفة بالثبات الخاص و النفي العام و النفي الخاص ,فقد أمكن أن يوزن به أربعة أجناس من المعارف ,و أما
الثاني فل يمكن أن يوزن به إل النفي و لكن يوزن به النفي العام و الخاص جميعا ,و أما الثالث فل يزن به إل الخاص كما ذكرت
لك أنه يلزم منه بعض أحد الوصفين يوصف به الخر لجتماعهما على شيئ واحد و ما ل يتسع إل للحكم الواحد الجزئاي فهو
أصغر ل محالة .نعم وزن الحكم العام به من موازين الشيطان و قد وزن به أهل التعليم بعض معارفهم و ألقاه في أمنية الخليل
صلوات ا عليه وسلمه في قوله )) :هذا ربي هذا أكبر (( " النعام " 78
و سأتلو عليك قصته بعد هذا إن شاء ا
القول في ميزان التلزم :
قال :فإشرح لي ميزان التلزم فقد فهمت القسام الثلثة من موازين التعادل .
قلت :هذا الميزان مستفاد من قوله تعالى )) :لو كان فيها آلهة إل ا لفسدتا (( " النبياء . "22و من قوله تعالى )) :قل لو كان
معه آلهة كما يقولون إذا لبتغوا إلى ذيِ العرش سبيل (( " السراء . " 42و من قوله تعالى )) لو كان هؤلء آلهة ما وردوها ((
" النبياء . " 99و تحقيق صورة هذا الميزان أن تقول :لو كان للعالم إلهان لفسد ,فهذا أصل .و معلوم أنه لم يفسد و هذا أصل
آخر ,فيلزم عنهما نتيجة ضرورية و هي نفي أحد اللهين ,و لو كان مع ذيِ العرش آلهة لبتغوا إلى ذيِ العرش سبيل ,و معلوم
أنهم لم يبتغوا فيلزم نفي آلهة سوى ذيِ العرش ,و أما عيار هذا الميزان بالصنجة المعلومة قولك :إن كانت الشمس طالعة
فالكواكب خفية .و هذا يعلم بالتجربة ,ثم تقول إن لم يأكل فلن فهو شبعان و هو يعلم بالتجربة ,ثم تقول و معلوم انه أكل و هذا
يعلم بالحس فيلزم من الصل التجريبي و الصل الحسي بالضرورة أنه غير شبعان ,و أما موضع إستعماله في الغوامض فكثير
حتى يقول الفقيه إن كان بيع الغائاب صحيحا فيلزم بتصريح اللزام ,و معلوم أنه ل يلزم بتصريح اللزام منه أنه ليس بصحيحا و
يعلم الصل الول بالستقراء الشرعي المفيد للضن و إن يفيد العلم ,و الثاني بتسليم الخصم و ماعدته و نقول في النظريات إن
كان صنعة العالم و تركيب الدمي مرتبا عجيبا محكما فصانعه عالم و هذا في العقل أولى ,و معلوم انه عجيب مرتب و هذا
مدرك بالعيان فيلزم منه أن صانع عالم ,ثم نرتقي .فنقول :إن كان صانعه عالما فهو حي معلوم بالميزان الول أنه عالم فيلزم
منه أنه حي ,ثم نقول إن كان حيا عالما فهو قائام بنفسه و ليس بغرض ,و معلوم الميزانين السابقين الولين أنه حي عالم فيلزم منه
أنه قائام بنفسه ,و كذلك تعرج من صفة تركيب الدمي إلى صفة صانعه و هو عالم ,ثم تعرج من العلم إلى الحياة .
ثم منها إلى الذات و هذا هو المعراج الروحاني ,و هذه الموازين سللم العروج إلى السماء ,ثم إلى خالق السماء و هذه الصول
درجات السللم و أما المعراج الجسماني ,فل تفي به كل قوة يختص ذلك بقوة النبوة ,و أما حد هذا الميزان فإن ما كل هو لزم
للشيئ فهو تابع له في كل حال ,فنفي اللزم يوجب بالضرورة نفي الملزوم ,و وجود الملزوم يوجب بالضرورة وجود اللزم ,
أما نفي اللزوم و وجود اللزم فل نتيجة لهما ,بل هما من موازين الشيطان و قد يزن به بعض أهل التعليم معرفته ,أما ترى أن
صحة الصلة يلزمها ل محالة كون المصلي متطهرا فل جرم يصح أن تقول إن كانت صلة زيد صحيحة فهو متطهرا ,و معلوم
أنه غير متطهر و هو نفي اللزم فلزم منه أنه صلته غير صحيحة و هو نفي الملزوم ,و كذلك إن قلت :و معلوم أنه متطهر
فيلزم منه أن صلته صحيحة فهذا خطا لنه ربما بطلت صلته بعلة أخرى ,فهذا وجود اللزم و لم يدل على وجود الملزوم ,و
كذلك إن قلت :و معلوم أن صلته ليست بصحيحة فهو إذا كان غير متطهر و هذا خطأ لنه ربما بطلت صلته بعلة أخرى ,فهذا
وجود اللزم و لم يدل على وجود الملزوم ,و كذلك إن قلت و معلوم أن صلته ليست بصحيحة فهو إذا كان غير متطهر و هذا
خطأ غير لزم لنه يجوز أن يكون عدم صحة الصلة لفقدان شرط آخر سوى الطهارة فهذا نفي الملزوم و لم يدل على نفي اللزم
.
القول في ميزان التعاند :
ثم قال إشرح لي ميزان التعاند و أذكر لي من القرآن موضعه و عياره و محل إستعماله .
قلت :أما موضعه من القرآن فقوله في تعليم نبيه محمد رسول ا صلى ا عليه و سلم )) :قل من يرزقكم من السموات و
الرض قل ا و إنا إياكم لعلي هدى أو في ضلل مبين (( " سبأ . " 34فإن لم يذكر قوله إنا أو إياكم في معرض التسوية و
التشكيك ,بل فيه إضمار أصل ىخر و هو لسنا على ضلل في قولنا :إن ا يرزقكم من السماء و الرض فإنه الذيِ يرزق من
السماء بإنزال الماء ,و من الرض بإثبات النيات فإذا أنتم ضالون بإنكار ذلك و كمال صورة هذا الميزان إنا و إياكم لعلى ضلل
مبين ,و هذا أصل ,ثم نقول :و معلوم أنا لسنا في ضلل و هذا أصل آخر ,فيلزم من إزدواجهما نتيجة ضرورية و هو أنكم في
ضلل .و أما عياره من الصنجات المعروفة فهو أن من دخل دارا ليس فيها إل بيتان ,ثم دخلنا أحدهما تره فيه فنعلم علما
ضروريا أنه في البيت الثاني ,و هذا الزدواج من أصلين :أحدهما قوله إنه في أحد البيتين قطعا
و به وزن بعض أهل التعليم كلمهم في مواضع كثيرة ذكرناها في قواصم ,و في جواب مفصل الخلف و الكتاب المستظهرى و
غيرهما من الكتب المستعملة ,و أما موضع إستعمال هذا من الغوامض فل ينحصر و لعل اكثر النظريات تدور عليه ,فغن من
أنكر موجودا قديما فنقول له :الموجودات إما أن تكون كلها حادثة أو بعضها حادث و بعضها قديم و هذا حاصر ,لنه بين النفي و
الثبات دائار ,ثم نقول و معلوم أن كلها ليست بحادثة فيلزم أن فيها قديما فإن قيل :فلم قيل إن كلها ليست حادثة ؟ فنقول :لنها
كلها لو كانت حادثة لكان حدوثها بأنفسها من غير سبب ,فبطل أن تكون كلها حادثة فثبت أن فيها موجودا قديما ,و نظائار
إستعمال هذا الميزان ل تنحصر .
فقال :قد فهمت بالحقيقة صدق هذه الموازيين الخمسة ,و لكن إشتهى أن أعرف معنى ألقابها و لم خصصت الول بأنه ميزان
التعادل ,و الثاني بإلتزام ,و الثالث بالتعاند ؟
قلت :سميت الول ميزان التعادل لن فيه أصلين متعادلين كأنهما كفتان متجاذبتان ,و سميت الثاني ميزان التلزم لن أحد
الصلين تشتمل على جزئاين :أحدهما لزم ,و الخر ملزوم كقوله تعالى )) :لو كان فيهما آلهة إل ا لفسدتا (( " النبياء " 22
.فغن قوله :لفسدتا ,لزم و ملزوم قوله :لو كان فيهما آلهة غل ا ,و لزمت النتيجة من نفي اللزم .
و سميت الثالث ميزان التعاند لنه رجع إلى حصر قسمين بين النفي و الثبات يلزم من ثبوت أحدهما نفي الخر و من نفي احدهما
ثبوت الخر فبين القسمين تعاند و تضاد .
فقال :هذه السامي أنت إبتدعتها و هذه الموازين أنت إنفردت بإستخراجها أم سبقت إليها ؟
قلت :أما هذه السامي فإني إبتدعتها ,و اما الموازين فإنا أستخرجها من القرآن ,و ما عنديِ أني سبقت إلى إستخراجها من
القرآن ,لكن أصل الموازيين قد سبق إستخراجها و لها عند مستخرجها من المتاخرين أسماء أخرى سوى ما ذكرته ,و عند بعض
المم السابقة على بعثة محمد و عيسى صلى ا عليهما و سلم أسامي أخرى ,كانوا قد تعلموها من صحف إبراهيم و موسى
عليهما الصلة و السلم ,ولكن بعثني على إبدال كسوتها بأسامي أخرى غير ما سموها به ما عرفت من ضعف قريحتك و طاعة
نفسك إلى الوهام ,فإني رأيتك من العتزاز بالظواهر بحث لما سقت عسل أحمرا في قارورة حجام لم تطق تناوله لتفور طبعك
عن المحجمة و ضعف عقلك عن أن يعرفك أن العسل ظاهر في أيِ زجاجة كان ,بل ترى التركي يلبس المرقعة و الدراعة فتحكم
عليه بأنه صوفي أو فقيه و لو لبس الصوفي القباء و القلنوسة حكم عليه وهمك بأنه تركي فأبدا يتحرك وهمك إلى ملحظة غلف
الشياء دون اللباب ,و كذلك ل تنظر إلى القول من نفس القول و ذاته بل من حسن صنعته أو حسن ظنك بقائاله ,فإذا كانت
عبارته مستكرهة عندك أو قائالها قبيح الحال إعتقدك رددت القول و غن كان في نفسه حسنا حقا ,فلو قيل لك :قل ل اله إل ا
عيسى رسول ا نفر عن ذلك طبعك ,و قلت :هذا قول أنصاريِ فكيف أقوله ,و لم يكن لك من العقل ما تعرف به أن هذا القول
في نفسه حق و أن النصراني ما مقل لهذه الكلمة لسائار الكلمات بل لكلمتين فقط ,إحداهما قوله :ا ثالث ثلثة ,و الثانية قوله :
محمد ليس برسول ا و سائار أقواله وراء ذلك حق ,فلما رأيتك و رأيت رفقاءك من أهل التعليم ضعفاء العقول ل تخدعهم إل
الظواهر نزلت إلى حدك فسقيتك الدواء في كوز الماء و سقتك به إلى الشفاه و تلطفت بك تلطف الطبيب بمريضه ,و لو ذكرت لك
أنه دواء و عرضته في قدح الدواء لكان يشمئاز من قبوله طبعك و لو قبلته لكنت تتجرعه ول تكاد تسبغه فهذا غرضي في إبدال
تلك السامي و إبداع هذه يعرفه من بعرفه ,و يجهله من يجهله ,و ينكره من ينكره .
فقال لقد فهمت هذا كله ,و لكن أينما كنت وعدت به من أن هذا الميزان له كفتان و عمود واحد تتعلق به الكفتان جميعا ,و لست
أرى في هذا الميزان الكفة و العمود ,و أينما ذكرته من الموازين التي هي أشبه بالقبطان ؟
قلت :هذا المعارف الست قد إستفادتها من ألين فكل أصل كفة و الجزء المشترك بين الصلين الداخل فيهما عمود ,و أضرب لك
مثل من الفقهيات فلعله أقرب إلى فهمك ,فأقول :قولنا :كل مسكر حرام كفة ,و قولنا :كل نبيذ مسكر كفة أخرى ,و النتيجة أن
كل نبيذ حرام فههنا في الصلين ثلثة أمور فقط :النبيذ و المسكر و الحرام .أما النبيذ فإنه يوجد في أحد الصلين فقط فهو كفة ,
و أما الحرام فيوجد في الصل الثاني فقط فهو الكفة الثانية ,و أما المسكر فمذكور في الصلين جميعا و هو مكرر فيها مشترك
بينما فهو العمود ,و الكفتان متعلقتان به إذ يتعلق به أحدهما و يتعلق الموصوف بالصفة ,و هو قولك نبيذ مسكر فإن النبيذ
موصوف بالسكر و الخرى متعلقة لتعليق الصفة بالموصوف و هو قولك .و كل مسكر حرام ,فنتأمل ذلك حتى تعرف فإن فساد
هذا الميزان تارة يكون من الكفة ,و تارة يكون من العمود ,و تارة يكون من تعلق الكفة بالعمود على ما أنبهك على رمز يسير
منه في ميزان الشيطان ,و أما الشبه بالقبطان فهو ميزان التلزم إذ أحد الطرفين أطول من الخر كثيرا ,فإنك تقول لو كان بيع
الغائاب صحيحا لزم بصريح اللزام و هذا أصل
)ص (210
طويل مشتمل على جزأين :لزم وملزوم ،والثاني وهو قولك وليس يلزم بصريح اللزام وهذا أصل آخر أقصر منه فكان أشبه
بالرمانة القصيرة المقابلة لكفة القبان ،وأما ميزان التعادل فتتعادل فيه كفتان ليست إحداهما أطول من الخرى ،بل كل واحدة منهما
تشتمل على صفة وموصوف فقط ،فافهم هذا مع ما عرفتك من أن الميزان الروحاني ل يكون كالميزان الجسماني بل يناسبه
مناسبة ما ،ولذلك يمكن تشبيهه بتولد النتيجة من ازدواج الصلين إذ يجب أن يدخل شيء من أحد الصلين في الخر وهو المكسر
الموجود في الصلين ،حتى تتولد النتيجة ،فإن لم يدخل جزء من أحد الصلين في الخر لم تتولد نتيجة كما تتولد من قولك كل
مسكر حرام وكل مغصوب مضمون نتيجة أصلل وهما أصلن ،لكن لم يجر بينهما نكاح وازدواج إذ ليس يدخل جزء من أحدهما
في الخر ،وإنما النتيجة تتولد من الجزء المشترك الداخل من أحدهما في الخر وهو الذيِ سميناه عمود الميزان ،ولو فتح لك باب
الموازنة بين المحسوس والمعقول لنفتح لك باب عظيم في معرفة الموازنة بين عالم الملك والشهادة ،وبين عالم الغيب والملكوت
وتحته أسرار عظيمة ،ومن لم يطلع عليها حرم القتباس من أنوار القرآن والتعليم منه ولم يحط من علمه إل بالقشور ،فكما أن في
القرآن موازين كل العلوم فكذلك فيه مفاتيح كل العلوم كما أشرت إليه في كتاب )جواهر القرآن( فاطلبه منه وليست الموازنة بين
عالم الملك والشهادة وعالم الغيب والملكوت ،إل بما يتجلى بعضه في المنام من الحقائاق المعنوية في المثلة الخيالية ،لن الرؤيا
جزء من النبوة وفي عالم النبوة يتجلى تمام الملك والملكوت ،ومثاله من النوم رجل رأى في منامه كأن في يده خاتلما يختم به أفواه
الرجال وفروج النساء فقص رؤياه على ابن سيرين ،فقال :إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل الصباح ،فقال :هو كذلك ،فانظر الن
لم تجل له حاله من عالم الغيب في هذا المثال ،واطلب الموازنة بين هذا المثال والذان قبل الصبح في رمضان ،وربما يرى هذا
المؤذن نفسه يوم القيامة وفي يده خاتم من نار ويقال له هذا هو الخاتم الذيِ كنت تختم به أفواه الرجال وفروج النساء ،فيقول :وا
ما فعلت هذا .فيقال :نعم كنت تفعله ولكن تجهله لن هذا روح فعلك ول تتجلى حقاق الشياء وأرواحها إل في عالم الرواح
ويكون الروح في غطاء من الصور في عالم التلبيس عالم الحس والخيال .والن قد كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد،
وكذلك يفتضح كل من ترك حلدا من حدود الشرع ،وإن أردت له حقيقة فاطلبه من باب حقيقة الموت في الحياء أو من كتاب
جواهر القرآن ،فترى فيه العجائاب ،وأطل التأمل فيه فعسالك تنفتح لك باب رؤيته إلى عالم الملكوت تسترق منها السمع ،فإني ما
أراك ينفتح لك بابها وأنت إنما تنتظر معرفة الحقائاق من معلم غائاب ل تراه ،ولو رأيته لوجدته أضعف منك في المعرفة كثيلرا
فخذها ممن سافر وتعرف وبحث فعلى الخبير سقطت فيه.
)ص (211
فقال :هذا الن حديث آخر يطول بيني وبينك اللجاج فيه ،فإن هذا المعلم الغائاب وإن كنت لم أر منظره فقد سمعت خبره كالليث إن
لم أره فقد رأيت أثره ولقد رأيت والدتي إلى أن ماتت ومولنا صاحب قلعة الموت يثنيان عليه ثنالء باللغا حتى قال إنه المطلع على
كل ما يجريِ في العالم ولو على ألف فرسخ ،أفأكذب والدتي وهي العجوز العفيفة السيرة أو مولنا وهو المام الحسن السيرة
والسريرة ،كل بل هما شاهدان صادقان كيف وقد طابقهما على ذلك جميع رفقائاي من أهل دامغان وأصبهان ولهم المر المطاع
وفي حكمهما سكان القلع ،أفترى أنهم منخدعون وهم الذكياء أو متنسمون وهم التقياء؟ هيهات هيهات دع عنك الغيبة ،فإن
مولنا يطلع على ما يجريِ بيننا من غير ريبة إذ ل يعزب عنهن مثقال ذرة في الرض ول في السماء فأخشى أن أتعرض لمقته
بمجرد السماع والصغاء فاطو طومار الهذيان وارجع إلى حديث الميزان واشرح لي ميزان الشيطان وكيفية وزن أهل التعليم به.
القول في موازين الشيطان وكيفية وزن أهل التعليم بها
فقلت :اسمع الن يا مسكين شرح ميزان رفقائاك فإنه بعد غلوائاك ،واعلم أن كل ميزان ذكرته من موازين القرآن فللشيطان في
جانبه ميزان ملصق به يمثله بالميزان الحق ليوزن به ،فيلغط لكن الشيطان إنما يدخل من موقع الثلم ،فمن سد الثلم وأحكمها أمن
الشيطان .ومواقع ثلمه عشرة قد جمعتها وشرحتها في كتاب النظر وكتاب معيار العلم إلى غير ذلك من الدقائاق في شروط الميزان
لم أذكرها الن لقصور فهمك عن إدراكها ،فإن أردت معاقد حملها ألفيتها في كتاب المحك ،وإن أردت شرح تفاصيلها وجدتها في
كتاب المعيار ،لكن أقدم الن أنموذلجا واحلدا وذلك هو الذيِ ألقاه الشيطان في خاطر إبراهيم الخليل عليه السلم إذ قال ا تعالى:
)وما أرسلنا من قبلك من رسول ول نبي إل إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ ا ما يلقي الشيطان ثم يحكم ا آياته( ]الحج:
.[52وإنما ذلك في مبادرته إلى الشمس وقوله :هذا ربي هذا أكبر ،لجل أنه أكبر أراد أن يخدعه به ،وكيفية الوزن به أن الله هو
الكبر ،فهذا أصل معلوم التفاق والشمس هي أكبر من الكواكب وهذا أصل آخر معلوم بالحس ،فيلزم منه أن الشمس إله وهي
النتيجة وهذا ميزان ألصقه الشيطان بالميزان الصغر من موازين التعادل لن الكبر وصف وجد للله ووجد للشمس ،فيوهم أن
أحدهما يوصف بالخر وهو عكس الميزان الصغر ،وحد ذلك الميزان أن يوجد شيئاان لشيء واحد ل أن يوجد شيء واحد لشيئاين
فإنه إن وجد شيئاان لشيء واحد وصف بعض أحدهما بالخر كما سبق ذكره .أما إذا وجد شيء واحد لشيئاين فل يوصف
)ص (212
أحد الشيئاين بالخر ،فانظر كيف يلبس الشيطان بالعكس .وعيار هذا الميزان الباطل من الصنجة الظاهرة البطلن اللون فإنه يوجد
للسواد والبياض جميلعا ،ثم ل يلزم أن يوصف البياض بالسواد أو السواد بالبياض ،بل لو قال قائال :البياض لون والسواد لون فيلزم
منه أن السواد بياض ،كان خطأ باطلل ،فكذلك قوله الله أكبر والشمس أكبر فالشمس إله ،فهذا خطأ إذ يجوز أن يوصف
المتضادان بوصف واحد ،فاتصاف شيئاين **بشيء واحد ل يوجد بين الشيئاين اتصالل .أما اتصاف شيء واحد بشيئاين فيوجب بين
الوصفين اتصالل وكل من فهمه أدرك التفرقة بين اتصاف شيء واحد بشيئاين وبين اتصاف شيئاين بشيء واحد.
فقال :قد اتضح لي بطلن هذا ،لكن متى وزن أهل التعليم كلمهم به؟.
قلت :وزنوا به كللما كثيلرا أشح على أوقاتي أن أضيعها بحكايته ،لكن أريك أنموذلجا واحلدا ،فلقد سمعت كثيلرا من قولهم إن الحق
مع الوحدة والباطل مع الكثرة ،ومذهب الرأيِ يفضي إلى الكثرة ،ومذهب التعليم يفضي إلى الوحدة فيلزم أن يكون الحق في مذهب
التعليم.
قال :نعم سمعت هذا كثيلرا واعتقدت هذا برهالنا وأعرفه برهالنا قاطلعا ل أشك فيه.
فقلت :هذا ميزان الشيطان فانظر كيف انتكس رفقاؤك واستعملوا قياس الشيطان وميزانه في إبطال ميزان الخليل صلوات ا عليه
وسلمه وسائار الموازين.
قال :وما وجه تخريجه عليه؟.
فقلت :الشيطان إنما يلبس في الموازين بتكثير الكلم فيه وتشويشه حتى ل يعلم منه موضع التلبيس وهذا كلم كثير حصله يرجع
إلى أن الحق يوصف بالوحدة ،فهذا أصل وأن مذهب التعليم يوصف بالوحدة فهذا أصل آخر ،فلزم منه أن مذهب التعليم يوصف
بالوحدة وصف واحد بالحق لن الوحدة في شيء واحد فاتصف به شيئاان ،فيجب اتصاف أحد الشيئاين بالخر كقول القائال :اللون
وصف واحد اتصف به البياض والسواد جميلعا فيلزم اتصاف البياض بالسواد ،وكقول الشيطان :الكبر وصف واحد يتصف به
الله والشمس فيلزم منه أن تتصف الشمس بالله فل فرق بين هذه الموازين الثلثة .أعني وجود اللون للسواد والبياض ووجود
الكبر للله والشمس ووجود الوحدة للتعليم والحق ،فتأمل لتفهم ذلك.
فقال :قد فهمت هذا قطلعا ولكني ل أقنع بمثال واحد فاذكر لي مثالل آخر من موازين رفقائاي ليزداد قلبي سكولنا إلى معرفة انخداعهم
بموازين الشيطان.
قلت :أما سمعت قولهم إن الحق إما أن يعرف بالرأيِ المحض أو بالتعليم المحض،
)ص (213
وإذا بطل أحدهما ثبت الخر وباطل أن يكون مدرلكا بالرأيِ العقلي المحض لتعارض العقول والمذاهب فثبت أنه بالتعليم.
فقال :إيِ وا قد سمعت ذلك كثيلرا هو مفتاح دعوتهم وعنوان حجتهم.
قلت :فهذا وزن بميزان الشيطان الذيِ ألصقه بميزان التعاند ،فإن إبطال أحد القسمين ينتج ثبوت الخر ،ولكن بشرط أن تكون
القسمة منحصرة ل منتشرة ،والشيطان يلبس المنتشرة بالمنحصرة ،فهذه منتشرة إذ ليست دائارة بين النفي والثبات ،بل يمكن قسم
ثالث وهو أن يدرك بالعقل والتعليم جميلعا وعياره من الصنجات المعلوم بطلنها قول القائال :اللوان ل تدرك بالعين بل بنور
الشمس .فقلنا :لم؟ فقال :ل تخلو إما أن تدرك بالعين أو بنور الشمس وباطل أن تدرك بالعين لنه ل يدرك بالليل فثبت أنه يدرك
بنور الشمس ،فيقال له :يا مسكين ثم قسم ثالث وهو أن يدرك بالعين ولكن عند نور الشمس.
ضا لكن أريد أن تزيدني شرلحا للغلط الواقع في النموذج الول وهو حديق الحق والوحدة ،فإن التفطن فقال :قد فهمت هذا أي ل
لموضع الغلط منه لطيف جلدا.
قلت :وجه الغلط ما ذكرت وهو التباس اتصاف شيء واحد بشيئاين باتصاف شيئاين بشيء واحد ،ولكن أصل هذا الغلط إيهام
العكس ،فإن من علم أن كل واحد حق ربما يظن أن كل حق واحد وليس يلزم هذا العكس بل اللزم منه عكس خاص ،وهو أن
بعض الواحد حق فإن قولك :كل إنسان حيوان ل يلزم منه عكس عام وهو أن كل حيوان إنسان بل اللزم أن بعض الحيوان إنسان
ول يستولي الشيطان بحيله على الضعفاء بأشد وأكثر من تحيله بإيهام العكس العام حتى ينتهي إلى المحسوسات حتى أن من رأى
حبلل أسود مبرقش اللون يرتاع منه لشبهه بالحية وسببه معرفته أن كل حية فطويل متبرقش اللون فيسبق وهمه إلى عكسه العام،
ويحكم بأن كل طويل متبرقش اللون فهو حية فيظن منه عكلسا عالما ،وهو أن كل طويل متبرقش اللون أسود فهو حية ،وإنما اللزم
منه عكس خاص وهو أن بعض الطويل المتبرقش حية ل أن كله كذلك ،وفي العكس والنقيض دقائاق كثيرة ل تفهمها إل من كتاب
محك النظر ومعيار العلم.
فقال :إني أجد بكل مثال تذكره طمأنينة أخرى لمعرفة موازين الشيطان فل تبخل علي بمثال آخر من موازين الشيطان.
قلت :إن فساد ذلك الميزان تارة يكون من سوء التركيب بأن ل يكون تعلق الكفتين بالعمود تعللقا مستقيلما وتارة يكون من نفس الكفة
وفساد طينتها التي منها اتخذت فإنها إما أن تتخذ من حديد أو** نحاس أو جلد حيوان ،فلو اتخذت من الثلج أو القطن لم يمكن
الوزن به .والسيف تارة يفسد لخلل شكله بأن يكون على هيئاة العصا غير معترض ول حاد،
)ص (214
وتارة يكون من فساد طينته ومادته التي منها اتخذ بأن يكون متخلذا من خشب أو طين ،وكذلك ميزان الشيطان قد يكون فساده لفساد
تركيبه كما ذكرته في مثال كبر الشمس ووحدة الحق فإن صورتها مختلة معكوسة كالذيِ يجعل الكفتين فوق العمود فيريد أن يزن
ك دأن دتلساجدد
به ،وتارة يكون لفساد المادة كقول إبليس :أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين في جواب قوله تعالى) :دما دمدندع د
ت همدن اللدعاهليدن( ]ص .[75 :وقد أدرج إبليس في هذا ميزانين إذ علل منع السجود بكونه خيلرا منه ثم ت أدلم اكن د
يِ أدلسدتلكدبلر د لهدما دخدللق ا
ت هبديدد ا
أثبت الخيرية بأنه خلق من نار ،وإذا صرح بجميع أجزاء حجته وجد ميزانه مستقيم التركيب لكن فاسد المادة ،وكمال صورته أن
يقول ما خلق من نار خير والخير ل يسجد فأنا إلذا ل أسجد فكل أصلي هذا القياس ممنوع لنه غير معلوم ،والعلوم الخفية توزن
بالعلوم الجلية ،وما ذكره غير جلي ول مسلم إذ نقول له :نسلم أنك خير منه وهذا منع الصل الول ،والخر أنا ل نسلم أن الخير
ل يلزمه السجود لن اللزوم والستحقاق بالمر ل بالخيرية ،لكن ترك إبليس الدللة على الصل الثاني وهو أن اللزوم
والستحقاق بالمر ل بالخيرية واشتغل بإقامة الدليل على أنه خير :لني خلقت من نار .وهذه دعوى الخيرية بالنسب وكمال
ضا فاسدة فإنا صورة دليله وميزانه أن يقول المنسوب إلى الخير خير ،وأنا منسوب إلى الخير فإلذا أنا خير ،وكلتا هاتين الكفتين أي ل
ل نسلم أن المنسوب إلى الخير خير بل الخيرية بصفات الذات ل بالنسب ،فيجوز أن يكون الحديد خيلرا من الزجاج ثم يتخذ من
الزجاج بحسن الصنعة ما هو خير من المتخذ من الحديد ،وكذلك نقول إبراهيم صلوات ا عليه خير من ولد نوح وإن كان إبراهيم
ضا غير مخلولقا من آزر وهو كافر وولد نوح من نبي .وأما أصله الثاني وهو أنه مخلوق من خير لن النار خير من الطين فهذا أي ل
مسلم بل الطين خير لنه من التراب والماء ،وربما يقال إن بامتزاجهما قوام الحيوان والنبات وبهما يحصل النشوء والنمو ،وأما
النار فمفسدة ومهلكة للجميع فقوله إن النار خير باطل .فهذه الموازين صحيحة الصورة فاسدة المادة تشبيلها بالسيف المتخذ من
الخشب بل هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيلئاا ووجد ا عنده فوفاه حسابه ،وكذا يرى أهل التعليم
ضا مدخل من مداخل الشيطان ينبغي أن يسد ،بل المادة الصحيحة التي أحوالهم يوم القيامة إذا كشفت لهم حقائاق موازينهم وهذا أي ل
تستعمل في النظر كل أصل معلوم قطلعا إما بالحس ،وإما بالتجربة ،وإما بالتواتر الكامل أو بأول العقل أو بالستنتاج من هذه
الجملة .أما الذيِ يستعمل في المحاجة والمجادلة فما يعترف به الخصم ويسلمه وإن لم يكن معلولما في نفسه فإنه تصير حجته عليه
وكذلك تجريِ بعض أدلة القرآن ،فل ينبغي أن ننكر أدلة القرآن إذا أمكنك التشكيك في أصولها لنها أوردت على طوائاف كانوا
معترفين بها.
)ص (215
القول في الستغناء بمحمد صلى ا عليه وسلم وبعلماء أمته عن إمام معصوم آخر وبيان معرفة صدق محمد صلى ا عليه وسلم
بطريق أوضح من النظر في المعجزات وأوثق منه وهو طريق العارفين
فقال :لقد أكملت الشفاء وكشفت الغطاء وأتيت باليد البيضاء لكن بنيت قصلرا وهدمت مصلرا ،فإني إلى الن كنت أتوقع أن أتعلم
منك الوزن بالميزان وأستغني بك وبالقرآن عن المام المعصوم فالن إذا ذكرت هذه الدقائاق في مداخل الغلط فقد آيست من
الستقلل به ،فإني ل آمن أن أغلط لو اشتغلت بالوزن وقد عرفت الن لم اختلف الناس في هذه المذاهب وذلك لنهم لم يتفطنوا
لهذه الدقائاق كما فطنت ،فغلط بعضهم وأصاب بعضهم ،فإلذا أقرب الطرق لي أن أعول على المام المعصوم حتى أتخلص من هذه
الدقائاق.
فقلت :يا مسكين ،معرفتك بالمام الصادق ليست ضرورية فهي إما أن تكون تقليلدا للوالدين أو موزونة بشيء من الموازين فإن كل
علم ليس أولليا فبالضرورة يكون حاصلل عند صاحبه بقيام هذه الموازين في نفسه وإن كان هو ل يشعر به ،فإنك عرفت صحة
ميزان التقدير بانتظام الصلين في ذهنك التجريبي والحسي ،وكذلك سائار الناس وهو ل يشعرون به ومن يعرف مثلل أن هذا
الحيوان غير حامل لنه بغل عرفه بانتظام الصلين اللذين ذكرناهما في صدر الكتاب وإن كان ل يشعر بمصدر علمه .وكذلك كل
علم في العالم يحصل للنسان فيكون كذلك فأنت إن أخذت اعتقاد العصمة في المام الصادق بل في محمد صلى ا عليه وسلم
تقليلدا للوالدين والرفقاء لم تتميز عن اليهود والنصارى والمجوس ،فإنهم كذلك فعلوا ،وإن أخذته من الوزن بشيء من هذه
الموازين فلعلك غلطت في دقيقة من دقائاقه فينبغي على زعمك أن ل تثق به.
فقال :صدقت ،فأين الطريق فلقد سددت علاي طريق التعليم والوزن جميلعا.
قلت :هيهات راجع القرآن فقد علمك الطريق ،إذ قال تعالى) :إن الذين اتقوا إذا مسهم طائاف من الشيطان تذكروا فإذا هم
مبصرون( ]العراف .[201 :ولم يقل سافروا إلى المام المعصوم فإذا هم مبصرون فأنت تعلم أن المعارف كثيرة فلو ابتدأت في
كل مشكلة سفلرا إلى المام المعصوم بزعمك طال عناؤك وقل علمك ،لكن طريقك أن تتعلم مني كيفية الوزن وتستوفي شروطه
فإن أشكل عليك شيء عرضته على الميزان وتفكرت في شروطه
)ص (216
بفكر صاف وجد واف فإذا أنت مبصر وهذا كما لو حسبت ما للبقال عليك أو لك عليه أو قسمت في مسألة من مسائال الفرائاض ي
وشككت في الصابة والخطأ فيطول عليك أن تسافر إلى المام المعصوم ،ولكن تحكم على الحساب وتتذكره ول تزال تعاوده مرة
بعد أخرى حتى تستيقن قطلعا أنك ما غلطت في دقيقة من دقائاقها وهذا يعرفه من يعرف علم الحساب ،وكذلك من يعرف الوزن به
كما أعرفه فينتهي به التذكر والتفكر والمعاودة مرة بعد أخرى إلى اليقين الضروريِ بأنه ما غلط ،فإن لم تسلك هذه الطريق لم تفلح
قط وصرت تشكك بلعل وعسى ولعلك قد غلطت في تقليدك لمامك بل للنبي الذيِ آمنت به فإن معرفة صدق النبي صلى ا عليه
وسلم ليست ضرورية.
فقال :لقد ساعدتني على أن التعليم حق ،وأن المام هو النبي صلى ا عليه وسلم واعترفت بأن كل واحد ل يمكنه أن يأخذ العلم من
النبي صلى ا عليه وسلم دون معرفة الميزان ،وأنه ل يمكنه معرفة تمام الميزان إل منك فكأنك ادعيت المامة لنفسك خاصة ،فما
برهانك ومعجزتك ،فإن إمامي إما أن يقيم معجزة وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائاه إليه ،فأين نصك وأين معجزتك؟.
فقلت :أما قولك :إنك تدعي المامة لنفسك خاصة ،فليس كذلك فإني أرجو أن يشاركني غيريِ في هذه المعرفة فيمكن أن يتعلم منه
كما يتعلم مني فل أجعل التعليم وقلفا على نفسي .وأما قولك :تدعي المامة لنفسك ،فاعلم أن المام قد نعني به الذيِ يتعلم من ا
تعالى بواسطة جبريل وهذا ل أدعيه لنفسي ،وقد نعني به الذيِ يتعلم من ا بغير جبريل ومن جبريل بواسطة الرسول ،ولهذا سمي
علي رضي ا عنه إمالما فإنه تعلم من الرسول ل من جبريل ،وأنا بهذا المعنى أدعي المامة لنفسي أما برهاني عليه فأوضح من
النص ومما تعتقده معجزة فإن ثلثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن.
فقلت :ما برهانك؟ فقال أحدهم :برهاني أنه نص علي الكسائاي أستاذ المقرئاين إذ نص على أستاذيِ وأستاذيِ نص علي فكأن
الكسائاي نص علي .وقال الثاني :إني أقلب العصا حية فقلب العصا حية .وقال الثالث :برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من
غير مصحف ،فليت شعريِ أن هذه البراهين أوضح عندك وقلبك بأيها أشد تصديلقا؟ فقال :بالذيِ قرأ القرآن فهو غاية البراهين إذ
ل يخالجني فيه ريب ،أما نص أستاذه عليه ونص الكسائاي على أستاذه فيتصور أن تقع فيه أغاليط ل سيما عند طول السفار .وأما
قلب العصا حية فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس وإن لم يكن تلبيلسا فغايته أنه فعل عجيب ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب
ينبغي أن يكون حافلظا للقرآن.
)ص (217
ضا أني كما عرفت هذه الموازين فقد عرفت وأفهمت وأزلت الشك عن قلبك في صحته فليزمك اليمان قلت :فبرهاني إلذا أي ل
بإمامتي كما أنك إذا تعلمت الحساب وعلمته من أستاذ فإنه إذا علمك الحساب حصل لك علم بالحساب ،وعلم آخر ضروريِ بأن
ضا في أنه حاسب ،وكذلك آمنت أنا بصدق أستاذك حاسب وعالم الحساب ،وكذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أي ل
محمد صلى ا عليه وسلم وصدق موسى عليه السلم ل بشق القمر ول بقلب العصا حية بمجردها ،فإن ذلك يتطرق إليه حينئاذ
التباس كثير فل يوثق به بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل .فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جلدا ،لكني
تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها جميع المعارف اللهية بل أحوال المعاد .وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل
الطاعة ،كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن فوجدت جميعها موافقة لما في القرآن ،ولما في الخبار فتيقنت أن محملدا صلى ا
عليه وسلم صادق وأن القرآن حق ،وفعلت كما قال علي رضي ا عنه إذ قال" :ل تعرف الحق بالرجال أعرف الحق تعرف
أهله" .فكانت معرفتي بصدق النبي صلى ا عليه وسلم ضرورية كمعرفتك إذا رأيت رجلل غريلبا يناظر في مسألة من مسائال
الفقه ويحسن فيها ويأتي بالفقه الصحيح الصريح ،فإنك ل تتمارى في أنه فقيه ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين الحاصل بفقهه
صا ثعبالنا لن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس والطلسم وغيرها ول يحصل العلم بالقرآن بينها وبين هذه لو قلب ألف ع ل
الشياء ،وكونها معجزة إل بعد بحث طويل ونظر دقيق ويحصل به إيمان ضعيف هو إيمان العوام والمتكلمين ،فأما إيمان أرباب
المشاهدة الناظرين من مشكاة الربوبية كذلك تكون.
ضا أشتهي أن أعرف النبي صلى ا عليه وسلم كما عرفته ،وقد ذكرت أن ذلك ل يعرف إل بأن توزن جميع المعارف فقال :فأنا أي ل
اللهية بهذا الميزان وما اتضح عنديِ أن جميع المعارف الدينية يمكن وزنها بهذه الموازين فيما أعلم ذلك؟.
قلت :هيهات ل أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط ،بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلمية وكل
علم حقيقي غير وضعي ،فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين ،وكيف ل وهو القسطاس المستقيم والميزان الذيِ هو رفيق
الكتاب والقرآن في قوله تعالى) :لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( ]الحديد .[25 :وأما
معرفتك بقدرتي على هذا فل تحصل ل بنص ول بقلب العصا ثعبالنا ،ولكن تحصل بأن تستكشف ذلك تجربة وامتحالنا فمدعي
الفروسية ل ينكشف صدقه حتى يركب فرلسا ويركض ميدالنا فسلني عما شئات من العلوم الدينية لكشف لك الغطاء عن الحق فيه
واحلدا واحلدا وأزنه بهذا الميزان وزلنا يحصل لك علم ضروريِ بأن الوزن صحيح وأن العلم المستفاد منه مستيقن ومن لم يجرب لم
يعرف.
ص 218
فقال :وهل يمكنك أن تعرف جميع الحقائاق والمعارف اللهية جميع الخلق فترفع الختلفات الواقعة بينهم؟.
قلت :هيهات ل أقدر عليه وكان إمامك المعصوم إلى الن قد رفع الختلفات بين الخلئاق وأزال الشكالت عن القلوب ،بل
النبياء متى رفعوا الختلف ومتى قدروا عليه بل اختلف الخلق حكم ضروريِ أزلي .ول يزالون مختلفين إل من رحم ربك
ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك ،أفأدعي أن أرد قضاء ا الذيِ قضى به الزل أو يقدر إمامك أن يدعي ذلك فإن كان يدعيه فلم
ادخره إلى الن والدنيا طافحة بالختلفات ،وليت شعريِ رئايس المة علي بن أبي طالب رضي ا عنه كما سبب رفع الختلفات
بين الخلق أو سبب تأسيس اختلفات ل تنقطع أبد الدهر.
القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الختلفات
فقال :كيف نجاة الخلق من هذه الختلفات؟
قلت :أن اصغوا إلي ،رفعت الختلف بينهم بكتاب ا تعالى ،ولكن ل حيلة في إصغائاهم فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى النبياء ول
إلى إمامك ،فكيف يصغون إلاي وكيف يجتمعون على الصغاء وقد حكم عليهم في الزل بأنهم ل يزالون مختلفين إل من رحم ربك
ولذلك خلقهم ،وكون الخلف بينهم ضرورليا تعرفه من كتاب جواب مفصل الخلف وهو الفصول الثنا عشر.
فقال :فلو أصغوا كيف كنت تفعل؟ قلت :كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب ا تعالى ،إذ قال) :وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم
الناس بالقسط وأنزلنا الحديد( ]الحديد .[25 :وإنما أنزل هذه الثلث لن الناس ثلثة أصناف وكل واحد من الكتاب والحديد
والميزان علج قوم.
فقال :فمن هم وكيف علجهم؟ قلت :الناس ثلثة أصناف عوام وهم أهل السلمة البله وهم أهل الجنة ،وخواص وهم أهل الذكاء
والبصيرة ويتولد بينهم طائافة هم أهل الجدل والشغب فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة .أما الخواص فإني أعالجهم بأن
أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها فيرتفع الخلف بينهم على قرب وهؤلء قوم اجتمع فيهم ثلث خصال:
إحداها :القريحة النافذة والفطنة القوية وهذه عطية فطرية وغريزة جبلية ل يمكن كسبها.
والثانية :خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع فإن المقلد ل يصغي والبليد وإن أصغى فل يفهم.
ص 219
الثالثة :أن يعتقد في أني من أهل البصيرة بالميزان ومن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب ل يمكنه أن يتعلم منك.
والصنف الثاني البله :وهم جميع العوام وهؤلء هم الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائاق وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية
ضا داعية الجدل بخلف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم عنه .فهؤلء ل الطلب بل شغلتهم الصناعات والحرف وليس فيهم أي ل
يختلفون ولكن يتخيرون بين الئامة المختلفين فأدعو هؤلء إلى ا بالموعظة كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة ،وأدعو أهل الشغب
بالمجادلة وقد جمع ا سبحانه وتعالى هذه الثلثة في آية واحدة كما تلوته عليك أولل ،فأقول لهم ما قاله رسول ا صلى ا عليه
وسلم لعرابي جاءه فقال :علمين في غرائاب العلم فعلم رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه ليس أهلل لذلك ،فقال :وماذا علمت في
رأس العلم أيِ اليمان والتقوى والستعداد للخرة اذهب فاحكم رأس العلم ثم ارجع لعلمك من غرائابه .فأقول للعامي :ليس
الخوض في الختلفات من عشك فادرج فإياك أن تخوض فيه أو تصغى إليه فتهلك ،فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة
لم تكن من أهل الحياكة ،وقد صرفت عمرك في غير العلم ،فكيف تكون من أهل العلم ومن أهل الخوض فيه ،فإياك ثم إياك أن
تهلك نفسك فكل كبيرة تجريِ على العامي أهون من أن يخوض في العلم فيكفر من حيث ل يدريِ .فإن قال :ل بد من دين أعتقده
وأعمل به لصل به إلى المغفرة والناس مختلفون في الديان ،فبأيِ دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له :للدين أصول
لصول فليس عليك أن تعتقد فيها إل ما في القرآن ،فإن ا تعالى لم يستر عن عباده صفاته وفروع والختلف إنما يقع فيهما ،أما ا ل
وأسماءه ،فعليك أن تعتقد أن ل إله إل ا وأن ا حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء إلى جميع ما ورد
في القرآن واتفق عليه الئامة ،فذلك كاف في صحة الدين وإن تشابه عليك شيء ،فقل :آمنا كل من عند ربنا واعتقد كل ما ورد في
إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة واعتقاد أنه ليس كمثله شيء وبعد هذا ل تلتفت إلى القيل والقال
فإنك غير مأمور به ول هو على حد طاقتك ،فإن أخذ يتحذلق ويقول عليه وقد اختلف فيه الشعرية والمعتزلة فقد خرج بهذا عن
حد العوام إذ العامي ل يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل ،فإن ا ل** يهلك قولما إل يؤتيهم الجدل كذلك ورد
الخبر ،وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علجهم هذا ما أعظ به في الصول وهو الحوالة على كتاب ا فإن ا أنزل الكتاب
والميزان والحديد وهؤلء أهل الحوالة على الكتاب.
وأما الفروع فأقول :ل تشغل قلبك بمواقع الخلف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه فقد اتفقت الئامة على أن زاد الخرة هو
التقوى والورع ،وأن الكسب الحرام والمال الحرام
ص 220
و الغيبة و النميمة و الزنى و السرقة و الخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام ،و الفرائاض كلها واجبة فإن فرغت من جميعا
علمتك طريق الخلص من الخلف فإن هو طالبنى بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلى و ليس بعامى و متى تفرغ العامى من
هذا إلى مواضع الخلف.أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذا ثم أخذ إشكال الخلف بمخنقهم هيهات ما أشبه ضعف عقولهم فى
خلفهم إل بعقل مريض به مرض أشرف على الموت و له علج متفق عليه الطباء فى بعض الدوية أنها حارة أو باردة
وربما افتقرت إليه يوما ل فأنا ل أعالج نفسى حتى أجد من يعلمنى رفع الخلف فيه.نعم لو رأيتم صالحا ل قد فرغ من حدود التقوى
كلها.و قال:ها أنا تشكل علاى مسائال فإنى ل أرى أتوضأ من اللمس و القئ و الرعاف و أنوى الصوم بالليل فى رمضان أو بالنهار
إلى غير ذلك ،فأقول له :إن كنت تطلب المان فى طريق الخرة فاسلك سبيل الحتياط و خذ مما يتفق عليه فتوضأ من كل ما فيه
خلف فإن كل من ل يوجبه يستحبه ،وانو الصوم بالليل فى رمضان فإن من ل يوجبه يستحبه ،فإن قال :هو ذا يثقل عليى الحتياط و
يعرض لى مسائال تدور بين النفى و الثبات ،و قال :ل أدرى أأقنت فى الصبح أم ل و أجهر بالتسمية أم ل،
فأقول له :الن اجتهد مع نفسك و انظر إلى الئامة أيهم أفضل عندك و صوابه أغلب على قلبك كما لو كنت مريضا ل وفى البلد أطباء
فإنك تختار بعض الطباء باجتهادك ل بهواك وطبعك فيكفيك مثل ذلك الجتهاد فى أمر دينك ،فمن غلب على ظنك أنه الفضل
اا صلى ي ا فى ذلك أجر واحد ،و كذلك قال رسول ي ا فله فى ذلك أجران.وإن أخطأ فله عند ي فاتبعه فإن أصاب فيما قال عند ي
ا تعالى المر إلى أهل الجتهاد و قال عليه و سلم إذ قال" :من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" .ورد ي
تعالى لتعليمه الذين يستنبطون منهم و ارتضى الجتهاد لهله و قال تعالى لتعليمه الذين يستنبطونه منهم و ارتضى الجتهاد لهله
ا عليه ا صلى ي جهد؟"قال :بسنة رسول ي ا،قال":دفإهلن لدلم دن ها عليه و سلم لمعاذ":بدم دتلحاكام؟" قال :بكتاب ي ا صلى ي إذ قال رسول ي
ي ي
جهد؟"قال :أجتهد رأيى،قال:ذلك قبل أن أمره به رسول ا صلى ا عليه و سلم و أذن له فيه،فقال النبى و سلم ،قال":دفإهلن دللم دت ه
اا" .ففهم من ذلك أنه مرضى به من رسول ي ا لما يرضاه رسول ي ا عليه و سلم":الحمد يل الذى وافق رسول رسول ي صلى ي
ا عليه و سلم لمعاذ و غيره ،كما قال العرابى إنى هلكت و أهلكت واقعت أهلى فى نهار رمضان،فقال" :أعتق رقبة" ففهم صلى ي
ا فإن غير ذلك مقدور عليه ول تكليف أن التركى أو الهندى لو جامع أيضا ل لزمه العتاق و هذا لن الخلق ما كلفوا الصواب عند ي
بما ل يطاق بل كلفوا ما يظنونه صوابلا ،كما لم يكلفوا الصلة بثوب طاهر بل بثوب يظنونه طاهر ،فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم
ا عليه و سلم نعله فى أثناء الصلة لما أنبأه جبريل أن ا صلى ي القضاء إذ نزع رسول ي
ص 221
عليه قذرال و لم يعد الصلة و لم يستأنف ،و كذلك لم يكلف أن يصلى إلى القبلة بل إلى جهة يظن أنها القبلة بالستدلل بالجبال و
الكواكب و الشمس فإن أصاب فله أجرلن و إل فله أجر واحد.ولم يكلفوا أداء الزكاة إلى الفقير بل إلى من ظنوا فقره لن ذلك ل
يعرف باطنه و لم يكلف القضاة فى سقك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم بل من يظنون صدقه،و إذا جاز سفك
دم بطن يحتمل الخطأ و هو ظن صدق الشهود فلم ل تجوز الصلة بظن شهادة الدلة عند الجتهاد ،و ليت شعرى ماذا يقول
رفقاءك فى هذا؟يقولون إذا اشتبهت عليه القبلة يؤخر الصلة حتى يسافر إلى المام و يسأله أو يكلفه الصابة التى ل
يطيقها ،أو يقول اجتهد لمن ل يمكنه الجتهاد إذ ليعرف أدلة القبلة و كيفية الستدلل بالكواكب أو الجبالو الرياح.
قال :ل شك فى أنه يأذن له فى الجتهاد ثم ل يؤثمه إذا بذل مجهوده و إن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة .قلت :فإذا كان من جعل
القبلة خلفه معذورال مأجورال فل يبعد أن يكون من أخطأ فى سائار الجتهادات معذورلا،فالمجتهدون و مقلدوهم كلهم معذورن
ا و بعضهم يشاركون المصيبين فى أحد الجرين،فمناصبهم متقاربة و ليس لهم أن يتعاندوا ،و أن بعضهم مصيبون ما عند ي
يتعصب بعضهم مع بعض ل سيما و المصيب ل يتعين و كل واحد منهم يظن أنه مصيب كما لو اجتهد مسافران فى القبلة فاختلفا
فى الجتهاد فحقهما أن يصلى كل واحد منهما إلى الجهة التى غلبت على ظنه و أن يكف إنكاره و إعراضه و اعتراضه على
ا فل يقدرعليه ،و كذلك كان معاذ فى اليمن يجتهد ل صاحبه لنه لم يكلف إل استعمال موجب ظنه.أما استقبال عين القبلة عند ي
ل
على اعتقاد أنه ل يتصور منه الخطأ لكن على اعتقاد أنه إن أخطأ كان معذورا،و هذا لن المور الوضعية الشرعية التى يتصور
أن تختلف بها الشرائاع يقرب فيها الشئ من نقيضه بعد كونه مظنونا ل فى سر الستبصار ،و أما ما ل يتغير فيه الشرائاع فليس فيه
اختلف ،و حقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتباع السنة و قد ذكرته فى الصل العاشر من العمال الظاهرة من كتاب جواهر
القرآن.
وأما الصنف الثالث :وهم أهل الجدل فإنى أدعوهم بالتلطف إلى الحق ،وأعنى بالتلطف أن ل أتعصب عليهم و ل أعنفهم لكن أرفق
ا تعالى رسوله،و معنى المجادلة بالحسن أن آخد الصول التى يسلمها الجدلى و أستنتج بو أجادل بالتى هى أحسن،وكذلك أمر ي
منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذى أوردته فى كتاب القتصاد فى العتقاد،وإلى ذلك الحد فإن لم يقنعه ذلك لتشوقهي
بفطنته إلى مزيد كشف رقيته إلى تعليم الموازين فإن لم يقنعه لبلدته و إصراره على تعصبه و لجاحه و عناده عالجته بالحديد،
ا سبحانه جعل الحديد و الميزان قرينى الكتاب ليفهم منه أن جميع الخلئاق ل يقومون بالقسط إل بهذه فإن ي
ص 222
الثلث،فالكتاب للعوام،والميزان للخواص ،والحديد الذى فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة و ابتغاء
ا والراسخون فى العلم دون أهل الجدل ،و أعنى الجدل طائافة تأويله ول يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم ،و أنه ل يعلم تأويله إل ي
فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام و لكن قياستهم ناقصة إذا كانت الفطرة كاملة ،لكن فى باطنهم خبث و عناد و تعصب و تقليد ،
فذلك يمنعهم عن إدراك الحق و تكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه و فى آذانهم وقرلا ،لكن لم تهلكهم إل كياستهم
الناقصة ،فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلهة بكثير ،و فى الخبر :أن أكثر أهل الجنة البله و أن عليين
ا السلطان ما ل يزع ا و أولئاك أصحاب النار و يزع ي لذوى اللباب ،ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون فى آيات ي
ا عنه برجل إذ سأله عن آيتين متشابهتين بالقرآن ،و هؤلء ينبغى أن يمنعوا من الجدال بالسيف و السنان كما فعل عمر رضى ي
ا عنه لما سئال عن الستواء على العرش فقال :الستواء حيق ،واليمان ا تعالى فعله بالدرة ،و كما قال مالك رضى ي فى كتاب ي
به واجب ،والكيفية مجهولة ،والسؤال عنه بدعة ،وحسم بذلك باب الجدال.وكذلك فعل السلف كلهم و فى فتح باب الجدال ضرر
ا تعالى ،فهذا مذهبى فى دعوة الناس إلى الحق و إخراجهم من ؟لمات الضلل إلى نور الحق ،و ذلك بأن دعوة عظيم على عباد ي
الخواص إلى الحكمة بتعليم الميزان حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة ،فإن من معه ميزان
فإنه يعرف به مقادير أعيان ل نهاية لها كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التى من أوتيها قفد أوتى خيرال كثيرال ل نهاية
له ،و لول اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورال لن النور ما يبصر بنفسه و يبصر به غيره و هو نعت
الميزان ،و لما صدق قوله :ول رطب ول يابس إل فى كتاب مبين ،فإن جميع العلوم غير موجودة فى القرآن بالتصريح ،و لكن
موجودة فيه بالقوة لما فيه من الموازين القسط التى بها تفتح أبواب الحكمة التى ل نهاية لها ،فبهذا أدعو الخواص و دعوت العوام
بالموعظة الحسنة بالحالة على الكتاب و القتصار على ما فيه من الصفات الثابتة ل
تعالى ،و دعوت أهل الجدل بالمجادلة التى هى أحسن فإن أبى عرضت عن مخاطبته و كففت شره ببأس السلطان و الحديد المنزل
مع الميزان ،فليت شعرى الن يا رفيقى بم يعالج إمامك هؤلء الصناف الثلثة؟ أيعلم العوام فيكلفهم ما ل يفهمون ،و يخالف
رسول ا صلى ا عليه و سلم أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالحجة و لم يقدر على ذلك رسول ا صلى ا عليه و سلم
مع كثرة محاجة ا تعالى فى القرآن مع الكفار؟ فما أعظم قدرة إمامك إذ صار أقدر من ا تعالى ومن رسوله أو يدعو أهل
البصيرة إلى تقليده و هم ل يقبلون قول الرسول صلى ا عليه و سلم بالتقليد ول يقنعون بقلب العصا ثعبانلا ،بل يقولون و هو فعل
غريب ،و لكن من أين يلزم
ص 223
منه صدق فاعله و فى العالم من غرائاب السحر و الطلسمات ما تتحيير فيه العقول ول يقوى على تمييز المعجز عن السحر و
الطلسم إل من عرف جميعها ،و جملة أنواعها ليعلم أن المعجز خارج عنها كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلم
إذ كانوا من أئامة السحرة .و من الذى يقوى على ذلك؟ بل أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه من قوله كما يعلم
متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه فى قوله إنى حاسب .فهذه هى المعرفة اليقينية التى بها يقنع أولو اللباب و أهل
البصائار و ل يقنعون بغيرها البيتة و هم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول صلى ا عليه و سلم و صدق القرآن و فهموا
موازين القرآن كما ذكرت لك،و أخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذظرته فى كتاب جواهر القرآن ،فمن أين يحاتجون
إلى إمامك المعصوم ،و ما الذى حيل من إشكالت الدين و عن ماذا كشف عن غوامضه .و قال ا تعالى":هذا خلق ا فأرونى
ماذا خلق الذين من دونه" .و قد سمعت الن منهاجى فى موازين العلوم فأرونى ماذا اقتبسته من غوامض]لقمان[11:
العلوم من إمامك إلى الن ،و ما الذى يتعلمون منه؟و ليت شعرى ما الذى تعلمت من إمامك المعصوم أرنى ما رأيتها:
ما يسدى بى رتسدى أوف خرابن و قلب ياوفوت فليس الغرض من الدعوة إلى المائادة مجرد الدعوة دون الكل و التناول منها و
إنى أراكم تدعوا الناس إلى المام ثم أرى المستجيب أمامك بعد الستجابة على جهله الذى كان قبله لم يحل له المام عقدال بل ربما
عقد له حلل ولم تفده استجابته له علنا ل بل ربما زاد به طغيانا ل و جهلل .فقال :قد طالت صحبتى مع رفقائاى ،و لكن ما تعلمت منهم
شيئاا ل إل أنهم يقولون عليك بمذهب التعليم ،و إياك و الرأى و القياس فإنه متعارض و مختلف .قلت:فمن الغرائاب أن يدعو إلى
التعليم ثم ل يشتغلوا بالتعليم فقل لهم :قد دعوتمونى إلى التعليم فاستجبت فعلمونى ما عندكم .فقال :ما أراهم يزيدوننى على هذا
شيئاا ل.
قلت :فإنى قائال أيضا ل بالتعليم و بالمام و يبطلن الرأى و القياس و أنا أزيدك على هذا لو أطقت ترك التقليد تعليم غرائاب العلوم و
أسرار القرآن ،فاستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها كما استخرجت منه موازين العلوم كلها على ما أشرت إلى كيفية انشعاب
العلوم كلها منه فى كتاب جواهر القرآن ،لكنى لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى ا عليه و سلم ول إلى كتاب
سوى القرآن ،فمنه أستخرج جميع أسرار العلوم .و برهانى عن ذلك لسانى و بيانى ،و عليك إن شككت تجربتى و امتحانى
أفترانى أولى بأن أتعلم من رفقائاك أم ل ؟
ص 224
القول فى تصاوير الرأى و القياس و إظهار بطلنهما فقال :أما النقطاع عن الرفقاء و التعليم منك فربما ما حكيته لك من وصية
والدتى حين كانت تموت ،و لكنى أشتهى أن تكشف عن وجه فساد الرأى و القياس فإنى أظنك تستضعفه عقلى فتلبس علاى فتسمى
القياس و الرأى ميزانا ل و تتلو علاى وفق ذلك قرآنلا ،و أنا أظنه أنه بعينه القياس الذى يدعيه أصحابك .قلت :هيهات ،فها أنا أشرح
لك ماأريده و أراوده بالرأى و القياس .أما الرأى و القياس فمثاله قول المعتزلة:يجب على ا سبحانه و تعالى رعاية الصلح
لعباده و إذا طولبوا بتحقيقه لم يرجعوا إلى شئ إل أنه رأى استحسنوه بعقولهم من مقايسة الخالق على الخلق و تشبيه حكمته
بحكمتهم ،و مستحسنات العقول هى الرأى الذى ل أرى التعويل عليه فإنه ينتج نتائاح تشهد موازين القرآن بفسادها كهذه النقالة
فإنى إذا وزنتها بميزان التلزم .قلت:لو كان الصلح واجبا ل على ا تعالى لفعله و معلم أنه لم يفعله ،فديل على أنه غير واجب فإنه
ل يترك الواجب ،فإن قيل:سلمت أنه لو كان واجبا ل لفعله ،و لكن ل أسلم أنه لم يفعله ،فأقول :لو فعل الصلح لخلقهم فى الجنة و
تركهم فيها فإن ذلك أصلح لهم و معلوم أنه لم يفعل ذلكفديل على أنه لم يفعل الصلح.و هذه أيضا ل نتيجة من ميزان التلزم والن
الخصم بين أن ينكر و يقول تركهم فى الجنة فيشاهد كذبه ،أو يقول كان الصلح لهم أن يخرجوا إلى الدنيا دار البليا و يعرضهم
للخطايا ثم يقول لدم يوم يكشف عن الخطايا :اخرج يا آدم نصيب النار ،فيقول:طم ،فيقول من كل ألف تسعمائاة و تسعة وتسعين
كما ورد فى الخبر الصحيح و يزعم أن ذلك أصلح لهم من خلقهم فى الجنة و تركهم فيها لن نعيمهم إذ ذاك ل يكون لسعيهم و
استحقاقهم فتعظم المنة عليهم و المنة ثقيلة ،و إذا سمعوا وأطاعوا مان ماأخذوه جزاء و أجرة ل منة فيها ،وأنا أنزه سمعك و
لسانى عن حكاية مثل هذا الكلم فضلل عن الجواب عنه.فانظر فيه لترى قبائاح نتائاج الرأى كيف هى و أنت تعلم أن ا تعالى ينزل
الصبيات إذا ماتوا فى منزل من الجنة دون منازل البالغين المطيعين ،فإذا قالوا :إلهنا أنت ل تبخل بالصلح لنا و بالصلح لنا أن
تبلغنا درجتهم،فيقول ا ،على زعم المعتزلة :كيف أبلغكم درجتهم و قد بلغوا و تعبوا و أطاعوا و أنتم متم صبيانلا ،فيقولون :أنت
أمتنا فحرمتنا طول المقام فى الدنيا و معالى الدرجات فى الخرة فكان الصلح لنا و الصلح بنا أن تبلغنا درجتهم ،أو أن ل تميتنا
،فلم أمتنا؟ فيقول ا تعالى ،على رأى المعتزلة:إنى قد علمت أنكم لو بلغتم لكفرتم و استحققتم النار خالدين فيها ،فعلمت أن
الصلح لكم الموت فى الصبا ،و عند هذا ينادى الكفار البالغون من دركات النار يصطرخون
ص 225
ويقول :أما علمت أنا إذا بلغنا كفرنا فهل أمتنا في الصبا فإنا راضون بعشر عشر درجات الصبيان فعند هذا ل يبقى للمعتزلى
جواب يجيب به عن ا تعالى ,فتكون الحجة للكفار على ا سبحانه ,تعالى ا عن قول الظالمين علليوا كبيرال ,نعم لفعل الصلح
سر يستمد من معرفة سر ا تعالى في القدر ,ولكن المعتزلى ل ينظر من ذلك الصل فإنه ل يطلع ببضاعة الكلم على ذلك السر
فمن هذا خبط خبط عشواء واضطربت عليه الراء فهذا مثال الرأيِ الباطل عنديِ .
وأما مثال القياس فهو إثبات الحكم في شيء بالقياس على غيره كقول المجسمة إن ا تعالى وتقدس عن قولهم جسم .قلنا :لهدم ؟
قالوا :لنه فاعل صانع فكان جسما ل قياسا ل على سائار الصناع والفاعلين ,وهذا هو القياس الباطل ,كما قلنا :لم قلتم إن الفاعل كان
جسما ل لنه فاعل ,وذلك ل يقدر على إظهاره مهما وزن بميزان القرآن فإنه ميزانه هو الميزان الكبر من موازين التعادل ,
وصورة وزنه أن يقال :كل فاعل جسم والبارئ تعالى فاعل فهو أيضا ل جسم ,فنقول :نسلم أن البارئ تعالى فاعل ,ولكن ل نسلم
الصل اليول وهو أن كل فاعل جسم فمن أين عرفتم ذلك ؟ وعند هذا ل يبقى لهم إل العتصام بالستقراء والقسمة المنتشرة
وكلهما ل حيجة فيه .أما الستقراء فهو أن يقول تصفحت الفاعلين من حائاك وحجام وإسكاف وخياط ونجار وفلن وفلن
فوجدتهم أجساما ل فقلت إن كل فاعل جسم ,فيقال له :تصفحت كل الفاعلين أو شيذ عنك فاعل ,فإن قال :تصفحت البعض ,فل
يلزم منه الحكم على الكل ,وإن قال :تصفحت الكل ,فل نسلم له ذلك فليس كل الفاعلين معوما ل عنده .كيف وهل تصفح في جملة
ذلك فاعل السموات والرض فإن لم يتصفح الكل بل البعض لم يلزم الكل ,وإن تصفح فهل وجد جسما ل ,فإن قال :نعم ,فيقال له :
فإذا وجدت ذلك في مقدمة قياسك فكيف جعلته أصلل تستديل به عليه فجعلت نفس وجدانك دليل ما وجدته وهذا خطأ ,بل ما هو في
تصفحه إل كمن يتصفح الفرس والبل والفيل والحشرات والطيور فيراها تمشي برجل وهو لم يدر الحية والدود فيحكم بأن كل
حيوان يمشي برجل ,وكمن يتصفح الحيوانات فيراها عند المضغ جميعها تحرك الفك السفل ,فيحكم بأن كل حيوان يحرك عند
المضغ الفك السفل وهو لم يدر التمساح فإنه يحرك الفك العلى وهذا لنه يجوز أن يكون ألف شخص من جنس واحد على حكم
ويخالف اللف واحد وهو ل يفيد برد اليقين فهو القياس الباطل ,وأما اعتصامه بالقسمة المنتشرة فكقوله :سبرت أوصاف
الفاعلين فكانوا أجساما ل لكونهم فاعلين أو لكونهم موجودين أو كيت وكيت ,ثم يبطل جميع الجسام فيقول فيلزم من هذا أنهم أجسام
لكونهم فاعلين ,وهذه هي القسمة المنتشرة التي بها يزن الشيطان مقاييسه وقد ذكرنا بطلنها ,فقال :أظن أنه إذا بطل سائار
ص 226
القسام تعين القسم الذيِ أراده ,وأرى هذا برهانا ل قوييا ل عليه تعويل أكثر المتكلمين في عقائادهم فإنهم يقولون في مسألة رؤية
الباريِ تعالى مرئاي لن العالم مرئاي ,وباطل أن يقال إنه مرئاي لنه ذو بياض لن السواد يرى ,وباطل أن يرى لكونه جوهرال
لن العرض يرى وباطل أن يكون عرضا ل لن الجوهر يرى ,وإذا بطلت القسام بقي أنه يرى موجودال فأريد أن تكشف لي عن
فساد هذا الميزان كشفا ل ظاهرال ل أشك فيه ,فقلت :فأنا أورد في ذلك مثالل حليقا لم ينتج من قياس باطل وأكشف الغطاء عنه ,فأقول
:قولنا :العالم حادث حق ,ولكن قول القائال إنه حادث لنه مصور قياسا ل على البيت وسائار البنية المصورة قول باطل ل يفيد
العلم بحدوث العالم إ يقال ميزانه الحق أن يقال كل مصور حادث أو العالم مصور ,فيلزم منه أنه حادث ,والصل الخر مسلم
لكن قولك كل مصور حادث ل يسلمه الخصم ,وعند هذا يعدل إلى الستقراء فيقول :استقريب كل مصور فوجدته حادثا ل كالبيت
والقدح والقميص وكيت وكيت ,وقد عرفت فساد هذا وقد يرجع إلى السبر ,فيقول :البيت حادث فنسبر أوصافه وهو أنه جسم
وقائام بنفسه وموجود ومصور ,وهذه أربع صفات وقد بطل تعليله بكونه جسما ل وقائاما ل بنفسه وموجودال فثبت أنه معلل بكونه
مصورال وهو الرابع .فيقال له :هذا باطل من وجوه كثيرة وأذكر منها الربعة :
الول :أنه إن سلم لك بطلن الثلث فل تثبت العيلة التي طلبتها ,فلعل الحكم معلل بعيلة قاصرة غير عامة ول متعدية ككونه
مثلل بيتا ل ,فإن ثبت كون البيت غير محدث أيضا ل فلعيل الحكم معلل بالمعنى القاصر على ما هر كونه حادثا ل إذ يمكن تقدير وصف
خاص يجمع الجميع ول يتعدى .
ل ي
الثاني :أنه إنما يصح إذا تم السبر على الستقصاء بحيث ل يتصور أن يشذ منه قسم ,وإذا لم يكن حاصرا بين النفي والثبات
دائارال تصور أن يشذ منه قسم وليس الستقصاء الحاصر أمرال هينا ل ,والغالب أنه ل يهتم به المتكلمون والفقهاء بل يقولون إن كان
فيه قسم آخر فأبرزه ,والغالب أنه ل يهتم به المتكلمون والفقاء بل يقولون إن كان فيه قسم آخر فأبرزه ,وربما قال الخر ل
يلزمني إبرازه وطال اللجاج فيه ,وربما استدل القايس وقال :لو كان فيه قسم آخر لعرفناه ولعرفته ,فعدم معرفتنا تيدل على نفي
ط هذا المسكين أنه لم نعهد قط فيلل حاضرال لم نره ثم رأيناه وكم قسم آخر إذ عدم رؤيتنا الفيل في مجلسنا يتدل على نفي ول يدريِ ق ي
رأينا معاني حاضرة عجزنا جميعا ل عن إدراكها ثم تنبهنا لها بعد مدة فلعيل فيه قسما ل آخر شذ عينا لسنا نتنبه له الن وربما لم نتنبه له
طول عمرنا .
الثالث :أنا وإن سلمنا الحصر فل يلزم من إبطال ثلث ثبوت رابع بل التركيب الذيِ يحصل من أربعة يزيد على عشرة
وعشرين إذ يحتمل أن تكون العيلة آحاد هذه الربعة أو
ص 227
اثنين منها أو ثلثة منها ,ثم ل يتعين الثنان منها ول الثلثة ,بل يتصور أن تكون العيلة كونه موجودال أو جسما ل أو موجودال وقائاما ل
بنفسه أو جسما ل موجودال وقائاما ل بنفسه و موجودال أو موجودال وبيتا ل أو بيتا ا ومصورال أو بيتا ل قائاما ل بنفسه أو بيتا ل وجسما ل ,أو جسما ل
ومصورال ,أو جسما ل وقائاما ل بنفسه أو جسما ل وموجودال أو قائاما ل بنفسه وموجودال ,فهذه بعد تركيبات الثنين فقس على هذه
التركيبات من الثلث ,واعلم أن الحكام تتوقف على وجود أسباب كثيرة مجتمعة فليس يرى الشيء لكون الرائاي ذا عين إذ ل
يرى بالليل ول لستتارة المرئاي بالشمس إذ ل يرى العمى ول لهما جميعا ل إذا ل يرى الهواء ,ولكن جملة ذلك مع كون المرئاي
متلونا ل وأمور اأخر هذا حكم الوجود ,أما حكم الرؤية في الخرة فحديث آخر .
الرابع :أنه إن سلم الستقصاء وسلم الحصر في أربعة وتركنا التركيب فإبطال ثلثة ل يوجب تعلق الحكم بالرابع مطلقا ل بل
بانحصار الحكم في الرابع ,ولعيل الرابع ينقسم قسمين ,والحكم يتعلق بأحدهما .أرأيت لو قسم أيولل وقال :أما كونه جسما ل أو
موجودال أو قائاما ل بنفسه أو مصورال مثلل بصورة مربعة ,أو مصورال بصورة مدورة ثم أبطل القسام الثلثة لم يتعلق الحكم
ص بصورة مخصوصة ,فتسبب الغفلة عن مثل هذه الدقائاق خبط المتكلمون وكثر نزاعهم إذا بالصورة مطلقا ل ,بل ربما اخت ي
تمسكوا بالرأيِ والقياس ,وذلك ل يفيد برد اليقين ,بل يصلح للقيسة الفقهية الظنية ولمالة قلوب العامة إلى صوب الصواب ,
والحق فإنه ل يمتد فكرهم إلى الحتمالت البعيدة ,بل ينجزم اعتقادهم بأسباب ضعيفة .أما ترى العامي الذيِ به صداع يقول له
غيره استعمل ماء الورد فإني إذا كان بي صداع فاستعملته انتفعت به ,كأنه يقول هذا صداع فينفعه ماء الورد قياسا ل على صداعي
فيميل قلب المريض إليه فيستعمله ول يقول له أثبت أيولل أن ماء الورد يصلح لكل صداع كان من البرودة أو من الحرارة أو من
أبخرة المعدة ,وأنواع الصداع كثيرة فاثبت أن صداعي كصداعك ومزاجي كمزاجك وسني كسنك وصناعتي كصناعتك و
أحوالي كأحوالك ,فإن جميع ذلك يختلف به العلج فإن طالب تحقيق هذه المور ليس من شأن العوام لنهم ل يتشوفون إليها ول
من شأن المتكلمين لنهم وإن تشوفوا إليها على خلف العوام فل يهتدون إلى الطرق المفيدة برد اليقين ,وإنما هي من شنشنة قوم
عرفوها من أحمد صلى ا عليه وسلم وهم قوم اهتدوا بنور ا إلى ضياء القرآن ,وأخذوا منه الميزان بالقسط والقسطاس
المستقيم فأصبحوا قوامين ل بالقسط .
فقال :الن هذا يلوح لي مخايل الحق وتباشيره من كلمك فهل تأذن لي في أن أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدلا؟
ص 228
قلت :هيهات إنك ل تستطيع معي صبرال وكيف تصبر على مالم تحط به خبرال.
قال :ستجدني إن شاء ا صابرال ول أعصي لك أمرال.
قلت :أتظن أني نسيت اتعاظك بنصيحة رفقائاك ووالدتك ومن نبض عليه عرق من عروق التقليد فل تصلح لصحبتي ول
أصلح لصحبتك ,فاذهب عني فهذا فراق بيني وبينك فإني مشغول بتقويم نفسي عن تقويمك ,وبالتعليم من القرآن عن تعليمك ,فل
تراني بعد هذا ول أراك ,فل تسع أوقاتي أكثر من هذا الصلح الفاسد والضرب في الحديد البارد ,وقد نصحت لكم ولكن ل
تحبون الناصحين ,والحمد ل رب العالمين ,والصلة على محيمد نبيينا سييد المرسلين .
فهاكم إخواني قصتي مع رفيقي تلوتها عليكم بعجرها وبجرها لتقضوا منها العجب وتنتفعوا في إثبات هذه المحادثات بالتفطن
لمور هي أجيل من تقويم مذهب التعليم ,فلم يكن ذلك من غرضي ,ولكن إياك أعني وأسمعي يا جارة ,والتماسي من المخلصين
قبول معذرتي عند مطالعة هذه المحادثات فيما آثرته في المذاهب من العقد والتحليل وأبدعته في السامي من التغيير والتبديل ,
واخترعته في المغاني من التخييل والتمثيل .فلي تحت كل واحد من ذلك غرض صحيح وسر عن ذويِ البصائار صريح ,وإياكم
أن تغيروا هذا النظام وتنتزعوا هذه المعاني من هذه الكسوة فقد علمتكم كيف يوزن المعقول بالسناد إلى المنقول ليكون القول منها
أسرع إلى القبول ,وإياكم أن تجعلوا المعقول أصلل والمنقول تابعا ل ورديفا ل ,فإن ذلك شنيع منفر ,وقد أمركم ا سبحانه بترك
الشنيع و المجادلة بالحسن ,وإياكم أن تخالفوا المر فتهلكوا وتهلكوا وتضلوا و تضلوا ,وماذا تنفع وصيتي وقد اندرس الحق
وانكسر البثق ,وانتشرت الشناعة وطارت في القطار ,وصارت ضحكة في المصار ,فإن قوما ل ايتخذوا هذا القرآن مهجورال
وجعلوا التعليمات النبوية هبالء منثورال ,وكل ذلك من قصور الجاهلين ودعواهم في نصرة الدين منصب العارفين .وإن كثيرال
ليضلون بأهوائاهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمهتدين .
ص 229
منهاج العارفين
بسم ا الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
الحمد ل الذيِ نيور قلوب العارفين بذكره ,وأنطق ألسنتهم بشكره ,وعمر جوارحهم بخدمته ,فهم في رياض النس يرتعون
وإلى أوكار المحبة يأوون ,ذكرهم فذكروه ,وأحبهم فأحبوه ,ورضي عنهم فرضوا عنه رأس مالهم الفتقار ونظام أمرهم
الضطرار ,علمهم دواء الذنوب ,وعرفهم طب القلوب ,فهم مصابيح أنوار حجته ,ومفاتيح خزائان حكمته ,إمامهم القمر
الطالع ,وقائادهم النور الساطع ,سيد الموالي والعرب محيمد بن عبد ا بن عبد المطلب ,والثمرة الزاكية من الشجرة المباركة ,
ضياء دودللو دللم دتلمدسلساه دناسر ۚ انوسر دعدلىى انوءر ۗ ديلههديِ ا
اا التي أصلها التوحيد ,وفروعها التقوى ) ,دل دشلرهقايءة دودل دغلرهبايءة ديدكااد دزلياتدها اي ه
اا هباكرَل دشليءء دعهليسم ( [ النور ) . ] 35 :دودملن دللم ديلجدعهل ا س ۗ دو ا ب ا د
اا دلاه انولرا دفدما دلاه هملن انوءر اا الللمدثادل هللانا ه لهانوهرهه دملن ديدشااء ۚ دودي ل
ضهر ا
( [ النور . ] 40 :صلى ا عليه وسلم صللة تلوح في السموات آثارها وتعلو في جنان الخلد أنوارها ,وتطيب في مشاهد
النبياء أخبارها ,وعلى آله الطاهرين وأصحابه المطهرين .
باب البيان نحو المريدين
يدور على ثلثة اأصول :الخوف والرجاء والحب ,فالخوف :فرع العلم ,والرجاء :فرع اليقين ,والحب :فرع المعرفة ,
فدليل الخوف الهرب ,ودليل الرجاء الطلب ,ودليل الحب إيثار المحبوب ,ومثال ذلك الحرم والمسجد والكعبة ,فمن دخل حرم
الرادة أمن من الخلق ,ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها في معصية ا تعالى ,ومن دخل الكعبة أمن قلبه أن يشتغل
بغير ذكر ا عيز وجيل .فإذا أصبح العبد لزمه أن ينظر في ظلمة الليل ونور النهار ويعلم أن أحدهما إذا ظهر عزل صاحبه عن
الولية ,فكذلك نور المعرفة إذا ظهر عزل ظلمة المعاصي عن الجوارح ,فإن كانت حالته حالة يرضاها لحلول الموت شكر ا
تعالى على توفيقه وعصمته ,وإن كانت حالته حالة يكره معها الموت انتقل عنها بصحة العزيمة وكمال الجهد وعلم أن ل ملجأ من
ا إل إليه ,كما أنه ل وصول إليه إل به فندم على ما أفسد من عمره بسوء اختياره واستعان بال على تطهير ظاهره من الذنوب
وتصفية باطنه من العيوب ,وقطع زنار الغفلة عن قلبه ,وأطفأ نار الشهوة عن نفسه ,واستقام على طريق الحق وركب أمطية
الصدق ,فإن النهار دليل الخرة ,والليل دليل الدنيا ,والنوم شاهد الموت ,والعبد قادم على ما أسلف ونادم على ما خالف ,يقول
ا عيز وجيل ) :ايدنابأ ا اللهلندساان ديلودمهئاءذ هبدما دقاددم دوأداخدر ( [ القيامة . ] 13 :
230
مجموعة رسائال المام الغزالي
باب الحكام
و إعراب القلوب على أربعة أنواع :رفع و فتح و خفض ووقف ،فرفع القلب في ذكر ا تعالى ،و فتح القلب في الرضاء عن ا
تعالى ،و خفض القلب في الشتغال بغير ا تعالى ،ووقف القلب في الغفلة عن ا تعالى ،فعلمة الرفع ثلثة أشياء :وجود
الموافقة ،و فقد المخالفة ،ودوام الشوق ،و علمة الفتح ثلثة أشياء :التوكل و الصدق و اليقين ،و علمة الخفض ثلثة أشياء :
العجب و الرياء و الحرص و هو مراعاة الدنيا و علمة الوقف ثلثة أشياء :زوال حلوة الطاعة ،و عدم مرارة المعصية ,و
التباس الحلل .
باب الرعاية
قال رسول ا صلى ا علية وسلم " :طلب العلم فريضة على كل مسلم " ،و هو علم النفاس ،فيجب أن يكون نفس المريد
شكرا أو عذرا ،فإن قيل :ففضل و إن رد فعدل فطائاع الحركة بالتوفيق ,و السكوت بالعصمة و ل يستقيم ذلك له إل بدوام
الفتقار و الضطرار .
و مفتاح ذلك
ذكر الموت لن فيه راحة من الحبس و نجاة من العدو و قوامه برد العمر إلى يوم واحد و لن يلتئام ذلك إل بالتفكير في الوقات ،
و باب الفكر الفراغ ،و سبب الفراغ الزهد .و عماد الزهد التقوى ،و سنام التقوى الخوف ،وزمام الخوف اليقين ،و نظام اليقين
الخلوة و الجوع ،و تمامها الجهد و الصبر و طريقهما الصدق ،و دليل الصدق العلم .
باب النية
لبد للعبد من النية في كل حركة و سكون " :فإنما العمال بالنيات و لكل امرئ ما نوى و نية المؤمن خير من عمله " .و النية
تختلف على حسب اختلف الوقات ،وصاحب النية نفسه منه في تعب ،و الناس منه في راحة و ليس شيء على المريد أصعب
من حفظ النية .
باب الذكر
اجعل قلبك قبلة لسانك ،و اشعر عند الذكر حياء العبودية و هيبة الربوبية ,و أعلم بأن ا تعالى يعلم سر قلبك و يرى ظاهر فعلك
و يسمع نجوى قلبك ،فاغسل قلبك بالحزن
231
و أوقد فيه نار الخوف ،فإذا زال حجاب الغفلة عن قلبك كان ذكرك به مع ذكره لك .قال ا تعالى " :و لذكر ا أكبر " )
العنكبوت . ( 45 :لنه ذكرك مع الغناء عنك و أنت ذكرته مع الفقر غليه ،فقال " :أل بذكر ا تطمئان القلوب " ) الرعد :
. ( 28فيكون اطمئانان القلب في ذكر ا له ووجله في ذكره ا ،قال ا تعالى " :إنما المؤمنون الذين إذا ذكر ا وجلت قلوبهم
" ) النفال . ( 2 :و الذكر ذكران ذكر خالص بموافقة القلب في سقوط النظر إلى غير ا ،و ذكر صاف بفناء الهمة عن الذكر ،
قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " " ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
باب الشكر
و في كل نفس من أنفاس العبد نعمة ل تتجدد عليه يلزمه القيام بشكرها .و أدنى الشكر أن يرى النعمة من ا تعالى و يرضى بما
أعطاه و ل يخالفه بشيء من نعمه و إن بلغوا غاية المجهود ،لن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها ،فيلزمك على كل
شكر إلى ما ل نهاية له ،فإذا تولى ا العبد حمل عنه شكره فرضى عنه بيسير و حط عنه ما يعلم أنه ل يبلغه و يضعفه " و ما
كان عطاء ربك محظورا " ) السراء .( 20 :
باب اللباس
اللباس نعمة من ا على عبده يستر به البشرة و لباس التقوى ذلك خير ،و خير لباسك ما ل يشغل سرك عن ا تعالى ،فإذا لبست
ثوبك فأذكر محبة ا الستر على عباده فل تفضح أحدا من خلقه بعيب تعلمه منه و اشتغل بعيب نفسك فأستره بدوام الضطرار إلى
ا تعالى في تطهيره ،فإن العبد إذا نسى ذنبه كان ذلك عقوبة له و ازداد به جزءا على المعاصي ،و لو انتبه من رقدة الغفلة
لنصب ذنوبه بين عيني قلبه نصبا و لبكى عليه بجفون سره و استولى عليه الوجل فذاب حياء من ربه ،و ما دام العبد يرجع إلى
حول نفسه و قوتها انقطع عن حول ا و قوته ،فأطرح همتك بين يديِ الخوف و الرجاء " :و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين " )
الحجر ( 99 :
باب القيام
فإذا قمت من فراشك فأقم قلبك عن فراش البطالة ،و أيقظ نفسك عن نوم الجهالة ،و انهض بكلك إلى من أحياك ،و رد إليك نفسك
،و قم بفكرك عن حركتك و سكونك ،
232
و اصعد بقلبك إلى الملكوت العلى ،و ل تجعل قلبك تابعا لنفسك فإن النفس تميل إلى الرض ،و القلب يميل إلى السماء و
استعمل قول ا عز و جل " :إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه " ) فاطر .( 10 :
باب السواك
و استعمل السواك فإنها مطهرة للفم مرضاة للرب ،و طهر ظاهرك و باطنك عن دنس الساءة ،و أخلص أعمالك عن كدر الرياء
و العجب ،واجعل قلبك بصافي ذكره ،ودع عنك ما ل ينفعك بل يضرك .
باب التبرز
و إذا تبرزت لقضاء وطر فاعتبر ،فإن الراحة في إزالة النجاسة ،و أستنج رأس همتك ،و أغلق باب الكبر ،و افتح باب الندم ،و
أجلس على بساط الندامة ،و أجتهد في إيثار أمره و اجتناب نهيه و الصبر على حكمه ،و اغسل شرك بترك الغضب و الشهوة ،
و استعمل الرغبة و الرهبة فإن ا تعالى مدح قوما فقال " :إنهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا
خاشعين " ) النبياء . ( 90 :
باب الطهارة
و إذا تطهرت ففكر في صفوة الماء ورقته و تطهيره و تنظيفه ،فغن ا تعالى جعله مباركا فقال " :و نزلنا من السماء ماء
مباركا " ) ق . ( 9 :فاستعمله في العضاء التي فرض ا عليك تطهيرها و لتكن صفوتك مع ا كصفوة الماء ،فاغسل وجه
قلبك عن النظر إلى غير ا ،و اغسل يدك عن المتداد إلى غيره و امسح رأسك عن الفتخار بغيره ،و اغسل رجليك عن السعي
لغيره ،و احمد ا على ما ألهمك من دينه .
باب الخروج
فإذا خرجت من منزلك إلى مسجدك ،فاعلم أن ل تعالى حقوقا عليك يلزمك أداؤها .من ذلك السكينة و الوقار و العتبار بخلق ا
برهم و فاجرهم ،قال ا تعالى " :و تلك المثال نضربها للناس و ما يعقلها إل العالمون " ) العنكبوت . ( 43 :و غض عن
نظر الغفلة و الشهوة ،و أفش السلم مبتدئاا و مجيبا ،و أعن من استعانك على الحق و أمر بالمعروف و أنه عن المنكر إن كنت
من أهله و أرشد الضال .
233
باب دخول المسجد
فإذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قصدت بيت ملك عظيم قدره ل يقبل إل الطاهر و ل يصعد إليه إل الخالص ،ففكر في نفسك من
أنت و لمن أنت و أين أنت و من أيِ ديوان يخرج أسمك ،فإذا استصلحت نفسك لخدمته فأدخل فلك الذن و المان ،و إل فقف
وقوف مضطرب قد انقطعت عنه الحيل و انسدت عنه السبل ،فإذا علم اله من قلبك اللتجاء إليه أذن لك فتكون أنت بل أنت ،وا
يرحم عبده و يكرم ضيفه و يعطي سائاله و يبر المعرض عنه ،فكيف المقبل إليه .
باب افتتاح الصلوات
فإذا استقبلت بوجهك القبلة استقبل بوجهك الحق و ل تنبسط فلست من أهل النبساط ،و اذكر وقوفك بين يديه يوم العرض الكبر
،وقف على قدمي الخوف و الرجاء ،و رفع قلبك عن النظر إلى الدنيا و الخلق ،و أرسل همتك إليه فإنه ل يرد البق و ل يخيب
السائال .فإذا قلت ا أكبر فاعلم انه ل يحتاج إلى خدمتك له و ذكرك إياه لن الحاجة من جبلة الفقراء و ذلك سمة الخلق و الغنى
عن صفاته ذاته ،و إنما وظف على عبيده وظائاف ليقربهم بها إلى عفوه و رحمته و يبعدهم بها من سخطه و عقوبته ،قال ا عز
وجل " :و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها " ) الفتح . ( 26 :وقال عز من قائال " و لكن ا حبب إليكم اليمان و
زينه في قلوبكم " ) الحجرات . ( 7 :و أسكر ا إذا جعلك أهل للوقوف بين يديه فإنه " أهل التقوى و أهل المغفرة " ) المدثر :
( 56أهل أن يتقيه خلقه فيغفر لمن اتقاه .
باب القراءة
قال ا تعالى " :فإذا قرأت القرآن فأستعذ بال من الشيطان الرجيم 98إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون
" ) النحل . ( 99 :
" إنما سلطانه على الذين يتولونه " ) النحل ( 100 :
" إنه من توله فأنه يضلع " ) الحج . ( 4 :
و اذكر عهد ا عليك و ميثاقه في وحيه و تنزيله ،و انظر كيف تقرأ كلمه و كتابه فرتل و تدبر ،وقف عند وعده ووعيده و
أمثاله و مواعظه و أمره و نهيه و محكمه و متشابه ،و إني لخشى أن تكون إقامتك حدوده غفلة من تضييعك حدوده ..قال ا
عز وجل ) :فبأيِ حديث بعده يؤمنون " ) العراف ( 185 :
باب الركوع
و اركع ركوع خاشع ل بقلبه خاضعا بجوارحه ،و استوف ركوعك و انحط عن همتك في القيام بأمره ،فإنك ل تقدر على أداء
فرضه إل بعونه .و ل تبلغ دار رضوانه إل برحمته ،و ل تستطيع المتناع من معصية إل بعصمته ،و ل تنجو من عذابه إل
بعفوه ،قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " :لن يدخل الجنة احد بعمله " قالوا :و ل أنت يا رسول ا ؟ قال " و ل أنا إل أن
يتغمدني ا برحمته " .
باب السجود
و اسجد ل سجود عبد متواضع علم أن خلق من تراب يطؤه جميع الخلق ،و أنه ركب من نطفة يستقذرها كل واحد ،فإذا فكر في
أصله و تأمل جوهره من ماء و طين أزداد ل تواضعا و يقول في نفسه :ويحك لم رفعت رأسك من سجودك ؟ لدم دلم تمت بين يديه
،و قد جعل ا السجود سبب القرب إليه ؟ فقال تعالى " :و اسجد ل و اقترب " .فمن اقترب منه بعد كل شيء سواه ،و أحفظ
صفة سجودك في هذه الية " :منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى " ) طه . ( 55 :و استعن بال عن غيره ،
فإنه رويِ عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال :قال ا تبارك و تعالى " :ل اطلع على قلب عبد فأعلم منه حب العمل بطاعتي
إل توليت تقويمه و سياسته " .
باب التشهد
و التشهد ثناء ،و شكر له ،و تعرض لمزيد فضله و دوام كرامته ،فاخرج عن دعواك و كن عبدا بفعلك كما أنت بعد بقولك ،
ف،ك خلقك عبدا و أمرك أن تكون له عبدا كما خلقك " :و ما كان لمؤمن و ل مؤمنة إذا قضى ا و رسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم " ) الحزاب ( 36 :
" و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة " ) القصص ( 68 :
فاستعمل العبودية في الرضى بحكمته ،و استعمل العبادة في النزول تحت أمره ،و صل على حبيبه عقب الثناء عليه ،فغنه وصل
محبته و طاعته بطاعته و متابعته بمتابعته ،فقال تعالى " :قل إن كنتم تحبون ا فاتبعوني يحببكم ا " ) آل عمران . ( 31 :
و قال " من يطع الرسول فقد أطاع ا " ) النساء . ( 80 :و قال " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون ا " ) الفتح . ( 10 :و أمر
رسوله بالستغفار فقال تعالى " فاعلم أنه ل إله
235
إل ا و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات " ) محمد . ( 19 :و أمرك بالصلة عليه ،فقال تعالى " إن ا و ملئاكته يصلون
على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما " ) الحزاب . ( 56 :و قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " :من
صلى على واحدة صلى ا عليه بها عشرا و عامله بالفضل " .فقال تعالى " :و رفهنا لك ذكرك " ) النشراح . ( 4 :ثم أمره
بمعاملته بالعدل فقال لغيره " :فإذا فرغت فانصب 7و إلى ربك فأرغب " ) النشراح ( 8 ، 7 :
باب السلم
السلم من أسماء ا تعالى أودعه خلقه ليستعملوا معنا في معاملته و معاشرة خلقه ،فإذا أردت السلمة فليسلم منك صديقك و
ارحم من ل يرحم نفسه فإن الخلق بين فتن و محن ،إما مبتلي بالنعمة ليظهر شكره ،و إما مبتلي بالشدة ليظهر صبره ،قاله ا
تعالى " :فأما النسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن 15و أما إذا ما ابتله فدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن
16كل " ) الفجر 15 :ـ . ( 17فالكرامة في طاعته و الهوان في معصيته و من ركب الهوى أهانه ا .
باب الدعاء
و أحفظ آداب الدعاء و أنظر من تدعو و كيف تدعو و لماذا تدعو و لماذا تسأل ،و الدعاء استجابة الكل منك للحق و إن لم تأت
بشرط الدعاء فل تشترط الجابة .فقال مالك بن دينار :أنتم تستبطئاون المطر و أنا أستبطئ الحجر ،و لو لم يأمر ا سبحانه
بالدعاء لوجب علينا أن ندعوه و لو لم يشترط لنا الجابة لكنا إذا أخلصنا له الدعاء تفضل بالجابة .فكيف و قد ضمن ذلك لمن
أتى بشرط الدعاء .قال ا تعالى " :قل ما يعبأ بكم ربي لول دعاؤكم " ) الفرقان . ( 77 :و قال تعالى " ادعوني أستجب لكم "
) غافر . ( 60 :وسئال أبو يزيد البسطامي عن اسم ا العظم ،قال :فرغ قلبك من غيره و ادعه بأيِ أسمائاه شئات ،و قال يحيي
بن معاذ :اطلب السم .و قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " ل يستجيب ا الدعاء من قلب له فإذا أخلصت فأبشر بإحدى
ثلث :إما أن يجعل لك ما سألت ،و إما أن يدخر لك ما هو أعظم منه ،و إما أن يصرف عنك من البلء ما لو صبه عليك لهلكت
و ادع دعاء مستجير ل دعاء مشير " ،رويِ عن رسول ا صلى ا عليه وسلم ،أنه قال " :قال ا تبارك و تعالى من شغله
ذكريِ عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائالين " .و قال أبو الحسن الوراق :دعوت ا مرة فاستجاب دعائاي فنسيت الحاجة
فأحفظ حق ا عز و جل عليك في الدعاء و ل تشتغل بحظك فإنه أعلم بمصلحتك .
236
باب الصوم
فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات ،فإن الصوم فناء مراد النفس و فيه صفاء القلب و ضمارة الجوارح و التنبيه
على الحسان إلى الفقراء و اللتجاء إلى ا و الشكر على ما تفضل به من النعم و تخفيف الحساب ،و منه ا في توفيقك للصوم
أعظم من أن تقوم بشكرها و من صومك أن تطلب منه عوضا .
باب الزكاة
و عن كل جزء من أجزائاك زكاة واجبة ل ،فزكاة القلب التفكر في عظمته و حكمته و قدرته و حجته و نعمته و رحمته ،و زكاة
العين النظر بالعبرة و الغض عن الشهوة ,و زكاة الذن الستماع إلى ما فيه نجاتك ،و زكاة اللسان النطق بما يقربك إليه ،و
زكاة اليد القبض عن الشر و البسط إلى الخير ،و زكاة الرجل السعي إلى ما فيه صلح قلبك و سلمة دينك .
باب الحج
و المريد إذا حج يعقد النية خوف الرد ،و استعد استعداد من ل يرجو الياب ،و أحسن الصحبة ،و تجرد عند الحرام عن نفسه ،
و اغتسل من ذنبه ،و لبس ثوب الصدق و الوفاء ،و لبى موافقة للحق في إجابة دعوته ،و أحرم في الحرم من كل شيء يبعده عن
ا تعالى ,و طاف بقلبه حول كرسي كرامته ،وصفا ظاهرة ،و باطنه عند الوقوف على الصف ،و هرول هربا من هواه و لم
يتمن على ا تمنى ما ل يحل له و اعترف بالخطأ يعرفه ،و تقرب إلى ا بمزدلفة ،و رمى الشهوات عند رمي الحجرات ،و
ذبح هواه و حلق الذنوب ،و زار البيت معظما صاحبه ,و أستلم الحجر رضاء بقضائاه ،وودع ما دون ا في طواف الوداع .
باب السلمة
و طلب السلمة فليت من طلبها وجدها فكيف لمن تعرض للبلء ،و السلمة قد عزت في هذا الزمان و هي في الخمول ،فالعزلة
و ليست كالخمول فإن لم تكن عزلة فالصمت و ليس كالعزلة ،فإن لم تكن في صمت فالكلم بما ينفع و ل يضر و ليس كالصمت ،
و إن أردت السلمة فل تنازع الضدلد و ل تنافس الشكال كل من قال أنا فقل أنت ،و كل من قال لك ،و السلمة في زوال
العرف ،وزوال العرف في فقد الرادة ،و فقد الرادة في ترك دعوى العلم فيما استأثر ا به من تدبير أمرك .قال ا
237
تعالى " :أليس ا بكاف عبده " ) الزمر . ( 36 :و قال " :يدبر المر من السماء إلى الرض " ) السجدة . ( 5 :
باب العزلة
صاحب العزلة يحتاج إلى عشرة أشياء :علم الحق و الباطل و الزهد و اختيار الشدة و اغتنام الخلوة و السلمة و النظر في
العواقب و أن يرى غيره أفضل منه و يعزل عن الناس شره و ل يفتر عن العلم ،فإن الفراغ بلء و ل يعجب بما هو فيه و يخلو
بيته من الفضول ،و الفضول ما فضل عن يومك لهل الرادة ،ما فضل عن وقتك لهل المعرفة ،و يقطع ما يقطعه عن ا
تعالى ،قال رسول ا صلى ا عليه وسلم لحذيفة اليمان " :كن حلس بيتك . :و قال عيسى ابن مريم عليه السلم " :أملك
لسانك و ليسعك بيتك و أنزل لنفسك منزلة السبع الضاريِ و النار الحرقة ،و قد كان الناس ورفا بل شوك فصاروا شوكا بل ورق
،و كانوا أدواء يستشفى بهم فصاروا داء ل دواء له " .قيل لداود الطائاي :مالك ل تخالط الناس ؟ فقال :كيف أخالط من يتبع
عيوبي كبير ل يعرف الخلق و صغير ل يوقر ،من استأنس بال استوحش من غيره .و قال الفضيل :إن استطعت أن تكون في
موضع ل تعرف و ل تعرف فافعل .و قال سليمان :همي من الدنيا أن ألبس عباءة و أكون بقربه ليس فيها أحد يعرفني و ل غذاء
لي و ل عشاء ،و قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " :يأتي زمان المتمسك يومئاذ بدينه كالقابض على الجمر و له اجر خمسين
منكم " .و في العزلة صيانة الجوارح و فراغ القلب و سقوط حقوق الخلق و إغلق أبواب الدنيا و كسر سلح الشيطان و عمارة
الظاهر و الباطن .
باب العبادة
أقبل على أداء الفرائاض ،فإن سلم لك فرضك فأنت أنت ،و أطلب بالنوافل حفظ الفرائاض و كلما ازددت عبادة فازدد شكرا و
خوفا .قال يحيي بن معاذ :عجبت لطالب فضيلة تارك فريضة و من كان عليه دين فأهدى إلى صاحب الدين مثل حقه كان مطالبا
بالحق إذا حل الجل .و قال أبو بكر الوراق :ابذل في هذا الزمان أربعة على أربعة :الفضائال على الفرائاض ،و الظاهر على
الباطن ،و الخلق على النفس ،و الكلم على الفعل .
باب التفكر
تفكر في قوله عز و جل " :هل أتى على الناس حين من الدهر لم يكن شيئاا
238
مذكور " ) الدهر . ( 1 :و أذكر كيف أحوالك و اعتبر بما مضى من الدنيا على ما تراه ،هل بقيت على أحد ،و ما بقى منها
أشبه بما مضى من الماء بالماء ،و قد قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " :لم يبق من الدنيا إل بلء و فتنة " .و قيل لنوح عليه
السلم " :كيف وجدت الدنيا يا أطول النبياء عمرا ؟ قال :كبيت له بابان دخلت من أحدهما و خرجت من الخر " .و الفكرة أبو
كل خير و هي مرآة تريك الحسنات و السيئاات .
تم بحمد ا و عونه و حسن توفيقه و الحمد ل وحده .
قال الشيخ محمد بن علي بن الساكن في كتاب دليل الطالب إلى نهاية المطالب .قال :فالطالب المجتهد إذا أراد لبس الخرقة
فالواجب عليه أن يخلع الثوب الذيِ كان يلبسه في أيام العادة .و أحسن ما تلبس هذه الطائافة الصوف إذا هم منسوبون إليه ،قيل :
إن أول من لبس الصوف آدم و حواء عليها السلم ,و كان موسى و عيسى و يحيي عليهم السلم يلبسون الصوف ،و كان نبينا
صلى ا عليه وسلم أشرف النبياء كان يلبس عباءة كان مقدار ثمنها خمس دراهم و ينبغي أن ل يلبس الصوف إل من صفا من
كدر النفس ،فقد قال الحسن البصريِ :بلغني أن النبي صلى ا عليه وسلم قال " :ل تلبسوا الصوف إل و قلوبكم نقية " ،فإنه من
لبس الصوف على دغل و غش قله جبار السماء فإذا لبسه وجب أن يقوم بوظائاف حروفه ,و هي ثلثة أما وظيفة الصاد فهي
الصدق و الصفاء و الصيانة و الصبر و الصلح ،و أما وظيفة الواو فهي :الوصلة و الوفاء و الوجد ،و أما وظيفة الفاء فهي
الفرح و التفجع فلو لبس المرقع و جب عليه أن يؤديِ حق حروفه ,و هي أربعة :فحق الميم المعرفة و المجاهدة و المذلة ،و حق
الراء :الرحمة و الرأفة و الرياضة و الراحة ،و حق القاف :القناعة و القربة و القوة و البقول الصدق ،و حق العين :العلم و
العمل و العشق و العبودية ،و قد أمر النبي صلى ا عليه وسلم يلبس المرقع حيث قال لعائاشة رضي ا عنها " :إن سرك
اللحوق بي فإياك و مجالسة الموتى ول تستبدلي ثوبا حتى ترقعيه " ،انتهى و ا اعلم
239
الرسالة اللدنية
بسم ا الرحم الرحيم
الحمد ل الذيِ زين قلوب خواص عباده بنور الولية ،و ربى أرواحهم بحسن العناية ،و فتح باب التوحيد على العلماء العارفين
بمفاتيح الدراية ,و أصلي و أسام على سيدنا محمد سيد المرسلين صاحب الدعوة و الرعاية ،و دليل المة إلى الهداية ،و على آله
سكان حرم الحماية .
العلم الغيبي اللدني
اعلم أن واحدا من أصدقائاي حكى عن بعض العلماء أن أنكر العلم الغيبي اللدني الذيِ يعتمد على خواص المتصوفة ،و ينتمي إليه
أهل الطريقة ،و يقولون إن العلم اللدني أقوى و أحكم من العلوم المكتسبة المحصلة بالتعلم ،و حكى أن ذلك المدعى يقول :باني
ل أقدر على تصوير علم الصوفية ،ل أظن أن أحدا في العالم يتكلم في العلم الحقيقي من فكر وروية تعلم و كسب ،فقلت :كأنه ما
اطلع على طرق التحصيل ،و ما درى أمر النفس النسانية و صفاتها و كيفية قبولها لثار الغيب و علم الملكوت ،فال صديقي :
نعم إن ذلك الرجل يقول بان العلم هو الفقه و تفسير القرآن و الكلم و حسب ،و ليس وراءها علم و هذه العلوم ل تتحصل إل
بالتعليم و التفقه ،فقلت :نعم فكيف يعلم علم التفسير فإن القرآن هو البحر المحيط المشتمل على جميع الشياء و ليس جميع معانيه
و حقائاق تفسيره مذكورة في هذه التصانيف المشهورة بين العوام ،بل التفسير غير ما يعلم ذلك المدعي ،فقال ذلك الرجل :ل يعد
إل التفاسير المعروفة المذكورة و المنسوبة إلى القشيريِ و الثعلبي و الماورديِ و غيرهم ،فقلت :لقد بعد عن منهج الحقيقة /فإن
السلمى جمع شيئاا في التفسير من كلمات المحققين شبه التحقيق ،و تلك الكلمات غير مذكورة في سائار التفاسير .وذلك الرجل
الذيِ ل يعد العلم إل الفقه و الكلم .و هذا التفسير العامي كأنه ما علم أقسام العلوم و تفاصيلها و مراتبها و حقائاقها و ظواهرها و
بواطنها ،و قد جرت العادة بان الجاهل بالشيء ينكر ذلك الشيء ،و ذلك المدعي ما ذاق شراب الحقيقة و ما اطلع على العلم
اللدني فكيف يقر بذلك ،و ل أرضى بإقراره تقليدا أو تخمينا ما لم يعرف ،فقال ذلك الصديق :أريد أن تذكر طرفا من مراتب
العلوم و تصحيح هذا العلم و تعزيه أنت لنفسك و تقر على إثباته ،فقلت :إن هذا المطلوب بيانه عسير جدا ،لكن أشرع في
مقدماته بحسب اقتضاء حالي و موافقة وقتي و ما
ص 240
سنح بخاطريِ ،و ل أريد تطويل الكلم فإن خير الكلم ما قل و دل ،سألت ا عز وجل التوفيق و العانة و ذكرت مطلوب
صديقي الفاضل في هذا المفضول.
فصل في شرف العلم
اعلم أن العلم تصور النفس الناطقة المطمئانة حقائاق الشياء و صورها المجردة عن المواد بأعيانها و كيفياتها و كمياتها و
جواهرها و ذواتها إن كانت مفردة ،و العالم هو المحيط المدرك المتصور ،و المعلوم هو ذات الشيء الذيِ ينتقش علمه في النفس،
و شرف العلم على قدر شرف معلومه ،و رتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم ,و ل شك أن أفضل المعلومات و أعلها و أشرفها و
أجيلها هو ا الصانع المبدع الحيق الواحد ،فعلمه هو علم التوحيد أفضل العلوم و أجلها و أكملها ،و هذا العلم ضروريِ واجب
تحصيله على جميع العقلء كما قال صاحب الشرع عليه الصلة والسلم" :طلب العلم فريضة على كل مسلم" .أمر بالسفر في
طلب هذا العلم .فقال صلى ا عليه و سلم ":اطلبوا العلم و لو بالصين" .و عالم هذا العلم أفضل العلماء و بهذا السبب خصهم ا
اا أداناه لد إهدلده إهلا اهدو دواللدملهئادكاة دوأ الوالولا اللهعللهم( "آل عمران ."18 :فعلماء علم التوحيد تعالى بالذكر في أجل المراتب ،قال) :دشههدد ا
الطلق هم النبياء و بعدهم العلماء الذين ورثوا النبياء ،و هذا العلم إن كان شريفا ل في ذاته كاملل في نفسه ل ينفي سائار العلوم بل
ل يحصل إل بمقدمات كثيرة ،و تلك المقدمات ل تنتظم إل من علوم شتى مثل علم السموات و الفلك و علم جميع المصنوعات،
و يتولد عن علم التوحيد علوم اأخر كما سنذكر أقسامها في مواضعها.
ل
فاعلم أن العلم شريف بذاته من غير نظر إلى جهة العلوم ،حتى أن علم السحر شريف بذاته و إن كان باطل ،و ذلك بأن العلم ضد
الجهل ،و الجهل من لوازمه الظلمة ،و الظلمة من حيز السكون ،و السكون فريب من العدم ،و يقع الباطل و ضلله في هذا القسم،
فإذا الجهل حكمه حكم العدم ،و العلم حكمه حكم الوجود ،و الوجود خير من العدم ،و الهداية و الحق و النور كلها في سلك الوجود،
فإذا كان الوجود أعلى من العدم فالعلم أشرف من الجهل ،فإن الجهل مثل العمى و الظلمة ،و العلم مثل البصر و النور) ،دودما
ت دول المنوار( "فاطر ."19،20و صرح سبحانه بهذه الشارات فقال) :قالل دهلل ديلسدتهويِ ديلسدتهويِ الدلعدمى دواللدب ه
صيار * دول المظلادما ا
الاهذيدن ديلعدلامودن دوالاهذيدن ل ديلعلامودن( "الزمر ."9:فإذا كان العلم خير من الجهل ،و الجهل من لوازم الجسم ،و العلم من صفات النفس، د
و النفس أشرف من الجسم ،و للعلم أقسام كثيرة ،نحصيها في فصل آخر .و للعاهلم في طلب العلم طرق عديدة نذكرها في فصل
آخر .و الن ل يتعين عليك بعد معرفة فضل العلم إل معرفة
ص 241
النفس التي هي لوح العلوم و مقرها و محلها ،و ذلك أن الجسم ليس بمحل للعلم لن الجسام متناهية ،و ل يتسع لكثرة العلوم بل ل
يحتمل إل النقوش و الرقوم و النفس قابلة لجميع العلوم من غير ممانعة و ل مزاحمة و ملل و زوال ،و نحن نتكلم في شرح النفس
على سبيل الختصار.
فصل في شرح النفس و الروح النساني
اعلم أن ا تعالى خلق النسان من شيئاين مختلفين :أحدهما :الجسم المظلم الكثيف الداخل تحت الكون و الفساد المركب المؤلف
الترابي الذيِ ل يتم أمره إل بغيره ،و الخر :هو النفس الجوهريِ المفرد المنير المدرك الفاعل المحرك المتمم لللت و الجسام،
و ا تعالى ركب الجسد من أجزاء العذاء و رباه بأجزاء الرماد ،و مهد قاعدته و سوى أركانه و عين أطرافه و أظهر جوهر
النفس من أمره الواحد الكامل المكمل المفيد .و ل أعني بالنفس القوة الطالبة للغذاء ،و ل القوة المحركة للشهوة و الغضب ،و ل
القوة الساكنة في القلب المولدة للحياة ،و المبرزة للحس و الحركة من القلب إلى جميع العضاء ،فإن هذه القوة تسمى روحا ل
حيوانيلا ،و الحس و الحركة و الشهوة و الغضب من جنده ،و تلك القوى الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد بالتصرف يقال لها روحا ل
طبيعيلا ،و الهضم و الدافع من صفاتها ،و القوة المصورة و المولودة و النامية و باقي القوة المنطبعة كلها خدام للجسد ،و الجسد
خادم الروح الحيواني لنه يقبل القويِ عنه و يعمل بحسب تحريكه و إنما أعني بالنفس ذلك الجوهر الكامل الفرديِ الذيِ ليس من
شأنه إل التذكر و التحفظ و التفكر و التمييز و الروية ،و يقبل جميع العلوم و ل يمل من قبول الصور المجردة المعراة عن المواد و
هذا الجوهر رئايس الرواح و أمير القوى ،الكل يدمونه و يمتثلون أمره و للنفس الناطقة أعني هذا الجوهر عند كل قوم اسم خاص،
فالحكماء يسمون هذا الجوهر النفس الناطقة ،و القرآن تسميه النفس المطمئانة و الروح المريِ ،و التصوفة تسمي تسميه القلب ،و
الخلف في السامي و المعنى واحد ل خلف فيه .فالقلب و الروح عندنا ،و المطمئانة كلها أسامي النفس الناطقة ،و النفس الناطقة،
هي الجوهر الحي الفعال المدرك ،و حيثما نقول الروح المطلق أو القلب فإنما نعني به هذا الجوهر ،و المتصوفة يسمون الروح
الحيواني نفسا ل .و الشرع ورد بذلك فقال " :أعدى عدوك نفسك" .و أطلق الشارع اسم النفس بل أكدها بالضافة ،فقال" :نفسك
التي بين جنبيك" .و إنما أشار بهذه اللفظة إلى القوى الشهوانية و الغضبية فإنهما ينبعثان عن القلب الواقف بين الجنبين ،فإذا
عرفت فرق السامي فاعلم أن الباحثين يعبرون عن هذا الجوهر النفيس بعبرات مختلفة ،و يرون فيه آراء متفاوتة ،و المتكلمين
المعرفين بعلم الجدل يعدون النفس جسملا ،و يقولون إنه
ص 242
جسم لطيف بإزاء هذا الجسم الكثيف ،و ل يرون الفرق بين الروح و الجسد إل باللطافة و الكثافة و بعضهم يعد الروح عرضلا ،و
بعض الطباء يميل إلى هذا القول ،و بعضهم يرى الدم روحا ل و كلهم قنعوا بقصور نظرهم على تخيلهم و ما طلبوا القسم الثالث ،و
اعلم أن القسام ثلثة :الجسم و العرض و الجوهر الفرد ،فالروح الحيواني جسم لطيف كأنه سراج مشعل موضوع في زجاجة
القلب أعني ذلك الشكل الصنوبريِ المعلق في الصدر ،و الحياة ضوء السراج و الدم رهنه ،و الحس و الحركة نوره ،و الشهوة
حرارته ،و الغضب دخانه ،و القوة الطالبة للغذاء الكائانة في الكبد خادمه و حارسه و وكيله ،و هذا الروح ل يهتديِ إلى العلم و ل
يعرف طريق المصنوع و ل حق الصانع ،و إنما هو خادم أسير يموت بموت البدن ،لو يزيد الدم ينطفئ ذلك السراج بزيادة
الحرارة ،و لو ينقص ينطفئ بزيادة البرودة و انطفاؤه سبب موت البدن ،و ليس خطاب الباريِ سبحانه و ل تكليف الشارع لهذا
الروح لن البهائام و سائار الحيوانات غير مكلفين و ل مخاطبين بأحكام الشرع ،و النسان إنما يكلف و يخاطب لجل معنى آخر
وجد عنده زائادال خاصا ل به ،و ذلك المعنى هو النفس الناطقة و الروح المطمئانة ،و هذا الروح ليس بجسم و ل عرض لنه من أر ا
ضايلة(
ضديلة املر ه س اللاملطدمهئااناة * الر ه
جهعي إهدلى دررَبهك درا ه تعالى كما قال) :قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( "السراء "85 :و قال) :ديا أداياتدها الانلف ا
"الفجر ."28 ،27 :و أمر الباريِ تعالى ليس بجسم و ل عرض ،بل قوة إلهية مثل العقل الول و اللوح و القلم ،و هي الجواهر
المفردة المفارقة للمواد بلهي أضواء مجردة معقولة غير محسوسة ،و الروح و القلب بلساننا من قبل تلك الجواهر ،و ل يقبل
الفساد و ل يضمحل و ل يفني و ل يموت ،بل يفارق البدن و ينتظر العود إليه في يوم القيامة كما ورد في الشرع و قد صح في
العلوم الحكمية بالبراهين القاطعة ،و الدلئال الواضحة أن الروح الناطق ليس بجسم و ل عرض ،بل هو جوهر ثابت دائام غير
فاسد ،و نحن نستغني عن تكرير البرهان و تعديد الدلئال لنها مقررة مذكورة .فمن أراد تصحيحها فليرجع إلى الكتب الثقة بذلك
الفن .فأما في طريقنا فل يأتي بالبرهان بل نعول على العيان و نعتمد على رؤية اليمان ،و لما أضاف ا تعالى الروح إلى أمره و
حي( "الحجر . "29 :و قال ):قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي( "السراء ."85 :و قال: ت هفيهه همن مرو ه تارة إلى عزته ،فقال) :دودندفلخ ا
حدنا( " التحريِ ."12 :و ا تعالى أجل من أن يضيف إلى نفسه جسما ل أو عرضا ل لخستها و تغيرها و سرعة )دفدندفلخدنا هفيهه همن مرو ه
زوالهما و فسادهما ،و الشارع صلى ا عليه و سلم قال ) :ألرواح جنود مجندة" .و قال ) أرواح الشهداء في حواصل طيور
خضر" ،و العرض ل يبقى بعد فناء الجوهر لنه ل يقوم بذاته ،و الجسم يقبل التحليل ،كما قيل :التركيب من المادة و الصورة كما
هو مذكور في
ص 243
الكتب ،فلما وجدنا هذه اليات والخبار و البراهين العقلية علمنا أن الروح جوهر فرد كامل حي بذاته يتولد منه صلح الدين و
فساده ،و الروح الطبيعي و الحيواني و جميع القوى البدنية كلها من جنوده ،و أن هذا الجوهر يقبل صور المعلومات و حقائاق
الموجدات من غير اشتغال بأعيانها و أشخاصها ،فإن النفس قادرة على أن تعلم حقيقة النسانية من غير أن ترى إنسانا ل كما أنها
عملت الملئاكة و الشياطين ،و ما احتاجت إلى رؤية أشخاصها إذ ل ينالها حواس أكثر الناس ،و قال قوم من المتصوفة إن للقلب
عينا ل كما للجسد ،فيرى الظواهر بالعين الظاهرة ،و يرى الحقائاق بعين العقل ،و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم “ :ما من عبد
إل و لقلبه عينان" ،و هما عينان يدرك بهما الغيب ،فإذا أراد ا تعالى بعبد خيرال فتح قلبه ليرى ما هو غائاب عن بصره ،و هذا
ضايلة(”الفجر .”28 :و إنما هو ضديلة املر ه
جهعي إهدلى دررَبهك درا ه
الروح ل يموت بموت البدن لن ا تعالى يدعوه إلى بابه فيقول ) :الر ه
يفارق و يعرض على البدن ،فمن أعراضه تتعطل أحوال القوى الحيوانية و الطبيعية فيسكن المتحرك فيقال لذلك السكون :موت،
و أهل الطريقة .أعني الصوفية .يعتمدون على الروح و القلب أكثر أعتمادال منهم على الشخص .و إذا كان الروح من أمر الباريِ
تعالى فيكون البدن كالغريب ،و يكون وجهه إلى أصله و مرجعه .فينال الفوائاد من جانب الصل أكثر مما ينال من جهة الشخص
إذا قويِ و لم يدنس بأدناس الطبيعة .و إذا علمت الروح جوهر فرد و علمت أن الجسد لبد له من المكان .و العرض ل يبقى إل
بالجوهر .فأعلم أن هذا الجوهر ل يحل في محل و ل يسكن في مكان ،و ليس البدن مكان الروح و ل محل القلب ،بل البدن آلة
الروح و أداة القلب و مركب النفس .و الروح ذاته غير متصل بأجزاء البدن و ل منفصل عنه ،بل هو مقبل على البدن مفيد له
مفيض عليه ،و أول ما يظهر نوره على الدماغ لن الدماغ مظهره الخاص اتخذ من مقدمه حارسا ل .و من وسطه وزيرال و مدبرلا ،و
ل ،و من البدن من آخره خزانة و خازنلا ،و من جمي الجزاء رجالل و ركبانا ،و من الروح الحيواني خادملا ،و من الطبيعي وكي ل
ل ،و من الحركة تجارة ،و من العلم ربحلا ،و من الخرة مقصدال و مرجعلا ،و مركبلا ،و من الدنيا ميدانلا ،و من الحياة بضاعة و ما ل
من الشرع طريقة و منهاجلا ،و من النفس المارة حارسا و نقيبا ،و من اللوامة منبها .و من الحواس جواسيس و أعوانا ،و من
ل ل ل
الدين درعلا ،و من العقل أستاذلا ،و من الحس تلميذلا ،و الرب سبحانه من وراء هذه كلها بالمرصاد ،و النفس بهذه لبصفة مع هذه
اللة ما أقبلت على هذا الشخص الكثيف و ما ايتصلت بذاته بل تنيله الفادة ،و وجهها إلى بارئاها و أمر بارئاها بالستفادة إلى أجل
مسمى ،فالروح ل يشتغل في مدة هذا السفر إل بطلب العلم لن العلم يكون حليته في دار الخرة لن حلية المال و البنين زينة
الحياة الدنيا ،فكما أن العين مشغولة برؤية المنظورات ،و السمع مواظب على استماع الصوات ،و اللسان مستعد
ص 244
لتركيب القوال ،و الروح الحيواني مريد اللذات الغضبية ،و الروح الطبيعي محب للذائاذ الكل و الشرب ،كذلك الروح المطمئانة-
أعني القلب -ل يريد إل العلم و ل يرضي إل به و يتعلم طول عمره .و يتحلى بالعلم جميع أيامه إلى وقت مفاقته ،و لو قبل أمرال
آخر دون العلم فإنما يقبل عليه لمصلحة البدن ل لمراد ذاته و محبة أصله .فإذا علمت أحوال الروح و دوام بقائاه و عشقه للعلم و
شغفه به ،فيجب عليك أن تعلم أصناف العلم فإنها كثيرة و نحن نحصيها بالختصار.
فصل في أصناف العلم و أقسامه
أعلم أن العلم على قسمين :أحدهما شرعي ،و الخر عقلي .و أكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها .و أكثر العلوم العقلية شرعية
عند عارفها )دودمن لالم ديلجدعهل ا
اا دلاه انولرا دفدما دلاه همن منوءر( “النور.”40 :
أما القسم الول :و هو العلم الشرعي ،فينقسم إلى نوعين:
أحدهما :في الصول و هو علم التوحيد .و هذا العلم ينظر في ذات ا تعالى و صفاته القديمة ،و صفاته الذاتية المتعددة بالسامي
على الوجه المذكور .و ينظر أيضا ل في أحوال النبياء و الئامة من بعدهم و الصحابة .و ينظر في أحوال الموت و الحياة و في
أحوال القيامة و البعث و الحشر و الحساب ،و رؤية ا تعالى و أهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولل بآيات ا تعالى من القرآن،
ثم بأخبار الرسول صلى ا عليه و سلم ثم بالدلئال العقلية و البراهين القياسية ،و أخذوا مقدمات القياس الجدلي و العاديِ و
لواحقهما من أصحاب المنطق الفلسفي ،و وضعوا أكثر اللفاظ في غير مواضعها ،و يعبرون في عبارتهم بالجوهر و العرض و
الدليل و النظر و الستدلل و الحيجة ،و يختلف معنى كل لفظ من هذه اللفاظ عند كل قوم حتى الحكماء يعنون بالجوهر شيئالا ،و
الصوفية يعنون شيئاا ل آخر ،و المتكلمون شيئالا ،و على هذا المثال ،و ليس المراد في هذه الرسالة تحقيق معاني اللفاظ على حسب
أراء القوم ،فل نسرع فيها .و هؤلء القوم مخصصون بالكلم في الصول و علم التوحيد و لقبهم المتكلمون ،فإن اسم الكلم
اشتهر على علم التوحيد .و من علم الصول التفسير ،فإن القرآن من أعظم الشياء و أبينها و أجيلها و أعيزها .و فيه من المشكلت
الكثيرة ما ل يحيط بها كل عقل إل من أعطاه ا تعالى فهما ل في كتابه .قال رسول ا صلى ا عليه و سلم “ :ما من آية من آيات
القرآن إل و لها ظهر و بطن و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن" و ا تعالى أخبر في القرآن عن جميع العلوم و جلى الموجدات و
خفيها و صغيرها و كبيرها و محسوسها و معقولها .و إلى هذه
ص 245
ب(ب ممهبيءن( “النعام ”59 :و قال تعالى) :لرَدياداباروا آدياهتهه دولهديدتدذاكدر أ الوالوا الدللدبا ه
س إهلا هفي هكدتا ء
ب دولد دياهب ءالشارة بقوله تعالى )دولد درلط ء
“ص ”29 :و إذا كان من أمر القرآن أعظم المور فأيِ مفسر أدى حقه ،و أيِ عالم خرج في عهدته ،نعم كل واحد من المفسرين
شرع في شرحه بمقدار طاقته ،و خاض في بيانه بحسب قوة عقله ،و قدر كنه علمه ،فكلهم قالوا ،و بالحقيقة ما قالوا ،و علم القرآن
من وجه اللغة ،و من وجه الستعارة ،و من وجه تركيب اللفظ ،و من وجه مراتب النحو ،و من وجه عادة العرب ،و من وجه
أمور الحكماء ،و من وجه كلم المتصوفة حتى يقرب تفسيره إلى التحقيق ،و لو يقتصر على وجه واحد و يقنع في البيان بفن واحد
لم يخرج عن عهده البيان ،و يتوجه عليه حجة اليمان و إقامة البرهان ،و من علم الصول أيضا ل علم الخبار ،فإن النبي صلى ا
عليه و سلم أفصح العرب و العجم ،و كان معلما ل يوحى إليه من قبل ا تعالى ،و كان عقله محيطا ل بجميع العلويات و السفليات،
فكل كلمة من كلماته بل لفظة من ألفاظه يوجد تحتها بحار السرار و كنوز الرموز ،فعلم أخباره و معرفة أحاديثه أمر عظيم ،و
خطب جليل .ل يقدر أحد أن يحيط بعلم الكلم النبويِ إل أن يهذب نفيه بمتابعة الشارع ،و يزيل العوجاج عن قلبه بتقويم شرع
النبي صلى ا عليه و سلم ،و من أراد أن يتكلم في تفسير القرآن و تأويل الخبار و يصيب في كلمه ،فيجب عليه أولل تحصيل
علم اللغة و التبحر في فن النحو ،و الرسوخ في ميدان العراب ،و التصرف في أصناف التصريف ،فإن علم اللغة سلم و مرقاة
إلى جميع العلوم ،و من لم يعلم اللغة فل سبيل له إلى تحصيل العلوم .فإن من أراد أن يصعد سطحا ل عليه تمهيد المرقاة أولل ثم بعد
ذلك يصعد ،و علم اللغة وسيلة عظيمة ،و مرقاة كبيرة ،فل يستغنى طالب العلم عن أحكام اللغة ،فعلم اللغة أصل الصول ،و أول
علم اللغة معرفة الدوات ،و هي بمنزلة الكلمات المفردة ،و بعدها معرفة الفعال مثل الثلثي و الرباعي و غيرهما ،و يجب
اللغويِ أن ينظر في أشعار العرب .و أولها و أتقنها أشعار الجاهلية .فإن فيها تنقيحا ل للخاطر ،و ترويحا ل للنفس و مع ذلك الشعر و
الدوات و السامي يجب تحصيل علم النحو فإنه لعلم اللغة بمنزلة ميزان القبان للذهب و الفضة .و المنطق لعلم الحكمة و
العروض للشعر ،و الذراع للثواب .و الكيال للحبوب ،و كل شيء ل يوزن بميزان ل يتبين فيه حقيقة الزيادة و النقصان .فعلم
اللغة سبيل إلى علم التفسير و الخبار ،و علم القرآن و الخبار دليل على علم التوحيد ،و علم التوحيد هو الذيِ ل تنجو نفوس العباد
إل به و ل تتخلص من خوف المعاد إل به ،فهذا تفصيل علم الصول.
النوع الثاني :من العلم الشرعي هو علم الفروع .و ذلك أن العلم إما أن يكون علميلا ،و إما أن يكون عمليلا ،و علم الصول هو
العلمي ،و علم الفروع هو العملي ،و هذا العلم يشتمل على ثلثة حقوق:
ص 246
أولها :حق ا تعالى و هو أركان العبادات مثل الطهارة و الصلة و الزكاة و الحج و الجهاد و الذكار و العياد و الجمعة و
زوائادها من النوافل و الفرائاض.
و ثانيها :حق العباد و هو أبواب العادات و يجريِ في وجهين :أحدهما :المعاملة مثل البيع و الشركة و الهبة و القرض و الدين و
القصاص و جميع أبوب الديات ،و الوجه الثاني :المعاقدة مثل النكاح و الطلق و العتق و الرق و الفرائاض و لواحقها ،و يطلق
اسم الفقه على هذين الحقين .و علم الفقه علم شريف مفيد عام ضروريِ ل يستغنى الناس عنه لعموم الضرورة إليه.
و ثالثها :حيق النفس ،و هو علم الخلق ،و الخلق إما مذمومة و يجب رفضها و قطعها ،و غما محمودة و يجب تحصيلها و
تحلية النفوس بها ،و الخلق المذمومة و الوصاف المحمودة مشهورة في كتاب ا تعالى و أخبار الرسول صلى ا عليه و سلم،
من تخلق بواحد منها دخل الجنة.
و أما القسم الثاني :من العلم فهو العلم العقلي و علم معضل مشكل بقع فيه خطأ و صواب .و هو موضوع في ثلثة مراتب:
المرتبة الولى :و هو أول المراتب العلم الرياضي و المنطقي .أما الرياضي فمنه الحساب و ينظر في العدد و الهندسة و هي علم
المقادير و الشكال و الهيئاة أعني علم الفلك و النجوم و أقاليم الرض ،و ما يتصل بها ،و يتفرع عنه علم النجوم و أحكام
المواليد و الطوالع ،و منه علم المسبقي الناظر في الثار ،و أما المنطقي فينظر في طريق الحد و الرسم في الشياء التي تدرك
بالتصور ،و ينظر من طريق القياس و البرهان في العلوم التي تنال بالتصديق ،و يدور علم المنطق على هذه القاعدة يبتدئ
بالمفردات ثم بالمركبات ،ثم بالقضايا ،ثم بالقياس ،ثم بأقسام القياس ،ثم مطلب البرهان و هو نهاية علم المنطق.
المرتبة الثانية :و هو أوسطها العلم الطبيعي ،و صاحبه ينظر في الجسم المطلق ،و أركان العالم و في الجواهر و العراض ،و في
الحركة و السكون ،و في أحوال السموات و الشياء الفعلية و النفعالية ،و يتولد من هذا العلم النظر في أحوال مراتب الموجدات و
أقسام النفوس و المزجة ،و كمية الحواس ،و كيفية إدراكها لمحسوستها ،ثم يؤديِ إلى النظر في علم الطب و هو علم البدان و
العلل و الدوية و المعالجات و ما يتعلق بها ،و من فروعه علم الثار العلوية ،و علم المعادن ،و معرفة خواص الشياء ،و ينتهي
غلى علم صنعة الكيمياء و هي معالجة الجساد المريضة في أجواف المعادن.
المرتبة الثالثة :و هي العليا ،و هي النظر في الموجود ،ثم تقسيمه إلى الواجب و الممكن ،ثم النظر في الصانع و ذاته و جميع
صفاته و أفعاله و أمره و حكمه و قضائاه و ترتب
ص 247
ظهور الموجدات عنهن ثم النظر في العلويات و الجواهر المفردة و العقول المفارقة و النفوس الكاملة ،ثم النظر في أحوال
الملئاكة و الشياطين ،و ينتهي إلى علم النبوات و أمر المعجزات و أحوال الكرامات ،و النظر في أحوال النفوس المقدسة و حال
النوم و اليقظة و مقامات الرؤيا ،و من فروعه علم الطلسمات و النبرنجات و ما يتعلق بها ،و لهذه العلوم تفاصيل و أعراض و
مراتب ،تحتاج إلى شرح جلي ببرهان بهي و لكن القتصار أولى.
فصل في علم الصوفية
اعلم أن العلم العقلي مفرد بذاته و يتولد منه علم مركب يوجد فيه جميع أحوال العلمين المفردين ،و ذلك العلم المركب علم
الصوفية ،و طريقة أحوالهم ،فإن لهم علما ل خاصا ل بطريقة واضحة مجموعة من العلمين و علمهم يشتمل على الحال ،و الوقت و
السماع ،و الوجد و الشوق ،و السكر و الصحو ،و الثبات ،و المحو ،و الفقر ،و الفناء ،و الولية ،و الرادة ،و الشيخ ،و المريد ،و
ما يتعلق بأحوالهم مع الزوائاد و الوصاف و المقامات .و نحن نتكلم في هذه العلوم و أصنافها في هذه الرسالة ،و قد اختصرناها و
عددناها على طريق الختصار و اليجاز ،و من أراد الزيادة و شرح هذه العلوم فليرجع إلى مطالعة الكتب ،و لما انتهى الكلم في
بيان تعديد أصناف العلوم ،فاعلم أنت يقينا ل أن كل فن من هذه الفنون ،و كل علم من هذه العلوم ،يستدعي عدة شرائاط لينتقش في
نفوس الطالبين ،فبعد تعديد العلوم يجب عليك أن تعرف طرق التحصيل فإن لتحصيل العلم طرقا ل معينة نحن نفصلها) إن شاء ا(.
فصل في بيان التحصيل للعلوم
اعلم أن العلم النساني يحصل من طريقين ،أحدهما :التعليم النساني ،و الثاني :التعليم الرباني.
أما الطريق الول :فطريق معهود ،و مسلك محسوس ،يقر به جميع العقلء ،و أما التعليم الرباني فيكون على وجهين ،أحدهما:
من خارج و هو التحصيل بالتعليم ،و الخر :من الداخل و هو الشتغال بالتفكر ،و التفكر من الباطن بمنزلة التعلم في الظاهر ،فإن
التعلم أستفادة الشخص من الشخص الجزئاي ،و التفكر أستفادة النفس من النفس الكلي ،و النفس الكلي أشد تأثيرال و أقوى من جميع
العلماء و العقلء ،و العلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الرض ،و الجوهر في قعر البحر ،أو في قلب المعدن ،و
التعلم هو
ص 248
طلب خروج ذلك الشيء من القوة إلى الفعل .و التعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل ،فنفس المتعلم تتشبه بنفس المعلم و تتقرب
إليه بالنسبة ،فالعالم بالفادة كالزارع و المتعلم بالستفادة كالرض .و العلم الذيِ هو بالقوة كالبذر ،و الذيِ بالفعل كالنبات فإذا
كملت نفس المتعلم تكون كالشجرة المثمرة أو كالجوهر الخارج من قعر البحر ،و إذا غلبت القوة البدنية على النفس يحتاج المتعلم
إلى زيادة التعلم و طول المدة ،و تحمل المشقة و التعب و طلب الفائادة ،و إذ غلب نور العقل على أوصاف الحس ستغنى الطالب
بقليل من التفكر عن كثرة التعلم ،فإن نفس القابل تجد من الفوائاد بتفكر ساعة ما ل تجد نفس الجامد بتعلم سنة ،فإذن بعض الناس
يحصلون العلوم بالتعلم و بعضهم بالتفكر ،و التعلم يحتاج إلى التفكر ،فإن النسان ل يقدر أن يتعلم جميع الشياء الجزئايات و
الكليات و جميع المعلومات ،بل يتعلم شيئاا ل و يستخرج بالتفكر من العلوم شيئاا ل و أكثر العلوم النظرية و الصنائاع العلمية استخرجها
نفوس الحكماء بصفاء ذهنهم ،و قوة فكرهم ،و حدة حدسهم من غير زيادة تعلم و تحصيل ،و لول أن النسان يستخرج بالتفكر
شيئالا ،من معلومه الول لكان يطول المر على الناس و لما كانت تزول ظلمة الجهل عن القلوب لن النفس ل تقدر أن تتعلم جميع
مهماتها الجزئاية و الكلية بالتعليم ،بل بعضها بالتحصيل و بعضها بالنظر كما يرى عادات الناس ،و بعضها يستخرج من ضميره
بصفاء فكره ،و على هذا جرت عادة العلماء و تمهدت قواعد العلوم .حتى أن المهندس ل يتعلم جميع ما يحتاج إليه في طول
عمره ،بل يتعلم كليات علمه و موضوعاته ،ثم بعد ذلك يستخرج و يقيس .و كذلك الطبيب ل يقدر أن يتعلم جزئايات أدواء
الشخاص و أدويتهم بل يتفكر في معلوماته الكلية .و يعالج كل شخص بحسب مزاجه .و كذلك المنجم يتعلم كليات النجوم ثم يتفكر
و يحكم بالحكام المختلفة .و كذلك الفقيه و الديب .و هكذا إلى بدائاع الصنائاع فواحد وضع آلة الضرب و هو العود بتفكره ،و آخر
استخرج من تلك اللة آلة أخرى .و كذلك جميع الصنائاع البدنية و النفسانية أوائالها محصلة من التعلم و البواقي مستخرجة من
التفكر ،و إذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر و كيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب فيشرح قلبه و تنفتح
بصيرته فيخرج ما في نفسه من القوة إلى الفعل من غير زيادة طلب و طول تعب.
الطريق الثاني :و هو التعليم الرباني على وجهين:
الول :إلقاء الوحي و هو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة و درن الحرص و المل الفانية .و تقبل بوجهها على
بارئاها و منشئاها و تتمسك بجود مبدعها و تعتمد على إفادته و فيض نوره ،و ا تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالل
كليا ل .و ينظر إليها نظرال إلهيا ل و يتخذ منها لوحا ل .و من النفس الكلي قلما ل و ينقش فيها جميع
ص 249
علومه ،و يصير العقل الكلي كالمعلم ،و يصير العقل الكلي كالمعلم ،و النفس القديسة كالمتعلم ،فيحصل جميع العلوم لتلك النفس و
ينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم و تفكر ،و مصداق هذا قوله تعالى لنبيه صلى ا عليه و سلم) :دودعلادم د
ك دما لدلم دتاكلن دتلعلدام( “
النساء ”113 :الية .فعلم النبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلئاق لن محصوله عن ا تعالى بل واسطة و وسيلة ،و بيان
هذا يوجد في قصة آدم عليه السلم و الملئاكة ،فإنهم تعلموا طول عمرهم ،و حصلوا بفنون الطرق كثيرال من العلوم حتى صاروا
أعلم المخلوقات و أعرف الموجدات ،و آدم عليه السلم ما كان عالما ل لنه ما تعلم و ما رأى معلما ل فتفاخرت الملئاكة و تجبروا و
ك( “البقرة .”30 :و نعلن حقائاق الشياء ،فرجع آدم عليه السلم إلى باب خالقه ،و س دل د ك دواندقرَد اتكبروا فقالوا) :دودنلحان اندسرَباح هبدحلمهد د
د ل
ضاهلم دعلى الدملهئاكهة(“البقرة.”31 : د ا
أخرج قلبه عن جملة المكونات و أقبل بالستعانة على الرب تعالى فعلمه جميع السماء) :ثام دعدر د
صاهدهقيدن(“البقرة .”31 :فصغر حالهم عند آدم .و قل علمهم و انكسرت سفينة جبروتهم ) دفدقادل دأنهبائاوهني هبأ دلسدماء دهاؤلء هإن اكناتلم د
د ل د ا ا ل
ك لد هعلدم دلدنا إهل دما دعللمدتدنا(” البقرة .”32:فقال تعالى ) :ديا آددام أنهبئااهم هبألسدماهئاههلم( “البقرة.”33 : فغرقوا في بحر العجز )دقاالولا اسلبدحادن د
فأنبأهم أدم عليه السلم عدة مكونات العلم و مستترات المر ،فتقرر المر عند العقلء أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى و
أكمل من العلوم المكتسبة ،و صار علم الوحي إرث النبياء و حيق الرسل ،و أغلق ا باب الوحي من عهد سيدنا محمد صلى ا
عليه و سلم ،و كان رسول ا صلى ا عليه و سلم و خاتم النبين ،و كان أعلم الناس و أفصح العرب و العجم و كان يقول) :أدبني
ربي فأحسن تأديبي( ،و قال لقومه ) :أنا أعلمكم و أخشاكم من ا تعالى( ،و إنما كان علمه أكمل و أشرف و أقوى لنه حصل عن
التعليم الرباني ،و ما اشتغل قط بالتعليم و التعليم النساني .قال تعالى) :دعلادماه دشهدياد اللقادوى( “النجم.”5 :
الوجه الثاني :هو اللهام ،و اللهام نبيه النفس الكلية للنفس الجزئاية النسانية على قدر صفائاها و قبولها و قوة استعدادها و اللهام
أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح المر الغيبي و اللهام يسمى علما ل لدنييلا ،و العلم اللدني هم الذيِ ل واسطة في حصوله بين
النفس و بين الباريِ ،و إنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على القلب صاف فارغ لطيف ،و ذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة
في جوهر النفس الكلية الولى الذيِ هو في الجواهر المفارقة الولية المحضة بالنسبة إلى العقل الول كنسبة حواء إلى آدم عليه
السلم .و النفس الكلية أعز و ألطف و أشرف من سائار المخلوقات فمن إفاضة العقل الكلي يتولد اللهام و من إشراق النفس
ص 250
الكلية يتولد اللهام ،فالوحي حلية النبياء واللهامزينة الولياء .فأما علم الوحي فكما أن النفس دون العقل فالولي دون النبي فكذلك
اللهام دون الوحي فهو ضعيف بنسبة الوحي قويِ بإضافة الرؤيا والعلم علم النبياء والولياء .فأما علم الوحي فخاض بالرسل
موقوف عليهم كما كان لدم وموسى عليهما السلم وإبراهيم ومحمد صلى ا عليهما وسلم وغيرهم من الرسل ،وفرق بين
الرسالة والنبوة .فالنبوة قبول النفس القدسية حقائاق المعلومات والمعقولت إلى المستفيدين والقابلين ،وربما يتفق القبول لنفس من
النفوس ول يتأتى لها التبليغ لعذر من العذار وسبب من السباب ،والعلم اللدني يكون لهل النبوة والولية كما كان للخضر عليه
السلم حيث أخبر ا تعالى عنه ،فقال} :دودعلالمدناها همن لاادانا هعلللما{ ]الكهف .[65 :وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم ا
وجهه" :أدخلت لساني في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم مع كل باب ألف باب" ،وقال" :لو وضعت لي وسادة وجلست
عليها لحكمت لهل التوراة بتوراتهم ،ولهل النجيل بإنجيلهم ،ولهل القرآن بقرآنهم" .وهذة مرتبة ل تنال بمجرد التعلم
ضا رضي ا عنه يحكي عن عهد موسى عليه السلم أن شرح النساني ،بل يتحلى المرء بهذه المرتبة بقوة العلم اللدني ،وقال أي ل
كتابه أربعون حملل فلو يأذن ا في شرح معاني الفاتحة لشرع فيها حتى تبلغ مثل ذلك ،يعني أربعين وقلرا ،وهذه الكثرة والسعة
والنفتاح في العلم ل يكون إل لدنلييا إلهلييا سماولييا .فغذا أراد ا بعبد خيلرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هو اللوح ،فيظهر
فيها أسرار بعض المكنونات وانتقش فيها معاني تلك المكنونات فتعبر النفس عنها كما تشاء من عباده وحقيقة الحكمة تنال من العلم
ت الل ه
حلكدمدة اللدني وما ل يبلغ النسان هذه المرتبة ل يكون حكيلما لن الحكمة من مواهب ا تعالى} :ايلؤهتي الل ه
حلكدمدة دمن ديدشاء دودمن ايلؤ د
ب{ ]البقرة .[269 :وذلك لن الواصلين إلى مرتبة العلم اللدني مستغنون عن كثرة دفدقلد اأوهتدي دخليلرا دكهثيلرا دودما دياذاكار إهلا أ الوالولا الدللدبا ه
التحصيل وتعب التعليم فيتعلمون قليلل ويعلمون كثيلرا ويتعبون يسيلرا ويستريحون طويل.
ل
واعلم أن الوحي إذا انقطع .وباب الرسالة إذا انسد استغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحيجة وتكميل الدين ،كم
ت دلاكلم هديدناكلم{ ]المائادة .[3 :وليس من الحكمة إظهار زيادة الفائادة من غير حاجة .فأما باب اللهام فل ينسد، قال تعالى} :اللديلودم أدلكدملل ا
ومدد نور النفس الكلية ل ينقطع لدوام ضرورة النفس وحاجتها إلى تأكيد وتجديد وتذكير ،وكما أن الناس استغنوا عن الرسالة
والدعوة واحتاجوا غلى التذكير والتنبيه لستغراقهم في هذه الوساوس وانهماكهم في هذه الشهوات فال تعالى أغلق باب الوحي
وهو آية العباد وفتح باب اللهام رحمة وهيأ المور .ورتب المراتب لعلموا أن ا لطيف بعباده يرزق من يشاء بغير حساب.
ص 251
فصل في مراتب النفوس في تحصيل العلوم
اعلم ان العلوم مركوزة في جميع النفوس النسانية وكلها قابلة لجميع العلوم وإنما يفوت نفلسا من النفوس حظها منه بسب طارئ
وعارض يطرأ عليها من خارج ،كما قال النبي صلى ا عليه وسلم" :خلق الناس حنفاء فاختالتهم الشياطين" .وقال صلى ا عليه
وسلم" :كل مولود يولد على الفطرة" الحديث .فالنفس الناطقة النسانية أهل لشراق الكلية عليها ومستعدة لقبول الصور المعقولة
عنها بقوة طهارتها الصلية وصفاتها ،ولكن يمرض بعضها في هذه الدنيا .ويمتنع عن إدراك الحقائاق بأمراض مختلفة وأعراض
شتى ،ويبقى بعضها على الصحة الصلية بل مرض وفساد .يقبل أبلدا ما دامت حية ،والنفوس الصحيحة هي النفوس النبوية القابلة
للوحي والتأييد القادرة على إظهار المعجزة والتصرف في عالم الكون والفساد ،فإن تلك النفوس باقية على الصحة الظاصلية ،وما
تغيرت أمزجتها بفساد المراض وعلل العراض أنصار النبياء أطباء النفوس ودعاة الخلق إلى صحة الفطرة.
وأما النفوس المريضة في هذه الدنيا الدنيئاة فصارت على مراتب ،بعضهم تأثر بمرض المنزل تأثيلرا ضعيلفا .ودق غمام النسيان
في خواطرهم فيشتغلون بالتعيلم .ويطلبون الصحة الصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة ،وينقشع غمام نسيانهم بأقل تذكر
وبعضهم يتعلمون طول عمرهم وشتغلون بالتعليم ويطلبون الصحة الصلية فيزول مرضهم بأدنى معالجة .وينقشع غمام نسيانهم
بأقل تذكر وبعضهم يتعلمون طول عمرهم ويشتغلون بالتحصي والتصحيح جميع أيامهم ،ول يفهمون شيلئاا لفساد أمزجتهم ،لن
المزاج إذا فسد ل يقبل العلج ،وبعضهم يتذكرون وينسون ويرتاضون ويذلون أنفسهم ويجدون نولرا قليلل وإشرالقا ضعيلفا ،وهذا
التفاوت إنما ظهر من إقبال النفوس على الدنيا واستغراقها بحسب قوتها وضعفها كالصحيح إذا مرض ،والمريض إذا صح ،وهذه
العقدة إذا انحلت تقر النفوس بوجود العلم اللدني وتعلم أنها عالمة في أول الفطرة وصافية في ابتداء الختراع ،وإنما جهلت لنها
مرضت بصحبة هذا الجسد الكثيف ،والقامة في هذا المنزل الكدر والمحل المظلم وأنها ل تطلب بالتعلم إيجاد العلم المعدوم .ول
إبداع العقل المفقود ،بل إعادتها العلم الصلي الغزيريِ وإزالة طريان المرض بإقبالها على زينة الجسد وتمهيد قاعدته ونظم
أساسه ،والب المحب المشفق على ملده إذا أقبل على رعاية الولد ،واشتغل بمهماته ينسى جميع المور ويكتفي بأمر واحد وهو
أمر الولد ،فالنفس لشدة شغفها وشفقتها أقبلت على هذا الهيكل واشتغلت بعمارته ورعايته والهتمام بمصالحه ،واستغرقت في بحر
الطبيعة بسبب ضعفها وجزئايتها فاحتاجت في أثناء العمر ظغلى التعلم طللبا لتذكار ما قد نسيت،
ص 252
وطملعا في وجدان ما قد فقدت وليس التعلم إل رجوع النفس إلى جوهرها وإخراج ما في ضميرها إلى الفعل طللبا لتكميل ذاتها
ونيل سعادتها ،وإذا كانت النفوس ضعيفة ل تهتديِ إلى حقيقة جوهريتها تتمسك وتعتصم بمعلم مشفق عالم وتستغيث به ليعينها
على طلب مرادها ومأمولها كالمريض الذيِ يكون جاهلل بمعالجته ويعلم أن الصحة الشريفة محمودة مطلوبة .فيرجع إلى طبيب
مشفق ،ويعرض حاله عليه ويأوى إليه ليعالجه ويزيل عنه مرضه .وقد رأينا عاللما يمرض بمرض خاص كارأس والصدر
فتعرض نفسه عن جميع العلوم وينسى معلوماته وتبتبس عليه ويستتر في حافظته وذاكرته جميع ما حصل في سابق عمره
وماضي أيامه .فإذا صح عاد الشفاء إليه يزول النسيان عنه وترجع النفس إلى معلوماتها فتتذكر ما قد نسيت في أيام المرض،
فعلمنا أن العلوم ما فنيت وإنما نسيت وفرق بين المحو والنسيان بالناس فإن المحو فناء النقوش والرسوم ،والنسيان التباس النقوش
فيكون كالغمام أو السحاب الساتر لنور الشمس عن أبصار الناظرين ل كالغروب الذيِ هو انتقال الشمس من فوق الرض إلى
أسفل .فاشتغال النفس بالتعليم هو إزالة المرض العارض عن جوهر النفس لتعود إلى ما علمت في أول الفطرة وعرفت في بدء
الطهارة .فإذا عرفت السبب والراد من التعليم وحقيقة النفس وجوهرها فاعلم أن النفس المريضة تحتاج إلى التعليم وإنلفا قال العمر
في تحصيل العلوم .فأما النفس التي يخف مرضها وتكون علتها ضعيفة وشرها مقيلقا وغمامها رقيلقا ومزاجها صحيلحا ،فل تحتاج
إلى زيادة تعلم وطول تعب بل يكفيها أدنى نظر وتفكر لنها ترجع به إلى أصلها ،وتقبل على بدايتها وحقيقتها وتطلع على مخفياتها
فيخرج ما فيها من القوة إلى الفعل ويصير ما هو مركوز فيها حلية لها فيتم أمرها ويكمل شأنها وتعلم أكثر الشياء في أقل اليام
وتعبر عن المعلومات بحسن النظام ،وتصبر عالمة كاملة متكلمة تستضئ بإقبال على النفس الكلية وتفيض باستقبال على النفس
الجزئاية وتتشبه من طريق العشق بالصل .وتقطع عرق الحسد وأصل الحقد وتعرض عن فضول الدنيا وزخرفها ،وإذا وصلت
إلى هذه المرتبة فقد علمت ونجت وفازت ،فهذا هو المطلوب لجميع الناس.
فصل في حقيقة اللدني وأسباب حصوله
س دودما دساوادها{ ]الشمس .[7 :وهذا الرجوع اعلم أن العلم اللدني وهو سريان نور اللهام يكون بعد التسوية كما قال ا تعالى} :دودنلف ء
يكون بثلثة أوجه:
أحدها :تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الوفر من أكثرها.
والثاني :الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة ،فإن النبي صلى ا عليه وسلم أشار إلى هذه
ص 253
الحقيقة ،فقال" :من عمل بما علم أورثه ا علم ما لم يعمل" .وقال صلى ا عليه وسلم" :من أخلص ل أربعين أظهر ا تعالى
ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
والثالث :التفكر ،فإن النفس إذا تعلمت واتاضت بالعلم ثم تتفكر في معلوماتها بشروط الفكر ينفتح عليها باب الغيب كالتاجر الذيِ
يتصرف في ماله بشرط التصرف ينفتح عليه أبواب الربح ،وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران ،فالمتفكر إذا سلك
سبيل الصواب يصير من ذويِ اللباب ،وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيضير عالل كاملل عاقلل ملهلما مؤيلدا ،كما قال
صلى ا عليه وسلم" :تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" .وشرائاط التفكر نحصيها في رسالة أخرى إذ بيان التفكر وكيفيته
وحقيقته أمر مبهج يحتاج إلى زيادة شرح وتفسير بعون ا تعالى .والن نختم هذه الرسالة ،فإن في هذه الكلمات كفاية لهلها:
اا دلاه انولرا دفدما دلاه همن منوءر{ ]النور .[40 :وا ولي المؤمنين وعليه التكلن ،وصلى ا على سيدنا محمد وآله }دودمن لالم ديلجدعهل ا
وصحبه وسلم وحسبنا ا ونعم الوكيل ،ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم ،وبه ثقتي في كل آن وحين والحمد ل رب العالمين.
فصل التفرقة
بسم ا الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
قال المام العالم العامل أبو حامد محمد بن محمد الغزالي رحمة ا عليه :أحمد ا تعالى استسللما لعزته واستتمالما لنعمته،
واستغنالما لتوفيقه ومعونته وطاعته ،واستعصالما من خذلنه ومعصيته ،واستدرالرا لسوابغ نعمته وأصلي على محمد عبده ورسوله
وخير خليقته ،انقيالدا لنبوته ،واستجللبا لشفاعته ،وقضالء لحق رسالته ،واعتصالما بيمين سريرته ونقيته ،وعلى آله وصحبه
وعترته.
أما بعد :فإني رأيتك أيها الخ المشفق ،والصديق المتعصب موغر الصدر ،منقسم الفكر لما فرغ سمعك من طعن طائافة من
الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملت الدين ،وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الصحاب المتقدمين ،والمشايخ
المتكلمين ،وأن العدول على مذهب الشعريِ ولو في قيد شبر كفر واهجرهم هجلرا جميلل ،واستحقر من ل يحسد ول يقذف،
واستصغر من بالكفر أو الضلل ل يعرف فأيِ داع أكمل وأقل من سيد المرسلين صلى ا عليه وسلم ،وقد قالوا :إنه مجنون من
المجانين ،وأيِ كلم أجل وأصدق
ص 254
من كلم رب العالمين ،وقد قالوا :إنه أساطير الوليين ،وإياك أن تشتغل بخصامهم وتطمع في إفحامهم فتطمع في غير مطمع،
وتصوت في عير مسمع ،أما سمعت ما قيل:
كل العداة قد ترجى سلمتها
إل عداوة من عاداك عن حسد
ك إهلعدرا ا
ضاهلم ولو كان فيه مطمع لحد من الناس ،لما تلى على أجلهم رتبة آيات اليأس ،أو ما سمعت قوله تعالى} :دوهإن دكادن دكابدر دعدللي د
اا دلدجدمدعاهلم دعدلى اللاهددى دفلد دتاكودنان همدن اللدجاهههليدن{ ض أدلو اسلالما هفي الاسدماء دفدتألهتدياهم هبآديءة دودللو دشاء ا ت دأن دتلبدتهغدي دندفلقا هفي الدلر ه
دفإههن السدتدطلع د
صااردنا دبلل دنلحان دقلوسم ت أدلب د
]النعام .[35 :وقوله تعالى} :دودللو دفدتلحدنا دعدلليههم دبالبا رَمدن الاسدماء دفدظملولا هفيهه ديلعاراجودن * دلدقاالولا إهاندما اسرَكدر ل
س دفدلدماسوها هبأ دليهديههلم دلدقادل الاهذيدن دكدفارولا إهلن دهدذا إهلا هسلحسر
ك هكدتالبا هفي هقلردطا ء املساحوارودن{ ]الحجر .[15 ،14 :وقوله تعالى} :لو دنازللدنا دعدللي د
ممهبيسن{ ]النعام .[7 :وقوله تعالى} :دودللو أداندنا دنازللدنا إهدلليههام اللدملهئادكدة دودكلادماهام اللدملودتى دودحدشلردنا دعدلليههلم اكال دشليءء قاابلل اما دكاانولا لهايلؤهمانولا إهلا
اا دودلهكان أدلكدثدراهلم ديلجدهالودن{ ]النعام .[111 :واعلم أن الفكر واليمان وحدهما ،والحق والضلل وسرهمان ل ينجلي دأن ديدشاء ا
ل
للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما ،بل إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار النيا أول ،ثم ثقلت
بالرياضة الكاملة ثانليا ،ثم نورت بالذكر الصافي ثاللثا ،ثم عذبت بالفكر الصائاب رابلعا ،ثم زينت بملزمة حدود الشرع خاملسا،
حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة ،وصارت كأنها مرآة مجلوة ،وصار مصباح اليمان في زجاجة قلبه مشرق النوار ،يكاد
زيته يضيء ولو لم تمسسه نار .وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم ومعبودهم سلطينهم ،وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم،
وشريعتهم رعونتهم ،وإرادتهم جاههم وشهواتهم ،وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم ،وذكرهم وساوسهم ،وكنزهم سواسهم ،وفكرهم
استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم ،فهؤلء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء اليمان ،أبإلهام إلهي ولم يفرغوا القلوب عن
كدورات الدنيا لقبولها أم بكمال علمي ،وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النحاسية وماء الغفران وأمثالهما؟ هيهات هيهات هذا
ض دعن امن دتدوالى المطلب أنفس أعز من أن يدرك بالمنى ،أو ينال بالهوينا؟ فاشتغل أنت بشأنك ول تضيع فيهم بقية زمانك} :دفأ دلعهر ل
ضال دعن دسهبيلههه دواهدو أدلعدلام هبدمهن الهدتددى{ ]النجم،29 : ك اهدو أدلعدلام هبدمن دك دملبدلاغاهم رَمدن اللهعللهم إهان دراب د دعن هذلكهردنا دودللم ايهرلد إهلا اللدحديادة المدلنديا * دذله د
.[30
ص 255
فصل في حقيقة الحفر واليمان
فأما أنت إن أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك ،وصدر من هو في حالك ،ممن ل تحركه غواية الحسود ،ول تقيده عماية
التقليد ،بل تعطشه إلى الستبصار لحزازة إشكال آثارها فكر ،وهيجها نظر ،فخاطب نفسك وصاحبك وطالبه بحد الكفر فإن زعم
أن حد الكفر ما يخالف مذهب الشعريِ ومذهب المعتزلي أو مذهب الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غير بليد ،قد قيده التقليد فهو أعمى
من العميان ،فل تضيع بإصلحه الزمان ،وناهيك حجة في إفحامه ،مقابلة دعواه بدعوى خصومه ،إذ ل يجد بين نفسه وبين سائار
المقلدين المخالفين له فرلقا وفصلل ،ولعل صاحبه يميل من سائار المذاهب إلى الشعريِ ،ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر
كفر من الكفر الجلي ،فاسأله من أين يثبت له أن يكون الحق وفلقا عليه حتى قصى بكفر الباقلني إذا خالفه في صفة البقاء ل تعالى،
وزعم أنه ليس هو وصلفا ل تعالى زائالدا على الذات ولم صار الباقلني أولى بالكفر بمخالفته الشعريِ من الشعريِ بمخالفته
الباقلني؟ ولم صار الحق وفلقا على احدهما دون الثاني؟ أكان ذلك لجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الشعريِ غيره من المعتزلة
فليكن الحق للسابق عليه! أم لجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فبأيِ ميزان ومكيال قدر درجات الفضل حتى لح له أن ل أفضل في
الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخص للباقلني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلني والكرابيسي والقلنسي
وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلف الباقلني يرجع إلى لفظ ل تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفة
بعض المتعصبين زاعلما أنهما جميلعا متوافقان على دوام الوجود ،والخلف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائاد عليه
خلف قريب ل يوجب التشديد ،فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات وهو معترف بأن ا تعالى عالم محيط بجميع
المعلومات قادر على جميع الممكنات ،وإنما يخالف الشعريِ في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائادة ،فما الفرق بين الخلفين،
فإن قال :إنما أكفر المعتزلي لنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائادة العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحد
والحقيقة ،والحقائاق المختلفة تستحيل أن توصف بالتحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله ل يستبعد من الشعريِ قوله :إن
الكلم صفة زائادة قائامة بذات ا تعالى ومع كونه واحلدا وهو توراة وإنجيل وزبور وقرآن ،وهو أمر ونهي وخبر واستخبار ،وهذه
حقائاق مختلفة كيف ل وحد الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ول يتطرق ذلك غلى المر والنهي فكيف تكون حقيقة واحدة
يتطرق
ص 256
إليها التصديق والتكذيب ول يتطرق فيجتمع النفي والثبات على شئ واحد فإن تخير جواب هذا أو عجز عن كشف الغظاء فيه،
فاعلم انه ليس من أهل النظر وإنما هو وشرط المقلد أن يسكت يسكت عنه لنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ،ولو كان أ كان
مستتبلعا ل تابلعا ،وإمالما ل مأمولما ،فإن خاض المقلد في المحاجة فلذلك منه والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد وطالب
لصلح الفاسد .وهل يصلح العـ أفشد الدهر .ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقلفا على واحد من النظار فهو إلى الكفر
والتناقض اقرب .أما الكفر ،فلنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل ل يثبت اليمان إل بموافقته ول يلزم الكفر إل بمخالفته،
وأما التناقض فهو أن كل واح النظار يوجب النظر وأن ل ترى في نظرك إل ما رأيت وكل ما رأيته حجة ،وأيِ فر من يقول قلدني
في مجرد مذهبي ،وبين من يقول قلدني في مذهبي ودليلي جميلعا هذا إل التناقض.
فصل في الكفر
لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أ المقلدين ،فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض ،ولكني أعطيك
علمة صح فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعويِ بسببها عن تكفير الفرق ،وتطويل ا في أهل السلم وإن اختلفت
طرقهم ما داموا متمسكين بقول ل إله إل ا محمد رسول ا صادقين بها غير مناقضين لها فأقول:
الكفر هو تكفير الرسول عليه الصلة والسلم في شئ مما جاء به ،واليمان تصديق في جميع ما جاء به ،فاليهوديِ والنصراني
كافران لتكذيبهما للرسول عليه الصلة والسلم والبرهمي كافر بالطريق الولى لنه أنكر مع رسولنا المرسل سائار الرسل ،وهذا
لن حكم شرعي كالرق والرحرية مثلل إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار في النار ومدركه فيدرك إما بنص وإما بقياس
على منصوص .وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى والتحق بهم بالطريق الولى البراهمة والثنوية والزنادقة والدهرية،
وكلهم مشركون مكذبون للرسول فكل كافر مكذب للرسول ،وكل كافر مكذب فهو كافر فهذه هي ال المطردة المنعكسة.
فصل
اعلم أن الذيِ ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور لن كل فرقة
ص 257
مخالفتها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلة والسلم ،فالحنبلي يكفر الشعريِ زاعلما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق ل
تعالى وفي الستهواء على العرش ،والشعريِ يكفره زاعلما أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شئ ،والشعريِ يكفر
المعتزلي زاعلما أنه كذب الرسول في جواز رؤية ا تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له ،والمعتزلي يكفر الشعريِ
زاعلما أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ،ول ينجيك من هذة الورطة إل أن تعرف حد التكذيب
ضا.والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك علو هذة الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بع ل
فأقول :التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر ،وحقيقة العتراف بوجوه ما أخبر الرسول صلى ا عليه وسلم عن وجوده
إل أن للوجود خمس مراتب ولجل الغفلة عنهما نسبت كل فرقة مخالفها إلى التكذيب فإن الوجود ذاتي وحسي وخيالي وعقلي
وشبهي ،فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلة والسلم عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على
الطلق .فلنشرح هذه الصناف الخمسة ولنذكر مثالها في التأويلت.
أما الوجود الذاتي :فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل ،ولكن يأخذ الحس والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدرالكا وهذا
كوجود السماوات والرض والحيوان والنبات وهو ظاهر بل هو المعروف الذيِ ل يعرف الكثرون للوجود معنى سواه.
وأما الوجود الحسي :فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما ل وجود له خارج العين فيكون موجولدا في الحس ويختص به
الحاس ،ول يشاركه غيره ،وذلك كما يشاهده النائام بل كما يشاهده المريشض المتيقظ إذ قد تتمثل له صورة ول وجود لها خارج
حسه حتى يشاهدها كما يشاهد سائار الموجودات الخارجة عن حسه ،بل قد تتمثل للنبياء والولياء في اليقظة والصحة صورة
جميلة محاكية لجواهر الملئاكة ،وينتهي إليهم الوحي واللهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم
وذلك لشدة صفاء باطنهم ،كما قال تعالى} :دفدتدماثدل دلدها دبدشلرا دسهولييا{ ]مريم .[17 :وكما أنه عليه الصلة والسلم رأى جبريل عليه
السلم كثيلرا ،ولكن ما رآه في صورته إل مرتين وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها وكما يرى رسول ا صلى ا عليه وسلم
في المنام ،وقد قال":من رآني في النوم فقد رآني حليقا ،فإن الشيطان ل يتمثل بي" ،ول تكون رؤيته بمعنى انتقال شخصه ن روضة
المدينة إلى موضع النائام ،بل هي على سبيل وجود صورته في الحس النائام فقط ،وسبب ذلك وسره طويل ،وقد شرحناه في بعض
الكتب فإن كنت ل تصدق به فصدق عينك ،فإنك تأخذ قبلسا من نار كأنه نقطة ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خلطا من نار،
وتحركه حركة مستديرة فتراه دائارة من نار ،والدائارة والخط مشاهدان وهما موجودان في
ص 258
حسك ل فى خارج عن حسك ,لن الموجود فى الخارج هى نقطة فى كل حال ,وانما تصير خطا فى اوقات متعاقبة فل يكون
الخط موجودا فى حالة واحدة وهو ثابت فى مشاهدتك فى حالة واحدة.
وأما الوجود الخيالى :فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك فإنك تقدر على ان تخترع فى خيالك صورة فيل وفرس ,
وإن كنت مغمضا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته فى دماغك ل فى الخارج.
وأما الوجود العقلى :فهو يكون للشىء روح وحقيقة ومعنى فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته فى خيال أو حس أو
خارج كاليد
مثل ,فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهى القدرة على البطش ,والقدرة على البطش هى اليد العقلية,
وللقلم صورة ,ولكن حقيقته ماتنقش به العلوم ,وهذا يتلقاه العقل من غير ان يكون مقرونا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من
الصور الخيالية والحسية.
وأما الوجود الشبهى :فهو أن يكون نفس الشىء موجودا ل بصورته ول بحقيقته ,ل فى الخارج ,ول فى الحس ول فى الخيال ,
ول فى العقل ,ولكن يكون الموجود شيئاا آخر يشبهه فى خاصة من خواصه ,وصفة من صفاته ,وستفهم هذا إذا ذكرت لك مثاله
فى
التأويلت .فهذا مراتب وجود الشياء.
فصل
اسمع الن أمثلة هذه الدرجات فى التاويلت .أما الوجود الذاتى فل يحتاج إلى مثال وهو الذى يجرى على الظاهر ول يتأول ,وهو
الوجود المطلق الحقيقى ,وذلك كإخبار الرسول صلى اللهعليه وسلم عن العرش والكرسى والسموات السبع فإنه يجرى على
ظاهره ول يتأول إذ هذه أجسام موجودة فى أنفسها أدركت بالحس والخيال أو لم تدرك .وأما الوجود الحسى فأمثلته فى التأويلت
كثيرة ,واقنع منها بمثالين:
أحدهما :قول رسول ا صلى ا عليه وسلم )):يؤتى بالموت يوم القيامة فى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار (( ,فإن
من قام عنده البرهان على أن الموت عرض الموت عرض أو عدم عرض ,وأن قلب العرض جسما مستحيل غير مقدور ينزل
الخير على ان أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت ,ويكون ذلك موجودا فى حسهم ل فى الخارج ,ويكون سببا
لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك إذ المذبوح ميئاوس منه .ومن يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب
كبشا فى ذاته ويذبح.
المثال الثانى :قول رسول صلى ا عليه وسلم )):عرضت على الجنة فى عرض هذا الحائاط (( ,من قام عنده البرهان على أن
الجسام ل تتداخل ,وأن الصغير ل يسع الكبير حمل ذلك على
ص 259
أن نفس الجنة لم تنقل إلى الحائاط ,لكن تمثل للحس صورتها فى الحائاط حتى كأنه يشاهدها ول يمتنع أن يشاهد مثال شىء كبير فى
جرم صغير ,كما نشاهد السماء فى مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارا مفارقا لمجرد تخيل صورة الجنة إذ تدرك التفرقة بين أن
ترى صورة السماء فى المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء فى المرآة على سبيل التخيل .
وأما الوجود الخيالى :فمثاله قوله صلى ا عليه وسلم )) :كأنى أنظر إلى يونس بن متى عليه عباءتان قطوانيتان يلبى وتجيبه
الجبال وا تعالى يقول له :لبيك يايونس (( والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة فى خياله إذ كان وجود هذه الحالة سابقا على
وجود رسول ا صلى ا عليه وسلم ,وقد انعدم ذلك فلم يكن موجودا فى الحال ,ول يبعد أن يقال أيضا ,تمثل هذا فى حسه حتى
صار يشاهده النائام الصور ,ولكن قوله :كأنى أنظر ,يشعر بإنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظر ,والغرض التفهيم بالمثال ل عين
هذه الصورة وعلى الجملة فكل ما يتمثل فى محل الخيال فيصور أن يتمثل فى محل البصار فيكون ذلك مشاهدة وقل مايتميز
بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل.
وأما الوجود العقلى :فامثلته كثيرة ,فاقنع منها بمثالين :
أحدهما :قوله صلى ا عليه وسلم )) :آخر من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه الدنيا (( فإن ظاهر هذا يشير إلى
أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت الحسى والخيال ,ثم قد يتعجب فيقول :إن الجنة فى السماء كما دلت
عليه ظواهر الخبار فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيات ,وقد يقطع المتأول هذا التعجب فيقول المراد
به تفات معنوى عقلى ل حسى ول خيالى ,كما يقال مثل هذه الجوهرة أضعاف الفرس أى فى روح المالية ,ومعناها المدرك دون
مساحتها المدركة بالحس والتخيل .
المثال الثانى :قوله صلى ا عليه وسلم ))إن ا تعالى خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا (( فقد أثبت ل تعالى يدا ومن قام عنده
البرهان على استحالة يد ا تعالى هى جارحة محسوسة أو متخيلة ,فإنه يثبت ل سبحانه يدا روحانيه عقلية أعنى أنه يثبت معنى
اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها .إن روح اليد ومعناها مابه يبطش ويفعل ويعطى ويمنع ,وا تعالى يعطى ويمنع بواسطة
ملئاكته ,كما قال عليه الصلة والسلم )) :أول ما خلق ا العقل فقال بك اعطى وبك امنع (( ول يمكن ان يكون المراد بذلك
العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ ل يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملئاكة يسمى
عقل من حيث يعقل الشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعليم وربما يسمى قللما
260
باعتبار أنه تنقش به حقائاق العلوم في ألواح قلوب النبياء والولياء وسائار الملئاكة وحيا ل وءالهاما ل فءانه قد ورد في حديث أخر )) :
ءان أول ما خلق ا تعالي القلم( .فءان لم يرجع ذلك ءالي العقل تناقض الحديثان ,ويجوز أن يكون لشئ واحد أسماء كثيرة
باعتبارات مختلفة فيسمي عقلل بختبار ذاته وملكا ل باعتبار نسبته ءالي ا تعالي في كونه واسطة بينه وبين الخلق ,وقلما باعتبار
ءاضافته ءالي مصدر منه نقش العلوم باءللهام والوحي ,كما يسمي جبريل روحا باعتبار ذاته وأمنيا ل باعتبار ما أودع من السرار,
وذا مرة باعتبار قدرته ,وشديد القويِ باعتبار كمال قوته ,ومكنبا ا عند ذيِ العرش باعتبار قرب منزله ,ومطاعا ا باعتباره كونه
متبوعا ا في حق بعض الملئاكة ,وهذا القائال يكون قد أثيت قلما ا ويدا ا عقليا ا ل حسيا ل ول خياليا ل وكذلك من ذهب ءالي أن اليد عبارة
عن صفة ل تعالي ءاما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون .
وأما الوجود الشبهي :فمثاله الغضب والشوق والفرح والصبر وغيرذلك مما ورد في حق ا تعالي ,فءان الغضب مثلل حقيقته أنه
لرادة التشفي وهذا ل ينفك عن نقصان وألم ,فمن قام عنده البرهان علي استحالة ثبوت نفس الغصب ل تعالي غليان دم القلب ء
لرادة لثبوتا ل ذاتيا ل وحسيا ل وخياليا ل وعقليا ل نزله علي ثبوت صفة أخريِ يصدر منها ما يصدر من الغضب كءارادة العقاب ,وا ء
تناسب الغضب في حقيقة ذانه ولكن في صفة من الصفات وتقارنها وأثر من الثار يصدر عنها وهو اءليلم .فهذه درجات
التأويلت.
فصل في المصدقين
اعلم أن كل من نزل قولل من أقوال صاحب الشرع علي درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين ,وءانما التكذيب أن ينفي جميع
هذه المعاني ,ويزعم أن ما قاله ل معني ,وءانما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو الكفر
المحض والزندقة ,ول يلزم كفر المؤولين ما داموا يلزمون قانون التأويل كما سنشير ءاليه وكيف يلزم الكفر بالتأويل ,وما من
لسلم ءال وهو مضطر ءاليه .فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة ا عليه ,وأبعد التأويلت عن الحقيقة فريق من أهل ا ء
وأغريها أن تجعل الكلم مجازال أو أستعارة هو الوجود العقلي والوجود الشبهي ,والحنبلي مضطر ءاليه وقائال به ,فقد سمعت
الثقات من أئامة الحنابلة ببغداد يقولون ءان أحمد بن حنبل رحمه ا صرح بتأويل ثلث أحاديث فقط:
أحدهما :قوله صلي ا عليه وسلم )) :الدحدجار ال السدواد ديميان ا في الرض(( .
ب االموهمهن بين أصبعين هملن أصابهع الرحلمهن(( . والثاني :قوله صلي ا عليه وسلم )) :دقل ا
والثالث :قوله صلي ا وعليه وسلم )) :ءادني لجد نفس الرحمن من قبل اليمن (( .
فانظر الن كيف أول هذا حيث قام البرهان عنده علي استحالة ظاهرة ,فيقول :اليمن تقبل في العادة تقريبا ل ءالي صاحبها ,والحجر
السود يقبل أيضا تقربا ل ءالي ا تعالي فهو مثل اليمن ل في ذاته ل في صفات ذاته ,ولكن في عارض من عوارضه فسمي لذلك
يمينا ل .وهذا الوجود هو الذيِ سميناه الوجود الشبهي وهو أبعد وجود التأويل .فانظر كيف اضطر ءاليه أبعد الناس عن الـتأويل .
وكذلك لما استحال عند وجود الصبعين ل حسا د ءذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين فتأوله علي روح الصبعين وهي
الصبع العقلية والروحانية .أعني أن روح الصبع ما به يتيسر تقلي الشياء .وقلب النسان بين لمة الملك ولمة الشيطان ,وبهما
يقلب ا تعالي القلوب ,فكني الصبعين عنهمل .وءانما اقتصر أحمد لن حنبل رضي ا عنه علي تأويل هذه الحاديث الثلثة لنه
لم تظهر عنده الستحالة ءال في هذا القدر ,لنه لم يكن ممنلعا في النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في الختصاص بجهة فوق
وغيره مما لم يتأوله والشعريِ والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا ءالي تأويل ظواهر كثيرة ,وأقرب الناس ءالي الحنابلة في أمور
الخرة الشعرية وفقهم ا فءانهم قرروا فيها أكثر الظواهر ءال يسيرال ,والمعتزلةه أشد منهم توغلل في التأويلت وهم مع هذا –
أعني الشعرية -يضطرون أيضا ل ءالي تأويل أمور كما ذكرناه من قوله:ءاني يؤتي بالموت في صورة كبش أملح ,وكما ورد من
وزن العمال بالميزان ,فءان الضعريِ أول من وزن العمال فقال :توزن صحائاف العمال ويخلق ا فيها أوزالنا بقدر درجات
العمال ,وهذا راد ءالي الوجود الشبهب البعيد فءان الصحائاف أجسام كتب فيهارقوم تدل بالصطلح علي أعمال هي أغراض ,
فليس الموزون ءاذال العمل بل محل نقش يدل بالصطلح علي العمل .
والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب به ينكشف لكل واحد مقدار عمله .وهوأبعد عن التعسف في التأويل بوزن
الصحاتف ,وليس الغرض تصخيخ أخد التأويلين ,بل تعلم أن كل فريق ءون بالغ في ملزمة الظواهر فهو مضطر ءالي التأوبل ءال
أن يجاوز الحد في الغباوة والتجاهل ,فيقول /الحجر السود يمين تحقيقا ل ,والموت وءان كان عرضا ل فيستحيل فبتنقل كبشا ل بطريق
النقلب ,والعمال وءان كانت أعراضا ,وقد عدمت فتنتقل ءالي الميزان ويكون فيها أعراض هي الثقل ,ومن ينتهي ءالي هذا
الحد من الجهل فقد انخلع من ريقةالعقل .
فصل في التأويل
فاسمع الن قانون التأويل ,فقد علمت اتفاق الفرق علي هذه الدرجات الخمس في التأويل ,وءان شيئاا ل من ذلك من حيز التكذيب ,
واتفقوا أيضا ل علي أن جواز ذلك موقوف
لمام الغزاليمجموعة رساثل ا ء 262
علي قيام البرهان علي استحالة الظاهر ,والظاهر الول هو الوجود الذاتي فءان ءاذا ثبت تضمن الجمع .فءان تعذر ,فالوجود
الحسي فءانه ءان ثبت تضمن ما بعده .فءان تعذرفالوجود الخيالي أو العقلي .وءان تعذر ,فالوجود الشبهب المجازيِ ول رخصة
للعدول عن درجة ءالي ما دونها ءال بضرورة البرهان فيرجع الختلف علي التحقيق ءالي البراهين .واذ بقول الحنبلي :ل برهان
علي استحاة اختصاص الباريِ بجهة فوق .
ويقول الشعريِ :لبرهان علي استحالة الرؤية .وكأن كل واحد ل يرضي بما ذكره الخصم ول يراه دليل ل قاطعا ل .وكيف ما
كان فل ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه بأن يراه غالطا في البرهان .نعم يجوز أن يسميه ضالل أو مبتدعا ل .أما ضال فمن حيث
ءانه ضل عن الطريق عنده ,وأما مبتدعا ل فمن حيث ءانه ابتدع قولل لم يعهد من السلف الصالح التصريح به .ءاذ المشهور فيما بين
السلف أن ا تعالي يريِ ,فقول القائال :ل يريِ بدعة ,وتصريحه بتأويل الرؤية بدعة ,بل ءان ظهر عنده أن تلك الرؤية معناها
مشاهدة تاقلب ,فينبغي أن ليظهره ول يذكره لن السلف لم يذكروه ,لكم عند هذا يقول الحنبلي ءاثلت الفوق ل تعالي مشهور عند
السلف ,ولم يذكر أحد منهم ،خالق العالم ليس متصل بالعالن ول منفصلل ول داخلل ول خارجا ا ,وأن الجهات الست الخالية عنه
وأن نسبة جهة فوق ءاليه كنسبة جهة تحت ,فهذا قول بدع ءاذ البدعة عبارة عن ءاحداث مقالة غير مأثورة من السلف ,وعند هذا
يتضح لك أن ههنا مقامين .
أحداهما :مقام عوام الخلق ,والحق فيه التباع والكف عن تغيير الظواهر رلسا ,والحذر عن ءابداع التصريح بتأويل لم تصرح به
الصحابة وحسم باب السؤال رأسا ا والزجر عن الخوض في الكلم والبحث ,واتباع ما تشابه من الكتاب والسنه ,كما رويِ عن
عمر رضي ا عنه أ،ه سأل سائال عن أيتين متعارضتين فعله بالدرة ,وكما رويِ عن مالك رحمه ا أنه سئال عن الستواء فقال/
الستواء معلوم واليمان به واجب والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة.
المقام الثاني :بين النظا الذين اضطربت عقائادهم المأثورة المروية فينبغي أن يكون لحثهم بقدر الضرورة وتركهم الظاهر
بضرورة البرهان القاطع ول ينبغي أن يكفر بعضهم بعضا ل بأن يراه غالطا ل فيما يعتقده برهانا ل ,فءلن ذلك ليس أمرا ا هيا ا سهل
المدارك وليكن للبرهان بينهم قانون متفق عليه يعترف كلهم به ,فءانهم ءاذا لم يتفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلف بالوزن,
وقد ذكرنا في الموازين الخمسة في كتاب )القسطاس المستقيم (وهي التي ل يتصور الخلف فيها بعد فهمها أصلل ,بل يعترف كل
لنصاف والنتصاف وكشف الغطاء ورفع الختلف, منهما بأنها مدرك اليقين قطعلاوالمحصلون لها يسهل عليهم عقد ا ء
مجموعة رسائال الغزالي 263
ولكن ل يستحيل منهم الختلف ليضا ل ءاما لقصور بعضهم عن ءادراك تمام شروطه .وءاما في رجوعهم في النظر ءالي محض
القريحة والطبع دون الوزن بالميزان ,كالذيِ يرجع بعد تمام تعلم العروض في الشعر ءالي الذوق لستقالته عرض كل شعر علي
العروض فل يبعد أن يغلط ,وءاما لختلفهم في العلوم التي هي مقدمات البراهين ,فءان من العلوم التي هي أصول البراهين
تجريبية وتواترية وغيرها والناس يختلفون في التجربة والتواتر فقد يتواتر عند واحد ما ل يتواتر عند غيره ,وقد يتولي تجربة ما
ل يتوله غيره .وءاما للتباس قضايا الوهم بقضايا العقل .وءاما للتباس الكلمات المشهودة المخمودة بالروريات والوليات كما
فصلنا ذلك في كتاب )محك النظر ( ,ولكن بالجملة ءاذا حصلوا تلك الموازين ,وحققوها أمكنهم الوقوف عند ترك العناد علي
موقع الغلط علي يسر.
فصل في التأويل بغلبات الظنون
من الناس من يبادر ءالي التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع ول ينبغي أن يبادر أيضا ل ءالي كفره في كل مقام بل ينظر فيه
فءان كان تأويله في أمر ل يتعلق بأصول العقائاد ومعماتها فل نكفره ,وذلك كقول بعض الصوقية ءان المراد برؤية الخليل عليه
السلم الكوكب والقمر والشمس ,وقول هذا ربي غير ظاهرها ,بل هي جواهر نورانية مليكة ونورانيتها عقلية ل خسية ولها
درجات في الكمال .ونسبة ما بينها في التفاوت كنسبة الكواكب والقمر والشمس ,ويستدل عليه بأن الخليل عليه السلم أجل من
أن يعتقد في جسم أنه ءاله حتي يحتاج ءالي أن يشاهد أفوله .أفتريِ أنه لو لم يأفل أكان يتخذه ءالها ل ,ولو لم يعرف استحالة اءللهية من
حيث كونه جسما ا ومقدرال ,واستدل بأنه كيف يمكن أن يكون أول ما رأه الكواكب والشمس هي الظهر وهي أول ما يريِ :واستدل
بأن ا تعالي قال أولل ) :وكذلك انريِ ءابراهيم ملكوت السموات والرض( >النعام . <75:ثم حكي هذا القول فكيف يمكن أن
يتوهم ذلك بعد كشف الملكوت له ,وهذه دللت ظنيىة وليست براهين .
أما قوله ,هو أجل من ذلك ,فقد قيل ءانه كان صبيا ل لما جريِ له ذلك ول يبعد أن يخطر لمن سيكون نبيا ل في صباه مثل هذا الخاطر
,ثم يتجاوزه علي قرب ول يبعد أن تطون دللة الفول علي حدوث عنده أظهر من أدلة التقدير والجسمية .
وأما رؤية الكوكب أولل فقد رويِ أنه كان محبوسا ا في صباه في غار وانام خرج بالليل .
وأم قوله تعالي أولل ) :وكذلك انهريِ ءابراهيم ملكوت السموات والرض( فيجوز
264مجموعة رسائال المام الغزالي
أن يكون ا تعالي قد ذكر حال نهايته ثم رجع ءالي ذكر بدايته .فهذه وأمثالها ظنون يظنها براهين من ل يعرف حقيقة البرهان
وشرطه .فهذا حنس تأويلهم .وقد تأولوا العصاوالنعلين في قوله تعالي ) :فاخلع نعليك ( طه . 12:وقوله ) :وألهق ما في يمينك
( )طه . (69ولعل الظن في مثل هذه المور التي ل تتعلق بأصول العتقاد تجريِ مجريِ البرهان في أصول العتقاد فل يكفر
فيه ول يبدع .معك ءان كان فتح هذا الباب يؤديِ ءالي تشويش قلوب العوام فيبدع به خاصة ثاخبه في كل مالم يؤثر عن السلف ذكره
,ويقرب منه قول بعض الباطنة أن عجل السامريِ مؤول ءاذ كيف يخلو خلق كثير عن عاقل يعلم أن المتخذ من الذهب ل يكون ءالها ل
؟ وهذا أيضا ل ظن ءاذ ل يستحيل أن تنتهي من الناس ءاليه كعبدة الصنام ,وكونه نادرال ل يورث يقينا ل.
وأما ما يتعلق من هذا الجنس بأصول العثائاد المهمة فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع ,كالذيِ ينكر حشر الجساد
وينكر العقوبات الحسية في الخرة بظموم وأوهام واستبعادات من غير براهن قاطع ,فيجب تكفيره قطعيا ل ءاذ ل برهان علي
استحالة رد الرواح ءالي الجساد ,وذكر ذلك عظم الضرر في الدين فيجي تكفير كل من قال منهم ءان ا تعالي ل يعلم ءال نفسه ,
أول يعلم الكلمات ,فأما المور الكزئاية المتعلقة بالشخاص فل يعلمها لن ذلك تكذيب للرسول صلي ا عليه وسلم قطعا ل ,وليس
من قيبل الدرجات التي ذكرناها في التأويل ءاذ أدلة القرأن والجبار علي تفهيم حشر الجساد وتفهيم تعلق علم ا تعالي بتفضيل
كل ما يجريِ علي الشخاص مجاوز حدال ل يقبل التأويل ,وهم معترفون بأن هذا ليس من التأويل ,ولكن قالوا :لما كان صلح
الخلق في أن يعتقدوا حشر الجساد لقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي وكان صلحهم في أن يعتقدوا أن ا تعالي عالم بما
يجريِ عليهم ورقيب عليهم ليورث ذلك رغبة ورهبة في قلوبهم .جاز للرسول أن يفهمهم ذلك وليس بكاذب من أصلح غيره ,
فقال ما فيه صلحة وءان لم يكن كما قاله ,وهذا القول باطل قطعا ا لنه تصريح بالتكذيب ,ثم طلب عذرال في أنه لم يكذب ,ويجب
ءاجلل منصب النبوة عن هذة الرذيلة ففي الصدق وءاصلخ الخلق به مندوحة عن الكذب ,وهذه أول درجات الزندقة ,وهي رتبة
بين العتزال وبين الزندقة المطلقة ,فءان المعتزلة يقرب منهاجهم من الفلسفة ءال في هذا المر الواحد وهو أ ،المعتزلي ل يجوز
الكذب علي الرسول عليه السلم بمثل هذا العذر بل يؤول الظاهر مهما ظهر له بالبرهان خلفه ,والفلسفي ل يقتصر علي
مجاوزته للظاهر علي ما يقبل التأويل علي قرب أو علي بعد.
وأما الزندفة المطلقة ,فهو أن تنكر أصل المعاد عقليا ل وحسيا ل ,وتنكر الصانع للعالم أصلل ورأسا ل .
بداية صفحة 265
وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي اللم واللذات الحسية وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل العلوم فهي زندقة مقيدة بنوع
اعتراف بصدق النبياء وظاهر ظني .والعلم عند ا .أن هؤلء هم المرادون بقوله عليه الصلة والسلم " :ستفترق أمتي بضعا
وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلى الزنادقة وهي فرقة" هذا لفظ الحديث في بعض الروايات وظاهر الحديث يدل على أنه أراد به
الزنادقة من أمته ،إذ قال "ستفترق أمتي" ،ومن لم يعترف بنبوته ليس من أمته والذين ينكرون أصل المعاد وأصل الصانع فليسوا
معترفين بنبوته إذ يزعمون أن الموت عدم محض ،وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع ول يؤمنون بال ول
باليوم الخر .وينسبون النبياء إلى التلبيس فل يمكن نسبتهم إلى المة ،فإذا ل معنى لزندقة هذه المة إل ما ذكرناه.
فصل في بيان الزندقة المطلقة
اعلم أن شرح ما يكفر به وما ل يكفر به يستدعي تفصيل يفتقر إلى ذكر كل المقالت والمذاهب ،وذكر شبهة كل واحد ،ودليله
ووجه بعده عن الظاهر ووجه تأويله ،وذلك ل يحويه مجلدات ول تتسع لشرح ذلك أوقاتي فاقنع الن بوصية وقانون
أما الوصية :فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائالين ل إله إل ا محمد رسول ا غير مناقضين لها .والمناقضة
تجويزهم الكذب على رسول ا صلى ا عليه وسلم بعذر أو غير عذر ،فإن التكفير فيه خطر والسكوت ل خطر فيه
وأما القانون :فهو أن تعلم أن النظريات قسمان :قسم يتعلق بأصول القواعد ،وقسم يتعلق بالفروع ،وأصول اليمان ثلثة :
اليمان بال وبرسوله وباليوم الخر وما عداه فروع .واعلم أنه ل تكفير في الفروع أصل إل في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصل
دينيا علم من الرسول صلى ا عليه وسلم بالتواتر ،لكن في بعضها تخطئاة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق
بالمامة وأحوال الصحابة
واعلم أن الخطأ في أصل المامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها ل يوجب شيء منه تكفيرا .فقد أنكر ابن كيسان أصل وجوب
المامة ول يلزم تكفيره ول يلتفت إلى قوم يعظمون أمر المامة ويجعلون اليمان بالمام مقرونا باليمان بال ورسوله ،ول إلى
خصومهم المكفرين لهم بمجرد مذهبهم في المامة فكل ذلك إسراف إذ ليس في واحد من القولين تكذيب للرسول صلى ا عليه
وسلم أصل ،ومهما وجد التكذيب وجب التكفير وإن كان في الفروع .فلو قال قائال مثل :البيت الذيِ بمكة ليس الكعبة التي أمر ا
تعالى بحجها فهذا كفر ،إذ قد ثبت تواترا عن رسول ا صلى ا عليه وسلم خلفه ،ولو أنكر شهادة الرسول لذلك البيت بأنه
الكعبة لم ينفعه إنكاره
بداية صفحة 266
بل يعلم قطعا أنه معاند في إنكاره إل أن يكون قريب عهد بالسلم ،ولم يتواتر عنده ذلك ،وكذلك من نسب عائاشة رضي ا عنها
إلى الفاحشة ،وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر ،لن هذا وأمثاله ل يمكن إل بتكذيب الرسول أو إنكار التواتر ،والتواتر ينكره
النسان بلسانه ول يمكنه أن يجهله بقلبه .نعم لو أنكر ما ثبت بأخبار الحاد فل يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالجماع ،فهذا فيه
نظر لن معرفة كون الجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم أصول الفقه .وأنكر النظام كون الجماع حجة
أصل فصار كون الجماع حجة مختلف فيه فهذا حكم الفروع
وأما الصول الثلثة :وكل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ،ولم يتصور أن يقوم برهان على خلفه فمخالفته تكذيب
محض .ومثال ما ذكرناه من حشر الجساد والجنة والنار وإحاطة علم ا تعالى بتفاصيل المور وما يتطرق إليه احتمال التأويل
ولو بالمجاز البعيد ،فينظر فيه إلى البرهان فإن كان قاطعا وجب القول به ،ولكن إن كان في إظهاره مع العوام ضرر لقصور
فهمهم فإظهاره بدعة وإن لم يكن البرهان قطعيا لكن يفيد ظنا غالبا ،وكان مع ذلك ل يعلم ضرره في الدين كنفي المعتزلي الرؤية
عن ا تعالى فهذه بدعة وليس بكفر
وأما ما يظهر له ضرر فيقع في محل الجتهاد والنظر فيحتمل أن يكفر ويحتمل أن ل يكفر .ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من
يدعي التصوف أنه قد بلغ حالة بينه وبين ا تعالى أسقطت عنه الصلة وحل له شرب الخمرة والمعاصي وأكل مال السلطان.
فهذا ممن ل شك في وجوب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر ،وقتل مثل هذا أفضل من قتل مائاة كافر إذ ضرره في
الدين أعظم وينفتح به باب من الباحة ل ينسد وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالباحة مطلقا ،فإنه يمنع عن الصغاء إليه
لظهور كفره .وأما هذا فإنه يهدم الشرع من الشرع ،ويزعم أنه لم يرتكب فيه إل تخصيص عموم إذ خصص عموم التكليفات بمن
ليس له مثل درجته في الدين ،وربما يزعم أنه يلبس ويقارف المعاصي بظاهره وهو بباطنه بريِء عنه .ويتداعى هذا إلى أن
يدعى كل فاسق مثل حالة وينحل به عصام الدين .ول ينبغي أن يظن أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام ،بل
التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم بالخلود في النار .فمأخذه كمأخذ سائار الحكام الشرعية ،فتارة
يدرك بيقين وتارة بغالب ظن ،وتارة يتردد فيه ،ومهما حصل تردد فالوقوف فيه عن التكفير أولى ،والمبادرة إلى التكفير إنما
تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ،ول بد من التنبيه على قاعدة أخرى وهو أن المخالف قد يخالف نصا متواترا ويزعم أنه
مؤول ،ولكن ذكر تأويله ل انقداح له أصل في اللسان ل على بعد ول على قرب ،فذلك كفر وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه
مؤول
بداية صفحة 267
مثاله :ما رأيته في كلم بعض الباطنية أن ا تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها .وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره
ويخلقه ،وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ،وإما أن يكون واحدا في نفسه وموجودا وعالما على معنى اتصافه فل .وهذا كفر
صراح لن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ول تحتمله لغة العرب أصل ،ولو كان خالق الوحدة يسمى
واحدا لخلقه الوحدة لسمي ثلثا وأربعا لنه خلق العداد أيضا .فأمثلة هذه المقالت تكذيبات عبر عنها بالتأويلت
فصل النظر في التكفير
قد فهمت من هذه التكفيرات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور :
أحدها :أن النص الشرعي الذيِ عدل به عن ظاهره هل يحتمل التأويل أم ل ؟ فإن احتمل فهل هو قريب أم بعيد ؟ ومعرفة ما يقبل
التأويل ،وما ل يقبل التأويل ليس بالهين بل ل يستقل به إل الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها ،ثم بعادة العرب في
الستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومنهاجها في ضروب المثال
الثاني :في النص المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالجماع المجرد ،فإن ثبت تواترا فهو على شرط التواتر أم ل ؟ إذ ربما
يظن المستفيض تواترا ،وحد التواتر ما ل يمكن الشك فيه كالعلم بوجود النبياء ووجود البلد المشهورة وغيرها ،وأنه متواتر
في العصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوة ،فهل يتصور أن يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من العصار ؟
وشرط التواتر أن ل يحتمل ذلك كما في القرآن ،أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ،ول يستقبل بإدراكه إل الباحثون عن
كتب التواريخ وأحوال القرون الماضية وكتب الحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالت .إذ قد يوجد عدد التواتر في
كل عصر ول يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجميع الكثير رابطة في التوافق ل سيما بعد وقوع التعصب بين أرباب
المذاهب ،ولذلك ترى الروافض يدعون النص على علي بن أبي طالب رضي ا عنه ،في المامة لتواتره عندهم ،وتواتر عند
خصومهم في أشياء كثيرة خلف ما تواتر عندهم لشدة توافق الروافض على إقامة أكاذيبهم واتباعها.
وأما ما يستند إلى الجماع فدرك ذلك من أغمض الشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد ،فيتفقوا على أمر
واحد اتفاقا يلفظ صريح ،ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم ،أو يكاتبهم إمام في أقطار الرض
فيأخذ فتاويهم في زمام واحد بحيث تتفق أقوالهم اتفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلف بعده
بداية صفحة 268
ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر ؟ لنه من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق ول
يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك ،وهذا غامض أيضا
الثالث :النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر ،أو هل بلغه الجماع ؟ إذ كل من يولد ل تكون المور عنده متواترة ،
ول موضع الجماع عنده متميز عن مواضع الخلف ،وإنما يدرك ذلك شيئاا فشيئاا ،وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنفة
في الختلف والجماع للسلف ،ثم ل يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف أو تصنيفين إذ ل يحصل تواتر الجماع به ،وقد
صنف أبو بكر الفارسي رحمه ا كتابا في مسائال الجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض المسائال ،فإذا من خالف
الجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذب فل يمكن تكفيره .والستقلل بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير.
الرابع :النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرائاط البرهان أم ل؟ ومعرفة شرط البرهان ل يمكن شرحها إل
في مجلدات ،وما ذكرنا في كتاب )القسطاس المستقيم( وكتاب )محك النظر( أنموذج منه وتكل قريحة أكثر فقهاء الزمان عن
قص شروط البرهان على الستيفاء ،ول بد من معرفة ذلك فإن البرهان إذا كان قاطعا رخص في التأويل وإن كان بعيدا .فإذا لم
يكن قاطعا لم يرخص إل في تأويل قريب سابق إلى الفهم
الخامس :النظر في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم ل ؟ فإن ما ل يعظم ضرره في الدين فالمر فيه أسهل وإن
كان القول شنيعا وظاهر البطلن كقول المامية المنتظرة أن المام مختف في سرداب فإنه ينتظر خروجه ،فإنه قول كاذب ظاهر
البطلن شنيع جدا ،ولكن ل ضرر فيه على الدين إنما الضرر على الحمق المعتقد لذلك ،إذ يخرج كل يوم من بلده لستقبال
المام حتى يدخل فيرجع إلى بيته خاسئاا ،وهذا مثال .والمقصود أنه ل ينبغي أن يكفر بكل هذيان وإن كان ظاهر البطلن .فإذا
فهمت أن النظر في التكفير موقوف على جميع المقامات التي ل يستقل بآحادها المبرزون علمت أن المبادر إلى تكفير من يخالف
الشعريِ أو غيره جاهل مجازف ،وكيف يستقل الفقيه بمجرد الفقه بهذا الخطب العظيم وفي أيِ ربع من أرباع الفقه يصادف هذه
العلوم ،فإذا رأيت الفقيه الذيِ بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه ول تشغل به قلبك ولسانك ،فإن
التحديِ بالعلوم غريزة في الطبع ل يصبر عنه الجهال ولجله كثر الخلف بين الناس ولو ينكث من اليديِ من ل يدريِ لقل
الخلف بين الخلق
بداية صفحة 269
فصل في حكم عوام المسلمين
من أشد الناس علوا وإسرافا طائافة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من ل يعرف الكلم معرفتنا ولم يعرف العقائاد
الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر ،فهؤلء ضيقوا رحمة ا الواسعة على عباده أول ،وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة
يسيرة من المتكلمين ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيا ،إذا ظهر لهم في عصر رسول ا صلى ا عليه وسلى وعصر الصحابة
رضي ا عنهم حكمهم بإسلم طوائاف من أجلف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل ،ولو اشتغلوا به لم
يفهموه ومن ظن أن مدرك اليمان الكلم والدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقد أبدع حد البداع ،بل اليمان نور يقذفه ا في
قلوب عبيده عطية وهدية من عنده .تارة ببينة من الباطن ل يمكنه التعبير عنها ،وتارة بسبب رؤيا في المنام ،وتارة بمشاهدة حال
رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته ،وتارة بقرينة حال .فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى ا عليه وسلم جاحدا
به منكرا ،فلما وقع بصره على طلعته البهية زادها ا شرفا وكرامة ،فرآها يتلل منها أنوار النبوة ،قال :وا ما هذا بوجه
كذاب .وسأله أن يعرض عليه السلم فأسلم ،وجاء آخر إليه عليه الصلة والسلم وقال :أنشدك ا ،ا بعثك نبيا ؟ فقال عليه
الصلة والسلم " :إيِ وا ،ا بعثني نبيا" .فصدقه بيمينه وأسلم ،وهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشغل واحد منهم بالكلم
وتعليم الدلة ،بل كانوا يبدو نور اليمان بمثل هذه القرائان في قلوبهم لمعة بيضاء ثم ل تزال تزداد إشراقا بمشاهدة تلك الحوال
العظيمة وتلوة القرآن وتصفية القلوب ،فليت شعريِ متى نقل عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أو عن الصحابة رضي ا
عنهم إحضار أعرابي أسلم وقوله له الدليل على أن العالم حادث أنه ل يخلو عن العراض ،وما ل يخلو عن الحوادث حادث ،
وإن ا تعالى عالم بعدد وقادر بقدرة زائادة عن الذات ل هي هوة ول هي غيره ،إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين
ولست أقول لم تجر هذه اللفاظ ،ولم يجر أيضا ما معناه معنى اللفاظ ،بل كان ل تنكشف ملحمة إل عن جماعة من الجلف
يسلمون تحت ظلل السيوف ،وجماعة من السارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب ،وكانوا إذا نطقوا
بكلمة الشهادة علموا الصلة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرها ،نعم ،لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة
المتكلمين أحد أسباب اليمان في حق بعض الناس ،ولكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضا نادر ،بل النفع الكلم الجاريِ في
معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن .فأما الكلم المحرر على رسم المتكلمين فإنه يشعر نفوس المستمعين بأن
ص 270
فيه صنعة جدل ليعجز عنه العامي ل لكونه حقا ل في نفسه .و ربما يكون ذلك سببا ل لرسوخ العناد في قلبه ،و لذلك ل ترى مجلس
مناظرة للمتكلمين و ل للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من العتزال أو بدعة إلى غيره ،و ل عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي
حنيفة و ل على العكس .و تجريِ هذه النتقالت بأسباب اأخر حتى في القتال بالسيف ،و لذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه
المجادلت ،بل شددوا القول على من يخوض في الكلم و يشتغل بالبحث و السؤال ،و إذا تركنا المداهنة و مراقبة الجانب صرحنا
بأن الخوض في الكلم حرام لكثرة الفة فيه إل لحد شخصين:
رجل :وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلم ريب وعظي و ل بخبر نقلي عن رسول ا فيجوز أن يكون القول المرتب
الكلمي رافعا ل شبهته و دوالء له في مرضه ،فيستعمل معه ذلك و يحرس عنه سمع الصحيح الذيِ ليس به ذلك المرض فإنه يوشك
أن يحرك في نفسه إشكالل و يثير له شبهة تمرضه و تستنزل عن اعتقاده المجزوم الصحيح.
الثاني :شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ثابت اليمان بأنوار اليقين ،يريد أن يحصل هذه الصنعة ليداويِ بها مريضا ل إذا
وقعت له شبهة ،و ليفحم بها مبتدعا ل إذا نبغ و ليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع إغواءه ،فتعلم ذلك بهذا العزم كان من فروض
الكفايات ،و تعلم قدر ما يزيل به الشك و يدرأ الشبهة في حق المشكل فرض عين ،إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر
سواه .و الحق الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلة و السلم و اشتمل عليه القرآن اعتقادال جزما ل فهو مؤمن و
إن لم يعرف أدلته ،بل اليمان المستفاد من الدليل الكلمي ضعيف جدال مشرف على التزاول بكل شبهة بل اليمان الراسخ إيمان
العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع أو الحاصل بعد البلوغ بقرائان أحوال ل يمكن التعبير عنها و تمام تأكده بلزومه
العبادة و الذكر ،فإن من تمادت به العبادة غلى حقيقة التقوى و تطهير الباطن عن كدورات الدنيا و ملزمة ذكر ا تعالى دائاما ل
تجلت له أنوار المعرفة و صارت المور التي كان قد أخذها كان قد أخذها تقليدال عنده كالمعاينة و المشاهدة ،و ذلك حقيقة المعرفة
للسلهم دفاهدو دعدلى انوءر رَمنصلددرها له ه
اا د التي ل تحصل إل بعد انحلل عقدة العتقادات و انشراح الصدر بنور ا تعالى )أددفدمن دشدردح ا
اررَبهه (]الزمر .[22 :كما سئال رسول ا صلى ا عليه و سلم عن نعنى شرح الصدر فقال ”:نور يقذف في قلب المؤمن" ،فقيل و
ما علمته؟ قال “ :التجافي عن دار الغرور و النابة إلى دار الخلود" .فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا المتهالك عليها غير
مدرك حقيقة المعرفة و لو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعا ل.
ص 271
لعلك تقول أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية .و الشارع صلوات ا عليه هو الذيِ ضيق الرحمة على الخلق دون
المتكلم ،إذ قال عليه السلم “ :يقول ا تعالى لدم عليه السلم يوم القيامة :يا آدم ابعث ذريتك بعث النار .فيقول :يا رب من كم؟
فيقول :من كل ألف تسعمائاة و تسعة و تسعين" .و قال عليه الصلة و السلم “ :ستفترق أمتي على نيف و سبعين فرقة ،الناجية
منها واحدة".
الجواب :أن الحديث الول صحيح ،و لكن ليس المعنى به أنهم كفار مخلدون بل إنهم يدخلون النار و يعرضون عليها و يتركون
فيها بقدر معاصيهم ،و المعصوم من المعاصي ل يكون في اللف إل واحدلا ،و كذلك قال تعالى) :دوهإن رَمناكلم إهلا دواهراددها( ]مريم:
،[71ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه و يجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة كما وردت به الخبار ،و
تشهد له الخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة ا تعالى ،و هي أكثر من أن تحصى.
فمنها ما رويِ عن عائاشة رضي ا عنها ،أنها قالت :فقدت النبي صلى ا عليه و سلم ذات ليلة فابتغيته فإذا هو في مشربه
يصلي ،فرأيت أنوارال ثلثا ل فلما قضي صلته ،قال“ :مهيم من هذه؟" قلت :أنا عائاشة يا رسول ا ،قال ”:أرأيت النوار الثلثة؟"
قلت :نعم يا رسول ا ،قال ":إن آت أتاني من ربي فبشرني أن ا تعالى يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا ل بغير حساب و ل عذاب،
ثم أتاني في النور الثاني آت من ربي فبشرني أن ا تعالى ايدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا ل سبعين ألفا ل بغير
حساب و ل عذاب ،ثم أتاني في النور الثالث آت من ربي فبشرني أن ا تعالى يدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين
ألفا ل المضاعفة سبعين ألفا ل بغير حساب و ل عذاب" فقلت :يا رسول ا ل تبلغ أمتك هذا قال”:يكملون لكم من العراب ممن ل
يصوم و ل يصلي" ،فهذا و أمثاله من الخبار الدايلة على سعة الرحمة ا تعالى كثير ،فهذا في أمة محمد صلى ا عليه و سلم
خاصة ،و أنا أقول :إن الرحمة تشتمل كثيرال من المم السالفة و إن كان أكثرهم يعرضون على النار ،بل أقول :إن أكث نصارى
الروم و الترك في هذا الزمان تشتملهم الرحمة إن شاء ا تعالى .أعني الذين هم في أقاصي الروم و الترك و لم تبلغهم الدعوة،
فإنهم ثلثة أصناف :صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى ا عليه و سلم أصلل فهم معذورون ،و صنف بلغهم اسمه و نعته وما ظهر
عليه من المعجزات و هم المجاورون لبلد السلم و المخالطون لهم و هم الكفار الملحدون .و صنف
ص 272
ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى ا عليه و سلم و لم يبلغهم نعته وصفته ،بل سمعوا أيضا ل منذ الصبا أن كذابا ل ملبسا ل اسمه
محمد ادعى النبوة ،كما سمع صبياننا أن كذابا ل يقال له المقفع بعثه ا تحدث بالنبوة كاذبلا ،فهؤلء عنديِ في أوصافه في معنى
الصنف الول فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه ،و هذا ل يحرك داعية النظر في الطلب.
و أما الحديث الخر ،و هو قوله :الناجية منها واحدة .فالراوية مختلفة فيه .فقد رويِ الهالكة منها واحدة و لكن الشهر تلك
الرواية ،و معنى ناجية هي التي ل تعرض على النار ،و ل تحتاج إل الشفاعة بل الذيِ تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار فليس بناج
على الطلق و إن انتزع بالشفاعة من مخاليبهم .و في رواية :كلها في الجنة إل الزنادقة و هي فرقة .و يكون الهالك عبارة عمن
وقع اليأس من صلحه لن الهالك ل يرجى له بعد الهلك خير و تكون الناجية واحدة و هي التي تدخل الجنة بغير حساب و ل
شفاعة لن من نوقش الحساب فقد عذب فليس بناج إذلا ،و من عرض للشفاعة فقد عرض للمذلة فليس بناج أيضا ل على الطلق ،و
هذان الطريقان و هما عبارتان عن شر الخلق و خيره .و باقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين :فمنهم من يدخل النار ثم يخرج
على قدر خطاياهم في عقائادهم و بدعتهم و على كثرة معاصيهم و قلتها .فأما الهالكة المخلدة في النار مع هذه المة في فرقة واحدة
و هي التي كذبت و جوزت الكذب على رسول ا صلى ا عليه و سلم بالمصلحة.
و أما سائار المم ،فمن كذبه بعد ما قرع سمعه التواتر عن خروجه و صفته و معجزته الخارقة للعادة كشق القمر و تسبيح الحصى
و نبع الماء بين أصابعه و القرآن المعجز الذيِ تحدى به أهل الفصاحة و عجزوا عنه ،فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه و تولى و
لم ينظر فيه و لم يتأمل و لم يبادر إلى التصديق ،فهذا الجاحد الكاذب و هو الكافر ،و ل يدخل في هذا أكثر الروم و الترك الذين
بعدت بلدهم عن بلد المسلمين ،بل أقول من قرع سمعه هذا فلبد أن تنبعث به داعية الطلب ليستبين حقيقة المر إن كان من أهل
الدين و لم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الخرة ،فإن لم تنبعث هذه الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا و خلوه عن الخوف و
خطر أمر الدين و ذلك كفر ،و إن انبعثت الداعية فقصر في الطلب فهو أيضا ل كفر بل ذو اليمان بال و اليوم الخر من أهل كل ملة
و ل يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالسباب الخارقة للعادة ،فإن اشتغل بالنظر و الطلب و لم يقصر فأدركه الموت
قبل تمام التحقيق فهو أيضا ل مغفور له الرحمة الواسعة ،فاستوسع رحمة ا تعالى و ل تزن المور اللهية بالموازين المختصرة
الرسمية.
ص 273
و اعلم أن الخرة قريب من الدنيا فما خلقكم و ل بعثكم إل كنفس واحدة فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة و سلمة أو في حالة
يغبطها إذ لو خير بينها و بين الماتة و العدام مثلل لختارها ،و إنما المعذب الذيِ يتمنى الموت نادر ،فكذلك المخلدون في النار
بالضافة إلى الناجين و المخرجين منها في الخرة نادر ،فإن صفة الرحمة ل تتغير باختلف أحوالها ،و إنما الدنيا و الخرة
عبارتان عن اختلف أحوالك و لول هذا لما كان لقوله عليه الصلة و السلم معنى ،حيث قال " أول ما خط في الكتاب الول أنا
ا ل إله إل أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن ل إله إل ا و أن محمد عبده و رسوله ،فله الجنة".
و اعلم أن أهل البصائار قد انكشف لهم سبق الرحمة و شمولها بأسباب و مكاشفات سوى ما عندهم من الخبار و الثار ،و لكن
ذكر ذلك يطول .،فأبشر برحمة ا و بالنجاة المطلقة إن جمعت بين اليمان و العمل الصالح ،و بالهلك المطلق إن خلوت عنهما
جميعلا ،و إن كنت صاحب يقين في أصل التصديق و صاحب خطأ في بعض التأويل ،أو صاحب شك فيهما ،أو صاحب خلط في
العمال ،فل تطمع في النجاة المطلقة.
و اعلم ،أنك تعذب مدة ثم تخلي ،و بين أن يشفع فيك من تيقنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره ،فاتهد أن يغنيك ا بفضله عن
شفاعة الشفعاء فإن المر في ذلك مخطر.
فصل
قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل ل من الشرع ،و أن الجاهل بال كافر و العارف به مؤمن ،فيقال له :الحكم بإباحة
الدم و الخلود في النار حكم شرعي ل معنى له قبل ورود الشرع ،و إن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بال هو الكافر،
فهذا ل يمكن حصره فيه لن الجاهل بالرسول و بالخرة أيضا ل كافر ،ثم إن خصص ذلك بالجهل بذات ا تعالى بجحد وجوده أو
وحدانيته و لم يطرد في الصفات فربما سوعد عليه ،و إن جعل المخطئ في الصفات أيضا ل جاهلل أو كافرال لزمه تكفير من نفي
صفه البقاء وصفة القدم ،و من نفي الكلم وصفا ل زائادال على العلم ،و من نفي السمع و البصر زائادال على العلم ،و من نفي جواز
الرؤية ،و من أثبت الجهة و أثبت إرادة حادثة ل في ذاته و ل في محل و تكفير المخالفين فيه ،و بالجملة يلزمه التكفير في كل
مسألة تتعلق بصفات ا تعالى و ذلك حكم ل مستند له ،و إن خصص ببعض الصفات دون بعض لم يجد لذلك فصلل و مردلا ،و ل
وجه له إل الضبط بالتكذيب ليعم المكذب بالرسول و بالمعاد ،و يخرج منه المؤول ،ثم ل يبعد أن يقع الشك و النظر في بعض
المسائال من جملة التأويل بعيدال و يقضي فيه بالظن و موجب الجتهاد ،فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية.
ص 274
فصل
من الناس من قال إنما أكفر من يكفرني من الفرق ،و من ل يكفرني فل .و هذا ل مأخذ له ،فإن قال قائال علي رضي ا عنه أولى
بالمامة إذ لم يكن كفرال فبأن يخطئ صاحبه ،و يظن أن المخالف فيه كافر ل يصير كافرلا ،و إنما هو خطأ في مسألة شرعية .و
كذلك الحنبلي إذ لم يكفر بإثبات الجهة فلم يكفر أن يغلط أو يظن أن نافي الجهة مكذب و ليس بمتأول .و أما قول رسول ا صلى
ا عليه و سلم ":إذا قذف أحد المسلمين صاحبه بالكفر فقد باء به أحدهما" .معناه أن يكفره بمعرفته بحاله فمن عرف من غيره أنه
مصدق لرسول ا صلى ا عليه و سلم ثم يكفره فيكون الكفر كافرال .فأما إن كفره لظنه أنه كذب الرسول فهذا غلط منه في حال
شخص واحد ،إذ قد يظن به أنه كافر مكذب و ليس كذلك و هذا ل يكون كفرال .فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيه على أعظم الغور
في هذه القاعدة و على القانون الذيِ ينبغي أن يتبع فيه ،فاقنع به و السلم.
أيها الولد
بسم ا الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
الحمد ل رب العالمين ،و العاقبة للمتقين ،و الصلة و السلم على نبيه محمد و آله أجمعين.
أعلم ،أن واحدال من الطلبة المتقدمين لزم خدمة الشيخ المام زين الدين حيجة السلم أبي حامد بن محمد الغزالي قدس ا روحه و
اشتغل بالتحصيل و قراءة العلم عليه حتى جمع من دقائاق العلوم ،و استكمل من فضائال النفس ،ثم إنه فكر يوما ل حال نفسه و خطر
على باله ،فقال :إني قرأت أنواعا ل من العلوم ،و صرفت ريعان عمريِ على تعلمها و جمعها .فالن ينبغي أن أعلم أيِ نوعها
ينفعني غدال و يؤنسني في قبريِ و أيها ل ينفعني حتى أتركه ،فقد قال رسول ا صلى ا عليه و سلم " :اللهم إن أعوذ بك من علم
ل ينفع" ،فاستمرت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجة السلم محمد الغزالي رحمة ا تعالى عليه استفتالء ،و سأل
عنه مسائال و التمس منه نصيحة و دعاء ،و قال :و إن كان مصنفات الشيخ كالحياء و غيره يشتمل على جواب مسائالي لكن
مقصوديِ أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي و أعمل بما فيها مدى عمريِ إن شاء ا تعالى ،فكتب الشيخ
هذه الرسالة إليه في جوابه ،و ا أعلم.
ص 275
اعلم أيها الولد المحب أطال ا بقاءك بطاعته ،و سلك بك سبيل أحبائاه أن منشور النصيحة يكتب من معادن الرسالة عليه السلم
إن كان قد بلغك منه نصيحة فأيِ حاجة لك في نصيحتي ،و إن لم يبلغك منه فقل لي ماذا حصلت في هذه السنين الماضية.
أيها الولد :من جملة .ما نصح به رسول ا صلى ا عليه و سلم أمته قوله ":علمة إعراض ا عن العبد اشتغاله بما ل يعنيه و
إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته و من جاوز الربعين و لم يغلب خيره شره
فليتجهز إلى نار" ،و في هذه النصيحة كفاية لهل العلم.
أيها الولد :النصيحة سهلة و المشكل قبولها لنها في مذاق متبعي الهوى مرة إذ المناهي محبوبة في قلوبهم و على الخصوص لمن
كان طالب العلم الرسمي مشتغل في فصل النفس و مناقب الدنيا ،فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته و خلصه فيه ،و إنه
مستغن عن العمل .و هذا اعتقاد الفلسفة .سبحان ا العظيم ل يعلم هذا القدر أنه حين حصل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة
عليه آكد ،كما قال رسول ا صلى ا عليه و سلم ":أشد الناس عذابا ل يوم القيامة عالم ل ينفعه ا بعلمه".
و رويِ أن الجنيد قدس ا سره رأى في المنام موته ،فقيل له :ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال :طاحت تلك العبارات ،و فنيت تلك
الشارات و ما نفعنا إل ركيعات ركعناها في جوف الليل.
أيها الولد :ل تكن من العمال مفلسلا ،و ل من الحوال خاليا ل و تيقن أن العلم المجرد ل يأخذ اليد ،مثاله :لو كان على رجل في برية
عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى ،و كان الرجل شجاعا ل و أهل حرب فحمل عليه أسد عظيم مهيب فما ظنك هل تدفع السلحة
شره عنه بل استعمالها و ضربها؟ فمن المعلوم أنها ل تدفع إل بالتحريك و الضرب ،فكذا لو قرأ رجل مائاة ألف مسألة علمية و
تعلمها و لم يعمل بها ل تفيده إل بالعمل ،و مثله أيضا ل لو كان لرجل حرارة و مرض صفراويِ يكون علجه بالسكنجبين و
الكشكاب فل يحصل البرء إل باستعمالها )شعر(:
كرمي دواهزار رطل همي بيمائاي
تامي نخوريِ نباشدت شيبدائاي
لندساهن إهلا دما دسدعى " ) ه ل س
د يل ا ل أنو لو قرأت العلم مائاة سنة و جمعت ألف كتاب ،ل تكون مستعدال لرحمة ا تعالى إل بالعمل " :دو د
ه
صالهلحا " ]الكهف " ،[110 :دجدزاء هبدما دكاانولا ديلكهسابودن " ]التوبة " .[82 :إهان النجم " ،(39 :دفدمن دكادن ديلراجو لهدقاء دررَبهه دفللديلعدملل دعدمل د
حدول " س انازل) (107دخالههديدن هفيدها ل ديلباغودن دعلندها ه ت اللهفلرددلو ه
ت دلاهلم دجانا ا ت دكادن ل الاهذيدن آدمانوا دودعهمالوا ال ا
صالهدحا ه
ص 276
صالهلحا " ]الفرقان .[70 :و ما تقول في هذا الحديث" :بني السلم على ب دوآدمدن دودعهمدل دعدمل د د ا
]الكهف" ،[108 ،107 :إهل دمن تا د
خمس :شهادة أن ل إله إل ا و أن محمد رسول ا ،و إقام الصلة ،و إيتاء الزكاة ،و صوم رمضان ،و حج البيت من استطاع
إليه سبيلل" .و اليمان قول باللسان و تصديق بالجنان و عمل بالركان ،و دليل العمال أكثر من أن يحصى إن كان العبد يبلغ
الجنة بفضل ا تعالى و كرمه ،لكن بعد أن يستعد بطاعته و عبادته لن رحمة ا قريب من المحسنين ،و لو قيل أيضا ل يبلغ بمجرد
اليمان ،قلنا :نعم ،لكن متى يبلغ؟ و كم من عقبة كؤود يقطعها إلى أن يصل؟ فأول تلك العقبات عقبة اليمان ،و انه هل يسلم من
سلب اليمان أم ل؟ و إذا وصل ،هل يكون خائانا ل مفلسلا؟ و قال الحسن البصريِ :يقول ا تعالى لعبادة يوم القيامة :ادخلوا يا عباديِ
الجنة برحمتي و اقتسموها بأعمالكم.
أيها الولد :ما لم تعمل لم تجد الجر.
حكي أن رجلل من بني إسرائايل عبد ا تعالى سبعين سنة فأراد ا تعالى أن يجلوه على الملئاكة فأرسل ا إليه ملكا ل يخبره أنه مع
تلك العبادة ل يليق به دخول الجنة ،فلما بلغه قال العابد :نحن خلقنا للعبادة فينبغي لنا أن نعبده ،فلما رجع الملك قال :إلهي أنت أعلم
بما قال ،فقال ا تعالى " :إذا هو لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع الكرم ل نعرض عنه ،اشهدوا يا ملئاكي أني قد غفرت له" ،قال
رسول ا صلى ا عليه و سلم " :حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا" .و قال على رضي ا عنه" :
من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمن ،و من ظن أنه يبذل الجهد يصل فهو مستغن" .و قال الحسن رحمة ا تعالى) :طلب
الجنة بل عمل ذنب من الذنوب( .و قال :علمة الحقيقة ترك ملحظة العمل ل ترك العمل .و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم:
" الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الحمق من اتبع هواه و تمنى على ا الماني".
أيها الولد :كم من ليال أحييتها بتكرار العلم و مطالعة الكتب و حرمت على نفسك النوم ،ل أعلم ما كان الباعث فيه إن كان نيل
عرض الدنيا و جذب حطامها و تحصيل مناصبها و المباهاة على القران و المثال فويل لك ثم ويل لك .و إن كان قصدك فيه
إحياء شريعة النبي صلى ا عليه و سلم و تهذيب أخلقك و كسر النفس اليمارة بالسوء ،فطوبي لك ثم طوبي لك .و لقد صدق من
قال شعرال:
سهر العيون لغير وجهك ضائاع
و بكاؤهن لغير فقدك باطل
أيها الولد :عش ما شئات فإنك ميت ،و أحبب من شئات فأنك مفارقه ،و اعمل ما شئات فإنك مجزيِ به.
ص 277
أيها الولد :أيِ شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلم ،و الخلف و الطب و الدواوين و الشعار و النجوم و العروض و النحو و
التصريف غير تضييع العمر بخلف ذيِ الجلل ،إني رأيت في إنجيل عيسى الصلة و السلم ،قال :من ساعة أن يوضع الميت
ل ،ل أوله يقول عبديِ طهرت منظر الخلق سنين و على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل ا بعظمته منه أربعين سؤا ل
ما طهرت منظريِ ساعة و كل يوم ينظر في قلبك يقول :ما تصنع لغيريِ و أنت محفوف بخيريِ ،أما أنت أصم ل تسمع.
أيها الولد :العلم بل عمل جنون ،و العمل بغير علم ل يكون.
و أعلم أن العلم ل يبعدك اليوم عن المعاصي ،و ل يحملك على الطاعة ،و لن يبعدك غدال عن نار جهنم ،و إذا لم تفعل اليوم و لم
تدرك اليام الماضية تقول غدال يوم القيامة ،فارجعنا نعمل صالحلا ،فيقال :يا أحمق أنت من هناك تجيء.
أيها الولد :أجعل الهمة في الروح ،و الهزيمة في النفس ،و الموت في البدن لن منزلك القبر ،و أهل المقابر ينتظرونك في كل
لحظة متى تصل إليهم ،إياك إياك أن تصل إليهم بل زاد ،و قال أبو بكر الصديق رضي ا عنه :هذه الجساد قفص الطيور ،و
اصطبل الدواب ،فتفكر في نفسك من أيهما أنت ،إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل ارجعي إلى ربك تطير صاعدال
إلى أن تقعد في أعالي بروج الجنان ،كما قال رسول ا صلى ا عليه و سلم ":اهتز عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ" .و
ضمل " ]العراف .[179 :فل تأمن انتقالك من زاوية ك دكالدلندعاهم دبلل اهلم أد دالعياذ بال إن كنت من الدواب ،كما قال ا تعالى " :أ الودلهئا د
الدار إلى هاوية النار ،و رويِ أن الحسن البصريِ رحمة ا تعالى أعطى شربة ماء بارد فأخذ القدح و غشي عليه و سقط من يده،
فلما أفاق قيل له :مالك يا أبا سعيد؟ قال :ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لهل الجنة أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم ا.
أيها الولد :لو كان العلم المجرد كافيا ل لك و ل تحتاج إلى عمل سواه ،لكان نداء :هل من سائال ،هل من مستغفر ،هل من تائاب
ضائاعلا ،بل فائادة .و رويِ أن جماعة من الصحابة رضي ا عنهم أجمعين ذكروا عبد ا بن عمر عند رسول ا صلى ا عليه و
سلم فقال " :نعم الرجل هو ،لو كان يصلي بالليل" و قال عليه السلم لرجل من أصحابه " :يا فلن ل تكثر النوم بالليل ،فإن كثرة
النوم بالليل يدع صاحبه فقيرال يوم القيامة".
أيها الولد :و من الليل فتهجد به :أمر ،و بالسحار هم يستغفرون شكر ،و المستغفرون بالسحار ذكر ،قال عليه السلم " :ثلثة
أصوات الذيِ يقرأ القرآن ،و صوت المستغفرين بالسحار" .قال سفيان الثوريِ ،رحمة ا تعالى عليه :إن ا تبارك و تعالى خلق
ريحا ل بالسحار تحمل الذكار و الستغفار إلى الملك الجبار،
ص 278
و قال أيضا ل :إذا كان أويل الليل يناديِ مناد من تحت العرش :أل ليقيم العابدون فيقومون و يصلون ما شاء ا ،ثم يناديِ مناد في
شطر الليل :أل ليقيم القانتون ،فيقومون و يصلون إلى السحر ،فإذا كان السحر ناديِ مناد :أل يقيم المستغفرون ،فيقومون و
يستغفرون ،فإذا طلع الفجر ناديِ مناد :أل ليقيم الغافلون ،فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم.
أيها الولد :رويِ في وصايا لقمان الحكيم لبنه أنه قال :يا بني ل يكونن الديك أكيس منك يناديِ بالسحار و أنت نائام ،و لقد أحسن
من قال شعرال:
لقد هتفت في جنح ليل حمامة ...على فنن و هنا و إني لنائام
كذبت و بيت ا لو كنت عاشقا ل ...لنا سبقتني بالبكاء الحمائام
و أزعم أني هائام ذو صبابة ...لربي فل أبكي ،و تبكي البهائام
أيها الولد :خلصة العلم أن تعلم أن الطاعة و العبادة ما هي.
اعلم :أنا الطاعة و العبادة متابعة الشارع في الوامر و النواهي ،بالقول و الفعل .يعني كل ما تقول و تفعل و تترك و يكون باقتداء
الشرع ،كما لو صمت يوم العيد و أيام التشريق تكن عاصيلا ،أو صليت في ثوب مغصوب و إن كانت صورة عبادة تأثم.
أيها الولد :ينبغي لك أن يكون قولك و فعلك موافقا ل للشرع إذ العلم و العمل بل اقتداء الشرع ضللة ،و ينبغي لك أن ل تغتر
بالشطح و طامات الصوفية لن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة و قطع شهوة النفس و قتل هواها بسيف الرياضة ل بالطامات
و التراهات.
و اعلم ،أن اللسان المطلق و القلب المطبق المملوء بالغفلة و الشهوة علمة الشقاوة ،حتى ل تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيي
قلبك بأنوار المعرفة.
و اعلم أن بعض مسائالك التي سألتني عنها ل يستقيم جوابها بالكتابة و القول إن لم تبلغ تلك الحالة تعرف ماهي ،و إل فعلمها من
المستحيلت لنها ذوقية ،و كل ما يكون ذوقيا ل ل يستقيم وصفه بالقول كحلوة الحلو و مرارة المر ل يعرف إل بالذوق .كما حكي
أن عنينا كتب إل صاحب له أن عرفني لذة المجامعة كيف تكون ،فكتب له في جوابه :يا فلن إني كنت حسبتك عنينا ل فقط .الن
عرفت أنك عنين أحمق .لن هذه اللذة ذوقية إن تصل إليها تعرف ،و إل ل يستقيم وصفها بالقول و الكتابة.
ص 279
أيها الولد :بعض مسائالك من هذا القبيل ،و أما البعض الذيِ يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في إحياء العلوم و غيره .و تذكر ههنا
نبدأ منه و نشير إليه فنقول :قد وجب على السالك أربعة أمور:
المر الول :اعتقاد صحيح ل يكون فيه بدعة.
و الثاني :توبة نصوح ل يرجع بعدها إلى الزلة.
و الثالث :استرضاه الخصوم حتى ل يبقى لحد عليك حيق.
الرابع :تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤديِ به أوامر ا تعالى .ثم من العلوم الخرة ما يكون به النجاة.
حكي أن الشبلي رحمة ا خدم أربعمائاة أستاذ ،و قال :قرأت أربعة آلف حديث ،ثم اخترت منها حديثا ل واحدال و عملت به و خليت
ما سواه لني تأملته فوجدت خلصي و نجاتي فيه .و كأن علم الولين و الخرين كله مندرجا ل فيه فاكتفيت به ،و ذلك أن رسول ا
صلى ا عليه و سلم قال لبعض أصحابه " :أعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ،و اعمل لخرتك بقدر بقائاك فيها ،و اعمل ل بقدر
حاجتك إليه ،و اعمل للنار بقدر صبرك عليها".
أيها الولد :إذا علمت هذا الحديث ل حاجة إلى العلم الكثير ،و تأمل في حكاية أخرى :و ذلك أن حاتما ل الصم كان من أصحاب
الشقيق البلخي رحمة ا تعالى عليهما ،فسأله يوما ل قال :صاحبتني منذ ثلثين سنة ما حصلت فيها؟ قال :حصلت ثماني فوائاد من
العلم و هي تكفيني منه لني أرجو خلصي و نجاتي فيها ،فقال شقيق :ماهي! قال حاتم الصم:
الفائادة الولى :إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ل و معشوقا ل يحبه و يعشقه و بعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض
الموت و بعضه إلى شفير القبر ،ثم يرجع كله و يتركه فريدال وحيدال و ل يدخل معه في قبره منهم أحد ،فتفكرت و قلت :أفضل
محبوب المرء ما يدخل معه في قبره و يؤانسه فيه فما وجدت غير العمال الصالحة فأخذتها محبوبا ل لي لتكون سراجا ل لي في
قبريِ ،و تؤانسني فيه و ل تتركني فريدال.
ف دمدقادم دررَبهه دودندهى د
الفائادة الثانية :إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائاهم و يبادرون إلى مرادات أنفسهم فتأملت قوله تعالى :دوأاما دملن دخا د
س دعهن اللدهدوى ) (40دفإهان اللدجاندة ههدي اللدمألدوى( ]النازعات [40،41 :و تيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلف نفسي و الانلف د
تشمرت بمجاهدتها و ما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة ا سبحانه و تعالى و انقادت.
الفائادة الثالثة :إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكها قابضا ل يده عليه ،فتأملت في قوله تعالى) :دما
هعندداكلم ديندفاد دودما هعندد ا
اه دباءق( ]النحل.[96 :
ص 280
فبذلت محصولي من الدنيا لوجه ا تعالى ,ففرقته بين المساكين ليكون ذخرال لي عند ا تعالى .
الفائادة الرابعة :إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة القوام والعشائار فاغتر بهم ,وزعم آخر أنه في ثروة الموال
وكثرة الولد فافتخروا بها ,وحسب بعضهم الشرف والعز في غصب الموال الناس وظلمهم وسفك دمائاهم ,واعتقدت طائافة
أنه في إتلف المال وإسرافه وتبذيره ,وتأملت في قوله تعالى )) :إن أكرمكم عند ا أتقاكم (( الحجرات . 13 :فاخترت التقوى
واعتقدت أن القرآن حق صادق وظنهم وحسابهم كلها باطل زائال.
الفائادة الخامسة :إني رأيت الناس يذم بعضهم بعضا ل ويغتاب بعضهم بعضا ل ,فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم ,
فتأملت في قوله تعالى )) :نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا (( الزخرف . 32 :فعلمت أن القسمة كانت من ا تعالى
في الزل فما حسدت أحدال ورضيت بقسمة ا تعالى .
الفائادة السادسة :إني رأيت النايِ يعاديِ بعضهم بعضا ل لغرض وسبب فتأملت قوله تعالى )) :إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوال
(( فاطر . 6 :فعلمت أنه ل يجوز عداوة آخر غير الشيطان .
والفائادة السابعة :إني رأيت كل أحد يسعى بجد ويجتهد بمبالغة لطب لطلب القوت والمعاش بحيث يقع به في شبهة وحرام ,ويذل
نفسه ,وينقص قدره ,فتأملت في قوله تعالى )) :وما من دابة في الرض إل على ا رزقها (( هود . 6 :فعلمت أن رزقي على
ا تعالى ,وقد ضمنه فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه .
الفائادة الثامنة :إني رأيت كل واحدا معتمدال على شيء مخلوق بعضهم إلى الدينار مثله ,فتأملت قوله تعالى )) :ومن يتوكل على
ا فهو حسبه إن ا بالغ أمره قد جعل ا لكل شيء قدرا (( الطلق . 3:فتوكلت على ا تعالى فهو حسبي ونعم الوكيل ,فقال
شقيق :وفقك ا تعالى إني قد نظرت التوراة والنجيل والزبور والفرقان ,فوجدت الكتب الربعة تدور على هذه الفوائاد الثمانية
,فمن عمل بها كان عاملل بهذه الكتب الربعة .
أيها الولد :قد علمت من هاتين الحكايتين أنك ل تحتاج إلى تكثير العلم ,والن أبين ما يجب على سالك سبيل الحق .
فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مربى ليخرج الخلق السيئاة منه بتربيته ويجعل مكانها خلقا ل حسنا ل .ومعنى التربية يشبه فعل
الفلح الذيِ يقلع الشوك ويخرج النباتات
ص 281
الجنبية من بين الزرع ليحسن بناته ويكمل ريعه ,ول بد للسالك من شيخ يؤديه ويرشده إلى سبيل ا تعالى ,لنه ا أرسل للعباد
رسولل للرشاد إلى سبيله ,فإذا ارتحل صلى ا عليه وسلم فقد خلف الخلفاء في مكانه حتى يرشدوا إلى ا تعالى ,وشرط الشيخ
الذيِ يصلح أن يكون نائابا ل لرسول ا صلوات ا وسلمه عليه أن يكون عالما ل ,ولكن ل كل عالم يصلح للخلفة ,وإني أبين لك
بعض علمته على سبيل الجمال حتى ل يدعى كل أحد أنه مرشد .
فنقول :من يعرض عن حب الدنيا وحب الجاه ,وكان قد تابع لشخص بصير يتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى ا عليه
وسلم وكان محسنا ل رياضة نفسه من قلة الكل والقول والنوم ,وكثرة الصلوات والصدقة والصوم ,وكان بمتابعته الشيخ البصير
جاعلل محاسن الخلق له سيرة كالصبر والصلة والشكر والتوكل واليقين والقناعة وطمأنينة النفس والحلم والتواضع العلم
والصدق والحياء والوفاء والوقار ولسكون والتأني وأمثالها ,فهو إذال نور من أنوار النبي صلى ا عليه وسلم يصلح القتداء به ,
ولكن وجود مثله نادر أعز من الكبريت الحمر ,ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا ل كما ذكرنا وقبله الشيخ ينبغي أن يحترمه
ظاهرال وباطنا ل .أما احترام الظاهر فهو أن ل يجادله ول يشتغل بالحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه ,ول يلقى بين يديه
سجادته إل وقت أداء الصلة فإذا فرغ يرفعها ,ول يكثر نوافل الصلة بحضرته ,ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه
وطاقته .وأما احترام الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر ل ينكره في الباطن ل فعلل ول قولل لئال يتسم بالنفاق ,
وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق باطنه وظاهره ,ويحترز عن مجالسة صاحب السوء ليقصر ول ية شياطين الجن
والنس من صحن قلبه فيصفى عن لوث الشيطنة ,وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى .ثم اعلم ,أن التصوف له خصلتان :
الستقامة والسكون عن الخلق ,فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو صوفي .والستقامة أن يفديِ حظ نفسه لنقسه
,وحسن الخلق مع الناس أن ل تحمل الناس على مراد نفسك بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع ,ثم إنك سألتني
عن العبودية ,وهي ثلثة أشياء أحدها :محافظة أمر الشرع ,وثانيها :الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة ا تعالى ,وثالثها :ترك
رضاء نفسك في طلب رضاء ا تعالى ,وسألتني عن التوكل هو أن تستحكم اعتقادك بال تعالى فيما وعد يعني تعتقد أن ما قدر
لك سيصل إليك ل محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه عنك ,وما لم يكتب لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم .
وسألتني عن الخلص ,وهو أن تكون أعمالك كلها ل تعالى ول يرتاح قلبك بمحامد الناس ول تبالي بمذمتهم .واعلم ,أن الرياء
من تعظيم
ص 282
الخلق ,وعلجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة لتخلص من مراءاتهم
,ومتى تحسبهم ذويِ قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء .
أيها الولد :والباقي من مسائالك بعضها مسطور في مصنفاتي فاطلبه منه وكتابة بعضها حرام ,اعمل أنت بما تعمل ليكشف لك
مالك تعلم .
أيها الولد :بعد اليوم ل تسألني ما أشكل عليك إل بلسان الجنان قوله تعالى )) :ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرال لهم
(( الحجرات . 5 :واقبل نصيحة الخضر عليه السلم حين قال )) :فل تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا (( الكهف. 7:
ول تستعجل حتى تبلغ أو انه يكشف لك وتراه )) :سأريكم آياتي فل تستعجلون (( النبياء . 37 :فل تسألني قبل الوقت :وتيقن
أنك ل تصل إل بالسير لقوله تعالى )) :أو لم يسيروا في الرض فينظروا (( الروم , 9 :غافر. 21 :
أيها الولد :بال إن تسر تر العجائاب في كل منزل ,وابذل روحك فإن رأس هذا المر بذل الروح كما قال ذو النون المصريِ
رحمه ا تعالى لحد من تلمذته :عن قدرت على بذل الروح فتعال وإل فل تشتغل بترهات الصوفية .
أيها الولد :إني أنصحك بثمانية أشياء اقبلها مني لئال يكون علمك خصما ل عليك يوم القيامة ,تعمل منها أربعة ,وتدع منها أربعة
أما اللواتي تدع :
أحدها :أن ل تناظر أحدال في مسألة ما استطعت لن فيها آيات كثيرة فإثمها أكبر من نفعها ,إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء
والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها ,نعم لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو قوم كانت إرادتك فيها أن تظهر الحق
ول يضيع جاز البحث لكن لتلك الرادة علمتان :إحداهما :أن ل تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على غيرك ,والثانية
:أن يكون البحث في الخلء أحب إليك من أن يكون في المل ,واسمع إني أذكر لك ههنا فائادة .واعلم أن السؤال عن المشكلت
عرض مرض القلب إلى الطبيب والجواب له سعى لصلح مرضه .واعلم :أن الجاهلين المرضى قلوبهم والعلماء الطباء
والعالم الناقص ل يحسن المعالجة والعالم الكامل ل يعالج كل مريض بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلح .وإذا كانت
العلة مزمنة أو عقيما ل تقبل العلج فحذاقة الطبيب فيه أن يقول هذا ل يقبل العلج فل تشتغل فيه بمداواته لن فيه تضييع العمر ,
ثم اعلم ,أن مرض الجعل على أربعة أنواع :
أحدها :يقبل العلج والباقي ل يقبل أما الذيِ ل يقبل ) أحدها ( من كان سؤاله واعتراضه عن حسده وبغضه فكلما تجيبه بأحسن
وأفصحه وأوضحه فل يزيد له ذلك إل بغضا ل وعداوة وحسدال ,فالطريق أن ل تشغل بجوابه فقد قيل:
ص 283
كل العداوة قد ترجى إزالتها
إل عداوة من عاداك عن حسد
فينبغي أن تعرض عنه وتتركه مع مرضه ,قال ا تعالى )) :فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا (( النجم:
. 29والحسود بكل ما يقول ويفعل أوقد نار في زرع علمه ,الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .
والثاني :أن تكون علته من الحماقة وهو أيضا ل ل يقبل العلج ,كما قال عيسى عليه السلم :إني ما عجزت عن إحياء الموتى وقد
عجزت عن معالجة الحمق ,وذلك رجل يشتغل بطلب العلم زمنا ل فليلل ويتعلم شيئاا ل من العلم العقلي والشرعي فيسأل ويعترض
من حماقته على العالم الكبير الذيِ مضى عمره في العلوم العقلية والشرعية ,وهذا الحمق لم يعلم ويظن أن ما أشكل عليه هو
أيضا ل مشكل للعالم الكبير ,فإذا لم يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة ,فينبغي أن ل يشتغل بجوابه .
والثالث :أن يكون مسترشدال وكل ما ل يفهم من كلم الكابر يحمل على قصور فهمه وكان سؤاله للستفادة لكن يكون بليدا ل
ل
يدرك الحقائاق فل ينبغي الشتغال بجوابه أيضا ل ,كما قال رسول ا صلى ا عليه وسلم )) :نحن معاشر النبياء أمرنا أن نكلم
الناس على قدر عقولهم (( .وأما المرض الذيِ يقبل العلج فهو أن يكون مسترشدال عاقلل فهما ل ل يكون مغلوب الحسد والغضب
وحب الشهوة والجاه والمال ,ويكون طالب الطريق المستقيم ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد وتعنت وامتحان ,وهذا يقبل
العلج فيجوز أن تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته .
والرابع :مما تدع وهو أن تحذر أن تكون واعظا ل ومذكرال لن فيه آفة كثيرة إل أن تعمل بما تقول أولل ,ثم تعظ به الناس فتفكر
فيما قيل لعيسى عليه السلم :يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي من ربك .وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز
عن خصلتين :
الولى :عن التكلف في الكلم بالعبارات والشارات والطامات والبيات والشعار لن ا تعالى يبغض المتكلفين ,والمتكلف
المتجاوز عن الحد يدل على خراب الباطن وغفلة القلب ,ومعنى التذكير أن يذكر العبد نار الخرة وتقصير نفسه في خدمة الخالق
,ويتفكر في عمره الماضي الذيِ أفناه فيما ل يعنيه ,ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم اليمان في الخاتمة وكيفية حاله في
قبض ملك الموت ,وهل يقدر على جواب منكر ونكير ,ويهتم بحاله في القيامة وموابقها ,وهل يعبر عن الصراط سالما ل أم يقع
في الهاوية ,ويستمر ذكر هذه الشياء في قلبه فيزعجه عن قراره ,فغليان هذه النيران وتوجه هذه المصائاب يسمى
ص 284
تذكيرال وإعلمهم الخلق وإطلعهم على هذه الشياء وتنبيههم على تقصيرهم و تفطيرهم وتبصيرهم بعيوب أنفسهم التمس حرارة
هذه النيران أهل المجلس وتجزعهم تلك المصائاب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة ,وينحسروا على اليام الخالية في غير
طاعة ا تعالى ,هذه الجملة على هذا الطريق يسمى وعظا ل كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد وكان هو وأهله فيها
فتقول :الحذر الحذر ,فروا من السيل وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خبرك بتكليف العبارات والنكت
والشارات فل تشتهي البتة فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها .
والخصلة الثانية :أن ل تكون همتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد ويشقوا الثياب ليقال نعم المجلس هذا ,
لن كله ميل للدنيا وهو يتولد من الغفلة ,بل ينبغي أن يكون عزمك وهمتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الخرة ,ومن المعصية
إلى الطاعة ومن الحرص إلى الزهد ,ومن البخل إلى السخاء ,ومن الغرور إلى التقوى وتحبب إليهم الخرة وتبغض إليهم الدنيا ,
وتعلمهم علم العبادة والزهد لن الغالب في طباعهم الزيغ عن منهج الشرع والسعي فيما ل يرضي ا تعالى به ,والستشعار
بالخلق الردية فالق في قلوبهم الرعب وروعهم وحذرهم عما يستقبلون من المخاوف ,ولعل صفات باطنهم تتغير ومعاملة
ظاهرهم تتبدل ,وينظروا الحرص والرغبة في الطاعة ,والرجوع عن المعصية ,وهذا طريق الوعظ والنصيحة ,وكل وعظ ل
يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع ,بل قيل إنه غول وشيطان يذهب بالخلق عن طريق ويهلكهم .فيجب عليهم أن يفروا
منه لن مايفيد هذا القائال من دينهم ل يستطيع يمله الشيطان ,ومن كانت له يد وقدوة يجب عليه أن ينزله عن منابر المواعظ
ويمنعه عما باشر ,فإنه من جملة المر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والثالث :مما تدع ل تخالط المراء والسلطين ,ول تراهم لن رؤيتهم ومجالسهم ومخالطتهم آفة عظيمة ,ولو ابتليت بها دع
عنك مدحهم وثناءهم لن ا تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم ,ومن دعا بطول بقائاهم فقد أحب أن يعصي ا في أرضه .
والرابع :مما تدع أن ل تقبل شيئاا ل من عطاء المراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلل لن الطمع منهم يفسد الدين لنه يتولد
منه المداهنة ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ,وهكذا كله فساد في الدين وأقل مضرته أنك إذا قبلت عطاياهم وانتفعت من
دنياهم أحببته ومن أحب أحدال يحب طول عمره وبقائاه بالضرورة ,وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد ا تعالى
وإرادة خراب العالم ,فأيِ شيء يكون أضر من هذا الدين والعاقبة ,وإياك وإياك أن يخدعك استهواء الشياطين أو قال بعض
الناس لك بأن الفضل
ص 285
والولى أن تأخذ الدينار والدرهم منهم وتفرقها بين الفقراء والمساكين ,فإنهم ينفقون في الفسق والمعصية ,وإنفاقك على ضعفاء
الناس خير من إنفاقهم ,فإن اللعين قد قطع أعناق كثيرة من الناس بهذه الوسوسة .وقد ذكرناه في إحياء العلوم فاطلبه ثمة .
وأما الربعة التي ينبغي لك أن تفعلها :
الول :أن تجعل معاملتك مع ا تعالى بحيث لو عامل معك بها عبدك ترضى بها منه ول يضيق خاطرك عليه ول تغضب ,
والذيِ ل ترضى لنفسك من عبدك المجازيِ فل ترضى أيضا ل ل تعالى وهو سيدك الحقيقي .
الثاني :كلما عملت الناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم لنه ل يكمل إيمان عبد حتى يحب لسائار الناس ما يحب لنفسه .
والثالث :إذا قرأت العلم أو طالعته ينبغي أن يكون علمك يصلح قلبك ويزكي نفسك ,كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع
,فبالضرورة ل تشتغل فيها بعلم الفقه والخلق والصول والكلم وأمثالها لنك تعلم أن هذه العلوم ل تغنيك ,بل تشتغل بمراقبة
القلب ومعرفة صفات النفس ,والعراض عن علئاق الدنيا ,وتزكي نفسك عن الخلق الذميمة وتشتغل بمحبة ا تعالى وعبادته
,والتصاف بالوصاف الحسنة .ول يمر على عبد يوم وليلة إل ويمكن أن يكون موته فيه .
أيها الولد :اسمع مني كلما ل آخر وتفكر فيه حتى تجد خلصا ل لو أنك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يختارك وزيرال .اعلم أنك في
تلك المدة ل تشتغل إل بإصلح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن والدار والفراش وغيرها ,والن تفكر إلى
ما أشرت به فإنك فهم والكلم الفرد يكفي ,أليس قال رسول ا صلى ا عليه وسلم )) :إن ا ل ينظر إلى صوركم ول إلى
أعمالكم ,ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم (( .وإن أردت علم أحوال القلب فانظر إلى الحياء وغيره من مصنفاتي .وهذا العلم
فرض عين وغيره فرض كفاية إل مقدار ما يؤديِ به فرائاض ا تعالى وهو يوفقك حتى تحصله .
والرابع :أن ل تجمع من الدنيا أكثر من كفاية السنة ,كما كان رسول ا صلى ا عليه وسلم يعد ذلك لبعض حجراته ,وقال )) :
اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا ل (( .ولم يكن يعد ذلك لكل حجراته بل كان يعده لمن علم أن في قلبها ضعفا ل ,وأما من كانت
صاحبة يقين ما كان يعد لها أكثر من قوت يوم ونصف .
أيها الولد :إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك فينبغي لك أن تعمل بها ول تنساني فيه من أن تذكرني في صالح دعائاك ,وأما
الدعاء الذيِ سألت منى فاطلبه من دعوات الصحاح واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك خصوصا ل أعقاب صلواتك ,اللهم إني أسألك من
ص 286
النعمة تمامها ,ومن العصمة دوامها ,ومن الرحمة شمولها ,ومن العافية حصولها ,ومن العيش أرغده ,ومن العمر أسعده ,
ومن الحسان أثمه ,ومن النعام أعمه ,ومن الفضل أعذبه ,ومن اللطف أقربه ,اللهم كن لنا ول تكن علينا ,اللهم أختم بالسعادة
آجالنا ,وحقق بالزيادة آمالنا ,واقرن بالعافية غدونا وآصالنا ,واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ,واصبب سجال عفوك على
ذنوبنا ,ومدن علينا بإصلح عيوبنا ,واجعل التقوى زادنا ,وفي دينك اجتهادنا ,وعليك توكلنا واعتمادنا ,اللهم ثبتنا على نهج
الستقامة ,وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة ,وخفف عنا ثقل الوزار ,وارزقنا عيشة البرار ,واكفنا واصرف
عنا شر الشرار ,واعتق رقابنا ورقاب آبائانا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا من النار برحمتك يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار يا
عليم يا جبار يا ا يا ا يا ا برحمتك يا أرحم الراحمين ,ويا أول الولين ,ويا آخر الخرين ويا ذا القوة المتين ,ويا راحم
المساكين ,ويا أرحم الراحمين ,ل إله إل أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ,وصلى ا على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
والحمد ل رب العالمين .
مشكاة النوار
الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
الحمد ل مفيض النوار ,وفاتح البصار ,وكاشف السرار ,ورافع الستار ,والصلة على محمد نور النوار ,وسيد البرار ,
وحبيب الجبار ,وبشير الغفار ,ونذير القهار ,وقامع الكافر ,وفاضح الفجار ,وعلى آله وأصحابه الطاهرين الخيار .
أما بعد ,فقد سألتني أيها الخ الكريم قيضك ا لطلب السعادة الكبرى ,ورشحك للعروج إلى الذروة العليا ,وكحل بنور الحقيقة
بصيرتك ,ونفى عما سوى الحق سريرتك أن أبث إليك أسرار النوار اللهية مقرونة بما يشير إليه ظواهر اليات المتلوة
والخبار المروية مثل قوله تعالى )) :ا نور السموات والرض (( النور . 35:ومعنى تشبيهه ذلك بالمشكاة والزجاجة
والمصباح والزيت والشجرة مع قوله صلى ا عليه وسلم )) :إن ل سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لحرقت
اسبحات وجهه كل من أدركه بصره (( ,ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقى صعبا ل تنخفض دون أعاليه مرامى أعين الناظرين ,
وقرعت بابا ل مغلقا ل ل ينفتح إل للعلماء الراسخين ,ثم ليس كل سر يكشف ويغشى ,ول كل حقيقة تعرض وتجلى بل صدور
الحرار قبور السرار ,ولقد قال بعض العارفين :إفشاء سر الربوبية كفر ,بل قال سيد الولين والخرين )) :إن من العلم
كهيئاة المكنون ل يعلمه إل العلماء بال فإذا نطقوا به
ص 287
لم ينكره عليهم إل أهل الغترار بال (( ,ومهما كثر أهل الغترار بال وجب حفظ السرار عن وجه الشرار ,لكني أراك
منشرح الصدر بالنور منزه السر عن ظلمات الغرور فل أشح عليك بالشارة إلى لوامع ولوائاح والرمز إلى حقائاق ودقائاق .فليس
الظالم في كف العلم عن أهله بأقل منه بثه إلى غير أهله فقد قيل :
فمن منح الاجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فاقنع بإشارات مختصرة ,و تلويحات موجزة فإن تحقيق القول فيه يستدعي تمهيد أصول ,وشرح فصول ليس له الن وقتي ول
ينصرف إليه ذهني ول همتي ,ومفاتيح القلوب بيد ا يفتحها إذا شاء كما شاء بما شاء ,وإنما ينفتح في هذا الوقت فصول ثلثة :
الفصل الول
في بيان أن النور الحق هو ا تعالى وأن اسم النور لغيره
مجاز محض ل حقيقة له
وبيانه بأن تعرف معنى النور بالوضع الول عند العوام ,قم بالوضع الثاني عند الخواص ,ثم بالوضع الثالث عند خواص
الخواص ,ثم تعرف درجات النور المنسوبة إلى الخواص وحقائاقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن ا تعالى هو النور
العلى القصى ,وعند انكشاف حقائاقها أنه النور الحق الحقيقي وحده ل شريك له فيه .وأما الوضع الول العامي فالنور يشير
إلى الظهور أمر إضافي إذ يظهر الشيء ل محالة لغيره ويبطن عن غيره فيكون ظاهرال بالضافة باطنا ل بالضافة وإضافة ظهوره
إلى الدراكات ل محالة .وأقوى الدراكات وأجلها عند العوام الحواس ومنها حاسة البصر ,والشياء بالضافة إلى الحس
البصريِ ثلثة أقسام :منها ما ل يبصر بنفسه كالجسام المظلمة ,ومنها ما يبصر بنفسه ول يبصر به غيره كالجسام المضيئاة
مثل الكواكب وجسم النار إذا لم تكن مشعلة ,ومنها ما يبصر به غيره كالشمس والقمر والنيران المشعلة والسرج ,والنور اسم
لهذا القسم الثالث ,ثم تارة يطلق على ما يفيض من هذه الجسام المنيرة على ظواهر الجسام الكثيفة فيقال استنارت الرض ووقع
نور الشمس على الرض ,ونور السراج على الحائاط والثوب ,وتارة يطلق على نفس هذه الجسام المشرقة أيضا ل لنها في
أنفسها مستنيرة .وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس .هذا حده وحقيقته بالوضع الول .
دقيقة :لما كان سر النور وروحه هو الظهور للدراك وكان الدراك موقوفا ل على وجود
ص 288
النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا ل إذ النور هو الظاهر المظهر وليس شيء من النوار ظاهرال في حق العميان ول مظهرال ,
فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهر في كونه ركنا ل ل بد منه للدراك ثم ترجح عليه أن الروح الباصرة هي المدركة وبها
الدراك ,وأما النور فليس بمدرك ول به إدراك بل عنده الدراك ,وكأن اسم النور بالنور أحق منه بالنور المبصر ,فأطلقوا اسم
النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعف ,وفي العمش إنه ضعيف نور البصر ,وفي العمى أنه
فقد نور بصره ,وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه الجفان إنما خصتها الحكمة اللهية بلون السواد وجعل العين مجفونة
بها لتجمع ضوء العين .وأما البياض فيفرق نور العين فيضعف نوره حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق بل إلى نور
الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما الضعيف في جنب القويِ ,فقد عرفت بهذا أن الروح الباصرة يسمى نورال وأنه لم يكن بهذا
السم أولى وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص .
حقيقة :أعلم أن نور البصر مرسوم بأنواع من النقصان فإنه يبصر غيره ول يبصر نفسه ول يبصر ما بعد منه ول ما قرب ول
يبصر ما هو وراء حجاب ,ويبصر من الشياء ظاهرها دون باطنها ,ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها ويبصر أشياء
متناهية ول يبصر ما ل نهاية له ويغلط كثيرال في إبصاره فيرى الكبير صغيرال ويرى البعيد قريبا ل والساكن متحركا ل والمتحرك
ساكنا ل ,فهذه سبع نقائاص ل تفارق العين الظاهرة فأن كان في العين عين منزهة عن هذه النقائاص كلها ,فليت شعريِ هل هو
أولى باسم النور فاعلم أن في قلب النسان عينا ل هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة النفس
النساني ,دع عنك هذه العبارات ,فإنها إذا كثرت أوهمت عند الضعيف البصيرة كثرة المعاني فنعني به المعنى الذيِ يتميز به
العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعم المجنون ولنسمه عقلل متابعة للجمهور في الصطلح فنقول العقل أولى يسمى نورال
من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائاص السبع .
أما الولى :فهو أن العين ل تبصر نفسها والعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ويدرك صفات نفسه إذ يدرك نفسه عالما ل وقادرال ,
ويدرك علم نفسه ,ويدرك علمه بعلمه بنفسه وعلمه بعلمه بعلمه نفسه إلى غير نهاية ,وهذه خاصة ل تتصور لما يدرك بآلة
الجسام ووراءه سر يطول شرحه .
الثانية :أن العين ل تبصر ما قرب منها قربا ل مفرطا ل ول ما بعد والعقل عنده يسوى بين القريب والبعيد ويعرج في طرقه إلى أعلى
السموات رقيا ل ,وينزل في لحظة إلى تخوم الرض هوليا ,بل إذا حقت الحقائاق انكشف أنه منزه عن أن يحوم بجنبات قدسه القرب
ص 289
ولبعد الذيِ يعرض بين الجسام ,فإنه أنموذج من بحور ا تعالى ول يخلو النموذج عن محاكاة وإن كان ل يرقى إلى ذروة
المساوقة ,وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله صلى ا عليه وسلم )) :إن ا خلق آدم على صورته (( ,فلست أرى الن الخوض
في بيانه .
الثالثة :أن العين ل تدرك ما وراء الحجاب ,والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السماوات وفي المل العلى
والملكوت كتصرفه في عالمه الخاص به ومملكته القريبة .أعني بها الخاصة به ,بل الحقائاق كلها ل تحجب عن العقل ,وإنما
حجاب العقل حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الجفان وستعرف
هذا في الفصل الثالث من الكتاب .
الرابعة :أن العين تدرك من الشياء ظاهرها وسطحها العلى دون باطنها بل قوالبها وصورها دون حقائاقها ,والعقل يتغلغل إلى
بواطن الشياء وأسرارها ,ويدرك حقائاقها وأرواحها ,ويستنبط أسبابها وعللها وحكمها ,وأنها مم حدثت وكيف خلقت ومن كم
معنى جمع الشيء وركب وعلى أيِ مرتبة في الوجود نزل وما نسبته إلى سائار مخلوقاته ؟ إلى مباحث أخر يطول شرحها نرى
اليجاز فيها أولى .
الخامسة :أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولت وعن كثير من المحسوسات ول تدرك الصوات ول
الروائاح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة .أعني قوة السمع والشم والذوق ,بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح
والسرور والغم والحزن واللم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات ل تحصى ول تعد ,
فهو ضيق المجال مختصر المجرى ل تسعه مجاوزة عالم اللوان والشكال وهما أخس الموجودات ,فإن الجسام في نفسها أخس
أقسام الموجودات واللوان .والشكال من أخس أعراضها ,والموجودات كلها مجال العقل إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها
وما لم نعده وهو الكثر فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما ل يقينا ل صادقا ل ,فالسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية
عنده جلية ,فمن أين للعين الباصرة مساواته في استحقاق اسم النور .كل بها نور بالضافة إلى غيرها ولكنها ظلمة بالضافة
إليه ,بل هي جاسوس من جواسيسه وكلها بأخس خزائانه وهي خزانة اللوان والشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها
بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ ,والحواس جواسيسه سواها وهي من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ ووراءهم خدم وجنود
مسخرة له في عالمه الحاضر يسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد ,وشرح ذلك يطول ,وقد شرحناه في كتاب
عجائاب القلب من كتب الحياء .
السادسة :أن العين ل تبصر ما ل نهاية له فإنها تبصر صفات الجسام المعلومات .والجسام ل تتصور إل متناهية والعقل يدرك
المعقولت والمعقولت ل تتصور أن تكون
ص 295
فل يبعد أن يفجأ النسان مرآة فينظر فيها ،و لم يدر المرآة قط ،فيظن أن الصور التى رآها فى المرآة فى صورة المرآة متحدة بها
،و يرى الخمر فى الزجاج فيظن أن الخمرة لون الزجاج فإذآ صار ذلك عنده مألوفا ل و رسخ فيه قدمه استغرقه فقال:
ت الخمار دودتدشادبها دفدتدشادكدل المار دراق المزجااج دودراق ه
دو كأندما قدح و ل خمار ا د د دفدكأ ددندما خمسر ول قدح
و فرق بين أن يقال الخمر قدح و بين أن يقال كأنه قدح ،و هذه الحالة إذا غلبت سميت بالضافة إلى صاحب الحال فناء ،بل فناء
الفناء لنه فنى عن نفسه و فنى عن فنائاه ،فإنه ليس يشعر بنفسه فى تلك الحال و ل بعد شعوره بنفسه ،و لو شعر بعدم شعوره
بنفسه لكان قد شعر بنفسه ،و تسمى هذه الحال بالضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز اتحادا ل ،و بلسان الحقيقة توحيدا ل،
ووراء هذه الحقائاق أيضا ل أسرار ل يجوز الخوض فيها.
خاتمة :لعلك تشتهى أن تعرف وجه إضافة نور إلى السماوات و الرض ،بل وجه كونه فى ذاته نور السماوات و الرض ،و ل
ينبغى أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور و ل نور سواه و أنه كل النوار و أنه النور الكلى ،لن النور عبارة عما
تنكشف به الشياء و أعلى منه ما ينكشف به و له أعلى منه ما ينكشف به و له و منه و أن الحقيقى منه ما ينكشف به و له و منه و
ليس فوقه نور منه اقتباس و استمداده بل ذلك له فى ذاته من ذاته ل من غيره ،ثم عرفت أن هذا ل يتصور و لن يتصف به إل
النور الول ،ثم عرفت أن السماوات و الرض مشحونة نورا ل من طبيعة النور .أعنى المنسوب إلى البصر و البصيرة أى إلى
الحس و العقل.
أما البصرى فما تشاهده فى السماوات من الكواكب و الشمس و القمر و ما تشاهده فى الرض من الشعه المنبسطه على كل ما فى
الرض حتى ظهرت به اللوان المختلفه خصوصا ل فى الربيع ،و على كل حال من الحيوانات و النباتات و المعادن و أصناف
الموجودات و لولها لم يكن لللوان ظهور بل وجود ،ثم سائار ما يظهر للحس من الشكال و المقادير يدرك تبعا ل لللوان و ل
يتصور إدراكها إل بواسطتها.
أما النوار العقليه المعنويه فالعالم العلى مشحون بها و هى جواهر الملئاكه ،و العالم السفل مشحون بها و هى الحياة الحيوانية
ثم النسانيه و بالنور النسانى السفلى ظهر نظام العالم السفلى كما أن بالنور الملكى ظهر نظام العالم العلوى و هو المعنيى بقوله:
ض{ض دوالسدتلعدمدراكلم فهيدها{]هود .[61:و قال } :دلديلسدتلخلهدفاناهلم هفى الدلر ه }اهدو دأندشأ داكم يمدن الدلر ه
ص 296
د
ض خهليفة ل{]البقرة .[30:فإذا عرفتد د ي
ض{]النمل .[62:و قال } :إهنيه دجاهعسل هفي اللر ه د د د ا ا ا
]النور . [55:و قال } :دو ديلجدعلكلم خلفادء اللر ه
هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالنوار الظاهرة البصرية و الباطنة العقلية ،ثم عرفت أن السفلية فائاضة بعضها من بعض
فيضان النور من السراج ،و أن السراج هو النور النبوى القدسى ،و أن الرواح النبوية القدسية مقتبسة من الرواح العلوية اقتباس
السراج من النار .و أن العلويات بعضها مقتبس من بعض ،و أن ترتيبها ترتيب مقامات ،ثم ترتقى جملتها إلى نور النوار و
معدنها و منبعها الول ،و أن ذلك و هو ا وحده ل شريك له ،و أن سائار النوار مستعارة منه ،و إنما الحقيقى نوره فقط و إن
الكل من نوره بل هو ل هوية لغيره إل بالمجاز ،فإذا ل ل نور إل هو و سائار النوار أنوار من الوجه الذى تليه ل من ذاتها فوجه كل
موجه إليه و مويل شطره }دفأ دليدنما د اتدوملوا دفدثام دولجاه ا{]البقرة.[115:فإذال ل إله إل هو فإن الله عبارة عما الوجوه مولية نحوه بالعبادة
و التأليه ،أعنى وجوه القلوب فإنها النوار و الرواح ،بل كما أنه ل إله إل هو فل هو إل هو فإن هو عبارة عما إليه الشارة ،و
كيفما كان فل إشارة إل إليه بل كلما أشرت فهو بالحقيقة الشارة إليه ،و إن كنت ل تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائاق التى
ذكرناها ،و ل إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس ،فكل ما فى الوجود فنسبته إليه فى ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس،فإذال
ل إله إل ا توحيد العوام و ل هو إل هو توحيد الخواص ،لن ذلك أعم و هذا أخص و أشمل و أحق و أدق و أدخل بصاحبه فى
الفردانية المحضة و الوحدانية الصرفة ،و منتهى معراج الخلئاق مملكة الفردانية فليس وراء ذلك مرقاة إذ الرقى ل يتصور إل
بكثرة ،فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الرتقاء و ما إليه الرتقاء ،و إذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة و بطلت الضافة و طاحت
الشارة فلم يبق علو و ل سفل و ل نازل و ل مرتفع ،فاستحال الترقى و استحال العروج فليس وراء العلى علو و ل مع الوحدة
كثرة و ل مع انتقاء الكثرة عروج ،فإن كان ثمة تغيير من حال فبالنزول إلى السماء الدنيا .أعنى بالشراق من علو إلى أسفل لن
العلى و إن لم يكن له أعلى فله أسفل.
فهذا غاية الغايات و منتهى الطلبات يعلمه من يعلمه و ينكره من يجهله ،و هو من العلم الذى هو كنهه المكنون الذى ل يعلمه إل
العلماء بال فإذا نطقوا به لم ينكره إل أهل الغرة بال و ل يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ملك ،فقد توهم
بعض العارفين ما هو أبعد منه إذ قال هذا المستغرق بالفردانيه له نزول إلى سماء الدنيا و إن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس
أو تحريك العضاء ،و إليه الشارة بقوله عليه الصلة و السلم)) :صرت سمعه الذى يسمع به و بصره الذى يبصر به و لسانه
الذى ينطق به((.وإذا كان هو سمعه و بصره و لسانه فهو السامع و الباصر و الناطق إذال ل غيره ،و إليه الشارة بقوله
ص 297
ت دفدللم دتاعلدهنى((الحديث .فحركات هذا الموحد من السماء الدنيا و إحساساته من سماء فوقها و ض الموسى صلى ا عليه و سلم)) :دمهر ل
عقله فوق ذلك و هو يترقى من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلئاق و مملكة الفردانيه إلى سبع طبقات ،ثم بعد يستوى على
عرش الوحدانية و منه يدبر المر إلى طبقات سماواته فربما نظر الناظر إليه أن ذلك له تأويل كقوله :أنا الحق و سبحانى ،بل
كقوله عليه الصلة و السلم )) :مرضت فلم تعدنى و كنت سمعه و بصره و لسانه(( ،فأرى الن إمساك عنان البيان فما أراك
تطيق من هذا الفن أكثر من هذا المقدار.
مساعدة :لعلك ل تسمو إلى هذا المكان بهمتك ،بل تقصر دون ذروته همتك فخذ إليك كلما ل أقرب إلى فهمك و أقرب لضعفك،و
اعلم أن معنى كونه نور السماوات و الرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهرى البصرى ،فإذا رأيت ألوان الربيع و خضرتها مثلل
فى ضياء النهار فلست تشك فى أنك ترى اللوان ،و ربما ظننت أنك لست ترى مع اللوان غيرها فكأنك تقول لست أرى مع
الخضرة غيرها ،و لقد أصر على هذا أقوام فزعموا أن النور ل معنى له و أنه ليس مع اللوان غير اللوان ،فأنكروا وجود النور
مع أنه أظهر الشياء و كيف ل و به تظهر الشياء و هو الذى يبصر فى نفسه و يبصر به غيره كما سبق ،لكن عند غروب الشمس
و غيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل و بين موضع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء اللوان
يدرك مع اللوان حتى كأنه لشدة اتحاده بها ل يدرك و لشدة ظهوره يخفى ،و قد تكون شدته سبب الخفاء ،و الشىء إذا جاوز حده
انعكس على ضده فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائار ما رأوا شيئاا ل إل و رأوا ا معه ،و ربما زاد على هذا بعضهم فقال :ما
رأيت شيئاا ل إل رأيت ا قبله .لن منهم من يرى الشياء به ،و منهم من يرى الشياء فيراه بالشياء و إلى الول الشارة بقوله :
ك أداناه دعدلى اكيل دشليءء دشههيسد{ ]فصلت .[53:و إلى الثانى الشارة بقوله} :دسانهريههلم آددياهتدنا فيه الدفاهق دو فيه دأنفاهسههلم{ }أددو دللم ديلكف هبدردب د
]فصلت.[53:فالول صاحب المشاهدة ،و الثانى صاحب الستدلل بآياته ،و الولى درجة الصديق ،و الثانية درجة العلماء
الراسخين ،و ليس بعدهما إل درجة الغافلين المحجوبين ،فإذا عرفت عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور
الظاهر فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بال فهو مع كل شىء ل يفارقه و به يظهر كل شىء ،و لكن بقى ههنا تفاوت و هو أن
النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس و يحجب حتى يظهر الظل.
أما النور اللهى الذى به يظهر كل شىء ل يتصور غيبته بل يستحيل غروبه فيبقى مع الشياء كلها دائاما ل فانقطع طريق الستدلل
بالتفرقة و لو يضطر غيبته لنهدمت السموات و الرض و لدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت
الشياء ،لكن لما
ص 298
تساوت الشياء كلها على نمط واحد فى الشهادة لواحدانية خالقها إذ كل كل شىء يسبح بحمده ل بعض الشياء ،و فى جميع
الوقات ارتفع التفريق و خفى الطريق إذ الطريق الظاهر معرفة الشياء بالضداد فما ل ضد له و ل نقيض تتشابه الحوال فى
الشهادة له ،فل بد أن يختفى و يكون خفاؤه لشدة جلئاه و الغفلة عنه لشراق ضيائاه :فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره و
احتجب عنهم لشراق نوره ،و ربما أيضا ل ل يفهم هذا الكلم بعض القاصرين فيفهم من قولنا إن ا مع كل شىء كالنور مع
الشياء ،إنه فى كل مكان تعالى ة تقدس عن النسبة إلى مكان ،بل البعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول لك قبل كل شىء و أنه فوق
كل شىء و أنه مظهر كل شىء ،و المظهر ل يفارق المظهر فى معرفة صاحب البصيرة ،فهذا الذى نعنى بقولنا إنه مع كل شىء،
ثم ل يخفى عليك أيضا ل أن المظهر قبل المظهر و فوقه مع أنه معه لكنه معه بوجه و قبله بوجه فل تظن أنه متناقض و اعتبر
بالمحسوسات التى هى قدر درجتك فى العرفان ،و انظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد و قبلها أيضلا ،و من لم يتسع
صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم فلكل علم رجال و كل ميسر لما خلق له.
الفصل الثانى
فى بيان المشكاة و المصباح و الزجاجة و الشجرة و الزيت و النار
و بيان ذلك :يستدعى تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود ،و لكنى أشير إليهما بالرمز و الختصار.
أحدهما :فى بيان سر التمثيل و منهاجه ووجه ضبط أرواح المعانى بقوالب المثلة ،ووجه كيفية المناسبة بينهما و كنه الموازنة بين
عالم الشهادة التى منها يتخذ طينة المثال ،و بين عالم الملكوت الذى منه تنزل أرواح المعانى.
و القطب الثانى :فى طبقات أرواح الطينه البشرية و مراتب أنوارها ،فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك ،و قد قرأ ابن مسعود))دمدثال
ب دملن آدمدن دكملشدكا دءة فهيدها((.ب الامؤهمهن كهمشلكاءة هفليدها((]النور .[35:و قرأ اأبى بن كعب )) دمدثال انوهر دقلل ه انوهرهه فى دقلل ه
القطب الول فى بيان سر التمثيل و مهاجه
اعلم أن العالم عالمان روحانى و جسمانى ،و إن شئات قلت حسى و عقلى ،و إن شئات قلت علوى و سفلى و الكل متقارب ،وإنما
يختلف باختلف العبارات ،فإذا اعتبرتهما فى
ص 299
أنفسهما قلت :جسمانى و روحانى ،وإذا اعتبرتهما بالضافة إلى العين المدركة لهما قلت :حسى و عقل ،و إن اعتبرتهما بإضافة
أحدهما إلى الخر قلت علوى و سفلى ،وربما سميت أحدهما عالم الملك و الشهادة ،و الخر عالم الغيب و الملكوت و من ينظر
إلى الحقائاق من اللفاظ ربما يتحير من كثرتها و يتخيل كثرة المعانى و الذى تنكشف له الحقائاق يجعل المعانى أصل ل و اللفاظ
تابعة و أمر الضعيف بالعكس منه إذ يطلب الحقائاق من اللفاظ وإلى الفريقين الشارة بقوله تعالى } :أددفدمن ديلمهشي امهكابا ل دعدلى دولجهههه
صرادءط مملسدتهقيءم{]الملك .[22:وإذا قد عرفت معنى العاملين ،فاعلم أن العالم الملكوتى العلوى عالم أدلهددى أاامن ديلمشيه دسهوايا ل دعدلى ه
غيب إذ هو غائاب عن الكثر ،و العالم الحسى عالم الشهادة إذ يشهده الكافة ،و العالم الحسى مرقاة إلى العالم العقلى ،و لو لم يكن
بينهما اتصال و مناسبة ل نساد طريق الترقى إليه ،و لو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى الحضرة الربوبية و القرب من ا فلن يقرب
من ا أحد ما لم يظأ بحبوحة حظيرة القدس ،و العالم المرتفع عن إدراك الحس و الخيال هو الذى نعنيه بعالم القدس ،و إذا
اعتبرت جملته بحيث ل يخرج منه شىء و ل يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس ،و ربما سمينا الروح البشرى الذى
هو مجرى لوائاح القدس الوادى المقدس .ثم هذه الحظيرة فيها حظائار بعضها أشد إمعانا ل فى معانى القدس ،و لكن لفظ الحظيرة
محيط بجميع طبقاتها ،فل تظنن أن هذه اللفاظ طامات غير معقولت عند أرباب البصائار.
و اشتغالى الن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدنى عن المقصد ،فعليك بالتشمير لفهم اللفاظ فأرجع إلى الغرض فأقول :لما كان عالم
الشهادة مرقى إلى عالم الملكوت كان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقى و قد يعبر عنه بالدين ،و بمنازل الهدى فلو لم
يكن بينهما مناسبة و اتصال لما تصور الترقى من أحدهما إلى الخر ،فجعلت الرحمة اللهيه عالم الشهادة على موازنة عالم
الملكوت ،فما من شىء فى هذا العالم إل و هو مثال لشىء من ذلك العالم ،و ربما كان الشىء الواحد مثال ل لشياء من عالم
الملكوت .و ربما كان للشىء الواحد من الملكوت ،أمثلة كثيرة من عالم الشهادة ،و إنما يكون مثال ل إذا ماثلة نوعا ل من المماثلة .و
طابقه نوعا ل من المطابقة ،وإحصاء تلك المثلة يستدعى استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها ،و لن تفىىى به القدرة
البشرية ،و لم تتسع لفهمه القوة البشرية ،و ل تفى لشرحه العمار القصيرة ،فغايتى أن أعرفك منها أنموذجا ل لتستدل باليسير منها
على الكثير و ينفتح لك باب الستبصار بهذا النمط من السرار .فأقول :إن كان من عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية
يعبر عنها باملئاكة منها تفيض النوار على الرواح البشرية ولجلها قد تسمى أربابا ل فيكون ا رب الرباب لذلك ،و يكون لها
مراتب فى نورانيتها
ص 300
متفاوتة ,فبا لحرى أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب ,وسالك الطريق يترقى أولل إلى ما درجته درجة
الكوكب فيتضح له إشراق نوره ,وينكشف له أن العالم السفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره ,ويتضح له من جماله
وعلو درجته ما ينادى فيقول :هذا ربى ,ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الول في مضرب الهوى أيِ
بالضافة إلى ما فوقه أفولل فقال :ل أحب الفلين ,فكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر و أعلى قابلل للمثال
بنوع مناسبة له معه ,والمناسبة مع ذيِ النقص نقص ؟ وأقول أيضا ل فمنه من يقول )) :وجهت وجهي للذيِ فطر السموات
والرض حنيفا وما أنا من المشركين (( النعام . 79ومعنى الذيِ إشارة مبهمة مناسبة لها إذ لو قال قائال ما مثال مفهوم الذيِ لم
يتصور أن يجاب عنه فالمنزه عن كل مناسبة هو ا الحق ,ولذلك لما قال بعض العراب لرسول ا ما نسبة ا نزل في جوابه :
)) قل هو ا أحد * *1ا الصمد * *2لم يلد ولم يولد **3ولم يكون له كفوال أحد (( الخلص 4-1
معناه التقدس عن النسبة ,ولذلك لما قال فرعون لموسى :وما رب العالمين؟ كالطالب لماهيته لم يجبه إل بأفعاله إذا كانت الفعال
أظهر عند السائال ,فقال :رب السموات والرض .فقال فرعون لمن حوله :أل تسمعون كالمنكر عليه في عدوله في جوابه عن
طلب الحقيقة ,فقال موسى )) :ربكم ورب آبائاكم الولين (( الصافات . 126 :فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال
والماهية وهو يجيب عن الفعال بالفعال ,وقال فرعون :إن رسولكم الذيِ أرسل إليكم لمجنون ,ولنرجع الن إلى النموذج
فنقول :عالم التعبير يعرفك مقدار ضرب المثال لن الرؤيا جزء من النبوة .أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان لما
بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني ,هو الستعلء على الكافة مع فيضان الثار والنوار على الجميع ,والقمر
تعبيره الوزير لفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها ,كما يفيض السلطان آثاره بواسطة الوزير على من
يغيب عن حضرة السلطان ,وأن يرى أن في يده خاتما ل يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فإنه يعبر له أنه يؤذن قبل الصبح في
رمضان ,ومن رأى انه يصب الزيت في الزيتون تعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو ل يعرفها فاستقصاء أبواب التعبير في أمثال
هذا الجنس غير ممكن فل يمكن الشتغال بعدها ,بل أقول :كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر
والكواكب ,كذلك منها ماله أمثلة أخرى إذا اعتبرت معها أوصاف أخر سوى النورانية ,فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت
ل يتغير وعظيم ل يستصغر ومنه تتفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائاس المكاشفات فمثاله الطور ,وإن كانت
الموجودات التي تتلقى تلك النفائاس بعضها أولى من بعض فمثاله الواديِ ,وان كانت تلك
ص 301
النفائاس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجريِ من قلب إلى قلب ,فهذه القلوب أيضا ل أودية ومفتتح الواديِ قلوب النبياء والولياء
والعلماء ,ثم من بعدهم فإن كانت هذه الدوية دون الول ومنها تغترف فبا لحرى أن يكون الول هو الواديِ اليمن لكثرة يمنه
وعلو درجته ,وإن كان الواديِ الول يتلقى من آخر درجات الواديِ اليمن فهو يغترف من شاطئ الواديِ اليمن دون لجته
وميدانه ,وإن كان روح النبي سراجا ل ومنيرال .وكان ذلك الروح مقتبسا ل بواسطة وحي كما قال )) :أوحينا إليك روحا ل من أمرنا ((
الشورى . 52فما منه القتباس مثاله النار ,وإن كان المتلقون من النبياء بعضهم على محض التقليد لما يسمعه وبعضهم على
حظ من البصيرة ,فمثال المقلد الغير المستبصر الجذوة والقبس والشهاب وصاحب الذوق مشارك للنبي إلى بعض الحوال .
ومثال تلك المشاركة الصطلء وإنما يصطلي بالنار من معه النار ل من سمع خبرها ,وإن كان أول منزل النبياء الترقي إلى
العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال ,فمثال ,ذلك المنزل الواديِ المقدس ,وإن كان ل يمكن وطء ذلك المقدس إل بإطراح
الكونين أعنى الدنيا والخرة والتوجه إلى الواحد الحق ,وكانت الدنيا والخرة متقابلتين محاذيتين وهما عارضان للجوهر
النوراني البشريِ يمكن اطراحها مرة والتلبس بهما أخرى ,فمثال إطراحهما عند الحرام والتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين بل
نترقى إلى الحضرة الربوبية مرة أخرى ,فنقول :وإن كان في تلك الحضرة شيء بواسطته ننتقش العلوم المفصلة في الجواهر
القابلة فمثاله القلم .وإن كان في تلك الجواهر القابلة للتلقي ما انتقش بالعلوم فمثاله اللوح والكتاب )) في رق منشور (( الطور
. 3وإن كان فوق الناقش للعلوم شيء مسخر له فمثاله اليد ,وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب
ترتيب منظوم فمثاله الصورة ,وإن كان يوجد للصور النسية ترتيب منظوم على هذه الشاكلة فهي على صورة الرحمن ,وفرق
بين أن يقال على صورة الرحمن وبين أن يقال على صورة ا .إذ الرحمة اللهية هي التي على صورة الحضرة اللهية بهذه
الصورة ,ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة
العالم مختصرة .وصور آدم أعني هذه الصورة مكتوبة بخط ا ,فهو الخط اللهي الذيِ ليس برقم حروف إذ يتنزه خطه عن أن
يكون رقما ل وحروفا ل ,كما يتنزه كلمه عن أن يكون صوتا ل وحروفا ل ,وقلمه عن أن يكون قصبا ل وحديدال ,ويده عن أن تكون لحما ل
وعظما ل .ولول هذه الرحمة لعجز الدمي عن معرفة ربه إذ ل يعرف ربه إل من عرف نفسه ,فلما كان هذا من آثار الرحمة كان
على صورة الرحمن ل على صورة ا ,فحضرة اللهية غير حضرة الرحمن وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية ,
ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال )) :قل أعوذ برب الناس * *1ملك الناس * *2إله الناس * 3- 1 (( *3الناس
ص 302
ولول هذا المعنى لكن قوله :إن ا خلق آدم على صورة الرحمن غير منظوم لفظا ل ,بل كان ينبغي أن يقول على صورته ,واللفظ
الوارد في الصحيح على صورة الرحمن .ولن تمييز حضرة الملك عن حضرة الربوبية يستدعي شرحا ل طويلل ,فلنتجاوز
ويكفيك من النموذج هذا القدر فإنه بحر ل ساحل له فإن وجدت في نفسك نفورال عن هذه المثال فستأنس بقوله تعالى )) :أنزل
من السماء ماء فسالت أودية بقدرها (( الرعد . 17فإنه قد ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والودية القلوب.
خاتمة واعتذار :ل تظنن من هذا النموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في رفع الظاهر واعتقادال في إبطالها حتى أقول
مثلل :لم يكن مع موسى نعلن ولم يسمع الخطاب بقوله )) :فاخلع نعليك (( طه . 12حاشا ل فإن إبطال الظواهر رأيِ الباطنية
الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ,وجهلوا جهلل بالموازنة بينهما فلم يفهموا وجهه ,كما أن أبطال السرار مذهب
الحشوية فالذيِ يجرد الظاهر حشويِ ,والذيِ يجرد الباطن باطني والذيِ يجمع بينهما كامل ,ولذلك قال عليه الصلة والسلم )) :
للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع (( .وربما نقل هذا عن على موقفا ل عليه ,بل أقول موسى فهم من المر بخلع النعلين اطرح
الكوتين فامتثل المر ظاهرال بخلع نعليه وباطنا ل بخلع العالمين ,فهذا هو العتبار أيِ العبور من شيء إلى غيره ومن ظاهر إلى
سر ,وفرق بين من يسمع قول رسول ا صلى ا عليه وسلم )) :ل تدخل الملئاكة بيتا ل فيه كلب أو صورة (( ,فيقتنى الكلب في
البيت ويقول ليس الظاهر مرادال بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب ,لنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملئاكة إذ
الغضب غول العقل وبين من يمتثل المر بالظاهر ,ثم يقول ليس الكلب بصورته بل بمعناه وهو السبعة والضراوة ,وإذا كان
حفظ البيت الذيِ هو مقر الشخص والبدن واجبا ل عليه أن يحفظ صورة الكلبية ,فلن يجب حفظ بيت القلب وهو مقر الجوهر
الحقيقي الخاص عن سر الكلبية كان أولى ,فإن من يجمع بين الظاهر والباطن جميعا ل فهذا هو الكامل ,ل يسمح لنفسه بترك حد
من حدود الشرع مع كمال البصيرة .
ل
فهذه مغلطة ,منها ما وقع لبعض السالكين في إباحة طي بساط الحكام ظاهرا حتى ربما ترك أحدهم الصلة وزعم انه دائام الصلة
بسره ,وهذا اشد مغلطة الحمقاء من الباحية الذين تأخذهم ترهات كقول بعضهم :إن ا غني عن عملنا .وقول بعضهم :إن
الباطن مشحون بالخبائاث ليس يمكن تزكيته منها ول مطمع في استئاصال الغضب والشهوة بظنه أنه مأمور باستئاصالها ,فهذه
حماقات .وأما ما ذكرناه فهو ككبوة جواد وهفوة سالك صده الشيطان فدله بحبال الغرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول :
ظاهر خلع النعلين منبه على
ص 303
ترك الكونين ,فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة ,ولكل حق حقيقة ,وأهل ه 1ه الرتبة هم الذين بلغوا درجة
الزجاجة ,كما سيأتي معنى الزجاجة لن الخيال الذيِ من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب السرار ويحول بينك وبين
النوار ,ولكن إذا صفا صار كالزجاج الصافي ,وصار غير حائال عن النوار بل صار مع ذلك مؤديا ل للنوار ,بل صار مع ذلك
حافظا ل للنوار عن النطفاء بعواصف الرياح ,فستأتيك قصة الزجاجة .فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلى صار في حق
النبياء عليهم السلم زجاجة ,ومشكاة للنوار ,ومصفاة للسرار ,ومرقاة إلى العالم العلى .وبهذا يعرف أن المثال الظاهر
حق ووراء هذا سر .وقس عليه الضوء والنهار وغيره .
ل
دقيقة :إذا قال عليه الصلة والسلم )) :رأيت عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة حبوا (( ,فل تظن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك
بل رآه في يقظته كما يراه النائام في نومه ,وإن كان عبد الرحمن بن عوف نائاما ل في البيت بشخصه ,فإن النوم إنما أثر في أمثال
هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن اللهي فإن الحواس شاغلة وجاذبة إلى عالم الحس وصارفة وجهه عن
عالم الغيب والملكوت ,وبعض النوار النبوية قد تصفى وتستولى بحيث ل تجذبه الحواس إلى عالمها ,ول تشغله فيشاهد في
اليقظة ما يشاهده غيره في المنام لكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة ,بل عبر منها إلى
السر فانكشف له أن اليمان جاذب إلى العالم العلى الذيِ يعبر عنه بالجنة ,والغنى والثروة جاذبة إلى الحياة الحاضرة وهي
العالم السفل ,فإذا كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى مقارنة من الجاذب للخر صد عن السير إلى الجنة فإن كان جاذب اليمان
أقوى أورث عسرال أو بطئاا ل في سيره فيكون مثاله من عالم الشهادة الحبو ,فكذلك تنجلي السرار من وراء زجاجات الخيال وذلك
ل يقصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورال عليه ,بل يحكم به عن كل من قويته بصيرته واستحكم إيمانه
وكثرت ثروته كثرة تزاحم اليمان ,ولكن ل تقاومه لرجحان قوة اليمان ,فهذا يعرفك كيفية إبصار النبياء الصور ,وكيفية
مشاهدتهم المعاني من وراء الصور ,والغلب أن يكون المعنى سابقا ل إلى المشاهدة الباطنية ,ثم يشرف منه على الروح الخيالي
فينطبع بصورة موازية للمعنى محاكية له ,وهذا الحظ من الوحي في اليقظة يحتاج إلى التأويل كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير ,
والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبه الواحد إلى ستة وأربعين ,والواقع منه في اليقظة نسبته أعظم من ذلك وأظن
أن نسبته نسبه الواحد إلى الثلثة ,فأن الذيِ انكشف لنا أن الخواص النبوية تنحصر شعبها في ثلثة أجناس وهذا واحد من تلك
الجناس الثلثة .
ص 304
القطب الثاني :في بيان مراتب الرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن :
فالول منها :الروح الحساس وهو الذيِ يتلقى ما تورده الحواس إذ كان أصل الروح الحيواني وأوله وبه يصير الحيوان حيوانا ل
وهو موجود للصبي الرضيع .
الثاني :الروح الخيالي وهو الذيِ يكتب ما أوردته الحواس ويحفظه مخزونا ل عنده ليعرضه على الروح العقلي فوق عند الحاجة
إليه .وهذا ل يوجد للصبي الرضيع في بدء نشوئاه ولذلك يولع بالشيء ليأخذه ,فإذا غيب عنه ينساه ول تنازعه نفسه إليه إلى أن
يكبر قليلل بحيث إذا غيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله ,وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض ,
ول يوجد للفراش المتهافت على النار لنه يقصد النار لشغفه بضياء النار فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقى
نفسه عليه فيتأذى به ,لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة وعاوده مرة أخرى بعد مرة ,ولو كان الروح الحافظ المستثبت لما أداه
الحس إليه من اللم لما عاوده بعد أن تضرر به مرة ,فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة فإذا رأيِ الخشبة بعد ذلك هرب .
الثالث :الروح العقلي الذيِ يدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال وهو الجوهر النسي الخاص ول يوجد للبهائام ول الصبيان
,ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين .
الرابع :الروح الفكريِ وهو الذيِ يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف نفسية ثم
استفاد نتيجتين مثلل ألف بينهما مرة أخرى واستفاد نتيجة مرة أخرى ,ول تزال تتزايد كذلك إلى غير نهاية .
الخامس :الروح القدسي النبويِ الذيِ به يختص النبياء وبعض الولياء ,وفيه تنجلي لوائاح الغيب وأحكام الخرة وجملة من
معارف ملكوت السموات والرض ,بل من المعارف الربانية التي تقتصر دونها الروح العقلي والفكريِ وإليه الشارة بقوله تعالى
)) :وكذلك أوحينا إليك روحا ل من أمرنا ما كنت تدريِ ما الكتاب ول اليمان ولكن جعلناه نورال نهديِ به من نشاء من عبادنا وإنك
لتهديِ إلى صراط مستقيم (( الشورى . 52ول يبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طورال آخر يظهر فيه ما ل
يظهر في العقل كما لم يبعد كون العقل طورال وراء التمييز والحساس ينكشف فيه غرائاب وعجائاب يقصر عنها الحساس والتمييز
.فل تجعل أقصى الكمال وقفا ل على نفسك ,وإن أردت مثالل مما تشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر
كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إدراك ويحرم منه بعضهم حتى ل تتميز عندهم اللحان الموزونة من المزحفة .وانظر
ص 305
كيف عظمت قوة الذوق في آخرين حتى استخرجوا منها الموسيقى والغاني وصنوف الدستانات التي منها المحزن ,ومنها
المطرب ,ومنها المنوم ,ومنها المبكى ,ومنها المجنن ,ومنها القاتل ,ومنها الموجب للغشي وإنما تقوى هذه الثار فيمن له
أصل الذوق ,وأما العاطل عن خاصية الذوق فإنه يشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الثار وهو يتعجب من صاحب
الوجد والغشي ولو اجتمع العقلء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه .
فهذا مثال في أمر خسيس لنه قريب إلى فهمك فقس به الذوق الخاص النبويِ ,واجتهد في أن تصير من أهل الذوق بشيء من تلك
الروح فإن للولياء منه حظا ل وافرال ,فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالقيسة التي ذكرناها والتشبيهات التي رمزنا إليها من أهل
العلم بها فأن لم تقدر فل أقل من أن تكون من أهل اليمان بها )) يرفع ا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (( المجادلة
. 11والعلم فوق اليمان ,والذوق فوق العلم ,والذوق وجدان والعلم قياس ,واليمان قبول مجرد بالتقليد وحسن الظن بأهل
الوجدان أو بأهل العرفان ,وإذا عرفت هذه الرواح الخمسة ,فاعلم أنها بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات والحسي
والخيالي منها وإن كان يشارك البهائام في جنسها ,لكن الذيِ للنسان منها نمط آخر أشرف وأعلى وخلقا ل في النسان لغرض آخر
أجلى وأسنى .وأما الحيوانات فلم يخلقا لها ليكونا آلتها في طلب غذائاها وتسخيرها للدميين .وإنما خلقا للدمى ليكونا شبكة له
يقتص بهما في جهة العالم السفل مبادئ المعارف الدينية الشريفة إذ النسان إذا أدرك بالحس شخصا ل معينا ل اقتبس من عقله معنى
عاما ل مطلقا ل كما ذكرنا في مثال عبد الرحمن بن عوف ,فإذا عرفت هذه الرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض المثلة .
بيان أمثلة هذه الية :اعلم أن القول في موازية هذه الرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله
,لكنى أوجز وأقتصر على التنبيه على طريقه ,فأقول :أما الروح الحاس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنوراه خارجة من ثقب
عدة كالعينين والذنين والمنخرين وغيرهما فأوفق مثال له في عالم الشهادة المشكاة .وأما الروح الخيالي فتجد له خواص ثلثة :
إحداها :انه من طينة العالم السفلي الكثيف لن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة وهو على نسبة من
المتخيل من قرب أو من بعد ,ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الجسام أن يحجب عن النوار العقلية المحضة التي تتنزه
عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد .
الثانية :أن هذا الخيال الكثيف إذا صفى ورقق وهذب وضبط صار موازيا ل للمعاني العقلية محاذيا ل لها وغير حائال عن إشراق نور
منها .
ص 306
الثالثة :أن الخيال في بداية أمره محتاج إليه جدال لتنضبط له المعارف العقلية فل تضطرب ول تتزلزل ول تنتشر انتشارال يخرج
عن الضبط إذ تجمع المثالت الخيالية للمعارف العقلية .
وهذه الخواص الثلثة ل تجدها في عالم الشهادة بالضافة إلى النوار المبصرة إل الزجاجة فأنها في الصل من جوهر كثيف لكن
صفى ورقق حتى صار ل يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن النطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة
فهي أولى مثال به .
وأما الثالث :وهو الروح العقلي الذيِ فيه إدراك المعاني الشريفة اللهية فل يخفى عليك وجه تمثيلها وقد عرفت هذا مما سبق من
بيان معنى كون النبياء سراجا ل منيرال.
وأما الرابع :وهو الروح الفكريِ فمن خاصيته أن يبتدئ من أصل واحد ثم يتشعب شعبتين ثم كل شعبة شعبتين ,وهكذا إلى أن
تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية ,ثم يفضى بالخر إلى نتائاج تعود فتصير بذورال لمثالها إذ يمكن أيضا ل تلقيح بعضها بالبعض
فيكون مثاله من هذا العالم الشجرة ,وإذا كانت ثمراتها مادة لتضاعف المعارف وثباتها وبقائاها ,فبالحرى أن ل تمثل بشجرة
السفرجل والتفاح والرمان من جملة سائار الشجار إل بالزيتونة خاصة لن لب ثمرتها هو الزيت الذيِ هو مادة المصابيح ويختص
من بين سائار الدهان بخاصية زيادة الشراف ,وإذا كانت الشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي ل تتناهى ثمرتها إلى حد
محدود أولى أن تسمى – شجرة مباركة – وإذا كانت شعب الفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الضافة إلى الجهات
والقرب والبعد فأولى أن تكون شرقية ول غربية .
وأما الخامس :هو الروح القدسي النبويِ والمنسوب إلى الولياء إذا كان فيه غاية الشراق والصفاء وكانت الروح المفكرة
منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف ,وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه تنبيه
من نفسه بغير مدد من خارج ,فبالحرى أن يعبر عن الصافي القويِ الستعداد بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار إذ الولياء
من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغنى عن مدد النبياء .وفي النبياء من يكاد يستغنى عن مدد الملئاكة فهذا المثال موافق لهذا
القسم وإذا كانت هذه النوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الول وهو كالتوطئاة والتمهيد للخيالي إذ ل يتصور الخيالي إل
موضوعا ل بعده والفكريِ والعقلي يكونان بعدها ,فبالحرى أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة فيكون
المصباح في زجاجة والزجاجة في مشكاة ,وإذا كانت هذه كلها أنوارال بعضها فوق بعض فبالحرى أن تكون نورال على نور فافهم
وا الموفق .
ص 307
خاتمة :هذا مثال إنما يصلح لقلوب المؤمنين أو لقلوب النبياء والولياء ل لقلوب الكفار ,فإن النور يراد للهداية فالمصروف عن
طريق الهدى باطل وظلمة ,بل أشد من الظلمة لن الظلمة ل تهدى إلى الباطل كما تهدى إلى حق ,وعقول الكفار انتكست وكذلك
سائار إدراكاتهم وتعاونت على الضلل في حقهم ,فمثالهم كرجل في بحر لجي يغشاه موج من فوقه وموج من فوقه سحاب ظلمات
بعضها فوق بعض ,والبحر اللجي هو الدنيا بما فيها من الخطار المهلكة والحوادث الرديئاة والمكدرات المعمية ,الموج الول :
موج الشهوات الباعثة إلى الصفات البهيمة والشتغال باللذات الحسية وقضاء الوطار الدنيوية حتى أنهم يأكلون ويتمتعون كما
تأكل النعام والنار مثوى لهم ,أن يكون هذا الموج مظلما ل لن حب الشيء يعمى ويصم .
الموج الثاني :موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر
وبالحرى أن يكون مظلما ل لن الغضب غول العقل وبالحرى أن يكون هو الموج العلى أن الغضب في الكثر مستوءل على
الشهوات ,حتى إذا ماج أذهل عن الشهوات وأغفل ع اللذات فإن الشهوة ل تقاوم الغضب الهائاج أصلل ,وأما السحاب فهو
العتقادات الخبيثة والظنون الكاذبة والخيالت الفاسدة التي صارت حجبا ل بين الكافر وبين اليمان ومعرفة الحق والستضاءة بنور
شمس القرآن والعقل فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس ,وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحرى أن تكون ظلمات
بعضها فوق بعض ,وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الشياء القريبة فضلل عن البعيدة فلذلك تحجب الكفار عن معرفة
عجائاب أحوال النبي صلى ا عليه وسلم مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل ,فبالحرى أن يعبر عنه بأنه إذا أخرج يده لم يكد
يراها ,وإذا كان منبع النوار كلها من النور الول الحق كما سبق ,فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن من لم يجعل ا له نورال فماله
من نور ,ويكفيك هذا القدر من أسرار هذه الية فاقنع.
ص 308
الفصل الثالث
في معنى قوله صلى ا عليه وسلم )) :إن ل سبعين حجابا ل من نور وظلمة لو كشفها لحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره
((
ل
في بعض الروايات سبعمائاة وفي بعضها سبعين ألفا ,فأقول :إن ا تعالى متجل في ذاته بذاته لذاته ويكون الحجاب بالضافة إلى
محجوب ل محالة ,وإن المحجوبين من الخلق ثلثة أقسام منهم :من يحتجب بمجرد الظلمة ,ومنهم :من يحتجب بمجرد النور
المحض ,ومنهم :من يحتجب بنور مقرون بظلمة .وأصناف هذه القسام كثيرة تتحقق كثرتها ,ويمكنني أن أتكلف حصرها
لكنني ل أثق بما يلوح من تحديد وحصر إذ ل يدريِ اهو المراد في الحديث أم ل ,أما الحصر إلى سبعمائاة أو سبعين ألفا ل فلذلك ل
تستقل به إل القوة النبوية مع أن ظاهر ظني أ هذه العداد مذكورة ل للتحديد ,وقد تجريِ العادة بذكر أعداد ول يراد بها الحصر ,
بل التكثير وا أعلم بحقيقة ذلك فهو خارج عن الوسع ,وإنما الذيِ يمكني الن أن أعرفك هذه القسام وبعض أصناف كل قسم
فأقول :
القسم الول :هم المحجوبون بمحض الظلمة وهم الملحدة الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ,وهم الذين يستحبون الحياة
الدنيا على الخرة لنهم ل يؤمنون بالخرة أصلل وهم أصناف .
الصنف الول :تشوق إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله الطبع والطبع صفة مركوزة في الجسام حالة فيها ,وهي مظلمة إذ ليس
لها معرفة وإدراك ول خبر لها من نفسها ول تصور لها وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضا ل .
الصنف الثاني :هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يتفرغوا لطلب السبب بل عاشوا عيشة البهائام فكان حجابهم أنفسهم المركوزة
وشهواتهم المظلمة فل ظلمة أشد من الهوى والنفس .ولذلك قال تعالى )) :افرأيت من اتخذ إلهه هواه (( الجاثية . 23وقال النبي
صلى ا عليه وسلم )) :الهوى أبغض إله عبد إلى ا (( ,وهؤلء ينقسمون فرقا ل :ففرقة زعمت أن غاوة الطلب من الدنيا هي
قضاء الوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم ومشرب وملبس ,فهؤلء عبيد اللذة يعبدونها ويطلبونها
ويعتقدون أن نيلها غاية السعادة رضوا لنفسهم بأن يكونوا بمنزلة البهائام بل كيل ينظر الناس إليهم بعين الحقارة ,وهؤلء
الصناف ل يحصون وكلهم محجوبون عن ا بمحض الظلمة وهي نفوسهم المظلمة ,ول معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع
التنبيه على الجناس ,ويدخل في جملة هؤلء جماعة يقولون
ص 309
بلسانهم ل إله إل ا ولكن ربما حمله على ذلك خوف ,أو استظهار بالمسلمين أو تجمل بهم ,أو استعداد من مالهم ,أو لجل
التعصب لنصرة مذهب الباء ,وهؤلء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فل تخرجهم من الظلمات إلى النور بل
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فأما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئااته وسرته حسناته فهو خارج عن
محض الظلمة وإن كان كثير المعصية .
القسم الثاني :طائافة حجبوا مقرون بظلمة وهم ثلثة أصناف :صنف منشأ ظلمتهم من الحس ,وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال ,
وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة .
الصنف الول :المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائاف ل يخلو واحد منهم عن مجاوزة اللتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوق
إلى معرفة ربه ,وأول درجاتهم عبدة الوثان وآخرهم الثنوية وبينهما درجات .
الطائافة الولى :عبدة الوثان علموا في الجملة أن لهم ردبا يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء
وأنفس من كل نفيس ,ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن يتجاوزوا المحسوس من أنفس الجوهر كالذهب والفضة والياقوت
أشخاصا ل مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة ,فهؤلء محجوبون بنور العزة والجمال من صفات ا وأنواره ,ولكنهم
ألصقوها بالجسام المحسوسة وصدهم عن ذلك النور ظلمة الحس ,فإن الحس ظلمة بالضافة إلى العالم الروحاني كما سبق .
الطائافة الثانية :جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ول شريعة يعتقدون أن لهم ربا وأنه أجمل الشياء وإذا رأوا إنسانا ل في غاية
الجمال أو شجرال أو فرسا ل أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا ,وهؤلء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس وهم ادخل في
ملحظة النور من عبدة الوثان لنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص ول يخصصونه بشخص دون شخص ثم
يعبدون الجمال المطبوع ل المصنوع من جهتهم وبأيديهم .
الطائافة الثالثة :قالوا ينبغي أن يكون ربنا نورانيا ل في ذاته ,بهيا ل في صورته ذا سلطان في نفسه ,مهيبا في حضرته ل يطاق
القرب منه ,ولكن ينبغي أن يكون محسوسا ل إذ ل معنى لغير المحسوس عندهم ,ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا
فهؤلء محجوبون بنور السلطنة والبهاء ,وكل ذلك من أنوار ا تعالى.
الطائافة الرابعة :زعموا أن النار نستولي نحن عليها بالشتغال والطفاء فهي تحت تصرفنا فل تصلح لللهية بل ما يكون بتلك
الصفة أعني السلطنة والبهاء ,ثم نكون نحن
)ص (310
تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصولفا بالعلو والرتفاع ،ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها ،فمنهم من
عبد الشعرى ،ومنهم من عبد المشترى إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات ،فهؤلء
محجوبون بنور العلو والشراق والستيلء وهي أنوار ا تعالى.
الطائافة الخامسة :ساعدت هؤلء في المأخذ ،ولكن قالت ل ينبغي أن يكون ربنا موسولما بالصغر و الكبر بالضافة إلى الجواهر
النورانية .بل ينبغي أن يكون أكبرها فعبدوا الشمس إذ قالوا هي أكبر .فهؤلء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية النوار مقرولنا
بظلمة الحواس.
ضا أنوار ،ول ينبغي أن يكون للرب شريك في الطائافة السادسة :ترقوا من هؤلء فقالوا النور كله ل تنفرد به الشمس بل لغيرها أي ل
نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع النوار .وزعموا أنه رب العالمين والخيرات كلها منسوبة إليه ،ثم رأوا في العالم
شرولرا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيلها له عن الشر فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة وأحالوا العالم إلى النور والظلمة
وربما سموها) :يزان واهرمن( وهم الثنوية فيكفيك هذا القدر تنبيلها على هذا الصنف فهم أكثر من ذلك.
الصنف الثاني :المحجوبون ببعض النوار مقرولنا بظلمة الخيال وهم الذين جاوزوا الحس وأثبتوا وراء المحسوسات أملرا ،لكنهم
لم يمكنهم مجاوزة الخيال فعبدوا موجولدا قاعلدا على العرش وأخسهم رتبة المجسمة ،ثم أصناف الكرامية بأجمعهم ،ول يمكنني
شرح مقالتهم ومذاهبهم فل فائادة للتكثير ،ولكن أرفعهم درجة من نفي الجسمية وجميع عوارضها إل الجهة المخصوصة بجهة
فوق لن الذيِ ل ينسب إلى الجهة ول يوصف بأنه خارج العالم ول داخله لم يكن عندهم موجولدا ،إذ لم يكن متخيلل ولم يدركوا أن
أول درجات المعقولت تجاوز النسبة إلى الجهات والحيزة.
الصنف الثالث :المحجوبون بالنوار اللهية مقرونة بمقاسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إللها سميلعا بصيلرا عاللما قادلرا مريلدا حليا
منزلها عن الجهات ،لكنهم فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم ،وربما صرح بعضهم ،فقال كلمه حروف وأصوات
ككلمنا ،وربما ترقى بعضهم فقال :ل بل هو كحديث نفسنا ول حرف ول صوت ،وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر
والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلل معاني هذه الطلقات في حق ا تعالى ،ولذلك
قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا وإنه طلب وقصد مثل قصدنا ،وهذه مذاهب مشهورة فل حاجة إلى تفصيلها ،وهؤلء
محجوبون بجملة من أنوار مع ظلمة المقايسات العقلية الفاسدة ،فهؤلء كلهم أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة.
)ص (311
القسم الثالث :هم المحجوبون بمحض النوار وهم أصناف ول يمكن إحصاؤهم فأشير إلى ثلثة أصناف منهم:
الصنف الول :عرفوا معنى الصفات تحقيلقا وأدركوا أن إطلق اسم الكلم والرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل
إطلقه على البشر ،فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالضافة إلى المخلوقات كما عرف موسى في جواب قول فرعون:
وما رب العالمين؟ فقالوا :إن الرب المقدس عن معاني هذه الصفات محرك السموات ومدبرها.
الصنف الثاني :ترقوا عن هؤلء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة ،وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى مللكا
فيهم كثرة ،وإنما نسبهم إلى النوار اللهية نسبة الكواكب في النوار المحسوسة ،ثم لح لهم أن هذه السموات في ضمن فلك آخر
يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة ،فالرب هو المحرك للجرم القصى المحتويِ على الفلك كلها إذ الكثرة منفية عنه.
الصنف الثالث :ترقوا عن هؤلء وقالوا :إن تحريك الجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له
وطاعة له وطاعة من عبد من عبيده يسمى مللكا نسبته إلى النوار اللهية المحضة نسبة القمر إلى النوار المحسوسة ،فزعموا أن
الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك ،ويكون الرب تعالى وجد محرلكا للكل بطريق المر ل بطريق المباشرة ،ثم في تفهيم ذلك
المر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الفهام ول يحتمله هذا الكتاب ،فهؤلء أصناف كلهم محجوبون بالنوار المحضة ،وإنما
ضا أن هذا المطاع موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر ليس يحتمل الواصلون صنف رابع تجلى لهم أي ل
هذا الكتاب كشفه ،وأن نسبة الجمر إلى جوهر النار الصرف فتوجهوا من الذيِ يحرك السموات ومن الذيِ أمر بتحريكها ،فوصلوا
إلى موجود ،منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم إذ وجدوه منزلها ومقدلسا عن جميع ما وصفناه من قبل ،ثم هؤلء
انقسموا:
فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلشى ولكن بقي هو ملحلظا للجمال والقدس وملحلظا ذاته في جماله الذيِ
ناله بالوصول إلى الحضرة اللهية ،فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر ،وجاوز هؤلء طائافة منهم خواص الخواص فأحرقتهم
سبحات وجهه العلى وغشيهم سلطان الجلل وانمحقوا وتلشوا في ذاتهم ،ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم لفنائاهم عن أنفسهم ،ولم
يبق إل الواحد الحق وصار معنى قوله) :كل شيء هالك إل وجهه( ]القصص ،[88 :لهم ذولقا وحالل ،وقد أشرنا إلى ذلك في
الفصل الول وذكرنا أنهم كيف أطلقوا التحاد وكيف ظنوه فهذه نهاية الواصلين.
منهم من لم يتدرج في الترقي والعروج عن التفصيل الذيِ ذكرناه ،ولم يطل عليه العروج فسبقوا من أول وهلة إلى معرفة القدس
وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه
)ص (312
فغلب عليهم أولل ما غلب على الخرين آخلرا ،وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر
حسي أو بصيرة عقلية ،ويشبه أن يكون الول طريق الخليل ،والثاني طريق الحبيب صلوات ا وسلمه عليهما ،وا أعلم
بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما.
فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين ول يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين أللفا ،ولكن إذا فتشت
ل تجد واحلدا منهم خارلجا عن القسام التي ذكرناها ،فإنهم إما يحتجون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال وبمقايسة العقل أو
بالنور المحض كما سبق.
فهذا ما حضرني في جواب هذه السئالة مع أن السؤال صادفني ،والفكر منقسم ،والخاطر متشعب ،والهم إلى غ ير ذلك الفن
منصرف ،ومقترحي عليه أن تسأل لي العفو عما طغى به القلم أو زلت به القدم .فإن خوض غمرة السرار اللهية خطيرة،
واستكشاف النوار العلوية من وراء الحجب غير يسير ،والحمد ل رب العالمين ،وصلى ا على سيدنا محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
بسم ا الرحمن الرحيم
رسالة الطير
ذكر العنقاء
اجتمعت أصناف الطيور على اختلف أنواعها وتباين طباعها ،وزعمت أنه ل بد لها من ملك :واتفقوا أنه ل يصلح لهذا الشأن إل
العنقاء وقد وجدوا الخبر عن استيطانها في مواطن الغرب وتقررها في بعض الجزائار فجمعتهم داعية الشوق وهمة الطلب
فصمموا العزم على النهوض إليها ،والستظلل بظلها ،والمثول بفنائاها ،والستسعاد بخدمتها ،فتناشدوا وقالوا:
قوموا إلى الدار من ليلى نحييها نعم ونسألهم عن بعض أهليها
وإذا الشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب وزعمت بلسان الطلب ،بأيِ نواحي الرض أبغي وصالكم ،وأنتم ملوك ما
لمقصدهم نحو.
وإذا هم بمناديِ الغيب يناديِ من وراء الحجب) :ول تلقوا بإيديكم إلى التهلكة( ]البقرة [195 :لزموا أماكنكم ول تفارقوا
مساكنكم ،فإنكم إن فارقتم أوطانكم ،ضاعفتم أشجانكم ،فدونكم والتعرض للبلء والتحلل بالفناء:
)ص (313
إن السلمة من سعدى وجارتها أن ل تحل على حال بواديها
فلما سمعوا نداء التعذر من جناب الجبروت ما ازدادوا إل شولقا وقللقا وتحيلرا وأرلقا ،وقالوا من عند آخرهم:
ولو داواك كل طبيب إنس بغير كلم ليلى ما شفاكا
وزعموا:
إن المحب الذيِ ل شيء يقنعه أو يستقر ومن يهوى به الدار
ثم نادى لهم الحنين ،ودب فيهم الجنون ،فلم يتلعثموا في الطلب اهتزالزا منهم إلى بلوغ الرب .فقيل لهم :بين أيديكم المهامة الفيح
والجبال الشاهقة والبحار المغرقة وأماكن القر ومساكن الحر ،فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ المنية فتخترمكم المنية ،فالحرى بكم
مساكنة أوكار الوطار قبل أن يستدرجكم الطمع ،وإذا هم ل يصغون إلى هذا القول ،ول يبالون ،بل راحلوا وهم يقولون:
فريد عن الخلن في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
فامتطى كل منهم مطية الهمة قد ألجمها بلجام الشوق وقومها بقوام العشق وهو يقول:
انظر إلى ناقتي في ساحة الواديِ شديدة بالسرى من تحت مياد
إذا اشتكت من كلل البين أوعدها ررح القدوم فتحيا عند ميعاديِ
لها بوجهك نور تستضيء به وفي نوالك من أعقابها حاديِ
فرحوا من محجة الختبار ،فاستدرجتهم بحد الضطرار ،فهلك من كان من بلد الحر في بلد البرد ،ومات من كان من بلد البرد
في بلد الحر ،وتصرفت فيهم الصواعق .وتحكمت عليهم العواصف حتى خصلت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك ،ونزلوا
بفنائاه واستظلوا بجنابه ،والتمسوا من يخبر عنهم الملك وهو في أمنع حصن من حمى عزه ،فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان
الحضرة أن يسألهم :ما الذيِ حملهم على الحضور؟
)ص (314
فقالوا :حضرنا ليكون مليكنا ،فقيل لهم :أتعبتم أنفسكم فنحن الملك شئاتم أو أبيتم ،جئاتم أو ذهبتم ،ل حاجة بنا إليكم ،فلما أحسوا
بالستغناء والتعذر أيسوا وخجلوا وخابت ظنونهم فتعطلوا فلما شملتهم الحيرة ،وبهرتهم العزة ،قالوا ل سبيل إلى الرجوع فقد
تخاذلت القوى وأضعفنا الجوى ،فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا ،وأنشئاوا يقولون هذه البيات:
أسكان رامة هل من قرى فقد دفع الليل ضيلفا قنولعا
كفاه من الزاد إن تمهدوا له نظلرا وكللما وسيلعا
هذا وقد شملهم الداء ،وأشرفوا على الفناء ،ولجئاوا إلى الدعاء:
ثمل نشاوى بكأس الغرام فكل غدا لخيه رضيلعا
فلما عمهم اليأس ،وضاقت بهم النفاس تداركتهم أنفاس اليناس وقيل لهم :هيهات فل سبيل إلى اليأس ،فل ييأس من روح ا إل
القوم الخاسرون ،فإن كان كمال الغنى يوجب التعزز والرد فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول ،فبعد أن عرفتم مقداركم في
العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكن فهو دار الكرم ومنزل النعم .فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا عن مساكنة الحسبان
ولوله لما قال سيد الكل وسابقهم" :أحيني مسكيلنا" ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قريلنا ،فلما استأنسوا
بعد أن استيأسوا ،وانتعشوا بعد أن تعبسوا ووثقوا بفيض الكرم واطمأنوا إلى درور النعم سألوا عن رفقائاهم فقالوا :ما الخبر عن
أقوام قطعت بهم المهامة والودية ،أمطلول دماؤهم أم لهم دية؟ فقيل :هيهات هيهات) :ومن يخرج من بيته مهاجلرا إلى ا
ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على ا( ]النساء [100 :اجتبتهم أياديِ الجتباء بعد أن أبادتهم سطوة البتلء) :ول
تقولوا لمن يقتل في سبيل ا أموات بل أحياء( ]البقرة .[154 :قالوا :فالذين غرقوا في لجج البحار ،ولم يصلوا إلى الدار ول إلى
الديار بل التقمتهم لهوات التيار .قيل :هيهات) :ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ا أموالتا بل أحياء( ]آل عمران .[169 :فالذيِ
جاء بهم وأمهاتهم أحياهم ،والذيِ وكل بكم داعية الشوق حتى استقللتم العناء والهلك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم
وقربهم ،فهم حجب
)ص (315
العزة وأستار القدرة) :في مقعد صدق عند مليك مقتدر( ]القمر .[55 :قالوا :فهل لنا إلى مشاهدتهم سبيل؟ قيل :ل ،فإنكم في
حجاب العزة وأستار البشرية ،وأسر الجل وقيده ،فإذا قضيتم أوطاركم وفارقتم أوكاركم ،فعند ذلك تزاورتم وتلقيتم ،قالوا:
والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا؟ قيل :هيهات )ولو أرادوا الخروج لعدوا له عدة ولكن كره ا انبعاثهم فثبطهم( ]التوبة:
.[46ولو أردناهم لدعوناهم ولكن كرهناهم فطردناهم .أنتم بأنفسكم جئاتم أم نحن دعوناكم؟ أنتم اشتقتم أم نحن شوقناكم؟ نحن
أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر ،فلما سمعوا ذلك واستأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية كمل اهتزازهم وتم وثوقهم
فاطمأنوا واستقبلوا حقائاق بدقائاق التمكين ،وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين ،ولتعلمن نبأه بعد حين.
فصل
أترى هل كان بين الراجع إلى تلك الجزيرة وبين المبتدئ من فرق؟ إنما قال :جئانا ملكنا من كان مبتدلئاا ،أما من كان راجلعا إلى
عيشه الصلي )يا أيتها النفس المطمئانة * ارجعي( ]الفجر [28 ، 27 :فرجع لسماع النداء كيف يقال له لم جئات؟ فيقول :لم دعيت
ل بل فيقول لم حملت إلى تلك البلد وهي بلد القربة ،والجواب على قدر السؤال ،والسؤال على قدر التفقه ،والهموم بقدر الهمم.
فصل
من يرتاع لمثل هذه النكت فليجدد العهد بطور الطيرية ،وأريحية الروحانية ،فكلم الطيور ل يفهمه إل من هو من الطيور ،وتجديد
العهد بملزمة الوضوء ،ومراقبة أوقات الصلة ،وخلوة ساعة للذكر فهو تجديد العهد الحلو في غفلة ل بد من أحد الطريقين،
فاذكروني أذكركم ،أو نسوا ا فنسيهم .فمن سلك سبيل الذكر أنا جليس من ذكرني ،ومن سلك النسيان) :ومن يعش عن ذكر
الرحمن نقيض له شيطالنا فهو له قرين( ]الزخرف .[36 :وابن آدم في كل نفس مصحح أحد هاتين النسبتين ول بد يتلوه يوم القيامة
أحد السيماءين .أما يعرف المجرمون بسيماهم أو الصالحون بسيماهم في وجوهم من أثر السجود ،أنقذك ا بالتوفيق ،وهداك إلى
التحقيق ،وطوى لك الطريق ،إنه بذلك حقيق .والحمد ل رب العالمين ،وصلى ا على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين آمين.
)ص (316
الرسالة الوعظية
بسم ا الرحمن الرحيم
مقدمة الرسالة
لقد بلغني عن لسان من أثق به سيرة الشيخ المام الزاهد –حرس ا توفيقه وسمره في مهم دينه -ما قوى رغبتي في مؤاخاته في
ا تعالى رجاء لما وعد ا به عباده المتحابين .وهذه الخوة ل تستدعي مشاهدة الشخاص وقرب البدان ،وإنما تستدعي قرب
القلوب وتعارف الرواح وهي جنود مجندة فإذا تعارفت ائاتلفت ،وها أنا عاقد معه الخوة في ا تعالى ومقترح عليه أن ل يخليني
عن دعوات في أوقات خلوته ،وأن يسأل ا تعالى أن يريني الحق حلقا ،ويرزقني اتباعه ،وأن يريني الباطل باطلل ،ويرزقني
اجتنابه ،ثم قرع سمعي أنه التمس مني كللما في معرض النصح والوعظ .وقولل وجيلزا فيما يجب على المكلف اعتقاده من قواعد
العقائاد.
وعظ النفس
أما الوعظ ،فلست أرى نفسي أهلل له لن الوعظ زكاة نصابها التعاظ ومن ل نصاب له كيف يخرج الزكاة ،وفاقد النور كيف
يستنير به غيره )ومتى يستقيم الظل والعود أعوج( وقد أوحى ا تعالى إلى عيسى ابن مريم صلى ا عليه وسلم" :عظ نفسك فإن
اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي مني" .وقال نبينا صلى ا عليه وسلم" :تركت فيكم واعظين ناطق وصامت".
فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن ل يتعظ بهما فكيف يعظ غيره ،ولقد وعظت بهما نفسي
فصدقت وقبلت قولل وعقلل ،وأبت وتمردت تحقيلقا وفعلل فقلت لنفسي :أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ الناطق ،وأنه
الناصح الصادق ،فإنه كلم ا المنزل الذيِ ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه؟ فقال :نعم .قال ا تعالى) :من كان يريد
الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وهم فيها ل يبخسون * أولئاك الذين ليس لهم في الخرة إل النار وحبط ما صنعوا فيها
وباطل ما كانوا يعملون( ]هود ،[16 ، 15 :فقد وعدك ا تعالى بالنار على إرادة الدنيا ،وكل ما ل يصحبك بعد الموت فهو من
الدنيا ،فهل تنزهت عن إرادة الدنيا أو حبها ،ولو أن طبيلبا نصرانليا وعدك بالموت أو المرض على تناولك ألذ الشهوات لتحاشيتها
واتقيتها .أكان النصراني عندك أصدق من ا تعالى؟ فإن كان ذلك فما أكفرك .أو كان المرض أشد عندك من النار ،فإن كان ذلك
فما أجهلك ،فصدقت ثم ما انتفعت بل أصررت على الميل إلى
)ص (317
العاجلة واستمررت ،ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ الصامت فقلت :قد أخبر الناطق عن الصامت إذ قال تعالى) :إن الموت
الذين تفرون منه فإنه ملقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئاكم بما كنتم تعملون( ]الجمعة .[8 :وقلت لها :هبي أنك ملت
إلى العاجلة أفسلت مصدقة بأن الموت ل محالة آتيك وقاطع عليك كل ما أنت متمسكة به وسالب منك كل ما أنت راغبة فيه وكل ما
هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت ،وقد قال ا تعالى) :أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما
كانوا يمتعون( ]الشعراء .[207 – 205 :أفأنت مخرجة هذا عن جميع ما أنت فيه؟ والحر الحكيم يخرج من الدنيا قبل أن يخرج
منها .واللئام يتمسك بها إلى أن يخرج من الدنيا خائالبا خاسلرا متحسلرا ،فقال :صدقت ،فكان ذلك منها قولل ل تحصيل وراءه إذ لم
تجتهد قط في التزود للخرة كاجتهادها في تدبير العاجل ،ولم تجتهد قط في رضاء ا تعالى كاجتهادها في رضاها بل كاجتهادها
في طلب الخلق ،ولم تستح من ا تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ،ولم تشمر للستعداد للخرة كتشميرها في الصيف ،فإنها
ل تطمئان في أوائال الشتاء ما لم تفرغ من جميع ما تحتاج إليه من آلته مع أن الموت ربما يختطفها ،والشتاء ل يدركها ،والخرة
على يقين ل يتصور أن يختطف منها ،وقلت لها :أل تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر؟
قالت :نعم .قلت :فاعصي ا بقدر صبرك على النار واستعديِ للخرة بقدر بقائاك فيها .فقالت :هذا هو الواجب الذيِ ل يرخص
في تركه إل الحمق ،ثم استمرت على سجيتها فوجدتني كما قال بعض الحكماء :إن في الناس من يموت نصفه ول ينزجر نصفه
الخر ،وما أراني إل منهم ،ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بوعظ الموت والقرآن .رأيت أهم المور التفتيش عن
سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها ،فإن ذلك من العجائاب العظيمة ،فطال عليه تفتيشي حتى وقفت على سببه .وها أن مؤنس
وإياه بالحذر منه .فهو الداء العضال وهو السبب الداعي إلى الغرور والهمال .وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على
القرب .فإنه لو أخبره صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت إلى أسبوع أو أشهر ،لستقام على الطريق المستقيم.
ولترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه مما يتعاطاه ل تعالى ومغرور فيه فضلل عما يعلم أنه ليس ل تعالى ،فانكشف تحقيلقا أن من
أصبح وهو يأمل أن يمسي أو أمسى وهو يأمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف ،ولم يقدر إل على سير ضعيف .فأوصيه
ونفسي بما أوصى به رسول ا صلى ا عليه وسلم حيث قال" :صل صلة مودع" ،ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب .ول
ينتفع بوعظ إل به ،فمن غلب على قلبه في كل صلة أنها آخر صلته ،حضر معه قلبه في الصلة وتيسر له الستعداد بعد
)ص (318
الصلة .ومن عجز عن ذلك فل يزال في غفلة دائامة وغرور مستمر ،وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت فتدركه حسرة الفوت،
وأنا مقترح عليه أن ل يسأل ا تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها ،وقاصر عنها ،وأوصيه أن ل يرضى من نفسه إل
بها ،وأن يحذر من مواقع الغرور ،فإذا وعدت النفس بذلك طالبها بموثق غليظ من ا تعالى ،فإن خداع النفس ل يقف عليه إل
الكياس.
وأما أقل ما يجب اعتقاده على المكلف فهو ما يترجمه قوله ل إله إل ا محمد رسول ا .ثم إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه
في صفات ا تعالى فإنه حي قادر عالم متكلم مريد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس عليه بحث عن حقيقة هذه
الصفات .وأن الكلم والعلم وغيرهما قديم أو حادث ،بل لو لم تخطر له هذه المسألة حتى مات مؤملنا وليس عليه تعلم الدلة التي
حررها المتكلمون .بل كلما حصل في قلبه التصديق بالحق .بمجرد اليمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن ،ولم يكلف رسول ا
صلى ا عليه وسلم أكثر من ذلك .وعلى هذا العتقاد المجمل استمرت العراب وعوام الخلق إل من وقع في بلدة يقرع سمعه
فيها هذه المسائال مقدم الكلم وحدوثه ومعنى الستواء والنزول وغيره فإن لم يأخذ ذلك قلبه وبقي مشغولل بعبادته وعمله فل حرج
عليه وإن أخذ ذلك بقلبه فأقل الواجبات عليه ما اعتقده السلف فيعتقد في القرآن القدم ،كما قال السلف :القرآن كلم ا غير مخلوق،
ويعتقد أن الستواء حق والسؤال عنه مع الستغناء بدعة ،والكيفية فيه مجهولة .فيؤمن بجميع ما جاء به الشرع إيمالنا مجملل من
غير بحث عن الحقيقة والكيفية ،فإن لم ينفعه ذلك وغلب على قلبه الشكال والشك فإن أمكن إزالة شكه وإشكاله بكلم قريب من
الفهام .وإن لم يكن قوليا عند المتكلمين ول مرضليا عندهم ،فذلك كاف ول حاجة به إلى تحقيق الدليل ،بل الولى أن يزال إشكاله
من غير برهان حقيقة الدليل ،فإن الدليل ل يتم إل بدرك السؤال الجواب عنه ،ومهما ذكرت الشبهة فل يبعد أن ينكر بقلبه ويكل
فهمه عن درك جوابه إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب دقيلقا ل يحتمله عقله .ولهذا زجر السلف عن البحث والتفتيش عن الكلم.
وإنما زجروا عنه لضعفاء العوام.
وأما المشتغلون بدرك الحقائاق فلهم خوض غمرة الشكال ومنع الكلم للعوام يجريِ مجرى منع الصبيان من شاطئ نهر جلة خوفال
من الغرق ،ورخصة القوياء فيه تضاهي رخصة الماهر في صنعة السباحة ،إل أن ههنا موضع غرور ومزلة قدم ،وهو أن كل
ضعيف في عقله –راض من ا تعالى في كمال عقله -يظن بنفسه أنه يقدر على إدراج الحقائاق كلها وأنه من جملة القوياء فربما
يخوضون فيغرقون في بحر الجهات حيث ل يشعرون ،فالصواب للخلق كلهم إل الشاذ النادر الذيِ ل تسمح العصار إل بواحد
منهم
)ص (319
أو اثنين سلوك مسلك السلف في اليمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما نزله ا تعالى وأخبر به رسوله من غير بحث وتفتيش
عن الدلة ،بل الشتغال بالتقوى عليه شغل شاغل إذ قال صلى ا عليه وسلم حيث رأى أصحابه يخوضون بعد أن غضب حتى
احمرت وجنتاه" :أبهذا أمرتم تضربون كتاب ا بعضه ببعض انظروا ما أمركم ا به فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا" .فهذا تنبيه
على المنهج الحق ،واستيفاء ذلك شرحناه في كتاب )قواعد العقائاد( فيطلب منه والسلم.
إلجام العوام
عن
علم الكلم
بسم ا الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
الحمد ل الذيِ تجلى لكافة عباده بصفاته وأسمائاه وتاهت عقول الطالبين في بيداء كبريائاه ،وقص أجنحة الفكار دون حمى عزته
وتعالى بجلله عن أن تدرك الفهام كنه حقيقته .واستوفى قلوب أوليائاه وخاصته واستغرق أرواحهم حتى احترقوا بنار محبته
وبهتوا في إشراق أنوار عظمته ،وخرست ألسنتهم عن الثناء على جمال حضرته إل بما أسمعهم من أسمائاهم وصفاته وأنبأهم على
لسان رسوله محمد صلى ا عليه وسلم خير خليقته وعلى أصحابه وعترته.
أما بعد :فقد سألتني أرشدك ا عن الخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلل حيث اعتقدوا في ا
وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والنتقال والجلوس على العرش والستقرار ،وما يجريِ مجراه
مما أخذوه من ظواهر الخبار وصورها ،وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف ،وأردت أن أشرح لك اعتقاد السلف ،وأن
أبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه الخبار ،وأكشف فيه الغطاء عن الحق ،وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب
المساك والكف عن الخوض فيه ،فأجبتك إلى طلبتك متقرلبا إلى ا سبحانه وتعالى بإظهار الحق الصريح من غير مداهنة
ومراقبة جانب ومحافظة على تعصب لمذهب دون مذهب ،فالحق أولى بالمراقبة ،والصدق والنصاف أولى بالمحافظة عليه،
وأسأل ا التسديد والتوفيق وهو بإجابة داعيه حقيق ،وها أنا أرتب الكتاب على ثلثة أبواب:
باب في بيان حقيقة مذهب السلف في هذه الخبار.
وباب في البرهان على الحق فيه مذهب السلف وأن من خالفهم فهو مبتدع.
وباب في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن.
الباب الول
ص 320
فى شرح اعتقاد السلف فى هذه الخبار.
اعلم :أن الحق الصريح الذى ل مراء فيه عند أهل البصائار هو مذهب السلف أعنى مذهب الصحابه والتابعين وها أنا أورد بيانه
وبيان برهانه.
فأقول :حقيقه مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور:
التقديس ,ثم التصديق ،ثم اعتراف بالعجز ،ثم المسال ،ثم الكف ،ثم التسليم لهل المعرفة.
أما التقديس :فأعنى به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية توابعها.
وأما التصديق :فهو اليمان بما قاله صلى ا عليه وسلم وإن ما ذكره حق وهو فيما قاله صادق وأنه حق على الوجه الذى قاله و
أراده.
وأما العتراف بالعجز :فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته.
وأما السكوت :فأن ل يسأل عن معناه و ل يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ،وأنه فى خوضه فيه مخاطر بدينه ،وأنه يوشك
أن يكفر لو خاض فيه من حيث ل يشعر.
وأما اإمساك :فأن ل يتصرف فى تلك اللفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل ل
ينطق إل بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من اليراد والعراب والتصرف والصيغة.
وأما الكف :فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكير فيه.
وأما التسليم لهله :فأن ل يعتقد أن ذلك إن خفى عليه لعجزه فقد خفى على رسول ا )صلى ا عليه و سلم( أو على اللنبياء أو
على الصديقين و الولياء ،فهذه سبع وظائاف اعتقد كافه السلف وجوبها على كل العوام ل ينبغى أن يظن بالسلف الخلف فى شئ
منها ،فلنشرحها وظيفه وظيفه إن شاء ا تعالى:
الوظيفه الولى :التقديس و معناه أنه إذا سمع اليد و الصبع و قوله )صلى ا عليه و سلم(" :إن ا خمر طينة آدم بيده .و إن قلب
المؤمنين بين إصباعين من أصابع الرحمن" ,فينبغى أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الصلى و هو عضو
مركب من لحم و عصب ،و اللحم والعظم و العصب جسم مخصوص و صفات مخصوصه أعنى بالجسم عباره عن مقدار له
طول و عرض و عمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إل بأن يتنجى عن ذلك المكان) ،وقد يستعار هذا اللفظ( أعنى اليد لمعنى
آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلل كما يقال :البلده فى
ص 321
يد المير فإن ذلك مفهوم وإن كان المير مقطوع اليد مثلل فعلى العامى و غير العامى أن يتحقق قطعا ل و يقينا ل أن رسول ا )صلى
ا عليه وسلم( لم يرد بذلك جسما ل هو عضو مركب من لحم و دم وعظم ،و أن ذلك فى حق ا تعالى محال وهو عنه مقدس ،فإن
خطر بباله أن ا جسم مركب من أعضائاه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق ،وعبادة المخلوق كفر ،وعبادة الصنم كانت
كفرال لنه مخلوق ،وكان مخلوقا ل لنه فمن عبد جسما ل فهو بإجماع الئامه السلف منهم والخلف .سواء كان ذلك الجسم كثيفا ل كالجبال
الصم الصلب ،أو لطيفا ل كالهواء والماء ،وسواء كان مظلما ل كالرض أو مشرقا ل كالشمس والقمر والكواكب .أو مشفا ل ل لون له
كالهواء ،أو عظيما ل كالعرش والكرسى والسماء ،أو صغيرال كالذرة والهباء ،أو جمادال كالحجارة ،أو حيوانا ل كالنسان .فالجسم صنم
فإن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلله عما يوجب الحدوث،
وليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعانى ليس بجسم ول عرض فى جسم يليق ذلك المعنى بال تعالى ،فإن ل يدرى ذلك
ل ،فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه بل واجب عليه أن ل يخوض المعنى ول يفهم كنه حقيقته فليس عليه فى ذلك تكليف أص ل
فيه كما سيأتى.
مثال آخر :إذا سمع الصورة فى قوله )صلى ا عليه و سلم( " :إن ا خلق آدم على صورته""،وإنى رأيت ربى فى
أحسن صورة" فينبغى أن يعلم أن الصوره اسم مشترك قد يطلق ويراد به الهيئاة الحاصلة فى أجسام م{لفة مرتبة ترتيبا ل مخصوصا ل
مثل النف والعين والفم والخد التى هى أجسام وهى لحوم وعظام ،وقد يطلق ويراد به ما ليس بجسم ول هيئاة فى جسم ول هو
ترتيب فى أجسام .كقولك عرف صورته وما يجرى مجراه ،فليتحقق كل مؤمن أن الصورة فى حق ا لم تطلق لرادة المعنى
الول الذى هو جسم لحمى وعظمى مركب من أنف وفم وخد ،فإن جميع ذلك أجسام وهيئاات فى أجسام ،وخالق الجسام والهيئاات
كلها منزه عن متشابهتها وصفاتها ،وإذا علم هذا يقينا ل فهو مؤمن فإن خطر له أنه إن لم يرد هذا المعنى فما الذى أراده فينبغى أن
يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بأن ل يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته ،لكن ينبغى أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلل ا
وعظمته بما ليس بجسم ول عرض فى جسم.
مثال آخر :إذا قرع سمعه النزول فى قوله )صلى ا عليه و سلم(" :ينزل ا تعالى فى كل ليلة إلى السماء الدنيا" .فالواجب عليه
أن يعلم أن النزول اسم مشترك قد يطلق إطلقا ل يفتقر فيه إلى ثلثة أجسام :جسم عال هو مكان لساكنه ،وجسم سافل كذلك ،وجسم
منتقل من السافل
ص 322
إلى العالى ومن إلى العالى إلى السافل،
صفحة :322
إلى العالى ومن العالى إلى السافل ،فإن كان من أسفل إلى علو سمى صعودال وعروجا ل ورقيلا ،وإن كان من علو إلى أسفل سمى
نزولل وهبوطلا ،وقد يطلق على معنى آخر ول يفتقر فيه إلى تقدير انتقال وحركة فى جسم ،كما قال ا تعالى} :دودأندزدل دلاكم رَملن
الدلندعاهم دثدماهنديدة أدلزدواءج{ ]الزمر .[6:وما رئاى البعير والبقر نازلل من السماء بالنتقال بل هى مخلوقة فى الرحام ولنزالها معنى ل
محالة ،كما قال الشافعى رضى ا عنه :دخلت مصر فلم يقيموا كلمى ،فنزلت ثم نزلت ثم نزلت فلم يرد به انتقال جسده إلى أسفل
فتحقق المؤمن قطعا ل أن النزول فى حق ا تعالى ليس بالمعنى الول وهو انتقال شخص وجسد من علو إلى أسفل ،فإن الشخص
والجسد أجسام والرب جل جلله ليس بجسم فإن خطر له أنه لم يرد هذا فما الذى أراد فيقال له:أنت إذا عجزت عن فهم نزول
البعير من السماء فأنت عن فهم نزول ا أعجز ،فليس هذا بعشك فادرجى ،واشتغل بعبادتك أو حرفتك واسكت ،واعلم أنه أريد به
معنى من المعانى التى يجوز أن يراد بها النزول فى لغة العرب .ويليق ذلك المعنى بجلل ا تعالى وعظمته وإن كنت ل تعلم
حقيقته وكيقيته.
ومثال آخر :إذا سمع لفظ الفوق فى قوله تعالى }دواهدو اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه{ ]النعام.[18:
وفى قوله تعالى }ديدخاافودن دراباهم رَمن دفلوهقههلم {]النحل .[50:فليعلم أن الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين:
أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والخر أسفل يعنى أن العلى من جانب رأس السفل وقد يطلق لفوقية الرتبة،
وبهذا المعنى يقال :الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الوزير ،وكما يقال :العلم فوق العلم ،والول يستدعى جسما ل ينسب إلى
جسيم.
والثانى :ل يستدعيه فليعتقد المؤمن قطعا ل أن الول غير مراد وأنه على ا تعالى محال ،فإنه من لوازم الجسام أو لوازم أعراض
الجسام وإذا عرف نفى هذا المحال فل عليه إن لم يعرف أنه لماذا أطلق ماذا أريد فقس على ما ذكرناه.
الوظيفة الثانية :اليمان والتصديق وهو أنه يعلم قطعا ل أن هذه اللفاظ أريد بها معنى يليق بجلل ا وعظمته ،وأن رسول ا صلى
ا عليه وسلم صادق فى وصف ا تعالى به ،فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لريب فيه وليقل آمنا
وصدقنا ،وأن ما وصف ا تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذى أراده وعلى الوجه الذى قاله،
وإن كنت ل تقف على حقيقته فإن قلت التصديق إنما يكون بعد التصور ،واليمان إنما يكون بعد التفهم ،فهذه اللفاظ إذا لم يفهم
العبد معانيها كيف يعتقد
صفحة :323
صدق قائالها فيها؟ فجوابك أن التصديق بالمور الجميلة ليس بمحال وكل عاقل يعلم انه أريد بهذه اللفاظ معان ،وأن كل اسم فله
مسمى إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى فيمكنه أن يعتقد كونه صادقا ل مخبرال عنه على ما هو عليه ،فهذا معقول
على سبيل الجمال ،بل يمكن أن يفهم من هذه اللفاظ أمور جميلة غير مفصلة ،ويمكن التصديق كما إذا قال فى البيت حيوان أمكن
أن يصدق دون أن يعرف أنه إنسان أو فرس أو غيره ،بل لو قال فيه شئ أمكن تصديقه وإن لم يعرف ما ذلك الشئ ،فكذلك من
سمع الستواء على العرش فهم على الجملة أنه أريد بذلك نسبة خاصة إلى العرش فيمكنه التصديق قبل أن يعرف أن تلك النسبة
هى نسبة الستقرار عليه أو القبال على خلقه أو الستيلء عليه بالقهر أو معنى آخر من معانى النسبة فأمكن التصديق به ،وإن
قلت فأى فائادة فى مخاطبة الخلق بما ل يفهمون وجوابك أنه قصد بهذا الخطاب تفهيم من هو أهله وهم الولياء والراسخون فى
العلم وقد فهموا ،وليس من شرط من خاطب العقلء أن يخاطبهم بما بفهم الصبيان والعوام بالضافة إلى العارفين كالصبيان
بالضافة إلى البالغين ،ولكن على الصبيان أن يسألوا البالغين عما يفهمونه ،وعلى البالغين أن يجيبوا الصبيان بأن هذا ليس من
شأنكم ولستم من أصله فخوضوا فى حديث غيره فقد قيل للجاهل }:دفالسأ دالولا أدلهدل الرَذلكهر هإن اكناتلم لد دتلعدلامودن {]النحل .[43:فإن كانوا
يطيقوا فهموهم وإل قالوا لهم } :دودما اأوهتياتم رَمن اللهعللهم إهلا دقهليلل {]السراء .[85:فل تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ،وما لكم
وهذا السؤال .هذه معان اليمان بها واجب والكيفية مجهولة أى لكم ،والسؤال عنها بدعة كما قال المام مالك :الستواء معلوم
والكيفية مجهولة واليمان به واجب ،فإذال اليمان بالجمليات التى ليست مفصلة فى الذهن يمكن ولكن تقديسه الذى هو نفى للمحال
ل ،فإن المنفى هى الجسمية ولوازمها ونعنى بالجسم هاهنا الشخص المقدر الطويل العريض عنه ينبغى أن يكون مفص ل
العميق،الذى يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو الذى يدفع ما يطلب مكانه إن كان قويا ل ويندفع وتنحى عن مكانه بقوة دافعة إن كان
ضعيفلا ،وإنما شرحنا هذا الفظ مع ظهوره لن العامى ربما ل يفهم المراد به.
الوظيفة الثالثة :العتراف بالعجز ويجب على كل من ل يقف على كنه هذه المعانى وحقيقتها ولم يعرف تأويلها والمعنى المراد به
أن يقر بالعجز ،فإن التصديق واجب وهو عن دركة عاجز ،فإن ادعى المعرفة فقد ذكب وذها معنى قول مالك :الكيفية مجهولة،
يعنى تفضيل المراد به غير معلوم ،بل الراسخون فى العلم والعارفو من الولياء إن جاوزوا فى المعرفة حدود العوام وجالوا فى
ميدان المعرفة وقطعوا من بواديها أميالل كثيرة فما بقى لهم مما لم يبلغوه بين أيديهم أكثر بل ل نسبة لما طوى عنهم إلى ما كشف
لهم لكثرة المطوى وقلة
صفحة :324
المكشوف بالضافة إليه والضافة إلى المطوى المستور.قال سيد النبياء صلوات ا عليه" :ل أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت
على نفسك" .وبالضافة إلى المكشوف ،قال صلوات ا عليه" :أعرفكم بال أخوفكم ل وأنا أعرفكم بال" .ولجل كون العجز
والقصور ضروريا ل فى آخر المر بالضافة إلى منتهى الحال قال سيد الصديقين :العجز عن درك الدراك إدراك ،فأوائال حقائاق
هذه المعانى بالضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالضافة إلى خواص الخلق ،فكيف ل يجب عليه العتراف بالعجز!.
الوظيفة الرابعة :السكوت عن السؤال وذلك واجب على العوام لن بالسؤال متعرض لما ل يطيقه وخائاض فيما ليس أهلل له ،فإن
سأل جاهلل زاده جوابه جهلل وبما ورطه فى الكفر من حيث ل يشعر ،وإن سأل عارفا ل عجز العارف عن تفهيم بل عجز عن تفهيم
ولده مصلحته فى خروجه إلى المكتب ،بل عجز الصائاغ عن تفهيم النجار دقائاق صناعته ،فإن النجار وإن كان بصيرال بصناعته
فهو عاجز عن دقائاق الصياغة لنه إنما بعلم دقائاق النجر لستغراقه العمر فى تعلمه وممارسته ،فكذلك يفهم الصائاغ الصياغة
أيضا ل لصرف العمر إلى تعلمه وممارسته وقبل ذلك ليفهمه فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التى ليست من قبيل معرفة ا عاجزون
عن معرفة المور اللهية عجز كافة المعرضين عن الصناعان عن فهمها ،بل عجز الصبى الرضيع عن العتذار بالخبز واللحم
لقصور فى فطرته ل لعدم الخبز واللحم ول لنه قاصر على تغذية القوياء ،لكن طبع الضعفاء قاصر عن التغذى به فمن أطعم
الصبى الضعيف اللحم والخبز وأمكنه من تناوله فقد أهلكه ،وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعانى يجب زجرهم ومنعهم
وضربهم بالدرة كما كان يفعله عمر ضى ا عنه بكل من سأل عن اليات المتشابهات ،فقال صلى ا عليه وسلم""فبهذا اأمراتم"
وقال" :إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة السؤال" أو لفظ هذا معناه كما اشتهر فى الخبر .ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رؤوس
المنابر الجواب عن هذه السئالة بالخوض فى التأويل والتفصيل ،بل الواجب عليهم القتصار كما ذكرناه وذكره السلف ،وهو
المبالغة فى التقديس ونفى التشبيه وأنه تعالى منزه عن الجسمية وعوراضها وله المبالغة فى هذا بما أراد حتى يقول :كل ما خطر
ببالكم وهجس فى ضميركم وتصور فى خاطركم فإنه تعالى خالقها وهو منزه عنها وعن مشابهتها وأن ليس المراد بالخبار شيئاا ل
منذ لك ،وأما حقيقة المراد فلستم من أهل معرفتها والسؤال عنها ،فاشتغلوا بالتقوى فما أمركم ا تعالى به فافعلوه وما نهاكم عنه
فاجتنبوه وهذا قد نهيتم عنه فل تسألوا عنه ومهما سمعتم منه شيئاا ل فاسكتوا وقولوا آمنا وصدقنا وما أوتينا من العلم إل قليل ،وليس
هذا من جلمة ما أوتيناه.
صفحة :325
الوظيفة الخامسة :المساك عن التصرف فى ألفاظ واردة يجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الخبار والمساك عن
التصرف فيها من ستة أوحه :التفسير ،والتأويل ،والتصرف ،والتفريع ،والجمع ،والتفريق.
الول :التفسير وأعنى به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها فى العربية أو معناها بالفارسية أو التركية ،بل ل يجوز النطق إل
باللفظ الوارد لن من اللفاظ العربية مال يوجد لها فارسية تطابقها .ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس
باستعارتها للمعانى التى جرت عادة العرب باستعارتها منها .ومنها ما يكون مشتركا ل فى العربية ول يكون فى العجمية كذلك.
أما الول :مثاله لفظ الستواء فإنه ليس له فى الفارسية لفظ مطابق يؤدى بين الفرس من المعنى الذى يؤديه لفظ الستواء بين
العرب بحيث ل يشتمل على مزيد إيهام إذ فارسيته أن يقال":راستا باستان" وهذان لفظان :الول :ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما
يتصور أنه ينحنى ويعوج .والثانى :ينبئ عن سكون وثابت فيما يتصور أو يتحرك ويضطرب وإشعاره بهذه المعانى وإشارته
إليها فى العجمية أظهر من إشعار لفظ الستواء وإشارته إليها ،فإذا تفاوت فى الدلة والشعار لم يكن هذا مثل الول وإنما يجوز
تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذى ل يخالفه بوجه من الوجوه ل بما يباينه أو يخالفه ولو بأدنى شئ وأدقه وأخفاه.
ومثال الثانى :أن الصبع يستعار فى لسان العرب للنعمة يقال لفلن عندى أصبع أى نعمة ومعناها بالفارسية انكشفت وما جرت
عادة العجم بهذه الستعارة ،وتوسع العرب فى التجوز والستعارة أكثر من توسع العجم بل ل نسبة لتوسع العرب إلى جمود
العجم ،فإذا أحسن إرادة المعنى المستعار له فى العرب وسمج ذلك فى العجم نفر القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه ،فإذا
تفاوتا لم يكن التفسير تبديلل بالمثل بل بالخلف ول يجوز التبديل إل بالمثل.
مثال الثالث :العين فإن من فسره بأظهر معانيه ،فيقول هو جسم وهو مشترك فى لغة العرب بين العضو الناصر وبين الماء
والذهب والفضة ،وليس اللفظ اسم وهو مشترك هذا الشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه ،فلجل هذا نرى المنع من
التبديل والقتصار على العربية ،فإن قيل :هذا التفاوت إن ادعيتموه فى جميع اللفاظ فهو غير صحيح إذ ل فرق بين قولك خبز
ونان وبين قولك لحم وكوشت ،وإن اعترف بأن ذلك فى البعض فامنع من التبديل عند التفاوت ل عند التماثل ،فالجواب الحق أن
التفاوت فى البعض ل فى الكل فهل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان فى اللغتين وفى الشتراك
صفحة :326
والستعارة وسائار المور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما ل يجوز وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائاق التفاوت
جليا ل سهلل يسيرال على كافة الخلق بل يكثر فيه الشكال ول يتميز محل التفاوت عن محل التعادل ،فنحن بين أن نحسم الباب
احيتاطا ل إذ ل حاجة ول ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر ،فليت شعرى أى المرين أعزم
واحوط ،والمنظور فيه ذات الله وصفاته وما عندى أن عاقلل متدينا ل ل يقر بأن هذا المر مخطر ،فإن الخطر فى الصفات اللهية
يجب اجتنابه .كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم وللحذر من خلط النساب احتياطا ل لحكم الولية والوراثة
وما يترتب على النسب ،فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم واليسة والصغيرة وعند العزل لن باطن الرحام إنما يطلع عليه
علم الغيوب فإنه يعلم ما فى الحرام ،فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل كنا راكبين متن الخطر فإيجاب العدة حيث ل علوق أهون
من ركوب هذا الخطر ،كما أن إيجاب العدة حكم شرعى فتحريم تبديل العربية حكم * عن ثبت بالجتهاد وترجيح الطريق الول،
ويعلم أن الحتياط فى الخبر عن ا وعن صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الحتياط فى العدة وما ما احتاط به
الفقهاء من هذا القبيل.
أما التصرف الثانى :التأويل ،وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره وهذا إما يقع من العامى نفسه ،أو من العارف مع العامى ،أو من
العارف مع نفسه وبينه وبين ربه ،فهذه ثلثة مواضع.
الول :تأويل العامى على سبيل الشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن ل يحسن السباحة .ولشك فى تحريم
ذلك ،وبحر معرفة ا أبعد غورال وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء ،لن هلك هذا البحر ل حياة بعده وهلك بحر الدنيا ل
يزيل إل الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة البدية فشتان بين الخطرين.
الموضع الثانى :أن يكون ذلك من العالم مع العامى وهو أيضا ل ممنوع ،ومثاله :أن بحر السباح الغواص فى البحر مع نفسه عاجزال
عن السباحة مضطرب القلب والبدن وذلك حرام لنه عرضة لخطر اللهاك فإنه ل يوقى على حفظه فى لجة البحر ،وإن قدر على
حفظه فى القرب من الساحل ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل ل يطيعه ،وإن أمره بالسكون عند التطام المواج وإقبال التماسيح
وقد فغرت فاها لللتقام اضطرب قلبه وبدنه ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته ،وهذا هو المثال الحق للعالم إذا فتح للعامى
باب التأويلت والتصرف فى خلف الظواهر ،وفى معنى العوام الديب النحوى والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم بل كل عالم
سوى المتجردين لعلم السابحة فى بحار المعرفة القاصرين أعمارهم
صفحة :327
عليه ،الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات ،المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائار اللذات ،المخلصين ل تعالى فى العلوم
والعمال ،بجميع حدود الشريعة وآدابها فى القيام بالطاعات وترك المنكرات ،المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير ا تعالى ل،
المستحقرين للدنيا بل الخرة والفردوس العلى فى جنب محبة ا تعالى ،فهؤلء هم أهل الغوص فى بحر المعرفة وهم مع ذلك
كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالذر المكنون والسر المخزون ،أولئاك الذين سبقت لهم من ا
صادواراهلم دودما ايلعلهانودن{ ]القصص.[69: ك ديلعدلام دما اتهكمن ا الحسنى فهم الفائازون }دودرمب د
الموضع الثالث :تأويل العارف مع نفسه فى سر قلبه بينه وبين ربه وهو على ثلثة أوجه ،فإن الذى انقدح فى سره أن المراد من
لفظ الستواء والفوق مثلل إما أن يكون مقطوعا ل به أو مشكوكا ل فيه أو مظنونا ل ظنا ل غالبا ل .فإن كان قطعيا ل فليعتقده ،وإن كان مشكوكا ل
فليجتنبه ول يحكمن على مراد ا ورسوله صلى ا عليه وسلم من كلمه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح ،بل الواجب على
الشاك التوقف ،وإن كان مظنونا ل فاعلم أن للظن متعلقين :أحدهما :أن المعنى الذى انقدح عنده هل هو جائاز فى حق ا تعالى أم هو
محال؟ والثانى :أن يعلم قطعا ل جوزاه ولكن تردد فى أنه هل هو مراده أم ل؟
مثال الول :تأويل لفظ فوق بالعلو المعنوى الذى هو المراد بقولنا السلطان فوق الوزير ،فإنا ل نشك فى ثبوت معناها ل تعالى
ولكن ربما نتردد فى أن لفظ فوق فى قوله }:ديدخاافودن دراباهم رَمن دفلوهقههلم{]النحل .[50:هل أريد به العلو المعنوى أم أريد به معنى أخر
يليق بجلل ا تعالى دون العلو بالمكان الذى هو محال على ما ليس بجسم ول هو صفة فى جسم.
ومثال الثانى :تأويل لفظ الستواء على العرش ،بأنه أراد به النسبة الخاصة التى للعرش ونسبته أن ا تعالى يتصرف فى جميع
العالم ويدبر المر من السماء إلى الرض بوسطة العرش فإنه ل يحدث فى العالم صورة ما لم يحدثه فى العرش ،كما ل يحدث
النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه فى الدماغ .بل ل يحدث البناء صورة البنية ما لم يحدث صورتها فى
الدماغ ،فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذى هو بدنة فربما نتردد فى أن إثبات هذه النسبة للعرش إلى ا تعالى هل جائاز،
إما لوجود فى نفسه أو لنه أجرى به سنته وعادته وإن لم يكن خلفه محالل كما أجرى عادته فى حق قلب النسان بأن ل يمكنه
التدبير إل بواسطة الدماغ ،وإن كان فى قدرة ا تعالى تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الزلية وحقت به الكلمة القديمة
التى هى علمه فصار خلفه ممتنعا ل ل لقصور فى ذات القدرة ولكن لستحالة ما يخالف الرادة القديمة والعلم السابق
صفحة :328
اه دتلبهديل{ ]الحزاب ، 62:الفتح .[23:وإنما ل تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن جدد لهاسانهة ا
ه د
ت لند و
د } : قال ولذلك الزلى،
إرادة أزلية واجبة ،ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالل فى ذاته ،ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب
العلم الولى جهلل ويمنع نفوذ المشيئاة الزلية ،فإذال إثبات هذه النسبة ل تعالى مع العرش فى تدبير المملكة بواسطته إن كان جائازال
ل ،فهل واقع وجودلا؟ هذا مما قد يتردد فيه الناظر وبما يظن وجوده هذا مثال الظن فى نفس المعنى ،والول مثال الظن فى كون عق ل
ل ل
المعنى مرادا باللفظ مع كون المعنى فى نفسه صحيحا جائازا وبينهما فرقان ،لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح فى النفس وحاك ل
فى الصدر فل يدخل تحت الختبار دفعة عن النفس ول يمكنه أن يظن ،فإن للظن أسبابا ل ضرورية ل يمكن دفعها ول يكلف ا
نفسا ل إل وسعها ،لكن عليه وظيفتان:
إحداهماك أن ل يدع نفسه تطمئان إليه جزما ل من غير شعور بإمكان الغلط فيه ،ول ينبغى أن يحكم من نفسه بموجب ظنه حكما
لجازما ل.
والثانى :أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بأن بالستواء كذا ،أو المراد بالفوق كذا ،لنه حكم بما ل يعلم ،وقد قال ا تعالى}:
ك هبهه هعللسم{ ]السراء .[36:لكن يقول :أنا أظن كذا فيكون صادقا ل عن خبره عن نفسه وعن ضميره ،ول يكون س لد د دولد دتلق ا
ف دما لدلي د
حكما ل على صفة ا ول على مراده بكلمه ،بل حكما على نفسه ونبأ عن ضميره ،فإن قيل :وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة
ل
الخلق والتحدث به كما اشتمل ضميره ،وكذلك لو كان قاطعلا ،فهل له أن يتحدث به؟ قلنا :تحدثه به إنما يكون على أربعة أوجه:
فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله فى الستبصار أو مع من هو مستعد للستبصار بذكائاه وفطنته وتجرده لطلب معرفة ا
تعال ،أو مع العامى فإن كان قاطعا ل فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله فى الستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة
مستعد له خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة للمعافر والتظاهر بذكرها مع الوام .فمن
اتصف بهذه الصفات فل بأس بالتحدث معه لن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة ل لغرض آخر يحيك فى صدره أشكال
الظواهر وربما يلقيه فى تأويلت فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر ومنع العلم أهله-علم -كبثه إلى غير أهله،
وأما العامى فل ينبغى أن بحدث به وفى معنى العامى كل من ل يتصف بالفات المذكورة ،بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع
الطعمة القوية التى ل يطيقها .وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار فإن ما ينطوى عليه الذهن من طن وك وقطع ل زالت
النفس تتحدث به ول قدرة على الخلص منه ،فل منع منه ولشك فى منع التحدث
صفحة :329
به مع العوام ،بل هو أولى بالمنع من المقطوع .أما تحدثه مع من هو فى مثل درجته فى المعرفة أو مع المستعد له ففه نظر،
فيحتمل أن يقال هو جائاز ول يزيد على أن يقول أظن كذا وهو صادق ،ويحتمل المنع لنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف
بالظن فى صفة ا تعالى أو فى مراده من كلمه وفيه خطر ،واباحته تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ولم يرد شئ
ك هبهه هعللسم{ ]السراء .[36:فإن قيل يدل على الجواز ثلثة أمور: س دل د من ذلك بل ورد قوله تعالى }:دولد دتلق ا
ف دما دللي د
الول :الدليل الذى دل على إباحة الصدق وهو صادق ،فإنه ليس يخبر إل عن ظنه وهو ظان.
والثانى :أقاويل المفسرين فى القرآن بالحدس والظن ،إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسول صلى ا عليه وسلم بل هو مستنبط
بالجتهاد ولذلك كثرت القاويل وتعارضت.
والثالث:اجماع التابعين على نقل الخبار المتشابهة التى نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر ،وما اشتمل عليه الصحيح الذى نقله العدل
عن العدل فإنهم جوزوا روايته ول يحصل بقول العدل إل الظن.
والجواب عن الول :أن المباح صدق يخشى منه ضرر ،وبث هذه الظنون ل يخلو عن ضرر فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده
جزما ل فيحكم فى صفات ا تعالى بغير علم وهو خطر والنفوس نافرة عن أشكال الظواهر ،فإذا وجد مستروحا ل من المعنى ولو
كان مظنونا ل سكن إليه واعتقد جزملا ،وربما يكون غلطا ل فيكون قد اعتقد فى صفات ا تعالى ما هو الباطل أو حكم عليه فى كلمه
بما لم يرد به.
وأما الثانى :وهو أقاويل المفسرين بالظن فل نسلم ذلك فيما هو من صفات ا تعالى كالستواء والفوق وغيره ،بل لعل ذلك فى
الحكام الفقهية أو فى حكايات أحوال النبياء والكفار والمواعظ والمثال وما ل يعظم خطر الخطأ فيه.
وأما الثالث :فقد قال قائالون ل يجوز أن يعتمده فى هذا الباب إل ما ورد فى القرآن أو تواتر عن الرسول صلى ا عليه وسلم
تواترال بعيد العلم .فأما أخبار الحاد ،فل يقبل فيه ول نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ،ول بروايته عند من يقتصر على
الرواية ،لن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه ،وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درك عليه السلف ،فإنهو قبلوا هذه
الخبار من العدول ورووها وصححوها فالجواب من وجهين:
أحدهما :أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه ل يجوز اتهام العدل بالكذب لسيما فى صفات ا تعالى ،فإذا روى
الصديق رضى ا عنه خبرلا ،وقال سمعت رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول كذا فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو
إلى السهو فقبلوه وقالوا:
صفحة 330
قال أبو بكر ،قال رسول ا صلى ا عليه وسلم قال أنس قال رسول ا صلى ا عليه وسلم وكذا في التابعين ،فالن إذا ثبت
عندهم بأدلة الشرع أنه لسبيل إلى اتهام العدل التقى من الصحابة رضي ا عنهم أجمعين ،فمن أين يجب أن ليتهم ظنون الحاد
وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم .فإذا قال الشارع :ماأخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه واظهروه
فل يلزم من هذا أن يقال ماحدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه واظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائاركم ونفوسكم ماقالته ،
فليس هذا في معنى المنصوص ،ولهذا تقول مارواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه وليروى ويحتاط فيه أكثر
مما يحتاط في المواعظ والمثال وما يجريِ مجراها.
والجواب الثاني :أن تلك الخبار روتها الصحابة لنهم سمعوه يقينا فما نقلوا إل تيقنوه والتابعون قبلوه ورووه ،وماقالوا :قال
رسول ا صلى ا عليه وسلم كذا ،بل قالوا :قال فلن قال رسول ا صلى ا عليه وسلم كذا وكانوا صادقين ،وماأهملوا
روايته لشتمال كل حديث على فوائاد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقيا ل يفهمه منه ليس ذلك ظنيا ل في حقه .مثال رواية
الصحابي عن رسول ا صلى ا عليه وسلم قوله ) :ينزل ا تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له ،هل
من مستغفر فأغفر له( ،الحديث .فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذيِ
هو أفضل العبادات ،فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائادة العظيمة ولسبيل إلى إهمالها وليس فيه إل إيهام لفظ النزول عند
الصبي ،والعامي الجاريِ مجرى الصبي ،وماأهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول
بأن يقول له :إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا فأيِ فائادة في نزوله ،ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك
وهو على العرش أو على السماء العليا ،فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع
شخص في المغرب ومناداته ،فيتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه ليسمع ،فيكون نقله القدام عملل باطلل
وفعلل كفعل المجانين ،فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ،بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ،
وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه واستحالة النتقال على غير الجسام كاستحالة النزول من غير انتقال ،فإذال الفائادة في نقل
هذه الخبار عظيمة والضرر يسير ،فأنى يساويِ هذا حكاية الظنون المنقدحة في النفس ،فهذه سبل تجاذب طرق الجتهاد في
إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع ،وليبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر إلى قرائان حال السائال والمستمع ،فإن علم أنه ينتفع به
ذكره ،وإن علم أنه يتضرر تركه ،وإن ظن أحد المرين كان ظنه كالعالم في إباحة الذكر ،وكم من إنسان لتتحرك داعيته باطنا ل
إلى معرفة هذه المعانى وليحيك في نفسه إشكال من ظواهرها ،فذكر
=========================================
صفحة 331
التأويل معه مشوش ،وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاد في الرسول صلى ا عليه وسلم
وينكر قوله الموهم ،فمثل هذا لو ذكر معه الحتمال المظنون بل مجرد الحتمال الذيِ ينبو عنه اللفظ انتفع به ولبأس بذكره معه
فإنه دواء لدائاه ،وإن كان داء في غيره ،ولكن لينبغي أن يذكر على رءوس المنابر لن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر
المستمعين ،وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين ،ولما كان زمان السلف الول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن
التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب ،فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذيِ حرك الفتنة وألقى هذه الشكوك في
القلوب مع الستغناء عنه فباء بالثم .أما الن وقد فشا ذلك في بعض البلد فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لماطة الوهام
الباطلة عن القلوب أظهر واللوم عن قائاله أقل فإن قيل فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون فبماذا يحصل القطع بصحة
التأويل ؟ قلنا بأمرين :
أحدهما :أن يكون المعنى مقطوعا ل ثبوته ل تعالى كفوقية المرتبة.
الثاني :أن ليكون اللفظ محتملل إل لمرين وقد بطل أحدهما وتعين الثاني مثاله قوله تعالى ) :دواهدو اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه( )النعام:
. (18فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق ليحتمل إل فوقية المكان أو فوقية الرتبة ،وقد بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس
لم يبق إل فوقية الرتبة كما يقال :السيد فوق العبد ،والزوج فوق الزوجة ،والسلطان فوق الوزير ،فال فوق عباده بهذا المعنى
وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق وأنه ليستعمل لسان العرب إل في هذين المعنيين ،أما لفظ الستواء إلى السماء وعلى العرش
ربما لينحصر مفهومه في اللغة هذا النحصار ،وإذا تردد بين ثلثة معان معنيان جائازان على ا تعالى ومعنى واحد وهو الباطل
،فتنزيله على أحد المعنيين الجائازين أن يكون بالظن وبالحتمال المجرد وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل.
ش( .فلينبغي أن يقال التصريف الثالث :الذيِ يجب المساك عنه التصريف ،ومعناه أنه إذا ورد قوله تعالى ):السدتدوى دعدلى اللدعلر ه
مستو ويستويِ ،لن المعنى يجوز أن يختلف لن دللة قوله هو مستو على العرش على الستقرار أظهر من قوله ) :دردفدع
ض دجهميلعا اثام السدتدوى إهدلى ش( ]الرعد [2 :بل هو كقوله ) :دخدلدق دلاكلم دما هفي اللدلر ه ت هبدغليهر دعدمءد دتدرلودندها اثام السدتدوى دعدلى اللدعلر ه الاسدمادوا ه
الاسدماهء( ]البقرة . [29:فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته ،ففي تغيير
التصاريف مايوقع في تغيير الدللت والحتمالت ،فليتجنب التصريف كما يجتنب الزيادة فإن تحت التصرف الزيادة والنقصان.
===========================================
صفحة 332
التصرف الرابع :الذيِ يجب المساك عنه القياس والتفريغ مثل :أن يرد لفظ اليد فل يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرال
إلى أن هذا من لوازم اليد ،وإذا ورد الصبع لم يجز ذكر النملة كما ليجوز ذكر اللحم والعظم والعصب ،وإن كانت اليد
المشهورة لتنفك عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد ،وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك
وإثبات العين والذن عند ورود السمع والبصر ،وكل ذلك محال وكذب وزيادة ،وقد يتجاسر بعض الحمقى من المشبهة الحشوية
فلذلك ذكرناه.
التصرف الخامس :ليجمع بين متفرق ،ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتابا ل في جمع الخبار خاصة ورسم في كل عضو بابا ل
فقال :باب في إثبات الرأس وباب في اليد إلى غير ذلك ،وسماه :كتاب الصفات .فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول ا
صلى ا عليه وسلم في أوقات متفرقة متباعدة اعتمادال على قرائان مختلفة تفهم السامعين معاءن صحيحة ،فإذا ذكرت مجموعة
على مثال خلق النسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه وصار الشكال
في أن رسول ا صلى ا عليه وسلم لما نطق بما يوهم خلف الحق أعظم في النفس وأوقع ،بل الكلمة الواحدة يتطرق إليها
الحتمال ،فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متواليا يضعف الحتمال بالضافة إلى الجملة ،ولذلك يحصل
من الظن بقول المخبرين وثلثة مال يحصل بقول الواحد ،بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ماليحصل بالحاد ويحصل
من وكل ذلك نتيجة الجتماع إذ يتطرق الحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائان ،فإذا انقطع الحتمال أو ضعف
فلذلك ليجوز جمع المفترقات.
التصرف السادس :التفريق بين المجتمعات فكما ليجمع بين متفرقة فل يفرق بين مجتمعة ،فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو
لحقة لها مؤثرة في تفهم معناه مطلقا ل ومرجحة الحتمال الضعيف فيه ،فإذا فرقت وفصلت سقطت دللتها مثال قوله تعالى ):دواهدو
اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه( ]النعام . [18 :لتسلط على أن يقول القائال هو فوق ،لنه إذا ذكر القاهر قبله ظهر دللة الفوق على الفوقية
التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة ولفظ القاهر يدل عليه بل يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره ،بل ينبغي أن يقول فوق
عباده لن ذكر العبودية في وصفه في ا فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة إذ ليحسن أن يقال زيد فوق عمر .وقبل أن يتبين
تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ المر بالسلطنة أو بالبوة أو بالزوجية ،فهذه المور يغفل عنها العلماء
فضلل عن العوام ،فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير ،ولجل هذه
الدقائاق بالغ السلف في الجمود والقتصار على موارد التوفيق كما ورد
=======================================
صفحة 333
على الوجه الذيِ ورد وباللفظ الذيِ ورد والحق ماقالوه والصواب مارأوه ،فأهم المواضع بالحتياط ماهو تصرف في ذات ا
وصفاته ،وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الحريات فيما يعظم فيه الخطر وأيِ خطر أعظم من الكفر.
الوظيفة السادسة :في الكف بعد المساك .وأعني بالكف كف الباطن عن التفكير في هذه المور ،فذلك واجب عليه كما وجب
عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ،وهذا أثقل الوظائاف وأشدها وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن أن يخوض
غمرة البحار ،وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ،ولكن ل ينبغي أن تغره نفاسة جواهرها
مع عجزه عن نيلها ،بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائاس البحار فما فاته إل زيادات
وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ،فإن غرق أو التقمه تمساح فإنه أص الحياة .فإن قلت :إن لم ينصرف قلبه من التفكر
والتشوف إلى البحث فما طريقه ؟ قلت :طريقه أن يشغل نفسه بعبادة ا وبالصلة وقراءة القرآن والذكر ،فإن لم يقدر فبعلم آخر
ليناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ،فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ،فإن لم يقدر
فبلعب ولهو وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه العظيم خطره وضرره ،بل لو اشتغل العامي
بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة ا تعالى ،فإن ذلك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك )إهان
ك لهدملن ديدشااء( ]النساء .[116: ك هبهه دوديلغهفار دما ادودن دذل د ا لديلغهفار دأن ايلشدر د د
فإن قلت :العامي إذا لم تكن نفسه إلى العتقادات الدينية إل بدليل ،فهل يجوز أن يكون له الدليل فإن جوزت ذلك فقد رخصت له
في التفكر والنظر ،وأيِ فرق بينه وبين غيره؟
الجواب :أني أجوز له أن يسمع الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الخر ولكن بشرطين :
أحدهما :أن ليزاد معه على الدلة التي في القرآن .والخر :أن ليمارى فيه مرالء ظاهرال وليتفكر فيه إل تفكرال سهلل جليا ل
وليمعن في التفكر وليوغل غاية اليغال في البحث ،وأدلة هذه المور الربعة ماذكر في القرآن.
صادر دودملن ايلخهراج اللدحاي ك الاسلمدع دواللدلب د
ض أداملن ديلمله ا أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله تعالى ) :قالل دملن ديلرازقااكلم همدن الاسدماهء دواللدلر ه
ف ا د
اا( ]يونس . [31:وقوله ) :أدفدللم ديلنظاروا إهدلى الاسدماهء دفلودقاهلم دكلي د ت همدن اللدحرَي دودملن ايددرَبار اللدلمدر دفدسدياقوالودن ا ت دوايلخهراج اللدمرَي د همدن اللدمرَي ه
دبدنليدنادها دودزايانادها دودما دلدها هملن فااروءج ) (6دواللدلر د
ض دمددلددنادها دوأدللدقليدنا هفيدها دردواهسدي دوأدلندبلتدنا هفيدها هملن اكرَل دزلوءج
==============================================
صفحة 334
صيهد ) (9دوالانلخدل دباهسدقا ء
ت ب اللدح ه ت دودح ا ب ) (8دودنازللدنا همدن الاسدماهء دمالء امدبادرلكا دفأ دلندبلتدنا هبهه دجانا ء صدرلة دوهذلكدرى لهاكرَل دعلبءد امهني ء دبههيءج ) (7دتلب ه
ص يلبا ) (25اثام دشدقلقدنا اللدلر د
ض صدبلبدنا اللدمادء د ظهر اللهلندساان إهدلى دطدعاهمهه ) (24أدانا د ضيسد )] ( (10ق .[10-6 :وكقوله ) :دفللديلن ا لددها دطللسع دن ه
ل د ل د
ضلبا ) (28دونخل ) (29دودحدداهئادق غللبا ) (30دوفاهكدهة دوأيبا ( ]عبس . [31-24 :وقوله : ل ا ل ل د دشليقا ) (26فأندبتنا هفيدها دحيبا ) (27دوهعنلبا دوق ل
د د ل د ل ل د د
ت ألدفافا ( ]النبأ .[16-6 :وأمثال ذلك هي قريب من خمسمائاة آية ل ل د جدبادل أدلودتالدا( إلى قوله ) :دودجانا ء ض همدهالدا ) (6دوالل ه )أددللم دنلجدعهل اللدلر د
جمعناها في كتاب جواهر القرآن بها ينبغي أن يعرف الخلق جلل ا الخالق وعظمته لبقول المتكلمين إن العراض حادثة ،وإن
الجواهر لتخلو عن العراض الحادثة ثم الحارث يفتقر إلى محدث ،فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية
يشوش قلوب العوام ،والدللت الظاهرة القريبة من الفهام على مافي القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم
العتقادات الجازمة.
اا لددفدسدددتا( ]النبياء .[22:فإن اجتماع وأما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله تعالى ):لدلو دكادن هفيههدما آدلهدهسة إهال ا
ش دسهبيلل( ]السراء .[42:وقوله المديرين سبب إفساد التدبير ،وبمثل قوله ) :دللو دكادن دمدعاه آدلهدهسة دكدما دياقوالودن إهلذا دللبدتدغلوا إهدلى هذيِ اللدعلر ه
ض( ]المؤمنون . [91:وأما ضاهلم دعدلى دبلع ء ب اكمل إهدلءه هبدما دخدلدق دودلدعدل دبلع ا اا هملن دودلءد دودما دكادن دمدعاه هملن إهدلءه إهلذا دلدذده د تعالى ) :دما ااتدخدذ ا
ل
جمن دعدلى أدلن ديأاتوا هبهملثهل دهدذا اللقالرآدهن دل ديأاتودن هبهملثلههه دودللو دكادن ل س دوالل ه ت اللهلن ا صدق الرسول فيستدل عليه بقوله تعالى ):قالل دلهئاهن الجدتدمدع ه
ض دظههيلرا( ]السراء . [88 :وبقوله ):دفألاتوا هباسودرءة رَمن رَملثلههه( ]البقرة .[23:وقوله ):قالل دفألاتوا هبدعلشهر اسدوءر هملثلههه ضاهلم لهدبلع ء دبلع ا
ا د ل د
ت( ]هود . [13 :وأمثاله ،وأما اليوم الخر :فيستدل عليه بقوله تعالى ) :قادل دملن ايلحهيي الهعظادم دوههدي درهميسم ) (78قلل ايلحهييدها املفدتدرديا ء
د
ك نطفة هملن دمهنيي ايلمنى( إلى قوله : ل د ل ا د د
ك اسلدى ) (36أللم دي ا ل د
ب الهندساان ألن ايتدر دل ل الاهذيِ أدلنشأدها أاودل دمارءة( ]يس . [78،79 :وبقوله ):أديلحدس ا
د د د د
ا ل د
ث دفإهنا دخلقدناكلم هملن ا ل
ب همدن الدبلع ه س إهلن كنتلم هفي درلي ء ا ل ا ك هبدقاهدءر دعدلى أدلن ايلحهيدي اللدملودتى( ]القيامة .[40 ،36 :وبقوله ):ديا أميدها النا ا
ا د س دذله د )أدلدلي د
ت هملن اكرَل دزلوءج دبههيءج( ]الحج .[5 :وأمثال ذلك كثير في القرآن ، د
ت دوألندبدت ل ت دودردب ل ل ل د د
ب( إلى قوله ):دفإهذا ألندزلدنا دعدلليدها الدمادء الهدتاز ل اتدرا ء
فلينبغي أن يزاد عليه.
فإن قيل :فهذه الدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دللتها ،فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الدلة وليمتنعون عنها ،
وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله فإن فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقا ل أو ليسد عليه طريق النظر رأسا ل وليكلف التقليد من
غير دليل.
الجواب :إن الدللة تنقسم إلى مايحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ،وإلى ماهو جلي سابق إلى الفهام
ببادئ الرأيِ من أول النظر مما يدركه
========================================
صفحة 335
كافة الناس بسهولة ،فهذا ل خطر فيه ،ومايفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ،فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ،
وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس وتستضر به الكثرون ،بل أدلة القرآن كالماء الذيِ ينتفع به الصبي الرضيع
والرجل القويِ وسائار الدلة كالطعمة التي ينتفع بها القوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولينتفع بها الصبيان أصلل ،ولهذا قلنا
أدلة القرآن أيضا ل ينبغي أن يصغي إليها إصغاء إلى كلم جلي ول يماريِ في المراء ظاهرال ،وليكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق
النظر ،فمن الجلي أن من قدر على البتداء فهو على العادة أقدر ،كما قال ) :دواهدو الاهذيِ ديلبددأ ا اللدخللدق اثام ايهعيادها دواهدو أدلهدوان دعدلليهه(
]الروم .[27:وأن التدبير لينتظم في دار واحدة بمدبرين ،فكيف ينتظم في كل العالم؟ وأن من خلق علم كما قال تعالى ) :دأل ديلعدلام
دملن دخدلدق( ]الملك . [14 :فهذه الدلة تجريِ للعوام مجرى الماء الذيِ جعل ا منه كل شيء حي ،وماأخذه المتكلمون وراء ذلك
من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ،فهو الذيِ ينبغي أن يتوقى .والدليل
على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة وماثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلم مع سلمة العصر
الول من الصحابة عن مثل ذلك ،ويدل عليه أيضا ل أن رسول ا صلى ا عليه وسلم والصحابة بأجمعهم ماسلكوا في المحاجة
مسلك المتكلمين في تقسماتهم وتدقيقاتهم ل لعجز منهم عن ذلك ،فلو علموا أن ذلك نافع لطنبوا فيه ولخاضوا في تحرير الدلة
خوضا ل يزيد على خوضهم في مسائال الفرائاض.
فإن قيل :إنما أمركو عنه لقلة الحاجة ،فإن البدع إنما نبغت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين ،وعلم الكلم راجع إلى علم معالجة
المرضى بالبدع ،فلما قلت في زمانهم أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ،فالجواب من وجهين.
أحدهما :أنهم في مسائال الفرائاض مااقتصروا على بيان حكم الوقائاع ،بل وضعوا المسائال وفرضوا فيها ماتنقضي الدهور وليقع
مثله لن ذلك مما أمكن وقوعه فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه إذ علموا أنه لضرر في الخوض فيه وفي بيان حكم الواقعة قبل
وقوعها ،والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم فلم يتخذوا ذلك صناعة لنهم عرفوا أن الستضرار بالخوض فيه أكثر من
النتفاع ،ولول أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه.
والجواب الثاني :أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى ا عليه وسلم ،وإلى إثبات البعث
مع منكريه ،ثم مازادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائاد على أدلة القرآن ،فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه وعدلوا
إلى السيف
====================================
صفحة 336
والسنان بعد إفشاء أدلة وماركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحريم طريق المجادلة وتذليل طرقها
ومنهاجها ،كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن ليقنعه أدلة القرآن ليقمعه إل السيف والسنان ،فما بعد بيان
ا بيان على أننا ننصف ولننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرال في
إثارة الشكالت وأن للعلج طريقين:
أحدهما :الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ،فإن صلحه بالضافة إلى الكياس وفساده بالضافة إلى
البله وما أقل الكياس وما أكثر البله والعناية بالكثر أولى.
الطريق الثاني :طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ،وذلك مما يقتنع الكثرين وإن كان ليقنع
القلين ،وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والماء تراهم يسلمون تحت ظلل السيوف ثم يستمرون عليه حتى يصير
طوعا ل ماكان في البداية كرها ل ،ويصير اعتقادال جزما ل ماكان في البتداء مرالء وشكا ل ،وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم
وسماع كلم ا ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائان من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ،فإذا كان
كل واحد من العلجين يناسب قوما ل دون قوم وجب ترجيح النفع في الكثر ،فالمعاصرون للطبيب الول المؤيد بروح القدس
المكاشف من الحضرة اللهية الموحي إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالصوب والصلح قطعا ل ،فسلوك
سبيلهم لمحالة أولى.
الوظيفة السابعة :التسليم لهل المعرفة وبيان أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها
ليس منطويا عن رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وعن الصديق ،وعن أكابر الصحابة ،وعن الولياء والعلماء الراسخين ،وأنه
إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته ،فلينبغي أن يقيس بنفسه غيره فلتقاس الملئاكة بالحدادين وليس مايخلو عنه مخادع
العجائاز يلزم منه أن يخلو عنه خزائان الملوك ،فقد خلق الناس أشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائار الجواهر ،فانظر
إلى تفاوتها وتباعد مابينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة ،فكذلك القلوب معادن لسائار جواهر المعارف ،فبعضها معدن النبوة
والولية والعمل ومعرفة ا تعالى ،وبعضها معدن للشهوات البهيمية والخلق الشيطانية ،بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف
والصناعات فقد يقدر الواحد بخفة يده وحذاقة صنعته على أمور ليطمع الخر في بلوغ أوائاله فضلل عن غايته ،ولو اشتغل
بتعلمه جميع عمره .فكذلك معرفة ا تعالى ،بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز ليطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان
على ساحله ،وإلى من يطيق ذلك لكن ليطيق رفع الرجل عن
=============================
صفحة 337
الرض اعتمادال على السباحة ،وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن ل يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائاما ل
في الماء على رجله ،وإلى من يطيق ذلك لكن ل يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة ،وإلى من يطيق ذلك
لكن ليطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذيِ فيه نفائاسه وجوهره ،فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله حذو
القذة بالقذة من غير فرق.
فإن قيل :فالعارفون محيطون بكمال معرفة ا سبحانه حتى لينطويِ عنهم شيء.
قلنا :هيهات فقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد القصى في معاني أسماء ا الحسنى أنه ليعرف ا كنه معرفته إل ا ،
وأن الخلئاق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم ،فإذا أضيف ذلك إلى علم ا سبحانه فما أوتو من العلم إل قليلل ،لكن ينبغي أن
يعلم أن الحضرة اللهية محيطة بكل مافي الوجود إذ ليس في الوجود إل ا وأفعاله ،فالكل من الحضرة اللهية كما أن جميع
أرباب الوليات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر فهم من جملة الحضرة السلطانية ،وأنت لتفهم الحضرة اللهية إل
بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية ،فاعلم أن كل مافي الوجود داخل في الحضرة اللهية ،ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر
خاص وفي فناء قصره ميدان واسع ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا وليمكنون من مجاوزة العتبة ول إلى طرف
الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم ،
وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إل الوزير وحده ،ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على مايريد ويستأثر عنه بأمور
ليطلعه عليها ،فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة اللهية ،فالعتبة التي هي آخر الميدان
موقف العوام ومردهم لسبيل لهم إلى مجاوزتها ،فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل ،وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة
وانسرحوا في الميدان ولهم فيه جولن على حدود مختلفة في القرب والبعد وتفاوت مابينهم كثير ،وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة
وتقدموا على العوام المفترشين .وإما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن يطأها أقدام العارفين وأرفع من أن يمتد
إليها أبصار الناظرين ،بل ليلمح ذلك الجناب الرفيع صغير وكبير إل غض عن الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئاا ل
وهو حسير ،فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلل ،فهذه الوظائاف السبع الواجبة على عوام الخلق
في هذه الخبار التي سألت عنها حقيقة مذهب السلف ،وأما الن فنشغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف.
=======================================
صفحة 338
الباب الثاني
في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف وعليه برهانان :عقلي وسمعي .أما العقلي فاثنان كلي وتفصيلي .أما البرهان الكلي
على أن الحق مذهب السلف فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل.
الول :أن أعرف الخلق بصلح أحوال العباد بالضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلى ا عليه وسلم ،فإن ماينتفع به في الخرة
أو يضر لسبيل إلى معرفته بالتجربة ،كما عرف الطبيب إذ لمجال للعلوم التجريبية إل بما يشاهد على سبيل التكرر ،ومن الذيِ
رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة مانفع وضر وأخبر عنه وليدرك بقياس العقل ،فإن العقول قاصرة عن ذلك ،والعقلء
بأجمعهم معترفون بأن العقل ليهتديِ إلى مابعد الموت وليرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات .لسيما على سبيل
التفصيل والتحديد كما وردت به الشرائاع بل أقروا بجملتهم أن ذلك ليدرك إل بنور النبوة وهي قوة وراء العقل يدرك بها من أمر
الغيب في الماضي والمستقبل أمور لعلى طريق التعرف بالسباب العقلية ،وهذا مما اتفق عليه الوائال من الحكماء فضلل عن
الولياء والعلماء والراسخين القاصرين نظرهم على القتباس من حضرة النبوة المقربين بقصور كل قوة سوى هذه القوة.
الصل الثاني :أنه صلى ا عليه وسلم أفاض إلى الخلق ماأوحى إليه من صلح العباد في معادهم ومعاشهم ،وأنه ماكتم شيئاا ل من
الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق فإنه لم يبعث إل لذلك ،ولذلك كان رحمة للعالمين ،فلم يكن منهما فيه وعرف ذلك علما ل ضروريا ل
من قرائان أحواله في حرصه على إصلح الخلق وشغفه بإرشادهم إلى صلح معاشهم ومعادهم ،فما ترك شيئاا ل مما يقرب الخلق
إلى الجنة ورضاء الخالق إل دلهم عليه وأمرهم به وحثهم عليه ولشيئاا ل مما يقربهم إلى النار وإلى سخط ا إل حذرهم منه ونهاهم
عنه ،وذلك في العلم والعمل جميعا ل.
الصل الثالث :أن أعرف الناس بمعاني كلمه وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسرار الذين شاهدوا الحي والتنزيل
وعاصروه وصاحبوه ،بل لزموه آناء الليل والنهار متشمرين لفهم معاني كلمه وتلقيه بالقبول للعمل به أولل ،وللنقل إلى من
بعدهم ثانيا ل ،وللتقرب إلى ا سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره ،وهم الذين حثهم رسول ا صلى ا عليه وسلم على
ضدر اله المدرأل دسهمدع دمدقادلهتي دفدودعاها دفأ دادادها دكدما دسهمدعها( الحديث .فليت شعريِ أيتهم رسول ا
السماع والفهم والحفظ والداء فقال ) :دن ا
صلى ا عليه وسلم بإخفائاه وكتمانه عنهم حاشا منصب النبوة عن ذلك ،أوياتهم أولئاك الكابر في فهم كلمه وإدراك مقاصده أو
=======================================
صفحة 339
يتهمون في إخفائاه وأسراره بعد الفهم أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته على سبيل المكابرة مع العتراف بتفهيمه
وتكليفه .فهذه المور ليتسع لتقديرها عقل عاقل.
الصل الرابع :أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم مادعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرض لمثل
هذه المور بل بالغوا في زجر من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به على ماسنحكيه عنهم ،فلو كان ذلك من الدين أو كان من مدارك
الحكام وعلم الدين لقبلوا عليه ليلل ونهارال ودعوا إليه أولدهم وأهليهم وتشمروا عن ساق الجد في تأسيس أصوله وشرح قوانينه
تشميرال أبلغ من تشميرهم في تمهيد قواعد الفرائاض والمواريث ،فنعلم بالقطع من هذه الصول أن الحق ماقالوه والصواب ما
س دقلرهني اثام االذيدن ديالودناهلم اثام االذيدن ديالودناهلم( ،وقال
رأوه ،لسيما وقد أثنى عليهم رسول ا صلى ا عليه وسلم وقال ) :دخليار الانا ء
حددة( .فقيل من هم ؟ فقال ) :أدلهال المسانة دوالدجدماعة( .فقال )دما صلى ا عليه وسلم ):دسدتلفدتهراق أ اامهتي دنرَيفا ل دودسلبعيدن فلردقلة الانا ه
جية ملناهلم دوا ه
أددنا دعلدليه الدن دوأد ل
صدحاهبي(
البرهان الثاني :هو التفصيلي .فتقول اادعينا أن الحق هو مذهب السلف وأن مذهب السلف هو توظيف الوظائاف السبع على عوام
الخلق في ظواهر الخبار المتشابهة ،وقد ذكرنا برهان كل وظيفة معها فهو برهان كونه حقا ل فمن يخالف؟ ليت شعريِ يخالف في
قولنا الول أنه يجب على العامي التقديس للحق عن التشبيه ومشابهة الجسام ،أو في قولنا الثاني إنه يجب عليه التصديق واليمان
بما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم بالمعنى الذيِ أراده أو في قولنا الثالث إنه يجب عليه العتراف بالعجز عن درك حقيقة تلك
المعاني ،أو في قولنا الرابع إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيهما وراء طاقته ،أو في قولنا الخامس إنه يجب عليه
إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزياد والنقصان والجمع والتفريق ،أو في قولنا السادس إنه يجب عليه كف القلب عن التذكير
فيه والفكر مع عجزه عنه ،وقد قيل لهم تفكروا في الخلق ولتفكروا في الخالق ،أو في قولنا السابع إنه يجب عليه التسليم لهل
المعرفة من النبياء والولياء والعلماء الراسخين فهذه أمور بيانها برهانها وليقدر أحد على جحدنا وإنكارها إن كان من أهل
التمييز فضلل عن العلماء والعقلء .فهذه هي البراهين العقلية.
النمط الثاني :البرهان السمعي على ذلك ،وطريقه أن نقول :الدليل على أن الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة والبدعة مذمومة
وضللة ،والخوض من جهة العوام في التأويل ،والخوض بهم فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة ،وكان نقيضه وهو الكف عن
ذلك سنة محمودة فها هنا ثلثة أصول :
أحدها :أن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه المور بدعة.
مجموعة رسائال المام الغزالي 34
والثاني :أ ،كل بدعة فهي مذمومة.
والثالث :أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضها وهي السنة القديمة محمودة ول يمكن النزاع في شئ من هذه الصول ،فإذا سلم
ذلك ينتج أن الحق مذهب السلف.
فإن قيل :فبم تنكرون على من يمنع كون البدعة مذمومة أو يمنع كون البحث والتفتيش بدعة فيتنازع في هذين وان لم
ينازع في الثالث لظهورة؟ فتقول :الدليل على إثبات الصل الول من كون البدعة مذمومة اتفاق المة قاطبة على ذم البدعة
وزجر المبتدع وتغيير من يعرف بالبدعة ،وهذا مفهوم على الضرورة من الشرع وذلك غير واقع في محل الظن ،فذم رسول ا
صلى ا عليه وسلم البدعة علم بالتواتر بمجموع اخبار يفيد العلم القطعي جملتها ،وإن كان الحتمال يتطرق إلى آحادها ،وذلك
كعلمنا بشجاعة علي راضى ا عنه ،وسخاوة حاتم ،وحب رسول ا صلى ا عليه وسلم لعائاشة رصى ا عنها وما يجريِ
مجراه ،فإن علم قطعا بأخبار آحاد بلغت في الكثرة مبلغا ل يحتمل كذب ناقليها ،وإن لم تكن آحاد تلك الخبار متواترة ،وذلك
مثل ما روى عن رسول ا صلى ا عليه وسلم أنه قال " :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدى عضوا عليها
بالنواجذ واياكم ومحدثات المور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضللة وكل ضللة في النار " وقال صلى ا عليه وسلم " :
اتبعوا ول تبتدعوا وإنما هلك من كلن قبلكم لما ابتدعوا في دينهم وتركوا سنن انبيائاهم وقالوا بآرائاهم فضلوا وأضلوا" وقال صلى
ا عليه وسلم " :إذا مات صاحب بدعة فقد فتح على السلم فتح" .وقال صلى ا عليه وسلم " :من مشى إلى صاحب بدعة
ليوقره فقد أعان على هدم السلم " .وقال صلى ا عليه وسلم " :من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له في ا مل ا قلبه أمنا
وإيمانا ومن أنتهر صاحب بدعة رفع ا له مائاة درجة ،ومن سلم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر أو استقبله بما يسره فقد
استخف بما انزل على محمد صلى ا عليه وسلم " .وقال صلى ا عليه وسلم " :إن ا ل يقبل لصاحب بدعة صوما ول صلة
ول زكاة ول حجا ول عمرة ول جهادا ول صرفا ول عدل ،ويخرج من السلم كما يخرج السهم من الرمية أو كما تخرج الشعرة
من العجين" .فهذا وأمثاله مما يجاوز حد الحصر أفاد علما ضروريا يكون البدعة مذمومة.
فإن قيل :سلمنا أن البدعة مذمومة ،ولكن ما دليل الصل الثاني وهو أن هذه بدعة فإن البدعة عبارة عن كل محدث ،
قال الشافعي رصى ا عنه الجماعة في التراويح بدعة وهي بدعة حسنة ،وخوض الفقهاء في تفاريع الفقة ومناظرتهم فيها مع ما
ابدعوه من نقص وكر وفساد وضع وتركيب ونحوه من فنون مجادلة والزام كل ذلك مبدع لم يؤثر عن الصحابة شئ من ذلك فدل
على أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة مأثورة ،ول نسلم أن هذا رافع لسنة ثابتة لكنه محدث خاض فيه اللوان إما فشتغالهم لما
هو أهم منه وإما لسلمة القلوب
مجموعة رسائال المام الغزالي
431
في العصر الول عن الشكوك والترددات فاستغنوا لذلك وخاض فيه من بعدهم لمسيس الحاجة ،حيث حدثت الهواء والبدع إلى
إبطالها وإقحام منتحلها؟
الجواب :أما ما ذكرتموه من أن البدعة المذمومة ما رفعت سنة قديمة هو الحق وهذا بدعة رفعت سنة قديمة .إذ كان
سنة الصحابة المنع من الخوض فيه ،وزجر من سأل عنه ،والمبالغة في تأديية ومنعه بفتح باب السؤال عن هذه المسائال ،
والخوض بالعوام في غمرة هذه المشكلت على خلف ما تواتر عنهم ،وقد صح ذلك عن الصحابة بتواتر النقل عند التابعين من
نقلة الثار ،وسير السلف حجة ل يتطرق إليها ريب ول شك كما تواتر خوضهم في مسائال الفرائاض ومشاورتهم في الوقائاع الفقهية
وحصل العلم ايضا باخبار آحاد ل يتطرق الشك إلى مجموعها ،كما نقل عن عمر رضى ا عنه أنه سأل سائال عن آيتين
متشابهتين فعله بالدرة ،وكما روى أنه سأل سائال عن القرآن أهو مخلوق أم ل ،فتعجب عمر من قوله فأخذ بيده حتى جاء به إلى
علي رضى ا عنه فقال :يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل قال :وما يقول يا أمير المؤمنين ؟ فقال الرجل :سألته عن
القرآن أمخلوق هو أم ل ؟ فوجم لها رضى ا عنه وطأطأ رأسه ،ثم رفع رأسه وقال :سيكون لكلم هذا نبأ في أخر الزمان ولو
وليت من أمره ما وليت لضربت عنقه.
وقد روى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن ابى هريرة ،فهذا قول على بحضور عمر وأبي هريرة رضى ا عنه ولم
يقول له ول أحد ممن بلغه ذلك من الصحابة ،ول عرف علي رضى ا عنه في نفسه أن هذا سؤال عن مسألة دينية وتعرف لحكم
كلم ا تعالى وطلب معرفة لصفة القرآن الذيِ هو معجزة دالة على صدق الرسول ،بل هو الدليل المعرف لحكام التكليف ،فلم
يستوجب طالب المعرفة هذا التشديد ،فانظر إلى فراسة على وإشرافه على أن ذلك فرع لباب الفتنة ،وأن ذلك سينتشر في آخر
الزمان الذيِ هو موسم الفتن ومطيتها بوعد رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وانظر إلى تشديده وقوله :ولو وليت لضربت عنقه،
فمثل أولئاك السادة الكابر الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وإطلعوا على أسرارالدين وحقائاقه ،وقد قال صلى ا عليه وسلم في
أحدهما " :لو لم أبعث لبعث عمر" .وقال في الثاني " :أنا مدينة العلم وعلى بابها " يزجرون السائال عن هذا السؤال ،ثم يزعم
من بعدهم من المشغوفين بالكلم والمجادلة وممن لو انفق مثل أحد دهبا ما بلغ مد أحدهم ول نصيفه .أن الحق والصواب قبول هذا
السؤال والخوض في الجواب وفتح هذا الباب ،ثم يعتقد فيه أنه محق ،وفي عمر وعلى أنهما مبطلن .هيهات ما أبعد عن
التحصيل وما أخلى عن الدين من قاس الملئاكة بالحدادين ويرجح المجادلين على الئامة الراشدين والسلف ،فإذا قد عرف على
القطع أن هذه بدعة مخالفة لسنة السلف ل كخوض الفقهاء في التفاريع والتفاصيل ،فإنه ما نقل عنهم زجر عن
مجموعة رسائال المام الغزالي 342
الخوض فيه ،بل إمعانهم في الخوض ،وأما ما أبدع من فنون المجادلت فهي بدعة مذمومةعند أهل التحصيل ذكرنا وجه ذمها
في كتاب قواعد العقائاد من كتب الحياء.وأما مناظرتهم إن كان القصد منها التعاون على البحث عن مأخذ الشرع ومدارك الحكام،
فهي سنة السلف ولقد يتشاورون ويتناظرون في المسائال الفقهية كما أبدعوا الفاظا وعبارات للتنبيه على مقاصدهم الصحيحة فل
حرج في العبارات بل هي يستعبرها ويستعملها ،وأن كان مقاصدهم المذموم من النظر الفحام دون العلم ،واللزام دون
الستعلم ،فذلك بدعة على خلف السنة المأثورة.
الباب الثالث في فصول متفرقة نافعة في هذا الفن
فصل
إن قال قائال :ما الذيِ دعا ا صلى ا عليه وسلم إلى إطلق هذه اللفاظ الموهمة مع الستغناء عنها ،أكان ل يدرى أنه يوهم
التشبيه ويغلط الخلق ويسوقهم إلى اعتقاد الباطل في ذات ا تعالى وصفاته ،وحاشا منصب النبوة أ ،يخفى عليه ذلك ،أو عرف
لكن لم بيال بجهل الجهال وضللة الضلل ،وهذا ابعد واشنع لنه بعث شارحا ل مبهما ،ملبسا ملغزا ،وهذا إشكال له وقع في
القلوب حتى جر بعض الخلق إلى سوء العتقاد فيه فقالوا :لو كان نبيا لعر فال ولو عرفه لما وصفع بما يستحيل عليه في ذاته
وصفاته ،ومالت طائافة أخرى إلى اعتقاد الظواهر ،وقالوا :لو لم يكن حقا لما ذكره كذلك مطلقا ولعدل عنها إلى غيرها أو قرنها
بما يزيل البهام عنها في سبيل حل هذا الشكال العظيم.
الجواب :أن هذا الشكال منحل عند أهل البصيرة ،وبيانه أن هذه الكلمات ما جمعها رسول ا دفعة واحدة وما ذكرها
،وإنما جمعها المشبهة وقد بينا أن لجمعها من التأثير في البهان والتلبيس على الفهام ما ليس لحادها المفرقة ،وإنما هي كلمات
لهج بها في جميع عمره في أوقات متباعدة وإذا اقتصر منها على ما في القرآن والخبار المتواترة رجعت إلى كلمات يسيرة
معدودة ،وإن أضيف إليها الخبار الصحيحة في أيضا قليلة ،وإنما كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التى ل يجوز التعويل عليها ،ثم
ما تواتر منها إن صح معها إبهام التشبيه وقد ادركها الحاضرون المشاهدون ،فإذا نقل اللفاظ مجردة عن تلك القرائان ظهر البهام
،وأعظم القرائان في زوال البهام المعرفة السابقة بتقديس ا تعالى عن قبول هذه الظواهر ،ومن سبقت معرفته بذلك كانت تلك
المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل ما يسمع ،فينمحق معه البهام انمحاقا ل شك فيه ،ويعرف هذا بأمثلة :
الول :أنه صلى ا عليه وسلم سمى الكعبة ببيت ا تعالى ،وإطلق هذا يوهم عند الصبيان وعند
مجموعة رسائال المام الغزالي
343
من تقرب درجتهم منهم أن الكعبة وطنه ومثواه ،لكن العوام الذين اعتقدوا انه في السماء وان استقراره على العرش يتمحق في
حقهم هذا البهام على وجه ل يشكون فيه ،فلو قيل لهم :ما الذيِ دعا رسول ا صلى ا عليه وسلم الى اطلق هذا اللفظ الموهم
المخيل الى السامع ان الكعبة مسكنه لها دورا بأجمهم ،وقالوا :هذا إنما يوهم في حق الصبيان والحمقى ،واما من تكرر على
سمعه ان ا مستقر على عرشه ،فل شك عند سماع هذا اللفظ انه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه ،بل يعلم البديهة أ،
المراد بهذه الضافة تشريف البيت أو معنى سواه غير ما وضع له لفظ المضاف الى ربه وساكنه .أليس كان اعتقاده أنه على
العرش قرينة أفادته علما قطعيا بأنه ما أريد بكون الكعبة بيته أنه مأواه ،وإن هذا أنما يوهم في حق من لم يسبق الى هذه العقيدة
فكذا رسول ا صلى ا عليه وسلم خاطب به بهذه اللفاظ جماعة سبقوا الى علم التقديس ونفى التشبيه وانه منزه عن الجسمية
وعوارضها ،وكان ذلك قرينة قطعية مزيلة للبهام ل يبقى معه شك ،وان جاز أن يبقى لبعضهم تردد في تأويلها وتعيين المراد به
من جملة ما يحتمله اللفظ ويليق بجللة ا تعالى.
المثال الثاني :إذا جرى لفقيه في كلمه لفظ الصور بين يديِ الصبي أو العامي فقال :صورة هذه المألة كذا وصورة الواقعة كذا،
ولقد صورت للمسألة صورة غاية الحسن ربما توههم الصبي أو العامي الذيِ ل يفهم معنى المسألة أن المسألة شئ له صورة وفي
تلك الصورة أنف وفم وعين على ما عرفه والشتهر عنده ،أما من عرف حقيقة المسألة وانها عبارة عن علوم مرتبة ترتيبا
مخصوصا فهل يتصور ان يفهم عينا وأنفا وفما كصورة الجسام؟ هيهات .بل يكفيه معرفته بان المسألة منزهة عن الجسمية
وعوارضها فكذلك معرفة نفى الجسمية عن الله وتقدسه عنها تكون قرينة في قلب كل مستمع مفهمة لمعنى الصورة في قوله خلق
ا ادم على صورته ويتعجب العارف بتقديسه عن الجسمية ممن يتوهم ل تعالى الصورة الجسمية كما يتعجب ممن يتوهم للمسألة
صورة جسمانية.
المثال الثالث :إذا قال القائال بين يديِ الصبي :بغداد في يد الخليفة ربما يتوهم أن بغداد بين اصابعه ،وانه قد احتوى
عليها براحته كما يحتوى على حجره ومدره ،وكذلك كل عامي لم يفهم المراد بلفظ بغداد أما من علم أن بغداد عبارة عن بلدة
كبيرة هل يتصور ان يعترض على قائاله ويقول :لماذا قلت بغداد في يد الخليفة؟ وهذا يوهم خلف الحق ويفضى الى الجهل حتى
يعتقد ان بغداد بين اصابعه بل يقال له :يا سليم القلب هذا انما يوهم الجهل عند من ليعرف حقيقة بغداد فأما من علمه فبالضرورة
يعلم أنه ما اريد بهذه اليد العضو المشتمل على الكف والصابع بل معنى اخر ول يحتاج في فهمه الى قرينة سوى هذه المعرفة ،
فكذلك جميع اللفاظ الموهمة فى الخبار
مجموعة رسائال المام الغزالي 344
يكفى في دفع ابهامها قرينة واحدة موهى معرفة ا ،وأنه ليس من جنس الجسام ،وهذا مما افتتح رسول ا صلى ا عليه وسلم
بنيانه في أول بعثته قبل النطق بهذه اللفاظ.
المثال الرابع :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم في نسائاه " :أطولكن يد أسرعكن لحاقا بي " فكان بعض
نسوته يتعرف الطول بالمساحة ووضع اليد على اليد ،حتى ذكر لهن أنه ازاد بذلك المساحة في الجود دون الطول للعضو ،وكان
رسول ا صلى ا عليه وسلم ذكر هذه اللفظه مع قرينة أفهم بها إرادة الجود بالتعبير يطول اليد عنه ،فلما نقل اللفظ مجردا عن
قرينته حصل البهام ،فهل كان لحد أن يعترض على رسول ا صلى ا عليه وسلم في اطلقه لفظا جهل بعضهم معناه؟ انما ذلك
لنه اطلق اطلقا مفهما في حق الحاضرين مقرونا مثل بذكر السخاوة ،والناقل قد ينقل اللفظ كما سمعه ول ينقل القرينة ،أو كان
يبحث ل يمكن نقلها ،أو ظن أنه ل حاجة إلى نقلها ،وأن من يسمع يفهمه هو كما فهمه هو لما سمعه ،فربما ل يشعر أن فهمه إنما
كان بسبب القرينة ،فذلك يقتصر على نقل اللفظ ،فمثل هذه السباب بقيت اللفاظ مجردة عن قرائانها فقصرت عن التفهيم مع أن
قرينة معرفة التقديس بمجردها كافية في نفى البهام وأن كانت ربما ل تكفى في تعيين المراد به فهذه الدقائاق ل بد من التنبه لها
كالمثال الخامس.
إذا قال القائال بين يديِ الصبي ومن يقرب منه درجة ممن لم يمارس الحوال ،ول عرف العادات في المجالسات فلن
دخل مجمعا وجلس فوق فلن ربما يتوهم السامع الجاهل الغبي انه جلس على رأسه أو على مكان فوق رأسه ،ومن عرف
العادات وعلم أن ما هو أقرب إلى الصدر من الرتبة ،وأن الفوق عبارة عن العلو بقهم منه أنه جلس بجنبه ل فوق رأسه ،لكن
جلس أقرب إلى الصدر ،فالعتراض على من خاطب بهذا الكلم وأهل المعرفة بالعادات من حيث إنه يجهله الصبيان أو الغبياء
اعتراض باطل ل أصل له ،وأمثلة ذلك كثيرة ،فقد فهمت على القطع بهذه المثلة أن هذه اللفاظ الصريحة انقلبت مفهوماتها عن
أوضاعها الصريحة بمجرد قرينة ،ورجعت تلك القرائان الكثيرة التي بعضها هي المعارف ،والواحدة منها معرفتهم أنهم لم يؤمروا
بعبادة الصنام ،أن من عبد جسما فقد عبد صنما كان الجسم صغيرا أو كبيرا ،قبيحا أو جميل ،سافل أو عاليا على الرض أو
على العرش وكان نفى الجسيمة ونفى لوازمها معلوما لكافتهم على القطع بإعلم رسول ا صلى ا عليه وسلم المبالغة في
ل دأنددالدا( )البقرة (22وبألفاظ كثيرة ل س دكهملثلههه دشليسء ( )الشورى (11وسورة الخلص وقوله ) :دفلد دتلجدعالولا ه ا ه التنزيه بقوله ) :لدلي د
حصر لها مع قرائان قاطعة ل يمكن حكايتها ،وعلم ذلك إل علما ل ريب فيه وكان ذلك كافيا في تعريفهم استحالة يد
345 مجموعة رسائال المام الغزالي
هي عضو مركب من لحم وعظم ،وكذا في سائار الظواهر لنها ل تدل إل على الجسمية وعوارضها لو أطلق على جسم ولو أطلق
على غير الجسم على ضرورة أنه ما أريد به ظاهرة بل معنى أخر مما يجوز على ا تعالى ربما يتعين ذلك المعنى وربما ل
يتعين ،فهذا مما يزيل الشكال.
فإن قيل :فلم لم يذكر بألفاظ ناصة عليها بحيث ل يوهم ظاهرها جهل ول في حق العامي والصبي ؟
قلنا :لنه إنما كلم الناس بلغة العرب ،وليس في لغة العرب ألفاظ ناصة على تلك المعاني ،فكيف يكون في اللغة لها نصوص
وواضع اللغة لم يفهم تلك المعاني ،فكيف وضع لها النصوص بل هي معان أدركت بنور النبوة خاصة أو بنور العقل بعد طول
البحث ،وذلك أيضا في بعض تلك المور ل في كلها ،فلما لم يكن لها عبارات موضوعة كان استعارة اللفاظ من موضعات اللغة
ضرورة كل ناطق بتلك اللغة ،كما أنا ل نستغنى عن أن نقول صورة هذه المسألة كذا وهي تخالف صورة المسألة الخرى ،وهس
مستارة من الصور الجسمانية ،لككن واضع اللغه لما لم يضع لهيئاة المسألة وخصوص ترتيبها اسما نصا إما لنه لم يفهم المسألة
أو فهم ،لكن لم تحضره أو حضرته لكن لم يضع لها نصا خاصا اعتمادا على إمكان الستعارة أو لنه علم أنه عاجز عن أن يضع
لكل معنى لفظا خاصا اعتمادا على إمكان الستعارة أو لنه علم أنه عاجز عن أن يضع لكل معنى لفظا خاصا ناصا ،لن المعاني
غير منتاهية العدد والموضوعات بالقطع يحب أن تناهي فتبقى معان لها يجب ان يستعار اسمها من الموضوع ،فاكتفى بوضع
البعض وسائار اللغات اشد قصورا من لغة العرب ،فهذا وأمثاله من الضرورة يدعو إلى الستعارة لمن يتكلم بلغة قوم إذ ل يمكنه
أن عن لغتهم .كيف ،ونحن نجوز الستعارة حيث ل ضرورة اعتمادا على القرائان ،فإن ل نفرق بين أن يقول القائال :جلس زيد
فوق عمرو ،وبين أن يقول جلس أقرب منه إلى الصدر ،وأن بغداد في ولية الخليفة أو في يد إذا كان الكلم مع العقلء ،وليس في
المكان حفظ اللفاظ عن إفهام الصبيان والجهال ،فالشتغال بالحتراز عن ذلك ركاكة في الكلم وسخافة في العقل وثقل في اللفظ.
فإن قيل :فلم لم يكشف الغطاء عن المراد بإطلق لفظ الله ولم يقل إنه موجود ليس بجسم ول جوهر ول عرض ول هو داخل
العالم ول خارجة ول متصل ول منفصل ول هو في مكان ول هو في جهة ،بل الجهات كلها خالية عنه ،فهذا هو الحق عند قوم
والفصالح عنه كذلك ،كما أفصح عنه المتكلمون ممكن ولم يكن في عبارته صلى ا عليه وسلم قصوره ول في رغبته في كشفه
الحق فتور ،ول في معرفته نقصان؟
قلنا :من رأى هذا الحق اعتذر بأن هذا لو ذكره لنفر الناس عن قبوله ،ولبادروا
مجموعة رسائال المام الغزالي 346
بالنكار وقالوا :هذا عين المحال ووقعوا في التعطيل ول خير في المبالغة في تنزيه ينتج التعطيل في حق الكافة إل القلين ،وقد
بعث رسول ا صلى ا عليه وسلم داعيا للخلق الى سعادة الخرة رحمة للعالمين .كيف ينطق بما فيه هلك الكثرين ،بل أمر أن
ل يكلم الناس إل على قدر عقولهم ،وقال صلى ا عليه وسلم " :من حدث الناس بحديث ل يفهمونه كان فتنة على بعضهم" .أو
لفظ هذا معناه.
فإن قيل :إن كان في المبالغة في التنزيه خوف التعطيل بالضافة إلى البعض ففى استعماله اللفاظ الموهمة
خوف التشبيه بالضافة إلى البعض.
قلنا :بينهم فرق من وجهين.
أحدهما :أن ذلك يدعو إلى التعطيل في حق الكثرين ،وهذا يعود إلى التشبيه في حق القلين ،وأهون
الضررين أولى بالحتمال ،وأعلم الضررين أولى بالجتناب.
س دكهملثلههه دشليسء (
والثاني :أن علج وهم التشبيه أسهل من علج التعطيل ،إذ يكفى أن يقال مع هذه الظواهر) :دللي د
)الشورى (11وأنه ليس بجسم ول مثل الجسام واما إثبات موجود في العتقاد على ما ذكرناه من المبالغة في التنزيه شديدا جدا،
بل ل يقبله واحد من اللف ل سيما المة العربية.
فإن قيل :فعجز الناس عن الفهم هل يمهد عذر النبياء في أن يثبتوا في عقائادهم أمورا على خلف ما هي عليها ليثبت
في اعتقادهم أصل اللهية حتى توهموا عندهم مثل أن ا مستقر على العرش وأنه في السماء ،وأنه فوقهم فوقية المكان؟
قلنا :معاذ ا أن نظن ذلك أو يتوهم بنبى صادق أن يصف ا بغير ما هو متصف به ،وأن يلقى ذلك في اعتقاد الخلق،
فإنما تأثير قصور في استعمال اللفاظ مستعارة ربما يغلط الغبياء في فهمهما ،وذلك لقصور اللغات وضرورة الخلق في أن
يذكر لهم ما يطقون فهمه ومال يفهمونه .فكيف عنه علك عجز الخلق وقصورهم ول ضرورة في تفهيمهم خلف الحق قصدا ل
سيما في صفات ا .نعم ،به ضرورة الماورات .فأما تفهيمهم خلف الحق قصدا إلى التجهيل فمحال ،سوء فرض فيه مصلحة
أو لم تفرض.
فإن قيل :قد جهل أهل التشبيه جهل يستند إلى ألفاظه في الظواهر تقضى إلى جهلهم ،فمهما جاء بلفظ مجمل ملبس
فرضي به لم يفترق الحال بين أ ،يكون مجرد قصده إلى التجهيل ،وبين أن يقصد التجهيل مهما حصل التجهيل ،وهو عالم به
وراض.
قلنا :ل نسلم أ ،جهل أهل التشبية حصل بألفاظه ،بل بتقصيرهم في كسب معرفة التقديس وتقديمه على النظر في
اللفاظ ،ولو حصلوا تلك المعرفة أول وقدموها لما
347 مجموعة رسائال المام الغزالي
جهلوها ،كما أن من حصل علم التقديس لم يجهل عند سماعه صورة المسألة ،وإنما الواجب عليهم تحصيل هذا العلم ،ثم مراجعة
العلماء إذا شكوا في ذلك ،ثم كف النفس عن التأويل وإلزامها التقديس ،وإذا رسم لهم العلماء ،فإذا لم يفعلوا جهلوا وعلم الشارع بأن
الناس طباعهم الكسل والتقصير والفضول بالخوض فيما ليس من شانهم ليس رضا بذلك ول سعيا في تحصيل الجهل ،لكنه رضا
س أدلجدمهعيدن( )هود (119 :وقال ) :دودللو ك دلدلمدلدان دجدهاندم همدن الل ه
جانهة دوالانا ه ت دكلهدماة دررَب دبقضاء ا وقدره في قسمته حيث قال ) :دودتام ل
س دحاتى دياكوانولا ض اكلماهلم دجهميلعا أددفدأن د
ت اتلكهرها الانا د ك لدمدن دمن هفي الدلر ه حددلة( )هود ) (118 :دودللو دشاء درمب د س أ ااملة دوا ه ك دلدجدعدل الانا د دشاء درمب د
ا( )يونس ) (100 :لد ديدزاالودن املخدتلههفيدن س دأن اتلؤهمدن إهلا هبإهلذهن ها ء ل
ف د
ن ه ل ن د كاد ما و
د د ) ( 99 يونس ) املؤهمهنيدن(
س ألجدمهعيدن( )هود (119: 118فهذا هو القهر د ا ا ل ا د
ك للملان دجدهندم همدن ال هد د د ا د ل د د د د د ا
جنهة دوالنا ه ك خلقاهلم دوتامت كلهدمة دررَب د ك دولهذله د حدم درمب د
-119إهل دمن ار ه
اللهي في قطرة الخلق ول قدرة للنبياء في تغيير سنته التي ل تبديل لها.
فصل في جواب مالك رضى ا عنه
لعلك تقول الكف عن السؤال والمساك عن الجواب من أين يغنن ،وقد شارع في البلد هذه الختلفات وظهرت التعصبات ،فكيف
سبيل الجواب إذا سئال عن هذه المسائال؟
قلنا :الجواب ما قاله مالك رضى ا عنه في الستواء إذ قال :الستواء معلوم ،الحيث فيذكر هذا الجواب في كل
مسألة سئال عنها العوام لينحسم سبيل الفتنة.
فإن قيل :فإذا سئال الفوق واليد والصبع فبم يجيب.
شقلنا :الجواب أن يقال ما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم وقال ا تعالى وقد صدق حيث قال ) :الارلحدمان دعدلى اللدعلر ه
السدتدوى( )طه (5 :فيعلم قطعا أنه ما أراد الجلوس والستقرار الذيِ هو صفة الجسام ،ول ندريِ ما الذيِ أراده ولم نكلف معرفته
وصدق حيث قال ) :دواهدو اللدقاههار دفلودق هعدباهدهه( )النعام (18 :وفوقيه المكان محال ،فإنه كان قبل المكان فهو الن كما كان ،وما
أراد فلسنا نعرفه وليس علينا ول عليك أيها السائال معرفته فكذلك نقول ول يجوز إثبات اليد ولصبع مطلقا ،بل يجوز النطق بما
نطق به رسول ا صلى ا عليه وسلم على الوجه الذيِ نطق به من غير زيادة ونقصان وجمع وتفريق وتأويل وتفصيل كما سبق،
فتقول صدق حيث قال " :خمر طينة آدم بيده" وحيث قال " :قلب المؤمن بين أصبع من أصابع الرحمن" فتؤمن بذلك ول نزيد
ول ننقص ،وننقله كما روى ونقطع بنفى العضو المركب من اللحم والعصب ،وإذا قيل :القرآن قديم أو مخلوق ؟ قلنا :هو غير
مخلوق لقوله صلى ا عليه وسلم " :القرآن كلم ا غير مخلوق" .فإن قال :الحروف قديمة أو ل؟ قلنا :الجواب في هذه
مجموعة رسائال المام الغزالي 348
المسألة لم يذكرها الصحابة ،فالخوضغ فيها بدعة فل تسألوا عنها ،فإن ابتلى النسان بهم في بلدة غلبت فيها الحشوية وكفروا من
ل يقول بقدم الحروف ،فيقول المضطر إلى الجواب :عنيت بالحروف نفس القرآن فالقرآن قديم ،وإن أردت بها غير القرآن
وصفات ا تعالى فما سوى ا وصفاته محدث ول يزيد عليه ،لن تفهيم العوام حقيقة هذه المسألة عسيرة جدا ،فإن قالوا :قد قال
النبى صلى ا عليه وسلم " :من قرأ حرفا من القرآن فله كذا" فأثبت الحروف للقرآن ووص القرآن بأنه غير مخلوق ،فلزم منه
أن الحروف قديمة .قلنا :ل نزيد على ما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم وهو أن القرىن غير مخلوق وهذه مسالة ثالثة ولم نرد
عليه فل نقول به ،ول نزيد على ما قاله الرسول صلى ا عليه وسلم فأن زعموا أنه يلزم المسألتين السابقتين هذه المسألة .قلنا :
هذا قياس وتفريع ،وقد بينا أن ل سبيل إلى القياس والتفريع ،بل يجب القتصار على ما ورد من غير تفريق ،وكذلك إذا قالوا
عربية القرآن قديمة لنه قال القرآن قديم وقال )دأندزللدناها قالرآلنا دعدرهبلييا( )يوسف (2 :فالعربي قديم فنقول :أما أن القرآن عربي فحق
إذ نطق به القرآن وأما أن القرآن قديم فحق إذ نطق به رسول ا صلى ا عليه وسلم فعلى هذا الوجه يلجم العوام والحشوية على
التصرف فيه ونزمهم عن القياس والقول باللوازم ،بل نزيد في التضييق على هذا ونقول :إذا قال القرآن كلم ا غير مخلوق فهذا
ل يرخص في أن يقول القرآن قديم ما لم يرد لفظ القديم إذ فرق بين غير مخلوق والقديم ،إذ يقال :كلم فلن غير مخلوق أى غير
موضوع ،وقد يقال :المخلوق بمعنى المختلق فلفظ غير مخلوق يتطرق إليه هذا ول يتطرق إلى لفظ القديم ،فبينهما فرق ،نحن
نعتقد قدم القرآن ل بمجرد هذا اللفظ ،فإن هذا اللفظ ل ينبغي أن يحرف ويبدل ويغير ويصرف ،بل يلزم أن يعتقد أنه حق بالمعنى
الذيِ أراه ،وكل من وصف القرآن بأنه مخلوق من غير نقل نص فيه مقصود ،فقد أبدع وزاد ومال عن مذهب السلف وحاد.
فصل في أن اليمان قديم
فإن قيل :من السائال المعروفة قولهم إن اليمان قديم ،فإذا سئالنا عنه فبم نجيب؟
قلنا :إن ملكنا زمام المر واستولينا على السائال منعناه عن هذا الكلم السخيف الذيِ ل جدوى له ،وقلنا :إن هذا بدعة ،وإن كنا
مغلوبين في بلدهم فنجيب ونقول ما الذيِ أردت باليمان؟ أن أردت به شيئاا من معارف الخلق وصفاتهم فجميع صفات الخلق
مخلوقة ،وأن أردت به شيئاا من القرآن أو من صفات ا تعالى فجميع صفات ا تعالى قديمة ،وإن أردت ما ليس صفة للخلق ول
صفة الخالق فهو غير مفهوم ول متصور وما ل يفهم ول
349 مجموعة رسائال المام الغزالي
يتصور ذاته ،كيف يفهم حكمه في القدم والحدوث والصل زجر السائال والسكوت عن الجواب هذا صفو مقصود مذهب السلف
ول عدول عنه إل بضرورة وسبيل المضطر ما ذكرنا فإن وجدناه ذكيا مستفهما لفهم الحقائاق كشفنا الغطاء عن المسألة وخلصناه
عن الشكال في القرآن وقلنا :
اعلم أن كل شئ فله في الوجود أربع مراتب :وجود في العيان ،ووجود في الذهان ،ووجود في اللسان ،ووجود في
البياض المكتوب عليه كالنار مثل ،فإن لها وجودا في التنور ووجودا في الخيال والذهن ،وأعنى بهذا الوجود العلم بنفس النار
وحقيقتها ولها وجود في اللسان وهي الكلمة الدالة عليه ،أعنى لفظ النار ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم .والحراق
صفة خاصة للنار كالقدم للقرآن ولكلم ا تعالى ،والمحرق من هذه الجملة الذيِ في التنور دون الذيِ في الذهان ،وفي اللسان
وعلى البياض إذ لو كان المحرق في البياض أو اللسان لحترق ،ولكن لو قيل لنا :النار محرقة؟ قلنا :ل ،فإن قيل :مرقوم هذه
الحروف على البياض محرقة؟ قلنا :ل ،فإن قيل :المذكور بكلمة النار أو المكتوب بكلمة النار محرق ،قلنا :نعم .لن المذكور
والمكتوب بهذه الكلمة ما في التنور وما في التنور محرق ،فكذلك القد وصف كلم ا تعالى كإلحراق وصف النار وما يطلق
عليه اسم القرآن وجوده على أربع مراتب .أولها :وهي الصل وجوده قائاما بذات ا تعالى يضاهي وجود النار في التنور )دو ه ا ه
ل
اللدمدثال الدلعدلدى()النحل (60 :ولكن ل بد من هذه المثلة في تفهيم العجزة والقدم وصف خاص لهذا الوجود .والثانية :وجوده
العلمي في أذهاننا عند التعليم قبل أن ننطق بلساننا ،ثم وجوده في لساننا بتقطيع اصواتنا ،ثم وجوده في الوراق بالكتب ،فإذا سئالنا
عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به .قلنا :علمنا صفته وهي مخلوقة لكن المعلوم به قديم ،كما أن بالنار وثبوت صورتها
في خيالنا غير محرق لكن المعلوم به محرق ،وإن سئالنا عن صوتنا وحركة لساننا ونطقنا قلنا :ذلك صفة لساننا فلسناننا حادث
وصفته توجد بعده وما هو بعد الحادث حادث بالقطع ،لكن منطوقنا ومذكورنا ومقروءنا ومتلونا بهذه الصوات الحادثة قديم ،كما
أ ،ذكرنا حروف النار بلساننا كان المذكور بهذه الحروف محرفا وأصواتنا وتقطيع أصواتنا غير محرق إل أ ،يقول قائال :حروف
النار عبارة عن نفس النار .قلنا :أن كان كذلك ،فحروف النار محرفة وحروف القرآن إن كان عبارة عن نفس المقروء فهي
قديمة ،وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب به محرق لنه الوراق من غير إحراق واحتراق ،فهذه أربع درجات في الوجود
تشتبه على العوام ل يمكنهم إدراك تفاصيلها وخاصة كل واحدة منهن ،فلذلك ل نخوض
)ص (350
بهم فيها ل لجهلنا بحقيقة هذه المور وكنه تفاصيلها .إن النار من حيث إنها في التنور توصف بأنها محرقة وخامدة ومشتعلة ،ومن
حيث إنها في اللسان يوصف بأنها عجمي وتركي وعربي ،وكثيرة الحروف وقليلة الحروف ،وما في التنور ل ينقسم إلى العجمي
والتركي والعربي ،وما في اللسان ل توصف بالخمود والشتعال ،وإذا كان مكتولبا على البياض يوصف بأنه أحمر وأخضر وأسود
وأنه بقلم المحقق أو الثلث والرقاع ،أو قلم النسخ وهو في اللسان ل يمكن أن يوصف بذلك ،واسم النار يطلق على ما في التنور وما
في القلب وما في اللسان وما على القرطاس ،لكن باشتراك السم فأطلق على ما في التنور حقيقة وعلى ما في الذهن من العلم ل
بالحقيقة ولكن بمعنى أنه صورة محاكية للنار الحقيقي ،كما أن ما يرى في المرآة يسمى إنسالنا ونالرا ل بالحقيقة ولكن بمعنى أنها
صورة محاكية للنار الحقيقي والنسان وما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه بمعنى ثالث ،وهو أنه دللة دالة على ما في الذهن
وهذا يختلف بالصطلحات والول والثاني ل اختلف فيهما ،وما في القرطاس يسمى نالرا بمعنى رابع ،وهو أنها رقوم تدل
بالصطلح على ما في اللسان ومهما فهم اشتراك اسم القرآن والنار ،وكل شيء من هذه المور الربعة ،فإذا ورد الخبر أن
القرآن في قلب العبد وأنه في لسان القارئ وأنه صفة ذات ا صدق بالجميع وفهم معنى الجميع ،ولم يتناقص عند الذكياء وصدق
بالجميع مع الحاطة بحقيقة المراد ،وهذه أمور جلية دقيقة ل أجلى منها عند الفطن الذكي ول أدق ،وأغمض منها البليد الغبي،
فحق البليد أن يمنع من الخوض فيها ويقال له :قل القرآن غير مخلوق واسكت ول تزد عليه ول تنقص ول تفتش ول تبحث ،وأما
الذكي فيروح عن غمه هذا الشكال في لحظة ويوصى بأن ل يحدث العامي به حتى ل يكلفه ما ليس في طاقته ،وهكذا جميع
موضع الشكالت في الظواهر فيها حقائاق جلية لرباب البصائار ملتبسة على العميان من العوام ،فل ينبغي أن يظن بأكابر السلف
عجزهم عن معرفة هذه الحقيقة ،وإن لم يحرروا ألفاظها تحرير صنعة ولكنهم عرفوه وعرفوا عجز العوام فسكتوا عنهم وأسكتوهم
وذلك عين الحق والصواب .ول أعني بأكابر السلف الكابر من حيث الجاه والشتهار ،ولكن من حيث الغوص على المعاني
والطلع على السرار ،وعند هذا ربما انقلب المر في حق العوام واعتقدوا في الشهر أنه الكبر ،وذلك سبب آخر من أسباب
الضلل.
فصل
فإن قال قائال :العامي إذا منع من البحث والنظر لم يعرف الدليل ،ومن لم يعرف الدليل كان جاهلل بالمدلول ،وقد أمر ا تعالى
كافة عباده بمعرفته .أيِ اليمان به والتصديق
)ص (351
ل ل
بوجوده أول ،وبتقديسه عن سمات الحوادث ومتشابهة غيره ثانليا ،وبوحدانيته ثالثا ،وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئاة
وغيرها رابلعا ،وهذه المور ليست ضرورية فهي إلذا مطلوبة .وكل علم مطلوب فل سبيل إلى انتقاصه وتحصيله إل بشبكة الدلة
والنظر في الدلة والتفطن لوجه دللتها على المطلوب ،وكيفية إنتاجها ،وذلك ل يتم إل بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب
المقدمات واستنتاج النتائاج ،ذلك شيلئاا فشيلئاا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلم إلى آخر النظر في المعقولت ،وكذلك يجب
على العامي أن يصدق الرسول صلى ا عليه وسلم في كل ما جاء به ،وصدقه ليس بضروريِ بل هو بشر كسائار الخلق فل بد من
دليل يميزه عن غيره ممن تحدى بالنبوة كاذلبا ول يمكن ذلك إل بالنظر في المعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر
النظر في النبوات وهو لب علم الكلم.
قلنا :الواجب على الخلق اليمان بهذه المور ،واليمان عبارة عن تصديق جازم ل تردد فيه ،ول يشعر صاحبه بإمكان وقوع
الخطأ فيه ،وهذا التصديق الجازم يحصل على ست مراتب.
الولى :وهي أقصاها ما يحصل بالبرهان الستقصى المستوفى شروطه المحرر أصوله ومقدماته درجة درجة وكلمة كلمة حتى ل
يبقى مجال احتمال وتمكن التباس ،وذلك هو الغاية القصوى ،ربما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممن ينتهي إلى تلك
الرتبة ،وقد يخلو العصر عنه ،ولو كانت النجاة مقصورة على مثل المعرفة لقالت النجاة وقال الناجون.
الثانية :أن يحصل بالدلة على الوهمية الكلمية المبنية على أمور مسلمة مصدق بها لشهارها بين أكابر العلماء وشناعة إنكارها
ضا يفيد في بعض المور وفي حق بعض الناس تصديلقا جازلما بحيث ل يشعر ونفرة النفوس عن إبداء المراء فيها ،وهذا الجنس أي ل
صاحبه بإمكان خلفه أصلل.
الثالثة :أن يحصل التصديق بالدلة الخطابية ،أعني القدرة التي جرت العادة باستعمالها في المحاورات والمخاطبات الجارية في
العادات ،وذلك يفيد في حق الكثرين تصديلقا ببادئ الرأيِ وسابق الفهم إن لم يكن الباطن مشحولنا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد على
خلف مقتضى الدليل ،ولم يكن المشنع مشغولفا بتكليف المماراة والتشكك ومنتجلعا بتحديق المجادلين في العقائاد ،وأكثر أدلة القرآن
من هذا الجنس ،فمن الدليل الظاهر المقيد للتصديق قولهم :ل ينتظم تدبير المنزل بمدبرين ،لو كان فيهما آلهة إل ا لفسدتا ،فكل
قلب باق على الفطرة غير مشوش بمماراة يبق من هذا الدليل إلى فهمه تصديق جازم بوحدانية الخالق ،لكن لو شوشه مجادل وقال:
لم يبعد أن يكون العالم بين إلهين يتوافقان
)ص (352
على التدبير ول يختلفان فإسماعه هذا القدر يشوش عليه تصديقه ،ثم ربما يعسر سل هذا السؤال ودفعه في حق بعض الفهام
القاصرة فيستولي الشلك ويتعذر الرفع ،وكذلك من الجلي أن من قدر على الخلق فهو على العادة أقدر ،كما قال) :قالل ايلحهييدها الاهذيِ
دأندشأ ددها أداودل دمارءة( )يس (79 :فهذا ل يسمعه أحد من العوام ذكي أو غبي إل ويبادر إلى التصديق ،ويقول :نعم ليست العادة
بأعسر من البتداء بل أهون ،ويمكن أن يشوش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه ،والدليل المستوفى هو الذيِ يفيد التصديق
بعد تمام السئالة وجوابها بحيث ل يبقى للسؤال مجال والتصديق يحصل قبل ذلك.
الرابعة :التصديق لمجرد السماع ممن حسن العتقاد فيه بسبب كثرة ثناء الخلق عليه ،فإن من حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه أو في
رجل من الفاضل المشهورين قد يخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائاب أو غيره ،فيسبق إليه اعتقاد فيه ،فالمجرب
بالصدق والورع والتقوى مثل الصديق رضي ا عنه إذا قال قال رسول ا صلى ا عليه وسلم كذا ،فكم من مصدق به جزلما
وقابل له قبولل مطللقا ل مستند لقوله إل حسن اعتقاده فيه ،فمثله إذا لقن العامي اعتقالدا وقال له :اعلم أن خالق العالم واحد قادر وأنه
بعث محملدا صلى ا عليه وسلم رسولل بادر إلى التصديق ولم يمازجه ريب ولشك في قوله ،وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائاهم
ومعلميهم فل جرم يسمعون العتقادات ويصدقون بها ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة.
الرتبة الخامسة :التصديق به الذيِ يسبق إليه القلب عند سماع الشيء مع قرائان أحوال ل تفيد القطع عند المحقق ولكن يلقي في قلب
العوام اعتقالدا جازلما كما إذا سمع بالتواتر مرض رئايس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من داره ،ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد
مات اعتقد العامي جزلما أنه مات وبنى عليه تدبيلرا ول يخطر بباله أن الغلم ربما قال ذلك عن إرجاف سمعه ،وأن الصراخ
والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب آخر ،لكن هذه خواطر بعيدة ل تخطر للعوام فتنطبع على في قلوبهم العتقادات
الجازمة ،وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول ا صلى ا عليه وسلم وإلى حسن كلمه ولطف شمائاله وأخلقه فآمن به
وصدقه جزلما لم يخالجه ريب من غير أن يعالجه بمعجزة يقيمها ويذكر وجه دللتها.
الرتبة السادسة :أن يسمع القول فيناسب طبعه وأخلقه ،فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه ل من حسن اعتقاده في قائاله،
ول من قرينة تشهد له ،لكن لمناسبة ما في طباعه ،فالحريص على موت عدوه وقتله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إرجاف
ويستمر على اعتقاده جازلما ،ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يخالف شهوته هواه توقف فيه أو أباه كل الباء ،وهذه
أضعف التصديقات وأدنى الدرجات لن ما قبله استند إلى دليل
)ص (353
ما .وإن كان ضعيلفا من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك وهي أمارات يظنها العامي أدلة فتعمل في حقه عمل
الدلة فإذا عرفت مراتب التصديق ،فاعلم أن مستند إيمان العوام في هذه السباب وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجريِ
مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق ،ول ينبغي أن يجاوز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن وما في معناه من الجليات المسكنة
للقلوب المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته ،وأكثر الناس آمنوا في الصبا وكان سبب
تصديقهم مجرد تقليد للباء والمعلمين لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائاهم على أنفسهم ،وثناء غيرهم عليهم وتشديدهم النكير بين أيدهم
على مخالفيهم ،وحكايات أنواع النكال النازل بمن ل يعتقد اعتقادهم وقولهم إن فللنا اليهوديِ في قبره مسخ كللبا ،وفللنا الرافضي
انقلب خنزيلرا ،أو حكايات منامات وأحوال هذا الجنس ينغرس في نفوس الصبيان النفرة عنه ،والميل إلى ضده حتى ينزع الشك
بالكلية عن قلبه ،فالتعلم في الصغر كالنقش على الحجر ،ثم يقع نشوءه عليه وليزال يؤكد ذلك في نفسه ،فإذا بلغ استمر على
اعتقاده الجازم تصديقه المحكم الذيِ ل يخالجه فيه ريب ،ولذلك ترى أولد النصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم ل
يبلغون إل على عقائاد آبائاهم ،واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة ,ولو قطعوا إرلبا إرلبا لما رجعوا عنها وهم قط لم يسمعوا عليه
دليلل ل حقيقيا ول رسمليا ،وكذا ترى العبيد والماء يسبون من المشرك ول يعرفون السلم ،فإذا وقعوا في أسر المسلمين
وصحبوهم مدة ورأوا ميلهم إلى السلم مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم وتخلقوا بأخلقهم .وكل ذلك لمجرد التقليد والتشبيه
بالتابعين ،والطباع مجبولة على التشبيه ل سيما طباع الصبيان وأهل الشباب فبهذا يعرف أن التصديق الجازم غير موقوف على
البحث وتحرير الدلة.
فصل
لعلك تقول :ل أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه السباب ،ولكن ليس من المعرفة في شيء ،وقد كلف الناس
المعرفة الحقيقية دون اعتقاد من جنس الجهل الذيِ ل يتميز فيه الباطل على الحق .فالجواب :أن هذا غلط ممن ذهب إليه ،بل
سعادة الخلق في أن يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقالدا جازلما لتنقش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق ،حتى إذا ماتوا
وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا المور على ما اعتقدوها لم يفتضحوا ولم يحترقوا بنار الخزيِ والخجلة ول بنار جهنم ثانليا ،وصورة
الحق إذا انتقش بها قلبه فل نظر إلى السبب المفيد له دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي ،أو قبول بحسن العتقاد في قائاله أو قبول
لمجرد التقليد من غير سبب فليس المطلوب الدليل المقيد ،بل الفائادة وهي
)ص(354:
حقيقة الحق على ما هي عليه فمن اعتقد حقيقة الحق في ا وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الخر على ما هو عليه فهو سعيد،
وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلمي ولم يكلف ا عباده إل ذلك وذلك معلوم على القطع بجملة أخبار متواترة من رسول ا صلى
ا عليه وسلم في موارد العراب عليه وعرضه اليمان عليهم وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية البل والمواشي من غير
تكليفه إياهم التفكر في المعجزة ،ووجه دللته والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع .وفي أدلة الوحدانية وسائار الصفات ،بل
الكثر من أجلف العرب لو كلفوا ذلك لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة .بل كان الواحد منه يخلفه ويقول :ا أرسلك رسولل.
فيقول :وا ا أرسلني رسولل وكان يصدقه بيمينه وينصرف ،ويقول الخر إذا قدم عليه ونظر إليه :وا ما هذا وجه كذاب،
وأمثال ذلك مما ل يحصى ،بل كل يسلم في غزوه واحدة في عصره وعصر صحابة آلف ل يفهم الكثرون منهم أدلة الكلم ،و
من كان يفهمه يحتاج إلى أن يترك صناعته ويختلف إلى مسلم مدة مديدة ولم ينقل قط شيء من ذلك ،فعلم عللما ضرورليا أن ا
تعالى لم يكلف الخلق إل اليمان والتصديق الجازم بما قاله كيفما حصل التصديق.
نعم ،ل ينكر أن للعارف درجة على المقلد ،ولكن المقلد في الحق مؤمن كما أن العارف مؤمن.
فإن قلت :فبم يميز المقلد بين نفسه وبين اليهود والمقلد؟
قلنا :المقلد ل يعرف التقليد ول يعرف أنه مقلد ،بل يعتقد في نفسه أنه محق عارف ول يشك في معتقده ول يحتاج مع نفسه إلى
ضا يستظهر بقرائان وأدلة ظاهرة وإن كانت غير قوية يرى نفسه مخصو ل
صا التمييز لقطعه بأن خصمه مبطل وهو محق ،ولعله أي ل
بها ومميلزا بسببها عن خصومه ،فإن كان اليهوديِ يعتقد في نفسه مثل ذلك فل يشوش ذلك على المحق اعتقاده ،كما أن العارف
ضا يزعم أنه مميز عنه بالدليل ودعواه ذلك ل يشك الناظر يزعم أنع يميز نفسه عن اليهوديِ بالدليل ،واليهوديِ المتكلم الناظر أي ل
الناظر العارف ،وكذلك ل يشكك المقلد القاطع ويكفيه في اليمان أن ل يشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلمه بكلمه ،فهل
رأيت عامليا فقط قد اغتم وحزن ومن حيث يعسر عليه الفرق بين تقليد اليهوديِ ،بل ل يخطر ذلك ببال العوام ،وإن خطر ببالهم
وشوفهوا به ضحكوا من قائاله وقالوا :ما هذا الهذيان وكان به بين الحق والباطل مساواة حتى يحتاج إلى فرق فارق تبييلنا أنه على
الباطل ،وإني على الحق ،وأنا متيقن لذلك غير شاك فيه .فكيف أطلب الفرق حيث يكون الفرق معلولما قطلعا من غير طلب ،فهذه
حالة المقلدين الموقنين وهذا إشكال ل يقع لليهوديِ المبطل لقطعه مذهبه مع نفسه ،فكيف للمسلم المقلد الذيِ وافق اعتقاده ما هو
)ص(355:
الحق عند ا تعالى ،فظهر بهذا عند القطع للمسلك المقلد الذيِ وافق اعتقاده ما هو الحق عند ا تعالى ،فظهر بهذا على القطع أن
اعتقاداتهم جازمة ،وأن الشرع لم يكلفهم إل ذلك.
فإن قيل :فإن فرضنا عامليا مجادلل لجولجا ليس يقلد وليس يقنعه أدلة القرآن ول القاويل الجليلة المفرقة السابقة إلى الفهام فماذا
تصنع به؟
قلنا :هذا مريض مال طبعه عن صحة الفطرة وسلمة الخلقة الصلية فينظر في شمائاله فإن وجدنا اللجاج والجدل غاللبا على طبعه
ولم نجادله وطهرنا وجه الرض عنه إن كان يجاحدنا في أصل من أصول اليمان ،وإن توسمنا فيه بالفراسة مخائال الرشد
والقبول إن جاوزنا به من الكلم الظاهر إلى توفيق في الدلة عالجناه بما قدرنا عليه من ذلك ،وداوينا بالجدال المر والبرهان
الحلو ،وبالجملة فنجتهد أن نجادله بالحسن كما أمر ا تعالى ورخصنا في القدر من المداواة ل تدل على فتح باب الكلم مع
الكافة ،فإن الدوية يستعمل في حق المرضى وهم القلون ،وما يعالج به المريض بحكم الضرورة يجب أن يوقى عنه الصحيح،
والفطرة الصحيحة الصلية معدة لقبول اليمان دون المجادلة وتحرير حقائاق الدلة ،وليس الضرر في استعمال الدواء مع
الصحاء بأقل من الضرر في إهمال المداواة مع المرضى ،فليوضع كل شيء موضعه كما أمر ا تعالى نبيه حيث قال) :الداع إهدلى
حلكدمهة دواللدملوهعدظهة اللدحدسدنهة دودجاهدللاهلم هبالاهتي ههدي أدلحدسان( )النحل . (125 :والمدعو بالحكمة إلى الحق قوم ،وبالموعظة
ك هبالل ه
دسهبيهل دررَب د
الحسنة قوم آخرون ،وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون على ما فصلنا أقسامهم في كتاب القسطاس المستقيم فل نطول بإعادته.
المضنون بع على غير أهله
بسم ا الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
الحمد ل على موجب ما هدانا إلى حمده ،ووفقنا للقيام بشكره ،والصلة والسلم على سيدنا محمد أشرف من انتسب إلى آدم عليه
السلم وعلى صحبه الخيار.
اعلم أن لكل صناعة أهلل يعرف قدرها ،ومن أهدى نفائاس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها ،وهذا علق نفيس مضنون به على
غير أهله فمن صانه عمن ل يعرف قدره فقد قضى حقه أكرمت بهذا العلق على سبيل التهاديِ أخي وعزيزيِ أحمد صانه ا عن
الركون إلى الغرور وأهله لمعرفة بعض حقائاق الشياء التي كانت معرفة جميعها مطلوبة لسيد ولد آدم عليه السلم حيث قال :أرنا
الشياء كما هي ،وهذا العلق المضمون به على غير أهله يشتمل على أربعة أركان:
)ص(356:
الركن الول :في معرفة الربوبية.
الركن الثاني :في معرفة الملئاكة.
الركن الثالث :في حقائاق المعجزات.
الركن الرابع :في معرفة ما بعد الموت والنتقال من الدنيا إلى العقبى ،وفقنا ا تعالى لما يرضى ويحب ،فإنه خير موفق ومعين
وإليه المرجع والمصير.
الركن الول في علم الربوبية
الزمان ل يكون محدولدا وخلق الزمان في الزمان أمر محال ،فاليوم هو الكون الحادث في اللغة وأيام ا حيث قال) :دودذرَكلراهلم هبأ داياهم
اه( )إبراهيم (5 :مراتب مخلوقاته ومصنوعاته ومبدعاته من وجوه منها قوله) :هفي أدلردبدعهة أداياءم( )فصلت (10 :فيوم مادة السماء ا
ض هفي ديلودمليهن( )فصلت (9 :المادة والصورة ،ومادة السماوات ومادة د ل
ر د لل ا د
ق د ل خد ) وقوله . نفوسها ويوم كواكبها ويوم صورتها ويوم
بروجها صورة واحدة ،ومادة الرض مادة مشتركة بين أزواج وفحول وهي أخس لنها مثل مومسة تقبل كل ناكح .ومنها :الجماد
والمعدنيات داخلة في الجماد والنبات والحيوانات العجم والنسان .ومنها :الرض فهو سماء من طريق اللغة ،لن أهل اللغة تقول:
ض هملثدلاهان( )الطلق: كل مل علك فهو سماؤك ،وكل ما دون الفلك يعني فلك القمر بالنسبة إلى الفلك أرض لقوله) :دوهمدن اللدلر ه
.(12
الول :كرة النار.
والثانية :كرة الهواء.
والثالثة :كرة الطين المجفف الذيِ فوق الماء.
والرابعة :الماء.
والخامسة :الرض البسيطة.
والسادسة :الممتزجات من هذه الشياء.
والسابعة :الثار العلوية.
فصل في تعليقات على آيات كريمة
ب( )ص (10 :الرتقاء صعود الخس إلى الشرف حتى ينتهي إلى واجب الوجود. )دفللديلردتاقولا هفي الدلسدبا ه
ك الامنتدهى( )النجم.(42 : د ل ل كما قال تعالى) :دوأدان إهلى دررَب د
د
ب( )النبياء.(104 : ا ا ل
جرَل لهلكت ه وقوله تعالى) :ديلودم دنلطهويِ الاسدمادء دكطرَي الرَس ه
د
)ص(357:
ض دكادندتا درلتلقا دفدفدتلقدنااهدما( )النبياء (30 :الول انطباق فلك البروج على معدل النهار ،والفتق ت دواللدلر د وقوله تعالى) :أدان الاسدمادوا ه
بعد الرتق ظهور الليل.
فصل في أن الرزق مقدر مضمون
وهو من المعقولت ل من المنقولت .لن الحق تعالى عقل ذاته ،وما توجبه ذاته فهو قد عقل جميع الموجودات ،وإن كان بالقصد
الثاني وإنما يوجب كل واحد منها .أعني من الموجودات المبدعات على ما وجد لنه سبحانه وتعالى يعقل وجود الكل من ذاته،
صا النوع فكما أن تعقله ذاته ل يجوز أن يتغير ،بل يجب وجود كل ذلك ووجود أنواع الحيوانات وبقاؤها متعقل ل شك فيه خصو ل
صا آخر مثله ل يمكن إل النساني ،والنوع إنما يبقى مستحفلظا بالشخاص وبلوغ كل شخص إلى الغاية التي يمكن أن يولد شخ ل
بقاؤه مدة ،وبقاؤه تلك المدة ل يصح إل بما فيه قوام الحياة .وقوام الحياة بالرزق لنه تعالى يعقل وجود الكل من ذاته ووجود ما
يعقله من ذاته واجب ،وتعقل بقاء النوع النساني ببقاء الشخاص وتناسلهم ،وتعقل تناسلهم ببقاء كل شخص ،وتعقل بقاء كل
شخص مدة بما فيه قوام حياته وهو الرزق ،والرزق إنما يكون من النبات والحيوان وهما الخبز واللحم ،والفواكه من جملة النبات
وأكثر الحلوى ،فوجب أن يكون الرزق مضمولنا بتقدير الرؤوف الرحيم ،لذلك قال تعالى) :دوهفي الاسدماهء هرلزقااكلم دودما اتودعادودن *
ض إهاناه دلدحكق هملثدل دما أداناكلم دتنهطاقودن( )الذاريات.(22،23: ب الاسدماهء دولالدلر هدفدودر رَ
فصل من ل يعرف حقيقة الرؤيا
من ل يعرف حقيقة الرؤيا ل يعرف حقائاق أقسام الرؤيا ،ومن ل يعرف حقيقية رؤيا الرسول صلى ا عليه وسلم وسائار الرسل،
بل رؤيا الذين ماتوا ل يعرف رؤيا ا تعالى في المنام ،والعامي يتصور أن من رأى رسول ا في المنام فقد رأى حقيقة شخصه،
وكما أن المعنى الذيِ وقع في النفس حاكى الخيال عنه بلفظ ،فكذلك كل نقش ارتسم في النفس يمثل الخيال له صورة ول أرى أنه
كيف يتصور رؤية شخص الرسول في المنام وشخصه مودع في روضة المدينة وما شق القبر وما خرج إلى موضع يراه النائام.
ولئان سلمنا ذلك فربما يراه في ليلة واحدة ألف نائام في ألف موضع على صور مختلفة ،والوهم يساعد العقل في أنه ل يمكن تصور
شخص واحد في حالة واحدة في مكانين ول على صورتين طويل وربع وشاب وكهل وشيخ ،ومن ل تحيط معرفته بفساد هذا
التصور ،فقد قنع من غريزة العقل
)ص(358 :
بالسم والرسم دون الحقيقة والمعنى ،ول ينبغي أن يعاتب بل ينبغي أن يخاطب .فلعله يقول ما يراه مثاله ل شخصه ،وقال هو
مثال شخصه أو مثال حقيقة روحه المقدسة عن الصور والشكل فإن قال :هو مثال شخصه الذيِ هو عظمه ولحمه ،فأيِ حاجة إلى
شخصه وشخصه في نفسه متخيل ومحسوس ،ثم من رأى جسلما كان يتحرك بتحرك النبي عليه الصلة والسلم فكيف يكون رائاليا
له برؤية مثال شخصه ،بل الحق أنه مثال روحه المقدسة التي هي النبوة فما رآه فمن الشكل ليس هو روح النبي وجوهره ول
شخصه بل مثاله على التحقيق.
فإن قيل :فأيِ معنى لقوله عليه الصلة والسلم) :من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان ل يتمثل بي(.
قلنا :ل معنى له إل ما رآه مثال واسطة بين النبي وبينه ومن تعريف الحق إياه ،فكما أن جوهر النبوة أعني الروح المقدسة الباقية
من النبي بعد وفاته منزهة عن اللون والشكل والصورة ،ولكن تنتهي تعريفاته إلى المة بواسطة مثال صادق ذيِ شكل ولون
وصورة .وإذا كان جوهر النبوة منزلها عن ذلك ،فكذلك ذات ا منزه عن الشكل والصورة ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة
مثال محسوس من نور أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالل للجمال المعنويِ الحقيقي الذيِ ل صورة له ول
لون ،ويكون ذلك المثال صادلقا وحلقا وواسطة في التعريف ،فيقول النائام :رأيت ا تعالى في المنام ل بمعنى أني رأيت ذاته ،كما
يقول :رأيت النبي ل بمعنى أنه رأى ذات النبي وروحه أو ذات شخصه بمعنى أنه رأى مثاله.
فإن قيل :إن النبي له مثل وا تعالى ل مثل له.
قلنا :هذا جهل بالفرق بين المثل والمثال ،فليس المثال عبارة عن المثل ،فالمثل عبارة عن المساوى في جميع الصفات ،والمثال ل
يحتاج فيه إلى المساواة فإن للعقل معنى ل يماثله غيره .ولنا أن نتصور الشمس له مثالل لما بينهما من المناسبة في شيء واحد،
وهو أن المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولت بالعقل فهذا القدر من المناسبة كاف في المثال ،بل السلطان يمثل
في النوم بالشمس وبالقمر الوزير ،والسلطان ل يماثل الشمس بصورته ول بمعناه ،ول الوزير يماثل القمر .إل أن السلطان له
استعلء على الكافة ،ويعم أثره النور ،كما أن الوزير واسطة بين السلطان والرغبة في إفاضة أثر العدل ،فهذا مثال وليس بمثل
صدباسح ( )النور (35 :فأيِ مماثلة بين نوره وبين الزجاجة ض دمدثال انوهرهه دكهملشدكاءة هفيدها هم ل ت دواللدلر ه وا تعالى قال ) :ا
اا انوار الاسدمادوا ه
والمشكاة والشجرة والزيت؟ قال
)ص (359
ت أدلوهدديسة هبدقددهردها دفالحدتدمدل الاسليال دزدبلدا اراهبليا( )الرعد (17 :ذكر ذلك تمثيلل للقرآن والقرآن
ا تعالى) :دأندزدل همدن الاسدماء دماء دفدسالد ل
ل؟ وكم من المنامات عرضت على رسول ا صلى ا عليه وسلم من رؤيا لبن أو صفة قديمة ل مثل له ،فكيف صار الماء له مثا ل
حبل .فقال :اللبن هو السلم ،والحبل هو القرآن إلى أمثال له ل تحصى وأيِ مماثلة بين اللبن والسلم والحبل والقرآن إل في
مناسبة ،وهو أن الحبل يتمسك به النجاة والقرآن كذلك ،واللبن غذاء تغذى به الحياة الظاهرة والسلم غذاء تغذى به الحياة
الباطنة ،فهذا كله مثال وليس بمثل ،بل هذه الشياء لها .وا تعالى ل مثل له لكن له أمثلة محاكية لمناسبة معقولة من صفات ا
تعالى ،فإنا إذا عرفنا المسترشد أن ا تعالى كيف يخلق الشياء وكيف يعلمها وكيف يزيدها وكيف يتكلم وكيف يقوم الكلم بنفسه.
مثلنا جميع ذلك بالنسان ،ولول إن النسان عرف من نفسه هذه الصفات لما فهم مثاله في حق ا تعالى ،فالمثال في حق ا تعالى
جائاز والمثل باطل ،فإن المثال هو ما يوضح الشيء والمثل ما يشابه الشيء.
ضا ل يرى ،فإن المرئاي فإن قيل :هذا التحقيق الذيِ ذكرتموه ليس يفضي إلى أن ا تعالى يرى في المنام .بل إلى أن الرسول أي ل
مثاله ل عينه فقوله) :من رآني في المنام فقد رآني( فهو نوع تجوز معناه كأنه رآني وما سمع من المثال كأنه سمع مني.
قلنا :وهذا ما يريده القائال بقوله :رأيت ا تعالى في المنام ل غير .أما أن يريد به أنه رأى ذاته على ما هو عليه فل ،فإنه حصل
التفاق على أن ذات ا تعالى ل ترى وإن مثالل يعتقده النائام ذات ا تعالى أو ذات النبي يجوز أن يرى ،وكيف ينكر ذلك ،مع
وجوه في المنامات ،فإن لم يره بنفسه فقد تواتر إليه من جماعة أنهم رأوا ذلك ،إل أن المثال المعتقد قد يكون صادلقا وقد يكون
كاذلبا ،ومعنى الصادق أن ا تعالى جعل رؤياه واسطة بين الرائاي وبين النبي في تعريف بعض المور ،وفي قدرة ا تعالى خلق
هذه الواسطة بين العبد وبين اتصال الحق به وهو موجود ،فكيف يمكن إنكاره؟
فإن قيل :إذا كانت رؤية الرسول صلى ا عليه وسلم تجولزا ،فالتجوز مما قد أذن في إطلقه في حقه ول يجوز في حق ا تعالى
من الطلقات إل ما ورد الذن به.
قلنا :قد ورد الذن بإطلق ذلك .فإن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال :رأيت ربي في أحسن صورة .وهذا مما ورد في الخبار
التي وردت في إثبات الصورة ل تعالى حيث قال :إن ا خلق آدم على صورته .وليس المراد به صورة دحية الكلبى وفي غيرها
من الصور ،حتى أنه رآه مرالرا كثيرة وما رآه في صورته الحقيقة إل مرة أو مرتين ،وتمثيل جبريل في صورة دحية الكلبى ليس
بمعنى أنه انقلب ذات جبريل صورة دحية الكلبى ،بل إن ظهرت تلك الصورة للرسول مثالل مؤدليا عن جبريل ما أوحى إليه،
وكذلك قوله تعالى) :فتمثل لها
)ص (360
بشلرا سوليا( ]مريم .[17 :وإذا لم يكن استحالة في ذات الملك وانقللبا ،بل يبقى جبريل على حقيقته وصفته ،وإن ظهر النبي في
صورة دحية الكلبي فل يستحيل مثل ذلك في حق ا تعالى في يقظة ول في منام ،فهذا ما يدل من جهة الخبر على جواز إطلقه،
وقد ورد عن السلف إطلق ذلك ونقلت فيه آثار وأخبار ،ولو لم يرد فيه إطلق لكنا نقول :يجوز إطلق كل لفظة في حق ا تعالى
صادقة ل منع منه ول تحريم إذا كان ل يوهم الخطأ عند المستمع ،وهذا ل يوهم رؤية الذات عند الكثرين لكثرة تداول اللسنة له
فإن معناه كما يجوز أن تقول :إنا نحب ا تعالى أو نشتاق إليه ونريد لقاءه ،وقد سبق إلى فهم قوم من هذه الطلقات خيالت
فاسدة والكثرون يفهمون معناه على وجهه من غير خيال فاسد ،ويراعى في هذه الطلقات حال خيال المخاطب فيجوز الطلق
من غير كشف ول تفسير حيث ل إبهام ،ويجب الكشف عند البهام .وعلى الجملة هذا يرد الخلف إلى إطلق اللفظ وجوازه بعد
حصول التفاق على لفظ المعنى من أن ذات ا تعالى مرئاية ،وأن المرئاي مثال ،وظن من ظن استحالة المثال في حق ا تعالى
خطأ ،بل نضرب ل تعالى ولصفاته المثال وننزهه عن المثل ول ننزهه عن المثال وله المثل العلى.
فصل في الكلم على الفرق بين الواحد والحد ومعنى الصمد
قوله تعالى) :قل هو ا أحد( ]الخلص .[1 :فرق بين الواحد والحد ،قال تعالى) :وإلهكم إله واحد( ]البقرة .[163 :فيقال
النسان شخص واحد وصنف واحد ،والمراد به أنه جملة هي جملة واحدة ،ويقال ألف واحد ،فالواحد المشار إليه من طريق العقل
والحس هو الذيِ يمتنع مفهومه عن وقوع الشركة فيه ،والحد هو الذيِ ل تركيب فيه ول جزء له بوجه من الوجوه ،فالواحد نفي
الشريك والمثل ،والحد نفي الكثرة في ذاته وقوله تعالى) :ا الصمد( ]الخلص .[2 :الصمد الغني المحتاج إليه غيره وهذا دليل
ضاعلى أن ا تعالى إحدى الذات وواحد ،لنه لو كان له شريك في ملكه لما كان صملدا غنليا يحتاج إليه غيره ،بل كان هو أي ل
يحتاج إلى شريكه في المشاركة أو التثنية ،ولو كان له أجزاء تركيب واحد لما كان صملدا يحتاج إلى غيره ،بل هو محتاج في
قوامه ووجوه إلى أجزاء تركيبه وحده ،فالصمدية دليل على الواحدية والحدية) ،لم يلد( دليل على أن وجوده المستمر ليس مثل
وجود النسان الذيِ يبقي نوعه بالتوالد والتناسل ،بل هو وجوده مستمر أزلي وأبديِ ولم يولد دليل على أن وجود ليس مثل وجود
النسان الذيِ يحصل بعد العدم ،ويبقى دائالما إما في جنة عالية ل تفنى وإما في هاوية ل تنقطع) ،ولم يكن له كفلوا
)ص (361
دليل على أن الوجود الحقيقي الذيِ له تبارك وتعالى وهو الوجود الذيِ يفيد وجود غيره ول يستفيد الوجود من غيره ليس إل له
تبارك وتعالى فقوله) :قل هو ا أحد( .دليل على إثبات ذاته المنزه المقدس والصمدية نفي وإضافة نفي الحاجة عنه ،فل طريق
في معرفة ذات ا تعالى أبين وأوضح من سلب صفات المخلوقات عنه.
فصل في كلم حول الصفات
يتخيل بعض الناس كثرة في ذات ا تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول من قال في الصفات ل هو ول غيره ،وهذا
التخيل يقع من توهم التغاير ول تغاير في الصفات مثال ذلك :إن إنسالنا يعلم صورة الكتاب وله علم بصورة بسم ا التي تظهر تلك
الصورة على القرطاس ،وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبلعا لها ،فإنه إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة
على القرطاس بل حركة يد وواسطة قلم ومداد ،فهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال لها علم ،ومن حيث إن اللفاظ
تدل عليها يقال ل القدرة ،ول تغاير ههنا بين العلم والقدرة والكلم ،فإن هذه صفة واحدة في نفسها ول تكون هذه العتبارات
الثلثة واحدة ،وكل من كان أعور ينظر بالعين العوراء فل يرى إل مطلق الصفة فيقول :هو هو ،وإذا التفت إلى العتبارات
الثلث فقال :هي غيره ،ومن اعتبر مطلق الصفة مع العتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعتقد أنها ل هو ول غيره والكلم في
صفات ا تعالى وإن كان مناسلبا لهذا المثال فهو مباين له بوجه آخر ،وتفهيم هذه المعاني بالكتابة عسير غير يسير ،وأما الوهم
الذيِ وقع لبعض الناس أن المثال في حق أوصاف ا تعالى ل يجوز فيدفعه أن ذلك المتوهم لم يميز بين المثل والمثال ،فإن المثال
يحتاج إليه كما ذكرناه في أن يسترق للمعنى المعقول من الصور المحسوسة صورة تضحه ،وتوصل ذلك المعنى المعقول إلى فهم
المستفيد ،وأما المحسوس فل يحتاج إلى مثال لن المحسوس بعينه مندرج في الخيال .أل ترى أن من رأى المقدحة والزند والنار
تحصل بينهما ل يحتاج إلى مثال لهذه الشياء ،ولكن المعقول المحض الذيِ ل يندرج في الخيال ول يضبطه الخيال فإنه يحتاج إلى
الستعانة بالخيال حتى يصل إلى فهم الضعفاء ،وليس ل تعالى مثل كما قال) :ليس كمثله شيء( ]الشورى .[11 :ولكن له مثال،
وقول النبي عليه الصلة والسلم" :إن ا تعالى خلق آدم على صورته" .إشارة إلى هذا المثال ،فإنه لما كان تعالى وتقدس موجولدا
قائالما بنفسه حليا سميلعا بصيلرا عاللما قادلرا متكللما فالنسان كذلك ،ولو لم يكن النسان بهذه الوصاف موصولفا لم يعرف ا تعالى،
ولذلك قال النبي عليه الصلة والسلم" :من عرف نفسه فقد عرف ربه" ،فإن كل ما لم يجد النسان
ص 362
له من نفسه مثالل يعسر عليه التصديق به والقرار ،وقد أوحى ا تعالى إلى بعض النبياء عليهم الصلة والسلم :أيها النسان
اعرف نفسك تعرف ربك ،ولذلك ل يحيط علم النسان بأخص وصف ا تعالى ،لنه ليس في المبدعات والمخلوقات مثال
وأنموذج من ذلك الوصف الخاص ،وكذلك السم للوصف الخاص الذيِ له تعالى لن النسان إنما يسمى الشيء بعد معرفته إياه،
وإذا لم يكن للنسان إليه طريق وأنموذج فل علم له به ول اسم له عنده ول علمة .فكيف يعرفه؟ فلذلك ل يعرف ا إل ا.
وأعني أخص وصفه وكنه معرفته فمن قال :إن النسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم وا تعالى كذلك ل يكون هذا القائال
مشبلها ،فإن التشبيه إثبات المشاركة في الوصف الخص ،ومن قال :إن السواد عرض موجود وهو لون ،والبياض عرض موجود
وهو لون ل يكون مشبلها السواد بالبياض ،فإن الشتراك في اللونية والعرضية والوجودية ل يكون تشبيلها بينهما ،ولذلك ل تماثل
بين السواد والبياض مع اشتراكهما في اللونية والعرضية الوجدية ،فالمثال في حق ا سائاغ جائاز والمثل مستحيل ،فإنا نقول :ا
تعالى مدبر متصرف في العالم وليس في العالم مثال ذلك أن أصبع النسان يتحرك ويحركه علمه وإرادته وليس فيها العلم
والرادة فيقع التفهيم بسبب ذلك وتصور الضعيف أنه كيف يكون مدبلرا فاعلل في شيء غير مجاور له ول حال فيه.
فصل في تكليف ا تعالى عباده
تكليف ا تعالى عباده ل يضاهي تكليف النسان عبده العمال التي يرتبط بها غرضه وما ل حظ له فيه وما ل يحتاج إليه فل
يكلفه به ،وتكليف ا تعالى عباده يجريِ مجرى تكليف الطبيب المريض ،فإذا غلبت عليه الحرارة أمره بشرب المبردات والطبيب
غني عن شربه ل يضره مخالفته ول ينفعه موافقته ،ولكن الضرر والنفع يرجعان إلى المريض وإنما الطبيب هاد ومرشد فقط ،فإن
وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص ،وإن لم يوفق فخالفه تمادى به المرض وهلك ،وبقاؤه وهلكه عند الطبيب سيان،
فإنه مستغن عن بقائاه وفنائاه ،فكما أن ا تعالى خلق للشفاء سببصا مفضليا إليه كذلك خلق للسعادة سبلبا وهو الطاعات ،ونهى النفس
عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائال الخلق منجيات ورذائال في الخرة مهلكات .كما أن رذائال الخلق ممرضات في
الدنيا ومهلكات والمعاصي بالضافة إلى حياة الخرة كالسموم بالضافة إلى حياة الدنيا وللنفوس طب كما أن للجسام طلبا
والنبياء عليهم الصلة والسلم أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى طريق الفلح بتمهيد الطريق المزكية للقلوب ،كما قال ا
تعالى) :قد أفلح من زكاها * وقد خاب من
)ص (363
دساها( ]الشمس .[10 ، 9 :ثم يقال :إن الطبيب أمره بكذا ونهاه عن كذا ،وأنه زاد مرضه لنه خالف الطبيب ،وأنه صح لنه
راعى قانون الطبيب ولم يقصر في الحتماء ،وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض بمخالفة الطبيب لعين المخالفة ،بل لنه سلك غير
طريق الصحة التي أمره الطبيب بها ،فكذلك التقوى هي الحتماء الذيِ ينفي عن القلوب أمراضها وأمراض القلوب تفوت حياة
الخرى كما تفوت أمراض الجساد حياة الدنيا ،والمثال الخر أن مللكا من ملوك الناس يمد بعض عبيده الغائاب عن مجلسه بمال
ومركوب ليتوجه تلقاءه لينال رتبة القرب منه ،ويسعد بسببه مع استغناء الملك عن الستعانة به ،وتصميم العزم على أن ل
يستخدمه أصلل ،ثم إن العبد إن ضيع المركوب وأهلكه وأنفق المال ل في زاد الطريق كان كافلرا للنعمة ،وإن ركب المركوب
وأنفق المال في الطريق متزولدا به كان شاكلرا للنعمة ل بمعنى أنه أنال الملك حلظا ،فإنه لم يرد في النعام عليه وفي تكلفه
الحضور حلظا لنفسه ولكن أراد سعادة العبد ،فإنه وافق مراد السيد فبه كان شاكلرا وإن خالف عدت مخالفته كفرالنا ،وا تعالى
ويستويِ عنده كفر الكافرين وإيمانهم بالضافة إلى جلله واستغنائاه ،ولكنه ل يرضى لعباده الكفر ،فإنه ل يصلح لعباده فإنه
يشقيهم ،كما ل يرضى الطبيب هلك المرضى ويعالجهم ،ول يرضى الملك المستغني عن عبده لعبده الشقاوة بالبعد عنه ويريد له
السعادة بالقرب منه وهو غني عنه قرب أو بعد ،فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف فإن الطاعات أدوية والمعاصي سموم وتأثيرها
في القلوب ،ول ينجو إل من أتى ا بقلب سليم ،كما ل تسعد الصحة إل من أتى بمزاج معتدل ،وكما يصح قول الطبيب للمريض
قد عرفتك ما يضرك وما ينفعك ،فإن وافقتني فلنفسك وإن خالفت فعليها ،كذلك قال ا تعالى) :من اهتدى فإنما يهتديِ لنفسه ومن
ضل فإنما يضل عليها( ]السراء .[15 :وقوله) :من عمل صاللحا فلنفسه ومن أساء فعليها( ]فصلت ، 46 :الجاثية .[15 :وأما
العقاب على ترك المر وارتكاب النهي فليس العقاب من ا تعالى غضلبا وانتقالما .ومثال ذلك أن من غادر الوقاع عاقبه ا تعالى
بعدم الولد ،ومن ترك إرضاع الطفل عاقبه بهلك الولد ،ومن ترك الكل والشرب عاقبه بالجوع والعطش ،ومن ترك تناول
الدوية عاقبه بألم المرض وغضب ا تعالى على عباده غير إرادته اليلم ،كما إن السباب والمسببات يتأدى بعضها إلى بعض
في الدنيا بترتيب مسبب السباب فبعضها يفضي إلى اللم وبعضها إلى اللذات ول يعرف عواقبها إل النبياء ،فكذلك نسبة
الطاعات والمعاصي إلى آلم الخرة ولذاتها من غير فرق ،فالسؤال عن أنه لم تفض المعصية إلى العقاب كالسؤال في أنه لم يهلك
الحيوان عن السم ،ولم يؤد السم إلى الهلك ،ولم يخلق جسد الناسن على وجه يفعل فيه السم أثلرا وينفعل البدن عنه وهو ل ينفعل
عن البدن ،فكذلك الكلم في أنه لما
ص 364
خلق ا تعالى نفس النسان على وجه تكملها وتنجيها الفضائال وتهلكها الرذائال ،هذا وا تعالى غير عاجز عن الشباع من غير
أكل والدواء من غير شرب ،والنشاء من غير مصاحبة وقاع ،والنماء من غير رضاع ،ولكنه قد رتب السباب والمسببات،
ولذلك سر وحكمة ل يعلمها إل ا تعالى والراسخون في العلم ،وليس هذا بعجب ،وإنما العجب من هذا التدبير المحكم والنظام
المتقن ،ولعمريِ أن من ل يهتديِ إلى سر الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته ،ولو كان كذلك لضاع حظ النبات والحيوانات
التي هي ألطف الحيوانات وأقربها إلى العتدال مثل الغنم والنعاج والقباج والدجاج وغيرها ،وكمال النبات أن يصير غذاء لما هو
أعلى منه بالرتبة وهو الحيوان ،ولذلك يقوم بدل ما يحلل منه فيصير جزء منه متشبلها به وهذا كماله ،وكذلك نسبة الحيوانات
المذبوحة إلى النسان ونسبة النسان إلى الملئاكة في جنات عدن كما قال تعالى) :والملئاكة يدخلون عليهم من كل باب( ]الرعد:
.[23وأما كون بعض الحيوانات العجم غذاء لبعض السباع الضارية ففي السباع الضواريِ فوائاد ومنافع سياسية وطبية يعرفها
أرباب السياسة والطباء ،ومثال من يتعجب من وضع هذه الشياء على ترتيب النظام الكلي على موجب تقدير العزيز الحكيم
كمثل العمى الذيِ دخل دالرا فتعثر بالواني الموضوعة في صحن الدار ،فقال لهل الدار :ما الذيِ أزال عقولكم؟ لماذا ل تردون
هذه الواني إلى مواضعها؟ ولم تركتموها على الطريق؟ فقيل له :إنها موضوعة في مواضعها ،وإنما الخلل من فقد البصر،
وكمثل الخشم الذيِ ل يدرك الروائاح فيلوم واضع اللخالخ والمثلثات والفواكه العطرة الطيبة بين يديه ،فقال :هذا قد شغل المكان
فقط ،فقيل له في العودة فائادة سوى اتخاذه على جهة الحطب ،وإنما المانع من إدراكه هو الخشم.
وههنا مباحة أخرى منها :إن ا تعالى كيف يأمر بالشيء ويمنع من البحث عنه والبصيرة ل تحصل إل بالبحث عنه وهذا تعجب
فاسد ،فإن العلم يستدعي اعتقالدا جازلما أو تحصل بالبرهان والوصول إليها بالبحث ،ولم يمنع عن البحث الخلئاق كلهم ،بل
الضعفاء العاجزون عن الطلع على حقائاق البرهان ومعضلت البحث ،ومثل ذلك الطبيب الذيِ يأمر العليل بشرب الدواء
ويمنعه عن البحث عن سبب كون هذا الدواء شافليا ،فإنه يقصر عنه فهمه ويشق عليه ويعجز عنه ويزداد المرض ويستضر به،
ضا ذكليا ساللكا منهاج الطب وعلل المراض لم يمنعه من البحث ولم يمنعه عن ذكر المناسبة بين فإن وجد على سبيل الندور مري ل
دوائاه وبين مرضه ،بل إذا علم أنه ليس يؤمن بمجرد قوله وليس يقلد محض التقليد لما خص به من الذكاء وما يفهم من أسباب
العلة ،وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة
ص 365
اشتغل بالعلج ،وإن لم يكن يفهم أعرض عن التقليد وجب عليه ذكر المناسبة والعلة ولم يمنع من البحث إذا علم استقلله به ،إل أن
ذلك نادر في المرضى جلدا ،والكثرون يضعفون عن ذلك وكذلك معرفة العلل والسرار والبحث عنها في الشرعيات من هذا
القبيل ،وأما تسخير البهائام للنسان مثل من يمشي خطوات مثلل ينظر إلى منتزهات ووجوه حسان ،فيقال له :كيف أتعب رجله
وسخرها لجل عينيه والعين آلته ،كما أن الرجل آلته فما باله جعل إحداهما خادمة وأتعبها ،وجعل الخرى مخدومة وطلب
راحتها ،وهذا جهل بالقدار والمراتب ،بل العاقل يعلم أن الكامل أبلدا يفدى بالناقص ،وأن الناقص يستسخر لجل الكامل وهو عين
الحكمة وليس ذلك بظلم ،فإن الظلم هو التصرف في ملك الغير ،وا تعالى ل يصادف لغيره مللكا حتى يكون تصرفه فيه ظللما فل
يتصور منه ظلم ،بل له أن يفعل ما يشاء في ملكه ويكون عادلل ،والوحي اللهي والشرع الحق ل يرد بما ينبو عنه العقل ،فإن أراد
بنبو العقل أن برهان العقل يدل على استحالته كخلق ا تعالى مثل نفسه أو الجمع بين المتضادين ،فهذا ما ل يرد الشرع به ،وإن
أراد به ما يقصر العقل عن إدراكه ول يستقل بالحاطة بكنهه فهذا ليس بمحال أن يكون في علم الطباء مثلل جلب المغناطيس
للحديد ،وأن المرأة لو مشت فوق حية مخصوصة ألقت الجنين وغير ذلك من الخواص ،وهذا مما ينبو عنه العقل بمعنى أنه ل يقف
على حقيقته ول يستقل بالطلع عليه فل ينبو عنه الحكم باستحالته ،وليس كل ما ل يدركه العقل محالل في نفسه بل لو لم نشاهد
قط النار وإخراجها فأخبرنا مخبر وقال :إني أصك خشبة بخشبة وأستخرج من بينهما شيلئاا أحمر بمقدار عدسة فتأكل هذه البلدة
وأهليها حتى ل يبقى منهم شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها ،ومن غير أن يزيد في حجمها بل تأكل نفسها فل تبقى هي ول
البلد ،لكنا نقول :هذا الشيء ينبو عنه العقل ول يقبله ،وهذه صورة النار والحس قد صدق ذلك ،وكذلك قد يشتمل الشرع على مثل
هذه العجائاب التي ليست مستحيلة ،وإنما هي مستبعدة وفرق بين البعيد والمحال ،فإن البعيد هو ما ليس بمألوف والمحال ما ل
يتصور كونه ،وأما معنى قول ا تعالى) :ل يسأل عما يفعل وهم يسألون( ]النبياء .[23 :وقوله تعالى) :لم حشرتني أعمى وقد
كنت بصيلرا( ]طه .[125 :فالسؤال قد يطلق ويراد به اللزام يقال :ناظر فلن فللنا ويتوجه عليه سؤاله وقد يطلق ويراد به
الستخبار كما يسأل التلميذ أستاذه ،وا تعالى ل يتوجه عليه السؤال بمعنى اللزام وهو المعني بقوله) :ل يسأل عما يفعل( .إذ ل
يقال له :لم قول إلزام فأما أن ل يستخبر ول يستفهم فليس كذلك وهو المراد بقوله) :لم حشرتني أعمى( .وهذا القدر كاف في
جواب هذه السئالة ،ومن ترق عن محل
ص 366
التقليد بأدنى كياسة ولم ينته إلى رتبة الستقلل كان من الهالكين ،فنعوذ بال من كياسة ل تنفع فإن الجهالة أدنى إلى الخلص
والنجاة منها ،شعر:
ل
ولم أر في عيوب الناس شيئاا كنقص القادرين على التمام
فصل
إذا عرفت أنك حادث ،وأن الحادث ل يستغني عن محدث فقد حصل لك البرهان على اليمان بال ،وما أقرب إلى العقل من هاتين
المعرفتين .أعني أنك حادث وأن الحادث ل يحدث بنفسه ،وإذا عرفت نفسك وأنك جوهر خاصيتك معرفة ا ومعرفة ما ليس
بمحسوس وليس البدن من قوام ذاتك ،فانهدام البدن ل يعدمك فقد عرفت اليوم الخر بالبرهان فإنه ل معنى له إل أن لك يومين يوم
حاضر أنت فيه مشغول بهذا البدن ،ويوم آخر أنت فيه مفارق لهذا الجسد ،وإذا لم يكن قوامك بالجسد وقد فارقته بالموت فقد حصل
اليوم الخر ،وإذا عرفت أنك إذا فارقت المحسوسات بمفارقة الجسد تلقيت إما نعمة هي معرفة ا تعالى التي هي خاصية ذاتك
ومنتهى لذاتك بمقتضى طبعك الصلي لو لم تمرض بالميل إلى الشهوات ،وإما عذالبا بالحجاب عن ا تعالى) :وحيل بينهم وبين
ما يشتهون( ]سبأ .[54 :وعرفت أن سبب المعرفة الذكر والفكر والعراض عن غير ا تعالى ،وسبب المرض المانع عن ذكر
ا معرفته القبال على الشهوات والحرص على الدنيا ،وعرفت أن ا تعالى قادر على أن يعرف عموم عباده ذلك بواسطة
الكشف لبعض خواص عباده ،وعرفت أنه قد فعل ذلك فقد عرفت رسله بالبرهان وآمنت ،وإذا عرفت أن هذه التعريفات بالنبياء
إنما تكون في كسوة ألفاظ وعبارات توحى إليهم وتلقى في سمعهم إما في يقظة أو في منام ،فقد آمنت بالكتب ،وإذا عرفت أن أفعال
ا تعالى منقسمة إلى ما فعله بواسطة وإلى ما فعله بغير واسطة وأن وسائاطه مختلفة المراتب فالوسائاط القريبة هم المقربون
وعنهم يعبر بالملئاكة ،لكن معرفة هذا بطريق البرهان عسير والقول فيه طويل فصدق الرسل في أخبارهم عنهم بعد أن عرفت
صدق الرسل بالبرهان ،واكتف بذلك فإنه درجة من درجات اليمان )يرفع ا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات(
]المجادلة.[11 :
فصل
كل ما يتوالد فل يستحيل أن يتولد أصلل ،وما يتولد ل يستحيل أن يتوالد فقوله تعالى) :إنا خلقنا النسان من نطفة( ]الدهر .[2 :إنما
عنى به النسان التوالديِ ،وقوله) :خلقناكم من تراب( ]الحج .[5 :عنى به النسان التوالديِ ،وقد تتولد العقارب
ص 367
من الباذورج ولباب الخبز والحيات من العسل والنحل من العجل والمنخنق المنكسر عظامه والبق من الخل وسام أبرص من
القرنبيط والخنافس من البعرة ومن نوى النبق العقرب الجراوة ومن الشعر الحيات ومن الطين والمدر الفأر ومن طين أصول
القصب الدائام والرطوبة الطير ول سيما طير الماء وأمثال ذلك .كما ذكر في كتب الطلسمات وغيرها ،ثم يتوالد هذا المتولد ويبقى
نوعه بالتوالد وانطباق دائارة معدل النهار على فلك البروج مما يدل على خراب العالم السفلي وتغييره للفصول .أعني الربيع
والصيف والخريف والشتاء فل يبقى الحرث والنسل كما قال تعالى) :كل من عليها فان( ]الرحمن .[36 :يعني على الرض،
فخلق ا تعالى آدم من تراب ثم حصل منه التوالد ونظير ذلك مشاهد ،وكذا الصنائاع والحرف تحصل من طريق اللهام ثم تستفاد
وتتعلم ،وتحصل النار من المقدحة والزند ثم تقتبس بعد حصولها) :ذلك تقدير العزيز العليم( ]يس .[38 :الذيِ خلق عند انفراج
الدائارتين معدل النهار وفلك البروج الذيِ يتزايد ،الميل الذيِ خلق بينهما آدم من تراب ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين ،ثم
سواه ونفخ فيه من روحه ،فمن شك في كيفية بدء الخلق ووضع الصانع الحكيم في التوالد والتولد ،فلينظر إلى المحسوسات التي
ذكرناها ،وأما النشأة الخرى وكيفية عود النفوس والرواح إلى أشباحها فمذكورة في بابها.
فصل في المبدعات
المبدعات والمخلوقات أحدثها ا تعالى بالترتيب ،فهو الول الذيِ ل أول قبله ومنه تحصل المبدعات بل الممكنات بأسرها ،ثم
ينزل الترتيب من الشرف فالشرف حتى ينتهي إلى المادة التي هي أخس الشياء ،ثم ابتدأ تعالى من الخس عائالدا إلى الشرف
حتى انتهى إلى النسان ويعود النسان عند زكاء نفسه إلى حيث قال) :ارجعي إلى ربك راضية مرضية( ]الفجر .[28 :ولذلك
قال) :هو الول والخر والظاهر والباطن( ]الحديد .[3 :أما الظاهر فمركوز في غرائاز العقول أن للكل مبدأ وأن للحادث محدلثا
وللمكن موجولدا واجلبا ،أما الباطن فلن وصفه الخاص ل يعرفه إل هو وربما كان باطلنا لغاية ظهوره ،كما أن الشمس التي هي
في غاية البعد عن هذا المثال ظاهر وباهر وبسبب غاية ظهورها ل تدركها الحاسة المبصرة محاذاة ومقابلة.
والميزان :ما يعرف به حقائاق الشياء ويميز به صحيح العقيدة من الفاسد وهو الواسطة بين السماء والرض حيث قال) :والسماء
رفعها ووضع الميزان * أل تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ول تخسروا الميزان * والرض وضعها للنام(
]الرحمن .[10-7 :وذلك الميزان سر من أسرار الربوبية ل يعرفه إل الراسخون في العلم ،وا أعلم.
ص 368
الركن الثاني في معرفة الملئاكة
الملئاكة والجن والشياطين جواهر قائامة بأنفسها مختلفة بالحقائاق اختللفا يكون بين النواع.
مثال ذلك :القدرة فإنها مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفا اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائامة بغيرها ،فكذلك
بين الملك والشيطان والجن اختلف ومع ذلك ،فكل واحد جوهر قائام بنفسه وقد وقع الختلف بين الجن والملك فل يدريِ أهو
اختلف بين النوعين كالختلف بين الفرس والنسان ،أو الختلف في العراض كالختلف بين النسان الناقس والكامل ،وكذا
الختلف بين الملك والشيطان ،وهو أن يكون النوع واحلدا والختلف واقلعا في العوارض ،كالختلف بين الخير والشرير،
والختلف بين النبي والولي ،والظاهر أن اختلفهم بالنوع والعلم عند ا تعالى ،وهذه الجواهر المذكورة ل تنقسم ،أعني أن محل
العلم بال تعالى واحد ل ينقسم ،فإن العلم الواحد ل يحل إل في محل واحد وحقيقة النسان كذلك ،فالعلم والجهل بشيء واحد في
محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين ،وإما أن هذا الجواهر غير منقسم وهل هو متحيز أم ل؟ فهذا الكلم عائاد إلى
معرفة الجزء الذيِ ل يتجزأ ،فإن استحال الجزء الذيِ ل يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ول متحيز ،وإن لم يستحل الجزء الذيِ ل
يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيلزا وقد قال قوم :ل يجوز أن يكون غير منقسم ول متحيز ،فإن ا تعالى غير منقسم ول
متحيز فما الذيِ يفصل هذا من ذلك ،وهذا غير مبرهن عليه لن ربما تباينا في حقيقة الذات ،وإن سلب عنهما النقسام والتحيز
والمور المكانية وتلك سلوب والعتبار بالحقائاق لن ما سلب عن الحقائاق المختلفين بالحد والحقيقة أن الحالين في محل واحد ،فإن
إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل ل يفيد تماثلهما ،فكذلك سلب الحتياج إلى المحل والمكان ل يفيد اشتراك الشيئاين،
ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر .أعني جواهر الملئاكة وإن كانت غير محسوسة ،وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل
التمثيل كقوله تعالى) :فتمثل لها بشلرا سوليا( ]مريم .[17 :وكما كان النبي عليه الصلة والسلم يرى جبريل في صورة دحية
الكلبي .القسم الثاني أن يكون لبعض الملئاكة بدن محسوس ،كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها
وعالمها الخاص بها ،فكذلك بعض الملئاكة ،وربما كان هذا البدن المحسوس موقولفا على إشراف نور النبوة كما أن محسوسات
عالمنا هذا موقوف عند الدراك على إشراق نور الشمس ،وكذا في الجن والشياطين.
ص 369
فصل في وقوع مزاج قريب من مزاج آخر
وقوع مزاج من مزاج غير مستحيل ،فنسبة نفس مزاج واحد هو قريب إلى مزاج آخر إلى نفس ذلك المزاج نسبة مقارنة ،فإن كان
لنسان مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات صاحب ذلك المزاج وحدث بعده مزاج خاص وله نفس خاصة ثم مات صاحب ذلك
المزاج وحدث بعده مزاج آخر قريب منه ،وذلك عند الدوار والتشكلت الفلكية مثال ذلك حدث مزاج وتشكل الفلك على هيئاة
مخصوصة ،ثم عادت تلك التشكلت بأسرها عولدا يمكن لها وإن لم يكن بالنسبة المخصوصة ،إلى مبدأ واحد ،فحدث مزاج آخر
استحق المزاج الحادث نفلسا أخرى لتلك النفس مع النفس المفارقة التي كانت للمزاج المناسب له مناسبة لها ،فل تتعلق النفس
المفارقة بهذا المزاج تعللقا كلليا لستحالة تصرف النفسين في بدن واحد ،فتتعلق بذلك المزاج تعللقا دون تعلق تلك النفس الحادثة
معه ،فتزداد خيلرا إن كانت خيرة وشلرا إن كانت شريرة ،ولذلك يقال لكل إنسان جني يشاكله ويعاونه أو شيطان يغويه ويضله،
وإن حدث مزاجان في زمان واحد في بدنين أو في مكانين وحدثت لهما نفسان كانتا تربين ففي البدان تربان وفي النفوس تربان،
وكل من تكون مناسبة الرواح المفارقة إلى روحه أكثر حدث به من تلك التصالت أنواع من الخلق ،فيكون عرالفا كاهلنا أو
صاحب تنجيم أو غير ذلك ،وربما كانت القوة الوهمية بعد المفارقة بحيث يصير لها العالم المحسوس بدلنا ول تتعداه إلى العالم
العلى ،فتطالع السباب الجزئاية في هذا العالم فتستفيد النفس البدنية المتصلة بها معرفة ما والشرير منها في غاية الشر ،لنها
خرجت عن المادة ،فالشرير شيطان والخير من الطبقة الناقصة جن والجن والشياطين علئاق يتمسك بها البشر وأفعال روحانية
هي مولدات لفعال طبيعية ،والخلص عن المادة دليل كمال القوة سواء كانت تلك القوة رداءة أو قوة خير ،وأما القاعدة عن اليمين
والشمال فقالوا فيهما ما قالوا ،والحق أن هذا سر إنما يعرفه النبياء والمرسلون عليهم السلم ،وملئاكة السموات المدبرون
المتصرفون في أجرام السموات ل يعلم أعداد تلك الجرام إل ا تعالى ،كما قال ا تعالى) :وما يعلم جنود ربك إل هو( ]المدثر:
.[31وملك الموت هو الملك الذيِ يأمره ا تعالى بقبض الرواح متضملنا تفريق المزاج الذيِ استحق قبول تلك النفس مثاله مثال
مطفئ السراج بالنفخ ،والنفخ نفخان :نفخ يوقد كما قال تعالى) :فنفخنا فيها من روحنا( ]النبياء .[91 :ونفخ يطفئ كما قال تعالى:
)ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الرض( ]الزمر .[68 :وقال تعالى) :ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون(
]الزمر.[68 :
بداية صفحة 370
الركن الثالث فى المعجزات وأحوال النبياء عليهم السلم
تسبيح الحصى ،وقلب العصا حية تسعى ،وكلم البهائام ،وكلم الشاة التى قالت للنبى عليه الصلة والسلم حين سمتها اليهودية ل
تأكل منى فإنى مسمومة ،وأمثال ذلك على ثلثة أقسام :القسم الول الحسى ،والثانى الخيالى ،والثالث العقلى.
القسم الول :الحسى ،وهو أن يخلق ا العلم والحياة والقدرة فى الحصى حتى يتكلم .وفى البهيمة العقل والقدرة والنطق وذلك ليس
بمحال فإن ا تعالى قادر على أن يخلق فى الباذروج حياة وقدرة وسليما ،ويخلق منه عقربلا ،ويخلق من نوى النبق كذلك .ويخلق
من لحوم البقر النحل ،ومن النطفة النسان وسائار الحيوانات من موادها ،فهو قادر على أن يخلق بإعجاز نفس نبوية فى الحصاة
حياة وقدرة ،ومن ششاهد خلق الحية النضناضة من شعر امرأة ويحس ول يتعجب من قلب الشعر حية ،فكيف يتعجب من قلب
العصا حية ،والخشب كان ذا نفس نامية نباتية ،والشعر لم يكن قط ذا نفس ،والجسام متماثلة فكما جاز ذلك فى أجسام الناس جاز
ذلك فى سائار الجسام ،وأن كان الجسم النسانى بسبب اعتدال المزاج قابلل لهذه الشياء ،فكل جسم مستعد لقبول المزاج المعتدل.
وإن كان العتدال موقوفا ل على الحرارة والرطوبة ،فليس يمتنع أن يكون كل جسم قابلل للحرارة والرطوبة ويكون دعاء النبى
وهمته يؤثران فى كينونة هذه الشياء من غير مهلة ومدة ،وإن جرت العادة أن يخلق ا تعالى مثل هذه الشياء فى مدة وبذلك
يظهر شرف النبياء وخرق العادة ليس بمحال مثال ذلك :الشمس والنار ،فإن ما يحصل من تأثير الشمس فى المائاعات وغيرها
إنما يحصل بمدة على سبيل التدريج ،وما يحصل من إسخان النار يكون دفعة فلم استحال أن يكون تأثير مراد النبياء على وجه
تكون نسبة إسخان النار إلى إسخان الشمس.
القسم الثانى :العقلى وهو قول ا تعالى } :دو هإن رَمن دشليءء إهلا ايدسرَباح هبدحلمهدهه{ ]السراء .[44 :وهو شهادة كل مخلوق ومحدث على
خالقه وموجود كشهادة البناء على البانى والكتابة على الكاتب ،ويقال لذلك لسان الحال والمتكلمون يقولون هذه دللة الدليل على
المدلول ،والحمقى من الناس ل يعرفون هذه الرتبة ول يقرون بها.
القسم الثالث :الخيالى ،أن لسان الحال يصير مشاهدال محسوسا ل على سبيل التمثيل .وهذه خاصية النبياء والرسل عليهم الصلة
والسلم ،كما أن لسان الحال يتمثل فى المنام لغير النبياء ويسمعون صوتا ل وكلما ل كما يرى فى منامه ،أن جملل يكلمه أو فرسا ل
يخاطبه أو ميتا ل يعطيه شيئاا ل أو يأخذ بيده أو يسلب منه شيئاا ل أو تصير أصبعه شمسا ل أو قمرال أو يصير ظفره أسدال أو غير ذلك مما
يراه النائام فى منامه ،فالنبياء عليهم الصلة والسلم يرون ذلك
بداية صفحة 371
فى اليقظة وتخاطبهم هذه الشياء فى اليقظة ،فإن المتيقظ ل يميز بين أن يكون ذلك نطقا ل خياللييا أو نطقا ل حسلييا من خارج ،والنائام
إنما يعرف ذلك بسبب انتباهه والتفرقة بين النوم واليقظة ،ومن كانت له ولية تامة تفيض تلك الولية أشعتها على خيالت
الحاضرين حتى أنهم يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه ،والتمثيل الخيالى أشهر هذه القسام واليمان بهذه القسام كلها وأجمعها
واجب.
فصل فى الشفاعة
وأما شفاعة النبياء عليهم الصلة والسلم والولياء ،فالشفاعة عبارة عن نور يشرق من الحضرة اللهية على جوهر النبوة ينشر
منها إلى كل جوهر استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن وكثرة الذكر بالصلة عليه صلى
ا عليه وسلم ومثاله نور الشمس إذا وقع على الماء فإنه ينعكس منه إلى موضع مخصوص من الحائاط ل إلى جميع المواضع،
إنما اختص ذلك الموضع لمناسبة بينه وبين الماء فى الموضع وتلك المناسبة مسلوبة على سائار أجزاء الحائاط ،وذلك الموضع هو
الذى إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية إلى الرض مساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من
الماء إلى قرص الشمس بحيث ل يكون أوسع منه ول أضيق .مثال ذلك لئاح وهذا ل يمكن إل فى موضع مخصوص من الجدار،
فكما إن المناسبات الوضعية تقتضى الختصاص بانعكاس النور فالمناسبات المعنوية العقلية أيضا ل تقتضى ذلك فى الجواهر
المعنوية ،ومن استوى عليه التوحيد فقد تأكدت مناسبته مع الحضرة اللهية فأشرف عليه النور من غير واسطة ،ومن استولت
عليه السنن والقتداء بالرسول ومحبة اتباعه ولم ترسخ قدمه فى ملحظة الوحدانية لم تستحكم مناسبته إل مع الواسطة ،فافتقر إلى
واسطة الماء المكشوف للشمس إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة فى الدنيا ،فالوزير الممكن فى قلب المخصوص بالعناية قد
يغضى الملك عن هفوات أصحاب الوزير يعفو عنهم ل لمناسبة بين الملك وأصحاب الوزير ،لكن لنهم يناسبون الوزير المناسب
ل ،لن الملك ل يعرف للملك ،ففاضت العناية عليهم بواسطة الوزير ل بأنفسهم ،ولو ارتفعت الواسطة لم تشملهم العناية أص ل
أصحاب الوزير واختصاصهم به إل بتعريف الوزير وإظهار الرغبة فى العفو عنهم فيسمى لفظه فى التعريف إظهار شفاعة على
سبيل المجاز ،وإنما الشفيع مكانته عند الملك وإنما اللفظ لظهار الغرض وا مستغن عن التعريف ،ولو عرف الملك حقيقة
اختصاصه بالوزير لستعنى عن اللفظ وحصل العفو بشفاعة ل نطق فيها ول كلم ،وا تعالى عالم به ،فلو أذن للنبياء عليهم
الصلة والسلم فى التلفظ بما هو معلوم عند ا تعالى لكانت
بداية صفحة 372
ألفاظهم ألفاظ الشفعاء ،وإذا أراد ا تعالى أن يمثل حقيقة الشفاعة بمثال يدخل فى الحس والخيايل لم يكن ذلك التمثيل إل بألفاظ
مألوفة بالشفاعة ويدل على ذلك انعكاس النور بطريق المناسبة ،وإن جميع ما ورد فى الخبار عن استحقاق الشفاعة متعلق بما
يتعلق بالرسول عليه الصلة والسلم من صلة عليه أو زيارة لقبره أو جواب المؤذن والدعاء له عقيبه وغير ذلك مما يحكم علقة
المودة والمحبة والمناسبة معه.
الركن الرابع فى أحوال ما بعد الموت
فصل فى عذاب القبر
فى عذاب القبر ،النفس إذا فرقت البدن حملت القوة الوهمية معها كما ذكرناها ،وتتجرد عن البدن منزهة ليس يصحبها شئ من
الهيئاات البدنية ،وهى عند الموت عالمة بمفارقتها عن البدن وعن دار الدنيا متوهمة نفسها النسان المقبور الذى مات ،وعلى
صورته كما كان فى الدنيا يتخيل ويتوهم وتتخيل بدنها مقبورال ويتخيل اللم الواصلة إليها على سبيل العقوبات الحية على
ماوردت به الشرائاع الصادقة ،فهذا عذاب القبر ،وإن كانت سعيدة تتخيله على صورة ملئامة على وفق ما كانت تعتقده من الجنات
والنهار والحدائاق والغلمان والولدان والحور العين والكأس من المعين ،فهذا ثواب القبر فلذلك قال النبى عليه الصلة والسلم:
"القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران " .فالقبر الحقيقى هذه الهيئاات ،وعذاب القبر وثوابه ما ذكرناهما،
والنشأة الخرى خروج النفس عن غبار هذه الهيئاات كما يخرج الجنين من القرار المكين ،كما قال تعالى } :قالل ايلحهييدها الاهذى دأندشأ ددها
ضهر دنارال دفإهدذا دأناتم رَملناه اتوهقادودن { ]يس أداودل دمارءة دواهدو هباكرَل دخللءق دعهليسم { ] يس . [ 79 :وقوله تعالى } :الاهذى دجدعدل لداكم رَمدن الاشدجهر الدلخ د
.[ 80 :دليل ظاهر ومثال برَين لهذه النشأة.
فصل
ت هقديادماتاه " ،الفاء هنا للتعقيب يعنى قامت قيامة الميت عند موته .مثال ذلك :من ت دفدقلد دقادم ل
قول النبى صلى ا عليه وسلم " :دملن ما د
سرق نصابا ل كاملل من حرز ،فقد استحق قطع يده ،وهذا عقاب ل يتأخر عن هذا الفعل .وقال تعالى أيضا ل } :ودمن ايدولرَههلم ديلودمهئاءذ ادابدرها
ا { ] النفال .[ 16 :والقيامة الكبرى ميعاد عند ب رَمدن هض ء إهلا امدتدحرَرلفا لرَهقدتاءل أدلو امدتدحرَيلزا إهدلى هفدئاءة دفدقلد دبادء هبدغ د
بداية صفحة 373
تشابه فلكل واحد منها خواص ببعض أنواع الوجود يعتبر ذلك فى أوقات الحرث والنسل وغيرهما ،وعند المتكلمين يرجع ذلك إلى
مشيئاة ا تعالى ،فإنه تعالى يخصص وقتا ل يوجد فيه موجودال بإرادته ومشيئاته مع أن الوقات متشابهة بالضافة إلى القدرة وإلى
ذات القديم سبحانه وتعالى ،والفلسفة يقولون :إن مبادئ الحوادث حركات الفلك ،وإن أدوارها مختلفة ،وكل شكل من تشكلت
مباين غيره من التشكلت مقرر ذلك فى براهين إقليدس ،إذ كل تشكل وكل عودة من تلك التشكلت ل تعود بعينها ،وبذلك يبطلون
دعوى المنجمين فى التجربة لكل عودة وتشكل من تشكلت الفلك ،فيجوز أن يتجدد دور مباين لسائار الدوار تحدث فيه الحيوانات
غريبة الشكل لم ير مثلها قبلها قط ،وإذا ألقينا حجرال فى الماء يحدث فيه شكل مستدير تكون استدارة هذا الشكل مناسبة لعمقه وكلما
ازداد عمقه ازدادت تلك الدائارة ،فإذا ألقينا حجرال آخر قبل تمام هذه الدائار لم يلزم أن تكون حركة الماء فى النوبة الثانية كحركته
فى النوبة الولى ،لن الماء فى الولى ساكن وفى الخرى متحرك ،فإن تشكيل الحجر للمتحرك خلف تشكيله للساكن ،فتختلف
الشكال مع تساوى السباب لمتزاج أثر السابق باللحق .وهب أن تشكلل للمتحرك وافق شكلل آخر فكيف يكون مقومات الثوابت
والوجات وسائار الجواهر على مثل ما كان عليه فى التشكيل الول ،فل يستحيل أن يكون فى التقدير الزلى للدوار دور يخالف
هذه الدوار يقتى نمطا ل من نظام الوجود والبداع على خلف النمط المعهود ،ول يستحيل أن يكون ذلك النمط بديعا ل لم يسبق له
نظير ،ول أن يكون حكمه باقيا ل ل يلحقه مثل الدور السابق المنسوخ .فيبقى النمط الحاصل من البداع مستمرال فى جنسه ،وإن
كانت تتبدل أحواله فيكون ميعاد القيامة الكبرى حصول ذلك التشكيل الغريب من السباب العالمية ،فيكون سببا ل كليا لي جامعا ل لجميع
الرواح ،فيعم حكمها كافة الرواح فتكون قيامة عامة مخصوصة بوقت ل تتسع القوة البشرية لمعرفتها .أعنى لمعرفة وقتها ول
النبياء المرسلون عليهم الصلة والسلم ،فإن النبياء أيضا ل يكشف لهم ما يكشف بقدر احتمالهم وقبولهم ،فإذا لم يقم برهان كلمى
ول فلسفى على استحالته وجب التصديق به إذا ورد الشرع به تشريحا ل ل يتطرق إليه الحتمال والتأويل ،وقد صرح الشرع به
تصريحا ل ضرورلييا يجب اليمان به ول يمكن تأويله ،وكما جاز أن يحدث دور بشكل يحدث بسببه أنواع الحيوانات لم يعهد مثلها،
فكذلك يجب أن يحدث زمان يحشر فيه الموتى وتجمع أجزاؤهم وتعود إلى أشباحهم أرواحهم ،فكما أن الجاهل يتأمل فصل الشتاء
ويتعجب إن يحصل فيه نبات وثمال إذا ورد فصل الربيع عاين ذلك وبين زمانى الفصلين بعد فى هذه الدار ،فكذلك بين زمان
النشأة الولى التى تحصل للنسان بالتناسل ،وزمان النشأة الخرى التى تحصل للنسان بالحياء والعادة بعيد ل يقاس أحدهما
على الثانى.
بداية صفحة 374
فصل فى إعادة النفس إلى البدن
عودة النفس إلى البدن بعدمفارقتها عنه فى القيامة أمر ممكن غير مستحيل ،ول ينبغى أن يتعجب منه ،بل التعجب من تعلق النفس
بالبدن فى أول المر أظهر من تعجب عودها إليه بعد المفارقة ،وتأثير النفس فى البدن تأثير فعل وتسخير .ول برهان على
استحالة عود هذا و؟؟؟ هذا البدن مستعدال مرلة اأخرى لقبول تأثيره وتسخيره .بقى ههنا تعجب من ضعفاء العقول ،وهو أن ذلك
الستعداد النسانى يحصل قليلل قليلل بالتدريج من نطفة فى قرار مكين ثم من عهلقة إلى تمام الخلقة ،وإذا لم يكن كذلك ل يقبل
استعداد قبول التسخير ودفع هذا التعجب .إنا قد بينا أن ما هو ممكن بالتدريج إنما هو التوالد ،وأما التولد فل يكون بالتدرج بل
حدوثه ممكن دفعة واحدة .أل ترى أن الفأر الذى يتوالد يكون بالتدريج وباجتماع الذكر والنثى وبعد حمل وسفاد ،وأن التولدى منه
يكون دفعة فإنه لم يوجد قط مدر ول تراب بعضه فأر وبعضه بالقوة قريب إلى حجم الفأر ،وكذلك الذباب الذى يتولد فى الصيف
من العفونات يكون دفعة ولم توجد عفونة تغيرت عن حالها وصارت بالقوة قريبة إلى أن تستحيل ذبابا ل من غير مهلة وتدرج،
والنشأة الثانية تولدية من تلك الجزاء التى كانت فى الصل وإن تفرقت وانخلعت صورها فيرد ا تعالى واهب الصور تلك
الصور إلى موادها ويحصل المزاج الخاص مرة اأخرى ،ولها نفس حدثت عند حدوث ذلك المزاج ابتدالء فتعود بالتسخير
والتصرف إليها مع العلقة التى بينهما ،مثال ذلك راكب سفينة قد غرقت وتفرقت أجزاؤها ،وانتقل الراكب بالسباحة إلى جزيرة،
ثم ترد تلك الجزاء بعينها إلى الهيئاة الولى وتوطد وتؤكد عاد إليها راكب السفينة وأجراها وتصرف فيها كما شاء ،ول يجب إن
يستحق هذا الحشر وجميع الجزاء والمزاج المجدد نفسا ل اأخرى ،فإن حدوث المزاج يستحق حدوث نفس له ،أما أعود المزاج إلى
الحالة الولى فل يستحق إل عود النفس إلى الحالة الولى ،وأما ظن أن الجزاء الرضية ل تفى بذلك فظن ووهم ل اعتبار بهما،
فمن قاس النسان والجزاء الرضية التى فيها بأجزاء الرض ،وأى مهندس استخرج بالمساحة ذلك الحد ،وأما الختلف الراجع
إلى ذلك فى الكتب اللهية فى التوراة :إن أهل الجنة يمكثون فى النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملئاكة ،وإن أهل النار
كذا أو أزيد ثم يصيرون شياطين ،وفى النجيل :أن الناس يحشرون ملئاكة ل يطعمون ول ينامون ول يشربون ول يتوالدون،
وفى القرآن :أن الناس يحشرون كما خلقهم ا تعالى أول مرة كما قال تعالى } :دفدسدياقوالودن دمن ايهعيادنا قاهل الاهذى دفدطدراكلم أداودل دمارءة {
ف اتلحهيى اللدملودتى { ] البقرة .[260 :وقول ب أدهرهنى دكلي د
]افسراء .[ 51 :وسؤال إبراهيم عليه الصلة والسلم عن ا تعالى } :در رَ
عزير صلى ا عليه وسلم حكاية منه } :أدانى ايلحهيى دههذهه ا
بداية صفحة 375
د ا د د ل
ك دبدعثنااهلم لهديتدسادءلوا دبليناهلم{ دبلعدد دملوهتدها دفأ ددمادتاه اا همائاة دعاءم ثام دبدعثاه { ]البقرة .[259 :ومكث أصحاب الكهف وهو قوله تعالى} :دوكذله د
د د د ا د د
ا دحكق{ ]الكهف .[21 ،19 :دلئال على أن هذه النشأة كائانة ممكنة يجب اليمان بها ،وكان فى إلى قوله تعالى } :لهديلعدلاموا أدان دولعدد ه
قديم الدهر فيها اختلف الناس والنبياء عليهم السلم يثبتون تلك بالبراهين والمثلة المحسوسة ،والتعجب من النشأة الولى أكثر
من الخرى إل أن النشأة الولى محسوسة مشاهدة معتادة فسقط التعجب ،فإنا لو سمعنا أن إنسانا ل حرك نفسه فوق امرأة كما يحرك
الممخض وخرج من أجزائاه شئ مثل زبد سيال فيخفى ذلك الشئ فى بعض أعضاء المرأة ويبقى مدة على هذه الحالة ثم يصير
علقة ،ثم العلقة تصير مضغة ،ثم المضغة تصير عظاملا ،ثم تكسى العظام لحملا ،ثم يحصل فيه الحركة ،ثم يخرج من موضع لم
يعهد خروج شئ منه على حالة ل يهلك أمه ول يشق عليها فى ولدته ،ثم يفتح عينيه ويحصل فى ثدى الم شئ مثل شراب مائاع لم
يكن قبل ذلك فيها ويتغذى به الطفل إلى أن يصير هذا الطفل بالتدريج صاحب صناعات واستنباطات ،بل ربما هذا الشئ الذى
أصله نطفة وهو عند الولدة أضعف خلق ا يصير عن قريب ملكا ل جبارال قهارال يملك أكثر العالم ويتصرف فيه ،فإن التعجب من
ذلك أكثر وأوفر من التعجب من النشأة الخرى ،والصل أن كل شئ لم يشاهده النسان ولم يعرف سببه يحصل له منه التعجب،
والتعجب هيئاة تحصل للنسان عند مشاهدة شئ لم يشاهده قبل ذلك أو ساع شئ لم يعرف سببه ولم يسمعه قبل ذلك.
فصل
ك{ ]ق[22 : د
ك هغطادء د د ل د د د
تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائاق المور ،وبالموت ينكشف الغطاء كما قال ا تعالى } :فكشفنا دعن د
.ومما ينكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى ا تعالى ويبعده وهى مقادير تلك الثار ،وأن بعضها أشد تأثيرال من البعض ،ول
يمتنع فى قدرة ا تعالى إن يجرى سببا ل يعرف الخلق فى لحظة واحدة مقادير العمال بالضافة إلى تأثيراتها فى التقريب
والبعاد ،فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ومثاله فى العالم المحسوس مختلف ،فمنه الميزان المعروف ،ومنه القبان
للثقال ،والسطرلب لحركات الفلك ،والوقات والمسطرة للمقادير ،والخطوط والعروض لمقادير حركات الصوات ،فالميزان
الحقيقى وإذا مثله ا عز وجل للحواس مثله بما شاء من هذه المثلة أو غيرها ،فحقيقة الميزان وحده موجودة فى جميع ذلك وهو
ما يعرف به الزيادة من النقصان وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ،وللخيال عند التمثيل ،وا تعالى أعلم مما يقدره من
صنوف التشكيلت والتصديق بجميع ذلك واجب.
بداية صفحة 376
فصل فى الحساب
والحساب جمع متفرقات المقادير وتصريف مبلغها وما من إنسان إل وله أعمال متفرققة نافعة وضارة ومقربة ومبعدة ل تعرف
فذلكتها وقد ل تحصر آحاد متفرقاتها ،فإذا حصرت المتفرقات وجمع مبلغها كان حسابلا ،فإن كان فى قدرة ا تعالى أن يكشف فى
لحظة واحدة للعالمين متفرقات أعمالهم ومبلغ آثارها فهو أسرع الحاسبين ،وومعلوم أن فى قدرته ذلك فإذن هو أسرع الحاسبين
قطعا ل .وسئال أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم ا وجهه :كيف يحاسب ا الخلق فى لحظة من غير تشويش ول غلط؟ فقال
رضى ا عنه :كما يرزقهم مع سائار الحيوانات بل تشويش ول غلط.
فصل فى الصراط
الصراط حق .وما قيل إنه مثل الشعرة فى الدقة ،فهو ظلم فى وصفه ،بل أدق من الشعر ،بل ل مناسبة بين دقته ودقة الشعر،
وحدته وحدة السيف ،كما ل مناسبة فى الدقة ،فهو ظلم فى وصفه ،بل أدق من الشعر ،بل ل مناسبة بين دقته ودقة الشعر ،وحدته
وحدة السيف ،كما ل مناسبة فى الدقة بين الخط الهندسى الفاصل بين الظل والشمس الذى ليس من الظل ول الشمس ،وبين دقة
الشعر ودقة الصراط مثل دقة الخط الهندسى الذى ل عرض له أصلل لنه على مثال الصراط المستقيم ،والصراط المستقيم عبارة
عن الوسط الحقيقى بين الخلق المتضادة ،لذلك قد باين ا بهذا الدعاء فى سورة الفاتحة حيث قال } :الهددنا الرَدرادط الاملسدتهقيدم{ ]
صدراءط مملسدتهقيءم{ ]الشورى . [52 :وقال صلى ا عليه ك دلدتلههدى إهدلى ه الفاتحة .[6 :وقال فى حق المصطفى صلوات ا عليه } :دوإهان د
ك دلدعدلى اخلاءق دعهظيءم{ ]القلم [4 :مثال ذلك السخاوة بين التبذير وسلم " إنما بعثت لتمم مكارم الخلق" .وقال تعالى شأنه } :دوإهان د
والبخل ،والشجاعة بين التهور والجبن ،والقتصاد بين السراف والقتار ،والتواضع بين التكبر والدناءة ،والعفة بين الشهوة
والخمود ،فهذه الخلق لها طرف إفراط وطرف تقصير وهما مذمومان والوسط ليس من الفراط ول من التقصير فهو على غاية
البعد من كل طرف ،ولذلك قال النبى صلى ا عليه وسلم " :خير المور أوسطها " مثال ذلك الوسط الخط الهندسى الفاصل بين
الظل والشمس ل من الظل ول من الشمس ،والتحقيق فى ذلك أن كمال الدمى فى المشابهة بالملئاكة وهم منفكون عن هذه
الوصاف المضادة ،وليس فى إمكان النسان النفكاك عنها بالكلية ،فكلفه ا تعالى بما يشبه النفكاك ،وإن لم يكن حقيقة النفكاك
وهو الوسط فإن الفاتر ل حار ول بارد ،والعودى ل أبيض ول أسود ،فالبخل والتبذير من صفات النسان ،والمقتصد السخى كأنه
ل بخيل ول مبذر ،فالصراط المستقيم وهو الوسط الحق بين الطرفين الذى ل ميل له إلى
بداية صفحة 377
أحد الجانبين وهو أدق من الشعر ،فالذى يطلب غاية البعد من الطرفين يكون على الوسط ،ولو فرضنا حلقة حديد محماة بالنار
وقعت نملة فيها وهى تهرب بطبعها من الحرارة فل تموت إل على المركز لنه الوسط الذى هو غاية البعد من المحيط المحرق،
وتلك النقطة ل عرض لها ،فإذال الصراط المستقيم هو الوسط بين الطرفين ول عرض له .فهو أدق من الشعر ،ولذلك حرج عن
القدرة البشرية والوقوف عليه فل جرم بوروءد أمثالنا النار بقدر ميله عنه ،كما قال تعالى } :دوهإن رَمناكلم إهلا دواهراددها دكادن دعدلى دررَب د
ك
صاتم دفلد دتهميالوا اكال اللدمليهل{ ]النساء.[129 : ضلييا{ ]مريم .[71 :وقال تعالى } :دودلن دتلسدتهطياعوا دأن دتدعهدالوا دبليدن الرَندساهء دودللو دحدر ل دحلتلما املق ه
فإن العدل بين المرأتين فى المحبة والوقوف على درجة متوسطة ل ميل فيه إلى إحداهما كيف يدخل تحت المكان؟ فمن استقام فى
صدراهطى املسدتهقيما ل هذا العالم على الصراط المستقيم الذى يحكى ا تعالى حقيقته عن النبى صلى ا عليه وسلم } :دوأدان دهدذا ه
دفااتهباعوها{ ]النعام .[153 :مار على صراط الخرة مستويا ل من غير ميل لنه فى هذا العالم عود نفسه التحفظ عن الميل ،فصار ذلك
صراهط وصفا ل طبيع يليا له فإن العادة طبيعية خامسة .هذا حق قطعا ل كما ورد به الشرح وجاء فى الحديث " :ديامار الملؤهمان دعدلى ال رَ
دكالدبلرهق الدخاهط ه
ف".
فصل فى الجنان
اللذات المحسوسة الموجودة فى الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق بها لمكانها ،وهى كما تقدم حسى وخيالى وعقلى.
أما الحسى ،فبعد رد الروح إلى البدن كما ذكرنا ،وأما الكلم فى أن بعض هذه اللذات مما ل يرغب فيها مثل اللبن والستبرق
والطلح المنضود والسدر المخضود ،فهذا مما خوطب به جماعة يعظم ذلك فى أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة ،وفى كل صنف
وكل إقليم مطاعم ومشارب وملبس تختص بقوم دون قوم ،ولكل واحد فى الجنة ما يشتهيه كما قال تعالى } :دولداكلم هفيدها دما دتلشدتههى
دأنفااساكلم دولداكلم هفيدها دما دتاداعودن{ ]فصلت . [31 :وربما يعظم ا تعالى فى الخرة شهوة ل تكون تلك الشهوة معظمة فى دار الدنيا،
كالنظر إلى ذات ا تعالى ،فإن الشهوة والرغبة الصادقة فيها فى الخرة دون الدنيا.
وأما الخيالى ،فل يخفى إمكانه ولذته كما فى النوم إل أنه مستحقر لنقطاعه عن قريب ،فلو كانت دائامة لم يدرك فرق الخيالى
والحسى لن التذاذ النسان بالصور من حيث انطباعها فى الخيال والحس ل من حيث وجودها من خارج ،فلو وجد من خارج ولم
يوجد فى حسه بالنطباع فل لذة ،ولو بقى المنطبع فى الحس وعدم الخارج لدامت اللذة
بداية صفحة 378
وللقوة المتخيلة قدرة على اختراع الصور فى هذا العالم ،إل أن صورها المخترعة متخيلة وليست محسوسة ول منطبعة فى القوة
والباصرة ،فلذلك لو اخترع صورة جميلة فى غاية الجمال وتوهم حضورها ومشاهدتها لم تعظم لذاته لنه ليس يصير مبصرال كما
فى النوم ،فلو كانت له قوة على تصويرها فى القوة الباصرة كما له قوة على تصويرها فى القوة المتخيلة لعظمت لذاته ونزلت
منزلة الصور الموجودة من الخارج ،ول تفارق الخرة الدنيا فى هذا المعنى إل من حيث كمال القدرة على تصوير القوة الباصرة،
وكل ما يشتهيه يحضر عنده فى الحال فتكون شهوته بسبب تخيله وتخيله بسبب إبصاره أى بسبب انطباعه فى القوة الباصرة فل
يخطر بباله شئ يميل إليه إل ويوجد فى الحال أى يوجد بحيث يراه ،وإليه الشارة بقوله عليه الصلة والسلم " :إن فى الجنن
سوقا ل تباع فيه الصور" ،والسوق عبارة عن اللطف اللهى الذى هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب المشيئاة ،وانطباع
القوة الباصرة بها انطباعا ل ثابتا ل إلى دوام المشيئاة ل انطباعا ل هو معرض للزوال من غير اختيار كما فى النور فى هذا العالم ،وهذه
القدرة أوسع وأكمل من القدرة على اليجاد خارج الحس ،لن الموجود من خارج مشغوفا ل به محجوبا ل عن غيره ،وأما هذا فيتسع
اتساعا ل ل ضيق فيه ول منع حتى إذا اشتهى مشاهدة الشئ مثلل ألف شخص فى ألف مكان فى حالة واحدة ،لشاهدوه كما خطر
ببالهم فى أماكنهم المختلفة ،وأما البصار الحاصل عن شخص الشئ الموجود من خارج الحس ل يكون إل فى مكان واحد ،وحمل
أمر الخر على ما هو أوسع وأتم للشهوات وأوفق بها أولى ول نقص فى قدرة اليجاد.
وأما الوجه الثالث :وهو الوجود العقلى ،فأن تكون هذه المحسوسات أمثلة للذات العقلية التى ليست بمحسوسة ،لكن العقليات تنقسم
إلى أنواع كثيرة مختلفة اللذات كالحسيات ،فتكون الحسيات أمثلة لها وكل واحد يكون مثالل للذة أخرى مما رتبته فى العقليات
توازى رتبة المثال فى الحسيات فإنه لو رأى فى المنام الخضرة والماء الجارى والوجه الحسن والنهار المطردة باللبن والعسل
والخمرة ،والشجار المزينة بالجواهر واليواقيت واللئ ،والقصور المبنية من الذهب والفضة ،والسرر المرصعة بالجواهر،
والغلمان الماثلين بين يديه للخدمة ،لكان المعبر يفسر ذلك بالسرور ول يحمله على نوع واحد ،بل يحمل كل واحد على نوع آخر
من أنواع السرور وقرة العين يرجع بعضه إلى قهر العداء ،وبعضه إلى مشاهدة الصدقاء ،وإن شمل الجميع اسم اللذة والسرور
فهى مختلفة المراتب مختلفة الذوق لكل واحدة مذاق يفارق الخرة ،فكذلك اللذات العقلية ينبغى أن تفهم كذلك ،وإن كان مما ل عين
رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر ،فجميع هذه القسام ممكنة
بداية صفحة 379
فيجوز أن يجمع بين الكل لواحد ،ويجوز أن يكون نصيب كل واحد بقدر استعداده .فالمشغوف بالتقليد والجمود على الصور الذى
لم تنفتح له طرف الحقائاق تمثل له هذه الصور واللذات ،والعارفون المستصغرون لعالم الصور واللذات المحسوسة يفتح لهم من
لطائاف السرور واللذات العقلية ما يليق بهم ويشفى شرهم وشهوتهم إذ حد الجنة أن فيها لكل امرئ ما يشتهيه ،وإذا اختلفت
الشهوات لم يبعد أن تختلف العقليات واللذات ،والقدرة واسعة والقوة البشرية عن الحاطة بعجائاب القدرة قاصرة والرحمة اللهية
ألقت بواسطة النبوة إلى كافة الخلق القدر الذين احتملته أفهامهم ،فيجب التصديق بما فهموه والقرار بما وراء منتهى الفهم فى
أمور تليق بالكرم اللهى ول تدرك بالفهم البشرى وإنما يدرك ذلك فى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فصل
أما التقرب لمشاهدة النبياء والئامة عليهم الصلة والسلم ،فإن المقصود منه الزيارة والستمداد من سؤال المغفرة وقضاء
الحوائاج من أزواج النبياء والئامة عليهم الصلة والسلم ،والعبارة عن هذا المداد الشفاعة ،وهذا يحصل من جهتين :الستمداد
من هذا الجانب والمداد من الجانب الخر ،ولزيارة المشاهد أثر عظيم فى هذين الركنين .أما الستمداد فهو بانصراف همة
صاحب الحاجة باستيلء ذكر الشفيع والمزور على الخاطر حتى تصير كلية همته مستغرقة فى ذلك ،ويقبل بكليته على ذكره
وخطورة بباله وهذه الحالة سبب منه لروح ذلك الشفيع ،أ ,المزور حتى تمده تلك الروح الطيبة بما يستمد منه ،ومن أقبل فى الدنيا
بهمته وكليته على إنسان فى دار الدنيا ،فإن ذلك النسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه ويخبره بذلك ،فمن لم يكن فى هذا العالم فهو
أولى بالتنبيه وهو مهيأ لذلك التنبيه ،فإن اطلع من هو خارج عن أحوال العالم إلى بعض أحوال العالم ممكن ،كما يطلع فى المنام
على أحوال من هو فى الخرة أهو مثاب أو معاقب ،فإن النوم صنو الموت وأخوه ،فبسبب النوم صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم
نكن مستعدين فى حالة اليقظة لها ،فكذلك من وصل إلى الدار الخرة ومات موتا ل حقيقلييا كان بالطلع على هذا العالم أولى
وأحرى ،فأما كلية أحوال هذا العالم فى جميع الوقات لم تكن مندرجة فى سلك معرفتهم ،كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة فى
معرفتنا فى منامنا عند الرؤيا ولحاد لمعارف معينات ومخصصات منها همة صاحب الحاجة وهى استيلء صاحب تلك الروح
العزيزة على صاحب الحاجة ،وكما تؤثر مشاهدة صور صورة الحى فى حضور ذكره وخطورة نفسه بالبال ،فكذلك تؤثر مشاهدة
ذلك الميت ومشاهدة تربته التى هى حجاب
ص 380
قالبه,فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهده ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده,ومن ظن أنه قادر
على أن يحضر في نفس ذلك الميت عنده غيبة مشهده كما يحضر عند مشاهدة مشهده,فذلك خطأ,فإن للمشاهدة أثرا بيينا ليس للغيبة
مثله,ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الستعانة أيضا جزافا ول تخلو من أثر ما كما قال عليه الصلة والسلم":من
صلى عليي مرة صليت عليه عشرا" "ومن أجاب المؤذن حيلت له شفاعتي"" .ومن زار قبريِ حلت له شفاعتي" .فالتقرب بقالبه
الذيِ هو أخص الخواص له وسيلة تامة متقاضية للشفاعة والتقرب بولده الذيِ هو بضعة منه ,ولو بعد توالد وتناسل,والتقرب
بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه وبعله وعضادته والتقرب بعادته وسيرته والتقرب بكل ماله منها مناسبة إليه تقرب
موجب للقرب إليه مقتض لشفاعته,فإنه لفرق عند النبياء في كونهم في دار الدنيا وفي كونهم في دار الخرة ل في طريق
المعرفة ,فإن آلة المعرفة في الدنيا الحواس الظاهرة وفي العقبى آلة يعرف بها الغيب إما في كسوة مثال ,وإما على سبيل
التصريح ,وأما الحوال الخر في التقرب والقرب والشفاعة فل تتغير ,والركن العظم في هذا الباب المداد والهتمام من جهة
الممد ,وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بذلك المدد ,فإنه لو وضع شعر رسول ا صلى ا عليه وسلم أو عضادته أو سوطه على قبر
عاص مذنب نجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب ,وإن كان في دار إنسان أو بلدة ليصيب تلك الدار وأهلها وتلك
البلدة وسكانها ببركاتها بلء,وإن لم يشعر بها صاحب الدار وساكن البلدة ,فإن اهتمام النبي صلى ا عليه وسلم وهو في العقبى
مصروف إلى ماهو به منسوب ,ودفع المكاره والمراض والعقوبات مفوضة من جهة ا تعالى إلى الملئاكة,وكل ملك حريص
على إسعاف ماحرص النبي صلوات ا عليه بهمته إليه عن غيرع ,كما كان في حال حياته ,فإن تقرب الملئاكة بروحه المقدسة
بعد موته أزيد من تقربه به في حالة حياته.
قد حكي أن أبا طاهر الهجريِ القرمطي رفع إنسانا على عنقه حتى يجر ميزاب الكعبة ,فمات النسان على عاتقه وخر هو ميتا,
وأن جماعة من المصريين نقبوا في جدار روضة النبي صلى ا عليه وسلم وقصدوا إخراج شخصه ونقله إلى مصر كان ذلك في
نصف الليل ,فسمع أهل المدينة صوتا من الهواء احفظوا نبيكم معاشر المسلمين ,احفظوا نبيكم فأوقدوا السراج بل أوقدوا السرج
والشموع والمشاعل .ورأوا ذلك النقب في الجدار وحوله جماعة من المصريين موتى.وانقل أنه صلى ا عليه وسلم غرس غصنا
رطبا في قبر إنسان وقال :رفع ا تعالى عن صاحبه العذاب ما دام هذا الغصن رطبا ,وذلك من بركات يديه صلى ا عليه وسلم
وكل من أطاع سلطانا
ص 381
ظم تلك البلدة ,فالملئاكة عليهم السلم يعظمون النبى ظمه ,فإذا دخل بلده ورأى فيها من جهبة ذلك السلطان أو سوطا له فإنه يع ي وع ي
ي
فإذا رأوا ذخائاره في دار أو بلدة أو قبر عظموا صاحبه وخففوا عليه العذاب ,ولذلك السبب ينفع الموتى أن توضع على قبورهم
المصاحف ,ويتلى القرآن على رءوس قبورهم ,ويكتب القرآن على قراطيس وتوضع القراطيس في أيديِ الموتى ,فهذه أنواع
المناسبات على حسب حال من يريد أن يسوى كل مسموع ومشروع على قضية معقولة والصل في ذلك أن وراء مايتصوره
العقلء أمورا ورد الشرع بها وليعلم حقائاقها إل ا تعالى والنبياء الذين هم وسائاط بين ا تعالى وبين عباده ,وإن اجتمع الحذاق
وتفكروا في الشكل الموضوع على مناسبة العداد لسهولة الولدة حالة الطلق ماعرفوا تلك الخاصية .فكيف يطمع النسان أن
يعرف حقائاق ما ورد به الشرع من الوامر والنواهي والخبار والوعد والوعيد وغير ذلك ,والعقل ضعيف وتصرفه مختصر
بالضافة إلى تلك العجائاب ,والخواص .قد قررت يا أخي طيب ا عيشك بعض مايمكن التلويح إليه على وفق ما انتهت فطانتي
إليه ,وأوصيك ومن معك باليمان بهذه الشياء التي ورد الشرع بتصحيحها دون التوقف فيها ,ونعوذ بال من التوقف ,وسأهديِ
إليك من بعد أن وفقني ا تعالى عالقا مضنونا آخر اسمه المضنون به على غير أهله وأولى من هذا المصنف فإن في هذا مسائال
قررتها في عدة مواضع ومسائال لم أقررها إل في ذلك المصنف .أما المضنون الموجود فقد كان عزيمتي على تقرير أشياء فيه
تلويحات وإشارات إلى رموز ليعرفها إل أهلها وا المعين الهاديِ وهو حسبنا وإليه المرجع والمصير.
بسم ا الرحمن الرحيم
الجوبة الغزالية في المسائال الخروية
المضنون الصغير
سئال الشيخ المام الجل الزاهد السيد حجة السلم زين الدين مقتدى المة قدوة الفريقين أبو حامد محمد بن محمد الغزالي قدس ا
حي ")ص .(72ما التسوية وما النفخ وما الروح؟ روحه ونور ضريحه عن معنى قوله تعالى":دفإهدذا دساولياتاه دودندفلخ ا
ت هفيهه همن مرو ه
فقال :التسوية فعل في المحل القابل للروح ,وهو الطين في حق آدم صلى ا عليه وسلم ,والنطفة في حق أولده بالتصفية وتعديل
المزاج ,فإنه كما ليقبل النار يابس محض كالتراب
ص 382
والحجر ول رطب محض كالماء ,بل ل تتعلق النار إل بمركب من يابس ورطب ول كل مركب ,فإن الطين مركب ولتشتعل فيه
النار ,بل لبد بعد تركيب الطين الكثيف من تردد في أطوار الخلقه حتى يصير نباتا لطيفا ,فثبت فيه النار وتشتعل فيه ,وكذلك
الطين بعد أن ينشئاه ا خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتا ,فيأكله الدمي فيصير دما فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان
صفوة الدم الذيِ هو أقرب إلى العتدال ,فيصير نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فتزداد عند ذلك اعتدال ,ثم ينضجها
الرحم بحرارته فتزداد تناسبا حتى تنتهي في الصفاء .واستواء نسبة الجزاء إلى الغاية فتستعد لقبول الروح وإمساكها ,كالفتيلة
التي تستعد عند شرب الدهن لقبول النار وإمساكها ,فالنطفة عند تمام الستواء والصفاء تستحق باستعدادها روحا يدبرها
ويتصرف فيها ,فتفيض إليها من جود الجواد الحق الواهب لكل مسنحق مايستحقه ,ولكل مستعد مايقبله على قدر قبوله واحتماله
من غير منع ولبخل فالتسويه عبارة عن هذه الفعال المرددة لصل النطفة في الطوار السالكة بها إلى صفة الستواء والعتدال.
فصل
وسئال ما النفخ؟
فقال :النفخ عبارة عما أشعل نور الروح في فتيلة النطفة وللنفخ صورة ونتيجة أما صورته ,فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى
جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب القابل للنار ,فالنفخ سبب الشتعال ,وصورة النفخ الذيِ هو سبب في حق ا تعالى محال
والمسبب غير محال ,وقد يكنى بالسبب عن الفعل الذيِ يحصل المسبب عنه على سبيل المجاز ,وإن لم يكن الفعل المستعار له
ب ا
اا دعدلليههم ")المجادلة " .(14دفاندتدقلمدنا هملناهلم ")العراف .(136والغضب على صورة الفعل المستعار منه كقوله تعالى ":دغ ه
ض د
عبارة عن نوع تغير في الغضبان يتأذى به ونتيجته الهلك للمغضوب عليه وإيلمه فعبر عن نتيجة الغضب بالغضب ,وعن نتيجة
النتقام بالنتقام ,وكذلك عبر عما ينتج نتيجة النفخ بالنفخ وإن لم يكن على صورة النفخ.
فقيل له :فما السبب الذيِ اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة؟
قال :هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل .أما صفة الفاعل فالجود اللهي الذيِ هو ينبوع للوجود على ماله قبول الوجود
فهو فياض بذاته على كل حقيقة أوجدها ,ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل للستنارة عند
ارتفاع الحجاب بينهما ,فالقابل للستنارة وهي الملونات دون الهواء الذيِ ل لون له وأما
ص 383
صفة القابل فالستواء والعتدال الحاصل بالتسوية ,كما قال :سويته ,ومثاله صقالة الحديد ,فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها
لتقبل الصورة وإن كانت محاذية لوحاتها الصورة واشتعل الثقيل بتصقيلها فكلما حصل الصقال حدثت فيها الصورة المحاذية من
ذيِ الصور المحاذية ,فكذلك إذا حصل الستواء في النطفة حدث فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق ,بل إنما
حدث الروح الن لقبله لتغير المحل بحصول الستواؤ الن ل قبله ,كما أن الصور فاضت من ذيِ الصورة على المرآة في حكم
الوهم من غير حدث في الصورة ,ولكن كان ليحصل من قبل ل لن الصورة ليست مهيأة لن تطبع في المرآة,لكن لن المرآة لم
تكن صقلية قابلة للصور.
فقيل له :فما الفيض؟
قال :لينبغي أن تفهم من الفيض هنا ماتفهم من فيضان الماء من الناء على اليد ,فإن ذلك عبارة عن انفصال جزء من الماء عن
الناء واتصاله باليد ,بل افهم منه ماتفهمه من فيضان نور الشمس على الحائاط ,ولقد غلط قوم في نور الشمس أيضا ,فظنوا أنه
ينفصل شعاع من جرم الشمس ويتصل بالحائاطوينبسط عليه وهو خطأ ,بل نور الشمس سبب لحدوث شيء يناسبه في النوربة وإن
كان أضعف منه في الحائاط المتلون كفيضان الصور على المرآة من ذيِ الصورة ,فإنه ليس بمعنى انفصال جزء من صورة
النسان واتصاله بالمرآة بل على معنى أن صورة النسان مثل سبب لحدوث صورة تماثلها في المرآة المقابلة وليس فيهما اتصال
وانفصال إل السببية المجردة وكذلك الوجود اللهي سبب لحدوث نور الوجود في كل ماهية قابلة وجود فيعبر عنه بالفيض.
فصل
قيل له:قد ذكرت التسوية والنفخ ,فما الروح وماحقيقته ,وهل هو حاكل في البدن حلول الماء في الناء ,أو حلول العرض في
الجوهر ,أم هو جوهر ,قائام بنفسه؟ فإن كان جوهرا قائاما بنفسه فمتحيز هو أم غير متحيز؟وإن كان متحيزا فما مكانه أهو القلب أو
الدماغ أو موضع آخر؟ وإن لم يكن متحيزا فكيف يكون جوهرا غير متحيز؟ فقال:هذا سؤال عن سر الروح الذيِ لم يؤذن لرسول
ا صلى ا عليه وسلم في كشفه لمن ليس أهل له,فإن كنت من أهله فاسمع واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في
إناء ,ولهو عرض يحل القلب والدماغ حلول السواد في السود ,والعلم في العالم ,بل هو جوهر وليس بعرض لنه يعرف نفسه
وخالقه ويدرك المعقولت ,وهذه علوم والعلوم أعارض ولو كان موضوعا والعلم قائام به ,لكان قيام العرض بالعرض ,وهذا
خلف
ص 384
المعقول ولن العرض الواحد ليفيد إل واحدا فما قام به والروح يفيد حكمين متغايرين ,فإنه حين ما يعرف خالقه يعرف نفسه,
فدل على أن الروح ليس بعرض والعرض ليتصف بهذه الصفات ولهو جسم ,لن الجسم قابل للقسمة والروح لينقسم ,لنه لو
انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الخر منه جهل بذلك الشيء الواحد بعينه فيكون في حالة واحدة عامل
بالشيء جاهل به فيتناقص لنه في محل واحد وإل فالسواد والبياض في جزأين من العين متناقض ,والعلم والجهل بشيء واحد في
شخص واحد محال وفي شخصين غير محال ,فدل على أنه واحد وهو باتفاق العقلء جزء ليتجزأ أيِ شيء لينقسم إذ لفظ جزء
لئاق به ,لن الجزء إضافة إلى الكل ول كل هنا .فل جزء إل أن يراد به مايريد القائال بقوله الواحد جزء من العشرة ,فإنك إذا
أخذت جميع الجزاء التي بها قوام العشرة في كونها عشرة كان الواحد من جملتها وكذلك إذا أخذت جميع الموجودات أو جميع
مابه قوام النسان في كونه إنسانا كان الروح واحدا من جملتها ,فإذا فهمت أنه شيء لينقسم فل يخلو إما أن يكون متحيزا أو غير
متحيز ,وباطل أن يكون متحيزا إذ كل متحيز منقسم ,الجزء الذيِ ليتجزأ باطل أن يكون منقسما بأدلة هندسية وعقلية أقربها أنه لو
فرض جوهر بين جوهرين لكان كل واحد من الطرفين يلقى من الوسط غير مايلقى الخر ,فيجوز أن يقوم بالوجه الذيِ يلقاه هذا
الطرف علم وبالوجه الخر جهل ,فيكون عالما جاهل في حالة واحدة بشيء واحد ,وكيف ل ولو فرض بسيط مسطح من أجزاء
لتتجزأ لكان الوجه الذيِ يحاذينا ونراه غير الوجه الخر الذيِ لنراه ,فإن الواحد ليكون مرئايا وغير مرئاي في حالة واحدة,
ولكانت الشمس إذا حاذت أحد وجهيه استنار بها ذلك الوجه دون الوجه الخر ,فإذا ثبت أنه لينقسم وأنه ل يتجزأ ثبت أنه قائام
بنفسه وغير متحيز أصل.
فصل
فقيل له :وماحقيقة ,وماصفة هذا الجوهر ,وماوجه تعلقه بالبدن؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه؟ قال
رضي ا عنه :لهو داخل ولهو خارج ولهو منفصل ولمتصل ,لن مصحح التصاف بالتصال والنفصال الجسمية والتحيز
قد انتفيا عنه فانفك عن الضدين,كما أن الجماد لهو عالم ولهو جاهل لن مصحح العلم والجهل الحياة ,فإذا انتفت انتفى الضدان.
فقيل له :هل هو في جهة؟ فقال له :هو منزه عن الحلول في المحال والتصال بالجسام والختصاص بالجهات,
ص 385
فإن كل ذلك صفات الجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ول عرض في جسم ,بل هو مقدس عن هذه العوارض .فقيل له :لم
منع الرسول صلى ا عليه وسلم عن إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله تعالى ":قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي ")السراء.(85:
فقال :لن الفهام لتحتمله لن الناس قسمان عوام وخواص .أما من غلب على طبعه العامية فهذا ليقبله وليصدقه في صفات ا
تعالى فكيف يصدقه في حق الروح لنسانية ,ولهذا أنكرت الكرامية والحنبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا الله
جسما إذ لم يعلقوا موجودا إل جسما مشارا إليه ,ومن ترقى عن العامية قليل نفى الجسمية وما أطاق أن ينفى عوارض الجسمية
فأثبت الجهة وقد ترقى عن هذه العامية الشعرية والمعتزلة ,فأثبتوا موجودا لفي جهة.فقيل له :ولم ليجوز كشف هذا السر مع
هؤلء؟ فقال :لنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير ا تعالى ,فإذا ذكرت هذا لبعضهم كفروك وقالوا إنك تصف نفسك بما هو
صفة الله على الخصوص ,فكأنك تدعى اللهية لنفسك .فقيل له :فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة ل ولغير ا تعالى أيضا؟ فقال :
لنهم قالوا كما يستحيل في ذوات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد يستحيل أيضا أن يجتمع اثنان ل في مكان ,لنه إنما
استحال اجتماع جسمين في مكان واحد ,لنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الخر ,فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في
مكان فبما يحصل التمييز والعرفان؟ ولهذا أيضا قالوا :ليجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلن يتضادان .فقيل :هذا
إشكال قويِ فما جوابه؟ قال :جوابه أنهم أخطئاوا حيث ظنوا أن التمييز ليحصل بالمكان بل يحصل التميزبثلثة أمور :أحدهما
بالمكان كجسمين في مكانين ,والثاني بالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين ,والثالث بالحد والحقيقة كالعراض المختلفة
في محل واحد مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في جسم واحد ,فإن المحل واحد والزمان واحد ,ولكن هذه معان مختلفة
الذوات بحدودها وحقائاقها ,فيتميز اللون عن الطعم بذاته لبمكان وزمان ويتميز العلم عن القدرة والرادة بذاته وإن كان الجميع
شيئاا واحدا ,فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائاق فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائاق بذواتها في غير مكان أولى.
ص 386
فصل
فقيل :هنا دليل آخر على إحالة ما ذكرتموه أظهر من طالب التفرقة وهو أن هذا تشبيه وإثبات لخص وصف ا تعالى في حق
الروح.فقال :هيهات ,فإن قولنا النسان حي عالم قادر سميع بصير متكلم وإنه تعالى كذلك ليس فيه تشبيه لنه ليس ذلك أخص
الوصف ,فكذلك البراءة عن المكان والجهة ليس أخص وصف الله,بل أخص وصفه أنه قيوم أيِ هو قائام بذاته ,وكل ماسواه قائام
بذاته ,وكل ماسواه قائام به ,وأنه موجود بذاته لبغيره فكل ماسواه موجود به لبذاته ,بل ليس للشياء من ذواتها إل العدم ,وإنما
لها الوجود من غيرها على سبيل العارية ,والوجود ل تعاى ذاتي ليس بمستعار ,هذه الحقيقة أعني القيومية ليست إل ل.فقيل له:
ذكرت معنى التسوية والنفخ والروح ولم تذكر معنى النسبة في الروح وأنه لم قال من روحي ولم نسبه إلى نفسه ,فإنه كان لن
وجوده به فجميع الشياء أيضا كذلك وقد نسب البشر إلى الطين فقال":إهرَني دخالهسق دبدشلرا همن هطيءن" )ص (71:ثم قال" :دفإهدذا دساوليتاها
حي ")ص (72وإن كان معناه جزء من ا تعالى فاض على القلب كما يفيض المال على السائال فيقول :أفضت دودندفلخ ا
ت هفيهه همن مرو ه
عليه من مالي فهذه تجزئاة لذات ا ,وقد أبطلتم هذا وذكرتم أن إفاضته ليست بمعنى انفصال جزء منه.فقال :هذا كقول الشمس لو
نطقت وقالت :أفضت على الرض من نوريِ,فيكون صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل من جنس نور الشمس بوجه
من الوجوه ,وإن كان في غاية الضعف بالضافة إلى نور الشمس ,وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي قوته العلم
بجميع الشياء والطلع عليها ,وهذه مضاهاة ومناسبة فلذلك خص بالضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصل .فقيل له:
مامعنى قوله تعالى ":قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي " )السراء (85:ومامعنى عالم المر وعالم الحق؟ فقال :كل مايقع عليه مساحة
وتقدير وهو عالم الجسام وعوارضها يقال إنه من عالم الخلق ,والخلق هنا بمعنى التقدير ل بمعنى اليجاد والحداث يقال :خلق
ت وبعض القوم يخلق ثم ليفريِ ت تفهريِ ما خلق د
الشيء أيِ قدره قال الشاعر :ولن د
أيِ تقدر ثم تقطع الديم وما ل كمية له ول تقدير ,فيقال :إنه أمر رباني وذلك
ص 387
للمضاهاة التي ذكرناها وكل ما هو من هذا الجنس من أرواح البشر وأرواح الملئاكة يقال إنه من عالم المر ,فعالم المر عبارة
عن الموجودات الخارجة عن الحس والخيال والجهة والمكان والتحيز ,وهو ماليدخل تحت المساحة والتقدير لنتفاء الكمية عنه.
فقيل له :أتتوهم أن الروح ليس مخلوقا وإن كان كذلك فهو قديم؟ فقال :قد توهم هذا جماعة وهو جهل ,بل نقول :إن الروح غير
مخلوق بمعنى إنه غير مقدر بكمية ولمساحة ,فإنه لينقسم وليتحيز ونقول أنه مخلوق ,لكنه بمعنى أنه حادث وليس بقديم.
وبرهان حدوثه طويل ومقدماته كثيرة ,ولكن الحق أن الروح البشرية حدثت عند استعداد النطفة للقبول كما حدثت الصور في
المرآة بحدوث الصقالة ,وإن كانت الصور سابقة الوجود على الصقالة وإيجاد هذا البرهان أنه إن كانت الرواح موجودة قبل
البدان لكانت إما كثيرة أو واحد وباطل وحدتها وكثرتها فباطل وجودها ,وإنما استحال وحدتها بعد التعلق بالبدان لعلمنا ضرورة
بأن مايعلمه زيد يجوز أن يجهله عمرو ولو كان الجوهر العاقل منهما واحدا لستحال اجتماع المتضادين فيه ,كما يستحيل في زيد
وحده ,ونعني بالجوهر العاقل الروح ومحال كثرتها لن الواحد محال أن ل يثنى ولينقسم إذا كان ذا مقدار كالجسام ,فالجسم
ينقسم فإنه ذو مقدار وذو بعض فيتبعض ,أما ما ليس له بعض ول مقدار فكيف ينقسم وأما تقدير كثرتها قبل التعلق بالبدن فمحال
لنها إما أن تكون متماثلة أو مختلفة ,وكل ذلك محال ,وإنما استحال التماثل لن وجود المثلين محال في الصل ,ولهذا يستحيل
وجود سوادين في محل ,وجسمين في مكان واحد لن الثنين يستدعي مغايرة ول مغايرة هنا وسوادان في محلين جائاز لن هذا
يفارق ذلك في المحل إذا اختص بمحل ل يختص به الخر ,وكذلك يجوز محل واحد في زمانين إذ لهذا وصف ليس للخر وهو
القتران بهذا الزمان الخاص ,فليس في الوجود مثلن مطلقا ,بل بالضافة كقولنا :زيد وعمرو هما مثلن في النسانية والجسمية,
وسواد الحبر والغراب مثلن في السوادية ,ومحال تغايرهم لن التغاير نوعان :أحدهما باختلف النوع والماهية كتغاير الماء
والنار وتغاير السواد والبياض ,والثاني بالعوارض التي ل تدخل في الماهية كتغاير الماء الحار والماء البارد ,فإن كان تغاير
الرواح البشرية بالنوع والماهية فمحال لن الرواح البشرية متفقة بالحد والحقيقة وهي نوع واحد ,وإن كانت متغايرة بالعوارض
فمحال أيضا لن الحقيقة الواحدة إنما يتغاير عوارضها إذا كانت متعلقة بالجسام منسوبة إليها بنوع ما إذ الختلف في أجزاء
الجسم ضرورة ولو في القرب من السماء والبعد عنها مثل ,أما إذا لم يكن كذلك كان الختلف محال وهذا ربما يحتاجون في
تحقيقه إلى مزيد تقدير لكن هذا القدر ينبه عليه.
ص 388
فقيل له :كيف يكون حال الرواح بعد مفارقة الجسام ولتعلق لها بالجسام فكيف تكثرت وتغيرت؟
فقال :لنها اكتسبت بعد التعلق بالبدان أوصافا مختلفة من العلم والجهل والصفاء والكدورة وحسن الخلق وقبحها ,فبقيت منها
متغايرة فعقلت كثرتها بخلف ما قبل الجساد فإنه ل سبب لتغايرها.
فصل
فقيل له :مامعنى قوله عليه السلم " :إن ا تعالى خلق آدم على صورته" ورويِ "على صورة الرحمن"؟ فقال :الصور اسم
مشترك قد يطلق على ترتيب الشكال ووضع بعضها على بعض واختلف تركيبها ,وهي الصورة المحسوسة ,وقد يطلق على
ترتيب المعاني التي ليست محسوسة ,بل للمعاني ترتيب أيضا وتركيب وتناسب ,ويسمى ذلك صورة ,فيقال :صورة المسألة كذا
وكذا ,وصورة الواقعة وصورة المسألة الحسابية والعقلية كذا ,والمراد بالتسوية في هذه الصورة هي الصورة المعنوية ,والشارة
به إلى المضاهاة التي ذكرناها ويرجعه ذلك إلى الذات والصفات والفعال ,فحقيقة ذات الروح أنه قائام بنفسه ليس بعرض
ولبجسم ولجوهر متحيز وليحل المكان والجهة ول و متصل بالبدن والعالم ,ول هو منفصل ,ول هو داخل في أجسام العالم
والبدن ,ول هو خارج ,وهذا كله في حقيقة ذات ا تعالى ,وأما الصفات فقد خلق حييا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما ,وا
تعالى كذلك .وأما الفعال فمبدأ فعل الدمي إرادة يظهر أثرها في القلب أول فيسريِ منه أثر بواسطة الروح الحيواني الذيِ هو
بخار لطيف في تجويف القلب ,فيتصاعد منه أثر بواسطة الروح إلى العصاب الخارجة من الدماغ ,ومن العصاب إلى الوتار
والرباطات المتعلقة بالعضل ,فتنجذب الوتار فيتحرك بها الصابع ,ويتحرك بالصابع القلم ,وبالقلم المداد مثل ,فيحدث منه
صورة مايريد كتبه على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل ,فإنه لم يتصور في خياله صورة المكتوب أول
ليمكن إحداثه على البياض ثانيا ,ومن استقرأ أفعال ا تعالى وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الرض بواسطة تحريك
السموات والكواكب ,وذلك بطاعة الملئاكة له في تحريك السموات علم أن تصرف الدمي في عالمه أعني بدنه يشبه تصرف
الخالق في العالم الكبر وهو مثله ,وانكشف له أن نسبة شكل القلب إلى تصرفه نسبة العرش ونسبة الدماغ نسبة الكرسي والحواس
كالملئاكة الذين يطيعون ا طبعا وليستطيعون خلفا ,والعصاب والعضاء كالسموات ,والقدرة
ص 389
في الصابع كالطبيعة المسخرة المركوزة في الجسام ,والقرطاس والقلم والمداد كالغناصر التي هي أمهات المركبات في قبول
الجمع والتركيب والتفرقة ومرآة التخيل كاللوح المحفوظ فمن اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف معنى قوله عليه السلم" :
إن ا تعالى خلق آدم على صورته" ومعرفة ترتيب أفعال ا تعالى معرفة غامضة يحتاج فيها إلى تحصيل علوم كثيرة وما
ذكرناه إشارة إلى جملة منها .قيل له :فما معنى قوله عليه السلم":من عرف نفسه فقد عرف ربه"؟ قال :لن الشياء تعرف
بالمثلة المناسبة ,ولول المضاهات المذكورة لم يقدر النسان على الترقي من معرفة نفسه إلى معرفة الخالق ,فلول أن ا تعالى
جمع في الدمي ماهو مثال جملة العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من العوالم ,وكأنه رب في عالمه متصرف لما عرف العالم
والتصرف والربوبية والعقل والقدرة والعلم وسائار الصفات اللهية ,فصارت النفس بمضاهاتها وموازناتها مرقاة إلى معرفة خالق
النفس ,وفي استكمال المعرفة بالمسألة التي قبل هذه ما ينكشف الغط وجه هذه المسألة .فقيل له :إن كانت الرواح حادثة مع
الجساد فما معنى قوله عليه السلم":خلق ا الرواح قبل الجساد بألفي عام" وقوله عليه السلم":أنا أول النبياء خلقا وآخرهم
بعثا" وقوله":كنت نبيا وآدم بين الماء والطين"؟فقال :ليس في هذا مايدل على قدم الروح ,بل يدل على حدوثه ,وكونه مخلوقا .نعم
ربما دل بظاهره على تقدم وجوده على الجسد وأمر الظواهر هيين فإن تأويلها ممكن والبرهان القاطع ليدرء بالظواهر بل يسلط
على تأويل الظواهر كما في ظواهر التشبيه في حق ا تعالى .أما قوله عليه السلم":خلق ا الرواح قبل الجساد" فلعله أراد
بالرواح الملئاكة ,وبالجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والكواكب والهواء والرض والماء ,وكما أن أجساد الدميين
بجملتهم صغيرة بالضافة إلى جرم الرض وجرم الرض أصغر من جرم الشمس بكثير ,ثم لنسبة لجرم الشمس إلى فلكها ول
لفلكها إلى السموات التي فوقه ,ثم كل ذلك اتسع له الكرسي إذ وسع كرسيه السموات والرض ,والكرسي صغير بالضافة إلى
العرش ,فإذا تفكرت في جميع ذلك استحقرت أجساد الدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الجساد ,فكذلك فاعلم وتحقق أن أرواح
البشر بالضافة إلى أرواح الملئاكة كأجسادهم بالضافة إلى أجساد العالم ,ولو انفتح لك باب معرفة الرواح لرأيت الرواح
البشرية بالضافة إلى أرواح الملئاكة كسرج اقتبست من نار عظيم طبق العالم ,وتلك النار العظيمة هي أرواح الملئاكة ولرواح
الملئاكة ترتيب وكل واحد منفرد برتبته ,وليجتمع
ص 390
فى مرتبة واحدة اثنان بخلف الرواح البشرية المتكثرة مع اتحاد النوع والرتبة .أما الملئاكة ,فكل واحد نوع برأسه هو كل ذلك
النوع وإليه الشارة بقوله تعالى ) :وما منا إل له مقام معلوم ] [164وإنا لنحن الصافون( ]الصافات[165 ,164 :
وبقوله عليه السلم :الراكع منهم ل يسجد والقائام ل يركع ,وإنه ما من واحد منهم إل له مقام معلوم ,فل يفهم إذا من الرواح
والجساد المطلقة إل أرواح الملئاكة وأجساد العالم.
وأما قوله عليه السلم" :أنا أول النبياء خلقا وآخرهم بعثا " ,فالخلق هنا هو التقدير دون اليجاد ,فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن
مولودا مخلوقا ,ولكن الغايات والكمالت سابقة فى التقدير لحقة فى الوجود ,وهو معنى قولهم :أول الفكر آخر العمل .بيانه أن
المهندس المقدر للدار أول ما يمثل فى نفسه صورة الدار ,فيحصل فى تقديره دار كاملة ,وآخر ما يوجد من أثر أعماله هى الدار
الكاملة وهى أول الشياء فى حقه تقديرا وآخرها وجودا ,لن ما قبلها من ضرب اللبن وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلى
غاية وكمال وهى الدار ,ولجلها تقدمت اللت والعمال ,فإذا عرفت هذا فاعلم أن المقصود فطرة الدميين إدراكهم بسعادة
القرب من الحضر اللهية ,ولم يكن ذلك إل بتعريف النبياء وكانت النبوة مقصودة باليجاد ,والمقصود كمالها وغايتها ل أولها,
وإنما تكمل بحسب سنة ا تعالى بالتدريج كما تكمل عمارة الدار بالتدريج لتمهيد أصل النبوة بآدم عليه السلم ,ولم يزل ينمو
ويكمل حتى بلغ الكمال بمحمد عليه السلم ,وكان المقصود كمال النبوة وغايتها وتمهيد أوائالها وسيلة إليها كتأسيس البنيان وتمهيد
أصول الحيطان ,فإمه وسيلة إلى كمال صورة الدار ولهذا السر كان خاتم النبيين فأن الزيادة على الكمال نقصان وكمال شكل اللة
الباطشة كف عله خمس أصابع ,فكما أن ذا الصابع الربعة ناقص فذو الصابع الستة ناقص ,لن السادسة زيادة على الكفاية فهو
نقصان فى الحقيقة ,وإن كانت زيادة فى الصور ,وإليه الشارة بقوله عليه السلم :مثل النبوة كمثل دار معمورة لم يبق فيها إل
موضع لبنة ,فكنت أنا موضع تلك اللبنة أو لفظ هذا معناه ,فإذا عرفت أن كونه خاتم النبيين ضرورة ل يتصور خلفة إذا بلغ به
الغاية والكمال ,والغاية أول التقدير ,آخر فى الوجود.
وأما قوله عليه السلم" :كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" .فهو أيضا إشارة إلى ما ذكرناه ,وأنه كان نبيا فى التقدير قبل تمام خلقه
آدم عليه السلم ,لنه لم يشأ خلق آدم إل لينتزع الصافى من ذريته ,ول يستصفى تدريجا إلى أن بلغ كمل الصفاء ,فقيل الروح
القدسى النبوى المحمدى ول تفهم هذه الحقيقة إل بأن تعلم أن للدار ,مثل وجودين وجود
ص 391
فى ذهن المهندس ودماغه حتى كأنه ينظر إلى صورة الدار ,ووجودها خارج الذهن فى العيان .والوجود الذهنى سبب الوجود
الخارجى العينى فهو سابق ل محالة ,فكذلك فأعلم أن ا تعالى يقدر أول ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا وإنما التقدير يرسم فى
اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أول فى اللوح أو فى القرطاس ,فتصير الدار موجودة بمكال صورتها نوعا من الوجود,
فيكون هو سببا للوجود الحقيقى ,كما أن هذه الصورةترسم فى لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجرى على وفق العلم بل العلم
مجريه ,فكذلك تقدير صورة المور اللهية ترسم أول فى اللوح المحفوظ ,وإنما ينتقش اللوح المحفوظ من القلم والقلم يجرى على
وفق العلم ,واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصورة فيها ,والقلم عبارة عن وجود منه تفيض الصور على اللوح المنقوش,
فإن حد القلم هو الناقش لصور ,وليس من شرطهما أن يكون قصبا أو خشبا المعلومات فى اللوح ,واللوح هو المنتقش بتلك
الصور ,بل من شرطهما أن ل يكونا جسمين فالجسمية ل تدخل فى حد القلمية واللوحية هو ما ذكرنا والزائاد عليه صورته ل
معناه ,فل يبعد أن يكون قلم ا تعالى ولوحه لئاقا بأصبعيه ويده ,وكل ذلك على ما يليق بذاته وإلهيته فتقدس عن حقيقة الجسمية,
بل جملتها جواهر روحانية .عالية بعضها معلم كالقلم ,وبعضها متعلم كاللوح ,فإن ا تعالى علم بالقلم ,فإذا تعلمت نوعية الوجود
فقد كان نبيا قبا آدم عليه السلم بمعنى الوجود الول التقديرى دون الوجود الثانى الحسى العينى ,والحمد ل رب العالمين,
والصلة والسلم على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين آمين.
بداية الهداية
بسم ا الرحمن الرحيم
الحمد ل حق حمده ,والصلة والسلم على خير خلقه محمد رسوله وعبده ,وعلى آله وصحبه من بعده.
أما بعد ,فاعلم أيها الحريص المقبل على العلم ,المظهر مننفسه صدق الرغبة وفرض التعطش إلبه ,أنك إن كنت تقصد بطلب العلم
المنافسة والمباهاة والتقدم على القران واستمالة وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنيا ,فأنت ساع فه هدم دينك وإهلك نفسك وبيع
آخرتك بدنياك ,فصفقتك خاسرة وتجارتك بائارة ومعلمك معين لك على عصيانك وشريك لك فى خسرانك ,وهو كبائاع سيف من
قاطع طريق كما قال صلى ا عليه وسلم" :من أعان على معصية ولو بشطر كلمة كان شريكا له فيها"
وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين ا تعالى من طلب العلم الهداية دون مجرد
ص 392
الرواية فأبشر ,فأن الملئاكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت ,وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت ,ولكن ينبغى لك أن تعلم قبل كل
شئ أن الهداية التى هى ثمرة العلم ,لها بداية ونهاية وظاهر وباطن ,ول وصول إلى نهايتها إل بعد إحكام بدايتها ,ول عثور على
باطنها إل بعد الوقوف على ظاهرها.
وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك وتمتحن بها قلبك ,فإن صادفت قلبك إليها مائال ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة,
فدونك التطلع إلى النهايات والتغلغل فى بحار العلوم ,وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوقا وبالعمل بمقتضاها مماطل,
فأعلم أن نفسك المائالة إلى طلب العلم هى النفس المارة بالسوء ,وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره
فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلك ,وقصده أن يروج عليك الشر فى معرض الخير حتى يلحقك بالخسرين أعمال الذين ضل
سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ,وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضل العلم ودرجة العلماءوما ورد فيه من
الثار والخبار ,ويلهيك عن قوله صلى ا عليه وسلم" :من ازداد علما ولم يزددهدى لم يزدد من ا إل إل بعدا" ,وعن قوله
صلي ا عليه وسلم" :أشد الناس عذبا يوم القيامة عالم لم ينفعه ا بعلمه" ,وكان صلى ا عليه وسلم يقول" :اللهم إنى أعوذ بك
من علم ل ينفع وقلب ل يخشعوعمل ل يرفع ودعاء ل تسمع" ,وعن قوله صلى ا عليه وسلم" :مررت ليلة أسرى بى بأقوام
تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ قالو كنا نأمر بالخير ول نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه".
فأياك يا مسكين أن تزعن لتزويره فيدلك بحبل غروره ,فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة واحدة! وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم
ألف مرة!
واعلم أن الناس غى طلب العلم على ثللثة أحوال :رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد ,ولم يقصد به إل وجه ا والدار
الخرة ,فهذا من الفائازين ,ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة ,وينال به العز والجاه والمال ,وهو عالم مستشعر فى قلبه
ركاكة حاله وخسة مقصده؛ فهذا من المخاطرين ,فإن عاجلة أجله قبل التوبة خيف عليه من سوء الخاتمة وبقى أمره فى خطر
المشيئاة ,وإن وفق للتوبة قبل حلول الجل وأضاف إلى العلم والعمل وتدارك ما فرط فيه من الخلل ,التحق بالفائازين؛ فأن التائاب
من الذنب كمن ل ذنب له .ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان ,فاتخذ علمه ذريعة إلى التكاثر بالمال والتفاخر بالجاه والتعزز
بكثرة التباع ,يدخل بعلمه كل مدخل رجاء أن يقضى من الدنيا وطره ,وهو مع ذلك يضمر فى نفسه أنه عند ا بمكانة لتسامه
بسمة العلماء وترسمه برسومهم فى الزى والمنطق ,مع تكالبه مع الدنيا ظاهرا وباطنا؛ فهذا من الهالكين ومن
ص 393
الحمقى المغرورين ,إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين وهو غافل عن قوله تعالى) :يا أيها الذين آمنوا لم تقولون
ما ل تفعلون (]الصف .[2 :وهو ممن قال فيهم رسول ا صلى ا عليه وسلم" :أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال",
فقيل :فما هو يا رسول ا؟ فقال" :علماء السوء" .وهذا أن الدجال غايته الضلل ,ومثل هذا العالم وأن صرف الناس عن الدنيا
بلسانه ومقاله فهو داع لهم إليها بأعماله وأحواله ,ولسان الحال أفصح من لسان المقال ,وطباع الناس إلى المشاهدة فى العمال
أميل منها إلى المتابعة فى القوال؛ فما أفسده هذا المغرور بأعماله أكثر مما أصلحه بأقواله إذ ل يستجرئ الجاهل على الرغبة فى
الدنيا إل باستجراء العلماء ,فقد صار علمه سببا لجراءة عباد ا على معاصيه ,ونفسه الجاهلة مدلة مع ذلك تمنيه وترجيه,
وتدعوه إلى أن يمن على ا بعلمه ,وتخيل إليه نفسه أنه خير من كثير من عباد ا ,فكن أيها الطالب من الفريق الول ,واحذر أن
تكونمن الفريق الثانى! فكم من مسوف عاجله الجل قبل التوبة فخسر ,وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث فتهلك هلكا ل
يرجى معه فلحك ول ينتظر صلحك.
فإن قلت :فما بداية الهداية لجرب بها نفسى؟
فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى ,ونهايتها باطنة التقوى ,فل عاقبة إل بالتقوى ,ول هداية إل للمتقين .والتقوى هى عبارة عن امتثال
أوامر ا تعالى واجتناب نواهيه ,فهما قسمان .وها أنا أشير عليك بجمل مختصرة من ظاهر علم التقوى فى القسمين جميعا,
وألحق قسما ثالثا ليصير هذا الكتاب جامعا مغنيا وا المستعان.
القسم الول فى الطاعات
اعلم أن أوامر ا تعالى فرائاض ونوافل :فالفرض رأس المال وهو أصل التجارة وبه تحصل النجاة ,والنفل هو الربح وبه الفوز
بالدرجات ,قال صلى ا عليه وسلم" :يقول ا تبارك وتعالى :ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ,وما زال
العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ,فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به ويده التى
يبطش بها ورجله التى يمشى بها"
ولن تصل أيها الطالب إلى القيام بأوامر ا تعالى إل بمراقبة قلبك وجوارحك فى لحظاتك وأنفاسك من حين حتى تصبح إلى حين
تمسى؛ فاعلم أن ا تعالى مطلع على ضميرك ,ومشرف على ظاهرك وباطنك ,ومحيط بجميع لحظاتك وخطراتك وخطواتك,
وسائار سكناتك وحركاتك ,وأنك فى مخالطتك وخلواتك مترر بين يديه ,فل يسكن فى الملك والملكوت ساكن ول يتحرك متحرك
إل وجبار السموات والرض مطلع عليه )يعلم
ص 394
خائانة العين وما تخفى الصدور( ]غافر) .[19 :يعلم السر وأخفى( ]طه .[7 :فتأدب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يدى ا
تعالى بأدب العبد الذليل المذنب فى حضرة الملك الجبار القهار ,واجتهد أن ل يراك مولك حيث نهاك ,ول يفقدك حيث أمرك,
ولن تقدر على ذلك إل بأن توزع أوقاتك وترتب أورادك من صباحك إلى مسائاك ,فاصغ إلى ما يلقى إليك من أوامر ا تعالى
عليك من حين تستيقظ من منامك إلى وقت رجوعك إلى مضجعك.
فصل غى آداب الستيقاظ من النوم
فإذا استيقظت من النوم فاجتهد أن تستيقظ قبل طلوع الفجر ,وليكن أول ما يجرى على قلبك ولسانك ذكر ا تعالى ,فقل عند ذلك:
أصبحنا وأصبح الملك ل ,والعظمة والسلطان ل ,والعزة والقدرة ل رب الحمد ل الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور,
العالمين؛ أصبحنا على فطرة السلم ,وعلى كلمة الخلص ,وعلى دين نبينا محمد صلى ا عليه وسلم ,وعلى ملة أبينا إبراهيم
حنيفا مسلما وما كانمن المشركين .اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور .اللهم أنا نسألك ن
تبعثا غى هذا اليوم إلى كل خير ,ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءا أو نجره إلى مسلم أو يجره أحد إلينا .نسألك خير هذا اليوم وخير
ما فيه ونعوذ بك من شر هذا اليوم وشرما فيه.
فإذا لبست ثيابك فانو به امتثال أوامر ا تعالى غى ستر عورتك ,واحذر أن يكون قصدك من لباسك مراءاة الخلق فتخسر.
باب آداب دخول الخلء
فإذا قصدت بيتن الخلء لقضاء الحاجة فقدم فى الدخول رجلك اليسرى ,وفى الخروج رجلك اليمنى ,ول تستصحب شيئاا عليه اسم
ا تعالى ورسوله ,ول تدخل حاسر الرأس ول حافى القدمين .وقل عند الدخول :باسم ا ,أعوذ بال من الرجس النجس الخبيث
المخبث الشيطان الرجيم؛ وعند الخروج :غفرانك الحمد ل الذى أذهب عنى ما يؤذينى ,وأبقى على ما ينفعنى.
وينبغى أن تعد للغسل قبل قضاء الحاجة ,وأن ل تستنجى بالماء فى موضع قضاء الحاجة ,وأن تستبرئ من البول بالتنحنح والنثر
ثلثا ,وبإمرار اليد اليسرى على أسفل القضيب .وإن كنت فى الصحراء فابعد عن عيون الناظرين أو استتر بشئ إن وجدته ,ول
تكشف عورتك قبل النتهاء إلى موضع الجلوس ,ول تستقبل الشمس ول القمر ,ول
ص 395
تستقبل القبلة ول تستدبرها ,ول تجلس فى متحدث الناس ,ول تبل فى الماء الراكد وتحت الشجرة المثمرة ,ول فى الحجر .واحذر
الرض الصلبة ومهب الريح احترازا من الرشاش ,لقوله صلى ا عليه وسلم" :إن عامة عذاب القبر منه" .واتكئ فى جلوسك
على الرجل اليسرى ,ول تبل قائاما إل عن ضرورة ,واجمع فى الستنجاء بين استعمال الحجر والماء ,فإذا اردت القتصار عن
أحدهما فالماء أفضل ,وإن اقتصرت على الحجر فعليك أن تستعمل ثلثة أحجار طاهرة منشفة للعين ,تمسح بها محل النجو بحيث
ل تنقل النجاسة عن موضعها ,وكذلك تمسح القضيب فى ثلثة مواضع من حجر ,فإن لم يحصل النقاء بثلثة فتمم خمسة أو سبعة
إلى أن ينقى باليتار ,فاليتار مستحب والنقاء واجب .ول تستنج إل باليد اليسرى ,وقل عند الفراغ من الستنجاء :اللهم طهر
قلبى من النفاق ,وحصن فرجى من الفواحش ,وادلك يدك بعد تمام الستنجاء بالرض أو بحائاط ثم اغسلها.
آداب الوضوء
فإذا فرغت من الستنجاء فل تترك السواك ,فإنه مطهرة للفم ومرضاة للرب ومسخطة للشيطان ,وصلة بسواك أفضل من سبعين
صلة بل سواك؛ وروى عن أبى هريرة رضى ا عنه قال :قال رسول ا صلى ا عليه وسلم" :لول أشق على أمتى لمرتهم
بالسواك فى كل صلة" ,وعنه صلى ا عليه وسلم" :أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على".
ثم اجلس للوضوء مستقبل القبلةعلى موضع مرتفع كى ل يصيبك الرشاش وقل :بسم ا الرحمن الرحيم ,رب أعوذ بك من
همزات الشياطين ,وأعوذ بك رب أن يحضرون .ثم اغسل يديك ثلثا قبل أن تدخلهما الناء وقل :اللهم إنى أسألك اليمن والبركة,
وأعوذ بك من الشؤم والهلكةز ثم انو رفع الحدث أو استباحة الصلة؛ ول ينبغى أن تعزب نيتك قبل غسل الوجه فل يصح
وضوءك .ثم خذ غرفة لفيك وتمضمض بها ثلثا ,وبالغ فى رد الماء إلى الغلصمة ,إل أن تكون صائاما ,فترفق وقل :اللهم أعنى
على تلوة كتابك وكثرة الذكر لك ,وثبتنى بالقول الثبت فى الحياة الدنيا وفى الخرة .ثم خذ غرفة لنفك واستنشق بها ثلثا,
واستنثر ما فى النف من الرطوبة ,وقل فى الستنشاق :اللهم أرحنى رائاحة الجنة وأنت عنى راض؛ وفى الستنثار :اللهم إنى
أعوذ بك من من روائاح النار وسوء الدار .ثم خذ غرفة لوجهك واغسل بها من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن
من طول ,ومن الذن إلى الذن فى العرض ,وأوصل الماء إلى موضع التحذيف ,وهو يعتاد النساء تنحية الشعر عنه وهو ما بين
رأس الذن إلى زاوية الجبين ,أعنى ما يقع منه فى جبهة الوجه؛ وأوصل الماء إلى منابت الشعور الربعة :الحاجبين
ص 396
والشاربين ,والهداب والعذارين؛ وهما ما يوازيان الذنين من مبتدأ اللحية .يجب إيصال الماء إلى منابت الشعر من اللحية الخفيفة
دون الكثيفة؛ وقل عند غسل الوجه :اللهم بيض وجهى بنورك يوم تبيض وجوه أوليائاك ,ول تسود وجهى بظلماتك يوم تسود وجوه
أعدائاك .ول تترك تخليل اللحية الكثيفة.
ثم أغسل يدك اليمنى ,ثم اليسرى مع المرفقين إلى أنصاف العضدين ,فإن الحلية فى الجنة تبلغ مواضع الوضوء ,وقل عند غسل
اليمنى :اللهم أعطنى كتابى بيمينى وحاسبنى حسابا يسيرا؛ وعند غسل الشمال :اللهم إنى أعوذ بك أن تعطينى كتابى بشمالى أو من
وراء ظهرى.
ثم استوعب رأسك بالمسحبأن تبل يديك ,وتلصق رءوس أصابع يديك اليمنى باليسرى ,وتضعهما على مقدمة الرأس ,وتمرها إلى
القفا ,ثم تردهماللى المقدمة ,فهذه مرة؛ تفعل ذلك ثلث مرات؛ وكذلك فى سائار العضاء وقل :اللهم غشنى برحمتك ,وانزل
على من بركاتك ,وأظللنى تحت ظل عرشك يوم ل ظل إل ظلك؛ اللهم حرم شعرى وبشرى على النار.
ثم امسح أظاهرهما وباطنهما بماء جديد وقل :اللهم اجعلنى من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ,اللهم أسمعنى منادى الجنة
فى الجنة مع البرار.
ثم امسح رقبتك وقل :اللههم فك رقبتى من النار ,وأعوذ بك من السلسل والغلل.
ثم أغسل رجلك اليمنى ثم اليسرى مع الكعبين ,وخلل بخنصر اليسرى أصابع رجلك اليمنى مبتدئاا بخنصرها حتى تختم
بخنصراليسرى ,وتدخل الصابع من أسفل وقل :اللهم ثبت قدمى على الصراط المستقيممع أقدام عبادك الصالحين .وكذلك تقول
عند غسل اليسرى :اللهم إنى أعوذ بك أن تزل قدمى على الصراط فى النار يوم تزل أقدام المنافقين والمشركين.
وأرفع الماء إلىأنصاف الساقين ,وراع التكرار ثلثافى جميع أفعالك .فإذا فرغت من الوضوء فارفع بصرك إلى السماء وقل :إشهد
أن ل إله إل ا وحده ل شريك له ,وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ,سبحانك اللهم وبحمدك ,أشهد أن ل إله إل أنت ,عملت سوءا
وظلمت نفسى ,أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لى وتب على إنك أنت التواب الرحيم ,اللهم اجعلنى من التوابين ,واجعلنى من
المتطهرين ,واجعلنى من عبادك الصالحين ,واجعلنى صبورا شكورا ,واجعلنى أذكرك ذكرا كثيرا وأسبحك بكرة وأصيل.
ص 397
فمن قال هذه الدعوات فى وضوئاه خرجت خطاياه من جميع أعضائاه ,وختم على وضوئاه بخاتم,ورفع له تحت العرش ,فلم يزل
يسبح ا تعالى ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة.
واجتنب فى وضوئاك سبعا :ل تنفض يدك فترش الماء .ول تلطم وجهك ول رأسك بالماء لطما .ول تتكلم أثناء الوضوء .ول تزد
فى الغسل عن ثلث مرات .ول تكثر صب الماء من غير حاجةلمجرد الوسوسة ,فللموسوسين شيطان يلعب بهم يقال له الوهان,
ول تتوضأ بالماء المشمس ول من الوانى الصفرية فهذه السبعة مكروهة فى الوضوء .وفى الخبر أن من ذكر ا عند وضوئاه
طهر ا جسده كله ,ومن لم يذكر ا لم يطهر منه إل ما أصابه الماء.
آداب الغسل
فإذا أصابتك جنابة من احتلم أو وقاع ,فخذ الناء إلى المغتسل واغسل يديك أول ثلثا ,وأزل ما على بدنك من قذر ,وتوضأ كما
سبق فى وضوئاك للصلة مع جميع الدعوات؛ وأخر غسل قدميك كيل يضيع الماء .فإذا فرغت من الوضوء فصب الماء على
رأسك ثلثا وأنت ناو رفع الحدث من الجنابة ,ثم على شقك اليمن ثلثا ثم اليسر ثلثا .وادلك ما أقبل من بدنك وما أدبرثلثا
ثلثا ,وخلل شعر رأسك ولحيتك ,وأوصل الماء إلى معاطف البدن ومنابت الشعر ما خف منه وما كثف .واحذر أن تمس ذكرك
بعد الوضوء ,فإن أصابته يدك فأعد الوضوء ,والفريضه من جملة ذلك كله النية وإزالة النجاسة واستيعاب البدن بالغسل.
وفرض الوضوء غسل الوجه واليدين مع المرفقين ,ومسح بعض المرفقين ,ومسح بعض الرأس ,وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة
مرة مع النية والترتيب ,وما عداه سسن مؤكدة فضلها كثير وثوابها جزيل ,والمتهاون بها خاسر بل هو بأصل فرائاضه مخاطر,
فإن النوافل جوابر للفرائاض.
آداب التيمم
فإن عجزت عن إستعمال الماء لفقده بعد الطلب ,أو لعذر من مرض ,أو لمانع من الوصول إليه من سبع أو حبس ,أو كان الماء
الحاضر تحتاج إليه لعطشك أو لعطش رفيقك ,أو كان ملكا لغيرك ولم يبع إل بأكثر من ثمن المثل ,أو كان بك جراحة أو مرض
تخاف منه على نفسك ,فاصبر حتى يدخل وقت الفريضة ثم أقصد صعيدا طيبا عليه تراب خالص
ص 398
طاهر لين ,فاضرب عليه بكفيك ضاما بين أصابعك ,وانو استباحة فرض الصلة وامسح بهما وجهك كله مرة واحدة ,ول تتكلف
إيصال الغبار إلى منابت الشعر خف أو كثف ,ثم انزع خاتمك واضرب ضربة ثانية مفرقا بين أصابعك ,وامسح بهما يديك مع
مرفقيك ,فإن لم تستوعبهما فاضرب ضربة أخرى إلى أن تستوعبهما ,ثم امسح إحدى كفيك بالخرى ,وامسح ما بين أصابعك
بالتخليل ,وصل به فرضا واحدا وما شئاتمن النوافل ,فإن أردت فرضا ثانيا فاستأنف له تيمما آخر.
آداب الخروج من المسجد
فإذا فرغت من طهارتك فصل فى بيتك ركعتى الصبح إن كان الفجرقد طلع ,كذلك كان يفعل رسول ا صلى ا عليه وسلم .ثم
توجه إلى المسجد ,ول تدع صلة فى الجماعة لسيما الصبح ,فصلة الجماعة تفضل على صلة الفرد بسبع وعشرين درجة .فإن
كنت تتساهل فى مثل هذا الربح فأى فئادة لك فى طلب العلم؟ وإنما ثمرو العل العمل به ,فإذا سعيت إلى المسجد فأمشعلى هينة
وتؤدة وسكينة ,ول تعجل ,وقل غى طريقك :اللهم إنى أسألك بحق السائالين عليك ,وبحق الراغبين إليك ,وبحق ممشاى هذا إليك,
فإنى لم أخرج أشرا ول بطرا ول رياء ول سمعة ,بل خرجت إتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ,فأسألك أن تنقذنى من النار ,وأن
تغفر لى ذنوبى فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت.
آداب دخول المسجد
فإذا أردت الدخول إلى المسجد فقدم رجلك اليمنى وقل :اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم ,اللهم اغفر لى ذنوبى
وافتح لى أبواب رحمتك.
ومهما رأيت فى المسجد من يبيع أو يبتاع فقل :ل أربح ا تجارتك! وإذا رأيت فيه من ينشد ضالة فقل :ل رد ا عليك ضالتك!
كذلك أمر رسول ا صلى ا عليه وسلم.
فإذا دخلت المسجد فل تجلس حتى تصلى ركعتى التحية ,فإن لم تكن على طهارة أو لم ترد فعلها كفتك الباقيات الصالحات ثلثا,
وقيل أربعا ,وقيل ثلثا للمحدث ,وواحد للمتوضئ .فإن لم تكن صليت فى بيتك ركعتى الفجر فيجزئاك أداؤهما عن التحية؛ فإذا
فرغت من الركعتين فانو العتكاف وادع بما دعا به رسول ا صلى ا عليه وسلم بعد ركعتى الفجر فقل" :اللهم إنى أسألك
رحمة من عندك تهدى بها قلبى ,وتجمع بها شملى ,وتلم بها شعثى ,وترد بها ألفتى ,وتصلح بها دينى ,وتحفظ بها غائابى ,وترفع
بها شاهدى ,وتزكى بها عملى ,وتبيض بها وجهى ,وتلهمنى بها رشدى ,وتقضى بها حاجتى ,وتعصمنى بها من
ص 399
كل سوء اللهم إنى أسألك إيمانا خالصادائاما يباشر قلبى ,وأسألك يقينا صادقا حتى أعلم أنه لم يصيبنى إل ما كتبته على ,ورضنى
بما قسمته لى .اللهم إنى أسألك إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر ,وأسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك فى الدنيا والخرة .اللهم
إنى أسألك الفوز عند اللقاء ,والصبر عند القضاء ,ومنازل الشهداء وعيش السعداء ,والنصر على العداء ,ومرافقة النبياء .اللهم
إنى أنزل بك حاجتى وإن ضعف }ايى وقصر عملى وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضى المور ويا شافى الصدور كما تجير
بين البحور أن تجيرنى من عذاب السعير ,ومن فتنة القبور ,ومن دعوة الثبور .اللهم ما قصر عنه رأيى وضعفى عنه عملى ولم
تبلغه نيتى وأمنيتى من خير وعدته أحدا من عبادك ,أو خير أنت معطيه أحدا من خلقك ,فإنى أرغب إليك فيه ,وأسألك إياه يا رب
العالمين .اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ول مضلين ,حربا لعدائاك ,سلما لوليائاك؛ نحب بحبك الناس ونعادى بعداوتك
منخالفك من خلقك .اللهم هذا الدعاء وعليك الجابة ,وهذا الجهد وعليك التكلن .وإنا ل وإنا إليه راجعون ,ول حول ول قوة إل
بال العلى العظيم .اللهم ذا الحبل الشديد والمر الشديد ,أسألك المن يوم الوعيد ,والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود ,الركع
السجود ,الموفين لك بالعهود ,إنك رحيم ودود,وأنت تفعل ما تريد ,سبحان من اتصف بالعز وقال به! سبحان من لبس المجدوتكرم
به!سبحان من ل يبغى التسبيح إل له! سبحان ذى الفضل والنعيم سبحان ذى الجود والكرم! سبحان الذى أحصى كل شئ بعلمه!
اللهم اجعل لى نورا غى قلبى ,ونورا فى قبرى ,ونورا فى سمعى ,ونورا فى بصرى ,ونورا فى شعرى ,ونورا فى بشرى ,ونورا
فى لحمى ,ونورا فى دمى ,ونورا فى عظمى ,ونورا من بين يدى ,ونورا من خلفى ,ونورا عن شمالى ,ونورا من فوقى,
ونورامن تحتى .اللهم زدنى نورا وأعطنى نورا أعظم نور ,واجعل لى نورا برحمتك ياأرحم الراحمين".
فإذا فرغت من الدعاء فل تشتغل إلى وقت الفرض إل بذكر أو تسبيح أو قراءة قرآن ,فإذا سمعت الذان فى أثناء ذلك فاقطع ماأنت
فيه واشتغل بجواب المؤذن ,فإذا قال المؤذن :ا أكبر ,فقل مثل ذلك ,وكذلك فى كل كلمة إل فى الحيعلتين فقل فيهما :لح حول ول
قوة إل بال العلى العظيم .فإذا قال :الصلة خير من النوم ,فقل :صدقت وبررت وأنا على ذلك من الشاهدين .فإذا سمعت القامة
فقل فقل مثل ما يقول إل فى قوله :قد قامت الصلة فقل :أقامها ا وأدامها ما دامت السموات والرض .فإذا فرغت من جواب
المؤذن فقل :اللهم إنى أسألك عند حضور صلتك ,وأصوات دعاتك ,وإدبار ليلك ,وإقبال نهارك ,أن تؤتى محمدا الوسيلة
والفضيلة والدرجة الرفيعة ,وابعثه المقام
الذيِ وعدته إنك ص 400المحمود عند
ل تخلف الميعاد يا أرحم الراحمين فإذا سمعت الذان و أنت في الصلة ثم تدارك الجواب بعد السلم على وجهه فإذا أحرم المام
بالفرض فل تشتغل إل بالقتداء به و صل الفرض كما سيتلى عليك في كيفية الصلة و آدابها فإذا فرغت فقل اللهم صل على محمد
و على آل محمد و سلم اللهم أنت السلم و منك السلم وإليك يعود السلم فحينا ربنا بالسلم و أدخلنا الجنة دار السلم تباركت يا ذا
الجلل و الكرام سبحان ربي العلي العلى ل إله إل ا وحده ل شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي ل يموت
بيده الخير و هو على كل شيء قدير ل إله إل ا أهل النعمة و الفضل و الثناء الحسن ل إله إل ا و ل نعبد إلإياه مخلصين له
الدين و لو كره الكافرون
ثم ادع بعد ذلك بالجوامع الكوامل ما علمه رسول ا صلى ا عليه و سلم عائاشة رضي ا عنها فقل اللهم إني أسألك من الخير
كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أسألك الجنة و ما
يقرب إليها من قول و عمل و نية واعتقاد و أعوذ بك من النار و ما يقرب إليها من قول و عمل و نية و اعتقاد و أسألك من خير ما
سألك منه عبدك و رسولك محمد صلى ا عليه و سلم و أعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك و رسولك محمد صلى ا عليه و
سلم اللهم و ما قضيت علي من أمر فاجعل عاقبته رشدا ثم ادع بما أوصى به رسول ا صلى ا عليه و سلم فاطمة رضي ا
عنها فقل:يا حي يا قيوم يا ذا الجلل و الكرام ل إله إل أنت برحمتك أستغيث و من عذابك أستجير ل تكلني إلى نفسي و ل إلى
أحد من خلقك طرفة عين و أصلح لي شأني كله بما أصلحت به الصالحين
ثم قل ما قاله عيسى على نبينا و عليه الصلة و السلم اللهم إني أصبحت ل أستطيع دفع ما أكره و ل أملك نفع ما أرجو و أصبح
المربيدك ل بيد غيرك و أصبحتمرتهنا بعملي فل فقير أفقر مني إليك و ل غني أغنىمنك عني اللهم ل تشمت بي عدويِ و ل تسؤ
بي صديقي و ل تجعل مصيبتي في ديني و ل تجعل الدنيا أكبر همي و ل مبلغ علمي و ل تسلط علي بذنبي من ل يرحمني ثم ادع
بما بدا لك من الدعوات المشهورات و احفظها مما أوردناه في كتاب الدعوات من كتاب إحياء علوم الدين و لتكن أوقاتك بعد
الصلة إلى طلوع الشمس موزعة على أربع وظائاف:وظيفة في الدعوات ووظيفة في الذكار و التسبيحات و تكررها في سبحة
ووظيفة في قراءة القرآن ووظيفة في التفكر فتفكر في ذنوبك و خطاياك و تقصيرك في عبادة مولك و تعرضك
ص 401
لعقابه الليم و سخطه العظيم و ترتب أوقاتك بتدبيرك أورادك في جميع يومك لتتدارك به ما فرطت من تقصيرك وتحترز من
التعرض لسخط ا تعالى الليم في يومك و تنويِ الخير لجميع المسلمين و تعزم ان ل تشتغل في جميع نهارك إل بطاعة ا تعالى
و تفصل في قلبك الطاعات التي تقدر عليها و تختار أفضلها و تتأمل تهيئاة أسبابها لتشغل بها و ل ندع عنك التفكر في قرب الجل
و حلول الموت القاطع للمل و خروج المر عن الختيار و حصول الحسرة و الندامة بطول الغترار
و ليكن من تسبيحاتك و أذكارك عشر كلمات :إحداهن ل إله إل ا وحده ل شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي
ل يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير الثانية:ل إله إل ا الملك الحق المبين الثالثة:ل إله إل ا الواحد القهار رب
السموات و الرض و ما بينهما العزيز الغفار الرابعة:سبحان ا و الحمد ل و ل إله إل ا و ا أكبر و ل حول و ل قوة إل بال
العلي العظيم الخامسة :سبوح قدوس رب الملئاكة و الروح السادسة :سبحان ا و بحمده سبحان ا العظيم السابعة :أستغفر ا
العظيم الذيِ ل إله إل هو الحي القيوم و أسأله التوبة و المغفرة الثامنة:اللهم ل ماتع لما أعطيت و ل معطي لما منعت و ل راد لما
قضيت و ل ينفع ذا الجد منك الجد التاسعة:اللهم صل على محمد و على آل محمد و صحبه و سلم العاشرة:بسم ا الذيِ ليضر مع
اسمه شيء في الرض و ل في السماء و هو السميع العليم تكرر كل واحدة من هذه الكلمات إما مائاة مرة أو سبعين مرة أو عشر
مرات و هو أقله ليكون المجموع مائاة و لزم هذه الذكارو ل تتكلم قبل طلوع الشمس ففي الخبر أن ذلك أفضل من إعتاق ثمان
رقاب من ولد إسماعيل على نبينا و عليه الصلة و السلم أعني الشتغال بالذكر إلى طلوع الشمس من غير أن يتخلله كلم
آداب ما بين طلوع الشمس إلى الزوال
فإذا طلعت الشمس و ارتفعت قدر رمح فصل ركعتين و ذلك عند زوال وقت الكراهة فإنها مكروهة من بعد فريضة الصبح إلى
ارتفاع الشمس فإذا أضحى النهار و مضى منه قريب من ربعه فصل صلة الضحى أربعا أو ستا أو ثمانيا مثنى فقد نقلت هذه
العداد كلها عن رسول ا صلى ا عليه و سلم و الصلة خير كلها فمن شاء فليستكثر و من شاء فليستقلل فليس بين طلوع
الشمس و الزوال راتية من الصلة إل هذه فما فضل عنها من أوقاتك فلك فيه أربع حالت:
ص 402
الحالة الولى:و هي الفضل أن تصرفه في طلب العلم النافع في الدين دون الفضول الذيِ أكب الناس عليه و سموه علما و العلم
النافع هو ما يزيد في خوفك من ا تعالى و يزيد في بصيرتك بعيوب نفسك و يزيد في معرفتك بعبادة ربك و يقلل من رغبتك في
الدنيا و يزيد في رغبتك في الخرة و يفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها و يطلعك على مكايد الشيطان و غروره و
كيفية تلبيسه على علماء السوء حتى عرضهم لمقت ا تعالى و سخطه حيث اشتروا الدنيا بالدين و اتخذوا العلم ذريعة ووسيلة إلى
أخذ أموال السلطين و أكل أموال الوقاف و اليتامى و المساكين و صرف همتهم طول نهارهم إلى طلب الجاه و المنزلة في قلوب
الخلق و اضطرهم ذلك المراءاة و المماراة و المناقشة في الكلم و المباهاة و هذا الفن من العلم النافع قد جمعناه في كتاب إحياء
علوم الدين فإن كنت من أهله فحصله و اعمل به ثم علمه و ادع إليه فمن علم ذلك و عمل به ثم علمه و دعا إليه فذلك يدعى عظيما
في ملكوت السموات بشهادة عيسى عليه السلم فإذا فرغت من ذلك كله و فرغت من إصلح نفسك ظاهرا و باطنا و فضل شىء
من أوقاتك فل بأس أن تشتغل بعلم المذهب في الفقه لتعرف به الفروع النادرة في العبادات و طريق التوسط بين الخلق في
الخصومات عند انكبابهم على الشهوات فذلك أيضا بعد الفراغ من هذه المهمات من جملة فروض الكفايات فإن دعتك نفسك إلى
ترك ما ذكرناه من الوراد و الذكار استثقال لذلك فاعلم أن الشيطان اللعين قد دس في قلبك الداء الدفين و هو حب المال و الجاه
فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فيهلكك ثم يسخر منك فإن جبرت نفسك مدة في الوراد و العبارات فكنت ل تستثقلها كسل عنها
لكن ظهرت رغبتك في تحصيل العلم النافع و لم ترد به إل وجه ا تعالى و الدار الخرة فذلك أفضل من نوافل العبادات مهما
صحت النية و لكن الشأن في صحة النية فإن لم تصح فهو معدن غرور الجهال و مزلة أقدام الرجال
الحالة الثانية:أن ل تقدر على تحصيل العلم النافع في الدين لكن تشتغل بوظائاف العبادات من الذكر و التسبيح و القراءة و الصلة
فذلك من درجات العابدين و سير الصالحين و تكون أيضابذلك من الفائازين
الحالة الثالثة :أن تشتغل بما يصل منه خير الى المسلمين و يدخل به سرور على قلوب المؤمنين أو يتيسر به العمال الصالحة
للصالحين كخدمة الفقهاء و الصوفية و أهل الدين و التردد في أشغالهم و السعي في إطعام الفقراء و المساكين و التردد مثل على
المرضى بالعيادة و على الجنائاز بالتشييع فكل ذلك أفضل من النوافل فإن هذه عبادات و فيها رفق للمسلمين
ص 403
الحالة الرابعة:إن لم تقو على ذلك فاشتغل بحاجاتك اكتسابا على نفسك أو على عيالك و قد سلم منك المسلمون و أمنوا من لسانك و
يدك و سلم لك دينك إذا لم ترتكب معصية فتنال بذلك درجة أصحاب اليمين إن لم تكن من أهل الترقي إلى مقامات السابقين فهذا
أقل الدرجات في مقامات الدين و ما بعد هذا فهو مراتع الشياطين و ذلك بأن تشتغل و العياذ بال بما يهدم دينك أو تؤذيِ عبدا من
عباد ا تعالى فهذه رتبة الهالكين فإياك أن تكون في هذه الطبقة و اعلم أن العبد في حق دينه على ثلث درجات :إما سالم و هو
المقتصر على آداء الفرائاض و ترك المعاصي أو رابح و هو المتطوع بالقربات و النوافل أو خاسر و هو المقصر على اللوازم فإن
لم تقدر أن تكون رابحا فاجتهد أن تكون سالما و إياك ثم إياك أن تكون خاسرا
و العبد في حق سائار العباد له ثلث درجات :الولى:أن ينزل في حقهم منزلة الكرام البررة من الملئاكة و هو أن يسعى في
أغراضهم رفقا بهم و إدخال للسرور على قلوبهم الثانية:أن ينزل في حقهم منزلة البهائام و الجمادات فل ينالهم خيره و لكن يكف
عنهم شره الثالثة:أن ينزل في حقهم منزلة العقارب و الحيات و السباع الضاريات ل يرجى خيره و ل يتقى شره فإن لم تقدر على
أن تلتحق بأفق الملئاكة فاحذر أن تنزل عن درجة البهائام و الجمادات إلى مراتب العقارب و الحيات و السباع الضاريات فإن
رضيت لنفسك النزول من أعلى عليين فل ترض لها بالهوى إلى أسفل سافلين فلعلك تنجو كفافا ل لك و ل عليك فعليك في بياض
نهارك أن ل تشتغل إل بما ينفعك في معادك أو معاشك الذيِ ل تستغنى عنه و عن الستعانة به على معادك فإن عجزت عن القيام
بحق دينك مع مخالطة الناس و كنت ل تسلم فالعزلة أولى لك فعليك بها ففيها النجاة و السلمة فإن كانت الوساوس في العزلة
تجاذبك إلى ما ل يرضي ا تعالى و لم تقدر على قمعها بوظائاف العبادات فعليك بالنوم فهو أحسن أحوالك و أحوالنا إذا عجزنا
عن الغنيمة رضينا بالسلمة في الهزيمة فأخس بحال من سلمة دينه في تعطيل حياته إذ النوم أخو الموت و هو تعطيل الحياة و
التحاق بالجمادات
آداب الستعداد لسائار الصلوات
ينبغي أن تستعد لصلة الظهر قبل الزوال فتقدم القيلولة إن كان لك قيام في الليل أو سهر في الخير فإن فيها معونة على قيام الليل
كما أن في السحور معونة على صيام النهار و القيلولة من غير قيام الليل كالسحور من غير صيام بالنهار و اجتهد أن تستيقظ قبل
ص 404
الزوال و تتوضأ و تحضر المسجد و تصلي تحية المسجد و تنتظر المؤذن فتجيبه ثم تقوم فتصلي أربع ركعات عقب الزوال كان
رسول ا صلى ا عليه و سلم يطولهن و يقول:هذا وقت تفتح فيه أبواب السماء فأحب أن يرفع لي فيه عمل صالح و هذه الربع
قبل الظهر سنة مؤكدة ففي الخبر أن من صلهن فأحسن ركوعهن و سجودهن صلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له إلى الليل
ثم تصلي الفرض مع المام ثم تصلي بعد الفرض ركعتين فهما من الرواتب الثابتة و ل تشتغل إلى العصر إل بتعليم علم أو إعانة
مسلم أو قراءة قرآن أو سعي في معاش تستعين به على دينك ثم تصلي أربع ركعات قبل العصر فهي سنة مؤكدة فقد قال رسول ا
صلى ا عليه و سلم :رحم ا امرءا صلى أربعا قبل العصر فاجتهد أن ينالك دعاؤه صلى ا عليه و سلم و ل تشتغل بعد العصر
إل بمثل ما سبق قبله
و ل ينبغي أن تكون أوقاتك مهملة فتشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق بل ينبغي أن تحاسب نفسك و ترتب أورادك في ليلك و
نهارك و تعين لكل وقت شغل ل تتعدله و ل تؤثر فيه سواه فبذلك تظهر بركة الوقات فاما إذا تركت نفسك سدى مهمل إهمال
البهائام ل تدريِ بماذا تشتغل في كل وقت فينقضي أكثر أوقاتك ضائاعا و أوقاتك عمرك و عمرك رأس مالك و عليه تجارتك و به
وصولك إلى نعيم دار البد في جوار ا تعالى فكل نفس من أنفاسك جوهرة ل قيمة لها إذ ل بدل له فإذا فات فل عود له فل تكن
كالحمقى المغرورين الذين يفرحون كل يوم بزيادة أموالهم مع نقصان أعمارهم فأيِ خير في مال يزيد و عمر ينقص و ل تفرح إل
بزيادة علم أو عمل صالح فإنهما رفيقاك يصحبانك في القبر حيث يتخلف عنك أهلك و مالك وولدك و اصدقاؤك
ثم إذا اصفرت الشمس فاجتهد أن تعود إلى المسجد قبل الغروب و اشتغل بالتسبيح و الستغفار فإن فضل هذا الوقت كفضل ما قبل
الطلوع قال ا تعالى :و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها
و اقرأ قبل غروب الشمس "و الشمس و ضحاها" و الليل اذا يغشى و المعوذتين و لتغرب عليك الشمس و انت في الستغفار فإذا
سمعت الذان فأجبه و قل بعده :اللهم إني أسألك عند إقبال ليلك و إدبار نهارك و حضور صلتك و أصوات دعاتك أن تؤتي
محمدا الوسيلة و الفضيلة و الشرف و الدرجة الرفيعة و ابعثه المقام المحمود الذيِ وعدته إنك ل تخلف الميعاد و الدعاء كما سبق
ثم صل الفرض بعد جواب المؤذن و القامة و صل بعده ركعتين قبل أن تتكلم فهما راتبتا المغرب و إن صليت بعدهما أربعا فهي
أيضا سنة و إن أمكنك أن تنويِ العتكاف
ص 405
إلى العشاء تحيي ما بين العشائاين بالصلة فافعل فقد ورد في فضل ذلك ما ل يحصى و هي ناشئاة الليل لنها أول نشأته و هي
صلة الوابين و سئال رسول ا صلى ا عليه و سلم عن قوله تعالى :تتجافي جنوبهم عن المضاجع :السجدة 16فقال هي
الصلة ما بين العشائاين إنها تذهب بملغي أول النهار و تهذب آخره و الملغي جمع ملغاة و هي من اللغو
فإذا دخل وقت العشاء فصل أربع ركعات قبل الفرض إحياء لما بين الذانين ففضل ذلك كثير و في الخبر أن الدعاء بين الذانين و
القامة ل يرد ثم صل الفرض و صل الراتبة ركعتين و اقرأفيهما سورة "الم السجدة" و تبارك الملك أو سورة يس و الدخان فذلك
مأثور عن رسول ا صلى ا عليه و سلم و صل بعدهما أربع ركعات ففي الخبر ما يدل على عظيم فضلهن ثم صل الوتر بعدها
ثلثا بتسليمتين أو بتسليمة واحدة و كان رسول ا صلى ا عليه و سلم يقرأ فيها سورة سبح اسم ربك العلى و قل يا أيها
الكافرون و الخلص و المعوذتين فإن كنت عازما على قيام الليل فأخر الوتر ليكون آخر صلتك بالليل وترا ثم اشتغل بعد ذلك
بمذاكرة علم أو مطالعة كتاب و ل تشتغل باللهو و اللعب فيكون ذلك خاتمة أعمالك قبل نومك فإنما العمال بخواتيمها
آداب النوم
فإذا أردت النوم فابسط فراشك مستقبل القبلة و نم على يمينك كما يضجع الميت في لحده و اعلم أن النوم مثل الموت و اليقظة مثل
البعث و لعل ا تعالى يقبض روحك في ليلتك فكن مستعدا للقائاه بأن تنام على طهارة و تكون وصيتك مكتوبة تحت رأسك و تنام
تائابا من الذنوب مستغفرا عازما على ان ل تعود إلى معصية و اعزم على الخير لجميع المسلمين إن بعثك ا تعالى ة تذكر أنك
ستضجع في اللحد كذلك وحيدا فريدا ليس معك إل عملك و ل تجزيِ إل بسعيك و ل تستجلب النوم تكلفا بتمهيد الفرش الوطيئاة فإن
النوم تعطيل للحياة إل إذا كانت يقظتك وبال عليك فنومك سلمة لدينك و اعلم أن الليل و النهار أربع و عشرون ساعة فل يكن
نومك بالليل و النهار أكثر من ثمان ساعات فيكفيك إن عشت مثل ستين سنة أن تضيع منها عشرين سنة و هو ثلث عمرك و أعد
عند النوم سواكك و طهورك و اعزم على قيام الليل أو على القيام قبل الصبح فركعتان في جوف الليل كنز من كنوز البر فاستكثر
من كنوزك ليوم فقرك فلن تغني عنك كنوز الدنيا إذا مت
ص 406
و قل عند نومك :باسمك ربي وضعت جنبي و باسمك أرفعه فاغفر لي ذنبي اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك اللهم باسمك أحيا و
أموت و أعوذ بك اللهم من شر كل ذيِ شر و من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم اللهم أنت الول فليس
قبلك شيء و أنت الخر فليس بعدك شيء و أنت الظاهر فليس فوقك شيء و أنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين و
اغنني من الفقر اللهم أنت خلقت نفسي و أنت تتوفاها لك مماتها و محياها إن أمتها فاغفر لها و إن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به
عبادك الصالحين اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدين و الدنيا و الخرة اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك و استعملني
بأحب العمال إليك حتى تقربني إليك زلفى و تبعدني عن سخطك بعد أن أسألك فتعطيني و أستغفرك فتغفر لي و أدعوك فتستجيب
لي
ثم اقرأ آية الكرسي و آمن الرسول -البقرة إلى آخر السورة و الخلص و المعوذتين و تبارك الملك و ليأخذك النوم و أنت على
ذكر ا تعالى و على الطهارة فمن فعل ذلك عرج بروحه ألى العرش و كتب مصليا إلى أن يستيقظ فإذا استيقظت فارجع إلى ما
عرفتك أول و داوم على هذا الترتيب بقية عمرك فإن شقت عليك المداومة فاصبر صبر المريض على مرارة الدواء انتظارا
للشفاء و تفكر في قصر عمرك و إن عشت مثل مائاة سنة فهي قليلة بالضافة إلى مقامك في الدار الخرة و هي أبد الباد و تأمل
أنك تتحمل المشقة و الذل في طلب الدنيا شهرا أو سنة رجاء أن تستريح بها عشرين سنة مثل فكيف ل تتحمل ذلك أياما قلئال
رجاء الستراحة أبد الباد ؟ و ل تطول أملك فيثقل عليك عملك و قدر قرب الموت و قل في نفسك :إن تحمل المشقة اليوم فلعلي
أموت الليلة و اصبر الليلة فلعلي أموت غدا فإن الموت ل يهجم في وقت مخصوص و حال مخصوص و سن مخصوص فلبد من
هجومه فالستعداد له أولى من الستعداد للدنيا و أنت تعلم أنك ل تبقى فبها إل مدة يسيرة و لعله لم يبق من أجلك إل يوم واحد أو
نفس واحد فقدر هذا في قلبك كل يوم و كلف نفسك الصبر على طاعة ا يوما فيوما فإنك لو قدرت البقاء خمسين سنة و ألزمتها
الصبر على طاعة ا تعالى نفرت و استعصت عليك فإن فعلت ذلك فرحت عند الموت فرحا ل آخر له و إن سوفت و تساهلت
جاءك الموت في وقت ل تحتسبه و تحسرت تحسرا ل آخر له و "عند الصباح "يحمد القوم السرى" و عند الموت يأتيك الخبر
اليقين "و لتعلمن نبأه بعد حين" و إذا أرشدناك إلى ترتيب الوراد فلنذكر لك كيفية الصلة و الصوم و آدابهما و آداب المامة و
القدوة و الجمعة
ص 407
فإذا فرغت من طهارة الخبث و طهارة الحدث في البدن و الثياب و المكان و من ستر العورة من السرة إلى الركبة فاستقبل القبلة
قائاما مزاوجا بين قدميك بحيث ل تضمهما و استو قائاما ثم اقرأ قل أعوذ برب الناس تحصنا بها من الشيطان الرجيم و أحضر قلبك
ما أنت فيه و فرغه من الوسواس و انظر بين يديِ من تقوم ومن تناجي و استح أن تناجي مولك بقلب غافل و صدر مشحون
بوساوس الدنيا و خبائاث الشهوات و اعلم أنه تعالى مطلع على سريرتك و ناظر إلى قلبك فإنما يتقبل ا من صلتك بقدر خشوع و
خضوعك و تواضعك و تضرعك
و اعبده في صلتك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فإن لم يحضر قلبك و لم تسكن جوارحك فهذا لقصور معرفتك بجلل ا
تعالى فقدر أن رجل صالحا من وجوه أهل بيتك ينظر إليك ليعلم كيف صلتك فعند ذلك يحضر قلبك و تسكن جوارحك ثم ارجع
إلى نفسك و قل :يا نفس السوء أل تستحين من خالقك و مولك إذا قدرت اطلع عبد ذليل من عباده عليك و ليس بيدهضرك ول
نفعك خشعت جوارحك و حسنت صلتك ثم إنك تعلمين أنه مطلع عليك و ل تخشعين لعظمته أهو تعالى عندك أقل من عبد من
عباده؟ فما أشد طغيانك و جهلك و ما أعظم عداوتك لنفسك
فعالج قلبك بهذه الحيل فعساه أن يحضر معك في صلتك فإنهليس من صلتك إل ما عقلت منها و أما ما أتيت به مع الغفلة و السهو
فهو إلى الستغفار و التفكير أحوج فإذا حضر قلبك فل تترك القامة و إن كنت وحدك و إن انتظرت حضور جماعة فأذن ثم أقم
فإذا أقمت فانو و قل في قلبك أؤديِ فرض الظهر ل تعالى و ليكن ذلك حاضرا في قلبك عند تكبيرك و ل تغرب عنك النية قبل
الفراغ من التكبير و ارفع يديك عند التكبير بعد إرسالهما أول إلى حذو منكبيك و هما مبسوطتان و أصابعهما منشورة و ل تتكلف
ضمهما و ل تفريجهما بحيث تحاذيِ بإبهاميك شحمتي أذنيك و برءوس أصابعك أعلى أذنيك و بكفيك منكبيك فإذا استقرتا في
مقرهما فكبر ثم أرسلهما برفق و ل تدفع يديك عند الرفع و الرسال إلى قدام دفعا و ل إلى خلف رفعا و ل تنفضهما يميناو ل
شمال فإذا أرسلتهما فاستأنف رفعهما إلى صدرك و أكرم اليمنى بوضعها على اليسرى و انشر أصابع اليمنى على طول ذراعك
اليسرى و اقبض بها على كوعها و قل بعد التكبير ا أكبر كبيرا و الحمد ل كثيرا و سبحان ا بكرة و أصيل ثم اقرأ "وجهت
وحهي للذيِ فطر السموات و الرض حنيفا و ما أنا من المشركين"
ص 408
"إن صلتي و نسكي و محيايِ و مماتي ل رب العالمين"ل شريك له و بذلك أمرت و أنا من المسلمين ثم قل أعوذ بال من
الشيطان الرجيم ثم اقرأ الفاتحة بتشديداتها و اجتهد في الفرق بين الضاد و الظاء في قراءتك في الصلة و قل آمين و ل تصله
بقوله ول الضالين وصل
و اجهر بالقراءة في الصبح و المغرب و العشاء أعني في الركعتين الوليين إل أن تكون مأموما و اجهر بالتأمين و اقرأ في
الصبح بعد الفاتحة من السور الطوال من المفصل و في المغرب من قصاره و في الظهر و العصر و العشاء من أواسطه نحو و
السماء ذات البروج و ما قاربها من السور و في الصبح في السفر قل يا أيها الكافرون و قل هو ا أحد و ل تصل آخر السورة
بتكبيرة الركوع و لكن افصل بينهما بمقدار سبحان ا و كن في جميع قيامك مطرقا قاصرا نظرك على مصلك فذلك أجمع لهمك
و أجدر لحضور قلبك و إياك أن تلتفت يمينا و شمال في صلتك
ثم كبر للركوعو ارفع يديك كما سبق و مد التكبير إلى انتهاء الركوع ثم ضع راحتيك إلى ركبتيك و أصابعك منشورة و انصب
ركبتيك و مد ظهورك و عنقك و رأسك مستويا كالصفيحة الواحدة و جاف مرفقيك عن جنبيك و المرأة ل تفعل ذلك بل تضم
بعضها إلى بعض و قل سبحان ربي العظيم ثلثا و إن كنت منفردا فالزيادة إلى السبع و العشر حسن ثم ارفع رأسك حتى تعتدل
قائاما و ارفع يديك قائال سمع ا لمن حمده فإذا استويت قائاما فقل ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الرض و ملء ما شئات من
شيء بعد و إن كنت في قريضة الصبح فاقرأ القنوت في الركعة الثانية في اعتدالك من الركوع ثم اسجد مكبرا غير رافع اليدينو
ضع أول علي الرض ركبتيك ثم يديك ثم جبهتك مكشوفة و ضع أنفك مع الجبهة و جاف مرفقيك عن جنبيك و أقل بطنك عن
فخذيك و المرأة ل تفعل ذلك و ضع يديك على الرض حذو منكبيك و ل تفرش ذراعك على الرض و قل سبحان ربي العلى
ثلثا أو سبعا أو عشرا إن كنت منفردا ثم ارفع رأسك من السجود مكبرا حتى تعتدل جالسا و اجلس على رجلك اليسرى و انصب
قدمك اليمنى و ضع يديك على فخذيك و الصابع منشورة و قل رب اغفر لي و ارحمني و ارزقني و عافني و اعف عني ثم اسجد
ثانية كذلك ثم اعتدل جالسا للستراحة في كل ركعة ل تشهد عقبها ثم تقوم و تضع اليدين على الرض و ل تقدم إحدى رجليك في
حالة الرتفاع و ابتديِء بتكبيرة الرتفاع عند القرب من حد الستراحة و مدها إلى منتصف ارتفاعك
ص 409
إلى القيام و لتكن هذهالجلسة جلسة خفيفة مختطفة و صل الركعة الثانية كالولى و أعد التعوذ في البتداء ثم اجلس في الركعة
الثانية للتشهد الول و ضع اليد اليمنى في جلوس التشهد على الفخذ اليمنى مقبوضة الصابع إل المسبحة و البهام فترسلهما و
أشر بمسبحة يمناك عند قولك إل ا ل عند قولك ل إله وضع اليد اليسرى منشورة الصابع على الفخذ اليسرى و اجلس على
رجلك اليسرى في هذا التشهد كما بين السجدتين و في التشهد الخير متوركا و استكمل الدعاء المعروف المأثور بعد الصلة على
النبي صلى ا عليه و سلم و اجلس فيه على وركك اليسر و ضع رجلك اليسرى خارجة من تحتك و انصب القدم اليمنى ثم قل
بعد الفراغ:السلم عليكم و رحمة ا مرتين الجانبين و التفت بحيث ترى بياض خديك من جانبيكو انو الخروج من الصلة و انو
السلم على من على جانبيك من الملئاكة و المسلمين و هذه هيئاة صلة المنفرد
و عماد الصلة الخشوعو حضور القلب مع القراءة و الذكر بالتفهم و قال الحسن البصريِ رحمه ا تعالى كل صلة ل يحضر
فيها القلب فهي إلى الغقوبة أسرع و قال رسول ا صلى ا عليه و سلم إن العبد ليصلي الصلة فل يكتب له منها سدسها و ل
عشرها و إنما يكتب للعبد من صلته بقدر ما عقل منها
آداب المامة و القدوة
ينبغي للمام أن يخفف الصلة قال أنس بن مالك رضي ا عنه ما صليت خلف أحد صلة أخف و ل أتم من صلة رسول ا
صلى ا عليه و سلم و ل يكبر ما لم يفرغ المؤذن من القامة و ما لم تستو الصفوف و يرفع المام صوته بالتكبيرات و ل يرفع
المأموم صوته إل بقدر ما يسمع نفسه و ينويِ المام المامةلينال الفضل فإذا لم ينو صحت صلة القوم إذا نوو القتداء به و نالوا
فضل القدوة و يسر بدعاء الستفتاح و التعوذ كالمنفرد و يجهر بالفاتحة و السورة في جميع الصبح و أوليي المغرب و العشاء و
كذلك المنفرد و يجهر بقوله آمين في الجهرية و كذلك المأموم و يقرن المأموم تأمينه بتأمين المام معا ل تعقيبا له و يسكت المام
سكتة عقب الفاتحة ليئاوب إليه نفسه و يقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة ليتمكن من الستماع عند قراءة المام و ل
يقرأ المأموم السورة في الجهرية إل إذا لم يسمع صوت المام و ل يزيد المام على الثلثة في تسبيحات الركوع و السجود و ل
يزيد في التشهد الول بعد قول اللهم صل علي محمد و يقتصر في الركعتين الخيرتين على الفاتحة و ل يطول على القوم و ل
يزيد دعاءه في التشهد الخير علي قدر تشهده على رسول ا صلى ا عليه و سلم و ينويِ المام التسليم
ص 410
السلم على القوم ,و ينوى القوم بتسليمهم جوابه و يلبث المام ساعة بعدها يفرغ من السلم ويقبل على الناس بوجهه ول يلتفت إن
كان خلفه نساء لينصرفن أول ول يقوم أحد من القوم حتى يقوم المام وينصرف المام حيث شاء عن يمينه أو شماله واليمين أحب
إليه ول يخص المام نفسه بالدعاء فى قنوت الصبح بل يقول اللهم اهدنا ويجهر به و يؤمن القوم ول يرفعون أيديهم إذ لم يثبت ذلك
فى الخبار و يقرأ المأموم بقية القنوت من قوله) :إنك ل تقضى و ل يقضى عليك ( و ل يقف المأموم وحده بل يدخل فى الصف
أو يجر إلى نفسه غيره و ل ينبغى للمأموم أن يتقدم على المام فى أفعاله أو يساويه بل ينبغى أن يتأخر عنه ول يهوى للرموع إل
إذا انتهى المام إلى حد الركوع ول يهوى للسجود ما لم تصل جبهة المام إلى الرض
ياداب الجمعة:
اعلم أن الجمعة عيد المؤمنين وهو يوم شريف خص ا عز وجل به هذه المه و فيه ساعة مهمة ل يوافقها عبد مسلم يسأل ا
تعالى فيها حاجة إل أعطاه إياها فاستعد لها من يوم الخميس بتنظيف الثياب وبكثرة التسبيح والستغفار عشية الخميس فإنها ساعة
توازى فى الفضل ساعة يوم الجمعة وانو صوم يوم الجمعة لكن مع الخميس أو السبت إذ جاء فى إفرادها نهى فإذ طلع عليك
الصبح فاغتسل غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم أى ثابت مؤكد ثم تزين بالثياب البيض فإنها أحب الثياب إلى ا تعالى
واستعمل من الطيب أطيب ما عندك وبالغ فى تنظيف بدنك بالحلق والقص والتقليم والسواك وسائار أنواع النظافة وتطيب الرائاحة
ثم بكر إلى الجامع واسع إليه على الهينة والسكينة فقد قال صلى ا عليه وسلم ) من راح إلى الجمعة فى الساعة الولى فكدأنما
قرب بدنة ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب بدنة ومن راح فى الساعة الثانية
فكأنما قرب بقرة ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح فى
الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج المام طويت الصحف ورفعت القلم واجتمعت الملئاكة عند المنبر يستمعون
الذكر(
و يقال إن الناس فى قبرهم عند النظر إلى وجه ا تعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة
ثم إذا دخلت الجامع فاطلب الصف الول فإذا اجتمع الناس فل تتخط رقابهم ول تمر بين أيديهم وهم يصلون واجلس بقرب حائاط
أو اسطوانة حتى ل يمروا بين يديك
ص 411
ول تقعد حتى تصلى التحية والحسن أن تصلى أربع ركعات تقرأ فى كل ركعة بعد الفاتحة سورة الخلص خمسين مرة ففى
الخبر أن من فعل ذلك لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له ول تترك التحية وإن كان المام يخطب ومن السنة أن تقرأ فى
أربع ركعات سورة النعام والكهف وطه ويس فإن لم تقدر فسورة يس والدخان والم السجدة و سورة الملك ول تدع قراءة هذه
السورة فى ليلة الجمعة ففيها فضل كثير ومن لم يحسن ذلك فليكثر من قراءة سورة الخلص وأكثر من الصلة على رسول ا
صلى ا عليه وسلم فى هذا اليوم خاصة ومهما خرج المام فاقطع الصلة والكلم واشتغل بجواب المؤذن ثم باستماع الخطبة
والتعاظ بها ودع الكلم رأسا فى الخطبة ففى الخبر أن من قال لصاحبه والمام يخطب أنصت فقد لغا ومن لغا فل جمعة له أى
لن قوله أنصت كلم فينبغى أن ينهى غيره بالشارة ل باللفظ
ثم اقتد بالمام كما سبق فإذا فرغت وسلمت فاقرأ الفاتحة قبل أن تتكلم سبع مرات والخلص سبعا والمعوذتين سبعا سبعا فذلك
يعصمك من الجمعة إلى الجمعة الخرى ويكون حرزا لك من الشيطان وقل بعد ذلك )اللهم يا غنى يا حميد يا مبدئ يا معيد يا
رحيم يا ودود اغننى بحللك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك(
ثم صل بعد الجمعة ركعتين أو ستا مثنى فكل ذلك مروى عن رسول ا صلى ا عليه وسلم فى أحوال مختلفة
ثم لزم المسجد إلى المغرب أو إلى العصر وكن حسن المراقبة للساعة الشريفة فإنها مبهمة فى جميع اليوم فعساك أن تدركها و
أنت خاشع ل تعالى متذلل متضرع ول تحضر فى الجامع مجالس الخلق ول مجالس القصاص بل مجالس العلم النافع وهو الذى
لخرة فالجهل أعود عليك منه فاستعذ بال يزيد فى خوفك من ا وينقص من رغبتك فى الدنيا فكل علم ل يدعوك من الدنيا إلى ا ي
من علم ل ينفع وأكثر الدعاء عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب وعند صعود الخطيب المنبر وعند قيام الناس إلى
الصلة فيوشك أن تكون الساعة الشريفة فى بعض الوقات واجتهد أن تتصدق فى هذا اليوم بما تقدر عليه و إن قل فتجمع بين
لخرتك فعساه أن يكون الصلة والصوم و الصدقة والقراءة والذكر والعتكاف والرباط واجعل هذا اليوم من السبوع خاصة ي
كفارة لبقية السبوع.
ص 412
ياداب الصيام:
ل ينبغى أن تقتصر على صوم شهر رمضان فتترك التجارة بالنوافل وكسب الدرجات العالية فى الفراديس فتتحسر إذا نظرت إلى
منازل الصائامين كما تنظر إلى الكوكب الدرى وهم فى أعلى عليين
واليام الفاضلة التى شهدت الخبار بشرفها و فضلها وبجزالة الثواب فى صيامها :يوم عرفة لغير الحاج ويوم عشوراء والعشر
الول من ذى الحجة والعشر الول من المحرم ورجب وشعبان وصوم الشهر الحرم من الفضائال وهى ذو القعدة وذو الحجة
والمحرم ورجب واحد فرد وثلثة سرد وهذه فى السنة وأما فى الشهر فأول الشهر وأوسطه وياخره ولأيام البيض وهى الثالث
عشر والرابع عشر والخامس عشر وأما فى السبوع فيوم الثنين والخميس والجمعة فتكفر ذنوب السبوع بصوم الثنين
والخميس والجمعة وتكفر ذنوب الشهر باليوم الول من الشهر واليوم الوسط واليوم الخر واليام البيض وتكفر ذنوب السنة
بصيام هذه اليام والشهر المذكورة ول تظن إذا صمت أن الصوم هو ترك الطعام والشراب والوقاع فقط فقد قال صلى ا عليه
وسلم )كم من صائام ليس له من صيامه إل الجوع والعطش( بل تمام الصوم بكف الجوارح كلها عما يكره ا تعالى بل ينبغى دأن
تحفظ العين عن النظر إلى المكاره واللسان عن النطق بما ل يعنيك والذن عن الستماع إلى ما حرم ا تعالى فإن المستمع شريك
القائال وهو أحد المغتابين وكذلك تكف جميع الجوارح كما تكف البطن والفرج ففى الخبر) خمس يفطرن الصائام الكذب والنميمة
اليمين الكاذبة والنظر بشهوة( وقال صلى ا عليه وسلم )الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائاما فل يرفث ول يجهل فإن امرؤ قاتله أو
شاتمه فليقل صائام( ثم اجتهد أن تفطر على طعام حلل ول تستكثر فتزيد على ما تأكله كل ليلة لجل صيامك فل فرق إذا استوفيت
ما تعتاد أن تأكله دفعتين فى دفعة واحدة وإنما المقصود بالصيام كسر شهوتك وتضعيف قوتك لتقوى بها على التقوى وما وعاء
أبغض إلى ا تعالى من بطن ملئ من حلل فكيف إذا ملئ من حرام!
فإذا عرفت معنى الصوم فاستكثر منه ما استطعت فإنه أساس العبادات ومفتاح القربات قال رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ا
تعالى ) كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائاة ضعف إل الصوم فإنه لى وأنا اأجزى به( وقال صلى ا عليه وسلم )والذى نفسى بيده
لخلوف فم الصائام أطيب
ص 413
ا د
عند ا من ريح المسك يقول ا عز و جل )إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلى فالصوم لى وأنا أجزى به( وقال صلى ا
عليه وسلم) :للجنة باب يقال له الريان ل يدخله إل الصائامون(
فهذا القدر من شرح الطاعات يكفيك من بداية الهداية فإذا احتجت إلى الزكاة والحج أو إلى مزيد لشرح الصلة والصيام فاطلبه مما
أوردناه فى كتاب إحياء علوم الدين
القسم الثانى القول فى اجتناب المعاصى:
اعلم أن الدين شطران أحدهما ترك المناهى والخر فعل الطاعات وترك المناهى هو الشد فإن الطاعات يقدر عليها كل أحد وترك
الشهوات ل يقدر عليها إل الصديقون فلذلك قال رسول ا صلى ا عليه وسلم )المهاجر من هجر السوء والمجاهد من جاهد
هواه( واعلم أنك إنما تعصى ا بجوارحك ,وهى نعمة من ا عليك وأمانة لديك فاستعانك بنعمة ا على معصيته غاية الكفران.
وخيانتك أمانة استودعكها ا غاية الطغيان فأعضاؤك رعاياك فانظر كيف ترعاها فكلكم راع وكل راع مسئاول عن رعيته واعلم
أن جميع أعضائاك ستشهد عليك فى عرصات القيامة بلسان طلق ذلق أى فصيح تفضحك به على رءوس الخلئاق قال ا تعالى:
)يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون( )يس(65:
فاحفظ يا مسكين جميع بدنك من المعاصى وخصوصا أعضاءك السبعة فإن جهنم لها سبعة أبواب لكل منهم جزء مقسوم ول يتعين
لتلك البواب إل من عصى ا تعالى بهذه العضاء السبعة وهى العين والذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل
أما العين فإنما خلقت لتهتدى بها فى الظلمات وتستعين بها فى الحاجات وتنظر بها إلى عجائاب ملكوت الرض والسموات وتعتبر
بما فيها من اليات فاحفظها عن أربع :أن تنظر بها إلى غير محرم أو إلى صورة مليحة بشهوة نفس أو تنظر بها إلى مسلم بعين
الحتقار أو تطلع بها على عيب مسلم وأما الذن فاحفظها عن أن تصغى بها إلى البدعة أو الغيبة أو الفحش أو الخوض فى الباطل
أو ذكر مساوئ الناس فإنما خلقت لك لتسمع بها كلم ا تعالى و سنة رسول ا صلى ا عليه وسلم وحكمة أوليائاه و تتوصل
باستفادة العلم بها إلى الملك المقيم والنعيم الدائام فى جوار رب العالمين فإذا أصغيت بها إلى شئ من المكاره ,صار ما كان عليك
ص 414
وانقلب ما كان سبب فوزك سبب فوزك سبب هلكك هذا غاية الخسران ول تظن أن الثم يختص به القائال دون المستمع ففى
الخبر أن المستمع شريك القائال وهو أحد المغتابين وأما اللسان فإنما خلق لتكثر به ذكر ا تعالى وتلوة كتابه وترشد به خلق ا
تعالى إلى طريقه وتظهر به ما فى ضميرك من حاجات دينك ودنياك فإذا استعملته فى غير ما خلق له فقد كفرت نعمة ا تعالى
فيه وهو أغلب أعضائاك عليه وعلى سائار الخلق ول يكب الناس فى النار على مناخرهم إلى حصائاد ألسنتهم فأستظهر عليه بغاية
قوتك حتى ل يكبك فى قعر جهنم ففى الخبر ) إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها أصحابه فيهوى بها فى قعر جهنم سبعين
خريفا( وروى أنه قتل شهيد فى المعركة على عهد رسول ا صلى ا عليه وسلم فقال قائال هنيئاا له بالجنة فقال صلى ا عليه
وسلم )وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما ل يعنيه و يبخل بما ل يغنيه( فاحفظ لسانك من ثمانية :
الول :الكذب فاحفظ منه لسانك فى الجد و الهزل ول تعود لسانك الكذب هزل فيدعوك إلى الكذب فى الجد والكذب من أمهات
الكبائار ثم إنك إذا عرفت بذلك سقطت عدالتك والثقة بقولك وتزدريك العين وتحتقرك وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب من نفسك
فانظر إلى كذب غيرك وإلى كذب غيرك وإلى نفرة نفسك عنه واستحقارك لصاحبه واستقباحك لما جاء به وكذلك فافعل فى جميع
عيوب نفسك فإنك ل ترى قبح عيوبك من نفسك بل من غيرك فما استقبحته من غيرك يستقبحه غيرك منك ل محالة فل ترض
لنفسك ذلك
الثانى :الخلف فى الوعد فإياك أن تعد بشئ ول تفى به بل ينبغى أن يكون إحسانك إلى الناس فعل بل قول فإن اضطررت إلى
الوعد فإياك أن تخلف إل لعجز أو ضرورة فإن ذلك من أمارات النفاق و خبائاث الخلق قال النبى صلى ا عليه وسلم ) :ثلث
من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان(
الثالث :الغيبة فاحفظ لسانك عنها والغيبة أشد من ثلثين زينة فى السلم كذلك ورد فى الخبر ومعنى الغيبة أن تذكر إنسانا بما
يكرهه لو سمعه فأنت مغتاب ظالم وإن كنت صادقا وإياك وغيبة القراء المرائاين وهو أن تفهم المقصود من غير تصريح فتقول
أصلحه ا فقد ساءنى وغمنى ما جرى عليه فنسأل ا تعالى أن يصلحنا وإياء فإن هذا جمع بين خبيثين أحدهما الغيبة إذا بها
حصل التفهم والخر تزكية النفس والثناء عليها بالتحرج والصلح ولكن إن كان مقصودك من قولك أصلحه ا تعالى الدعاء فادع
له فى السر إن اغتممت بسببه فعلمته أنك ل تريد فضيحته وإظهار عيبه وفى إظهارك الغم بعيبه إظهار تعييبه ويكفيك زاجرا عن
الغيبة قوله تعالى) :ول يغتب
ص 415
بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه( )الحجرات (12:فقد شبهك ا بآكل لحم الميتة فما أجدرك أن
تحترز منها ويمنعك عن غيبة المسلمين أمر لو تفكرت فيه وهو أن تنظر فى نفسك هل فيك عيب ظاهر أو باطن وهل أنت مفارق
معصية سرا أو جهرا فإذا عرفت ذلك من نفسك فاعلم أن عجزه من التنزه عما نسبته إليه كعجزك وعذره كعذرك وكما تكره أن
تفتضح وتذكر عيوبك فهو أيضا يكرهه فإن سترته ستر ا عليك عيوبك وإن فضحته سلط ا عليك ألسنة حدادا يمزقون عرضك
فى الدنيا ثم يفضحك ا فى الخرة على رءوس الخلئاق يوم القيامة وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك فلم تطلع فيهما على عيب
ونقص فى دين ول دنيا فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة ول عيب أعظم من الحمق ولو أراد ا بك خيرا لبصرك
بعيوب نفسك فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك وجهلك ثم إن كنت صادقا فى ظنك فاشكر ا تعالى عليه ول تفسده بثلب
الناس والتمضمض بأعراضهم فإن ذلك أعظم العيوب
الرابع :المراء والجدال ومناقشة الناس فى الكلم فذلك فيه إذاء للمخاطب وتجهيل له وطعن فيه وفيه ثناء على النفس وتزكية لها
بمزيد الفطنة والعلم ثم هو مشوش للعبش فإنك ل تمارى سفيها إل ويؤذيك ول تمارى حليما إل ويقليك ويحقد عليك فقد قال صلى
ا عليه وسلم) :من ترك المراء وهو مبطل بنى ا له بيتا فى ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بنى ا له بيتا فى أعلى
الجنة( ول ينبغى أن يخدعك الشيطان ويقول لك أظهر الحق ول تداهن فيه فإن الشيطان أبدا يستجر الحمقى إلى الشر فى معرض
الخير فل تكن ضحكة للشيطان فيسخر منك فإظهارك الحق حسن مع من يقبله منك وذلك بطريق النصيحة فى الخفية ل بطريق
المماراة وللنصيحة صفة وهيئاة ويحتاج فيها إلى تلطف وإل صارت فضيحة وكان فسادها أكثر من صلحها ومن خالط متفقة
العصر غلب على طبعه المراء والجدال وعسر عليه الصمت إذ ألقى إليه علماء السوء أن ذلك هو الفضل والقدرة على المحاجة
والمناقشة هو الذى يمتدح به ففر منهم فرارك من السد واعلم أن المراء سبب المقت عند ا وعند الخلق
الخامس :تزكية النفس قال ا تعالى) :فل تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى( )النجم (32:وقيل لبعض الحكماء ما الصدق القبيح؟
فقال ثناء المرء على نفسه فإياك أن تتعود ذلك واعلم أن ذلك ينقص من قدرك عند الناس ويوجب مقتك عند ا تعالى فإذا أردت أن
تعرف أن ثناءك على نفسك ل يزيد فى قدرك عند غيرك فأنظر إلى أقرانك
ص 416
إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل والجاه والمال كيف يستنكره قلبك عليهم ويستثقله طبعك وكيف تذمهم عليه إذا فارقتهم فاعلم أنهم
أيضا فى حال تزكيتك لنفسك يذمونك فى قلوبهم ناجزا وسيظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم
السادس :اللعن فإياك أن تلعن شيئاا مما خلق ا تعالى من حيوان أو طعام أو إنسان بعينة ول تقطع بشهادتك على أحد من أهل
القبلة بشكر أو كفر أو نفاق فإن المطلع على السرائار هو ا تعالى فل تدخل بين العباد وبين ا تعالى واعلم إنك يوم القيامة ل يقال
لك لم لم تلعن فلنا ولم سكت عنه بل لو لم تلعن إبليس طول عمرك ولم تشغل لسانك بذكره لم تسأل عنه ولم تطالب به يوم القيامة
وإذا لعنت أحدا من خلق ا تعالى طولبت به ول تذمن شيئاا مما خلق ا تعالى فقد كان النبى صلى ا عليه وسلم ل يذم الطعام
الردئ قط بل كان إذا اشتهى شيئاا أكله وإل تركها
السابع :الدعاء على الخلق فاحفظ لسانك عن الدعاء على أحد من خلق ا تعالى وإن ظلمك فكل أمره إلى ا تعالى ففى الحديث:
)إن المظلوم ليدعو على ظالمه حتى يكافئاه ثم يبقى للظالم فضل عنده يطالبه به يوم القيامة( وطول بعض الناس لسانه على الحجاج
فقال بعض السلف إن ا لينتقم للحجاج ممن تعرض له بلسانه كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه
الثامن :المزاح والسخرية والستهزاء بالناس فاحفظ لسانك منه فى الجد والهزل فإنه يريق ماء الوجه ويسقط المهابه ويستجر
الوحشة ويؤذى القلوب وهو مبدأ اللجاج والغضب والتصارم ويغرس الحقد فى القلوب فل تمازح أحدا فإن مازحك فل تحببه
فأعرض عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره وكن من الذين إذا مروا باللغوا مروا كراما فهذه مجامع آفات اللسان ول يعنيك عليك
إل العزلة أو ملزمة الصمت إل بقدر الضرورة فقد كان أبو بكر الصديق رضى ا عنه يضع حجرا فى فيه ليمنعه ذلك من الكلم
بغير ضرورة ويشير إلى لسانه ويقول هذا الذى أوردنى الموارد كلها فاحترز منه بجهدك فإنه أقوى أسباب هلك فى الدنيا
والخرة وأما البطن فاحفظه من تناول الحرام والشبهة واحرص على طلب الحلل فإذا وجدته فاحرص على أن تقتصر منه على
ما دون الشبع فإن الشبع يقسى القلب ويفسد الذهن ويبطل الحفظ ويثقل العضاء من العبادة والعلم ويقوى الشهوات وينصر جنود
الشيطان والشبع من الحلل مبدأ كل شر فكيف من الحرام وطلب الحلل فريضة على كل مسلم والعبادة والعلم مع أكل الحرام
كالبناء على السرجين فإذا قنعت فى السنة بقيص خشن وفى اليوم والليلة برغيفين من الخشكار وتركت التلذذ بأطيب الدم لم
يعوزك من
417
الحلل ما يكفيك والحلل كثير وليس عليك أن تتيقن بواطن المور بل عليك أن تحترز مما تعلم أنه حرام أو تظن أنه حرام ظنا
حصل من علمة ناجزة مقرونة بالمال أما المعلوم فظاهر وأما المظنون بعلمة فهو مال السلطان وعماله ومال من ل كسب له إل
من النياحة أو بيع الخمر أو الربا أو المزامير وغير ذلك من آلت اللهو المحرمة فإن من علمت أن أكثر ماله حرام قطعا فما تأخذه
من يده وإن أمكن أن يكون حلل نادرا فهو حرام لنه الغالب على الظن ومن الحرام المحض ما يؤكل من الوقاف من غير شرط
الواقف فمن لم يشتغل بالتفقه فما يأخذه من المدارس حرام ومن ارتكب معصية ترد بها شهادته فما يأخذه باسم الصوفية من وقف
أو غيره فهو حرام وقد ذكرنا مداخل الشبهات والحلل والحرام فى كتاب مفرد من كتاب إحياء علوم الدين فعليك بطلبه فإن
معرفته الحلل وطلبه فريضة على كل مسلم كالصلوات الخمس وأما الفرج فاحفظه عن كل ما حرم ا تعالى وكن كما قال ا
تعالى ) :والذين هم لفروجهم حافظون 5أل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين( )المؤمنين (6 5والمعارج )
(30 29ول تصل إلى حفظ الفرج إل بحفظ العين عن النظر وحفظ القلب عن التفكير وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع فإن
هذه محركات المشهوة ومغارسها وأما اليدان فاحفظهما عن أن تضرب بهما مسلما أو تتناول بهما مال حراما أو نؤذى بهما أحدا
من الخلق أو تخوف بهما فى أمانة أو وديعة أو تكتب بهما ما ل يجوز النطق به فإن القلم أحد اللسانين فاحفظ القلم عما يجب حفظ
اللسان عنه وأما الرجلن فاحفظهما عن أن تمشى بهما إلى باب سلطان ظالم فإن المشى إلى السلطين الظلمة من غير ضرورة
وإرهاق معصية كبيرة فإنه تواضع لهم وإكرام لهم على ظلمهم وقد أمر ا بالعراض عنهم فى قوله تعالى) :ول تركنوا إلى
الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون ا من أولياء ثم ل تنصرون( )هود (113:وإن كان ذلك لسبب طلب مالهم فهو سعى
إلى حرام وقد قال النبى صلى ا عليه وسلم) :من تواضع لغنى ذهب ثلثا دينه( وهذا فى غنى صالح فما ظنك بالغنى الظالم!
وعلى الجملة فحركاتك وسكناتك بأعضائاك نعمة من نعم ا تعالى عليك فل تحرك شيئاا منها فى معصية ا تعالى أصل
واستعملها فى طاعة ا تعالى واعلم أنك إن قصرت فعليك يرجع وباله وإن شمرت فإليك تعود ثمرته وا غنى عنك وعن عملك
وإنما كل نفس بما كسبت رهينة وإياك أن تقول إن ا كريم رحيم يغفر الذنوب للعصاة فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل وصاحبها
ملقب بالحماقة بتلقيب رسول ا صلى ا عليه وسلم حيث
ص 418
قال )الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا المانى( واعلم أن قولك هذا يضاهى
قول من يريد أن يصير فقيها فى علوم الدين من غير أن يدرس علما واشتغل بالبطالة وقال إن ا كريم رحيم قادر على أن يفيض
على قلبى من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائاه من غير جهد وتكرار وتعلم وهو كقول من يريد مال فترك الحراثة والتجارة
والكسب وتعطل وقال إن ا كريم وله خزائان السموات والرض وهو قادر على أن يطلعنى على كنز من كنوزه أستغنى به عن
الكسب فقد فعل ذلك لبعض عباده فأنت إذا سمعت كلم هذين الرجلين استحمقتهما وسخرت منهما وإن كان ما وصفاه من كرم ا
تعالى وقدرته صدقا وحقا فكذلك يضحك عليك أرباب البصائار فى الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعى لها وا تعالى يقول) :وأن
ليس للنسان إل ما سعى( )النجم (39:ويقول) :إنما تجزون ما كنتم تعملون( )الطور 16:التحريم (7:ويقول) :أن البرار لفى
نعيم 13وإن الفجار لفى جحيم( )النفطار (14 13فإذا لم تترك السعى فى طلب العلم والمال اعتمادا على كرمه فكذلك ل تترك
التزود للخرة ول تفتر فإن رب الدنيا والخرة واحد وهو فيهما كريم رحيم وليس يزيد له كرم بطاعتك وإنما كرمه فى أن ييسر
لك طريق الوصول إلى الملك المقيم والنعيم الدائام المخلد بالصبر على ترك الشهوات أياما قلئال وهذا نهاية الكرم فل تحدث نفسك
بتهويسات الباطلين واقتد بأولى العزم والنهى من النبياء والصالحين ول تطمع فى أن نحصد ما لم تزرع وليت من صام وصلى
وجاهد واتقى غفر له هذه جمل مما ينبغى أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة وأعمال هذه الجوارح فعليك بتطهير القلب فهو تقوى
الباطن والقلب هو المضغة التى إذا صلحت صلح بها سائار الجسد وإذا فسدت فسد بها سائار الجسد فاشتغل بإصلحه لتصلح به
جوارحك وصلحه يكون بملزمة المراقبة
القول فى معاصى القلب:
اعلم أن الصفات المذمومة فى القلب كثيرة وطريق تطهير القلب من رذائالها طويلة وسبيل العلج فيها غامض وقد اندرس بالكلية
علمه لغفلة الخلق عن أنفسهم واستقصينا ذلك كله فى كتاب إحياء علوم الدين فى ربع المنجيات ولكننا نحذرك الن ثلثا من خبائاث
القلب وهى الغالبة على متفقة العصر لتأخذ منها حذرك فإنها مهلكات فى أنفسها وهى أمهات الجملة من الخبائاث سواها وهى
الحسد والرياء والعجب فاجتهد
ص 419
فى تطهير قلبك منها فإن قدرت عليها فتعلم كيفية الحذر مع بقيتها من ربع المهلكات فإن عجزت عن هذا فأنت غيره أعجز ول
تظنن أنك تسلم بنية صالحة فى تعلم العلم وفى قلبك شئ من الحسد والرياء والعجب وقد قال صلى ا عليه وسلم ثلث مهلكات
شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه أما الحسد فهو متشعب من الشح فإن البخيل هو الذى يبخل بما فى يده على غيره
والشحيح هو الذى يبخل بنعمة ا تعالى وهى فى خزائان قدرته تعالى ل فى خزائانه على عباد ا تعالى فشحه أعظم والحسود هو
الذى يشق عليه إنعام ا تعالى من خزائان قدرته على عبد من عباده بعلم أو مال أو محبة فى قلوب الناس أو حظ من الحظوظ حتى
إنه ليحب زوالها عنه وإن لم يحصل له بذلك شئ من تلك النعمة فهذا منتهى الخبث فلذلك قال النبى صلى ا عليه وسلم الحسد
تأكل النار الحطب والحسود هو المعذب الذى ل يرحم ول يزال فى عذاب دائام فى الدنيا فهى ل تخلو من خلق كثير من أقرانه
ومعارفه ممن أنعم ا عليهم بعلم أو مال أو جاه فل يزال فى عذاب دائام فى الدنيا إلى موته ولعذاب الخرة أشد وأكبر بل ل يصل
العبد إلى حقيقة اليمان ما لم يحب لسائار المسلمين ما يحب لنفسه بل ينبغى أن يساهم المسلمين فى السراء والضراء فالمسلمون
كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى سائار الجسد فإن كنت ل تصادف هذا من قلبك
فاشتغالك بطلب التخلص من الهلك أهم من اشتغالك بنوادر الفروع وعلم الخصومات وأما الرياء هو الشرك الخفى وهو أحد
الشركين وذلك طلبك المنزلة فى قلوب الخلق لتنال بها الجاه والحشمة وحب الجاه من الهوى المتبع وفيه هلك أكثر الناس فما أهلك
الناس إل الناس ولو أنصفت الناس حقيقة لعلموا أن أكثر ما هم فيه من العلوم والعبادات فضل عن أعمال العادات ليس يحملها
عليها إل مراءاة الناس وهى محبطة للعمال كما ورد فى الخبر أن الشهيد يؤمر به يوم القيامة إلى النار فيقول يارب استشهد فى
سبيلك فيقول ا تعالى بل أردت أن يقال فلن شجاع وقد قيل ذلك وذلك أجرك وكذلك يقال للعالم والحاج والقارئ وأما العجب
والكبر والفخر فهو الداء العضال وهو نظر العبد إلى نفسه بعين العزة والستعظام وإلى غيره بعين الحتقار والذل ونتيجته على
اللسان أن يقول أنا وأنا قال إبليس اللعين أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين )العراف (12:وثمرته فى الجالس الترفع
والتقدم وطلب التصدر فيها وفى المحاورة الستنكاف من أن يرد كلمه عليه
ص 410
ل
و المتكبر هو الذيِ إن وعظ أنف أو وعظ عنف ،فكل من رأى نفسه خيرا من أحد من خلق ا تعالى فهو متكبر ،بل ينبغي لك أن
تعلم أن الخير من هو خير عند ا في دار الخرة ،و ذلك غيب موقوف على الخاتمة ،فاعتقادك في نفسك أنك خير من غيرك جهل
محض ،بل يبتغي أن ل تنظر إلى أحد إل و ترى أنه خير منك ،و أن الفضل له على نفسك ،فإن رأيت صغيرال قلت :هذا لم يعص
ا و أنا عصيته فل شك أنه خير مني ،و إن رأيت كبيرال قلت :هذا قد عبد ا قبلي فل شك أنه خير مني ،و أن كان عالما ل قلت :
هذا قد أعطى ما لم أعط ،و بلغ ما لم أبلغ و علم ما جهلت فكيف أكون مثله ! و إن كان جاهلل قلت :هذا قد عصى ا بجهل و أنا
عصيته بعلم ،فحجة ا على ياكد و ما أدرى بم يختم له ،و أن كان كافرال قلت :ل أدرى عسى أن يسلك و يختم له بخير العلم ،و
ينسل بإسلمه عن الذنوب كما تنسل الشعرة من العجين ،و أما أنا و العياذ بال فعسى أن يضلني ا فأكفر فيختم لي بشر العمل،
فيكون غدال هو من المقربين و أنا أكون من الخاسرين .
فل يخرج الكبر من قلبك إل بأن تعرف أن الكبير من هو عند ا تعالى ،و ذلك موقوف على الخاتمة ،و هي مشكوك فيها ،فيشغلك
خوف الخاتمة عن أن تتكبر مع الشك فيها على عباد ا تعالى ،فيقينك و إيمانك في الحال ل يناقض تجويزك التغير في الستقبال،
فإن ا مقلب القلوب يهديِ من يشاء و يضل من يشاء.
و الخبار في الحسد و الكبر و الرياء و العجب كثيرة ،و يكفيك فيها حديث واحد جامع ،فقد روى ابن المبارك بإسناده عن رجل
أنه قال لمعاذ :حدثني حديثا ل سمعته من رسول ا صلى ا عليه و سلم ،قال :فبكى معاذ حتى ظننت أنه ل يسكت ،ثم قال :
واشوقاه إلى رسول ا صلى ا عليه و سلم و إلى لقائاه ،ثم قال :كان رسول ا صلى ا عليه و سلم يقول لي :يا معاذ إني
محدثك بحديث إن أنت حفظته نفعك عند ا ،و أن أنت ضيعته و لم تحفظه انقطعت حجتك عند ا تعالى يوم القيامة :يا معاذ إن
ا تعالى خلق سبع أملك قبل أن يخلق السموات و الرض ،فجعل لكل سماء من السبع ملكا ل بوابا ل عليها ،فتصعد الحفظة بعمل
العبد من حين يصبح إلى حين يمسي ،له نور كنورالشمس ،حتى إذا صعدت إلى السماء الدنيا زكته و كثرته ،فيقول الملك الموكل
بها للحفظة :اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ،انا صاحب الغيبة أمرني ربي أن ل أدع عمل من أغتاب الناس يجاوزني إلى
غيريِ قال :ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد له نور فتزكيه و تكثره حتى تبلغ به السماء الثانية فيقول لهم الملك
الموكل :قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ،أنه أراد بعمله عرض الدنيا ،أنا ملك الفخر أمرني ربي أن ل أدع عمله
يجاوزني إلى غيريِ ،إنه كان يفتخر علي في مجالسهم .قال :و تصعد الحفظة بعمل العبد يبهج من صدقة و صلة و صيام قد
أعجب الحفظة ،فيجاوزون به إلى
ص 422 – 421
السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها :قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ،أنا ملك الكبر أمرني ربي أن ل أدع عمله
يجاوزني إلى غيريِ ،إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم .قال :و تصعد الحفظة بعمل العبد يزهو كما يزهو الكوكب الدريِ و
له دويِ من تسبيح و صلة و صيام و حج و عمرة حتى يتجاوزوا به إلى السماء الرابعة ،فيقول لهم الملك الموكل بها :قفوا و
أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و ظهره و بطنه ،أنا صاحب العجب أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني إلى غيريِ ،إنه كان
إذا عمل عملل أدخل العجب فيه .قال :و تصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة
إلى بعلها ،فيقول لهم الملك الموكل بها :قفوا و أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و أحملوه على عاتقه ،أنا ملك الحسد إنه كان يحسد
من يتعلم و يعمل بمثل عمله ،و كل من كان يأخذ فضلل من العبادة كان يحسدهم و يقع فيهم ،أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني
إلى غيريِ .قال :و تصعد الحفظة بعمل العبد له ضوء كضوء الشمس من صلة و زكاة و حج و عمرة و جهاد و صيام،
فيجاوزون به إلى السماء السادسة ،فيقول لهم الملك الموكل بها :قفوا و أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ،إنه كان ل يرحم إنسانا ل
قط من عباد ا أصابه بلء أو مرض ،بل كان يشمت به،أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني إلى غيريِ .قال و
تصعد الحفظة بعمل العبد من صوم و صلة و نفقة و جهاد وورع ،له دويِ كدويِ النحل و ضوء كضوء الشمس ،و معه ثلثة
ألف ملك ،فيجاوزون به السماء السابعة ،فيقول لهم الملك الموكل بها :قفوا و أضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ،و اضربوا
جوارحه و اقفلوا به على قلبه ،أنا صاحب الذكر ،فإني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي ،إنه إنما أراد بعمله غير ا
تعالى ،إنه أراد به رفعة عند الفقهاء ،و ذكرال عند العلماء ،و صيتا ل في المدائان ،أمرني ربي أن ل أدع عمله يجاوزني إلى غيريِ ،و
كل عمل لم يكن ل تعالى خالصا ل فهو رياء و ل يقبل ا عمل المرائاي .قال :و تصعد الحفظة بعمل العبد من صلة و صيام و حج
و عمرة و خلق حسن و صمت و ذكر ا تعالى ،فيشيعه ملئاكة السموات السبع حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى ا تعالى :أنتم
الحفظة على عمل عبديِ و أنا الرقيب على ما في قلبه ،إنه لم يردني بهذا العمل و إنما أراد به غيريِ ،فعليه لعنتي! فتقول الملئاكة
كلها :عليه لعنتك و لعنتنا! فتلعنه السموات السبع و من فيهن" .ثم بكى معاذ و انتحب انتحابا ل شديدلا؛ و قال معاذ :قلت يا رسول ا
أنت رسول ا و أنا معاذ ،فكيف لي بالنجاة و الخلص من ذلك ؟ قال " :اقتد بي ،وإن كان في عملك نقص يا معاذ حافظ على
لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القر يان خاصة ،و احمل ذنوبك عليك و ل تحملها عليهم ،و ل تزل نفسك بذمهم ،و ل ترفع
نفسك عليهم بوضعهم ،و ل تدخل عمل الدنيا في عمل الخرة ،و ل تراء بعملك و ل تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء
خلقك ،و ل تناج رجلل و عندك آخر ،و ل تعظم على الناس فتنطع خيرات الدنيا و الخرة ،و ل تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلب
النار يوم القيامة في النار ،قال ا تعالى) :و الناشطات نشطا( هل تدريِ ما هن يا معاذ؟ " قلت :بأبي أنت و أمي يا رسول ا؟
قال" :كلب في النار تنشط اللحم من العظم" قلت :بأبي أنت و أمي يا رسول ا ،من يطيق هذه الخصال و من ينجو منها؟ قال:
"يا معاذ إنه ليسير على من يسره ا تعالى عليه ،إنما يكفيك من ذلك أن تحب للناس ما تحب لنفسك ،و تكره لهم ما تكره لنفسك،
فإذن أنت يا معاذ قد سلمت".
قال خالد بن معدان :فما رأيت أحدال أكثر تلوة للقرأن العظيم من معاذ لهذا الحديث العظيم .فتأمل أيها الراغب في العلم هذه
الخصال ،و اعلم أن أعظم السباب في رسوخ هذه الخبائاث في القلب طلب العلم لجل المباهاة و المنافسة ،فالعامي بمعزل عن
أكثر هذه الخصال ،و المتفقة مستهدف لها ،و هو متعرض للهلك بسببها .فانظر أيِ أمورك أهم ،أتتعلم كيفية الحذر من هذه
المهلكات و تشتغل بإصلح قلبك و عمارة ياخرتك ،أم الهم أن تخوض مع الخائاضين فتطلب من العلم ما هو سبب زيادة الكبر و
الرياء و الحسد و العجب حتى تهلك مع الهالكين؟
و اعلم أن هذه الخصال الثلث من أمهات خبائاث القلوب ،و لها مغرس واحد و هو حب الدنيا و لذلك قال صلى ا عليه و سلم:
لخرة ،فمن أخذ من الدنيا بقدر الضرورة بيستعين بها على الخرة فالدنيا "حب الدنيا رأس كل خطيئاة" ،و مع هذا فالدنيا مزرعة ل ي
مزرعته ،و من أراد الدنيا ليتنعم بها فالدنيا مهلكته.
فهذه نبذه يسيرة من ظاهر علم التقوى ،وهي بداية الهداية ،فإن جربت بها نفسك و طاعتك عليها فعليك بكتاب إحياء علوم الدين
لتعرف كيفية الوصول إلى باطن التقوى .فإذا عمرت بالتقوى باطن قلبك ،فعند ذلك ترتفع الحجب بينك و بين ربك ،و تنكشف لك
أنوار المعارف ،و تتفجر من قلبك ينابيع الحكم ،و تتضح لك أسرار الملك و الملكوت ،و يتسر لك من العلوم ما تستحقر به هذه
العلوم المحدثة التي لم يكن لها ذكر في زمن الصحابة رضي ا عنهم و التابعين.
و إن كنت تطلب العلم من القيل و القال و المراء و الجدال ،فما أعظم مصيبتك ،و ما أطول تعبك ،و ما أعظم حرمانك و خسارتك،
فاعمل ما شئات ،فإن الدنيا التي تطلبها بالدين ل تسلم لك ،و الخرة تسلب منك؛ فمن طلب الدنيا بالدين خسرهما جميعال ،و من ترك
الدنيا للدين ربحهما جميعا ل.
فهذه جمل الهداية إلى بداية الطريق في معاملتك مع ا تعالى بأداء أوامره و اجتناب نواهيه .و أشير عليك الن بجمل من الداب
لتؤاخذ نفسك بها في مخالطتك مع عباد ا تعالى و صحبتك معهم في الدنيا.
ص 423
القسم الثالث القول في أداب الصحبة
اعلم أن صاحبك الذيِ ل يفارقك في حضرك و سفرك و نومك و يقظتك ،بل في حياتك و موتك ،هو ربك و سيدك و مولك و
خالقك؛ و مهما ذكرته فهو جليسك ،إذا قال ا تعالى" :أنا جليس من ذكرني" ،و مهما انكسر قلبك حزنا ل على تقصيرك في حق
دينك فهو صاحبك و ملزمك ،إذ قال ا تعالى ":أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" ،فلو عرفته حق معرفته لتخذته صاحبا ل و
تركت الناس جانبلا ،فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك فإياك أن تخلي ليلك و نهارك عن وقت تخلو فيه لمولك و تتلذذ معه
بمناجاتك له ،و عند ذلك فعليك أن تتعلم أداب الصحبة مع ا تعالى؛ و أدابها :إطراق الرأس ،و غض الطرف ،و جمع الهم ،ودوام
الصمت ،و سكون الجوارح ،ومبادرة المر ،واجتناب النهى ،وقلة العتراض على القدر ،ودوام الذكر ،وملزمة الفكر ،وإيثار
الحق على الباطل ،و اللياس عن الخلق ،و الخضوع تحت الهيبة ،والنكسار تحت الحياء ،والسكون عن حيل الكسب الثقة
بالضمان ،و التوكل على فضل ا تعالى معرفة بحسن الختيار .و هذا كله يبغي أن يكون شعارك في جميع ليلك و نهارك ،فإنها
أداب الصحبة مع صاحب ل يفارقك ،و الخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك.
و إن كنت عالملا ،فأداب العالم :الحتمال ،و لزوم الحلم ،و الجلوس بهيبة على سمت الوقار مع إطراق الرأس ،و ترك التكبر على
جميع العباد إل على الظلمة زجرال لهم عن الظلم ،و إيثار التواضع في المحافل و المجالس ،و ترك الهزل و الدعابة ،و الرفق
بالمتعلم ،و التأني بالمتعجرف ،و إصلح البليد بحسن الشارة و ترك الحرد عليه ،و ترك النفة من قول ل أدريِ ،و صرف الهمة
إلى السائال و تفهم سؤاله ،و قبول الحجة و النقياد للحق بالرجوع إليه عند الهفوة ،و منع التعلم عن كل علم يضره ،و زجره عن
أن يريد بالعلم النافع غير وجه ا تعالى ،و صد المتعلم أن يشتغل بفرص الكفاية قبل الفراغ من فرض عين ،و فرض عينه
إصلح ظاهره و باطنه بالتقوى ،و مؤاخذة نفسه أولل بالتقوى ليقتديِ المتعلم أولل بأعماله و يستفيد ثانيا ل من أقواله.
و إن كنت متعلملا ،فآداب المتعلم مع العالم :أن يبدأه بالتحية و السلم ،و أن يقلل بين يديه الكلم ،و ل يتكلم ما لم يسأله أستاذه و ل
ل ،و ل يقول في معارضة قوله قال فلن بخلف ما قلت ،ول يشير عليه بخلف رأيه فيريِ أنه أعلم يسأل ما لم يستأذن أو ل
بالصواب من أستاذه ،و ل يسأل جليسه في مجلسه ،و ل يلتفت إلى الجوانب بل يجلس مطرقا ل عينه ساكنا ل متأدبا ل كأنه في الصلة،
و ل يكثر عليه السؤال عند ملله ،و إذا قام قام له ،و ل يتبعه بكلمه و سؤاله ،و ل يسأله في طريقه إلى أن يبلغ إلى منزله ،و ل
يسئ الظن به في أفعال ظاهرها منكرة عنده فهو أعلم بأسراره ،و ليذكر عند ذلك قول موسى للخضر عليهما السلم" :أخرقتها
لتغرق أهلها لقد جئات شيئاا ل إمرا" الكهف . 71:و كونه مخطئاا ل في إنكاره اعتمادال على الظاهر.
و إن كان لك والدان فأداب الولد مع الوالدين :أن يسمع كلمهما ،و يقوم لقيامهما ،و يمنثل لمرهما ،و ل يمشي أماهما ،ول يرفع
صوته فوق أصواتهما ،و يلبي دعوتهما ،و يحرص على مرضاتهما ،و يخفض لهما جناح الذل ،و ل يمن عليهما بالبر و ل بالقيام
لمرهما ،و ل ينظر إليهما شزرلا ،ول يقطب وجهه في وجههما ،ول يسافر إل بإذنهما.
واعلم أن الناس بعد هؤلء في حقك ثلثة أصناف :إما أصدقاء ،و إما معارف ،و إما مجاهيل.
يي
يي
يي
يي
ي
فإن بليت بالعوام المجهولين ف يياداب مجالستهم :ترك الخوض في حديثهم ،و قلة الصغاء إلى أراجيفهم ،و التغافل عما يجريِ من
سوء ألفاظهم ،و الحترار عن كثرة لقائاهم و الحاجة إليهم ،و التنبيه على منكراتهم باللطف و النصح عند رجاء القبول منهم.
و أما الخوان و الصدقاء فعليك فيهم و ظيفتان:
إحداهما :أن تطلب أولل شروط الصحبة و الصداقة ،فل تؤاخ إل من يصلح للخوة و الصداقة ،قال رسول ا صلى ا عليه و
سلم" :المرء على دين خليله ،فلينظر أحدكم من يخالل" .فإذا طلبت رفيقا ل ليكون شريكك في التعليم و صاحبك في امر دينك و
دنياك فراع فيه خمس خصال:
الولى العقل :فل خير في صحبة الحمق ،فإلى الوحشة و القطيعة يرجع أخرها ،و أحسن أحواله أن يضرك و هو يريد نفعك ،و
العدو العاقل خير من صديق أحمق ،قال علي رضي ا عنه :فل تصحب اخا الجهل ،و إياك و إياه
فكم من جاهل أردى ،حليما ل حين واخاه
يقاس المرء بالمرء ،أذا ما المرء ما شاء
كحذو النعل بالنعل ،إذا ما النعل حاذاه
و للشيء من الشيء ،مقاييس و أشياء
و للقلب على القلب ،دليل حين يلقاه
الثانية حسن الخلق :فل تصحب من ساء خلقه ،و الذيِ ل يملك نفيه عند الغضب و الشهوة؛ و قد جمعه علقمة العطارديِ رحمه ا
تعالى في وصيته لبنه لما حضرته الوفاة فقال :يا بني إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك ،وإن صحبته زانك،
و إن قعدت بك مؤونة مانك .اصحب من إذا مددت يدك بالخير مدها،و إن رأى منك حسنة عدها ،و إن رأى منك سيئاة سدها.
اصحب من إذا قلت له صدق قولك ،و إذا حاولت أمرال أعانك و نصرك ،و إن تنازعتما في شيء أثرك .و قال علي رضي ا عنه:
إن أخاك من كان معك ،ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك ،شتت فيك شمله ليجمعك
الثالثة الصلح :فل تصحب فاسقا ل مصرال على معصية كبيرة ،لن من يخاف ا ل يصر على معصية كبيرة ،ومن ل يخاف ا ل
تؤمن غوائاله ،بل يتغير بتغير الحوال و العراض؛ قال ا تعالى لنبيه صلى ا عليه و سلم) :و ل تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا
واتبع هواه و كان أمره فرطا( الكهف . 28فاحذر صحبة الفاسق ،فإن مشاهدة الفسق و المعصية على الدوام تزيل قلبك كراهية
المعصية و يهون عليك أمرها؛ و لذلك هان على القلوب معصية الغيبة ،ل لفهم لها ،و لو رأوا خاتما ل من ذهب أو ملبوسا ل من حرير
على فقيه لشتد إنكارهم عليه ،و الغيبة أشد من ذلك.
الرابعة أن ل يكون حريصا ل على الدنيا :فصحبة الحريص على الدنيا سم قاتل؛ لن الطباع مجبولة على التشبه و القتداء ،بل
الطبع يسرق من الطبع من حيث ل يدريِ ،فمجالسة الحريص تزيد في حرصك ،و مجالسة الزاهد تزيد من زهدك.
الخامسة الصدق :فل تصحب كذابا ل فإنك منه على غرور ،فإنه مثل السراب يقرب منك البعيد و يبعد منك القريب.
و لعلك تعدم اجتماع هذه الخصال في سكان المدارس و المساجد ،فعليك بأحد أمرين :إما العزلة و النفراد ففيها سلمتك ،و إما
تكون مخالطتك مع شركائاك بقدر خصالهم ،بأن تعلم أن الخوة ثلثة :أخ لخرتك ،فل تراع فيه إل الدين .و أخ لدنياك ،فل تراع
فيه إل الخلق الحسن .و أخ لتأنس به ،فل تراع فيه إل السلمة من شره و فتنته و خبثه.
ص 427-426
و الناس ثلثة :أحدهم مثله مثل الغذاء ل يستغني عنه و الخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت .و الثالث مثله مثل
يي
الداء ل يحتاج إليه قط و لكن العبد قد يبتلى به ،و هو الذيِ ل أنس فيه و ل نفع ،فتجب مداراته إلى الخلص منه ،و في مشاهدته يي
فائادة عظيمة إن وفقت لها ،وهو أن تشاهد من خبائاث أحواله و أفعاله ما تستقبحه فتجتنبه ،فالسعيد من وعظ بغيره ،و المؤمن مرا يي ية
المؤمن ،وقيل لعيسى عليه السلم :من أدبك؟ فقال :ما أدبني أحد و لكن رأيت جهل الجاهل فاجتنبته .و لقد صدق على نبينا و عليه
الصلة و السلم ،فلو أجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم لكملت أدابهم واستغنوا عن المؤدبين.
الوظيفة الثانية :مراعاة حقوق الصحبة؛ فمنها انعقدت الشركة ،و انتظمت بينك و بين شريكك الصحبة ،فعليك حقوق يوجبها عقد
الصحبة و في القيام بها أداب؛ و قد قال صلى ا عليه و سلم " :مثل الخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الخرى" و دخل صلى ا
عيه و سلم أجمة فأجتنى منها سواكين :أحدهما معوج و الخر مستقيم ،و كان معه بعض أصحابه ،فأعطاه المستقيم وأمسك لنفسه
المعوج فقال :يا رسول ا ،أنت أحق مني بالمستقيم ،فقال صلى ا عليه و سلم" :ما من صاحب يصحب صاحبا ل و لو ساعة من
نهار إل ويسأل عن صحبتيها هل أقام فها حق ا تعالى أن أضاعه" و قال صلى ا عليه و سلم" :ما اصطحب اثنان قط إل و كان
أحبهما إلى ا تعالى أرفقهما بصاحبه".
و آداب الصحبة اليثار بالمال ،فإن لم يكن هذا فبذل الفضل من المال عند الحاجة ،و العانة بالنفس في الحاجات على سبيل
المبادرة من غير إحواج إلى التماس ،و كتمان السر ،و ستر العيوب ،و السكوت عن تبليغ ما يسؤوه من مذمة الناس إياه ،و ابلغ
ما يسره من ثناء الناس عليه ،و حسن الصغاء عند الحديث ،و ترك المماراة فيه ،و أن يدعوه بأحب أسمائاه إليه ،و أن يثني عليه
بما يعرف من محاسنه ،و أن يشكره على صنيعه في وجهه ،و أن يذب عنه في غيبته إذا تعرض لعرضه كما يذب عن نفسه ،و أن
ينصحه باللطف و التعرض إذا احتاج إليه ،و أن يعفو عن زلته و عفوته فل يعتب عليه ،وأن يدعو له في خلوته في حياته و بعد
مماته ،و أن يحسن الوفاء مع أهله و أقاربه بعد موته ،و أن يؤثر التخفيف عنه فل يكلفه شيئاا ل من حاجاته و يروح قلبه من مهماته،
و أن يظهر الفرح بجميع ما يرتاح له من مساره ،و الحزن على ما يناله من مكاره ،وأن يضمر في قلبه مثل ما يظهر فيكون
صادقا ل في وده سرال و علنية ،و أن يبدأه بالسلم عند إقباله ،و أن يوسع له في المجلس ،و أن يخرج له من مكانه ،و أن يشيعه عند
قيامه؛ وأن يصمت عند كلمه حتى يفرغ من كلمه و يترك المداخلة في كلمه؛ و على الجملة فيعامله بما يجب أن يعامل به ،فمن
ل يحب لخيه مثل ما يحب لنفسه فأخوته نفاق ،و هي عليه وبال في الدنيا و الخرة ،فهذا أدبك في حق العوالم المجهولين و في
حق الصدقاء المؤاخين.
و أما القسم الثالث و هم المعارف؛ فاحذر منهم ،فإنك ل ترى الشر إل ممن تعرفه ،أما الصديق فيعينك و أما المجهول فل يتعرض
لك ،و إنما الشر كله من المعارف الذين يظهرون الصداقة بألسنتهم .فأقلل من المعارف ما قدرت ،فإذا بليت بهم في مدرسة أو
مسجد أو جامع أو سوق أو بلد ،فيجب أن ل تستصغر منهم أحدلا ،فإنه ل تدريِ لعله خير منك ،و ل تنظر إليهم بعين التعظيم لهم
في حال دنياهم فتهلك ،لن الدنيا صغيرة عند ا تعالى صغير ما فيها ،و مهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين ا
تعالى .وإياك أن تبذل دينك لتنال به من دنياهم ،فل يعقل ذلك أحد إل صغر في أعينهم ،ثم حرم ما عندهم .و إن عادوك فل تقابلهم
بالعداوة ،فأنك ل تطيق الصبر على مكافأتهم ،فيذهب دينك في عدواتهم ،و يطول عناؤك معهم .و ل تسكن إليهم في حال إكرامهم
إياك ،و ثنائاهم عليك في وجهك ،وإظهارهم المودة لك ،فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائاة واحدلا ،ول تطمع أن يكون لك
في السر و العلن واحد .و ل تتعجب إن ثلبوك في غيبتك و ل تغضب منهم ،فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك حتى في
أصدقائاك و أقاربك ،بل في أستاذك ووالديك ،يفإنك تذكرهم في الغيبة بما ل تشاففههم به .فاقطع طعمك عن مالهم و جاههم و
معونتهم؛ فإن الطامع في الكثر خائاب في الم ييال ،و هو ذليل ل محالة في الحال .و إذا سألت واحدال حاجة فقضاها فاشكر ا تعالى
واشكره ،و إن قصر فل تعاتبه و ل تشكه فيصير عداوة له؛ و كن كالمؤمن يطلب المعاذير ،ول تكن كالمنافق يطلب العيوب ،و قل
لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه .و ل تعظن أحدال منهم ما لم تتوسم فيه أول مخايل القبول ،و إل لم يستمع منك و صار خصما ل
عليك فإذا أخطئاوا في مسألة وكانوا يأنفون من التعلم فل تعلمهم ،فإنهم يستفيدون منك علما ل و يصبحون لك أعداء؛ إل إذا تعلق ذلك
بمعصية يفارقونها عن جهل منهم ،فاذكر الحق بلطف من غير عنف ،و إذا رأيت منهم كرامة و خيرال فاشكر ا الذيِ حببك إليهم،
و إذا رأيت منهم شرال فكلهم إلى ا تعالى ،واستعذ بال من شرهم ،ول تعاتبهم ،ول تقل لهم :لم تعرفوا حقي وأنا فلن ابن فلن
وأنا الفاضل في العلوم؟ فإن ذلك من كلم الحمقى؛ و أشد الناس حماقة من يزكى نفسه و يثني عليها .واعلم أن ا تعالى ل يسلطهم
عليك إل لذنب سبق منك ،واستغفر ا من ذنبك واعلم أن ذلك عقوبة من ا تعالى .وكن فيما بينهم سميعا ل لحقهم ،أصم عند
باطلهم ،نطوقا بمحاسبتهم ،صموتا ل عن مساويهم واحذر مخالطة متفقهة الزمان،
ص 428
لسيما المشتغلين بالخلف و الجدال ،واحذر منهم ،فإنهم يتصرفون بك بحسدهم ريب المنون ،و يقطعون عليك الظنون ،و
يتغامزون وراءك بالعيون ،و يحصون عليك عثراتك في عشيرتهم حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم .ل يقيلون لك
عثرة ،ول يغفرون لك زلة ،ول يسترون عليك عورة .يحاسبونك على النقير و القطمير ،و يحسدونك على القليل و الكثير ،و
يحرضون عليك الخوان بالنميمة و البلغات و البهتان .إن رضوا فظاهرهم الملق ،وإن سخطوا فباطنهم الحنق .ظاهرهم ثياب،
وباطنهم ذئااب ،هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم إل من عصمة ا تعالى؛ فصحبتهم خسران ،ومعاشرتهم خذلن.
هذا حكم من يظهر لك الصداقة ،فكيف من يجاهرك بالعداوة! قال القاضي ابن معروف رحمه ا تعالى :
حذر عدوك مرة ،واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعرف بالمضرة
و كذلك قيل في المعنى :
عدوك من صديقك مستفاد فل تكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
و كن كما قال هلل بن العلء الرقي :
لما عفوت ولم أحقد على أحد ،أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدويِ عند رؤيته ،لدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للنسان أبغضه ،كأنه قد مل قلبي مسرات
و لست أسلم ممن لست أعرفه ،فكيف أسلم من أهل المودات
الناس داء دواء الناس تركهم ،و في الجفاء لهم قطع الخوات
فسالم الناس تسلم من غوائالهم ،وكن حريصا ل على كسب المودات
و خالق الناس واصبر ما بليت بهم ،أصم أبكم أعمى ذا تقيات
و كن أيضا ل كما قال بعض الحكماء :الق صديقك و عدوك بوجه الرضا من غير مذلة لهما و ل هيبة منهما ،و توقر من غير كبر،
و تواضع من غير مذلة ،وكن في جميع أمورك في أوسطها .فكل طرفي قصد المور ذميم .كما قيل:
عليك بأوساط المور فإنها طريق إلى نهج الصراط قويم
ولتك فيها مفرطا او مفرطا فإن كل حال المور ذميم
و ل تنظر في عطفيك و ل تكثر اللتفات إلى ورائاك ،ول تقف على الجماعات ،و إذا جلست فل تستوفز .و تحفظ من تشبيك
أصابعك ،و العبث بلحيتك و خاتمك ،و تخليل أسنانك ،و إدخال إصبعك في أنفك ،و كثرة بصاقك و تنخمك و طرد الذباب عن
وجهك ،و كثرة التمطي و التثاؤب في وجوه الناس و في الصلة و غيرها.
و ليكن مجلسك هادئاا ل و حديثك منظوما ل مرتبا ل .واصغ إلى الكلم الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط ،ول تسأله
إعادته .واسكت عن المضاحك و الحكايات ،تحدث عن إعجابك بولدك و شعرك و كلمك و تصنيفك و سائار ما يخصك .و ل
تتصنع تصنع المرأة في التزين ،ول تتبذل تبذل العبد .وتوق كثر الكحل و السراف في الدهن .ول تلح في الحاجات ،ول تشجع
أحدال على الظلم.
و ل تعلم أحدال من أهلك وولدك – فضلل عن غيرهم_ مقدار مالك ،فإتهم إن رأوه قليلل هنت عليهم ،وإن رأوه كثيرال لم تبلغ قط
رضاهم .واجفهم من غير عنف ،و لن لهم من غير ضعف .ول تهازل أمتك ول عبدك فيسقط وقارك من قلوبهم .و إذا خاصمت
فتوقر،و تحفظ من جهلك و عجلتك ،و تفكر في حجتك ،و ل تكثر الشارة بيدك ،ول تكثر اللتفات إلى من ورائاك ،ول تجث على
ركبتك؛ و إذا هدأ غضبك فتكلم .وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان .و إياك و صديق العافية ،فإنه أعدى العداء .و ل
تجعل مالك أكرم من عرضك.
فهذا القدر يا فتى يكفيك من بداية الهداية ،فجرب بها نفسك ،فإنها ثلثة أقسام :قسم في أداب الطاعات ،و قسم في ترك المعاصي ،و
قسم في مخالطة الخلق.
بداية صفحة 430
لجملة معاملة العبد مع الخالق ؛ فإن رأيتها مناسبة لنفسك ورأيت قلبك مائال إليها راغبا في العمل بها ،فاعلم أنك عبد نور ا
تعالى باليمان قلبك ،وشرح به صدرك
وتحقق أن لهذه البداية نهاية ،ووراءها أسرارا وأغوارا وعلوما ومكاشفات ،وقد أودعناها في كتاب إحياء علوم الدين ،فاشتغل
بتحصيله .وإن رأيت نفسك تستثقل العمل بهذه الوظائاف ،وتنكر هذا الفن من العلم ،وتقول لك نفسك :أنى ينفعك هذا العلم في
محافل العلماء ؟ ومتى يقدمك هذا على القران والنظراء ؟ وكيف يرفع منصبك في مجالس المراء والوزراء ؟ وكيف يوصل إلى
الصلة والرزاق وولية الوقاف والقضاء ؟ فاعلم أن الشيطان قد أغواك ،وأنساك منقلبك ومثواك ،فاطلب لك شيطانا مثلك
ليعلمك ما تظن أنه ينفعك ويوصلك إلى بغيتك .ثم اعلم أنه قد ل يصفو لك في محلتك فضل عن قريبتك وبلدتك ،ثم يفوتك الملك
المقيم والنعيم الدائام في جوار رب العالمين.
والسلم عليكم ورحمة ا وبركاته ،والحمد ل أول وآخرا وظاهرا وباطنا ،ول حول ول قوة إل بال العلي العظيم ،وصلى ا
على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم ا الرحمن الرحيم
الدب في الدين
الحمد ل الذيِ خلقنا فأكمل خلقنا ،وأدبنا فأحسن أدبنا ،وشرفنا بنبيه محمد صلى ا عليه وسلم فأحسن تشريفنا ،ثم أقول وبال
التوفيق :
إن أكمل الخلق وأعلها ،وأحسن الفعال وأبهاها ،هو الدب في الدين ،وما يقتديِ به المؤمن من فعل رب العالمين ،وأخلق
النبيين والمرسلين .وقد أدبنا ا تعالى في القرآن بما أرانا فيه من البيان ،وأدبنا بنبيه محمد صلى ا عليه وسلم في السنة بما
أوجب علينا ،فله المنة ،وكذلك بالصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الدب من المؤمنين بما أوجب علينا من القتداء بهم ؛
وذلك جليل خطره ،كثير عدده ،نذكر بعضه ،لئال يطول شرحه فيعسر فهمه.
الداب بين يديِ ا تعالى
أدب المؤمن بين يديِ ا تعالى
إطراق الطرف ،وجمع الهم ،ودوام الصمت ،وسكون الجوارح ،ومبادرة امتثال الوامر ،واجتناب المناهي ،وقلة العتراض
،وحسن الخلق ،ودوام الذكر ،وتنزيه الفكر ،وتقييد الجوارح ،وسكون القلب ،وتعظيم الرب ،وقلة الغضب ،وكتمان الحب ،
ودوام الخلص
بداية صفحة 431
وترك النظر إلى الشخاص ،وإيثار الحق ،واليأس من جميع الخلق ،وإخلص العمل ،وصدق القول ،وتنزيه الطلع ،وإحياء
القربات ،وقلة الشارة ،وكتمان الفائادة ،والغيرة على تبديل السم .والغضب عند انتهاك المحارم ،ودوام الهيبة ،واستشعار
الحياء ،واستعمال الخوف ،والسكون ثقة بالضمان ،والتوكل معرفة بحسن الختيار ،وإسباغ الوضوء على المكاره ،وانتظار
الصلة بعد الصلة ،وارتعاش القلب خوف فوت الفرض ،ودوام التوبة خوف الصرار ،ودوام التصديق بما غاب ،ووجل
القلب عند الذكر ،وزيادة النوار عند الوعظ ،واستشعار التوكل عند الفاقة ،وإخراج الصدقة من غير بخل مع المكان.
آداب العالم
لزوم العلم ،والعمل بالعلم ،ودوام الوقار ،ومنع التكبر وترك الدعاء به ،والرفق بالمتعلم ،والتأني بالمتعجرف ،وإصلح
المسألة للبليد ،وترك النفة من قول ل أدريِ ،وتكون همته عند السؤال خلصة من السائال لخلص السائال ،وترك التكلف ،
واستماع الحجة ،والقبول لها وإن كانت من الخصم
آداب المتعلم مع العالم
يبدؤه بالسلم ،ويقل بين يديه الكلم ،ويقوم له إذا قام ،ول يقول له :قال فلن خلف ما قلت ،ول يسأل جليسه في مجلسه ،ول
يبتسم عند مخاطبته ،ول يشير عليه بخلف رأيه ،ول يأخذ بثوبه إذا قام ،ول يستفهمه عن مسألة في طريقه حتى يبلغ إلى منزله
،ول يكثر عليه عند ملله.
آداب المقرئ
يجلس جلسة الخشية ،واستماع المر ،وإنصات الفهم ،وانتظار الرحمة ،والصغاء إلى المتشابه وإشارة الوقف ،وتعريف
البتداء ،وبيان الهمزة ،وتعليم العدد ،وتجويد الحرف ،وفائادة الخاتم ،والرفق بالباديِ ،والسؤال عن المتعلم إذا غاب ،والحث
له إذا حضر ،وترك الحديث ،ويبدأ بالمتلقن يلقنه ما يصلي به لنفسه ،أو احتاج إلى أن يؤم غيره.
آداب القارئ
يجلس بين يديه جلسة التواضع ،وجمع الفهم ،وخفض الرأس ،والستئاذان قبل القراءة ،ثم الستعاذة والتسمية ،والدعاء عند
الفراغ
بداية صفحة 432
آداب معلم الصبيان
يبدأ بصلح نفسه ؛ فإن أعينهم إليه ناظرة ،وآذانهم إليه مصغية ،فما استحسنه هو عندهم الحسن ،وما استقبحه فهو عندهم القبيح
،ويلزم الصمت في جلسته ،والشزر في نظره ،ويكون معظم تأديبه بالرهبة ،ول يكثر الضرب والتعذيب ،ول يحادثهم
فيجترئاوا عيه ،ول يدعهم يتحدثون فينبسطون بين يديه ،ول يمازح بين أيديهم أحدا ،ويتنزه عما يعطونه ،ويتورع عما بين يديه
يطرحونه ،ويمنعهم من التحريش ،ويكفهم من التفتيش ،ويقبح عندهم الغيبة ،ويوحش عندهم الكذب والنميمة ،ول يسألهم عن
أمر ينوبهم فيثقلوه ،ول يكثر الطلب من أهلم فيملوه ،ويعلمهم الطهارة والصلة ،ويعرفهم بما يلحقهم من النجاسة.
آداب المحدث
يقصد الصدق ،ويجتنب الكذب ،ويحدث بالمشهور ،ويرويِ عن الثقات ،ويترك المناكير ،ول يذكر ما جرى بين السلف ،
ويعرف الزمان ،ويتحفظ من الزلل والتصحيف واللحن والتحريف ،ويدع المداعبة ،ويقل المشاغبة ،ويشكر النعمة ،إذ جعل
في درجة الرسول صلى ا عليه وسلم ،ويلزم التواضع ،ويكون معظم ما يحدث به ما ينتفع المسلمون به من فرائاضهم وسننهم
وآدابهم في معاني كتاب ربهم عز وجل .ول يحمل علمه إلى الوزراء ،ول يغشى أبواب المراء ؛ فإن ذلك يزريِ بالعلماء ،
ويذهب بهاء علهم إذا حملوه إلى ملوكهم ومياسيرهم ،ول يحدث بما ل يعلمه في أصله ،ول يقرأ عليه ما ل يراه في كتابه ،ول
يتحده إذا قرئ عليه ،ويحذر أن يدخل حديثا في حديث.
آداب طالب الحديث
يكتب المشهور ول يكتب الغريب ،ول يكتب المناكير ،ويكتب عن الثقات ،ول يغلبه شهرة الحديث على قرينه ول يشغله طلبه
عن مروءته وصلته ،يجتنب الغيبة ،وينصت للسماع ،ويلزم الصمت بين يديِ محدثه ،ويكثر التلفت عند إصلح نسخته ،ول
يقول :سمعت ،وهو ما سمع ،ول ينشره لطلب العلو فيكتب من غير ثقة ،ويلزم أهل المعرفة بالحديث من أهل الدين ،ول يكتب
عمن ل يعرف الحديث من الصالحين
آداب الكاتب
حسن الخط ،وجودة البريِ ،وإعراب اللفظ ،ومعرفة الحساب ،وسداد الرأيِ ،وحسن اللباس
بداية صفحة 433
وطيب الرائاحة ،والمعرفة بأخبار المتقدمين من الوزراء المتصرفين ،والتخوف من المصادرات ،والعلم بأمر الخراج ،
والمسامحة المروءة وحسن العشرة والتحفظ عن الذلة ،وترك الرفث في المجالس ،ونفي المداعبة والمحادثة والمداراة للحاشية.
آداب الواعظ
ترك التكبر ،ودوام الحياء من سيده وإظهار الفاقة إلى خالقه ،وشهوة المنفعة لمستمعه ،والزراء على نفسه لمعرفة عيبه ،
والنظر إلى المستمعين إليه بعين السلمة ،وحسن الظن بهم بباطن الديانة ،والياس منهم طلبا للصيانة ،والرفق بالتأديب ،
والعطف على المبتدئ ،واعتقاد فعل ما يقول ،لينتفع الناس بما يقول
آداب المستمع
إظهار الخشوع ،ودوام الخضوع ،وسلمة الصدر ،وحسن الظن ،واعتقاد القول ،ودوام السكوت ،وقلة التقلب ،وجمع الهم ،
وترك التهمة
آداب الناسك
يكون وقته معلوما ،وورده مفهوما ،وكلمه مقسوما ،ودمعه مسجوما ،دائاما خشوعه ،لزما خضوعه ،غاضا لطرفه ،عاقا
لقلبه ،مفكرا في دينه ،مراقبا لوقته ،مداوما لصومه ،ساهرا في ليله ،متورعا في مسكنه ،متقلل في مطعمه ومشربه ،متوقعا
لنزول أجله ،مجانبا لقرنائاه ،تاركا لشهواته ،محافظا على صلواته ،عالما بزيادة حاله ونقصانه ،ل يحتاج إلى علم غيره مع
علمه بحاله.
آداب اعتزال الناس
يكون فقيها في دينه ،عارفا بأمر صلته وصيامه وزكاته وحجه ،يعتقد في اعتزالهم دفع شره عنهم ،ويحضر الجمع والجماعات
،ويشهد الجنائاز ،ويعود المرضى ،ول يخوض في حديثهم ،ول يسأل عما يفسد قلبه من أخبارهم ،ول يطمع نفسه في نائالهم ،
حتى ل يكون له حاجة إلى جيرانه ،تكون أوقاته ثلثة :إما أن يصلي ويدرس فيغنم ،أو ينظر في كتبه فيتعلم ،أو ينام فيسلم.
يدمن الذكر ،ويكثر الشكر ،حتى يتم له المر ،فإن كان له أهل يتحدث معهم ،ويجتهد في خلوته حتى يرى ميزان عزلته.
بداية صفحة 434
آداب الصوفي
قلة الشارة ،وترك الشطح في العبارة ،والتمسك بعلم الشريعة ،ودوام الكد واستعمال الجد ،والستيحاش من الناس ،وترك
الشهرة في اللباس ،وإظهار التجمل واستشعار التوكل ،واختيار الفقر ودوام الذكر ،وكتمان المحبة وحسن العشرة في الصحبة ،
والغض عن المردان وترك مؤاخاة النسوان ودوم درس القرآن
آداب الشريف
يصون شرفه ،ول يأكل بنسبه ،ول يتعدى بحسبه ،همته التواضع لربه ،والخوف من سيده ،ويأخذ بالفضل على من دونه ول
يساويِ من هو مثله .يعرف الفضل لهل العلم وإن كان مثلهم في العلم أو أعلم ،يلزم أهل الدين من أهل الفقه والقرآن ،ويهذب
أخلقه ويتحفظ في ألفاظه عند غضبه وخطابه ،يكرم جلساءه ويواصل إخوانه ويصون أقاربه ويعين جيرانه ويزين بنفسه أخدانه
آداب النوم
يتطهر قبل النوم وينام على يمينه ويذكر ا عز وجل حتى يأخذه النوم ،ويدعو إذا استيقظ ويحمد ا تعالى
آداب التهجد
تقليل الغذاء ،ونقصان الماء ،وإصلح النهار باجتناب الغيبة والكذب واللغو ،وترك النظر في المحرمات ،والقيام من النوم بفزع
وخوف ،وإسباغ الوضوء والنظر في ملكوت السماوات ،والدعاء والحضور في الصلة لفهم التلوة
آداب الخلء
التسمية ثم الستعاذة قبل الدخول ،وكشف الثوب برفق بعد قربه من الرض ،ومسح اليد بالتراب بعد الستنجاء مع الغسل ،
والستتار قبل الخروج والحمد والشكر بعد الخروج
آداب الحمام
ستر العورة ،وغض البصر عن العورات ،وطلب الخلوة ،وترك التكلم ،وقلة التلفت ،ومنع السلم وقلة الجلوس ،وغسل
الجنابة من قبل الدخول وغسل القدمين إذا خرج بالماء البارد فإنه يذهب الصداع
بداية صفحة 435
آداب الوضوء
السواك ودوام الذكر مع الغسل ،واستشعار الهيبة ممن يقصد والتوبة مما كان والسكوت بعد الطهارة حتى يدخل في الصلة ،
والطهارة في إثر الطهارة وأخذ الشارب ونتف البط وحلق العانة وتقليم الظافر والختتان وغسل البراجم وتعاهد النف ونظافة
الثوب والبدن
آداب دخول المسجد
يبدأ باليمنى ،ويزيل ما في نعله من الذى ،ويذكر اسم ا عز وجل ،ويسلم على من حضر ،فإن كان خاليا سلم على نفسه ،
ويسأل ا تعالى أن يفتح له أبواب رحمته ،ويجلس في مواجهة القبلة ،ويلزم المراقبة ،ويقل المخاطبة ،ويترك الملعنة ،ول
يرفع فيه صوته ،ول يشهر فيه سيفه ،ويمسك بنصال نبله ،ول يصنع صنعة ،ول ينشد ضالة ،ول يبايع ول يشاريِ ول يجامع
،فإذا انصرف بدأ باليسرى وسأل ا تعالى من فضله ما يعطي
آداب العتكاف
دوام الذكر ،وجمع الهم وترك الحديث ولزوم الموضع ،وترك التنقلت وحبس النفس عن مرادها ومنعها في محابها وجبرها
على طاعة ا عز وجل
آداب الذان
يكون المؤذن عارفا بوقته في الصيف وفي الشتاء ،غاضا لطرفه عند صعوده المنارة ،ويلتفت في أذانه عند النداء بالصلة
والفلح ،ويرتل الذان ،وينحدر في القامة
آداب المام
يكون عارفا بالصلة وفرائاضها وسننها ،فقيها بما يحدث له في صلته وما يفسدها ،ول يؤم قوما وهم له كارهون ،يجعل من
يليه من أهل العلم ويأمرهم بتسوية الصفوف ،ويشير إليهم بلطف ،ول يقرأ بطوال السور فيضجروا ،ول يطيل التسبيح فيملوا ،
ول يخفف بحيث يفوت الكمال
بداية صفحة 436
بل يرتب الصلة على قدر قوة ضعفتهم ،ويترفق في ركوعه وسجوده حتى يطمئانوا ،ويسكت سكتة قبل الحمد وبعد الحمد وإذا
فرغ من السورة ،وينتظر في ركوعه من أحس به ما لم يجحف بمن ورائاه ،وينتظر قبل الصلة من فقد من جيرانه ما لم يخف
فوت وقته ،ويفرق بين التسليمتين بوقفة خفيفة ،وإذا فرغ نظر إلى ستر ا ومنته ،وازداد شكرا لسيده وأدام له في كل حالته
الذكر
آداب الصلة
خفض الجناح ولزوم الخشوع وإظهار التذليل وحضور القلب ،ونفي الوساوس ،وترك التقلب ظاهرا وباطنا ،وهدوء الجوارح ،
وإطراق الطرف ،ووضع اليمين على الشمال ،والتفكر في التلوة ،والتكبير بالهيبة ،والركوع بالخضوع ،والسجود بالخشوع ،
والتسبيح بالتعظيم ،والتشهد بالمشاهدة ،والتسليم بالشفاق ،والنصراف بالخوف ،والسعي بطلب الرضاء
آداب القراءة
مداومة الوقار والحياء ومجانبة العبث والخناء ولزوم التواضع والبكاء
آداب الدعاء
خشوع القلب ،وجمع الهم وإظهار الذل وحسن النظر وخفض الجناح وسؤال الفاقة ولجأ الغريق ومعرفته بقدر نفسه ،وعظيم
حرمة المسئاول وبسط الكف عند الرغبة واليقين بالجابة والخوف من الخيبة وانتظار الفرج ،وترك العدوان وصحة القصد واللجأ
ومسح الوجه بباطن الكف بعد الدعاء
آداب الجمعة
التأهب للوقت قبل دخوله ،والطهارة عند حضوره والبكور ،وغسل الجسد ونظافة الثوب وطيب الرائاحة ،وترك التخطي وقلة
الكلم ،ودوام الذكر والقرب من المام والنصات للخطيب ،والنتشار لطلب العلم ،والمشي بالسكينة والوقار ،وترك تشبيك
الصابع ،وتقارب الخطى ،ودوام الطراق ،وكثرة الشكر للرزاق ودخول المسجد بخشوع ورد السلم وترك الصلة بعد جلوس
الخطيب على المنبر .ورد السلم عليه بعد إشارته وترك الكلم واعتقاد القبول للموعظة وترك اللتفات عند إقباله ومخاطبته
وترك القيام إلى الصلة حتى ينزل من المنبر ويفرغ المؤذن من القامة
بداية صفحة 437
آداب الخطيب
يأتي المسجد وعليه السكينة والوقار .ويبدأ بالتحية ويجلس وعليه الهيبة ويمتنع عن التخاطب وينتظر الوقت ،ثم يخطو إلى المنبر
وعليه الوقار ،كأنه يحب أن يعرض ما يقول على الجبار .ثم يصعد للخشوع ويقف على المرقاة بالخشوع ويرتقي بالذكر ،
ويلتفت إلى مستمعيه باجتماع الفكر ،ثم يشير إليهم بالسلم ليستمعوا منه الكلم ،ثم يجلس للذان فزعا من الديان ،ثم يخطب
بالتواضع ،ول يشير بالصابع ،ويعتقد ما يقوله لينتفع به ،ثم يشير إليهم بالدعاء ،وينزل إذا أخذ المؤذن في القامة ،ول يكبر
حتى يسكتوا ،ثم يتفتح الصلة ،ويرتل ما يقرأ
آداب العيد
إحياء ليلته والغتسال في صبيحة يومه ،ونظافة البدن ،وطيب الرائاحة ،وإدامة التكبير ،وكثرة الذكر واستعمال الخشوع ،
والتسبيح والحمد بين تضاعف التكبير والنصات للخطبة بعد الصلة ،وأكل اليسير قبل الخروج إن كان فطرا ،والذهاب في
طريق والرجوع في أخرى ،والنصراف بالشفاق خوف الغيبة
آداب الخسوف
دوام الفزع وإظهار الجزع ومبادرة التوبة ،وترك الملل ،وسرعة القيام إلى الصلة وطول القيام فيها واستشعار الحذر
آداب الستسقاء
الصيام قبله ،وتقديم التوبة ،ورد الظالم ،وبذل الهمة ،وترك المخافرة ،والغتسال قبل الخروج ،ودوام الصمت ،ورؤية الحال
التي أوجبت المنع ،والعتراف بالذنب الذيِ نزلت به العقوبة ،واعتقاد ترك العود ،والنصات للخطبة ،والتسبيح بين التكبير ،
وكثرة الستغفار وتحويل الزار مع الدعاء
آداب المريض
الكثار من ذكر الموت ،والستعداد له بالتوبة ،ودوام الحمد والثناء ل واستعمال التضرع والدعاء ،وإظهار العجز والفاقة ،
والتداويِ مع الستعانة بخالق الدواء ،وإظهار الشكر عند القوة ،وقلة الشكوى وإكرام الجلساء وترك المصافحة
بداية صفحة 438
آداب المعزيِ
خفض الجناح وإظهار الحزن وقلة الحديث وترك التبسم فإنه يورث الحقد
آداب المشي في الجنازة
دوام الخشوع وغض البصر وترك الحديث وملحظة الميت بالعتبار والتفكر فيما يجيب به من السؤال والعزم على المبادرة فيما
يخاف به من المطالبة وخوف حسرة الفوت عند هجوم الموت
آداب المتصدق
ينبغي له أداؤها قبل المسألة ،وإخفاء الصدقة عند العطاء ،وكتمانها بعد العطاء ،والرفق بالسائال ول يبدؤه برد الجواب ،ويرد
عليه بالوسوسة في الوسوسة ،ويمنع نفسه البخل ،ويعطيه ما سأل أو يرده ردا جميل ،فإن عارضه العدو إبليس لعنه ا أن
السائال يس يستحق فل يرجع بما أنعم ا به عليه بل هو مستحق لها
آداب السائال
يبديِ الفاقة بصدق الحقيقة ،ويظهر السؤال بلطافة القول ،ويأخذ ما أعطي بمقابلة الشكر وإن قل ،وحسن الدعاء ،فإن رد عليه
رجع بجميل قبول العذر وترك المعاودة واللحاح
آداب الغني
لزوم التواضع ونفي التكبر ،ودوام الشكر والتوصل إلى أعمال البر ،والبشاشة بالفقير والقبال عليه ورد السلم على كل أحد ،
وإظهار الكفاية ولطافة الكلمة ،وطيب المؤانسة والمساعدة على الخيرات
آداب الفقير
لزوم القناعة وكتمان الفاقة وترك البذالة والتضعضع وإلقاء الطمع وإيثار الصيانة وإظهار الكفاية لهل المروءة من أهل الديانة
وإجلل الغنياء مع قلة الستبشار لهم ،وإظهار الكفاية لهم مع الياس منهم ،وترك الكبر عليهم ،مع نفي التذلل وحفظ القلب عند
رؤيتهم والتمسك بالدين عند مشاهدتهم
بداية صفحة 439
آداب المهديِ
رؤية الفضل للمهديِ إليه ،وإظهار السرور بالقبول منه لها ،والشكر عند رؤية المهديِ إليه والستقلل لها وإن كثرت
آداب المهدى إليه
إظهار السرور بها وإن قلت ،والدعاء لصاحبها إذا غاب .والبشاشة إذا حضر ،والمكافأة إذا قدر ،والثناء عليه إذا أمكن ،وترك
الخضوع له والتحفظ من ذهاب الدين معه ونفي الطمع معه ثانيا
آداب اصطناع المعروف
البداءة به قبل السؤال والمبادرة به عند الوعد ،والتوفير له عند العطاء ،والتسر له بعد الخذ ،وترك المنة بعد القبول ،والمداومة
على اصطناعه والحذر من انقطاعه
آداب الصيام
طيب الغذاء وترك المراء ومجانبة الغيبة ورفض الكذب وترك الذى وصون الجوارح عن القبائاح
آداب الحج
آداب الطريق
طيب النفقة والحسان إلى المكاريِ ومعاونة الرفقة والرفق بالمنقطع وبذل الزاد وحسن الخلق وطيب الكلمة والمزاح من غير
معصية واختيار التعديل ،والستبشار به عند رؤيته والصغاء عند محادثته ،وقلة المماراة له عند ضجره ،والتغافل عن زلته ،
والشكر له خدمته ،والتوصل إلى إيثاره ومساعدته
آداب الحرام
غسل الجسد ،ونظافة الزارين وطيب الرائاحة وتعاهد الجياع ،والتلبية بالهيبة ورفع الصوت بحلوة الجابة ،والطواف بتعظيم
الحرمة ،والسعي بطلب الرضاء والوقوف بمشاهد القيامة وشهور المشعر برؤية الرحمة والحلق برؤية العتق ،والذبح برؤية
الكفارة والرمي برؤية الطاعة وطواف الزيارة بمشاهدة المرور وهو من غير حد والرد بحقيقة السف والنصراف بمحبة
الرجوع
)ص (440
آداب دخول مكة
دخول الحرم بالتعظيم ،والنظر إلى مكة بالتحسر ،ورؤية المسجد بالتفضيل ،ونظر البيت بالتكبير والتهليل ،ودوام الطواف،
ومواصلة العمرة ،ودخول البيت بتعظيم الحرمة ،ودوام التوبة بعد دخوله.
آداب دخول المدينة
يدخلها بالوقار مع السكينة ،والمشاهدة لما كان فيها من الشريعة ،والنظر إليها بالعين الرفيعة ،ثم يأتي مسجد الرسول صلى ا
عليه وسلم ومنبره كأنه مشاهد لصلته وخطبته ،ثم يأتي قبره وكأنه ناظر إلى شخصه الكريم ،ومخاطبته مع خفض الصوت
بحضرته كأنه معاين لجلسته فيبدؤه بالسلم ،ثم يسلم على مضجعيه ،ويشاهد محبتهما له ،ومشيته بينهما ،وإقباله عليهما ،ويعاين
هيبتهما له وإقبالهما عليه ،وإذا وادع القبر فل يوليه الظهر.
آداب التاجر
ل يجلس في طريق المسلمين فيضيق عليهم ،ويستعمل غللما كيلسا ل يبخس في كيله ،ول ينقص في وزنه ،يأمره بالرجحان،
وترك العجلة في الميزان ،يكون في ميزان دراهمه في حدته كالطيار ،ومن اعتداله كالمعيار ،طويلة خيوطه دقيقة ذوائابه ،معبرة
صنجاته ،معتدلة حباته ،يبتدئ كل يوم بمسح ميزانه ،ويتعاهد نقص أرطاله وصنجاته ،يأمر غلمه بالتوقف في كليه الدهان ،وإذا
وقف عليه شريف أكرمه ،أو جار فضله ،أو ضعيف رحمه ،أو غير هؤلء أنصفه ،يبيع على قدر أسعاره ،إن نقص سعره زاد
زبونه ،كما إنه إن زاد سعره نقص زبونه.
وتكون همته في جلوسه درس القرآن ،وغض الطرف عن المحارم والغلمان ،يشتريِ عرضه باليسير من سفيه يقف عليه ،ول يرد
السائال ،ول يمنع البشر من النائال.
فإن كان هو المتولي لمره كان ما يلزم غلمه هو أولى به ،ويشتريِ الرطال والصنجات والمكيال من الثقات معبرات ،ويترك
المدح للسلعة عند البيع ،والذم لها عند الشراء ،ويلزم الصدق عند الخبار ،ويحذر الفحش عند المزايدة ،والكذب عند المحادثة،
ويقل الخوض مع أهل السواق ،ومداعبة الحداث ويقصر في الخصومات.
آداب الصيرفي
يعتقد الصحة ،ويؤديِ المانة ،ويحذر الربا ويقرب النسيئاة ول ينفق الرديئاة ،ويوفي الوزن ،ول يعتقد الغش والغين ،متفقلدا
لمعياره ،خائالفا من نقصان صنجانه ومثاقيله.
)ص (441
آداب الصائاغ
استعمال النصيحة ،والجتهاد في الجودة ،وقلة المطل ،ووفاء الوعد ،وترك التعديِ في الجرة.
آداب الكل
غسل اليدين قبل الطعام وبعده ،والتسمية ،والكل باليمين ومما يليه ،ويصغر اللقمة ،وإجادة المضغ ،وقلة النظر إلى وجوه
الحاضرين ،ول يأكل متكلئاا ول يأكل فوق الشبع عند الجوع ،ويعتذر إذا شبع حتى ل يخجل الضيف أو من به حاجة ،ويأكل من
جوانب القصعة ول يأكل من ذروتها ،ويلعق الصابع بعد الفراغ ،ويحمد ا ،ول يذكر الموت عن الكل لئال ينغص على
الحاضرين.
آداب الشرب
صا ول يعبه عبا ،ويتنفس في شربه ثللثا ويتبعه ينظر في إنائاه قبل شربه ،ويسمي ا تعالى قبله ،ويحمده بعده ،ويمصه م ل
بالتحميد ،ويرد بالتسيمة بالتسمية؟ ،ول يشرب قائالما ،ويتناول من كان على يمينه إن كان معه غيره.
آداب الرجل إذا أراد النكاح
يطلب الرَدين ،ثم بعده الجمال والمال إن أراده ،ول يشارط على ما يأتيه ،ول يضمره ،ول يخطب على خطبة أخيه ،ول يأذن في
إملكه وعرسه بما يباعده من ربه ويزريه ،ول يجلس في خلواته حيث يرى غير حرمته ،ول يقبلها بين أهله ،ويبدؤها إذا خل في
سؤاله ،ول يكون سفيره كذابا ،ول المخبر له نماما من خاصتها ،ويسأله عن دينها ،ومواظبتها على صلتها ومراعاتها لصيامها،
وعن حيائاها ونظافتها ،وحسن ألفاظها وقبحها ،ولزوم بيتها ،وبرها بوالديها ،ويتلطف قبل العقد في النظر إليها ،وبعده بما يبلغها
بالكلم الجميل .ويبحث في خصال والدها ودينه ،وحال والدتها ودينها وأعمالها.
آداب المرأة إذا خطبها الرجل
تأمر من تأمن به من أهلها إن كان صدولقا أن يسأل عن مذهب الخاطب ودينه واعتقاده ومروءته في نفسه وصدقه في وعده،
وتنظر دمن أقرباؤه ،ومن يغشاه في بيته ،وعن مواظبته على صلواته وجماعته ،ونصيحته في تجارته وصنعته ،ويكون رغبتها في
دينه دون ماله ،أو في سيرته دون شهرته ،تعزم معه على القناعة وتكون لوامره مطيعة ،فهو آكد لللفة ،وأثبت للمودة.
)ص (442
آداب الجماع
طيب الرائاحة ولطافة الكلمة ،وإظهار المودة ،وتقبيل الشهوة ،والتزام المحبة ،ثم التسمية ،وترك النظر إلى الفرج ،فإنه يورث
العمى ،والستر تحت الزار ،وترك استقبال القبلة.
آداب الرجل مع زوجته
حسن العشرة ،ولطافة الكلمة ،وإظهار المودة ،والبسط في الخلوة ،والتغافل عن الزلة ،وإقالة العثرة ،وصيانة عرضها ،وقلة
مجادلتها ،وبذل المؤونة بل بخل لها ،وإكرام أهلها ،ودوام الوعد الجميل ،وشدة الغيرة عليها.
آداب المرأة مع زوجها
دوام الحياء منه ،وقلة المماراة له ،ولزوم الطاعة لمره ،والسكون عند كلمه ،والحفظ له في غيبته ،وترك الخيانة في ماله،
وطيب الرائاحة ،وتعهد الفم ونظافة الثوب ،وإظهار القناعة ،واستعمال الشفقة ،ودوام الزينة ،وإكرام أهله وقرابته ،ورؤية حاله
بالفضل ،وقبول فعله بالشكر ،وإظهار الحب له عند القرب منه ،وإظهار السرور عند الرؤية له.
آداب الرجل في نفسه
ل
لزوم الجمعة والجماعة ،ونظافة الملبس ،وإدامة السواك ،ول يلبس المشهور ول المحقور ،ول يطيل ثيابه تكبرا ،ول يقصرها
متمسكلنا ،ول يكثر التلفت في مشيته ول ينظر إلى غير حرمته ،ول يبصق في حال محادثته ول يكثر قعود على باب داره مع
جيرانه ،ول يكثر لخوانه الحديث عن زوجته وما في بيته.
آداب المرأة في نفسها
أن تكون لزمة لمنزلها ،قاعدة في قعر بيتها ،ول تكثر صعودها ول اطلعها الكلم لجيرانها ،ول تدخل عليهم إل في حال يوجب
الدخول ،تسر بعلها في نظره ،وتحفظه في غيبته ،ول تخرج من بيتها ،وإن خرجت فمتخبئاة تطلب المواضع الخالية ،مصونة في
حاجاتها ،بل تتناكر ممن يعرفها ،همتها إصلح نفسها ،وتدبير بيتها ،مقبلة على صلتها وصومها ،ناظرة في عيبها ،متفكرة في
دينها ،مديمة صمتها ،غاضة طرفها ،مراقبة لربها ،كثيرة الذكر له ،طائاعة لبعلها ،تحثه على طلبه الحلل ،ول تطلب منه الكثير
من النوال؛
)ص (443
ظاهرة الحياء ،قليلة الخناء ،صبورة شكورة ،مؤثرة في نفسها ،مواسية من حالها وقوتها .وإذا استأذن بابها صديق لبعلها ،وليس
بعلها حاضلرا ،لم تستفهمه ،ول في الكلم تعاوده ،غيرة منها على نفسها وبعلها منه.
آداب الستئاذان
المشي بجانب الجدار ،ول يقابل الباب ،والتسبيح والتحميد قبل الدق ،والسلم بعده ،وترك السمع إلى من في المنزل ،واستئاذان بعد
السلم ،فإن أذن له وإل رجع ولم يقف ،ول يقول :أنا ،بل يقول :فلن ،إذا استفهم.
آداب الجلوس على الطريق
غض البصر ،ونصرة المظلوم ،وإغاثة الملهوف ،وإغاثة الضعيف ،وإرشاد الضال ،ورد السلم ،وإعطاء السائال ،وترك التلفت،
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق واللطف ،فإن أصر فبالرهبة والعنف ،ول يصغي إلى الساعي إل ببينة ،ول
يتجسس ،ول يظن بالناس إل خيلرا.
آداب المعاشرة
إذا دخل مجللسا أو جماعة سلم وجلس حيث امتنع وترك التخطي ،وخص بالسلم من قرب منه إذا جلس ،وإن بلي بمجالسة العامة
ترك الخوض معهم ،ول يصغي إلى أراجيفهم ،ويتغافل عما يجريِ من سوء ألفاظهم ،ويقل اللقاء لهم إل عند الحاجة ،ول
يستصغر أحلدا من الناس فيهلك ،ول يدريِ لعله خير منه ،وأطوع ل منه؛ ول ينظر إليهم بعين التعظيم في دنياهم؛ لن الدنيا
صغيرة عند ا ،صغير ما فيها ،ول يعظم قدر الدنيا في نفسه ،فيعظم أهلها لجلها ،فيسقط من عين ا؛ ول يبذل لهم دينه ،لينال
من دنياهم فيصغر في أعينهم ،ول يعاديهم ،فتظهر له العداوة ،ول يطيق ذلك ول يصبر عليه إل أن تكون معاداة في ا عز وجل،
فيعاديِ أفعالهم القبيحة ،وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة ،ول يستكثر إليهم في مودتهم له ،وإكرامهم إياه ،وحسن بشاشتهم في
وجهه وثنائاهم عليه ،فإن من طلب حقيقة لك لم يجده إل في القل ،وإن سكن إليهم وكله الحق إليهم فهلك ،ول يطمع أن يكونوا لع
في الغيب منا له في العلنية ،فإنه ل يجد ذلك أبلدا ،ول يطمع فيما في أيديهم فيبذل لهم ،ويذهب دينه معهم ،ول يتكبر عليهم ،وإذا
سأل أحلدا منهم حاجة فقضاها فهو أخ مستفاد ،وإن لم يقضها فل يذمه فيكتسب عداوته ،ول يعظ أحلدا منهم إل أن يرى فيه أثر
القبول ،وإل عاداه ولم يسمع منه.
)ص (444
وإذا رأى منهم خيلرا أو كرامة أو ثناء فليرجع بذلك إلى ا عز وجل .ويحمده ويسأله أنه ل يكله إليهم .وإذا رأى منهم شلرا أو
كللما قبيلحا أو غيبة أو شيلئاا يكرهه ،فيكل المر إلى ا تعالى ،ويستعيذ به من شرهم ،ويستعينه عليهم ،ول يعاتبهم ،فإنه ل يجد
عندهم للعتاب موضلعا ،ويصيرون له أعداء ،ول يشفى غيظه ،بل يتوب إلى ا تعالى من الذنب الذيِ به سلطهم عليه ،ويستغفر
ا منه ،وليكن سميلعا لحقهم ،أصم عن باطلهم.
آداب الولد مع والديه
يسمع كلمهما ،ويقوم لقيامهما ،ويمتثل لمرهما ،ويلبي دعوتهما ،ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة ول يبرمهما باللحاح ،ول
يمن بالبر لهما ،ول بالقيام بأمرهما ،ول ينظر إليهما شزلرا ول يعصي لهما أملرا.
آداب الخوان
الستبشار بهم عند اللقاء ،والبتداء بالسلم ،والمؤانسة والتوسعة عند الجلوس ،والتشييع عن القيام ،والنصات عن الكلم ،وتكره
المجادلة في المقال ،وحسن القول للحكايات ،وترك الجواب عند انقضاء الخطاب ،والنداء بأحب السماء.
آداب الجار
ابتداؤه بالسلم ،ول يطيل معه الكلم ،ول يكثر عليه السؤال ويعوده في مرضه ،ويعزيه في مصيبته ،ويهنيه في فرحه ،ويتلطف
لولده وعبده في الكلم ،ويصفح عن زلته ،ومعاتبته برفق عند هفوته ،ويغض عن حرمته ،ويعينه عند صرخته ،ول يديم النظر
إلى خادمته.
آداب السيد مع عبده
ل يكلفه ما ل يطيق من خدمته ،ويرفق به عند ضجره ول يكثر ضربه ،ول يديم سبه فيجرأ عليه ،ويفضح عن زلته ،ويقبل
معذرته ،وإذا أصلح له طعالما أجلسه معه على مائادته ،أو أعطاه لقلما من طعامه.
)ص (445
آداب العبد مع سيده
يأتمر لمره ،وينصحه في غيبته ،ويبذل له خدمته ،ويحفظه في حرمته ،ويرق على ولده ،ول يخونه في ماله.
آداب السلطان مع الرعية
استعمال الرفق ،وترك التعنيف ،والفكر قبل المر ،وترك التكبر على الخاصة مع منع العدوان منهم ،والتودد إلى العامة مع مزج
الرهبة لهم ،والتطلع على أمور الحاشية ،واستعمال المروءة مع أهل العلم ،والتوسعة عليهم وعلى الصحاب والقارب ،والرفق
في الجناية ،ودوام الحماية.
آداب الرعية مع السلطان
قلة الغشيان لبابه ،وترك الستعانة به إل لشيء يلزم أمره ،ودوام الهيبة له إن كان ذا رفق ،وترك الستجراء عليه وإن كان ذا لين،
وقلة السؤال وإن كان مجيلبا ،والدعاء له إذا ظهر ،وترك الكلم فيه والنشاد إذا غاب.
آداب القاضي
إدمان السكوت ،واستعمال الوقار ،وهدوء الجوارح ،ومنع الحاشية من الفساد والطغيان ،والرفق بالرامل ،والحتياط لليتيم،
والتوقف في الجواب ،والرفق بالخصوم ،ومنع الميل إلى أحد الخصمين ،والمواعظة للمخالف ،ودوام اللجإ إلى ا في صواب
القضاء.
آداب الشاهد
استشعار المانة ،وترك الخيانة،والتثبت في الشهادة ،والتحفظ من النسيان ،وقلة المجادلة للسلطان.
آداب الجهاد
صدق النية ،والغيرة ل تعالى ،وبذل المجهود ،والسخاء بالمهجة ،ونفي شهوة الرجوع ،والقصد في أن تكون كلمة ا هي العليا،
وترك الغلول ،وقضاء دينه قبل الخروج ،واستصحاب ذكر ا عند القتال وفي كل حال.
)ص (446
آداب اليسر
ل يؤمل فرلجا من غير ا تعالى ،ول يذل نفسه في معصية ا تعالى ،ول ييأس من روح ا تعالى ،ويجمع همه بين يديِ ا
تعالى ،ويعلم أنه بعين ا ،ول ينبسط في مال العدو بما ل يبيحه ا ،ول يفرغ إلى غير ا تعالى.
آداب جامعة
قال بعض الحكماء:
من الدب :الق صديقك وعدوك بوجه الرضاء من غير ذلة لهم ،ول هيبة منهم ،وتوقر من غير كبر ،وكن في جميع أمورك في
أوساطها ،ول تنظر في عطفيك ول تكثر اللتفات ،ول تقف على الجماعات ،وإذا جلست فترفع وتحذر من تشبيك أصابعك،
والعبث بخاتمك ،وتخليل أسنانك ،وإدخال يدك في أنفك ،وطرد الذباب عن وجهك ،وكثرة التمطي والتثاؤب .وليكن مجلسك هادلئاا
وكلمك مقسولما واصغ إلى الكلم الحسن ممن يحدثك ،بغير إظهار عجب منك ول مسكنة ول إعادة ،وغض عن المضاحك
والحكايات ،ول تحدث إعجابك بولدك ول جارتك ،ول تتصنع كما تتصنع المرأة ،ول تتبذل كما يتبذل العبد.
وكن معتدلل في جميع أمورك ،وتوق كثرة الكحل والسراف في الدهن ،ول تلح في الحكايات .ول تعلم أهلك وولدك –فضلل عن
غيرهم -عن مالك؛ فإنهم إن رأوه قليلل هنت عليهم ،وإن رأوه كثيلرا لم تبلغ إلى رضاهم؛ وأحبهم من غير عنف ،ولن لهم من غير
ضعف.
وإذا خاصمت فتوفر ،وتفكر في حجتك ،ول تكثر الشارة بيدك ،ول تجث على ركبتك ،وإذا هدأ غضبك فتكلم.
وإن بليت بصحبة السلطان فكن منه على حذر ،ول تأمن من انقلبه عليك ،وارفق به رفقك بالصبي ،وكلمه بما يشاء ،وإياك أن
تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه ولو كان مستملعا لذلك.
وإياك وصديق العافية ،فإنه أحد العداء لك .ول تجعل مالك أكرم عليك من عرضك.
وإياك وكثرة البصاق بين الناس ،فإن صاحبه ينسب إلى التأنيث ،ول تظهر لصديقك كل ما يؤذيك ،فإنه متى رأى منك وقعة أعقبك
العداوة.
)ص (447
ول تمازح لبيلبا فيحقد عليك ،ول سفيلها فيجترئ عليك؛ لن المزاح يخرق الهيبة ،ويسقط المنزلة ،ويذهب ماء الوجه ،ويعقب
الحزن ،ويزيل حلوة الود ،ويشين فقه الفقيه ،ويجرئ السفيه ،ويميت القلب ،ويباعد من الرب ،ويعقب الذم ،ويفسخ العزم ،ويظلم
السرائار ،ويميت الخواطر ،ويكثر الذنوب ،ويبين العيوب.
نسأل ا تعالى أن يهدينا فيمن هدى ،ويعافينا فيمن عافى ويتولنا فيمن تولى ،ويبارك لنا فيما أعطى ،ويقينا شر ما قضى ،فإنه ل
راد لما قضى ،ول يعيز من عادى ،ول يذيل من والى.
تبارك ربنا وتعالى ،نستغفره ونتوب إليه ،ونسأله أن يصلي بأفضل الصلوات كلها على عبد المصطفى وعلى آله وأصحابه أعلم
الهدى ،وسلم تسليلما كثيلرا.
والحمد ل رب العالمين وصلى ا على سيدنا محمد النبي المي ،آمين.
كيمياء السعادة
بسم ا الرحمن الرحيم
الحمد ل الذيِ أصعد قوالب الصفياء بالمجاهدة ،وأسعد قلوب الولياء بالمشاهدة ،وحلى ألسنة المؤمنين بالذكر ،وجلى خواطر
العارفين بالفكر ،وحرس سواد العباد عن الفساد ،وحبس مراد الزهاد عن السداد ،وخلص أشباح المتقين من ظلم الشهوات ،وصفى
أرواح الموقنين عن ظلم الشبهات ،وقبل أعمال الخيار بأداء الصلوات ،وأيد خصال الحرار بأسيد الصلت.
أحمده حمد من رأى آيات قدرته وقوته ،وشاهد الشواهد من فردانيته ووحدانيته ،وطرق طوارق سيره وبيره ،وقطف ثمار معرفته
من شجر سجده وجوده ،وأشكره شكر من اخترق واغترف من نهر فضله وإفضاله.
وأؤمن به إيمان من آمن بكتابه وخطابه وأنبيائاه وأصفيائاه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه ،وأشهد أن ل إله إل ا وحده ل شريك
له ،وأشهد أن محملدا عبده ورسوله بعثه لصلب الفسقة والفجرة قاصلما ،ولاعدرى الجاحدين والمارقين فاصلما ،ولباغي الشك
والشرك قاهلرا ،لتباع الحق والحسان ناصلرا؛ فصلوات ا عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عنوان معرفة النفس
اعلم أن الكيمياء الظاهرية ل تكون في خزائان العوام ،وإنما تكون في خزائان الملوك ،فكذلك كيمياء السعادة ل تكون إل في خزائان
ا سبحانه وتعالى؛ ففي السماء جواهر الملئاكة ،وفي الرض قلوب الولياء العارفين ،فكل من طلب هذه الكيمياء من غير
حضرة
)ص (448
النبوة فقد أخطأ الطريق ،ويكون عمله كالدينار البهرج ،فيظن في نفسه أنه غني وهو مفلس في القيامة كما قال سبحانه وتعالى:
ك اللديلودم دحهديسد( )ق (22:ومن رحمة ا سبحانه وتعالى لعباده أن أرسل إليهم مائاة ألف وأربعة صار د ك هغدطاء د
ك دفدب د )دفدكدشلفدنا دعن د
وعشرين ألف نبي يعلمون الناس نسخة الكيمياء ،ويعلمونهم كيف يجعلون القلب في كور المجاهدة ،وكيف يطهرون القلب من
ث هفي ال ارَمرَييدن دراسولل هملناهلم ديلتالوا دعدلليههلم آدياهتههالخلق المذمومة ،وكيف يؤدونه لطرق الصفاء كما قال سبحانه وتعالى) :الاهذيِ دبدع د
حلكدمدة( )الجمعة (2 :أيِ يطهرهم من الخلق المذمومة ومن صفات البهائام ،ويجعل صفات الملئاكة ب دوالل ه
دوايدزرَكيههلم دوايدعلرَاماهام اللهكدتا د
لباسهم وحليتهم.
ومقصود هذه الكيمياء أن كل ما كان من صفات النقص يتعرى منه ،وكل ما يكون من صفات الكمال يلبسه ،وسر هذه الكيمياء أن
ترجع من الدنيا إلى ا كما قال سبحانه وتعالى) :دودتدباتلل إهدلليهه دتلبهتيلل( )المزمل (8 :وفضل هذه الكيمياء طويل.
فصل في معرفة النفس
اعلم أن مفتاح معرفة ا تعالى هو معرفة النفس كما قال سبحانه وتعالى) :دسانهريههلم آدياهتدنا هفي اللدفاهق دوهفي دأنفاهسههلم دحاتى ديدتدبايدن دلاهلم أداناه
اللدحمق( )فصلت (53:وقال النبي صلى ا عليه وسلم :من عرف نفسه فقد عرف ربه ،وليس شيء أقرب إليك من نفسك ،فإذا لم
تعرف نفسك فكيف تعرف ربك؟
فإن قلت إني أعرف نفسي ،فإنما تعرف الجسم الظاهريِ الذيِ هو اليد والرجل والرأس والجثة ،ول تعرف ما في باطنك من المر
الذيِ به إذا غضبت طلبت الخصومة ،وإذا اشتهيت طلبت النكاح ،وإذا جعت طلبت الكل ،وإذا عطشت طلبت الشرب ،والدواب
تشاركك في هذه المور ،فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة حتى تدريِ أيِ شيء أنت ،ومن أين جئات إلى هذا المكان ،وليِ
شيء خلقت ،وبأيِ شيء سعادتك ،وبأيِ شيء شقاوتك.
وقد جمعت في باطنك صفات ،منها صفات البهائام ،ومنها صفات السباع ،ومنها صفات الملئاكة؛ فالروح حقيقة جوهرك ،وغيرها
غريب منك وعارية عندك ،فالواجب عليك أن تعرف هذا وتعرف أن لكل واحد من هؤلء غذاء وسعادة؛ فإن سعادة البهائام في
الكل والشرب والنوم والنكاح ،فإن كنت منهم فاجتهد في إعمال الجوف والفرج .وسعادة السباع في الضرب والفتك ،وسعادة
الشياطين في المكر والشر والحيل ،فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم .وسعادة الملئاكة في مشاهدة جمال حضرة الربوبية وليس
للغضب والشهوة إليهم طريق ،فإن كنت من جوهر الملئاكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة اللهية،
وتبلغ إلى مشاهدة الجلل والجمال ،وتخلص نفسك من قيد الشهوة
)ص (449
والغضب ،وتعلم أن هذه الصفات ليِ شيء ركبت فيك ،فما خلقها ا تعالى لتكون أسيرها ولكن خلقها حتى تكون أسراك،
وتسخرها للسفر الذيِ قدامك ،وتجعل إحداها مركبك والخرى سلحك حتى تصيد بها سعادتك ،فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت
قدميك ،وارجع إلى مكان سعادتك ،وذلك المكان قرار خواص الحضرة اللهية ،وقرار العوام درجة الجنة ،فنحتاج إلى معرفة هذه
ل ،فكل من لم يعرف هذه المعاني فنصيبه من القشور ،لن الحق يكون عنه محجولبا. المعاني حتى تعرف من نفسك شيلئاا قلي ل
فصل
إذا شئات أن تعرف نفسك فاعلم أنك من شيئاين :الول هذا القلب ،والثاني يسمى النفس والروح .والنفس هو القلب الذيِ تعرفه بعين
الباطل .وحقيقتك الباطن؛ لن الجسد أول وهو الخر والنفس آخر وهو الول؛ ويسمى قللبا ،وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي
في الصدر من الجانب اليسر ،لنه يكون الدواب والموتى ،وكل شيء تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذيِ يسمى عالم
الشهادة ،وأما حقيقة القلب فليس من هذا العالم ،لكنه من عالم الغيب فهو في هذا العالم غريب ،وتلك القطعية اللحمية مركبة ،وكل
أعضاء الجسد عساكره وهو الملك ،ومعرفة ا ومشاهدة جمال الحضرة صفاته ،والتكليف عليه والخطاب معه ،وله الثواب وعليه
العقاب ،والسعادة والشقاء تلحقانه والروح الحيواني في كل شيء تبعه ومعه .ومعرفة حقيقته ومعرفة صفاته مفتاح معرفة ا
سبحانه وتعالى ،فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه لنه جوهر عزيز من جنس الملئاكة ،وأصل معدنه من الحضرة اللهية ،من ذلك
المكان جاء وإلى ذلك المكان يعود.
فصل
ك دعهن المروهح قاهل المرواح هملن أدلمهر دررَبي(
أما سؤالك ما حقيقة القلب ،فلم يجئ في الشريعة أكثر من قول ا تعالى) :دوديلسأ دالودن د
)السراء (85 :لن الروح جزء من جملة القدرة اللهية وهو من عالم المر ،قال ا عز وجل) :دأل دلاه اللدخللاق دوالدلمار( )العراف:
(54فالنسان من عالم الخلق من جانب ،ومن عالم المر من جانب ،فكل شيء يجوز عليه للمساحة والمقدار والكيفية فهو من
عالم الخلق؛ وليس للقلب مساحة ول مقدار ،ولهذا ل يقبل القسمة ،ولو قبل القسمة لكان من عالم الخلق ،وكان من جانب الجهل
جاهلل ومن جانب العلم عاللما ،وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال .وفي معنى آخر هو من عالم المر؛ لن عالم المر
عبارة عن شيء من الشياء ل يكون للمساحة والتقدير طريق إليه .وقد ظن بعضهم أن الروح قديم فغلطوا .وقال قوم إنه دعدرض
فغلطوا ،لن
)ص (450
ضا! وقال قوم إنه جسم العرض ل يقوم بنفسه ويكون تابلعا لغيره .فالروح هو أصل ابن آدم ،وقالب ابن آدم نبع له ،فكيف يكون عر ل
فغلطوا ،لن الجسم يقبل القسمة .فالروح الذيِ سميناه قللبا وهو محل معرفة ا تعالى ليس بجسم ول عرض بل هو من جنس
الملئاكة.
ومعرفة الروح صعبة جدا ،لنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لن ل حاجة في الدين إلى معرفته ،لن الدين هو المجاهدة ل
والمعرفة علمة الهداية كما قال سبحانه وتعالى) :والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا( ]العنكبوت .[69 :ومن لم يجتهد حق اجتهاد
لم يجز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح .وأول أس المجاهدة أن تعرف عكر القلب ،لن النسان إذا لم يعرف العكسر لم
يصح له الجهاد.
فصل
اعلم أن النفس مركب القلب ،وللقلب عساكر كما قال سبحانه وتعالى) :وما يعلم جنود ربك إل هو( ]المدثر .[31 :والقلب مخلوق
لعمل الخرة طللبا لسعادته ،وسعادته معرفة ربه عز وجل ،ومعرفة ربه تعالى تحصل له من صنع ا وهو من جملة عالمه .ول
تحصل له معرفة عجائاب العالم إل من طريق الحواس ،والحواس من القلب والقالب مركبه ،ثم معرفة صيده ومعرفة شبكته،
والقالب ل يقوم إل بالطعام والشراب والحرارة والرطوبة ،وهو ضعيف على خطر من الجوع والعطش في الباطن ،وعلى خطر
من الماء والنار في الظاهر ،وهو مقابل أعداء كثرة.
فصل
وتحتاج أن تعرف العكسرين؛ وذلك أن العكسر الظاهر هو الشهوة والغضب ومنازلهم في اليدين والرجلين والعينين والذنين
وجميع العضاء؛ وأما العكسر الباطن فمنازله في الدماغ وهو قويِ الخيال والتفكر والحفظ والتذكر والوهم ،ولكل قوة من هذه
القوى عمل خاص ،فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن آدم في الدارين .وجملة هذين العسكرين في القلب وهو أميرها ،فإن
أمر اللسان أن يذكر ذكر ،وإن أمر اليد أن تبطش بطشت ،وإن أمر الرجل أن تسعى سعت ،وكذلك الحواس الخمس حتى يحفظ
نفسه كيما يدخر الزاد للدار الخرة ويحصل الصيد وتتم التجارة ويجمع بذر السعادة ،وهؤلء طائاعون للقلب كما أن الملئاكة
طائاعون للرب سبحانه وتعالى ل يخالفون أمره.
)ص (451
فصل في معرفة القلب وعسكره
اعلم أنه قيل في المثل المشهور :إن النفس كالمدينة ،واليدين والقدمين وجميع العضاء ضياعها ،والقوة الشهوانية واليها ،والقوة
الغضبية شحنتها ،والقلب ملكها والعقل وزيرها .والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله ،لن الوالي وهو الشهوة ،كذاب
فضولي مخلط ،والشحنة وهو الغضب شرير قتال خراب ،فإن تركهم الملك على ما هم عليه هلكت المدينة وخربت .فيجب أن
يشاور الملك الوزير ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزير ،فإذا فعل ذلك استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة .وكذلك القلب
يشاور العقل ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة اللهية
ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة هلكت نفسه وكان قلبه شقليا في الخرة.
فصل
اعلم أن الشهوة والغضب خادمان للنفس جاذبان ،يحفظان أمر الطعام والشراب والنكاح لحمل الحواس ،ثم النفس خادم الحواس
شبكة العقل وجواسيسه يبصر بها صنائاع البارئ جلت قدرته ،ثم الحواس خادم العقل وهو القلب سراج وشمعة يبصر بنوره
الحضرة اللهية ،لن الجنة وهي نصيب الجوف أو الفرج محتقرة في جنب تلك الجنة .ثم العقل خادم القلب ،والقلب مخلوق لنظر
جمال الحضرة اللهية .فمن اجتهد في هذه الصنعة فهو عبد حق من غلمان الحضرة ،كما قال سبحانه وتعالى) :وما خلقت الجن
والنس إل ليعبدون( ]الذاريات .[56 :معناه أنا خلقنا القلب وأعطيناه الملك والعسكر ،وجعلنا النفس مركبه حتى يسافر عليه من
عالم التراب إلى أعلى عليين ،فإذا أراد أن يؤديِ حق هذه النعمة جاس مثل السلطان في صدر مملكته ،وجعل الحضرة اللهية قبلته
ومقصده ،وجعل الخرة وطنه وقراره ،والنفس مركبه ،والدنيا منزله ،واليدين والقدمين خدامه ،والعقل وزيره ،والشهوة عامله،
والغضب شحنته ،والحواس جواسيسه .وكل واحد موكل بعالم من العوالم يجمع له أحوال العالم .وقوة الخيال في مقدم الدماغ
كالنقيب يجمع عنده أخبار الجواسيس ،وقوة الحفظ في وسط الدماغ مثل صاحب الخريطة يجمع الرقاع من يد النقيب ويحفظها إلى
أن يعرضها على العقل ،فإذا بلغت هذه الخبار إلى الوزير يرى أحوال المملكة على مقتضاها.
فإذا رأيت واحلدا منهم قد عصى عليك مثل الشهوة والغضب ،فعليك بالمجاهدة ،ول تقصد قتلهما؛ لن المملكة ل تستقر إل بهما.
فإذا فعلت ذلك كنت سعيلدا ،وأديت حق النعمة ،ووجبت لك الخلعة في وقتها ،وإل كنت شقليا ووجب عليك النكال والعقوبة.
)ص (452
فصل
تمام السعادة مبني على ثلثة أشياء :قوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العلم ،فيحتاج أن يكون أمرها متوسلطا لئال تزيد قوة الشهوة
فتخرجه إلى الرخص فيهلك ،أو تزيد قوة الغضب فتخرجه إلى الحمق فيهلك؛ فإذا توسطت القوتان بإشارة قوة العدل دل على
طريق الهداية .وكذلك الغضب إذا زاد سهل عليه الضرب والقتل ،وإذا نقص ذهبت الغيرة والحمية في الدين والدنيا ،وإذا توسط
كان الصبر والشجاعة والحكمة .وكذا الشهوة إذا زادت كان الفسق والفجور ،وإن نقصت كان العجز والفتور ،وإن توسطت كان
العفة والقناعة وأمثال ذلك.
فصل
اعلم أن للقلب مع عسكره أحوالل وصفات بعضها يسمى أخلق السوء ،وبعضها أخلق الحسن ،فبالخلق الحسنة يبلغ درجة
السعادة ،والخلق السيئاة هلكه وخروجه للشقاء ،وهذه كلها تبلغ أربعة أجناس :أخلق الشياطين ،وأخلق البهائام ،وأخلق
السباع ،وأخلق الملئاكة .فأعمال السوء من الكل والشرب والنوم والنكاح هي أخلق البهائام ،وكذلك أعمال الغضب من الضرب
والقتل والخصومة هي أخلق السباع ،وكذلك أعمال النفس وهي المكر والحيلة والغش وغير ذلك هي أخلق الشياطين ،وكذلك
أعمال العقل التي هي الرحمة والعلم والخير هي أخلق الملئاكة.
فصل
واعلم أن في جلد ابن آدم أربعة أشياء :الكلب ،والخنزير ،والشيطان ،والملك .والكلب مذموم في صفاته ،وليس بمذموم في
صورته .وكذلك الشيطان والملئاكة ذمهم ومدحهم في صفاتهم ،وليس ذلك في صورهم وخلقهم .وكذلك الخنزير مذموم في
صفاته ،وليس بمذموم في خلقته.
وقد أمر ابن آدم بأن يكشف ظلم الجهل بنور العقل خولفا من الفتنة كما قال النبي صلى ا عليه وسلم" :ما من أحد إل وله شيطان
ولي شيطان ،وإن ا قد أعانني على شيطاني حتى ملكته" وكذلك الشهوة والغضب ينبغي أن يكونا تحت يد العقل ،فل يفعل شيلئاا
إل بأمره ،فإن فعل ذلك صح له حسن الخلق ،وهي صفات الملئاكة وهي بذر السعادة ،وإن عمل بخلف ذلك فخدم الشهوة
والغضب صح له الخلق القبيحة ،وهي صفات الشياطين وهو بذر الشقاء ،فيتبين له في نومه كأنه قائام مشدود الوسط يخدم الكلب
والخنزير ،فكيف يكون حالك يوم القيامة إذا حبست الملك وهو العقل تحت يد الشهوة والغضب وهما الكلب والخنزير؟.
)ص (453
فصل
واعلم أن النسان في صورة ابن آدم اليوم ،وغلدا تنكشف له المعاني فتكون الصور في معنى المعاني؛ فأما الذيِ غلب عليه
الغضب فيقوم في صورة الكلب ،وأما الذيِ غلب عليه الشهوة فيقوم في صورة الخنزير؛ لن الصور تابعة للمعاني ،وإنما يبصر
النائام في نومه ما صح في باطنه .وإنما عرفت أن النسان في باطنه هذه الربعة ،فيجب أن يراقب حركاته وسكناته ،ويعرف من
أيِ الربعة هو ،فإن صفاته تحصل في قلبه وتبقى معه إلى يوم القيامة ،وإن بقي من جملة الباقيات الصالحات شيء فهو بذر
السعادة ،وإن بقي معه غير ذلك فهو بذر الشقاء ،وابن آدم ل ينفك ول ينفصل عن حركة أو سون ،وقلبه مثل الزجاج .وأخلق
السوء كالدخان والظلمة ،فإذا وصل إليه ذلك أظلم عليه طريق السعادة وأخلق الحسن كالنور والضوء ،فإذا وصل إلى القلب
طهره من ظلم المعاصي كما قال رسول ا صلى ا عليه وسلم" :أتبع السيئاة الحسنة تمحها" .والقلب إما مضيء أو مظلم ،ول
ينجو إل من أتى ا بقلب سليم.
فصل
ضا في ابن آدم ،ولكنه أعطى شيلئاا آخر زيادة عليها الشرف والكمال ،وبذلك واعلم أن الشهوة والغضب اللتين في البهائام جعلتا أي ل
تحصل له معرفة ا تعالى ،وجملة عجائاب صنعه ،وبه يخلص نفسه من يد الشهوة والغضب وتحصل له صفات الملئاكة ،ولذلك
يظفر بالسباع والبهائام وتصير كلها مسخرة له كما قال سبحانه وتعالى) :وسخر لكم ما في السموات وما في الرض جميلعا(
]الجاثية.[13 :
فصل في عجائاب القلب
اعلم أن للقلب بابين للعلوم :واحد للحلم ،والثاني لعلم اليقظة ،وهو الباب الظاهر إلى الخارج؛ فإن نام غلق باب الحواس ،فيفتح
له باب الباطن ،ويكشف له غيب من عالم الملكوت ومن اللوح المحفوظ فيكون مثل الضوء ،وربما احتاج كشفه إلى شيء من
تعبير الحلم ،وأما ما كان من الظاهر فيظن الناس أن به اليقظة وأن اليقظة أولى بالمعرفة مع أنه ل يبصر في اليقظة شيء من
عالم الغيب ،وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس.
فصل
ضا ،لن فيه صورة كل موجود؛ وإذا قابلت وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة ،واللوح المحفوظ مثل المرآة أي ل
المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما
)ص (454
في الخرى ،وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارلغا من شهوات الدنيا ،فإن كان مشغولل بها كان عالم
الملكوتن محجولبا عنه ،وإن كان في حال النوم فارلغا من علئاق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت فظهر فيه بعض الصور التي
في اللوح المحفوظ ،وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال ،لذلك يكون الذيِ يبصره تحت ستر القشر ،وليس كالحق الصريح
مكشولفا .فإذا مات ،أيِ القلب ،بموت صاحبه لم يبق خيال ول حواس ،وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال ،ويقال له:
)فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد( ]ق.[22 :
فصل
واعلم أنه ما من أحد إل ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم وبيان الحق على سبيل اللهام ،وذلك ل يدخل من طريق الحواس بل
يدخل في القلب ل يعرف من أين جاء؛ لن القلب من عالم الملكوت ،والحواس مخلوقة لهذا العالم ،عالم الملك ،فلذلك يكون حجابه
عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارلغا من شغل الحواس.
فصل
ول تظنن أن هذه اللطافة تنفتح بالنوم والموت فقط ،بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة ،وتخلص من يد الشهوة
والغضب والخلق القبيحة والعمال الرديئاة .فإذا جلس في مكان خال وعطل طريق الحواس ،وفتح عين الباطن وسمعه ،وجعل
القلب في مناسبة عالم الملكوت ،وقال دائالما" :ا ا ا" بقلبه دون لسانه ،إلى أن يصير ل خبر معه من نفسه ول من العالم،
ويبقى ل يرى شيلئاا إل ا سبحانه وتعالى ،انفتحت تلك الطاقة ،وأبصر في اليقظة الذيِ يبصره في النوم ،فتظهر له أرواح الملئاكة
والنبياء ،والصور الحسنة الجميلة الجليلة ،وانكشفت له ملكوت السموات والرض ،ورأى ما ل يمكن شرحه ول وصفه كما قال
النبي صلى ا عليه وسلم" :زويت لي الرض فرأيت مشارقها ومغاربها" وقال ا عز وجل) :وكذلك نريِ إبراهيم ملكوت
السموات والرض( ]النعام .[75 :لن علوم النبياء عليهم السلم كلها كانت من هذا الطريق ل من طريق الحواس كما قال ا
سبحانه وتعالى) :واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلل( ]المزمل .[8 :معناه النقطاع عن كل شيء ،وتطهير القلب من كل شيء،
والبتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية ،وهو طريق الصوفية في هذا الزمان .وأما طريق التعليم فهو طريق العلماء ،وهذه الدرجة
الكبيرة مختصرة من طريق النبوة ،وكذلك علم الولياء لنه وقع في قلوبهم بل واسطة من حضرة الحق كما قال سبحانه وتعالى:
)آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا عللما( ]الكهف .[65 :وهذه الطريقة ل تفهم إل بالتجربة ،وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل
بالتعليم؛ والواجب التصديق
)ص (455
بها حتى ل تحرم شعاع سعادتهم ،وهو من عجائاب القلب .ومن لم يبصر لم يصدق كما قال سبحانه وتعالى) :بل كذبوا بما لم
يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله( ]يونس .[39 :وقوله) :وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم( ]الحقاف.[11 :
فصل
ول تحسب أن هذا خاص بالنبياء والولياء؛ لن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لن يعمل منه مرآة ينظر
فيها صورة العالم ،إل الذيِ صدأ فيحتاج إلى إجلء ،أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك ،لنه قد تلف ،وكذلك كل قلب إذا غلب
عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة ،وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة كما قال النبي صلى ا عليه وسلم" :كل مولود يولد
على فطرة السلم" وقال ا تعالى) :وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى( ]العراف .[172 :وكذلك بنو آدم في فطرتهم
التصديق بالربوبية كما قال سبحانه وتعالى) :فطرت ا التي فطر الناس عليها( ]الروم .[30 :والنبياء والولياء هم بنو آدم ،قال
سبحانه وتعالى) :قل إنما أنا بشر مثلكم( ]فصلت ,.[6 :فكل من زرع حصد ،ومن مشى وصل ،ومن طلب وجد .والطلب ل
يحصل إل بالمجاهدة –طلب شيخ بالغ عارف قد مشى في هذا الطريق -وإذا حصل هذان الشيئاان لحد فقد أراد ا له التوفيق
والسعادة بحكم أزلي حتى يبلغ إلى هذه الدرجة.
فصل
في أن اللذة والسعادة لبن آدم في معرفة ا سبحانه وتعالى
اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه ،وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور
الحسنة ،ولذة الذن في الصوات الطيبة ،وكذلك سائار الجوارح بهذه الصفة؛ ولذة القلب الخاصة بمعرفة ا سبحانه وتعالى ،لنه
مخلوق لها ،وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به ،مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها ،ولو نهي عنها لم يتركها ول يبقى له
عنها صبر .وكذلك إذا وقع في معرفة ا سبحانه وتعالى فرح بها ،ولم يصبر عن المشاهدة ،لن لذة القلب المعرفة وكلما كانت
المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن النسان إذا عرف الوزير فرح ،ولو علم الملك لكان أعظم فرلحا.
وليس موجود أشرف من ا سبحانه وتعالى ،لن شرف كل موجود به ومنه ،وكل عجائاب العالم آثار صنعته ،فل معرفة أعز من
معرفته ،ول لذة أعظم من لذة معرفته ،وليس منظر أحسن من منظر حضرته .وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس وهي تبطل
بالموت ،ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب فل تبطل بالموت؛ لن القلب ل يهلك بالموت بل تكون لذته أكثر وضوءه أكبر لنه
خرج من الظلمة إلى الضوء.
)ص (456
فصل
واعلم أن نفس ابن آدم مختصرة من العالم ،وفيها من كل صورة في العالم أثر منه؛ لن هذه العظام كالجبال ،ولحمه كالتراب،
ضا فإن في باطنه صناع العالم ،لن القوة وشعره كالنبات ،ورأسه مثل السماء وحواسه مثل الكواكب ،وتفصيل ذلك طويل؛ وأي ل
التي في المعدحة كالطباخ ،والتي في الكبد كالخباز ،والتي في المعاء كالقصار ،والتي تبيض اللبن وتحمر الدم كالصباغ .وشرح
ذلك طويل ،والمقصود أن تعلم كم في باطنك من عوالم مختلفة كلهم مشغولون بخدمتك ،وأنت في غفلة عنهم ،وهم ل يستريحون،
ول تعرفهم أنت ول تشكر من أنعم عليك بهم.
فصل في معرفة تركيب الجسد ومنافع العضاء التي يقال عنها في علم التشريح
وهو علم عظيم ،والخلق غافلون عنه ،وكذلك علم الطلب .فكل من أراد أن ينظر في نفسه وعجائاب صنع ا تعالى فيها ،يحتاج
إلى معرفة ثلثة أشياء من الصفات اللهية:
الولى :أن يعرف أن خالق الشخص قادر على الكمال وليس بعاجز ،وهو ا سبحانه وتعالى .وليس عمل في العالم بأعجب من
خلق النسان من ماء مهين ،وتصوير هذا الشخص بهذه الصورة العجيبة كما قال ا سبحانه وتعالى) :إنا خلقنا النسان من نطفة
أمشاج نبتليه( ]النسان .[2 :فإعادته بعد الموت أهون عليه؛ لن العادة أسهل من البتداء.
الثانية :معرفة علمه سبحانه وتعالى وأنه محيط بالشياء كلها؛ لن هذه العجائاب والغرائاب ل تمكن إل بكمال العلم.
الثالثة :أن تعلم أن لطفه ورحمته وعنايته متعلقة بالشياء كلها ،وأنها ل نهاية لها ،لما ترى في النبات والحيوان والمعادن في سعة
القدرة وحسن الصور واللوان.
فصل في تفصيل خلقة بني آدم لنها مفتاح معرفة الصفات اللهية وهو علم شريف
وذلك معرفة عجائاب الصنائاع اللهية ،ومعرفة عظم ا سبحانه وتعالى وقدرته ،وهو مختصر معرفة القلب .وهو علم شريف إذ
هو معرفة الصنائاع اللهية ،لن النفس كالفرس ،والعقل كالراكب ،وجماعهما الفارس ،ومن لم يعرف نفسه وهو يدعي معرفة
غيره فهو كالرجل المفلس الذيِ ليس له طعام لنفسه وهو يدعي أنه يقوت فقراء المدينة ،فهذا محال.
)ص (457
إذا عرفت هذا العز والشرف والكمال والجمال والجلل ،بعد أن عرفت جوهر القلب أنه جوهر عزيز قد وهب لك وبعد ذلك خفي
عنك ،فإن لم تطلبه وغفلت عنه وضيعته كان ذلك حسرة عظيمة عليك يوم القيامة؛ فاجتهد في طلبه ،واترك أشغال الدنيا كلها!
وكل شرف لم يظهر في الدنيا فهو في الخرة فرح بل غم ،وبقاء بل فناء ،وقدرة بل عجز ،ومعرفة بل جهل ،وجمال وجلل
عظيمان؛ وأما اليوم فليس شيء أعجز منه لنه مسكين ناقص؛ وإنما الشرف غلدا إذا طرح من هذه الكيمياء على جوهر قلبه حتى
يخلص منه شبه البهائام ،ويبلغ درجة الملئاكة ،فإن رجع إلى شهوات الدنيا فضلت عليه البهائام يوم القيامة لنها تصير إلى التراب،
ويبقى هو في العذاب .نعوذ بال من ذلك ،ونستجير به ،وهو نعم المولى ونعم النصير ،والحمد ل رب العالمين ،وصلى ا على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم ا الرحمن الرحيم
القواعد العشر
الحمد ل الموفق ،الذيِ وفق قلوب الحباب لموافقة مراسيم السنة وأحكام الكتاب ،الفتاح الذيِ فتح بصائار أبصارهم فأبصروا
مواقع نبال الرتياب في مقاتل أهل الحجاب ،الملهم الذيِ ألهمهم الحجة البيضاء بالمحجة الخضراء فأصابوا أبكار الصواب،
ناداهم بلسان شأن المحبة من جنان المودة كيف ينام المحب عن مشاهدة الحباب! فأكحلوا نواظرهم بإثمد السهاد ،وجفوا من
مضاجعهم أطيب الرقاد ،وجدوا في أثر الطلب مع الطلب ،وجعلوا نهارهم ليلل ،وأفراحهم ويلل ،وأرخوا لعز مولهم ذيلل،
وتذللوا على العتاب ،فأقامهم في الحاضرة والبادية ،وأسمعهم أوامرهم ونواهيه ،فيا سعادتهم بتوفيقهم لوقوفهم على البواب!
وكشف لهم الحجاب عن جماله ،وكشط الضباب عن محاسن أثواب مقاله ،فردوا حيارى بمحاسن التراب .أجروا مدامعهم جريان
النهار ،وأبدوا فجائاعهم عن زمن تولى من جر الزار على الوزار ،وطرقوا الباب فأتاهم الجواب يا عباديِ أنا التواب على من
أقلع عن الحوبة وإلي أناب.
روق لهم في دار الوصال شراب التصال ،فناهيك به من شراب! فتلذذوا بمناجاته ،وغابوا عن حضورهم في حضراته ،وعدا كل
بعقله المصاب .فأين المهاجر في الهواجر ،ومن أكحل المحاجر بالحناجر .طوباه قد فاز بطيب الخطاب!
)ص (458
قد كشف المولى منيع الحجاب وأسمع الحباب طيب الخطاب
وأحضروا حضرة أنس بها غابوا فعاشوا بعد موت العقاب
وفي مقام القرب أدناهم لما سقاهم في المقام الشراب
ضا من المن أجل الكتاب وأتحفوا من فضله بالوفا مح ل
هم الملوك الشم من خلقه ضنائان الحق لعز الحجاب
قد تبعوا نهج سبيل الهدى واتبعوا حكم نصوص الكتاب
واستمسكوا بسنة خير الورى وحاسبوا من قبيل يوم الحساب
وناقشوا أنفسهم خيفة من غضب الحق وهول العقاب
إذا أتى الليل تراهم به فرحى لجمع الفرق تحت النقاب
يحيونه بالذكر كي يحييهم بذكره في جمع أهل الثواب
يراهم الحق يباهي بهم بهم عن الخلق يزول العذاب
عليهم مني سلم سما ما لمع البرق أو أهل السحاب
أحمده حملدا أستوجب به الثواب ،وأشكره شكلرا تزيد به زيادات أولي اللباب ،وأشهد أن ل إله إل ا وحده ل شريك له ،شهادة
تنزيه عن الحلول والنحياز ،والظهور ،والبطون ،والبتداء والنتهاء ،والشتهار ،والحتجاب؛ وتقدست ذاته المقدسة عن مقالت
أولي الجهالت من الكم والكيف والين والمكان والزمان والياب والذهاب ،وأمجده بما أبرزه بحكمته من الكوان عن التفكر
والتدبر والمعاونة والمشاورة والراحة والنصب والنتصاب ،وأعظمه عن التشبيه والتمثيل والتعديل والتحويل والتبديل والتركيب
والرتكاب .وأشهد أن سيدنا محملدا عبده ورسوله أشرف محبوب ،وأعظم الشراف،
)ص (459
وأخص الحباب؛ أرسله بفضل الكتاب وفصل الخطاب ،وأيده بأفضل كتاب وأجمل خطاب؛ أفصح العراب بالعراب
والختصار والسهاب ،وأعجز بلغاء الحزاب ببدائاع النفي واليجاب ،فأنقذ الحباب من مهاويِ الرتياب ومغاويِ العراب،
بالعقاب على العقاب ،وكشف عن وجه نور السلم مكفرات ظلمات الشراك والضباب؛ صلى ا عليه وعلى آله وأصحابه
والحباب ،وعلى الخلفاء الراشدين القطاب :أبي بكر وأبي حفص وأبي عمرو وأبي تراب ،صلة تحلنا دار النعيم وتخرجنا عن
دار العذاب.
أما بعد :نفحنا ا وإياك بنسائام قربه ،وسقانا وإياك من كاسات حبه؛ فإن بيان كيفية طريقنا ،وبرهان أهل تحقيقنا ،مبني على عشرة
قواعد توقظ النائام وتقيم القاعد:
القاعدة الولى
النية الصادقة الواقعة من غير التواء ،لقوله عليه الصلة والسلم" :وإنما لكل امرئ ما نوى".
والمراد بالنية عزم القلب ،وبالصادقة إنهاؤها للفعل والترك للرب ،وبالواقعة استمرارها على هذه الخلة الثيرة؛ لن التكرار تأثيلرا
ليس لغيره ،وعلمتها عدم تغيير جزمه بأعراض فانية وباقية في عزمه ،فإن العمل للحق ول بد من الحق فل يترك ما عزم عليه
للخلق.
القاعدة الثانية
العمل ل من غير شريك ول اشتراك لقوله عليه السلم" :اعبد ا كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وعلمته أن ل يرضى
بغير الحق ،ويرى ما سواه قاطلعا ،فيجتنب الخلق لقول النبي المختار" :تعس عبد الدينار".
وليترك ا سبحانه وتعالى جميع أمانيه ،لقوله عليه السلم" :من حسن إسلم المرء تركه ما ل يعنيه" وآكدها الشبهات فاحذرها أن
تصيبك ،لقوله عليه السلم" :دع ما يريبك إلى ما ل يريبك".
فإذا صحت هذه الصول الثلثة أثمرت أغصانها لك القربى ،فتكون بالصورة في الدنيا وبالمعنى في العقبى ،وعلى قدر همك
وثباتك على الفعل والترك تحظى من الحديث المشهور" :كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أصحاب القبور".
وعلمة القناعة الكتفاء بما يذهب الحر والبرد والمسغبة لقوله صلى ا عليه وسلم" :حسب ابن آدم لقيمات يقمن بها صلبه" فل
يميل إلى صاحب القمح صاحب الشعير ،وإلى النقرة صاحب النقير .والمستغني بالحلل ل يقصد المباح ،ول يخفض إلى الشبهة
الجناح .وعلمة الغريب
ص 640
الحمل الخفيف ،وعدم الئاتلف بالثقيل ،وترك السؤال فإنه يؤويِ إلى ظل الدخيل .وعلمة عابر السبيل إسراع الجابة ،ورضاه
بما سبق إليه واستطابه .وعلمة الميت إيثار مهمات دينه والمسألة في غوالب حينه.
القاعدة الثالثة
موافقة الحق بالتفاق والوفاق ومخالفة النفس بالصبر على الفراق والمشاق ،وترك الهوى ،وجفاء الملذ والمكان والخلف .ومن
تعوده خرج عن الحجاب ودخل في النكشاف ،فعاد نومه سهلرا ،واختلطه عزلة ،وشبعه جولعا ،وعزته ذلة ،ومكالمته صملتا،
وكثرته قلة.
القاعدة الثالثة
الهمة العالية عن التسويف يفسدك؛ فقد جاء :ل تترك عمل يومك للغد؛ لن بعض العمال من بعضها ،وإل فمن رضي بالدنى
حرم العلى .والكامل المتبع هو السنى ل المتشيع والمعتزل المبتدع ،لقوله عليه السلم" :يا أحبابي عليكم بالسواد العظم" قالوا:
يا رسول ا وما السواد العظم؟ قال" :ما أنا عليه وأصحابي".
القاعدة السادسة
العجز والذلة؛ ل بمعنى الكسل في الطاعات وترك الجتهاد ،بل عجزك عن كل فعل إل بقدرة الحق الجواد ،وأن ترى الخلق بعين
التوقير والحترام ،فإن بعضهم وسائاط بعض ،إجللل لحضرة ذيِ الجلل والكرام؛ لن سنة ا سبحانه وتعالى إذا أراد شيلئاا ما
أضافه إليه بنفي الوسائاط ،وإن أراد جلل حضرته تعظيما أضافه لغيره رعاية للضوابط .فإذا علمت أن الكل بيد ا سبحانه
وتعالى والمرجع إليه وتكبرت ،فقد تكبرت عليه إل بأمر وصل إليك من لديه .فاجعل عجزك في جنبه ومسكنتك له بالعتذار،
ولتتصور قدرة فإنها منازعة في القتدار.
ص 461
القاعدة السابعة
الخوف والرخاء معنى ،وعدم الطمئانان بجلل الحسان إل عند العيان ،فحسن الظن منك بالجواد الحسان.
القاعدة الثامنة
دوام الورد إما في حق الحق أو حق العباد ،فإن من ليس ورد فماله من الموارد إمداد ،فامديم يمل الحل بملله بخلف الذيِ يغيب
بأعماله وأقواله ،فإن النفس تنبسط بذلك جهلرا وسلرا ،وترعي حقوق العباد كما يتوقع منهم خيلرا وشلرا ،فيحب ويبغض لهم ما يحب
ويبغض لنفسه خيلرا وشلرا ،ويعلم ل تعالى ما يرضى كما يحب أن يفعل ا ما يرضى.
القاعدة التاسعة
المداومة على المراقبة ول يغيب عن ا سبحانه وتعالى طرفة عين؛ فمن داوم على مراقبة قلبه ل سبحانه وتعالى ونفى غير ا
وجد ا وإحسانه وعلم اليقين يحصل ذلك لك بجمتله وهو أن ترى الحركات والسكنات والعيان بتتحريكه وتسكينه وقدرته
سبحانه ل يستغني عنه شئ .ثم تزيد مراقبته إلى أن تترقى إلى علم اليقين ،ثم يفنى عن ذلك به ،وذلك حقيقة اليقين فيقول :ما رأيت
شيلئاا إل رأيت ا سبحانه وتعالى ،هو القيوم على كل شئ بقيوميته ،وذلك الشئ هو القائام بأمره وبقدرته على حسب المشاهدة
والمحاضرة ،فتأدب مع الخلق وعاشر أحسن المعاشرة؛ قال صلى ا عليه وسلم":أدبني ربي فأحسن تأديبي".
القاعدة العاشرة
علم ما يجب الشتغال به ظاهلرا وباطلنا اجتهالدا؛ لن من ظن أنه استغنى عن الطاعية فهو مفلس معالدا لقوله سبحانه ل رب إل
اا{]آل عمران.[31: اد دفااتهباعوهني ايلحهبلباكام ا
حمبودن ا
سواه} :قالل هإن اكناتلم ات ه
فهذا ما بنيت على أعمدة قواعده قصولرا من غير قصور ،وأسست عليه شرامخ الحجار لربات الحجور ،وحرثته بمحراث فدن،
وبذرته بصنوف حبوب السعادة ،وغرست في فرادسه الذكار ،وأجريب في جناته من الوراد والنهار ،وفرشته بشقائاق نعمان
المجاهدة ،ومهدته بحدائاق حقائاق المكابدة؛ راجليا حصاد زرعي بمناجل الهمم ،وقاصلدا غنيمة إنفاقي من مواهب الكرم ،وا تعالى
يزكيه وايلربيه ،ويرتع فيه من ظهر فيه ،ومن التحق به ممن يحييه ،إنه الجواد الكريم البر الرحيم.
ص 462
والسلم على من اتبع الهدى ،فما ابتدع وانتفع ولحق بعباد ا الصالحين وحزبه المفلحين ورحمته وبركاته ،وصلى ا وسلم على
سيدنا محمد نور النوار المعارف وسر أسرار العوارف ،وعلى آله وصحبه وتابعي سبيله وحزبه ،والحمد ل الذيِ تتم بنعمته
الصالحات وتعم البركات آمين.
بسم ا الرحمن الرحيم
الكشف والتبيين
في غرور الخلق أجمعين
وصلى ا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين!! به ثقتي.
الحمد ل وحده ،وصلى ا على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد :فهذا كتاب الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين.
اعلم أن الخلق قسمان :حيوان وغير حيوان .والحيوان قسمان :مكلف وغير مكلف؛ فالمكلف من خاطبه وا بالعبادة ،وأمره بها،
ووعده بالثواب عليها ،ونهاه عن المعاصي ،وحذره العقوبة؛ وغير المكلف من لم يخاطبه بذلك .ثم المكلف قسمان :مؤمن وكافر.
والمؤمن قسمان :طائاع وعاص؛ وكل واحد من الطائاعين والعاصين ينقسم إلى قسمين :عالم وجاهل.
ثم رأيت الغرور لزلما لجميع المكلفين والمؤمنين والكافرين إل من عصمه ا رب العالمين .وأنا إن شاء ا تعالى أكشف عن
غرورهم ،وأبين الحجة فيه ،وأوضحه غاية اليضاح ،وأبينه غاية البيان ،بأوجز ما يكون من العبارة ،وأبدع ما يكون من الشارة؛
فأقول وما توفيقي إل بال:
واعلم أن المغرورين من الخلق ما عدا الكافرين أربعة أصناف :صنف من العلماء ،وصنف من العباد ،وصنف من أرباب
الموال ،وصنف من المتصوفة .فأول ما نبدأ به غرور الكفار ،وهم في غرورهم قسمان :منهم من غرته الحياة الدنيا فهم الذين
قالوا :النقد خير من النسيئاة ،ولذات الديا يقين ولذات الخرة شك ،ول يترك اليقين بالشك؛ وهذا قياس فاسد ،وهو قياس إبليس لعنه
ا في قوله أنا خير منه ،فظن أن الخيرية في السبب.
وعلج هذا الغرور شيئاان إما بتصديق وهو اليمان ،وإما ببرهان .أما التصديق فهو أن يصدق ا تعالى في قوله} :دودما هعندد ا
اه
دخليسر دوأدلبدقى{ ]القصص .[60:وقوله تعالى} :دودما اللدحدياةا المدلنديا إهلا دمدتااع اللاغاروهر{ ]آل عمران ،185 :الحديد .[20 :وتصديق
الرسول فيما جاء به وأما البرهان فهو أن يعرف وجه فساد قياسه أن قوله" :الدنيا نقد والخرة نسيئاة" مقدمة صحيحة ،وأما قوله:
"النقد خير من النسيئاة" فهو محل
ص 463
التلبيس ،وليس المر كذلك ،بل إن كان النقد مثل النسيئاة في المقدار والمقصود فهو خير ،وإن كان أقل منها فلنسيئاة خير منه؛
ومعلوم أن الخرة أبدية والدنيا غير أبدية .وأما قولهم" :لذات الدنيا يقين ولذات الخرة شك" فهو أيضا باطل؛ بل ذلك يقين عند
المؤمنين ،وليقينه مدركان :أحدهما اليمان ولتصديق على وجه التقليد للنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحادق في الدواء،
والمدرك الثاني الوحي للنبياء واللهام للولياء .ول تظن أن معرفة النبي صلى ا عليه وسلم لمور الخرة ولمور الدنيا تقليد
لجبريل عليه السلم ،فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة ،والنبي صلى ا عليه وسلم حاشاه من ذلك ،بل قد انكشف له الشياء
وشاهدها بنور البصيرة كما شاهد المحسوسات بالعين الظاهرة.
فصل
والمؤمنون بألسنتهم وعقائادهم إذا ضيعوا أوامر ا ،وهي العمال الصالحة ،وتدنسوا بالشهات ،فهم مشاركون الكفار في هذا
الغرور ،فالحياة الدنيا للكافرين والمؤمنين جميلعا غرور.
فأما غرور الكافرين بال فمثاله قول بعضهم في أنفسهم بألسنتهم :إنه إن كان ا معيدنا فنحن أحق به من غيرنا؛ كما أخبر ا
ت إهدلى دررَبي ظمن الاسادعدة دقاهئادملة دودلهئان مرهدد م ظمن دأن دتهبيدد دههذهه أددبلدا * دودما أد ا عنهم في سورة الكهف ]اليتان [36 ،35 :حيث قال} :دما أد ا
جددان دخليلرا رَملندها امندقدللبا{ وسبب هذا الغرور قياس من أقيسة إبليس لعنه ا ،وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم ا عليهم في الدنيا دلد ه
فيقيسون عليها نعم الخرة ،ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب ا عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الخرة .كما أخبر ا عنهم
اا هبدما دناقوال{ ]المجادلة .[8 :ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء فيزدروهم ويقولون} :أددهاؤلء دمان أنهم يقولون} :لدلول ايدعرَذابدنا ا
د ا
اا دعلدليههم رَمن دبليهندنا{]النعام .[53:ويقولون} :للو كادن خليلرا اما دسدبقونا إهلليهه{ ]الحقاف .[11 :وترتيب القياس الذيِ نظم قلوبهم أنهم
د د د د ا
ل
يقولون" :قد أحسن ا إلينا بنعيم الدنيا ،وكل محسن فهو محب وكل محب فهو محسن" وليس كذلك ،بل يكون محسنا ول يكون
محلبا ،بل ربما يكون الحسان سبب هلكه على التدريج؛ ولك محض الغرور بال تعالى ،ولذلك قال صلى ا عليه وسلم" :إن ا
يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه" .وكذلك كان أرباب البصائار إذا أقبلت
لندساان إهدذا دما البدتلها درمباه د
عليهم الدنيا حزنوا ،وإذا أقبل عليهم الفقر فرحوا وقالوا مرحلبا بشعائار الصالحين ،وقد قال تعالى} :أاما ا ه
دفأ دلكدردماه دودناعدماه دفدياقوال دررَبي أدلكدردمهن{ ]الفجر .[15 :وقال تعالى} :ديلحدسابودن أداندما انهممداهم هبهه همن اماءل دودبهنيدن * ندساهراع لاهلم هفي الخليدرا ه
ت د ل د ا
ث ل ديلعدلامودن{ ]العراف ،182 :القلم} .[44 :دوأ المهلي دبل يل ديلشاعارودن{ ]المؤمنون .[56 ،55 :وقال تعالى} :دسدنلسدتلدهراجاهم رَملن دحلي ا
دلاهلم إهان دكليهديِ دمهتيسن{ ]العراف:
ص 464
ب اكرَل دشليءء دحاتى إهدذا دفهراحولا هبدما اأواتولا أددخلذدنااهم دبلغدتلة دفإهدذا اهم ،183القلم .[45 :وقال تعالى} :دفدلاما دناسولا دما اذرَكارولا هبهه دفدتلحدنا دعدلليههلم أدلبدوا د
مملبلهاسودن{ ]النعام .[44 :فلم يؤمن بال من آمن بهذا الغرور .ومنشأ هذا الغرور الجهل بال وبصفاته ،فمن عرف ا فل يأمن من
مكره .ول ينظرون إلى فرعون وهامان والنمرود ماذا حل بهم مع ما أعطاهم ا من المال ،وقد حذر ا من مكره فقال تعالى:
اا دخليار اللدماهكهريدن{ ]آل عمران.[54 : اا دو ا اه إهلا اللدقلوام اللدخاهسارودن{ ]العراف .[99 :وقال تعالى} :دودمدكارولا دودمدكدر ا }دفلد ديألدمان دملكدر ا
وقال تعالى} :دفدمرَههل الدكاهفهريدن ألمههلاهلم اردوليلداا{ ]الطارق .[17 :فمن أوله ا نعمة فليذر أن تكون نقمة. ل د ل
فصل
وأما غرور العصاة من المؤمنين فقولهم" :غفور رحيم وإنما نرجو عفوه" .فاتكلوا على ذلك وأهملوا العمال -وذلك من قبل
الرجاء محمود في الدين -وإن رحمة ا واسعة ،ونعمته شاملة ،وكرمه عميم ،إنا موحدون مؤمنون ،ونرجو بوسيلة اليمان،
والكرم والحسان .وربما كان منشأ حالهم التمسك بصلح الباء والمهات ،وذلك نهاية الغرور ،فإن آبائاهم مع صلحهم وورعهم
كانوا خائافين ،ونظم قياسهم الذيِ سول لهم الشيطان :أن من أحب إنسالنا أحب أولده ،فإن ا قد أحب آباءكم فهو يحبكم ،فل
تحتاجون إلى الطاعة فاتكلوا على ذلك واغتروا بال .ولم يعلموا أن نولحا عليه السلم أراد أن يحمل إبنه في السفينة ،فمنع ،وأغرقه
ا بأشد ما أغرق به قوم نوح ،وأن النبي صلى ا عليه وسلم استأذن في زيارة قبر أمه وفي الستغفار لها ،فاذن له في الزيارة
لندساهن إهلا دما س له ه ولم يؤذن له في الستغفار ونسوا قوله تعالى} :دول دتهزار دواهزدرةس هولزدر أ الخدرى{ ]فاطر .[18 :وقوله تعالى} :دودأن لالي د
دسدعى{ ]النجم .[39 :فإن من ظن أنه ينجو بتقى أبيه ،كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أو يرويِ بشرب أبيه ،والتقوى فرض عين ل
يجزيِ فيها والد عن والده ،وعند جزاء التقوى يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه إل على سبيل الشفاعة .ونسوا قوله
صلى ا عليه وسلم" :الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ،والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على ا الماني" ،وقوله
حيسم{ ]البقرة .[218 :وقال اا دغافوسر ار ه اه دو ا ت ا ك ديلراجودن درلحدم د اه أ الولدهئا د
تعالى} :إهان الاهذيدن آدمانولا دوالاهذيدن دهادجارولا دودجادهادولا هفي دسهبيهل ا
تعالى} :دجدزاء هبدما دكاانوا ديلعدمالودن{ ]السجدة .[17 :وهل يصح الرجاء إل إذا تقدمه عمل؟ فإن لم يتقدمه عمل فهو غرور ل محالة،
وإنما ورد الرجاء لتبريد حرارة الخوف واليأس ،ولتلك الفائادة نطق به القرآن والترغب في الزيادة ل محالة.
ص 465
فصل
ويقرب منهم غرور طوائاف لهم طاعات ومعاص ،إل أن معاصيهم أكثر ،وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أن ترجح كفة حسناتهم،
وكفة سيئااتهم أكثر .وهذا غاية الجهل ،فترى الواحد يتصدق بدراهم عديدة من الحلل والحرام ،ويكون ما يتناوله من أموال الناس
والشبهات أضعافه ،فهو كمن وضع في كفة الميزان عشرة دراهم ووضع في الكفة الخرى أللفا .وأراد أن تميل الكفة التي فيها
العشرة ،وذلك غاية الجهل.
فصل
ويقرب منهم غرور طوائاف لهم طاعات ومعاص ،إل أن معاصيهم أكثر ،وهم يتوقعون االمغفرة ويطنون أن ترجح كفة حسناتهم،
وكفة سيئااتهم أكثر .وهذا غاية الجهل ،فترى الواحد يتصدق بدراهم عديدة من الحلل والحرام ،ويكون ما يتناوله من أموال الناس
والشبهات أضعافه ،فهو كمن وضع في كفة الميزان عشرة دراهم ووضع في الكفة الخرى أللفا .وأراد أن تميل الكفة التي فيها
العشرة ،وذلك غاية الجهل.
فصل
ومنهم من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه ،لنه ل يحاسب نفسه ول يتفقد معاصيها ،وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها ،كالذيِ
يستغفر ا بلسانه ويسبح بالليل والنهار مثلل مائاة مرة وألف مرة ،ثم يغتاب المسلمين ويكلم بما ل يرضاه ا طول النهار ،ويلتفت
إلى ما ورد من فضل التسبيح ويغفل عما ورد في عقوبة الكذابينن والنمامين والمنافقين؛ وذلك محض الغرور ،فحفظ لسانه عن
المعاصي آكد من تسبيحه ،فسبحان من صدنا عن التنبيه.
فصل
بيان أصناف المغرورين وأقسام كل صنف
الصنف الول من المغرورين :العلماء
وهم فرق:
)فرقة منهم( لما أحكمت العلوم الشرعية والعقلية ،تعمقوا فيها ،واشتغلوا بها ،وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي
وإلزامها الطاعات ،واغتروا بعلمهم ،وطنوا أنهم عند ا بمكان ،وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا ل يعذب ا مثلهم ،بل يقبل شفاعتهم
في الخلق ول يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم .وهم مغرورون ،فإنهم لو نطروا بعين البصرية لعلموا أن العلم علمان :علم معاملة،
وعلم مكاشفة وهو العلم بال تعالى وبصفاته؛ فلبد من علوم المعاملة لتتم الحكمة المقصودة ،وهي المعاملة بمعرفة الحلل
والحرام ،ومعرفة أخلق النفس المذمومة والمحمودة .ومثلهم مثل طبيب يطبب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه فلم يفعل،
وهل يننفع الدواء بالوصف؟ هيهات ل ينفع الدواء إل من شربه بعد الحمية؛ وغفلوا عن قوله تعالى} :دقلد أدلفدلدح دمن دزاكادها * دودقلد
ب دمن دداسادهاا{ ]الشمس .[10 ،9 :ولم يقل" :من يعلم تزكيتها وكتب علمها وعلمها الناس". دخا د
ص 466
وغفلوا عن قوله صلى ا عليه وسلم" :من ازداد عللما ولم يزدد هلدى لم يزدد من ا إل بعلدا" ،وقوله صلى ا عليه وسلم" :إن
أشد الناس عذالبا يوم القيامة عالم لم ينفعه ا بعلمه" ،وغير ذلك كثير .وهؤلء مغرورين نعوذ بال من حالهم ،وإنما غلب علبهم
حب الدنيا وحب انفسهم وطلب الراحة العاجلة ،وظنوا أن علمهم ينجيهم في الخرة من غير عمل.
)وفرقة أخرى( أحكموا العلم والعمل الظاهر ،وتركوا المعاصي الظاهرة ،وغفلوا عن قلوبهم ،فلم يمحوا منها الصفات المذمومة
عند ا كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلو وإرادة السوء بالقران والشركاء وطلب الشهرة في البلد والعباد ،وذلك
غرور سببه غفلتهم عن قوله صلى ا عليه وسلم" :الرياء الشرك الصغر" وقوله صلى ا عليه وسلم" :الحسد يأكل الحسنات
كما تأكل النار الحطب" وقوله صلى ا عليه وسلم" :حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" ،إلى غير
ب دسهليءم{ ]الشعراء .[89 :فغفلوا عن قلوبهم واشتغلوا بظواهرهم؛ ذلك من الخبار ،وغفلوا عن قوله تعالى} :إهلا دملن أددتى ا
اد هبدقلل ء
ومن ل يصغى قلبه ل تصح طاعته ،وهو كمريض طهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلء وشرب الدددواء ،فاشتغل بالطلء
وترك شرب الدواء ،فأزال ما بظاهره ولم يزل ما بباطنه ،وأصل ما على ظاهره مما في باطنه ،فل يزال جربه يزداد أبلدا مما في
باطنه ،فلو زال ما في باطنه استراح الظاهر؛ فكذلك الخبائاث إذا كانت كامنة في القلب يظهر أحدها على الجوارح.
)وفرقة أخرى( علموا هذة الخلق الباطنة وعلموا أنها مذمومة من جهة الشرع ،إل أنهم لجل تعجبهم بأنفسهم يطنون أنهم
متفكون عنها ،وأنهم أرفع عند ا من أن يبتليهم بذلك ،وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم ،فأما هم فهم أبلغ عند ا
من أن يبتليهم بذلك ،وطهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة ،وطلب العلو والشرف ،وغرورهم أنهم ظنوا أن ذلك ليس بكبر وإنما
هو عز للدين وإظهار لشرف العلم ونصرة دين ا ،وغفلوا عن فرح إبليس به ،وعن نصرة النبي صلى ا عليه وسلم بما كانت
وبماذا أرغم الكافرين ،وغفلوا عن تواضع الصحابة وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم ،حتى عوتب عمر رضي ا عنه على بذاذته عند
قدوم الشام فقال :إنا قوم أعزنا ا بالسلم ل نطلب العز في غيره.
ثم هذا الغرور يطلب عز الدين بالثياب الرفيعة ،ويزعم انه يطلب عز العلم وشرف الدين ،ومهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو
فيمن رد عليه شيلئاا من كلمه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ويقول :إنما هو غضب للحق ،ورد على المبطل في عداوته وظلمه ،وهذا
مغرور ،فغنه لو طعن على غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب بل ربما يفرح ،وإن أظهر الغضب عند الناس فقلبه ربما
يحبه ،وربما يظهر العلم ويقول :غرضي به أفيد الخلق؛ وهو به مراءء ،لنه لو كان غرضه صلح الخلق لحب صلحهم على يد
غيره ممن هو مثله أو فوقه أو دونه.
ص 467
وربما يدخل على السلطين ويتودد إليهم ويثني عليهم ،فإذا سئال عن ذلك قال :إنما غرضي أن أنفع المسلمين وأدفع عنهم الضرر؛
وهو مغرور ،فلو كان غرضه ذلك لفرح به إذا جرى على يد غيره ،ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع في أحد لغضب.
وربما أخذ من أموالهم ،فإذا خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان :هذا مال بل مالك ،وهو لمصالح المسلمين ،وأنت إمام المسلمين
وعالمهم ،وبك قوام الدين .وهذة ثلث تلبيسات :أحدهما أنه مال ل مالك له ،والثاني أنه لمصالح المسلمين ،والثالث أنه إمام؛ وهل
يكون إماما إل من اعرض عن الدنيا كالنبياء وكالصحابة وأفاضل علماء هذة المة؟ وثمله كما قال عيسى عليه السلم :العالم
السوء كصخرة وقعت في فم الواديِ ،فل هي تشرب الماء ول هي تترك الماء يخلص إلى الزرع.
وأصناف غرور أهل العلم كثيرة وما يفسد هؤلء أكثر مما يصلحونه.
)وفرقة أخرى( أحكموا العلوم ،وطهروا الجوارح ،وبينوها بالطاعات ،واجتنبوا ظاهر المعاصي ،وتفقدوا أخلق النفس وصفات
القلب من الرياء والحسد والكبر والحقد وطلب العلو ،وجاهدوا أنفسهم في التبريِ منها ،وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية؛
ولكنهم مغرورونإذ في زوايا القلب بقايا من مكايد الشيطانن وخبايا خدع النفس ما ذق وغمض ،فلم يتفطنوا لها وأهملوها .ومثلهم
كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش ،فدار عليه وفتش عن كل حشيش فقلعه ،إل أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت
الرض ويظن أن الكل قد ظهر وبرز ،فلما غفل عنها ظهرت وافسدت عليه الزرع؛ فهؤلء إن غيروا تغيروا ،وربما تركوا
مخالطة الخلق استكبارا عنهمن وربما نظروا إلى الخلق بعين الحقارة ،وربما يجتهد البعض في تحسين منظره كيل ينظر إليه بعين
الركاكة.
)وفرقة أخرى( تركوا المهم من العلوم ،واقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات‘ ةتفاصيل المعاملت الدنيوية
الجارية بين الخلق لمصالح المعايش ،وخصصوا إسم الفقيه وسموه الفقه وعلم المذهب ،وربما ضيعوا مع ذلك علم العمال
الظاهرة والباطنة ،لم يتفقدوا الجوارح ،ولم يحرسوا اللسان عن الغيبة ،والبطن عن الحرام ،والرجل عن السعي إلى السلطين،
وكذا سائار الجوارح ،ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد وسائار المهلكات.
وهؤلء مغرورين من وجهين:
أخدهما :من حيث العلم؛ وقد ذكرنا وجه علجه في كتاب الحياء ،وأن مثلهم كمثل المريض الذيِ تعلم الداء من الحكماء ولم يعلمه
أو يعمله ،فهؤلء مشرفون على الهلك من حيث إنهم تركوا تزكية أنفسم وتخليها ،واشتغلوا بكتاب الحيض والديات واللعان
والظهارن وضيعوا أعمارهم فيها .وإنما غرهم تعظيم الخلق لهم وإكرامهم ،ورجوع أحدهم قاضليا ومفتليا؛ ويطعن كل واحد منهم
في صاحبه ،فإذا اجتمعوا زال الطعن.
ص 468
والثاني :من حيث العلم؛ وذلك لظنهم أنه ل علم إل بذلك وأنه الموصل المنجي ،وإنما الموصل المنجي حب ا تعالى؛ ول يتصور
حب ا تعالى إل بمعرفته؛ ومعرفته ثلث :معرفة الذات ،ومعرفة الصفات ،ومعرفة الفعال .وهؤلء مثل من اقتصر على بيع
الزاد في طريق الحاج ولم يعلموا أن الفقه هو الفقه عن ا ،ومعرفة صفاته المخوفة والمزجرة ،ليستشعر القلب الخوف ،ويلزم
التقويِ ،كما قال تعالى} :فلول نفر من كل فرقة منهم طائافة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون{
]التوبة.[122 :
ومن هؤلء من اقتصر من علم الفقه على الخلفيات ،ول يهمه إل تعلم طريق المجادلة واللزام وإفحام الخصم ودفع الحق لجل
الغلبة والمباهاة ،فهو طول الليل والنهار في التفتيش في مناقضات أرباب المذاهب ،والتفقد لعيوب القران ،وهؤلء لم يقصدوا
العلم وإنما قصدوا مباهاة القران ،ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيلرا لهم من علم ل ينفع إل في الدنيا والتكبر ،وذلك ينقلب في
الخرة نالرا تلظى.
وأما أدلة المذهب فيشمل عليها كتاب ا وسنة رسول ا صلى ا عليه وسلم فما أقبح غرور هؤلء!
)وفرقة أخرى( اشتغلوا بعلم الكلم والمجادلة ،والرد على المخالفين وتتبع متناقضاتهم ،واستكثروا من علم المقولت المختلفة،
واشتغل بتعليم الطريق في مناظرة هؤلء وافحامهم ،ولكنهم على فرقتين :إحداهما ضالة مضلة والخرى محقة ،أما غرور الفرقة
ضا؛ وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا الضلة فلغفلتها على ضلضلتها وظنها بنفسها النجاة ،وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بع ل
لشروط الدلة ومنهاجها ،فرأوا الشبهة دليلل والدليل شبهة .وأما غرور الفرقة المحقة فمن حيث إنهم ظنوا الجدل أنه أهم المور
وأفضل القربات في دين ا ،وزعموا أنه ل يتم لحد دينه ما لم يبحث ،وأن من صدق ا من غير بحث وتحرير لدليل فليس
بمؤمن ول بكامل ول بمقرب عند ا تعالى .ولم يلتفتوا إلى القرن الول ،وأن النبي صلى ا عهليه وسلم شهد لهم بأنهم خير
الخلق ولم يطلب منهم الدليل .وروى أبةا أمامة الباهلي رضي ا عنه عن النبي صلى ا عليه وسلم أنه قال" :ما ضل قوم قط إل
أوتوا الجدل".
)وفرقة أخرى( اشتغلوا بالوعظ ،وإعلء رتبة من يتكلم في أخلق النفس وصفات القلب ،من الخوف واالرجاء والصبر والشكر
والتوكل والزهد واليقين والخلص والصدق .وهم مغرورن لنهم لنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بهذة الصفات ودعوا الخلق إليها
فقد اتصفوا بها ،وهم منفكون عنها إل من قدر يسير ل ينفك عنه عوام المسلمين .وغرور هؤلء أشد الغرور ،لنهم يعجبون
بأنفسهم غاية العجاب ،ويظنون أنهم ما يبحروا في علم المحبة إل وهم الناجين عند ا ،وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلم الزهاد
مع خلوهم من العمل.
وهؤلء أشد غرولرا ممن كان قبلهم ،لنهم يظنون أنهم يحببون في ا ورسله ،وما قدروا على تحقيق دقائاق الخلص إل وهو
مخلصون ،ول وقفوا على حفايا عيوب النفس إل وهم عنها منزهون ،وكذلك جميع الصفات ،وهم أحب في الدنيا من كل أحد،
ص 469
ويظهرون الزهد فى الدنيا لشدة حرصهم عليها وقوة رغبتهم فيها ،ويحثون على الخلص وهم غير مخلصين ،ويظهرون الدعاء
الى ا وهم منه فارون ،ويخوفون بال وهم منه آمنون ،ويذكرون بال وهم ناسون ،ويقربون الى ا وهم عنه متباعدون ،ويذمون
الصفات المذمومة وهم بها متصفون ،ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا ،لو منعوا عن مجالسهم التى
يدعون فيها الناس الى ا لضاقت عليهم الرض بما رحبت .
ويزعمون ان غرضهم إصلح الخلق ،ولو ظهر من أقران أحدهم من أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا،
ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق ا إليه .فهؤلء أعظم غرورا،وأبعد عن التنبيه والرجوع
إلى السداد .
وفرقة اخرى عدلوا عن المهم الواجب فى الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إل من عصمه ا ،فاشتغلوا بالطاعات والشطح
وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للغراق .وطائافة اشتغلوا بتيارات النكت وتسجيع اللفاظ وتلفيقها ،وأكثر
همهم فى السجاع والستشهاد بأشعار الوصال والفراق .وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض
فاسدة .فهؤلء شياطين النس ضلوا وأضلوا ،فإن الولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلمهم ووعظهم،
وأما هؤلء فإنهم يصدون عن سبيل ا ،ويجرون الخلق إلى الغراض والغرور بال بلفظ الخرافة ،وجرأة على المعاصى ورغبة
فى الدنيا ،لسيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيلء والمرائاى ،ويعظهم بالقنوط من رحمة ا حتى ييأسوا من رحمته .
وفرقه أخرى منهم قنعوا بكلم الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا ،فيعيدونها على نحو ما يحفظون من كلم من حفظوه من غير إحاطة
بمعانيه ،فيعظهم الواحد منهم بذلك على المنابر ،وبعضهم يعظون الناس فى السواق مع الجلساء ،ويظن أنه تاج عند ا وأنه
مغفور له بحفظه كلم الزهاد مع خلوه من العمل .وهؤلء أشد غرورا ممن كان قبلهم
وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم فى علم الحديث ،أعنى فى سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه ،وطلب السانيد الغريبة العالية .
فهم أحدهم أن يدور فى البلد ويروى عن الشيوخ ليقول :أنا أروى عن فلن ،ولقيت فلنا ،ومعى من السانيد ماليسمع غيرى .
وغرورهم من وجوه :منها أنهم كحملة السفار ،فإنهم ليصرفون العناية إلى فهم السنة وتدبر معانيها ،وإنما هم مقتصرون على
النقل ،ويظنون أن ذلك يكفيهم،وهيهات بل المقصود من الحديث فهمه وتدبر معانيه ،فالول فى الحديث السماع ثم الحفظ ثم الفهم
ثم العمل ثم النشر ،وهؤلء اقتصرواعلى السماع ثم لم يحكموه ،وإن كان ل فائادة فى القتصار عليه والحديث فى هذا الزمان يقرأه
الصبيان ،وهم غرة غافلون ،والشيخ الذى يقرأ عليه ربما يكون غافل حتى يصحف الحديث ول يعلم ،وربما ينام ويروى عنه
الحديث وهو
ص 470
ل يعلم وكل ذلك مغرور وإنما الصل فى استماع الحديث أن يسمعه من رسول ا صلى ا عليه وسلم فيحفظه كما سمعه ويؤديه
كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع فإن عجز عن سماعه من رسول ا صلى ا عليه وسلم سمعه من
الصحابة أو من التابعين فيصير سماعه منهم كسماعه من رسول ا صلى ا عليه وسلم وهو أن يصغى ويحفظ ويرويه كما
حفظه حتى ل يشك فى حرف واحد منه وإن شك فإنه لم يجز له أن يرويه أو يعلم به ويخطئ به إن أخطأ
وحفظ الحديث يكون بطريقتين :أحدهما بالقلب مع الستدامة والذكر والثانى يكتب ما يسمع ويصحح المكتوب ويحفظه كيل تصل
اليه يد من يغيره ويكون حفظه للكتاب أن يكون فى خزانته محروسا حتى ل تمتد اليه يد غيره أصل ول يجوز أن يكتب سماع
الصبى والغافل والنائام ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الصبى فى المهد.
وللسماع شروط كثيرة والمقصود من الحديث العمل به ومعرفته وله مفهومات كثيرة كما للقرآن وروى عن أبى سفيان ابن أبى
الخير المنهى أنه حضر فى مجلس زاهر بن أحمد الرخسى فكان أول حديث روى قوله صلى ا عليه وسلم" :من حسن إسلم
المرء تركه مال يعنيه"
فقام وقال :يكفينى هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره .فهكذا هو سماع الناس.
)وفرقة أخرى( اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء المة إذ
قوام الدين والسنة بعلم النحو واللغة فأفنوا أعمارهم فى دقائاق النحو واللغة وذلك غرور عظيم فلو عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة
الترك والمضيع عمره فى لغة العرب كالمضيع عمره فى لغة الترك والهند وغيرهم وإنما فارقهم من أجل ورود الشرع وكفى من
اللغة علم الغريب فى الكتاب والسنة ومن النحو ما يتعلق بالكتاب والسنة وأما التعمق فيه الى درجة التناهى فهو فضول مستغنى
عنه وصاحبه مغرور
الصنف الثانى من المغرورين أصحاب العبادات والعمال
والمغرورون منهم فرق كثيرة:
منهم غروره فى الصلة.
منهم غروره فى تلوة القرآن
منهم غروره فى الحج.
منهم غروره فى الجهاد.
منهم غروره فى الزهد.
)ومنهم فرقة(أهملوا الفرائاض واشتغلوا بالنوافل وربما تعمقوا فيها حتى يخرجوا الى السرف والعدوان كالذى تغلب عليه الوسوسة
فى الوضوء فيبالغ ول يرتضى الماء المحكوم بطاهرته فى الشرع ويقدر الحتمالت البعيدة قريبة فى النجاسة وإذ آل المر
ص 471
الى أكل الحرام قدر الحتمالت القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض ولو انقلب هذا الحتياط من الماء الى الطعام لكانأولى
بدليل سير الصحابة رضى ا عنهم فقد توضأ عمر رضى ا عنه بماء فى جرة نصرانية مع احتمال ظهور المجاسة وكان مع
هذا يدع أبوابا من الحلل خوفا من الوقوع فى الحرام.
)وفرقة أخرى( غلبت عليهم الوسوسةفى نية الصلة فل يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة بل يوسوس عليه حتى تفوته الجماعة
وربما أخرج الصلة عن الوقت وإن أتم تكبيرة الحرام يكون فى قلبه تردد فى صحة نيته وقد يتوسوس فى التكبير حتى يغير فى
صفة التكبير لشدة الحتياط ويفوته الستماع للفاتحة ويفعل ذلك فى أول الصلة ثم يغفل فى جميعها ول يحضر قلبه ويغتر بذلك
ولم يعلم أن حضور القلب فى الصلة هو الواجب وإنما غره إبليس وزين له ذلك وقال له :ذلك الحتياط تتميز بع عن العوام وأنت
على خير عند ربك.
)وفرقة أخرى( غلبت عليهم الوسوسة فى إخراج حروف الفاتحة من مخارجها وكذلك سائار الذكار فل يزال يحتاط فى التشديدات
والفرق بين الضاد والظاء ل يهمه غير ذلك ول يتفكر فى أسرار فاتحة الكتاب ول فى معانيها ولم يعلم أنه لم يكلف الخالق فى
تلوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إل بما جرت به عادتهم فى الكلم وهذا غرور عظيم ومثلهم من حمل رسالة الى مجلس
السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها فأخذ يؤدى الرسالة ويتأنق فى مخارج الحروف ويعيدها مرة بعد مرة وهو مع ذلك غافل عن
مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فهذا ل شك أنه تقام عليه السياسة ويرد الى دار المجانين ويحكم عليه بفقد عقله.
)فرقة أخرى( اغتروا بتلوة القرآن فيهدروا به هدرا ربما يختمون فى اليوم و الليلةختمة وألسنتهم تجرى به وقلوبهم تتردد فى
أودية المانى والتفكر فى الدنيا ول تتفكر فى معانى القرآن لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر
بمواضع العتبار منه ويتلذذ به من حيث المعنى ل من حيث النظم فمن قرأ كتاب ا فى اليوم والليلة مائاة مرة ثم ترك أوامره
ونواهيه يستحق العقوبة وربما كان له صوت طيب فهو يقرأ ويتلذذ به ويغتر باستلذاذه ويظن أن ذلك لذة مناجاة ا سبحانه وسماع
كلمه وهيهات ما أبعده إذ لذته فى صوته فلو أدرك لذة كلم ا ما نظر الى صوته وطيبه ول تعلق خاطره به ولذة كلم ا إنما
هى من حيث المعنى فهو فى غرور عظيم.
)وفرقة أخرى( اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر وصاموا اليام الشريفة وهم فى ذلك ل يحفظون ألسنتهم عن الغيبة ول
خواطرهم عن الرياء ول بطونهم عن الحرام عند الفطار ول من الهذيان بأنواع الفضول فهؤلء تركوا الواجب واتبعوا المندوب
وظنوا أنهم يسلمون وهيهات إنما يسلم من أتى ا بقلب سليم فهم مغرورون أشد الغرور.
ص 472
)وفرقة أخرى( اغتروا بالحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلل وربما ضيعوا
الصلة المكتوبة فى الطريق وربما عجزوا عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة حتى يؤخذ منه ول يحترزون
الطريق من الرفث والخصام وربما جمع بعضهم الحرام فأنفقه على الرفقاء فى الطريق وهو يطلب به الرياء والسمعة فيعصى ا
فى كسب الحرام أول وفى انفاقه للرياء ثانيا ثم يبلغ الى الكعبة ويحضرها بقلب ملوث برذائال الخلق وذميم الصفات وهو مع ذلك
يظن أنه على خير من ربه وهو مغرور.
)وفرقة أخرى( أخذت فى طريق الخشية والمر بالمعروف والنهى عن المنكر و ينكر أحدهم الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه
وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر منكرا وأنكره عليه أحد غضب وقال :انا المحتسب فكيف تنكر على وقد
يجمع الناس فى المسجد ومن تأخر عنه أغلظ عليه فى القول وربما عرض له الرياء والسمعة والرياسة وعلمته أنه لو قام
بالمسجد غيره تجرأ عليه ومنهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن ل ولو جاء غيره وأذن فى وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال :لم أخذ
حقى وزوحمت ومنهم من يتقيد امام مسجد يظن أنه خير وغرضه أن يقال إنه إمام مسجد كذا وكذا وعلمته أنه لو قدم غيره وإن
كان أورع منه وأعلم ثقل عليه ذلك.
)وفرقة أخرى( جاوروا بمكة والمدينة واغتروا بهما و لم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا ظواهرهم وبطونهم وربما كانت قلوبهم
متعلقة ببلدهم ومنازلهم وتراهم يتحدثون بذلك ويقولون جاورت بمكة كذا وكذا سنة وهذا مغرور لن القوم له أن يكون فى بلده
وقلبه متعلق بمكة وإن جاور فليحفظ حق الجوار فإن جاور بمكة حفظ حق ا وإن جاور بالمدينة حفظ حق النبى صلى ا عليه
وسلم ومن يقدر على ذلك وهؤلء مغرورون بالظواهر فظنوا أن الحيطان تنجيهم وهيهات وربما لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها
على فقير وما أصعب المجاورة فى حق الخلق فكيف مجاورة الخالق وما أحسن مجاورته بحفظ جوارحه وقلبه.
)وفرقة أخرى( زهدت فى المال وقنعت من الطعام واللباس بالدون ومن المسكن بالمساجد و ظنوا أنهم أدركوا رتبة الزهاد ومع
ذلك راغبون فى الرياسة والجاه والرياسة إنما تحصل بأحد أشياء :إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد تركوا أهون المرين
وبادروا إلى أعظم المهلكات لن الجاه أعظم من المال ولو ترك أحدهم الجاه وأخذ المال كان إلى السلم أقرب؟
وهؤلء مغرورون ظنوا أنهم من الزهاد فى الدنيا وهم لم يعلموا معنى الدنيا وربما يقدم الغنياء على الفقراء ومنهم من يعجب
بعلمه ومنهم من يؤثر الخلوة والعزلة وهو عن شروطها خال ومنهم من يعطى المال فل يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده وهو
راغب فى المال والناس خائاف من ذمهم ومنهم من شدد على نفسه فى أعمال الجوارح حتى يصلى فى
ص 473
اليوم والليلة مثل ألف ركعة ويختم القرآن وهو فى جميع ذلك ل تخطر له مراعاة القلب وتفقده من الرياء و الكبر والعجب وسائار
المهلكات وربما يظن أن العبادات الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات وهيهات ذرة من ذى تقوى وخلق واحد من خلق الكياس
أفضل من أمثال الجبال عمل بالجوارح ثم قد يغتر بقول من يقول له :إنك من أوتاد الرض أو من أولياء ا وأحبابه فيفرح بذلك
ويظهر له تزكية نفسه ولو شوتم يوما واحدا مرتين أو ثلثا لكفر وجاهد من فعل ذلك وربما قال لمن سبه ل يغفر ا لك أبدا.
)وفرقة أخرى( حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائاض فترى أحدهم يفرح بصلة الضحى وصلة الليل وأمثال هذه
النوافل ول يجد لصلة الفرض لذة ول خيرا من ا تعالى لشدة حرصه على المبادرة بها فى أول الوقت وينسى قوله صلى ا
عليه وسلم" :ما تقرب المتقربون بأفضل من أداء ما افترضه ا عليهم".
وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور بل قد يتعين على النسان فرضان :أحدهما يفوت ولأخر ل يفوت أو نفلن أحدهما
يضيق وقته والخر يتسع وقته فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا ونظائار ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة وإنما
الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائاض كلها على النوافل وتقديم فروض العيان على فروض الكفايات التى ل
قائام بها على ما قام بها غيره وتقديم الهم من فروض العيان على من دونه وتقديم مايفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد
وتقديم نفقة الوالدين على الحج وتقديم الجمعة لذا حضر وقتها على العيد وتقديم الدين على فروض غيره وما أعظم العبد أن ينفذ
ذلك ويتنبه ولكن الغرور فى الترتيب دقيق حفى ل يقدر عليه إل العلماء الراسخون فى العلم.
الصنف الثالث من المغرورين أرباب الموال
وهم فرق كثيرة:
)فرقة منهم( يحرصون على بناء المساجد والمدارسو الرباطات والقناطر والصهاريج للماء وما يظهر للناس ويكتبون أسماءهم
بالجر عليه ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون أنهن استحقوا المغفرة بذلك وقد اغتروا فيه من وجهين:
أحدهما :أنهم اكتسبوا من الظلم والشبهات والرشا والجاهات المحظورة فهؤلء قد تعرضوا لسخط ا فى كسبها فإذا عصوا ا فى
كسبها فالواجب عليهم التوبة ورد الموال الى أهلها إن كانوا أحياء والى ورثتهم ان لم يبق منهم أحد وانقرضوا وان لم يبق لهم
ورثة فالواجب عليهم أن يصرفوها فى أهم المصالح وربما يكون الهم التفرقة على المساكين فأى فائادة فى بنيان يستغنى عنه
ويموت بتركه وإنما غلب على هؤلء الرياء والشهرة ولذة الذكر.
ص 474
والوجه الثانى :أنهم يظنون بأنفسهم الخلص وقصد الخير فى النفاق وعلو البنية ولو كلف واحد منهم أن ينفق دينارا على
مسكين لم تسمح نفسه بذلك لن حب المدح والثناء مستكين فى باطنه.
)وفرقة أخرى( ربما اكتسبوا المال الحلل واجتنبوا الحرام وأنفقوا على المساجد وهم أيضا مغرورون من وجهين:
أحدهما:الرياء وطلب السمعة والثناء فإنه ربما يكون فى جواره وبلده فقراء وصرف المال اليهم أهم فإن المساجد كثيرة والغرض
منها الجامع وحده فيجزئ عن غيره وليس الغرض بناء مسجد فى كل سكة وكل درب والمساكين والفقراء محتاجون وإنما عليهم
دفع المال فى بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس ول يسمع فى الثناء عليه من عند الخلق فيظنأنه يعمل ل وهو يعمل لغير ا
)ونيته أعلم بذلك وإنما نيته عليه غضب وقال إنما قصدت ا عز وجل(.
والثانى :أنه يصرف فى زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهى عنها الشاغلة قلوب المصلين لنهم ينظرون اليها فتشغلهم عن
الخضوع فى الصلة عن حضور القلب وهو المقصود فى الصلة فكل ما طرأ فى صلتهم وفى غير صلتهم فهو فى ميزان الذى
بناه إذ ل يحل تزيين المسجد بوجه قال الحسين رضى ا عنه :لما أراد رسول ا صلى ا عليه وسلم أن يبنى مسجده بالمدينة
أتاه جبريل وقال :ابنه سبعة أذرع طول فى السماء فل تزخرفه ول تنقشه فهؤلء رأوا المنكر معروفا واتكلوا عليه فهم مغرورون
فى ذلك.
)وفرقة أخرى( ينفقون الموال فى الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشكر
وإفشاء المعروف فيكرهون التصدق فى السر ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم خيانة عليهم وكفرانا للمعروف وربما تركوا
جيرانهم جائاعين ولذلك قال ابن عباس رضى ا عنه :فى أخر الزمان يكثر الحاج بل سبب يهوى السفر ويبسط لهم فى الرزق
ويرجعون مجرمين يهوى بأحدهم بعيره بين القفار والرمال وجاره مأثور الى جنبه فل يواسيه ول يتفقده.
)وفرقة أخرى( من أرباب المول يحتفظون بالموال ويمسكونها بحكم البخل ويشتغلون بالعبادة البدنية التى ل يحتاجون فيها الى
نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن وهم مغرورون لن البخل المهلك قد استولى على بطونهم فهم محتاجون الى قمعه
بإخراج المال فاشتغلوا بطلب فضائال وهم مشتغلون عنها ومثلهم كمثل من دخلت فى ثوبه حية وقد أشرف على الهلك فاشتغل
بطلب السكنجبين ليسكن به الصفراء ومن لدغته الحية كيف يحتاج الى ذلك وقيل لبشر الحافى :إن فلنا كثير الصوم و الصلة
فقال :المسكين ترك حاله ودخل فى حال غيره إنما حال هذا إطعام الطعام للجائاع والنفاق على المساكين فهو أفضل له من تجويع
نفسه ومن صلته مع جمعه الدنيا ومنعه الفقراء.
ص 475
)وفرقة أخرى( غلب عليها البخل فل تسمح نفوسهم إل بأداء الزكاة فقط ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الردئ الذى يرغبون
عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد فى حوائاجهم أو من يحتاجون اليه فى المستقبل للستئاجار له فى الخدمة ومن لهم فيه
على الجملة غرض ويسلمونها الى شخص بعينه واحد من الكبار ممن يستظهر بخشيته لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجته وكل
ذلك مفسد للنية ومحبط للعمل وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع ل وهو فاجر إذ يطلب بعبادة ا غرضا من غيره فهذا وأمثاله
مغرورون بالموال.
)وفرقة أخرى( من عوام الخلق أرباب الموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم فاتخذوا
ذلك عادة ويظنون أن لهم أجرا على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون التعاظ فهم مغرورون لن فضل مجالس الذكر إنما
يحصل لكونها مرغبة فى الخير فإن لم تهيج الرغبة فل خير فيها والرغبة محمودة لنها تبعث على العمل فإن لم تبعث على العمل
فل خير فيها وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ وربما تداخله رقة كرقة النساء فيبكى وربما يسمع كلما مخوفا فل يزال يصفر بين
يديه ويقول يا سل سلم ونعوذ بال و حسبى ا ول حول ول قوة ال بال ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور وإنما مثله كمثل
المريض الذى يحضر مجالس الطباء ويسمع ما يصفونه من الدوية ول يفعلها ول يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك وكذلك
الجائاع الذى يحضر عند من يصف الطعمة اللذيذة فكل وعظ ل يغير منك صفة تغييرا تتغير به أفعالك حتى تقبل ا عزوجل
وتعرض عن الدنيا وتقبل اقبال قويا وإن لم تفعل بذلك الوعظ كان زيادة حجة عليك فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا.
الصنف الرابع من المغروروين المتصوفة
وما أغلب الغرور على هؤلء وما المتصوفة ال من أهل هذا الزمن ال من عصمه ا اغتروا بالزى والمنطق والهيئاة فشابهوا
الصادقين من الصوفية فى زيهم وهيئاتهم وألفاظهم وأجابهم ومراسمهم واصطلحتهم وأحوالهم الظاهرة فى السماع والرقص
والطهارة والصلة والجلوس على السجادة مع إطراق الرأس وإدخاله فى الجيب كالمتفكر مع تنفيس الصعداء وفى خفض الصوت
من الحديث وفى الصياح الى غير ذلك فلما تعلموا ذلك ظنوا أن ذلك ينجيهم فلم يتعبوا أنفسهم قط بالمجاهدة والرياضة والمراقبة
للقلب وتطهير الباطن والظاهر من الثام الجلية والخفية وكل ذلك من منازل التصوف ثم إنهم يتكالبون على الحرام والشبهات
وأموال السلطين ويتنافسون فى الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما
خالفه فى شئ من غرضه.
ص 476
فهؤلء غرورهم ظاهر فمثلهم كمثل العجوزسمعت أن الشجعان والبطال والمقاتلين ثبتت أسماؤهم فى الديوان فتزينت بزيهم
ووصلت الى الملك فعرضت على ميزان العرض فوجدت عجوز سوء فقيل لها أما تستحى فى استهزائاك بالملك اطرحوها حول
الفيل فطرحت حول الفيل فركضها فقتلها.
)وفرقة أخرى( زادت على هؤلء فى الغرور إذ صعب عليها القتداء فى بذالة الثياب والرضا بالدون فى المطعم والمنكح
والمسكن وأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بدا من التزيى بزيهم فتركت الخز والبريسم وطلبت المرقعات النفيسة والفوط
الرفيعة والسجادات المصوغات وقيمتها أكثر من قيمة الخز والبريسم ول يجتنبون معصية ظاهرة فكيف بالباطنة وإنما غرضهم
رغد العيش وأكل أموال السلطين وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وضرر هؤلء على المسلمين أشد من ضرر اللصوص
لنهم هؤلء يسرقون القلوب بالزى فيقتدى بهم غيرهم فيكونون سبب هلكهم فإن اطلع على فضائاحهم فيظنون أن أهل التصوف
كذلك فيصرخون بذم الصوفية على الطلق.
)وفرقة أخرى( ادعت علم المكاشفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والوصل والملزمة فى عين الشهود والوصول الى القرب
ول يعرف ذلك والوصول اليه ال باللفظ والسم فتلقف من اللفاظ الطامة كلمات فهو يرددها وهو يظن أن ذلك من أعلى علم
الولين والخرين فهو ينظر الى الفقهاء والمقرئاين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الزدراء فضل عن العوام حتى إن الفلح
ليترك فلحته والحائاك حياكته ويلزمهم أياما معدودة فيتلقف تلك الكلمات الزائافة فتراه يرددها كأنه يتكلم عن الوحى ويخبر عن
أسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول فى العباد :أجراء متعبون ويقول فى العلماء :إنهم بالحديث محجوبون ويدعى
لنفسه أنه الواصل الى الحق وأنه من المقربين وهو عند ا من الفجار المنافقين وعند أرباب القلوب من الحمقاء الجاهلين لم يحكم
قط علما ولم يهذب خلقا ولم يرتب علما ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان ولو اشتغل بما ينفعه كان أحسن له.
)فرقة أخرى( جاوزت هؤلء فأحسنت العمال وطلبت الحلل واشتغلت بتفقد القلب وصار أحدهم يدعى المقامات من الزهد
والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلمتها وآفاتها فمنهم من يدعى الوجد ويحب ا
ويزعم أنه واله بال ولعله قد يخيل بال خيالت فاسدة هى بدعة أو كفر فيدعى حب ا قبل معرفته وذلك ل يتصور قط ثم إنه ل
يخلو قط مايفارقه ما يكرهه ا وإيثار هوى النفس على أوامر ا وعن ترك بعض المور حياء من الخلق ولو خل بنفسه لما
تركها حياء من ا وليس يدرى أن كل ذلك يناقض الحب وبعضهم يميل الى القناعة والتوكل فيخوض البوادى من غير زاد
ليصحح التوكل وليس يدرى أن ذلك بدعة لم
ص 477
تنقل عن الصحابة وسلف هذه المة وكانةا أعلم بالتوكل منه مافهموا التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد
وهم متوكلون على ا ل على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سب من السباب واثق به.
وما مقام من المنجيات المنجية ال وفيع غرور وقد اغتر بها قوم وقد ذكرنا مداخل الفات فيها فى ربع المنجيات من كتاب الحياء.
)وفرقة أخرى( ضيقت على أنفسها أمر القوت حتى طلبت منه الحلل الخالص وأهملت تفقد القلب والجوارج من غير هذه
الخصلة الواحدة.
ومنهم من استعمل الحلل فى مطعمه وملبسه ومكسبه ويتعمق فى ذلك ولم يدر أن ا لم يرض من العباد إل الكمال فى الطاعات
فمن اتبع البعض واهمل البعض فهو مغرور.
)وفرقة أخرى( ادعت حسن الخلق والتواضع والسماحة فقصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا فوما وتكلفوا خدمتهم واتخذوا ذلك شبكة
لحطام الدنيا وجمعا للمال وإنما غرضهم التكثير والتكبير وهم يظهرون الخدمة والتواضع ويطلبون أن غرضهم الرتفاق
وغرضهم الستتباع ويظهرون أن غرضهم الخدمة وهم يجمعون الحرام والشبهات لينفقوا عليهم فتكثر أتباعهم وينتشر بتلك
الخدمة ذكرهم ومنهم من يأخذ من أموال السلطين وينفق عليهم ومنهم من يأخذ من أموال السلطين والظلمة لينفق ذلك بطريق
الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والنفاق والباعث للجميع إنما هو الرياء والسمعة وذلك إهمالهم لجميع أوامر ا
ورضاهم بأخذ الحرام والنفاق منه مومثال الذى ينفق المال الحرام فى طريق الحج كمن يعمر مسجدا ويطينه بالعذرة وغيرها من
النجاسات ويزعم أن قصده العمارة.
)وفرقة أخرى( اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الخلق وتطهير النفس من عيوبها فصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب
النفس ومعرفة خدعها علما وحرفة لهم فهم فى جميع أحوالهم مشتغلون بالتحفظ من عيوب النفس باستنباط دقيق الكلم فى آفاتها
فيقولون هذا فى النفس عيب والغفلة عن كونه عيبا عيب ويستعفون فيه بكلمات مسلسلة فضيعوا فى ذلك أوقاتهم لنهم وقعوا مع
أنفسهم ولم يتعلقوا بخالقهم ومثلهم من اشتغل بأوقات الحج وعوائاقه ولم يسلك طريق الحج وذلك ل يغنيه عن الحج فهو مغرور.
)وفرقة أخرى( جاوزت هذه المرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتحت لهم أبواب المعرفة فلما شموا من مبادئ المعرفة رائاحة
تعجبوا منها وفرحوا بها أعجبتهم غرائابها فتعلقت قلوبهم باللتفات اليها والتفكر فيها وفى كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على
غيرهم وذلك غرور لن عجائاب طريق ا ليس له نهاية فمن وقف مع كل أعجوبة
ص 478
وتقيد قصرت خطاه وحرم الوصول الى المقصد ومثال ذلك من قدم على ملك فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار
ولم يكن قد رآها قبل ذلك ول رأى مثلها فوقف ينظر اليها حتى فاته الوقت الذى يكون فيه لقاء الملك فانصرف خائابا.
)وفرقة أخرى( جاوزت هؤلء ولم تلتفت الى ما يفيض عليها من النوار فى الطريق ول الى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم
يلتفتوا اليها ول عرجوا عليها بل أخذوا جادين فى السير فلما قاربوا الوصول ظنوا أنهم وصلوا فوقفوا ولم يتعدوا ذلك فغلطوا فإن
ل سبحانه وتعالى سبعين حجابا من ونور وظلمة ول يصل السالك الى حجاب من تلك الحجب ال ويظن أنه قد وصل واليه
الشارة بقوله إخبارا عن إبراهيم عليه السلم " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال ل أحب الفلين"]النعام:
.[76
بسم ا الرحمن الرحيم
سر العالمين وكشف ما فى الدارين
خطبة الكتاب
الحمدل الول فى ربوبيته والقديم فى أزليته والحكيم فى سلطنته والكريم فى عزنته ل شبيه له فى ذاته وصنعته ول نظير له فى
مملكته صانع كل شئ مصنوع بقدرته المتكلم بكلمه الزلى ليس بخارج من صفته أحمده على نعمته وأستعين به على دفع نقمته
هو ا ربى وحده ل شريك له الواحد فى ربوبيته الذى يختص من يشاء برحمته ختم النبياء بمحمد صلى ا عليه وسلم وعلى آله
وعترته.
أما بعد:
فما رأيت أهل الزمان هممهم قاصرة على نيل المقاصد الباطنة والظاهرة وسألنى جماعة من ملوك الرض أن أضع لهم كتابا
معدوم المثل لنيل مقاصدهم واقتناص الممالك وما يعينهم على ذلك استخرت ا فوضعت لهم كتابا وسميته بكتاب " سر العالمين
وكشف ما فى الدارين" وبوبته أبوابا ومقالت وأحزابا وذكرت فيه مراتب صوابا وجعلته دال على طلب المملكة وحاثا عليها
وواضعا لتحصيلها أساسا جامعا لمعانيها وذكرت كيفية ترتيبها وتدبيرها فهو يصلح للعالم الزاهد وشريك شرك المالك بتطيب
قلوب الجند وجذبهم اليه بالمواعظ فأول من استحسنه وقرأه على بالمدرسة النظامية سرا من الناس فى النوبة الثانية بعد رجوعى
من السفر رجل من أرض المغرب يقال له محمد بن تومرت من أهل سلمية وتوسمت منه الملك وهو كتاب عزيز ل يجوز بذله
لنه تحته أسرارا تفتقر الى كشف إذ طباع العالم نافرة عنها وتحته علوم عزيزة وإشارات كثيرة دالى على غوامض أسرار ل
يعرفها إل فحول العلماء فال يوفقك للعمل به فإنه دال على كل ما تريد إن شاء ا تعالى.
ص 479
ترجمة البواب وهى ثلثون مقالة
فصل
اعلم أن الملك عظيم وعقيم عليه وقع الشتباك والمناقشة بين الصالح والطالح والخاسر والرابح فمنه يتشعب الحسد وكل عرض
وغرض مزعزع فلبد من أصل ومرتبة وتحصيل وصبر وجمع أموال لبلوغ المال وأم الغرر فى تحصيله هو علو الهمة كما قال
معاوية رضى ا عنه :هموا بمعالى المور لتنالوها! فإنى لم أكن للخلفة أهل فهممت بها فنلتها وقد سرت بك قصص الولين
فانظر فى أخبارهم وآثارهم! فما بلغ أحد درجة الملك بأب وأم غير قليل وكم نزع الملك من يد وارث مستحق مثل بيت نبينا محمد
صلى ا عليه وسلم.
وسنتلوا عليك نبذا من قصة ذى القرنين:وهو صعب بن جبل وأبوه نساج واسم أمه هيلنة كان يتيما فى بنى حمير سمعت أمه ببيت
الصنائاع فى مدينة قسكنطين فحملت ابنها الى ذلك البيت فشاهد صورة الملك فوق الصنائاع فقالت أمه يا بنى اختر منها ماتريد
فوضع يده على تاج الملك فانتهرته مرارا فلم ينته فنظر اليها يونان فقال له أنت هيلنة وهذا ابنك صعب بن جبل؟ فقالت نعم فقال
آخذ عهد ذى القرنين وزمامه على أنى وذريتى فى أمانك فأنت الملك الذى تسحب ذيلك بطريق التملك شرقا وغربا فحملته أمه الى
أرض بابل كاتمة أمره فكان من بدو أمره وشواهد سعادته ثلث منامات رآهن فى ثلث ليال فأولهن أنه رأى كأن الرض صارت
خبزا فأكلها وفى الثانية رأى أنه قد شرب البحار وأكل طينها وفى الثالثة رأى كأنه رقى فى السماء فقد نجومها ورماهن فى
الرض وركب الشمس وسحب ناحية القمر فما اجتمع بالخضر عليه السلم فسر عليه فبشره بنيل الملك العظم وستصحب نبيا
وحكيما وكم من مثله إن اعتبرت فاركب بسر علو الهمة وحصل النتهاء ليتم لك كيمياؤها وصير عندك نديما كاتما مطلعا على
كتبها أعنى بها كتب سر العالمين ثم حصل أرباب صناعة التقليب الذين هم علماء تقلب الكيمياء قادرين على صبغ الحمر
والبيض فإن كنت قليل الحجال ضعيف العضد وقليل المال فكن كثير الفضل والعلم واتخذ لنفسك زاوية على طريق التزهد
واجذب اليك تلميذ وكثرعددهم واتخذ طريق الكرامات لينصبوا إليك واستهوا الكبار واسلك طريق الصلح وزنها لنفسك واختل
فإذا هب نسيم سعادتك فاكشف لتلميذك ما الناس عليه من فسق وفجور وارتكاب ما ل يجوز من كل أمر منكر و أمر أصحابك
تستهوى وتجذب كل طائافة منهم لطائافة قوم أخرين فإذا استقوت شرذمتك فخذ الخواص من الناس باللين والموعظة والمعاندين
بالجدل وأولى الغلظة بالغلظة ألم تر الى بدو السلم " قل
ص 480
ب {محمد . 4وعند ب الرَردقا ه
ضلر د }قالل ديا أدميدها اللدكاهفارودن {الكافرون . 1فلما وصل إلى قمة السعادة قر سيفه }دفهإذا لدهقياتام الاهذيدن دكدفاروا دف د
الضعف والمسالمة أخذ الجزية والصلح }دوهإن دجدناحولا هللاسللهم دفالجدنلح دلدها {النفال . 61وعند ربح السعادة ,وارتفاع أطناب خيم
اا دعهزيسز دحهكيسم {النفالخدردة دو ي
اا ايهرياد ال هض المدلنديا دو ي ض اتهريادودن دعدر د خدن هفي الدلر ه
الرادة }دما دكادن لهدنهبيي دأن دياكودن دلاه أدلسدرى دحاتى ايلث ه
.67فكن أيها الطالب للملك على هذه الوتائار ,وخاطب الناس على قدر عقولهم ,وأظهر العدل ,واحترم أولي الفضل ,وأشبع
الجند ,واجبر الكسير ,وأنصف ولو من نفسك ,وأشبع احاجابك وحكامك وعمالك فإن لم تفعل سرت الرشوة إلى بطلن الحق
وتعطيله ,وفشا ظلمك في الرعية ,ومالت القلوب عنك ,وربما ذهبت باطنا ل وظاهرال .واعلم أن المظلوم له همة تكون وافية في
عكس أغراضك ,مثل همم أرباب الستقامة ,فإنها مؤثرة في الفلك لستجلب ماء الغمام .وسأتلوا عليك قصة السلطان ابن
سملتكين وقد نفذ رسولل إلى ملك الهند وقال :ما سبب طول أعماركم مع جحودكم للصانع وتكذيبكم للرسل والوسائاط ,ونحن
قصار العمار مع تصديقنا وإيماننا ؟ فقال ملك الهند لرسوله :انظر إلى هذه الشجرة التي فوقها ثمرة ,ل أعطيك الجواب حتى
تنقطع .ثم أمر بالدرار عليه وحسن القامة ,فضاق صدره وتعلقت همته بقلعها ,فلم يك إل مدة قريبة إذ سمع هزة وقعت
والناس يهرعون ,ومشى معهم ,فإذا الشجرة واقعة والملك مفكر ,فلما بصر الملك بالرسول قال له :اذهب فهذا جوابك ,وقل
للسلطان هذه همة واحدة أثرت في قلع شجرة مثمرة ,فكيف همم جماعة من المظلومين ل تؤثر في قلع الظالمين ! إذ دعاء
المظلوم محمول فوق الغمام ,وقد ورد في بعض الكتب السالفة :أنا الظام إن لم أنتقم من الظالم .واعلم أن العدل وبسط باع
السلطنة بالهيبة مثل القتل والصلب والقطع يثمر المن وتمهيد الرض وطمأنينة قلوب الرعية ,إذ السلطان ظل ربه في الرض
ص دحدياةس {البقرة وملجؤها ,يأوى إليه كل مظلوم .ول تستهب وضع الشيء في مكانه إذ " القتل أنفى للقتل " }دولداكلم هفي اللهق د
صا ه
. 179وكان عمرو بن العاص صحابيا ل بدريا ل نبه معاوية رضي ا عنه وجسره على فظائاع الفعال بقصائاده اللمية والنونية
التي قال فيها :
يِ هفي الحلهق ل نفد دلاه امدعاو ي
ك فلته عل
ل د د بايد أ مد ل رَ
ني إ يِ
ي امدعاو
حددهفينا ل وللو دمارة في الدلههر دوا ه
ا س د
دودكلم للاشيهخ هعلنهديِ ملن دخدزايا
دتادمل دلدها الدمدغاهزيِ والدمدخاهزيِ
وطريق آخر في استدعاء المملكة وترتيبها وهو بذل الموال ,وطريق آخر وهو
ص 481
بالسيف معقود ,لكنه مفتقر إلى ترك الشح مع الجند وإجلء دعوة المظلوم ,ول يتعرض إلى الشقوص الموقوفة .
ولتجعل للرعية والسواد في كل يوم لمطالعة أحوالهم ,فقد يتشعب الظلم مع الغفلة ل سيما مع الحاجاب والعمال ,ولتنظر في
مخازيِ الكتاب فما كذبت بنت كسرى إذ سمعته ديوانا ل ,ولتنظر في وقت العشيي ما كتبه الكاتاب بالنهار ,ل يتم عليه حيل أرباب
صاد لغفلة الملك عنه .فإذا أردت أن ل تنحجب عنك حال فامنع الكلم ,وأمر بأخذ القصاص , الدساتير ,فكم من مظلوم عن حقه ا
ووقع فيها بما تراه وا تعالى أعلم .
باب الترتيب في قعود الملك وسياسته ونومه وليلته
إذا صليت صبحك تقعد في ذكر ا تعالى إلى طلوع الشمس ,ثم تأمر أهل دارك ومن حولك بما تريده من حوائاجك من مأكل
ومشرب ,ثم تركب لتسمع أو يلقاك محجوب أو تلبي مظلوما ل أو تطلع على الحوادث ,ثم تعود وأنت محفوف بالقعقعة والسلح
والتحرز من طمع العداء ,ثم تقعد في دار عيد لك لكشف المظالم وسماع الرسل :تترك الناس صفين يمينا ل وشمالل والوسط
مفتوح لئال يحجب عنك منظوسر وصاحب حاجة وتسأل عمن تنكره ,ول تستخدم من ل تعرفه إل بخبرة أو ضمان أو تسليم إلى
عقيدة .وليكن لك جماعة من أرباب العلم والعقل والتجارب في الرأيِ والمشورة ,ووزراء خير ل فسقة ,فمن ليس بأمين لنفسه
فكيف على سواه ؟ ثم تنهض من مجلسك في الظهر ,وليكن للملك عين في الديوان لما يجريِ فإذا دخل منزله بسط الطعام ومد
الخوان للجند والخوان .وليكن كثير التعهد والتفقد وجبر القلوب المنكسرة .وليكن على الطبيخ أميسن ما أساء إليه ,فإن القلع ثمر
الساءة ,ثم يأخذ طعم الطبيخ طابخه ,ثم حامله ,ثم واضعه عند الملك ,يغمس اللقمة ,في جميعه ,فقد مات شهريار بن ذار
بنصف تفاحة قطعت ,وقد مات شاسان بنصف قدح شراب سلم شريكه مع عطبه ,وقد اسرَم النبي صلى ا عليه وسلم بذراع
مشويِ للسر في محبته له لقرب المشرع من المسعى ,وقد دسام أبو لؤلؤة السهرَكينة التي قتل بها ابن الخطاب رضي ا عنه ,ودسام
عبد الرحمن بن ملجم سييفا ضرب به قمة أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم ا وجهه ,ودسامت حصار بنت خوجة بنت كعب
ب عنب غير مغسول . الغساني زوجها الحسن بن علي رضي ا عنهما ,وكان الصل أنه شاء يوما ل دح ي
وكم مثل ذا في الدهر ما ليس يحصر
وتحترز من السموم في طعامك وشرابك ولباسك ومنامك حتى مناديل فراشك ,وليكن خارج العالم مجردال مسودال مداخلل في
معرفة غوامض أحوالهم بالترسل والتجسس
ص 482
وكشف علوم من البلد بجواسيس شارحة متنكرة مختلفة مثل فقير و صوفيي وتاجر وطبيب وكتبة ,وقد كان المأمون له أصحاب
خير يستجلبون له أخبارال من الطرقية .هكذا سنن الملوك .
فصل وهو المقالة الثالثة
ويستحب للملك سهر أول الليل إلى نصفه لقضاء المهمات والقصص المستورات ,ونوم النهار عون على سهر الليل يذهب تعب
السهر ,والحماام من غير إطالة محبوب ,والتعهد بالشربة الموافقة للمزجة .وليحترز من تزوير العلئام ويمتحن ويستدرك ,
فالخطوط تشتبه ,فأول داهية عثمان بن عفان رضي ا عنه كانت من توقيع محمد بن أبي بكر رضي ا عنهما وهي مذكورة في
سير الناس يتداول بها القصاص .ول يفضل السراريِ والنساء ,فقد يحصل من مراجيح الغيرة ما ل طاقة به ,فكم محمول على
الغيرة ثمرتها أعظم من ثمرة الحسد .ويجب على الملك أن يكون وحيدال ل أحد له من حيث السياسية ,ول يركن إلى المن من
خوف الذم ,فبرهان الشعر ظاهر من قوله :
دفدللم دتدزلل هقلااة الهلنصاف دقاطدعية
حم لناهم دولدلو دكاانوا دذهويِ در ه دبليدن ا د
ل
ويجب عليه التعهد لصحاب أبيه ولو كان فقيرا ,ومراعاة أصحابه الذين كانوا معه قبل سلسل التمليك ,فمن لطافة رسول ا
صلى ا عليه وسلم أنه كانت تردد إليه امرأة يهودية فنهض لها قائاما ل فقالت له في ذلك عائاشة رضي ا عنها :أتقوم لمرأة
ليماهن " وبزيادة الشعر قادح . يهودية قائاما ل ؟ فقال " :دههذهه دكادن ل
ت دتدتدراداد إدلليدنا في دزدمهن دخديدجدة رضي ا عنها دواحلسان الدعلهد همدن ا ه
ل اتلهق في بئار شربت ازلددلها
دقدذدرال فمنه يقال إنك غادر
باب في ترتيب الخلفة والمملكة
اختلف العلماء في ترتيب الخلفة وتحصيلها لمن أدلمارها إليه ,فمنهم من زعم أنها بالنص ,ودليلهم قوله تعالى } :اقل لرَللامدخلاهفيدن همدن
اا أدلجرال دحدسنا ل دوهإن دتدتدولالوا دكدما دتدولالياتم رَمن دقلبال
س دشهديءد اتدقاهتالودناهلم أدلو ايلسلهامودن دفهإن اتهطياعوا ايلؤهتاكام ا ل ا اللدلعدرا ه
ب دساتلددعلودن إهدلى دقلوءم ألوهلي دبأ ء
ايدعرَذلباكلم دعذابا أهليما {الفتح . 16وقد دعاهم أبو بكر رضي ا عنه إلى الطاعة بعد رسول ا صلى ا عليه وسلم فأجابوه .وقال ل د ل د
ك اهدو الدخهليدفاة هملن جهه دحهديثا ل {التحريم . 3قال في الحديث " :إان أددبا د ض أدلزدوا ه بعض المفسرين في قوله تعالى } :دوإهلذ أددسار الانهبمي إهدلى دبلع ه
دبلعهديِ " وقالت امرأة :إذا فقدناك فإلى من نرجع ؟ فأشار إلى أبي بكر رضي ا عنه ولنه أيم بالمسلمين على بقاء
ص 483
رسول ا صلى ا عليه وسلم ,والمامة عماد الدين .هذا جملة ما يتعلق به القائالون بالنصوص ,ثم تألوا لو كان عليي أول
الخلفاء لنسحب عليه ذيل الفتى ولم يأتوا بفتوح ول مناقب .ول يقدح في كونه رابعا ل كما ل يقدح في نبوة رسول ا إذا كان آخرال
.والذين عدلوا عن هذه الطريق زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء على زعمكم وأهويتكم ,فقد وقع الميزان في الخلفة والحكام مثل
داود وسليمان وزكريا ويحيى ,قالوا لزواجه :لمن الخلفة ؟ فبهذا تعلقوا وهذا باطل ,ولو كان ميراثا ل لكان العباس ,لكن
أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم عيد غدير اخرَم باتفاق الجميع وهو يقول " :دملن اكلن ا
ت
دملولها دفدعلهرَي دملولها " فقال عمر :بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت موليِ ومولى كل مولى ,فهذا تسايم ورضى وتحكيم .ثم بعد
ذلك غلب الهوى لحب الرياسة ,وحمل عمود الخلفة وعقود النبوة وخفقان الهوى فعادوا إلى الخلف الول ,فنبذوه وراء
ظهورهم واشتروا به ثمنا ل قليلل .ولما مات رسول ا صلى ا عليه وسلم قال قبل وفاته " :الئااتوا هبدددواة ل اهزيل لداكلم إهلشدكال اللمهر
د
حمق لددها دبلعهديِ " قال عمر رضي ا عنه :دعوا الرجل فإنه ليهجر ,وقيل يهدر .فإذا بطل تعلقكم بتأويل النصوص دوأدلذاكدر دمهن الاملسدت ه
فعدتم إلى الجماع :وهذا منصوص أيضا ,فإن العباس وأولده ,وعلييا وزوجته وأولده لم يحضروا حلقة البيعة ,وخالفكم ل
أصحاب السقيفة في متابعة الخزرجي .ودخل محمد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته فقال :يا بني ائات بعمك لوصي له
ص بها لولدك إن كان حاقا ل ,أو ل فقد مكنتها بك بالخلفة ! فقال :يا أبت أكتب على حق أو باطل ؟ فقال :على حق ,فقال :دو رَ
لسواك ,ثم خرج إلى عليى .فجرى قوله على منبر رسول ا صلى ا عليه وسلم :قوموني لست خيركم .أفقال هزلل أو جدال أو
امتحانا ل ؟ فإن كان هزلل فالخلفاء منزهون عن الهزل ,وإن قاله جرَدا فهذا نقض للخلفة ,وإن قاله امتحانا ل } ...دودندزلعدنا دما هفي
صادوهرههم رَملن هغيل {العراف . 43فإذا ثبت هذا فقد صارت إجماعا ل منهم وشورى بينهم .هذا الكلم في الصدر الول ,أما في ا
زمن عليى رضي ا عنه ومن نازعه فقد قطع المشرع صلى ا عليه وسلم طول اكرَم الخلفة بقوله عليه الصلة والسلم " :إهدذا
ابويدع لللدخهليدفدتليهن دفالقاتالوا ال ادخدرى هملناهما " والعجب كل العجب من حق واحد كيف ينقسم ضربين ,والخلفة ليست بقسم ينقسم ,ول
بعرض يتفرق ,ول بجوهر يحد ,فكيف يوهب ويباع .وفي حديث أبي حازم :أول حكومة تجريِ في المعاد بين علي ومعاوية
ك الهفدئااة الدباهغدياة " فلفيحكم ا لعليي بالحق والباقون تحت المشيئاة .وقول المشرع صلى ا عليه وسلم لعمار بن ياسر " :دتلقاتلا د
ينبغي للمام أن يكون باغيا ل .والمامة ل تليق لشخصين كما ل تليق الربوبية لثنين .إنما الذين بعدهم طائافة تزعم أن يزيد لم يكن
راضيا ل بقتل الحسين ,فسأضرب لك مثلل في
ص 484
ملكين اقتتل فملك أحدهما أفتراه يقتله العسكر على غير اختيار صاحبها إل غلطا ل ؟ ومثل الحسين ل يحتمل حاله الغليظة لما جرى
من القتال والعطش وحمل الرأس إجماعا ل من جماهير المشيرين .وقالت اليمة المغنية حيث مدحت في غنائاها ,أفتراه قتلها بغضا ل
لعلي أم لها ؟ وقول يزيد بن معاوية لعلي بن الحسين زين العابدين :أنت ابن الذيِ قتله ا ,قال :أنا ابن الذيِ قتله الناس ,ثم تل
قوله تعالى } :دودمن ديلقاتلل املؤهمنا ل ممدتدعرَمدال {النساء . 93أفتراك يا يزيد تجعل لربك جزاء جهنم وتخلد فيها وتغضبه عليه وتلعنه وتعد
له عذابا ل أليما ل ؟ فإن قلت إن هذه البراهين معطلة ل يحكم بصحتها حاكم الشرع ,فنقول في حججكم مثل ما تقولون .ثم إجماع
صا أم السنة الجماهير بشتم عليي ألف شهر على المنابر أمركم الكتاب أم السنة أم الرسول ؟ ثم الذين من بعدهم ممن غيرهم أخذوا ن ا
أم إجماعا ل ؟ لكن قد أخذوها بسيف أبي مسلم الخراساني ,فانظروا إلى قطع أعمالكم بسيف المشرع حيث قال لكم " :الخلفة
بعديِ ثلثون ثم يتولى املدكا جبروت " بقوله للعباس رضي ا عنه " :يا أبا الربعين ملكا ل " ولم يقل خليفة .والملوك كثير واحد
في زمانه فيا أيها الطالب للملك حصل الله وحمل الله وابذل واصبر واحذر واقرب وطول واحتمل وصالح حتى تقدر وا تعالى
أعلم .
فصل وهي المقالة الخامسة
إذا أردت ترتيب ملك في الملك فاشتهر رجال الدول بعد تحصيلك المال ,ثم تابع وشايع ,وأدلك بعضا ل على بعض للجذب فهو كما
قال المتقدمون :
ك دفالغدتنلمها ت هريااح د إهدذا دهاب ل
فاعلقدبى كال خافقة اساكوان
واجعل قواعد المملكة على الكبار على هيئاة ترتيب الجسور والقناطر لدتجوز عليها ,أن تناول أغراضك ,فإن وجدت مشاركا د
فداوه بأنواع المعالجة وآخر الدواء الكيي ,ثم انظر إلى دستور عدد الجند وعدد القرباء ومعرفة الداخل والخارج والزيادة ,
واستعرض الجيش في سنتك ثلث مرات ,واجعل طلئاعك أربعمائاة نفر من أمنائاك .وإذا أردت الغزو فأشع الخبر ,فإذا وجدت
أو طفقت إلى مضاق ترتب جيشك صفوفا ل وراء صفوف ,وحمل مع أصحابك ليبذلوا السيف في الصف المنهزم من أصحابك ,
وكن مشرفا ل عليهم من نشز ولو نصبت أعلمك زورال من غير حمل ,وادخر لنفسك أجود الخيل والرجال ,واعلم أن خامرك في
الول هو يخامرك في الخر ويؤفك معك ,وبددها وغن شئات في العسكر ,وأبرك كمينا ل من أجود رجالك ,فإذا وجدت الفئ في
ث مكان خوف جار العداء إلى قريب الكمين ,وليكن بينكم علمة ,فإذا عزمت إلى قتال قومك فعجل ول تطل في املك ه القتال فالسدت ه
الفشل
ص 485
والمفاسخة كما عمل ذو القرنين في عسكر دارا فأفشلهم وبذلهم وفسخهم وبرطلهم .فتقدم واعلم وكن بذالل ل متأخرال ,وانظر في
دساتير الرحيل فكاثر إن شئات وقرَلل ,وليكن لك عين على معرفة القائالين والغم على من قاتل ,واعزل عن الجبان على الهوينا ,ثم
احتسب على خزائانك وخزانك بمعرفة ما فيها وما ينقص ويزداد .وإن لم يكن لك بد من التزويج فاستبد إلى أموال ورجال ودين
وجمال ,وإن كان الشرع قد أمر بذات الدين .واعلم أن الملك بغير جواسيس وأخذ أخباره كالجسد الذيِ ل روح فيه .وحصل
آلت الحصون مما يحتاج إليه في الضيق فإنك ل تدريِ لعل ا يحدث بعد ذلك أمرال .ول تتم لهيئاة الرعية واختلف الجند .وامنع
الفقهاء عن الكلم في الفتن ,وأمر نوابك أن ينظروا ما عند الخلق من الطعمة في المحل ,ول تمنع الناس من تحصيل الطعمة
فإنه لك وللناس عند الحاجة .وانظر فيمن امتنع عن الزراعة إن كان لفقر فدقرَوه وإن كان لظلم فانصره ,كما قال ملك الهند :أنا
أفرح لكثرة دجاج البلد ,فإنه فرع المارة .واغتم لكثرة الخاطبين خوفا ل من ظلم المقاطع ,وقد كان ذو القرنين يحويِ دساتيره
هلى أعداء الغرباء وتسلم عليه المرأة بقدر من اللبن فإذا رآه سمنا ل ضحك لجودة الربيع ,وكان يقول أنا أمسك الفلح إذا أخذ مثله
وأميل المقطع فأخذ معناه إنما المقطع بالخير فإن لم يجده انتقل ,والملك بفلحه إذا هو خازانه وبه يسطو ويجيد وينعم ويطلق
وينظر في الخزائان والمراء .وإذا قدر على تبديل الطعام بغيره فليفعل ,فقد كان المأمون يستعرض السلح واللت مثل الخيم
والمجانيق حتى قال لمير دوابه :رتب مخاليك كما ترتب معاليك .
فصل وهو المقالة السادسة في ترتيب الولة
ل ترتب في الحصون إل وليا ل شفيقا ل رفيقا ل بالخلق ,ول تكلفه ثقلل فتستقضه من بلدك ,وأشبعه وجند الحصن ,وانظر في مراكز
طف بنفسك أيها الوالي على أعلى سورك ,ول تخالط جندك بالليل خيره ومائاه وحرسه وسوره ,وتذلل حراسك في البروج ,و ا
خوف المخامرة ,واسأل عن أعدائاك ول تحقر القليل فإن الذبابة تقتل جملل ,وكم من عقرب أمات الفعى لسعها كما قيل :
ول دتلحقادرلن أبدال صغيرال فربما
تموت الفاعي من سموم العقارب
واحذر من مكر ذيِ الحن فقد قيل :
ص دبلعدد حين دوإهان الاجلردح ينغ ا
إهدذا دكادن الدبهنا داء دعدلى دفدساد
ص 486
ول يكون الوالي شريب خمر ,وهكذا المير ,فلو حضر في مجالسهم فليحاكم بالجلد ,ففي الخمر بليا وآفات وزلزل عقل
وحدوث بليا وإظهار حقود ,إذ صاحب الملك مرموق بالحسد ,قال النجاشي لجعفر بن أبي طالب رضي ا عنه :كيف سيرة
نبيكم في الكل مع أصحابه ؟ فقال :يأكل على الرض ,فقال :ذلك تواضع لجذب قلوب أصحابه ,فقال النجاشي :لو كان ملكا ل
لكل وحده على خوانه في مجمع معروف له ,وزباديِ مخصوصة .ثم الورق إن كان مقطعا ل فمعروف ,وإن كان ذهبا ل فشهر
بشهر .ول بأس بالسلم عليه وهو موصول بهم والمعاهدة لرسل الملك وإقامة ناموسه عند الغرباء والمنشدين والقصاد .وكان
سليمان يقسم أسبوعه بعضه للجند وبعضه للقضايا وبعضه للقضايا وبعضه للعبادة وتذكار الحكم والنساء ,كما يقول :يا أرباب
المملكة عليكم بأهل العلم والصلح ,فإنهم يرشدونكم إذا ضللتم ,ويعرفونكم إذا جهلتم ,ويستعطفونك إذا غضبتم ,وينفقونكم إذا
حرمتم .وقال أمير المؤمنين على بن أبي طالب :
ب أخا الجهل ه صدح ل فل دت ل
ك وإياها وإيا د
فكم من جاهل أدلرددى
حليما ل حين آخاه
ايقاس المراء بالمرء
إذا ما المدراء ما شاها
ئ
وللشائ على الش ه
س وأشباها مقاديي س
وللقلب على القلب
دليل حين يلقاها
ك المنادمة والمسامرة والقلل من الهزليات والمضحكات ,وليكن وزيره قابلل قائالل بالعلم والصلح ,امدنرَزلل للناس في وليقل المل ا
طبقاتهم ,فل تنظروا في حسن البزة مع عموم الجهل ,فقد نقل إلينا أن بهلولل دخل إلى مجلس هارون فجلس في أدنى المجلس
فقال له هارون :ارفع رأسك إلى صدر المجلس ! فقال البهلول :مجلسي يفنى فأين صدره ؟ ثم أنشد :
ف النعال ص ا ضب د اكلن رجلل والر د
ب الصددار بغير الكماهل ل ايطدل ا
فإلن تصادرت بل آلة
ف النعاهلص ا صلددر ي ت ذاك ال ا دجدعل د
ص 487
ومن جملة قبول الملك أن يختار لنفسه طعاما ل يخصه ,وقد كان المأمون يحب المأمونية ,ومهلب العراق يحب المهلبية ,وكان بنو
أمية يكثرون من أكل الهرايس والزلبيا ,ولم يغسلوا اللحم ,بل يكشفون الجلد فيأخذون من تحت الجلد ما يختارون فيتدارون
ف الهودقااع ضع د
حيدن دجلبهريل ه ت هإلى دأخي هاليديِ هبدزدفر اللحم .وقد روى أبو طالب المكي أن النبي صلى ا عليه وسلم قال " :دشدكلو ا
ت لدظلههريِ هبها دخليرال " .وقد كان ذو القرنين يحب الزرباح لتسكينها للخلط الصفراويِ ,ووجد بخارا حاارا
ل س دفدودجلد اهبأ دلكهل الدهدراي ه
ا ل
تولد عن صفراء ,فانزعج له جبينه فمزج بالبطيخ مالء وعسل وخل فشربه فقال :سكن جبيني ,فسمى بذلك السم ,وكان يخلط
خشن الدقيق وناعمه فيتخذ له منه خبزال ,فقال الحكيم من جوشك :أراد الخبز الجريش للمعدة الضعيفة أو الحلقة البلغمية أجود
وأعود ,والخبز السميد يورث الخفق وهذا مشاهد عيانا ل من عمل القفاع .
فصل وهو المقالة السابعة في ترتيب حاشية الدولة
يستحب للدفاراش أن يكون رشييقا ,خفيف النفس ,ظاهر القوة ,طيب الريح ,عارفا ل بترتيبه الخبز والخضروات ,كامل العدة ؛
وهكذا تقول في الطباخ والشاربرَي ,ويكون دار شربة كامل المشارب من الماء البارد والشربة والقفاع السك السكنجبيني ,وشربه
نافع بإذن ا تعالى على الريق ,وهو محمص للطعام مفتح للجوف .واعلم أن آداب أهل التصوف في المآكل والمشارب هي آداب
الملوك ؛ وترك إبراهيم بن أدهم هكلبلر الملك .ومسك آداب الطعام والئاتدام بالحوامض أولى .والركابية والسعادة خفاف السرعة
شباب ,وهكذا جميع المقاتلين والشيوخ المعنية بالرأيِ .ويحط العسكر في دندشهز من الصدر أولى للتحصين واغتنام الهوية .
والخمول في الشتاء أجمل ,والتهيئاة لما يختاره في الصيف ,ورحل السلطان لقلقل السفر عند نزول الشمس في السرطان ,
وسكونه عند نزولها آخر القوس ,إذ فصول السنة أربعة :فمن نصف حزيران إلى نصف أيلول صيف ,ثم إلى نصف كانون
الول خريف ,ثم إلى نصف آذار شتاء ,ثم إلى نصف حزيران ربيع ,وهكذا أقسام منازل الشمس ,والخبر النبويِ يؤيده " :إهدذا
صدفت المشاهوار دتدغايدرت المداهوار " .فإن ركب بعد صلة العصر وإل قعد لكشف المظالم أو لكتب القصص وهو يسمعهم في عزلة الندت د
,كان السابقون من الملوك إذا قعدوا للسلم يقعدون وراء شباك ويدخل من شاء إليهم خوف الغتيال في المزاحمة ,ويفتش على
ث والسمين .ويستحب أن يطالع كتب الطب والتواريخ وشاهنامة غوامض ما يجريِ حتى يكون له صاحب خبر في البلد يرفع الغ ا
العجم وقصص التابعين
ص 488
للعجم والديلم مثل ما جرى للشهرباز درستم زاد وكان النبي يومئاذ سليمان عليه السلم فأوقع الوقائاع بينهم حتى هلك بعضهم
ببعض .وليكن مع الملك جنود لحذر ما يجريِ ,وحفظه في الحامام فكثير هلكوا فيه ,وحاماام داره أجمل .وعليكم بكتم مرضه
وموته حتى يستقر الملك فيمن شاء ا من عباده بعد البيعة والمتابعة وتقرير القواعد .وكن أيها الملك مسارعا ل في الثناء والثواب
فإنه الذكر المخلد ,وأكثر ما تنظر في كتب ابن أبي الدنيا ,وتواريخ الطبريِ ,مذهب الشافعي ,أو ما تختار من المذاهب .ول
تظهر البدعة ولو كانت فيك ,كالكاسرة وسوبويه هلكوا بمتابعة الهواء .وللنعم أجنحة الجر فيقوها بالشكر .واجعل بينك وبين
ك الموت فأسار إليه ا طريقا ل إلى الصلح ,فقد حكى أن ملكا ل قمع دمدلك الموت عنانه فقبضه على ما يريد ,وأن ملكا ل صالحا ل أتاه دمدل ا
في أذنه فقال :مرحبا ل بك فأنت أطيب القادمين وأحب النازلين وأحب المنتظرين فافعل ما أمرت به ! فقال دمدلك الموت :ل أقبضك
إل على ما تختار ,فتوضأ وسجد فقبضه في سجوده وا تعالى أعلم .
ومن لطائاف الحكايات الملكية أن محمود بن بويه لما ملك أرض العراق أعطى ألف دينار ليفراش له ,وقال اذهب إلى مدينة
أصفهان إلى شارع السلطان ففي صدر الدرب بيت فيه شيخ وعجوز ,ادخل إليهما فسلم عليهما وقل لهما ابنكما يقول لكما كيف
أنتما من وحشة فراقه ! فلما وصل إليهما فأخبرهما قال :خذ ما جئات به لك ,قال الغلم :أنتما فقيران وبكما حاجة إليه ,فقال
الشيخ :غنى النفس باق ,ثم تنفس وتمثل بهذه البيات :
س دجمياعها ب لو يقا ا علاي ثيا س
س منهن أكثرا س لكان الفل ا بفلد ه
س ببعضها س لو تقا ا وفيهن نف س
س الدودرى كانت أددجال وأكبرا نفو ا
صدل السيف إخلاق عهده ضار دن ل وما د
ضدبا حيث دواجلهدتاه دفدرى إذا كان دع ل
ويستحب أن يكون مغرَني الملك مغنايا نديِ الصوت شجايا ,ل خارجا ل ولحانا ل ,عالما ل بالصوات ثقيلها وخفيفها وهزجها ورملها
وصوفيها ,وأصواتها الثقال مثل قول أبي الشيص :
جاد الدملمدة في هواك دلذيدذةا أد ه
ل ل
احابا لههذكرك دفلديلمهني اللوم
ومثل قول أبي النواس في الوزن :
س وعصمة ما مثلها ك المنافو ه هشلر ا
للهامطدمهئارَن دودعلقدلة الدملسدتهوفز
ص 489
تإهلن دطادل لدلم ديلهلدلك دوإهلن ههدي أدلودجدز ل
جز ث أانها دللم اتو ه دواد المحد ا
وفي المستهل والعمل شعر بني عامر مجنون ليلى :
ظروا دخهليلرَي اقوما في عطالة دفألن ا
أددناسر ...
ب امللدتقسىك دنارال دفههدي في جن ه دفإلن دت ا
صلفقا
د صفقها ل يو
د د روها ا ل
ذ ي
همدن ال رَ ه د
ح ري
يِ أدلوقدتدها طيماعة
د ا د ليم عد رَ
لوبة دسدفءر أدلن ديكون لددها وفقا
دودحاط بها درلحهلي قليل س دفإهانها
ت هبهه الهعلشقا لوال أطلدل دعدرلف ا
وليكن المغني عالما ل بطريق الغاني ,مطليعا على كتاب الموسيقى الموضوع للرئايس أبي على بن سينا ,وقد شرحناه في " :
كتاب السبيل لبناء السبيل " وسأذكر لك نكتة منه فأقول كما قيل :إن لدروان الفلك أصواتا ل لو سمعها عاقل أو لبيب لما ثبت ,
ومنها أخذ موسى ترجيع النغمات من المربع والمسدس والمثمن ,والنصارى عملوا ببعضه ,فاللحان للروم ,والتجنيس للعراق ,
والزقالق للعجم ,والطبول للزنج أو الحبشة ,والبوق لليهود ,وهو سبعون دستا ل مثل دستان الرحيل يقول في وزنه :اركب فأنت
المظفر .اركب فال أكبر .ودستان الحرب والنزول وغيره .وقال سقراط :اشتباك نغمات الصوات من هياكل العبادات تحل
وتعقد في الفلك الدائارة ,مثل همة إصابة العين والسحر والستسقاء وسنذكرها في مواضعها .وكن مع الملك كما قال بعض
الحكماء :
ك دفالب ل
س د المل إهدذا دخددم د
ت
من التورَقى أشد دملدبس
ا
ت أعمى دوالداخلل إهدذا ما دددخل د
ت أخدرسل د دوالخارلج إذا ما دخدرلج د
فصل وهو المقالة الثامنة
يعقد الوزير في دسته وحاجبه على رأسه ,ول يلصقه أحد في المنعة ,وكتابه لديه والمجلس ملن هيبة ووقارال .والحوائاج إلى
الحاجب ,والرفع إلى الكتاب ,والطلع إلى الوزير ,ورفع المر إلى الملك ,فأول ما يبدأ بمصالح الحاشية بعد الملك والوزير
حتى إلى
ص 490
التقليد ،وقيل ل يحضر الملك الجمعة إل في مكان معزول في مقصورة له خاصة ،وأصحابه في دائارة المقصورة من خارج،
والباب مغلق ،وعنده من يكون إليه ،ويخرج هو وأصحابه في آخر الناس في باب له .وليكن له يومان في السبوع للختم والزيارة،
ثم يقرأ له بعد الصبح فل يعجلون حتى يفرغ الخر ،ثم يقرأ التوبة فإذا فرغوا وعظ وأنشد المنشد ،ثم يقرءون :قل هو ا أحد،
والمعوذتين ،والفاتحة ،وآلم إلى المفلحون .ثم يختم المام بتصديقه حقيقة ويدعو للملك والمسلمين .وليكن للملك في السبوع خلوة
عبادة وتذكار ،والنظر في الحساب والموال ،والنظر في دساتير البلد .وا أعلم.
فصل وهو المقالة التاسعة
في ترتين الخباز والطباخ والقصاب
ل يكن القصاب عدواا في الدين فإنه ل يتحرى النجاسة ،وهكذا الخباز والطباخ ،ويتفقد المعاجن وآلت الطبخ والدقيق واللحم.
وليكن الطباخ عالما ل بصناعته وعنده كتب الطبائاخ لكشاجم ،والشربة والدهان والحلوات والريح الطيبة واللوان الغريبة،
وأحسن المآكل وأطيبها وأنفعها وأقواها للعافية ،وهو لحم مرضوض مقليو مرشوش بالمياه الحامضة يحشى به العجين فيقلى.
وأطيب الحلوات ما كثر خبزه .وأنفع الهرايس لمن به حرارة المزاج ،وهو اللون النوني من البزرة يقلى ،وقد هجرت اللوان
الظريفة باستيلء الترك واتخاذهم السنبرشح والعرائاس والسالة والطظماج والسترك والبورك المعمول باللحم والحوائاج الحادة
المعمولة في العجين.
فإذا كنت ذا فنون في طلب الطبائاخ فاتجه لكتبها ،وقد ذكرنا منها آخر كتاب السبيل ،وإذا أردت العقلية فعليك بكتاب المقاص
وكتاب النجاة للرئايس ،وإن شئات فيه الغاية القصوى فاطلع على الكتب الصولية الدينية خاصة كتب شيخنا إمام الحرمين مثل
"المحيط" و"الرشاد" ومن كتبنا النافعة في ذلك "كتاب القتصاد في العتقاد" و"كتاب قواعد العقائاد" من أول "كتاب الحياء"
و"الرسالة تاقدسية" .وإذا أردت الطب فكثير ،وأنفعها ما عمل به من الكتب .واطلع على جميع العلوم الشرعية لتعلم الحق من
الغيى والهوى وا تعالى أعلم.
ثم نرجع إلى تحرير مقامات العمال:
ل تستخدم في العمالة إل عارفا ل بفنون الحساب والجبر والمقابلة والمساحة ،بحيت لو قيل له :ما تقول في أرض ذات زوايا ل يقدر
حفظها بحائاط ول قصب؟ قال :تذرع بالذراع والشبر .ويمتحن في علم الحساب كما يمتحن الكتاب ،والرسالة والجوبة وكتب
الدساتير،
ص 491
فإن ولعت برسالة ابن عباد والصابي فل بأس بأخذ الزبد .وليكن صاحب النشاء كثير الفضل والتوقف في الديوان في الزمان
القصير وفي الزمان الطويل إلى النزول من الركوب ،ثم يحاسبهم على ما إليهم ،ويستوعب من كل القرباء ،ويسأل عن المظالم،
ول يكن ملوما ل ول ضجورلا ،ول ضخابا ل ول طياشا ل ول لقابلا ،وقالوا يجوز له لعب الشطرنج ول يلعب بالزهر ،لنه يخرق الحرمة
بالقمار ،فقد ذكر أن أزدشير لما أخرج النرد قيل له :ما يستحق إل قطع اليد ،قال :سأقطعها بتركه .كما قيل للحجاج بن يوسف وقد
شكى إليه من أكل التراب :ألق عليه من همتك وعزيمتك! فلم يأكله بعدها أبدال.
واعلم أيها الملك أن علو الهمه مع الصبر حتى في الصفوف واختلفه في الثمن كل ذلك بالهمه والخدمة ،أل ترى إلى قول أمير
المؤمنين علي كرم ا وجهه:
بقدر الكرَد تكتسب المعالي
ومن طلب العل سهر الليالي
دتاروام الهعاز ثم تنام ليلل
ض البحدر من طلب الللي يخو ا
دلدتلقال الصخر من قادلل الجبال
ب هإلاى من منن الرجاهل أددح م
وقالوا للفتى في الكسب عاسر
ت :العاار في ذرَل الاسؤاهل فقل ا
إذا عاش الفتى ستين عاما ل
فنصف العمر تمحقه الليالي
وربيع العمر يمضي ليس ايلددريِ
ضى في يمين أو شمال أدايلق د
وربع العمر أمراض وشيب
وشغسل بالتفكر والعيال
فحب المرء طودل العمر قبح
وقسمته على هذا المثال
فصل وهو المقالة العاشرة
ك فإن قدرت على مشاركته فل تبدده ك إذا أردت معاندة الملك فاعتبر جيشك وخلصه من المواطأة والنفاق ،ثم زن مال د اعلم أيها الدمله ا
بالغي ،وقلل ذلك وافتح له أبوابا ل موجبة،
ص 292
وإن خفته ول طاقة لك به فمل إلى مصالحته فالزمان يدور كالكواكب ،وحبب من قدرت من أصحابه ولو برشوة ،وفاسخهم وألق
بينهم ،وكاتب بعضهم على بعض ،وإن خفت أحدال من دولتك فداهن وسلم وتواضع ،فربما تجد المل ،وإذا كشر الزمان فاصبر
لعضه فلبد أن يبتسم لك .وإن عزمت على حصار مكان فأوقع الخلف في الحصن ،كتب سليمان إلى رستم" :أما بعد فإني
لخشى عليك من مخامرة الذين معك ،فربما يسلمونك لعدائاك" ثم كتب إلى كبار أصحاب رستم" :خافوا على أنفسكم ،وهذه خطة
إليى في اغتيالكم ،وقد زعم أنكم نافقتوه ،فإن سلم حصنه إلى شهرباز فل تكون الدائارة إل عليكم" .فلما قام القتال بينها فروا جميعا ل
إلى شهرباز ،وكمن سليمان عليها بعد الكسر ،وسلم بأصحابه فقتل رستم وقبض على شهرباز ،ومر السيف على الفئاتين فأصابهم
مثل نوبة بني إسرائايل مع بختنصر :أوقع الخلف فى الحصن ،فتحمل النساء على فجأة المبارزة ،ثم تسجن على ذلك أو أقطعه
للذين ل خير لهم .ول تنهبهم فتنصف بنفسك من نفسك ،فتكون كالذيِ طابت له حلوة العسل فعمد إلى خراب كوارة النحل ،فتكون
أشقى الثلثة :يروح المظلوم بالثواب ،والظالم بالنتهاب وتظفر أنت بمرارة الحساب ،ومتى يعم الخراب يا غراب .ثم تكتب إلى
أهل الحصن ولو في نشابة :من أراد خيره فاينزل إلينا! في قدر فلك الحصار فيكون حزيران .واحفظ البلد بالمقطعين من السياسة
واللئاذين بالدواب ،وليكن لك في كل قرية علمة ،وعاقب المخالف بأنواع ما تريد ما لم تجاوز النصفة ،ومد المشترى ،ثم انصب
الخواص ،وشرع الثياب وصواني فيها ذهب ،وفرق القتال في حنيات الحصن ،وأمنع خروجهم ودخولهم خوف الغتيال ،وقد
كان صلى ا عليه وسلم عام خيبر مكنهم من الخروج ،أطعمهم ،وخرج الكثر منهم ثم منعهم من الدخول .فإن اتفق له جهة أخرى
ترك على الحصن مقطعين مع طائافة من خواصه فإن اتفق قتال نقب ورزق ومنجنيق فافعل ورهب وغزغز رمحك وتقعقع وليكن
باطنك على أهل السواد سليما ل وا تعالى أعلم.
فصل وهو المقالة الحادية عشرة
افتقد آلت سفرك قبل خروجك ،وناد في سفرك لعسكرك بالعلم قبل الخروج بمدة ،واترك بعدك من يتفقد الناس ،وليكن عندك
صناع فيما تحتاج إليه ،وليكن لسوق عسكرك أمناء تحفظه بالتغليظ في السياسة ،وليكن وزيرك عالما ل بكتب أرباب السياسات مثل
المماليك والمسالك وسياسات المعرى التي أودعها الرئايس في آخر كتابه المسمى بالدوية القلبية ،وكتاب قوانين الملك لبن مرة.
ويقتني مثل كتب البيزرة لكشاجم ،وكتب البيطرة لبن قتيبة ،والمنهل الروى ،فهذا يحتوى على أصناف البزاة وأدويتها ودائاها.
وأصناف
ص 493
الخيول ستون صنفلا،وكان السكندر ينظر الدابة فيعرف مرضها ،وهذا هو الطب الصعب ،إذ ل يمكن فيه من المساءلة .وكان
يقف في شباك أو خيمة مشرفة على الدواب وعلفها فقيل له :أتباشر هذا المر بنفسك؟ فقال :نعم ،نها لنفسي .أمغص له فرس فسقاه
ماء الشنان مبردال فهدأ .ومن جملةالخواص تمشيتها على قبور أهل الذمة ،فقد سئال رسول ا صلى ا عليه وسلم عن ذلك فقال:
صراسخ هملن دتلحت دفدتلفدزاغ ودتلشدفى" وهذه الخواص كثيرة من الحيوان والنبات والجماد ،فقد صدعدقا ا
ت دو ا "اتلسدماع هملن قاابوهر أدلههل الرَذامة د
ذكرنا أشياء منها في فصول هذا الكتاب ،وقد روى أبو هريرة رضى ا عنه قال" :لما فتح عمر بن الخطاب رضى ا عنه مدينة
القدس وأمر فيها عبد ا بن مسعود ،فأتيته مهاجرال إليها ،فدخلت عليه فلم أر له حاجبا ل ول بوابلا،فسألته عن ذلك ،فقال :سمعت
رسول ا صلى ا عليه وسلم يقول :من افتقد قضيم دابته بيده ونقاء بيده كان له بكل حبة عشر حسنات ،أفتراني أعطي هذا
الثواب لغيريِ! افتقد نفسك وما ينجيك هو خير لك من كبرك الذيِ يطغيك" .ومثل هذا نقل عن أبي حازم قال :دخلت على عمر بن
عبد العزيز رحمة ا تعالى ،فأخذ المصباح ينطفئ فقلت :أما أنبه غلمك؟ فقال ل ،فقولت :أقوم أنا؟ فقال ل ،ثم قام عمر وأصلحه
ثم قعد وهو يقول :قمت وأنا عمر وقعدت وأنا عمر ،قبحا ل لوجوه المتكبرين! ثم أنشد:
ضدعالنساان دزادد دتواد ا إهدذا دعظدم ا ه
ا د د ل
لنساان زادد تدرفعا وإد لؤدم ا ه
كذا الغصن إن تقو ادلثمار تناله
وإن ديلعدر عن حمل الثمار دتدمانعا
فصل وهو المقالة الثانية عشر
في ذكر صفات منامك
ل ل ل ل
أيها الملك ،إذا كنت في سفر فبرجا أو حرسا حادا أو مشاعل ،وكن متيقظا لنفسك ،واشبع بالنهار واسهر بالليل بالمنادمة
والقصص والسير وتدبير الشغال .وإن كنت في الحصن فشد حراسة الباب والسور ،وليكن البواب من جملة البرانيي ،ونم وحدك
في مقصورة لطيفة ،وأهلك خارجها والمفتاح عندك ،فإذا استدعت نفسك بعض جواريك فل تستدع الباردة الثقيلة ،فمعاشرة
الوحش الخفيف خير من حسن الثقيل ،قيل لجعفر الصادق رحمه ا تعالى :لم تختار السود على البيض؟ فقال :مصيف ومشتى،
وأخونة شتى .قال عبد الملك بن مروان :أطيب الجماع أفحشه .وقد شكا بعض الملوك من قلة النعاظ ،وكان
ص 494
يخاف الدوية الحارة ،فاتخذوا له كتاب الباه بطريق الحكايات فعلت فلنة وفعل بفلنة كما قال ابن الحجاج:
ما دكهرلهن النرَساء للاشيب إلا
أيناه املؤذسن دبدنلوهم المذاكور
وانظر البيت الذيِ في القصيدة اليتيمة:
ولها دهكن رداب مجسته
ضرَيق الدمسالههك حره دولقاد د
د د ل د
دوإهذا طدعنت طدعنت في لدبد د ل د د
ت ديدكااد ديلندشمد وهإذا دجدذاب د
واختلف جاريتان عند المأمون سوداء وبيضاء ،فقال البيضاء :الثلج يصلح للدواء ،وبياض الشمس عجب ،وخير الثياب البيض،
والبيض أحسن من الفحم .فقالت السوداء:
يعلندبر أدلشدهب وعود قماريِ
يتعاطى علندد العدناهق لذيذا
وفحم الشتاء خير من حمأة الصيف الباردة ،وعيب الشيب شديد ،والبياض في العين عمى ،وليلة القدر خير من ألف شهر:
ب ديطلااباه دودسوااد الاشبا ه
ت دحقيا ل دعاجول الدغانيا ا
وسواد ثياب بني العباس أهيب ،وعندنا مجامر الشتاء بساتين المصيف .ثم أنشدت:
أحب لحبها السودان حتى
أحب لجلها اسودد الكلب
وهو لكثرة عزة.
وحكى لي من أثق به أن المنصور أغرى بقتل العلويين حتى نفر أكثرهم إلى اليمن ،فلما وصلت النوبة إلى المأمون وكان يتولى
محبة أهل البيت ،فسأل عمن بقى من الشراف الفاطميين ،فأخبروه عن قوم منهم بأرض اليمن ،فنفذ إليهم ليستعطفهم ،فأجمعوا
رأيهم على أن كل واحد منهم يبعث شخصا ل يشبه به وكيله أو غلمه ،فإن كان خيرال فما يضره ،وإن كانت الخرى فلهم السوة
بالسادات ،فما وصلوا إلى المأمون أكرمهم وأعطاهم وتزوجوا وتوطنوا .فإذا وجدت شريفا ل مفتخرال غير ذاك ولزكى فهو منهم،
إذ هذا البيت المعظم ل انبساط للفحشاء على منازلهم ،وهو معنى قوله" :نحن أهل البيت ل نفجر ول يفجر بنا" وا أعلم.
ص 495
فصل وهو المقالة الثالثة عشرة
في حيل اليمين
اعقد على نفسك عقد الدور لبن سريج ،وقد كنت ل أقول به ،ثم رأيت الخمر المغلى بالثوم له منفعة لرباب القولنج البارد،
وجماعة من أصحابنا يقولون به ،وكل مسألة خلف إذا حكم الحاكم بصحتها زال خلفها .ويشترط في نسخة اليمين معاني تؤول
منهم إلى الفسخ بالتأويل ،واليمين على نية المستحلف .واحترز فى عقد الوكيل وأعم اللفاظ :كلما وقع عليك طلقي وطلق وكيلي
فأنت طالق ثلثا ل .ل تمنع أيها الملك قول الحكماء والفتوى بها ،وإذا اخترتها فليكن باطنلا ،وخطوط الشهود والحكام عندك ،وإن
ادعى نفيه فسلم إليه ول تسلم إلى العامي عنانه ،فهو جهول باليمين والعنان .واحذر اليمين بكل ما يتعلق بال وبكلماته وصفاته،
واختلف العلماء فيما له حرمة غير هذا ،وأما اليمين الغموس فإنها تذر الديار بلقع ،وذلك أن يحلف على ما يعلم كذبه .واقعد أيها
الملك قعود المتأدبين ،وكن قلقل الكلم ،ول تخطئ المفتين ،ولكن قابل بعضهم ببعض ،وقد سمعت ما قال عليه الصلة والسلم" :
استفت نفسك وإن أفتوك ،فالحلل بين ،والحرام بين ،وبينهما أمور متشابهات ،فذر ما يريبك إلى ما ل يريبك" وقال عليه الصلة
والسلم" :من جعل الحلل له قوتا ل أجيبت دعوته ،وعلمت مروءته ،وحسنت سريرته ،وعلت كلمته ،وحصلت أمنيته ،وطابت
هيئاته ،وطهرت ذريته ،وتنورت نطفته ،وذرفت دمعته ،وظهرت حكمته ،وقل غضبه ،ورق قلبه ،وخف ذنبه يا على رد درهم
مظلمة أفضل عند ا من أربعة الف حجة مقبولة ،يا علي من غضب غضب ا عليه ،ومن ظلم ظلم ،ومن أكثر من الصدقة
نصر في ذريته" .في الحرام هو أن معاد النفوس واحد ،ومرجعها إليه بعد القبض ،فإذا ظلم بعضها سرى الظلم في كلها ،وهو
س دجهميلعا دودملن أدلحديادها دفدكأ داندما أدلحديا الانادسو دجهميلعا" س أدلو دفدساءد هفي الدلر ه
ض دفدكأ داندما دقدتدل الانا د معنى قوله تعالى " :أداناه دمن دقدتدل دنلفلسا هبدغليهر دنلف ء
المائادة .22
فإذا أوصلت إلى النفوس برال وصدقة وخيرال وعدلل وإشفاقلا ،سرى ذلك إلى جميع النفوس بعد القبض فصار خيرلا ،فإذا وصل بهم
كان ذلك خيرال للجميع ،أل ترى قول الرجل لمرأته :بعضك طالق ،كيف يسريِ الطلق في الكل؟ إذ الطلق ل يتبعض.
وليكن لك أيها الملك إمام يؤم بك ،وليكن عالما ل دينا ل يعرف بذلك ،وليكن شيخا ل أو أعمى .وعلم مماليكك خطأ ل ورموزلا ،فإن اتفق أن
يكون المعلم خادما ل أو شيخا ل فأولى .والنساء امرأة دينة .واعلم أيها الملك أن أهل الزمان فاسدون لتشاغل الرجال بالرجال
ص 496
والنساء بالنساء ،وهو أعظم المقت والسخط ،ومنه حصلت الباحة لبعض الطوائاف حتى بسطوا فيه وأقاموا لهم فيه شبها ل نقلية
ض دجهميلعا" البقرة .29قالوا :هكذا كان الناس على المنهج القديم وعقلية :أما النقلية فقوله تعالى " :اهدو الاهذيِ دخدلدق دلاكلم دما هفي الدلر ه
ليس تحليل ول تحريم ،ولكن النبياء حللوا أشياء وحرموا أشياء .وقال تعالى " :وويسل للمشركين * ٱيلذين ل يؤتون ٱليزكىوة"
فصلت .6،7 :وقد تعلقوا بإباحة أبي بكر رضى ا عنه أموال بني حنيفة ،وزعموا أن الخطاب من الرسل إما أن يكون لموجود أو
لمعدوم ،فالمعدوم ل يخاطب والموجود المخاطب في زمانهم فقد درج معهم فمن هذه الشبهة تمسك أرباب الباحة مثل النصيرية
وغيرهم ،وسنذكر تعلقاتكم في أماكنها .وقد عرفتك أيها الطالب طريقك النفيسة مثل لبس النظيف والطيب وقلة الكلم بطريق
الختصار.
وأدب أصحابك أن ل يشكو منهم قريب ول بعيد مثل قول الحكماء :ثلثسة إن لم تظلمهم ظلموك :ولدك وزوجتك والمملوك .وإياك
وقرب الملوك ،فإن قربوك فتنوك ،وإن بعدوك أحزنوك.
وهذه وصايا الملوك ،فإن هممت بتحصيله فربما أعانتك السعادة ،وإن أراد ا أمرال هيأ أسبابه وحرك القضاء بتحريكه ،وقد كان
ا قادرال على تحصيل الرطب لمريم من غير هز كما قال النظم البديع:
أدلدلم دتدر أدان ا دقادل لدملرديدم
ك الجذدع دياساقط اليرطب ودهيزى إهلدلي د
ولدلو دشادء أدلحدنى الجذع من غير هزها
ي
بودلكانما الشيادء دتجهريِ لها دسب د
فإن وقع لك صناعة الحجرين الحمر والبيض فحصله ،ولكن ذاك عنك بعيد ،وبالمهمة يفتح عليك بعض هذه الطريق ،أما سمعت
في رموز أمير المؤمنين رضى ا عنه أن في الزئابق الرجراج مع الشب المصعد لمالل هنيأ؟ فذوو الهمم القصيرة يقصرونك عن
نيل مقاصدك ،وإل فمن طلب وجد ومن جيد وجد ،ولهذه مثل ،وهو أن بعض المتصوفة سمع هذا الحديث فقال :سأجرب نفسي في
طلب المملكة ،وكان فيه آلة من علم وأدب ،وكان محلل قابلل للمك ،فتقرب إلى الفراشين فخدم معهم ففشا أمره في السيرة الحميدة،
ثم مات مهتارهم فصار مكانه ،ثم عبث في الديوان حتى انتقل إلى مكان زمامهم ،فلما انتشر شكره وذاع خبره وذكره اقبض الوزير
وارتب مكانه ،فساس الرعية وأظهر العدل واستراح الناس من ثقل ما كانوا فيه ،حتى مات الملك فتصور مكانه وتزوج ابنته،
فاجتهد فى التدريج والتطويل وحصل .وقد شاهدت محمد بن صباح إذ تزهد تحت حصن أددلملوت وكان أهل الحصون
ص 297
يشتهون أن تطلع إليهم فلم يفعل ،وهو يحصل المريدين ويعلم طريق الرادة والتلمذة وشيئاا ل من الجدل ،ثم جعل يمهذر بكلم على
قدر عقولهم من جملته :ما تقول في قائال ل إله ا هل هو محق أو غير محق؟ فإن قلت محق فليزمونك باليهود والنصارى ،وإن
قلت غير محق ،قالوا فلم تتعلق بها؟ ثم جذب الناس وجعل يقول للمريدين :أما ترون الناس قد تركوا الشريعة! فلما كبر المر
خرج إليهم بطريق المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فصبا إليه خلق كثير ،وخرج صاحب القلعة إلى الصيد ،وفشا أمره
ومذهبه حتى صنفت في الرد عليهم كتابا ل وسميته قواصم الباطنية ومنتظرهم فلبد في آخر الزمان أن يهجروا الشرائاع ويبيحوا
المحرمات فانظر هذه الطريق التي شرعنا لك أيها الملك وجعلناها إشارة وسلما ل تنال بها مقاصدك.
وكان عمر بن الخطاب رضى ا عنه أمر الحطيئاة أن تجمع حديث عبس وذبيان ،ول بأس يجمع هذه الكتاب ،حتى تنور نيران
النخوة ،فتمد باع همتكك إلى أسنى طلبتك وأقصاها وأعلها .وقصص النبياء تكفيك إن غفلت ،وقد علمت صبر النبياء على نيل
المقاصد مع العداء حتى فازوا بالنيل .وقد سمعت حديث داود بن شعيا ولد سليمان عليهما الصلة والسلم وكان صبيا ل فلما حاول
وعضدته يد السعادة فقتل جالوت حتى تزوج ابنة طالوت وكان طالوت دباغا ل .وهكذا سير الملوك ،فانظر في كتاب" :السباب
والمعارف" لبن قتيبة ودع النظر في الصغر ،وانظر الشاعر كيف يقول:
ل دتأدمنن إذا ما كنت د ذا أد ه
ب
دمدع الاخموهل بأ دلن دتلردقى إلى الدفدلهك
دبليدنا دتدرى الاذهب البريدز اماطدردحا
ض إذ صادر إكليلل على الملك في الر ه
وبطعم الحديد وذوقه يتأدب الكرم عند كسحه ،وإذا ترك عجمه سنة هلك ،أل ترى إلى الحيوان البهم كيف بالضرب والدب يتعلم
الرقص والتطاير؟ ولما مات هارون استخلف المين وفر المأمون إلى مدينة أصفهان ومعه الحسن بن سهل ،وكان المأمون ذا
فنون وعلوم وآداب ،فقعد المأمون في المسجد الجامع وقد فرشه باللبد زهدال والناس يهرعون إليه لتعلم العلوم ،وابن سهل يومئ
إلى الطوائاف ويقول لهم :أليس هذا هو الخليفة حقلا؟ فبايعوه! ويقول لهم :سنة هذا سنة الولين الطاهرين ،فلم يزل يستدرج الناس
حتى حوى عسكره ثمانين ألفا ل .وكانت العاجم تسمع بطريق المين الفاسد ففروا وطلبوا المأمون ،حتى عقد
ص 298
الجيوش لطاهر بن الحسين فدخل على المين فقتله ،واستولى المأمون .فكم من هذه السير المنقولة! وإنما نسمعك بعضها تقوية
وإعانة لهمتك.
والولع بكتب الولين مثل كليلة ودمنة والمغازيِ وحديث عبد الوهاب ،ول يلزمك من سقمها وصحتها شئ قال الشافعي رضى ا
عنه :مسقط الرأس مسقط النسان .فكن وفاي العهد والكلم ،وليكن لك محتسب يحتسب عليك وعلى من في دارك من المسلمين ،ثم
ينظر في مشارع البلد ومصالحه والسعار ،وإن كان قد نهى عن التسعير لكنه ليس به بأس ،فقد فسدت الناس وقلت المانات كما
ذكر في كتب الملحم لرسول ا صلى ا عليه وسلم .وخطبة المام فيما يتجدد .ويكون للسعادة مباد وتناه ،فقد نقل أن ا تعالى
لما بعث نبيه موسى عليه الصلة والسلم قيل لفرعون :تلميذك موسى يخاطب علة العلل ،فأمر بإحضاره وقال :يا بني تزعم أنك
تخاطب علة العلل؟ قال :نعم ،قال :بم نلت هذا؟ قال :بسهم السعادة ،فقال :من أيِ جهاتك تسمع كلمه؟ فقال :من جهاتي الست،
فقال :إن لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ،فقال بعض الحسدة الحاضرين :إن عصيى سرنديب إذا
نقلت إلى هذه البلد تكون حيات ،فقال له موسى :خذها إليك ،فإن كان كما تقول فستكون وإل فتبطل ،فبهت الرجل وبطل ،فقال
فرعون :اتبعوه فقد جاء بخرق العادات.
والسعادة الكلية هى من الفيض الول ،ثم يفيض من طريق التحريِ إلى كل محل بما يقبله .والفيض الول من العلة الولى يتناشى
بطريق الفيض الوهمي الذيِ عجزت العقول عن تحصيل كنهه .والذيِ صدر عن علة العلل من الفيض الول هو العقل الفعال
الصادر بالكلية عنه ،والنفس الكلية هي التي تفيض النفوس عنها ،والذيِ يتجلى للخلق من العقل هو بقدر نزول الشعاع للشمس في
النوافذ والنور .ومثل تجلى العقل للنبياء كمثل الشمس المنخرقة في الرض الفلة ،وهو معنى قوله عليه الصلة والسلم" :خلق
ا الخلق في ظلمة ثم رش عليهم شيئاا ل من نوره ،فمن أصابه شئ من ذلك النور اهتدى ،ومن لم يصبه فظلمات بعضها فوق
صلددرها له ل ه
للسدلهم دفاهدو دعدلىى انوءر ك" الشرح .1:وقوله تعالى " :أددفدملن دشدردح ا
اا د صلددر دك د بعض" وهو معنى قوله تعالى " :أددللم دنلشدرلح دل د
هملن دررَبهه " الزمر .22 :وهو الذيِ تجلى لبراهيم عليه الصلة والسلم وكان في بدئاه ضعيف شاهد من نوره الكوكب ،فلما تجلى
لبراهيم عليه الصلة والسلم ،وتقوى جناح همته بطريق المجاهدة ،وانخرقت له النوار القدسية من رؤية حالة باطنه وسره،
شاهد الشمس والقمر ،فلما صفت العلة وخلصت الخلة شاهد بمقياس الحظ أصل العلة الولى التي فيها مبدأ فيض السعادة ،فقال
ت"ت دولجههدي لهلاهذيِ دفدطدر الاسدمدوا ه عند وجود سهم السعادة والحظ " دواجله ا
ص 399
ض" النعام .79 :فلما وجد انخراق النور اللهي لم يلتفت إلى مال ول ولد ،فنهب يد النتقاد ماله وولده ،فجعل ذلك غرامة دوالدلر د
بطريق التصوف لوجود حاله فقال في رفض ترك نقصه عند وجود حقه ورؤيته الكمال :ها هو ذا جسديِ للنيران وولديِ للقربان،
ومالي للفيضان.
فكن أيها الملك على هذه الطريقة والوتيرة حتى ينكشف لك ستر الباطن عن منهج الحق ،فتقعد على كرسي طب أحوال العالمين،
فتجس بمقياس الفراسة طريق معرفة الظالم من المظلوم .واعلم أن الغني والموال هي مدخرة لتحصيل المملكة الدنيوية
والخروية ،فإذا صح لك هذا الطريق غلبت بسهم السعادة من عصاك ،ومنه يحصل لك تسخير الهمم العلوية .ول يراد الخلق إل
للثواب والثناء وإل فما هي إل أرواح سائارة عن أجساد خالية.وقد ورد في لطائاف الحكايات أن الملئاكة قال بعضهم لبعض :اتخذ
ربنا من نطفة رديئاة خليلد وقد أعطاه ملكا ل عظيملا ،فأوحى ا تعالى للملئاكة اعهدوا إلى أزهدكم ورئايسكم! فوقع التفاق على
جبريل وميكائايل فنزل إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه عند رابية للحلب ،وكان لبراهيم أربعة آلف راع ،وأربعة آلف كلب ،في
عنق كل كلب طوق من ذهب أحمر ،وأربعون ألف غنمة حلبة ،وما شاء ا من الخيل والجمال ،فوقف الملكان في طريق الجمع
فقال أحدهما بلذاذة صوت :سبوح قدوس ،فجاوبه اآخر :رب الملئاكة والروح ،فقال :أعيداها ولكما نصف مالي! ثم قال :أعيداهما
ولكما مالي وولديِ وجسديِ! فنادت ملئاكة السموات :هذا هو الكرم ،فسمعوا مناديا ل من العرش يقول :الخليل موافق لخليله .فكن
أيها الملك غير مبال بوجود المال وعدمه إذا سلمت لك نفس رياستك وقلة مملكتك .وسنذكر حكايات الكرم في مواضعها من
كتاب" :السلسبيل" وكتب "إحياء علوم الدين" فإذا أردت اقتفاء آثار السابقين فقد ذكر في كتاب فتوح سيف الدين الكوفي أن أهل
الشام لما أثقلهم الحصتر وقالوا ل نسلم إل لمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى ا عنه ،فلما علم عمر ذلك حصل فرسا ل
وحمارلا ،فقال له كبار أهل المدينة :المملكة بناموسها ،فأجابهم بأن المملكة معطيها صاحب السماء ،فصفوا خواطركم وعلم هممكم
لتبصروا السعادة بمقاييس النوار من وراء الفلك .ثم سار إلى الشام فاتفق له أن وقع به الحمار في غدير ماء متغير وحمأة،
فابتلت مرقعته ،وكانت نوبته ،فعرضوا عليه ركوب الفرس فأبى ،وقالوا :قد أقبلت العساكر والرهابين لتسلم عليك ،فغير ما عليك!
فلم يلتفت حتى أقبل عليه جملة الشاميين بنواقيسهم وقبعاتهم ،فلما رأوه في تلك الحالة قالوا بأجمعهم :أنت عمر ولك نسلم ولك
نطيع وندين ،كما قال المسيح" :إذا وصلكم صاحب المرقعة المبلولة بالماء والتراب فسلموا إليه" .فهذا خبر سر معارف رسول ا
صلى ا عليه وسلم ،كيف صفا ووفى،
ص 500
فعرفه سر ماكان وما يكون .ومن تلك النوار اعتصر الناس ملحم رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وقمر النبوة الذى هو أخوه
وشريكه فى نوره اعتصر كتيبا ل مثل الجفر والجامعة وكتاب خطبة البيان وهى حاوية على أكثر ما يكون فى الزمان .
وإن طلب أحد الهدنة فهادنه إن كان مسلما ل ،وإن كان كافرال وقدرت عليه فل تهاون كيل تفوت الفرصة ،ولتكن الهدنة إلى أمد
معلوم وأقلها أربعة أشهر فإن صفت همتك وكانت روحانية لها مجانسة فى الملكوت العلى ،وعلو همتك ظاهرة ،فخذ طريقا ل
صلحا ل من تثليث وتسديس من نجم ناظر اليك ل إلى سواك ويخر له ‘ فإن تونست به صار لك وزيرال ،والصل فى البخور هو
علو الهمة ،وتزكية النفس وتقليل المأكل ،والنقطاع فى الخلوة ،ودوام الذكر ،ينخرق لك من رؤية الغيب من علم الباطن أنوار
المكاشفة ،فتصير الملك والفلك حديثا ل يغلب ل هوتك على ناسوتك ،فتصير زيتا ل لمصباح مشكاة النوار اللهية كما قيل
)شعر(:
ثقلت ازدجادجات أددتلتنا فرلغا
ف الرااح ت دبصر ه دحاتى إدذا املدئا ل
تخافت دفدكاددت ل أدلن دتهطيدر هبدما دحدو ل
ف هباللروداح ودكذا الاجاسوام دتخ م
وإذا حصل لك خمير السعادة من العلة الولى التى هى مبدأ كل علة بطريق المجاهدة فى تحصيلها ،أفرغت عليك أنوار المحبة ،
فصار الخلق لك طائاعين بل سيف يسيف بينهم ،ثم يبسط باع فيهم كما كتب بعض الملوك على درع له )شعر(:
ت له دعدلاى هدلرسع دتهلين ا الاملردهدفا ا
من الاشجاعهة ل من نسج داود
صايرنى دو إهاننى فيهه أمر ا د
س فى بحهر همدن الجود ه اليأ من ل ا نار د
فإن انسد عليك باب المجاهدة وغلقت ،ورأيت باب الطلب مسدودال فل ترض بالمناقصة ،بل تميل إلى الزهد فإن الناس رجلن
ناسك ومالك ،كما تمثل عمر رضى ا عنه ببيت الفرزدق استشهادال به ثم أنشد )شعر(:
إهاما اذدبادبا فل تعبأ هبدملنقصة
أو قيمة الرأس دواحدذلر أن دتدقدع دوسطا
ومثلها قال أمير المؤمنين عليى رضى ا عنه )شعر(:
هإذا دمادلم ل دتاكلن مطاسعا
كما تضلرضى دفاكلن عبدال مطيعا ل
.............................................
ص 501
دفإلن دللم تملهك المدنيا جميعا ل
كما دتلخدتار دفالتاركها جميعا
اهما شيئاان من نسك وملك
س
اينيلن الفتى شدرفا درهفيعاد
ش بكرَل شئ إهدذا المرءث عا د
ضيعاش به دو ه سوى هذين ه عا د
وكتب معاوية إلى ابنه يزيد :إن فاتك يابنى الملك فل يفوتنك المحراب وبهذا الطريق نال الناس مطالبهم حتى رأينا الملوك
متقاطرين على باب الزهاد ،ولهذا قال القشيرى :
ب للميهر إهدذا ما الدفهقير ا هببا ه
س الفقير ه دئا ل ب و المير س
ه دئال ب د
ف
ب الفقير دوأداما الميار ببا ه
فنعم المير وهنعدم الفقير
واعلم أنه إذا حصلت القلوب بمعرفة صمديتها ،وانكشف لها نور الجلل بالبراهين الباطنة ،وحصلت التخلية والتصفية ،كوشف
بالعالم العلوى والخروى وعلم سر معانيها ،فهو كالذى كوشف بمعرفة الكيمياء الكبر ،فتصير الملئاكة له خداما ل ،فيشاهد
ث ؟" قال :أصبحت بال مؤمنا حقا يل ،فقال ت ديا حار ا أساور الجنة وأسرها كما قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " :دكليف دأصلببلح د
ك ؟" فقال :أعرضت نفسى عن الدنيا فاستوى عندى ذهبها ومدرها ،وكأنى عليه السلم " :إهان لكل دحق دحقيدقسة دفما د دحقيدقاة إيمان د
د ل
بأهل الجنة فى الجنة يتزاورون ،وبأهل النار فى النار يتعاورون ،وكأنى بعرش ربى بارزا .فقال عليه السلم " :امؤمسن ناودر ا
ك،دو اثلالثا هلررَب د
ك". ك،دو اثلالثا هلهدرهعهيات د
ك ألثلثا ل :اثلالثا لهدنلفهس دك دوددلهدر دك دوايادم د ت فأللدزلم! والقهسلم اعلمدر د دقلدباه الدن دعدرلف د
واعلم أن الناس بك لئاذون لطلب منافعهم ،وكل أحد يريدك لنفسه إل ا ،فإنه يريدك لك ،فكن معه ولزمه ول تستهويك المانى
،فالظل لبد أن يزول ولو عمرت ما عاش آدم ،أخبرنى الستاذ الجوينى عن مشايخه :قيل لمحمود بن بويه :كيف عمدت إلى طلب
ل؟ فقال :سمعت امرأة تنقر د مافا وتقول بيتا ل لعمر بن سبطى )شعر(: المملكة ولم تكن لها أه ل
ب دودجاسدردبدلدغ المنا ب دخا د دملن دها د
د د د
والداهر هفيه اعذوبة دوعذاب ا رَ
فحملنى ذلك على طلبها فطلبتها ونلتها .
...........................................................
ص 502
وقد تحالى المتنبى حيث قال )شعر (:
ب واثلقا بال وثبة حازم دفهث ل
ديدرى الموت فى الهيجا جنا الانلحهل فى الفم
وانظر إلى علو همة الحلج ،وإن كان قد قال الحاسدون فيه ورجموه بالحلول ،وقد تلقى الموت غير خائاف ،ونطق ظاهره بما
أعمى جهلتهم ،حتى قيل لبى العباس بن شريح :ما تقول فى الحلج ؟ قال :ما أقول فى رجل هو أفقه منى فى الفقه ،وفى الحقيقة
ما أفهم ما يقول ،فقيل له :ما سمعت منه من جملة ما سمعت ؟ قال :سمعت فى بعض كلمه وهو يشير إلينا :من حضر بطلت
ت ااالمدقارهبيدن"لنهم واقعون ت الدلبدراهرسرَيئاا ا
شهادته ،ومن غاب صحت ،وفى مثل هذا قال رسول ا )صلى ا عليه وسلم (":دحسدنا ا
مع صف التجلى ،فما لهم والندم على ما كان والخوف مما يكون ،صفت أحوالهم فى راووق المجاهدة ،فامتنعوا بطريق الدلل ل
عن اللتفات إلى غيره ،فطاروا بأجنحة علومهم المجموعة فى المجاهدة والتصفية والتزكية فخرقوا حجاب الناسوت حتى وصلوا
إليه ،ضاقت بهم العبودية فخرجوا عن حيز العالمين ،فمزجت الناسوتية بصفات اللهوتية ،ثم عادت النفوس الطاهرة إل معادنها
،فهبت عليهم نسمات واجب الوجود ،فحلوا فى خيام الراحة بعد البعث فى مقعد صدق عند مليك مقتدر كما قال السكران من العشق
)شعر(:
ب هفنااء اكلماهإهانما الح م
حدم ا امرأل قال به در ه
ضدحى هبدقللهبى سالما إهان دملن أد ل
دللم يذلر منه سوى قالبه
هفى هظلهل الاشوهق قلبى راقد
من هجير الهجرقد قال به
فإن لم تكن أيها الملك الطالب ل بهمة علوية ول بيد باسطة سبعية فأنت كما قيل )شعر(:
إهدذا كنت ل اتلردجى لدفع ملمة
ول لذوى الحاجات هعندك مطمع
ول أنت ذو جاه ءايعاش بجاهه
ول أنت يوم الحشر ماملن ديلشفع
ك فى المدنيا دوملواتك واحد ش ددفدعلي ا
وعود خلل من حياتهك أنفع
..............................................................
ص 503
ومثله )شعر(:
ب الدقلتال والهقدتاال علينا اكهت د
وعلى الغانيات هدجمر الاذيو ههل
وقد مر بك شعر آخر :
ت دفام ل
ت إهلن لدلم دياكدن ابمد همدن ادلملو ه
ت هظلهل السل الذوابل دتلح د
وكن آخلذا بقلوب الناس بكتب وهدايا ،واستجلب مودات الكبار ،والخدمة للخبار ،وإكرام العلماء ،وإمدادت أحوال الناس ،وسد
صدل دملن دق دطدعهنى ت أدلن أدلعافو دعاملن دظدلدمنى دوأد ه خللهم ،والصفح عن زلتهم ،ولنظر كيف أدبك المصطفى عليه السلم حيث قال ":أ اهملر ا
دوأ العهطى دملن دحدردمهنى ،دوأدلن أدلجدعدل اساكوهتى هفلكدرلة دودكلهمى هعلبدرلة" .إن أردت الجواب فل تعجل ،واستعرض كلم الرسل متفرقين غير
مجمعين ،وأعط الجواب على تؤدة ،وأرض الرسل ينبسط ثناؤك ،فقد قيل إنه لما دخل حكيم العرب على كسرى أجزل له العطاء
ك الداياام اندداولادها دبليدن
،فلمه بعض الكبار ،فقال الملك :مملكة وجمع لؤم داءان ودواء فالغلبة للكثر .واتعظ بقول ا تعالى {:دوتلل د
الدناس })آل عمران .(140:فهكذا قد انتقلت من سواك إليك ،وستنتقل منك إلى سواك ،وانظر إلى المثال المضروبة فى شعر
أمير المؤمنين عليه السلم )شعر(:
س فى زمهن القباهل كالدشجرة الانا ا
دودحلودلها الناس مادامت لها ثمره
صرافوا ت من حملها الن د دحاتى إذا ما دعدر ل
ل
عنها عقوقا دودقلد كانوا بها برره
دودحادوالوا قطعها من بعد ما شفقوا
دهرال عليها من الرياهح والغبره
ض كلهم ت أدلهل اللر ه ت اماروءا ا دقلا ل
س العشر من عشره د ل
ي د ل د
ف القل إل
ل دتلحهمدن امرأل دحاتى اتدجرَراباه
ا
دفارابما لم يوافق خلبارها خدبدره
د
واصطف لك من الناس من تركن إليه فقد اصطفى ا من الناس رسل لومن الملئاكة ،وا أعلم حيث يجعل رسالته .واذا عزمت
لثر "من دخل أربعين الحمام أمن من الفقر " والخال ليلة الخميس على دخول الحمام فالفضل يوم الربعاء ،ففى ا ل
........................................................
ص 504
والجمعة لطلب حاجاتك من ا الكريم ،ففيها بلغ النبياء والعلماء وأرباب المقاصد والرياسة )شعر(:
ت أدلذاكارها دوكادن ما دكادن هماما دللس ا
فظان خيرا ول تسألل دعهن الخبهرل
وفى يوم الجمعة ساعة من أدركها بلغ حاجته ،فقد قيل هى أول النهار ،وقيل وسطه ،وقيل آخره ،وهكذا نقل عن فاطمة صلوات
ا عليها أنها كانت تترك جارية لها لنعرفها غروب الشمس من يوم الجمعة .واقرأ فيها سورة النعام ول تكلم فيها أحدال ،فإذا
ث ديلجدعال هردسادلدتاه} )النعام .(124:فاسأل ، وصلت إلى قوله تعالى {:اا أدلعدلام دحلي ا
لن ا ماراد قسم من أقسم عليه من النبيين .وكل من النبياء كان له خاصية فى يومه ،مثل السبت لموسى ،والحد لعيسى ،
والثنين لبراهيم ،وفى يوم الثلثاء جاءت البشارات لنوح عليه السلم بالنصرة ،وفى يوم الربعاء انتصر زرادشت على أهل
أرمينية ،وكان الخميس والجمعة لرسول ا )صلى ا عليه وسلم (.
وقد قال المنجمون فى أيام السبوع ما قالوا وجعلوا لكل كوكب يوما ل:فالسبت عندهم لزحل ،والحد للشمس ،والثنين للقمر
،والثلثاء للمريخ ،والربعاء لعطارد ،والخميس للمشترى ،والجمعة للزهرة .وقد ذكر الجمهور منهم أن طالع رسول ا صلى
ا عليه وسلم توله الزهرة ،وهم لم يطلعوا على السرار ،ونحن نكشف نبذال من ذلك فنقول بأن موسى دعا إلى المغرب لتحكيم
زحل فى تلك الجهة ،وقبلة عيسى إلى المشرق نحو الشمس ،وقبلة نبينا محمد )صلى ا عليه وسلم (إلى جهة الكعبة وهذا سر لم
يطلع عليه أحد إل من شاء ا،وذلك أنه إذا قام مستقبل القبلة الحرام كان سهم زحل يمينا ،وسهم الشمس شمال ،والجدى فى مقابلة
وسط الكتفين ،والنسر الطائار وسعد بلغ فى جهة العلوية ،فتم مع السعادة ماتم ،فأصيب بسهم السعادة مالم يصبه أحد سواه،فبلغت
حجته ،وعلت كلمته ،ودامت دولته ،وسعدت أمته ،وعضدت شريعته ،فنصرها الترك من المشرق وأهل الغرب حتى بلغ أنهم
أمنوا ل بالسيف بل بالكتب)شعر(:
أوائال الركب مالى منهم خبر
وهكذا البيت الثانى .
واسمع قصة عيسى عليه السلم مع جالنيوس ملك الساحل وطبيبهم ،حين نفذ إلى عيسى :إنا ل نطلب منك إحياء الموتى بل هذا
الرجل المسلول اشفه لنا فى هذا الشهر كانون وأنا أوءمن بك !قال المسيح :ائاتونى ببطيخة ،فسقاه منها ،فقام الرجل شيئاا ل أسود على
هيئاة الخبز المحرق ،فقام بقدرة ا تعالى سليملال مرض به .ثم قال عيسى عليه السلم :يهددنى جالينوس ،ثم دخل هيكل العبادة فما
انتصف الليل إل وثار على جالينوس علة
..............................................................................
ص 505
أسطوريا والكراثية ،فمات بها قبل الصبح .وحدثنى يوسف بن على بأرض الهركان التى بنبات أرضها خواص عظيمة نذكر نبذا
منه فى أماكن من هذا الكتاب ،وشيئاا لفى كتاب "السلسبيل " قال يوسف شيخ السلم :دخلت المعرة على زمان المعرى وقد وشى
به الوزير إلى الملك محمود بن صالح ،وقال إن المعرى رجل برهمى ل يرى إفساد الصورة وأكل الحيوان ،وإنه يزعم أن الرسالة
تحصل بصفاء العقل ،ولم يزل الوزير جاهدا حتى حمل الملك على إحضار الشيخ أبى العلء المعرى ،فأنفذ وراءه خمسين
فارسلا ،فدخل إلى الشيخ رجلن من أصحابه وأعلماه بالقصة ،فدخل المعرى المسجد وأنزل الفرسان فى دار الضيافة ،فدخل مسلم
عم المعرى على الشيخ وقال :يا ابن أخى قد نزلت بنا حادثة ،يطلبك الملك ،فإن منعنا عنك عجزنا ،وإن سلمناك كنا عارا ل عند
ذوى الذمام وتكون الذمام على آل ننوخ ،فقال المعرى :خفف عنك غمك وأكرم أضيافك ،فلى سلطان يذب عنى ويحامى عمن
هوفى حماه ،ثم قال الشيخ لغلمه :قدم الماء !فقدمه إليه واغتسل به،فلم يزل يصلى حتى انتصف الليل ومر أكثره ،ثم قال لغلمه
:أين المريخ ؟فقال :هو فى منزلة كذا وكذا فقال :ارقبه واضرب وتدا تحته ،وعقد خيطا لفى يدى متصل لبالوتد !ففعل به ذلك
فسمعناه يقول :يا علة العلل ،ياقديم الزل ،ياصانع المصنوعات ،أنا فى حماك الذى ل يضام ،ثم جعل يقول الوزير الوزير حتى
برق بارق الصبح ،فسمعنا هذة عظيمة ،فسألنا عنها فقيل هى دار الضيافة وقعت على ثمانية وأربعين رجل ل .وعند طلوع الشمس
جاءنا كتاب الطائار يقول فيه :ل تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير .ثم التفت الشيخ إلى ي
وقال :من أى أرض أنت ؟فقلت :من أرض ا تعالى ،فقال :أنت من أرض الهركاز ،أنت يوسف بن على ،حملوك على قتلى
وزعموا أنى زنديق ،وكان حجتنا بالشام ،ثم قال لى :اكتب على صفة الحالة )شعر(:
دبااتوا وحتفى أمانى لنيتهم
ضروا منى على بال ه وبت للم ديلح اد
ودفاوقوا لى إشارات سهامههم
صدبدحت لوقلعا منى بأمياهل دفأ د ل
دفدما ظنونك أدان اجلندى ملئاكة
ف وحجاهل دواجلنددهم بين طوا ء
تلدهقياتهم بعصا موسى التى دمدندع ل
ل
فرعون ملكا ونجت آل إسراهل
أقيم خمسين صوم الدهر ألفه
واد من الرَذكر أبكارلالصال
............................................................................
ص 506
عيديهن أفطار فى عامين إذا حضرا
عيد الضاحى ويقافو عيد شوال ه
س فى حلءل ت الجل ا هإذا دتدنافتس ه
س القض سريالى درأيتنى من خسي ه ا
ل آكل الحيوادن الادهر مأثرة
ف من سوهء أعمالى وآمالى أخا ا
دندهلياتاهلم عن حرام الاشرع كيلهم
وديأمرهونى بترهك المنزهل العالى
وأدلعاباد ا ل أرجوا دمائاويته
لكن تعبد إكراءم وإجلهل
صوان دينى عن اجلعءل أؤمله أد ا
إذا تعبد أقوام بأجعاهل
فإذا كنت أيها الملك على هذا الوصف بلغت المقاصد ،ووصلت إلى المشرب الهنى ،
ولكبت أعداءك ،وتصير مثل دعاء القلنسوة والنجاشى ،وربما تكون أنت الملك السفيانى يفتح لك الحصون من غير تعب ،ويجود
بك الذرع والضرع والزرع ،إذ الناس بالمال ،وربما لسعد بهذه الحالت كما سعد السكندر .فما قد كان يجوز أن يكون ،وقد
قال فى خطبة البيان :لبد من ظهور ملك عادل زاهد خائاف ،يمهد البلد ويحسن إلى العباد وهذا بعد ثلث وسبعين بما شاء ا .
وهذه من الخواطر الربانية كيف ظهرت فراشتها فى كشف المور المغيبة ،فإذا رق حجاب القلب يرتفع السد ،يتبين له ما فى
اللوح المحفوظ فيخبر بما فى عالم الغيب من غير ريب ،وا عالم الغيب يعلمه من يشاء ،والملوك تودع سرها عند من تحبه
وتختاره ،وقد سمعت حكاية أيار مع ا لسلطان محمود ،فانتبه أيها الملك لهذه النكت والشارات ،وقد نصحت لكم إن كنتم تحبون
الناصحين .والملك بالعلماء أليق من الفجرة الفاسقين ،ولكن ليقضى ا أمرال كان مفعول ،ول بد للرض من ناصر واوراث
يورثها من يشاء من عباده
...............................
ص 507
حيهما ادلرحدمهن الار ه
بسم ه
أعلم أن الناموس هو مفتقر إليه فى بعض الحيان كالدواء ،ولكم نكشف شرح مشقة الحوال عند العوام ،فإن الشرع خاطب
الناس على قدر عقولهم ،والمنزه ذكر خاطب كل أحد بما يستحقه ويعقله ،فلقوم ولدان مخلدون ،ولقوم سدر مخضود وطلح
ضرةس ) (22إلى رهبدها نا دهظرةس { ا]لقيامة .[23 ،22 منضود ،ولرباب الهمم العالية }اواجوهس يومئاءذ انا ه
والمنشد قد نبه فى نظمه )شعر (:
إهاما اذبالبا فل دتلعدبأ بمنقصة
د د
أو قمة الارأس دواحذلر أن دتدقدع وسطا
واعلم أن الزمان حبيب أهله ،وطائافة تخترع لها مذهبا ل فى الناموس بطريق الزهد ،كالسبح ،والمرقعات ،وجلود الغنم ،
والبرانس ،وأذان الذيل ،والنقطاع فى الكهفان وكبر المور بحيث أن يقول لصاحبه اذهب ففى الموضع الفلنى كذا وكذا .
وطائافة تظهر النور ،وأخرى تقعد بين القبور ،وإظهار الخزعبلت والنيرنجيات بمعرض الكرامات ،ودهن القدام ،والخوض
فى النور ،وإظهار الخرق من سمندل الصين التى يذهب وسخها النار ،وإظهار الخفف ،ومد الشعبذة ،وضرب طلسم على النعل
فيعبر الماء ،ووقوف السجادة فى الهواء ،وشعلة القناديل ،وإشعال السراج بالماء دون الدهن ،وكثير من ذلك ل عدد لها .والفرق
بين المعجزة والسحر والكرامة هو دواء الشئ وإظهاره للناس ،كالقرآن المجيد ،فهو المعجز الكبر ،والناموس العظم ،فل
تطلى على الملك حالت المبرهن .وأما أرباب الكرامات والمكاشفات فهم الذين استخدموا وخدموا ،واستعملوا وعملوا ،فكشف
لهم العمل سد الغفلة ،وضرب جهة الذكر ما فى الشبه القلبية فأزال زرقها وسوادها ،ووقعت المشاهدة عقيب المجاهدة ،فتنورت
القلوب بنور الصدق والتصديق ،فهامت النفوس المقدسة فى مهامة المروج الصمدية ،وانكشف سر اللوح المحفوظ من دار
الديمومية ،وظهرت الخواطرالصافية عن الجسام الرذلة المعلومة فأغرقت فى قلب كمال الوجود ،ووافت من صحبة أهل الجود
،وبزغت لهم أقمار الحقائاق من فلك الطرائاق ،فكان باب بدو البداية رؤية كوكب ضعيف ،ثم انبسط النور الربانى من نقش
عرش اليمان فصار قمرال إبراهيم يليا ،ثم انجست عيون المحبة الربانية عن فيض شمس الحقيقة البرهانية ،ثم رق القلب الصادق
الصافى الوافى على ابراق علرَو الهمة فصادفت فلكا ل وملكا ل ،ثم صفقت أجنحة الشتياق فصادفت عقار المحبة ممزوجا ل بمياه
الخوف ،شربت لما قربت ،وطربت وتقربت ،وشقت ثياب البشرية والتحقت به بالكلية ،وأنشدت فى سكرها )شعر(:
.........................................................................
ص 508
دولددقلد دخلدلعت اعلى العواذل دسللوهتى
ت هبالدحدردميهن ل أنسااكام دو دحدللف ا
ففتحت أبواب مجالس الطرب ،ونادى العاشق الصادق من عظيم الويل .والحرب عجز عن حمل حلوة الخلة فنادى بين شوارع
دروب الكروب :
بال ربكما اعودجا على دسكنى
ب يعطافه ودعاهتدباه ا دلعدل العت د
ودعرَرضاه بى وقول فى حديثكما
ما باال عبداك بالهجراهن تتلفها
دفإهلن تبسدم قول فى ملطفة
ما ضر ا لو بوصاءل منك تسعافه
وإن بدا لكما من مالكى غض س
ب
فغالطاه وقول لسنا دنلعهرافه
فإذا شوهد منه ضعف الحمل أماتته يد القدرة تحمل التنيين ،فهو معروف فى البداية بالجنون ،وفى النهاية بالفنون ،فنراه فى حال
بدايته يتشبب بالنغمات والسماع ،إن اتخذه دأبه وعادته صرف وجهه عن الباب فضرب بينهم بسور له باب ،وإن جعل ذلك
جسرال يحوز به من العلم الصغر إلى العلم الكبر وهو علم المعارف ،فيدخل فى حالت العاشقين ومقامات الصادقين ،فيقبل
تحت أشجار الحكم اللهوتيه عند رب العالمين ،فتنكسر زجاجات جمسانية ويدور به دولب سعادته ،فأقل مقامه إظهار كرامته ،
فإذا رأى أحدال من أحبائاه وضع خده تحت نعله وترابه ،كما نقل فى الحكايات المجنونية فى ليلى العامرية أنه ارثى على كتفه كلب
يطعمه ويسقيه ،وقيل له فى ذلك ،فقال :رأيته يحرس باب ليلى ،ثم أنشد حين تأود )شعر(:
ردأى المجنوان فى الفلوت كللبا
د
ضام إليه بالحسان ذليل ف د
فلموه على ما كان منه
ت الكلب دنليل وقالوا لدم دمدنلح د
فقال ذروا دملدماكام فعينى
رأته مرة فى باب ليلى
وهذا يعضده ما روى " أن النبى صلى ا عليه وآله وسلم قيل له :أل تصلى على فلن وقد مات ؟ فقال :ل أ ا د
صرَلى على دملن دللم
صرَل ،فقال عمر :أنا رأيته يصلى ركعتى اي د
......................................
ص 509
صرَل هإل ا دنافدللة" ! فجاءه جبريل عليه السلم أمين الحضرة وقال له " : صرَلى دعلى دملن دللم اي د العيد ،فقال عليه السلم " :دكليف أ ا د
يامحمد أليس رأوه فى بابنا مرة إدذا رددته من بابى فبباب من يقف ؟ يامحمد إنى قد غفرت له فصلت عليه ملئاكتى ،إن ا لغنى
عن العالمين".
المقالة الرابعة عشرة
" فى المواعظ التى تجلب قلوب الناس إلى طاعة الملك "
إنا قد عيرفناك بطريق ثلثة داعية إلى الملك ،وها نحن نعرفك بطريقة أخرى فنقول :يا أيها المعيب القائال من فلن حتى يثبت
على الملك بماله وآله وملكه ومقال أبيه وأمه ،فنقول له :من كان نمرود بن كنعان ،وعاد صاحب الجنان ؟ فإدريس مخيط الخيام
،ونوح نجار اليام ،وإبراهيم راعى الضأن ،وداود زراد ،وطالوت دباغ ،وصالح اتجر ،وسليمان خواص ،وعيسى سراج ،
ك دملن دتدشااء دودتلنهزاع اللاملل د
ك هماملن دتدشااء دواتهعمز دملن دتدشااء دواتهذمل دملن دتدشااء{]آل عمران . [ 26 : وآدم حراث ،أما تتعظ بقوله } اتلؤهتي اللاملل د
واعلم أنه لبد لك من ملك تقتدى به وتميل إليه ،فللحيوان أمير ومقدم كالنحل والنمل وغيره .إن فهمت بآذان العقل فكن أطوع من
ضيف ،وإل هامتك والسيف .أما سمعت قول المشرع عليه السلم " :أطيعوا أميركم ولو كان عبدال حبشيا ل " .قال ا تعالى ":
أهطيعوا ا وأطياعوا الاراسول دوأ الولى الدلمهر همناكلم{ ] النساء . [59 :فإن فهمت المواعظ فقد قال رسول ا صلى ا عليه وسلم " :
ل تشابكوا المساعيد فإنى سيدهم " فإن عربد الجهل فانظر إلى البازى والعقارب والنسر والذباب كما نظمه ذوو اللباب )شعر(:
ياطالب الرَرلزهق الاسناى بقوة
هيهات أنت بباطهن مشغوف
ت النسوار بقوة هجيف الدفل ردعدع ه
فب الشهدد دولهدو ضعي ا وردعى الذبا ا
لول ،وإذا سمعت بالمرتاضين فكن بهم مل يلما فإن خواص وأنت أيها العاقل لتشابك الزمان والدول ،ول تفتن بما جرى للقوم ا ا
أنفاس القوم فيها جذب مغناطيسى أما سمعت بذى القرنين لما سمع بأرباب الهمم الهندية ،وهو أربعون رجلل ،اتخذ لهم ما
أزعجهم وفرق هممهم ،مثل زعجة الطبول والبواق ،فتفرقت هممهم فداسهم .وانظر إلى المعانى التى أودعناها فى كتاب الملك
فإنها كافية ،واستزاد من الشارات ول تكذب الكلمات فإنها أخوات المعجزات ،واعلم أنه ل يستقيم جسم من غسر رأس ،ول
ض من غير عمارة ،وفلحة وتجارة ،وموت وحياة ،وغنى وفقر وملك وسياسة ،وإمارة سماء من غير شمس ،ول تلحاسان أر س
ووزارة ،فالمور منظومة بعضها ببعض ،كما سنبين لك فيما بعد
............................
)ص (510
المقالة الخامسة عشرة
في قطع دليل المستدل
مسألة ما يقول في الدليل :ما أخذ منكم يا معاشر المناظرين إل وقد تمسك بدليل يصلح عقده أن يكون دليلل ،فيعارضه مناظرة بما
يناقضه ،والمنقوض كيف يكون دليلل والناقض إذا نقض بغيره فقد دخلته العلة فبطل عن منهج الدليل ،وعارضه العلة بالنقض
فصار كل دليل مزلزلل معلولما غير مقطوع ،فإن كان منقولل أو معقولل وعارضه النقض فقد بطل حكمه أو قوله ،فإن قلت بطل
قوله فقد هدرت الشرع ،لن الحمك والقول ملعا ،فأين آثار فقه المستدل؟ وإن كان دليلك معقولل قيالسا فكيف يستند بالقياس إلى
منقول منقوض؟ وإن كان غير قياس فكيف يمشي به السؤال؟ فبطل الكلم في النظر ،وإذا علمت أن كلمك مدخل تحت العلة
والمعلوم ،فما العلة التي تنفصل عن المعلوم؟ أم هي غير منفصلة عن المعلول؟ فإن كانت العلة غير منفصلة عن المعلول فكيف
يجوز أن يكون دليلل؟ وإن كانت داخلة في المعلول فإما أن تكون جنسه أو غيره ،فإن قلت إنها غيره فأين دليلك لتبيان القول؟ وإن
قلت بأنها جنسه فكيف يأتي بعد مبين من غير نتيجة بأنها علة** ومعلول؟ وكل من فقهت نفسه لشيء فهو فقيه ،فكيف خص الفقه؟
وأين آثار التخصيص به والدليل المقطوع له؟ وما النظر وما معنى المناظرة والمجاورة؟ فإن قلت المجاورة هو زوال الشكال من
الحجة بطريق التبيين ،كما يقال التبعيض إن فللنا أعرب حين بين ،وفلن بيض قصيدته ورسالته ،فأين آثار تبيين حجتك إذا قطع
الدليل والبرهان؟ وإن قلت الجدال المتشابكة أو جدال الجيل حين حاستك بعضه ببعض ،فما ينفعك هذه المقالة اللغوية واللفظات
الصطلحية إذا كان متن دليلك مقطولعا بالنقض والعلة الداخلة عليه من الخصوم .فل بد من جواب فخور يفهم الخاطر ،فما هذا
مقام أو مقال يحتمل المغالطة والمدافعة ،فإن كان جوابك من غير السؤال فهو مداخله ضعيفة به ،وإن كان من نفس المسألة فل بد
من برهان قاطع غير منقوض ،فالمنقوض معلول ل يصلح أن يكون جوالبا .وإذا سئالت عن الحجة والمعرفة بالشيء فإما أن يكون
معرفتك برهان قاطع نقلل أو عقلل غير منقوض ،فمشه وكن به مستدلل ،فالمعرفة بالشيء إما بنفسه أو بغيره ،فإن كان بنفسه فهو
البرهان المقطوع به إذا لم يكن سبيل البعض داخلل عليه ،فالبرهان التصديقية كان برهانها تصديقها مثل ما تقول :هذا رجل ،فل
تفتقر أن تبرهنه ،وهذا ليل أو نهار ،أو عشرة أكثر من خمسة ،فهذا ل يطرد عليه معنى في بعض ول ينعكس ،لن تصديقه ينقسم
ول ينقسم ول يفتقر إلى برهان ،فأت بدليل على مثل هذا المعنى! فقد علمت أن هذه العلة ل تفارق معلولها ،وأن المعل ل يكون
لجهل أو لفهم أو قبحه،
)ص (511
وإنما يكون براهين تصديقية أو براهين معلولة أو منقولة غير منقوضة ،فإذا دخل النقض أزال حكم الدليل ،فهذا معنى قولنا قطع
الدليل .ثم تستدلون بأخبار الحاد والمراسيل وقد علمتم بالملزم فيها من الطعن والتشكيك ،ثم المتواتر بنفسه عندكم فهو دليل ،ول
يعتبرون فيه العلم ،إذ هممكم إنما هو وقائاع وخصومات وإظهار مناقشات في رياسات ،و الباحث عن إظهار الحق قليل.
المقالة السادسة عشرة
في كتاب الطهارة وآدابها وأسبابها
واعلم أن الطهارة فرض ظاهلرا أو باطلنا ،فأما الباطن فطهارة القلب من كل شيء سوى ا ،فإذا وجدت من القلب هذه الطهارة
الصافية الكاملة صار القلب محلل للفيض الرباني والعلوم اللدنية اللهية ،وكشف أغطية السرار عن نير نهار القدس ،فابنجست
عيون الكرامات ،وترقى العقل من حضيض الشهوات إلى سماء الخاصة ومعارفها ،ثم إلى سماء كشف أسرار الربوبية ،ثم يترقى
العقل الجوهر الكامل إلى كرسي المراقبة ،ثم إلى عشر حضرة القدس ،ثم تقدم له موائاد فوائاد تحف المحبة فيشرق أنواها على
هياكل الطباع المظلمة ،ويجريِ قلم التوحيد فوق لوحد التمجيد بطريق التأييد ،فمنهم شقي وسعيد .وإذا كشفت لك هذه المملكة
الباطنة لم تلتفت على الموت ،فإن الموت هو جامع بين الحباب ،وفي الطباع المتنافرات مفرق بينهم )فتمنوا الموت إن كنتم
صادقين( ]البقرة .[94 :وقد سمعت النظم فيه شعلرا:
سهل عليك الذيِ تلقاه من ألم إن كان شملك بالحباب يجتمع
فإذا طلعت عليك كاسات الوصال في دار التخلية ،وهبت ريح النسيم ،ونادى مناديِ التقديم )وفي ذلك فليتنافس المتنافسون(
]المطففين .[26 :فعند ذلك تصير روحك مللكا يضيء ،ولو لم تمسسه نار.
واعلم أن ا تعالى خلق الخلق وصنفهم ثلثة أصناف :فطائافة عقل مجدر وهم الملئاكة ،وطائافة شهوة مجردة وهم البهائام ،وطائافة
عقل وشهوة وهم بنو آدم وهم وسط بين الطائافتين .فمن غلب عقله شهوته التحق بالملئاكة ،ومن غلبت شهوته عقله التحق بالبهائام
)فاستقم كما أمرت( ]هود.[112 :
ثم نعود إلى الطهارة الظاهرة ،قدم الماء الطاهر في الناء المخمر ،واغسل يديك قبل الوضوء ثللثا ،واستقبل لوضوئاك القبلة ،وكن
على نشز خوف النضح وعليك بالتسمية
)ص (512
والسواك والنية في مبدأ الفرض ،ففرض الوضوء ستة :النية عند أول جزء من الوجه ،ثم غسل الوجه ،ثم غسل اليدين إلى
المرفقين ،ومسح المقبل من الرأس ،وغسل الرجلين مع الكعبين ،ثم الترتيب في الموالة في أصح الوجهين ،ثم غسل الحيض
والجنابة بوضوء ،وغسل ثللثا ثللثا ،ونية غسل الجنابة أو الحيض .ثم مناقض الوضوء وهي :النوم قاعلدا متمكلنا ،ثم زوال العقل
بأيِ فن كان ،ثم لمس الرجل المرأة ول حائال بينهما ،وينتقض طهر اللمس دون الملموس في أصح الوجهتين ،ولمس الفرج ثم
آداب دخول المسجد بالقدم اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج ،ول يستدبر ول يستقبل القبلة ول الشمس والقمر إل من وراء
ستر وحائال ،وينحي ما عليه اسم ا من عليه ،ويجوز الستنجاء بكل طاهر إل ماله حرمة كالمطعم وغيره ،ول يجوز الستنجاء
بعظم أو جارح أو بما يؤذيِ المحل ،فقد قال صلى ا عليه وسلم" :ل تستنجوا بالعظم فإنه طعام إخوانكم الشياطين" فإن ا يكسوه
لحلما فيأكلوه .والفضل أن يعقب الستجمار بالماء وهي طهارة أهل فناء ،ويقول في دخوله" :اللهم إني أعوذ بك من الخبث
والخبائاث ،ومن الشيطان الرجس النجس" فإن خرج يقول" :غفرانك الحمد ل الذيِ أخرج عني الذى وعافاني" ول يجوز البول
في الماء الراكد ،ول ثقب أرض ،ول على قارعة طريق أو شاطئ ،وتحت شجرة مثمرة وغيره .ثم يجوز التيمم من عذر طارئ،
أو برد مخوف طارئ ،أو جراح ،أو حدوث ثمين ،فيجوز التيمم بتراب وغبار تعلق باليد ،ويجوز عن الحيض والجنابة مع
العذار المخوفة الموجودة ،بضربتين لوجهه ويديه .قال غيرنا :يجوز التيمم بكل ما صعد عن الرض من حجر أو جدار ،ولكن
بعد دخول الوقت ،ونزع الخاتم من اليد .ويجوز للمتيمم أن يصلي بالمتوضئ ،فقد فعل ذلك أصحاب رسول ا صلى ا عليه
وسلم ،ويجوز المسح على الجبائار بشرط الطهارة.
كتاب الصلة وهو مقالتان
مقالة في الحكام الظاهرة ،والمقالة الخرى في الحكام الباطنة وما يجد فيها العارفون
اعلم أن الصلوات الفرض هي خمس صلوات وركعاتها سبع عشرة ركعة ،وأكمل سنتها ثماني عشرة ركعة .وأحكامها الظاهرة
مثل كمال الوضوء بالماء الطاهر ،وطهارة الثوب والبدن والمكان ،واستقبال القبلة ،والتيان بتشديدات الفاتحة ،والطمأنينة في
الركوع والسجود ،والعتدال بين السجدتين ،والرفع من الركوع ،وقولك في الركوع ثلث مرات" :سبحان ربي العظيم وبحمده"
وتقول في السجود" :سبحان ربي العلى وبحمده" مثلها ،وهو أقل الكمال ،ثم الكتناف ،ومعرفة الوقات :فوقت الصبح إذا تبين
الفجر الثاني ويبقى وقت الداء إلى طلوع الشمس ،ووقت الظهر إذا غربت الشمس من وسط الفلك
)ص (513
ويبقى وقت الداء إلى وقت العصر إذا صر ظل كل شيء مثله وزاد عليه أدنى زيادة ،ويبقى وقت الداء إلى غروب الشمس
والمغرب مع طلوع الليل ،ووقت العشاء إذا غاب الشفق الحمر ،وعند أبي حنيفة والمزني إذا غاب الشفق البيض ،وهو وقت
صلة المتقين والبرار .والذان شرط ل فرض إل على الكفاية .ثم تلزم قوانين الداب ،وتستحي من ا كما تستحي من سلطانك،
أما سمعت الخبر :ل تجعلني أهون الناظرين إليك ،قال ا تعالى) :فاستقم كما أمرت( ]البلد .[7 :وتعظم شعائار ا وتأتي بها في
أوقاتها إل الظهر في شدة الحر كما قال" :أبردوا بالظهر ،ونوروا في الفجر ،وأخروا في العصر" .ثم تأتي بكوامل النوافل مثل
الضحى ،والتراويح ،والصلة بين المغربين ،وأوراد الليل والسحر ،وسنن يوم الجمعة العشرة وآدابها مثل الغتسال ،والسبق
إليها ،وقراءة الكهف ،وكثرة الصلة على رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وتواظب فيها على الصلة السبعينية قبل الزوال،
وتطلب فعلها في الحياء ،وتأتي فيها بصلة الحاجة من اثنتي عشرة ركعة بست تسليمات تقرأ بعد الفاتحة آية الكرسي مرة،
وثلث مرات) :قل هو ا أحد( فإذا فرغت من جميع الصلة تسجد بعد السلم فتقول في سجودك" :سبحان الذيِ لبس العز وقال
به ،سبحان الذيِ تعطف بالمجد وتكرم به ،سبحان الذيِ أحصى كل شيء بعلمه ،سبحان الذيِ ل ينبغي التسبيح إل له ،سبحان ذيِ
العز والكرم ،سبحان ذيِ الطول والرحمة ،أسألك اللهم بمعاقد العز من عرشك ،ومنتهى الرحمة من كتابك ،وباسمك العظم،
وجدك العلى ،وبكلماتك التامات كلها التي ل يجاوزهن بر ول فاجر ،أن تصلي على محمد وآل محمد" ثم تسأل** حوائاجك
الجائازة .ول تصل في المواضع النجسة والمواضع المغصوبة ،ول في ثوب حرير ،وفي في خاتم ذهب .وتقوم بالمسكنة به والذل
والصغار ،فإذا اجتمع الناس تحسبه القيامة ،وتحسب صوت المؤذن كنفخ الصور ،فظهور الخطيب في الموعظة كتجلي الحق
بعتب الخلق والتوبيخ ،وقيام الناس في الصلة كقيامهم في الموقف ثم النصراف في المسجد كتفرقهم يوم المعاد :فريق في الجنة،
وفريق في السعير.
والسر في الوضوء هو طهارة العضاء وتنبيهها .والشجرة الدمية كغيرها من الشجر ل بد لها من خدمة ،فتقليم فروعها كقص
الظافر والحلق ،وشربها الماء كالوضوء والغسل ،وتنظيفها وخدمتها كحسن آدابها ،وترك الفضلت الدنيوية إنبات بقول العلوم
عن سواقي الخدمة ،وصون النفوس عن القبائاح والرذائال سباطها وحرمتها ،وجريان مياه الفضل في مجاريِ أنهار العقول يكسب
في الشجرة نوح حمام المحبة وصفير بلبل التوحيد ،وتمام المعرفة وأنوار اليقين في برك البركات ،وصفاء نسيم الصدق في جواز
أحداق المعرفة .وأهداب الشجرة مخاطبة بأنوار اليمان ،ومناديِ الزل يناديِ بقلوب المريدين :سيروا من
)ص (514
قوالب الغيار إلى الشجرة الزيتونة المباركة التي ليست بشرقية ول غربية )يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار( ]النور.[35 :
هذا معنى قوله تعالى" :ل يزال عبديِ المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته صرت سمعه الذيِ يسمع به ،وبصره
الذيِ يبصر به ،فبي يسمع وبي يبصر ،فمن يبصر ويسمع بي أقل ما أعطيه أن أخرق بيني وبينه روزنة يراني بها ،وينظر من
غير مثال ،وأعطيه نولرا يفرق به بين حقائاق معلومات" .معناه تحمل قلوبهم في صلتهم إلى حظيرة القدس فيشاهدون جلل
الربوبية من الديمومية ،وتظهر لهم شموس المعرفة من صفاء سماء حقائاق القلوب ،وتنجلي لهم حالت الخرة بذاتها مثل ميزان
العقل وصراط اليقين ،وهو معنى قوله عليه السلم" :أرحنا بها يا بلل" ومعنى قوله تعالى) :واسجد واقترب( ]العلق .[19 :قال
جعفر الصادق رضي ا عنه" :عند سجود العارف لذيِ المعارج يرفع الحجاب فيرفع القلوب الطاهرة إلى سدرة المنتهى ،فيتجلى
لها أنوار القدس ويفتح لها أبواب جنات حرم الحق ،فيعطي ما تريد لتابعتها لما تريد" كما تمثل فيه بعض أهل التوحيد )شعر(:
أريد عطاءها وتريد مني فأترك ما أريد لما تريد
وإذا صفت القلوب في الصلة من الوساوس والمرذلة ،حظيت بالمشاهدة لرفع غمام الغم وظلم الوساوس عن عرصات القلوب،
فهناك نشاهد الفلك والملك مثل ما نظمه القاضي البستي:
رؤية الحق بالعمى عن سواه وعيون ترنو به ستراه
هو في الكل ظاهر غير أن اللهو بالعيش والهوا ستراه
وسأضرب لك مثلل فأقول :اعلم أن القلب كعرصة فيها شجرة أراد أحد أن يصلي تحتها فوجد فيها عشاش طيور بزقازق وهدير
منعته عن لذة قراءته ومناجاته ،فإن تشاغل بطرد الطيور فاته الوقت ،فل سبيل إلى وجود اللذة إلى قطعها ،وأنت قد غرست في
قلبك شجرة حب الدنيا ،وملت الشجرة بوسواس اكتسابك وهمك وغمك ،فإن قطعتها صفا حالك وعظم إجللك وتجلى جللك كما
قال الجنيد:
تركت هم الدنيا فصفا عيشي وتركت هم الخرة فصفا قلبي
والسر في الصلة إنما هو كتقرب الخادم إلى المخدوم إذ يراه في قواليب الذل والنكسار )عسى أن يبعثك ربك مقالما محمولدا(
]السراء .[79 :وهو معنى قول سقراط:
)ص (515
اشتباك نغمات الصوات من هياكل العبادات ،تحل ما يعقد في الفلك الدائارات .إذ باب خواص الدعية مفتوح ترجم عنه القرآن:
)إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح( ]فاطر .[10 :وصفة داود مع المزامير معروفة ،كان إذا كان له حاجة جاء بزهاد
المجاهدة ،وأقامهم في محاريبهم ،ووكل بكل واحد منهم صاحب مزمار ليقطع بلذة نغمه قلب المريد إلى حاجة داود ،فتسرع
الجابة كإجابة الستسقاء ،والسحر المعول به متأثرة من الهمة.
واعلم أن الوزان القلبية ل تظهر إل بطهارة المحل ،فإذا ارتفع السد من القلب بانت موازين معارف القلوب ،وامتد فيها صراط
الحق ،وفتحت أبواب المعرفة بال ،وبانت أنفاس حميم حب الدنيا ،كما قيل :هناك حميمها القاسي ،حميمها جنة فيها الحمام .فإذا
كان على هذه الوتيرة ،فاجعل حوائاجك من مولك في خدمتك ،وتطيب بطيب المعرفة ،والبس ثياب شعار الندم ،وضع خدك على
تراب التواضع ،واعلم أن لكل شيء وزلنا :ووزن الشعر بعروضه ،وأوزان المميز بالنظر ،وأوزان المأكول والمشروب بالكفتين
والقبان ،وميزان الصوفية بأوقات النهار ،وميزان الخطب بتعديل الكلم ،وميزان القيمة بقصاص الفعال ،فكفة ظلمة ظلمك وكفة
نور طهارة أعمالك .فاعلم حالك واستقم في أحوالك ،فإبراهيم لما بان له ميزان النظر قال بطريق التشكيك :هذا ربي ،فلما استقام
بين كفتي الحوال قال :وجهت وجهي.
المقالة السابعة عشرة
اعلم أن الخواص غير محصورة وليس لها تأويل يحل فتؤخذ بذواتها ،كالصبر المسهل ،والسقمونيا ،والشيء المقبض ،ليس علينا
أن نسأل لهم أسهل هذا أو قبض هذا ،فكيف نعترض طبيب الشرع فيما جاء به من التحليل والتحريم ،أو ليس حجر يشم يذهب
النفخة! فكيف تشك في شفاء خواص القرآن وما فيه من التحرير ،وفيه قوارع مخصوصة لمعاني مخصوصة مثل سورة الواقعة
للغناء والمال ،وإذهاب الغم بسورة الدخان ،ورفع البلء والتحرز بسورة الكهف ،وخاصيتها )فما اسطاعوا أن يظهروه وما
استطاعوا له نقلبا( ]الكهف .[97 :ول يجوز قراءة الية وحدها إل بإضافة السورة إليهم كما قلتم ل يجوز استعمال الدوية
المفردة.
مسألة في تعجيز المنجم
تقول :يا حكيم هذا النجم الفاعل المتصرف في العبد ،المولد في نقطة الكرة ،كيف نصرف فيه بطبعه أم بجنسه أم بخاصيته؟ فإن
قلت بالطبع فالطباع مختلفة ،وإن قلت
)ص (516
بالجنس فذاك سماويِ وهذا ترابي ،وإن قلت بالخاصية فالخاصية عرض ل بقاء له ،وإن سلمنا إليك بالخاصية فهل هي نفس النجم
أم في نفس الشخص؟ فل بد من الكشف والتبيين وإقامة البرهان .أما السحر فهو عمل وكلم قد تداولوه بينهم في أوقات معلومة
وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة ،فإذا أردت أن تولد طلسلما يصلح لما تريد فخذ من كل ثلثة أحرف حرلفا ،فإذا اجتمعت لك
في التأليف ثلثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريد ،فانظر في الوسط لب عند ساعة التأليف فهو يصلح لما دلت عليه
ضا عن الجيم ج ح خ خذ الصاد ص ط ظ خذ العين فيصير عقرلبا الدقيقة من الساعة ،ومثاله أ ب ت ث فتأخذ الجيم والثاء أليق عو ل
لتدوير الحروف فضع صورتها على خاتم والقمر في العقرب ،تكف خاصيتها عنك أذى النساء ،ترمي الخاتم في الماء فينفع سقياه
الملسوع .وتلقي به سولءا بين من أردت ،وترش من مائاه على سطح المبغض أو طريقه أو داره فإنه يستضر من سنة .وخذ صورة
أسد والقمر في السد ،وانقشه على خاتم بسواد ومعه كلمة وهي" :أتينا طائاعين" ،فتدخل به إلى الملك فيذله ا لك.
ذكر كلمات تذل الملوك) :ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( "ذل البحر لبني إسراهيل"" .شاهدت الوجوه" .فهم ل يبصرون
ول يعقلون ول يسمعون.
ذكر كلمات يأمن بها الخائاف من السلطان بقدرة ا :ل تزال تقول وأنت داخل إليه أو قاعد عنده في نفسك :يا قديم الحسان
بإحسانك القديم.
ذكر كلمات تصدق بها عند لسان السلطان :تقول عند الدخول عليه) :اليوم نختم على أفواههم( ]يس) .[65 :ول يؤذن لهم
فيعتذرون( ]المرسلت) .[36 :صم بكم عمي فهم ل يرجعون( ]البقرة .[18 :ول يعقلون.
ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم :تأخذ أفرالدا من شعير حزام وتقول عليه أربع مرات :هاطاش ماطاش هطاشنة
)وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة( ]المائادة .[64 :وترميه من حيث ل يشعرون وتنظر ما يصنع ا.
ذكر ما يبغض بين الشخصين :يكتب على بيضة وتشوى وتطعم )ومزقناهم كل ممزق( ]سبأ) .[19 :وحيل بينهم( ]سبأ.[54 :
ضا .ويكتب على بيضة مخيط عليها بخام مضيق سبع ضادات وتوضع في مجمرة ملة ،فإنها تستويِ ول تحترق الخرقة، قطلعا ،بغ ل
وتطعم البيضة للمحموم ،وكثير مثل هذا .وقد حصرناها وشرحناها في كتاب عين الحياة ،وهو صغير الحجم كثير الفوائاد ،وفيه
المقالة اللهية التي هي سبب الجمع بين الجساد والرواح بطريق بعث الكسير .اعلم أن الصناعة اللهية ل تخلق ،إن كانت
فتكون وإن لم تكن فليس بصحيح ،لن جماهير الناس أجمعوا على :إن كانت فل شك أن تكون.
)ص (517
ودللت المنقول والمعقول قائامة دالة على الجواز ،فالمنقول قوله تعالى) :ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد
مثله( ]الرعد .[17 :وقوله تعالى) :إنما أوتيته على علم عنديِ( ]القصص .[78 :وأما المعقود دل عليه عمل الصابون ،فإنه جامع
بين الضداد ،ماسك الطباع الدهنية والمائاية والنازية ،فلما حصل تجميده على تجميده ،دل بتجميده على تجميده ،ولو لم تكن
صناعة صحيحة لما كان البريز كثيلرا لبعد المعدن ،وهي حالة مصنوعة كسائار المصنوعات ،وقد ضاع العالم فيها ،وضيعت
الموال في تحصيلها ،فلم يظفر بها إل الرجال الفراد المطلعون على علوم خواص النبات وخواص الحيوان .ولكن يا موسى ل
بد لك من خضر يعلمك معنى خرق السفينة وقتل الغلم وإقامة الجدار ،مع معرفة الخصال الثلثة حصل له كشف الكنز )وكان
تحته كنز لهما( ]الكهف .[82 :فإذا خرقت سفينة الصنعة ،وقتلت غلم الزئابق البق حتى يصير ماء زللل ،فأضف إليه جدار
تصعيد الزرنيخ ،فإذا صح على هيئاة التراب فتوضع وزلنا بوزن ،فبعد حسن السبك وقوام التصعيد وصارت الرض فضة يتخذ
منها دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين .واعلم أن الزرنيخ اسم مركب فأوله زر بالعجمية ،فإذا صح لك فأنخ بجمال غنائاك
على باب أستاذك ومعلمك ،وسر بذيِ القرنين من عقلك إلى مغرب الشمس الذهبية عند عين حيوان من نبات طأطأ ،فبياضها
للبيض ،وصفارها للصفر ،هي دواء العيون إذا نامت العيون ،ثم سر إلى مطلع شمس حرارة زئابق البق وحصله ،فإذا بلغت
بين السدين فانفخ عليه من نار لطيفة طيبة ،فإذا صح إكسيرها أو لم يصح فارجع إلى حد الطلق ،فإن صح لك فهو الكسير اللؤلؤ
الكبير فحصله فإنه موجود ،وإن لم يقدر على تحصيله ،والعمل بها قد ذكرناه في كتاب عين الحياة ،فعليك بمداراته والصبر على
التطويل.
واعلم أن هذه الصناعة هي صناعة ربانية ل يقدر عليها إل البدال والرجال والبطال الذين كشف ا الرين عن عيون قلوبهم،
وهذه ل تصح إل للطلئاع الذيِ يريد به عولنا على الخرة أو وفاء دين أو دفع شين ،وهي حريزة غريزة ،ولها أربعون صناعة
صا دالة مظهرة لبدائاعها وصناعتها قبلها ليكون عولنا عليها :مثل عمل الكحال والبراد والدوية والدوانيق ،ونحن نذكر خوا ل
مذكورة في كتاب عين الحياة ،وأعظم ملكها الكبر هو تصاعد الزرنيخ ،ومعرفة أجزائاه ،وزمانه المعتدل الصالح النافع للبدان،
غير مضر من حر وبرد ،وهذه الصناعة الفضية التي يسميها أرباب الصنعة القمرية ،فقد تعمل فيما يتصعد من إكسير بياض
البيض ،وأصلح ذلك هو الزرنيخ المصعد قوالما معتدلل ووزلنا واحلدا معروف الصفة .فافهم واعرف زمانه المعتدل وخف عليه من
الحر المحرق والبرد الممزق والمفرق ،فتربيته
)ص (518
كتربية الطفال مفتقر إلى العتدال .فابدأ أولل بصنائاع البرار والكحال ،مثل الغريزيِ الصغير والكبير ،والجلء الصدفي،
وبرود الحسك ،وبرود المياه ،وهو أن يجتمع المياه مثل مياه التفاح والحصرم والرمان وتضيف إليه عرق الماميرون وعرق الريح
ودواوديِ جعفران وبهمني سهر وماء الرازيانج وتوتليا أخضر رقيق وهو المرادني ،فإذا صح هذا كله فاجبله بهذه المياه مع ماء
صا أو تصحنه جل ،فهذا الرازيانج وماء الحسك ثم نشفه بين الشمس والظل ،فإذا أمسكت نفسه وزالت رطوبته فاعمل منه فصو ل
هو التوتيا الهنديِ الذيِ يساويِ مثقاله مثقالل ،ول بأس معه بماء الماميثا .وماحي العالم هذا هو البرود الجامع والجلء النافع
والتوتيا الهنديِ القاطع ،فإن عملت منه شيلئاا فما يكون وهو رطب حار ،هذا هو كيمياء البرار وبه يحصل لك إن شئات مكسلبا
تستريح من تعب غيره.
إذا أردت عمل الدن :خذ ما شئات من الدن الخرق الصحيح وتضيف إليه لكل جزء ثلثة أجزاء من شمع صافي ،وتطبخه بنار
لطيفة بقدر ما يمتزج وتحطه ،فهو الدن .وكل مصنوع ل بد له من خمير خالص وهو إكسيره.
صفة عمل الزعفران :تأخذن أصفر لحم البقر .وليكن من فخذه ل سميلنا ،وتطبخه بالخل والزعفران ثم تبرده وتغسله شعرات
زعفرانية ،ثم تضيف إلى كل أربعة أجزاء جزلءا من الزعفران الخالص.
فأما عمل المسك والزيادة :تأخذ من الخالص خمسة أجزاء وتضيف إليه مثله من الخبز المحترق ،أو الكبد المشوية المحترقة ،أو
جزء فأرة مسكية ،من كل واحد جزلءا يضاف إلى الجزء الصلي من مسك أو زباد.
فهو الشارة كافية إن عقلت بصدق العمل ،فقد قالت الشطيات :لقمة من القدر تكفي لمن يشم الرائاحة وفضل لقمة يتحتم لمن لم يكن
شبعان ،والصنائاع مغطاة فإذا كشفت بان سرها .والعجائاب ظاهرة في كتاب عين الحياة.
واعلم أن المسك هو من دم غزال بريِ يأكل من أطايب الفاوية البرية كالفلفل والقرنفل وغير ذلك ،وقد قيل في العنبر إنه ينبع من
عين بأرض مدينة عنصوريا ،والكافور هو من عين ،فيعجن العنبر بأوراق بحرية بين أشهب وأبيض وما شئات من اللوان ،وقد
نزل من السماء عشرة أشياء كالمن والشيرخشك والترنجبين واللذن ،وقيل هو عين في جبال مرعش ،وينزل من السماء القطر
مع السحاب ،يضاف إليه شيء من الزوائاد فيطبخ بماء الشعير فيسقى للمرأة التي ل لبن لها ول حيض فتحيض هذه ويدر لبن هذه،
وقد ينزل من السماء ضفدع أخضر يصلح للبواسير ،وقد ينزل من السماء بأرض سقسين حنطة حمراء لينة باردة على طعم الزبد
والعسل والثلج ،إذا أخذ من دقيقها
)ص (519
وكحلت بها العيون المعيبة زال عيبها ،ومن ههنا أخذ من أخذ ،وإذا بخر بعضها تحت أحد أبصر الملئاكة ،وبه يبخر لعطارد
فيكلمه .وقد قويت عزائام المنجمين بأن النبياء بخروا ،فالكليم بخر لزحل أول ساعة من يوم السبت ،والمسيح بخر للمشترى،
وإبراهيم بخر يوم الحد للشمس وللمريخ يوم الثلثاء ،وقد بخر زرادشت للمريخ وعطارد ،وقد بخر محمد رسولنا للزهرة يوم
الجمعة ،واختفى في غار حراء ،فكانت تأتيه في صورة جبرائايلية وهو تمثال لدحية الكلبي.
ومن أراد أن يبصر الجن مشاهدة ومصادقة ومخاطبة ،ويسمع كلمهم ويعينونه على ما يريد ،فليقرأ سورة الجن في بيت خال من
يوم بطالة في أحد أو أربعاء ،وبين يديه بخور اللبان ،ويخط له مندلل يقعد فيه ول ينقطع عنه البخور وهو يقرأ )قل أوحي إلي أنه
استمع نفر من الجن( أربعين مرة ،وهو يمثلهم ويحدث إليهم ،فإذا خرجوا إليه ل يخافهم ،ويستخدم منهم من شاء على ما يشاء من
سحر وطلسم وهياج وتسخير وإظهار كنوز وحب وتبغيض.
واعلم أن من الخواص النباتية ما يطول شرحه ،ونحن نشير إلى بعضه:
من أراد أن ل يبصره ول تراه العيون فليزرع الخروع عند بدو زراعة القطن في رأس سنور أسود ،فإذا طلع يخيط عليه كيلسا،
ويربيه حتى يجنى القطن ،ثم يقطف العنقود كما هو بكيسه ويشقه حجرة ،ويأخذ مرآة بيده ،ثم يقطف منه حبة حبة ويضعها في فمه
وينظر صورته في المرآة ،فأيِ حبة لم يشاهد فيها نفسه عند نظر المرآة فليمسك عليها.
ولهم البهر الضم وهو نبت في الرض على صورة ابن آدم ،فهذا يصلح لمن عقله على نفسه لو مر بحجر لتبعه الحجر.
ولهم حشيشة تسمى بحشيشة الراسن ،تبخر من أوراقها على اسم من تريد فيأتيك وإن لم يرد ،ولكن بشرط أن تقول هذه الكلمات
على البخور ،تقول" :يا جامع ياجن اجمعوا وقدموا لق لق عاجلل عاجلل اشروثا كبيبا أل صبي :ائاتنا كرلها أو طولعا :قالتا أتينا
طائاعين" .وليكن في يوم الحد أو أربعاء .وهذا حشيش الراسن يعمل منه شراب يسمى شراب الملئاكة يصلح لرباب الخلط
المتساوية .ويصلح للنساء العجفاوات من شدة الحرارة ،وتجفف ورقه ويعمل منه برود يصلح للعين التي ارتخت أجفانها ،وقد
يعمل منه دواء يقويِ اللثة ،وقد يبخر منه تحت صاحب الحمى فيبرأ ،أو يبخر تحت النفساء ذات المشيمة المعلقة فتنزل ،وقد يسلق
ورقه بالخل مع ورق الزيتون فينفع السنان الضاربة.
ولهم نبات ل أصل له في الرض وهو على هيئاة العنقود على شجر البطم والبلوط
صفحة 520
ويسمى حب العصفور ،ويسمى حب دبق صيد العصافير ،يصلح بخوره للبيوت ،خاصيته طرد الشيطان ،ويبطل السحر المدفون
مثل مشاقة الشعر المقعد ،وبرادات المشاط والوتار المعقدة ،فبهذه دخل السحر على محمد صلى ا عليه وسلم ،ولهذا قال صلى
ا عليه وسلم" :ضيعوا مشاقات الشعور فبها يعقد أكثر السحور ،وأعظم العبر في الولياء والبر التي تترك قريب النار يا
عائاشة" .وعزيمتها عشر آيات من آخر سورة الرعد .وهذا الحب يعمل منه الند فيؤخذ منه جزء ،وجزء من عروق القسط وعروق
الزعفران ،وشيء من برادة العود القماريِ ،يدق ويطبخ جميعا ل إل حب العصفور ،فيطبخ جميعا بماء الورد الجيد العرق الغاية،
فإذا تجبل وصار طينا ل يحط إلى الرض ،وإذا برد عمل منه الند على ما تريد.
أما صفة عمل الدرانيق النافعة فقد سبقنا إلى ذكرها وعملها ،ولكن أقرب ما تأخذه هو أن تضيف البندق المدقوق مع الجوز واللوز
والسمسم القليل والفستق ،فيعجن جميع هذا بالعسل الشهاد مع قليل من ماء الور ويرفع ،ففيه منفعة وخاصية لسم العقرب ،وفيه
خاصية للوقاع.
وجوز اللوز الهنديِ الحديث على الهريسة والحنطة نافع في الوقاع ويصلح لمن وثبت عليه الرايح الباردة .أما الترياق الكبر فهو
أربعون حاجة مع لحوم الحيات مشروحة في كتاب عين الحياة.
واعلم ان النبات والدهان والحيوان ما يطول شرحه ول يشغل كتابنا به ،لكني أذكر لك عمل إساءة وهي الظنبوث :تأخذ من
بصاصات الربيع ما تريد على ما تريد واسم من تريد في ساعة محمومة ،فتضعها في قارورة زيت بأعلى النار ،فتعلمه ظنبوث إن
شئات حبشية للبعض ،وإن شئات قرشية للمحبة ،وإن شئات فارسية للسلطان ،وإن شئات كرمانية للخروج من المضرة والمراض،
وتعلقها في الشمس وكلما نقصت تزيدها دهنلا ،ثم تتركها في نافذة ظاهرة وتربيها وتخدمها وتبخرها ،وتقول عندها في كل يوم هذه
الكمات "أيها الظنبوث الطاهر كوني لما أريد" وهو يبخرها ،ول يبخرها إل طاهرال ل حائاضا ل ول جنبلا ،فهي تنقص عند نقص
الهلل وتزداد بزيادته .فهذا من جملة الخواص الدهنية ،وفي الدهن ما يطلى به الجسم فل يعمل فيه النار ،وفي الحجار ما يعمل
منها فأس أو قدوم فإذا نقر به ل يسمع صوته ،وفي الحجار ما إذا وضع في التنور سقط خبزه .وقد عرفت خاصية المغناطيس
وأما خواص الحيوان فتطلبه في كتابه.
صفحة 521
المقالة الثامنة عشرة
في عزائام التسخير
تقف أول ساعة من يوم السبت مستقبل الغرب بثياب سوداء وزرق بأبخرة مذكورة مثل الليان والحرمل وقشور الرمان والخردل
البريِ ،ثم تقول في وقت سعيد من تثليث أو تسديس مناط إلى شرف فتقول" :أيها السلطان العظم والملك العرمرم ،مالك الفلك
التابعة له النجوم ،الخاسف المزلزل :زحل أنت أشرف الكواكب وسيدها وقائادها ومؤيدها ،أسألك أن تعطيني وأن تمنحني ما
يصلح منك لي" وتقول يوم الحد عند طلوع الشمس وأنت مستقبلها بهمة مصروفة إليها" :أيتها السيدة الرفيعة والملئاكية المطيعة
والمدبرة الكبيرة التي جادت بفيضها على الظلم فصارت نورلا ،ذاتها طاهرة وسلطتها قاهرة ،أسألك أن تعطيني ما يصلح منك
لي ،واصرفي همتك علي وأنت الملكة العزيزة والسلطانة الحريزة بحق من سخرك وهو الملك العظيم" .وتقول أول ساعة من يوم
الثنين" "أيها الكوكب الظهر ،والقمر البهر ،البارد الرطب الحال في الفلك المعتدل البارد اللطيف ،أسألك بحقك وبحق الملك
المعطيك من نوره ،أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي" وتقول في يوم الثلثاء مخاطب المريخ" :أيها السلطان الحاد النوريِ
النار النوراني والفتن الرضية ،صاحب الحرب والصلح والدم ،أسألك بحق سلطتتك ودولتك وقهرك أن تعطيني ما يصلح لي
منك" وتخاطب يوم الربعاء فتقول" :أيها الكوكب اللطيف الشريف ،والكوكب الكاتب الحاسب العالم ،ممازج الفلك ووزيره
وملطفه ومشيره بلطافة أخلقك وطيب أعراقك وحسن سمعتك وصفاتك الحميدة وأخلقك المجيدة الحسنة الطيبة أن تعطيني ما
يصلح منك" ،ولتكن على الماء في فروج من حشيش أخضر وهواء لطيف بنفس فرحة وريح طيب وأنت متصف بصفات الكتاب
وتبخر في يوم الخميس للمشترى فتقول في دعائاك" :أيها الكوكب الدين الصالح التقي الرفيع البديع المطيع السميع السريع الذاكر
الشاكر الناشر والحامد الباهر الخائاف المستغفر عندك أكثر أحياء الموات والذيِ يبريِء من كل داء أسألك بحق دينك وأمانتك
ومودتك ومروءتك وطاعتك أن تعطيني ما يصلح لي منك"وتقول في يوم الجمعة مخاطبا ل للزهرة" :أيتها النفس الطاهرة والزهرة
الزاهدة الباهرة ذات اللهو والطرب والرقص والعب والشرب والكل ،الفرحة النزهة الناظرة والمزينة الطائاعة لربها الحرة
الطاهرة ،أسألك أن تعطيني ما يصلح منك لي" فأما يوم السبت فهو مخصوص عندهم لموسى لنه زحلي ،والحد مخصوص
بسليمان وجماعة من النبياء وصاحبة الشمس وفيه يتبخر الملوك لها،
صفحة 522
ويوم الثنين هو للقمر يصلح للوزارات والوزراء ،ويوم الثلثاء للمريخ وفيه بخر إبراهيم الخليل ،ويوم الربعاء لعطارد وفيه
بخر زرداشت وهو نبي المجوس صاحب كتاب سبطا ،ويوم الخميس مخصوص عيسى ،وأما يوم الجمعة فهو لمحمد صلى ا
عليه وسلم .فالذيِ يطلب من زحل وهو كيوان مثل المنافع الرضية وإظهار الكنوز وشق النهار والشجار ،وأما ما يخص
الشمس فمثل الملك والملكة ،والقمر لئاق بالوزارات ،والمريخ بالحروب والبأس ،وعطارد للكتابة والنقش والحساب والهندسة
والعلوم الدقائاق والعزائام ومخاطبات الجن كما سبق ذكره ،وأما المشتريِ فهو للزهد والديانة وحل الطلسمات السماوية ،ثم الجمعة
للزهرة .قالوا :إنما أمر باجتماع الخلق عند نصف النهار في هيكل العبادات لجتماع خواص النفاس ليؤثر ذلك في حصول
المطالب لشرف نفسه الفياض منه على تابعيه من قولهم في لحظة واحدة اللهم صلى على محمد وآل محمد.
واعلم أن الناس قد اختلفوا في الخاصية كما ذكرناه في أول الكتاب ،وخواص النبات والحيوان كثيرة ،وقد ذكرنا منها فصلل طويلل
زائادال خارجا ل عن الحاجة .وكم في الحيوان من خواص ل تعرفه مثل مرارة الدب للسمن وشحمها أيضا ل ولحمها مع تحريمه يذهب
بالرباح ،وأكباد الرانت تنفع الكباد ،وعيونها للعيون ،وشمحها للرباح ،ويصلح منه طلل لمعنى .وشحم الخنزير في علف
الدواب ،ودهن البيض للشعر ،وما قطع من الكرم ينفع في الشعر ،ودهن الشوك والحنطة للثواليل .وشحم القنفذ للرباح ،وقصبه
مع السكر للطحال وزنا ل وسفا ل .ومخ الحمار قاتل ،وفي الهدهد منافع ذكره صاحب كتاب الحيوان .والجوز الهنديِ في الهرايس
نافع للجماع ،ومعاجين وأدهان أتلف .والفصد محمود والحجامة أحمد .والقيء ينظف .والقليل من لباب الخيار نافع .والشواذج
للمبرود أجمل .والحنطيات لصاحب الجماع يغنى .وأكل الهرايس أفضل .وشراب الرمان في المعدة موحل .والبطيخ فيه فوائاد:
مطمعم ومشرب ،وريح طيب ،ومقطع سال ،ومدر البول ،ومقطر لغسل المثانة ،ويذهب مع القيء الخلط .وفيه مضار :ينشف
الخلق ،ويزيد الصفراء ،ويورث الحكاك ،ودفعه بالسكنجبين .والقبيت المحلى يقطع الشهوات ،ويعصم ويسمن مع الريح الطيب.
وخير الفواكه أنضجها ،وأجودها قبل الطعام إل الكمثرى فقليله نافع بعد الطعام .وتقليل النرد أجود لعينك :عن صفة الطيب فدت.
والجائاع درهم او أقل .وقد تصعب مداواة المتخوم .ويكره تعجيل الماء عقيب الطعام ،ويستحب امتصاصه ،ويكره عبه ،وأكل
الحوامض في الصيف أنفع ،والسوادج في الشتاء .وأنفع الفواكه الغديِ مثل التين والعنب ،وأنفع الرمان الملسي قليله بعد الطعام
أو عند النوم ،وهو مضر بأصحاب الجماع لسيما حامضه.
فصل وهو المقالة التاسعة عشرة في الشربة
أما السكنجبين فهو أول ما صنع لذيِ القرنين ،وأجود المعتد ،وإبقاء المنعقد .وشراب الرمان يوحل المعدة وفيه تبريد الكبد.
وشراب الخشخاش والبنفسج والنيلوفر فوائاد عملها في الرأس .وشراب الراسن يعمل في الخلط السوداويِ حتى زعم أبو نصر
الفارابي أنه يغنى عن المفرح الصفير .وأما شراب التفاح وما يتخذ منه ففيه الفوائاد القلبية .وأما شراب الورد فهو يسهل الخلط
الصفراويِ ،فإن أعنته بدرهم ونصف ثريد ،ودرهمين سورنجان ،فيكون سفوفا ل قبل شراب الورد أو بعده .وأما الرباب فرب
السفرجل يعصم المحرور ،ورب التفاح يعمل في النميجة الواردة عن ضعف القلب إذا كان من حرارة ،ورب التوت فخاصيته في
الحلق .وجميع الشربة والربوب فالغناء عنها بالحمية مع العود إلى العادة القديمة كما جاء في حديث "المعدة بيت الداء والحمية
رأس الدواء ،وعودوا كل بدن ما اعتاد" ول بأس لمن اعتاد الشربة أن يتعهدها عند الحاجة إليها ،قال أبو طالب المكي رضي ا
عنه :ل تتعرضوا مع العافية إلى الدواء فربما يفضها .وشرب الدواء في الخريف أولى من الربيع ،لقربه من المآكل التي تحدث
السهولة .وأما البقول فأنفعها الهليون والسفناج .روى ابن قتيبة أن النبي صلى ا عليه وسلم قال" :أربع حشائاش من الجبنة يقطر
عليها كل ليلة قطرة من ماء الجنة ،وهي السفناج والهندبا والهليون والخس ،ففي الهندباء تبريد ،وفي السفناج والهليون ترطيب،
والخس يولد دما ل صالحا ل" .وأنفع الهليون ما عمل بمخاض البيض والزيرباج ،وأنفع البيض مخاخه ،وأجود الخيار القليل من
باطنه ،وأما الكرفس فإنه يفتح السدد قليله ،وقد يتبرك به الناس في بعض البلد .والسداب يورث الجذام إذ أصله من خرء الذباب.
قال صلى ا عليه وسلم في التين :التين خاصية قطع الناسور ويدر دم الحيض ،وأنفعه الغديِ الصغير الزرق البالغ ،وأكله على
الريق أنفع وآخره أجود من أوله .وأول البطيخ أجود من آخره .وخيار الخريف حمى ،وريحان الخريف زكام ،والشرب في كوز
الجماعة يورث اللم ،وسره من أبخرة الفواه .وحقن البول يورث حصاة المثانة .وشرب بذر البطيخ السقي يعمل في عسر
البول ،وغديه إذا دق مع الكشنة أو العدس ينعم البدن ويزيل الزهكة .ويكره الغسل في الحمام بالعدس والمواضع النجسة ،ويجوز
الغسل بالعدس في الواني ،ودارك الشنان ينشف رطوبات البدان ويسمر اللوان .ومعجون السمسم فيه ترطيب الشعر وتنعم
البدن وشقاق القدمين أمان من الجذام .وأكل اليقطين يعمل في الخلط السوداويِ .وحلوة القرع تزيل التجفيف .والزيرباج فأعدل
اللوان ،لكن بشرط أن يضاف إلى الخشخاش المرضوض.
صفحة 524
واللوز المحمص المرضوض من الدارجيني والزعفران يحل بالماء الورد والعسل يوضع في رأس البطيخ ،هذه حيلتهم على
السكنجبين .وأنفع الحلوة ما كثر خبزه ،وأرطبها حلوة البيض ،والقطايف أميرها .والمسير ثقيل في المعدة ،وأجود السهل الناعم
مثل الصابونية والكافورية .وأما خبيص اللوز فثقيل ،وأجود الناضج الكثير الخسخاش .وأما الهرايس فأجودها أنضجها وأحقها
بلحم الحديث من المعز والضأن قال صلى ا عليه وسلم" :شكوت إلى أخي جبرائايل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهرايس فوجدت
لمريِ جبرال" .والغكثار من لحم الدجاج يورث الحرارة في الطراف .والمأمونية بالخروف المشويِ أجمل لكنها أثقل .هذا فصل
إشارة في الدوية وأنفعها ما دام وقل حسابه ،فهذا طعام المترفين ،فقد قدم عثمان إلى النبي صلى ا عليه وسلم وآله وسلم قطايفا ل
بالقند والفستق ودهن القرع ،ففرك وجهه صلى ا عليه وسلم ثم قال" :آه من طعام المترفين وحساب المترفين" وقدم قعب من
حليب وتمر إلى النبي صلى ا عليه وسلم فقال" :كليه يا عائاشة بالسمن يكن أليق" .وكان يأكل النيت بعسل العرفط والمعافير.
فمن ترك شهورات الدنيا وهو قادر عليها كتب له من الجر ما ل يعد ،والسر فيه أنه اوقع بينه وبين نفسه فسكت عن اللذات
والشهوات ،فإذا فارقت هذا العالم الخسيس والحبس المظلم والجسد المعتم لم تتأسف على مفارقة المحقورات ،رقت على عالمها
وشرفت بعلمها ،مثل العلوم المرسومة المنتقشة عليها ،مثل علم التوحيد ،والعلم بال وحده بالبراهين النقلية والعقلية ،يحدث به لك
جناح تخرق به عالم الملكوت ،إذ الرواح ثلثة :نفس العارف ،والناسك ،والزاهد ،إذا اجتمعت الثلثة فل يضرها الموت ول
الفوت ،لنها كاملة رقت إلى عالم الكمال فهي تحظى بما ليس في الجنة من المقامات العلوية والنوار القدسية في الحضرة
الصمدية ،مجاورة للملئاكة الروحانية ،تجتمع إليها وتسمع عليها من العلوم المودعة عندها ،فهي تنفصل عن عالم الكون والفساد
ووتلتحق بعالم البقاء الذيِ ليس فيه نقص ول نفاد "أعددت لعباديِ في جنتي ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب
بشر" اعلم أن هذا الحديث يدل على أن وراء نعيم الجنة نعيما ل ل تدركه النفوس إل مع مشاهدة ،فهذا يعجز عن صفة مشاهدة ،لنها
لذة ذاتية تجوز عن حد التعبير والتفسير ،كما لو قيل للعنين عن لذة الجماع لما عقل ،ومدرك اللذة ل يقدر على تعبيره ،فهذا ل
يدركه إل شاهده وهو النظر إلى ا الكريم .وأنت تريد أن تعرف لذة المشاهدة من غير إبصار ،كما ل ينتفع الجبان بذكر الحرب
من غير مشاهدة ول مواقعة ،وكيف تطمع مع الغفلة برفع الحجاب وقد سمعت أن زين العابدين عليه صلوات ا كان إذا قام في
صلته يرفع السد بينه وبين محبوبه فيطاف بقلبه في عالم الملكوت العلى؟ وهو معنى قول امير المؤمنين علي عليه السلم:
سلوني عن طريق السموات فإني أخبركم بها.
صفحة 525
وأنت أيها المبطل الغافل عبد نفسك واسير شهوتك وتريد أن تلحق بالبرار والمقربين ،أو تطعن مع حجتك وجهلك في كرامات
الصالحين! )شعر(:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولبد دون الشهد من إبر النحل
تريدين أن أرضى وأنت بخيلة فمن ذا الذيِ يرضي الحبة بالبخل
فجاهد ول تجاهد ،واركب فرس حسن ظنك ،واقطع الغاية حتى تكون آية ،والبس ثوب الشفاء إن أحببت اللقاء ،وارض بالعيش
الطفيف إن أحببت أن ترقى في عالم المجد غلى قلة حمى الملكوت ،قال صلى ا عليه وآله وسلم" :ظفر الزاهدون بعز الدنيا
ونعيم الخرة" ،وسلم المجنون على ليلى فأبت رد السلم فقال لها :ولم؟ فقالت :أخبرت أنك نمت البارحة لحظة ،ولو كنت صادقا ل
لما نمت عنا ،فقال :عسر علي زيارتكم فأحببت أن أراكم في المنام فنمت ،فقالت له ليلى :كأن شخصي قد زال عن قلبك ومثالي،
فقال :عزمت عن المثال فاستفقت إلى التمثال ،فأنشدت ليلى:
لم يكن المجنون في حالة إل وقد كنت كما كانا
بل لي عليه الفضل من أجل ما باح وإني مت كتمانا
قالوا :يا رسول ا إن بشرال وهندال ماتا في حبهما ،فقال صلى ا عليه وسلم" :عجزوا عن حمل المحبة فماتا" ،ثم قالت عائاشة:
حتى لك يورثك شوقا ل وفقرلا؟ فقالت :أو أبقى بعدك ل كنت إن بقيت ،فقالت" :ستبقين ولكن تشقين حتى تلقين" ،ثم قال" :يا عائاشة
إذا مات الزوجان المتحابات فلينظر أحدهما رفيقه كانتظار الغائاب") .شعر(:
نرى تقدم الغياب حتى نراهم ونأخذ شوقا ل منهم حين نأنس
لقد ضاقت الدنيا علينا ببعدكم كمن غص بالماء الفرات فييأس
لئان غبتم عن ظاهر المر بيننا فما أنا إل للمحبة أدرس
إذا ما جلسنا نذكر البين بيننا تضيق القوافي منكم حيث أجلس
صفحة 526
ولما حضر الموت الصديق قالت زوجته :وافراقاه! فقال الصديق :بل أنا وآفرحاه بلقاء الحباب! فل تخف الموت إن كنت مشتاقا ل
إلى أحبابك ،فلبد من اللقاء في دار البقاء ،فشمر عليك ،وقدم بين يديك عساك تظفر بسهرك ،فمن ادلج بلغ المنزل ،ومن جعل
الليل له جملل قطع عليه مفاوز الهلكات) .شعر(:
فثب واثقا ل بال وثبة ماجد ترى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
وشق الجنيد حبيبته لما سمع صبيا ل يترنم ويقول :أرى زماني يمر بخشن وينقضي بالمغالطة ،وقد تركني زماني بحالي مالي حال،
إذا صحت العمال وطينت الجسام وسهر العاشقون وقللوا الزاد والرقاد ،فتحت أبواب بساتين الشتياق ،ونزعت شموس
المعرفة ،وأزهرت مزاهر القرب من وراء الحجب ،وأشرقت هياكل القلب من أنوار جمال الرب ،ورفع الحجاب وقطعت
الماني ،ونادى العاشق بمعشوقه ،كوشف بالكائانات ،وشاهد حقائاق الموجودات ،وحظى بانواع المكاشفات ،ونثر عليه نثار
الكرامات ،وبشر بأعلى المقامات .وقال أبو الحسن النوريِ :دخلنا على أبي يزيد البسطامي فوجدنا لديه رطبلا ،فقال كلوه فإنه هدية
الخضر جاء بها من عند رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وأنا ما طلبتها إل من ا تعالى ،ما طلبتها بواسطة الخضر ،أكلها علي
يديِ الخضر ،ثم دخلنا عليه في الجمعة الثانية فوجدنا بين يديه رطبا ل في طبق ذهب أحمر ،فقلنا :ما تطعمنا منه؟ فقال ل هي لي ول
لكم ،فقلنا :كيف حديثها؟ فقال :كنت قاعدال بالليل أتلو القرآن فسمعت خذ الهدية منا ل واسطة بيننا .واعلم أيها الغافل المحجوب عن
لذة المعرفة أن أحباب ا يتدللون عليه كما يتدلل المعشوق على عاشقه ،كما قال رابعة :بحق ما كان بيني وبينك البارجة اجمع
اليوم بيني وبين شيخنا يونس بن عبيد! فدخل يونس فقال :يا رابعة ضيعت دعوة فيما لبد أن يكون ،فقالت :يا شيخ دع عنك هذا
فأين آثار دلل الحباب وأنت تريد سببا ل بلش ،فهذا طلب الوباش .قال الجنيد لرجل يعطي أجرة الفعلة :أما تعطيني معهم يا
شيخ؟ فقال الرجل :يا أحمق تمني نفسك بالبطالة لو عملت لخذت .وقد مر الشبلي بدار فسمع صاحبة الدار تقول لزوجها :ل نمن
عليك إل بقدر فعلك ،تريد بلش عناق وزقاق ،فقال الزوج الكسل يعمل أكثر من هذا ،وأنشد:
قد فاتني مقصديِ فذبت جوى حطت ليدنا مصائاب الكسل
لو علمت لرضيت عني خليلة
صفحة 527
المقالة العشرون
في المأكل والمشرب وآداب المائادة
اعلم أن ا تعالى خلق هذه الصورة الدمية وجعل لها غذاء وهو سبب بقائاها ،فالناس فيه ضروب :فطائافة تقنع بالقليل من المأكل،
وهي المتقنعة التي يصلح أن يكون منها متعبدون ،والتي هي شبيه الملئاكة بخصالها وخللها ونومها ومأكلها ،فكلما قل الغذاء
كنت مشبها ل لسكان السماء ،وثمرته العافية والغناء عن الطيب ،ومن قلة الكل يحصل رقة القلب وقلة المخرج ،فمن كانت همته ما
يدخل في بطنه كانت قيمته ما يخرج منها ،القلل من المراق والفواكه أسلم .واعلم أن كثرة المأكل ككثرة الرفاق ل تربح من
كثرتهم خيرلا ،ألم تر إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم ما كان يجمع بين الدامين؟ فهذا فيه زهد وطب .وفي البطون بطون نارية
تأكل ما يلقى إليها ،والنار لها سبعة أبواب ،وللبطون مثلها ،مثل باب الحرص ،وباب الشره ،وباب النميمة ،وباب شدة الجوع،
وقلة المبالة بالخطايا والمأكل الحرام اشد الذنوب وأعظمها .وللجسد سبعة ابواب دالة على أبواب جهنم ،مثل السمع والبصر
واللسان والبطن والفرج واليدان والقدمان .فهذه أبواب السعاية الدالة على القبائاح وأعظمها البطون ،وأعظم الفعال القبيحة مظالم
العبيد ،وقال النبي صلى ا عليه وسلم" :من أكل لقمتين من حرام حجبت دعوته أربعين صباحلا ،ومن مل بطنه كانت النار أولى
به" .والحرام مثل المغصوب والسرقة ،وأخذ القصاص والجناية بغير أذن ربها ،وقطع الطريق ،وقبول الرشوة ،والجارات على
الطاعات ،وابتياع الحرام واجرة الحجامات ،وأخذ ما ل يستحق محتى نوبة الماء ،وأنواع كثيرة ذكرناها في كتب "الحياء" من
الحلل والحرام .وأما المكاسب الحلل فأصلها الحلل مثل البيض والبلوط والمن والحشيش والحطب .وأما الصيد ففيه كلم بين
العلماء فتركه أجمل ،وعملك بيدك مع النصح أجل وأكسب .اجتمع أبو الحسين النوريِ وأبو يزيد وسفيان بن عيينة فأخذوا ببعض
أجرتهم خبزال وتصدقوا بالباقي ،فلما قعدوا لكل الزاد قال سفيان :هل تعلمون منكم النصح في الحصاد؟ فقالوا :ل نعلم :فتركوا
الخبز مكانه وراحوا .واعلم أن سر الحرام غامض نكشف بعضه فنقول :إن الصانع واحد والخلق من فيضه ،فالمعتديِ على بعض
أجزاء الفيض يسريِ بعدوانه إلى الكل كما قال تعالى في القاتل" :فكأنما قتل الناس جميعا ل ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ل"
)المائادة .(32 :والقياس إذا قال :شعرك طالق ،سرى طالق في جميع جسدها ،وهكذا إذا تصدقت فقد أرضيت الصانع والمصنوع.
واللقمة الطيبة وهي الحلل أفضل عند ا من صدقات كثيرة ،فإذا أردت الكل فكل ما دنا من الرض بالصابع الثلثة بعد
الجوع ،وقم قبل الشبع ،واقعدوا كقعودك بين يديِ شيخك للتعليم .واعلم أن ا سبحانه وتعالى قد نزع البركة من الحار والحرام،
وفي المأكل الحار أربع مضار :يهدم السنان ،ويصفر اللوان ،ويزيل الكبد ،وربما يخاف عليه من أذى المصران .وغسل اليدين
من الطعام وبعده .ول يجوز أكل المنتن للزوجين إل يإذن بعضهم بعضلا ،والسر فيه أن يورث النفرة بين الزوجين .والريح الطيب
مؤلف ومحبب .وترك غسل اليدين يقمل الثوب ويولد رائاحة كريهة وربما على ما ورد أن الشيطان يسترضع اليد ويستحسن
الصورة فيألفها .ولما كان المقصود من الحلل تصفية القلوب وتقليل الذنوب ،صار طلبه فرضا ل كطلب العلم فإن العلم إذا لم يدل
على خير فهو ضرر ،وفي الحديث "من أكل الحلل سنة كشف له عن طراز العرش وصفت أنوار خواطره" .وهو كيمياء السعادة
البدية ،ينشرح به الصدور ،وتصفو به أنوار المعرفة ويثبت في القلب عين الحكم ،وبه تنكشف غشاوة الغفلة ،وترفع سدود
الغرور ،فيبين صفاء سماء التوحيد ،وينكشف له اللوح المجيد ،وتسمع بأذن صفا خاطرك هدير تسبيح الملئاكة المقربين.
واعلم أن النفوس ل تكون مرهونة بعد الموت إل بمظالم العبيد ،والسر مطالبة حاضرة بين غريمين بين يديِ حاكم عدل عليم باق.
والمساواة واقعة بين العبدين إل من أتى ا بقلب سليم ،تخلصت الذمم من المظالم ،وانفك قيد النفوس ،فصارت الرواح أين
تختار ،ولهذا قال صلى ا عليه وسلم" :إن الرواح لتزور بيوتها وأهلها ،فإن رأتهم بخير شكرت وإل نفرت وهي تناديِ يا أهلي
إياكم والدنيا فل تغرنكم كما غررت بي" وهذا هو سر نداء الندم وأما الرواح الطيبة الطاهرة من الدنس والثام والمظالم فهي
تطير أين شاءت واختارت على صور ذكرها الناس ،إما جوهر ،أو هيئاة ملك ،أو جسم لطيف ،والكل مدرك حساس عليم بمفارقة
الجسد .فبقدر انتقاش علمك يا هاديِ سيرقى العلم فوق الجهول ،وفي الحديث" :إن رد درهم مظلمة أفضل عند ا من أربعة آلف
حجة مقبولة" فإذا كان حجتك واجتهادك خوفا ل من الثام فاقطع أصولها.
المقالة الحادية والعشرون
في تهذيب النفوس
اعلم أن نفسك أشد عداوة لك كما في الحديث" :نفسك التي بين جنبيك هي أعدى عدوك تدعوك إلى الوبال وترشدك على الضلل،
وتوقعك في الدناءة ،وتركبك نفس الهوى ،وتوقعك ،وتطمعك ،وتهلكك ،وتملكك ،فاقطع خصالها وخللها وشرها وشركها
وطمعها وولعها وشبعها" .وفي الحديث" :أن ا تعالى لما خلق النفس قال لها :من أنا؟ فقالت :وانا من أنا؟ فعذبها بأنواع العذاب،
فكلما قال لها من أنا فتقول وأنا من أنا ،حتى عذبها بالجوع والتواضع ،فقالت :أنت ا الذيِ ل إله إل أنت" فنفسك زنجية تطالبك
بالشهوات ،فإذا شبعت طمعت ،وإذا عصيت رفضت ،هي الموقعة في البليا وهي أم الرزايا ،هي الذئاب الكلب ،والسد الحرب،
والكلب النهم ،والعدو القرم ،دائاها كثير ودواؤها قليل ،وأعظم وسائال السلمة منها الخلف لها )شعر(:
إذا طالبتك النفس يوما ل بشهوة وكان عليها للهواء طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما هواها عدو والخلف صديق
ول يجد المريض حسن الشفاء إل بالصبر على مر الدواء ،فعذبها بما تهذبها ،فقد أنشد البستي لنفسه )شعر(:
العاقل يهزا بي والخلوة تهذيبي
ما أصعب أحوالي ونفسي كالذيب
فإذا عزمت على تهذيبها فاضربها بسياط تعذيبها ،واقمع بالتواضع كبرها ،واطبخها بنار المتحان ،واجعل العلم لها سيد الخدان،
والعمل الصالح لها مولى الخلن .وتعلم الخلق اللطيفة ،وتكسب العمال الصالحة ،والطف واظرف ،وتكايس ول تتيابس.
واعلم أن ا لطيف ،وليس من شأن اللطيف أن يعذب اللطيف والمهذب لنفسه والمعذبها بنيران المجاهدة ,واعلم أن الخير عادة
والشر لجاجة .فربها بالنوافل ،وهذبها بين يديِ شيخك بالسمع والطاعة ،واعلم أن حرمة الشيخ أعطم من حرمة الوالدين ،والشيخ
هو الوالد على الحقيقة ،والمرشد إلى الطريق ،والمخرج للمريد من ظلم الجهل إلى نور المعرفة ،وإلى السعادة البدية ،والنجاة
الحاصلة ،واللتحاق بالملئاكة ،لن الشيخ هو الطبيب للذنوب ،وأما الوالدان فهاجت نيران شهواتهما لقضاء الوطر ،وجنيت أنت
من ثمار الشهوة ما تقدمت نيتها بايجادك عند الوطء وكان سببا ل لخراجك من ظلم العدم إلى ظلم الجهل ودار المكايدة والعناء ،فقد
أجادا نقلل وقصرال وعقلل .وأنشدني المعريِ لنفسه وأنا شاب في صحبة يوسف بن علي شيخ السلم:
أنا صائام طول الحياة وإنما فطريِ الحمام ويوم ذاك أعيد
ص 530
قد فاز من صبح و ليل أو دنا
شعرى و أيدنى الزمان اليد
قالوا فلن جيد لصديقه
كذبا أتوا ما فى البرية جيد
فأميرهم نال المارة بالخنا
و نقيبهم بصلته يتصيد
كن من تشاء مهجنا أو خالصا
فإذا رزقت حجى فأنت السيد
و ا ما سمعوا مقالة صادق
إل و ظنوا أنه متزيد
هذا الشعر فى بحر لزوم ما ل يلزم.
و من علمة علمك أنهم إذا مرجوا ل تلتفت ،و إذا مزحوا ل تتزلزل،و إذا كابروك ل تحول .و كابد نفسك عن المزاعقة و
المصايحة ،فالكبر مطيب النفس ،فإذا أردت الغاية الكبرى فى تهذيبها فأقصرها فى بيت أربعين صباحا ل أو أربعة أشهر ،و هو
الفضل ،و انقطع كأنك ميت ،و ل تبق لك حاجة ،و حصل من الزاد ما وافقك و أعانك كما تحصل طريق مكة ،ثم اركب مطية
متابعة الشرع ،ثم سر فى فلوات قمع النفس ،و ليكن البيت مظلما ل و زمان الشتاء أولى .و ل تأت بغير الفرائاض من الصلوات ،و
ل تنم إل غلبة ،و كل ثلثى أكلك بعد الجوع ،و مقداره من اللقم الوسيطة ستة و ثلثون لقمة .و ليكن ذكرك ل إله إل ا الحى
القيوم ،فإذا دكدل اللسان فقل بقلبك و ل تخف من الواردات عليك فقد يجيئاك صورة قبيحة ،و خيالت قاطعة ،و جن و شياطين و
ملئاكة و معلمون ،فواحد يقول أعلمك الكيمياء ،و آخر يمنيك بالكنوز ،و هذا يوعدك ،و هذا يهددك ،فل تلفت ،فإنه ،سيظهر لك
مع الصدق و ترك التجربة عجائاب و فنون ،فعند ذلك تذوب كثائاف الحجب عن القلب ،و ترفع ستور الغفلة بين قلبك و بين اللوح
المحفوظ فتشاهد ما فيه ،و تنتقل إلى الخلئاق معاينة ،و ينكشف لك فى اليقظة ،ما كنت تشاهده فى المنام ،فيستنير القلب ،و ينشرح
الصدر بأنوار الجلل ،و تنخرق الكائانات ،و تنكشف المستورات ،و تظهر الكرامات التى هو أخوات المعجزات ،و بينهما فرق
فى التحدى و الظهار و الستتار ،بل إذا وصل العبد إلى درجة التمكين صار الكل بحكمه ،ما شاء فعل أو قال ) :وأما بنعمة ربك
فحدث ( [ الضحى . ] 11 :و كل ما تجده فى الخلوة تعرفه شيخك ،فالشيخ فى قومه كالنبى فى أمته ،و من ليس له شيخ فالشيطان
شيخه ,و من مات بغير شيخ فقد مات ميتة الجاهلية ،فيعلمه
ص 531
و يدله و يعرفه طريق الوصول إلى ا تعالى و صاحب الخلوة يهب عليه نسيم القرب من دواخل الحجب ،و ينكشف له أسرار
قلوب المخلوقين ،و يزوره البدال ،فتراه فرحا ل طيب الخلق حسن العشرة ،دعب لعب ،لن ا يكون قد تجلى بقلبه ،فيسمع كلمه،
و يبلغ منه مرامه ،و يكاشف شموس المشاهدة ،و يعلم المخفيات ،و يطلع على الكائانات .و من علمات الواصل بال :حسن
الخلق ،و كثرة العلم ،و حلوة الكلم ،و التواضع ،و صاحب هذا الطريق مع علمه العزيز ل عبوس ،و ل حقود ،و ل متكبر ،و ل
ظالم ،و ل متجبر ،و ل أكول ،و ل شروب ،و ل نؤوم ،نفسه ملكوتية ،قدوى جبرائايل همته ،و نفخ إسرافيل سعادته فى صور
همته ،فحدا به حادى محبته ،و سار به فى بيداء معرفته ،حتى تجلى له بيت الجلل ،فانكشف منه خاصيته يمشى بها على الماء و
الهواء و يطوى له بها البعيد .فاقربوا من هذا الرجل تكتسبون من قربه و فيض خاصيته ما اكتسبه الهلل من قرب الشمس .و
ربما ينتقل أحوال البدال إلى التلميذ و المريدين كما انتقلت النبوة من موسى إلى يوشع بن نون.
و اعلم أن الحوال و المقامات ل يصدقها إل من عرفها ،كما ل يصدق علم الكيمياء إل من عالجه و عرفه ،فكل من يكلم عند
الصانع الواصل العليم فقد هدى ،فإن العمى ل يبصر القمر ،و الزمن ل يعدو خلف الطريدة .و أنت تغيب و ليس فيك نصيب ،و
ل أنت محب و ل حبيب ،بطنك ملءة و عينك محيطة و لسانك معقود ،و عملك قليل و أملك طويل ،و ذنبك عزيز و ربك بصير.
فأسمع مناديك فى جانب واديك قال :ل تعب الحرائار حتى تكون مثلهم ،و اخش بمفلح نادى من وراء اللوح .فأحسن الظن فإنك قد
طرحت فطرحت ،و جرحت فجرحت ،و لو أوصلت لوصلت ،و لو خدمت لخدمت ،لكنك متشبت تجعل ط م ع وهى خالية من
النقط فهلكت و ما ملكت ،و ما فاتك فاتك و الندم تجده عند وفاتك .و اعلم أن ا مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون )شعر(:
قل للكثيب المعدنى
إلى متى تتعنى
فل حياتك تصفو
و ل بناتتـــــهنا
المقالة الثانية و العشرون
فى الذكار
و اعلم أن اليات الدالت على الذكر و الخبار كثيرة ،فمن ذلك قوله تعالى ) :فاذكرونى أذكركم ( [ البقرة . ] 152 :و قوله
تعالى ) :اذكروا ا ذكرا كثيرا (
ص 532
ل ل
[ الحزاب .]41 :و قوله) :و لذكر ا أكبر( [ العنكبوت .]45 :و قوله ) و اذكر ربك فى نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر
من القول بالغدو و الصال و ل تكن من الغافلين( [العراب .]205:بين المراتب و الوقات .و الذكر الخفى أجمل ،إذ ليس فيه
أذى لسامعه ،و هو خالص عن الرياء و النفاق ،مثل صوم السر و صدقته ،و الحث عليه كثير .و قد سئال رسول ا صلى ا عليه
و سلم فى رجل يتصدق بمال حلل و آخر يذكر ا من صلة الصبح إلى طلوع الشمس فأى الرجلين أفضل؟ فقال " :و لذكر ا
أكبر" .و فى الحديث" :أنه من ذكر ا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فله أجر من تصديق بمائاة ناقة حمراء حملها من ذهب
أحمر ،و كأنه قد أعتق ثمانية رقاب من بنى عبد المطلب" .ثم الذكر له ثلث وظائاف :فذكر الظاهر بلقلقة اللسان ،فهذا يستحب فى
التلوات من هياكل العبادات ،و الذكر الخفى أعلى ضروب العبادات و الصدقات ،و ذكر القلب و منه يحدث الغناء من العالم و
الشتغال بالمحبوب " :أنا ذاكر من ذكرنى ،و جليس من شكرنى ،و حبيب من أحبنى .من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ,و من
ذكرنى فى مل من قومه ذكرته فى مل من ملئاكتى " ثم يحصل من الفناء الول فناء ثان و هو ان يغيب عن النفس لمشاهدة
حضرة القدس ,فيصير الذكر لك عادة وعبادة .كشف الموت عنك أعباء الثقال عدت فى عادة ذكرك مع الملئاكة الذاكرين ،إذ
الخير عادة .و يطاف بك فى ساحة حظيرة القدس و تحظى بقرب من ذكرت ،و هو قرب إكرام و منزل احتشام .و من هذا الذكر
ما هو قرآن ،ثم بعده تسبيح ،ثم صلوات النبى صلى ا عليه وسلم ،ثم استغفار و دعاء .فهذه وظائافه ,فواظب عليه فإنه يكشف لك
من سر الربوبية ما يغنيك عن ملتمس كل حال ،تشاهد الملئاكة ،و يخدمك مؤمن الجن ،و يطيعك أعضاؤك و يزول وقر أذنك
فتسمع تسبيح الجمادات )و إن من شىء إل يسبح بحمده و لكن ل تفقهون تسبيحهم( [السراء .]44 :و قد يحصل من ثمر الذكر
أكثر ما مر بك فى تهذيب النفوس ،و يثمرعليك أيضا ما أثمر على زين العابدين ذى الثفنات السجاد ،فإنه كان يسجد بين الليل و
النهار ألف سجدة فأثمر عليه ،كان إذا قام فى صلته يكشف له الكائانات فيطلع على حومة حظيرة القدس .و به بلغ أصحاب
المقامات درجات المكاشفات و السير على الماء و الهواء ،و به سمت الملئاكة إلى أعلى قلل الشرف ،و استحقوا دوام البقاء للتنزه
عن المأكل و المشرب مع مداومات الذكر و شراب الفكر ،و هو التنزيه و التسبيح من الملئاكة ،و به تجذب الملوك إلى المتزهدين
،و به تنال مراتب العاشقين ،و يحدث منه خاصة جذب القلوب ,و قد يقف الذاكر الصادق على باب الداب ،و ينحل بالذكر طريق
السباب ،فتخلع نعل حب الدنيا عن قدم إقدامه ،و يقطع عوسج وساوسهم ببلوغ مرامه ،و يقف على طور صفاء قلبه فى وادى
تقديس لبه هناك فيسمع كلم ربه ) :إنى أنا ا رب العالمين ( [القصص.]30 :
ص 533
و يكفيك ما مر بك من قصة أمية بن أبى الصلت الثقفى :كان يترشح إلى طلب النبوة فقال لجيه :ها أنا أنا فاصطنع لى طعاما ل! قال
فبينما هو نائام إذ رأيت قد نزل طائاران من النافذة فشق أحدهما صدره ثم أخرج منه نكتة سوداء ،فقال أحدهما :أوعى؟ قال :نعم
وعى علوم الولين ،فقال :أو زكى؟ فقال :ل ،فقال :رد فؤاده إليه فليست النبوة له إنما هى لسللة آل عبد المطلب .فلما انتبه
أخبرته بالقصة فبكى و تمثل:
باتت همومى تسرى طوارقها
أغض عينى و الدمع سابقها
مما أتانى من اليقين و لم
أوت براءة يقض ناطقها
إما لظى عليـــــه واقـــــــدة
النار محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التى وعد البرار
حـــفت بهم حــــدائاقـــهـــا
هما فريقان فرقة تدخل الجنة
مصفــــوفـــة نمارقــــها
و فرقة منهما قد أدخلت النار
و ســــيئاــــاتهم مرافقها
ل يستوى المنزلن ثم و ل
العمال ل يستوى طرائاقها
تعاهدت هذه النفوس إذا
همت بخير عاقت عوائافها
و صدها للشفاء عن طلب
الجنة دنيا ا ما حقها
عبد وعى نفسه فعاتبها
يعلم أن البصير رامقها
ما رغبة النفس فى الحياة
لتحيا طويل فالموت لحقها
يوشك من فر من منيته
يوما على غرة يوافقها
إن لم تمت غبطة تمت هوما
الموت كأس و المرء ذائاقها
ص 534
و بها مات مصدوع الكبد :منعه شركه عن نيل مقصده ،إذ الشهوات قاطعة ،و اللذات مانعة .و من رام الماء صبر على الكدر ،و
من قطع الليل خلص عن حر الطريق ,و من جعل نفسه ذات الشهوات كان مسقطه الكنيف و الخلوات ,و من قطع العلو بهمة
الجاهدات نال أعظم المراتب بالصبر على المصائاب و النوائاب .و ما صاحب المأكل الكثير يحظى بسوء التدبير ,و هو مستور ل
يفلح أبدال.
المقالة الثالثة و العشرون
فى جهاد النفس و التدبير
قال النبى صلى ا عليه و سلم " :رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر " .قالوا يا رسول ا و ما الجهاد الكبر؟ فقال ":
هى مجاهدة النفس " و قال صلى ا ل عليه و سلم " :أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك " .و قال صلى ا عليه و سلم " :بعثت
لتمم مكارم الخلق " .و اعلم أن النفس أخلقها ذميمة غير مستقيمة ،فإن فيها مع صغر حجمها .كما قلناه .ما فى السموات و
الرضين ،و هى النار الوصدة فيها ذئااب الغيبة ,و كلب الشهوة ,و سباع الغضب ,و نمور المخالفة ,و ثعالب الحيلة ,و كمين
الشياطين بعسكر الهوى ،و مناجيق المتحان ،و وساوس القبيح ,كل هذا ممكن تحت قلة قلعة النفوس محيط بربضها و حصنها .و
اعلم أن القلب مدينة و ساكنها الملك ,و هى النفس اللطيفة ,المدركة ,العالمة ,الطاهرة ,الربانية ,الخارجة عن صفة النفخة المشار
بها إلى الروح ,و هى محجوبة بالبخرة الظاهرة المتولدة من دم القلب الذى هو الشكل الصنوبرى و اللحم المجوف .و ما هذا هو
القلب المخاطب و إنما العقل ,فهو المخاطب من قوله تعالى) :و اتقون يا أولى اللباب ([البقرة .]197 :و قوله تعالى ) :إن فى
ذلك لذكرى لمن كان له قلب ([ق .]37 :و هو معنى قوله ) :أذسن واعيسة ([الحاقة .]12 :و النفس المشار إليها هى أسيرة الشهوات,
مقيدة بقيد الغفلت ,مشوهة مستورة بالخيالت ,عاشقة للدنيا قد أطمعت ببخسها ,فأصبحت محبطة ,سكرى ,قلقة ,حيرانة,
مشغولة بخدمة الجسد الترابى تحمله للكنيف ،مشغولة بتربيته و تغذيته ,ألفته فعشقته ,فإذا فرق بينها تأسف ,حتى إذا مر عليها
بمثل ما خدمته بطول المدة نسبته و أنكرته كأنها ما عرفته ,فإذا ردت إليه نفرت حتى تسمع إشارة القدس ) يا أيتها النفس المطمئانة
" "27ارجعى إلى ربك ([السورة .]28,27:هذا خطاب موجد لموجود غير مفقود إذ ل يجوز خطاب المعدوم ,و من شواهد ذلك
قوله صلى ا عليه و سلم " :تعرض على أعمال أمتى فى كل اثنين و خميس ،فما كان من حسنة أسر بها ,و ما كان من سيئاة
أستغفر لها ,اشتد غضب ا على الزناة " .و قوله صلى ا عليه و سلم " :أكثروا من الصلة على فإن صلتكم على معروضة "
فأيها المكذب المذبذب
ص 535
الغافل المتأول ،أتراك تعجز الصانع القادر؟ تزعم يا مسكين أن ل عود للجسام و الرواح إلى الصانع القديم القادر ،أهو ذاك أم
غيره سواه؟ أتتجحد عليه و تتحكم و تعجزه فى قدرته و آيته و نبوته؟ أفمن رباك فى بطن أمك أفل يربيك فى بطن قبرك؟ ثم تقول:
تختلط العظام بعضا ل ببعض ,فكيف السبيل إلى تخليصها؟ فانظر إلى الصانع كيف يخلص التراب وبرادات الذهب و الفضة و
الحديد ,و هو أجزاء تعجز أنت خلصها .فالصانع القادر ليس بمعجز و ل يدخل تحت طوق ما تريد ،و إنما أنت عاجز تعجز و
تغتر بمقالت ابى على بن سينا ،أقد صار عندك أصدق من محمد صلى ا عليه وسلم؟ فانظر إلى فعل هذا و هذا ,ثم احكم بالفسق
و العدالة ,و ارفع الحكومة إلى حاكم عقلك فى التصديق و التعديل و احسبها حكمين ,فإن قلت هذا عقل و هذا نقل فانظر ما
يذكرون لك من حوائاج طلبك ,أل تسأله عن خواصها و براهينها و تقول :لم يقبض هذا و يسهل هذا؟ فيكون جوابك عنده إنما أنت
معارض أم مريض ,فكيف تعارض طبيب آخرتك و قد كان الذين قبلك أكثر منك بصيرة و عقلل ,علموا أن العتراض و التعجيز
كفر فأسلموا منه و آمنوا .فجاهد نفسك و اتبع شرعك فل تخالف نبيك ,و أكرم كتابك فهو هدية ا إليك .و قبيح بمن أكرمه ملكه
بهديته أن يستهين بها .و عن قليل تلتقى و تتواقف و تستحيى ،و إن كانت الروح راجعة إلى مبادئاها عند بارئاها ،فإن صدق الشرع
فهناك يتبين غليظ التوبيخ .و الجماهير أكثر منك ،إذ أنت منخرط فى سلك نظام الحاد ل التواتر .تبعت طاعة نفسك فأردتك إلى
البليا ,و إل فانظر الليل و النهار ,و الصيف و الشتاء و الربيع و الخريف ,و تنقل الحوال فيهما ,و إحياء الرض بعد موتها ,و
نومك و انتباهك بغير اختيارك ,و آيات كثيرة أنت عنها غافل ,ثم ارجع إلى مجاهدة نفسك تمح صفاتها الذميمة و تثبيت صفاتها
الحميدة المستقيمة .فاقمع الغضب بالرضا ,و الكبر بالتواضع ،و البخل بالبذل ،و المساك بالصدقة ,و الصمت بالذكر ،و النوم
باليقظة ,و الشبع بالجوع ,و الغفلة بالنتباه ,و الخلطة بالخلوة ,و الشتراك بالعزلة ,و المداهنة بالصدق ,و الشهوة بالقمع ,و
الباطل بالحق ,فإذا محوت صفات آفاتك بأن لك عند ستر الغفلة كيف يحيى الموتى و هو على كل شىء قدير .لكنك شيطان مريد،
و تزعم أنك ل مريد ،فأين آثار حلوة التوحيد؟ نام واحد من بنى إسرائايل فى موعظة داود عليه السلم ,فأوحى ا تعالى أن يا
داود من إدعى محبتى ثم ينام عند ذكرى فقد كذب .لما أمر إبراهيم عليه السلم بذبح إسماعيل عليه السلم فى منامه فقال :يا أبت
هذا جزاء من نام عن خليله ،و آدم لما نام خلقت حواء .قال الشاعر )شعر (:
عجبا ل للمحب كيف ينام
ب حراامكال نوءم على المح ه
ص 536
و اعلم أن قلبك هو المدينة التى أشرنا ،فيقدم شيطان نفسك إلى تعبئاة جيوش الهوى ،و عساكر حب الدنيا ,و نقاب الوساوس ,و
نقاب التمنى ,و مشاغل سوء الظن ,و مناجيق المخالفة ,و بوق الكير ,و طبول إساءة السمعة ,و أسياف خيل الشره ,و زحف
رجل المكر )و أجلب عليهم بخيلك و رجلك ([السراء .]64 :فإذا أحاطت هذه الجيوش بهذه المدينة ,و لم يكن لها زاد و ل رجال
من الخلق الحميدة ,هلكت المدينة إن لم يدفع عنها البلء ،و سلب الملك و خربت مدينته ,و نام عنها حارس الذكر ،و تهدمت
أبراج الصدق ،قعد شيطان الشمس على سدة أسرار القلب ,و هتك أستار خزائان العمال ,و دارت فى المدينة عوانية الشك ,و
قطعت أشجار المعاملة ,و نهبت أموال العمال ,و أكلت ثمار المال ,و وقع الشك فى الكتاب ،و نفرت النفوس عن مصاحبات
الصحاب ,و عصى كل موله ,و تبع كل منهم هواه ,و كبكبوا على مناخرهم فى النار و قالوا يا ويلنا ) ما لنا ل نرى رجال كنا
نعدهم من الشرار " "63أتخذناهم سخريا ل أم زاغت عنهم البصار ([ص .]63,63 :و كل ما الناس فيه من التشكيك و البليا هى
الشبه و الحرام ,و إل فصف زادك و انظر لشرح نور اليمان فى سرك و فؤادك ينكشف لك زادك ليوم بعثك و معادك .هى النفس
ما عودتها تتعود ,و اعلم أنك بنفس المجاهدة تهذب نفسك حتى تصير ملكا روحانيا ل ,و بمتابعة الغفلة و الشهوات تصير شيطانا ل
رجيما ل .فجاهد النفس المارة بالسوء تمح صفات آفاتها حتى تصير لوامة ثم انقل اللوامة إلى مقام المطمئانة كما ينقل السلطان
فراشة إلى مقام الكاتب ,ثم إلى مقام الوزير ,ثم يتصرف مع نصحه فى ملكه فينظر إل حسناته فيكون عنده سيئاات هذا مقام حسنات
سابقة كما قيل :حسنات البرار سيئاات المقربين .و الطريق إلى ا بعدد أنفاس الخلئاق ,و المقامات تعلو مع النفاس ,كان صلى
ا عليه و سلم يعلو من مقام إلى مقام ,و هى مقامات الكشف و المعارف بها نبه حيث قال " :إنه ليغان على قلبى ،و إنى لستغفر
ا فى اليوم مائاة مرة" و الرين أشد من الغين .و اسمع نظم أمير المؤمنين علدى عليه السلم فى النفس:
صيرت عن اللذات حتى تولت
و ألزمت نفسى صبرها فاستمرت
و كانت على اليام نفسى عزيزة
فلما رأت عزمى على الذل ذلت
و قلت لها يا نفس موتى كريمة
فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
فل الجود يفنيها إذا هى أقبلت
و ل البخل يبقيها إذا ما تولت
و ما النفس إل حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت و إل تسلت
ص 537
فهذبها و عذبها ،و قربها من بابها ،و انظر مقام النبياء و الولياء فيها ،و اغتنم الثواب و الثناء فما ذكر الصادقين كذكر الفاسقين )
و لتعلمن نبأه بعد حين ([ص .]88 :و قد سمعت مقالت اللعابات ،و كم لى كرارلا ،فلك لذا التوانى غائالة و للقبيح خميرة ،يتبين
بعد قليل و الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .و لكنك كالعود النخر ل يحمل ثمرال و ل يظل بشرلا ،و كالمرأة القرعاء التى باهت
صاحبات الشعور الزور فإذا كشفت عن رأسها هتكت بين جلسها ،و أنت قد رضيت بقعقعة ثيابك و نذل ثوابك .غدال ترحل
القوافل ،و تبقى على الطريق يا غافل ،و تقعد بغير زاد و تقول لشاويش القافلة ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت ،هيهات
غلق الرهن فل يقال .قالوا :يا رسول ا ما السر فى نقطة دمعة الميت على خده؟ فقال " :أما الصغير لما يشاهد من حال أبوية فى
اللوح ،و أما الكبير فيكاشف بأعماله و انتقال زوجته و أمواله" فبم تتنبه و هذا الحال أنت فيه و به ،كما قيل :عود نخر ما يحمل ،و
أقرع ما يمتشط و ما يجىء من مربح مزبلة لسبيل .فأنا أرفعك و همتك تضعك ،ل شك أن الغلبة لك .فمن كانت همته ما يدخل فى
بطنه كانت قيمته ما يخرج منها .إن فهمت فإنتبه ،وإل فأنت بنفسك أخبر ،و نصحت و لكن ل تحبون الناصحين.
المقالة الرابعة و العشرون
فى المحبة و الشوق و المشاهدة و المكاشفة و المواعظ
و الزواجر النقلية و العقلية
اعلم أن المحبة جائازة و جارية أولل بين ا و أوليائاه و قد نوه بها القرآن من قوله ) :و الذين آمنوا أشد حبا ل ([البقرة .]165 :و
قوله ) :يحبهم و يحبونه ([المائادة .]54 :فإن قلت و ثارت نفسك الخبيثة :كيف تحب من تراه و ليس من جنسك؟ فقد تحب الصانع
لما يظهر من حسن صناعته ،فانظر إلى بساطه و ما فيه من بدائاع النقوش و الخضر و الشجار و الثمار و النهار ،و إلى الفلك و
ما فيه من الليل و النهار و شموس و أقمار و كواكب كبار و صغار ،فهذه آيات صناعة الصانع دالت على استمرار وجوده,
فسبحان صانع المصنوعات! فترتيب نفسك إن عقلت أعظم مما رأيت و سمعت .و الذى يدلك و هو من أقوى الدلئال فى محبته لذة
سامع كلمه ,إذ هو معجز ل نظير له ,فبه يستدل على محبة المتكلم ,أما سمعت نظم الشعراء:
ب قالت لترابها و كاع ء
يا قوم ما أعجب هذا الضرير
أيعشق النسان من ل يرى
فقلت و الدمع بعينى غزير
إن كان طرفى ل يرى شخصها
فإنها قد صورت فى الضمير
و قال جرير:
يا قوم أذنى لبعض الحى عاشقة
و الذن تعشق قبل العين أحيانا
إن العيون التى فى طرفها مرض
قتلننا ثم لم يحيين قتلنا
يصرعن ذا اللب حتى ل حراك به
وهن أضعف خلق ا أركانا
و أما الخبار فكثيرة و قد ذكرناها فى كتب الحياء ،و إشارة من جملتها كافية مثل قوله " :كذب من ادعى محبتى ,و إذا جن الليل
نام عنى " و مثل قوله " :ل يزال عبدى المؤمن يتقرب إلدى بالنوافل حتى أحبه ,فإذا أحببته صرت سمعه الذى يسمع به و بصره
الذى يبصر به " الحديث .و اعلم أن الحب و العشق واحد ,و الفضل فيه هو هيام العاشق بالمعشوق ,و هو النظر لستحسان
بعض الصور بطريقة الولع به نار عن طريق بخار حاد من خاطر ذكى لوذعى سبك نيران المجاهدة فطهرت أبخرة نيرانها من
وراء مؤخرات الدماغ ,و ظهرت ملوحات الفكر فى العشق من متقدمات اليافوخ ,و فتحت مصاريع خلوة القلب فأقعد خيال
المعشوق قبالة عين اليقين و النفس تصقل مرآة المجاهدة فى نظر جمال المحبوب ,و الصل فى المحبة هو المنادمة و اللفة و
استحسان كلم المعشوق ،فعند ذلك تثور همة لطلب بقدح نيران الشوق ,فتستغلب عليه حالة العشق فيصير فى الشوارع مجنونا ل ما
صارت نيران الماليخوليا ,فخلط الكلم ,و احتراق البلغم و الخلط ,و صفقت سماء القلب لتجلى قمر المعشوق ,فيبقى العاشق
والها ل والعا ل تائاها ل فى تجلى جلل المعشوق ,فإذا انكشفت البلغم فارت عرائاس القلب تحمل صوانى نثار الشعار ،و رقصت
عرائاس المال فى مجالس الصوال ،فزمر مزمار التمنى ,و ضرب مزهر التأنى كما قال سابق الرجال:
تمنيتها حتى إذا ما تمثلت
طربت كأنى قد دعوت ولبت
تمنيتها حتى إذا ما رأيتها
رأيت المنايا شرعا قد أظلت
تمنيت أحاليب الرعايا وخيمة
بنجد و ما يقض لها ما تمنت
ص 539
فل تنسيا أن يعفو ا عنكما
و لوما إذا صليتما حيث صلت
فيا ليتنى أحجار حائاط مسجد
لعزة إذ فيه تصلى و ولت
ثم هيج الغبار فترى بخار التمنى ,و يقوى بخار العناء ,فترى التقسيم الواقع فى القلوب ,فهناك ل نوح و ل قرار ,و يظهر مبادىء
التحول و الصفار ,و يبرز أعراض السهر ,و تقدح نيران العشق لهزال سمان البدان ,و ينشد المغنى من غير توان:
و جه الذى يعشق معروف
لنه أصفر منحوف
ليس كمن أضحى له جثة
كأنه للذبح معلوف
فى الحديث " ينادى مناد فى كل ليلة :أل لعن ا الكول النؤوم " ابن آدم لهذا خلقت؟ تقنع ليخف حسابك ,و يصح جسدك ,و يقل
أمراضك ,و ينصلح أغراضك و يقل منامك ,و يكثر ذكرك ,فيهديك محبوبك إليه ,فيجذبك إلى طاعته و يعصمك عن معصيته.
فأكثر من النوافل تفلح و السلم.
ذكر الشوق و المكاشفة
اعلم أن الشوق هو الداعى إلى حالة المكاشفة ،و الشوق هو التمنى للقاء المعشوق ,و لقاء المعشوق ل يحصل إل بالمكاشفة ،و
المكاشفة إما أن تكون عيانا ل أو قلبية و هو تجلى المعشوق بحالة يحملها قلب العاشق ,لكن العيان هو أفضل ,بل بشرط جامع بين
القلب و العين كحالة رسول ا صلى ا عليه وسلم ,فإنه كاشفه ليلة إسرائاه بالتجلى القلبى و النظرى لصحة الروايتين عن عائاشة
و على و ابن عباس .و اعلم أن حقيقة المكاشفة هى عين النظر إلى المحبوب ،و لكن يتفاوت على قدر درجات المحبين ,و ليس
نظر الخلق كله واحدلا ،فأدنى درجات النظر القلبى ,أما النظر البصرى فهو عند قوم عرض غير دائام ,و أعظم المنزلين هو الجمع
بين النظر و القلب ,فإذا ,رفعت ستور الغفلة و الهواء تجلى المحبوب فتلشى المحب حتى يخرج من الستور و البشرية و الحجاب
الجسمانى فيرى الحجاب و يسمع الخطاب ) و ما كان لبشر أن يكلمه ا إل وحيا أو من وراء حجاب ([الشورى .]51 :فعند ذلك
يمتد له خطاب من الهواء فى جميع ما يحدث فى الكائانات فيصير عيسوى الحال ) و أنبئاكم بما تأكلون و ما تدخرون فى بيوتكم
([آل عمران .]49 :فيصير الملئاكة و مؤمنو الجن بحكمه
وطاعته وينخرق بينه وبين ا روزنة يعلم بها خلصة صفاء اسرار الكائانات ،ولكن بشرط خير العلم ،والعمل بصدق من غير
تجربة .فإذا هبت نسمات اللطف برفع حجاب الغفلة ،انقلبت له الكائانات على مايريد ،إذ الرادتان امتزجتا واحدة كما سبق فى
أحوال الصوفية من قولهم :
فإذا أبصرتنا أبصرته
وإذا ابصرته ابصرتنا
فيصير الناسوت معنى لطيفا يحدث له من الغيب قوة يقبل بها جميع الواردات عليه فمنه ثمار الكرامات والتحدث بالمور الغيبيات
،يعرفه الباحث من جنسه وسائار الطير له منكر ،فتتجوهر النفس بزوال العراض الفاسدة عنها ،فتصير قدسية ل يخفى المور
الغيبية .فإن قلت :هذا نوع مشاركة عزت على النبياء فكيف ينالها الولياء؟فاعلم أن أصل الغيب هو من ا القديم ،فمنته عليهم
إطلعهم على شيء من علوم الغيب ،أما سمعته يقول ) :عالم الغيب فل يظهر على غيبه أحد ،إل من ارتضى من رسول (
"الجن .26،27:وقوله ) من رسول ( وهو ستر على الحال لئال يحسب أجلف العامة أنها مشاركة غيبية ،وهذا غير بعيد إذ
خزائان الملوك يطلع عليها المملوك ،والمور المستورة من المعشوق فقد يشاهدها العاشق الصادق قياسا بالصورة الحسناء
يشاهدها مالكها وهى مستورة عن الغير ) وتلك المثال نضربها للناس وما يعقلها إل العالمون ( "العنكبوت ."43:وقد سمعت
الجنيد يقول :كل أحد حلج لكن ليس كل أحد خراج ،وقال أبو زيد البسطامى :من وصل درجة التمكين فهو طبيب يقعد على
سرير أسرار الخلق ،فيطلع بإذن مالكه على خواطر أسرار الملوك مثل اطلع مملوك المحبوب عليك فى حالتك ،أليس فاطمة
السلماسية كانت تخرج وقد أذن مؤذن الظهر من سلماس فتصلى الظهر جماعة فى بسطام ؟ فإن قلت :هذا غير ممكن ،فإنها حالة
لم تنخرق للنبياء فكيف لغيرهم ؟ الجواب أنك تحكم على ا أو على نفسك ،فإن كان على نفسك فأنت أخبر وإن كان على ا
فأنت أصغر .فمن عجز عن عدد عروقه وعظامه ول يحصر عدد أدوار عمامته على هامته ،فكيف يدخل بين ا وبين غلمه ؟
ثم ما علمت ما أعطى ا للنبياء ،فإن علمت بعض علومهم من طريق النقل فالمعجز يكذب العقل ويحكم عليه ،فبواطن أسرارك
ليطلع عليها ولدك ول جارك ،فكيف مليكك وجبارك ،وقد قال لك ) فل يظهر على غيبه أحدلا ،إل من ارتضى من رسول (
الجن . 26،27وأنت غير واصل إلى كشف ستور الوصول ،فإذا بلغت المنى والسؤال تعرف ما بين ا والرسول .وقد قلنا
سابقا ل :جاهد ول تجاهد ،فالمجاهدة تزيل غبار الشكوك مع المشاهدة ،وأنت معصب العين بعصابة حطام الدنيا ،وهمتك ضعيفة
خسيسة ،فأين خنافسة الكنيف من المقام الشريف ! وحسن الظن وهو الكسير العظيم الذى به يقلب كل جهل علما ل ،فمن تمسك به
فقد استراح .فهذا نوع المحبة والشوق والمكاشفة على وجه الختصار .
فصل
وأما الزواجر والوعظيات فمثل اليات الرادعة المذكرة للوعد والوعيد ،والخبار المذكورة للفزعة ،والحكايات الجاذبة
والشعار المخوفة والمشوقة ،فخوفوا المبتدئ وشوقوا المنتهى ،لن المبتدئ هو قريب من خروج دار الجهل فيضرب عليه سور
من التخويف خوفا ل من الزيغ والميل ،وأما المنتهى فقد غفر الذنب ورق القلب وأصابه عناء المجاهدة ،فلبد للجمل من حاد لقطع
الوادى .فالمجاهدة قلشية ،والنغمات تنشية ،قياسا ل بأرض ميتة تحيا بوابل المطر فتهتز وتربو وتنبت وتنثر على المريد نثار
الهمم .انظر كيف قال أبو حيان التوحيدى :إن كنت تنكر أن للنغمات فائادة ونفعا ل ،فانظر إلى البل اللواتى هن أغلظ منك طبعا ل
،تصفى إلى قول الحداة فتنقطع الفلوات قطعا ل .فعليك بالخلوات الربعينية التى يسميها مشايخ العجم جله ،فهى عند العجم الجلء
،واعتد بها ،وليكن زادك وزنا ل تنقص كل يوم منه لقمة ،أو تزن مأكلك بعود ندى فهو ينقص على قدر جفافه فقلل ول تتعلل ،
خفف وطفف فى مأكلك تلتحق بعالم الملئاكة ففى الحديث ) أكثركم شبعا فى الدنيا أطولكم جوعا يوم القيامة ( .وإذا فعلت ذلك
تستغى النفس بالقدس وتصير لك بها أنس ،فل تتخذ على محبة الدنيا والفلس ،فينتقل إليك حالة الصفة المحمدية )صلى ا عليه
وسلم ( من قوله ) :لست كأحدكم ،أنا أظل وأبيت عند ربى فيطعمى ويسقينى ( فهو حالت الصادقين ومنازل المتقين ،فلتكن
من المكذبين الضالين ،فإن عجزت عن مقام المقربين ،فكن من أصحاب اليمين ،والحمد ل رب العالمين .
المقالة الخامسة والعشرون
فى العلم والعمل
اعلم أن الخواص من خلق ا تعالى ثلثة :عالم وعارف وناسك ،فأما العالم فهو الذى علم واطلع على العلوم الظاهرة فعمل بها
فورثه ا بعمله العلوم الباطنة :مثل علم المحبة ،وعلم الشوق والرضى ،وعلم القدر ،وعلم المكاشفة والمراقبة وعلم القبض
والبسط .فهذه علوم الصوفية الصادقة الواقية ،مثل الحسن ،وسفيان ،والفضيل بن عياض ،وأبى يزيد البسطامى ،وأبى
الحسين النورى ،وحبيب العجمى ،ومعروف الكرخى ،وشقيق
البلخى ومحمد بن خفيف وبشر بن سعيد وأحمد الخوارزمى وأحمد الدارانى ،وحارث المحسابى وسرى السقطى ،وأبى الحسين
بن منصور الحلج ،والجنيد والشبلى ،وأبى نعيم القاضى .فهذه الطائافة اللهية نبغ ذكرهم ليسوا كالطائافة المشغولة بالعلوم
والشهوات وصرفوا همومهم إلى الزيدية والقرصين فأتتهم المعاملت :بيضوا الثياب وسودوا الكتاب ،صقلوا الخرق ول نقلوا
عن الخرق ،وجعلوا المرقعات شركا على الشهوات .فهؤلء هم الزنابيل وألئاك هم القناديل ،وأولئاك تمسكوا بالواحد الشاهد ،
وهؤلء انصبوا إلى محبة الشاهد .أولئاك هجروا المناصب وهؤلء دبوا إلى المناصب ،أكثر كلمهم اذهبوا لمذهب حتى يذهب ،
والخلف عندهم كورق الخلف .الصول عندهم فضول والنحو عندهم محو .أكثر علومهم الرقص والشبابة ،ل يفرقون بين
القرابة والصحابة .فما أكثر عيوبهم ،لقد نسوا محبوبهم .تشاغلوا بمأكل الدويرات ،ونسوا مدارج الطاعات .نصبوا السجادات
لجل الخلق ،ونسوا ا والحق .فهؤلء الذين جاء فيهم الحديث ) :إن ا ينزع مرقعاتهم ويعلقها على أبواب الجنة ويكتب عليها
مرقعات زور ( .تركوها مناصب لل كتساب ووهبوها لكلب أهل الكهف واقتسموا جلده عليهم عوضا ل من مرقعاتهم .فهؤلء
صوفية الدنيا وأولئاك صوفية الخرى ،جمعوا بين العمل والعمل وسهروا حتى ظفروا فنالوا ،صدقوا فحققوا ،علموا ثم عملوا ،
فجمعوا بين المقال والحال ،فهم أهل العلم والمغفرة والنسك والزهادة ،فأحدث لهم جميع هذه الحالت خاصية قوة الهيئاة ،
فطاردوا بأجنحة الشتياق إلى رياض القدس وحظيرة الصمدية فاقتطفوا علوم الغيب ،فقالوا هؤلء فقراء الخرة وصوفيتها الذين
علموا أن النعمة هى من المنعم فتركوا السباب جوانب .وأما علماء الخرة فمثل الحسن البصرى ،وسفيان بن عيينة والثورى
صاحب المذهب ،والطائاى الظاهرى ،وأبو سعيد الخدرى ،وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفى ،ومالك بن أنس المدنى ،ومحمد
بن إدريس الشافعى المطلبى ،وأحمد بن حنبل الشيبانى ،والمزنى وابن شريح ،والحداد ،والقفال ،وأبو الطيب ،وأبو حامد ،
وأستاذنا إمام الحرمين أبو المعالى الجوينى ،والشيخ المام أبو إسحاق إبراهيم الفيروزابادى المعروف بالشيرازى ،فقد جرى له
مع شيخنا نوبة عند السلطان وكنت أحضرها ،فما رأيتهم طلبوا بالمناظرة غير إظهار الحق ،ل غلبة ول صقل كلم ،ول نقص
فى الخبر النبوى ،ول تأويل باطل فى متن آية ،ول مزاعقة ول مخاصمة ،بل هو على طريق الفائادة والمباحثة .فأولئاك من
علماء الخرة الذين شبهوا صحب رسول ا ) صلى ا عليه وسلم ( بترديد الفتاوى من واحد إلى واحد ،وقالوا أميركم أحق
بالتقليد ونحن علماء السوء نشتغل بسواد الليقة وبرى القلم والتصدى والتحدى وذرب اللسان وسواد الطيلسان وقعقة الثياب وطول
الردان وسعة الكمام والصيحة والدهشة
وذكور إناث العجم ) ولينبئاك مثل خبير ( فاطر . 14:فانظر الفرق بين الطوائاف والفرق :أليس فى الحديث ) من ترك المراء
وهو محق بنى له بيت فى أعلى الجنة فنحن ل بيوت ول تخوت ،ول حور ول سخوت ،رأى الشافعى مناما ل وكان قد تكلم فى
المسألة مع أبى يوسف ،فرأى كأنه قد أدخل الجنة ،فرأى حورال وهى تشرق العرصة من نورها ،قال :لمن أنت ؟ فقالت :لمن
ترك المراء وهو محق ،ثم ولت وهى تقول :
خلطوا الحق بالقبائاح زورا
ثم مالوا إلى المراء نسورا
ثم راموا من الله بدورا
قد فجرتم من المقال قبورا
أيا مالكم تنالون دورا
سوف تجزون فى المعاد فجورا
وطلبتم من الله أجورا
سوف تلقون فى الجحيم أجورا
ثم قالت :ياشافعى ما تنال بالقال والقيل هذه الثياب والخلخيل ،إن كنت صادقا ل وتريد أن تكون للجنة مالكا ل فعليك بالعلم والعمل
مثل مالك ،فمن أراد الممالك يصير على المهالك .ثم انتبهت فعلمت أن مراء هؤلء ل يقود إل إلى الهوى ،والخرة عند ربك
للمتقين .وفى الحديث ) إن العلم يهتف بالعمل ،فإن أجاب وإل ارتحل ( فهؤلء علماء الدنيا وعلماء الخرة ،وفقراء الدنيا
وفقراء الخرة ،وأنت مشغول بالكرم عن الكرامات ،وبالقصور عن القصور العاليات ،أنت مثل الذيب وهمك فى التشكيك
والتكذيب .
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أسابق تحتك أم حمار
أما العلوم فكثيرة ،وأقربها ما دل على الخرة :مثل علم الشريعة ،وتفاسير الواحدى ،وأمتان الصحاح ،وقراءة القرآن ،
ومحافظات الوراد المذكورة فى كتب الحياء وإن أردت حسن العقيدة على وجه الختصار فعليك بلواقح الدلة وهو لشيخنا إمام
الحرمين ،وإل قواعد العقائاد .وإن أردت سلوك طريق السلف الصالح فعليك بكتاب نجاة البرار ،وهو آخر ما صنفناه فى أصول
الدين .وقد ذكرنا لك التصانيف فى معرض هذا الكتاب ،فاقرأ ما شئات واعمل ما شئات فإن اللقاء قريب واعلم أن فصول السنة
معروفة :مثل صيفها ،وخريفها ،وشتائاها وربيعها ،فمن الحمل إلى الجوزاء ربيع ،ومن السرطان إلى آخر السنبلة صيف ،
ومن الميزان إلى آخر القوس خريف ،ومن الجدى إلى الحوت شتاء
) وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب () يونس ( 5 :قال أمير المؤمنين على عليه السلم :هذا الهواء إذا أقبل فتلقوه ،وإذا
أدبر فتوقوه ،فإنه يفعل بأبشاركم كما يفعل بأشجاركم ،أوله وآخره محرق .ففى العلوم ما يضر مثل العمل بالسحر والكهانة ،
وصيغ الصفر فضة يضر فى الخرة إذا قلبها فضة بالصناعة وباعها ،وفى المكاسب مكاسب خسيسة تأباها النفوس كالغسال ،
والحفار ،والكناس ،والحجام ،والصنائاع من جملة العلوم المفهومة التى تعينك على طلب العلم الخروى ،فكن عالما ل عاملل تنال
المقصد السنى فى دار ا الحسنى ،هنالك تستقر نفسك من غير ضجر ) فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر (
)القمر ( 55 ، 54
فصل فى أعاجيب الفنون والسفار
قال صلى ا عليه وآله وسلم " إن بالمغرب ههنا لرضا بيضاء من وراء قاف ل تقطعها الشمس فى أربعين سنة " قالوا :
يارسول ا أو فيها خلق ؟ قال " نعم فيها مؤمنون ل يعصون ا طرفة عين ،ل يعرفون آدم ول إبليس ،بينهما الملئاكة يعلمونهم
شريعتنا ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز " قالوا يارسول ا زدنا من هذه العاجيب ! فقال " إن لى صديقة من مؤمنى
الجن غابت عنى سنين فسألتها أين كنت ،فقالت :كنت عند أختى من وراء الرض البيضاء التى وراء قاف بهزد ،فقلت :أو هم
مؤمنون؟ فقالت نعم ،قرأت عليهم كتابك فأمن به قومنا .فقلت :وماوراء تلك الرض ؟ فقالت جبال ثلج وماء وهواء وظلماء ،ثم
وراء ذلك جهنم ،فقلت :أو تصعد الشمس فى تلك البلد ؟ فقالت :نعم "
وأما حديث تميم بن حبيب الدارى فعجب ،حيث اختطفه الجن ،فشاهد من عجائابها حتى رأى القصر الذى فيه الدجال مقيدال فقال له
:من أى المم أنت ؟ فقال :من أمة محمد )صلى ا عليه وسلم ( فقال :أوقد بعث ؟ فقال نعم ،فقال :آن أوان خروجى .
وأما حديث جن العقبة فأعجب ،قال عبد ا بن مسعود " :مشيت مع رسول ا )صلى ا عليه وسلم ( وعلى بن أبى طالب عليه
السلم فى ليلة مظلمة حتى وقف بنا على ثقب ،فظهر منه رجل فقال :انزل بنا يارسول ا ! فناولنى فاضل ثيابه ،ثم أخذ بيده
على عليه السلم ونزل فى الثقب وأقعدنى مكانى فلما برق بارق الصبح عادا ومعهما رجال يشبهون الزط فقال :هؤلء إخوانك
المؤمنون ،وكان معى ماء فيه منبوذ شيئ من التمر ،فشرب منه ثم توضأ .صح ذلك من غير نزاع ،وقد أوله أرباب الهوى على
اختيار ما يريدون ،فمن أراد أن يعلم حقيقة هذا وغيره فلينظرون فى كتاب " مغايب المذاهب " وهو من جملة تصانيفنا .
وأما قصة زعيم بن بلعام فهى عجيبة ،قد أراد أن ينظر من أين منبع النيل ،فلم يزل يسير حتى وجد الخضر فقال له :ستدخل
مواضع ،ثم أعطاه علئامها ،فوصل إلى جبل وفيه قبة من ياقوت على أربعة أعمدة ،والنيل يخرج من تحتها وفيه فاكهة ل تتغير
،قال :فرقبت رأس الجبل فرأيت وراءه بساتين وقصورال ودورال وعالما ل غزيرال ،وكنت شيخا أبيض الشعر ،فهب على نسيم سود
شعرى وأعاد شبابى ،فنوديت من تلك القصور :إلينا يازعيم إلينا ،فهذه دار المتقين ! فجذبنى الخضر ومنعنى ،فهذت سر قوله )
صلى ا عليه وسلم ( سبعة أنهار من الجنة :جيحون وسيحون ودجلة وفرات ونيل وعين بالبردن وبالمقدس عين سلوان ،لن
منها ماء زمزم .وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفان ،فحديثهما طويل ،وإشارة منه كافية ،فقد بلغ من سفرهما حتى
وصل إلى المكان الذى فيه سليمان ،فتقدم بلوقيا ليأخذ الخاتم من أصبعه ،فنفخ فيه التنين الموكل معه ،فأحرقه فضربه عفان
بقارورة فأحياه ،ثم مد يده ثانية وثالثة فأحياه بعد ثلث ،فمد يده رابعة فاحترق وهلك فخرج عفان وهو يقول :أهلك الشيطان
أهلك الشيطان ،فناداه التنين :ادن أنت وجرب ،فهذا الخاتم ل يقع فى يد أحد إل فى يد محمد ) صلى ا عليه وسلم ( إذا بعث ،
فقل له إن أهل المل العلى قد اختلفوا فى فضلك وفضل النبياء قبلك ،فاختارك ا على النبياء ،ثم أمرنى فنزعت خاتم سليمان
فجئاتك به ،فأخذه رسول ا ) صلى ا عليه وسلم ( فأعطاه عليا ل فوضعه فى أصبعه ،فحضر الطير والجان والناس يشاهدون
ويشهدون ،ثم دخل الدمرياط الجنى ،وحديثه طويل ،فلما كانوا فى صلة الظهر تصور جبرائايل عليه السلم بصورة سائال
طائاف بين الصفوف ،فبينما هم فى الركوع إذ وقف السائال من وراء على عليه السلم طالبا ل ،فأشار على بيده فطار الخاتم إلى
السائال ،فضجت الملئاكة تعجبا ل ،فجاء جبرائايل مهنيا ل وهو يقول أنتم أهل بيت أنعم ا عليكم ) ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرال( " الحزاب "33 :فأخبر النبى بذلك عليا ل فقال على عليه السلم :ما نصنع بنعيم زائال ،وملك حائال ودنيا
حللها حساب ،وفى حرامها عقاب ؟ فإن اعترض المفتى وقال :كيف قاتل معاوية على الدنيا ،فالجواب أنه قاتل على حق هو له
يصل به إلى حق ،وأما التحكم فباطل غير صحيح لن التحكيم إنما يكون على موجود ومحدود ومعروف ومعلوم غير مجهول ،
هذا فقه وشرع ،ثم قولوا ما تريدون ،فمن أراد أن ينظر فى كشف ما جرى فيطلع فى كتاب صنفته وسميته " كتاب نسيم التسنيم "
وفى قصص ذى القرنين كفاية ،وكتاب رياض النديم لبن أبى الدنيا ،وانظر فى كتاب القاليم ،وانظر فى كتاب المسالك
والممالك ،وكتب الماوردى الموصلى .
ثم إذا أردت أن تعرف سعة الفلك بعضها على بعض ،فاعلم أن سعة الرض قطع الكوكب فى ليلة واحدة ،وأما
الفلك الهوائاى فقد يقطعه القمر فى شهر فانظر الفرق فى
ليلة وشهر ،ثم الفلك النارى يقطعة الشمس فى سنة ،ثم فلك زحل وهو العلى يقطع فلكه فى ست وثلثين سنة ،ثم فوقه الكرسى
والعرش الذى هو سقف الجنان الثمانية التى واحدة منهن بعرض السموات والرضين .وخذ دليلك من هذا المساق المذكور ،فما
لهمتك ناقصة ل ترفعها إلى درج المعالى ،ول تكسوها سهم السعادة بل أنت مشغول بعلف النفس وخدمتها ،فأنت كالذى عشق
حمارة فاشتغل بها ففاته سير القافلة ،فظهر له قاطع الطريق .وهذه دار أحلم والنبياء مفسرو المنام ،فعند النتباه يتبين لك
صحة التأويل أما سمعت الشارة " :والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" ؟ ومثلك فى دنياك كمثل طفلين فى بطن واحد قال أحدهما
لصاحبه :أما أخرج ،عسى أن أرى غير هذا المكان والعالم ! فلما خرج رأى سعة الدنيا ،هل يطيب له أن يعود إلى ضيق بطن
أمه ؟ وهكذا إذا خرجت إلى سعة آخرتك ل يطيب لك العود إلى دنيا حملتك كضيق حمل أمك .ومثلك فى باب مولك كرجل أراد
الدخول إلى ملك وهو جائاع ،فوجد على باب الملك كلبا ل ورغيفا ل ،فالكلب يصده عن الدخول ؛ فإن كان ذا همة عالية آثر حضرة
الملك على الرغيف ،فيدخل إلى الملك فيحظى بالمآكل اللينة وينسى جوعه ،لنه شغل الكلب برغيفه فتشاغل الكلب بالرغيف ،
ودخل الرجل إلى الملك ،وإن كانت همته فى بطنه أكل رغيفه فصده الكلب عن دخول الملك ،ثم يتعفن الرغيف فى بطنه ،فبعد
ساعة رماه .فدنياك هو الرغيف ،والكلب هو الشيطان يصادك عن دخول الملك ،فارم الرغيف إلى الكلب تستريح ،واكتسب من
جواهر العمال تشرف بها عند عرض البضائاع ،ونيل المدخر الباقى فى دار زفاف الحور وفتح أبواب القصور ،فأنت مثالك
كجماعة سافرت إلى وادى الظلمات فقال لهم الخبير بالمكان :احملوا من حصاها تظفروا ! فصاحب حسن الظن حمل فأوقر ،
والمتشكك بطل فتحقر ،فلما خرجوا من ضياء الشمس إلى الوادى وشاهدوا بضائاعهم ،فإذا هى در ويواقيت ،فندم البطال وفاز
الحمال .فهذه صورة أعمالك فى دنياك ،فإما أن تنادم فتصير غلما ل ،وإما أن تعمل فتحظى من ا تحية وسلما ل فدع كبرك ،
وقلل شبعك ،ونظف بطنك ،ومن النوم عينك ،عساك أن تقطع شينك ،وتوفى دينك ،فأنت الذى تنتنك العرقة ،وتوهنك البقة ،
وتقتلك الشرقة ،وملبسك من قزة ،وحلوتك من نحلة ،وخبزك من طينة وأنت غدال مستور باللبنة تؤاخذ بنعيمك ،أما سمعت
النبى حاسبه ا على شبعه مرة واحدة من خبز شعير وتمر وقال له ) :ثم لتسألن يومئاذ عن النعيم ( .
فصل فى علو الهمم ونيلها لمقاصدها
اعلم أن الهمة هى إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصده بالتوجيه إليه دون غيره من غير قلب قاصده لسواه .وصاحب الهمة ل
يكون همه فى مقصده لنيل أغراض متفرقة ،
كمن أراد أعمال ل يقع فى يده غير عمل واحد .الهمم فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها .إن همة كل أحد
على قدر نفسه فى علوها وطهارتها أل ترى إلى أصحاب الصنائاع الخسيسة كاكناس والزبال والسكاف والدباغ والغسال فهؤلء
هممهم على قدر خسائاس أنفسهم النازلة ،لسابق ما قدر لهم عند اعتصار خمير السعادة من عجين الطالع فى خمير الولدة ،وهذا
حال يتعلل به العاجز ،إذ الملك معشوقك فل تألف الخسائاس ؛ فليس هذا أنسابا ل معروفة بأب وأم ،وإنما هى بعلو الهمة كما كانت
من أول الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك ثم كلما تباعد الفيض عن النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل
الحيوان بعد فيض النسان ،ال ترى إلى همة الفيل والحمار فى المأكل والمشرب؟ فهذا همه بريح ،وهذا تبن وشعير ،وانظر
إلى همة ذى القرنين وهو ابن هيلنة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة إلى الملك ولم ينزل إلى الصنائاع ،فمثله فى العالم كثير .
ومن جملة علو همته إظهار اليغزن الذى أشاع بذكره المسافرون ،واتخذ المتقدمون ألحان الموسيقى التى زعموا أنها معتصرة
من دورات ألحان الفلك حين تدور ،ويسمع له نغمات بطرائاق وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس .وطائافة أخرى
زعمت أن العود متخذ من شكل طائار معلق فى جبل ،فى أنفه أنقاب مخارج العود .وهذا من جملة فروع الهمم ،فنيل المقاصد
من غير همة غم عمن تعلق بها ،فاكتساب الهمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر ونيل مقصد المملكة ،
هو بالشتغال فيما يجذبها من التهاب وما يشاكلها .فإن قلت هذه سعادات أزلية ،فمن قدر له فى السابق شيئ أخذه وبلغه ول يمحى
ما سطر على جبين العبد ،فقد صدقت ،ولكن مت تحت غبار طلب العز ل على مزابل الشهوات بالذل كما مر بك النشاد السابق
) شعر ( :
اطلب العز فى لظى وذر الذل
ولو كان فى جنان الخلود
وقد سمعت كلما ل لمعاوية إذ قال :هموا بمعالى المور لتنالوها ،فإنى لم أكن للخلفة أهلل فهممت بها فنلتها .وقد
ذكرت حكاية فى كتاب " سر خزانة الهدى والمد القصى إلى سدرة المنتهى" أنه مات بعض الملوك ،فغلقت المدينة وقالوا :ل
نملكها إل لملك كان فى ساعده علمة نور شعشعانى ،فورد إليهم رجل فقير وفى ساعده نور كما كان فى ساعد الملك المتقدم ،
وكان ينظر إليه وزير المدينة بعين الدراية بعد أن ملكوه البلد ،فدخل الوزير إليه بهدية وهى قشرة من عود قنارى كجفنة كبيرة ،
فقال الملك :من أين لك هذا ؟ فقال الوزير :كثير مثل هذا يجئ فى نهرنا ،فقال الملك :ل تستقر فى الوزارة حتى تأتينى بخيره
وفى أى بلد يكون ،فاتخذ الوزير له مركبا ل فسار حتى دخل تحت جبل ،فلما قطعه
بخروجه إلى جانبه الخر رأى بلدال أشجارها كلها مثل هديته ،ثم رأى جماعة قائامة منقطعين فى الجبل فقال :ما الذى يريد
هؤلء ويفعلون؟ فقالوا كلهم فى طلب الملك يتجرعون سنة مع أنواع المجاهدات فمن رقى على مساعده نور أبيض فهو مستحق
الملك ،فلما عاد الوزير أخبر الملك بقصة ما رآه فقال الملك :ل تحتقر فتحتقر ،وسافر واعمل لتذكر ،فهذا علو الهمة بالجوع
والمجاهدات ،ثم قال :ل يغرنك الجواشن والبيض .
وقد رأيت بعينك مشار علو الهمة فإن أردت ذلك فعليك بالجوع والعلم والخلوات يكشف لك العلمات بسرائار الكائانات ،
فاطلب وجد واجتهد ،فنيل مقاصد الرجال من غير تعب هذيان .والحمد ل رب العالمين ،وصلة ا وسلمه على سيد المرسلين
آمين .بسم ا الرحمن الرحيم
الدرة الفاخرة فى كشف علوم الخرة
خطبة الكتاب
الحمد ل الذى خص نفسه بالدوام ،وحكم على من سواه بالنصرام ،وجعل الموت حال أهل الكفر والسلم ،وفصل بعلمه بين
تفاصيل الحكام ،وجعل حكم الخرة خلفا ل للمعهود من اليام ،وأنهج ذلك لمن يشاء من خلقه أهل الكرام ،وصلى ا على سيدنا
محمد رسول الملك العلم ،وعلى آله وصحبه الذين خصهم بجزيل النعام فى دار السلم .
أما بعد ،فقد قال تعالى ) كل نفس ذائاقة الموت( "آل عمران . "185 :وثبت ذلك فى كتابه العزيز فى ثلثة مواضع .
وإنما أراد ا سبحانه وتعالى الموتات الثلث للعالمين ،فالمتحيز إلى العالم الدنيوى يموت ،والمتحيز إلى العالم الملكوتى يموت ،
والمتحيز إلى العالم الجبروتى يموت .فالول آدم وذريته وجميع الحيوانات على ضروبه الثلث ،والملكوتى وهو الثانى أصناف
الملئاكة والجن ،وأهل الجبروتى فهم المصطفون من الملئاكة .قال ا تعالى ) :ا يصطفى من الملئاكة رسل ومن الناس (
الحج . 75 :فهم كروبيون وروحانيون وحملة العرش وأصحاب سرادقات الجلل الذين وصفهم ا تعالى فى كتابه وأثنى عليهم
حيث يقول ) :ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته ول يستحسرون ،يسبحون الليل والنهار ل يفترون( النبياء 19و . 20وهم
أهل حظيرة القدس المعينون المنعوتون بقول ا تعالى ) :لتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ( النبياء . 17:وهم يموتون على هذه
المكانة من ا تعالى والقربى ،وليس زلفاهم بمانعة لهم من الموت .فأول ما أذكر لك عن الموت الدنيوى فألق أذنيك لتعى
ماأورده وأصفه لك بنقل عن النتقال من حال إلى حال إن كنت مصدقا ل بال ورسوله واليوم الخر ،فإنى ما آتيك إل بينة ،شهد ا
على ما أقول ويصدق مقالتى القرآن ،وما صح من حديث رسول ا ) صلى ا عليه وسلم (
فصل
لما قبض ا القبضتين اللتين قبضهما عندما مسح على ظهر آدم عليه السلم ،فكل ما جمعه فى جمعه الول إنما جمع من شقه
اليمن ،وكل ماجمع فى الخر إنما جمع من شقه اليسر ،ثم بسط قبضته سبحانه فنظر إليهم آدم فى راحتيه الكريمتين وهم أمثال
الذر ثم قال :هؤلء إلى الجنة ول أبالى فهم بعمل أهل الجنة يعملون وهؤلء إلى النار ول أبالى فهم بعمل أهل النار يعملون .
فقال آدم عليه السلم :يارب وما عمل أهل النار ؟ قال الشرك بى ،وتكذيب رسلى ،وعصيان كتابى فى المر والنهى .قال آدم
عليه السلم :أشهدهم على أنفسهم عسى أن ل يفعلوا فأشهدهم على أنفسهم :ألست بربكم ؟ قالوا :بلى شهدنا! وأشهد عليهم
الملئاكة وآدم أنهم أقروا بربوبيته ثم ردهم إلى مكانهم .وإنما كانوا أحياء أنفسا ل من غير أجسام ،فلما ردهم إلى صلب أدم عليه
السلم أماتهم وقبض أرواحهم وجعلها عنده فى خزانة من خزائان العرش ،فإذا سقطت النقطة المتعوسة أقرت فى الرحم حتى
تمت صورتها والنفس فيها ميتة .فلجوهرها الملكوتى منعت الجسد من النتن ،فإذا نفخ ا تعالى فيها الروح رد إليها سرها
المقبوض منها الذى خبأه زمانا ل فى خزانة العرش فاضطرب المولود .فكم من مولود دب فى بطن أمه فربما سمعته الوالدة أو لم
تسمعه ! فهذه موتة أولى وحياة ثانية.
فصل
ثم إن ا عز وجل أقامه فى الدنيا أيام حياته حتى استوفى أجله المحدود ورزقه المقدور وآثار المكتوبة .فإذا دنت موتته ،وهى
الموتة الدنيوية ،فحينئاذ نزل عليه أربعة من الملئاكة :ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ،وملك يجذبها من قدمه اليسرى ،وملك
يجذبها من يده اليمنى ،وملك يجذبها من يده اليسرى .وربما كشف للميت عن المر الملكوتى قبل أن يغرغر ،فيعاين الملئاكة
على حقيقة عمله على ما يتحيزون إليه من عالمهم ،فإن كان لسانه منطلقا ل تحدث بوجودهم ،فربما أعاد على نفسه الحديث بما
رأى ،وظن أن ذلك من فعل الشيطان ،فسكن حتى يعقل لسانه ،وهم يجذبونها من أطراف البنان ورءوس الصابع والنفس تنسل
انسلل القذارة من السقاء ،والفاجر تسل روحه كالسفود من الصوف المبلول ،هكذا حكى صاحب الشرع عليه الصلة والسلم .
والميت يظن أن بطنه ملئات شوكا ل كأنما نفسه تخرج من خرم إبرة ،وكأنما السماء انطبقت على الرض وهو بينهما ولهذا سئال
كعب ) رضى ا عنه ( عن الموت فقال :كغصن شوك أدخل فى جوف رجل فجذبه إنسان ذو قوة فقطع
ص)(550
مجموعة رسائال المام الغزالي
ما قطع وأبقى .وقال عليه الصلة والسلم " :لسكرة من سكرات الموت أشد من ثلثمائاة ضربة بالسيف " .فعندما يرشح جسده
عرقا ل ،وتزور عيناه ،وتمتد أرنبته ،وترتفع أضلعه ،ويعلو نفسه ،ويصفر لونه .ولما عانيت عائاشة رسول ا صلى ا عليه
وسلم في هذه الحالة وهو مستبق في حجرها وهي تكفف الدمع جعلت تقول شعرال :
ت وما توجاع من الهايعا ه كص د هبدنلفهسدي ألفديِه ما غ س
ت ذا روعة تفزاع وما كن د وما مسسك الجسن من قبل ذا
صباغ إذا ينقاع كمثل ال س ومالي انظر في وجهك
ك قد تسطاع فأنواار دولجهه د تإذا شحب اللوان من دمسي ء
فإذا احتضرت نفسه إلى القلب خرس لسانه عن النطق ،وما أحد ينطق والنفس مجموعة في صدره لوجهين :أحدهما أن المر
عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه .
أل ترى أن النسان إذا أصابته ضربة في صدره بقى مدهوشا ل ،فتارة يتكلم وتارة ل يقدر على الكلم ،وكل مطعون يطعن
بصوت إل مطعون الصدر فإنه يخر ميتا ل من غير تصويت ؟ .وأما الخر فإن السر الذيِ فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة
الغريزية قد ذهب فصار نفسه متغير الحالتين :حال الرتفاع والبرودة ،لنه فقد الحرارة ،فعند هذا الحال تختلف أحوال الموتى ،
فمنهم من يطعنه الملك حينئاذ بحربة مسمومة قد سقيت سسما ل من نار ،فتقر النفس وتفيض خارجة فيأخذها في يده ترعد أشبه شيء
بالزئابق على قدر النحلة شخصا ل إنسانيلا ،ثم الملئاكة تناولها الزبانية ،ومن الموتى من تحذف نفسه رويدال حتى تنحصر في
الحنجرة وليس يبقى في الحنجرة إل شعبة متصلة بالقلب ،فحينئاذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة ،فإن النفس ل تفارق القلب حتى
يطعن .وسر تلك الحربة أنها تغمس في بحر الموت ،فإذا وضعت على القلب صار سرها في سائار الجسد كالسم الناقع ،لن سر
الحياة إنما هو موضوع في القلب ويؤثر سره عند النشأة الولى ،وقد قال بعض المتكلمين :الحياة غير النفس ،ومعناها اختلط
النفس بالجسد .وعند استقرار النفس في الترقي والرتفاع يعرض عليه الفتن ،وذلك لن إبليس قد أنقذ أعوانه إلى هذا النسان
خاصة ،واستعملهم عليه ،ووكلهم به ،فيأتون المرء وهو في تلك الحال فيمتثلون له في صورة من سلف من الحباء الميتين
الباغيين له النصح في دار الدنيا كالب والم والخ والخت والصديق
ص)(551
مجموعة رسائال المام الغزالي
الحميم ،فيقول له :أنت تموت يا فلن ونحن سبقناك في هذا الشأن ،فمت يهوذسيا ل فهو الدين المقبول عند ا تعالى ! فإن انصرفوا
عنه وأبى جاءه آخرون وقالوا له :مت نصرانيا ل فإنه دين المسيح ونسخ به دين موسى ! ويذكرون له عقائاد كل ملة .فعند ذلك
ت اللدوسهاب ا{]ك درلحدملة إهسنك ددأن د يزيغ ا من يريد زيغه ،وهو معنى قوله تعالى } :درسبدنا ل اتهزلغ قاالودبدنا دبلعدد إهلذ دهددليدتدنا دوده ل
ب دلدنا همن لسادن د
آل عمران .[8:أيِ ل تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا إلى اليمان .فإذا أراد ا تعالى بعبده هداية وتثبيتا ل جاءته
الرحمة ،وقيل هو جبريل عليه السلم ،فيطرد عنه الشيطان ويمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت ضاحكا ل ل محالة .وكثير
من يرى مبتسما ل في هذه الحالة فرحا ل مسرورال بالبشير الذيِ جاء رحمة ا من ا تعالى يقول :يا فلن ما تعرفني ؟ أنا جبريل
وهؤلء أعداؤك من الشياطين ،مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية ! فما شيء أحب إلى النسان وأفرح منه بذلك الملك ،
ت اللدوسهاب ا{] آل عمران .[8:ثم الموت على الفطرة .ومن الناس من يطعن ك درلحدملة إهسنك ددأن دب دلدنا همن لسادن دوهو قوله تعالى } :دوده ل
وهو قائام يصلي ،أو نائام ،أو مار في بعض أشغاله ،أو منعكف على اللهو ،وهو البغتة ،فتقبض نفسه مرة واحدة .ومن الناس
من إذا بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين ،وأحدق به جيرانه من الموتى ،وحينئاذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إل
النسان ،ولو سمعه لصعق .وآخر ما يفقد من الميت السمع ،لن الروح إذا فارقت القلب بأسرها فسد البصر ،وأما السمع فل
يفقد حتى تقبض النفس ،لهذا قال عليه الصلة والسلم " :لدقسانوا دملودتااكلم دشدهادددة أدلن لد هإله إل س ا دوأدسن امدحسمدال دراسوال ا " ونهى عن
الكثار بها عليهم لما يجدونه من الهول العظم والكرب القصم .فإذا نظرت إلى الميت قد سال لعابه وتقلصت شفتاه واسود
وجهه وازرقت عيناه فاعلم بأنه شقي ،قد كشف له عن حقيقة شقوته في الخرة ،وإذا رأيت الميت جاف الفم كأنه يضحك ،
شر بما يلقاه في الخرة من السرور ،وكشف له عن حقيقة كرامته .فإذا قبض الملك منطلق الوجه ،مكسورة عينه ،فاعلم أنه اب س
النفس السعيدة تناولها ملكان هحسان الوجوه ،عليهما أثواب حسنة ،ولهما روائاح طيبة ،فليفونها في حريره من حرير الجنة وهي
على قدر النحلة شخصا ل إنسانسيا ل ما فقد من عقله ول علمه المكتسب في دار الدنيا ،فيعرجون به في الهواء ،منهم من يعرف ومنهم
من ل يعرف ،فل تزال تمر بالمم السالفة والقرون الخالية كأمثال الجراد المنتشر حتى تنتهي إلى سماء الدنيا ،فيقرع المين
الباب ،فيقال للمين :من أنت ؟ فيقول :أنا صلصيائايل .أيِ جبريل .وهذا فلن معي بأحسن أسمائاه وأحبها إليه ؛ فيقولون له :
نعم الرجل كان فلن وكانت عقيدته حسنة غير شاك .ثم ينتهي إلى السماء الثانية فيقرع المين الباب فيقال :من أنت ؟ فيقول
مقالته الولى فيقال :أهلل وسهلل بفلن ،
ص) (552
مجموعة رسائال المام الغزالي
كان محافظا ل على صلته وجميع فرائاضها .ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الثالثة فيقرع المين الباب فيقال :من أنت ؟ فيقول
المين مقالته الولى والثانية ،فيقال :كان يرعى ا في حق ماله ول يتمسك منه بشيء ثم يمر حتى ينتهي إلى السماء الرابعة
فيقرع الباب فيقال :من أنت ؟ فيقول كدأبه في مقالته ،فيقال :أهلل بفلن كان يصوم فيحسن الصوم ويحفظه من إدراك الرفث
وحرام الطعام .ثم ينتهي إلى السماء الخامسة فيقرع الباب فيقال :من أنت ؟ فيقول كعادته ،فيقول كعادته ،فيقال :مرحبا ل بفلن
كان كثير الستغفار بالسحار ويتصدق بالسر ويكفل اليتام .ثم يفتح له فيمر حتى ينتهي إلى سرادقات الجلل فيقرع الباب فيقول
المين مثل قوله ،فيقال :أهلل وسهلل بالعبد الصالح والنفس الطيبة ،كان كثير الستغفار وينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف
ل من الملئاكة كلهم يبشرونه بالجنة ويصافحونه حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى فيقرع الباب فيقول ويكرم المساكين .ويمر بم ء
المين كدأبه في مقالته ،فيقال :أهلل وسهلل ومرحبا ل بفلن ،كان عمله عملل صالحا ل لوجه ا تعالى .ثم يفتح له فيمر في بحر
من نار ،ثم يمر في بحر من نور ،ثم يمر في بحر من ظلمة ،ثم يمر في بحر من ماء ،ثم يمر في بحر من ثلج ،ثم يمر في بحر
من برد ،طول كل بحر منها ألف عام ،ثم يخترق الحجب المضروبة على عرش الرحمن وهي ثمانون ألفا ل من السرادقات ،لكل
سرادق ثمانون ألف شرافة ،على كل شرافة قمر يهلل ل تعالى ويسبحه ويقدسه ،ولو برز منها قمر واحد إلى سماء الدنيا لعبد من
دون ا ولحرقها نوره ،فحينئاذ ينادى مناءد من الحضرة القدسية من وراء السرادقات :من هذه النفس التي جئاتم بها ؟ فيقول :
فلن بن فلن ،فيقول الجليل جل جلله :قربوه فنعم العبد كنت عبديِ ! فإذا وقفه بين يديه الكريمتين أخجله ببعض اللوم والمعاتبة
حتى يظن أنه قد هلك ثم يعفو عنه سبحانه .كما رويِ عن يحيى بن أكثم القاضي وقد ارئاي في المنام فقيل له :ما فعل ا بك ؟ فقال
:وقفني بين يديه ثم قال يا شيخ السوء فعلت كذا وفعلت كذا ،فقال يارب ما بهذا حدثت عنك ،قال :فبماذا حدثت عني يا يحيى ؟
فقلت :حدثني الزهريِ عن معمر عن عروة عن عائاشة عن النبي صلى ا عليه وسلم عن جبريل عنك سبحانك أنك قلت إني
لستحي أن أعذب شيبة شابت في السلم .فقال :يا يحيى صدقت وصدق الزهريِ وصدق معمر وصدق عروة وصدقت عائاشة
وصدق محمد وصدق جبريل ،وقد غفرت لك .وعن ابن بنانه وقد ارئاي في المنام فقيل له :ما فعل ا بك ؟ فقال :وقفني بين يديه
الكريمتين وقال أنت الذيِ تخلص كلمك حتى يقال ما أفصحه ؟ قلت :سبحانك إني كنت في الدنيا أصفك ،قال قل كما كنت تقول
في دار الدنيا ! قلت :
ص)(553
مجموعة رسائال المام الغزالي
أماتهم الذيِ خلقهم ،وأسكنهم الذيِ أنطقهم ،وسيوجدهم كما أعدمهم ،وسيجمعهم كما فرقهم .
قال لي :صدقت اذهب قد غفرت لك .
وعن منصور بن عمار أنه رئاي في المنام فقيل له :ما فعل ا بك ؟ قال :وقفني بين يديه الكريمتين وقال لي بماذا جئاتني يا
منصور ؟ قلت :بستة وثلثين حجة ،قال لي :ما قبلت منها ول واحدة ،ثم قال :بماذا جئاتني ؟ قلت :بثلثمائاة وستين ختمه
قرأتها لوجهك الكريم ،قال :ما قبلت منها واحدة ،ثم قال لي :بماذا جئاتني يا منصور ؟ فقلت :جئاتك برحمتك ،قال سبحانه :
الن جئاتني ،اذهب فقد غفرت لك ! وكثير من هذه الحكايات تخبر بهذه المور .وإنما حدثتك شيئاا ل ليقتديِ به المقتديِ وا
المستعان .
ومن الناس من إذا انتهى إلى الكرسي وسمع النداء ردوه ،فمنهم من يرد من الحجب ،وإنما
يصل إلى ا تعالى عارفوه ،ول يقف بين يديه إل أهل المقام الرابع فصاعدال.
فصل
وأما الفاجر فتؤخذ نفسه عنفا ل ،فإذا وجهه كآكل الحنظل ،والملك يقول :اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث ! فإذا له
صراخ أعظم ما يكون كصراخ الحمير ،فإذا عزرائايل ناولها زبانيلة قباح الوجوه ،سود الثياب ،منتني الريح ،بأيديهم مسوح من
شعر ،فيلقونها فيه ،فتستحيل شخصا ل إنسانيا ل على قدر الجرادة ،فإن الكافر أعظم جرما ل من المؤمن ،يعنى الجسم في الخرة .
وفي الصحيح أن ضرس الكافر في النار مثل أحد .قال فيعرج به حتى ينتهي إلى باب سماء الدنيا ،فيقرع المين الباب ،فيقال :
من أنت ؟ فيقول :أنا قياييل ،فيقال :من معك ؟ فيقول :فلن بن فلن ،بأقبح أسمائاه وأبغضها إليه في دار الدنيا ،فيقال :ل أهلل
خيا دهط { ] العراف : ب السسدماهء دول ديلداخالودن الدجسندة دحستى ديلهدج اللدجدمال هفي دسسم الل ه ول سهلل ! ول يفتح له أبواب السماء } ل اتدفستاح دلاهلم أدلبدوا ا
. [40فإذا سمع المين هذه المين هذه المقالة طرحه من يده فتهويِ به الريح في مكان سحيق ،أيِ بعيد ،وهو قوله عز وجل } :
حيءق {] الحج .[31 :فيا له من خزيِ حل به ! طليار أدلو دتلههويِ هبهه السرياح هفي دمكا دءن دس هل دفدكأ دسندما دخسر همدن السسدماهء دفدتلخدطفااه ال س
دودمن ايلشهرلك هبا ه
فإذا انتهى به الرض ابتدرته الزبانية وسارت به إلى سجين وهي صخرة عظيمة تأويِ إليها أرواح الفجار .وأما اليهود
والنصارى فمردودون من الكرسي إلى قبورهم ،هذا من مات منهم على شريعته ويشاهد غسله ودفنه ،وأما المشرك فل يشاهد
شيئاا ل من ذلك لنه قد هوى به ،وأما المنافق فمثل الثاني ايدرد ممقوتا ل مطرودال إلى حفرته ،وأما المقصرون من المؤمنين فتختلف
أنواعهم :فمنهم من ترد صلته ،لن العبد إذا
ص)(554
مجموعة رسائال المام الغزالي
نقر في صلته سارقا ل لها تلف كما يتلف الثواب الخلق ويضرب بها وجهه ثم تعرج وهي تقول ضيعك ا كما ضيعتني .ومنهم من
ترد زكاته ،لن إنما يزكي ليقال فلن متصدق ،وربما وضعها عند النسوان فاستجلب بها محبتهن ،ولقد رأيناه ،عافنا ا مما
حل به .ومن الناس من يرد صومه ،لنه صام عن الطعام ولم يصم عن الكلم ،فهو رفث وخسران ،فخرج الشهر عنه وقد
لهوجه .ومن الناس من يرده حجه ،لنه إنما حج ليقال فلن حج أو يكون حج بمال خبيث .ومن الناس من يرده العقوق .
وسائار أحوال البر كلها ل يعرفها إل العلماء بأسرار المعاملت وتخصيص العمل الذيِ للملك الوهاب .فكل هذه المعاني جاءت
بها الثار والخبار كالخبر الذيِ رواه معاذ بن جبل رضي ا عنه في رد العمال وغيرها .وإنما أردت تقريب المر ،ولول
الختصار لكنت ملت الدواوين من تصحيح ذلك ،وأهل الشرع يعرفونه صحة ذلك كما يعرفون أبنائاهم .فإذا أردت النفس إلى
الجسد ووجدته قد اخذ في غسله عن كان قد غسل ،فتقعد عند رأسه حتى يغسل ،فيكشف ا عن بصر من يشاء من الصالحين
فينظرها على صورتها الدنيوية .
وقد حدث شخص ابنا ل له فإذا هو بشخص قاعد عند رأسه ،فأدركه الوهم ،فترك الجهة التي رأى فيها الشخص وتحول إلى الجهة
الخرى ،فلم يزل ينظره حتى أدرج الميت في كنفه ،فعاد إليه ذلك الشخص فشاهده العالم وهو على النعش .كما رويِ عن غير
واحد من الصالحين أنه نادى ميتا ل وهو في النعش :أين فلن وأين الروح ؟ فانتفض الكفن من تلقاه صدره مرتين أو ثلثة .وعن
الربيع بن خيثم أنه اضطرب في يد غاسله .وقد علم أن الميت تكلم في نعشه على عهد الصديق وذكر فضله وفضل الفاروق.
وإنما هي النفس تشاهد أمرال ملكوتيا ل ويكشف ا عن سمع من يشاء ،فإذا أدرج الميت في أكفانه صارت الروح ملتصقة بالصدر
خارجة ولها خوار وعجيج وهي تقول أسرعوا بي إلى أيِ رحمة ربي لو علمتم ما أنتم حاملوني إليه ! فإن كان ممن يبشر بالشقاء
يقول رويدال بي إلى أيِ عذاب لو تعلمون ما أنتم حاملون إليه .ولجل ذلك كان رسول ا صلى ا عليه وسلم ل يمر به جنازة إل
قام لها قياما ل .وفي الصحيح أنه صلى ا عليه وسلم مرت جنازة فقام لها تعظيما ل فقيل :يا رسول ا إنه يهوديِ ،فقال :أليس نفسا ل
؟ وإنما كان يفعله لنه كشف له عن أسرار الملكوت ،فكان يسر بالميت إذا مر به لنه من أهل فهمه ومعانيه .فإذا دخل الميت
القبر وأهيل عليه التراب ناداه القبر كنت تفرح على ظهريِ والن تأكلك الديدان في بطني ،ويكثر عليه مثل هذه اللفاظ الموبخة
حتى يسسوى عليه التراب ،ثم يناديه ملك يقال له رومان .وقد رويِ عن ابن مسعود رضي ا عنه قال :يا رسول ا ما أول ما
يلقى الميت إذا دخل قبره ؟ قال " :يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إل أنت ،فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلل
المقابر فيقول :يا عبد ا اكتب
ص )(555
مجموعة رسائال المام الغزالي
عملك! فيقول :ليس معي دواة ول قرطاس ،فيقول :هيهات! كفك قرطاسك ،ومدادك ريقك ،وقلمك إصبعك ،فيقطع قطعة من
كفنه ثم يجعل العبد يكتب ،وإن كان غير كاتب في الدنيا فيكتب حينئاذ حسناته وسيئااته كيوم واحد ،ثم يطويِ الملك الرقعة ويعلقها
في عنقه .ثم قرأ رسول ا صلى ا عليه وسلم } :دواكسل هإندساءن أدللدزلمدناها دطاهئادرها هفي اعانهقهه {] السراء .[13:فإذا فرغ من ذلك خل
عليه فستانا القبر وهما ملكان أسودان يخرقان الرض بأنيابهما ،لهما شعور مسدولة يجرانها على الرض ،كلمهما كالرعد
القاصف ،وأعينهما كالبرق الخاطف ،ونفسهما كالريح العاصف ،وبيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلن ما
رفعاه ،ولو ضرب به أعظم جبل لجعله دكلا ،فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت وولت هاربة ،فتدخل في منخر الميت ،فيحيا الميت
من الصدر ويكون كهيئاته عند الغرغرة ،ول يقدر على حركة ،غير أنه يسمع وينظر .قال :فيسألنه بعنف ،وينهرانه بجفاء ،
وقد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفتح فيه ووجد فيه فرحة ،فيقولن له :من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وما قبلتك ؟
فمن وفقه ا وثبته بالقول الثابت قال :من وكلكما علسى ومن أرسلكما إلسى ؟ ثم يقول :ا ربي ،ومحمد نبسيي ،والسلم ديني ،
وهذا ما يقوله ،إل العلماء الخيار فيقول أحدهما للخر صدق لقد كفى شرنا ولقن حجته ،ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة
ويفتحان له بابا ل إلى الجنة من تلقاء يمينه ،ثم يفرشان له من حريرها وريحانها ،ويدخل عليه من نسيمها وروائاحها ،ويأتيه عمله
في صورة أحب الشخاص إليه يؤنسه ويحدثه ويمل قبره نورال ول يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة فليس
شيء أحب إليه من قيامها .ودونه في المنزلة المؤمن القليل العلم والعمل ،ليس معه حظه من العلم ول أسرار الملكوت ،يلج عليه
عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيبة الريح ،حسن الثياب ،فيقول له :أما تعرفني ؟ فيقول :من أنت الذيِ مسن ا علسي بك
في غربتي ؟ فيقول :أنا عملك الصالح ل تحزن ول توجل ! فعما قليل يلج عليك منكر ونكير يسألنك فل تدهش ،ثم يلقنه حجته ،
فبينما هو كذلك إذ دخل عليه كما تقدم ذكرهما فينهرانه ويقعدانه مستندال ويقولن له .من ربك ؟ فيسبق إلى القول الول فيقول :ا
ربي ،ومحمد نبسيي والقرآن إمامي ،والكعبة قبلتي ،وإبراهيم أبي ،وملته ملتي ،غير مستعجم ،فيقولن له :صدقت ! ويفعلنه
به كالول ،إل أنهما يفتحان له بابا ل من النار من تلقاء شماله ،فينظر إلى حسياتها وعقاربها وأغللها وسلسلها وحميمها وجميع ما
فيها من صديدها وزقومها ،فيفزع فيقولن له :ل عليك سوء ،هذا موضعك كان من النار قد أبدله ا تعالى به موضعك هذا من
الجنة ،نم سعيدال ! ثم يغلقان عنه باب النار ولم يدر ما مسر عليه من الشهور والعوام والدهور .ومن الناس من ينعجم في مسألته ،
وإن كانت عقيدته
ص)(556
مجموعة رسائال المام الغزالي
مختلفة امتنع أن يقول ا ربي ،وأخذ يذكر غيرها من اللفاظ ،فيضربانه ضربة يشتعل قبره منها نارال ،ثم يطفأ عنه أياما ل ،ثم
يشتعل عليه أيضا ل ،ثم دأبه ما بقيت الدنيا .ومن الناس من يعتاص عليه ويعسر أن يقول السلم ديني ،بشك كان يتوهمه ،أو فتنة
تقع به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره نارال كالول .ومن الناس من يعسر عليه أن يقول القرآن إمامي ،
لنه يتلوه ول يتعظ به ول يعمل بأوامره ول ينتهي بنواهيه ،يطوف عليه دهره ول يعظ نفسه خيره ،فيفعل به ما فعل بالولين .
خسنوصا ل وهو ومن الناس من يستحيل عمله جروال يعذب به في قبره على قدر جرمه .في الخبار أن من الناس من يستحيل عمله ه
ولد الخنزير .ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول محمد نبسيي ،لنه كان ناسيا ل لسنته .ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول
الكعبة قبلتي ،لقلة تحريه في صلته ،أو فساد في وضوئاه ،أو التفات في صلته ،أو اختلل في ركوعه وسجوده ،ويكفيك ما
رويِ في فضائالها أن ا ل يقبل صلة ممن عليه صلة ومن عليه ثوب حرام .ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول أبي إبراهيم
،لنه سمع كلما ل يوما ل أوهمه أن إبراهيم كان يهودسيا ل أو نصرانسيا ل ،فإذا هو شاب مرتاب ،فيفعل به ما فعل بالخرين .وكل هذه
النواع كشفناها في كتاب الحياء .
فصل
وأما الفاجر فيقولن له :من ربك ؟ فيقول :ل أدريِ ،فيقولن له :ل دريت ول عرفت ! ثم يضربانه بتلك المقامع الحديد حتى
يتجلجل في الرض السابعة ،ثم تنقضه الرض في قبره ،ثم يضربانه سبع مرات ،ثم تختلف أحوالهم فمنهم من يستحيل عمله
كلبا ل ينهشه حتى تقوم الساعة ،وهم المرتابون ،وهي أنواع تعتريِ أهل القبور ،وإنما آثرنا الختصار في ذكرها ،وأصلها أن
الرجل إنما يعذب في قبره بالشيء الذيِ كان يخافه في الدنيا ،فمن الناس من يخاف الجرو أكثر ،وطبائاع الخلق مفترقة .نسأل ا
السلمة والغفران قبل الندامة .
وقد رويِ عن غير واحد من الموتى أنه ارئاي في المنام فقيل له :كيف كان حالك ؟ فقال :صليت بل وضوء فوكل ا علسى ذئابا ل
يروعني في قبريِ ،فحالي معه أسوأ حال .وآخر رئاي في المنام فقيل :ما فعل ا بك ؟ فقال دعني فإني لم أتمكن في غسل يوم
من الجنابة فألبسني ا ثوبا ل من نار أتقلب فيها إلى يوم القيامة .ورئاي آخر فقيل :ما فعل ا بك ؟ فقال :الغاسل الذيِ غسلني
حملني بعنف فخدشني مسمار كان في المغتسل قائاما ل فتألمت منه ،فلما أصبح الصباح سئال الغاسل فقال :كان ذلك من غير
اختياريِ .ورئاي آخر في المنام فقيل له :كيف حالك أددو لم تمت ؟ قال نعم ،وأنا بخير ،غير أن الحجر كسر ضلعي
ص)(557
مجموعة رسائال المام الغزالي
عندما اسسوى علي التراب فأضرني .ففتح القبر فوجدوه كما قال .وآخر جاء إلى ولده في النوم فقال له :يا ولد السوء أصلح قبر
أبيك ،لقد آذاه المطر ! فلما أصبح بعث الرجل إلى قبر أبيه فوجد جدولل من الماء وقد أتى عليه من سيل ،وإذا بالقبر مملوء من
الماء .وعن أعرابي أنه قال لولده :ما فعل بك ؟ قال ما ضرني إل أن دفنت بإزاء فلن وكان فاسقا ل قد روعني ما يعذب به من
أنواع العذاب .
وكثيرال ما جاء في مثل هذه الخبار حكايات تبين أهل القبور يؤلمون في قبورهم ،وكفى بالخبر دللة حيث يقول صاحب الشرع
ت هفي دقلبهرهه دكدما ايؤدلام الدحسي في دبليته " وقد نهى رسول ا صلى ا عليه وسلم عن كسر عظام صلى ا عليه وسلم " :ايلؤدلام الدمسي ا
الميت .
ا د ا ا
وقد مر برجل قاعد على فناء قبر فنهاه وقال ":ل تلؤذوا الملوتى في قابوهرهلم " .وقد زار النبي صلى ا عليه وسلم قبر أمه آمنة
ت دأن أدازودر دقلبدرها دفأ دهذدن لي ،دفازواروا ت رسبي في اللستلغدفار لددها دفلدلم ديأدذلن هلي ،اثسم اسدتأدذلن ا فبكى وأبكى من كان معه ثم قال ":اسلتأذلن ا
ت " .وكان إذا حضر إلى المقابر ليزورها يقول صلى ا عليه وسلم ":دسلما ل دعدلى ألههل السددياهر مدن الاقبودر فإسنها اتدذسكار ادلملو د
س د
حاقون د ،ألنتلم دلدنا دفدرط دونلحان دلاكلم دتدبسع ،اللاهسم الغهفر دلدنا دودلاهلم دودتدجادولز بدعلفدوك ددعسنا ودعلناهلم " فكان يعلم
الامسلمين دوإسنا هإن دشادء ا باكلم ل ه
نساءه صلى ا عليه وسلم إذا خرج النساء إلى المقابر يقول لهن قولوا هذا الكلم ،ويعلمهن إياه .وقال صالح المزني :سألت
ك دحلسرةس صسلوا دبيدن القاابور دفإن دذل د
بعض العلماء ليِ شيء نهي عن الصلة في المقبرة ؟ فقال :ورد حديث ،فاستدل بحديث " ل ات د
ل املندتهى لددها " .ورويِ عن بعضهم أنه قال :قمت أصلي ذات يوم في المقابر وقد اشتد الحر وقوى ،إذ رأيت شخصا يشبه أبي
ل
جالسا ل على ظهر قبره ،فسجدت فزعلا ،فسمعته يقول :ضاقت عليك الرض رحبا ل حتى جئات تؤذينا بصلتك منذ زمان .وفي
ب بابكاء ت لايعسذ ا الحديث الصحيح أن رسول ا صلى ا عليه وسلم مر بيتيم يبكي على قبر أمه فبكى رحمة له ثم قال " :إسن الدمسي د
أدلهلههه دعلليهه " أيِ يحزنه ويسوءه .فكم من ميت رئاي في المنام فقيل له كيف حالك يا فلن فبقول حال سوء ساء حالي من فلن
وفلنة كانا يكثران البكاء والنواح علي .إل أن الزنادقة ينكرون ذلك قبله .ورسول ا صلى ا عليه وسلم قال " :دما هملن أددحد
خهيه الاملؤهمهن همسملن ديلعهرفااه هفي الادلنيا دفايدسلسام دعدلليهه إهل س دعدردفاه دودرسد دعدلليهه " وكذا حسدث عليه الصلة والسلم وقد انصرف هملناكلم ديامسر هبدقلبهر أد ه
عن جنازة دفنوها أنه يسمع قرع نعالهم وهم بغيره أسمع وأسمع .ومات بعض الفقهاء ولم يوص بشيء ثم طاف على أهل بيته
بالليل وقال :أعطوا فلنا ل كيت وكيت من الزرع ! وادفعوا لفلن كتابه الذيِ كان عنديِ مودوعا ل منذ زمان ! فلما أصبحوا ذكر كل
واحد منهم لخيه ما رأى ،ثم إنهم وجدوه بعد زمان في زوايا البيت .عن بعضهم قال :اتخذ أبونا لنا مؤدبا ل يعلمنا الكتابة في الدار
فمات ،فخرجنا إلى قبره بعد ستة أيام وجعلنا نتذاكر
ص)(558
مجموعة رسائال المام الغزالي
أمر ا عز وجل ،فمر بنا طبق من تين فاشتريناه وأكلنا ه ورمينا الذناب على القبر ،فلما كان تلك الليلة رأى أبونا الشيخ في
المنام فقال له :كيف حالك ؟ فقال :بخير ،غير أن أولدك اتخذوا قبريِ مزبلة ،وتحدثوا علسي بكلم هو كفر ،فخاصمنا أبونا
للشيخ وقال :إن الشيخ قال لي إنهم قالوا عند قبريِ شيئاا ل يشبه الكفر ،فقلنا :يا سبحان ا ل يزال يؤدبنا في الدنيا والخرة .ومن
هذه الحكايات كثير إل أني ذكرت هذا القدر أمثالل ومواعظ لايعتبر بالقل.
فصل
وأما أهل القبور فعلى أربعة أحوال :فمنهم القاعد على عقبه حتى تنتثر العين ،وتورم الجثة ،ويعود الجسم ترابا ل ،ثم ل يزال بعد
ذلك طوافا ل في الملكوت دون سماء الدنيا ،ومنهم من يرسل ا عليه نعسة فل يدريِ ما فعل حتى ينتبه مع النفخة الولى ثم يموت
،ومنهم من ل يقوم على قبره إل شهرين أو ثلثا ل ،ثم تركب نفسه على طير يهويِ به في الجنة ،وهو الحديث الصحيح حيث يقول
صاحب الشرع صلى ا عليه وسلم " :دندسدماة الاملؤهمهن هملن دطاهئار ديلعلداق في دشدجدرهة الدجسنة " وفي المعنى الصحيح والوجه الحسن .
ضر تعلق بهلم في دشدجدرهة الدجسنهة " .ومن الناس من إذا بادت شدهددااء هفي دحدواصهل ا
طايور اخ ل وكذلك سئال عن أرواح الشهداء فقال " :ال س
عينه عرج به إلى الصور فل يزال لزما ل له حتى ينفخ في الصور .والنوع الرابع خص به النبياء والولياء ولهم الخيار ،فمنهم
من يكون طوافا ل في الرض حتى تقوم الساعة ،وكثيرال ما يرى في الليل ،وأظن الصديق منهم والفاروق .والرسول صلى ا
عليه وسلم له الخيار في طواف العوالم الثلثة .وعن هذه الرادة قال يوما ل تنبيها ل وإشارة صلى ا عليه وسلم " :إني أدلكدرام دعلى
ض ألكدثدر هملن دثلث " وكانت ثلث عشرات ،لن الحسين قتل على رأس الثلثين سنة فغضب على أهل ا هملن أدلن ديددعني هفي الدلر ه
الرض وعرج إلى السماء ،وقد رآه بعض الصالحين في النوم فقال :يا رسول ا بأبي أنت وأمي ما ترى في فتن أمتك ؟ قال :
زادهم ا فتنة ! قتلوا الحسين ولم يحفظوني فيه .ثم جعل يعدد كلما ل اشتبه على الراويِ .ومنهم من اختار السماء السابعة
كإبراهيم عليه السلم ،وفي الحديث أنه أمر به صلى ا عليه وسلم وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور وقد أحدق به أولد
المسلمين .وعيسى عليه السلم في السماء الخامسة ،وفي كل سماء رسل وأنبياء ل يخرجون منها ول يبرحون حتى الصعقة ،
وليس منهم من له الخيار والكليم والروح والحبيب ،هؤلء ينتهون حيث أرادوا من العالمين ،وأما الولياء فمنهم من وقف على
البعثة الدنيوية كما رويِ عن أبي يزيد أنه تحت العرش يأكل من مائادة .وعلى هذه النواع الربعة حال أهل القبور يعذبون
ويرحمون ويهانون
ص)(559
مجموعة رسائال المام الغزالي
ويكرمون ،فالذين هم منهم ايحدقون بالميت إذا احتضر حتى يضيق بهم رحاب المنازل ،وربما كشف له فيراهم ويفطن بهم ،وقد
رأيت من حدث بهذا النوع ،وقد رأيت بعض الصحاب كشف عن بصيرته فنظر إلى ولده الميت قد ولج البيت والميت يفيق
ويتصور .وهذه الفوائاد الملكوتية إنما تكون لكريم أو نسيب .نسأل ا أن يجود لنا بمعرفة ما نخوض به بحر أسرارها حتى يرتفع
الشك والرتياب.
ومع هذه النواع الموصوفة ل يعقل منهم تكوين الليل والنهار إل من كان عينه باقية لم يعرج به علوال .فمنهم من يعرف الجمعة
والعياد وإذا خرج أحد من الدنيا اجتمعوا إليه وعرفوه ،فهذا يسأل عن زوجته وهذا يأل عن والده ،وكل واحد يسأل عن أربه .
وربما مات الميت فلم يلق أحد معارفه لزيغ يصيبه عند الموت ،فيموت يهودسيا ل أو نصرانسيا ل فيصير إلى عساكرهم ،فإذا قدم أحد
من الدنيا سأله جيرانه :ما علمك بفلن ؟ فيقول لهم :قد مات ،فيقال :إنا ل وإنا إليه راجعون ! ما رأيناه سلك به إلى أمه الهاوية
.وقد رئاي بعض الناس فقيل له :ما فعل ا بك ؟ قال :أنا وفلن وفلن ،وعد خمسة من أصحابه ،في خير كثير ونعمة ،وكان
قتله الخوارج مع أصحابه المعروفين .وسئال عن جار له ما فعل ا به ،فقال :ما رأيناه ،وإنما كان هذا المنكور ألقى نفسه في
اليم حتى مات غرقا ل ،وأظنه وا مع قاتلي أنفسهم .
ا ل
وفي الصحيح أن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال " :دملن دقدتدل دنفدساه هبدحديددة دجادء ديلوهم القيادمة دودحهديددتاه هفي ديهده ديدتدوسجأ هبها هفي دبطهنهه
في دبلطهن دجدهسندم دخالدال امدخسلدال هفيدها أددبدال ،دودملن دتدرسدى هملن دجدبءل دفدقدتدل دنلفدساه دفاهدو ديدتدرسدى هفي ناهر دجدهسنم د" الحديث .وكذلك المرأة تموت بحد
،ل تزال تجد ذلك اللم حتى النفخة ،فهذه حياة ثانية .وقد صح أن آدم عليه السلم لقي موسى عليه السلم فقال له :أنت الذيِ
خلقك ا بيده ،ونفخ فيك من روحه ،وأسجد لك ملئاكته ،وأسكنك جنته فلم عصيته ؟ قال له :يا موسى نعم ،فقال له :في كم
سنة وجدت الذنب قدر على قبل فعله ؟ قال له :كتب عليك قبل أن تفعله بخمسين ألف سنة ،قال :يا موسى أفتلومني على ذنب
قدر علسي قبل أن أفعله بخمسين ألف عام ؟ وفي الصحيح أن رسول ا صلى ا عليه وسلم صلى بالمرسلين ليلة أسرى به ركعتين
،وأنه سلم على هارون عليه السلم ،فدعا له بالرحمة ولمته ،وأنه سلم على إدريس فدعا له بالرحمة ولمته ،وكان أولئاك قد
ماتوا وبادت أعينهم .وإنما هي الحياة النفس ،وبعد هذا الحياء حياة ثالثة ،والحياة الولية يوم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
س هنديام فإدذا
قالوا بلى شهدنا ! ول يعتد بالحياة الدنيوية ،فإنها مسخرة للتنعم .ويروى عنه عليه الصلة والسلم أنه قال " :السنا ا
دمااتوا الندتدباهوا "
فهذه أحوال الموات إذا بادت أعينهم :منهم المستقر ،ومنهم الطواف ،ومنهم
ص 560
ضودن دعلدليدها اغادليوا دودعهش يليا دوديلودم دتاقوام الاسادعاة
المضروب عليه ،ومنهم المعذب ،والدليل على صحة ذلك قوله تعالى ) :الاناار ايلعدر ا
ب ( ) غافر .( 46 :واليوم بيان العذاب البرزخ. خالوا آدل هفلردعلودن أددشاد اللدعدذا ه أدلد ه
فصل
فإذا أراد ا تعالى قيام الساعة دون النفخ في الصور على السر الذيِ بيناه في الحياء ،فإذا الجبال تتطاير وتسير مثل السحاب،
وإذا البحار قد تفجرت بعضها في بعض ،وتكورت الشمس فعادت سوداء مزبرة ،وسجرت الجبال على أمثال عالم الهواء ،ودخل
العالم بعضه في بعض ،وانتثرت النجوم كالسلك إذا انتثر نظمه ،وعادت السماء كالدهن الورد تدور دوران الرحى ،والرض قد
زلزلت زلزالل شديدال تارة تنقبض وتارة تنبسط كالديم ،حتى أن ا يأمر بخلع الفلك ،فل يبقى في الرضين السبع ول
السماوات السبع ول في الكرسي حي كائان إل وقد ذهبت نفسه ،وإن كان روحانيا ل ذهبت روحه ،وقد خلت الرض من عمارها،
والسماء من سكانها على ضروب الموحدين .ثم إن ا جل جلله يتجلى في المقام فيقبض السماوات السبع في يمينه ،والرضين
السبع الخرى ،ثم يقول ا عز وجل :يا دنيا يا دنية أين أربابك وأين أصحابك ،منيهتهم ببهجتك وشغلهتهم عن آخرتهم بزهوك ،ثم
يثني على نفسه بما شاء ،ويفتخر بالبقاء المستمر والعز الدائام ،والملك الباقي ،والقدرة القاهرة ،والحكمة الباهرة ،ثم يقول تعالى :
لمن الملك اليوم ،فل يجيبه أحد ،فيجيب نفسه بنفسه بأن يقول :ل الواحد القهار .ثم يفعل فعلل أعظم من الول وهو أن يأخذ
السموات على إصبع والرضين على إصبع ثم يهزها ويقول سبحانه :أنا الملك الديان أين عبدة الوثان الذين عبدوا غيريِ من
دوني ،وأشركوا بي وأكلوا رزقي ،أين الذين تقووا برزقي على المعاصي ،أين الجبابرة ،أين من تكبر وافتخر ،لمن الملك اليوم،
كالمرة الولى .ثم يمكث كذلك سبحانه وتعالى ما شاء ا وليس من العرش إلى المقام نسمة تلوح تعقل ،وقد ضرب ا على آذان
الحور والولدان في جنتهم .ثم يكشف ا سبحانه وتعالى عن بئار في سقر ،فيخرج منها لهيب النار ،فتشتعل في الربعة عشر
بحرال كما تشتعل النار في الصوف المنفوش ،فما تدع منها قطرة واحدة ،وتدع الرضين جملة سوداء والسموات كأنها عكر الزيت
والنحاس المذاب ،فإذا دنا اللهيب أن يتعلق بعنان السماء زجر ا النار زجرة فخمدت ،ثم ل يرفع لها لهيب ،ثم يفتح ا سبحانه
وتعالى خزانة من خزائان العرش فيها بحر الحياة ،فتمطر الرض ،فإذا هو كمني الرجال ،فيلقى الرض عطشى ميتة هامدة فتحيا
ص 561
وتهتز ول يزال المطر عليها حتى يعملها ،ويكون الماء أربعين ذراعلا ،فإذا جاء الجسام تنبت في العصعص .وفي الحديث أن
النسان يبدأ من عجب الذنب ومنه يعود ،وفي رواية أخرى ) يبلى المرء كله إل عجب الذنب منه ابديِء ومنه يعود ( وهو عظم
على قدر الحمصة ليس له مخ ،فمنه تنبت الجسام في مقابرها كما ينبت البقل ،حتى يشتبك بعضها في بعض ،فإذا رأس هذا عند
ب دحهفي س
ظ ص الدلر ا
ض هملناهلم دوهعلندددنا هكدتا س منكب هذا ،ويد هذا عند عجز هذا لكثرة البشر .وفي معنى قوله عز وجل ) :دقلد دعلهلمدنا دما دتلنقا ا
( ) ق .( 4 :نبهنا عليه في كتابنا الحياء .فإذا تمت النشأة على حسبها :الصبي صبي ،والشيخ شيخ ،والكهل كهل ،والفتى فتى،
والشاب شاب ،أمر الجليل جل جلله أن تهب ريح من تحت العرش فيها نار لطيفة ،فيكشف ذلك عن الرض ،وتبقى الرض
ل ،وهو الكثيب المهيل ،ثم يحيي ا سبحانه وتعالى إسرافيل فينفخ بارزة ليس فيها حدب ول عوج ول أمت ،وقد عادت الجبال رما ل
في الصور من صخرة ببيت المقدس ،والصور قرن من نور له أربعة عشرة دارة ،الدارة الواحدة فيها ثقوب بعدد أرواح البرية،
فتخرج أروح البرايا لها دويِ كدويِ النحل فتمل ما بين الخافقين ،ثم تذهب كل نسمة إلى جثتها .فسبحان ملهمهم إياها! حتى
ظارودن ( ) الزمر .( 86 :والزجرة الوحش والطير وكل ذيِ روح ،فإذا الكل كما قال تعالى ) :اثام انهفدخ هفيهه أ الخدرى دفإهدذا اهلم هقدياسم ديلن ا
حددةس ) (13دفإهدذا اهلم هبالاساههدرهة ( ) النازعات .( 14 ،13 :والساهرة العظيمة هي الصيحة كما قال ا تعالى ) :دفإهاندما ههدي دزلجدرةس دوا ه
هي الرض السفلى ،لنهم فتحوا أبصارهم عند قيامهم فنظروا إلى جبال منسوقة ،وبحار منزوفة ،والرض ل عوج فيها ول
أمت ،والمت الشيء المرتفع كالربوة ،والعوج الرض المنخفضة كالوهدة والودية ،وإنما صارت مستوية كأنها صفحة قاعدة.
فتعجبوا لما نظروا من الساهرة وقعد كل واحد منهم على قبره عريانا ل منتظرال متعجبا ل متفكرال معتبرال كما قال صلى ا عليه وسلم
في الصحيح ) :عراة غرلل ( أيِ غير مختونين ،إل قوما ل ماتوا في الغربة مؤمنين لم يكفنوا ،فإنهم يحشرون وقد كسوا ثيابا ل من
الجنة ،وأقواما ل ماتوا شهداء فيقومون وقد كسوا من الجنة ،وأقواما ل أيضا ل من أمة محمد صلى ا عليه وسلم متحرين السنة ما
خالفوا عنها سم الخياط ،فإن رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ) :بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها وسائار المم
عراة ( رواه أبو سفيان مسندال .وقال صلى ا عليه وسلم ) :يحشر الميت في ثيابه ( وبعض الموتى لما احتضر قال :اكسوني
الثوب الفلني ،فمنع منه حتى مات في غللة ليس عليه غيرها ،فرئاي في المنان بعد أيام ثلثة كأنه حزين فقال له :ما بالك؟
فأعرض عن خطابه ثم قال :منعتموني ثوبي وجعلتموني أحشر في هذه الغللة ل غير.
ص 562
فصل في القامة التي بين النفختين
وهي الموتة الثانية ،لنها منعت من الحواس الباطنة ،والموت الجسماني منع من الحواس الظاهرة ،لن الجرام هي الفاعلة
للحركة ،ولنهم ل يصلون ول يصومون ول هم يتعبدون ،ولو أدخل ا ملكا ل في جثة لقام فيها ،لنه ذو حرص على التحيز إلى
عالمه .والنفس جوهر بسيط ،فإذا ركبت في الجسد صحت حياته وأفعاله.
واختلف الناس في هذه المدة الكائانة بين النفختين ،واستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة ،وحدثني من ل أشك في علمه ول
معرفته أن أمر ذلك ل يعلمه إل ا تعالى لنه من أسرار الربوبية ،وكذلك حدثني أن الستثناء واقع عليه سبحانه وتعالى خاصة،
فقلت :ما معنى قول النبي صلى ا عليه وسلم ) :أنا أول من تنشق الرض عنه يوم القيامة ،فإذا أخي موسى آخذ بقائامة العرش
فل أدريِ أبعث قبلي أم كان ممن استثناه ا عز وجل؟ ( فل يخرج من هذا الحديث على ما نقدره إل غير الجسام ،وإن كان
موسى الن ل جثة له ،ويعد الستثناء الذيِ عن رسول ا صلى ا عليه وسلم في أمر الفزع ،لن البرايا عند الصعقة وعند
الفزعة كما قال كعب وقد حدث في مجلس عمر بن الخطاب رضي ا عنه عن هول المقام حيث قال :فلو كان ذلك يابن الخطاب
عمل سبعين نبيا ل لظننت أنك ل تنجو من ذلك اليوم إل قوما ل استثناهم ا في هول الفزع والصعق وهم أهل المقام الرابع .ل شك أن
موسى أحدهم والستثناء من بلوغ المر ،ولو كان هناك أحد لجاب ا تعالى حين يقول لمن الملك اليوم لقال :لك يا واحد يا
قهار.
فصل
فإذا استوى كل أحد قاعدال على قبره فمنهم العريان والمكسو والسود والبيض ،ومنهم من يكون له نور كالمصباح العظيم ،ومنهم
من يكون له نور كالشمس ،إل أن واحد منهم ل يزال مطرقا ل برأسه ما يدريِ ما يصنع ألف عام ،حتى تظهر نار من المغرب لها
دويِ تسوق الخلق إلى المحشر ،فيندهش لها رءوس الخليقة إنسا ل وجنلا ،ووحشا ل وطيرلا ،فيأخذ كل واحد عمله ويقول قم وانهض
ل ،ومنهم من تشخص عمله له حمارلا ،ومنهم من تشخص له عمله إلى المحشر ،فمن كان له حينئاذ عمل جيد تشخص عمله بغ ل
كبشلا ،تارة يحمله وتارة يلقيه .ويجعل لكل واحد نور شعاعي بين يديه ،وعن يمينه مثله ،يسريِ بين يديه في الظلمات وهو قوله
تعالى ) :انواراهلم ديلسدعى دبليدن أدليهديههلم دوهبأ دليدماهنههلم ( ) التحريم .( 8 :وليس عن شمائالهم نور بل ظلمة حالكة ل يستطيع أحد ينظر فيها،
يحتار
ص 563
فيها الكفار ويتردد المرتابون ،والمؤمن ينظر إلى قوة حلكها وشدة حندسها ويحمد ا على ما أعطاه من النور المهتدى به في تلك
الشدة ،ويسعى بين أيديهم ،لن ا يكشف للعبد المؤمن المتنعم عن أحوال أهل الشقاء المعذبين ليستبين له سبيل الفائادة ،كما فعل
ت صهردف ل حيهم ( ) الصافات .( 55 :وكما قال سبحانه وتعالى ) :دوإهدذا ا أهل الجنة وأهل النار حيث يقول ) :دفااطدلدع دفدرآها هفي دسدواهء اللدج ه
ب الاناهر دقاالوا درابدنا ل دتلجدعللدنا دمدع اللدقلوهم الاظالههميدن ( ) العراف .( 47 :لن أربعا ل ل يعرف قدرها إل أربعة :ل صدحا ه صااراهلم هتللدقادء أد ل
أدلب د
يعرف قدر الحياة إل الموتى ،ول يعرف قدر الشدة إل أهل النعم ،ول يعرف قدر الغنى إل الفقراء ،ول يعرف قدر الصحة إل
المرضى .ومن الناس من يسعى على قدميه وعلى أطراف بنانه ،ومنهم من له نور ينطفئ تارة ويشتعل أخرى ،وإنما نورهم عند
البعث على قدر إيمانهم ،وسرعة خطواتهم على قدر أعمالهم .قيل لرسول ا صلى ا عليه وسلم في حديث صحيح :كيف نحشر
يا رسول ا ؟ قال ) :اثنان على بعير ،وخمسة على بعير ،وعشرة على بعير ( ومعنى هذا الحديث وا أعلم أن قوما ل يتلقون في
السلم فيرحمهم ا تعالى ،خلق لهم من أعمالهم بعيرال يركبون عليه ،وهذا من ضعف العمل ،لنهم مشتركون معهم ،فهم كقوم
خرجوا في سفر بعيد وليس معهم أحد ،منهم من يشتريِ مطية توصله ،فاشترك في ثمنها رجلن أو ثلثة ،فاشتروا مطية يتعقبون
عليها في الطريق وقد يبلغ بعير مع عشرة .فهذا العجز في العمل معناه قبض السيد في المال ،أيِ منع التصرف فيه ،ومع هذا يحكم
له بالسلمة .فاعمل هداك ا عملل يكون لك بعيرال خالصا ل من الشركة ،واعلم أن ذلك هو المتجر الرابح ،فالمتقون وافدون كما قال
شار اللاماتهقيدن إهدلى الارلحدمهن دولفلدا ( ) مريم .( 85 :وفي غريب الحديث أن رسول ا صلى ا عليه الجليل جل جلله ) :ديلودم دنلح ا
وسلم قال يوما ل لصحابه ) :كان رجل من بني إسرائايل كثيرا ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم ( .قالوا له :وما كان يصنع؟
ل
قال ) :ورث من أبيه مالل كثيرال فاشترى بستانا ل فحبسه للمساكين وقال هذا بستاني عند ا ،وفرق دنانير عديدة في الضعفاء وقال
بهذا أشتريِ جارية من ا تعالى وعبيدلا ،وأعتق رقابا ل كثيرة وقال هؤلء خدمي عند ا ،والتفت ذات يوم إلى رجل ضرير البصر
فرآه تارة يمشي وتارة يكبو فابتاع له مطية يسير عليها وقال هذه مطيتي عند ا أركبها .والذيِ نفسي بيده لكأنني أنظر إليها وقد
جيء بها مسرجة ملجمة لركبها في الموقف ( .وقيل في تفسير قوله تعالى ) :أددفدملن ديلمهشي امهكليبا دعدلى دولجهههه أدلهددى أداملن ديلمهشي دسهولييا
صدراءط املسدتهقيءم ( ) الملك .( 22 :أنه مثل ضربه ا تعالى ليوم القيامة في حشر المؤمنين والكافرين ،كما قال ا تعالى ) : دعدلى ه
دودناسواق الاملجهرهميدن إهلى دجدهندم هولردا ( ) مريم .( 86 :أيِ مشاة على وجوههم ،هذا قول بعض المفسرين ،وليس المر كما حكاه، ل ا د ل
وإنما السر في ذلك أنه تارة يمشي وتارة يكبو
ص 564
على وجهه ،والذيِ تأوله بعيد ،لن ا تعالى ذكر الرجل فقال تعالى ) :دوأدلراجلااهلم هبدما دكاانوا ديلعدمالودن ( ) النور .( 24 :وقوله )
صليما ( ) السراء .( 97 :تفسير غير المقصد الذيِ أرادوه ،وترك الشارة التي نبأك عليها ،فقد رأيت العرب اعلمليا دوابلكلما دو ا
يمثلون بها ويقولون :هذا يمشي على وجهه ،إذا كان يكبو ،ومعناه :عميا ل عن النور الذيِ يشعشع بين أيديِ المؤمنين وعن أيمانهم،
وليس العمى الكلي إرادتهم ،لنه ل خلف أنهم ينظرون السماء تنشق بالغمام ،والملئاكة تنزل ،والجبال تسير ،والكواكب تنثر.
صارودن ( ) الطور .( 15 :فمعنى العمى في القيامة الخوض وكل أهوال يوم القيامة تفسير قوله تعالى ) :أددفهسلحسر دهدذا أدلم أدلناتلم ل اتلب ه
في الظملة والمنع عن النظر إلى الكريم ،إذ نور ا سبحانه وتعالى تشرق به الرض البيضاء ،وهم قد ضرب على أبصارهم
ف غشاوة ل ينظرون إلى شيء من ذلك .كذلك ضرب على آذانهم فل يسمعون كلم ا تعالى والملئاكة الذين ينادون ) :ل دخلو س
دعدللياكلم دول أدلناتلم دتلحدزانودن ( ) العراف ) .( 49 :الداخالوا اللدجاندة أدلناتلم دوأدلزدوااجاكلم اتلحدبارودن ( ) الزخرف .( 70 :وكذلك منعوا من
الكلم كأنهم بكم ،يفسره قوله تعالى ) :دهدذا ديلوام ل ديلنهطاقودن ) (35دول ايلؤدذان دلاهلم دفديلعدتهذارودن ( ) المرسلت .( 36 ،35 :والممنوع
من الشيء موصوف بالضعف عن قدرته وإن كانت الصفة فيه موجودة كأنها معدومة الوجود في حال دون حال.
ومن الناس من يحشر بفتنته الدنيوية ،فقوم مفتونون بالعود وعاكفون عليه دهرهم ،فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه
من يده ويقول سحقا ل لك شغلتني عن ذكر ا ! فيعود إليه ويقول أنا صاحبك حتى يحكم ا بيننا وهو خير الحاكمين .وكذلك يبعث
السكران سكرانا ل والزامر زامرال وكل أحد على الحال الذيِ صده عن سبيل ا ،ومثله الحديث الذيِ رويِ في الصحيح ) إن شارب
الخمر يحشر والكوز معلق في عنقه والقدح بيده ،وهو أنتن من كل جيفة على الرض ،يلعنه كل من يمر عليه من الخلق (.
والميت أيضا ل يحشر بظلمته ،وفي الصحيح أن المقتول في سبيل ا يأتي يوم القيامة وجرحه يشخب دما ل .اللون لون الدم ،والريح
ريح المسك ،حتى يقف بين يديِ ا عز وجل .فإذا ساقتهم الملئاكة زمرال وأفواجا ل تحت كل واحد ما قدر له ،وجمعوا في صعيد
واحد من إنس وجن وشيطان ووحش وسبع وطير ،تحولهم الملئاكة إلى الرض الثانية وهي أرض بيضاء من فضة نورية،
وصارت الملئاكة من وراء العالمين حلقة واحدة فإذا هم أكثر من أهل الرض بعشر مرات .ثم إن ا سبحانه وتعالى يأمر ملئاكة
السماء الثانية فيحدثون حلقة واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة .ثم تنزل ملئاكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل فتكون حلقة
واحدة أكثر منهم ثلثين ضعفا ل .ثم تنزل ملئاكة السماء الرابعة فيحدقون بالكل حلقة واحدة
ص 565
فإذا هم مثلهم بأربعين ضعفا .ثم تنزل ملئاكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائاهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة .ثم ل
تنزل ملئاكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم ستين مرة .ثم تنزل ملئاكة السماء السابعة فيحدقون
من وراء الكل حلقة واحدة وهم مثلهم سبعين مرة .والخلق تتداخل ويندرج بعضهم في بعض حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام،
ويخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الذان وإلى الصدر وإلى الحلقوم وإلى المنكبين وإلى الركبتين ،ومنهم من
يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام ،ومنهم من يصيبه البلل كالعطش إذا شرب الماء .وأصحاب الرأيِ هم أصحاب الكراسي،
ف دعدللياكلم دول أدلناتلم دتلحدزانودن ( ) العراف .( 49 :وحدثني بعض وأصحاب الكعبين قوم يموتون غرقى ،والملئاكة تناديهم ) ل دخلو س
العارفين أنهم الوابون كالفضيل ابن عياض وغيره إذ النبي صلى ا عليه وسلم قال ) :التائاب من الذنب كمن ل ذنب له ( فإن
دليل ذلك قول مطلق.
وهذه الصناف الثلثة :أهل الرأيِ ،والرشح ،وأهل الكعب ،هم الذين تبيض وجوههم ومن دونهم تسود وجوههم .وكيف ل يكون
القلق والعرق والرق قد قربت الشمس من رءوسهم حتى لو أن أحدال مد يده يضاعف حرها سبعين مرة! وقال بعض السلف :لو
طلعت الشمس على الرض كهيئاتها يوم القيامة لحرقت الرض ،وأذابت الصخر ،ونشفت النهار .فبينما الخلئاق يمرحون وهم
حهد اللدقاهاهر ت دودبدرازوا ه ا ه
ل اللدوا ه ض دغليدر الدلر ه
ض دوالاسدمادوا ا في تلك الرض البيضاء التي ذكرها ا تعالى حيث يقول ) :ديلودم اتدبادال الدلر ا
( ) إبراهيم .( 48 :وهم على أنواع في المحشر ،وملوك أهل الدنيا كالذر كما رويِ في الخبر عن صفة المتكبر .وليس هم كهيئاة
الذر عينلا ،غير أن القدام تطأ عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم وانخفاضهم.
وقوم يشربون ماءال باردال عذبا ل صافيلا ،لن الصبيان يطوفون على آبائاهم بكئاوس من أنهار الجنة يسقونهم .وعن بعض السلف
الصالحين أنه نام فرأى القيامة قد قامت وكأنه في الموقف عطشان ،ورأى صبيانا ل صغارال يسقون الناس قال فناديتهم :ناولني
شربة ماء ! فقال لي واحد منهم :ألك فينا ولد؟ فقلت :ل ،قال :فل إذال .وفي هذا فضل التزويج .ولهذا الولد الساقي شروط
ذكرناها في كتابنا ) الحياء (.
وقوم قد دنا على رءوسهم ظل يمنعهم من الحر وهي الصدقة الطيبة ،ول يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذيِ
وصفناه في كتابنا ) الحياء ( ،وهو من بعض أسرار القرآن ،فتوجل له القلوب وتخشع له البصار لعظم نقره ،وتساق الرءوس
من المؤمنين والكافرين يظنون ذلك عذابا ل يزداد في هول القيامة ،فإذا بالعرش يحمله ثمانية
566
أملك يسير قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة ،وأفواج الملئاكة وأنواع الغمام بأصوات التسبيح ل تطيقه العقول ،حتى
يستقر العرش في تلك الرض البيضاء التي خلقها ا تعالى لهذا الشأن خاصة ،فتطرق الرءوس وتحصر وتنحبس ،وتشفق
البرايا ،وترعب النبياء ،وتخاف العلماء ،وتفزع الولياء والشهداء من عذاب ا الذيِ ل يطيقه شيء فبينما هم كذلك إذ غشيهم
نور غلب على نور الشمس التي كانوا في حرها ،فل يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام والجليل ل يكلمهم كلمة واحدة،
فحينئاذ تذهب الناس إلى آدم عليه السلم فيقولون :يا آدم يا أبا البشر المر علينا شديد .وأما الكافر فيقول :يا رب ارحمني ولو إلى
النار ،من شدة ما يرى من الهول .ويقولون :يا آدم :أنت الذيِ خلقك ا بيده ،وأسجد لك ملئاكته ،ونفخ فيك من روحه ،اشفع لنا
في فصل القضاء! فيؤمر بكل حيث يشاء سبحانه وتعالى فيفعل بهم ما يشاء فيقول :عصيت ا حيث نهاني عن أكل الشجرة ،وأنا
أستحي أن أكلمه في هذه الحالة ،ولكن اذهبوا إلى نوح عليه السلم فإنه أول المسلمين! فيقيمون ألف عام يتشاورون فيما بينهم ،ثم
يذهبون إلى نوح فيقولون له :أنت أول المرسلين ،فيذكرون له مثل ذلك ،ثم يطلبون منه الشفاعة في فصل القضاء بينهم ،فيقول ،
إنني دعوت دعوة أغرقت بها أهل الرض ،وإني أستحي من ا تعالى أن أسأله مثل ذلك ،ولكن انطلقوا إلى إبراهيم خليل ا
تعالى ،هو سماكم المسلمين من قبل فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام ثم يأتونه عليه السلم فيقولون له :يا إبراهيم يا
أبا المسلمين أنت الذيِ اتخذك ا خليلل فاشفع لنا إلى ا لعله يفصل فيما بين خلقه! فيقول لهم :إني كذبت في السلم ثلث كذبات
جادلت بها عن دين ا ،فأنا أستحي من ا أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام ،ولكن اذهبوا إلى موسى عليه السلم فإنه اتخذه
ا كليما ل وقربه نجيا ل عسى أن يشفع لكم .فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال يزيد شدة والموقف ضيقا ل فيأتون موسى فيقولون
له :يا بن عمران أنت الذيِ اتخذك ا كليما ل وقربك نجيا ل وأنزل إليك التوراة ،فاشفع لنا في فصل القضاء فقد طال المقام واشتد
الزحام وتراكمت القدام ونادى أهل الكفر السلم من طول المقام! فيقول لهم موسى :إني سألت ا تعالى أن يأخذ آل فرعون
بالسنين وأن يجعلهم مثلل للخرين ،وأنا أستحي من ا تعالى أن أسأله الشفاعة في مثل هذا المقام مع أسباب جرت بيني وبينه في
المناجاة يلوح فيها تعريض الهلك ،إل أنه ذو رحمة واسعة ورب غفور ،لكن اذهبوا إلى عيسى عليه السلم فإنه من أصح
المرسلين يقينلا ،وأكثرهم معرفة بال تعالى ،وأشدهم زهدال وأبلغهم حكمة ،فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال
يزيد شدة والموقف يزداد ضيقلا ،وهو يقولون :حتى متى نحن من رسول إلى رسول ومن كريم إلى كريم؟ فيأتون
ص 567
عيسى عليه السلم فيقولون له :أنت روح ا وكلمته ،وأنت الذيِ سماه ا وجيها ل في الدنيا والخرة ،اشفع لنا إلى ربك في فصل
القضاء! فيقول إن قومي اتخذوني وأمي إلهين من دون ا ،فكيف أشفع عند من عبدت معه وسميت له ابنا ل وسمي لي أبلا ،ولكن
أرأيتم لو كان لحدكم كيس فيه نفقة وعليه خاتم أكان يبلغ إلى ما في الكيس حتى يفيض الخاتم؟ قالوا :نعم يا نبي ا ،قال لهم :
اذهبوا إلى سيد المرسلين وخاتم النبيين أخي العرب ،فإنه ادخر دعوته شفاعة لمته ،وكثيرال ما آذاه قومه :شجوا جبينه ،وكسروا
برباعيته ،وجعلوا بينه وبين الجنة نسبلا ،وإنه لحسنهم فخارلا ،وأكبرهم شرفلا ،وهو يقول كما قال الصديق لخوته ) :ل دتلثهري د
حهميدن ( ) يوسف .( 92 :وجعل يتلو عليهم من فضائاله صلى ا عليه وسلم ما لم تمجه اا دلاكلم دواهدو أدلردحام الارا ه
دعدللياكام اللديلودم ديلغهفار ا
آذانهم حتى امتلت نفوسهم حرصا ل على الذهاب إليه ،فساروا حتى أتوا إلى منبره صلى ا عليه وسلم وقالوا له :أنت حبيب ا
والحبيب أوجه الوسائاط ،اشفع لنا إلى ربك! فقد ذهبنا إلى أبينا آدم فأحالنا إلى نوح ،فذهبنا إلى نوح فأحالنا على إبراهيم ،وذهبنا
إلى إبراهيم فأحالنا على موسى ،فذهبنا إلى موسى فأحالنا على عيسى ،فذهبنا إلى عيسى فأحالنا عليك صلى ا عليك وسلم ،وليس
بعدك مطلب ول عنك مهرب ،فيقول صلى ا عليه وسلم :أنا لها حتى يأذن ا لمن يشاء ويرضى .ثم ينطلق صلى ا عليه وسلم
إلى سرادقات الجلل فيستأذن فيؤذن له ،ثم يرفع الحجاب ويلج إلى العرش ويخر ساجدال يمكث فيها ألفلا ،ثم يحمد ا تعالى بمحامد
ما حمده بها أحد قط .قال بعض العارفين :إن تلك المحامد التي أثنى ا بها على نفسه يوم فراغه من خلقه .فيتحرك العرش تعظيما ل
وقد حاز صحيفة من الصحف التي تقدم ذكرها في ) الحياء ( والناس في تلك المدة قد ضاق مكانهم ،وساءت أحوالهم ،وترادفت
أهوالهم ،وقد طوق كل واحد منهم ما بخل به في الدنيا :فمانع زكاة البل يحمل بعيرال على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل
العظيم .والرغاء والخوار كالرعد القاصف .ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالل قد ملئات من الجنس الذيِ كان يبخل به،
برال كان أو شعيرلا ،أثقل ما يكون ،يناديِ تحته بالويل والثبور ،ومانع زكاة المال يحمل شجاعا ل أقرع له زبيبتان ،وذنبه قد صب في
منخره ،واستدار بجيده ،وثقل على كاهله ،حتى كأنه يطوق به كل رحى في الرض .وكل واحد يناديِ ما هذا فتقول لهم الملئاكة :
خالوا هبهه ديلودم اللهقديادمهة ( ) آل عمران ( 180 :وآخرون قد هذا ما بخلتم به رغبة فيه وشحا ل عليه ،وهو قوله تعالى ) :دسايدطاواقودن دما دب ه
عظمت فروجهم وهي تسيل صديدال تتأذى بنتنهم جيرانهم ،وآخرون قد صلبوا على جذوع النيران ،وآخرون قد خرجت ألسنتهم
على صدورهم أقبح ما يكون ،وهم الزناة واللطة والكاذبون ،وآخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي ،وهم آكلوا الربا.
وكل ذنب قد بدا سوء ذنبه ظاهرال عليه.
ص 568
فصل
فيناديِ الجليل جل جلله يا محمد ارفع رأسك ،وقل يسمع لك ،واشفع تشفع ،فيقول صلى ا عليه وسلم :يا رب افصل بين عبادك!
وقد أفصح كل واحد بذنبه في عصات يوم القيامة .فيأتي النداء نعم يا محمد ،ويأمر ا بالجنة فتزخرف ويؤتى بها ولها نسيم طيب
أعبق ما يكون وأزكى ،فيوجد ريحها مسيرة خمسمائاة عام ،فتبرد القلوب ،وتحيا النفوس ،إل من كانت أعمالهم خبيثة فإنهم منعوا
من ريحها ،فتوضع عن يمين العرش .ثم يأمر ا تعالى أن يؤتى بالنار ،فترعب وتفزع ،وتقول للمرسلين إليها من الملئاكة :
أتعلمون أن ا خلقا ل يعذبني به؟ فيقولون :ل وعزته! وإنما أرسل إليك لتنتقمي من عصاة ربك ،ولمثل هذا اليوم خلقت ،فيأتون بها
تمشي على أربع قوائام ،تقاد بسبعين ألف زمام ،في كل زمام سبعون ألف حلقة لو جمع حديد الدنيا كلها ما عدل منها حلقة واحدة،
على كل حلقة سبعون ألف زباني لو أمر زباني منهم أن يدك الجبال لدكها وأن يهد الرض لهدها ،وإذا لها شهيق ودويِ وشرر
ودخان ،تفور حتى الفق ظلمة ،فإذا كان بينها وبين الخلق مقدار ألف عام انفلتت من أيديِ الزبانية حتى تأتي إلى أهل الموقف ولها
صلصة تصفيق وسحيق فيقال :ما هذا؟ فيقال :جنهم انفلتت من أيديِ سائاقيها ولم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها ،فجثوا الكل
على الركب ،حتى المتوسلون ،ويتعلق إبراهيم وموسى وعيسى بالعرش ،هذا قد نسي الذبيح ،وهذا قد نسي هارون ،وهذا قد نسي
مريم ،ويجعل كل واحد منهم يقول :يا رب نفسي ل أسألك اليوم غيرها .وهو الصح عنديِ .ومحمد عليه الصلة والسلم يقول :
أمتي سلمها ونجها يا رب! وليس في الموقف من تحمله ركبتاه وهو قوله تعالى ) :دودتدرى اكال أ اامءة دجاهثديلة اكمل أ اامءة اتلددعى إهدلى هكدتاهبدها (
) الجاثية .( 28 :وعند تفلتها تكبو من الحنق والغيظ وهو قوله تعالى ) :إهدذا درأدلتاهلم هملن دمدكاءن دبهعيءد دسهماعوا لددها دتدغميلظا دودزهفيلرا ( )
الفرقان .( 12 :أيِ تعظيما ل وحنقلا ،يقول سبحانه وتعالى تكاد تميز أيِ تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها فيبرز صلى ا عليه
وسلم ويأخذ بخطامها ويقول لها ارجعي مدحورة إلى خلفك حتى تأتيك أفواجك! فتقول :خل سبيلي فإنك يا محمد علاي حرام،
فيناديِ مناد من سرادقات العرش :اسمعي منه وأطيعي له! ثم تجذب وتجعل على شمال العرش ،ويتحدث أهل الموقف بجذبها،
ك هإل درلحدملة لهللدعادلهميدن ( ) النبياء .( 107 :فهناك ينصب الميزان ،وهو كفتان :كفة فيخف وجلهم وهو قوله تعالى ) :دودما أدلردسللدنا د
من نور عن يمين العرش ،وكفة عن يساره من ظلمة ،ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس تعظيما ل له وتواضعلا ،إل الكفار فإن
ف دعلن دساءق دوايلددعلودن إهدلى المساجوهد دفل ديلسدتهطياعودن () . أصلبهم تعود حديدال فل يقدرون على السجود وهو قوله تعالى ) :ديلودم ايلكدش ا
القلم .( 42 :
ص 569
وروى البخاريِ في تفسيره مسندال إلى رسول ا صلى ا عليه وسلم قال ) :يكشف ا عن ساقه يوم القيامة فيسجد كل مؤمن
ومؤمنة ( وقد أشفقت من تأويل الحديث وعدلت عن منكريه ،وكذا أشفقت من ذكر صفة الميزان وزيفت قول واضعيه بالمثل
وجعلته محيزال إلى العالم الملكوتي ،فإن الحسنات والسيئاات أعراض ،ول يصح وزن العراض إل بالميزان الملكوتي .فبينما
الناس ساجدون إذ نادى الجليل بصوت يسمعه من دباعد كما يسمعه من دقارب :أنا الملك أنا الديان -حكاه البخاريِ -ل يجاوزني
ظلم ظالم ،فإن جاوزني فأنا الظالم .ثم يحكم بين البهائام ،ويقتص للجماء من القرناء ،ويفصل بين الوحش والطير ،ثم يقول لها:
كوني ترابا ل! فتسوى بها الرض .ويتمنى الكافر فيقول ياليتني كنت ترابا ل! ثم يخرج النداء من قبل ا :أين اللوح المحفوظ ،فيرى
به هوج عظيم فيقول ا :أين ما سطرت فيك من توراة وإنجيل وفرقان ،فيقول :سلبني الروح المين ،فيؤتى به يرعد وتصطك
ركبتاه فيقول ا :يا جبريل هذا اللوح يزعم أنك نقلت منه كلمي ووحيي أصدق؟ فيقول :نعم يا رب! فيقول له :فما فعلت فيه؟
فيقول :أنهيت التوراة إلى موسى ،والنجيل إلى عيسى ،والفرقان إلى محمد صلى ا عليه وسلم ،وانهيت إلى كل رسول رسالته،
وإلى أهال الصحف صحائافهم .فإذا بالنداء :يا نوح! فيؤتى به يرعد وتصطك فرائاصه فيقول له يا نوح زعم جبريل أنك من
المرسلين ،قال :صدق ،فيقول له :ما فعلت مع قومك؟ قال دعوتهم ليلل ونهارال فلم يزدهم دعائاي إل فرارال .فإذا بالنداء :يا قوم نوح!
فيؤتى بهم زمرة واحدة فيقال هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة ،فيقولون :يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء ،وينكرون الرسالة،
فيقول ا :يا نوح ألك بينة عليهم؟ فيقول :نعم يا رب بينتي محمد وأمته ،فيؤتى بالنبي فيقول ا عز وجل :يا محمد هذا نوح
يستشهدك ،فيشهد له بتبليغ الرسالة ويقرأ صلى ا عليه وسلم ) إهانا أدلردسللدنا انولحا ( ) نوح .( 1 :إلى آخرها فيقول الجليل :قد
وجب عليكم الحق وحقت عليكم كلمة العذاب ،فقد حقت على الكافرين ،فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل ول
ت دعاسد حساب .ثم ينادى :أين عاد؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح ،فيشهد عليهم النبي وخيار أمته فيتلو ) دكاذدب ل
اللاملردسهليدن ( ) الشعراء .( 123 :فيؤم بهم إلى النار .ثم ينادى :يا صالح ويا ثمود! فيأتون فيستشهدون عندما يندكرون النبي صلى
ت دثامواد اللاملردسهليدن ( ) الشعراء .(141 :إلى آخر القصة ،فيفعل بهم مثلهم .ول يزال يخرج أمة بعد أمة ا عليه وسلم ،فيتلو ) دكاذدب ل
د ا
ك دكهثيلرا ( ) الفرقان .( 38 :وقوله ) :ثام ألردسللدنا قد أخبر عنهم القرآن بيانلا ،وذكرهم فيه إشارة ،كقوله تعالى ) :دوقاارولنا دبليدن دذله د
اا دجادءلتاهلم اراسلااهلم ( ) اراسدلدنا دتلتدرى اكال دما دجادء أ ااملة دراسولادها دكاذابوها ( ) المؤمنون .( 44 :وقوله ) دوالاهذيدن هملن دبلعهدههلم ل ديلعدلاماهلم هإل ا
إبراهيم .( 9 :وفي هذا تنبيه
صفحة 570
على أولئاك القرون الطاغية كقوم يارخ و مارخ و دوح و أسر و ما أشبه ذلك ،حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس و تبع و قوم
إبراهيم ،و في كل ذلك ل يروج ،أيِ يرتفع لهم ميزان ،و ل يوضع لهم حساب ،و هم عن ربهم يومئاذ محجوبون ،و الترجمان
يكلمهم لان من نظر إليه ا و كلمه لم يعذب .ثم ينادى بموسى فيأتي و هو يرعد كأنه ورقة في ريح عاصف فيقول له :يا موسى
إن جبريل زعم أنه بلغك الرسالة و التوراة ،فتشهد له بالبلغ؟ قال :نعم ،قال :فارجع إلى منبرك و اتل ما أوحي إليك! فيرقى
المنبر و يقرأ فينصت كل من في الموقف ،فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسبها يوم أنزلت حتى يتوهم الخبار أنهم ما عرفوها
يولما .ثم ينادى :يا داود فيأتي و هو يرعد كأنه ورقة في ريح عاصف ،و يقول جل ثناؤه :يا داود زعم جبريل أنه بلغك الزبور،
فتشهد له بالبلغ؟ قال :نعم يارب ،فيقول له :فارجع إلى منبرك و اتل ما أوحي إليك فيرقى و يقرأ و هو أحسن صولتا .و في
الصحيح أنه صاحب مزامير أهل الجنة .فيسمع صوته أمام تابوت السكينة ،فيقتحم الجموع و يتخطى الصفوف حتى يصل إلى
داود ،فيتعلق به فيقول :أما وعظك الزبور حتى نويت لي شلرا؟ فيخجله و يسكته مفحلم ،فيرتج الموقف لما يرى الناس من شأن
داود عليه السلم .ثم يتعلق به فيسوقه إلى ا ،فيرخى عليهم الستر ،فيقول :يارب أنصفني منه! فإنه تعمدني بالهلك ،و جعلني
أقاتل حتى قتلت ،و تزوج امرأتي و عنده يومئاذ تسع و تسعون امرأة غيرها ،فيلتفت الجليل إلى داود فيقول له :أصدق فيما يقول؟
فيقول له :نعم يارب ،و هو منكس رأسه حيالء و توقلعا لما ينزل به من العذاب ،و رجاء فيما وعده ا من المغفرة ،فكان إذا خاف
نكس رأسه ،و إذا طمع و رجا رفعه ،فيقول ا تعالى :قد عوضتك عن ذلك كذا و كذا من القصور و الولدان ،فيقول :رضيت
يارب .ثم يقول لداود :اذهب قد غفرت لك.
و كذا شأنه سبحانه و تعالى مع من أكرمه ،يعطي عنه من سعة رفده و عظيم عفوه ،ثم يقول له :ارجع إلى منبرك و اقرأ مما بقى
من الزبور! فيفعل حينئاذ ،فيؤمر ببني إسرائايل أن ينقسموا قسمين :قسم مع المؤمنين ،و قسم مع المجرمين .ثم يناديِ المناديِ :أين
عيسى ابن مريم؟ فيؤتى به فيقول له :أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون ا؟ فيحمد ما شاء ا ،و يثني عليه كثيلرا ،ثم
ت قاللاتاه دفدقلد دعلهلمدتاه دتلعدلام دما هفي دنلفهسي س هلي هبدحيق هإن اكن ا ك دما دياكوان هلي أدلن أداقودل دما دللي د يعطف على نفسه بالذم و الحتقار و يقول) :اسلبدحادن د
صدقاهلم ( المائادة ا ل صاهدهقيدن ه د ل د
ب ( المائادة .116 :فيضحك ا تعالى و يقول) :دهذا ديوام دينفاع ال ا ك دأن د
ت دعلاام اللاغايو ه ك إهان ددولد أدلعلدام دما هفي دنلفهس د
.119صدقت يا عيسى ارجع إلى منبرك و اتل النجيل.
صفحة 571
الذيِ بلغك جبريل فيقول :نعم ،ثم يقرأ فتشخص إليه الرءوس من حسن ترديده و ترجيعه ،فإنه أحكم الناس به رواية ،فيأتي به
ضا طرليا حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا منه آيه قط .ثم ينقسم النصارى فرقتين :المجرمون مع المجرمين ،و المؤمنون مع غ ل
المؤمنين .ثم يخرج النداء :أين محمد؟ فيؤتى به صلى ا عليه و سلم فيقول له :يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن ،فيقول
ضا طرليا عليه حلوة يستبشر بها نعم يارب ،فيقول له :ارجع إلى منبرك و اقرأ ! فيتلو صلى ا عليه و سلم القرآن فيأتي به غ ل
المتقون ،و إذا وجوههم ضاحكة مستبشرة ،و المجرمين وجوههم مغبرة .و يستدل على السؤال المتقدم للرسل و المم بقوله تعالى:
جلباتلم دقاالولا لد اا المراسدل دفدياقوال دمادذا أ ا ه )دفلددنلسأ دلدان الاهذيدن أ الرهسدل إهلدليههلم دولددنلسأ دلدان اللاملردسهليدن ( العراف 6 :و قيل بقول تعالى) :ديلودم ديلجدماع ا
ب ( المائادة .109 :و الول أصح ،حكيناه في الحياء لن الرسل يتفاضلون و المسيح عليه السلم ت دعلاام اللاغايو ه ك دأن د
هعللدم دلدنا إهان د
من أجلهم لنه روح ا و كلمته .إذا تل النبي صلى ا عليه و سلم القرآن توهمت المة أنهم ما سمعوه قط ،و قد قالوا للصمعي:
تزعم أنك أحفظهم لكتاب ا تعالى ،قال :يابن أخي يوم أسمعه من النبي صلى ا عليه و سلم كأني ما سمعته قط .فإذا فرغت
قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرادقات الجلل) :دوالمدتاازوا اللديلودم أدميدها اللاملجهرامودن ( يس .59 :فيرتج الموقف و يقوم فيه روع
عظيم ،و الملئاكة قد امتزجت بالجن و الجن ببني آدم .و لج الكل لجة واحدة .ثم يخرج النداء :يا آدم ابعث من نبيك بعلثا إلى النار!
فيقول :كم يارب؟ فيقول له :من كل ألف تسعمائاة و تسعة و تسعين إلى النار و واحلدا إلى الجنة .فل يزال يستخرج من سائار
الملحدين و الغافلين و الفاسقين حتى ل يبقى إل قدر حفنة الرب كما قال الصديق :نحو حفنة من حفنات الرب .ثم يقرب اللعين من
الشياطين فمنهم من يزيغ له الميزان فإذا سيئااته ترجح على حسناته ،و كل من وصلت له الشريعة لبد له من الميزان .فإذا اعتزلوا
ب
حدسا ه ا دسهرياع الل ه و أيقنوا أنهم هالكون قالوا :آدم ظلمنا و مكن الزبانية من نواصينا ،فإذا النداء من قبل ا تعالى )ل ا
ظللدم اللديلودم إهان ا د
( غافر .17 :فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق و المغرب فيه جميع أعمال الخلئاق ،فما من صغيرة و ل كبيرة إل
ك أددحلدا ( الكهف49 : أحصاها ) دول ديلظلهام درمب د
و ذلك أن أعمال الخلئاق كل يوم تعرض على ا فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم و هو قوله تعالى) :ديلودم
دتلشدهاد دعدلليههلم أدللهسدناتاهلم دوأدليهديههلم دوأدلراجلااهم هبدما دكاانوا ديلعدمالودن ( النور .24 :و قد جاء الخبر أن رجلل منهم يوقف بين يديِ ا تعالى
فيقول له :يا عبد السوء كنت مجرلما عاصليا ،فيقول :ما فعلت ،فيقال له :عليك بينة فيؤتى بحفظته فيقول :كذبوا علي،
صفحة 572
س اتدجاهدال دعن انلفهسدها ( النحل 111 :و يختم على فيه و هو قوله تعالى: فل د
ن ل
م ا
ك تي ه و يجادل على نفسه و هو قوله تعالى ) :ديلودم دتأل
ء
)اللديلودم دنلخهتام دعدلى أدلفدواههههلم دواتدكلرَامدنا أدليهديههلم دودتلشدهاد أدلراجلااهلم هبدما دكاانوا ديلكهسابودن ( يس .65 :فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار،
فيجعل يلوم جوارحه فتقول له :ليس عن اختيارنا ،أنطقنا ا الذيِ أنطق كل شيء .ثم يدفعون بعد الفراغ إلى خزنة جهنم فترتج
أصواتهم بالبكاء و الضجيج ،و يكون لهم رجة عظيمة حين يعرض الموحدون المؤمنون ،فتحدق بهم الملئاكة تلقى كل واحد منهم
يقول ) :دهدذا ديلواماكام الاهذيِ اكناتلم اتودعادودن ( النبياء .103 :و الفزع الكبر في أربعة مواضع :عند نقر اناقور ،و عند تفلت جهنم من
الخزنة ،و عند إخراج بعث آدم ،و عند دفعهم إلى الخزانة .فإذا بقى الموقف ليس فيه إل المؤمنون ،و المسلمون المحسنون ،و
العارفون ،و الصديقون ،و الشهداء ،و الصالحون ،و المرسلون ،ليس فيهم مرتاب و ل منافق و ل زنديق فيقول ا تعالى :يا أهل
الموقف من ربكم؟ فيقولون :ا ،فيقول لهم :تعرفونه؟ فيقولون :نعم ،يسار العرش لو جعلت البحار سبعة في نقرة إبهامه ما
ظهرت فيقول لهم :أنا ربكم ،بأمر ا ،فيقولون :نعوذ بال منك! فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الربعة عشر
في نقرة إبهامه ما ظهرت فيقول لهم :أنا ربكم ،فيتعوذون بال منه .ثم يتجلى لهم ا تعالى في الصورة التي كانوا يعرفونها و
سمعوه و هو يضحك فيسجدون له جميعهم فيقول أهلل بكم ،ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط و
الناس أفواج ،أعني المرسلين ثم النبيين ثم الصديقين ثم المحسنين ثم الشهداء ثم المؤمنين ثم العارفين ،و يبقى المسلمون منهم
المكبوب على وجهه ،و منهم المحبوس في العراف ،و منهم قصروا عن تمام اليمان ،و منهم من يجوز الصراط على مائاة عام،
و آخر يجوز على ألف عام ،و مع ذلك ل تحرق النار كل من رأى ربه عيالنا ل يضام في رؤيته .و أم ا المسلم و المحسن و المؤمن
فقد كشفنا عن مقام كل واحد منهم في كتابنا المسمى " بالستدراج " و هم في زمرة النطلق قد كثر مرورهم و ترددهم بالجوع و
العطش ،قد تفتت أكبادهم ،لهم نفس كالدخان ،يشؤبون من الحوض بكئاوس عدد نجوم السماء ،و ماؤه من نهر الكوثر ،و قدره من
ل ،و عرضه من عدن إلى يثرب ،و هو قوله عليه الصلة و السلم " :منبريِ على حوضي " أيِ على أحد إيلياء إلى صنعاء طو ل
حافتيه في المكيال و المقدار ،و المذادون عنه هم المشتغلون في حبس الصراط بمساويِء قبائاح ذنوبهم ،فكم من متوضيء ل
يحسن أن يسبغ وضوءه ،و كم من مصل لم يسأل عن صلته اتخذ صلته حكاية قد عريت من الخضوع و الخشوع لو قرصه نملة
للتفت ،و العارفون بجلل ا لو قطعت أيديهم و أرجلهم ما ارتجوا ،لذلك شغلتهم الهيبة و الفكرة لعلمهم بقدر من قاموا بين يديه،
فربما رجل لسعته العقرب في
صفحة 573
مجلس أمير المراء لم يتحرك صبلرا عليها و تعظيلما للمير في المجلس ،فهذه حالة الدميين مع المخلوق ل يملك لنفسه ضلرا و ل
نفلعا ،فكيف حال من يكون قائالما بين يديِ ا عز و جل و هيبته و سلطانه و عظمته و جبروته! و حكى الظالم العارف أنه يؤتى به
إلى ا تعالى فتخرج عليه المظالم و يتعلق به المظلوم فيقول له :التفت أيها المظلوم فوق رأسك! فإذا بقصر عظيم تحار فيه
البصار فيقول :ما هذا يارب؟ فيقول :إنه للبيع فاشتره مني ! فيقول :ليس معي ثمنه ،فيقول :إن ثمن هذا أن تبريِء مظلمة أخيك
فالقصر لك ،فيقول قد فعلت يارب .هكذا يفعل ا بالظالمين الوابين و هو قوله تعالى) :دفإهاناه دكادن لهلداواهبيدن دغافولرا ( السراء.25 :
والواب الذيِ أقلع عن الذنب فلم يعد أبلدا ،و قد سمى داود عليه السلم أوالبا و غيره من المرسلين.
فصل في كيفية دعاء أهل الموقف و ذكر الختلف فيما جاء تفسيره
و في الصحيح أن أول ما يقضي ا تعالى في الدماء ،و أول من يعطي ا أجورهم الذين ذهبت أبصارهم .نعم ينادى يوم القيامة
بالمكفوفين فيقال لهم :أنتم أحرى ،أيِ أحق من ينظر إليه ،ثم يستحي ا منهم فيقول لهم :اذهبوا إلى ذات اليمين ! و يعقد لهم راية،
و تجعل في يد شعيب عليه السلم ،فيصير أمامهم و معهم من ملئاكة النور ما ل يحصي عددهم إل ا ،يزفونهم كما تزف
العروس ،فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف ،و صفة أحدهم في الصبر و الحلم كابن عباس و من ضاهاه من هذه المة .ثم
ينادى :أين أهل البلء؟ و يريد المجذومين ،فيؤتى بهم فيحييهم ا بتحية طيبة بالغة ،فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية
خضراء ،ثم تجعل في يد يوسف عليه السلم و يصير أمامهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء و تجعل بيد أيوب عليه
السلم فيصير أمامهم إلى ذات اليمين و صفة المبتلى صبر و حلم :كعقيل بن أبي طالب و من ضاهاه من هذه المة .ثم يأمر بهم
إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء ،ثم تجعل في يد يوسف عليه السلم و يصير أمامهم إلى ذات اليمين ،و صفة الشباب
صبر و حلم كراشد بن سليمان و من ضاهاه من هذه المة .ثم يخرج النداء :أين المتحابون في ا؟ فيؤتى بهم إلى ا فيترحب بهم
و يقول ما شاء ا ،ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين ،و صفة المتحابين في ا صبر و حلم ل يسخط و ل يسيء من توارد الحوال
النيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي ا عنه و من ضاها من هذه المة .ثم يخرج النداء :أين الباكون من خشية ا؟
فيؤتى بهم إلى ا فتوزن دموعهم و دماء الشهداء و مداد العلماء فيرجح الدمع ،فيؤمر بهم إلى ذات اليمين
صفحة 574
و يعقد لهم راية ملونة لنهم بكوا في أنواع مختلفة :هذا بكى خولفا ،و هذا بكى طملعا ،و هذا بكى ندلما ،و تجعل بيد نوح عليه السلم
فتهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون علمنا أبكاهم ،فإذا النداء :على رسلك يا نوح ! فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء و دم
الشهداء فيرجح دم الشهداء على مداد العلماء ،فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية مزعفرة و تجعل في يد يحي ثم ينطلق
أمامهم ،فهم العلماء بالتقدم ،و يقولون :عن علمنا قاتلوا ،فنحن أحق منهم بالتقدم فيضحك ا عز و جل و يقول :هم عنديِ كأنبيائاي
اشفعوا فيمن تشاءون ! فيشفع العالم في أهل بيته و جيرانه و إخوانه ،ويامر كل واحد منهم مللكا يناديِ في الناس :أل إن فللنا العالم
قد أمره ا أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة أو سقاه شربة ماء حين عطش ،فيقوم إليه من فعل معه شيلئاا من ذلك فيشفع
له .و في الصحيح ) إن أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم العلماء ( ،و يعقد لهم راية بيضاء تجعل في يد إبراهيم عليه السلم
فإنه أشد المرسلين مكاشفة .و نضرب عن هذا الفن .ثم يناديِ مناد :أين الفقراء؟ فيؤتى بهم إلى ا تعالى ،فيقول لهم :مرحلبا بمن
كانت الدنيا سجنهم ،ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين و تعقد لهم راية صفراء و تجعل في يد عيسى عليه السلم و يصير أمامهم إلى
ذات اليمين .ثم ينادى :أين الغنياء؟ فيؤتى بهم إلى ا تعالى فيعدد لهم ما خولهم خمسمائاة عام ،ثم يأمر بهم إلى ذات اليمين و تعقد
لهم راية ملونة و تجعل بيد سليمان عليه السلم و يصير أمامهم إلى ذات اليمين .و في الحديث ) :إن أربعة يستشهد عليهم بأربعة:
ينادى بالغنياء و أهل الغبطة فيقال لهم :ما شغلكم عن عبادة ا؟ فيقولون :أعطانا مللكا و غبطة شغلتنا عن القيام بحقه ،فيقال :من
أعظم مللكا أنتم أم سليمان؟ فيقولون :سليمان ،فيقال:ما شغله ذلك عن القيام بحقي .ثميقال :أين أهل البلء؟ فيؤتى بهم فيقولون لهم:
أيِ شيء شغلكم عن عبادة ا؟ فيقولون :ابتلنا ا في الدنيا فشغلنا عن ذكره و القيام بحقه ،فيقال لهم :من أشد بللء أنتم أم أيوب؟
فيقولون :أيوب ،فيقال لهم :ما شغله ذلك عن القيام بحق ا .ثم ينادى أين الشباب و المماليك؟ فيؤتى بهم فيقال لهم :أيِ شيء
شغلكم عن عبادة ا؟ فيقولون :أعطانا جمالل و حسلنا فتنا به فكنا مشغولين عن القيام بحقه ،و تقول المماليك :شغلنا رق العبودية،
فيقال لهم أنتم أكثر جمالل أم يوسف؟ فيقولون :يوسف ،فيقال لهم :ما شغله ذلك و هو في الرق عن القيام بحق ا .ثم ينادى :أين
الفقراء؟ فيؤتى بهم فيقال لهم :ما شغلكم عن القيام بحق ا؟ فيقولون :ابتلينا في الدنيا بالفقر فشغلنا عن القيام بحق ا ،فيقال لهم
من أشد فقلرا عيسى أم أنتم؟ فيقولون :عيسى ،فيقال :ما شغله عن ذكرنا( .فمن ابتلى بشيء من هذه الربع فليذكر صاحبه .و قد
كان صلى ا عليه و سلم يقول في دعائاه ) اللهم إني أعوذ بك من فتنة الغنى و الفقر ( فاعتبروا بالمسيح فقد صح أنه ما كان
صفحة 575
يملك شيلئاا قط ،و قد لبس جبة صوف 20سنة ،و ما كان له في سياحته إل كوز و سبحةو مشط ،فرأى يولما رجلل يشرب بيده
فرمى الكوز و لم يمسكه بعد ،و رأى رجلل آخر يخلل لحيته بيده فرمى المشط من يده و لم يمسكه بعد .و كان يقول عليه السلم:
دابتي رجليِ و بيوتي كهوف الرض ،و طعامي نباتها ،و شرابي أنهارها .و في بعض الصحف المنزلة :يابن آدم حسنة و سيئاة
ضا إذا استهين بكفارته و لم يقتص ،فاحذرهما فإنه فعل عظيم ،و الكبائار قد يرجى من أنواع الحياة و لقتل متعملدا و الخطأ أي ل
لصاحبها الشفاعة بعد التخليص ،فأكرمهم يخرج من النار بعد ألف سنة و قد امتحش .و كان الحسن البصريِ رحمه ا تعالى يقول
في كلمه :يا ليتني ذلك الرجل و ل شك أنه كان رحمه ا تعالى عاللما بأحكام الخرة .و يؤتى يوم القيامة برجل لم يجد حسنة
ترجح بها ميزانه أو قد اعتدلت بالسوية فيقول ا تعالى رحمة منه :اذهب في الناسس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة ،فيسير
يجوس خلل الناس فما يجد أحلدا يكلمه في ذلك ،و كل من كلمه و سأله يقول :أخشى أن يخف ميزاني أنا أحوج إليها منك ،فييأس
فيقول له رجل :ما الذيِ تطلب؟ فيقول له :حسنة واحدة ،فلقد مررت بقوم لهم منها ألوف فبخلوا علي ،فيقول له الرجل .لقد لقيت
ا تعالى فما وجدت في صحيفتي إل حسنة واحدة و ما أظن أنها تغني عني فخذها هبة مني إليك ،فينطلق بها فرلحا مسرولرا فيقول
ا له :كيف جاء لك؟ و هو سبحانه أعلم ،فيقول ما كان منه مع الرجل ،فيدعى بالرجل الذيِ أعطاه الحسنة فيقول ا تعالى :كرمي
أوسع من كرمك ،خذ بيد أخيك و انطلق إلى الجنة ! و إذا استوى كفتا الميزان لرجل فيقول ا :ل هو من أهل الجنة و ل هو من
أهل النار ،فيأتي الملك بصحيفة يضعها في كفة السيئاات فيها مكتوب أف فترجح على الحسنة لنها كلمة عقوق ،فيؤمر به إلىالنار
فيلتفت الرجل و يطلب أن يرده ا إليه ،فيقول :ردوه ثم يقول له :أيها العبد العاق ليِ شيء تطلب؟ فيقول :إلهي إني رأيت أني
سائار إلى النار لبد لي منه ،و كنت عالقا لبي فضعف علي عذاب أبي و أنقذه منها! قال فيضحك ا و يقول :عققته في الدنيا و
بررته في الخرة ،خذ بيد أبيك و انطلق به إلى الجنة ! فما من أحد يذهب به إلىالنار إل و الملئاكة توقفه لعلمهم بسر أحكام الخرة،
حتى لقد ينادى بقوم ل خلق لهم خلقوا حطلبا لها و حشلوا فيقال ) :دوهقافواهلم إهاناهم املسائاوالودن ( الصافات .24 :فنحبس تلك الزمرة
صارودن ( الصافات .25 :فيستسلمون و يعترفون بالذنب كما قال ا تعالى) :دفالعدتدرافوا هبدذنهبههلم حتى يخرج النداء فيهم) :دما لداكلم ل دتدنا د
( الملك .11:فيدفعون دفعة واحدة إلى النار .و كذا يؤتى بأهل الكبائار من المة شيولخا و عجائاز و نسالءا و شبالبا ،فإذا نظر إليهم
مالك خازن جهنم قال :أنتم معاشر الشقياء مالي أرى أيديكم ل تغسل و لم تسودوجوهكم؟ ما ورد
صفحة 576
علي أحسن حالل منكم ،فيقولون :يا مالك نحن أشقياء أمة محمد دعنا نبكي على ذنوبنا! فيقول لهم :ابكوا فلن ينفعكم البكاء ،فكم من
شيخ وضع يده على لحيته يقول وا شيبتاه وا طول حزناه ! و كم من كهل يناديِ وا طول مصيبتاه وا ذل مقاماه ! و كم من شاب
يناديِ وا شباباه و كم من امرأة قد قبضت على شعرها و قالت وا سوءتاه وا فضيحتاه! فإذا النداء من قبل ا تعالى :يا مالك أدخلهم
النار من الباب الول ! فإذا همت النار أن تأخذهم يقولون بأجمعهم :ل إله إل ا ،فتفر النار منهم مسيرة خمسمائاة عام ،فيأخذون
في البكاء ،و إذا النداء :يا نار خذيهم يا مالك أدخلهم الباب الول ! فعند ذلك يسم صلصلة كصلصلة الرعد فإذا النار همت أن
تحرق القلوب زجرها مالك و جعل يقول :ل تحرقي قللبا فيه القرآن ،و كذلك وعاء لليمان ،و ل تحرقي جبالها سجدت للرحمن !
فيعودون فيها ،و إذا برجل يعلو صوته على صوت أهل النار فيخرج و قد امتحش فيقول ا له :مالك أكثر أهل النار صيالحا؟
ط همن ارلحدمهة دررَبهه فيقول :يارب حاسبتني و لم أقنط من رحمتك ،و علمت أنك تسمعني فأكثرت الصياح ،فيقول ا تعالى) :دودمن ديلقدن ا
ضاملودن ( الحجر .56 :اذهب فقد غفرت لك و كذا يخرج من النار فيقول ا له :خرجت من النار فبأيِ عمل تدخل الجنة؟ إهلا ال ا
فيقول :يارب ما أسألك منها إل يسيلرا ،فترفع له شجرة فيقول ا :أرأيت إن أعطيتك هذه الشجرة تسألني غيرها؟ فيقول ل و
عزتك يارب ! فيقول ا :هي هبة مني إليك ،فإذا أكل منها و استظل بظلها رفعت له شجرة أخرى أحسن منها فيجعل يكثر النظر
إليها فيقول ا تعالى :مالك لعلك أحببتها؟ فيقول :نعم يارب ،فيقول له :إن أعطيتك إياها هل تسألني غيرها؟ فيقول :ل يارب ،فإذا
أكل و استظل بظلها رفعت له شجرة أحسن منها فيجعل ينظر إليها فيقول ا له :إن أعطيتك إياها تسألني غيرها؟ فيقول :ل و
عزتك يارب ل أسألك غيرها ،فيضحك ا عز و جل فيدخله الجنة .و من غريب حكم الخرة أن الرجل يؤتى به إلى ا فيحاسبه و
يوبخه و توزن له حسناته و سيئااته و هو في ذلك كله يظن يقيلنا أن ا ما اشتغل إل بحسابه و وزنه ،و لعل في تلك اللحظة حاسب
ضا ،و ل يسمع أحدهم فيها آلف ألوف ما ل يحصي عدتهم إل ا ،كل منهم يظن إن الحساب له وحده ،و كذا ل يرى بعضهم بع ل
حددءة ( لقمان .28:و كلم الخر ،بل كل واحد تحت أستاره .فسبحان من هذا شأنه و قوله تعالى) :اما دخللقااكلم دول دبلعاثاكلم إهلا دكدنلف ء
س دوا ه
هو في قوله سر عجيب من أسرار الملكوت ،إذ ليس لملكه حد محدود ،فسبحان من ل يشغله شأن عن شأن ! و في هذه الحالة يأتي
الرجل إلى ولده فيقول له :يا بني إني كسوتك حيث ل تقدر تكسو نفسك ،و أطعمتك طعالما و سقيتك شرالبا حيث كنت عاجلزا عن
ذلك ،و كفلتك صغيلرا حيث كنت ل تستطيع دفع الضراء و ل جلب السراء ،فكم من فاكهة تمنيتها
صفحة 577
فابتعتها لك ،حسبك ما ترى من هول يوم القيامة و سيئاات أبيك كثيرة فتحمل عني منها و لو سيئاة فيخفف عني ،و أعطني و لو
حسنة أزيدها في الميزان ! فيفر منه الولد و يقول له :أنا أحوج منك إليها و كذلك يفعل الفصيل مع الفصيلة و الصاحب و الخ و
صيدلهتهه الاهتي اتلؤويهه ( المعارج: حدبهتهه دودبهنيهه ( عبس ) . 36-34 :دودف ه خيهه * دوأ ارَمهه دوأدهبيهه *دو د
صا ه هو قوله تعالى ) :ديلودم ديهفمر اللدملراء هملن أد ه
.13و في الحديث ) يحشر الناس عراة ( قالت عائاشة رضي ا عنها :و اسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقرأ النبي صلى ا
عليه و سلم ) :لكل امريِء منهم يومئاذ شأن يغنيه ( .لن شدة الهول و عظم الكرب تشغلهم أن ينظر بعضهم إلى بعض .فإذا استقر
الناس في صعيد واحد طلعت عليهم سحابة سوداء فأمطرتهم صحلفا منشرة ،فإذا صحيفة المؤمن ورقة ورد ،و صحيفة الكافر
ورقة سدر ،و الكل مكتوب فتتطاير الصحف فإذا هي بالميامن و المياسر ،و ليس عن اختيار ،و إنما هي تقع بيمينه و بشماله و هو
شولرا ( السراء .13 :و حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد قوله تعالى) :دوانلخهراج دلاه ديلودم اللهقديادمهة هكدتالبا ديللدقاها دمن ا
بعد جواز الصراط ،و هو غلط من قائاله فإنه تعين أن يرده م قد جاز الصراط ،ففي السبعة جسور يهلك الناس .و السبعون ألفال
الذين يدخلون الجنة بغير حساب ل يرفع لهم ميزان و ل يأخذون صحلفا ،و إنما هي براءة مكتوب فيها ) ل إله إل ا محمد رسول
ا هذه براءة فلن بن فلن بدخول الجنة و نجاته من النار ( فإذا غفرت ذنوبه أخذ الملك بعضده و جاس به خلل الموقف و نادى:
هذا فلن بن فلن قد غفر ا له ذنوبه و سعد سعادة ل يشقى بعدها أبلدا ،فما مر عليه شيء أسر من ذلك المقام .و الرسل يوم
القيامة على المنابر و النبياء و العلماء على منابر صغار دونهم ،و منبر كل رسول على قدره ،و العلماء العاملون على كراسي
من نوره ،و الشهداء و الصالحون كقراء القرآن و المؤذنون على كسبان المسك .و هذه الطائافة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين
يطلبون الشفاعة من آدم عليه السلم و نوح حتى ينتهوا إلى رسول ا صلى ا عليه و سلم ،و قد جاء أن القرآن يأتي يوم القيامة
في صورة رجل حسن الوجه و الخلق فيشفع ،فيشفع السلم مثله ،فيخصم و يخاصمعن صاحبه ،و قد ذكرنا حكاية السلم مع
عمر بن الخطاب رضي ا عنه في كتاب الحياء بعد مخاصمته ،فيتعلق به من شاء ا فيهوى بهم إلى الجنة .وكذلك تأتي الدنيا
في صورة عجوز شمطاء أقبح ما يكون فيقال للناس :أتعرفون هذه؟ فيقولون :نعوذ بال من هذه ! هذه الدنيا كنتم تتحاسدون عليها
و تتباغضون فيها .و كذلك يؤتى بالجمعة في صورة عروس تزف ،فيحدق بها المؤمنون ،و يحاط بهم كثبان المسك و الكافور،
عليهم نور يتعجب منه كل من رآه في الموقف ،فلم تزل بهم حتى تدخلهم الجنة .فانظر إلى رحمة ا تعالى و جود القرآن و
السلم و الجمعة ،و كيف هم أشخاص :القرآن موجود جبروتي،
صفحة 578
و السلم ملكوتي كالصيام و الصلة والصبر .و ل يلتفت إلى من احتج في تلشي النفس عند الموت بقوله صلى ا عليه و سلم
يوم الخندق ) :اللهم رب الجسام البالية و الرواح الفانية ( فإن ذلك كله يحوج إلى العلوم و قد نبهنا عليه في غير هذا الكتاب .و
قصدنا الختصار لسلوك طريق السنة ،و ل يلتفت إلى البدع الطارئاة على الشريعة من شياطين النس .فبشر المؤمنين بالرشاد و
سلوك المراد.
نسأل ا العصمة و التوفيق بمنه و كرمه آمين .و حسبنا ا و نعم الوكيل ،و صلى ا على سيدنا محمد و على آله وصحبه و سلم.
بسم اللله الرحمن الرحيم
كتاب المنقذ من الضلل
المدخل
الحمد ل الذيِ يفتتح بحمده كل رسالة و مقالة ،و الصلة على محمد المصطفى صاحب النبوة و الرسالة ،و على آله و أصحابه
الهادين من الضللة.
أما بعد :فقد سألتني أيها الخ في الدين ،أن أبث إليك غاية العلوم و أسرارها ،و غائالة المذاهب و أغوارها ،و أحكي لك ما قاسيته
في استخلص الحق من بين اضطراب الفرق ،مع تباين المسالك و الطرق ،و ما استجرأت عليه من الرتفاع عن حضيض التقليد
إلى يفاع الستفسار ،و ما استفدته أولل من علم الكلم و ما اجتويته ثانلي من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد
المام ،و ما ازدريته ثاللثا من طرق التفلسف ،و ما ارتضيته آخلرا من طريقة التصوف ،و ما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن
أقاوبل الخلق من لباب الحق ،و ما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة ،و ما دعاني إلى معاودتي نيسابور بعد طول
المدة ،فابتدرت لجابتك إلى مطلبك بعد الوقوف على صدق رغبتك ،و قلت مستعيلنا بال و متوكلل عليه و مستوثلقا منه و ملتجئاال
إليه:
اعلموا أحسن ا تعالى إرشادكم ،و ألن للحق قيادكم أن اختلف الخلق في الديان و الملل ،ثم اختلف الئامة في المذاهب على
بحلز ء كثرة الفرق و تباين الطرق ،بحر عميق غرق فيه الكثرون ،و ما نجا منه إل القلون .و كل فؤيق يزعم أنه الناجي ،و )اكمل ه
هبدما دلددليههلم دفهراحودن ( الروم .32:هو الذيِ وعدنا به سيد المرسلين ،صلوات ا عليه ،و هو الصادق الصدوق حيث قال ) :ستفرق
أمتي ثللثا و سبعون فرقة ،الناجية منها واحدة ( فقد كان ما وعد أن يكون.
و لم أزل في عنفوان شبابي ،منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الن و قد
صفحة 579
ناف السن على الخمسين ،أقتحم لجة هذا البحر العميق ،و أخوض غمرته غمض الجسور ،ل خوض الجبان الحذور ،و أتوغل في
كل مظلمة ،و أتهجم على كل مشكلة ،و أتقحم كل ورطة ،و أتفحص عن عقيدة كل فرقة ،و استكشف أسرار مذهب كل طائافة،
لميز بين محق و مبطل ،و متسنن و مبتدع ل أغادر باطنليا إل و أحب أن أطلع على بطانته ،و ل ظاهرليا إل و أريد أن أعلم
حاصل ظهارته ،و ل فلسفليا إل و أقصد الوقوف على كنه فلسفته ،و ل متكللما إل و أجتهد في الطلع على غاية كلمه و مجادلته،
و ل صوفليا إل و أحرص على العثور على سر صوفيته ،و ل متعبلدا إل و أترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ،و ل زنديلقا
معطلل إل و أتجسس وراءه للتنبيه لسباب جرأته في تعطيله و زندقته.
و قد كان التعطش إلى درك حقائاق المور دأبي و ديدني من أول أمريِ و ريعان عمريِ ،غريزة و فطرة من ا وضعتا في جبلتي
،ل باختياريِ و حيلتي ،حتى انحلت عني رابطة التقليد و انكسرت على العقائاد الموروثة على قرب عهد شرة الصبا ،إذ رأيت
صبيان النصارى ل يكون لهم نشوء إل على التنصر ،و صبيان اليهود ل نشوء لهم إل على التهود ،و صبيان المسلمين ل نشوء
لهم إل على السلم .و سمعت الحديث المرويِ عن رسول ا صلى ا عليه و سلم يقول ) :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه
يهدانه و ينصرانه و يمجسانه ( فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الصلية و حقيقة العقائاد العارضة بتقليد الوالدين و الستاذين ،و
التمييز بين هذه التقليدات ،و أوائالها تلقينات ،و في تمييز الحق منها عن الباطل اختلفات ،فقلت في نفسي :إنما مطلوبي العلم
بحقائاق المور ،فل بد من طلب حقيقة العلم ما هي ،فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذيِ يكشف فيه المعلوم انكشالفا ل يبقى معه
ريب ،و ل يقارنه إمكان الغلط و الوهم ،و ل يتسع القلب لتقدير ذلك ،بل المان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارلنا لليقين مقارنة لو
تحدى بإظهار بطلنه مثلل من يقلب الحجر ذهلبا و العصا ثعبالنا ،لم يورث ذلك شلكا و إنكالرا ،فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من
الثلثة ،فلو قال لي قائال :ل ،بل الثلثة أكثر بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبالنا و قلبها ،وشاهدت ذلك منه ،لم أشك بسببه في
معرفتي ،و لم يحصل لي منه إل التعجب من كيفية قدرته عليه ،فأما الشك فيما علمته فل.
ثم علمت أن كل ما ل أعلمه على هذا الوجه و ل أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم ل ثقة به و ل أمان معه ،و كل علم ل أمان
معه فليس بعلم يقيني.
) ( 1مداخل السفسطة و جحد العلوم
ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلل من علم موصوف بهذه الصفة إل في الحسيات ة الضروريات .قلت :الن بعد حصول
اليأسل مطمه في اقتباس المشكلت إل.
-580-
من الجليات وهى الحسيات والضروريات فل بد من إحكامها أول لتيقن أثقتى بالمحسوسات وأمانى من الغلط فى الضروريات
من جنس أمانى الذى كان من قبل فى التقليديات ومن جنس أمانى أكثر الخلق فى النظريات أم هو أمان محقق لغدر فيه ول غائالة
له؟فأقبلت بجد بليغ أتأمل فى المحسوسات والضروريات وأنظر هل يمكننى أن أشكك نفسى فيها فانتهى بى طول التشكيك إلى أن
لم تسمح نفسى بتسليم المان فى المحسوسات أيضا وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة
البصر؟وهى تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتكم بنفى الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه
لم يتحرك دفعة بغتة بل على التدرج ذرة ذرة حتى لم تكن له حالة وقوف وتنظر الى الكوكب فتراه صغيرا فى مقدار الدينار ثم
الدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الرض فى المقدار وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه
حاكم العقل ويخونه تكذيبا ل سبيل إلى مدافعته فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا فلعله ل ثقة ال بالعقليات التى هى من
الوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلثة والنفى والثبات ل يجتمعان فى الشئ الواحد و الشئ الواحد ليكون حادثا قديما موجودا
معدوما واجبا محال فقالت المحسوسات بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بى فجاء حاكم العقل
فكذبنى ولول حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقى؟فلعل وراء إدراك العقل حاكما اخر إذا تجلى كذب العقل فى حكمه كما تجلى
حاكم العقل فكذب الحس فى حكمه وعدم تجلى ذلك الدراك ليدل على استحالته فتوقفت النفس فى جواب ذلك قليل وأيدت إشكالها
بالمنام وقالت أما تراك تعتقد فى النوم أمورا وتتخيل أحوال وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ول تشك فى تلك الحالة فيها ثم تستيقظ فتعلم
أنه لم يكن لجميع متخيلتك ومعتقداتك أصل وطائال فبم تأمن أن يكون جميع ماتعتقده فى يقظتك بحس أو عقل هو حق بالضافة
الى حالتك التى انت فيها لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها الى يقظتك كنسبة يقظتك الى منامك وتكون يقظتك نوما
بالضافة اليها؟فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ماتوهمت بعقلك خيالت لحاصل لها ولعل تلم الحالة ماتدعيه الصوفية أنها
حالتهم إذ يزعمون أنهم يشاهدون فى أحوالهم التى لهم إذا غاصوا فى أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوال ل توافق هذه المعقولت
ولعل تلك الحالة هى الموت إذ قال رسول ا صلى ا عليه وسلم الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوافلعل الحياة الدنيا نوم بالضافة الى
الخرة فإذا مات ظهرت له الشياء على خلف مايشاهده الن
-581-
ويقال له عند ذلك)فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد( فلما خطرت لى هذه الخواطر وانقدحت فى النفس حاولت لذلك علجا
فلم يتيسر إذا لم يكن دفعه إل بالدليل ولم يكن نصب دليل إل من تركيبالعلوم الولية فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل
فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السقسطة بحكم الحال ل بحكم النطق والمقال حتى شفى ا تعالى من
ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على امن ويقين ولم يكن ذلك
ينظم دليل وتركيب كلم بل بنور قذفه ا تعالى فى الصدر وذلك النور مفتاح أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على
الدة المحررة فقد ضيق رحمة ا تعالى الواسعة ولما سئال رسول ا صى ا عليه وسلم عن الشرح ومعناه فى قوله تعالى)فمن
يرد ا أن يهديه يشرح صدره للسلم( النعام 125قال) :هو نور يقذفه ا تعالى فى القلب( فقيل وماعلمتة فقال )التجافى عن
دار الغرور والنابة الى دار الخلود( وهو الذى قال عليه السلم فيه)إن ا تعالى خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره(
فمن ذلك النور ينبغى أن يطلب الكشف وذلك النور ينبجس من الجود اللهى فى بعض الحايين ويجب الترصد له كما قال عليه
السلم )إن لربكم أيام دهركم نفحات أل فتعرضوا لها( والمقصود من ذلك هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد فى الطب حتى ينتهى
إلى طلب ما ليطلب فإن الوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب فقد واختفى ومن طلب ماليطلب فل يتهم
بالتقصير فى طلب ما يطلب
القول فى أصناف الطالبين
ولما شفانى ا تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده انحصرت أصناف الطالبين عندى فى أربع فرق
-1المتكلمون:وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر
-2الباطنية:وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصصون بالقتباس من المام المعصوم
-3الفلسفة:وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان
-4الصوفية:وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة
فقلت فى نفسى الحق ليعدو عن هذه الصناف الربعة فهؤلء هم السالكون سبل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم فل يبقى فى درك
الحق مطمع إذ ل مطمع فى
-582-
الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته إذ من شرط المقلد أن ل يعلم أنه مقلد فأذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده وهو شعب ليرأب
وشعث ل يلم بالتلفيق والتأليف ال أن يذاب بالنار ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة
فابتدرت لسلوك هذه الطرق باستقصاء ماعند هذه الفرق مبتدئاا بعلم الكلم ومثنيا بطريق الفلسفة ومثلثا بتعليمات الباطنية
ومربعابطريق الصوفية
-1علم الكلم مقصودة وحاصله
ثم إنى ابتدأت بعلم الكلم فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين منهم وصنفت فيه ما أردت أن أصنف فصادفته علما وافيا
بمقصوده غير واف بمقصودى وانما مقصوده حفظ عقيدة اهل السنه وحراستها عن تشويش أهل البدعة فقد ألقى ا تعالى إلى
عباده على لسان رسوله عقيدة هى الحق على مافيه صلح دينهم ودنياهم كما نطق بمعرفته القران والخبار ثم ألقى الشيطان فى
وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها فأنشأ ا تعالى طائافة المتكلمين وحرك
دواعيهم لنصرة السنة بكلم مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلف السنة المأثورة فمنه نشأ علم الكلم وأهله
فلقد قام طائافة منهم بما ندبهم ا تعالى اليه فاحسنوا الذب عن السنة والنظال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة والتغيير فى وجه
مااحث البدعة ولكنهم اعتمدوا فى ذلك على مقدمات القبول من القران والخبار وكان اكثر خوضهم فى استخراج مناقضات
الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم وهذا قليل النفع فى جنب من ل يسلم سوى الضروريات شيئاا اصل فلم يكن الكلم فى حقى
كافيا ول لدائاى الذى كنت أشكوه شافيا نعم لما نشأت صنعة الكلم وكثر الخوض فيه وطالت المدة تشوف المتكلمون الى مجاوزة
الذب عن السنة بالبحث عن حقائاق المور وخاضوا فى البحث عن الجواهر والعراض وأحكامها ولكن لما لم يكن ذلك مقصود
علمهم لم يبلغ كلمهم فيه الغاية القصوى فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة فى اختلفات الخلق ول أبعد أن يكون قد
حصل ذلك لغيرى بل لست أشك فى حصول ذلك لطائافة ولكن حصول مشوبا بالتقليد فى بعض المور التى ليست من الوليات
والغرض الن حكاية حالى ل النكار على من استشفى به فإنه أدويته الشفاء تختلف باختلف الداء وكم من دواء ينتفع به مريض
ويستضر به آخر
-583-
-2الفلسفة
محصولها
المذموم منها وماليذم
ومايكفر به قائاله وما ليكفر به
ومايبتدع فيه وما ليبتدع
وبيان ماسرقه الفلسفة من كلم أهل الحق
وبيان مامزجوه بكلم أهل الحق لترويج باطلهم فى درج ذلك
وكيفية عدم قبول البشر وحصول تفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل
وكيفية استخلص الحق الخالص من الزيف والبهرج من جملة كلمهم
ثم انى ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلم بعلم الفلسفة وعلمت يقينا أنه ليقف على فساد نوع من العلوم من ليقف على منتهى ذلك
العلم حتى يساوى أعلمهم فى أصل العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على مالم يطلع عليه صاحب العلم من غرره وغائاله
فإذا ذلك يمكن أن يكون مايدعيه من فساده حقا ولم أر أحدا من علماء السلم صرف عنايته وهمته الى ذلك
ولم يكن فى كتب المتكلمين من كلمهم حيث اشتغلوا بالرد عليهم ال كلماتمعقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد ليظن الغترار بها
بغافل عامى فضل عمن يدعى دقائاق العلوم فعلت أن ردالمذهب قبل فهمه والطلع على كنهه رمى فى عماية فشمرت عنى ساق
الجد فى تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة باستاذ بالتدريس والفادة لثلثمائاة نفر من الطلبة ببغداد
فأطلعنى ا سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة فى هذهالوقات المختلسة على منتهى علومهم فى أقل من سنتين ثم لم أزل أواظب
على التفكير فيه بعد فهمه قريبا من سنة اعاوده وأردده وأتفقد غوائاله وأغواره حتى اطلعت على مافيه من خداع وتلبيس وتحقيق
وتخييل واطلع لم أشك فيه
فاسمع الن حكايته وحكاية حاصل علومهم فإنى رأيتهم أصنافا ورأيت علومهم أقساما وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم سمة الكفر
واللحاد وان كان بين القدماء منهم والقدمين وبين الواخر منهم والوائال تفاوت عظيم فى البعد عن الحق والقرب منه
-584-
أصناف الفلسفة واتصاف كافتهم بالكفر
أعلم أنهم على كثرة فرقهم واختلف مذاهبهم ينقسمون إلى ثلثة أقسام الدهريون والطبيعيون واللهيون
الصنف الول الدهريون وهم طائافة من القدمين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه
لبصانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا وهؤلء هم الزنادقة
الصنف الثانى الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائاب الحيوان والنبات وأكثروا الخوض فى تشريح
أعضاء الحيوانات فرأوا فيها من عجائاب صنع ا تعالى وبدائاع حكمته مااضطروا معه الى العتراف بقادر حكيم مطلع على
غايات المور ومقاصدها ول يطالع التشريح وعجائاب منافع العضاء مطالع ال ويحصل له هذا العلم الضرورى بكمال تدبير
البانى لبنية الحيوان ل سيما بنية النسان إل أن هؤء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عنهم لعتدال المزاج تأثير عظيم فى قوام
الحيوان به فظنوا ان القوة العاقلة من النسان تابعة لمزاجه أيضا وأنها تبطل ببطلن مزاجه فينعدم ثم أذا انعدم فل يعقل إعادة
المعدوم كما زعموا فذهبوا الى النفس تموت ول تعود فجحدوا الخرة وأنكروا الجنة والنار والحشر والنشر والقيامة والحساب فلم
يبق عندهم للطاعة ثواب ول للمعصية عقاب فانحل عنهم اللجام وانهمكوا فى الشهوات انهماك النعام
وهؤلء أيضا زنادقة :لن أصل اليمان حد اليمان باليوم الخر وهؤلء جحدوا اليوم الخر وإن آمنوا بال وبصفاته
الصنف الثالث اللهيون وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلطون وأفلطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو
الذى رتب لهم المنطق وهذب لهم العلوم وحرر لهم مالم يكن محررا من قبل وأنضج لهم ماكان فجا من علومهم وهم بجملتهم ردوا
على الصنفين الولين من الدهرية والطبيعة وأوردوا فى الكشف عن فضائاحهم ماأغنوا به غيرهم)وكفى ا المؤمنين
القتال(بتقاتلهم ثم رد ارسطاطاليس على أفلطون وسقراط ومن كان قبله من اللهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ من جميعهم ال
أنه أستبقى أيضا من رذائال كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزع منها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة السلميين كابن
سينا والفارابى وغيرهما على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة السلميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما
-585-
ليس يخلو عن تخبيط وتخبيط يتشوش فيه قلب المطالع حتى ليفهم وما ليفهم كيف يرد أو يقبل؟ ومجموع ماصح عندنا من فلسفة
أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر فى ثلثة أقسام
-1قسم يجب التكفير به
-2وقسم يجب التبديع به
-3وقسم ليجب إنكاره أصل
أقسام علومهم
اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذى تطلبه ست أقسام ياضية ومنطقية وطبيعية والهية وسياسية وخلقية
-1أما الرياضية فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئاة العلم وليس يتعلق شئ منها بالمور الدينية نفيا واثباتا بل هى أمور
برهانية لسبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها وقد تولدت منها آفتان
الولى من ينظر فيها يتعجب من دقائاقها ومن ظهور براهينها فيحسن بسبب ذلك اعتقاده فى الفلسفة ويحسب أن جميع علومهم فى
الوضوح ووثاقة البرهان كهذا العلم ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيهم وتهاونهم بالشرع ماتناولته اللسن فيكفر بالتقليد المحض
ويقول لو كان الدين حقا لما اختفى على هؤلء مع تدقيقهم فى هذا العلم فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم فيستدل على ان الحق
هو الجحد والنكار للدين وكم رأيت ممن ضل عن الحق بهذا القدر ول مستند له سواه وإذا قيل لع الحاذق فى صناعة واحدة ليس
يلزم أن يكون حاذقا فى كل صناعة فل يلزم أن يكون الحاذق فى الفقه والكلم حاذقا فى الطب ول أن يكون الجاهل بالعقليات
جاهل بالنحو بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم فى غيرها فكلم الوائال فى
الرياضيات برهانى وفى اللهيات تخمينى ل يعرف ذلك ال من جربه وخاض فيه فهذا إذا قرر على هذا الذى اتخذ بالتقليد لم يقع
منه موقع القبول بل تحمله غلبة الهوى وشهوة البطالة وحب التكايس على ان يصر على تحسين الظن بهم فى العلوم كلها
فهذه آفة عظيمة لجلها يجب زجر كل من يخوض فى تلك العلوم فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين لكن لما كانت من مبادئ علومهم
يسرى اليه شرهم وشؤمهم فقل من يخوض فى آفة إل وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى
-586-
الفة الثانية نشأت من صديق للسلم جاهل ظن أن الدين ينبغى أن ينصر بإنكار كل علم منسوب اليهم فأنكر جميع علومهم
وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم فى الكسوف والخسوف وزعم أن ماقالوه على خلف الشرع فلما قرع ذلك سمع من عرف
ذلك البرهان القاطع لم يشك فى برهانه لكن اعتقد أن السلم مبنى على الجهل وإنكار البرهان القاطع فيزداد للفلسفة حبا وللسلم
بغضا ولقد عظم على الدين جناية من ظن ان السلم ينصر بإنكار هذه العلوم وليس فى الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفى
والثبات ول فى هذه العلوم تعرض للمور الدينية وقوله عليه السلم)إن الشمس والقمر آيتان من آيات ذكر ا تعالى ل ينخسفان
لموت أحد ول لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر ا تعالى وإلى الصلة (وليس فى هذا مايوجب إنكار علم الحساب المعروف
بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتهما على وجه مخصوص أما قوله عليه الصلة والسلم)لكن ا إذا تجلى لشئ خضع
له( فليس توجد هذه الزيادة فى الصحاح أصل فهذا حكم الرياضيات وآفاتها
-2وأما المنطقيات فل يتعلق شئ منها بالدين نفيا وإثباتا بل هو النظر فى طرق الدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية
تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان وليس
فى هذا كل ماينبغى أن ينكر بل هو من جنس ماذكرة المتكلمون وأهل النظر فى الدلة وانما يفارقونهم بالعبارات والصطلحات
وبزيادة الستقصاء فى التعريفات والتشعيبات ومثال كلمهم فيها قولهم إذا ثبت أن كل )أ( )ب( لزم أن بعض )ب( )أ(أى إذا ثبت
ان كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئاية وأى لهذا بمهمات
الدين حتى يجحد وينكرفإذا أنكر لم يحصل من إنكارة عن أهل المنطق إل سوء العتقاد فى عقل المنكر بل فى دينه الذى يزعم أنه
موقوف على مثل هذا النكار نعم لهم نوع من الظلم فى هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطا يعلم أنها تورث اليقين ل
محالة لكنهم عند النتهاء الى المقاصد الدينية ماامكنهم الوفاء بتلك الشروط بل تساهلوا غاية التساهل وربما ينظر فى المنطق أيضا
من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ماينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك لبراهين فاستعجل بالكفر قبل النتهاء الى العلوم
اللهية
فهذه الفة أيضا متطرقة إليه
-3وأما علم الطبيعيات فهو يبحث عن عالم السموات وكواكبها وماتحتها من الجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار ومن
الجسام المركبة كالحيوان والنبات
-587-
والمعادن وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها وذلك يضاهى بحث الطبيب عن جسم النسان وأعضائاة الرئايسية والخادمة
وأسباب استحالة مزاجه
وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب فليس من شرطه أيضا إنكار ذلك العلم إل فى مئالمعينة ذكرناها فى كتاب )تهافت
الفلسفة(وماعداها مما يجب المخالفة فيها فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها وأصل جملتها أن يعلم أن الطبيعة مسخرة ل تعالى
لتعمل بنفسها بل هى مستعملة من جهة فاطرها والشمس والقمر والنجوم والطبائاع مسخرات بأمره ل فعل لشئ منها بذاته
-4وأما اللهيات ففيا أكثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه فى المنطق ولذلك كثر الختلف بينهم فيها
ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب السلميين على مانقله الفارابى وابن سينا ولكن مجموع ماغلطوا فيه يرجع الى
عشرين أصل يجب تكفيرهم فى ثلثة منها وتبديعهم فى سبعة عشر ولبطال مذهبهم فى هذه المسائال العشرين صنفنا كتاب
)التهافت(
أما المسائال الثلث فقد خالفوا فيها كافة المسلمين وذلك فى قولهم
1إن الجساد لتحشر وإنما المثاب والمعاقب هى الرواح المجردة والمثوبات والعقوبات روحانية لجسمانية
ولقد صدقوا فى إثبات الروحانية فإنها كائانة أيضا ولكن كذبوا فى إنكار الجسمانية وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به
-2ومن ذلك قولهم )إن ا تعالى يعلم الكليات دون الجزئايات(وهذا أيضا كفر صؤيح بل الحق أنه)ل يعزب عنه مثقال ذرة فى
السموات ول فى الرض(
-3ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأوليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شئ من هذه المسائال وأما ماوراء ذلك من نفيهم الصفات
وقولهم إنه عليم بالذات لبعلم زائاد على الذات ومايجرى مجراه فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة ول يجب تكفير المعتزلة
بمثل ذلك وقد ذكرنا فى كتاب )فيصل التفرقة بين السلم والزندقة(مايتبين فيه فساد رأى من يتسارع إلى التكفير فى كل مايخالف
مذهبه
-5وأما السياسيات فجميع كلمهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالمور الدنيوية واليالة السلطانية وإنما أخذوها من
كتب ا المنزلة على النبياء ومن الحكم المأثورة عن سلف النبياء
-6وإما الخلقية فجميع كلمهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلقها وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها
وإنما آخذوها من كلم الصوفية
-588-
وهم المتألهون المثابرون على ذكر ا تعالى وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى ا تعالى بالعراض عن ملذ الدنيا وقد
انكشف لهم فى مجاهداتهم من أخلق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ماصرحوا بها فأخذها الفلسفة ومزجوها بكلمهم توسل
بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم ولقد كان فى عصرهم بل فى كل عصر جماعة من المتألهين ل يخلى ا سبحانه العالم عنهم فإنهم
أوتاد الرض ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل الرض كما ورد فى الخبر حيث قال عليه السلم )بهم تمطرون وبهم ترزقون ومنهم
كان أصحاب الكهف(
وكانوا فى سالف الزمنة على مانطق به القرآن فتولد من مزجهم كلم النبوة وكلم الصوفية يكتبهم آفتان :آفة فى حق القابل وآفة
فى حق الرد
-1أما الفة التى هى فى حق الراد فعظيمة إذ ظنت طائافة من الضعفاء أن ذلك الكلم إذ كان مدونا فى كتبهم وممزوجا بباطلهم
ينبغى ،يهجر ول يذكر بل ينكر على كل من يذكره لنهم إذ لم يسمعوه أول إل منهم فسيق ألى عقولهم الضعيفة أنه باطل ويقول
)هذا كلم النصرانى( ول يتوقف ريثما يتأمل أن النصرانى كافر باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلة
والسلم فإن لم يكن كافا إل باعتبار إنكاره فل ينبغى أن يخالف فى غير ماهو به كافر مما هو حق فى نفسه وأن كان أيضا حقا
عنده وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال ل الرجال بالحق والعاقل يقتدى بقول أمير المؤمنين على بن أبى طالب
رضى ا عنه حيث قال )لتعرف الخق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله( والعاقل يعرف الحق ثم ينظر فى نفس القول فإذا
كان حقا قبله سواء كان قائاله مبطل أو محقا بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلل عالما بأن معدن الذهب
الرغام ول بأس على الصراف إن أدخل يده فى كيس القلب وانتزع البريز الخالص من الزيف والبهرج مهما كان واثقا ببصيرته
فإنما يزجر عن معاملة القلب القروى دون الصير فى البصير ويمنع من ساحل البحر الخرق دون السباح الحاذق ويصد عن
مس الحية الصبى دون المعزم البارع
ولعمرى لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة وكمال العقل وتمام اللة فى تمييز الحق عن الباطل والهدى عن
الضللة وجب حسم الباب فى زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضللة ماأمكن إذ لسيلمون عن الفة الثانية التى سنذكرها أصل
وإن سلموا عن هذه الفة التى ذكرناها ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة فى تصانيفنا فى أسرار علوم الدين طائافة من
الذين لم تستحكم فى العلوم سرائارهم ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب
-589-
بصائارهم وزعمت أن تلك الكلمات من كلم الوائال مع أن بعضها من مولدات الخواطر ول يبعد أن يقع الحافر على الحافر
وبعضها يوجد فى الكتب الشرعية وأكثرها موجود معناه فى كتب الصوفية وهب أنها لم توجد إل فى كتبهم فإذا كان ذلك الكلم
معقول فى نفسه مؤيدا بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والي\سنة فلم ينبغى أن يهجر ويترك فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى
أن نهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل للزمنا أن نهجر كثيرا من الحق ولزمنا أن نهجر جملة آيات القرآن وأخبار الرسول
وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية لن صاحب كتاب )إخوان الصفا(وأوردها فى كتابه مستشهدا بها ومستدرجا قلوب
الحمقى بواسطتها إلى باطله ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه فى كتبهم وأقل درجات العالم أن
يتميز عن العامى الغمر فل يعاف العسل وإن وجده فى محجمة الحجام ويتحقق أن المحجمة لتتغير ذات العسل فإن نفرة الطبع
منه مبنية على جهل عامى منشؤة أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر فيظن أن الدم مستقذر لكونه فى المحجمة وليدرى أنه
مستقذر لصفته فى ذاته فإذا عدمت هذه الصفة فى العسل فكونه فى ظرفه ل يسكبه تلك الصفة فل ينبغى أن يوجب له الستقذار
وهذا وهم باطل وهو غالب على أكثر الخلق فمهما نسبت الكلم وأسندته إلى قائال حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطل وإن
أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقا فأبدا يعرفون الرجال بالحق وهو غاية الضلل هذه آفة الراد
-2ة القبول فإن من نظر فى كتهم )كإخوان الصفا( وغيره فرأى مامزجوه بكلمهم من الحكم النبوية والكلمات الصوفية ربما
استحسنها وقبلها وحسن اعتقاده فيها فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظن حصل فيها رآه واستحسنه وذلك نوع
استدراج إلى الباطل
ولجل هذه الفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر وكما يجب صون من ل يحسن السباحة عن مزالق
الشطوط يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيات يجب صون السماع عن مختلط
تلك الكلمات وكما يجب على المعزم أن ليمس الحية بين يدى ولده الطفل إذا علم أنه سيقتدى به ويظن أنه مثله بل يجب عليه أن
يحذره بأن يحذر هو فى نفسه ول يمسها بين يديه فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله وكما أن المعزم الحاذق إذا أخذ الحية وميز
بين الترياق والسم فاستخرج منه الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه وكذلك الصراف الناقد البصير
إذا أدخل يده فى كيس القلب وأخرج منه البريز
مجموعة رسائال المام الغزالي
الخالص ،واطرح الزيف والبهرج فليس له أن يشح بالجيد المرضي علي من يحتاج ،كذلك العالم .وكما أن المحتاج إلي التريقا ،
إذا اشمأزت نفسه منه ،حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم ،وجب تعريفه والفقير المضطر إلي المال إذا نفر
عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلب وجب تنيهه علي أن نفرته جهل محض ،وهو سبب حرمانه عن الفائادة التي هي
مطلبه ،وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد ل يجعل زيفا كما ل يجعل الزيف جيدا فكذلك قرب الجوار بين الحق
والباطل ل يحق باطل ،كما ليجعل الباطل حقا
فهذا مقدار ما أردناه من آفة الفلسفة وغائالتها .
-3القول في مذهب التعليم وغائالته
ثم إني فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييق ما يزيف منه ،علمت أن ذلك أيضا غير واف بكمال الغرض وأن العقل
ليس مستقل بالحاطة بجميع المطالب ،ول كاشفا للغطاء عن جميع المعضلت وكان قد نبغت نابغة التعليمية وشاع بين الخلق
تحدثهم بمعرفة معني ألمور من جهة المام المعصوم القائام بالحق عن لي أن أبحث عن مقالتهم لطلع علي ما في كتبهم ثم اتفق
أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلفة ،بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم ،فلم يسعني مدافعته ،وصار ذلك مستحثا
من خارج ،ضميمة للباعث الصلي من الباطن ،فابتدأت يطلب كتبهم وجع مقالتهم وكان قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة
التي ولدتها خواطر أهل العصر ل علي المنهج المعهود من سلفهم ،فجمعت تلك الكلمات ورتبتها ترتيبا محكما مقارنا للتحقيق
واستوفيت الجواب عنها حتي أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم ،وقال " :هذا سعي لهم ،فإنهم كانوا
يععجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لول تحقيقك لها وترتييك إياها " وهذا النكار من وجه حق ،فلقد أنكر أحمدبن
حنبل علي الحارث
المحاسبي رحمها ا تصنيفه في الرد علي المعتزلة فقال الحارث " :الرد علي البدعة فرض " فقال أحمد " نعم ،ولكن حكيت
شبهتهم أول ثم أجبت عتها ،فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ول يلتفت إلي الجواب ،أو ينظر إلي الجواب ،ول يفهم
كنهه؟"
وما ذكره أحمد حق ،ولكن في شبهة لم تنشر ولم تشتهر ،فأما إذا انتشرت ،فالجواب عنها واجب وليمكن الجواب عنها إل بعد
الحكاية .نعم ،ينبغي أل يتكلف إيرادها ،ولم أتكلف أنا ذلك ،بل كنتن قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي
ص 610
عندك بعمل قبيح ؛ تأكل رزقى وتعصينى ،وأنت تدعونى فأستجب لك ،وخيرى إليك نازل وشيرك إلاى واصل ؛ فنعم المولى أنا
لك ! وبئاس العبد أنت لى ! تسئالنى ما أعطيك ،وأساتر عليك سواة بعد سواة فضيحة ،وأنا أستحيى منك وأنت ل تستحى منى ،
تنسانى وتذكر غيرى ،وتخاف الناس وتأمن منى ،وتخاف مقتهم ،وتأمن غضبى((.
الموعظة الخامسة
صار التوبة ،وايطول المل ،ويرجو الخرة بغير عمل؛ يقول قول العابدين ويعمل عمل يقول ا تعالى ))يابن آدم! ل تكن ممن ايدق ا
المنافقين .إن اأعطى لم يقنع ،وإن امنع لم يصبر .يأامر بالخير ول يفعله .وينهى عن الشر ولم ينته عنه .يحب الصالحين وليس
منهم ،ويبغض الامنافقين وهو منهم .يقول ما ل يفعل ،ويفعل ما ل يؤمر ،ويستوفى ما ل ايوفى .يابن آدم! ما من يوم جديد إل
والرض تخاطبك فى قولها تقول لك :يابن آدم! تمشى على ظهرى ،ثم اتخزن فى بطنى ،وتأكل الشهوات على ظهرى ،ويأكلك
الدود فى بطنى .يابن آدم! أنا بيت الوحشة ،وأنا بيت الامسائالة ،وأنا بيت الوحدة ،وأنا بيت الظلمة ،وأنا بيت الحييات والعقارب،
فاعامرنى ول تخيربنى((.
الموعظة السادسة
يقول ا تعالى )) :يابن آدم ما خلقاتاكم لستكثر بكم من قيلة ،ول لستأنس بكم من وحشة ،ول لستعين بكم على أمر عجزت عنه،
ل ،وتشكرونى كثيرال وتسبحونى ابكرلة وأصيلل .يابن آدم! لو أن أولكم ول لجلب منفعة ،ول لدفع مضيرة ،بل خلقاتاكم لتعبدونى طوي ل
وآخركم ،وجنكم وإنسكم ،وصغيركم وكبيركم ،واحاركم وعبدكم ،اجتمعوا على طاعتى ما زاد ذلك فى املكى مثقال ذرة .ومن جاهد
فإنما يجاهد لنفسه ،إن ا لغنسى عن العالمين .يابن آدم! كما تؤهذى تؤدذى بك ،وكما تعمل ايعمل بك((
الموعظة السابعة
يقول ا تعالى )) :يابن آدم! يا عبيد الدينار والدراهم! إنى خلقاتاهما لكم لتأكلوا بهما رزقى ،وتلبسوا بهما ثيابى ،واتسبحونى
واتقيدسونى؛ ثم تأخذون كتابى وتجعلونه وراءكم ،وتأخذون الدينار والدراهم وتجعلونها فوق رءوسكم ،ورفعتم بيوتكم وخفضتم
صة ،ايرى ظاهرها مليحا ل وباطنها ص د بيوتى ،فل أنتم أخيار ول انتم أحرار؛ أنتم عبيد الدنيا ،واجتماع مثلكم كمثل القبور المج ا
قبيحلا ،وكذا اتصدلحون للناس واتدحبون إليهم
ص 611
بألسنتكم الحلوة ،وأفعالكم الجميلة ،واتدباعدون بقلوبكم القاسية وأحوالكم الخبيثة .يابن آدم! أخلص عملك واسألنى! فإنى أعطيك
أكثر مما يطلب السائالون((.
الموعظة الثامنة
يقول ا تعالى )) :يابن آدم! ما خلقتكم عبثلا ،ول خلقتكم سدى ،وما أنا بغافل ،وإنى بكم خبير .ولن تنالوا ما عندى إل بالصبر على
ما تكرهون فى رضائاى ،والصبر لكم على طاعتى أيسر لكم من الصبر على معصيتى ،وترك الذنب أيسر لكم من اعتذارى من
حر النار ،وعذاب الدنيا أيسر لكم من عذاب الخرة ،يابن آدم! كلكم ضال إل من هديته ،وكلكم امسىء إل من عصمته ،وتوبوا إلى
أرحمكم ،ول تهتكوا أسراركم عند من ل يخدفى عليه سمركم((.
الموعظة التاسعة
صادوهر دواهلدى دودرلحدمسة لرَللاملؤهمهنيدن﴾ ]يونس [57 :فلم ل يقول ا تعالى﴿ :ديا أدميدها الانا ا
س دقلد دجادءلتاكم املوهعدظسة رَمن اررَباكلم دوهشدفاسء لرَدما هفي ال م
صدلكم ،ول اتكهلمون إل من كالماكم ،ول اتطعمون إل من أطعمكم ،ول تاـكرمون تحسنون إل لمن أحسن إليكم ،ول تصلون إل من و د
صلون إل من أكرمكم؟ وليس لحد على أحد فضل ،إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله ،الذين ايحسنون إلى من أساء إليهم ،ودي ه
من قطعهم ،ويعفون عمن حرمهم ،ويأتمنون من خانهم ،وايدكالمون من هجرهم ،ويكرمون من اهانهم ،وإنى بكم لخبير((.
الموعظة الحادية عشرة
يقول ا تعالى )) :ياأيها الناس! إنما الدنيا دار لمن ل دار له ،ومال لمن ل مال له ،ولها يجمع من ل عقل له ،وبها يفرح من ل فهم
له ،وعليها يحرص من ل توكل له ،ويطلب شهواتها ،من ل معرفة له؛ فمن أراد نعمة زائالة ،وحياة منقطعة ،فقد ظلم نفسه وعصا
ض ۖ اقل لرَالـهه ۚ دكدت د
ب دعدلىى دنلفهسهه ت دواللدلر هربه ،ونسى الخرة وغرته دنياه ،وأراد ظاهر الثم وباطن هذا﴿ .اقل لرَدمن اما هفي الاسدمادوا ه
ب هفيهه ۚ الاهذيدن دخهساروا دأنفادساهلم دفاهلم دل ايلؤهمانودن ﴾ ]النعام.[12: الارلحدمدة ۚ دلديلجدمدعاناكلم إهدلىى ديلوهم اللهقديادمهة دل درلي د
ص 612
يابن آدم! راعونى وتاجرونى ،وعاملونى وأسفلونى فى ربحكم .عندى ما ل عيسن رأت ،ول أذسن سمعت ،ول خطر على قلب
بشر ،ول تنفذ خزائانى ول تناقص ،وأنا الدواهاب الكريم((.
الموعظة الثانية عشرة
يِ دفالردهابوهن ﴾ف هبدعلههداكلم دوإهايا د ت دعدللياكلم دوأدلوافوا هبدعلههديِ اأو ه
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! ﴿ديا دبهني إهلسدراهئايدل الذاكاروا هنلعدمهتدي الاهتي أدلندعلم ا
]البقرة .[40 :كما ل تهتدى السبيل إل بدليل ،كذلك ل طريق إلى الجنة بل عمل .وكما ل ايجمع المال إل بنصب ،كذلك ل تدخلون
الجنة إل بالصبر على عبادتى .فتقربوا إلى ا بالنوافل ،واطلبوا رضائاى برضا المساكين عنكم ،وارغبوا إلى رحمتى بمجالس
العلماء ،فإن رحمتى ل تفارقهم طرفة عين .قال ا تعالى :يا موسى ،اسمع ما أقول ،فالدحمق أنه من تاكبر على مسكين حشراته يوم
القيامة على صورة الاذر ،ومن تواضع له رفعته فى الدنيا والخرة ،ومن تعرض لهتك سر مسكين حشرته يوم القيامة غير مستور
سره ،ومن أهان فقيرال فقد بارزنى بالمحاربة ،ومن يؤمن بى صافدحته الملئاكة فى الدنيا والخرة((.
الموعظة الثالثة عشرة
يقول ا تعالى )) :يابن آدم! كم من سراج قد أطف دأته ريح الهوى ،وكم من عابد قد أفسده العجب ،وكم من غنى أفسده الدغناء ،وكم
من فقير أفسده الفقر ،وكم من صحيح أفسدته العافية ،وكم من عالم أفسده العلم ،وكم من جاهل أفسده الجهل؛ فلول مشايسخ اراكسع ،
ضسع ،وبهائام رثاتسع ،لدجعلت السماء من فوقكم حديدلا ،والرض صفصفلا ،والتراب رمادلا ،ولما أنزلت عليكم ب اخاشسع ،وأطفاسل ار ا وشبا س
ل
من السماء قطرة ،ولما أنبتت فى الرض من حبة ،ولصببت عليكم العذاب صيبا ((.
الموعظة الرابعة عشرة
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! اطلبونى بقدر حاجتكم إلى ،واعصونى بقدر صبركم على النار ،ول تنظروا إلى آجالكم المستأخرة،
ك إهال دولجدهاه ۚ دلاه اللاحلكام دوإهدلليهه اتلردجاعودن﴾ ]القصص.[88 : وأرزاقكم الحاصرة ،وذنوبكم المستترة و ﴿اكمل دشليءء دهاله س
الموعظة الخامسة عشرة
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! إن صلح دينكم ولحمكم ودمكم ،صلح عملكم
ص 613
ولحمكم ودمكم ،وإن فسد دينكم فسد عملكم ولحمكم ودمكم فل تكن كالمصباح يحرق نفسه ويضىء للناس ،وأخرج حب الدنيا من
قلبك ،فإنى ل أجمع حب الدنيا وحبى فى قلب واحد أبدال وارفق بنفسك فى جمع الرزق ،فإن الرزق مقسوم ،والحريص محروم،
والبخيل مذموم ،والنعمة ل تدوم ،والستقصاء شؤم ،والجل معلوم ،والحق معلوم ،وخير حكمة ا الخشوع ،وخير الغناء
القناعة ،وخير الزاد التقوى ،خير ما أتى فى القلوب اليقين ،وخير ما اأعطيتم العافية((.
الموعظة السادسة عشرة
يقول ا تعالى﴿ :ديا أدميدها الهذيدن آدمنوا لهدم تقولودن دما ل تفدعلودن﴾ ]الصف .[1 :وكم تقولون وتخلفون ،وكم تنهون عمل لستم عنه
ا د ا ل د د ا ا د ا ا
تنتهون ،وكم تأامرون ول تفعلون ،وكم تجمعون ما ل تأكلون ،وكم توبة يوم بعد يوم تؤخرون ،عاما ل بعد عام ثم لم اتنظرون،
أعندكم من الموت أمان؟ أم بيدكم براءة من النار؟ أم تحققتم الفوز بالجنان؟ أم بينكم وبين الرحمن رحمة؟ أبدطدرتكم النعم ،وأفسدكم
الحسان ،وغركم من الدنيا طول المل .ول تغتنموا الصحة والسلمة ،فأيامكم معلومة ،وأنفاسكم معدودة ،وقيدموا لنفسكم لما بقى
فى أيديكم .يابن آدم! أنك تقادم على عملك ،وإن كل يوم يهدم من عمرك ،من يوم خرجت من بطن امك ،وتدنو كل يوم من قبرك
حتى تدخله .يابن آدم! دمدثدلاكم فى الدنيا كمثل الذباب ،كلما وقع فى العسل انتشب فيه ،فكذلك أنت ،ل تكن كالحطب الذى يحرق نفسه
لغيره بالنار((.
الموعظة السابعة عشرة
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! اعمل كما أمرتك ،وانته عما نهيتك عنه ،أجعلك حيا ل ل تموت أبدال ،وأنا حى ل اموت أبدلا ،وإذا قلت
للشىء كن فيكون .يابن آدم! إن كان قولك مليحلا ،وعملك قبيحا ل فأنت رئايس المنافقين؛ وإذا كان ظاهرك مليحا ل وباطنك قبيحلا ،فأنت
من الهالكين .ايخادعون ا وهو خادعهم﴿ ،ايدخاهداعودن الالـده دوالاهذيدن آدمانوا دودما ديلخدداعودن إهال دأنفادساهلم دودما ديلشاعارودن﴾ ]البقرة .[9 :يابن
آدم! ل يدخل الجنة إل من تواضع لعظمتى ،وقدطع النهار بذكرى ،وكف نفسه عن الشهوات من أجلى؛ فإنى آوى الغريب وأؤمن
الفقير ،وأكرم اليتيم ،وأكون له كالب الرحيم ،وللرامل كالزوج العطوف الشفوق .فمن كانت هذه صفته كنت مجيبا ل له ،إذا دعانى
شيئاا ل أستجيبه ،وإذا سألنى أعطيته((.
الموعظة الثامنة عشرة
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! إلى من تشكونى وليس لمثلى تشكو؟ وإلى من تنسونى
ص 614
ولم أستوجب منكم ذلك؟ وإلى من تكفرونى ولست بظلم للعبيد؟ وإلى متى تجحد نعمتى؟ وإلى متى تستخف بكتابى ،ولم اكلفك ما
ل تطيق؟ وإلى متى تجفونى؟ وإلى متى تجحدونى وليس لكم رب غيرى؟ وإذا مرضتم فأى طبيب من دونى يشفيكم؟ فقد
شكوتمونى وسخطتم قضائاى ،وأنا الذى أرسلت السماء عليكم مدرارا فقلتم مطرنا بهذا النجم ،وأنا الذى انزلت عليكم رحمتى قدرا
مقدورا مكيول معدودا موزونا مقسوما ،فإذا جاء أحدكم قوت ثلثة أيام ،قال :أنا بدشير ولست بخير ،فقد جحد نعمتى ،ومن منع
الزكاة من ماله فقد استخف بكتابى ،وإذا علم بوقت الصلة لم يفرغ لها فقد غفل عنى((.
الموعظة التاسعة عشرة
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! اصبر وتواضع أرفعك ،واشكرنى أزدك ،واستغفرنى أغفر لك ،وإذا دعوتنى أستجب لك ،واتب إلى
صل رحمك أزد فى أجلك ،واطلب منى العافية بطول الصحة، أاتب عليك ،واسألنى اأعطك ،وتصادق اأبارك لك فى رزقك ،و ه
والسلمة فى الوحدة ،والخلص فى الرغبة ،والورع فى التوبة ،والغناء فى القناعة .يابن آدم! كيف تطمع فى العبادة مع الشبع؟
وكيف تطمع فى حب ا مع حب المال؟ وكيف تطمع فى الخوف مع خوف الفقر؟ وكيف تطمع فى الورع مع الحرص على الدنيا؟
وكيف تطمع فى مرضاة ا بغير المساكين؟ وكيف تطمع فى الرضا مع البخل؟ وكيف تطمع فى الجنة مع حب الدنيا ومع المدح؟
وكيف تطمع فى السعادة مع قلة العلم؟((.
الموعظة العشرين
س ل عيش كالتدبير ،ول ورع كالكف عن الذى ،ول احب أرفع من الدب ،ول شفيع كالتوبة ،ول يقول ا تعالى )) :يا أيها النا ي
عبادة كالعلم ،ول صلة كالخشية ،ول دظدفر كالصبر ،ول سعادة كالتوفيق ،ول زين أزين من العقل ،ول رفيق آنس من اللحللم .يابن
آدم! تفارغ لعبادتى أمل قلبك غنى ،واأبارك فى رزقك ،واأحل فى جسمك راحة ،ول تغفل عن ذكرى ،فإن غفلت أمل قلبك فقرلا،
وبدنك تعبا ل ونصبلا ،وصدرك هملا ،ولو أبصرت ما بقى من عمرك لزهدت فيما بقى من أملك .يابن آدم! بعافيتى وقويت على
طاعتى ،وبتوفيقى أديت فريضتى ،وبرزقى قوربت على معصيتى ،بمشيئاتى تشاء ما تشاء ،وبإرادتى تريد ما تريد لنفسك،
وبنعمتى اقمت وقعدت ورجعت ،وبكنفى أمسيت وأصبحت ،وفى فضلى عشت ،وفى نعمتى تقالبت ،وبعافيتى تجملت؛ ثم تنسانى
شكرى؟((. وتذكر غيرى ،فلهدم ل تؤدى حيقى و ا
)ص (615
الموعظة الحادية والعشرون
يقول ا تعالى )) :يا ابن آدم! الموت يكشف أسرارك ،والقيامة تبلو أخبارك ،والعذاب يهتك أسرارك ،فإذا أذنبت ذنبا فل تنظر
ت رزلقا قليلل فل تنظر إلى قلته ،ولكن انظر إلى من رزقك؛ ول تحقر الذنب إلى صغره ،ولكن انظر إلى من عصيت ،وإذا ارزق د
الصغير ،فإنك ل تدريِ بأيِ ذنب عصيته ،ول تأمن من مكريِ ،فإن مكريِ أخفى عليك من دبيب النمل على الصفا في الليلة
المظلمة .يا ابن آدم! هل عصيتني فذكرت غضبي؟ وهل انتهيت عما نهيتك؟ وهل أديت فريضتي كما أمرتك؟ وهل واسيت
المساكين من مالك؟ وهل أحسنت إلى من أساء إليك؟ وهل عفوت عمن ظلمك؟ وهل وصلت من قطعك؟ وهل أنصفت من خانك؟
وهل كلمت من هجرك؟ وهل أدبت ولدك؟ وهل أرضيت جيرانك؟ وهل سألت العلماء عن أمر دينك وادنياك؟ فإني ل أنظر إلى
صوركم ول إلى محاسنكم ،ولكن أنظر إلى قلوبكم ،وأرضى بهذه الخصال منكم((.
الموعظة الثانية والعشرون
يقول ا تعالى )) :يا ابن آدم! انظر إلى نفسك وإلى جميع خلقي ،فإن وجدت أعز عليك من نفسك ،فاصرف كرامته إليك ،وإل
اه دعدللياكلم دوهميدثادقاه الاهذيِ دوادثدقاكلم هبهه إهلذ قاللاتلم دسهملعدنا
أكرم نفسك بالتوبة والعمل الصالح إن كانت نفسك عليك عزيزة) .دوالذاكاروا هنلعدمدة ا
ف دسدنءة( )المعارج) (4 :ديلوام دوأددطلعدنا( )المائادة (7 :واتقوا ا قبل يوم القيامة ،يوم التغابن ،يوم الحاقة) ،ديلوءم دكادن هملقدداارها دخلمهسيدن أدلل د
دل دينهطاقودن } {35دودل ايلؤدذان دلاهلم دفديلعدتهذارودن( )المرسلت (35،36 :يوم الطامة ،يوم الصيحة )ديلولما دعابولسا دقلمدطهريلرا( )النسان:
ل( )النفطار .(19 :يوم الديمومة ،يوم الزلزلة ،يوم القارعة ،يوم فيه ترجف س دشليلئاا دواللدلمار ديلودمهئاءذ ه ا ه س لهدنلف ء
ك دنلف س
) .(10ديلودم دل دتلمله ا
ا ا ل ا ا
مواقع الجبال ،وحلول النكال ،وتعجيل الزوال ،يوم الصيحة والدرك ،يوم فيه تشيب الولدان) ،دولد دتكونوا دكالهذيدن دقالوا دسهملعدنا دواهلم
لد ديلسدماعودن( )النفال.(21 :
الموعظة الثالثة والعشرون
ا هذلكلرا دكهثيلرا دودسرَباحوها ابلكدرلة يقول ا تعالى) :ديا أدميدها الاهذيدن آدمانوا الذاكاروا دا
)ص (616
صيل( )الحزاب .(41،42:يا موسى بن عمران يا صاحب البيان ،اسمع كلمي! فأنا ا الملك الديان ،ليس بيني وبينك دوأد ه
ل
ترجمان ،دبشر آكل الربا بغضب الرحمن ،ومضعفات النيران .يابن آدم! إذا وجدت قساوة في قلبك ،وسقلما في بدنك ،وحرمانا في رَ
رزقك ،ونقيصة في مالك ،فاعلم بأنك تكلمت بما ل يعنيك .يابن آدم! ما يستقيم دينك حتى يستقيم لسانك ،ول يستقيم لسانك حتى
تستحيي من ربك .يابن آدم! إذا نظرت في عيوب الناس ونسيت عيبك ،فقد أرضيت الشيطان وأغضبت الرحمن .يابن آدم! لسانك
أسد ،إن أطلقته قتلك ،فهلكك في إطلق لسانك.
الموعظة الرابعة والعشرون
خذوها دعديوا( )فاطر .(6:اعلموا اليوم الذيِ تحشرون فيه فولجا فولجا ،وتقومون ل ا ا ا د ا ا د د ا
يقول ا تعالى :يابن آدم! )إهان الشليطادن لكلم دعدكو فات ه
شار اللاماتهقيدن إهدلى الارلحدمهن دولفلدا بين يديِ الرحمن صفا صفا ،وتقرؤون الكتاب حرفا حرفا ،وتسألون عما عملتم سرا وجهلرا) .ديلودم دنلح ا
) ( 85دودناسواق اللاملجهرهميدن إهدلى دجدهاندم هولرلدا( )مريم (85،86 :لكم وعد ووعيد ،فإني أنا ا ل شبيه لي ،وليس سلطان كسلطاني.
من صام لي في دهره خالصا أفطرته بألواني ،ومن بات في ليله قائالما كان له شأن من شأني ،ومن غض عينه عن محارمي أمنته
من نيراني .فأنا الرب فاعرفوني ،وأنا المنعم فاشكروني ،وأنا الحافظ فاحفظوني ،وأنا الناصر فانصروني ،وأنا الغافر
فاستغفروني ،وأنا المقصود فاقصدوني ،وأنا المعطي فاسألوني ،وأنا المعبود فاعبدوني ،وأنا العالم فاحذروني.
الموعظة الخامسة والعشرون
اا أداناه دل إهلدده إهال اهدو دواللدمدلهئادكاة دواأوالو اللهعللهم دقاهئالما هباللهقلسهط دل إهلدده إهال اهدو اللدعهزياز اللدحهكيام ) (18إهان الرَديدن يقول ا تعالى :يابن آدم! )دشههدد ا
خدرهة همدن اللدخاهسهريدن( )آل عمران: اه الهلسلام( )آل عمران) .(19 ،18 :دودمن ديلبدتهغ دغليدر الهلسلدهم هدينا ل دفدلن ايلقدبدل هملناه دواهدو هفي ال ه هعلندد ا
صا فأطاعه نجا ،ومن عرف الشيطان فعصاه سلم ،ومن عرف الحق .(85وبشر كل شيء أحسن بالجنة .ومن عرف ا خال ل
يِ .وإن فاتبعه أمن ،ومن عرف الباطل فاتقاه فاز ،ومن عرف الشيطان والدنيا ثم رفضهما سعد ،ومن عرف الخرة ثم طلبها اهد د
ا يهديِ من يشاء وإليه تقلبون .يابن آدم! إذا كان ا تعالى قد تكفل لك بالرزق ،فطول اهتمامك لماذا؟ وإذا كان الخلف من ا
فالبخل لماذا؟ وإذا كان إبليس عدو ا تعالى فالغفلة لماذا؟ وإذا كانت العقوبة بالنار ،فالستراحة لماذا؟ وإذا كان ثواب ا الجنة،
فالمعصية لماذا؟ وإذا كان
)ص(617 :
حب اكل املخدتاءل دفاخوءر( )الحديد.(23 : كل شيء بقضائاي فالجزع لماذا؟ )لكيل دتألدسلوا دعدلى دما دفادتاكلم دول دتلفدراحوا هبدما آدتااكلم دواا ل اي ه
الموعظة السادسة والعشرون
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! أكثروا من الزاد فإن الطريق بعيد ،وجدد القيام ل فإن البحر عميق ،وحققوا العمل فإن الصراط دقيق،
وأخلص الفعل فإن الناقد بصير .فشهواتك في الجنة ،وراحتك إلى الخرة ،ولديك الحور العين ،وكن لي أكن لك ،وتقرب إليي في
هوان الدنيا وحب البرار ،فإن ا ل يضيع أجر المحسنين((.
الموعظة السابعة والعشرون
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! كيف تعصون وأنتم تجزعون من حر الشمس ،وجهنم لها سبع طبقات ،فيها نيران يأكل بعضها بع ل
ضا،
في كل منها سبعون ألف شعب من النار ،في كل شعب سبعون ألف دار ،وفي كل دار سبعون ألف بيت ،وفي كل بيت سبعون ألف
بئار ،وفي كل بئار سبعون ألف تابوت من نار ،وفي كل تابوت سبعون ألف عقرب من نار ،على كل تابوت سبعون ألف شجرة من
زقوم تحت كل شجرة سبعون ألف قائاد من نار ،مع كل قائاد سبعون ألف ملك من نار ،وسبعون ألف ثعبان من نار ،طول كل ثعبان
سبعون ألف ذراع من نار ،في جوف كل ثعبان بحر من السم السود ،ولكل عقرب ألف ذنب ،طول كل ذنب سبعون ألف ذراع،
شوءر ) (3دواللدبلي ه
ت طوءر ) (2هفي دريق امن ا ب املس افي كل ذدنب سبعون ألف رطل من السم الحمر ،فبنفسي أحلف) ،دوالمطوهر ) (1دوهكدتا ء
ف اللدملرافوهع ) (5دواللدبلحهر اللدملساجوهر )) ((6الطور .(6-1 :يابن آدم! ما خلقت النيران إل لكل كافر ،ونمام اللدملعاموهر ) (4دوالاسلق ه
وعاق الوالدين والمرائاي ،ومانع الزكاة من ماله ،والزاني ،وآكل الربا ،وشارب الخمر ،وظالم اليتيم ،والجير الغادر ،والنائاحة،
حيلما( )الفرقان: اا دغافولرا در ه ت دودكادن ا ك ايدبرَدال ا
اا دسرَيدئااهتههلم دحدسدنا ء صالهلحا دفأ الودلهئا د
ب دوآدمدن دودعهمدل دعدملل د
ولكل مؤذيِ الجيران) ،إهال دملن دتا د
(7فارحموا أنفسكم يا عباديِ! فإن البدان ضعيفة ،والسفر بعيد ،والحمل ثقيل ،والصراط دقيق ،والناقد بصير ،والقاضي رب
العالمين((.
الموعظة الثامنة والعشرون
يقول ا تعالى )) :يا أيها الناس كيف رغبتم في دنيا فانية زائالة ،وحياة منقطعة؟ فإن للطائاعين الجنان يدخلون من أبوابها الثمانية،
في كل جنة سبعون ألف روضة ،في كل
)ص(618 :
روضة سبعون ألف قصر من الياقوت ،في كل قصر سبعون ألف دار من الزمرد ،في كل دار سبعون ألف بيت من الذهب
الحمر ،في كل بيت سبعون ألف مقصورة من الفضة البيضاء ،في كل مقصورة سبعون مائادة من الغبر ،على كل مائادة سبعون
ألف صحفة من الجواهر ،في كل صحفة سبعون ألف لون من الطعام ،حول كل مقصورة سبعون ألف سرير من الذهب الحمر،
على كل سرير سبعون ألف فراش من الحرير والستبرق والديباج ،حول كل سرير سبعون ألف نهر من ماء الحياة واللبن والعسل
والخمر ،في وسط كل نهر سبعون ألف لون من الثمار ،في كل بيت سبعون ألف خيمة من الرجوان ،على كل فراش حوراء من
الحور العين ،بين يديها سبعون ألف وصيفة كأنهن بيض مكنون ،على رأس كل قصر سبعون ألف قبة ،في كل قبة سبعون ألف
هدية من الرحمن ،ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر) ،دودفاهكدهءة هماما ديدتدخايارودن ) (20دودللحهم دطليءر هماما
ديلشدتاهودن ) (21دواحوسر هعيسن ) (22دكأ دلمدثاهل اللملؤلاهؤ اللدملكانوهن ) (23دجدزالء هبدما دكاانوا ديلعدمالودن( )الواقعة .(24-20:ل يموتون فيها ول
جيدن( )الحجر: يهرمون ،ول يحزنون ول يصومون ،ول يصلون ول يمرضون ،ول يبولون ول يتغوطون )دودما اهلم هملندها هباملخدر ه
.(48فمن طلبها وذكر كرامتي وجواريِ ونعمتي فليتقرب إلي بالصدق ،والستهانة بالدنيا ،والقناعة بالقليل((.
الموعظة التاسعة والعشرون
يقول ا تعالى)) :يابن آدم! المال مالي وانت عبديِ ،فما لك من مالي غل ما أكلت فافنيت ،أو لبست فأبليت ،أو تصدقت فأبقيت.
فأنا وأنت ثلثة أقسام :فواحد لي ،وواحد لك ،وواحد بيني وبينك؛ فأما الذيِ لي فروحك ،وأما الذيِ لك فعملك ،وأما الذيِ بيني
وبينك ،فمنك الدعاء ومني الجابة .يابن آدم! تورع واقنع ترني ،واعبدني تصر إليي ،واطلبني تجدني .يابن آدم! إذا كنت مثل
المراء الذين دخلوا النار بالفجور والعرب بالمعصية ،والعلماء بالحسد ،والتجار بالخيانة ،والجبرية بالجهالة ،والصناع والعباد
بالرياء ،والغنياء بالكبر ،والفقراء بالكذب ،فأين من يطلب الجنة؟((.
الموعظة الثلثون
يقول ا تعالى) :يا أميها د اليهذيدن آدمانولا لااتاقوا ا دحاق اتدقاهتهه دولد دتامواتان إهلا دوأناتم امسهلماودن( )آل عمران .(102 :يابن آدم! إنما مثل العلم
ل عمل كمثل البرق والرعد بل مطر ،ومثل العمل بل علم كمثل شجرة بل ثمرة ،ومثل العالم بل عمل كمثل قوس بل
)ص(619:
وتر ،ومثل المال بل زكاة كمثل من يزرع الملح على الصفا ،ومثل الموعظة عند الحمق كمثل الدر والجواهر عند البهائام ،ومثل
القاسي مع العلم كمثل حجر باقع .ومثل الموعظة عند من ل يرغب فيها كمثل المزمار عند القبور ،ومثل الصدقة من الحرام كمثل
من يغسل الناء القذر على ثوب ببوله ،ومثل الصلة بل زكاة كمثل جثة بل روح ،ومثل العالم بل توبة كمثل البناء بل أساس،
اه إهال اللدقلوام اللدخاهسارودن( )العراف.(99: اه دفل ديألدمان دملكدر ا
)أددفأ دهمانوا دملكدر ا
الموعظة الحادية والثلثون
يقول ا تعالى) :يابن آدم! بقدر ميلك إلى الدنيا ومحبتي من قلبك ،فإني ل أجمع حبي وحب الدنيا في قلب واحد أبلدا ،يابن آدم!
تورع تعرفني ،وتجوع ترني ،وتجرد لعبادتي تصل إلي ،وأخلص من الرياء عملك ،األبسك محبتي ،وتفرغ لذكريِ ،أذكرك عند
ملئاكتي .يابن آدم! في قلبك غير ا وترجو غير ا ا ،إلى متى تقول ا تعالى ،وتخاف غير ا؟ ولو عرفت حقا لما همك غير
ا ،ولم تخف إل ا ،ولم تفتر لسانك عن ذكر ا ،فإن الستيصال عن الصرار بتوبة الكاذبين .يابن آدم! لو خفت من النار كما
خفق من الفقر لغنيتك من حيث لم تحتسب .يابن آدم! ولو رغبت في الجنة كما ترغب في الدنيا ،لسعدتك في الدارين ،ولو
ضا لسلمت عليكم الملئاكة بكرة وعشيا ،ولو أحببتم عباديِ كما تحبون الدنيا لكرمتكم كرامة ذكرتموني كما يذكر بعضكم بع ل
المرسلين ،فل تملئاوا قلوبكم بحب الدنيا ،فزوالها قريب(.
الموعظة الثانية والثلثون
يقول ا تعالى) :صبرك على قليل من المعصية أيسر عليك من صبرك على كثير من عذاب جهنم) ،إهان دعدذادبدها دكادن دغدرالما(
ك راحة طويلة فيها نعيم مقيم .يابن آدم! عليك بالثقة بما ضمنت لك قبل أن )الفرقان .(65 :وصبرك على قليل من الطاعة ايعهقاب د
أطعم رزقك لغيرك ،وازهد في الدنيا قبل أن أزهد فيك ،وتخلص من الشبهات قبل أن تفنى حسناتك يوم الحساب ،واعمر قلبك
بذكر الخرة ،فليس لك مسكن غير القبر .يابن آدم! من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ،و من خاف النار كف عن الشر،
ومن نهى نفسه عن الشهوات نال الدرجات العلى .ويا موسى بن عمران! إذا أصابتك مصيبة وأنت على غير طهارة فل تلومن إل
نفسك .يا موسى! الفقر من الحسنات هو الموت الكبر .يا موسى! من لم يشاور ندم ،ومن استخار ل يندم(.
الموعظة الثالثة والثلثون
يقول ا تعالى عز وجل) :من طلب السمعة بعمله كان كمن ينقل الماء على ظهره
بداية صفحة 620
إلى الجبل ،يناله التعب و النصب و ل يقبل من عمله شئ ،و كلما اتحد بالماء ل يلين .يا بن آدم ! اعلم أني لم أقبل من العمل إل ما
كان خالصا لوجهي ،فطوبى للمخلصين ! يا بن آدم ! إذا رأيت الفقر مقبلل فقل :مرحبا بشعائار الصالحين ،و إذا رأيت الغنى نقبل
فقل :ذنوب عجلت عقوبة ،و لذا رأيت الضيف محبوسا ل هناك فقل :أعوذ بال من الشيطان الرجيم .يا بن آدم ! المال لي ،و أنت
عبديِ ،و الضيف رسولي ،أما تخشى أن أسلبك نعمتي ؟ الرزق رزقي ،و الشكر لك ،و نفعه عائاد عليك ،أفل تحمدني على ما
أنعمت عليك ؟ يابن آدم ! ثلث واجبات عليك :زكاة مالك ،و صلة رحمك ،و أمر عائالتك و أضيافك ،فإذا لم تفعل ما أوجبته
عليك ،جعلتك نكال للعالمين .يا بن آدم إذا لم ترع حق جارك كما ترعى حث عيالك ،لم أنظر إليك ،و لم أقبل عملك ،و لم
أستجب لدعائاك .يا بن آدم ! ل تتكل على مخلوق مثلك فأتكلك إليه ،و ل تتكبر على خلقي فإن أولك من نطفة ،و إني أخرجتها
من مخرج البول ) ،من بين الصلب و الترائاب ( ] الطارق . [7 :و ل تنظر إلى ما حرمت عليك ،فإن الدود أول ما يأكل منك
عينيك ؛ و اعلم أنك محاسب على النظرة و المحبة ،و اذكر مقامك غدال بين يديِ ،فإني ل أغفل عن سريرتك طرفة عين ،إني
عليم بذات الصدور".
الموعظة الرابعة و الثلثون
يقول ا عزوجل :يا بن آدم ! اخدمني ،فإني أحب من خدمني ،و استخدم له عباديِ ،فإنك ل تدريِ قدر ما عصيتني فيما مضى
من عمرك ،و لقدر ما تعصيني فيما بقى منه ؛ فل تنس ذكرى ،فإني فعال لما أريد ،و اعبدني ،فإنك عبد ذليل و أنا رب جليل .
لو أن إخوانك و محبيك من بني آدم وجدوا رائاحة ذنوبك ،و اطلعوا منك على ما أعلمه منها ،لما جالسوك و ل قاربوك ،فكيف و
هي في كل يوم زائادة ،و عمرك في كل يوم في نقصان منذ ولدتك أمك ! يا بن آدم ليس من انكسر مركبه و عاد على لوح من
خشب ،و أحاطته المواج في البحر بأعظم مصيبة منك ؛ فكن من ذنوبك على ااا و حين و من عملك على خطر .يا بن آدم ! إني
انظر إليك بالعافية ،و استر عليك ذنوبك ،و أنا غني عنك و أنت إلى بالمعاصي مع حاجتك إلي .يا بن آدم! تداريِ إلى متى ؟
تعمر الدنيا و هي فانية و تخرب الخرة و هي باقية .يا بن آدم ! تداريِ خلقي و تخافهم خوفا من مقتهم .يا بن آدم! لو أن أهل
السموات و الرض استغفروا لك لكان ينبغي لك أن تبكي على ذنوبك ،لنك ل تدريِ على أيِ حال تلقاني .يا موسى بن عمران
! اسمع ما أقول ،و الحق أقول :إنه ل يؤمن بي عبد من عباديِ حتى يأمن الناس شره و ظلمه و كيده و نميمته و بغيه و حسده .يا
موسى ) ،و قل الحق من ربكم فمن شاء فيؤمن و من شاء فليكفر ( ] الكهف .[ 29 :
بداية صفحة 621
الموعظة الخامسة و الثلثون
يقول ا عزوجل ):يا بن آدم ! إنك أصبحت بين نعمتين ،ل تدريِ أيهما أعظم ضدك ،أذنوبك المستورة عن الناس أم الثناء و
الحسن عليك و لو علم الناس ما أعلمه ،ما سلموا عليك .و أعظم من ذلك العافية ،و غناك عنهم ،و حاجتهم إليك ،و كف أذاهم
عنك .فاحمدني و اعرف قدر نعمتي عليك ،و أخلص عملك من الرياء ،و تزود كزاد المسافر الخائاف ،و جعل خيرك تحت
عرشي .يا بن آدم ! قلوبكم القاسية تبكي من أعمالكم و أعمالكم تبكي من أبدانكم ،و أبدانكم تبكي من ألسنتكم ،و ألسنتكم تبكي من
أعينكم .يا بن آدم ! خزائاني ل تنفذ أبدال فبقدر ما تنفق أنفق عليك ،و بقدر ما تمسك أمسك عليك .و إنما بخلك على المساكين بما
رزقتك لسوء ظنك و خوفك من الفقر ،و عدم ثقتك فدي ،لني جعلت أصل خلقتك الهتمام بالرزق ،فإذا اهتممت بالرزق و
رزقتك ،فأنفق و ل تبخل برزقي على عباديِ ،فقد ضمنت لك الخلف ،و و عدتك الجر ،فلم تشك في كتابي ؟ و من لم يصدق
بوعديِ ،و من لم يصدق بأنبيائاي ،فقد جحد ربوبيتي ،و من جحد ربوبيتي كببته في النار على وجهه" .
الموعظة السادسة و الثلثون
قال ا تعالى ":يا بن آدم ! أنا ا ل إله إل أنا فاعبدوني و اشكروا لي و ل تكفرون .يا بن آدم ! من عادى لي وليا ،فقد بارزني
بالمحاربة .و اشتد غضبي على من ظلم من ليس له ناصر غيريِ ؛ من رضى بما قسمت له ،باركت له في رزقه ،و أتته الدنيا
راغمة و إن كان ل يريدها ".
الموعظة السابعة و الثلثون
بقول ا عزوجل ":يا بن آدم ! ضع يدك على صدرك فما أحببته لنفسك ،فأحبه لغيرك .يا بن آدم ! جسدك ضعيف ،و لسانك
خفيف و قلبك جبار .يا بن آدم ! غايتك الموت فاعمل له قبل أن يأتيك .يا بن آدم ! لم أخلق عضوال من أعضائاك حتى خلقت له
رزقا .يا بن آدم ! لو خلقتك أبكم لتحسرت على البصر ،و لو خلقتك أصم لتحسرت على السمع .فاعرف قدر نعمتي عليك ،و
اشكر لي و ل تكفرني .فإلي المصير .يا بن آدم ! ما قسمته لك فل تتعب في طلبه ،و كل ما قسمته لك فهو يطلبك حتى تستوفيه .
يا بن آدم ! ل تحلف بي كاذبا ل فمن حلف بي كاذبا ل أدخلته النار .يا بن آدم ! إذا أكلت رزقي ،فاتبع طاعتي .يا بن آدم ! ل
بداية صفحة 622
تطالبني برزق غد ،فإني ل أطالبك بعمل غد .يا بن آدم ! لو تركت الدنيا لحد من عباديِ ،لتركتها على أنبيائاي حتى يدعوا
عباديِ إلى طاعتي ،و إلى إقامة أمريِ .يا بن آدم ! اعمل لنفسك قبل نزول الموت بك ،و ل تغرنك الخطيئاة ،فإن على آثارها
السفر ،و لتلهك الحياة و طول المل عن التوبة ،فإنك تندم على تأخيرها حين ل ينفعك الندم .يا بن آدم! إذا لم تخرج حقي من
المال الذيِ رزقتك إياه ،و منعت منه الفقراء ،حقوقهم ،سلط عليك جبار يأخذه منك ،و ل أثيبك عليه .يا بن آدم! إن أردت
رحمتي فالزم طاعتي ،و إن خشيت عذابي فاخذر من معصيتي .يا بن آدم! رضيت منك بالعمل القليل ،و أنت ل ترضى بالرزق
الكثير .يا بن آدم! إذا كسبت المال فاذكر الحساب ،و إذا جلست على الطعام فاذكر الجائاع ،و إذا دعتك نفسك على القدرة على
الضعيف فاذكر قدرة ا عليك ،و لوشاء ا لسلطه ،و إذا نزل بك بلء فاستعن بل حول و ل قوة إل بال العلي العظيم ،و إذا
مرضت فعالج نفسك بالصدقة ،و إذا أصابتك مصيبة فقل :إنا ل و إنا إليه راجعون ".
الموعظة الثامنة و الثلثون
يقول ا عزوجل ":يا بن آدم! افعل الخير ،فإنه مفتاح الجنة و يقود إليها ،و اجتنب الشر فإنه مفتاح النار و يقود إليها .يا بن آدم!
اعلم أن الذيِ تبنيه للخراب ،و أن عمرك للخراب و جسدك للتراب ،و ما جمعته للورثة ؛ فالنعيم لغيرك ،و الحساب عليك ،و
العقاب لك و الندم ،و الصاحب لك في القير العمل ؛ فحاسب نفسك قبل أن تحاسب ،و الزم طاعتي ،و احذر معصيتي ،و ارض
بما آتيتك ،و كن من الشاكرين .يا بن آدم! من أذنب ذنبا ل و هو ضاحك ،أدخلته النار وهو باك ،و من جلس باكيا من خشيتي
أدخلته الجنة و هو ضاحك .يا بن آدم! كم من غني يتمنى الفقر يوم حسابه ،وكم من جبار أذله الموت ،و كم من حلو مرره
الموت ،و كم من مسرور بنعمته كدرها عليه الموت ،و كم من فرحة أورثت حزنا طويل .يا بن آدم! لو تعلم البهائام ما تعلمون
من الموت ،ىمتنعت من الكل و الشرب حتى تموت جوعا ل و عطشا ل .يا بن آدم! لو لم يقدر عليك إل الموت و شدته لكان يجب
عليك أن ل تهدأ باليل ،و لتقر بالنهار ،فكيف و ما بعده أشد منه ؟ يا بن آدم! اجعل سره وراءك بما تناله من النعم في آخرتك ،
و ليكن أسفك على ما فاتك منها خيرات ،و ما آتيك من دنياك فل تفرح به ،و ما فاتك منها فل تأس عليه .يا بن آدم! من التراب
خلقتك ،و إلى التراب أعيدك ،و من التراب أبعثك ،فودع الدنيا و تهيأ للموت ،و اعلم أني إذا أحببت عبدال زويت عنه الدنيا و
استعملته للخرة ،و أريته عيوب الدنيا فيحذرها ،و يعمل بعمل الجنة فأدخله الجنة برحمتي ؛ و إذا بغضت عبدال أشغلته عني
بالدنيا و استعملته بعملها ،فيكون من أهل النار فأدخله النار .
بداية صفحة 623
يا بن آدم! كل عمر فان و إن طال ،و الدنيا كفئ الظلل ] يمكث[ قليلل ثم يذهب فل بعود إليك .يا بن آدم! أنا الذيِ خلقتك و أنا
الذيِ رزقتك ،و أنا الذيِ أحييتك ،و أنا الذيِ أميتك ،و أنا الذيِ أبعثك ،و أنا الذيِ أحاسبك ،فإن عملت شرال رأيته ،مع أنك ل
تملك لنفسك ضرال و ل نفعا ل و ل موتا ل و ل حياة و ل نشورال .يا بن آدم! أطعني و اخدمني و ل تهتم بالرزق ،فقد كفيتك أمره ،و
لتحمل هم شئ قد كفيته .يا بن آدم! كيف تحمل أمر شئ لم يقدر لك و لم تدركه ،كما أنك لم تأخذ ثواب عمل لم تعمله .يا بن آدم!
من كان سبيله الموت فكيف تفرح بالدنيا ؟ و من كان بيته القبر فكيف يسر في بيته في دار الدنيا ؟ يا بن آدم! رزق قليل و أنت
شاكر خير من كثير ] و أنت[ غير شاكر .يا بن آدم! خير مالك ما قدمته ،و شر مالك ما خلقته في الدنيا ،فقدم لنفسك خيرال تجده
عنديِ قبل أن يأخذك الموت .يا بن آدم! من كان مهموملا ،فأنا الذيِ فرجت همه ،ومن كان مستغفرال ،فأنا الذيِ أغفر له ،و من
كان تائابا ل /فأنا الذيِ نهيته ،و من كان عاريا ،فأنا الذيِ كسوته ،ومن كان خائافا ،فأنا الذيِ أمن خوفه ،ومن كان جائاعا ،فأنا
الذيِ أشبعه ،و إذا كان عبديِ على طاعتي و أرضى أمريِ ،يسرت له أمره و شددت له أزره ،و شرحت له صدره ،يا موسى !
من استغنى بأموال الفقراء و اليتامة أفقرته في الدنيا و عذبته في الخرة ،ومن تجبر على الفقراء و الضعفاء أعقبت بناءه الخراب
،و أسكنته النار ) ،إن هذا لفي الصحف الولى * صحف إبراهيم و موسى ( ] العلى ."[ 19 ،18 :
بسم ا الرحمن الرحيم
قانون التأويل
الحمد ل رب العالمين ،و الصلة و السلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ،و على ىله ،و صحبه أجمعين .و بعد :
فقد سئال المام الزاهد أبو حامد محمد بن محمد ]بن محمد [ الغزالي الطوسي رحمة ا عن بيان معنى قول رسول ا صلى ا
عليه وسلم ":إن الشيطان يجريِ من أحدكم مجرى الدم " ،هل هو يمازجه كالماء بالماء ،أم هو مثل الحاطة بالعود ؟ و هل هو
مباشرته للقلوب بتخايل من خارج تنقلها القوب إلى الحوايِ فتثبت فيها فيكون منها الوسواس ،أم يباشر جوهره جوهر القلوب ؟ و
هل يمكن جمع بين ما رسمته النبوة من هذا الوصف ،و مثله في ترائاي الجن لبني آدم في صور الحيوانات ،و في أشكال سواها
المختلفة ،مترائاي الملئاكة عليهم الصلة و السلم للنبياء في صور بني آدم ؟ أم صورتهم على تلك المثلة فينكشف الغطاء عنها
لمن قدر له رؤيتها ،ثم يحدث فيها كثافة جسمانية كما يحدث في الملئاكة ؟ و هل من سبيل إلى الجمع بين هذا القول من الشرع في
الجن و الشياطين ،و بين قول الفلسفة إنها أمثلة و عبارة عن الخلط الريعة التي في داخل الجسام لتدبيرها ،أم ل ؟
بداية صفحة 624
و ما يظهر من المصروعين هل هو كلم الجني الذيِ يصرعه ،أم هو اسان المصروع ببر سام يعتريه من شدة ما يناله منه؟ و
كيف إخبارهم بالغوائاب التي في القوى و لم تخرج بعد إلى الفعل ؟ و الطبيعيون يقولون في ذلك ما تعلمه من ثوران خلط الشوداء
و غلبته فيكون منه ذلك و يسمونهم بخلط الريح ،و هل بينهما علة جامعة أم ل ؟ و كيف المثل الذيِ أخبر به النبي صلى ا عليه و
سلم في إدبار الشيطان عند الذان و له حصاص ؛ هل أريد بذلك المثل منا تقول العرب :مضرط الحجارة ،و فلن يحدث من
الشدة ،أم يتصور في ذلك الوقت جسم يكون منه ما يكون من التغذيِ ؟ و كيف يكون الروث و العظم لهم غذاء و قد يكون بالشم ،
و البسيط ل تصح فيه الحواس المركبة ؟
و كيف يكون الحقيقة في البرزخ ؟ و هل أهله من قبيل أهل الجنة ،أم من قبيل أهل النار ؟ فليس هناك منزلة تتصور إل في الجنة
و النار ،و إن قيل إنه الفصل المشترك المعبر عنه بالسور الذيِ له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب ،هل هو
صحيح ،أم هو غيره ؟
ص 630
وأما الكلم المسموع من المصروع فهو كلمه ،وقوله القائال تكلم الجنى بلسانه كلم غير معقول .نعم ،الجن سبب
لوقوع خواطر وتمثيلت وخيالت فى قلبه ،تنبعث بسببه داعية الكلم والحركة ؛ وكلمه مثل كلم النائام ،والنائام هو المتكلم ل
غيره .وأما إخبار المصروع بالغيب فسببه أن جميع ما كان وما يكون مسطور ثابت فى شئ خلقه ا ،تارة يسمى لوحا ،وتارة
إمالما ،وتارة كتالبا ،كما قال ا تعالى ) :هفي هكدتا ء
ب ممهبيءن( ]النعام ،59 :يونس ،61:هود ،6 :النمل ،75:سبأ) .[3:هفي إهدماءم
امهبيءن( ]يس.[12:وثبوت الشياء فيه كثبوت القرآن فى دماغ الحافظ للقرآن ،وليس مثل الرقوم المكتوبة المرتبة فى جسم متناه؛
لن غير المتناهى ل يمكن أن يكتب فى المتناهى كهذه الكتب الظاهرة .والقلب مثل مرآة ،واللوح مثل مرآة ،ولكن بينهما حجاب،
فإذا ارتفع تراءى فى القلب الصور التى فى اللوح .والحجاب هو الشاغل ،والقلب فى الدنيا مشغول ،وأكثر اشتغاله التفكر فيما
يورده الحس عليه ؛ فإنه من الحواس فى شغل دائام .فإذا ركدت الحواس بالنوم أو الصرع ،ولم يكن من فساد الخلط شاغل آخر
فى الباطن ،ربما يرى القلب بعض تلك الصور المكتوبة فى اللوح ؛ وتحقيق هذا يطول ،وقد أشرت إلى ملمح منه فى كتاب "
عجائاب القلب " .وكذلك ما يظهر عند سكرات الموت حتى ينكشف للنسان موضعه من الجنة فيكون بشرى ،أو من النار والعياذ
بال فيكون نذيلرا ؛ لن الحواس تركد فى مقدمات الموت قبل زهوق الروح.
وأما حديث غذاء الشيطان من العظم ،وحصاصه ،وحديث الحوض ،والبرزخ فما عندى فى تفصيل المراد به تحقيق؛
بل بعض ذلك مما أوصى بالكف فيه عن التأويل ،وبعضه مدركه النقل المحض ،وبضاعتى فى علم الحديث مزجاة ،فموضع
الحوض ل يعرف إل بمجرد النقل فيرجع فيه إلى الحاديث .والبرزخ يمكن أن يكون المراد به مرتبة بين الجنة والنار لمن ليست
له حسنة ول سيئاة ،كالمجنون ،والذى لم تبلغه الدعوة .والحكم بأن المراد إحداهما دون الخرى تخمين إل أن يدل عليه النقل ،
وا سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
ص 631
الفهرس
الصفحة الموضوع
5 الحكمة فى مخلوقات ا عز وجل
50 معراج السالكين
100 روضة الطالبين وعمدة السالكين
174 قواعد العقائاد فى التوحيد
178 خلصة التصانيف فى التصوف
194 القسطاس المستقيم
229 منهاج العارفين
239 الرسالة اللدنية
253 فصل التفرقة
274 أيها الولد
286 مشكاة النوار
312 رسالة الطير
316 الرسالة الوعظية
319 إلجام العوام عن علم الكلم
355 المضنون به على غير أهله
381 الجوبة الغزالية فى المسائال الخروية
391 بداية الهداية
430 الدب فى الدين
447 كيمياء السعادة
457 القواعد العشر
462 الكشف والتبيين
ص 632
الصفحة الموضوع
478 سر العالمين وكشف ما فى الدارين
548 الدرة الفاخرة فى كشف علوم الخرة
578 المنقذ من الضلل
608 المواعظ فى الحاديث القدسية
623 قانون التأويل
631 الفهرس