You are on page 1of 20

‫نسق " املفكر الفحل" يف سياق الثقافة العاملة اجلزائرية الراهنة‪ ،‬رؤيا‬

‫تأويلية‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫بوزيان بغلول‬

‫مقدمة‪ :‬بادئ ذي بدء ال بد من مالحظة أن ظاهرة " الشاعر الفحل" و"الروائي الفحل" و"الناقد‬
‫الفحل" كانت وال زالت إحدى انشغاالت النقد الثقافي‪ ،2‬لم تكن لتتطور بصورة مذهلة إلى نسق‬
‫مضمر ال شعوري جديد‪ ،‬وال في محاولة إخراجه من هامشيته إال نادرا‪ ،‬بخاصة في المجتمعات‬
‫المحافظة المنغلقة أال وهو نسق " المفكر الفحل"‪ ،‬لوال بعض األحداث البارزة التي خلعت حجاب‬
‫سديمي كان مضروب بإحكام على هكذا نسق‪ ،‬فكان بداية تبلوره الحقيقي هو المناقشات‬
‫والتأويالت الحادة التي أعقبت أحداث الربيع العربي ولوال مساهمة األنترنت و وسائل اإلعالم‬
‫واالتصال الجديدة في ظهور فجائي لطبقة متسرعة في إلقاء األحكام الجاهزة عبره‪ ،‬أطلقت على‬
‫وطور اسم العلمانيين الجدد (علمانيين‬
‫ا‬ ‫نفسها تارة اسم مفكرو االجتهاد (إسالميين وعلمانيين معا)‬
‫فقط) لعل الناقد عبد هللا الغذامي نفسه لو أمعن النظر إلى تلكم النخبة لضمها إلى قائمة أنساق‬
‫الفحولة في الثقافة العربية الراهنة نتيجة‪ 1 :‬ـ ـ حرقها لمراحل التكوين ‪ 2‬ـ ـ غياب كلي أو جزئي‬
‫لتطبيق المنهج العلمي ‪ 3‬ـ ـ العوز اللغوي الشديد‪ .‬ذلك أن المبحث األنطولوجي المتعلق‬
‫بالمؤلف‪/‬مرسل الخطاب كذلك معني بمضمرات الثقافة وحيلها‪ ،‬حيث "المبادئ الوضعية التي‬
‫يرتكز عليها المنهج البنيوي والتي تصاغ النظريات العلمية على أساسها عبارة عن مرتكزات‬
‫أنطولوجية وأنثروبولوجية وإبستمولوجية‪ ،‬وكما هو معلوم فالمباحث األنطولوجية تتمحور حول‬
‫مجموعة من األسئلة التي تستفسر عن قضايا من التي من جملتها‪ :‬هل العلم بوجود شيء يوصف‬
‫بكونه حقيقيا؟ ما هو التفسير العلمي الصحيح لألمر الحقيقي؟‬

‫وأما المباحث األنثروبولوجية فتطرح في رحابها أسئلة حول دور اإلنسان في الوجود وكل ما‬
‫يمت بصلة بكيانه‪ ،‬في حين أن المباحث اإلبستمولوجية‪ ،‬يتم فيها تسليط الضوء على حقيقة العلم‬
‫والمعرفة وشتى السبل الكفيلة ال ستكشاف الحقائق‪ .‬من المؤكد أن معرفة االستنتاجات الفلسفية‬
‫الصائبة لكل نظرية تستوجب إلمام الباحث باألطر العامة لمختلف التيارات الفكرية التي لها تأثير‬
‫في صياغته ا‪ ،‬فالتنظير العلمي ال يقتصر على الخلفيات اإلبستمولوجية فقط‪ ،‬وإنما هناك خلفيات‬
‫أنطولوجية مؤثرة على مض مونه‪ ،‬وهذه الخلفيات عادة ما تغرس في نفس المنظر دوافع خاصة‬
‫‪1‬‬
‫لطرح ما يجول في خاطره من مبادئ اجتماعية وثقافية في رحاب نظريات؛ لذا يقال أن منهجية‬
‫العلوم اإلنساني ة تتجاوز نطاق ارتباط النظرية بالمبادئ الفلسفية وتدور في فلك تحليل دور‬
‫العناصر غير اإلبستمولوجية ذات التأثير في ظهور إحدى النظريات‪ ،‬ومن جملة هذه العناصر ما‬
‫يعتبره المفكرون خلفيات اجتماعية وفكرية التيارات واالتجاهات المؤثرة على المنظومة الفكرية‬
‫‪3‬‬
‫للمنظر‪ ،‬وهذه األمور تندرج في واقع الحال ضمن الخلفيات األنطولوجية"‬

‫‪1‬ــــ السياق الثقايف ونسق الفحولة‪:‬‬

‫وستجد أن هذا النسق "الفحل الثقافي" مثال له سياقه الخاص قد يتقلص فضاؤه في بعض‬
‫الممكنات السياقية‪ ،‬ألن مثلما هناك ممكنات نسقية هناك ممكنات سياقية منها ما هو خاص وهي‬
‫تلك المتعلقة بالنظام المؤسساتي؛ نظام كليات اللغة العربية وآدابها تبع المدن الكبرى كالعاصمة‬
‫الجزائر‪ ،‬فقط هي التي تعكس المنظومة الثقافية المحلية وتجاري نس قا من أنساقها‪ ،‬نتيجة الحجم‬
‫الديموغرافي وتواجد األجانب وأكبر المؤسسات فيها‪ ،‬هنا ستجد هذا الفحل وهو في نهاية‬
‫األربعينات من العمر لكنه بلغ ما بلغ من التكفل بمناقشات الدراسات العليا وترؤس المجالس‬
‫العلمية‪ ،‬سيدفعك الفضول حتما لمعرفة المزيد‪ ،‬لكن لألسف ليست بجماليات النقد وال األدب ‪ 4‬لكنها‬
‫قبحياتهما عبر نسقين‪ :‬ظاهر مخادع ومضمر ثقافي ـ ـ وإن كان آيزابرجر يقول عكس الغذامي‬
‫بشعريات‪/‬جماليات السياق والنسق في النقد الثقافي ـ ـ فشئنا أم أبينا إذن فسنجد صاحبنا هذا ركيك‬
‫اللغة‪ ،‬أجل وضعيفها ألنه متفرنس زيادة عن اللزوم‪ ،‬ومفتقد لسالسة التعبير بها فإذا تكلم َع َّي وإذا‬
‫ق أر تأتأ وأخطأ برغم اجتهاده لإللمام ب قواعدها ونحوها؛ وهذا عوز لغوي وحرق للمراحل في نفس‬
‫الوقت‪ ،‬ولما كان النص يتداخل مع الخطاب واألثر األدبي فإنك ستجد أن هذا النسق خاص بفئة‬
‫معينة من المنتسبين لألدب تأتي عوامل ال نشأة اللغوية العاصمية عليهم بادية‪ ،‬ولما كانت غاية‬
‫الخطاب األدبي هو تشكيل للغة التي ال يمتلكها إال المتمكنين منها فهي لغة عصية وصعبة‪ ،‬وهذا‬
‫ما أورده الباحث األسلوبي عبد السالم المسدي بقوله‪ « :‬الخطاب األدبي خلق لغة من لغة أي أن‬
‫صانع األدب ينطلق من لغة موجودة فيبعث فيها لغة وليدة هي لغة الخطاب األدبي وتتميز‬
‫باختالفها عن لغة الخطاب العادي بأن لغة هذا األخير مكتسبة بال مران والممارسة واالحتكاك‬
‫‪5‬‬
‫باآلخرين‪ ،‬تنشأ وتستمر باستعمالها المألوف لدى الناس بفعل العادة واالتصال»‬

‫وكما أن هناك حرق المراحل الفردي هناك حرق المراحل الجماعي‪ ،‬حيث من المعروف في‬
‫تاريخ النقد األدبي المغاربي أنه يخلو من أو يكاد من مرحلة النقد التقليدي ومع ذلك يريد تجاوزه‬

‫‪2‬‬
‫بشتى الطرق حتى الخبيثة منها‪ ،‬ومرحلة النقد التقليدي بارز أثرها في تاريخ النقد األدبي العربي ـ ـ‬
‫وهي التي شيدت عصر النهضة العربية ـ ال مناص أن يهرول المغاربة مستب قين حتى نظرائهم‬
‫المشارقة في ترجمة وتلقي المناهج العلمية البنيوية إما لعدم تخطيط مدروس أو لفحولة أو هما‬
‫على حد السواء‪ ،‬من ثمة ظهرت نتيجة هذا الحرق للمراحل في سياق كسياق المغرب العربي ال‬
‫عملية أو ال جدوى تلك المناهج وغموضها ‪ ،‬الختالف سياقه السوسيو ـ ثقافي واللغوي مع سياق‬
‫المنشأ لتلك المناهج‪ ،‬والتقليدية في النقد األدبي (بافتراض مصطلح "التقليدية" بالبرهان بالتراجع أنه‬
‫صحيح عمليا) هي شرط ومرحلة جوهرية لمرور أي نقد إلى الحداثة أي إلى المناهج البنيوية‪ ،‬فهل‬
‫توف ر في تاريخ المغرب العربي شيء اسمه النقد التقليدي حتى يتم تجاوزه؟ إنه لم يتوفر بعناية‬
‫واهتمام راسخ‪ ،‬لكنه كان نقدا واقعيا أو رومانسيا للرواية الواقعية أو الرومانسية ومختل لما اعتورته‬
‫فجاجة وركاكة التعبير المنجر عن وضع تاريخي عرفه مسار تطور الهوية اللغوية في هذه البدان‪،‬‬
‫ولو توفر ألخذت األجيال الجديدة عن الجيل الرائد الحد األدنى من العالقة باللغة العربية على‬
‫األقل‪ ،‬لكنها قطعته بحرق المراحل فشهدت حداثتها مسخا حداثيا إن صح التعبير‪ .‬كل ما في‬
‫األمر أن من يقف وراء مصطلح التقليدية في النقد األدبي المغاربي المعاصر هو الوقوع في فخ‬
‫القفز والحرق المؤلم والمكلف للمراحل؛ عندما ظل نقاد المغرب العربي واألقصى بالخصوص‬
‫يعيدونا على أسماعنا وطيلة ثالثين عامة‪ ،‬ونعني بهم الخمسة المشهورين (محمد برادة ومحمد‬
‫مفتاح‪ ،‬حميد لحم داني وسعيد بن كراد وسعيد يقطين) ومن والهم مغاربيا‪ ،‬امتعاضا من النقد‬
‫التقليدي المعتني بمسكوكات البالغة والنحو ومأثورات القول وزجرهم إياه تحت طائلة أنه ليس من‬
‫موضوع علم للغة الحديث الذي جاءت به الحداثة!‬

‫فإذن كيف سيكون حال السياق األدبي مع هذا النسق ناقدا أو مخاطبا؛ فإذا اعتبرناه مرسال‬
‫فهو يقطع الرسالة األدبية‪/‬الوظيفة الشهرية من الوهلة األولى‪ ،‬والفحل مقدام بطبعه لكنه لم يتوقف‬
‫يوما عن دراسته الثقافية أو نشاطاته العلمية رجوعا إلى الوراء لتعويض ما فاته من هذه القواعد‪،‬‬
‫ألنه لم يجد من ينافسه أو ينقده أو حتى ينبهه ‪ ،‬وقد لعب الغش والتواطؤ عليه‪ ،‬والتملق‬
‫والمجامالت معا في رهن المستوى الجيد واستبداله بخدمة المصالح الشخصية التي تمر تحت‬
‫الطاولة (ال تكشف إال عندما يحدث جور ألحد األطراف فال يحظى بكامل حصته من تلك‬
‫الخدمة) القفز على المراحل في الدراسات العليا متجل أكثر لهذا السبب فتجده صاحبه بعد نيله‬
‫للماجستير ال يقدم أي بحث (في المجالت المحكمة المخصصة لذلك) قبل مناقشته الدكتوراه مثله‬
‫مثل جميع الطلبة‪ ،‬مع ذلك يناقش ويأخذ درجة عالية ثم بعد أن يبدأ في التدريس ينتقل مباشرة إلى‬

‫‪3‬‬
‫تدريس الماستر والماجستير بل إلى اإلشراف عليها بدون أي أقدمية مهنية في التدريس بالليسانس‬
‫مثال والتي من شأ نها تركيم المعارف وتعميقها‪ ،‬بل األدهى واألمر أمام هذا األستاذ المعضلة الذي‬
‫ولد بشنبه هو في ترأسه اللجان العلمية ووفاضه مازال خاوي الوفاض من أي كتاب في تخصصه‬
‫أو على األقل بحث متميز ويساهم في دو ارن الحلقة واستمرارها بطلب العالقات المشبوهة والبحث‬
‫عن المجامالت والتملقات كي يضمن خليفة له!‬

‫وال بد عندئذ أيضا من وضع المنهج العقلي البرهاني في مقابلة للمنهج التأويلي ـ ـ الذي هو‬
‫إخراج الداللة المجازية (التي تحوي معنيين ظاهر وباطن) من الداللة الحقيقية أو العكس‪ ،‬ألن‬
‫النص بطبيعته يحمل اللفظ معنى ال تقتضيه اللغة‪ ،‬والمؤول هو الذي ينقله من معناه المجازي إلى‬
‫معناه الحقيقي ـ ـ في سياق معاصر ولن يكون ذلك السياق إال سياق التيار الفكري المعروف بما‬
‫بعد الحداثة‪ ،‬وحتى ال نالم من قبل العلمانيين واإلسالميين فإن القراءة التأويلية (البرهانية) هاته‬
‫ستأخذ في االعتبار مقولة تشظي العقل إلى عقول‪ ،‬بالتالي أي فكرة تأويلية قد تبرز وتتجلى من‬
‫خالل ما يعرف بالمتشابه في النص القرآني فإنها تضع بعين االعتبار ما أصبح يسمى في فكر ما‬
‫بعد الحداثة "العقل اإلسالمي" ـ ـ المتمي ز تمام التميز عن العقل الغربي‪ ،‬ذلك العقل الذي يؤول العلم‬
‫من وجهة إيمانية ـ ـ ليس ذلك القلب الذي ينبض في المخ مزودا إياه برؤيويته المرتكزة على معطى‬
‫حسي‪ ،‬ال استجابة للجدل الصاعد من العالم المحسوس إلى عالم المثل والعكس عند أفالطون‪ ،‬وال‬
‫الجدلية المثالية الهيغيلية‪ ،‬وال المادية الجدلية الماركسية و إنما عودة ال بد منها إلى نظرية نقد‬
‫العقل الخالص (‪ )1781‬إليمانوا ل كانط الذي يقول فيها أن العقل اإلنساني مكتفي لذاته‪ ،‬وهو ليس‬
‫في حاجة إلى أخالق أو دين خارجية ألن ماهية الع قل ال تسمح لإلنسان الحسم في قضية اإلله‬
‫بل أن تلك القضية ال تهمه أصال‪.‬‬

‫فما بعد الحداثة كشفت النقاب عن اقتراب نظرية كانط «األخالق والدين مفهومين مؤسسين‬
‫على عقل اإلنسان بإ رادته الحرة بمعنى أن قلب اإلنسان في ذاته هو قلب عاقل» من مبدأ تشظي‬
‫العقل نفسه‪ .‬هذا الفكر الفلسفي الغربي المتعلق بماهية العقل والروح عند كانط نجد له آثار عند‬
‫المفكر ال عقلي البراغماتي‪/‬الواقعي ابن رشد؛ عندما يجمع بين العقل والنقل في منهج واحد هو‬
‫التأويل البرهاني‪ /‬التوفيقي إن صح التعبير‪ ،‬ليقف ضد الجمهور والمتكلمين الخائضين في أمور ال‬
‫ليس باليسير الخوض فيها إال من زاد عن العقل والنقل حكم ًة صوفي ًة وخبرة نهاية العمر أو قل‬
‫أمور لم يكن ليقتحموها لوال وجود نقص معرفي وإيماني عندهم حملهم على تبييت نية النيل من‬
‫القرآن ـ ـ و القرآن أسماهم بالذين في قلوبهم مرض أو نزغ أو زيغ ـ ـ هؤالء المتكلمين ومن شابههم‬
‫‪4‬‬
‫هم في عصرنا يماثلون إلى حد رهيب المثقفين والباحثين و"المفكرين" الذين يحرقون أو حرقوا‬
‫المراحل في تكوينهم العلمي وفي أبحاثهم العلمية ضمن النطاق النخبوي واألكاديمي الجزائريين‪،‬‬
‫نتيجة لتمنهجهم في نطاق ثقافة فحولية غير واعية بذاتها كما يسميها الناقد عبد هللا الغذامي‪ ،‬فلو‬
‫أنهم شعروا بها لما تفرعنوا حد التعدي على القرآ ن والسنة المسندة واقعين في أخطاء تأويلية‬
‫كارثية‪ ،‬أو على األقل لتفرغوا لتخصصات هي دون تخصص نقد الخطاب الديني لبرهة من الزمن‬
‫قصد مزيد من اكتساب للثقافة والتجارب‪ ،‬أو قل لو أنهم نقدوا ذواتهم ولجموها بتكسير ثقافة الفحولة‬
‫فيهم أوال تقويما لهرم النقد والفكر الجزائريين المقلوب ليماثل نظيره المصري‪:‬‬

‫كيف تشكلت طبقة النخبة المثقفة المصرية المعاصرة إلى أيامنا والتي ساهمت في نشر الوعي‬
‫الثقافي والثقافة نفسها بعد أن حملت مشعلها عن النخبة الكالسيكية أو النخبة الحديثة أو نخبة‬
‫اإلحياء؟ ال مراء بأنها تشك لت في معظمها جراء مخطط نهضوي شامل‪ ،‬بإعطاء المثقف المسئول‬
‫مستوى ال‬
‫ً‬ ‫في الدولة المصرية الحديثة األولوية لتكوين الفرد تكوينا تعليميا وجامعيا وأكاديميا ذو‬
‫يخالطه أو يعتريه شك بأي حال من األحوال‪ ،‬والنتيجة التي تدل على ذلك هو نقد النخبة لنفسها‬
‫نقدا ذاتيا غربلة و تمحيصا م ار ار وتك ار ار بخاصة قبل وبعد ابتكار منهج النقد الثقافي‪ ،‬ذلك النقد‬
‫الذي أحتضن عربيا أول ما أحتضن في مصر والخليج العربي لتطبيقه ال النظر إليه في المرآة‪،‬‬
‫حتى ولو كان في سياق مختلف عن سياقه الغربي‪ ،‬تطبيقه حتى على جميع "الهامات" أو أنساق‬
‫الفحولة المتجبرة والطاغية فكريا كما يسميها عبد هللا الغذامي‪ ،‬التي تشكلت في ضمير المجتمع أو‬
‫مخيال األمة الجمعي الواحدة دون وعي (حتى أصبحت ثقافة) ولعل الوعي بها سيزداد مع‬
‫مقاومتها لكل محاوالت تجريدها من رسوخيتها المقلقة المحيرة ضمن السياق الفكري والثقافي‬
‫المحليين بقوله ‪ « :‬فرع من فروع النقد النصوصي العام‪ ،‬ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول‬
‫معني بنقد األنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه‬
‫ّ‬ ‫األلسنية‬
‫وصيغه‪ ،‬ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء‪ .‬ومن حيث دور كل‬
‫منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي (‪ ، )..‬وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة‬
‫البالغي الجمالي‪ ،‬فكما أن لدينا نظريات في الجماليات فإن المطلوب إيجاد نظريات في‬
‫القبحيات ال بمعنى عن جماليات القبح‪ ،‬مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البالغي‬
‫في تدشين الجمالي وتعزيزه‪ ،‬وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة األنساق وفعلها‬
‫المضاد للوعي وللحس النقدي» ‪ 6‬الجئا إلى القراءة التأويلية طبعا ألن التأويل نمر به إلى‬
‫المجاز الكلي في النقد الثقافي وهو البحث في اللفظ عن المضمر الداللي‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫يميز بين السمات اإليجابية والسمات السلب ية التي ينبغي‬
‫كما يؤكد الغذامي أن «على الناقد أن ّ‬
‫التركيز عليها ألن هذا يقودنا إلى التعرف على عيوبنا الحضارية والعراقيل التي اعترضت مسيرة‬
‫النهضة العربية‪ .‬وقد اختار الغ ّذامي نسق "الفحل" الذي يؤكد أنه في الثقافة العربية قد انتقل من‬
‫الشعر إلى مختلف نواحي الحياة‪ .‬فصار لدينا‪ ،‬إلى جانب الشاعر الفح ل‪ :‬الفحل االجتماعي‬
‫‪7‬‬
‫والفحل الثقافي والفحل اإلعالمي والفحل السياسي‪»...‬‬

‫محاوالت ألفينا تجلياتها بخاصة في حرق المرحلية في األبحاث والنقود األكاديمية بفحولة بل‬
‫بتغول ينم عن اصطناع الطاغية إن صح التعبير في السياق الجزائري‪ ،‬هذه التي نسميها‬
‫التجاوز باإليديولوجية في التدرج أو ما بعد التدرج‪ ،‬القفز على المراحل في البحث والتفكير العلمي‬
‫يعني ولوج محطات نقدية فكرية قف از إليها من محطات نقدية أدبية مثال دون مراعات النتائج‪،‬‬
‫الظاهرة جد ضيقة لدى النخبة المثق فة األكاديمية وغيرها في مصر‪ ،‬كما بدت لنا خارطتها في‬
‫شكل سالمة هرم النقد المصري المعاصر‪ :‬قاعد ة عريضة مجال تخصصها نقد الحياة والمجتمع‬
‫بكل أشكالهما الشعبية ثم فوقها نخبة مختصة في نقد المعرفة ونقد معرفة المعرفة والتي من‬
‫ضمنها من يقدم تلك المعرفة أو من يقدم معرفة المعرفة‪/‬المنهج‪ ،‬أي النقد الذي يستخدم كأداة‬
‫الصيغتين كيف ولماذا شكال ومضمونا‪ .‬وأخي ار يقع في قمة الهرم النقاد والمفكرون الحذقون ذووا‬
‫التجارب والخبرات الطويلة هؤالء عندما يطرحون علينا دراساتهم في تأويل القرآن ال نستغرب‪،‬‬
‫فتمكنهم وقلتهم يفسره اختيارهم للتخصص الصعب سواء عن فراسة؛ وفقط في مثل هذه الحالة قل‬
‫أصحاب نسق الفحولة بين أكاديميو ومثقفو الديار المصرية‪ .‬أما هؤالء الذين ينزعون بعد حصولهم‬
‫على درجاتهم العلمية على مدى قريب دخول ال شعوري إلى حلقة نقد الفكر والخطاب الدينيين‪،‬‬
‫وما أدراك ما نقد الفكر والخطاب الد ينيين وربما حاالت فيهم ال توفق حتى في استعمال المصطلح‬
‫الصحيح لضعف قدراتهم اللغوية أيضا ـ ـ يستعملون بدله اسم فضفاض هو تخصص نقد التراث ـ‬
‫فنجد عددهم بألوف مؤلفة عندنا بالجزائر تاركين نقد ذواتهم التي أصبحوا يكادون يعبدونها أو على‬
‫األقل النظر إلى أنفسهم في مرآة اآلخرين‪ ،‬أو النظر إلى الواقع النظري والعملي من حوله أتغير أم‬
‫استقر أم تراجع و العناية بدلها بالمجامالت واإلطراءات والتملقات الروتينية التي ال يملونها أبدا هل‬
‫نفعتهم‪/‬أضمرت نسقهم أم كشفتهم في ظل هذا النظر؟ منهم المتطفلين على تخصصات أكبر منهم‬
‫بكثير‪ ،‬وهذا هو ما قصدناه بقولنا " القفز على المراحل" أو ظاهرة الهرم المقلوب في طوبولوجيا‬
‫الفكر والنقد المعرفيين المعاصرين في الجزائر‪ ،‬والسبب واحد ووحيد هو اإلعراض عن نقد الفحولة‬

‫‪6‬‬
‫في ميدان التفكير العلمي نقدا ثقافيا كنقدها في المجال الشعري على سبيل المثال ال الحصر‪،‬‬
‫وعدم إخضاعها للدراسة والتشريح حتى تستفحل وتصبح عصية على الطرق ال شعوريا‪.‬‬

‫سنرى أن السبب هو بالنسبة لتخصصات أكاديمية بعينه ا كاللغة والنقد األدبيين يكمن باإلضافة‬
‫إلى أيديولوجية البلد منذ استقاللها المنعكسة على التعليم والتكوين الجامعي‪ ،‬سيطرح مشكل تلقي‬
‫اللغة العربية في المجتمع الجزائري الخليط اللغة أيضا وبحدة‪.‬‬

‫العبودية ليست هي تلكم الممارسة اإلنسانية التي سادت حسب علماء األنثروبولوجيا قبل‬
‫المرحلة البربرية والمرحلة الحضارية‪ ،‬من كان يظن أنها مرحلة منقرضة زائلة من عالمنا فإنه‬
‫سيكون واهما‪ ،‬بل هي أيضا إحدى تجليات ظاهرة الفحل الشجرة الضاربة ضمن نسق من األنساق‬
‫المجتمعية وهذا البعد الداللي المضمر هو الفاعل والمحرك الخفي الذي يتحكم في سلوكنا العقلي‬
‫والتذوقي‪ ،‬وأشكال تلقينا لهذه الظاهرة الثقافية أو تلك‪ .‬ويطلق الغ ّذامي على هذا النمط من‬
‫المجاز تسمية المجاز الكلي ‪ ،8‬ولما كنا بصدد الفحولة في ميدان التفكير العلمي في فرعه الخاص‬
‫بالنقد الفكري والفلسفي األكاديمي‪ ،‬فإن تلكم الهامة الضاربة للجذور في كل صوب وحدب عن‬
‫وهم‪ ،‬والمنزوية في بروجها العالية ال تنزل منها إال بإعمال معاول النقد الثقافي وإال تخطت‬
‫حدودها وتعدته إلى الطعن في الم قدسات بحجة االجتهاد وحرية الفكر وما إلى ذلك من َّترهات‬
‫مكرسة لنوع من العبودية الفكرية‪ ،‬عبودية للفرد "العبد العاقل" الذي هو ليس بذلك الفقير فقر مادي‬
‫أو روحي بل الفقير فقر عقلي‪ .‬سينتفي حتما هذا العبد العاقل بانتفاء الفحل المفكر بخاصة إذا ما‬
‫وضعنا في االعتبار الحالة المادية الجيدة ألستاذ التعليم العالي وما بالك بمن هو برتبة "الباحث‬
‫الدائم" بمشروع بحث في مجال تخصصه بالجزائر‪ ،‬حينئذ سنجد أنفسنا أمام فحولة نسقية تطرح‬
‫فحولتها أول ما تطرح على المقدسات كما ذكرنا‪ ،‬لكن أول ما يكشف زيفها في حالة الجزائر هو‬
‫األيديولوجي ة السائدة وغياب النقد الذاتي سواء قبل تبلور مشروع النقد الثقافي قبل عقدين من اآلن‬
‫أو بعدهما‪ .‬لكن قد يقول قائل أن القوم الذين تصفهم بالفحولة الواهية لم يخرجوا عن تخصصاتهم‪،‬‬
‫فالتأويل في النقل كما في العقل موضوعه المجاز يعني علم الكالم والمجاز من اختصاص‬
‫الد ارسات النقدية لغوية أو أدبية‪ .‬نقول لهم بلى‪ ،‬لكن عن ثقافة فلسفية وخبرة مستفيضة بمناهج‬
‫علوم اإلنسان والمجتمع تجعلهم ال يستغنون في تأويالتهم عن البرهان العقلي‪ ،‬وتمكن لغوي عميق‬
‫وروح علمية وتواضع للعلم‪ ،‬يعني تمرس مرافق على نقد الذات قبل نقد الذات اإللهية وإال يسمى‬
‫ذلك فوبيا النمطية‪ ،‬المشرعنة لنمط ثقافي اسمه" المفكر الفحل"‪ ،‬فالنقد الثقافي في الغرب ما كان‬

‫‪7‬‬
‫ليولد على يد أعالمه فنسنت ليتش ‪ Vincint Leitch‬وريتشارد هوتجارت وتيودور أدورنو‪ ،‬لوال تلك‬
‫النمطية التي اكتسحت كل دروب الحياة بما فيها التفكير واإلبداع‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ـ مناذج ألنساق "فحولة فكرية جزائرية خاصة"‪:‬‬

‫وكنا نود أن نعرض لنماذج لباحثين مخضرمين من جامعة الجزائر‪ 2‬كأحمد طالب اإلبراهيمي‬
‫بوناطيرو‪ ،‬الشيخ‬ ‫ومحي الدين عميمور وهما في األصل طبيبان‪ ،‬مصطفى شريف‪ ،‬لوط‬
‫أبو عمران‪ ،‬عبد الرحمن األخضري‪ ،‬نور بوكروح‪ ،‬فوضيل بومالة‪ ،‬الساسي لعموري‪ ،‬محمد‬
‫الصديق بن يحي‪ ،‬الشعراء أحمد حمدي ومالك مرتاض ولميس سعد ي هذين األخرين أصبح‬
‫يضرب بهما المثل (ال قبلهما وال بعدهما ذك ار و أنثى) عندما يتعلق األمر باستثمار لشعريتهما‬
‫ولوجا إلى الفكر السياسي و الفكر الديني! والروائي أمين الزاوي من كلية اللغة العربية وآدابها‪ ،‬كما‬
‫ال يمكن المرور مرور الكرام أمام شاعران صنع مجد الجزائر الشعري في النصف الثاني من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬هما محمد العيد آل خليفة ومفدي زكريا‪ ،‬لما كان نسق الفحولة الشعرية نسقا مجبول‬
‫على التقول على السلطة السياسية وحتى الدينية إذا لم تجزل له‪ ،‬ليس بوعي فكري لكن بوعي‬
‫تاريخي‪ ،‬وال أدل من تشبيه األول للفرنسيين في زيهم بالغربان‪ ،‬والثاني تشبيه معارك ثورة الجزائر‬
‫بمعركة بدر‪ ،‬فاكتسبا شعبية نخبوية سرعان ما رسختهما بطلين فحلين‪ .‬لكن تم كشف زيف هذا‬
‫التصور مع مرور الزمن نتيجة تطور أغراض الشعر في المشرق العربي‪/‬حداثته و تخلفه في‬
‫المغرب لعربي‪ ،‬وتطور أغراض النقد كالنقد الثقافي الذي يفكك النسق الثقافي مقرونا بتفكيكه بنية‬
‫النسق السردي فإذا فهل أتاك أحد من يفكك غموض الشعر الجزائري المعاصر ليقوده بحثه إلى أن‬
‫غموض الشعر الجزائري من طابع خاص ال عالقة له بالحداثة الشعرية بل له عالقة بتجربة‬
‫الشاعر اللغوية ‪ 9‬أو ترعرعه في سياق اللغة العربية من عدمه ( في سياق الفرنسية ومجتمعها‬
‫الفرانكفوني الممسوخ اللغة) أي غموض شعره كنتيجة أساس من نتائج نظرية اكتساب اللغة تبع‬
‫نعوم تشومسكي ‪ Language acquisition device theory‬فهناك جهاز قبلي غريزي يكتسب اللغة‬
‫في اإلنسان لكنه مقترن بسن الطفولة األولى‪ ،‬فاذا ما فاتت هذه المرحلة يصعب معها التحكم‬
‫بأبجديات اللغة بالوجه األكمل حتى ولو اضطر شاعرنا مفدي و خطيبنا اإلبراهيمي إلى التعويض‬
‫بتعلم القواعد والعروض وحفظ أشعار العرب عمرهما كله‪ ،‬فاكتساب اللغة ‪language Acquisition‬‬
‫شيء واالكتساب اللغوي ‪ linguistic Acquisition‬شيء آخر وهو عمليات نقل الخبرات لألخرين‬

‫‪8‬‬
‫وتلقيها‪ ،‬سواء بواسطة القراءة أو التعلم أ و التدريب النطقي أو الكتابي بقصد الوصول إلى‬
‫‪10‬‬
‫مرحلة افضل من المرحلة السابقة التي كان عليها الفرد‪..‬‬

‫وفي هذا الصدد نحاول رفع غطاء فحولة شعرية زائفة عن طريق اللغة نفسها (كشف محدودية‬
‫طاقتهما الشعري) وهذا ما نلتمسه في هذه الشعرية المنتقصة‪ )..( :‬ومألنا الدنا بشعر نرتله‬

‫الشهداء َ‬
‫ومن أخلصوا للوفاء‬ ‫َ‬ ‫يستقبل‬
‫ُ‬ ‫كالصـ ـ ـ ـ ــالة تسابيحه من حنايا الجزائر (‪ )..‬أو قوله‪ :‬ودوار‬
‫ٌ‬
‫والذمام‪ .‬هم الثائرون األلى َولدوا‪.‬‬

‫أوال الشعر يغوي فكيف ترفعه إلى درجة الترتيل والتسبيح؟ ثم إن األصل في الصالة القراءة ال‬
‫أصل في صالة المسيحيين لذا يمكن أن يكون الشاعر قد استعار التشبيه من‬
‫ٌ‬ ‫الترتيل بيد أنه‬
‫الشعر الفرنسي‪ ،‬وثانيا هل تعتقد بأن الخلط باللفظ األعجمي (األسلبة) في الشطر األول مضاف‬
‫له قصور في فهم اللفظ العربي أو تداوله بشكل يسمح من استعارة معناه على األقل في الشطر‬
‫الثاني سيجيئنا ببعض شعرية؟ بل سينفر ويقزز الثائرون األزليون في "الدوار"‪ ،‬ربما هذه الشعرية‬
‫اللغز قد كشفها رحيل االستعمار نفسه فسكتت قريحتهما الشعرية إال فيما ندر؛ فهل استوقف هذا‬
‫التشبيه أي ناقد؟ لوكان وعي النقاد الجزائريين وعي فكري وثقافي لوجد منهم من أخذه الشك ونقد‬
‫إنتاجاتهم لكنه كان ومازال وعي شعراني فحولي أو باألحرى الوعي شعراني من أجل الفحولة‪،‬‬
‫تجر وشك في أشخاص يعيشون بيننا يأكلون ويشربون مما نأكل ونشرب‪،‬‬
‫أبداﹰ‪ ،‬قل من وجد من أ‬
‫أكيد أنه سيعتريه نفس هاجس الخوف من تلقي نفس مصير الشيخ مصطفى عبد الرازق وطه‬
‫حسين ونصر حامد أبو زيد ‪ ..‬ومحمد أركون وهشام جعـيط وأخي ار وليس آخ ار أمين الزاوي‪ ،‬نتيجة‬
‫ضمور نسق أولئك األشخاص وما يرتكبونه في حق الصالح العام للعباد والبالد‪ ،‬فكر فحولي‬
‫يمررونه تحت جنح الظالم‪ ،‬خطر داهم بما كان لكنه مغمط غير مشعور به؛ مالي أنا ومال تأويل‬
‫المتشابه ونقد األنبياء وعظام اإلنسانية وأنا ليس لي أصال تجربة وثقافة واسعة وربما تخصص‬
‫األرضين كلها‬
‫وعلم كاف يؤهلني‪ ،‬وحتى وإن كانت لدي‪ ،‬ما بالك بالقطيع الذي لم تكفيه حشائش ا‬
‫من حوله ليتعداها إلى تلك النابتة فوق (في حدائق بابل المعلقة)!‬

‫أنا قد شككت في إنتاج هذا المدعو روائي جزائري كبير‪ ،‬عن وعي واعي أن صح التعبير و واقعي‬
‫بعيد عن خيالء العظمة‪ ،‬عندما رأيت واسيني األعرج ال يترك ميدانا من الميادين؛ ال رواية‪ ،‬وال‬
‫منب ار إعالميا‪ ،‬وال منت ًدى فكريا‪ ،‬وال درسا أكاديمياﹰ إال ونقد فيه بأسلوب غير أدبي أو غير فني‬
‫وبغل واضح! هل ذلك سيعفيني بعد الشك في صحة ما يقول عن الشك كيف قاله ولماذا قاله؟‬

‫‪9‬‬
‫حتما ال‪ ،‬إذن ال مناص من تحويل الشك إلى الشك في مستواه هو‪ ،‬ال مستوى من يتحدث عنه؟‬
‫ثم لعل أقوى دعم لشكي هو تلك المارمي البعيدة بل هي أبعد ما تكون عن الحقيقة والتي ما فتئت‬
‫ترمي إليها إنتاجاته الروائية‪ ،‬ببساطة ألن أسلوبه الذي يغلف به تلك األفكار‪ ،‬والتي تنتقد بفحولة‬
‫النبي الفالني والحاكم العالني ركيك‪ ،‬أجل ركيك بالقطع إن لغةﹰ أو خطابا‪ ،‬خذ مظاهرات الربيع‬
‫ال التي حاول انتهازها لكي يصنع منه شخصية ناقدة للحكام العرب بوعي فحولي تاريخي‬
‫العربي مث ً‬
‫في كذا من رواية‪ ،‬فالجواب عن شكنا موجود في رواية أصابع لوليتا‪ ،‬التي ألفها في ظرف قياسي‬
‫شتاء ‪ ،2013- 2012‬ثالثة أشهر بالكاد وهي تعد ‪ 438‬صفحة! ليس هذا فقط‪ :‬فهو يدرس بالجزائر‬
‫وبالسوربون وعندما يكون في كليهما يجري لقاءات صحفية ويحضر لنشاطات ثقافية بل حتى‬
‫يدعى لندوات ـ ـ مما يعني التحضير لها وقد أريته بنفسي أكثر من مرة في إحداها بالعاصمة‬
‫الجزائر ـ أال يطرح ذلك كله السؤال‪ :‬من أين لك طاقة إخراج رواية تعد ‪ 438‬صفحة إلى العلن‬
‫وأنت لست متفرغ أصال لكتابة مقالة أدبية؟ الجواب كامن في الصفحة األخيرة لرواية أصابع لوليتا‬
‫(التي يذم فيها الرئيس الراحل هواري بومدين مقابل أحمد بن بلة ويمدح فيها ظله مفك ار وكاتبا‬
‫محاكيا لسلمان رشدي " يونس مارينا "‪ ،‬مدافعا عن الحرية في وجه اإلسالميين وهو غائص في‬
‫حاالت جنسية مزمنة) أجل‪ ،‬تجده في كلمة الشكر المعبر إلى طالبتيه في السوربون و الجزائر‪،‬‬
‫العاملتين في الموضة وكذا إلى ابنته العاملة في ميدان السينما؛ إنه الشكر الفخ الذي أبانه قامة‬
‫وهمية‪.‬‬

‫الشكر المعبر المرفوع والممتن فيه م ًنا يفوق الوصف‪ ،‬كالذي يوجهه الكتاب عادة إلى عظماء‬
‫اإلنسانية! ستجده هو مكافأة منه لهن على مساهمتهن في كتابة روايته "الملحمة" تلك! التي‬
‫أخرجها بهكذا طريقة‪ ،‬بوعي ضمير الكاتب العربي الكبير إلى العلن في زمن قياسي! لعل أصدق‬
‫ما يعضد هذه النتيجة هو األخطاء النحوية والتركيبية الغير مسبوقة في الطبعة األولى‪ ،‬والتي قام‬
‫الناشر في الطبعة الثانية من تصحيحها (باإلمارات) ما يعني أن الكاتب لم يأخذ الوقت الكافي‬
‫لتدقيق رواياته حتى ينتهز فرصة أحداث الربيع العربي‪ .‬ليس هذا فقط فستجد زمالئه في ذات‬
‫الكلية‪ ،‬التي مقرها في ابن عكنون بعقليتهم العصبية النرجسية لحد الساعة فيه مناهج نقدية تعنى‬
‫بالمضمون زي نقد خطاب ما بعد االستعمار مثال‪ ،‬يعمل الناقد واألستاذ الجامعي الجزائري فيها‬
‫على شحن ذاته بالمحتوى األيديولوجي شحنا‪ ،‬فيهم من هي مشحونة ذاته مئة بالمئة باأليديولوجية‬
‫وكذلكم بالعصبية اللي أكل عليها الدهر وشرب؛ هذا النوع ال تصادفون عنده المعارف األساسية‬
‫ألستاذ يقول أنا أستاذ اللغة العربية وآدابها البتة‪ ،‬وهي المعرفة الجيدة المعمقة باللغة العربية كتابة‬

‫‪10‬‬
‫ونطقا وكل ما تعلق بنحوها و قواعدها وتراثها وأسولبياتها ومطواعية أهلها اللسانية‪ ،‬يعني محتوى‬
‫معارفه التقنية فارغ منها وممتأل بدله باأليديولوجيا‪ ،‬مثل نقد ليل نهار إسرائيل واالستعمار وثقافته!‬
‫االستعمار الذي من الواضح من داللة اسمه‪ ،‬أنه انتقل نقلة حضارية ليعمر أرض من وقف‬
‫أصحابها في القرون الوسطى من الموريسكيين وعصاباتهم ومرتزقتهم على القرصنة وزرع الرعب‬
‫في أعالي البحار‪ ،‬واستعداء المسيحيين الذين طردوهم من الجزيرة اإليبيرية شر طردة‪ ،‬بدل تعمير‬
‫أرضهم‪ ،‬وستجدون أن هذا النوع من األساتذة بين قوسين نرجسي خاوي الوفاض على عروشه‪،‬‬
‫بدل أن يعمل على كسب مزيد من التجارب ( وهو في مقتبل العمر‪ ،‬في األربعينيات من عمره)‬
‫بمالزمة التدريس في الليسانس سيذهل بنفسه وتعتريه نشوة الكبر والعظمة ‪ ،‬بل خيالء "التدكتر"‬
‫و"الباحث الفذ" في نقد خطاب ما بعد االستعمار‪ ،‬فيعامل نفسه كأنها جورج جارودي أو نعوم‬
‫تشومسكي‪ ،‬فيتحول عن طريق تبادل المنافع الشخصية إلى التسيير والتدريس في الدراسات العليا‬
‫بدل ترك ذلك لمن هم ذوو خبرة و تجارب‪ ،‬أي لمن هم في الستينيات من أعمارهم‪ .‬إنه امتالء‬
‫المحتوى بالوهم و األباطيل بدل العلم و التقنية‪ ،‬الذي يكون خطير علينا بما كان نحن الج ازئريين‪،‬‬
‫لكن أهون من بيت العنكبوت ال يوجد ‪ ،‬فعلى نقاد الجيل الجديد الحذر ورفع التحدي‪ ،‬يعني نقر إن‬
‫لزم األمر ذلك المحتوى الذي يشبه فقاعة صابون‪ ،‬لينتفي وهم الفحولة الفكرية إلى غير رجعة‪.‬‬

‫و بما أنه سبق لنا وأن تمثلنا بأساتذة‪ ،‬نقاد‪ ،‬ومفكرين من كلية اللغة العربية وآدابها واللغات‬
‫الشرقية بعينهم في مقاالتنا السابقة‪ ،‬لذلكم نكت في في هذا المقال الموضوعي بالتعرض كذلك‬
‫لطلبتهم الذين ورثوا عنهم تلك " الفحولية المومئة إلى التفوق" المحكمة اإلضمار ضمن سياقاتها‬
‫النخبوية األكاديمية‪:‬‬

‫ما الذي جعل شاب في الثالثينات يخرج إلينا عبر قناته اليوتيوبية وهو ما أصبح يطلق عليه‬
‫أكاديميا باإلعالم الجديد‪ ،‬ليطرق مواضيع غاية في التعقيد‪ ،‬تحتاج إلى عقود من تفرغ وتجرد في‬
‫نوازع التفكير الفلسفي والالهوتي المضنى ‪ ،‬في فيديو يقول فيه أنه باحث؟ لوال حب مغال للذات‬
‫مكتسب في سياق تبرز فيه المجموعات النسقية حتى ال أقول الحساسيات النسقية المكرسة‬
‫للعظمة والفحولية المطردة التي ما لها حدود‪ ،‬طالت وتفرعنت في نفق اإلضمار‪ ،‬كون ال أحد‬
‫استطاع رفع غطاء الوهم البطولي المشرع عليها‪ ،‬ونقصد ههنا الفحل المفكر والناقد‬
‫األكاديمي الذي يت خذه الطالب مرجعا لهم‪ ،‬ربما يصل إلى ذروة الشهرة والمجد المادي والمعنوي‪،‬‬
‫وما أكثر عدد ما تراكم من هؤال ء في الجامعات الجزائرية لغياب تأسيس النقد الثقافي على ما‬
‫يواجه ويقابل الذوات الجمعية المستندة إلى ثقافة وقوانين اجتماعية منومة بل مظهرة للذات البخسة‬

‫‪11‬‬
‫ول عل من أمثلة تلك الهامات المتمتعة بالفحولة الفكرية‬ ‫على أنها في أبهى صورها!‬
‫واللغوية‪/‬البالغية المنكفئة عن النقد في جامعة الجزائر‪ ! 2‬والتي أصبحت مرجع الطالب والمثقفين‬
‫على سبيل المثال ال الحصر؛ أولهم البروفيسور الشجرة عبد الرحمن الحاج صالح مسيطر على‬
‫الدرس اللساني داخل الجزائر طوال وعرضا بينما ال يكاد يسمع له صوت خارجها‪ ،‬وكذلكم الحال‬
‫مع قامات أصبحت أسمائها مرادفة للفكر والثقافة في ثقافة النخب الجزائرية الراهنة بينما إنتاجها ال‬
‫يكاد يتعدى حدود أسوار الج امعات التي سطعت فيها فحولتهم الفكرية الفجة واستقرت لعقود‪ ،‬وإن‬
‫تعدتها فبكتيب أو اثنين في أفضل األحوال كالعربي ولد خليفة وأبو القاسم سعد هللا وأبو العيد‬
‫دودو‪ ،‬أحمد جب ار ومحمد حربي و مصطفى شريف وصوال إلى أحمد يوسف وأمين الزاوي‪،‬‬
‫وبالعودة إلى الشاب الثالثيني ا لطامح في أن يصبح في يوم من األيام "مفك ار فحالﹰ" مثل قدوته‬
‫أمين الزاوي قائالﹰ بوهم انفصال الروح‪ ،‬الروح واحدة غير منفصلة مجسدة في أشكال مختلفة‪ ،‬هي‬
‫روح هللا األزلي فينا التي ال تغادر أجسادنا إال وتعود إليها‪ ،‬ولم يأتي بسيرة االتحاد والحلول أو‬
‫نظرية التقمص األف الطونية على لسانه! ربما معتقدا أنها أفكار دينية! ولم يذكر ولو بإشارة‪،‬‬
‫الفكر الصوفي وال زعيمهم الحالج المصلوب ألجل فكرته التي ود إقناع المشاهدين بها(مقولة ما‬
‫في الجبة إال هللا) ‪ ،‬وال حتى مدرسة ابن عربي؛ بل هي فكرة دينية هندوسية (هللا مستقر في أعماق‬
‫النفس) ثم أصبحت فلسفة قبل أن ينطق بها الحالج ‪ ،‬والحالج لم يصلبه الخليفة العباسي المقتدر‬
‫باهلل إال بعد أن تمادى في التمكين ل فلسفة وحدة الوجود التي ترى توحد الخالق بمخلوقاته بقوله‪ :‬ما‬
‫رأيت شيئ ًا إال رأيت هللا فيه‪ ،‬وله قصيدة طويلة تمدح هذه الفكرة أصبحت بمثابة قرآن ثان يتلى عند‬
‫أتباعه من المتصوفة الحلوليين‪.‬‬

‫وليس هذا ما يفسر تطفله (الشاب المغتر بظاهرة الفحولة الفكرية) على دروب وعرة فقط‪ ،‬لكن‬
‫أيضا في اعتقاده أن صحة طروحاته في منطقيتها وفي ردها على أسئلة كثيرة‪ ،‬أتعني بمنطقيتها‬
‫في أن روح هللا تحس بإحساس الخبث والزنا فينا؟! وتجيب على أسئلة معتبرة عددها ‪ 500‬من‬
‫ماليين المشاركات!! ثم ينتقد اإلعجاز العلمي واللغوي في القرآن قائال باليقين القاطع‪ :‬بالرغم منن‬
‫وجود ما يسمى باإلعجاز العلم ي واللغوي في القرآن فإن ذلك ال يعني أنه وحي إلهي مقدس‪ ،‬وال‬
‫يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬لماذا؟ يقول بكل بساطة ألن حضارات قديمة تعود‬
‫إلى ‪ 6000‬سنة ناهيك عن الحضارتين السومرية والفرعونية عرفت هي أيضا منتهى‬
‫اإلعجاز العلمي واللغوي! غير مدرك للقانون الق ائل األشياء بجزئياتها تكتمل‪ ،‬اإلعجاز العلمي‬
‫واللغوي في الكتب السماوية وليس في القرآن وحده مكم ل لنواح عدة مبهرة وغير إنسانية بالمرة فيه‬

‫‪12‬‬
‫حتى ال أقول معجزة للعقل ‪ ،‬توحي في تكامل بنيانها بألوهية الكتاب إذ ليس اإلعجاز في المعنى‬
‫لكنه في النظم والصياغة‪.‬‬

‫نموذج آخر لثقافة "المفكر الفحل" التي ترسخت في ثقافتنا الجزائرية المعاصرة نلتمس بعض‬
‫مالمحها بكل عفوية من سؤال عن الجسد ألقاه الروائي واإلعالمي أمين الزاوي في حديث إذاعي‬
‫أجراه مع الشاعر اللبناني بول شاؤول‪ ،‬و لعل حديث أمين الزاوي لم يكن حديث عن مضمر‪/‬‬
‫محظور ثقاف ي في ذاته بل كان أيضا حديث عن حامل هذا المضمر والواقع في شبهة "الفحل‬
‫المفكر" دون أن يعي‪ ،‬ومنذ عقود من الزمن كتخصص مفضل درج عليه هو وبعض "الحساسيات"‬
‫جلها متأتية من قطاعي اإلعالم والسياسة‪ ،‬فإذا كانت بالغة وفكر الشاعر أبو الطيب المتنبي‬
‫الفحولية وارثا إياها م ن تقاليد الشعرية العربية في ذلك الوقت‪ ،‬والتي أصبحت نسقا ثقافيا مضمر ال‬
‫أحد تطاول عليها و فككها قبل عبد هللا الغذامي فإن فحولية هذا الروائي الجزائري (أ‪ .‬الزاوي)‬
‫ورثها بدوره عن روائيين وإعالمين وسياسيين جزائيين تخصصهم أبعد ما يكون مقدرةﹰ على إثارة‬
‫قضايا فكري ة عويصة كنقد الخطاب الديني‪ ،‬مثل محمد ديب وآسيا جبار وجمال عالم وغيرهم‪،‬‬
‫الذي أصبح في أيامنا موضة؛ كل من لم يمضي عليها برهة من حمل لشهادة عليا أو من مر من‬
‫ياء إال والتمس عن قصد أمور‬
‫على منصة قطاع جماهري فأصابه ما أصابه من شهرة زاد كبر ً‬
‫فقهية تقع في درك ما يعرف بالمتشابه أو األحاديث الضعيفة السند كأمين الزاوي نفسه‪.‬‬

‫لكن ليت شعري‪ ،‬كيف يخوض في أمور األدب فضال عن الفقه والمتشابه من ال تلين له لغة‬
‫الضاد بالمرة! ال على لسانه وال على جرات قلمه! وهنا يكمن الفرق بين الجرأة الطفيلية لألكاديمي‬
‫والمثقف الجزائري والجرأة الطفيلية للمثقف واألكاديمي المشرقي التي سمحت لكليهما دخول‬
‫فضاءات ال ترحب بهما أصال‪ ،‬أال وهي معترك "الفحولة الفكرية" حتى أن حالة السكر أو العمى‬
‫الالشعوري الذي يدور في حلقته هؤالء الفحول مجبرين غير مخيرين‪ ،‬سيتحول إلى خطر داهم‬
‫يوشك أن تنفجر قنبلته على المجتمع من داخل األعراف الثقافية الفكرية المستفحلة الخيالء‬
‫كل على حدى باإلجهاز بضربة قاضية‪ ،‬لعل أقربها إلى الرصد والمتابعة والذكر في‬
‫المرضي‪ٌ ،‬‬
‫هذه السانحة قبل أ ي إجهاز هي مراكز البحوث التي أنشأها الصحفيون كمركز صحفيين بال‬
‫حدود‪ ،‬ومراكز البحوث التي تشرف عليها منظمات حقوقية كمؤمنون بال حدود‪ ،‬ومخابر البحث‬
‫التابعة لجامعت دول ال هي بالعلمانية وال هي باإلسالمية كالجزائر‪ ،‬فهنا مفك ار آخر هو السيد‬
‫القمني أصبح واثقا أن هللا أهداه أغلى ما يملك وهو نعمة العقل المفكر بمجرد أنه حاضر في تلكم‬
‫المراكز كثيرا! أجل الفرق هو في لغة أهل المغرب العربي التي زادت في الحقيقة في استفحال‬
‫‪13‬‬
‫وتبلور نمط ثقافي كنمط " المفكر الفحل" بحيث تتكشف للناقد الثقافي المؤول المعمل لبصيص‬
‫تأمل فقط‪ ،‬وبسرعة أك ثر ما تتكشف له فيما أنه اعتمد على غـير عــورة عـدم التحكم في اللغة التي‬
‫يتميز بها نسق "فحول المغرب" عن نسق "فحول المشرق" من المفكرين‪ ،‬خذ المفكر الراحل محمد‬
‫أركون رحمه هللا مثال لم أتمكن في حياتي من متابعة محاضراته باللغة العربية ألنه ال ينتقي‬
‫األلفاظ الدال ة على المعنى المراد بدقة بينما العكس هو الحاصل مع المفكر السوري الراحل أيضا‬
‫رحمه هللا عبد الكريم اليافي و ناصيف نصار‪ ،‬ألفاظ جرت منهما مجرى الحسن والسالسة والكياسة‬
‫والبالغة بما يدفع للتساؤل والمقارنة‪ ،‬ولعل ما يساعد الناقد على كشف " فحولة المفكر الجزائري"‬
‫أ كثر من غيره من المفكرين الفحول مشرقا ومغربا فضال عن الثقافة السطحية واللسان‬
‫المصطنع هو أيديولوجية المجتمع الجزائري‪ ،‬وظاهرة المحاباة والالعدالة المتفشية فيه منذ أن‬
‫استقل عن فرنسا سنة ‪.1962‬‬

‫فالروائي أمين الزاوي هو أروع من تتجلى فيه السمات الثالثة دفعة واحدة فهو الذي قال أن‬
‫مدير الثانوية الفالنية سمح له أن يمتحن البكالوريا وهو في السنة األولى ثانوي لنباهته ونبوغه‬
‫و لم يشعر أنه ما كان له ليحرق المراحل حرقا بذلكم الشكل لوال أيديولوجية البلد السائدة آنذاك‬
‫( ‪ ، )1976‬حتى لو كان عبقرياﹰ في مجتمع العدالة والديمقراطية؛ العبقرية ليست وثيقة إثبات‬
‫المستوى التي تقدم للمسئولين واإلدارة بل هي مزية مضافة خاصة‪ ،‬ال يجوز أن تحرق بها المراحل‬
‫ثم لو فكـر هذا الكاتب الذي تنطبق عليه مقولة "المفكر الفحل" في الثقافة الجزائرية المعاصرة قليال‬
‫تجر على ذكر حادثة حرقه للمراحل تعظيما لذاته‪ .‬لو عرف أن واقع الجزائر في محاربة‬
‫فقط لما أ‬
‫المحاباة والنفوذ هو اليوم غير ما كان باألمس؛ اليوم ال يتمكن العباقرة من أبناء كبار المسئولين‬
‫في الدولة حتى من تحويل ملفات دراستهم من مكان آلخر وما بالك بحرق المراحل‪ .‬إنه الخيالء‬
‫الذي به نمت شجرته البالغية والموضوع تية حتى استعصت على كل اجتراح أو إمالة أمام رياح‬
‫هوجاء صرصر‪.‬‬

‫فإن كان رشيد بوجدرة اختص بإثارة محظور التقول الرمزي على الدين في الرواية الجزائرية‬
‫المعاصرة‪ ،‬فإن الزاوي اختص بمحظور التفنن في وصف الجنس فيها‪ ،‬ما من رواية يكتبها إال‬
‫ويكون الجنس موضوعها األساسي‪ ،‬ما من ندوة أو مقابلة مع قامة كبيرة إال وكان الجنس ضمن‬
‫الثالثي الروائي المحرم موضوعها األساسي‪ ،‬لكن في سؤاله لضيفه الشاعر اللبناني الكبير تنكشف‬
‫أدواء فحولة متمركزة حول ذاتها تمرك از وهميا ال شعوريا وآليا‪ ،‬ليس ليكون جمهوره من خاللها لكن‬
‫كي يطعن كذلك في الدين والسلطة‪ ،‬طبعا المقاومة والشد والجذب مع جمعية العلماء المسلمين‬
‫‪14‬‬
‫وغيرها ـ كما حدث في قضية ازدراء الرسول (ص) عام ‪ 2009‬إثر استضافته ألدونيس بالمكتبة‬
‫الوطنية ـ ـ ستثبته فرضيا وترسبه مفك ار فحال في مخيال الثقافة الجزائرية الراهنة؛ فهو بعد أن طرح‬
‫على ضيفه الشاعر والمفكر أيضا بول شاؤول‪ ،‬الذي كان‬ ‫‪11‬‬
‫السؤال ‪ :‬ما عالقة الجسد بالكتابة؟‬
‫ذكيا ولم يكن مراوغا‪ ،‬كما قد يتبدى لغير المختصين‪ ،‬بحيث كشف احتكار أمين زاوي والتعاطي‬
‫الغامض مع قضايا مثل هذه‪ ،‬والمرتبطة بالسياقات الثقافية‪ ،‬إما الفرانكفونية أو األنجلو سكسونية‪.‬‬
‫لكن يظهر االلتباس مع محاولة ترجمتها ف ‪ le corps‬مثال في فرنسا يحمل معنى الجنس‪ ،‬ومعنى‬
‫"الجسد" غير معنى "جماليات الجسد" عندنا لذلك كان حري به باعتباره أكاديمي قول "جمال‬
‫الجسد"‪ ،‬ففي بلد كالجزائر وحتى لبنان ستبقى دالالت "الجسد" هي الجسد عموما (خارج سياق الفن‬
‫واإلبداع الروائي وداخله معا) وفي مستوى سؤال ال ازوي الغامض جاءته اإلجابة‪ ،‬حيث إجابة ضيفه‬
‫الشاعر بول شاوول كانت كاآلتي‪ :‬الجسد هو الذي يكتب موش إحنا‪ ،‬الدماغ جسد‪ ،‬اليد جسد هي‬
‫التي تكتب‪ ..‬وعقد بعدها لسان أمين الزاوي تماما ولم يزد ببنت شفة! معتقدا أنه سيقول له أن‬
‫الجسد هو العملة الصعبة في الرواية‪.‬‬

‫ذات يوم وأنا في طريقي إلى جامعة ابن عكنون بالعاصمة الجزائر فوجئت بشخص يسير إلى‬
‫جانبي فلم أدري من أين خرج‪ ،‬إال أن يكون خرج من إحدى بنايات ابن عكنون وال أظنه‪ ،‬كونه‬
‫يحمل سمات لم أعهدها في ساكنة ابن عكنون قط؛ فقد كان شديد بياض الثياب وشديد سواد‬
‫اللحية به فصاحة اللسان وجهورية صوت وصحة بدن ال تكتمل إال لبدو‪ ،‬البدو الذين يبعدون عنا‬
‫نحو ثالثة مئة كيلومتر! وعندما حاولت االبتعاد سألني قائال‪:‬‬

‫ـ ـ أنا أطلب جامعة بن عكنون فهال دللتني عليها؟‬

‫فقلت له‪ :‬أترى تلك العمارات الزجاجية الفاخرة هناك؟ إنها كلية الطب‪ ،‬قربها على اليمين توجد‬
‫كازينات خشبية تبدو كأنها مراقد حراس كلية الطب‪ .‬هي تلك جامعة الجزائر‪ 2‬التي تبحث‪.‬‬
‫ثم سألني ثانية‪ :‬هل أنت قاصد إليها أيضا؟‬

‫فتلعثمت في اإلجابة كوني لم أتعود على مصاحبة السلفيين في حياتي‪ .‬لكن كنت مضط ار‬
‫إلجابته فقلت له‪ :‬نعم‪ ،‬أجل أنا قاصد إليها أيضا لكن ليس قبل أن أقضي حاجة‪.‬‬
‫ففكر قليال ثم قال‪ :‬ال بأس أريد أن ندخل معا إذا لم يكن عندك مانع‪ ،‬لحضور مؤتمر "منهج‬
‫النقل والعقل في تأويل المتشابه"‪.‬‬

‫ـ ـ ولماذا تريد أن ندخل معا؟‬

‫‪15‬‬
‫ـ ـ ألني من غير منتسبي الجامعة‪ ،‬فأنا لم أدرس بها وإنما درست عصاميا في مدرسة الوحي‪.‬‬
‫فالدعوة وصلتني من صديق يدرس عندكم‪ ،‬دعاني لكنه حذرني من الدخول لوحدي بل قال يجب‬
‫أن أدخل مع أحد المنتسبين‪.‬‬

‫ـ ـ وما موعد بدء المحاضرة؟‬

‫ـ الساعة الواحدة بعد الزوال‪.‬‬

‫ـ "مازال الوقت مبكرا" قلت له بصوت عال ثم رحت متمتماﹰ في نفسي « قد وقعت في ورطة! ترى‬
‫ما تلك الحاجة التي يجب أن أتظاهر بقضائها ألملص! البد إذن عندما نصل إلى الكلية أن أشير‬
‫له إليها بيدي ثم أعطف يمينا»‬
‫‪.......‬هذه هي الكلية هناك‪ ،‬بالتوفيق‪ ،‬فأنا سأسلك هذه الطريق لقضاء بعض حوائجي‪.‬‬
‫ـ يا أخ العرب هل تريد أن تتركني وحيدا في مكان ال أعرفه ثم أن الوقت مازال مبكرا! فهال‬
‫سمحت لي بمرافقتك لتمضية الوقت؟‬

‫عندها زاد اهتياجي وقلقي إلى درجة لم أحسن فيها التصرف قط فقلت بتسرع‪ :‬هذه الطريق‬
‫تؤدي إلى حديقة ملعب ‪ 5‬جويلية األولمبي سيرها ذهابا وإيابا يستغرق ساعة كاملة فال تلم إال‬
‫نفسك!‬

‫ـ ال بأس‪ ،‬لكن ماذا تفعل في ملعب ‪ 5‬جويلية هذا؟‬

‫ـ ـ أشتري بطاقة دخول ألحد أصدقائي أوصاني بها‪.‬‬

‫ـ إذن هي فرصتنا لنتناقش عبر الحديقة المؤدية للملعب كمشائي تالمذة أرسطو ونحن نتجاذب‬
‫أطراف النقاش حول الموضوع‪.‬‬

‫ـ أي موضوع؟‬

‫أنزل َعلَيك الكتَاب منه‬


‫ـ "الـتـأوي ــل بيننا وبينهم" أليس هو القائل في سورة آل عمران‪ « :‬هو الذي َ‬
‫َآيات محكمات هن أم الكتَاب وأ َخر متَ َشاب َهات‪َ ،‬فأَما الذين في ُقلوب ِِهم َزيغ َف َيتبعون ما تَ َشابه منه‬
‫آمنا به كل من‬ ‫الراسخون في العلم َيقولون َ‬ ‫ابت َغاء الف َتنة َوابت َغاء تَأويله‪َ ،‬و َما َيعلَم تَأويلَه إَّال للا‪َ ،‬و َّ‬
‫عند ربنا‪ ،‬وما َيذكر إال أولو األَل َباب»؟‬

‫ـ ـ وكأني بك قد حضرت ورقة حول تأويل المحكم والمتشابه إللقائها في المحاضرة‪.‬‬

‫ـ ـ ال‪ ،‬كال وهللا‪ ،‬ما ضرك بأخ كريم يسدي النصيحة ألخ كريم‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ـ ـ أوال لدي تعقيب حول قولك الراسخون في العلم لكن بما أنه خارج موضوعنا " التأويل‬
‫بيننا وبينهم" فسأمر إلى التأ ويل المذكور في اآلية‪ ،‬حتما المقصود هو غير تأويل العلمانيين‪ ،‬لكن‬
‫لماذا يأتي هللا بالمتشابه ويقول أنه ال يعلم تأويله إال هو‪ ،‬أليس هناك تناقض؟ ما خلق هللا األعين‬
‫إال لترى والعقول إال لتفكر‪ .‬ثم أليس أن عقل اإلنسان عندما يريد أن يستقصي أمر ما يشك فيه‪،‬‬
‫والشك هن ا عملية فطرية وعقلية نفسية واعية فيه‪ ،‬وليست زيغ من الشيطان‪ ،‬حتى الرسول نفسه‬
‫شك في أناس وأحداث وأشياء كثيرة قبل أن يثبت شكه‪ ،‬فهل كان في قلبه زيغ؟‬

‫ويحذركم هللا‬
‫ـ ـ كأنك تبغي تلميحا إلى مناقضة الذات اإللهية لذاتها أخطأت وهللا‪ .‬ألم تق أر قوله « َ‬
‫نوبكم‪َ ،‬وللا‬ ‫َنفسه‪َ ،‬وللا َرءوف بالعباد‪ .‬قل إن كنتم تحبون هللا فاتبعوني يحببكم للا َ‬
‫ويغفر لَكم ذ َ‬
‫ين« هو من خلق‬ ‫العالم َ‬
‫عمران عَلى َ‬
‫آل َ‬ ‫آل إ َبراهيم و َ‬
‫للا اصطفا آدم نوحا و َ‬
‫َغفور رحيم ‪ .......‬إن َّ‬
‫النار والماء لحكمة في نفسه‪ ،‬يبطش ويرحم واصطفى أنبيائه لحكمة‪ .‬لكنك أصبت في معنى‬
‫التأويل في اإلسالم المفارق لمعناه عند العقليين كما تقول‪.‬‬

‫ـ ـ وهللا لقد ذكرتني بمقال ليس ل فحل أكاديمي حقيقي عندنا واسمه وحيد بوعزيز لكنه في سباق ضد‬
‫الساعة للظفر بالفحولة ولو على حساب إهمال التزاماته المهنية من خالل حشر هامته فيما ليس‬
‫له فيه ال ناقة وال جمل‪ ،‬وغير ما مرة في غمرة الفيض االنفعالي االنتهازي مع األحداث السياسية‬
‫من هنا وهناك سعى في مقال له ـ وللسعي ثقافة وتجارب ـ محاوالﹰ الربط بين نظريات مختلفة‬
‫فلسفية و نقدية لسانية كانت أو أدبية ـ ـ كونه باألساس مختص في النقد السيميائي ـ ـ لكن بعناء‬
‫شديد كمن ال هم له غير محاولة التسلق المضنية إلى قامة المسيري وجورج جارودي وتشومسكي‬
‫في عدائيتهم إلسرائيل‪ ،‬أي أنه ترك تحليل ما ينتج من روايات ويثار حولها من نظريات نقدية‬
‫بعينها في بلده قاف از إلى الفكر السياسي‪ ،‬ليس متأث ار بفلسفة اللغة َتبع باختين لكن متأث ار بـتسييس‬
‫اللغة َتبع ريكور ‪ ،‬حاثا على مقاومة كولونيالية إسرائيل تخييال! بدل الحث على تأويل تراثه بما فيه‬
‫المتشابه أو ما يسميه هو بالمجاز المهيمن في تراثه الديني تأويال عقليا لمقابلة الحضارة بحضارة‬
‫ال حضارة بتزمت وانتقام بقوله‪ « :‬ال يبقى لنا في األخير إال أن نؤيد الرأي الذي يذهب إلى أن‬
‫أحسن طريقة لنسف اال ستعارات المهيمنة هو صناعة استعارات مضادة‪ ،‬تفضحها وتخلخل نسقها‬
‫الظاهر وا لمضمر‪ ،‬إن الرد بالكتابة ورفع شعار ثقافة المقاومة البد أن يبدأ من النقطة الحاسمة‪،‬‬
‫التي ال تكتفي بنعي تخلفنا وانبطاحنا بقدر ما تساهم بطريقة جادة وذكية في إذكاء مرويات مضادة‬
‫وسرديات موازية لتبيين الصورة كاملة ولجعل االستعارات مرتعا لمحفل متعدد من المرايا المتقابلة‬
‫‪12‬‬
‫»‬

‫‪17‬‬
‫ـ أنا ال أعرف سوى مالك بن نبي قديما ومحمد أركون عندكم‪ ،‬أما بوعزيز هذا الذي تذكره فال‬
‫أعرفه‪.‬‬

‫ـ ولماذا ال تعرف سوى هذين المفكرين من بين قوافل هائلة منهم‪.‬‬

‫ـ بصراحة ألن األول خدمت تأويالته اإلسالم بينما الثاني خذلته جدا‪.‬‬

‫ـ ولماذا لم تقل تأويالته العقلية؟ هل تنتظر من عالم درس في الغرب أن يفسر القرآن حسب هوى‬
‫فقهاء المالكية أو المتكلمين؟‪ ..‬انتظر سأشتري مشروبين وأعود‪.‬‬

‫ـ شك ار لك من المفروض أنا الذي أدفع‪.‬‬

‫ـ ال عليك‪ ،‬أنت ضيفي‪.‬‬

‫ـ أمازال الملعب بعيدا؟ ستقتنع معي في مداخالت الندوة إنشاء هللا أن هؤالء هم المعنيون بقوله «‬
‫في قلوبهم زيغ »‬

‫ـ أنت مخطئ أتعتقد أنك داخل إلى جامعة شريعة أنت بصدد كلية أدب‪ ،‬هنا ليس مثل هناك‪،‬‬
‫يوجد من سيق أر المتشابه قراءة تأويلية تفسيرية ومن سيقرأها قراءة تأويلية عقلية‪ ،‬ربما أن أمين‬
‫الزاوي فحل هذه الكلية بال منازع‪ ،‬الذي ال تخطئ ه عين سيقنعك بضرورة منهج ابن رشد التوفيقي‬
‫بين البرهان والتفسير‪.‬‬

‫ـ ـ « إن الذين ك َفروا ب َآيات هللا لهم ع َذاب شديد‪َ ،‬وهللا َعزيز ذو انت َقام»‬
‫َّ‬ ‫َٰ‬
‫ين يكفرون بآيات هللا و(‪َ )..‬فبشرهم بع َذاب أَليم‪ .‬أوَلئك الذين َحبطت أ َ‬
‫َعمالهم في الدن َيا‬ ‫«إن الذ َ‬
‫َواآلخ َرة َو َما لَهم من ناصرين»‬

‫ـ يا راجل حسبك كيف إحنا في القرن ال‪ 21‬موش في القرن األول الهجري لقد مضت عصور‬
‫االنتقام والظ المية إلى غير رجعة‪ .‬على العموم هذا هو الملعب الشهير‪ 5‬جويلية هل أعجبك؟‬

‫ـ أنا ال أوافقك ‪ ..‬لكن هل هذا هو الملعب الذي طالما شاهدناه على التلفزيون‪.‬‬

‫ـ نعم هو بعينه‪ ،‬سأـشتري كذلك "ساندويش" لي ولك لعلنا نتابع ندوتنا المنتظرة بانتباه‪.‬‬

‫بعد نصف ساع ة من الحوار األرسطي بيني وبينه وصلنا إلى الكلية ودخلنا‪ ،‬وإذ بنا نصادف‬
‫المؤتمرون يغادرون! يا لها من خيبة‪ ،‬فقد أقيمت الندوة مقدمة عن موعدها! وإذ بي ألتفت طالبا‬
‫صاحبي السلفي دون أن أجد له أثر!! ثم رجعت بي ذاكرتي إلى كالمه « تعلمت في مدرسة‬

‫‪18‬‬
‫الوحي» أيكون جبريل ع اد ليعلم العباد دينهم؟ ال أعتقد! لوكان كذلك ما كان ليكون للمتشابه في‬
‫القرآن من أثر‪.‬‬

‫خامتة‪ :‬خالصة القول أنه إذا أخذ مصطلح أو مفهوم الفحولة الشعرية طريقه للتهميش‬
‫واالحتقار في سياق الثقافة العربية المعاصرة خاصة المغاربية منها (ألسباب ذكرناها أعاله‪ ،‬كما‬
‫هو محتقر بالفعل مصطلح التأويل)‪ ،‬فحري بمصطلح الفحولة الفكرية بالمغرب العربي أن يهمش‬
‫ويحتقر أكثر منه‪ ،‬بل أن يطوى في غياهب النسيان‪ ،‬فمن غير المعقول أن نقف في مقام أول‬
‫على حقيقة الواقع دون لغة‪ ،‬وعلى فكر دون لغة األدب الراقية (شع ار ا‬
‫ونثر ونقدا) في المقام الثاني‪.‬‬

‫وأنه لم تكن العلمانية التي ارتقت بحياة اإلنسان أبدا في يوم من األيام ميدان للتعدي المباشر‬
‫على الدين وال على المبشرين بذلك الدين‪ ،‬في أي عصر من العصور‪ ،‬إال عندما أحس أصحابها‬
‫بإ حساس الفحولة الفكرية المترعرع معهم جراء سياق براغماتية وإيديولوجية مفرطة طغت عليها‬
‫المآرب الخاصة‪ ،‬تجلت في تملق النخبة لبعضها بعض‪ ،‬مجامالت تلو األخرى شرعنت لنسق‬
‫الفحولة لكل من كان له حظ استيعاب بصيصا من العلم‪ ،‬إنه التحول من إجالل العلم ووضع‬
‫المقدسات في إطارها الطبيعي إلى عبادة اإلنسان‪ .‬ولعل إنزال هؤالء المنزوون في بروجهم العالية‪،‬‬
‫من خيالء العلم والكبر الالشعوري‪ ،‬جلهم صعد إليها من مجاالت تستأثر بتلك المحاصصات‬
‫الخاصة وهي اإلعالم والسياسة والنقد واإلبداع األدبيين بخاصة الشعراء وغيرهم منوط اليوم بالنقد‬
‫الذاتي أو النقد الثقافي دون غيرهما‪.‬‬

‫وأستاذ الدراسات الثقافية الذي تحدثنا عنه أعاله عندما يعلم جيدا أن الثقافة عند الغربيين تعني‬
‫فلسفة اإلنسان وعند الماركسيين تعني فلسفة المجتمع وعند المسلمين تعني السلوك األخالقي‬
‫واالجتماعي وبانحيازه لهذه األخيرة فقط وعنوة يصبح بريء من الدراسات الثقافة‪ ،‬ويصبح موضوع‬
‫ثقافي ونسق يجب حينئذ أن يتناوله النقد الثقافي بالتحليل والمناقشة‪ ،‬ألنه شكل نسق ثقافي‬
‫أيديولوجي مضمر وال واعي متوهم أنه درس ويدرس الحقيقة العلمية‪ ،‬وال يشكل له هذا الزيف‬
‫شعو ار رادعا أخالقيا أبدا كونه منحاز عن القاعدة أو النظرية العلمية‪ .‬والنسق الثقافي كما هو‬
‫معلوم ينتقل في نظام متواصل من جيل إلى أخر عن طريق المحاكاة أو التكرار بشكل الشعوري‬
‫كما في تعلم األفراد للغة‪ ،‬فهي تبدأ مع اإلنسان منذ لحظة والدته‪ ،‬وتستمر معه طوال حياته‪.‬‬
‫والثقافة كذلك فهي تحيط باإلنسان كالهواء الذي يتنفسه‪ ،‬فهي تأثر في أفعاله وتفكيره وسلوكه‬
‫وعاداته‪ .‬وحتى الغرائز والحاالت الطبيعية يمارسها اإلنسان من خالل هذه األنساق‪ ،‬فعملية األكل‬

‫‪19‬‬
‫والشرب وإن كانت رد فعل واستجابة لدافع غريزي هو الجوع‪ ،‬إال أن تلبية هذا الدافع وإشباعه يتم‬
‫وق النسق الثقافي الخاص بتناول الطعام وآداب المائدة في المجتمع الذي ينتمي إليه اإلنسان‪.‬‬

‫ـ ـ باحث في تحليل الخطاب الثقافي‪ ،‬الجزائر‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ـ ـ يقول عبد هللا الغذامي في كتابه "النقد الثقافي قراءة في األنساق الثقافية العربية "‪ :‬يقودنا النقد الثقافي إلى التعرف على عيوبنا‬ ‫‪2‬‬

‫الحضارية والعراقيل التي اعترضت مسيرة النهضة العربية‪ .‬وقد اختار الغذامي نسق "الفحل" الذي يؤكد أنه في الثقافة العربية قد‬
‫انتقل من الشعر إلى مختلف نواحي الحياة‪ .‬فصار لدينا‪ ،‬إلى جانب الشاعر الفحل‪ :‬الفحل االجتماعي والفحل الثقافي والفحل‬
‫اإلعالمي والفحل السياسي‪ "...‬كما يقول أيضا‪ ":‬يتحدد النسق عبر وظيفته‪ ،‬عندما يمتلك الخطاب نسقين أحدهما ظاهر‪ ،‬واألخر‬
‫مضمر‪ ،‬ويكون المضمر أو الخفي مخالف للظاهر‪ ،‬بشرط وجودهما في نص واحد‪ ،‬أو وحدة خطابية واحدة‪ .‬والنسق بهذه الصفة‬
‫يحتاج إلى قراءة خاصة‪ ،‬تكون هي األصل في تأويل الخطاب؛ ألنه يري أن النسق هو معنی مضمر ورمزی منغرس في الخطاب‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالداللة النسقية هي ا ألصل في الكشف عن مغزي الخطاب وتأويله " ينظر عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي قراءة في‬
‫األنساق الثقافية العربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،3‬بيروت ‪ ،2005‬ص‪.77‬‬
‫ـ حسين حاج محمدي‪ :‬مدرسة برمنغهام ماهيتها ورؤاها في بوتقة النقد والتحليل‪ ،‬ترجمة أسعد الكعبي‪ ،‬العتبة العباسية المقدسة‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫بيروت‪ ،‬ط‪ ،2019 ،1‬ص ‪ 11‬ـ ‪.12‬‬


‫‪ 4‬ـ ـ ـ هذا الفحل لطول تمرسه في النقد الثقافي ستجده على علم بأن أهم أ نساق الرواية العربية الجزائرية المعاصرة قد انتهت إلى‬
‫شكلين طاغيين ‪ :‬الشكل األول تناول نسق الحرمان في رواية التابو‪/‬جماليات الجسد‪ ،‬وهي إنما تعب ر عن أزمة مرجعية على أرض‬
‫الواقع ‪ :‬أخالقية سياسية اجتما عية (أصابع لوليتا مثال) أما الشكل الثاني فهو الذي تبنى نسق قوة المعرفة التي تنتجها السلطة في‬
‫مقابل المستويات المهمشة شعبيا وحتى نخبويا بسلطة المعرفة تبع المؤسسة مستقوية بالالعدالة و النفوذ و التزوير ولالديمقراطية‪،‬‬
‫إن لم تقوى بالفعل على بسط سلطان المعرفة ال حقة‪ ،‬هذه الكتابة إنما تعكس أزمة فكرية شاملة ( رواية كيف ترضع من الذئبة دون‬
‫أن تعضك) ‪ .‬أجل ستجده على علم ولسان حاله يقول‪ " :‬السلطة كالشمس من يبتعد عنها يتجمد ومن يقترب منها يحترق"‬
‫ـ رومان جاكبسون‪ :‬قضايا الشعرية ترجمة الولي ومبارك حنون‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،1988 ،‬ص‪. 33‬‬ ‫‪5‬‬

‫ـ عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي قراءة في األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص ‪.18- 17‬‬ ‫‪6‬‬

‫ـ المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.84- 83‬‬ ‫‪7‬‬

‫ـ المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.67- 66‬‬ ‫‪8‬‬

‫ـ تحتل خبرة أو تجربة الواقع في اللغة (ذات االرتباط بالمجتمع) أهمية قصوى تفوق جميع العلوم‪ ،‬فتجربة في الجيب بالنسبة‬ ‫‪9‬‬

‫للمتعامل مع علوم األدب والنقد خير من مليار نظرية‪ ،‬والمجبول على لغته وإن كان يخالف أشخاصا آخرين ثقافيا فإنه بالنسبة‬
‫لجماليات اللغة وشعريتها سيلتقي بهم حتما في جانب من الجوانب‪ ،‬ففي التجربة مع اللغة وعلى اللغة الخير كله وإال ال شر كله وهي‬
‫تحصيل حاصل لنظرية اكتساب اللغة تبع نعوم تشومسكي ‪ Language acquisition device theory‬حيث هناك جهاز‬
‫قبلي غريزي يكتسب اللغة في اإلنسان لكنه مقترن بسن الطفولة األولى‪ ،‬فاذا ما فا تت هذه المرحلة يصعب معها التحكم بأبجديات‬
‫اللغة بالوجه األكمل حتى ولو اضطر شاعرنا مفدي و خطيبنا اإلبراهيمي إلى التعويض بتعلم القواعد والعروض وحفظ أشعار‬
‫العرب في الزيتونة واألزهر عمرهما كله‪ ،‬أما ذلك الذي جاء إليها كي يحفظ أو يسترزق بمعونة التملق أو يعظ فإنه سيكون عالة‬
‫عليها وعلى المنتسبين الحقيقيين إليها‪.‬‬
‫‪ 10‬ــ سمير حجازي‪ :‬معجم المصطلحات األنثروبولوجيا والفلسفة وعلوم اللسان والمذاهب النقدية واألدبية ‪ ،‬دار الطالئع ‪ ،‬د ت‪،‬‬
‫ص‪9‬ـ‪.10‬‬
‫‪ 11‬ـ اإلذاعة الجزائرية القـناة األولى‪ :‬بول شاؤول في ضيافة حصة حبر وأوراق‪ ،‬اقتباس من بث تم يوم األربعاء ‪، 25/5/2016‬‬
‫الساعة الثانية زواال‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ ينظر وحيد بن بوعزيز‪ :‬الهيمنة بالتخييل‪ ،‬موقع هوامش‪http://hwamsh.net/2016/07/ :‬‬

‫‪20‬‬

You might also like