You are on page 1of 8

‫‪1‬‬

‫نظرية ايفان بافلوف ) الفعل المنعكس الشرطي (‬

‫مقدمة ‪:‬‬

‫يرتبط الكتشاف التاريخي لنظرية الفعل المنعكس الشرطي ‪ Réflexe conditionnel‬باسم عالم النفس‬
‫السوفيتي الشهير ايفان بيتروفيتش بافلوف ) ‪ (1936-1849‬رائد البحاث العلمية حول فيزيولوجيا النشاطات‬
‫العصبية الحركية ‪ ( Physiologie de l'activité nerveuse supérieure ) .‬والذي استطاع عبر‬
‫نشاطاته في هذا الميدان أن يترك آثا ار كبيرة في نظريات وآراء علماء الفيزيولوجيا وعلم النفس الفيزيولوجي على مدى‬
‫القرن العشرين برمته ‪ .‬وتكريما لجهوده الكبيرة في هذا الميدان حظي بافلوف بتقدير المؤتمر الخامس عشر الدولي‬
‫لعلم النفس الفيزيولوجي الذي عقد في روما عام ‪ 1932‬وذلك اعترافا بفضله الكبير وجهوده الخلقاة المبذولة التي‬
‫كان لها أثر كبير على مسيرة علم الفيزيولوجيا الحديث‪.‬‬
‫ولد بافلوف في ريازان عام ‪Riazan 1849‬وانتسب إلى جامعة سانت بيترسبورغ ‪،Saint-Petersbourg‬‬
‫ثم حصل على الدكتوراه عام ‪ 1884‬أي في الخامس والثلثين من عمره وذلك في مجال فيزيولوجيا العصاب‪ .‬شغل‬
‫بعدها كرسي الستاذية ورئيس مخبر الفيزيولوجيا في المعهد العالي الطبي في الجامعة نفسها‪.‬‬
‫حاز ايفان بافلوف على جائزة نوبل عام ‪ 1904‬وذلك اعترافا بفضل إنجازاته العلمية في ميدان الفيزيولوجيا‬
‫وخاصة في مجال الجهاز الهضمي والدورة الدموية‪ .‬ونال تقدير القيادة الثورية في التحاد السوفيتي‪ .‬واعترافا بفضله‬
‫نقلت مخابره إلى كولتوشي ‪ Koltouche‬والتي تدعى اليوم بافلوف نسبة إلى بافلوف‪ ،‬وهي مدينة تقع بالغرب من‬
‫ليننغراد ‪ .‬ويأخذ بافلوف مكانه بوصفه الب الحقيقي لعلم الفيزيولوجيا وعلم النفس الحديث في التحاد السوفييتي‬
‫سابقا ‪.‬‬
‫يعتقد بافلوف أن النشاطات النفسية المركبة نتاج للعلقاة بين العضوية والوسط وليست شيئا آخر غير ردود الفعال‬
‫المنعكسة الشرطية التي تجسد استجابة العضوية إزاء الوسط الذي توجد فيه والذي يمثل بدوره عامل خارجيا فإلى‬
‫جانب الفعال المنعكسة الفطرية والتي تستند إلى أسس تشريحية بيولوجية توجد أفعال منعكسة مكتسبة شرطيه تعبر‬
‫عن الشكال الكثر تطو ار للنشاطات النسانية ‪.‬‬
‫وتجسدت فكرة بافلوف هذه في اكتشافاته الخاصة بالفعال المنعكسة الشرطية والتي كان لها أثر كبير في بناء‬
‫نظريته الجديدة حول الحياة النفسية‪ .‬لقد حاول في أعماله أن يجيب عن مسألته المركزية والتي تتمثل في طبيعة‬
‫العلقاة بين الدماغ والنشاطات النفسية وهو يقول في هذا الصدد" أل يمكن لنا أن نجد مظاهر نفسية أولية يمكنها في‬
‫الوقات نفسه أن تكون وعلى نحو كلي ظاهرة فيزيولوجية " وانطلقاا من ذلك كان بافلوف يتساءل عن إمكانية إجراء‬
‫دراسة جادة ودقايقة تسعى إلى الكشف عن شروط وجود هذه الظاهرة في سياق مركباتها واختلطاتها ‪.‬‬
‫بدأت قاصة الكشف عن الفعل المنعكس الشرطي عندما كان بافلوف يجري أبحاثه الخاصة بالف ارزات اللعابية عند‬
‫الكلب حيث لحظ أن لعاب الكلب بدأ بالسيلن قابل وصول الطعام ) قاطعة اللحم ( إلى فمه وأن لعاب الكلب يسيل لمجرد‬
‫رؤية من يقدم له الطعام أو لدى سماع خطواته ‪ .‬ومع أن هذه الملحظة عادية وبسيطة إل أن بافلوف وجد فيها‬
‫منطلقه للبحث في وظيفة الدماغ وهيأت له طريقة جديدة لتحليل العمليات الدماغية دون اللجوء إلى الطريقة المعهودة‬
‫‪2‬‬
‫عند علماء الفيزيولوجيا الذين كانوا يلجؤون إلى جراحة الدماغ إوازالة بعض جوانبه من أجل إدراك وظائف الجزاء‬
‫المبتورة ‪ .‬ومن هذا المنطلق قايل أن عظمة بافلوف تكمن في قادرته على اكتشاف أهمية ظاهرة تبدو بسيطة من حيث‬
‫المظهر وأن هذه القدرة على التبصر العبقري مكنته من الوصول إلى تبصرات عبقرية جديدة في مجال فيزيولوجيا‬
‫الدماغ نفسه ‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق بدأ بافلوف أبحاثه حول الدورة الدموية والبنية العصبية للجهاز الهضمي واستطاع عبر هذه‬
‫البحاث والتحارب الفيزيولوجية حول التنظيم العصبي لجهاز الهضم أن يصل إلى اكتشافه العظيم حول الفعال‬
‫المنعكسة الشرطية ) ‪ ( Réflexes conditionnelles‬لقد لحظ بافلوف في إطار تجاربه العلمية أن الفعل‬
‫المنعكس الخاص بسيلن اللعاب ل يتم على أثر الحتكاك المباشر بين الطعام والغدد اللعابية الفموية فحسب بل أن‬
‫ذلك يتم أيضا تحت تأثير بعض الشارات التي ترتبط عفويا بالمثيرات الطبيعية وذلك مثل الصوات التي تسبق وجبة‬
‫الطعام ‪ .‬ويعطي بافلوف للفعل المنعكس عن بعد وهي ردود الفعل الناجمة عن إشارات وأصوات تسمية الفعال‬
‫المنعكسة الشرطية ‪ . (Réflexes conditionnelles‬وتبين فيما بعد لبافلوف أن الستجابات العصبية للفعل‬
‫المنعكس الخاصة بسيلن اللعاب ل ترتبط بالعوامل الفيزيولوجية الخاصة فحسب ) و هذا يعني العوامل التي تقوم‬
‫بعملية التحريض على نحو مباشر ( بل ترتبط بعوامل نفسية أيضا ‪ .‬و هو في هذا السياق يوظف مفهوم " اللعاب‬
‫النفسي ‪ ((Sécrétion Psychique‬و ذلك في إطار محاضراته حول إف ارزات الغدد اللعابية و الهضمية و ذلك‬
‫في عام )‪. ( 1897‬‬
‫ومن جهة أخرى وجد بافلوف فرصته في اختبار العلقاة بين الظاهرة النفسية والظاهرة الفيزيولوجية‪ ،‬فسيلن اللعاب‬
‫لمجرد رؤية من يقدم الطعام أو لمجرد سماع صوته ليس بظاهرة فيزيولوجية لنه على المستوى الفيزيولوجي ل علقاة‬
‫بين الطرفين وأن سيلن اللعاب مرهون على المستوى الفيزيولوجي بالحتكاك بين الطعام وحليمات اللعاب في الفم ‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق أطلق بافلوف على سيلن اللعاب المرتبط بالمشاهدة اصطلحا اللعاب النفسي وهو يريد بذلك أن‬
‫يشير إلى أن السلوك الحادث هو سلوك نفسي وليس فيزيولوجي وذلك لغياب العلقاة الموضوعية فيزيولوجيا بين‬
‫المشاهدة إواف ارزات اللعاب ‪ .‬وفي هذا المسار حاول بافلوف أن يدرس العلقاة الجوهرية بين الظاهرة النفسية والظاهرة‬
‫الفيزيولوجية عن طريق اكتشاف العلقاة بين المثيرات الخارجية ووظائف الدماغ العصبية العليا ‪ .‬لقد اعتقد فرويد أن‬
‫حدوث الف ارزات النفسية تؤدي إلى بناء علقاات جديدة تسجل في لحاء المخ أو في القشرة الدماغية عند الحيوانات‬
‫العليا ‪ .‬وهو بذلك كله يريد أن يبرهن بأن السلوك النفسي عند النسان يرتكز إلى أسس بيولوجية فيزيولوجية مركزها‬
‫اللحاء المخي عند النسان أو الحيوانات العليا ‪.‬‬
‫وعلى أثر هذه الملحظات الخاصة بإف ارزات اللعاب أجرى بافلوف سلسلة متواصلة من التجارب على الكلب من أجل‬
‫التحديد العلمي لحركة هذه الظاهرة ورسم تجلياتها في صورة قاوانين علمية واضحة قاام على أثرها بتحديد المفاهيم‬
‫الساسية لنظريته هذه الخاصة بالتعزيز والنطفاء والتعميم والترابط والتعلم‪.‬‬
‫لقد أطلق بافلوف على المثير الطبيعي للطعام المثير غير الشرطي وعلى الستجابة الطبيعية الستجابة غير‬
‫الشرطية ‪ ،‬ثم أطلق على المثير الخارجي )صوت الجرس ( المثير الشرطي وعلى الستجابة غير الطبيعية‬
‫) سيلن اللعاب لمجرد سماع صوت الجرس ( الستجابة الشرطية ويمكن توضيح جوانب المسألة بالمثال التالي ‪:‬‬
‫م ‪ -1‬مثير طبيعي ) قاطعة اللحم ( ‪ ------‬استجابة طبيعية ) إفراز اللعاب (س ‪1‬‬
‫‪3‬‬
‫م ‪2‬مثير شرطي ) صوت الجرس ( ‪ -------‬استجابة طبيعية ) السماع( س ‪2‬‬
‫مثير طبيعي )قاطعة اللحم ( ‪ +‬مثير شرطي) صوت الجرس ( ‪ +‬تكرار الرتباط يؤدي إلى استجابة شرطية هي إفراز‬
‫اللعاب ‪.‬‬
‫وبطريقة أخرى يمكن صياغة المعادلة التالية ‪:‬‬
‫م ‪+1‬م ‪2‬ومع التكرار ـــــ س ‪+1‬س ‪ 2‬وبالنتيجة م ‪2‬ـــــــ س ‪.1‬‬
‫يبن المخطط السابق أن المثير الذي كان حياديا )رنين الجرس ( وبفعل الترابط يستطيع أن يلعب دور المثير‬
‫الطبيعي الذي هو قاطعة اللحم وأن يؤدي إلى استجابة شرطية هي سيلن اللعاب عند الكلب ‪.‬‬
‫ومع أن هذه التجربة تبدو يبدو وكأنها ساذجة أو تحصيل حاصل في معطياتها إل أنها تمثل على المستوى العلمي‬
‫ابتكا ار في غاية الهمية والخطورة ‪ .‬لقد حاول بافلوف ومن حذا حذوه أن يبرهن بأن منظومة سلوكنا وأفاعيلنا‬
‫ومشاعرنا هي نتاج موضوعي للعلقاات الستجابية الشرطية التي تضرب جذورها في عمق الجملة العصبية الدماغية‬
‫عند النسان وهو بذلك يسعى إلى التأكيد على مقولة الوحدة الديالكتيكية بين الوجود المادي والوجود النفسي عند‬
‫النسان وأن الحياة النفسية هي ارتكاسات عصبية للعلقاة الموضوعية بين الدماغ والمثيرات الخارجية ‪.‬‬
‫وترتب على بافلوف أن يحدد منظومة مفاهيمه الخاصة بنظرية الرتكازات الشرطية وخاصة هذه التي تتعلق بكيفية‬
‫بناء الستجابة الشرطية وحدودها ومدى استمرارية هذه الستجابات في مدار الزمن وكيفية حدوث النطفاء والتعزيز‬
‫والتعميم ويجمل بنا في هذا السياق أن ننوه إلى بعض المحاور الخاصة بالمفاهيم المركزية لهذه النظرية ‪.‬‬
‫بادئ ذي بدء يرتهن بناء الستجابة الشرطية بعدد من فعاليات الرتباط بين مثيرين والصورة العلمية التي يقدمها‬
‫بافلوف عبر تجاربه تأخذ المخطط التالي الذي يبين الصورة الشراطية للعلقاة بين صوت الجرس مقترنا بتقديم الطعام‬
‫وعدد نقاط اللعاب عند الكلب ويطلق على هذه العملية عملية التعزيز ‪: Renforcement‬‬

‫تعزيز الستجابة الشرطية‬


‫تقديم الصوت والطعام‬ ‫عدد نقاط اللعاب في‬
‫ثلثين ثانية‬
‫‪1‬‬ ‫‪0‬‬
‫‪9‬‬ ‫‪18‬‬
‫‪15‬‬ ‫‪30‬‬
‫‪31‬‬ ‫‪65‬‬
‫‪41‬‬ ‫‪64‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪69‬‬
‫‪4‬‬
‫يبين المخطط السابق أن عملية اقاترن المثيرين قاد تمت بصورة أكيدة خلل ‪ 51‬مرة من مرات تقديم الطعام ‪ .‬ولكن‬
‫هذه العملية التعزيزية يقابلها ما يسمى بعملية النطفاء ‪ Extinction‬ويشير هذا المفهوم إلى اضمحلل وتلشي‬
‫الستجابة الشرطية حين تتوقاف عملية التعزيز السابقة بصورة مستمرة ‪ ،‬ويعني ذلك أن المثير الشرطي يجب أن يعزز‬
‫دائما أو بصورة متقطعة ليحافظ على فعاليته في إحداث الرتكاس أو الستجابة الشرطية وفيما يلي مخطط النطفاء‬
‫التجريبي الذي رسمه بافلوف خلل تجاربه المستمرة ‪ .‬وقاوام هذه التجربة تعريض الكلب لرنين الجرس دون تقديم‬
‫الطعام له ‪:‬‬
‫النطفاء ‪Extinction‬‬
‫رقام التجربة‬ ‫الزمن بالثانية‬ ‫نقط اللعاب‬
‫‪1‬‬ ‫‪12،7‬‬ ‫‪13‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪12،10‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪12،13‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪12،16‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪5‬‬ ‫‪12،19‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪6‬‬ ‫‪12،22‬‬ ‫‪2،5‬‬
‫‪7‬‬ ‫‪12،25‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪8‬‬ ‫‪12،27‬‬ ‫‪-‬‬
‫يظهر المخطط السابق أن تناقاص نقاط اللعاب بتزايد رقام التجربة حتى يصل إلى الصفر وهي حالة النطفاء الكاملة‬
‫التي ينوه بافلوف إلى وجودها ‪ .‬ومع ذلك فإن بافلوف يشير إلى نوعين من النطفاء وهما‪:‬‬
‫‪ -1‬النطفاء الداخلي الناجم عن غياب تقديم الطعام كما هو مبين في التجربة ‪.‬‬
‫‪ -2‬انطفاء خارجي ويعود إلى شروط خارجية مثل سماع أصوات غريبة أثناء التجربة وبشكل مفاجئ‪.‬‬
‫إذن يحدد بافلوف الشروط الساسية لظهور ما يطلق عليه الستجابة الشرطية وعلى خلف الستجابة الطبيعية‬
‫ترتبط هذه بعملية ارتباط بين مثير طبيعي ومثير حيادي ‪ .‬على سبيل المثال عندما يرتبط تقدم الطعام برنة جرس فإن‬
‫رنين الجرس يستطيع بمفرده أن يؤدي إلى سيلن لعاب الحيوان ولكن إذا حدث أن رنين الجرس ل يترافق مع تقدم‬
‫الطعام فإن قادرة الجرس على الثارة تنخفض تدريجيا إلى حد الزوال‪.‬‬
‫ولحظ بافلوف في هذا السياق أنه عندما يتم إثارة اللعاب وفقا لصوت جرس معين فإن الصوات المقاربة للذبذبة‬
‫الصوتية المعينة يمكنها أن تؤدي إلى النتيجة نفسها وهذا ما يطلق عليه بافلوف مفهوم التعميم "‬
‫‪ " Généralisation‬ويبحث بافلوف عن صيغة متكاملة للمثيرات وذلك من أجل الشارة إلى عملية تحول طاقاة‬
‫ردود الفعل من مثير إلى آخر ومن ثم عمل فيما بعد على تحليل هذه المثيرات من أجل اكتشاف الفروق القائمة بينها‪.‬‬
‫وقاد قادر لبافلوف ومعاونيه دراسة المظاهر الساسية للفعل المنعكس الشرطي وذلك من خلل الستجابات اللعابية عند‬
‫الكلب وبينت أبحاثهم اللحقة أن هذه النتائج تنسحب على عدد آخر من الستجابات ‪.‬‬

‫الستجابات الشرطية والسلوك النساني ‪:‬‬


‫‪5‬‬
‫ينظر بافلوف إلى الظاهرة النفسية وما يترتب عليها من أنماط سلوكية بوصفها أفعال منعكسة وأفعال منعكسة شرطية‬
‫محددة بزمان ومكان معينين ‪.‬‬
‫ويعتقد بافلوف أن النسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة ويرى أن النظام‬
‫النساني هو الوحيد بين النظمة الطبيعية الذي يتميز بقدرته الهائلة على التنظيم الذاتي والذي يمتلك المرونة الفائقة‬
‫لهذه الفعالية ‪ .‬فالنسان بأنظمته المعقدة خلصة تطور الطبيعة في صورتها الكثر رقايا وتقدما ‪ .‬فالسلوك النساني‬
‫صناعة تتم وفقا لمبدأ الستجابات الشرطية وهي صناعة ممكنة أي أنه يمكن لنا التحكم في سلوك النسان وتشرطه‬
‫وتصنيعه مخبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الجتماعية ‪ .‬فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا‬
‫وقايمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والجتماعية هي نتاج لعملية تشريط اجتماعية تربوية‬
‫بعيدة المدى وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الشراط ومبدأ الرتكازات الشرطية التي بين‬
‫أسرار حركتها في مخابره وتجاربه الطويلة ‪ .‬لقد بين بافلوف أنه يمكن للتشرط ألرتكازي إيقاع الناس فريسة المراض‬
‫النفسية وأنه وعلى خلف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلمهم وعقدهم وأمراضهم‬
‫النفسية ‪.‬‬
‫فالنسان ينطلق في عملية تكيفه وفق منظومة دللية من الرموز والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات‬
‫شرطية تتصف بالستمرار والديمومة ‪ .‬فالكلم يشكل بالنسبة للنسان نظاما ثابتا من الدللت الذي يتمايز به النسان‬
‫عن الحيوان فالكلم هو بالتأكيد المر الذي جعل منا بش ار ‪ .‬فالمثيرات الولى هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي‬
‫مثل الصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء والحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين النسان والحيوان ولكن‬
‫النسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف بالمثيرات الدللية من المستوى الثاني والتي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات‬
‫والمعاني وهي الرموز أو الدللت التي يتفرد بها عالم النسان عن عالم الحيوان ‪.‬‬

‫المنعكسات الشرطية ووظائف الدماغ العصبية العليا ‪:‬‬


‫وكان هدف بافلوف الساسي عبر دراساته حول الفعل المنعكس الشرطي أن يصل إلى تحديد موضعي للنشاطات‬
‫العصبية العليا عند الكائن الحي‪ .‬فالمثير يمكنه أن يطلق عنان عمليات الثارة أو الكبح وذلك في مستوى القشرة‬
‫الدماغية ويمكن لذلك أن ينتشر ليعم المناطق الدماغية المجاورة ‪ ..‬وفي كلتا الحالتين تنمو عملية إثارة بدرجة كثافة‬
‫مختلفة وذلك وفقا لنوعية المثير الحيادي أو الطبيعي‪ .‬فالترابط المؤقات الذي يجمع بين مثير طبيعي ومثير شرطي يمثل‬
‫ترابطا بين مثيرات وليس بين مثير واستجابة كما يعتقد أنصار السلوكية المريكية‪.‬‬
‫يميز بافلوف بين الفعل المنعكس والفعل المنعكس الشرطي بصورة فيزيولوجية تتعلق بموقاع الستثارة لكل منهما في‬
‫الدماغ ‪ .‬فالعمليات الخاصة بالفعل المنعكس الشرطي تجري في مجال القشرة الدماغية عند النسان وعلى خلف ذلك‬
‫فإن الفعل المنعكس )الطبيعي( يجري في المناطق الداخلية للدماغ ) مناطق تحت اللحاء ( ‪ .‬وبناء على هذه الصورة‬
‫فإن الفعل المنعكس يكون فطريا وراثيا أما الفعل المنعكس الشرطي فيأخذ صورة الفعل الثقافي المكتسب والذي ل يخرج‬
‫في نهاية المر عن مقدماته وشروطه الفيزيولوجية ‪.‬‬
‫ويربط بافلوف بين النماذج العصابية واكتشافاته الخاصة بالفعال المنعكسة الشرطية التي أتاحت له اكتشاف ما‬
‫يسمى بالعصاب التجريبي" ‪ " Nervose Expérimentale‬وهو عصاب يحدث عندما يتعرض الحيوان المجرب‬
‫‪6‬‬
‫علية لعمليات إثارة وكبح في آن واحد يقع على أثرها الحيوان فريسة الثارة البالغة وذلك لنه ل يستطيع التمييز بين‬
‫المثيرات القادمة المتنافرة وتكون النتيجة إصابة الحيوان المعني بالعصاب ‪.‬‬
‫كان لكتشاف بافلوف الكبير الخاص بالفعل المنعكس الشرطي أن يدفع البحاث النظرية والتجريبية حول التعلم‬
‫حيث سادت موضة هذه البحاث في النصف الول من القرن العشرين‪ ،‬وفي الواقاع شكل مفهوم الفعال المنعكسة‬
‫الشرطية مهاد تطور كبير ذو طابع تجريبي لمفهوم الترابط الذي كان أخذ منحى ذهنيا‪ .‬وغني عن البيان أيضا أن‬
‫بافلوف قاد بذل أكثر من أي مفكر آخر جهودا كثيرة من أجل تطوير علم النفس العلمي وذلك عندما يبين لنا إلى أي حد‬
‫يمكن للتحليل الموضوعي أن يؤدي إلى نتائج مختلفة عن هذه التي تؤدي إليها التأملت النظرية فحسب‪.‬‬
‫الجوانب السيكولوجية الفلسفية لنظرية بافلوف ‪:‬‬
‫حاول بافلوف في سياق جهوده العلمية الكبيرة وفي مسار ابتكاراته أن يعزز بعض المنطلقات الساسية للتجاهات‬
‫الفلسفية المادية وأن ينتصر بما قادمه من نتائج علمية بارعة لتيارات علم النفس التجريبي والفيزيولوجي الذي طرحا‬
‫نفسه بوصفه التجاه الوحيد القادر على تفسير الظاهر النفسية تفسي ار علميا بعيدا عن خرافات علم النفس التأملي‬
‫وأساطيره التي تحلق فوق الواقاع الموضوعي للظاهرة النفسية وتضفي إليه مال ينطوي عليه ‪.‬‬
‫وغني عن البيان أن نظرية بافلوف تنطوي على رؤية فلسفية طموحة وأصيله في جوانبه العلمية وهذه الرؤية تعزز‬
‫في الوقات نفسه اتجاهات السيكولوجيا النزاعة إلى الرتقاء في صورته العلمية ‪ .‬فالنظرية البافلوفية تنشد المبادئ‬
‫التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الساسية والدماغ هو أعلى أشكال المادة وأرقااها ‪.‬‬
‫وينبني على هذه المسلمة أنه ل يمكن أبدا إدراك العمليات النفسية بصورة علمية على القال بعيدا عن إدراك العمليات‬
‫التي تتأصل في البنية الدماغية ‪ :‬فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في لحاء المخ وقاشرة الدماغ الموطن‬
‫الحقيقي لرتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالتنا ‪.‬‬
‫‪ -2‬الشعور انعكاس للمادة وصورة من صور العالم الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة‬
‫باشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صور دماغية لحائية ذات طابع إشراطي ‪ .‬وبالتالي فإن إدراك الفعل النفسي‬
‫مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا الفعل النفسي نتاج التفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته‬
‫المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يتجسد بالمناطق الدماغية وخاصة اللحاء الدماغي ‪.‬‬
‫‪ -3‬المادة أولية والشعور لحق وثانوي وهذا يعني أن الفكار والحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود‬
‫بصورة مستقلة عن الوعي ‪ .‬وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الهمية والخطورة في مجالت الصراعات‬
‫اليديولوجية الخاصة بالمسألة الساسية للفلسفة وهي أن المادة سابقة للوعي في الوجود وفي مجال علم النفس أن‬
‫الصورة الشعورية تولد في عالم المادة والظروف الخارجية وبعبارة أخرى ما من شيء يمكنه أن يولد في الشعور إل‬
‫كصورة منعكسة من صور العالم المادي ‪.‬‬
‫وباختصار نازع الختتام يمكن القول أن سيكولوجيا بافلوف هي انتصار لراء هوبز الفلسفية فالعمليات العقلية‬
‫والنفسية قاابلة للدراسة والختبار بصورة علمية ل مراء فيها ‪ .‬وفي هذه المقولة يمكن القول بأن نظرية بافلوف‬
‫واستنادا إلى نتائجها العملية في ميادين الحياة المختلفة قادمت لعلم النفس أساسا علميا صلبا يعتمد على معطيات‬
‫‪7‬‬
‫العلوم المختلفة من طب وفيزيولوجيا العصاب وفيزياء وبذلك يتجسد مسعى بافلوف لخراج علم النفس من متاهاته‬
‫السطورية ذات الطابع التأملي الخالص ‪.‬‬

‫تطبيقات النظرية وتوظيفاتها في مجالت الحياة النفسية والجتماعية ‪:‬‬


‫لم تعد المراض النفسية والعقلية بعيدة عن الفهم والعلج منذ أن قادم بافلوف الساس الفيزيولوجي الواضح لها ‪.‬‬
‫مع أن نظرية بافلوف تنطوي على ابتكارات ل تقل أهمية في مجال فيزيولوجيا العصاب وفي التعلم فإن تطبيقات‬
‫هذه النظرية وتوظيفاتها النفسية ما زالت تمثل قاطب الرحى من حيث الهمية ‪.‬‬
‫لقد برهنت هذه النظرية عن إمكانيات هائلة في مجال المعالجة النفسية وشفاء المرضى العقليين في مجالت متعددة‬
‫وخاصة في مجال الهيستيريا والعصاب والفصام والضرابات العقلية والنفسية بصورة عامه‪.‬‬
‫وما يؤسف له حقا ‪ ،‬أن معطيات هذه النظرية القابلة لستثمارات غير إنسانية ‪ ،‬لقد وظفت بصورة غير إنسانية‬
‫وخاصة في عمليات غسل الدماغ ‪ ،‬حيث قادمت هذه النظرية السس العلمية لعمليات غسل الدماغ عن طريق ما يسميه‬
‫بافلوف العصاب التجريبي الذي يؤدي إلى هدم الرتباطات الشرطية الموضوعية في المخ ‪ ،‬ويعمل على تصفية ثوابت‬
‫الرتباطات القائمة وفق نظام جديد من الشرطية المتنافرة التي يمكن أن تؤدي ببساطة إلى الخلل العقلي إوالى الفصام‬
‫والضطرابات النفسية المتنوعة وخاصة الجنون‪.‬‬
‫لقد استخدمت معطيات هذه النظرية أثناء الحرب العالمية الثانية وما تلها من حروب في تعذيب السرى وغسل‬
‫أدمغتهم بصورة واسعة ‪ .‬كما استخدمت في الحرب بصورة واسعة ‪ .‬لقد لجأ خبراء علم النفس السوفييت أثناء الحرب‬
‫العالمية الثانية إلى توظيف الكلب التي تم تشريطها سيكولوجيا على تناول الطعام تحت الدبابات والعربات حيث كانت‬
‫الكلب تجوع لمدة يوم كامل ثم يوضع على جسدها ألغاما مضادة للدرع ومزودة بهوائي موجه إلى العلى بحيث يؤدي‬
‫في حال ارتطامه بجسد الدبابة إلى النفجار ‪ .‬وهكذا كان يتم إطلق الكلب في ساحات المعارك تحت تأثير الجوع والتي‬
‫كانت تنقض بفعل الرتكازات الشرطية البافلوفية على الدبابات اللمانية فتنشر الرعب والموت في صفوف اللمان‬
‫النازيين ‪.‬‬
‫وغني عن البيان أن نظرية بافلوف هذه التي دفعت مسارات البحث في ميادين عدة وجدت فيما بعد تطويرها الصيل‬
‫على يد المفكر العبقري المريكي سكنر الذي ابتكر بصورة خلقاة مفهوم الشراط الجرائي الذي يعد بحق تتويجا لنظرية‬
‫بافلوف وتجاو از لها في الوقات نفسه حيث استطاع سكنر لحقا أن يفسر جملة أنماط السلوك النساني وفقا لطريقة‬
‫جديدة في فهمه لمبدأ الستجابة الشرطية والتي تتمثل في الستجابة الجرائية ‪.‬‬

‫خلصة ‪:‬‬
‫يقول شكسبير أن الفرد الذي يضع يده على النار ل يمكنه أن يفكر في القوقااز المتجمد وعلى خلف ذلك يعلمنا‬
‫بافلوف أن يبين لنا كيف يستطيع النسان الذي يركز حواسه وأفكاره على المنطقة المتجمدة أن يمسك النار بيده‬
‫دون أن يشعر بها ‪.‬‬
‫إن الوقاوف عند نظرية بافلوف يمثل وقافة في محطة هامة من محطات التاريخ العلمية التي كان لها أثر كبير في دفع‬
‫العجلت التاريخية للمعرفة العلمية في مجالت علم النفس وعلم النفس الفيزيولوجي وفيزيولوجيا الدماغ ‪ .‬وستبقى‬
‫‪8‬‬
‫نظرية بافلوف الرتكازية مركز إشعاع علمي تاريخي يرسم للمفكرين مسارات مضيئة في مجال علم النفس الفيزيولوجي‬
‫‪.‬‬

‫المراجع ‪:‬‬
‫‪ -1‬كركوتلي )عبد المجيد ( ‪ ،‬بافلوف ‪ ،‬ط ‪ ،2‬مطبعة الهلل ‪ ،‬دمشق ‪1986 ،‬‬
‫‪ -2‬عاقال )فاخر( ‪ ،‬مدارس علم النفس ‪ ،‬دار العلم للمليين ‪،‬ط ‪ ،6‬بيروت ‪.1983‬‬
‫‪ -3‬عاقال )فاخر( ‪ ،‬التعلم ونظرياته ‪ ،‬دار العلم للمليين ‪،‬ط ‪ ،4‬بيروت ‪.1977 ،‬‬
‫‪ -4‬بدوي ) أحمد زكي( ‪ ،‬معجم مصطلحات العلوم الجتماعية ‪ ،‬مكتبة لبنان ‪ ،‬بيروت ‪.1978 ،‬‬
‫‪ -5‬حمصي )أنطون( ‪ ،‬مدارس علم النفس ‪ ،‬جامعة دمشق ‪ ،‬مطبعة التحاد ‪.1985،‬‬
‫‪ -6‬حمصي )أنطون( ‪ ،‬علم النفس العام ‪ ،‬جامعة دمشق ‪ ،‬مطبعة التحاد ‪. 1991،‬‬
‫‪ -7‬صالح ) أحمد زكي ( ‪ ،‬علم النفس التربوي ‪ ،‬النهضة المصرية ‪،‬ط ‪،10‬القاهرة ‪.1972 ،‬‬

You might also like