Professional Documents
Culture Documents
الاجتماعي وعالمه الممزق
الاجتماعي وعالمه الممزق
share
tweet
1+
Tooltip
يق ّدم عالم االجتماع األلماني أكسيل هونيت ( )1949في كتابه الموسوم بـ"االجتماعي وعالمه الممزق:
مقاالت فلسفية اجتماعية" ،الصادر مؤخراً عن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي لألبحاث ودراسة
السياسات" بترجمة ياسر الصاروط ،مراجعة نقدية لإلرث الفلسفي للنظرية النقدية ،مبرزاً من خالل ذلك
الصعوبات السوسيو-فلسفية التي قد تواجه اليوم ك ّل مشروع يهدف إلى بناء نظرية اجتماعية نقدية.
ً
بداية أعمال جورج لوكاتش األولى مضيئا ً راهنيتها الخفيّة ،خاصة أنها تتمحور حول يستحضر المؤلّف
الشروط الثقافية للتنشئة االجتماعية الناجحة وغير المشوّ هة ،إذ أدرك الواقع المجتمعي لعصره كحالة
اغتراب اجتماعي مرجعا ً ذلك إلى أزمة الثقافة.
ّ
التمزق ويمكن أن نصف أعماله المبكرة كثمرة نظرية لـ"المناهضة الرومانسية للرأسمالية" ،فهو يرى في
ً
نتيجة لعملية التحديث الرأسمالية. الذي يطبع الواقع االجتماعي
ّ
التمزق االجتماعي ،يضع لوكاتش الشاب النموذج المثالي لـ"ثقافة جمالية" كشرط ضروري في مقابل هذا
الندماج اجتماعي غير مشوّ ه ،فالثقافة الجمالية هي الوسيط الذي من شأنه أن يجمع الفردي بالمجتمعي،
وسيكون ألعماله تأثي ٌر على الرعيل األول للنظرية النقدية ،بل نجد لها حضوراً في أعمال هونيت نفسه،
كما الحال في دراسته عن التشيؤ.
يقف هونيت عند بدايات النظرية النقدية مؤكداً أن "الوعي بجميع نقائصها وحده هو ما يتيح اليوم إعادة
توطيد العالقة مع هذا التقليد الفكري الذي أسّسه هوركهايمر" ،ولن ير ّكز فقط على المف ّكرين األساسيين
في حلقة "معهد البحوث االجتماعية" ،كهوركهايمر وأدرنو وماركوزه ،بل أيضا ً على من سمّاهم
"الهامشيين" ،أمثال بنيامين ونويمان وكيرشهايمر وكذلك إيريش فروم.
هدف النظرية النقدية هو "التغلّب على االنشقاق الفكري -التاريخي بين البحث عن الحقائق والفلسفة"
لقد وُ لدت النظرية النقدية ما بين الحربين العالميتيْن كمحاولة لتطوير النظرية الماركسية وتجاوز نقائصها،
وأه ّم ما ميّزها هو منهجيتها البيتخصصية،ـ فقد عملت على إدراج ك ّل فروع البحث في العلوم االجتماعية
ضمن مشروعها ،ولع ّل الغاية الرئيسية من وراء ذلك هو "التغلّب على االنشقاق الفكري -التاريخي بين
البحث عن الحقائق والفلسفة".
وقد طرحت "النظرية النقدية" كمقابل "للنظرية التقليدية" ،وتب ّنت في بداياتها مع ك ّل من هوركهايمر
وأدرنو وماركوزه الصيغة الكالسيكية من النظرية الماركسية في التاريخ ،وقد ح ّدد هوركهايمر الفروع
المعرفية للنظرية النقدية في ثالثة رئيسية ،تشمل ،حسب هونيت ،التحليل االقتصادي للمرحلة ما بعد
الليبرالية في الرأسمالية ،واالستقصاء النفسي -االجتماعي لالندماج االجتماعي للفرد ،والتحليل الثقافي
النظري لطريقة تأثير الثقافة الجماهيرية".
مناقشات نقدية لمقاربات مهمّة داخل النظرية السوسيولوجية الحديثة :يضم كتاب "االجتماعي وعالمه
ّ
الممزق :مقاالت فلسفية اجتماعية" للفيلسوف وعالم اإلجتماع األلماني أكسل هونيت ( )1949مناقشات
نقدية لمقاربات مهمّة داخل النظرية السوسيولوجية الحديثة ،حاول هونيت فيها تقديم نظرة عامة حول
الصعوبات السوسيولوجية والفلسفية التي يواجهها اليوم منهجيا ً أيّ مشروع لنظرية اجتماعية نقدية.
غير أن هونيت ينتقد التركيبة النظرية لـ"النظرية النقدية" في الحلقة الضيقة للمعهد ،أيّ أعمال هوركهايمر
وأدرنو وماركوزه ،ألنها انبنت على اختزال وظيفي ومنظور ثابت لفلسفة التاريخ الماركسية والتزام
بالتقليد الفكري لفلسفة الوعي ،وقد ظلّت حلقتهم في نظره "مغلقة دوما ً في مواجهة جميع المحاوالت التي
رمت إلى رؤية مسار التاريخ بصورة مختلفة عن وجهة النظر التي فسّرته بتطوّ ر العمل االجتماعي" ،ما
يفسّر ضمور هذه النفحة البيتخصصية شيئا ً فشيئا ً في أعمال هوركهايمر وأدرنو أيضا ً لترتكز فقط على
التصوّ ر الفلسفي -التاريخي ،أو باألحرى على تصوّ ر متشائم للتاريخ ،فمع كتاب "جدل التنوير" ستستند
النظرية النقدية إلى ما يسميه هونيت بـ"المسؤولية الحصرية للفلسفة".
لكن بالمقابل ستبرز "الحلقة الخارجية" ،ويقصد بها أولئك الذين ارتبطوا بمعهد العلوم االجتماعية لفترات
قصيرة ،أو بطريقة غير مباشرة ،أمثال نويمان وكيرشهايمر وبنيامين وفروم .فنويمان وكيرشهايمر
يعارضان أطروحة رأسمالية الدولة التي تب ّناها هوركهايمر وبولوك ،منافحان في المقابل عن تفسير
للمجتمع تحت ّل فيه عملية التواصل الشامل بين الفئات االجتماعية المكانة المركزية .وسيبرز هونيت نقطة
التقاطع بين تصوّ ر ك ّل من نويمان وكيرشهايمر وطريقة تفكير بنيامين ،الذي يصف بدوره الخالفات بين
الطبقات االجتماعية باعتبارها خبرة حيوية دائمة ومق ّدمة نظرية لك ّل تحليل ثقافي ومجتمعي.
ويشترك بنيامين مع أدرنو من حيث اهتمامه بالفن "كمصدر معرفة نظرية" ،غير أنه يختلف معه حول
تصوّ ره السلبي عن "الفن الجماهيري المنتج تقنياً" ،مبرزاً ما ينطوي عليه هذا الفن من أشكال جديدة من
الوعي الجماعي ،بل يرى في انفتاح العالم على الفنون المستنسخة تقنيا ً دعما ً لصيرورةـ التنوير
الجماهيري ،كما أن التحليالت الثقافية لبنيامين تتجاوز التفكير الوظائفي ،بل تكسر العالقات الوظيفية
للنظرية النقدية ،كما تش ّكلت مع هوركهايمر وأدرنو.
وسينطلق هونيت من األعمال األولى لبنيامين ،وبالتحديد من كتابه "برنامج فلسفة مقبلة" ،الذي تضمّن
نقده "للنماذج المختزلة للخبرة اإلنسانية" .إنه يقصد الخبرة المكتسبة عن حقيقة كلّية ملهمة ،كشكل من
أشكال الخبرة غير األداتية ،والتي نجدها في الخبرات الدينية والجمالية ،فالخبرة ليست فقط ميكانيكية بل
دينية وتاريخية ،وقد لعبت كتابات برغسون دوراً محوريا ً في هذا السياق ،حيث تم ّكن بنيامين من خاللها
من تشكيل تصوّ ر ّ
أدق حول الخبرة غير ميكانيكية ،وليتوصل إلى فرضية "فقدان الخبرة" عبر استخالص
نتائج الدراسات المختلفة حول التحوّ ل االجتماعي من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة،
موضحا ً كيف أنّ اإلنتاج الصناعي الرأسمالي سيؤ ّدي إلى فقدان الخبرة ،خاصّة إذا علمنا أن "الخبرة
تتنامى من خالل تناقص االنتباه"؛ فداخل المجتمعات الرأسمالية انتقلنا من العمل الحِرفي إلى اإلنتاج
ً
عالية من االنتباه األداتي ،كما انتقلنا من أشكال التبادل السردية إلى شكل اآللي ،وهو ما يتطلّب درجة
التواصل األحادي المنتشر عبر وسائل اإلعالم والذي يتطلّب االنتباه المستمر للمتلقي.
وفي السياق نفسه ،يتجاوز إريك فروم بدوره البعد الوظائفي للنظرية النقدية من خالل إعادة تأويل التحليل
النفسي ،مر ّكزاً على الدور الفعال للتفاعل االجتماعي في عملية التنشئة االجتماعية .وقد قوبلت هذه
العناصر التفاعلية في نظرية فروم بالمعارضة من قبل الحلقة الضيّقة للمعهد .وهكذا يبيّن هونيت كيف أن
األعمال البحثية لمف ّكري "الحلقة الخارجية" كان من الممكن أن تساهم في تجاوز الوظائفية الماركسية لو
لم تنته عالقة هؤالء مؤسساتيا ً بمعهد البحوث االجتماعية .وسيتح ّقق هذا التجاوز ،حسب هونيت ،مع
المنعطف التواصليـ ليورغن هابرماس الذي ابتعد عن االفتراضات األساسية لفلسفة التاريخ التي كانت
ّ
تؤطر أعمال الرعيل األول للنظرية النقدية.
يسلّط المؤلّف الضوء أيضا ً على امتدادات النظرية النقدية خارج السياق األلماني ،خصوصا ً مع أعمال
ميشيل فوكو حول السلطة التي اعتبرها "المحاولة األكثر جذرية في إماطة اللثام عن التنوير األوروبي"،
إذ كشف فوكو ،باشتغاله على ترويض وضبط الجسد ،الوجه الحقيقي للحداثة.
ففي نقده عقالنية الحداثة يظهر ،حسب هونيت ،قربه من فلسفة التاريخ ألدرنو ،مشيراً إلى التطابق
الحاصل بينهما ،فبالنسبة إلى أدرنو ،كما بالنسبة إلى فوكوّ ،
"تمثل العقالنية األداتية آلية بيد السلطة لضبط
حركات الجسد وسكناته ،فنقدهما للحداثة ر ّكز على مسار العقلنة األداتية ،وإن ربط أدرنو صيرورة العقلنة
بـ"السيطرة على الطبيعة" ،وربطها ميشيل فوكو بـ"الرقابة االجتماعية" ،فإن كليهما سيعتبران أن العقالنية
األداتية وصلت إلى ذروتها مع المؤسسات السلطوية التي تمارس رقابة شاملة على الحياة االجتماعية،
محوّ لة الفرد إلى عضو مطيع في المجتمع.
وإذا كان أدرنو يرى أن هذا التح ّكم يت ّم عبر "أدوات صناعة الثقافة" ،أيّ التالعب النفسي الذي تقوم به
وسائل اإلعالم الجماهيرية ،فإن فوكو يرى أن التح ّكم يكون عبر "إجراءات ضبط الجسد" التي تقوم بها
مؤسسات كالمدرسة أو المص ّح النفسي أو السجن .وهذا ما سيدفع هونيت إلى اعتبار أعمال فوكو "نسخة
مختزلة" عن جدل التنوير ألدرنو.
فوزية حيوح
حقوق النشر :العربي الجديد 2020
فوزية حيوح كاتبة وباحثة من المغرب.