‫مقدمة‪:‬‬

‫يعتبر ظهور مدرسة شيكاغو بمثابة ثورة في تاريخ السوسيولوجيا‪ ،‬نظ ار لما أحدثه في سيرورة علم االجتماع من‬
‫تغيرات ال على مستوى الموضوع فقط من خالل االهتمام بظاهرة التحضر والهج رة وغيرها من الظ واهر األخرى‪،‬‬
‫بل كذلك على مستوى البحث السوسيولوجي وتقنياته‪ ،‬ومناهجه‪ ،‬الذي بقي وفيا للبحث السوسيولوجي النظري في‬
‫أورب ا‪ ،‬على خالف الوالي ات المتح دة األمريكي ة ال تي اتج ه البحث السوس يولوجي نح و اتج اه آخ ر‪ ،‬ينطل ق من‬
‫المي دان ومن الواق ع باعتب اره مخت ب ار غني ا بالمعطي ات والوق ائع واألح داث واألفع ال والظ واهر االجتماعي ة‪ ،‬وذل ك‬
‫بابتكار تقنيات وأدوات علمية جديدة ومناهج ونظريات ومقاربات ومفاهيم‪ ...‬كل ه ؤالء االبتكارات التي يعود فيها‬
‫الفض ل ل رواد المدرس ة‪،‬جعلت من علم االجتم اع حس ب ب يرجس وب ارك يق والن في كتابهم ا‪ ":‬مقدم ة لعلم‬
‫السوسيولوجيا" يبدو أن علم االجتماع قد أصبح اليوم على الطريق ليصبح بشكل أو بآخر علما تجريبيا"‪.‬‬

‫محددات النشأة‪:‬‬

‫وس اعدت ع دة عوام ل على نش أة مدرس ة ش يكاغو‪ .‬فعالوة على العام ل اإلبس تيمولوجي ‪-‬المع رفي المتمث ل في‬
‫األسس والمنطلقات الفكرية والفلسفية والمنهجية التي قام عليها هذا التقليد السوسيولوجي‪ ..‬بفضل استثمار التراث‬
‫السوس يولوجي األوروبي (الفرنس ي واأللم اني واإلنجل يزي) والفك ر الفلس في الس ائد في أمريك ا كالفلس فة البراغماتي ة‬
‫(جون ديوي وولي ام جيمس) وتي ار التفاعلي ة الرمزية م ع (جورج هربرت ميد)‪ ،‬إض افة إلى التحقيق ات االجتماعي ة‬
‫ال تي س تلعب دو ار رئيس يا في التمهي د للبحث السوس يولوجي المي داني هن اك العام ل المؤسس اتي‪ ،‬المرتب ط بت وفر‬
‫الشروط األكاديمية إلنتاج ونقل المعرفة العلمية في حقل السوسيولوجيا الحضرية الناشئ‪ ،‬خصوصا تأسيس شعبة‬
‫علم االجتم اع واألنثروبولوجي ا بجامع ة ش يكاغو وقس م للدراس ات العلي ا‪ ،‬وتأس يس مجل ة متخصص ة‪...‬إلخ‪ ،‬وهن اك‬
‫أخي ار العامل السوسيو‪-‬اقتصادي‪ ،‬الذي يحيل على الطلب االجتماعي‪ ،‬النابع مع واقع المجتمع األم ريكي وواقع‬
‫حواضره بالخصوص وما عرفته من تحوالت اجتماعية هائلة في بداية القرن العشرين‬

‫تكمن أصالة هذه "المدرسة" في انبثاقها من أحضان المؤسسة الجامعية األميركية الفتية آنذاك‪ ،‬ورسمها لمواضيع‬
‫خاص ة في البحث؛ هي مواض يع الهج رة و التحض ر‪،‬لق د أولى العلم اء ال ذين ك ان لهم فض ل تأس يس "مدرس ة‬
‫التحض ر وس يتم ّكنون من‬
‫ّ‬ ‫ش يكاغو"‪ ،‬خاص ة ولي ام توم اس‪ ،‬وروب رت ب ارك‪ ،‬ول ويس وي رث‪ ،‬اهتمام اً كب ي اًر لظ اهرة‬
‫خالل دراس تهم وأبح اثهم ح ول مختل ف الظ واهر الحض رية وض ع األس س الممه دة لظه ور ف روع السوس يولوجيا‬
‫األخ رى (سوس يولوجيا العائل ة‪ ،‬عل وم اإلج رام‪ ،‬سوس يولوجبا الجريم ة و االنح راف‪ ،‬سوس يولوجبا الهج رة ‪،‬‬
 ‫سوسيولوجبا المدينة‪...‬الح))‪ ،‬من ثم يتضح تأثير هذه المدرسة في كل فروع السوسيولوجيا عموماً‪.‬‬

‫جدا‪ ،‬تمثلت باألساس في احتضان‬

‫ومعلوم أن مدرسة شيكاغو نشأت في خضم ظروف فكرية واجتماعية خاصة ّ‬
‫مدين ة ش يكاغو‪ ،‬في نهاي ة الق رن التاس ع عش ر‪ ،‬لجامع ة رائ دة في ك ل مج االت العلم والمعرف ة‪ ،‬وفي حق ل علم‬
‫االجتم اع واألنثروبولوجي ا بش كل خ اص‪ ،‬وفي توج ه رواد ه ذه المدرس ة من ذ البداي ة إلى البحث المي داني لرص د‬
‫ودراسة مختلف التح والت الديموغرافية واالجتماعية واالقتصادية التي تعرفها مدينة استطاعت في ظرف خمسين‬
‫عام ا اس تقطاب أزي د من ثالث ة ماليين من المه اجرين الق ادمين من مختل ف من اطق أمريك ا ومن الخ ارج‬
‫بالخصوص‪.‬‬

‫مدرسة شيكاغو ومشكالت الهجرة و التحضر‪:‬‬

‫عرفت مدينة شيكاغو والتي سميت المدرسة على اسمها اسوة بمدرسة فرنكفورت االلمانية‪،‬‬

‫تح والت ك برى في أواخ ر الق رن ‪ 19‬وبداي ة الق رن‪ ،20‬حيث ش هدت المدين ة هج رة قوي ة‪ ،‬أفض ت إلى اختالط‬
‫س كاني‪ ،‬أث ر بق وة في نم ط الحي اة‪ .‬وق د تش كلت س اكنة المدين ة من مجموع ات إثني ة متنوع ة (بولوني ون‪ ،‬تش يك‪،‬‬
‫ايطاليون) متمايزة جدا على مستوى العادات واللغة عن االيرلنديين واأللمان واإلسكندنافيين الذين وصلوا للمدينة‬
‫في القرن ‪.19‬وتحولت أحياء المدينة التي احتضنت تلك الفسيفساء اإلثنية إلى غيتوهات غير قابلة للولوج نسبيا‪،‬‬
‫تعطي االنطباع باختالل اجتماعي كبير‪.‬وقد كان من نتائج هذه الموجات الكبيرمن الهجرة انتشارظواهر اجتماعية‬
‫كث يرة( الفق ر‪ ،‬الهج رة‪،‬اإلج رام‪ ،‬االنح راف‪،‬ال دعارة ‪،‬الص راعات االثني ة‪ )...‬واالختالالت البينون ة في المدين ة ال تي‬
‫أص بحت مس رحا غني ا ب الظواهر االجتماعي ة المرض ية‪ ،‬ه ذا باإلظاف ة الى مجموع ة من العوام ل األخ رى كنش أة‬
‫السوسيولو جيا في جامعة شيكاغو والدور الذي لعبته حركة اإلصالح االجتماعي والتحقيقات االجتماعية التي‬
‫عرفتها الواليات المتحدة األمريكية‪.‬امام هذه الظواهر التي تتناسل وتتفاعل في مختبر اجتماعي فريد" اسمه مدينة‬
‫ش يكاغو‪،‬ق ام مجموع ة من الب احثين وال ذين اص بحوا فيم ا بع د رواد المدرس ة بدراس ة المش اكل ال تي افرزته ا ظاهرة‬
‫"تحضر"بمعنييه الكمي والكيفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الهجرة في إطار ما تعرفه المدينة من‬

‫وعلى العموم يجمع مختلف مؤرخي السوسيولوجبا ان الفضل في نشأة علم االجتماع الحضري وكثير من الحقول‬
‫األخرى يعود إلى "مدرسة شيكاغو"التي ظل إرثها وتأثيرها حاضرين في السوسيولوجيا منذ ذلك الحين إو لى اليوم‪،‬‬
‫سواء على مستوى منهجية البحث أو على مستوى المفاهيم المستعملة‪.‬‬
 ‫المنطلقات المنهجية لمدرسة شيكاغو‪:‬‬

‫ك ان ل رواد مدرس ة ش يكاغو إذن ش رف االنتق ال بعلم االجتم اع من الهواي ة إلى االح تراف‪ ،‬ومن حال ة النظ ر‬
‫االنطباعي للظ واهر والوقائع االجتماعية إلى حالة النظر العلمي االستكشافي‪ ،‬من خالل تأسيسهم لتقليد "البحث‬
‫المي داني" في ه ذا العلم‪ ،‬وتمكنهم من ابتك ار وتط بيق أهم التقني ات المنهجي ة ال تي م ا زلن ا نس تعملها إلى الي وم‪،‬‬
‫وبالخص وص تل ك ال تي تنعت بالكيفي ة‪ ،‬ولع ل ه ذا م ا جع ل رواد ه ذه المدرس ة وأتباعه ا يفض لون اعتباره ا "تي ا ار‬
‫ميتودولوجيا" و"مدرسة لالشتغال والعمل" أكثر مما هي "تيا ار نظريا" أو "مدرسة فكرية‪..‬‬

‫التخص ص الحض ري‪ ،‬كونه ا‬

‫ّ‬ ‫يمي ز "مدرس ة ش يكاغو" عن المح اوالت السوس يولوجية الس ابقة‪ ،‬إض افة إلى‬
‫‪ -1‬م ا ّ‬
‫موجه ة ص وب "التحقيق ات‬
‫اعتم دت البحث اإلم بريقي في عمله ا‪ .‬لق د ك انت األبح اث السوس يولوجية قب ل ذل ك ّ‬
‫االجتماعية" الموسومة باألخالقية‬

‫‪ -2‬وتتم يز المنهجي ة المعتم دة من ط رف رواد مدرس ة ش يكاغو وتالم ذتهم‪ ،‬ب االنطالق من وجه ة نظ ر الفاع ل‬
‫االجتماعي‪ ،‬ومن دراسة أفعال وممارسات األف راد‪ ،‬ودراسة عالقاتهم بالواقع المحيط بهم‪ ،‬ومحاولة فهم المعنى أو‬
‫المع اني ال تي يعطونه ا له ذا الواق ع‪ .‬ومن أج ل ترجم ة ه ذا التص ور على أرض الواق ع‪ ،‬تمت االس تعانة بتقني ات‬
‫خاصة‪ ،‬تندرج ضمن ما سيجمعه الدارسون تحت تسمية "المنهج السوسيولوجي الكيفي" التي ستصبح متداولة فيم ا‬
‫بعد‪ .‬ويتضمن هذا المنهج تقنيات‪" :‬استغالل الوثائق الشخصية" و"السير الذاتية" و"المراسالت الخاصة" و"مذكرات‬
‫وحكاي ا الحي اة"‪ ،‬والص ور الفتوغرافية وهن اك من جه ة أخ رى‪ ،‬تقني ات "دراس ة الحال ة" ال تي تعتم د "المالحظ ة‬
‫المشاركة" و"المالحظة المباشرة" و"المقابلة" و"الشهادة‪.‬‬

‫وتظ ل اإلش كاليتان المركزيت ان اللت ان ش غلتا رواد ه ذه المدرس ة‪ ،‬هم ا الهج رة واالن دماج من جه ة‪ ،‬ثم العالق ة بين‬
‫الثقافة والمجال الحضري من جهة أخرى‪ .‬وهما اإلشكاليتان اللتان حاول الباحث اختصارهما في هذه الدراسة في‬
‫مفهوم "التحضر"‪ ،‬على اعتبار أن هذا المفهوم يتضمن بعدين أساسيين‪ :‬بعد ديموغرافي‪/‬مجالي (انتقال األفراد من‬
‫البادية إلى المدينة)‪ ،‬ثم بعد سوسيولوجي‪/‬ثقافي (مسألة االندماج‪ ،‬واكتساب الثقافة الحض رية)‪ .‬وذلك ما ال يمكن‬
‫اختب اره‪ ،‬في نظ ر الم الكي‪ ،‬إال باالنتق ال من مج ال البحث السوس يولوجي النظ ري إلى مج ال البحث المي داني‬
‫التجريبي لتتبع واختبار إشكالية "التحضر والهج رة" وسيرورة "التنشئة الحض رية" في زمان ومكان مغايرين‪ .‬ولعل‬
‫ذلك ما حاول الباحث أن يخصص له عمال مستقال‪ ،‬اتخذ فيه مدينة فاس مختبره االجتماعي الخاص من أجل‬
‫معالجة إشكاليته والتحقق من فرضياته‪.‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫يبقى من الص عب التط رق الى ك ل انتاج ات سوس يولوجيا مدرس ة ش يكاغو وح تى ج زء منه ا نظ ار لض خامتها من‬
‫جه ة ولض يق ال وقت من جه ة أخ رى‪ ،‬ل ذلك س وف نقتص ر على بعض أفك ار رواد ه ذه المدرس ة ح ول التحض ر‬
‫والهجرة وبعض اإلشكاالت الحضرية األخرى‪ ،‬وذلك بشكل مقتضب‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬

‫عبد الرحمن المالكي‪ ،‬مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة‪ ،‬أفريقيا الشرق‪.2019 ،‬‬

‫محمد مهدان‪ ،‬نظريات سوسيولوجية معاصرة‪ ،‬طباعة ونشر سوس‪-‬أكادير المغرب‬

‫‪Park, Robert E. (May 1928). "Human Migration and the Marginal Man". AJS. 33 (6):‬‬
‫‪890.n‬‬