Professional Documents
Culture Documents
وديع سعادة الأعمال الكاملة
وديع سعادة الأعمال الكاملة
1981
ووّزع باليد أوائل 1973
ُخطّ باليد ُ
I ليس للمساء إخوة
()1968
I
في هذه القرية
أقحوانات المساء
ُ تُنسى
مرتجفةً خلف األبواب.
في هذه القرية التي تستيقظ
لتشرب المطر
انكسرت في يدي زجاجةُ العالم.
ْ
II
هذه المياه
فتح أقنيةَ الليل في الجسد.
تَ ُ
هذه المياه وهذه المراكب
ٍ
عميان نقود
ُ
أنفسهم على أرصفة الضوء
نسوا َ
ونسوا
أن يرفعوا شبكة العمر.
III
صارخ لتقابلوا اعتزاالتكم.
ٍ ٍ
بقميص ستخرجون
في الليل أو في النهار
ستخرجون
كل واحد اعتزاالتِه وعلى ٍ
حدة يقابل ُّ
ينقّب طويالً في الحقول
وال يجد كنز حياته
في الليل أو في النهار
المحيطات بدالتِكم
ُ ستثقب
وتبحثون عبثًا عن إبرة الشمس.
IV
إعرف ّأنك لن تجعل من الشمس حبيبةً
ْ
كثير الثقوبM كنت في ٍ
رداء ِ وإ ْن َ
وأنك
ّ
دلف فوق ساقية الروح ببطء
حين تَ ُ
الماء الضائع
َ ستكون
قضبانا كثيرة الذكريات.
ً أنفاسك في الفضاء
َ وحين ترصف
أنت
ولو كانت لك نجمةٌ صغيرة
أحيانا حياتَهُ
ً فتح اللي ُل
ولو َ
ألعواد ثقابك
غير الضوء طريقًا
ستأخذ َ
ُّ
وتطل في وقت غير مناسب على نافذة العالم.
V
بعيدا
ب تطير ً الح ّ
فراشةُ ُ
وعطلةٌ قصيرة على كفّها
مفاتيحها.
َ َّ
لكن يدي أضاعت
أتدلَّى
فوق سور األسماء
وغيمةٌ تشبه اليد
قميص الشتاء.
َ ترفع لي
VI
بعيدا عن السقوف الحميمة
ً
جميعُ األمطار ال تغسل مظالتنا
والنهارات الناسية مظلَّتَها في يد الليل
ُ
تقذف بنفسها من مطل ِ
ق نافذة
خاتم نومها.
لتستخرج َ
VII
ٍ
محطة في األرض من ِّ
كل
العربات مقبلة
ُ
كأسماء واضحة في ملفّات التعاسة،
والنهار
سوق المرايا
مما ينبغي
جدران مزهرة أكثر ّ
ٌ
والعيون غيوم
ُ
سقطت.
ْ
VIII
شرايين الذهول
ُ يدك تنمو
في َ
وتغترب
للمارة
تلوح ّ
يدك التي ّ
َ
كالرسائل.
IX
الوحيد يلمعُ بيننا ِ
الصمت هو وعاء أن
ُ َ مع ّ
أعرفك ّأيها العالم
َ
ّأيها العجوز القميء في صحن ذاكرتي.
أتقدم بخطى مبعثرة
وإ ّني ،إذ ّ
مودتك المقفلة،
إلى أبواب ّ
أن المفاتيح
ناسيا ّ
ال أكون ً
نعثر عليها في أشواقنا
التي ُ
هي المفاتيح الخطأ.
ٍ
مجار من التأسف أعرف أية
ُ
أيام َك
ُ
أن ك ّل شيء مضى اآلن مع ّ
ولم يعد يتدلّى بيننا
غير عشبة الماضي الجافّة.
ُ
X
ب
الح ّ
ّإنها محاولةُ الدخول في عنق ُ
الذي يندلق خارج فمي
ٍ
نجمة أو التقاطُ
مخربة في صندوق األمل ٍ
كساعة َّ
ثم الوقوف
وااللتفات نحو
ُ
ِ ٍ
مزرعة شحيحة البصر
تعبر فيها الفصول
ٍ
بقليل من التعاسة.
XI
كنت تعبر أمكنةً واسعة
بينما َ
ب
الح ّ
ثمةَ شيء يشبه ُ كان ّ
رك
يتذ ّك َ
أما اآلن
ّ
شوارع غير مدثَّرة
َ قطعت
َ وقد
عت أرصفةً كثيرة
وود َ
ّ
فاألمل
إليك عند ك ّل خطوة
ث َ التحد َ
ّ الذي أراد
يكف عن النداء.
ّ
أنت
َ
حسب َّأنه َ
عبر ك ّل االشياء َ يا من
جلست وقتًا أطول
َ
في مقهى الماضي.
XII
األيام
بأن ّاإلعتراف ّ
ُ ينبغي
مي ٍ
تة ترسو كضفادع ّ
ِ
االبتسامات موجعةً وتجع ُل
أمام البحيرات،
المحبة
ّ وأن
ّ
ملح أزرق
ٌ
وحيدا
ً ملح يسقطُ اآلن
ٌ
وأزرق.
XIII
إذن
ْ
رأيت نفسي
ُ
ٍ
كمعطف ٍ
مثقل بأوحال النهار
صباغ المساء
أقف أمام ّ
ُ
المقفل.
II ليس للمساء إخوة
()1980 – 1973
مرحلة أولى
كيف يكون هذا الشوق
خارج بحيرته؟
َ كضفدع
ٍ
رماد في السماء؟
النهار ٌ
ُ كيف هذا
غصنا؟
ً تحرك
وهذه العاصفة في الرأس كيف ال ّ
I
ما فائدةُ الوثوب إلى الغابات
وإ طعام الغزالة النحيلة
عصافير الدهشة
ُ حين تسقط
ٍ
كخشبة من بناية قديمة؟
االسود تحت األبراج
ُ النمو
أنا ُّ
الكونية ترعاني
ّ والحيوانات
ُ
الصبي الذي يدخل
ُّ لست
ُ
ِ
العائلة في المساء برج
َ
ٍ
نجمة أقرأ تحتها حياتي أبحث عن
ُ
أرتقي سلّ َم الضوء
أهب ورقةَ نقدي األخيرة
ُ
لليد المعروقة
فوق جسر القلب.
II
هؤالء الّذين يتوقون العودة
وليس لهم قطار
وال نجمة
يغني،
وال حتّى صرصار في طريقهم ّ
رت كنزةُ أحالمهم
الّذين ّك ْ
ِ
ارتطام المرآة على الحجر، صوت
ُ ولحياتِهم
موت المسافات
َ مرات كثيرة سيعرفونّ
ويكتشفون العالم
بال طريق.
III
المحبة اليابسة
ّ تغرق في ِ
بئر ُ
سكران
تخطف مرفأ؟
َ للمارة كي
ماذا تقول ّ
نهارك دفعةً واحدة
َ شربت
َ
تقدم نشوتك
رقصنا في الساحة ولم ّ
مياهنا إلى حدودها
رفعنا َ
ْ
وأنت تف ّكر في صحراء يدك
َ
بعها
ْ
الحرية
وجهك ال رايةَ ّ
َ وارفع
ْ بعها
لك ْ
قلنا َ
قل هذه شجرتي
ْ
وأنا أرغب في عريها
كت إبرةَ األلم
حر َ
لكنك ّ
ّ
جميعا.
ً ت حياكةَ يأسنا
وأعد َ
ْ
IV
نقاء مالح
الرغبة ٌ
مرايا عاريةُ الظهر
عشبةُ التجاويف
ميتة في فمي.
قريةُ ّ
V
القروية:
ّ تقول القابلة
لدت في زاوية البيت
ُو َ
بين قمر النعاس والعيون المطفأة
كانت األزهار صغيرة
عجوزا
ً الطريق
ُ
وشجرةُ الرحمة ُّ
تهتز في النهر
حيث الغصون و العصافير
نفسها مكسورة.
ترى َ
VI
العشق َم َّرةً أسقط المالك
ُ
في وجهي
حمل أصابعه و خرج
إلى الموت
يربط عنقَه بوردة
وخرج من العمر حصان
أنهى سباق الرغبة.
VII
جلس المنظّرون والع ّشاق والسكارى واألموات
يحيون ذكرى األرض القديمة
هيكلُهم على كلس الجدار
حطامهم على المفارق
ينتظرون زهرة الخدر
من حجارة العيون.
VIII
نقّبوا عن ظالل رؤوسكم
وتفيأوا
ّ
الزمن جفّف القلوب
وال بئر غير عيوننا
حب.
ندفن فيها وجوهَ من ُن ّ
IX
أي زمن سيأتي
ُّ
بقميص أبيض؟
أي درب ستأتي
ّ
ونلعب مع األطفال؟
أي خروف ّ
نطعمه أيدينا؟
أي حلمّ
وكلّنا على قارعة الطريق
نلملم انهيار الوجوه.
X
يصعد الليل إلى الحلم
ُ
غصن الشوق
َ و نحن نرسم
يصعد النوم إلى الثمر
ونحن نوقظ زهر النشوة.
هكذا بخطو ٍة أولى
بالح ّ
ُيستنزف ُ
تلوح
وأصابعه الحمراء ّ
وال ترى القتلى.
XI
ماذا على الّذين مثلي أن يفعلوا
وأصغر فراشة
ُ
أكثر دهشة؟
هي ُ
الدائرةُ نفسها
المشهد ،النافذة ،الوجه.
فارغا
ً سأخرج
حتى من قميص قلبي
ٍ
وبرصاصة وحيدة ُّ
أطل على الصمت
أبدا.
هذا الهدف المتراقص ً
XII
هناك مشروعُ قصيدة
ضفّة
السمك الواجف في رأسي.
َ أفرش عليها
ُ
اذهبي
يا امرأة سوداء على بابي يا مراكب
اذهبي
أحالمي كافية ألغلق هذا الباب
وأنام
مياهي كافية
ألغرق.
XIII
طريق آخر
ٌ يجب أن يكون هناك
إلى الغابة
عيني و األشجار
َّ الوتر المشدود بين
ُ
على وشك االنقصافM.
ّأيتها الكلمات يا غابتي
يا شجرتي اليابسة في فمي
على طول الطريق سوا ٍ
ق و أزهار
حجارةٌ لمن تعبوا
قمر للّيل
شمس للنهار ٌٌ
عصفور يسلّي.
ٌ وليس على حروفك
طريق آخر
ٌ يجب أن يكون هناك
األصوات أقفاص.
ُ
IVX
ُّ
أود أن أعلّق قلبي على جبيني
اسم طفلها على مريوله
األم َ
كما تعلّق ُ
ُّ
أود أن أكتب رغبتي على الثلج
محبتي.
وعلى رمل البحر ّ
في العيون في العيون
الشمس تثلج.
ُ
مرحلة ثانية
ٍ
كعود يابس الطريق تنكسر
ُ ها هي
وعلى أعلى جبال القلب
نفسها
البيضاء َ
ُ الخراف
ُ تجمع
وتعود إلى الحظيرة.
I
قبالةَ البحر أو الجدار
الدفاع عن نفسي
َ أريد
ُ
بك ّل الرعب
ال بالصراخ
مر طويالً َّ
ألن الوقت َّ
وال أعرف
الصراخ ال يزال.
ُ إذا
II
طاهرا هذا الوجه
ً مهما بدا
ّإنه ملعب العائلة.
الذكرى ثلج
الوقوف فوقه طويالً
ُ ال ُيضمن
إرحل.
ْ
III
أقعد مع الحطّابين
سأذهب إلى الغابة ُ
ُ
وبفأس دهشتهم
أقطعُ أحالمي وألقيها في النار.
طابون:
يقول الح ّ
اليابس ُيقطع.
ُ
IV
إذا سقط نجم
عالمةُ شؤم
سقطت شجرة
ْ إذا
موت
سقطت في وجهي ّأيها النورس
َ إذا
فألني
ّ
أدرت غروبي صوب الشرق
ُ
ومضيت في مياهي.
ُ
V
أزقّةُ ّأيامي مليئةٌ بالزجاج
حافيا في عمري.
يركض عمري ًُ صبي
ّ ومثل
VI
أحم ُل ذهولي
جنون الحلقات
َ مخترقًا
األبدية.
ّ تنزف حربةُ
ُ في وجهي
أنا نظيف
البياض يكسوني
ُ
أمشي على طريق أبيض
كرسي أبيض
ّ أقعد على
أحالم ناصعة
ٌ
نسيان ناصع.
ٌ
مرحلة ثالثة
نتسلّق ضحكاتنا
جدا.
شاهق ً
ُ ألن صراخنا
ّ
I
غير الكلمات واللون األحمر
لم َي ُع ْد في دمي ُ
اطردني
ْ قناع الرحمة و
البس َ ْ
غير لهاثك.
يشتاق صمتي َ
جئت تقطف
جئت تقول ماذا َ جئت تفعل ماذا َ ماذا َ
غ كاألبله؟
يا زارع اليباس كي يكلّم الفرا َ
أصغر من جنين
ُ حديقتي
ِ
ورقة السهو غير
ليس فيها ُ
نبتت في غيابك.
ْ
II
أنتم قميص المجاعة.
األس َو ِد وصارت
أقدامنا في ْ
غرقت ُْ عمرنا القصير. َّ
فاسود ُ دلقتم محابر وجوهكم على ّأول النهار
صالحةً للكتابة .بها وقّعنا على الطرقات أحصنة جديدة.
نسل االحالم .ما عاد العالم يسع.
أوقفوا َ
ضجيجا هائالً ،قرقعةَ عظام ،األحالم ترفس نفسها ،تنهق ،تفترس ،تروث.
ً أسمعُ
وانبرت زهرةُ األزمنة.
ْ أو ِقفوا َ
نسل األحالمَ .كثَُر الروث
أسميكم. ٍّ
على صدر كل منكم زهرة الزمان .أحار كيف ّ
III
سيدتي في الفضاء الكئيب
ّ
إلي
ال تُرجعي وجهي َّ
ال تتدفّقي نحوي كاألنهار
ال تندلقي كالبراميل
نصف اشمئزازي
ُ الحريةُ
ّ
والرهينة نصفي اآلخر
ُّ
وكل أوالدي الموت.
IV
مجنونا يا ُحّبي
ً شرسا يا
ً قاطع الطرق يا
َ يا
ممرا لرحيلي
دع ًّ
ْ
بعيدا مع ورق الشجر أستلقي
دعني ً
على حجر يمكنني أن أقعد
أغني
مع صرصار أستطيع أن ّ
لنملة أقرأُ قصائدي
وثغر كام ٌل للغروب
ثالث ابتسامات من الفجر ٌ
ُ في ِم َزق ثوبي
على رؤوس أصابعي قطيعٌ غريب
ال يعود من البراري.
V
قاطعا حدائق الوجوه
ً أخرج إلى تس ّكعي
ُ
ِ
رائحةُ الصمت برتقالة
قطار سريع.
وشيخوخة الوعي ٌ
أيَّهُ لقاء الحزن أيَّهُ لقاء ِ
الحلم يا قطرات الطريق؟ ُ ُ
VI
الورد ابني الحبيب ورجع و قال:
ُ مر
َّ
أزرق األرض
َ خلّصني يا
أبيض الفراشةَ يا
يؤنث ن ْف َسه.
المكان ّ
VII
األيام األخيرة
األيام األولى في رقصة ّ
اشتبكي معي يا حشائش ّ
مترمدة.
ِّ أشعةٌ
في كال عنقينا َّ
VIII
صف المسافرين إلى النهار
ّ تقف في آخر
ُ
العاشق الوحيد
َ نفسك
َ ريد أن ترى
وتُ ُ
اعترف َّ
أن القطار انكسر ْ
وحيد على الرصيف
ٌ وأن َك
ّ
الحمى برودةٌ كئيبة
شوقُك ّ
وأسنان َك حين تبتسم ال تضيء
ُ
فمك.
حتى َ
IX
األبراج المبلّلة بالضوء تطفو على كتفي
ّإنه شروق سخيف
بدايةُ ّأول يوم في مصنع العالم
وجهي يقتله ظلُّه
على الشرفة.
X
أي شيء للعصافير في شجرة التفاح كي ترحل
قولوا َّ
خبز في أشواقها
ٌ
يأسر خطواتي.
XI
وأنت
َ إلى جاد وسيمون وغادة،
اسمك؟ ال أعرف
َ ما
وأنت تسرع؟
َ كحبة س ّكر
وجهك تحت شتاء آذار يذوب ّ
َ لكن ألم َأر
ومرةً قعدنا؟
َّ
الزغب ينبت في وجوهنا.
ُ كان
غدا .زقزقنا.
أمنا تطيرون ً
قالت ّ
نتأمل أقدامنا الصغيرة. وها على الثلج نقعد ّ
ما هذا الواقع من فم السماء كأنه لنا؟
قالوا جاء يزيح الصخر يفتح البابِ .
انخفضوا انخفضنا. ُ َ ُ
ارتطام جسده .رأينا تفتُّ َح جراحه.
َ سمعنا
أبدا لئال ُيقفل نبعُ الرغبة.
أمس جرحك ً
وقلت :لن ّ
ُ
قطن ينفشه
وعين غادة ٌ
ُ عينه في الفضاء غيمة.
وضع جاد عينه في الماء صارت سمكة .سيمون ُ
الحزن.
انتهاء الزيارة.
َ أعلن
اب َ البو ُ
كنا التقينا .دخل ّ
ّ
علي في الشوارع؟
مطرا أحمر ينزل َّ كيف تصيرين هكذا ً
وعبأتْها.
جيوبا للزبيب ّ
ً عملت لها
ْ غزلت لي كنزةً بيضاء
ْ أمي
ّ
ِ
وخطرت أمامك.
ُ لبستُها
إلي من بيروت في جيبه .اقتسمناها وركضنا في
ضيفوه برتقالةً حملها َّمرةً زار المدينةّ .
أبي ّ
البساتين.
ِ
منقادك وأنت في العش ال أجد. أضعها في ٍ
برتقال حب ِة ٍ
قمح ،بذر ِة ٍ
زبيبةّ ، أبحث عن
ُ
ُ
كيف يصير أهل القرى من دون قمح هكذا؟
جاء الشتاء يمزج البرد بالذكرى
غير غطاء.
وها نحن ال نريد َ
المياه المياه
نشيد 1983
ُرفرف
ُ أ
قفص أو غابة
ألن هذا ٌ ال ّ
ألن الريح تضربني
بل ّ
كثير و األجنحة مستجيبة
الهواء ٌ
ُ
ولكن
ْ
بقاعٌ كلّها هذه البقاع
ٍ
منحن على النهر
ال أريد الجلوس
ٍ
منحن
ال أريد الوقوف
ماء وسقسقةٌ
ٌ
وماء
للجذوع الهرمة
جمعٌ سائر في الظالم
ْ
وصمت
ددا
مم ً
كنت صيفًا َّ
في البدء ُ
ق على الغصون صمي معلّ ٌ
ورأس َخ ْ
ُ
كنت مائتًا جميالً في سفينة
ُ
ٍ
غريب على أرخبيل ٍ
نسيان ثلج
َ
وأرمي
خواتم الوعود اآلن
َ
أتثاءب من الزهر إلى الزهر
ُ
أرمي الخواتم
وأنام
اعرف ماذا أفعل بها
ُ عندي فََر ٌس ال
أمتطيها
ألتسلَّى
ال ماء هنا
ال جذوع
ال َج ْمع
وهم
مجرد ْ
بل َّ
وال وقت لتقول الوداع
الذين عرفتُهُ ْم
كل َ ُّ
ماتوا
وكل من أعرفُهُ يموتُّ
سما ًكا
كنت َّ
هنا في جزيرة الفجر ُ
يرث القصب
سائس
ٌ في الصباح
أقعد
وفي المساء ُ
أراقب الغروب
ُ
الخبز عن رأسي
َ سود تنقر
طيور ٌ ٌ
ِ
باإلعدام محكوم
ٌ
ٍ
يمامة ثلجيَّة وبذكرى
َّ
الحب طيلة الشتاء ت لها
ر َش ْش ُ
كنا وحيدين في الغابة
ّ
هناك ما نقوله
َ لم يكن
ونظرنا في السماء
ْ صمتْنا
َ
هذه مدينة الموتى
بعيني المظلمتين أراهم
َّ أنا
الممر
ّ يمألون
متهد ٌل
ّ
عيناي مفقوءتان
وأرى
السفلي
ّ العالم
َ وأنتظر
ُ
ظل الجدارفي ِّ
هذه عصاي
حيةٌ مستقيمة
ّ
فتحت لي طريقًا
والرمح في يدي
ُ وفي رحلتي الطويلة
الصوت
َ سمعت
ُ
نقي) ٍ ٍ ٍ
(كمياه كثيرة ونحاس ّ
وميت...
ّ
بيلسانا عاشقًا في حقل أبي
ً كنت
ُ
قرية في وسط الرذاذ كنت
ُ
أِ
ُط ُّل عليها من مفر ٍ
ق قديم
السواقي اجتمعت اآلن في وجهي
واألطفال عادوا إلى البيوت
ماذا في هذه الجبال إ ًذا
غير أن يجري النهر
أن ِ
أفس َح الطريق للعابر الغريب
أغسل الحصى
َ
صًبا
أترك على الحفافي قَ َ
وأمضي
المياهُ المياه
الجهات موحشة
وكثيرة
مليئا هكذا
أعود إلى أهلي ً
ُ كيف
َ
بالهبوب
الطيور المهاجرة
َ أنتظر
ُ
ألعيد محبَّتي إلى الجبال
َ
سأغادر
لكني أعود
ّ
ألُلقي حطبي
نهارا آخر
الغابة وهبتني ً
استضافني البطيء الزاحف على األوراق
السري
السم ُن ّ
ومر ّّ
فوق رأسي
مليئا بالغيوم
َّانا ً
كنت ري ً
ُ
فانحنيت على نبعي
ُ
ودلقت الدموع
ُ
نامت أورور على ٍ
حقل يباس ْ
جسدا يصعد إلى السماء
ولم َتر ً
ملحا يمشي
وال ً
رأت أورور غير ٍ
أقدام ما ْ
ُ َ
وملح في البحر
ٍ
البحر
َ لو َّ
ان هذا
مبلّل
يابس حقًّا لو َّ
ان هذا الخشب اليابس ٌ
بماذا
يمسح اإلنسان نفسه لينام؟
ُ
النسر جناحيه على النبع القديم
ُ طوى
عائدا إلى النعاس
ً
عصفورة حكيمة
أن ما رآه
تعرف ّ
ُ
غابرا
حزنا ً
كان ً
في الجبال
عشب كاسد
ٌ
وحيدا تحت المطر
ً ها أنا أمشي
وحيدا وأهتف
ً :أمشي
هذي هي األرض ،هذي هي األرض
مولود جديد
يتعرض اآلن للهواء
ّ
المقدس
البوابة يا امرأة المزالج يا صاحبة القفل ّ
(يا حارسة ّ
سيدك في داخلي ّإنه في داخلي
ماء ّ
فليمض إلى األرض ْ
وطأت المدينةَ الموفُورة
ُ
غابةَ ِ
الظ ِّل الوارف
والمياه األولى
الخضراء المتباعدةَ الركبتين
َ
ارتفعت معي ُّ
كل األسماك ْ ارتفعت
ُ وعندما
الغمر زال عن البحر وجهُ المرح
ُ اضطرب
َ
َّ
واستبد الهلع
باألنهار العالية)
قطرةً قطرة
ينزل الموتى على بابي
ومركب يتوقّف ألجلي تحت الشمس
ٌ
وجالية فقيرة من الرعشات
تعود إلى الرمل
ُ
األبدي
ّ أيها الماء
المغسول في نهر الخلود
ُ أنا
(كنت جميالً كغابة
أبيض كالشمس في الماء
أرعى َغنمي على رأس الجبل
وأمام الجميلة
َ
يبتعد عن النبع
ُ ٍ
كنهر
فارقت الحياة)
ُ
(أنا اآلن الريشةُ الزرقاء
يتركها العصفور للشوك)
رميت إبرةَ الرعب كطاووس صغير
ُ
فطر عاشق أنا ٌ
َّهم
تحت الس ْ
َ
شيء هنا
َ ال
غير عشب الصمت
ال شيء ُ
غزالن غفلتي
َ لماذا ْأنهَ ُر
الخراف
ُ فلترع هذه
َ على مهل
فلترع
َ على ٍ
مهل
قوتَ ْستَْل ِ
لست الغنم لكني
لست الراعي و ُ ُ
أحنو على المياه
جرتي في العين
تركت َّ
ُ
ت
ورجع ُ
ْ
علي طويالً
الشمس أشرقت َّ ُ
َّ
وأرسلت ثغائي كلهُ
ُ
َخَزفًا إلى الجبال
الشبكة
نفسها من الملح
تصفّي َ
ماذا ينفعُ أن أرمي محبَّتي على الماء
ض مالئكتي لألحالمأن اُ َع ِّر َ
ليلي للمالئكة
إناء عشقي
أفتح َ
أن َ
ْ
وأُفسد سهوي
الزمن يشفي وجهَهُ
ُ
ببطء
الشوق عن شواطئي
َ ويمسح
ُ
ٍ
هواء مستعمل رجل في
يقعد ويف ّكر في الحيوانات
1985
إَّنهُ رم ٌل مشبوه
تحت سماء حقيقية
يقدم برتقالةَ رأسه
وشاعر ّ
بوهيمي.
ّ ألول
بقليل من الكلمات َّ
رج ٌل آخر
ُ
يحاول كتابةَ القصائد
وأمطار غزيرة.
ٌ
شيء من هذا القبيل
لم أحلم مطلقاً َّ
بأن ذلك قد يحدث:
مجموعة هائلة من السنوات
علي أن أُبيدها
و ّ
بمطرقة!
ص َل فجأة ُّ
كل هذا َو َ
جميع رماده ٍ
بلحظة كبركان يجب أن أعزل
َ
ولست آسفاً
ُ
لكنني ضجران
وتعبت يدي.
ْ
سنوات!
سنوات!
ٍ
مالك أو ذبابة ساللم ال تنتهي اللتقاط
أيَّام وحيتان
مدعوين ومطابخ ورؤوس نيئة أو مشويَّة ّ غير
َب َشٌر ُ
ٍ
رجال ومزابل وآالت
ُ وفروج
ٌ
ال يمكن وضعها كلَّها اآلن في طابور
وهرس أصابعها.
ْ
لذلك
الرؤيا باردة
وينبغي الصراخ بشيء آخر
األرواح تافهة
يمكنك أن تثقل أجنحتها باألسراب االنتحارية
أو تطلق عليها مصارعي السومو
وتتفرج.
َّ
على الجبال
على الجبال التي
الثلج بنعله الجديد لهبوطها
يضحي ُ ّ ال
يسلَّم ُ
بريد الحماقات اليوميَّة ،قسراً،
لقلوب مفتوحة كقعر سفينة-
(جان جيونو َّ
يتذكر أكثر المساعي مهانةً
وتلقيح الناس ضد السموم بتسميمهم قليالً َّ
كل يوم،
إدوارد توماس َّ
يتفحص الجبهة تحت مطر بارد و ناعم
حائراً هل يبقى قرب النافذة
أم على السلَّم حيث يأتي تحطُّمه في الطبقة السفلى
بشكل أفضل،
وجوه روبرت موزيل تجمع بين رافائيل وأنثى الخنزير
وهو متأكد َّ
أن المرء يمشي
بعد سالسل الحراس
كأي سائح) –
ّ
على الجبال إذن
حيث تُسلَّم جميع الرسائل لغير أصحابها،
ٍ
خصيات صغيرة جائز ِة ترضية، مع
تجمعت يالحظ َّ
أن الغوغاء َّ َ
بفعل اللواط
البشري والسالم المح ّشش باستمرار
ّ َّ
وأن تشريح الحنان
يتم بال دم.
ُّ
الشوارع تنام هكذا:
ثالثة مليارات نعل في خبطة واحدة
الخارجي،
ّ جماجم لالستعمال
ُ تحركها
ّ
مراكز عبادة ُبنيت مناصفة
ُ
بين عرق الرجال والمومسات،
فلوريسانات أوتوماتيكية من أقدام العبيد
ٌ
فوق مكاتب الرؤساء،
تناسلية
ّ سماوات بأعضاء
ٌ
وآلهة
بسكر رخيص.تنتف َشعرها َّ
على الجبال؟
أي جبال؟
ّ
العمل اليومي
هاي أنت
تعال
لن نفعل شيئاً اليوم
الشمس مملَّة والمطر رتيب
وليس لي َجلَ ٌد حتى الرتداء قبَّعتي.
هاي أنت
تقل إنك مستعجل
ال ْ
وصائب حتماً كالطلقة
ألغيت َّ
كل الرحلة َ لن تخسر شيئاً إذا
يمكنك أن تستغني عن اهلل
وتكلّمني
هل كان عليك أن تتعلَّم ك ّل الكلمات
لتقول فقط
وداعاً أيها األصدقاء؟
ساعدني قليالً
لالستلقاء على هذا الرصيف
ومنع العبور إلى تلك البقعة
ساعدني فقط
يمر الهواء.
لكي َّ
في شارع الكسليك
ٍ
ريش وحده فى الفضاء .ريش ،وحده. في شارع الكسليك .تحت غيمة .مع
األصدقاء ُّ
رشوا الحمام .نظروا إلى الشتاء .وضعوا كتباً على المنضدة .وناموا.
الشمس تتدلَّى أيضاً
يجب إسعافها بالمخدرات ،كفيرونيك الفرنسية
ليل بكامله المتصاص شارع الكسليك من دمي
ليل لفأر
ٍ
بلحظة بين فخذيها. قدموس مجذافاً يقطع السين يقضم الحوانيت ويجعل
َ
في شارع الكسليك أربعة رجال يراقبونني
وقمر غير مكتمل
عمالها يرفعون األحجار
بنايات ال يزال َّ
والشوارع تتدلَّى
يجب إسعافها بالنظرات ،كاليونانية الضائعة في ساحة سينداغماَّ ،
مخدرة وحزينة
وأنا أمتص أرسطو من دمها
ط ليلعب بالكونيا.
وأُرسل سقرا َ
رجل وراء امرأة واحدة .أربعة آالف مسلَّحَّ ،
ألن ذكراً وأنثى يقذفان من أحشائهما أربعة آالف ُ
مدينة
يتمدد ،يسيل فوق أربع خفَّانات.
ألن مصرياً كان يرتجفَّ ،
َّ
لبنان ،لبنانُّ ،
تظن أننا ال نرى.
مالحةٌ دموية .سياحةُ جلود.
شفاهٌ تلثم دوالراً على قفا أميركا.
ٍ
كعشب حنون .ينحني ويذهب نفسه في الماء .يذوب
الذي يرتجف يضعُ َ
وكمين.
يترك وراءه ساعةَ يدَّ ،
لبنان ،لبنان ،وراءك ارتجافات مهجورة.
مستودع ٍ
جثث في عينيك ،وشحاذاً يتبعه كلب على َ مدفع في أنفك،
خرطوم ٍ أرى
َ
صلعتك.
انصرف.
ْ لبنان ،هذا دوالر لك،
أريد عطوساً .يجب أن أسحب لبنان من صدري.
في شارع الكسليك ،أتثاءب أحياناً.
الليلة عيد القديس جاورجيوس ،ذهبنا إليه في مرسيدس ،180وضعنا له ليرتين ،وعدنا لنطعم
القطط.
مريو ُل ٍ
طفل على الحبل .وشاحنات جنود.
َّ
وتتبخر ،بال صوت. أجساد تعرق
ٌ
رأيت رفاقي
رأيت رفاقي متعبين يمشون كأبطأ السواقي
ُ
يستعيرون قصباً نحيالً ُّ
ويغنون إللهاء خيباتهم
يصرخون أحياناً
إلعادة دمهم الذي َّ
يتنزه في الشوارع
ويحفرون ثقوباً
لنوم المتأخرين من عروقهم.
رأيت رفاقي يجلسون أياماً على الكراسي ليسلُّوا أرواحهم الضجرة على الطاوالت
ٍ
بصعوبة تنفُّ َسهم بسلك الهواء ويرسلون يوصلون
شيفرةَ ٍ
حياة غير مسموعة
المتجولون مع الفجر قطعةً قطعة
ِّ
مغسولين كيفما كان بأيدي السجناء
الذين ضربوا حارس المحطَّة وسافروا بال حقيبة
استلقوا صامتين
في ارتعاشات منحرفة
نخزوا شرايينهم وفرشوا السجائر في طريقهم
الدرج ومن الدرج إلى الباب
من الباب إلى َ
يبرر خطوة إضافية.
غير واجدين ما ِّ
عرفتُهم من عيونهم
من وقوفها الطويل في الشتاء البطيء
رأيت خصالت شعرهم حمائمُ
جانبي
ّ وجبينهم كزقاق
هادىء.
سمعتهم ينادون أصواتهم لتعود من الهواء
ورأيت ظاللهم تغفو
على حائط بسيط.
َّ
مخنثون
قديسون
ّ
غرقى وسكارى
جاؤوا من السهول والغابات لنسف القطار
التقوا حكماء وأحجاراً ونبتات مضحكة
تحسَّسوا لحم بعضهم بعضاً
ارتطموا بأضالعهم
َّ
وتفككوا.
محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت
قصيدة إلى سركون بولص
ألمسد
ّ علي أن أخرج اليوم
هل كان َّ
بأصابعي الصغيرة قذيفةَ األعداء
أن أذهب في طريق يذوب إسفلتها مستعيداً
ال منجمه الذين تناثروا
عم َ
َّ
بديناميت
وبوهميين قدامى
ّ مستعيداً عميانه،
انسالخ األرض عن جلدها
َ يراقبون
كقرصان محروق
علي أن أخرج ألذهب ِ
إليك هل كان َّ
ويدي المتعانقتين
َّ وقدمي،
ّ بعد موت آخر أرساغي،
الرصاص قبل المساء ق عليهما كعريسين أ ِ
ُطل َ
ُ
دت من أسلحتي جميعها في ٍ
واد بعد أن ُج ِّر ُ
يلعب فيه المغولM،
إليك اآلن ،أحاول أن أذهب ِ
إليك وأذهب ِ
بما بقي لي:
ُّ
فك مدروزة بالرصاص
صبت عالمةً للجنود في وقت فراغهمُن ْ
رأس يوضع عادةً فوق كتفين كفلّينة تقاوم حوتاً في رأس َّ
صنارة ٌ
ذراعٌ ال تستطيع التلويح
قريةٌ بعيدة ،بعيدة جداً
انبثقت ذات يوم من دخان السطوح
ْ
وشجرة
ابتسامات الغربان.
ُ تزينها
ّ
أحاول أن أذهب ِ
إليك
وذلك ال يستدعي سوى رحلة بسيطة:
ِ
نزهة رصاصة
بين التباريس وشارع الحمراء
لكن ضفَّتيك مفصولتان Mببحر المع من المتفجرات
َّ
وحراس بابك يركلونني ،فأتدحرج
ّ
أتدحرج
بال قرار.
فرس على الباب
هل يجب أن يطول هذا إلى ما ال نهاية؟
الهواء
اإلشارة األبدية
فلتت خلسةً مني؟
واليد التي ْ
في البدء،
ماذا كنت أريد في البدء
ٍ
بحياة غرة
حين أُخذت على حين َّ
ال تزال تلطم حوافرها على بابي
رأيت ،أو ظننت أني أرى
ُ حين
رمالً
قلت
سيكون في آخر المطاف لؤلؤةً ُ
ونمت من التعب أخيراً
ُ
على ظهر باخرة
تنقل حمولةَ عظامي.
ننت
ُج ُ
ننت ثم
وج ُُ
ننت
ُج ُ
دوره التدحرج
كواحد َّ
في تفسُّخات األرض
ٍ
مهمل ٍ
أطلس ٍ
كجمجمة في
كمني مقذوف
ٍ وسحري
ٍّ
وفيه جمجمة!
هل كان يجب أن يطول هذا إلى ما ال نهاية؟
على بعد خطوة
ِ
بضربة س ّك ٍ
ين حاد
المرة
ربما ينشطر الغشاء هذه َّ
وتخرج الخيو ُل من دمي
مهملَة ٍ
العروق مستلقية كجريمة َ
ُ
وعلى ُبعد خطوة
حدث المعجزات
انزالق بسيط يمكن أن ُي َ
فالمعجزات
زلَّة قدم.
على ُبعد خطوة
المعمل فوق القناة
فيه إصالحات بال نهاية
وسكارى تحت الرذاذ
يعبثون بأصابعهم
على بعد خطوة
عاهرة الميناء
ثياب التاريخ
حيث تغتسل ُ
وتُنشر على الحافة
وجميعُ الرجال يرفعون البنادق
لوضع نقطة.
المشهد
هذا هو المشهد
مع شيء من اإلثارة المرأة
تحبل في وسط الشارع
ورأس على الرصيف ال يتسلَّمه أحد
وبين وقت وآخر
يد
فارغة
وسائق يحاول
تحريك فمه.
صدفة
هكذا صدفة
رج ٌل مبلول يقف على الساحل
رجل عاد أخيراً
من محاولة يائسة لشفاء النمور
من داء الغابات
قرصان
أراد االستيالء على النحاس
ٍ
حيوانات منقرضة ومداواةَ
هندي أحمر
ٌ
َّ
يتذكر صيحات
وريشاً ملَّوناً،
هكذا ببساطة
يعوض خساراته رجل ّ
بالوقوف قليالً
دكان مقفل.أمام َّ
البحث عن عميل
قطار عائد من الحرب
وأيضاً ٌ
ٍ
بجثث أُجالسها
ونحتسي القهوةM.
هناك عميل بين المسافرين
يجب أن أجده في الحال
عميل يأخذني فوراً إلى رأس العالم
كل شيءيتم ُّ
في هذه اللحظة يجب أن َّ
انفجار يودي بالعجالت
ٌ
أو يوقف سلحفاةَ الدماغ
العنيدة
الجندي إلى يميني
ُّ وهذا
وامرأة تسحب نفسها
وتدخل المرحاض
والبصارة ثانيةً
َّ
والخطوط و الحالزين.
اآلن فوراً
مع الجثث
والقهقهاتM.
مهما شرحوا
مهما شرحوا لي
هناك مجموعة أخيرة من األصدقاء تتدلَّى فوق السور
شحَّا ٌذ يمشي
شمس بارز ِة العظام
ٍ تحت
يد نحيلة
ٌ
في ٍ
يوم معزول.
خشبي
ّ سطح
ٍ ملقى تحت
الفضاء ً
وعشر بطَّ ٍ
ات تنام منذ األمس ُ
في ضو ٍء ضعيف
وقطَّة سوداء َّ
تتأمل األجساد
المربوطةَ بالشجر.
محطة الشمال
مهربون بياقات بيضاء
ِّ
تحت ثلج ناعم
ومعطَّلة اآلن قشرة األرض ومحطَّة الشمال
حيث كان يجب أن نذهب.
أمام صفَّارة القطار
لتجف،
ّ محيطات منشورة
ٌ
بالكاد أسمعُ هذا.
قليل من األرواح
ال شيء يوجب الذهاب الى الغابة
ربما األفضل أن أتوقَّف كالحيوان اللطيف
ألشم رائحةَ الهواء،
َّ
وال شيء يوجب الذهاب الى البحر
أردت أن تطعم العائلة أو
َ إذا
ترسل التحيات،
َ
الصنوج كانت كافية
ُ
مع قليل من النار
واألرواح.
همي
كان ّ
همي أن أصطاد
كان ّ
بف ّكي السفلى
هرةَ األلوهة
َّ
وأُوقف ضربات المنجم فوق رأسي
حيث تعرق مالئكةٌ مهجَّرة
كعمال مضحكين،
َّ
عوض ذلك
أفيض بالجثث
ٍ
لهرمونات باحثاً عن ٍ
دواء
مزو ٍ
دة برماح َّ
وجزء من ذاكرتي
ٌ
أسقف َّ
يتمخط
ٍ
كجمجمة تنخرها ذبابة يفتحني
فتى مائل جمجمة ً
إلى شجرة اإلعدام
طويالً غائماً مبلَّالً
ٍ
بكسل
ٍ
بدم
أكثر بطئاً من السهول
وكل نبضة من جسدهُّ
المتنزهين في الحديقة.
ّ تعانق
دخان أبيض
ماء يسقط على الجسر
ٌ
ولبوءات
في دفن الشتاء
والهواء يتابع السير إلى المقهى.
ُ
الحمام يأتي اليوم
وسنذهب لرؤية المداخن
نقي بحيث تُمكن رؤية العظام:
الدم ٌّ
ُ
كائنات مالحة في وعاء
ودخان أبيض.
صداع بسيط
بعد الخطوات الخفيفة و االبتسامة
التي أرسلتُها على ك ّل حال
مستعمل ٍ
هواء في
َ
يوم آخر،
ٌ
القميص على يدي طوال الوقت
عظام النهار
و ُ
هذه.
ي
يوم عاد ٌّ
إنه ٌ
عامة ٍ
حديقة َّ زجاجةٌ مكسورة في
مهمل
يوم َ
فقط ٌ
كصداع بسيط.
ٍ
جيد
ّ
أجلس بني ٍ
َّة واضحة ومشروعة
إلى فنجان قهوة
األمور الشخصيَّة َّ
تتمشى
وما تبقَّى يجلب اليأس،
البرازيلي في النهاية
ُّ ُّ
البن
جيد.
ّ
طيب
نهار ّ
السكرتيرة األلوفة
تترجَّل من قميصها
العامل النشيط
ُّ
يصب مصنعاً
في كأسه،
طيبنهار ّ
إنه ٌ
ذهبت إلى مصر
ْ خالة امرأتي
وعادت!
وصل الحديد
اطمأننت أخيراً،
ُ
حياتي تأخذ اتجاهها الصحيح
وقبولي في معمل الصْلب
شهادة على حسن سلوكي،
رافعةُ السيكسويالت تُثبت لي هذا بإصبعها
ومطارقها تؤ ّكد
عدم خيانتي.
َ
إفعل شيئاً أرجوك
ْ
ص َل الحديد،َو َ
حديد ُيصهَر ثانيةٌ
ٌ
لتحويله إلى سكاكين
ٍ
كخس طازج. فالشوارع ستُ َفرم
الليلة
الليلة
ثياب نظيفة تأخذ وجهةً مخطئة
ٌ
وبحر يتوارى
ٌ
كسبَّاح.
هذه الليلة
يفر من األرض الشبيهة ٍ
بجبل ُّ
كم من الحيوانات كانت ستنتسب إلى رائحتي
كنت
وكم ُ
ُّ
سأعض الفجر.
واضح ومختصر
كنت صبوراً جداً
ُ
ألتقبَّل تلك الحركات
بحذ ٍ
اء نظيف
ٍ
مليء بالقناني. ٍ
ورأس
في األدغال
بندقية َّ
مسنة
وثعلب واضح ومختصر.
الطريق إلى الحيوان
أعرف على األق ّل من حذائي
ًّ
أن المطاردة ال تزال طويلة
لكني لن َّ
أكف عن رشق هذا الحيوان بالماء والحجارة
سالح آخر
ٍ وربما سأبحث عن
كالتظاهر بالموت
أو التلويح بجثَّة ٍ
ثور ّبري يرعى في عظامي
أو أية حيلة أخرى
كمعاودة الهبوط إلى الغابة
والتغلغل في النمور والشرايين
أو النوم
قرب أحمال القصب
وافتراس الوقت بالغناء.
التحدث إلى الخيول
كان عبثاً أن أُفهم األحصنة
َّ
أن السباق مخجل في هذه المنحدرات
اليومي
ّ وأني أفلست تماماً من القمح
والماء
للذكرى
علف الصداقة
وعبثاً أرمي َ
وأدعُ رأسي خفيفاً كنسمة تذهب إلى الشاطئ
سنونوات مهاجرة
ٌ الطرقات
ُ فيما
ويجب أن ألقّم البنادق الصطياد المهاجرين،
علي أن أنام أو أنهض
ولم يكن َّ
ألعرف َّ
أن الشمس
ال تتعثر بالدالفين.
هذا ما يحدث
مرةً أخرى
السرير َّ
ُ
أنتشر في النهار كالشظايا،
َ قبل أن
يحدث دائماً:
طعنشيج متق ّ
ٌ
قنوات من المصل على الظهور
ٌ
قبالةَ َّ
دكان التبغ حيث يمكن
تأمل األضالع الناجمة
ُّ
عن تداخل الشوارع.
غراب األبدية
اصطياد غراب األبديَّة
َ يوم قَّ ُ
ررت
أن هذه الغابة ليست من عاداتيجيداً َّ
أفهمتُهم ّ
َّ
وأن في فمي طيوراً
تنقد النمل األصفر والكآبة،
ورميت خطواتي في النهر
ُ
ألغسل عني الفضاء.
السفر إلى أثينا
كانت تمطر وننتظر البواشق
نقرر متابعةَ الطريق
قبل أن ّ
إلى صديقين في أثينا:
جاد وسركون.
أحدهم يصرخ في وجهي
مطلوب قَ َد ٌم شاغرة
للحدائق العامة،
عم ٌل كام ٌل بال معاش
أخذت فرصةً وها أنا ذاهب إلى أصدقائي
ُ
يقال هناك أكروبول
يتَّسع لثالثة سكيرين.
تحية لقدمي
جالس
قدمي:
ّ أتأمل
َّ
قميص مستعجلة
ٌ خربتها
أدغا ٌل َّ
روحي
ّ منتجع
ٍ أظافُر ملساء في
تستقبل ذئاباً تخرج تباعاً
من أفواه الماشية:
إنها خدعة ُّ
للتودد
ليتحمل اثنان أنهما شبيهان
َّ
يتَّجهان معاً وفي الوقت نفسه
إلى طريدة الغد،
إلى الحافة التي ال يمكن هبوطها على مهل،
أي لحظة
الغد المرفوس في ّ
بمؤخرة الماضي
ّ
ٍ
بأذناب ضربتْه طويالً
تلوح في الهواء
وهي ّ
وبقدمين
َّ
تستعدان لجولة
في دماء الطريق.
أال يمكنني أن أزهو
قدمي هنا ،أمامي
َّ َّ
ألن
وصديقتان!
الحفلة
بما أني أصبحت جاهزاً لألعراس
مثل َّ
إوزة على طبق
ِ
فلتبدأ الحفلة اآلن
ِ
ليرقص القتلة و اللواطيون
مع الملوك و القديسين
العرس بدالً من الكهنة العاهرات هذا
ُ ِ
ولتبارك
َ
ليكون لهذه الليلة نسل جميل.
ِ
لتبدأ الحفلة
فأنا جاهز تماماً
كالصناديق.
الحي الغامض
ّ
عجل
على َ
وبفتَّاحة العلب في يدي
يخرج المزيد من الرغوة:
ُ
رجا ٌل يمشون
ٍ
كتمرين ضعيف على البيانو
أنهار تنتظر عند البَّوابة
ٌ
وضلوع
كمظلَّة.
تفتح ِ
في الشارع نهار غائم
وبقعٌ من األسبوع الماضي،
إنهم ذاهبون في جنازة
هذا األحد.
كان يمكن
كان يمكن أن يحدث شيء ما
كالظ ّل ،مثالً
أو ضربة ثوب
فضاء ِقلق
ٍ في
كان يمكن للنهار أن يذهب في ك ّل اتجاه
كمدفع رشاش
ِ
وأن نقف
كرداء
يلقي نظرةً على الميناء
حم ٍام ساخن
بعد َّ
سيد شارل.
نهار رائع يا ّ
بينكم
في هذه األيام
لصاً
أجد ّ
أحاول أن َ
يأخذ َّ
كل شيء دون أن يوقظني
ضمان أكيد لآلخر ِة
ٍ أبحث عن
ُ
ٍ
كأتون جديد مثالً
ماضي أو
َّ فحم
يبدد َّ
امرأة
أرشو بها من يعاند تدلّي جسدي،
في هذه األيام
ٍ
مشنقة عشيقة ِ
الخالية من
أريد أن أعرف فقط
كيف ألوك ألسنةَ الساعات كلَّها
لحظةً لحظة
ومع ذلك تفتح فمي في الصباح كلمةٌ لطيفة
ورمح
يدأب في تشطيب هوائي.
لص
ّ
لص محترم
أليس بينكم ُّ
يا سادة؟
السهر مع شارل شهوان
بعد محاوالت كثيرة
ريف بكامل سكاَّنه
وسقوط ٍ
ِ
العالم َّ
مجدداً ُ
وصديق
أربط معه بقية النهار بشرفة
صديق يضع عادة ساحالً
ٌ
في جيبه
بين مجموعة من اآلالم
والقصائد.
لكننا
ونحن نعبر الجسر
ك ديناصور عثرنا على ف ّ
ِ
وحذاء متس ّك ٍع يتابع السير
بعد توقُّف صاحبه.
مهمة محدّدة
إنها عربةُ زنوج
تنقل كسيحاً من "اإلنكا" إلى نيويورك،
شارع
ٍ تغص بالطبول وسط
عربة ُّ
بالمتسولين
ّ يغص
ُّ
وأضواء تكشف بهدوء
المارة.
أحذية ّ
مهمة َّ
محددة: َّ
جنرال بقدمين
يتعقَّب آثار قدم واحدة
في ٍ
ليل مخص ٍ
َّص أصالً
للزواحف.
البحيرة األيروتيكية
سقطت من السماء
ُ
مع َّ
أن هذه الحركة ليست موسيقية
سأمضي الليلة في الخارج
مع نجوم جديدة
ربما.
أنا ،وديع،
أجلس كسلطعون على الرصيف
ُ
منتظراً أصدقائي،
اجتزت بحيرةَ اهلل
ُ
اإليروتيكية
واستلقيت.
اإلقامة
في الغرفة الوحيدة التي ال تتكلَّم اليونانية في أثينا
أمام بحر
يأتي زبده من ِ
لهاث غريق ُ
ريت
أنتظر باخرة ْك ْ
ُ
ِ
المحملة بفتى
َّ
يتحول إلى برميل راكي
َّ
أو نملةً
مجانية
ّ ذهبت بتذكر ٍة
ْ
إلى سان فرانسيسكو في رأس صديقي.
في الرقم 75من شارع إيبيرو اليوناني-
َّ
المؤجر مع ابتسامة شهرية
المسماة آريتي تسيتزاس
ّ من المرأة
المولودة خصيصاً لنصب الكمائن على باب جيبي-
أكملت تدريبات االنتظار
ُ
ٍ
معركة مات فيها جميع الجنود ٍ
كحصان يقف حائراً بعد
حبر معاهدة السالم
يتأمل َ
وال يفهم،
أقف كسائق صهريج ضخم
يرى فرساً تحت الدواليب
تحاول أن َّ
تتذكرَ ،ب ْعد ،سطرين من أشعار الفروسية.
هل هي اإلقامة اذاً؟
إذا كانت اإلقامة
حسناً تكون:
اإلقامة
الموسيقي إليبيرو
ّ في االسم
ٍ
كمصران بالمهاجرين المحشو
ّ
والذي تعبره مع الفالسفة
شاحنات البطيخ.
أفهم أحيا ًنا
أفهم أحياناً
ُ
ماذا يحدث بعد الصالة:
مالك يذهب طيراناً
إذا سبقه الباص
ومؤمنون مصابون بالغرغرينة
يرتاحون على الصخور.
إذا كان الشرفاء وحدهم يدخلون َّ
الجنة
ماذا لو َّ
تهيجوا؟
ليس ممنوعاً طبعاً ارتجاف قضيب على نفقته الخاصة
أم أنكم تريدون
أن يتحمل اهللُ النفقات؟M
بالسما
أوصدت النوافذ واألبواب ،هراء .الحياة ُّ
تنش أيضاً من الجدران. ُ افترض
ْ
الفقري .عروق يجب أن َّ
تتنزه. ّ يجدر بي أن أَنزل لمسح جْلد الطاوالت وإ يجاد دعامة لعمودي
بشري .كريَّات مسروقة في الليل وموضوعة Mفي قساطل. ّ دم
السما .تقريباً ٌ
سماسرةُ ْب ْ
سواء كان الوقت يوم الشكر أو يوم السعال ،العالم هادئ كآلة حالقة أمام المرآة.
كالتبول على التنك .وفي الخارج ،مجموعة من مصارعي الثيران تُفرغ
ُّ الوالدات مقذوفة بتهذيب
مثاناتها.
دعوة إلى الرقص
أرغب أن يخرج من هذه القصيدة كلب
ُ
أتملَّقه بعظم ،بحلمة راقصة
ُّ
تستعد للمضاجعة ،بصور أكثر الكلبات شبقاً في التاريخ أغريه بحرف ناعم ،بواو كذنب كلبة
كلب أو أية تسلية أخرى حتى نهاية القصيدة
ماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟
أجذب الرب من رقبته وأدعوه إلى الرقص؟
مالبس داخلية؟ ِ
زوجات السفراء أحيك
َ
أبني مصنعاً لدعم االقتصاد الوطني؟
مطبعةَ مستندات سرية لخدمة الحكومة؟
أم أطلّق زوجتي؟
اسمع ،أيمكن أن يطلّق الرجل امرأته اذا كتب قصيدة وخرج منها كلب؟
ْ
أرغب إذن أن يخرج كلب
ففي قصيدة سابقة خرج العالم
المصح
ّ أقنعته بالعودة إلى
َ
َو َع َدني ،ولم يذهب
واستعملت َّ
كل الكلمات البحرية ولم تعلق سمكة ُ
بماذا يفيد الورق
فليخرج الكلب.
كمين أخير
لن أتوقَّع شيئاً
ِ
فليذهب القطار
ُّ
كل شيء با ٍ
ق
صراخ طفلي بين الجدران،
ُ حتى
جار يزورني
هناك ٌ
لشرب القهوة أو
إلبادة النهار
وبعد ذلك جمي ٌل
أن أذهب إلى النوم.
خاتمة
أردت أن أرسله في ٍ
يوم محتشد: ُ كل ماهذا ُّ
قنينة وقبَّعة
لرجل
مات قبل لحظة.
مقعد راكب غادر الباص
1987
حياة
إلي يدها ُّ
تمتد َّ
باحثةً في أحشائي
عن مدينة
دراجة
راكب َّ
ٌ ولد أرعن،
وأنا ٌ
يهرب زنزاناته في الليل
ِّ
مخمورا
ً يمشي
مجنونا منذ الصباح على ذراعه
ً حامالً رجالً
مصح
ّ ذاهبا نحو
ً
ظا من كل ماضيه بـ :أحشاء
محتف ً
ومفتاح
ال يجد له بيتًا،
الرحلةُ وضعتْه هنا
لينظر إلى الشجر
ط منها ورقتان
ولتسق َ
على كتفه.
البواخر راسية في الميناء
البواخر راسية في الميناء
العبو ورق ،نشارة خشب ،أمواج
الحمالين
وقططٌ صغيرة تنظر إلى َّ
نوعٌ نادر من االرتعاشات يقف في هذا الشارع
تمر الصنارات في اتجاه البحر ،تبدأ المعامل في العواء
في الصباح مثالً ،حين ُّ
ثيابهن
ّ ترتدي النساء
ورجال األعمال
محمرا وراءهم
ًّ الذين تركوا الشارع
الفرش
يبتسمون لسمكة كبيرة نائمة على ْ
الهواء ُّ
يهب اآلن
أمر غريب!
ٌ
كلب على الباب
السري ،هنا ،حيث يستلقي ٌ
ربما في الملجأ ِّ
دور التلَّة
رأينا ذلك الرجل يلعب َ
التي تنظر إلى البحر
أمام البواخر
أمام البستان الجميل.
أعتقد أن المروحة تدور يا ألن غينسبرغ
إسمع يا ألن
ْ
أنا على الرصيف وقد نفد تبغي
عيني وأغمضهماَّ أفتح
ُ
وأحيانا أستعيد تلك الليلة حين مسحنا اللعاب عن أفواه األموات
ً
معا
ثم نزلنا السلّم ً
وتمشينا على البحر
المروحة تدور اآلن
ركبتي
َّ تنم َل
مراقبا ُّ
ً وأحب أن أعتقد الهواء سنونوة لطيفة وأنا أسند نفسي على الزواية
ّ
المروحة تدور اآلن في رأسي يا ألن
وفمي الذي يشبه كشك جرائد
يتحلَّى بالصمت
ٍ
أسنان ماتت فيه كما يموت الحيوان بضعُ
وحدث أني في أحد األيام
اكتشفت الصبر تحت شجرة
ُ
َّ
وتحدثت عن الروح في عربة بسيطة
ونحن نسير بمحاذاة النهر
الدخان يا ألن
ُ
ات جميلة! الدخانَّ ،
ورن ٌ
وفي الجهة األخرى ،على الشاطئ
الرم ُل يقف وحده
حجرا
ك ًوأحيانا تُخرج له األسما ُ
ً
ليجلس عليه،
منظر الئق؟
ٌ هل هذا
يوم قتيل
في يدي ٌ
وأريد أن أدفنه بهدوء.
نقطة بعيدة
ملح قليل ينام
ٌ
في يدي التي أستمتع بصمتها الدائم
ملح
بحرا َّ
كأن يدي كانت في الماضي ً
ورأسي
الموجود معي اآلن
قارة بعيدة
يم ّشط شعره في َّ
أحالم
بعد منتصف الليل
في قرية
عابر في شارع بسيط
ٌ
َّ
فيه دكان
ونقطة بعيدة
أعتقد أنها مقعد.
ظله
ينحدر ظلُّه مع سيل طويل
متدفقًا من قرى بعيدة
يف ّكر في جذع شجرة ربما
نهري صياد ٍ
سمك أو ّ
ّ
فقدت رأسها
ْ يوقف ُّ
تقدمه المجنون نحو محبة
أيضا،
اليوم ً
َ
يتدفَّق ً
بعيدا
ناظرا صوب حياته مثل حريق
ً
َّ
شب فجأةً في نزهة،
وينحدر ظلُّه
بضع نسائم على التلَّة
َ يوقظ
وينحدر
في قرية مجهولة
تماما
قرية مجهولة ً
ال يشعر بها َّ
سكانها حتى باللمس.
هادئا إلى المرآة
أذهب ً
إلي
عم ٌل ناعم أن تنظر َّ
وتبتسم إذا ابتسمت
وأرجوك ال تقرع الباب
إني واقف على النافذة أتأمل الجسر
العم ُل الشريف ،أنا فعلته اليوم:
نظرت إلى البحر.
ُ
رأيت في الشارع ناسا َّ
معطلين ً ُ
دخلت الحانة
ُ ثم
ٍ
برأس س ّكير وخرجت
ُ شربت قنينة بيرة،
ُ
عصفورا
ً متصورا أن اهلل كان في األصل
ً
يزقزق للشعوب
إذا كانت األمكنة ترقص في الخارج
لماذا ال تذهب وترقص معها
تحب الموسيقى؟M
أال ّ
صفوف من البط
ٌ
أريد أن أراها
مدعو
ّ وأنا
مدعو اليوم
ٌّ
كي أمشي كالدمية
ومن فتحات ثوبي يخرج لحم
يمكنك أن ترى مثله عند َّ
الجزار
ألو ُح به ِّ
وأفكر َّ
أن العالم ّ
ظمةٌ ليمشيربما تنقصه ع ْ
هادئا إلى المرآة
أذهب ً
ُ ثم
وأم ّشطُ شعري.
أمتعة رخيصة
في هذه اللحظة
وأنا أتحدث مع المساء كعاملَين خارجين من مصنع
يظهر أمامي مستقبل غريب
يكفي أن أنظر إليه حتى
يتدلَّى في الوديان،
في هذه اللحظة مستقبل يتدلَّى
سليما
أرسم له شبكةً في الوادي ليصل ً ُ
أو على األقل حقيبته التي أنا فيها
وهكذا أصل
ظمةً ساخنةً تخرج من ثكنة و َّ
تتنزه عْ
تخبرني عن حياتها
عن جلدها النادر
وأطفالها المولودين في الغربة مني
ترسل لي كل مساء كلماتها حافية من بلد بعيد
لتسألني :ماذا ستفعل الليلة
ماذا ستفعل الليلة يا وديع
بحياتي!
ومن فمي الذي تستلقي فيه صرخات
الذي تستلقي فيه أمتعة رخيصة
تخرج كلمة وداع صغيرة
ال يسمعها حتى الجالسون في أذني.
نزهة المساء
غالبا
ً
وأنا أسير على إسفلت من لَ ْحم العابرين
تأخذني نجمةٌ بيدي في نزهة المساء
الوقت الذي يجرفون فيه النهار
نجمةٌ بين جبلين مطفأين:
وذهبت
ُ فقيرين في حانة يريدان أن يؤوياني،
وها أنا
ٍّ
مصح فوقه نجمة! في
علي أن أمشي كل هذا الوقت ألصل إلى هنا؟
هل كان َّ
ولماذا؟
العمال مسوقًا بسوط؟
ألم يكن أبي يتبع َّ
المروضة في رأسي
َّ ألنزه الكالب غير
لماذا إذن خرجت ّ
بينما حياتي تموت من الجوع
وأطفالي ينظرون صامتين
إنني ،بالكاد ،أقود عمياني إلى البحر.
سنوات كثيرة ،ومكان
ٌ
يرقص فيه المجانين مع الغرقى على ضوء سيكارة
الصمت كنزي الوحيد
ويده المرتجفة وراء الباب تقودني بلمسها.
العودة
الباب وحده في الليل
والليل في العاصفة
والعاصفة نحلةٌ تحوم حول ذراعي
وذراعي مستندة
على سطح سفينة
إلي
وصلت َّ
ْ بدأت زحفها منذ أول ريح حتى
ذراعٌ ْ
أخيرا
وصلت ً
ُ وبما أني
وصلت إلى قريتي
ُ بما أني
قلبا
في صندوق كان ً
الحمال الذي رافقني كرصاصة
أشكر َّ
ُ
تخاوت اآلن مع الجرح
وأتأم ُل درفتين خشبيتين
َّ
تنزالن إلى الوادي.
الريح تعبث بشعري
الريح تعبث ب َشعري
وأنا بين ضفتين أرسل لألولى يدي اليمنى وللثانية يدي اليسرى
كتفي – هكذا ببساطة
لكنهما تخرجان من ّ
وتختفيان!
رأس
ٌ
تماما
(ليس غريقًا ً
تماما)
وفي الوقت نفسه غريق ً
تعبث الريح بشعره األسود
ُ
جالبةً من الجبال ربما ،أو من السواحل
يحدق بي
غريبا ّ
ً سم ًكا
كتشف أنه رأسي!
ُ وأ
المهم اآلن
ّ ولكن
أين ذراعاي؟
أحدكم
هل رأى ُ
أو أصطاد بالصدفة
شيئا يسبح كالذراع؟
ً
صحراء
فعلت يدي واجباتها
ْ مع ذلك
وكدحت كالحفَّار في صحراء
ْ
أهرب الرمال التي كانت في الماضي أمواتًا
وبينما ّ
تغرز أظافرها في كتفي وتعيدني إلى صوابي
إلى تاريخها المصنوع من طحن اللحوم
وإ لى ذراع الهدنة
في جزيرة ُّ
تهب عليها رياح الجرحى
الطعام للجنود
َ حاملةً
جمعت ثروتي بالغزو و الحيلة
ُ
عقدا طويالً من الآللئ
ودحرجت ً
ُ
وصل إلى عنق الحياة
َ حتى
تقدمي يا حياة هذا ِ
لك أقول لها تعاليَّ ،
لؤلؤ نادر من خليج بعيد ال تعرفينه ،وهو ِ
لك أنت تعالي ٌ
وتهرب مني
لؤلؤا وتهرب مني!
ألمعُ لها ً
حياةً ّ
صحراء شاسعة
ليس فيها أحياء وال أموات
وعلي أن أتابع الحفر حتى يأتي ميت!
َّ
النهار في رحلته الوحيدة
قبل أن تأخذني الرحلةُ بصبرها الطويل ألمشي معها
على ٍ
خيط بين جبلين شاهقين
كانت الحياة ال تزال في كهف
تنتظرني َّ
ألفك أزرارها
نهر الجنون،
وأمتص حلمتيها اللتين يجري فيهما ُ
َّ
وبينما المنارة تختارني وحدي
وتجند لي أضواءها منذ ماليين السنين
ّ
أن الفندق الذي َّ
فجرته قذيفةٌ هذا الصباح اكتشفت َّ
ُ
نائما فيه!
كنت ًُ
أركض وراءها
ُ ريشةٌ شاردة في الفضاء،
تتحول إلى طير!
قبل أن َّ
سك ُانها ٍ
ساعة َهجرها َّ وفي
َ
ونقلت أمتعتُها في سفينة مع الفجر
ُ
حملت الحقيبة وخرجت
ُ
إلى اإلبرة
التي تخيط جْل َد عميانها بالطريق.
بلدان غريبة
هناك بلدان غريبة تنبت خلسةً في رأسي
بلدان تستيقظ من ليل طويل وتفرك عيونها
ٌ
بدهشة أعمى وحيد من سنوات
غريق إلى ساحله
ٌ وصل فجأةً
َ
رأيت عالمتي
ُ َّ
وأتخي ُل أني
الحفَر التي تركتها البلدان بعد رحيلها ،وهناك
في ُ
حمالة
أيام أصل إليها على ٌَّ
تقريبا في فمي
ً ومقاهي المدن جميعها
وفيها رعاة بقر
كرسي المقهى
ّ نسيت معطفي علىُ ورغم أني
فإني مع ذلك أرتديه اآلن في الشارع
خرافية
ّ والمطر كلمة
ُ
واألمكنةُ تعني :مغول ورائي
وألني طردت نفسي من َّ
جنة الكلمات
إلى صمت يقف في منتصف الطريق ٍ
كيد مبتورة
أحاول أن أتملَّق باإلشارة َ
عود كبريت
مترددا بين أن يضيء أو يبقى في علبته
ً
إلي إيقاعُ الحياة من بعيد
وبينما يصل َّ
كأصوات طبول في أفريقيا
أتأم ُل المدن التي مات جميع َّ
سكانها بالصبر َّ
وأتابع الطريق
بزر قميصي.
عابثًا ّ
أحاول
أحاول
ذراع أخرى
ٍ باليد التي خرجت مني إلى
أن أوقف سيارة تأخذني في هذا الليل
إلى بيتي.
ضمير الغائب
وداعا وخرج
ً بعدما قال
بقي منه ٌّ
ظل صغير تصنعه لمبةُ البيت
فمشى وراءه.
اجتاز البوابة ثم ،فجأة ،أطفأوا الضوء
ففقد طريقه.
في الصباح
حين فتحت الخادمة النافذة
رأت ظالًّ ينام
وحده على اإلسفلت.
النظرة
كان يقعد على الدرجة السفلى ،ينظر إلى الثلج ينزل أمام رواقه
ينظر إلى الطريق
متبينا سيارات سريعة
ً
راكب ما
ٌ يلوح له
آمالً أن ّ
واحد منها وينظر إليه.
ٌ أن تتوقف سيارة ،ينزل
َّ
تذكر فجأة ثلج ماضيه ،حين كانت حياته في ذاك الليل
تجلس في الوسط ،بين المقعد والكرات الصغيرة على الزجاج
وهم أن ُيحضر بطَّانيته
قارصاَّ ،
ً هواء
ً
َّ
تذكر
َّ
لكن قلبه كان يقول له
راكبا سينزل اآلن ،ويتَّجه إليه.
إن ً َّ
في الصباح ،لعب األوالد طويالً بكرات الثلج أمامه
ناصعا
ً وكان
وبعينين مفتوحتين ،تمثاله.
الهجرة
حين ذهبوا لم يقفلوا أبوابهم بالمفاتيح
تعود أن يزورهم
ماء في الجرن ،للبلبل والكلب الغريب الذي ّ
أيضا ً
تركوا ً
وبقي على طاوالتهم خبز ،وإ بريق ،وعلبة سردين.
شيئا قبل أن يذهبوا
لم يقولوا ً
لكن صمتهم كان كعقد زواج َّ
مقدس َّ
مع الباب ،مع الكرسي ،مع البلبل واإلبريق والخبز المتروك على الطاولة.
الطريق التي شعرت وحدها بأقدامهم ال تذكر أنها رأتهم بعد ذلك
لكنها تتذكر ذات نهار
تنمل من الصباح إلى المساء بقمح يتدحرج عليه
أن جسدها ِّ
أبوابا تخرج من حيطانها وتسافر، ورأت في ٍ
يوم آخر ً
ويذكر البحر
َّ
أن قافلة من السردين كانت تتخبَّط فيه وتمضي
إلى جهة مجهولة.
ويقول الذين بقوا في القرية
غريبا كان يأتي كل مساء
ً إ َّن ً
كلبا
ويعوي أمام بيوتهم.
ذاك المساء ،على حجر
العما ُل المتعبون ،ظالل الحمائم ،المالبس على الحبال البعيدة. كان ُّ
كل شيء في منتهى الرقةَّ .
أيضا كانت رقيقة معه ذاك المساء .مشى معها إلى أقرب حجر ،وقعد. شعر أن حياته ً
تذكر آخر أغنية تعلِّمها في المدرسة ،ورقص مع الشارع مع حديد المحالت المقفلة ،وبالطات
َّ
الرصيف ،التي كانت تخرج من طينها القديم وتبتسم.
مشى مع القيثارات
التي رقصت معه َّ
كل الليل حتى
ضلوعه.
َ تأصبح ْ
َ
على شعره نسمة هواء.
في عينيه نجوم في عنقه عقد.
هم أن يقول ألحد قربه :هذا العقد هدية من عيد ميالدي.
َّ
لكنه التفت إلى الحجر الوحيد
لَ َم َسهُ بلطف
وأغمض عينيه.
رفقة
كان ال يخرج إالَّ في األيام المشمسة ليكون له رفيق:
دائما. ُّ
ظله الذي يتبعه ً
َّ
ليتحدث إليه ،ليبتسم له. ينظر وراءه
يلتفت بخفَّ ٍة لئال يغافله على َدَرج ويتسلَّل إلى بيت
مشوقة لئال يضجر منه هذا يخبره حكايات ِّ
الظ ّل ويهرب،
في الصباح ُي ِع ُّد كوبين من الحليب ،على الغداء ُي ِع ُّد صحنين،
وكان يعود إلى بيته عند غياب الشمس
يقعد على حجر
ويبكي حتى الصباح.
الحشد
تلمس قماش المقعد وعرف أنه ليس وحده
َّ
وهم أن ِّ
يغني، بفرح غريب َّ
ٍ أحس
َّ
ألول مرة يشعر بجسد هذا المقعد،
َّ
باأليدي التي صنعته وربما هي معه اآلن،
بالحمالين الذين أوصلوه إلى الغرفة،
َّ بالمدينة التي جاء منها،
بالذين جلسوا عليه من عهد بعيد،
واحدا بعد واحد،
ً وها هم جميعهم،
يدخلون.
نظر إلى يديه ،ثم إلى الحشد
فإلى المقعد ٍ
بلوم شديد وخرج
صافقًا الباب وراءه.
المتعبون
المتعبون يجلسون في الساحةَ
متجولين
ّ ينصتون إلى عبور النسمات ،التي كانت في األرجح بائعين
أو متس ّكعين ،فقدوا أقدامهم
للمتعبين ساحة
بالطاتها ،مع األيام ،اكتسبت صفات إنسانية
واحد منهم
ٌ حتى أنها إذا غاب
تبكي.
يوما بعد يوم المتعبون في الساحة ،وجوههم ُّ
ترق ً
و َشعرهم يلين
في هواء الليل و األضواء الخفيفة،
أيضا وحين ينظرون إلى بعضهم ُّ
ترق عيونهم ً
زجاجا
ً إلى درجة أنهم يظنون أنفسهم
وينكسرون.
الربيع أخضر ،السماء زرقاء
ال يمكنه فعل شيء
الهرة وحدها تجلس قربه
َّ
يدغدغها ،يداعب صوفها الناعم ،يقول لها كلمة
شيئا ولكن فقط كي يسمع صوته.
ال تعني ً
شعاع ضعيف يدخل غرفته ويقعد على الكنبة
يبقى لحظة قرب ساقه ،ثم يرحل
وبين وقت و آخر تنتابه هبَّات هواء
ال يعرف إن كان عليه أن يستعملها لقول شيء ما
أو للتنفُّس
العالمة الوحيدة للحياة في الخارج بقعةُ رطوبة صغيرة على الحائط
لكن ،معه تبغ لهذا النهار
غليونا
ً يدخن
أيضا صورة في محفظته ّ
ً
يمكنه أن يستعيض عن الحياة بالصور ،وراح ِّ
يغني:
الربيع أخضر ،السماء زرقاء
في الصباح تطلع الشمس في الليل يطلع القمر
الجهات أربع و الفصول أربعة
ومن الجهات والفصول تأتي األرانب والرياح والغناء
وعلى التلَّة حجر ،على التلَّة حجر.
هرته بحنان
ثم لمس َّ
داعب صوفها الناعم
وعاد إلى النوم.
خطوة ناقصة
يحرك قدميه قليالً حتى يصل.
المقهى في الزاوية .يكفي أن ِّ
َّ
تقدم خطوة ووقف .السماء صافية والنجوم
عذبة إلى درجة أنها ال تنظر إليه،
شق حجر
وفي الساحة ال شيء ،فقط عشبة صغيرة في ّ
وقف يتأمل ورقها الخجول
متأكدا أنها ال تعرف حتى اسمه.
ً ومشى،
شيء كالصراخ يدخل أذنيه
بشريا
ً ضلعا
ً ورغم أنه يعرف أن اإلسفلت ليس
رفع قدمه.
ثم ضحك
أنهار من عينيه
كثيرا حتى جرت ٌضحك ً
فيها ظالل أشجار وأسماك وبيوت
وعجائز ينقلون كراسيهم إلى الشمس أمام الباب،
ضحك حتى غابت قدمه وغاب اإلسفلت
وصدى "صباح الخير"
من آخر الخارجين من المقهىM.
مقعد راكب غادر الباص
ذاهبا إلى المقهى للقاء األصدقاء
ناظرا إلى قدميً ،
وداعا أيها اهلل ،إني أمشي ً
ً
أصعد درجتين وأجلسُ وداعا ،إني أشيخ ،المقهى في الساحة،
ً
المسجلة تغني اآلن وحدها،
ّ سمعت كارمينا بورانا ومشيت،
ُ
الشباك المغلق
قرب ّ
مطر خفيف على الزجاج ،مطر خفيف على الميناء المقابل
وداعا ،الساعة الرابعة ،معي موعد مع أصدقائي
ً
أصعد درجتين ،وأجلس
ُ
البراد
فما على فم ،ورديين خارجين من َّنضحك فاتحين ً
تجرها الكالب ،مع جلود الماعز
زحافات ّمن األسكيمو مع الدببة ،من األسكيمو مع َّ
فما على فم ،كمتناكحين
ً
متزوجين الضحكات اإللهية ،الكلمات غير المفهومة M،األجنحةَ التي لبستها المالئكة ،وطارت
متزوجين خمسة سنتمترات من الهواء
تسبح فيها أفواهنا ،مالئكةً جديدة ،طيارين ساقطين بمضادات
قطعا من األشباح ،آلهة متروكة على األدراج اوراقًا روحية َّ
ممزقةً ،
إبر الكلمات ،الخيوط من عروقنا المنسوجة بقياسات غير دقيقة َّ
نتحدث ساحبين من أفواهنا َ
ونذهب في الشوارع منشرحين اننا َّ
تحدثنا ،ورمينا برتقاالً من النوافذ ،وسمعنا الصمت المرتجف
للطرقات
أننا تعاركنا مع صاحب المقهى M،تعاركنا مع سائق الصهريج ،تعاركنا مع اهلل ،وخرجنا
شارل بلحيته الشقراء ككوز تين ،ببنطلونه المصنوع Mليتَّسع لناس آخرين ال يجدهم
عباس برأسه المصبوب في المعتقالتM
ماري بجسدها النازل من جبال الثلج ،وعلى وشك أن يذوب
هاربا من حميدة العجوز ،ليستمني بحريَّة
عبده بغرفته الجديدةً ،
عقل بحبه الضائع ،بإيزادورا ،بوجع ظهره ،بالـ "آر .بي .جي" التي سقطت أمامه
ضاحكين ضاحكين ضاحكين
نرفع أيدينا في الفضاء ،نخفضها إلى األرض ،نعيدها إلى جيوبنا
ُّ
نصب على أنفسنا الماء لنستفيد من أجسادنا
المارة، وبر ناعم َّ
يتحدث مع َّ َّادات تحت الشتاءٌ ،
سج ٌ
قاطرات منبثقة من العورات
وص َل الباص اإللهي ،وصلت حقائبنا
معاَ :
ونصرخ ً
حقائب حقائب حقائب ،حقائبنا ضائعة بينها فلندخل المقهى
ُنجلس معنا على الطاولة وبر أجسادنا ،نجلس لحانا،
معاركنا استمناءاتنا غلَّة نهارنا من بيع قطع مغشوشة من التخيُّالت
تغني على النوافذ
ممالك بيضاء ّ
أبديةٌ في الممشى ،أبدية مربوطة بخيط
ليمر الهواء،
الكرسي قليالً َّ
َّ ونرجع
ُ
وداعا
ً
وداعا أيها اهلل
ً
وداعا بعينيك اللتين تترصدانني من وراء الباب،
ً علي،
يمر بيننا ،بالماء الذي دلقتَه َّ
بالهواء الذي ُّ
بفمك األزرق ،بنظَّارتيك المصنوعتين عند "نظَّارات الحكيم الطبية"،
ويديك اللتين تقوالن Mلي :هذا هو الطريق
وداعا
ً وداعا بمعصميك الجميلين ،بساعتك التي تشير إلى وقت مجهول ،الساعة الرابعة اآلن،
ً
عظمي محروق ُيسند ركبتيه بيديه ،وكنبةٌ يخرج
ٌّ شبطين 6 ،كانون األول ،1962أبي –هيك ٌل
منها الدخان
الكوة
شعاع قمر يدخل من َّ
وعلى المائدة سمكة غير ملموسة ،قنينة عرق فارغة ،ورقة لوز أمام الباب
كنت أزن 40كيلو مع الورقة التي أكتب عليها الشعر
40كيلو مع ابتسامتك ،مع نظرتك ،مع يدك على كتفي،
مع سمكتك على الطاولة ،مع لحمك المحروق
40كيلو مع دخانك
عرق على جبهته
الجنة ينطلق ،نقطةُ َ
جواد ّ
"صان بوت" تبحر إلى الرنكا ،تمشي على البحر قرب السمك" ،صان بوت" الشمس الخشبية
المسافرة
يد يتحرك خنصرها قليالً ،ويعود إلى مكانه
تودعها ٌّ
نمرر أصابعنا على شعرنا ،نضرب دماغ الوقت قبالتنا على الحائط نتحرك في مقاعدناّ ،
َّ
قمصانا مفتوحة على الصدر ،ننظر إلى بعضنا ونبتسم
ً مرتدين
ننظر إلى العابرين الذين يشبهوننا
جالسين وسط دخان السكائر ،جالسين أو واقفين أو عابرين ،آكلين حجارة الشارع ،آكلين الشرفات
من أمام السيارات ،من أمام عربة التوقُّعات التي توقفت عندنا
عاليا وصارخين
حاملين رأس المحبة ً
أمعاء أرض طويلة مرمية على حوافي الطرقات
ُ شرايين محطَّمة،
وصدورا تلبس القمصان
ً قطعا هوائية ،هياكل سفن ،أيدياً وأرجالً
أبراجاً ،
ً حاملين سواحل،
سنتمترا
ً وقدم ِك يا أمي التي تقيس 20
ُ
لك شقيق أبي سنة ،1957وال تزالين ترتدينه اآلنحذاؤك الذي صنعه ِِ
تقصها لي؟ ِ
أظافرك الطويلة وأنت تنتظرين أن يبتسم وديع لتسأليه :هل ّ
ركبتاك الزاحفتان على الشوك والحجارة نحو ضريح قديسة،
ليتوقف أبي عن الس ْكر
خرجت منه ذات يوم حامالً عينين
ُ فستانك الوحيد كأنه الصق بجسدك ،جسدك المترهل الذي
وأصابع بالكاد تحتمل الهواء
َ صغيرتين
مادا يدي تحت نقاط المطر لسيارات سريعة
ً
ذاهبا إلى باريس باألوتوستوب
ً
أقنع صاحب المقهى بلغة فرنسية ركيكة
Une bouteille d’Arak extra
لقاء ترويقة مجانية
نائما تحت مواقف الباصات في ثلج كانون الثاني
ً
عجوزا يسعلون طوال الليل ويذهبون بالدقائق إلى
ً نائما في مأوى العجزة ،مع مئة وخمسين
ً
المراحيض
على نهر السين ،مع ورق الشجر على المقاهد
وقارئا على جذوع الشجر:
ً راميا أغراضها قطعة وراء قطعة،
على الطريق مع حقيبة كبيرةً ،
"الصيد ممنوع"M
أخيرا على الحدود اإلسبانية،
في هندايا ،بيدين فارغتين ً
وتنقصني عشرون بيزيتا للوصول إلى مدريد
وداعا
ً
الكنبة قرب الباب ،القنينة على الطاولة ،اهلل في السماء ،أبي في القبر ،الثلج على الجبل
إلي من مكان
غناء يصل َّ
مغمى عليه في الشارع ،الحياة جالسة مع صديقها وراء الصخرةٌ ،
ً الوقت
بعيد
بضمادات عتيقة من الضلوع ،ملفوفين بعروق مسروقة ،بجلود
َّ نمشي حاملين أجسادنا ،ملفوفين
ناعمة ناجية من الحروب
ِّ
ونحدق في الحيطان جسدا أمام جسد
نضع ً
كأسا أخرى
هاي ،لويس ،أعطنا ً
غدا
سركون سيكتب الليلة مئة قصيدة ،جاد سيكتب رواية كاملة عن الحرب اللبنانية ويهاجر ً
صباحا إلى ملبورن
ً
كأسا يا لويس
أعطنا ً
سيتحول بعد قليل إلى قطة لطيفة ،العميان سيبصرون ،األبدية ستدلّي أثداءها وتقول Mخذوا،
ّ الدماغ
سيقدم شفتيه ،هذه الكرة األرضية ستصبح من مسروقاتنا الخاصة
أخيرا ّ
اهلل ً
كأسا
سأصبح مل ًكا يا لويس اعطني ً
ملياً في عورتي
برجي هو برج السرطان ،عندما أستيقظ أجد نفسي في العالم من جديد وأنظر ّ
تقريبا
ً أم ّشط شعري وأخسر منه عشر شعرات
برجي هو برج السرطان ،برج بال َشعر ،بيد صغيرة بالكاد تزحف على األرض ،بعينين شبه
مرئيتين تؤديان خدمتهما اإلجبارية على الصخور
أحتفظُ بمنظر سفينة تبتعد ،بأصداف ابتسامات غريقة،
بعيون عميان منسية على الرمل
أحتفظ ٍ
بليال فقيرة تأتي إليها الرياح بالصدفة
أنت ال تفهم كل هذا
ولكن يا لويس َ
قل لي :لماذا ال تدع صديقي يسند قدميه المتعبتين على زجاج مقهاك وهو بعد قليل سيتابع
فقط ْ
المشي كل حياته
اسمعي يا أمي مريم العذراء اسمعي يا أمي فرنجيه ،أنا ال أحب لويس
الياس صديقي ،شعيا صديقي ،لكني ال أحب لويس
المطر ينزل على النافذة
في الخارج أواني زهور ،كنبةٌ أعتقد أنها تبلّلت
على المقعد كتلة صغيرة ،أعتقد َّأنها َّ
هرة
للمارة واقف في شارع صغيرُّ ،
أمد يدي َّ
أنت تعرف يا جاد ،كان ينقصنا ربع ليرة للوصول إلى ساحة البرج
مبسط أمام كلية اآلداب ،قرب بائع فستق سوداني ،أبيع "ليس للمساء
مبسطٌ في شارع الحمراءّ ،
ّ
إخوة"
صباحا
ً وبعد ذلك المعامل في أوستراليا ،النهوض في الرابعة
وانتظار الباص ،والوقوف Mتسعة أشهر أمام آلة في مصنع هولدن لجمع تذكرة العودة إلى بيروت
ثم 1975
للمسنين
ّ بائعا االسعافات األولية
وحقيبة أمشي بها بين قرية وقرية ً
قوموا نبحث عن مقهى آخر
كراس ُّ
تطل على البحر ٍ حجري جميل ،فيه
ّ "داون تاون" بناء
نجلس
ونضع إصبعين على البار،
وداعا إني أشيخ
ً
يوما أن تلعب الجمباز
معي في صدري ضلوع ضعيفة ،كانت ترغب ً
معي رأس بكامل تجاويفه
معي يدان صامتتان أرافقها كل النهار ،ثم نتصافح ونذهب إلى النوم
عاما بهذه األعضاء؟
ماذا يفعل كسو ٌل على مدى أربعين ً
وداعا
ً
القمر على الماءَ ،ر ُج ٌل على الطريق ،وشاحنة مسرعة
نمشي كتفًا على كتف ،مصطدمين بأنفاس عمياء
راكضون راكضون راكضون
حاملون الحقائب ،حاملون األوالد والنساء ،الطاوالت والكراسي و المزهريات ،وراكضون
متسابقون بأقدام نحيلة ،بجذوع أشجار مكسورة ،وما الداعي؟ مناسبة متواضعة :الحياة
وداعا ،النافذة أمامي ُّ
تطل على الميناء ،ومغلقة منذ البارحة ً
المطر خفيف وجميل ،الكنبة في الخارج ،األبدية في الممشى،
يدي على الطاولة
سنتمترا
ً قَ َد ُم أمي تقيس 20
وداعا.
ً
بسبب غيمة على األرجح
1992
ظالل
زحلوا نحو ِ
الماء َ
منحدرين من جبالهم ظالالً ناعمةً
العشب. َّ
لئال يوقظوا ُ
ِM
الحقول ت علىمر ْ
حين َّ
خياالتُهم َ
ونام هناك
بعضها َ ُ فارقَهُ ْم
ت
طْ ِ
بالصخور وانمغ َ ت وخياالت َّ
تشبثَ ْ ٌ
وأعادتْهم إليها.
زحلوا حتَّى وصلوا
إلى ِ
الماء ُمنهكين
تبحث عن إبر ٍة
ُ الشمس وفوقَهم ِ
كانت
ُ
صلَهُم بالظالل.
عيد َو ْ
لتُ َ
نظرة
عيونهُ ْم و يمشون
َ يتركون
َ
ٍ
كئين على نظرات قديمةمتَّ َ
صمت
ٌ سج ًى على أجسادهم
ُم ّ
نسائم موتى
ُ ُمسجَّاةٌ
ت
ُبيد ْ ٍ
أمكنة أ َ أرواح
ُ
غيم
مر ٌوفي بالهم إذا َّ
المطر على حقولهم البعيدة.
ُ ِ
ينز ُل
يمشون
َ
وحين يتعبون يفرشون نظرةً
َ
وينامون.
زنابق
ِ
الساحات َو ْح َدها الموت يرقص في ُ لم يكن
ب الزهور بل قُْر َ
والحَبق ِ الديك ِِ قرب عر ِ
وفم السمك َ ف ُْ
الع ْين ِ
ويمشي مع ماء َ
إلى طاوالتهم.
يرقص
ُ الموت
ُ كان
ِ
الساحات كانوا وفي
ِ
باألسفلت يمتزجون
َ
الزهور ِ
تحملُهُ ْم ِ ون على
والم ْن َحُن َ
ُ
قات إلى فوق
الطلَ ُ
ِ
الفضاء ويصيرون في
َ
زنابق.
َ
الموتى نيام
كانوا عراةً
أوالد
ٌ ولهم
عر ُهم في المساء
يدغدغون َش َ
َ
وينامون
بسطاء
َ كانوا عراةً و
مين ِ ِ
النهار ُم ْبتَس َ طوال
َ قون
يعر َ
َ
وفي عودتهم يقفون أمام الواجهات
ثيابا ألوالدهم
يقيسون بأنظارهم ً
َ
ويمشون.
ِ كانوا َّ
خطوتي ِن ويلم َ
سون ْ يتقدمون
جذوع الشجر
َ ِ
الفجر ِ
نسمة قبل
َ
غصون
ٌ وتحت نظراتهم تُثْ ِم ُر
َ
كانون الثانيَ ثلج
في ِ
وكانت مناجلُهم ُّ
تحن إلى الحقولM
دائما لندائهم
بين القُرى ُمتأهًِّبا ً
والهواء َ
ُ
ضلوع
ٍ قمحهُم إلى
تحو َل ُ
حين فجاةً َّ
َ
شبا ينمو على أجسادهم.
النسيم ُع ً
ُ وصار
َ
كانوا عراةً
الشمس ُك َّل مساء ِ
وكانت
ُ
ِ
الحريري الخفيف
َّ ُتر ُّد غ َ
طاءها
على أرواحهم.
فجرا
الموتً ،
الشمس
ُ تطلع
َ قبل أن
أبوابهم َ يفتحون َ
َ
رفتي ِن يفتحون َّ
الد ْ
الشمس كلُّها.
ُ لتدخل
َ
ِ
الفجر النسيم في
ُ
ِ
الزهور في الفجر قي
َس ُ
فجرا، ِ ُح ُّ
ب الحياة ً
وفجرا
ً
دخل شعاعٌ
َ
ِ
خشب الباب من بين
أبيض
َ زيحا
وصنع ً
َ
ٍ
رموش مغلقة. على
زيارة ليلية
برون أطفالَهم حكايات
كانوا ُي ْخ َ
والزرع ِ
الحارس ِ
المالك عن
ْ
جاء هذا الصباح ِ
والبلبل الذي َ
وغنى في شجر ِة التوت ،على شبَّاكهمَّ
ُيخبرونهم عن ِعَن ٍب
سيبيعونه و يشترون
ثيابا جديدة
لهم ً
عن ٍ
كنز
تحت وسادتهم إذا ناموا،
غدا َ يكون ً
صلُوا َّ
لكنهُم َو َ
ِ
الحكايات قطعوا
حمراء على الجدار
َ بقعا
تركوا ً
وخ َرجوا.
َ
صيادون
تدرُبوا
بعضا َّ
بعضهُم ً
َ أن ُي ْسِقطوا
قبل ْ
َ
ٍ
سنوات طويلةً
على ص ْي ِد ِ
الح ِ
جال َ
على َر ْمي الحصى في الفضاء
ون ْق ِشها بالرصاص َ
الجوانح
ِ تدربوا على َنتْ ِ
ف َّ ُ
وج ْعِلها مكانس
َ
ِ
سواعدهم وحاولوا في
ٍ
ريش ع
َز ْر َ
طيورا
ً ليصيروا
وتساقطوا
الطيور.
ْ مثل
َ
سماء سرية
َو َج ُدوهُ
وم ْنَب ِس َ
طة زرقاء ُ
ُ يدهُ
ُ
كجناح َو ْر ٍ
وار ِ
مفتوح قليالً
ٌ وفمهُ
ُ
يريد
كان ُ َّ
كأنهُ َ
أن ِّ
يغني.
شيء على العتبة
كان ميِّتًا َّ
لكنهُ كان
ُي ِح ُّس أناملَهُم على جبهتِ ِه
ط الدار
أسَبلوهُ وس َ
ْ
وكان
َ ٍ
فراش استأجروهُ على
ب أن يشتري مثلَهُ، ُي ِح ُّ
ثيابا
أسبلوهُ وألبسوهُ ً
َ
ِ
واجهات المدينة رأى مثلها في
وحين حملوهَ
البيت
َ يغادر
ُ ترك وهو َ
غريبا على العتبة
ً شيئا
ً
وكانوا ُكلَّما دخلوا
يعرفون السبب.
َ يرتجفون وال
َ
ورقة
َح َملوه صامتِين
ِ
الساحة وتركوهُ هناك ،في
في َح ْق ِل الص ِ
ُّلبان والشواهد
رفاق ِه
الفسيحة مع ِ
ِ ِ
الساحة في
النائمين.
"سأعود،
ُ قال:
ِ
أصيص الزهور" تحت
المفتاح َ
ُ
وورقةٌ منها كانت
ال تزال في ِيده.
عائد
استلقَى
تحت السقف
نصفُهُ َ
تحت السماء.
ونصفُهُ َ
كثيرون
َ تحلَّ َ
ق حولَهُ
اليوم عاد
َ
جاؤوا به ملَ َّوًنا ِ
بالدم والتراب ُ
أسبلُوه على الشرفةِ
َْ ُ
وكانت نقاطُ ماء
ٍ
غيمة تنز ُل من
على قدميه.
كلمات
الكلمات التي قالَها
ُ
الخزانة ،على ِ
األس َّر ِة ،والجدار ِ ِ
المقاعد ،في على
البيت
َ جلَُبوا خادمةً نظَّفَ ِت
األثاث واألواني Mوالحجارةَ نظَّفَ ِت
الء ِ
جلَُبوا ط ً
جلَبوا أصواتًا جديدةً
يسمعونها.
َ وظلُّوا
غياب
ذاك النهار
َ
ِ
سنديانة الساحة تحت
َ
فارغين،
ْ حجريان
ّ ظ َّل فقط مقعدانَ
ِ
صامتَْين كانا
ينظران إلى بعضهما
وي ْد َمعان.
َ
شجرة
ولمس
َ خطوتين
ْ َم َشى
زرعها البارحةَ
َ نبتةً
خرج َن ْسغٌ من يديه إلى عرو ِقها
َ
أوراق إلى غصونها
ٌ ت من عينيه خرج ْ
َ
أراد العودة
وحين َ
َ
مكانهُ،
لم َي ْب َر ْح َ
تحولَتا
كانت قدماهُ َّ
جذورا.
ً
رحيل
لمس باب ِ
البيت وخرج َ َ
أنفاسهِ
الق ْف ِل بعض ِ
تار ًكا على ِ
َ
ِ
ينظران إليه: رآهما
ُ
اء الليل
يحبس خلفَهُ ُع َو َ
ُ القف ُل الذي كان
الصباح
ُ والباب الذي كان
ُ
يطلعُ من شقو ِق ِه،
رآهما يتحلَّالن ويعودان ُ
صدَئةق وكتلةً ِ يباسا على الطري ِ ً
ِ
الجبال الحيطان ترجعُ إلى
َ ورأى
أحجارا وحيدةً وحزينة
ً
تعود
السطح ُ
ِ والم ْح َدلَةَ على
َ
ٍ
صخرةً في غابة بعيدة
دمعتين في الشتاء
ْ والسقف الذي َي ْد َمعُ
َ
ف يائس. مثل جر ٍ
يهط ُل َ ُ ْ
ورحل
َ لمس باب ِ
البيت َ َ
تار ًكا زهرةً في ِ
فتحة القفل
السطح غيمةً
ِ وفوق
َ
من نظراتِ ِه.
إذا
آخر ما رآه ُ
ود َعتْهُ على ِ
الباب ِه َّرةٌ َّ
عاد
الذي أقفلَهُ ثَُّم َ
وفتحهُ
َ
الجيران كالعادة
ُ ليدخل
َ
إذا جاؤوا.
ذاك النهار
ون حجارةَ بيتِ ِه حين كانوا َي ْج ُرفُ َ
َ
ِ ِ ِ
أعضاءهُ وذكرياته من ُركامها أن َي ُنق َل حتَّى
َ لم يكن له ْ
كان حياتَهُ
ذاكَ ، الركام َ
ُ
ت حياتُهُ به
وارتطم ْ
َ
ذاك النهار ِ
في ُج ْرف َ
مراراً.
يجرفون الثلوج
َ َّامهُ كما
يجرفون أي َ
َ كانوا
تذوب
ُ وناس و حقو ٌل
ٌ
ويدمعها
في عينيه َ
نقطةً نقطة
الزيت ِ
خابية ْ البيت ،على ِ
الم ْع َو ِل ،على أغراض ِ
ِ على
وكان الصباح جر ِة ِ
الماء التي مألَها هذا وعلى َّ
َ َ
باردا.
ماء ًسيسقيهم ً
رفاق
ِ
الشرفة جلس على َ
ريح
أصابع ٍ
َ يصافح
َ أن
ُمحاوالً ْ
تَْلهو ب َش ْع ِر ِه،
يد
قالٌ :َ
الريح الوردةَ
ُ تهز ْ حين َّ
َ
قال :نظرةٌ
السماء َ
ُ حين ابرقَ ِتَ
وقال ال ُب َّد بسمة
َ
ذات ٍ
يوم في الهواء ت من ٍ
ثغر َ افلتَ ْ
اآلن ِ
وقد تَص ُل َ
وتجلس معي.
ُ
ِ
الشرفة جلس على َ
وجوها
ً يستعيد
َ ُمحاوالً أن
ِ
حواليه ليمألَ
المقاعد الفارغة.
َ
قال
ِ
الركن شبيهتي ِنَ :
الحَبقَةُ في ْ قال كانتا
َ
وأمهُ
ُّ
ون بينهما الناس ُي َمي ُِّز َ
كان ُ ما َ
ألم ِه ِ
الخير ِّ صباح
َ يقولون
َ
ُّ
ترد الحبقةُ
ِ
للحبقة يقولون
َ
أمهُ ُّ
ترد ُّ
عروق
ٌ كان في يديها
كل الذي َ وقال :ما ُّ
وش من نباتِهابل ُش ُر ٌ
ورقتين
ْ وكانت راحتاها
زهرتين
ْ عيناها
تفوح
ُ الحي
ِّ تمر فيوحين ُّ
َ
ِM
الحقول من ثيابِها. ُّ
كل
والدهُ و الشجرة
توأمينُ :
ْ وقال كانا
ذراعهُ عليها
َ ُيلقي
غصنها عليه
َ وتُلقي
حين تراهُ
تخضر َ
ُّ
يمرض
ُ حين
وتصفر َ
ُّ
الريح
ُ وإ ذا ضربتْها
صيبهُ رجفة.
تُ ُ
قال ومشى َ
ب ِ
الباب ص ْو َ
َ
َّ
لف سيكارةً
ومضى.
حياة
الوقت
َ تقريباِّ ،
يبد ُد ً كان،
َ
إناء
رسم ً َ
رسم زهرةً في اإلناء
َ
عطر من الورقة،وطلع ٌ
َ
كوب ماء
َ رسم
َ
شرب رشفةً
َ
وسقى الزهرة،
رسم غرفةً
َ
سريرا ِ
الغرفة وضع في
ً َ
ونام
استفاق
َ وحين
َ ...
بحرا
رسم ً
َ
بحرا عميقًا
ً
وغ ِر َ
ق. َ
وجهه
رسم وجهَهُ ورآه
َ
آخر
يشبهُ وجهًا َ
ومالمح
َ طا
أضاف خطو ً
َ
تعر ٍ
جات أضاف ُّ
َ
ٍ
ساحات
طر ٍ
قات ُُ
ق الورقةَ َّ ...
مز َ
واختفى.
أسماء الموتى
أسماء موتاه
َ أصابع ِيد ِه َّ
وعد َ أسبل
َ
أصابع ِيد ِه األخرى
َ َّ
وعد
ِ
األلوان حواليه عدد
أضاف ََ
أمام البيت ِ
غصون الشجرة ََ
ِ
الدرب نبات
َ
أوراق الغابة
َ
ينام
وقبل أن َ
َ ...
اسمه.
أضاف َ
َ
غريق
يدهُ
رفع َ
َ
يريد
كان ُكأنهُ َ َّ
يقول كلمة.
أن َ ْ
معهم
راه ْم ِ
ندى من قُ ُ
تركوا في الساحة ً
ِ
الجبل، وراء واختفوا
َ
ريش دجاجزيتَ ،ط ٍ ورق َخ ٍّس ،نقا َ
َ
َت
ونسائم تباطأ ْ
َ
ِ ِ
من ظالله ْم.
حملوا غاللَهُ ْم من الجبال
فلشوها على األسفلت
باعوها
ُ
وعادوا،
ِ
الساحة طار والريش الذي تركوهُ في
ُ
وعاد معهم.
َ
أمي
ِ ٍ
آخر نقطة ماء في َدْل ِوها على َ
الحَبقَة ت َ وضع ْ
َ
ونامت قُْرَبها
ِ
وجاءت الشمس القمر
عب َر ُ َ
ت نائمةً وظلَّ ْ
يسمعون صوتَها ُك َّل صباح
َ الذين كانوا
لفنجان قهو ٍة
ِ
لم يسمعوا صوتَها
ِM
الحقول ط ْيحاتِ ِه ْم ،نادوها من
نادوها من ُس َ
لم يسمعوا صوتَها
وحين جاؤوا
َ
كانت نقطةُ ٍ
ماء ال تزا ُل
وتزحف
ُ تَْر َش ُح من ِيدها
إلى الحبقة.
أبي
يصير وجهُهُ غابةً
َ أن
قبل ْ
َ
كثير على يديه،
شجر ٌ
َم َّر ٌ
ِ
كالدروب التي كان
َ
وينظر إليها
ُ َي ْق ُع ُد على ُسلَّ ِم ِه
كحجار ِة بيتِ ِه التي ُّ
ظنوا َّأنها ستمي ُل
وأيضا
ً كع ْش ٍبورقيقًا ُ
ق المهاجرة. ِ
كالبواش ِ
تحو َل
أن َّ
قبل ْ
شيئا َلم َي ُق ْل ً
وجهه غابةً
بيضاء
َ صارت
ْ شجرات قليلةٌ منها
ٌ فقط
الجبل الم ِ
قابل كان يرحل ِ الثلج على
حين َُ
ُ
جذورها وطلع
َ توشجرات َم َّد ْ
ٌ
صغير من ترابِ ِه. ٌ َد ْغ ٌل
بيننا
ين ِ ِ ِ
ين طافح َ ين حالم َ
نجلس صامت َ ُ
َّ
ق الل ْو ِز بيننا صفِّ ُ
ق كأورا ِ ٍ
بأفكار تُ َ
ِ
الطاولة واحدا على
ً واحدا
ً أعضاءنا ونصفُّها ك ُن ِّ
فك ُ
َ
الو َسط
العيون في َ
َ
األصابع على الحافَّة
َ
ون بيننا
يتجولُ َ
القلوب َخ َد ًما َّ
َ
ِ
األبواب أحالما تدخ ُل من ونستضيف
ُ
ً
وأحالما من ِ
ثقوب الجدار ً
ٍ
لضيوف ون ِع ُّد مأدبةً
ُ
عائدين
َ يتدفَّ َ
قون
ِ
الموت إلينا. من
ق يوم ،قَ َس ٌم أالَّ ِ
نفتر َ ذات ٍكان بينناَ ،َ
األبواب والنواف َذ
َ شر ْعناَّ
والنسيم
َ والمارةَ
َّ الجيران
َ َد َع ْونا
تدخل
َ الع ْش ِب كي
ورطوبةَ ُ
وتتدفَّأَ عندنا،
قلب لَ ْو ٍز
كان بيننا ُ
َ
اقتسمناهُ على الطريق
ودخْلنا.
ذكرى صياد سمك
ِ
البحر ُسكارى صْلنا إلىَو َ
ِ
بخياالت ُسفُ ٍن وسمك ُم َز َّو ِد َ
ين
وارتمينا على الصخر ِة التي
قبل يومين
َ
صرعوا رفيقنا عليها.
ُكَّنا صامتِين
أكياسنا
َ ثَُّم َفلَ ْشنا
الصنانير
َ ورمينا
ْ
بعضها
أن َ رميناها على َع َج ٍل حتَّى َّ
نسيناهُ بال طُ ْعٍم وأخرجنا سم ًكا
ِ
بخيط ٍ
دم ت دماؤهُطْاختل َ
ِ
والبحر الليلة بين الصخر ِةتلك ِ ُم ْسَب ٍل من ُذ َ
يصطاد السمك.
ُ
ُكَّنا ُسكارى
مكان الوردة
وصْلنا ِ
تقريبا مع الليل َ ً
أمام الباب،
أغراضنا َ َ وأنزْلنا
َ
أمام بيتِنا
تقريبا ًَ
أمام ذكرى حجار ٍة َ
وماء،
أغراضنا
َ أنزْلنا
َ
ِ
الوردة مكان َش َم ْمنا
َ
ونِ ْمنا.
وجهة
ٍ ِ ِ الحبا ُل في اتِّ ِ
تَبِعتْنا ِ
غسيل َنس ْيناهُ البحر ،مع جاه َ
منشورا عليها
ً
رفاق
ٌ و َكبا َّ
منا
شجر التِّ ِ
ين بين ِ َ
وتحت الرفوف
َ ِ
والباب، العتََب ِة
بين َ رفاق َ ٌ َكبا
وتر ْكنا
مشينا َ
ْ
ثيابا الح ِعلى ِ
بال ً
ِ
ألجسادنا الجدران ِق َ
ط ًعا كانت ِ وعلى
البحر
َ وحين د َخْلنا
َ
ف ِ
حراش ُ ِ
لبعضنا تنبتَ ْ
ِ
بالصخور َّث
وبعضنا تشب َ
ُ
ص َدفًا.
وصار َ
َ
بقع زيت
النسائم النائمةَ
َ لم ُنو ِق ِظ
مشينا
فقط ْ
رافقُنا ِمْل ُح الفجر ي ِ
ُ
وأصوات الكالب، ُ
ِ
بكاملها هناك َتر ْكنا ُجَز ًرا
ٍ
آللهة وجذوعا مكسورةً ِ
األقبية ٍ
مالئكة في وفَ ْح َم
ً
وأبديةً ثكلى، َّ
ت معنا على ثيابِنا زيت َم َش ْ بقَع ٍ
ُ ُ
و َش ْح ُم أحالم
عربات ُم َخلَّ َعةٌ
ٌ قلوب ِ
بعضنا وكان في ِ َ
ٍ
ومواش نافقةٌ،
الكالب حتَّى ِغ ْبنا
ِ أصوات
ُ رافقتنا
تحت ِ
أقدامنا ِ
الدروبَ ، وعلى
نادرا
نوعا ً
اكتشفنا ً
من األنين.
أنت
ايَ ،َه ْ
ت
صْل ُاآلن َو َ
ها أنا َ
ٍ
فاكهة لم تَ ْس َم ْع بها مثل
طازجا َ جديدا
ً
ً
اع ِطني سيكارة،ْ
حكايات غريبة
ٌ معي
ِ
ومعار َك ومزهريَّات ٍ
ملوك عن
بالص ْدفَة
ُّ الرياح
ُ ٍ
شعوب اكتشفَتْها عن
ِ
وأسماك أرواح
ِ
الرمال على
أنت َو ْح َد ْك
لك َ حكايات َ
ٌ
ِ
اعطني سيكارة،
ِ
السنوات أيضا تال ٌل من
ومعي ً
أبيعها
أريد أن َ ُ
ٍ
محيطات تال ٌل ُم ْش ِرفَةٌ على
الحيتان
ُ يرقص فيها
ُ
الغ ْرقَى
مع َ
ٍ
منتجعات بناء ُم ْش ِرفَةٌ على ُخْل ٍ
يمكن فيها ُ
ُ جان
ٍ
جميلة ٍ
ألعمار أخرى،
تال ٌل ،تال ٌل
شئت
ْإدفَ ْع ما َ
وخ ْذها.
ُ
ِ ِ
لم ُنو ِقظ النائم َ
ين ولم َن ُق ْل كلمةً
ِ
لألبواب ِ
الكلمات األخيرةَ فقط ِ
سم ْعنا
التي كانت ُّ
تئز عند دخولنا وخروجنا
ومشينا
ْ
ِ
الحائط ص َو ًرا على
تر ْكنا ُ
ِ
الزاوية ٍ
زيتون في رائحةَ
التبغ ِ
المناش ِر َم ْش ُكوكةً مع ِ ٍ
حكايات على أعضاء
َ
ورأس َك يا رياض الذي صار
َ
ِ
نيازك.
واثبين ين َّ ِ َّ ِ
َ ين ُم َخلع َُمقَطع َ
الشوارع
ِ على ع َّك ٍ
ازات في ُ
نغادر وحين نذهب حيث ٍ
ناقصة ُ ٍ
بأعضاء ص ُل َن ِ
ُ َ ُ
ٍ
أعضاء بعض كنتر ُ
َ
وأقدام
ٌ عيون
ٌ لنا
ال تزا ُل هناك
الدروب بنا
ُ تشعر
ُ حين نمشي ،ال
لذلكَ ،َ
تكون في ٍ
مكان آخر ُ مطر
انهمر ٌ
َ وإذا
عيون
ٌ تَ ْد َمعُ
اعطني سيكارة
من ُّ
الد ِ
خان تُولَ ُد اآللهة
والبهاء،
ُ والسماوات
ُ الكنوز
ُ تُولَ ُد
شوقي صديقي
سيصير ِس َّكةَ حديد
ُ
بعد ٍ
قليل َّ
لكنهُ َ
أشرب سيكارةً معهَ ذلك أن
قبل َ أريد فقط َ
ُ
رأس ِه َع ْب َر "سيدنهام"
تمر في ِ قطارات ِس ْ
يدني ُّ ِ ُّ
كل
ينفجر اعطني سيكارةً، َ وهو على وشك أن
ون َز َل ِ
الجبال َ وخض ُر الذي رمى بندقيَّتَهُ في
ْ
صار رسالةً بال عنوان َ
ٍ
ينقلونهُ من بريد إلى بريد
َ
وال ي ِ
صل، َ
الطريق
ُ خان تُولَ ُد من ُّ
الد ِ
البيوت
ُ العناوين و
ُ تُولَ ُد
وأصحابها
ُ
الدخان يولَ ُد اهلل ِ
هات ُ من ُّ ُ ُ
سيكارةً
التبغ عن ِ
مناش ِرنا ضابا من ِ ُ ِ سأ ُْر ِس ُل َ
أعود ه ً حين
لك َ
ضوب ْي ٍ ٍ
سالل فاكهة َ َ
ٍ
أحالم بوب ٍ
دجاجات ُنربِّيها على ُح ِ من
َ
أيضا
بعضها ًلك َ كنوزا سأ ُْر ِس ُل َ
وتبيض ً ُ
اختر ْعنا
يوم َ وذات ٍ َ
ِ
للصمت عروقًا
ِ
الدروب ِ
أجساد م َش ْينا َن ُش ُّكها في
أزرار الطُّ ُر ِ
ق َ قارص ِلُنَب ِّك َل
ٍ ٍ
هواء م َش ْينا في
يرتجف
ُ ِ
صدورها وكان لَ ْح ُم
َ
مام عيونِنا
أ َ
الجسور أحشاء ٍ
حياة ِ تحت
رأينا َ
َ
ٍ
عيون وشظايا
تبحث عن نظراتِهاُ
إس َم ْع ،رأينا الحياةَ
ْ
تحت شجر ٍة ترتجف َ
ُ
قميصهُ
َ يخلع
َ أن
بعضنا ْ
ُ وه َّم
َ
ويغطِّيها، ُ
الهواء وكان ٍ
عارية ٍ
بصدور م َش ْينا
ُ َ
صديقَنا
ٍ
بزهور يأتينا
ويلعب ب َش ْع ِرنا
ُ
ٍ
نظرات الهواء يحم ُل لنا كان
ُ َ
أصحابها
ُ َّعها
ضي َ
قون في الشفق. وه ْم ِّ
يحد َ ُ
أساور معنا شوارعُ معنا ظالل
ُ معنا
صبهواء و قَ َ
ٌ معنا
ادات حنين
وضم ُ
َّ ص َو ٍر
حفيف ُ
ُ وفي حقائبِنا
تركض من ٍ
جبل إلى جبل، ٍ
أصوات وع َّك ُ
ازات
ُ ُ
َم َش ْينا
أمام الباب
لوز َوكانت ورقةُ ٍ
نظرنا إليها
ْ
وتاب ْعنا.
َ
فوق ِ
سهل برتقال الغ ْي َمتَْي ِن َ
أنيس بعينيه َ ُ
تصير ِ
الماضية َن ْح َو أن أصابع ِه
ِ قبعرو ِ
َ
أقالما ناشفةً
ً
وبقمح أحالم
ِ
فم ِه،
ي ْنقُ ُدها طير عن ِ
ٌ َ
ف ِ
عليه ُك َّل الطريق عز َ بع ٍ
ود َ َّان ُ
وغس َُ
أوتاره. ِ َّ
صارت الشوارعُ َ حتى َ
غير
لم يكن عندنا ُ
ٍ
وزيتون تبغ ِ
رائحة ٍ
ومض ْينا
َ حمْلناها على ثيابِنا َ
خفيفين
َ َم َش ْينا
لئالَّ ُن ْز ِع َج ندى الطري ِ
ق
صًناولم َن ْح ِن ُغ ْ
النسيم
َ لم ُنو ِق ِظ
األصدقاء لم َن ُق ْل كلمة
َ لم ُن َو ِّد ِع
فقط
َم َش ْينا.
ميتة
لحظات ِّ
1
يح ُجُبها
إما ْ
لسببينَّ :
ْ ِ
الشمس تختفي فقط أشعةُ
فوق البيتَّ .
تعبر َ
أن غيمةً ُأعتقد َّ
ُ فجأةً. إختفى الشعاعُ
تعبر. األرجح َّ
أن غيمةً ُ ُ اآلن صباح،
أن َالوقت ليالً .وبما َّ
ُ يكون
ُ الغيم أو
ُ
الواحد أن ِ
درجة َّ أتأم َل المطر .الحياةُ جميلةٌ إلى
حينئذ أستطيعُ من نافذتي أن َّ ٍ قريبا ستُ ْم ِط ُر.
َ ُربَّما ً
يذوب ِ
الفضاء كوكبا في وأظن َّ
أن ُّ مائي،
يتأم َل المطرُ .برجي ٌّ أن َّ
ُ ً الظروفْ ،
ُ ساعدتْهُ
َ يستطيعُ ،إذا
وأتقدم إلى النافذة .أفتح الزجاج وأنظر إلى السي ِ
َّارات َّ
ُ َ ُ ُ لطيف احملُهُ
ٌ أحيانا ويسي ُل هنا أماميَ .و ْه ٌم ً
ض ُح المتْ َعبِين .لماذا ِ ِّ ِ
وي ْن َ
أحيانا َ
ً أتعب
ُ كنت
الع َّمال؟ أنا نفسي ُ يتعب هؤالء ُ ُ والع َّمال ُ الجاف ُ واالسفلت
وشيء مقيت ،ال بل ُم ْخ ِج ٌل. ِ
الجباه ق
واستريح سنواتَ .ع َر ُ بعد ذلكأندم َ قَّ ، ِّ
ٌ ٌ ُ كنت ُ لكنني ُ الع َر ُ
مني َ
بارا خفيفًاِ .ه َّرةٌ نائمةٌ في وراءها ُغ ً
َ كق نفسك .تَ ُم ُّر سيَّارةٌ وتتر ُ النوم لتعري ِتنهض من ِ َ أن
مقزٌز ِّْ
وأعود ببطء.
ُ ق النافذةَُغِل ُ
ضهُما .أ ْ تفتح عينيها ثَُّم تُ ْغ ِم ْ ِ
الزاوية ُ
أجلس هنا على ال َكَنَب ِة أو َّ
أتمشى ُ
ٍ
ببهاء ُكلِّ ٍّي وأنا ٍ
شيء أعيش ُك َّل
َ أيضا سأستريح .يمكنني أن اليوم ً
َ
ذلك قد
بعد َ
اليوم تكفيَ . الحياة في ِ ِ ساعات من ٍ خمس وأنظر إلى الجدران .أربعُ أو ِ
البالط على
ُ ُ
ق وأعود. بالصدفَ ِة ،أشتري ِّقنينةَ َع َر ٍ ْ أصدقاء
َ
ِ
المدينة ،ألتقي أخرجَّ ،
أتمشى قليالً في ُ
لرجل يمشي في الشارع. ٍ ق ،قشعريرةٌ مفاجئةٌ موت صدي ٍ ُ ٍ
غريب، شيء بغتةً .زيارةُ ٍ أي
يحدث ُّ
ُ قد
ِ
حوض الشرفة ،أُلقي نظرةً على ِ أخرج إلى وحينئذ لن يتغي ََّر شيء .قد ٍ بمحض الصدفة.ِ هكذا
ُ
ٍ
كشيء مد
مستدير وجا ٌ ملمح في وجهي .وجهي ٌ الزهور وأدخ ُل من جديد .قد أبتسم وقد ال َّ
يتبد ُل
ٌ ُ
أفتح فمي كمنقاد ٍ ِ أخذ شكله نهائيًّا ،وأنفي ُم ْستَِد ٌ
وحين ُ َ عيناي سوداوان. َ طير مقصوصM. ق قليالً
أس َم ُعها أنا
أحيانا ال ْ ً كلمات قليلة .قليلةٌ وخافتةٌ حتَّى َّأنني ٌ أيضا
لهاث بسيطُ .ربَّما ً يخرج منه ٌ ُ
أبدا ما أقوله. الواقع ليس عندي ًِ نفسي .في
كالما في ُك ِّل َّ
مرة ِ
أعرف لماذا عليهم أن ينتظروا ً ُ طرا للكالم .ال ض ًّ رارا ُم ْ
أجد نفسي م ً ذلك ُمع َ
أحد
صاب ٌ ت ُي ُ صامت ،وإ ذا تَ َكلَّ َم ْ
ٌ صديق
ٌ أن الحياةَ إلي َّ
خي ُل َّأمرضُ .ي َّ ُ يجلسون معي ،وبعد ذلك ِ
مات لهذا السبب. أعرف صديقًا َُ بالسرطان.
البشر يتكلَّمون؟ َ تموت َّ
ألن هل الحياةُ مريضةٌ هكذا بسبب األصوات؟ تمرض و ُ
ِ ِ
إلي َّ
أن خي ُل َّ ذلك ُي َّ
ب َشعري .مسافةٌ قصيرةٌ ،مع َ النوم وغرفة الجلوس ترتفعُ يدي لترتِّ َ غرفة ِ بين
ُم ِّر ُر يدي ٍ ٍ
أي شيء للوصول إلى مقعد .أ َ ويجب فع ُل ِّ ُ تقطعها،
ُ شاحنات سريعةً وأصواتًا غريبةً
ترتفع إليهَ .شعري طوي ٌل ،و َك ُك ِّل الذين ٍ
بسهولة أن يمكنها
شيئا ُ على َشعري ،وهي التي ال تحم ُل ً
َ
أجمل هكذا،َ العالم
ُ يصبح
ُ دائما ليبقى صديقي. ُم ِّر ُر يدي عليه ً َّث في الليل ،غير ِّأني أ َ ينامون يتشع ُ
َ
أعضاؤك
َ حين تُ ِحب َ
ُّك القلب مع األعضاء الصديقةَ .
ِ قريب من ِ ٌ العالم
ُ الش ْع ُر صديقًا. يكون َّ ُ حين
شيئا ُم َحبًَّبا.
تكون تجمعُ ً ُ الغبار،
َ أظافر َك التي تجمعُ ُ عدد األعداء .حتَّى ينقص ُ ُ
تنام في َّ َّ
واألسفلت والسيَّارات ،والقطةُ ُ ُ نفسهُ ْم
العما ُل أ َ أتقد ُم خطوتين وأص ُل إلى النافذة .ال يزا ُل َّ
ِ أصوات تَ ِ
يبدون
َ أصوات جميلة .حتَّى ُ
الناس ٌ وأشعر َّأنها ُ وراء الزجاج إلي من ص ُل َّ ٌ الزاوية.
قيقين من بعيد. ر ِ
لفعل شيء .يمكنني على األرجح أن مضطرا ِ ولست ٍ
شيء ليس في نيَّتي فع ُل
ًّ ُ ماذا سأفع ُل اليوم؟ َ
النهار في َّأوِل ِه ُ الناس في الشارع .ال يزا ُل ِ ِ
هؤالء وراء الزجاج ،مع ِ أعِق َد صداقةً ،من هنا من ْ
الزهور، الشرفة وأسقي ِ أخرج إلى يجب أن
َ َ دقائق من الصداقة تكفي اليوم .بعد ذلك ُ َ وبضعُ
وأجلب ِّقنينةَ عرق. ِ
المدينة أتمشى قليالً في ويجب ،ربما ،أن َّ
َ ُ
شارع طويلُ .ي َم ِّر ُر ٍ ويعق ُد صداقةً مع النافذةُ م ْق َفلَةٌ وأنا رج ُل قصير وراءها ،طولُه 165سنتيمترا ِ
ً ُ َ ٌ ُ
ويرميه في القمامة .رج ٌل هادئٌ ،حتَّى ِ ٍ يده بين ٍ
ببطء عر ِه ،وما يسقطُ منه يحملُهُ وآخر على َش ِ َ وقت َُ َ
يلف سيكارتَهُ على ٍ ليسهو أو ليستريحُّ . والمطبخ يتوقَّ ُ ِ غرفة ِ ِ
مهل ،يشي ُل رارا ْ فم ً ِ النوم َّأنهُ َ
بين
وي ْش ِعلُها. طرفيها ،ينظر إلى الوالَّ ِ
رأسهُ ُ
يخفض َ ُ عة لحظةً ،ثَُّم ُ ْ الزائد من
َ التبغ
َ
أيضا ٍ السابعةِ . ِ ت في طبقتِها
الناس ً فوق يبدو لي كمالكُ . هندي ُ ٌّ عام ٌل أصبح ْ
َ العمارةُ أمامي
مكنني تَ َخُّي ُل هجر ٍة من ِ
دون أعرف لماذا ال ُي ُ ُ بهون المالئكةَ من بعيد ،ال سيَّما المهاجرون .ال ُي ْش َ
فون على ُب ْع ِد وأحيانا يتوقَّ َ ً يحملون أمتعتَهُ ْم ويمشون. َ الع َّمال .الذين خصوصا هجرةُ ُ ً مالك،
ٍ
ون سيكارةً ،ويعودون إلى بيوتِ ِه ْم. الباب ،يلفُّ َ خطوات من ِ
الكنبة على ِ أنظر إلى خار العال ِ الب ِ
الزجاج من فمي وأتراجعُ خطوةًُ . ِ ق على ُم ِّر ُر إصبعي على ُ أَ
مكنني أن وي ُ اليوم أنا وحدي ُ يزورونني Mجلسوا عليهاَ . َ األصدقاء الذين كانوا
ُ يميني .ال تزا ُل ذاتَها.
وقلت ضالع ْر ِ ِ ِ
ُ جمهورها الوحيد .بيني وبينها صداقةٌ قديمةُ ،م ْذ لمحتُها في زاوية صالة َ َ أكون
َ
إلي .ال تزا ُل هنا في مكانِهاُ .ربَّما وجاء بها َّ َ فط ٍ أكثر ،فحملَها بلُ ْ أدفع َ للبائع ال أستطيعُ أن َ ِ
ِ
هؤالء تقريبا ،وصديقتي Mمع المكان ذاتِ ِه
ِ لكنها في انزاحت قليالً حين ارتمى عليها األصدقاءَّ ،
ً
خار الزجاج. الم ْبهَِم الذي َر َس َمتْهُ يدي على ُب ِ ِّ
الع َّمال ،ومع هذا الخط ُ ُ
إليه ،وأرتمي على المقعد. صديق آخر ...أنظر ِ آخر ٌّ ًّ
ُ ٌ ُ آخر :خط ُ وأرسم خطا َ ُ أقترب
ُ
2
ِ
يركض في الضباب ،ثم يتالشون .أرفعُ ُ بس ْر َع ٍة َك َم ْن
هون ُ
يتمو َ أصدقاءَّ ،
لكنهُ ْم َّ ُ جاج نافذتيعلى ُز ِ
الريح ضربتْها ٍ
صنوبر المْلتَِوَية .تبدو كشجر ِة ِ
ُ َ أصابعها ُ َ وأتأم ُل
َّ األريكة أمامي، أض ُعها على قدميَ .
ٍ اآلن وصمتُها ِّ ت ُم ْح َد ْو ِدَبةً. ٍ
ِ
الركض طويل من يذكرانني ٍ
بعمر جمودها َ ُ سنوات ،حتَّى تيب َ
َّس ْ
أح ِملَها في ِ
آخر أن ْ غير ْ
ٍ ِ
وراء مجهول ُمخيف .كانت رفيقتي الوحيدة .ولم أكاف ْئها بشيء َ
ٍ
َ والصخ ِب
َ
اللذ ِة البائسة .قَ َد ٌم غريبةُ
الفراش ،وغالبا ما حرمتُها من هذه َّ
ََ ْ ً ِ كان في
وأضعها كيفما َ َ
ِ
الليل
أصحابها.
َ توغاد َر ْ
َ تأقداما كثيرةً ملَّ ْ
أعرف ًُ ِ
درجة َّأنها لم تفارقني وال يوم. ِ
اإلخالص ،إلى
األقدام تستريح ،سوى تلك
ت فجاةً على الطريق .كانت َ ِ
المرض ،أو انفصلَ ْ ت عنهم بحج ِ
َّة انقطع ْ
ُ َ
ِ
عالمات اآلن ،ال تزا ُل معي ،وهذه عالمةٌ من ت َّ قدمي ظلَّ ْ
تقريبا َ
ً ِّسةُ
المتََيب َ
وفيةً و ُم ْنهَ َكة .وهي ُ
القداسة.
وأتأملُها طويالً .لم أكن ِّت عليها وأالطفُها
الناعم .أرب ُ وبرها ِ
َّ َ ُم ِّر ُر يدي على هذه القَ َدم وأُدغدعُ َ أَ
ألو ِل َّ
مرة .ماذا أشعر بها ِّ وكثير االزدراء .اآلن َّ
كأنني ُ َ دائما ُم ْستَ ْع ِجالً
كنت ً أي ٍ
يومُ . صديقَها في ِّ
ت برف ٍ
ق مشي ُ
تْ ، دون أن يدري؟ وق ْف ُعاما َأربعين ً
َ أن عاشقةً تبعتْهُ يكتشف فجأةً َّ
ُ واحد حين
ٌ يفع ُل
وجلبت تبغي.
ُ قدمي،
َّ على
مشيت أولى خطواتي وكانت قدماي ِ
حافَيتَْين. ُ بيت من تُراب، أرض ٍ
ِ ِ
البعيدة ،على ِ
القرية تلك
في َ
َ
كان بلحم ِه ْمَّ ،يتعرفوا إليها ِ ِ لتو ِه ْم إلى لم يكن أبي من المؤمنين َّ
لكنهُ َ األرض أن َّ الواصلين ِّ
َ بأن على
ت أعرف َّ
أن األحذيةَ التي أرتديها هي أحذيةُ إخوتي ،بعدما لُ ِّم َع ْ ُ كنت
شراء حذاءُ .ِ عاجزا عن
ً
يكون
َ طا للسعادة :أن هناك َش ْر ً
َ أعتقد َّ
أن ُ سعيدا.
ً لكنني لم أكن أبتسمَّ ،
ُ كنت
وأضيفت إليها مساميرُ .
واحد يفرح كيف يمكن أنبأحذية عتيقةَ .ٍ أناسا ُسعداء ِ
ٌ ُ أعرف ًُ جديدا .ال
ً ترتديه الحذاء الذي
ُ
بسبب أحذيتِ ِه ْم .وال
ِ يموتون
َ وناس ِ ِ
بسبب أحذيت ِه ْمٌ . باكرا
يشيخون ً
َ ناس
هناك مثالً ٌ
َ وحذاؤهُ قديم؟
نكر َّ
أن ِ ِ َّ
شك َّ
أيضا .وأنا ال أستطيعُ أن أ َ بسبب أحذيتها ً تُبيد ْ
ت أو أ َ انقرض ْ
َ شعوبا
ً التاريخ
ِ أن في
اليوم ،وخجلي ،وضعفي،
الباكر ،وحزني َ ِ كبير في حياتي :في حزني
تأثير ٌ
أحذيةَ إخوتي كان لها ٌ
وتشردي ،ونومي على
ُّ سببا في هجري المدرسة، شك كانت ًب والحياة .وال َّ الح ِّ
وفشلي في ُ
ِ ِ
الغرفة وحيدا في هذه
ً نحول جسدي وتوقُّف ُن ُم ِّو طولي ،وفي جلوسي َ
اآلن ِ الطرقات .حتَّى في
أقف على ٍ
وحينئذ أستطيعُ أن َ غيمة قد تُ ْم ِط ُر،
ٍ ٍ
غيمة على األرجح، ِ
بسبب غاب عنها الشعاعُ،التي َ
وأتأم َل المطر.
َّ ِ
النافذة
أجساد ناعمةٌ تلك األشع ِ
َّة لكل َت يدي عليه .كانت ِّ َّ
ٌ وم َّر ْر ُ
ت هذه الغرفة لم يدخل شعاعٌ إال َ ُم ْذ َس َك ْن ُ
وحين ٍ
سفينة في الميناء المقابل، ضوء كان ملمس ِهَّ .
شعاع من ِ أعرف ُك َّل ونحيلةَّ ،
َ َ مرةً َ ٍ ُ كنت
لكنني ُ
ٍ
بعيدة، ألنها سفينةٌ فيها مهاجرون؟ ناس يرحلون إلى ٍ
بالد بوحدة غريبة .هل َّ ٍ شعرت
ُ اختفى
َ ٌ
ِ المقاعد الخلفي ِ
ِ
آخر نظر ٍة إلى البيوت؟ ٌ
ناس َكَن ُسوا يصعدون إلى السطح ُلي ْرسلوا ََ َّة أو يجلسون على
َ
قرب ِ
الباب ورحلوا؟ ثم انتزعوا عشبةً من ٍّ
شق َ الحوضَّ ،
َ وسقَوا
البيت َ
َ
تنظر ِ ٍ
شيء هادئٌ ،حتَّى َّ بدخانِهاُ ،ك ُّل
الشارع ال ُ
ِ زاوية الهرةُ الصغيرةُ في ت ُ
أشعلت سيكارةً ولَهَ ْو ُ ُ
خرجت ستهبطُ. دارا وإ ذا ِ ِ
الغرفة من ُذ سنوات ،وبِ ُّ ٍ إليُ .ك ُّل
ُ أعتقد نفسي ج ً
ُ ت شيء هادئٌ في هذه ّ
الجسد ب َّ
أن هذا َّ ِ
حديد الغرفة من عظاميَّ . ِّ
أحيانا أفك ُر َّ
َ لكن عظامي رقيقةٌ وهشةٌ و ال َر ْي َ َ أن ً
أزيزها أو أرى
أسمع َ أن ٍ
َ دون ْالعظام سنوات َُ ت معي هذه كيف َم َش ْ
بدعائم أخرىَ .
َ محمو ٌل
تماما ،ولذلك َي ِخ ُّ
ف وزني. وحيد ً
ٌ المفاجئ على الطُّ ُرقات؟ غير ِّأني
َ انهيارها
َ
إلي وكان من
ينظرون َّ
َ كنت طفالً حين أوصلتُهُ إلى القبرَّ .
لكنهُ ْم كانوا اآلن؟ ُ لماذا َّ
أتذك ُر أبي َ
شيئا من أجلي .لم يقولوا لي اعتقدت َّأنهُ ْم ُي ِحبُّونني لم يفعلوا ً
ُ الذين
أشيخ أمامهم .هؤالء َ َ ِ
اللياقة أن
الجثمان إلى القبر.
َ ت معهم قون بي حتَّى طالت قامتي َ
وح َمْل ُ وألعب مع األوالد .ظلُّوا ِّ
يحد َ َ أذهب
َ أن
ْ
ناعم اعتادوهُ في ٍ
كلحاف ٍ الغطاء على الموتى بهدو ٍء أن ُّ
يردوا
َ طفًا ْ
أكثر لُ ْ
أليس َ
كان ُم ْقفَالً بمساميرَ .
بيوتِ ِه ْم؟
ت من الدم، فرغ ْ
يد َ إلي َّأنها ٌ
لكن ُي َخَّي ُل َّ ِ
ُح ِّر َك يدي قليالًْ .
أن أ َ التبغ على الطاولة أمامي ويكفيْ M علبةُ ِ
الحركة بخفَّ ِة من َّ
تأك َد له َّأنهُ
ِ ون عن الع َّما ُل أمامي ال يكفُّ َ
ٍ ِ
أحيانا فبزخم حركة قديمةُ . ً كتتحر ُ
وإ ْذ َّ
ِ
للرجل عادةً شيء جميلَّ ،
وأن المتحركةَ األعضاء أقنع نفسي َّ
بأن يستأثر ِ
ٌ ِّ َ حاولت أن َُ بدم الحياة. ُ
ٍ
رتيب ض ٍّخ ،هكذا مع ٍ
سائل مقيت أن تكون َ ِ نقيَّ .
مثل آلة َ َ ٌ شيء
ٌ لكنهُ دم ٌّ عروقًا صغيرةً يجري فيها ٌ
شيء ليفعلَهُ. َّ
ٌ عندهُ
ليس َ ُكل العمر ،كمن َ
3
األثاث صديقي.
َ أتحر َك من مكاني .نظرةٌ صغيرةٌ قد تجع ُل هذا غير أن َّ ِ
الغرفة من ِ أنظر إلى ِ
أثاث ُ
وينظرون إلى الحيطان. ِ
يجلسون هنا ،على الكنبة، اليوم باألصدقاء .كانوا
َ َ أهجس َ
ُ أعرف لماذاُ ال
وجوههُ ْم كذلكَّ ،
كأنهُ ْم حين رحلوا إلي ِّأني أرى
وي َخَّي ُل َّ ِّ
َ نظراتُهُ ْم ال تزا ُل عالقةً على الطالءُ ،
أيضا على الحيطان.
ت هي ً فعِلقَ ْ
وجوههُ ْم لتتفقَّ َدها َ
َ تركوا نظراتِ ِه ْم ،وأرسلوا
مكان نظروا إليه. آخر ٍ ٍ
سنوات جالسةً بهدو ٍء في ِ عيونهُ ْم وبِقَي ْ
ت
ُ ناسا رحلوا َ
ت في حياتي ً َع َر ْف ُ
ٍ
واحد في ذهب ُك ُّل مثل َج ْمهََر ٍة التقَ ْ
ت ُمصادفةً في احتفال ،ثَُّم َ ناسا تعاملوا مع اعضائهم َت ً َع َر ْف ُ
يوما مع ِ
والساحات َّ
تجلس ً ُ أعضاء كثيرةٌ ،كانت
ٌ تتوزعُ الشوارع
ِ األدراج وفي
ِ طريق .على
بعضها َّ
كأنهُ ُ وأعضاء تبتسم.
ً وأعضاء غافيةً
ً أعضاء ضائعةً
ً رأيت
ُ ت وغادرتْهُ ْم. أصحابِها ثَُّم َكُب َر ْ
وحدها على
وأرجالً تمشي َ
ُ تسهر من ِ
دون أصحابها ُ عيونا
ً التقيت
ُ وبعضها يموت. ُ ُوِل َد ِّ
للتو
أصحابها تغادر ْ ٍ ٍ فاها تتكلَّ ُم َ ِ ُّ
َ وأنفاسا ونظرات َ
ً كلمات التقيت
ُ وحدها مع العابرين. الط ُرقات وش ً
ٍ
كائنات جديدة. ت
وتحولَ ْ
َّ
وأشعر
ُ الخاصةَ،
َّ وبدأت حياتَها
ْ ت من ماضيها انسحب ْ
َ أشياء
َ جالس اآلن .مع
ٌ َّإنني مع هذه الكائنات
يوما إلى ِ ٍ ِ
االنسحاب ِّ كأن أعضائي على ِ َّ
أنظر ًأيضا حياتَها .في أيَّة حال ،لم ْ
مني لتبدأَ هي ً وشك
ليجلس نائم بعضها ِّ ِ َّ ٍ
كشيء لصي ٍ
َ مني وأنا ٌ ُ يخرج
ُ باستقاللها. دائما تتمتعُ
ق بي بل كانت ً أعضائي
حين أستيقظُ في الصباح ،أقضي ويتمشى في الشارعٍ َّ . َّ ِ
ومراتَ ، بعضها
يخرج ُ
ُ الشرفة. على
أجدهُ.
وأحيانا ال ُ
ً ٍ
مفقود، ٍ
عضو ِ
البحث عن نهاري في
سنوات
ٌ الخارج ال يزا ُل نفسهُ :الحربِّ .إني محاطٌ ٍ
بقتل فظيع. ُ ك يدي وتَ ْكبِ ُس ِز َّر الراديو. تتحر ُ
َّ
َ
اآلن ِ ِ
ناس كثيرون يمشون َ جسدا سويًّاٌ . الجدرانً ، كيف ال أزا ُل هنا ،بين أعرف َ ُ بالجثث وال مليئةٌ
األرجح نسوها ،بل ألنهُم على ِ
المفقودة َّ ليس عن أعضائهم ٍ ٍ
ِ الخارج بأعضاء ناقصة ،باحثين َ ِ في
ٍ
أمكنة ال بحاجة إلى تلك األعضاء َّ
ألنهُ ْم تناثروا معها في ٍ وناس كثيرون لم يعودوا ِ
عن لقمة خبزٌ .
َّاؤهم. ِ
يعرفونها ُه ْم وال أحب ُ َ
ِ
وبالنسيان ِ
البنايات ِ
وبإسمنت ِ
بالغبار الذي ال ُيرى مكان ،نثرةً نثرةُ ،متَّ ِحدين
أكثر من ٍ انتشروا في َ
ت َّأني جسدا كامالً ،وما َح ِس ْب ُ
الواقع ،ال أزا ُل ً
ِ عضواَّ .إنني ،في
ً عضوا
ً أتلم ُس أعضائي الرهيبَّ ...
أفق ْدهُ إالَّ في األحالم.
َّام لم ِ فقدتُهُ مع األي ِ
ٍ
معمل ِ
الساحل أعم ُل في كنت في الشمال .في ٍ
قرية على أسكن هناُ . الحرب لم أكن حين بدأ ِت
ُ ُ َ
ِ
الليمون إلى البيت. بين ِ
شجر وأعود في المساء َ
ُ للسماد،
وي ْع ُدل. ِ َّ ِ ٍ تلك القريةُ على التلَّ ِة الصغير ِة كانت تبدو لي َ
أن يحط في الماء َ نورس على وشك ْ مثل َ
بالبحر والسماء.ِ للتحد ِث إلى أصحابها من َكثَْر ِة ما هي مأخوذةٌ ُّ تجد وقتًاالقرميد لم تكن ُ
ُ سطوحها
ُ
الشجر أعتقد َّ
أن ُ واألصابع المدلّلَة.
ِ ِ
بالنظرات وحدها
ت َ استأثر ْ وأشجار الحدائ ِ
ق ِ
الجدران أحجار
َ َ ُ ُ
يحدقون في السماءِ ِ ِ
كنت أراهم ِّ َ والمطر ينز ُل استجابةً لهمُ .ُ ويثْم ُر ،هناك ،بفعل نظراتهم، كان ينمو ُ َ
ذات ٍ
يوم مع كأنهم كانوا َ كأنهُ ْم أصدقاؤهاَّ .تمر بهم أليفةً وواضحةً َّ والرياح ُّ
ُ ويعرفون نوايا الغيوم.
َ
أسرار حياتِهم.
َ
ِ
الدرب رفاق طريق ،وتبادلوا على َ الرياح
ِ
بعضهم
ويحصدون َ
َ بعضهم في الشمال،
َ يحصدون
َ أسماء قتلى وجرحىَّ .إنهم
َ صوت المذيعةُ ينق ُل
ُ
قبل أي ٍ
َّام كانوا رفاقًا. الم ُدنَ .
بعضهم في ُ َ ويحصدون
َ بعضهم في الجبال،
ويحصدون َ
َ في الجنوب،
جين بالسالح. يتالقون َّ وشربوا القهوةَ وتواعدوا ِ بعضا ِ
مدج َ َ للقاء األحد المقبل وفجأةً بعضهُ ْم ً زاروا َ
أسماء جثثهم ،وتُنهي بأغنية.
َ وجثثًا .المذيعةُ تنق ُل
أعداء ُ
ً يتقابلون
َ
أن ناسا هناك ماتوا سحالً على الطُّر ِ ٍ ِّإني ُمحاظٌ
قات. ُ منظر الخارج .أخبروني َّ ً ُ َ بجدران تقيني
تحت ِ
وزغاريد أخريات ،ثَُّم َر َم ْو ُه ْم َ بكاء ٍ
نساء ط ِ الشوارع وس َ وج ُّروهم في ٍ
ِ ربطوهم بسيَّارات َ
كثيرا جرى على
وبكاء ً ً كثيرا ط َدٍم منهم على األسفلت .أخبروني َّ
أن موتًا ً بعد أن تركوا خي َ ِ
الجسر َ
المفجوعين أن َي َر ْوهاَّ ،
لكن ٍ
بشرية يستطيعُ ُك ُّل ٍ قات ،حتَّى تفتَّ َحالطُّر ِ
َ العابرين ْ
َ زهور األسفلت عن
ُ ُ
ون فيها رائحةَ الزهور. يشم َ
وحد ُه ْم ُّ
َ
دون أن يطلبوا دمعةً أو كلمةَ وداع .الَّذين
الذين غادروني من َ
ِ ِ
مثل هذه الرائحة .هؤالء َ
أحيانا َ ً أشم
ُّ
انسحبوا بخفَّ ٍة من حياتيَّ ،
كأن ورقةً صغيرةً سقطت في الماء.
جوع
ٍ ٍ
رصاص وضحايا كان أبي ُي َح ِّدثُني عن الحروب .أخبرني عن ضحايا حين َكنت طفالً َ ُ
والمدن وال
َ يجوبون القُرى
َ جوع
ٍ شردي َّاء لدفنهم ،وعن ُم َّ
وضحايا َم َرض .عن موتى لم يجدوا أحب ً
متسوالً خائبا من ٍ
بيت ِ
الخامسة نفسهُ في ُع ْم ِر ٍ
بلقمة .قال لي َّإنهُ كان
ً ِّ ووجد َ
َ واحدا منهم،
ً ظ ْو َن
يح َ
التهامها. ليستطيع ِ
بالحجر يطحنها
ُ ٍ
عظمة ِ
الغابات عن إلى بيت ،وباحثًا في
َ َ
انظر إليه.
غير أن َ
كان أبي يخبرني عن الحروب .و لم أكن افع ُل َ
4
والع َّما ُل
نفسه ُ تقريبا .أُطفئُ الراديو وأُلقي نظرةً إلى الخارج .الشارعُ ُ ً والنصف
ُ الساعةُ العاشرةُ
َّةُ ،هناك، القرية الشمالي ِ
ِ شك فيالمطر وال َّ ِ انحباس أظنها ستُ ْم ِطرَ .
طال أنفسهُ ْم وبضعُ غيومُّ .
ُ ُ
يعرفون نوايا أسرار الرياح وكانوا ذين أخذوا ِ َّ ِ
َ َ لكنَ ،ك ْم َبق َي منهم هؤالء ال َ ينتظرون هطولَهُْ .
َ
آالف من ٌ بأسماء الجثث .وال َر ْي َ
َ تلك المذيعةُ تنق ُل بدأت َاآلالف هاجروا ُم ْذ ْ ِM عشرات
ُ الغيوم؟
مر ٍة وحملوها بحسر ٍة إلى ٍ
بلدان ألو ِل َّ ِ
الحقائب َّ جلد
األشجار لمسوا َ ذين كانت أصابعهم تُ َدلِّ ُل َّ
َ ال َ
وح َّملوها ِ بجانب ِ ِ ِِ ٍ
الحَبقَ ، حوض َ بالباب وقُْر َ ين
ص َو َر ُهم ُم ْبتَسم َ
قاسية ومجهولة .وضعوا فيها ُ
ض ْوا. أنفاس ُ ِ
ِ
وم َ
الغ َرف ،وأرسلوا نظرةً أخيرةً َ بعض
َ
وعراةً إلى ُم ُد ٍن
قبل الرحيل .وصلوا ُحفاةً ُ الرتداء أحذيتِ ِه ْم َ
ِ الوقت
َ ناسا لم يجدوا أن ً أخبروني َّ
وصل فجاةًَ الموت
َ وصل فجاةً وهم نيام ،وإ َّن َ الموت
َ إن العراء ِ
للنوم معه .قالوا َّ َ وصادقُوا
َ وقرى
ً
تمطر عليهم وعلى حقولهم. قبل ٍ
يوم ٍ
وصل فجأةً من سماء كانت َ َ الموت
َ بثياب أصدقاء ،وإ َّن ِ
ُ
ودروبا كثيرةً ال
ً دون خطو ٍة، وناسا كثيرين سقطوا من ِ ً بعد خطو ٍة،
كثيرين سقطوا ََ ناسا
إن ً وقالوا َّ
الرعب ورحْل َن بدونهم. ِ األس َّر ِة من ِش َّد ِة
نسين أطفالَه َّن على ِ
ُ
ٍ
ناك ،واُ َّمهات ْ َ
أنينا ُه َتزا ُل تسمعُ ً
وربَّما ستَ ْذ ِر ُ
ف بلدان فيها م ِ ِ
سماء ٍ أظنها ستُ ْم ِط ُر.
ُّ
رونُ ،
هاج َ ُ األرجح من
ِ الغيوم تأتي من بعيد .على
ُ
ِ
أشواق ِه ْم. شيء من ِ
البيوت فوق
المهاجرين ،وفي تباطُؤها َ أنفاس دموع ِه ْم .تَلَب ُ
ِ
ٌ َ َ ُّدها يشبهُ بعض هنا َ
أظنها ستُ ْم ِط ُر.
ُّ
ٍ
ألعاب ،ف ُكَّنا ثمن
الفقير ،لم يكن معه ُ
ُ المفضلة .أبي ،الفالَّ ُح
َّ المطر لعبتَنا
ُ كان
صغارا َ
ً حين ُكَّنا
َ
ِ
األرض بين
أغراضنا .ولم تكن َ
َ والغصون كانت
ُ والفراشات
ُ والثلج
ُ الماء
ُ ِ
بأغراض الطبيعة. نلعب
ُ
و بيننا ِق ْس َمة.
ِ
غياب كان خوفًا منذلك َ
أن َأعرف َّ ينهرني عن َع ِّد النجومَ .
اآلن
ُ كان أبي ُ أعرف لماذا َ
ُ لم أكن
ليس ُك ُّل الرفا ِ ِ
كبيرا منهم ال ُب َّد ً
يوما عددا ً
وأن ً سيحضرونَّ ،
َ دائما
ق ً أن َ يعلم ْ
أحد رفاقي .كان ُ
دون رفيق .كان ات عديدةً من ِ مر ٍ ِ
للعراءَّ ، ِ
المفتوحة ِ
العالية ِ
الخيمة تلك
سأنام ،في َ سيغيبَّ ،
وأنني
ُ
ص ُّور. وي ِحبُّني َ
فوق التَ َ أعماق مشاعريُ ، َ يعرف
ُ ِ
بالتأكيد أبي
بحري،
ٍّ صخر ٍ قناطر ،على
َ فوق
ب شاطئ .بيتُنا الذي استأجرناهُ ُم َع َّمٌر َ ذلك قُْر َ
كان َحين افتر ْقناَ ،
َ
وشجر ِه ،ومع ُسلَّ ِم ِه
ِ َّي َع ِة ،مع بيتِ ِه
ظ َّل فوق ،في الض ْ أهل البيت .أبي َ واحدا من ًِ كان
والبحر َ
ُ
المدينة علَّها ُ
تقف ِ ِ
القرية اآلتيةَ من الس ْفلى ُك َّل مساءُ ،م ْنتَ ِظ ًرا بوسطةَ
يقعد على درجتِ ِه ُّ
الخشبي ُ
ِّ
ٍ
منتظر، لسنوات ،ال َيرى غير ٍ
رجل ٍ السلَّ َم َ
ظ َّل، أوالد ِهَّ .
ِ على المفر ِ
َ ذاك ُ
لكن َ أح ُد
ق وينز ُل منها َ
ودخان سيكارة.
َ
الدخان
ُ و كثيف.
ٌ دخان
ٌ تصاعد من بيتنا
َ مر ٍة ،كان ذلك على الشاطئ .ثَُّم ودعتُهُ ِ
آلخر َّ حين َّ
َ
نظرةً أخيرةً ألقيت
ُ تو ص ِع ْد ُ
وصار أبي هيكالً عظميًّا أسودَ ...
َ لحم محروق. كانت له رائحةُ ٍ
حطب الحياة.
َ ومضيت حامالً وحدي
ُ فحم ِه،
على ِ
نظن َّ
أن بعض األصدقاءُّ ،
ُ وكنت ،أنا و
ُ أيضا.
براعم ً
َ أعتقد ِّأني ُ
كنت أحم ُل ُ حطب الحياة؟ ال،
َ
ظلِّ ُل ً
مكانا جميالً .كان لنا أه ٌل آخرون :األحالم .وفيM ِ
البراعم وتُ َ تلك
ستخرج من َ
ُ شجرةً وارفةً
ك ،في ٍ ِ ِ
مثل
يصطادها ،وكانت هي تسقطَُ ،
ُ خفي ،من
مكان ٍّ حين ُكَّنا نمشي مع أحالمناَ ،
كان هنا َ
جميعا. ِ
أهلنا
ً
5
ُّ َّ ِ ُّ ِ
ويرشوهُ حون
سمادا من المفترض أن يحمله الفال َ ً الوقت ك
يضخ في ذل َ األسمدة كان مصنعُ
ِ
البيوت نحو وكانت األشجارَ ،ك ُك ِّل ٍ
ِ ِ
وغصونها مائلةٌ َُ غذاءها،
َ تنتظر
ُ سنة، ُ حقول الزيتون. على
اإلهراءاتِ ،
ِ ِ
كانت حبةً َّ
حبةً في المواسم ينز ُل َّ وصول أصحابِها .لكن فيما كان أم ُل َM تترقَّ ُ
ب
ِ
الحرب وفي ِ
الهجران وفيM سقوط أصحابِها في ِ واألشجار تسقطُ مع الحقو ُل تُ ْه َج ُر حقالً حقالً،
ُ
رويدا ،وتَْيَبس.
ً رويداM
ً حضنتْهاُ Mم ْذ كانت صغيرةً ،وتنحنيM َ تمد رؤوسها نحو ٍ
بيوت الموتُّ .
َ َ
جنب معجنبا إلى ٍ بشري ً نبض
النباتٌ ، ق َّ آخر يجري Mفي عرو ِ ِ
ٌّ نبض ُ ثمةَ ٌ كان َّ
الحقول َ ك
في تل َ
ينظر
حين ُ تفاهمَ ,
ك كان بينها وبين الناس ُ العشب واألشوا ُM
ُ وروح الشمس والتراب .حتَّى ِ ُّ
الن ْس ِغ
الناس األرجح ِ ِ
يغمض ُ ُ حين
تنام َ االشجار ُ
ُM كانت ِ عيون نبتة .وعلى
ُ السماء ترتفعُ معه أحد ُه ْم إلى
ُ
لمس أيديهم .كانت حياتُهم ان ،الوحيدةُ في البراري ،سعادتُها تأتي من ِ عيونهم .وزهرةُ َّ
اللز ِ َ
ِ
والدات تتكر ُر والداتُهُ ْم مع ِ
بحاالت أرزاقهمَّ ، تَعني فرح ٍ
نبتة و َشَب َع خروف ،وتختلطُ حاالتُهمM َ ْ
بعض من أجسادهم. واللبن والنعناعُ ٌ الخضار،ون ُم ِّو َ ِ
وانعقاد الزهر ُ المواشي
ُ
شجر يجوعُ، ُّ حبوباَّ M ُّ ِ
هناك ٌ
َ يضخ ذكرى من الماضي .وكان كأنهُ ً يضخ السماد كان مصنعُ
الوصول،
َ يستطيعون
َ ناسا ال
منتظرا ً
ً وشجر ِ
يقاو ُم ٌM وشجر ُي ْذَب ُح،
ٌM ق،
وشجر ُي ْح َر ُ
ٌM وشجر َي ْيَب ُس،
ٌ
وناسا رحلوا إلى ٍ
بلدان بعيدة. قً ، وناسا سقطوا على الطري ِ ً
ِ
بحياة السماد .وكانت تلك كأنها تتمتَّعُ َ
وحدها يوما بعد يومَّ ، بو ِ
تكبر ً
المصنع ُع ْشَبةٌ ُ ِ ابة على َّ
إليه وأنا أغادر. نظرت ِ آخر ما
ُ العشبةُ َ
روز ٍة بالرصاص؟
ق َم ْد َ مثل ِ
الفتة طري ٍM ص ِدَئةً َ ٍ ِ ولكن لماذا َّ
تلك اللحظات من أيَّام تبدو لي َ أتذكر َ ْ
الغرفة الصغير ِة على ٍ ِ
كنبة .وما عدا ذلك نوعٌ من أنواع الوهم. اآلن ،في هذه َّإنني ُهنا َ
ط ِء على ظاللهم. بالو ْ
عابرين َ
َ إيقاف
َ الماضي؟ َك َم ْن يحاو ُل
ِ
الساعة عقارب وبعض غيوم .ال شيء تغي ََّر من ُذ الصباح ،فقط أنفسهُ ْم،
ُ ُ الع َّما ُل ُ
نفسهاُ ، النافذةُ ُ
اسحب من ُمشطُ َشعري. أقترب من المرآة .أ ِّ ِ
الغرفة. أتمشى قليالً في ت بضع دقائقَّ M. َّ
تقد َم ْ
ُ ُ َ
شعرتي ِن وأُلقيهما في القُمامة. ْ الم ْش ِطِ
فيدا .أين الشعاع؟ قب َل ٍ
قليل شيئا ُم ً
أفعل ً
يجب أن َ وكان يجب أن أقُصَّها .كان ُ َ أظافري Mطويلةٌ
ق إلى َح ْبوه ،إلى طفولتِ ِه األولى في بيتي. نظرت بشو ٍ ُ يلمس جسدي. ويكاد ُ ُ كان َّ
يتقد ُم نحوي َ
أظنها ستُ ْم ِط ُر.
غيومُّ .ٌ
ِ
السماء أنظر من النافذة .في ُ
محاولة وصل ضفّتين بصوت
1997
يدي
وعاء في َّ
ٌ
ينتظر
حين تمطر السماء
أظن يخرج الموتى
ُّ
ليشربوا.
أعشاش عالية
شجرا باسقاً ِ
الذين ألفناهم ً
صاروا ًّ
قشا حين حزنوا
العصافير ورفعتهم
ُ ونزلت
ِ
بمناقيدها.
غيوم
الذين جرفتهم المياه إلى الوادي
غيوما،
ً ارتفعوا
لم يمطروا
وقفوا فوق
نظروا إلى األرض
َّ
وتبددوا.
أقدام
أيضا
هناك ً
موتى تفجَّروا
ونزلوا أشعةً بيضاء على أشجارهم
يوم كانوا نائمين
حدث ذلك فجأةً َ
مطمئنين في ترابهم،
يوم فتحوا عيونهم ورأوا
أشياء غريبة تمشي في حقولهم
ً
على قدمين مثل ناس
من عصور غابرة
يوم فتحوا عيونهم
َ
وأخرجوها من الظالم
وتفجروا.
ّ
إرث الموتى
طلعوا من تحت التراب
وعادوا
فقط ليرسموا ابتسامة
نسوا أن يتركوها لنا.
فضاء
ت يداه راسمتين
َعلَ ْ
مشطورا:
ً قمرا
ً
لم يكمل دائرته
فراغا فوق
ً ترك
َ
لينفذ منه القلب
إلى فضائه.
تكوين
بالفضاء النحيل الباقي بين يديه
كونا،
ول أن يعيد ً
حا َ
ر َس َم بدمعة نجمة
قمرا
بنظرة ً
شمسا بلمسة
ً
وحين أغمض عينه مشى الناس
إلى أعمالهم
على رصيف جفنه.
َبلَل
هازئا
ً َر َح َل
كمن يتبلَّل في شتاء
ويخلع ن ْف َسه
عوض أن يخلع قميصه.
أحالم أخرى
ٌ
يوما فوق جسده
روحه أن يبقى أربعين ً
أعطي َُ
كي يحقّق في فضائه األخير
أحالما خابت على أرضه
ً
لكنه
رفرف لحظةً
َ
ومضى.
ِظل
نسمتُه األخيرة
ت وراءه على َّ
الد َرج َجَر ْ
ونامت معه قرب عشبة
بين َح َجرين
وغيمةٌ عابرة
تركت ظالً خفيفًا
على وجهه.
حديقة
مرات عديدة قتلوه ّ
ع حتى َّ
توز َ
جثثًا.
لم يكن يحصي شواهده
كان فقط َّ
يتنزه
في حديقته الخلفية.
نزهة ذاك اليوم
غاد َر ظلَّت على قفل الباب أصابعُ يديه
يوم َ
َ
على الرصيف قدماه
فوق اإلسفلت طبقة من جلده.
هل هذه نزهة أم موت؟
سألوا،
وحين رفع ذراعيه قالوا
يريد الطيران
يلوح
لكنه كان ّ
لوجهه.
جنازة إلهية
اليد التي أخذت طفلها إلى القبر
عروقُها أمطرت
عميانا على الحجر
ً
وعينان فوق
رفرفتا قليالً
وانضمتا إلى الماء.
َّ
الحياة هناك
دفنت طفلها هناك وانتظرت سنوات
ْ
لتنام قربه
وحين وضعوها في ذاك التراب
يوما
صار عمرها ً
وكان هو صار
عجوزا.
ً
زهور
وضعت زهرةً في وسط الدار
ْ
وزهرةً في الزاوية
وأخريات على الجدران
في الممشى في غرفة الطعام في المطبخ في غرف النوم
وذات يوم على السرير
نبتت زهرة غريبة
لها عينان مغمضتان
وفم نصف مفتوح
ٌ
ينتظر قطرة.
سرية
زهرة ّ
قبل أن يأخذها النوم
إلى ساحاته الصامتة
قلَّ ْ
مت اظافرها
ورمت نثراتها في حوض الزهور
وفي الصباح
نبتت في الحوض
يد صغيرة.
ٌ
مكانهم
طات على هذه الطريق
ليس للنسيان مح ّ
اليد التي لمست عابرين منذ أجيال
تلمسهم اآلن مرةً أخرى
وغبارهم ينزل من جديد
ُ
تحت أقدامهم.
فارسا وجاء
ً كانوا يريدون
سريعا تار ًكا
ً عب َر
َ
نسيما على قمصانهم،ً
من ظلّه سقط شيء على الطريق
ومذذاك
يدور الماشون في مكانهم على اإلسفلت
مسمرون
والجالسون َّ
في مقاعدهم.
بالد
أخذت اسمها من الماء
وسالت
والزبد الذي رأيناه على الموج
ُ
ناسها
كان َ
والعشب على الكثبان
ُ
ضلوعهم
َ
بالد
ٌ
ُّ
كل رجالها يغادرون
َّ
يقترن لذلك كانت نساؤها
باألشجار.
انتظار
سحبنا ظاللنا عن الطرقات
ونص ْبنا كمائننا:
َ
اآلن ننتظر
رؤى
ً كي نصطاد
تصعد لتصطاف في األرواح.
ُ
الطريق
أخيرا َّ
سلمتنا المياهُ أسرارها ً
لكننا كنا على حافة الشالل
فانحدرنا رذا ًذا
مرسلين للنباتات نعومة سقوطنا
كنا في الحقل
نكمن لعصافير تطير وتحطّ
في غابات رؤوسنا
الغيوم َّ
كنا أطلقنا رصاصاتنا ُ وحين رفعتْنا
فأُُصبنا
وانحدرنا
طا
نقا ً
نغني
تقريبا ّ
ً كنا
لق
تع ُ
ق أصواتنا ربما ْدب َ
صلي َْن ْ
رقصات عليها
ٌ
ربما غابرون مقيمون في الهواء يأتون
ويرافقوننا.
سر الماء
أخ ْذنا َّ
طه
سقو َ
نثار مراياه
َ
حيث كانت تعبر مسرعةً
كسور بيوتنا
ُ
دروبا كاألمعاء
ً أيضا
رأينا ً
يمر فيها الناس كالفاكهة
ُّ
صْلنا
وحين َو َ
َ
كنا فقدنا الرؤية
وسمعنا تنفُّس العشب
في أجسادنا.
رغبة
مجرد رغبة
كانت فقط َّ
أن نحمل مظالّتنا ونبتسم تحت المطر
أن نلعب قليالً في الشوارع
نثارا
ونترك على الرصيف ً
َ
من زجاجة العالم.
إعادة اإلرث
اآلن
نعيد صمتنا وأصواتنا
إلى مكانها األول
أحد
حيث ال َيسمع ٌ
حتى لهاثَه.
استعادة شخص ذائب
تحدثت إليه طويالً ،ثم ذاب!
ُ شخصا
ً هذه البحيرة ليست ماء .كانت
النظر إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب.
َ وال أحاول اآلن
كيف يصير الناس هكذا بحيرات ،يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!
قطرةً قطرة ينزل الموتى على بابي
ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس
ٌ
وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلى الرمل.
ارتعشت قليالً .ثم ُجننت.
ُ لم أرتجف .لكني ُجننت .الماء بارد لكني لم أرتجف .فقط
بشريا.
ً ضلعا
ً عينا .على الضفَّة غصن ،كان
على سطح البحيرة ورقة ،كانت ً
أحاول اآلن َج ْم َع األوراق والغصون .أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.
وحطبا ليشعلوا مواقدهم.
ً مر كثيرون من هنا ،جمعوا ورقًا
لكن َّ
يتم جمع أعضاء كاملة .كثير منها احترق.جمعُ شخص .لن َّأبدا ْ
يتم ً
لن َّ
أحبه .على األحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم .عليهم أن
شخصا كنت ّ
ً مع ذلك ال َّ
بد من أن أعيد
إنسانا حين
ً طحلبا… على الطحلب أن يصير
ً يعودوا ولو كانوا ماء .لو كانوا أمواتًا .لو كانوا
عفنا .عليه أن يعود صديقًا ولو مات منذ ألف عام.
مترهالً ،لو ً
ّ تستدعيه .ويأتي لو مبلَّالً ،لو
يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع الناس عن الضفاف .طريقة إلعادة األوراق واألغصان
بشرا.
الطافية على البحيراتً ،
علي أن َّ
أسد الفراغ بين مفاصلها كي أوقف ارتجافاتها لم أرتجف .األعضاء ارتجفت .وكان َّ
وتهدأ.
لسد الفراغ بينهما!
أحتاج إلى ردم ّ
ُ ولكن ،كم طويلةٌ المسافةُ بين مفصلين! وكم
كم هي طويلة المسافة بين ضلع وضلع!
وتأخرت عن السيل.
ْ نزلت،
ْ بطيئا ،مثل آخر نقطة ماء
أجري ً
رويدا.
ً رويدا
ً َّ
وأتبخر بطيئا زاحفًا لاللتحاق بالجريان،
أجري ً
لن أصل .بعضي سيصير في الفضاء .وبعضي سيغرق في األرض.
تأخرت عن رفاقي ولن أصل .أزحف لكني لن أصل. ُ
طعٌ مني أفقدها ،وقطعٌ ترافقني منهَ َكة ،وقطع تصير هباء.
قَ
أي شيء مني سيصل؟!
وصلتُّ ،
ُ حتى إذا
ينقد بعضي .ونم ٌل يأكل بعضي .وبعضي للعشب والحصى
طير ُحولي عشب وحصى وترابٌ .
والتراب.
بطيئا بين إبرتين ،تخيطان
بطيئا وفوقي يصعد خيطٌ مني ،وتحتي ينزل خيط مني .أجري ً
أجري ً
عدمي.
ونزلت .هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذائب؟ أم أني،
ُ كنت في غيمة
آخر نقطةُ .
نزلت َ
ُ
ذبت مثله؟
من كثرة البحث عن ذوبانهُ ،
وصرت ،عوض أن أبحث عنه ،أبحث عني! ُ
أشخاصا .هؤالء ،على األرجح ،لم
ً بعض ما بقي مني يرى
ُ أشخاصا عابرين.
ً أرى على الطريق
شخصا أحبُّوه .أم أنهم فقدوه ،ومع ذلك يكملون الطريق؟!
ً يفقدوا
شخصا نحبُّه .ألم نكن نمشي ال على قدمينا
ً ال أعرف كيف ال تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد
بل على قدميه؟ ألم تكن النزهة كلها من أجله؟ ألم يكن هو النزهة؟
شخصا ،توقفت .كان هو الماشي وأنا تابعه.
ً شخصا! أنا ،حين فقدت
ً واحد إذا فقد
ٌ كيف يمشي
تع ْد لي قدمان. َّ
كنت الماشي فيه.و حين توقف ،لم ُ
علي باألحرى أن أعيد أوالً نفسي؟
شخصا ذاب؟ أليس َّ
ً َّ
وأتبخر .كيف إذن سأُعيد وزاحف
ٌ تأخرت
ُ
ضلع على ضفَّة؟
ٍ أن أعود على األقل قطرةَ ماء كاملة ،تنزل على ورقة ،على عين ،على
شخصا ،أن أكون على األقل من ماء البحيرة؟
ً علي ،لكي أُخرج من الطحلب
أليس َّ
مشوشة من عين شيء ال هو تأخرت ولن أصلُّ .
كل ما أفعله أني أرى ،أرى من بعيد .رؤيةٌ َّ ُ
غيمة ،وال هو ماء ،وال جماد وال بخار.
إني ،إذن ،ال أرى.
شخصا ولن أعيده… مجرد خيال .عتمةٌ تستجدي عتمة .ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد ُّ
كل هذا َّ
ً
إني ،فقط ،أحاول أن أزحف .أحاول أن ألحق برفاقي.
جدا.
لكنهم صاروا بعيدين ،بعيدين ً
ذاب أو ربما كنت أنا الذائب .اآلن ،حتى وال
شخصا يبحث عن شخص َ ً كنت في الماضي
ربما ُ
ف به نفسي حين أعر ُ ٍ
أبحث عن إسم ّ
ُ تماهي المرعب بين الماء والبخار والشخص،
َّ قطرة .وفي
ارسل لي من هناك حتما على نتوء. َّ
ْ ألتقي النمل والعشب والطير .أنت الزاحف مثلي ،ستتوقف ً
سأسمي نفسي.
ّ نداء ،وبه
متماه بين ماء وجماد وبخار .مع ذلك لي مفاصل!
ومفاصلي بينها فراغات .ترتطم المياهُ بها ،ترتطم الرياح بها ،ويرتطم الناس.
ناس كثيرون يعبرون اآلن بين مفاصلي .ال أعرف من أين يأتون وال إلى أين يذهبون .لكنهم ٌ
يرتطمون بعظامي.
مرة ،ناس التقيتُهم مرات ،وناس لم ِ
ألتقهم… لكنهم يتدفَّقون اآلن ،ويدقُّون على ناس التقيتُهم َّ
ٌ ٌ
عظامي.
علي أن أفتح هذه العظام لكي يدخلوا.
َّ
بابا!
لو كانت هذه العظام ً
من أين جاؤوا؟!
لحما.
دما و ً ُّ
أظن أن الذين ننظر إليهم يدخلون في أجسادنا َع ْب َر عيوننا ويصيرون ً
وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا.
طرقات على عظامنا.
ونستمر ،هكذا ،نسمع َ
ُّ …
إني أسمع اآلن دقَّات ماء
وعلي أن أفتح.
َّ
في النفَق… في الع ْظمة
قريبا ينتهي الوقت.
ً
الرياح تقترب من الجدار الهائل .وهناك ستكبو.
أخيرا سترتاح.
سريعا وانتهى السباق .الرياح ً ً عبرت
ْ
ارتطاما على األرض!
ً أنتظر تدلّيه ،سقوطه
ُ تفتَّق الوقت .لم يعد معلَّقًا إال بقطبة.
تبدأ الحياة في اليوم األخير.
غير يوم تتدفق كلها إليه األيام كثيرة ،لكن الحياة قليلةَّ .
تتأجل من يوم إلى يوم .وحين ال يبقى ُ
علَّها تحيا فيه… وهكذا تبدأ الحياة ،فقط حين انتهائها.
أبدا!
ولذلك ،لن تعاش الحياة ً
بأي فعل
وبأي شيء أبدأها هذه الحياة؟ مع َمن؟ كيف؟ ّ
ّ نهار واحد بعد ،ماذا أفعل؟ أبدأ الحياة؟
لدي ٌَّ
أي كالم؟
و ّ
أحدا ماذا أقول له؟
التقيت ً
ُ ف أن
صد َ
وإ ذا َ
أودعها؟ كيف أحيا موت الحياة؟!قلت و استجاب ،كيف أعيش حياةً ّاآلن أبدأ بك حياتي؟ وإ ذا ُ
جدا ليمألوا نهاراتهم .عليهم ،على األقل،
باكرا ً
جدا .على الراحلين أن يستيقظوا ً
باكرا ً
استيقظت ً
ُ
أن يروا الفجر قبل أن يذهبوا.
نثارا.
أودعهم ،وأصير مثلهم ً نثار ٍ
بشر عاشوا قبل آالف السنينّ ، في فضاء هذه الغرفة ُ
الكونية،
ّ مجرات بعيدة .الوشوشات
عبر التيه الفضائي ،من َّ
إلي ْ
نبض الكواكب الذي وصل َّ أودع َ ّ
إلي.
فضاء هائالً ليصل َّ
ً القاطع بصمت
َ الهواء المولود من ماليين السنين،
َ غبار النجوم،
َ
عيون
َ الصور الكراسي المرايا الساعات،
َ أودع شهقات البراكين ،رذا َذ المستنقعات البعيدة.
ّ
المرمية كيفما كان على البالط.
ّ أطفالي ،أحذيتَهم
أودع األمواج التي تخترق جسدي ،الذبذبات اآلتية من أقدم مكان ،من االرتطام العظيم!
ّ
كل شيء بي ،لكي أصير في النهاية كل هذا الوقت ،ويرتطم ُّ علي أن أرتطم بنفسي َّ
هل كان َّ
َ
الضاج ،صوتًا؟
ّ فريسة صامتة؟ ألم يكن في وسعي ،من زمان ،أن أخفّف عن هذا العالم
الكون ،يجب أن يرتاح .على األصوات كلّها أن تصمت.
آه ،الهدوء!
لن أستطيع وصف نهار ،لن أستطيع وصف شيء .الكالم خيانة.
في النهار األخير ال يتكلّمون .فقط يصمتون و يغادرون.
الصوت الوحيد.
َ أيضا .وكنا ،مع تململ ترابها تحت الشمس و الرياح،
تلك السهوب كانت صامتة ً
أسرارا من العظام.
ً غير أننا ،بتلك الحركة الرتيبة في هدأة الموت ،اقتنصنا
كيف كان لنا ،نحن البسطاء المرميين في أشداق المتاهات ،أن نخترع أماكن تحمينا؟ كيف كان لنا
نستمر إلى اليوم!
َّ أن
وأعوادا يابسة أنقذتنا.
ً عظام ماشية
َ لم نكن من جنس الخلودَّ .
لكن
ليست الحياة من كان يحمينا ،بل الموت.
مزجنا والداتنا بالعشب .وتحت تلك السنابل النحيلة تفيأت أرضنا.
لم نرتد مالبس وحلى وقالَّداتَّ .
لكن أنفاسنا كانت ثيابنا وزينتنا .كنا عراة .والحطب المنبثق من
يابسا ،لذلك كان قابالً لالشتعال.
لهاثنا أدفأنا… كان لهاثًا ً
مقاعد للضيوف.
َ وتحت النار كانت لنا احتفاالت .نفرد لها ،في مسامنا،
السري ،في العتمة ،في
الحياة كانت تحت جلودنا ،ال في الخارج .وهكذا عشنا الحياة في مكمنها ّ
الرحم قبل أن تولد.
احتفاالتنا كانت تقام في العروق ال في الساحات .بيوتنا في خيال المكان .قوافلنا في الرأس ال
على الدروب…M
عشنا عدم الوالدة :طفولتنا كانت هناك ،وشبابنا وشيخوختنا .وتقابلنا مع الحياة مرةً واحدة ،أمام
باب الموت.
َّ
ويسد جوعه .من نسل تلك ظمة ،ليطحنها بحجر
كان أبي في الحرب يبحث في البراري عن ع ْ
ظمة مطحونة.
كنت ابن ع ْ
واحدا منهمُ .
ً كنت
العظام المطحونة خرج أطفالُ ،
ظمة ،ينفتح اآلن َنفَق ،فيه برارٍ وحيوانات ،وفيه أبي يمشي من جديد ،في البراري.
في الع ْ
ظمة. يدا بيد ،نبحث عن ع ْ
يمشي ،وأنا معه ً
بعيدين.
أخيرا ،كنا صرنا َ
ظمة .وحين رأيناها ً ظمة ،ونبحث عن ع ْ نمشي في قلب ع ْ
وناس يبحثون عن عظام.ظمتين ،فيهما َنفَقٌ ،… كنا صرنا ع ْ
األم
ظمة .وضعني أبي في النقطة التي ال تُرى في التالفيف ،في غبرة الفراغِّ ، مشيت في نفق الع ْ
ُ
األولى لحياة العظام.
المادين
أدير رأسي اآلن وأنظر :إلى الضائعين في نخاع العظام ،إلى الواقفين على أرصفتها ،إلى ّ
ظمتهم
أيديهم الستعطاء مخرج ،إلى الموتى بكهرباء الروح ،إلى الباحثين عن حجر ليطحنوا ع ْ
لتوهم… وال يعرفون ماذا يفعلون.
ويأكلوها ،إلى الداخلين ّ
فتحت معبري .كان الفراغ هو الطريق .كان الفراغ
ُ نخاع العظام
َ رميت
ُ أدير رأسي و أنظر :حين
هو الحجر.
خارج ألجلب لها حلوى .سأذهب إلى
ٌ أودعها .سأذهب إلى الموت كأني
طفلتي تنام قربي .لن ّ
الموت كأني ذاهب إلى َّ
دكان.
وصلت على ذراعي أبي إلى حانوت.ُ صغيرا حين
ً كنت
قلب قطعة ُس َّكر. ولعبت َّ
كل ذاك النهار ،في ِ ُ دخل وقال :هذا ابني اعطوه حلوى…
لكن لماذا أستعيد طفولتي كالداخل إلى الحياة وأنا الخارج منها؟ وما جدوى استدعائها وال مكان
ق في النافذة ،علَّهم يمشون على
أحد ُ
طيف؟ كل الشعوب ،حتى التي انقرضت ،تقيم هناّ . حتى ل َ
نظرتي ويخرجون… شرايين الغرفة يجب أن تستريح!
خراف أنفاسهم ويأكلون…M
َ كسور عيونهم .والذين بقوا ،يعلّقون
ُ الذين خرجوا ،على الجدران
سأمشي على نظرتي ،إلى النافذة ،وأختفي.
ِ
تمرين تمرين على دخول الحياة .الحياة ليست سوى ٍ غير
تلك األيام ،التي ذهبت اآلن ،لم تكن َ
ٍ
دخول إليها .غير أنها تنتهي هناك ،وال ندخل.
ال نعيش إالَّ ُّ
التمرن على العيش .نحيا ،فقط ،في قَْبل الوالدة .في الشرايين التي لم تتش ّكل بعد .في
التكون والعدم .على
الحد ،بين ُّ
الوجه الذي بال مالمح .داخل هالمية األمعاء وظالمها .نعيش على ّ
نهم بالخروج نتشظَّى ،كجرم ،في المتاهة. الباب .وحين ُّ
عدمها .ال أكتب عن ضوء بل عن عتمة .ال لذلك ال َّ
أتحدث اآلن عن حياة .ال أصف والدةً بل َ
نسميه َّ
أتذكر ما كان ،بل ما كان ُيفترض أن يكون… االفتراض ،هذا ربما ،على األرجح ،ما ّ
حياتنا.
… واليقين الوحيد ،على األرجح ،وداعها.
لحظات قليلة ،ويكون لي اليقين األول!
سأقيم احتفال العروق .أستقبل المنبثقين فجأة في التيه ،وأرقص معهم.
سر أبي .إلى النفق .أرمي األحشاء .أبتسم… وأمضي.
ظمة .إلى ّ
ثم أعود إلى الع ْ
وصل ضفَّتين بصوت
محاولة ْ
شيئا
كنت تريد ً أخوات إلى الحمامات في فضاء الغرفةَ .
وأضفت َ
َM طلبت تبغاً
َ شيئا يطير،
كنت تريد ً
َ
تلكن نقطة الدم التي خرجت منك ،ظلَّ ْ
فرميت نفسك عبر الزجاجَّ .
َ شيئا يخرج من النافذة،
يطير ً
في الداخل.
تحدق طويالً في الجدران كي
كنت ّ ُ َّ
وثالث بطات تنام أمام بيتكَ ، أنت الذي اآلن في مكان آخر
اسمع صوتي M،صوتي من هذا المكان،
ْ تسمع أصوات آبائك المعلَّقين .دعني إذن َّ
أتحدث إليك،
الذي هو صوتك من المكان اآلخر.
وبعضهم َّ
ظل صامتًا وهم يرافقوننا إلى مكاننا األخير .أخذونا في ُ بعضهم
ُ ناح
ساعةَ عرفوا َ
الحي فيك ،وأنظر إليك أنت
ُّ إلي أنا
كنت تنظر َّ
صندوق ،محمولَين بثماني أيد وبنظرات كثيرةَ .
في .تريد أن تبتسم لي ،وأريد أن أبكيك .لكننا صمتنا ،وتركناهم يدفنوننا هناك.
الميت َّ
المتحدث مع
ّ الحي
ُّ نحن اللذين يتكلمان مع نفسيهما اآلن ،أنت من هناك وأنا من هنا ،نحن الواحد:
غير الذكرى؟ذاته الميتة ،ماذا لدينا َب ْع ُد ُ
أخيرا ونام على بابنا.
ط .غير أننا ،من كثرة ما حلمنا به ،جاء ً لم يكن عند أهلنا ب ّ
لكنك كنت تغادر.
تماما .على َّ
تماما وليس في الخارج ً دما .الدم ظل في الداخل .ليس في الداخل ً وصلوا ولم يروا ً
حافتهما .على الزجاج .على الحافة التي ما كانت في الخارج وال كانت في الداخل.
تجزع سأطعمها .في
ْ وثالث بطَّات تنام أمام بيتك .ال
ُ بعيدا
تهتم بدم .النائم ً
أنت النائم اآلن وال ُّ
حالما بها.
وحيدا في المدينة ً
ً كنت تمشي
الخزانة حبوب .اشتريتها أنت ذات مساء ،حين َ
وجاءت.
أيضا ،لم َتر دمك.
لكنها ،هي ً
وجاء غيرها .الناس واألشجار والطيور ،ولم يروا دمك .أوصلوك إلى قبرك ،وعادوا.
حملوك ألنك ال تستطيع أن تصل وحدك.
وأهالوا فوقك التراب لتختفي.
لدت في الزاوية ،وأقصى رحلة كانت من الجدار إلى الجدار.
أمضيت حياتكُ .و َ
َ بين هذه الجدران
شيئ ا آخر .صراخك لم يكن إال نداء لهذا الشيء في الخارج .لكي تخرج ،ولو نقطة دم
كنت تريد ًَ
واحدة ،من النافذة.
لم تكن تنادي منذ والدتك غير الموت!
شيئا دليالً على أنك ال تزال تراني.
اعطني كأس ماء .ظمآن أريد ان أشرب .اعطني فقط ً
عيناك مغمضتان .فوقهما تراب .عيناك فراغان.
ورائي .المليء ال يعبره صوت وال ضوء.
َّ تراني بفراغين وتسمعني بفراغين .فراغك سامعي
إلي.
اسمعني إذن وانظر َّ
ظالَّ داخل جدران فارغة .وخروجهما األول كان إلى
تراني بفراغين وتسمعني بفراغين .فراغان َ
الموت.
الموت؟ عرفنا إذن :الخارج ،هذا هو الموت!
نحب موتًا بال مالئكة .معنا رماد ،نتسلَّى
أين المالئكة؟ قولوا للمالئكة أن تأتي ها نحن وصلنا .ال ُّ
شقيقات حمامات كانت في
ُ أرواح حمامات،
ُ كل األبدية .يخفق جناح مالك فتطير نثرات ،تطيربه َّ
ك فنطعمه همسات ،نطعمه نظرات ،ونتسلّى ...فلتأت المالئكة نحن تلك الغرفة .ويحطُّ مال ٌ
وصلنا.
معنا رماد ،نتسلَّى َّ
كل األبدية.
أيضا كانت موتى! وصْلناَّ ...
لكن المالئكة ً َ
عاما ،كان هذا إ ًذا هو الزمن!
ثمانية وأربعون ً
الفم الذي قبَّلناه تحت غيمة سريعة.
عنق األبدية ،الذي حسبناه عناقًا طويالًَ .
كان هذا َ
أيضا في
أمنا .مطر بقي في الزاوية ،قرب العتبة ،بقي هو ً مطر من جلد ّحين ُولدنا ،انهمر ٌ
َ
يخصها وحدها ،يروي حقلها
ُّ مطرا
الداخل .لم يره الذين كانوا في الخارج ،وال الذين دخلوا .كان ً
الداخلي ،الذي ال يراه أحد.
مطرا
أيضا .على الناس ،على الخشب ،على الشجر ...لكنه كان ً
مطر ًوحين كنا نغادر ،انهمر ٌ
جدا.
بعيدا ً
بعيداً ،
ً
يسمونه حياة.
كان ينهمر هناك ،في البعيد ،في المكان الذي ُّ
عاما!
هذا هو الزمن إ ًذا ،هذه هي األبدية :ثمانية وأربعون ً
وقبل ذلك عدم ،وبعد ذلك عدم.
ها نحن اآلن عدمان يتحدثان .فراغان يحاوالن أن يمتلئا بأصوات.
ض َّم صمتك إلى صمتي علَّهما يصيران صوتًا.
ض َّم صوتك إلى صوتيُ . ُ
العدم هو نحن اآلن .إنه نحن .ال شيء آخر.
حدثني عن صوتك األول ،عن لعبتك األولى ،عن ذراعك الصغيرة حول عنق أمك ،عن حذائك
ّ
اصنع أصواتًا ،امأل هذا العدم.
ْ ث، في الحقولَّ M...
تحد ْ
حم َل الحطب عن ظهرها أمام باب الفرن ،وبعد دقائق
ألقت ْ
صراخاْ . ً أمنا كان صوتنا األول
تقول ُّ
سمعت َّأول صوت من أصواتنا.
ْ
قال الذين حواليها :مبروك .ووصل إليها كالمهم ،من بين رذاذ جسدها ،مثل قوس قزح كانت تراه
في الشتاء.
عز الصيف ،ومع ذلك كانت تمطر! ُولدنا في تموز ،في ّ
يخصها وحدها .وكان َي ِع ُدها بزهور وثمار ...أما نحن ،ف ُكّنا نبكي.
ُّ مطرا
لكنه كان ً
إليك نظرتي األولى ،كمن ينظر في الصباح إلى مرآة و يمشي. نظرت َ
ُ وحينذاك
جسرا من األصوات يوصلني بنفسي .ضفَّتان
صنع ً
ليس عندي ما أقوله .فقط أريد أن أتكلم ،أن أ َ
وصلَهما بصوت.
متباعدتان أحاول ْ
نوجهها إلى أحد.
أصوات ال ّ
ٌ دائما.
أصوات ال غير .هكذا هي اآلن ،هكذا كانت ً
ٌ الكلمات أصوات.
وتقريبا
ً نحن ال نكلّم اآلخرين .نكلّم فقط أنفسنا .اآلخرون شيء بعيد وغريب ،ال نراه وال نعرفه،
موجودا.
ً ليس
لم يكن الكالم غير عزلة ،لم يكن غير صمت.
أكرر عزلتي ...ولكن ،ماذا يقول لنفسه من هو ميت؟! مع ذلك أريد أن أتكلَّم اآلن ،أريد أن ِّ
إنهما اآلن هنا ،الذاكرة التي أوصدت وراءها الباب ،والنسيان الواقف على العتبة .هنا يتحلَّقان
وأكتب كي َّ
أتذكر جسد هذا ُ حول طيف روح ،سقط الروح من النافذة والقاه طيفه إلى الباب.
أن كان لي وبر على جسدي ال أعرف أين صار .كي َّ
أتذكر أن كان لي جسدْ . الروح .كي َّ
أتذكر ْ
وبر ال جسد ،وأني لم أفعل طوال أيامي سوى البحث عن جسدي. أن ما كان لي هو ٌ باألحرى َّ
يستمرون في الحياة ما داموا يبحثون عن
ُّ أحيانا شعور بأن البشر يعيشون بال جسد.
ً يخالجني
جسدهم ،وحين ييأسون من العثور عليه يموتون.
ث روحي عن جسدي طافحا بالروح لكني كنت بال جسدَ .ب َح َ
ً أنا ،نفسي ،عشت بال جسد .كنت
يابسا يبحث عن قطرة .وحين وحيداَّ ،
روحا ً ظل هباءً ، ً مجنونا .و ظ ّل
ً طويالً .مشى أعرج ضاالً
دم يقال إنه يسري في األجساد! َّ
لكن قطرة الدم رمى نفسه من النافذة كان فقط لرؤية قطرة دمٌ .
ظلَّت فوق ،على الحافة ،بين الداخل و الخارج ،على الحدود التي ليست ألحد.
شيئا يخرج من النافذة.
شيئا يطيرً ،
كنت أريد ً
غريبا كان يلتصق بي.
ً شيئا لم يكن لي جسدَّ .
لكن ً
هل كان ذاك الغريب جسدي؟
ضحكتك الخارجة من عظمتين فارغتين ستكون أجمل ما
َ ظمتي َّ
فك ْينا ونضحك. لنفتح ع ْ
ْ فلنضحك،
ْ
النصِّ ،
صدقني. ّ في هذا
نص الغياب
ُّ
1999
أهجرها
إنها الكلمات األخيرة ^...وها أنا ْ
هل أقول الوداع للكتابة؟
أقول الوداع.
حوار الكتابة حوار الصمت .زمن الكتابة زمن الغياب .مكان الكتابة عدم المكان.
أيضا .في المقلب
ال حياة بالكلمات .الحياة قد تكون هناك ،خارجها .هناك قد يكون اآلخرون ،وأنا ً
ص.
الن ِّ
اآلخر من الكالم ،خارج َ
الكتابة غياب الحياة .الحياة قد نصادفها بالمشي ،قد نصادفها بالجلوس ،تحت شجرة أو على
بقبلة أو برصاصة ،لكن ليس بالكتابة.رصيف .ربما تأتي سهواٍ ،
ً
مجنونا باحثًا عن الحياة .تسميم الكلمات
ً أ ُّ
َرش على هذا الثوب الذي أرتديه ُس ًّما للكلمات وأركض
هو الطريق القويم .موت الكلمات هو كلمة الحياة األولى .لثغها األول.
يا طالعةً من فمي ِ
إنك تقتلينني!
َّ
المتوهم النير إلى لجَّة
طب هذا القتل .بالرمي من السطح ّ ليس بخنجر الخيانة وحده بل بسيف الش ْ
الغامض المستحيل .بوقد النار في القلب واألعضاء ،وتوزيع المفاصل Mفي الشتات.
مشي على الغيم ،والسقوطُ رذا ًذا.
ٌ
دخو ٌل في غرفة الموت ،فيما الحياة تلعب على الطرقات.
النصوص حمائم جافلة تطير من
ُ اش ألرواح الكلمات. في رحلة الصيد الطويلة لم أكن غير َّ
كش ٍ
أمام المؤلِّفين.
يمد حبال مشانق للسائرين. دربا ال بيت على جوانبها ،وال شيء في خاتمة المطافُّ . يمد ً سراب ُّ
ٌ
علي أنا النحيل أن أبقى معلَّقًا بهذه الحبال ،ال ّ
ميتًا وال حيًّا؟ نحي ٌل ال دمت عرفت ،لماذا َّ وما ُ
عد قليالً من يد الحياة!
ق ْأب َالحْب ُل ،ومعلَّ ٌ
ُيميتني َ
علي أن أبقى فريسةَ ما ال ُيستساغُ أن يكون صاحب الوليمة؟ أنا الذي ال ُيستساغ لقمةً ،لماذا َّ
منتظرا حياةً تطلع من شقوق الكلمات. ً ق على ورقة، ق على حبل ،معلَّ ٌ معلَّ ٌ
أعرف كتَّ ًابا ماتوا على الحروف ،وكتَّ ًابا ماتوا على
ُ طلعت إلى كتَّابها من هناك.
ْ ال أعرف حياةً
النقاط ،وكتَّاباً ماتوا على هامش الورقة ...ماذا أنتظر من الكلمات؟ أريد البياض.
الميت وال
ص .ال ّ ٍ
غياب بَِن ٍّ ِ
استحضار إمكان صحيحا َّ
متوهمة ،الكتابة .ليس متوهم عن ٍ
حياة َّ بحث
ٌ
ُ ً
والموت عدم ،ال يمكن
ُ عد ٌم
الغياب َ
ُ صحيحا ما اعتقدتُه في رحلة هذا الوهم الطويلة.
ً الحي .ليس
ّ
غيابا ،نصير موتًا ،في رحلة هذا الوهم.
استحضارهما .نصير ً
مرادف للموت.
ٌ الكتابة،
ِ
والكلمات تبني بيتًا ،أكون جسدا،
الخيال ً
َ وجودا من خيالَّ .
أن التخيُّل ُيحي ُل ً أظن أني سأبنيكنت ُّ ُ
فيه ال قُبالتَهُ.
مشيت في اللغة بحثًا عن موطني ،حتىُ انكسرت في وهمها.
ُ مشيت طويالً في خيال اللغة ،حتى
ُ
سكنت إال في الغياب.
ُ وألن اللغة كانت هي موطني ،فإني ما
اكتشفت أني أبحث عن وهمّ .
ُ
بعيدا .أتذ ّك ُر
خرجت من فمي ،وروحي ،وغابت ً ْ لم أكن غير ك ّش ٍ
اش ألرواح الكلمات .تلك التي
إلي
التفتت َّ
ْ عيونا خرجت فجأة،
ً القصي M.أتذكر منها
ّ منها اآلن النقطة األخيرة الواهية في األفق
طا دقيقًا َر َس َمه هذا
سريعا .أتذ ّكر ري ًشا تناثر بطلقات ،وري ًشا مستعجالً للهرب ،وخ ً
ً ٍ
بلوم وغابت
وامحى بلحظة.
الهروب في الفضاءّ ،
لم أكن غير ك ّش ٍ
اش فاشل ألرواح الكلمات.
كأنما ِظ ٌّل ذهب ،وال
ال مكان للكلمات ،إنها حالة غياب .حالة استحالة .تأتي كانما ِظ ٌّل أتى وتذهب ّ
وجه لها أو قامة أو مكان.
ظال ٌل ،ظالل ،و ال أثر.
أي شيء.
كلمات كثيرة ،ولكن ُيستحا ُل قو ُل ّ
ٌ
دائما ،لكن ال صاحب له ،وال مقعد ،وال معبر ،وال كالم مع العابرين. ٌّ
يمر ً أحياناُّ ،
ً يمر
ظل ُّ
الكالم هو خيانة المكان.
أيضا.
والمكان هو خيانة الكالم ً
ِ
فألمض إذن .ال كالم وال مكان لي.
ِ
فألمض. خائنا، ًّ
كالما ً
كنت ً كنت ظالُ ،ُ
سيسقطني.
أي سهم ُ
ألن َّ ِ
فألمش بال رغبة فوق هذا الجسر النحيل َّ الرغبات ُّ
ترتد على أصحابها.
طرائدهاَ ،يسقطون الواحد تلو اآلخر َّ
كأنما العبور ُ هبوب نسيم .صائدو الرغبات
ُ أي سهم وربماُّ
فقط لغير الراغبين.
سليما .الحمولة تزيد من ثقلي ،فيهوي ٍ ِ
فارغا ،ربما أص ُل ً
ً ببطء ،بال رغبة .فألمش فألمش ،ولكن
سريعا هذا الجسر.
ً
أيضا!
يتجردوا ،ال من ثيابهم وحدها بل من نفوسهم ً
على الذين يريدون العبور أن َّ
...لذلك ،ال عبور.
عني فوق هذا الجسرَّ .
لكن الصوت لم ٍ
صوت ليعبر ّ إرسال
َ العبور بالكلمات: كنت ،فقط ،أحاول
ُ
َ
يرتد ،ليقتلني!
يكن يعبر ،وكان صداه ّ
ت حين أُرسل
مي ٌ
دائما .كنت مجموعة موتى :ضحيةَ كل صوت وكل صدىّ . ميتًا ً
تقريبا ّ
ً كنت
ُ
كثيرا ...واآلن أريد الصمت ،أريد أن
مت ًكثيراُّ ،
وميت حين أتلقّى صداه .وألني تكلمت ً
الكالم ّ
أحيا.
يدي ووجهي وروحي؟ عيني ،وغير َّ
َّ الميت! ...ماذا ال أرى غيرأضعُ أمامي المرآة وأنظر ،أنا ّ
قرب الضباب .الجنون قرب الماء .الغناء تحت
عر َ وارتطام الفضاء بها .ال َش ُ
ُ النسمات هناك،
ُ
النائس في
ُ الضوء
ُ الدم مع اآلية.
الغيمة .البحر فوق القلب .النبع ناحيةَ الغبار .الوقت مع الحجرُ .
خيمة الثعبان.
موازيا طرفيه ،متجر ًدا من ك ّل ٍ
ثقل حتى ّ ً مرعوبا،
ً ور الجسرَ ،حِذ ًرا
عب َ
وحده ُ
صوتي هناك يحاول َ
من صداه ...يحاول ،علَّه يعبر.
صوتي هناك وأنا هنا.
حتى لو عبر ،هو هناك وأنا هنا .مفصوالن Mمقطوعان مقطَّعان ال كالم بيننا وال قرابة وال نظرة.
كان ذات ٍ
يوم ،ربما ،صوتي .لكنه وحده هناك ،على ذاك الجسر ،ووحدي هنا ،في خيمة الثعبان.
كل المسافةُّ ،
كل لكأن الوقوف هو ُّ
لكأن الخطوة األولى هي األخيرةَّ .
ال عبور ،حتى بالكلمات! َّ
الطريق!
الصوت والثعبان .لعبا على التالل ،تراشقا بنقاط الندى التي تكاد ال تُرى.
ُ كانا ،ذات يوم ،رفيقين،
َّ
فاسترده الفضاء! الصوت نقطة،
َ كان الصوت والثعبان رفيقين يتراشقان بالندى ...وأصابت
وحيدا هناك .وكانت دموعه تنزل ،تقطع المسافات النائية ،إلى فم الثعبان.
ً عاش
معا!.
ويقتُالن ً
معاَ ،
للصوت رفيق واحد :الثعبان .يلعبان ً
يا طالعةً ،رديئةً ،من فمي.
يا طالعةً لكي تلعبي مع الثعبان وتقتليني.
ندى .على العشب في حديقتي الخلفية.لدي ًَّ
همسا .فربما ِ ِ
همسا .واقتال ً
والعبا ً
ليكن تراشقكما بالندى في الليل .فال يراك الفضاء فيستدعيكَ .
ْ
الجيران يريدون أن يناموا.
حياء الوقت ،فيمشي بين
َ طلق كنا ننام تحت صوف الهندباء ،ننام صامتين .عوض األصوات ُن ْ
ميتة.
خمرا من حناجر عصافير ّالنعوش و الذاكرة .وعلّنا نطير ،نشرب ً
اآلن ،خيمةُ الثعبان .الغصن اليابس أمامها ،من بقايا غابة سحيقة ،يفتح و ي ِ
غلق الباب. ُ َ ُ
جنوب الرماد ،المشنقةُ التي احتفظت بالقميص!.
ُ ِ
الخراب اآلن شما ُل
الغصن أعلى قليالً من قامتي .لذلك لن أصطدم به ،سأدخل ،من دون أن أحني رأسي.
وقت المنسحب على ٍ
مهل من اللحم .الذي ُيرمى و وقت البياض في الجسدُ .وقت العظامُ . اآلن ُ
وقت العدم بال غبار.
وقت غبار العدمُ . شاهدا وحده أنه كان ،أنه لم يكنُ .
ً ينزوي،
المنسحب بخفّ ٍة من يد الوقت ،من طيف المكان ،من ظ ّل المالك.
ُ
الحد الذي ال تطاله
ناصعا ،إلى ّ
ً أبيض،
َ المنسحب من الحقل
ُ ٍ
عيون غريبة. ِ
بحبوب الذي كان سنبلةً
حد العدم.
الرؤية ،إلى ّ
الجه َر به .تبحث له عن
معدم ،تريد ْ
حائر َ
هيولي لزجٌ ،
ٌّ شيء
ٌ لم يكن لدى العظام كالم .كان هناك
لغة علَّه يحيا فيها.
ٍ
في ذاك المكان النائي .على سرير صغير ،بدأت حيرةُ العظام .هناك بدأ َخَر ُسها و بحثُها عن لغة.
في ذاك المكان حيث اللغة لم تكن ُولدت بعد ،و حيث كانت شجرة ،تَسقط أوراقُها واحدةً بعد
أخرى ،بصمت.
طريق
ُ لم يكن للكلمات مكان ..في البدء لم يكن كالم ،كان الصمت .وحين انبثقت الكلمات بدأ
الموت.
أحم ُل اآلن هذه العظام الحائرة البيضاء ،وأرميها في صمتها األول.
أضعها في انعدام اللغة ،في السرير الصغير.
ُرسل في الجهات، كل ما تعلَّمتُه من كلمات ،ما رفعتُه من آبار األجداد ،ما َ
برق و ما انحجب وما أ َ ُّ
أعيده إلى صمته.
قميصا تحت
ً أفرش لها
ُ أمد إشارات يدي إلى األصوات التي صارت بعيدة ،وأُعيدها إلى الحنجرة.ُّ
صوف الهندباء ،وأنام قربها.
النيام والموتى الورق ،ويتبادلون األدوار.
ُ الضيق ،حيث يلعب
ّ في هذا المكان
َّ
متوهم. بحث َّ
متوهم عن الزمن ،عن الحياة ،عن الحريَّةٌ ... بحث َّ
متوهم عن المكان ،الكتابةٌ . بحث
ٌ
َّ
المتوهم. مسكنها في مكان آخر .على الحافة .في
ُ الكتابة ال تسكن في الحياة.
الكتابة مسكنها وراء الباب .تطرق لكن ال ُيفتح لها .ربما ألن ال أحد في الداخل .ربما َّ
ألن الداخل
ألن ال داخل.
فراغ .ربما ْ
أين الحياةُ و المكان والزمان؟ إذا كانت في الخارج لماذا ،ونحن في الخارج ،ال نراها؟ وإ ذا كانت
في الداخل لماذا ال ينفتح الباب؟
بحثت في الكتابة طويالً عن الحياة ولم أجدها .لم أجد الحياة وال الزمن وال
ُ أنا الكاتب أعترف:
المكان وال الحرية .الحرية؟
بديهي أن ال حرية .الحرية؟ كيف تكون حرية ما دام ال حياة؟ نخترعهما ،قالوا .صحيح ،وها
ٌ
أيضا ،للحياة.
مواد وهمية غير قابلة ،هي ً
نحن نخترعهما .ولكن من ّ
اكتشفت هذا الوهم ،هذه الكذبة ،لماذا أكتب؟
ُ دمت
دمت عرفت ،ما ُ
لماذا أكتب إذن؟ ما ُ
علي ،على األرجح ،أن أعيد تركيب نفسي .أف ّككها قطعةً قطعة ،أرمي اللعين منها وأُر ّكبها من َّ
جديد .لو أن النفس آلة ،لو أني فقط أرى ِق َ
ط َعها.
وأبحث عن آلة! تائهٌ ومنهوب M.نهبتني الريح وأريد استرداد ممتلكاتي.
ُ تائهٌ في العاصفة
أريد الحلية التي َوهبتْها لي أمي .أريد الطير الذي جلبه لي أبي .أريد ريشة الروح ،حدقةَ الفضاء
حليب الحجر الذي كان يدفق من نظرتي. َ أمام الباب،
وإ ذا كانت هذه كلُّها من المنهوبات ،ألم تكن لي في الماضي على األقل نفسي؟
اآلن إ ًذا أريدها.
وإ ن لم تكن لي ،أريد زهرة ،لجثمانها.
قدمي فصار لي ،نجمةَ الوعود إذ
َّ علق على
غبارها الذي َ
الدرب األولىَ ،
َ أريد استرداد ممتلكاتي:
ٍ
بحنان وال أزال أنتظر نائم تحت لوزة .ممتلكاتي :نظراتي التي أرسلتُها
الغروب وأنا ٌ
ُ يأتي
ريحا ُّ
ترتد تحول ً ٍ
بنسيم خفيف ،ثم َّ كمانا ،لهاثي الذي امتزج
ظنوها ً عودتها ،يدي التي العابرون ّ
إلي وتنهبني.
اآلن َّ
كم الساعة اآلن؟
الحفََر التي تركتها ضواري النظرات ستبقى
أن ُأعرف أن المرضى في الغروب يهلوسون هكذاَّ .
ُ
وأن رصاصة الجنون ،ورصاصة الحكمة ،كالهما تصيبان المقتل نفسه.فارغةَّ .
األرض
ُ لم أكن في الماضي أعرف َّ
كل هذا .كانت األرض مستديرة ،ال أرى مقلبها .اآلن
صحراء شاسعة ،وقواف ُل طويلةٌ من البشر والشجر والبغال ،موتى فوقها.
ُ مستطيلة،
خطٌّ ٍ
واه في البعيد ،خيطٌ مشنوق ،أريد عبوره .وكلَّما خرج من الخيط نس ٌل ،ظننتُه أوالدي.
كرسي قديم، المرمي على تحدثني الذاكرة عن األرض أنا العاريُّ ،
فأمد يدي إلى معطفها أحيانا ّ
ً
ّ ّ
وأحاول أن أتدثّر به.
ُجرب أن أقنع نفسي بأني ،من هذه الخيوط البالية ،سأصنع كنزةً ألوالدي.
أ ّ
البرد؟ فليجتمعوا اآلن في طابور ،والمقيمون Mفي الحرارة في طابور آخر :يجب
أين المقيمون Mفي ْ
ْفر ُز الناس وحراراتهم ،يجب خلق التوازن بين صقيع البشرية وحرارتها.
التوازن بين المعطف والكنزة المكرورة .وإ الّ األرض ستقع.
المسرح
ِّ كالم للريح ،للنظرة ،للظ ّل ،للثعبان .للخيط
كالم بكالم .فقط كالم قليل لالجدوى كثيرةٌ .
ٌ
نسلَه ،للمشنقة المحتفظة بالقميص.
كالم للذين ال يسمعون. ٌ
صِد
النعش في الصباح اعطني الغيمةَ إلى الوسادة .طُ َّل من الشبَّاك واقطع رأس الزنبقةِ .
ْ َ َ اعطني
المجنون المنحني على النبع.
َ ص ِد
الثوب الخائن في الفضاءِ .
َ
ق األسلوب .فظِّ ْع باألصول والمنطقوشر ْدها .اخن ِ عنق اللعة .أ َْر ِ
هب الكلماتَ ،ش ْرِذ ْمها ِّ إقطع َ
ْ
الج َمل ،وارمهما في النهر.
الصوت إلى الحديقة ،خذه في نزهة ،مع ُ
َ وبأعدائهما .خذ
يظن آباؤها وأمهاتها أنهم سيداعبونها كاألطفال، ٍ
بكلمات َبعد .كلمات ُّ بطن اللغة تحبل
ع َ ال ،الَ .د ْ
يغسلون وجهها ويمشطون شعرها ويجلبون لها األلعاب ...دع آباء اللغة وأمهاتها يحلمون بأوالد،
الوهم
َ دعهم على مهلهم يعرفون .دعتخر ْبها .فبطن اللغة حاب ٌل بكلمات تولد ميتةْ ،
هذه سعادتهم ال ّ
واترك للَّغة شأنها :التالقح من الصمت واالستحالة ،من الغياب والغيبوبة ،من
ْ ُيسعد قلوبهم،
الموت والموت.
الخصوصي الذي ال ُيرى ،ال ُيقال ،ال ُيفعل.
ُّ العتمةُ وحدها قد تكون الحياة،
آن َعَبرتا
علي قَ ْف ُل األبواب وإ سدال الستائر وإ طفاء األضواء لكي تكون لي حياةٌ ولغة؟ َ
هل كان َّ
العتبة واختلطتا مع خارجين كثيرين ،فقدتُهما ...لكني ،حقًا ،لم أكن أجدهما في الداخل .ظننتُهما
حانة أو تحت شجرة أو على رصيف .ولم تكونا ال في الخارج وال في الداخل. في الخارج ،في ٍ
أين الحياة و اللغة إ ًذا؟
الرنات تجري في الفضاء وتختفي.
واقف تحتها ،أسمع ّ
ٌ الساعة ُّ
تدق دقّاتها وأنا
ثابت في المكان وثابت في
ُشيعه وحسبٌ . واقف تحت الساعة .ال أجري مع الرنين بل أسمعه وأ ّ
ٌ
أميز بينها .األولى شبيهةُ الثانية شبيهةُ األلف شبيهةُ المليون.
ات متواصلة سريعة ال ّ
رن ٌ
الوقتّ .
واقف في ساحة األصوات في موج األصداء ٌ وأنا تحت الرنة األولى شبيهي تحت كل الرنين.
جامد.
يحطُّ على رأسي طير كما يحطُّ على تمثال ويطير .تلمسني سمكةٌ وتمضي.
ال مكان للمشاعر كي تذهب إليه .ال فسحة لتحريك العواطف .ال مسافة بين الجدران.
وال مكان للكلمات وال زمان كي تتحرك أو تحيا.
لنصب هذه
لكن ال قصب يكفي ْ
أيضا نحاول أن نبني بهما ملجأ؟ ْ
هل المكان والزمان وهمان ً
الخيمة .لذلك نقعد ونعزف موتًا للهواء.
تعبر الريح تاركةً موتى على أبوابنا .ننادي من الداخل يائسين :من سيطمر موتانا؟ أجدادنا
يزودونهم بالذهب
نهارا لحفر حوض يزرعون فيه موتاهمّ . األوائل كانوا يدقّون الصخر ليالً ً
ومن يطمر
والمال كي يدفعوا أجرة السفر إلى الخلود .نحن موتانا على األبواب َمن يطمرهم؟ َ
ٍ
طبقات طبقات ،حتى صار هذا َّ
الممددين منذ مئات السنين فوق اإلسمنت، موتانا في هذه الغرفة،
نتاج جبلة األموات. ُّ
البناء كله من مادة الموت ،وصرنا ،نحنَ ،
حادا يخترق العظام واللحم الباليَ ،علِّي أحاول أن أ َّ
ُطل برأسي من فوق الردم .أن أُرسل صوتًا ً
ألمح ما وراءها .فقط بوصة ،بوصةٌ واحدةٌ مضاءة ،وراء هذا الموت ،تكفي.
ألنم بالراحة نفسها التي للقطعان .التي ِّ
كفن السماء ينزل على الغرفة ويغطينيْ .
لكن ،فَألََن ْمُ .
قعد ومن أجل الم َ
ألنم من أجل الجرح الذي ال يستطيع الحراك .من أجل الحلم ُ
للجماد ،للرمادْ .
بعيدا،
أذهب ً ألنم بتواضع وال َّ َّ
ْ ألنم وأتدث ْر بما تبقى على الطاوالت والكراسي من موتىْ .
النسيانْ .
فأظن أني حي. َّ
َسمعها تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى،
هناك كلمات تطلع من تحت التراب ،أ ُ
َّ
يتسن لها ،في الحياة، لتقدم قبلةً لم
ُدفنوا من ألف عام .فكوك تعوم فوق الثرى لتقول كلمة .وفكوك ّ
تقدمها.
أن ّ
عظام تخرج لتضحك ،وعظام تخرج لتلعب ،وعظام لتتفقَّد أمكنتها األولى M،وعظام لتجيل نظرها
ٌ
علَّها ترى األرض التي عاشت فوقها ،ولم تكن تراها.
أصحابها يفعلون فوق التراب.
ُ تخرج العظام من تحت التراب كي تفعل ما لم يكن
ُطل على العالمَ .علِّي أفعل اليوم ما سأخرج من تحت
ظمة ،أحاول أن أ َّ
الكوة ،من الع ْ
من هذه َّ
التراب كي أفعله بعد ألف عامَ .علِّي أضحك اآلن وألعب و أرى األرض ،وأقول الكلمة التي
أرغب في قولها ،وأطبع قبلتي على فم الحياة.
قَُب ٌل كثيرة مطبوعةٌ على موتي .لكنني أريد قبلة واحدة للحياة.
ِ
ويوجد المكان .قبلةُ الشبق الجميلَّ ،
رنةُ الزمن الضائع
َ الحلم يشفي من مرض الكالم .يجد قيل،
ُ
وعين النهر. ِ
ساعة النبع الباهرة،
ُ
أثاث بيتنا
وقيل ،مهما خبا الحلم في العتمة مهما ُهزم في الضوء سيصير ذات يوم ،فََر َسناَ ،
وعظامنا.
َ وكسوةَ ِجْلِدنا .سيصير لَ ْح َمنا نفسه،
وه ٌم آخر يضاف إلى تراث الشعوب .كلمةٌ أخرى خائنةٌ في اللغة .خيمةٌ منكسرة ،يحتمي بها
ْ
كل مقاتليه منكسرون. ٍ
طويلة ُّ ٍ
حروب تاريخ
ِ المهزومون ،في
عمياء فال تراني وأنا ألقي مصيري بين السنابك.
َ األحالم
ُ ...لتكن
كائن ق األحالم رايتي وأنا أخوض هذه المعركة ،فأ ِ
َص َل إلى الهزيمة وليس برفقتي ٌ خن ُ
وليكن ْ
بريء.
اب باألحالم والكلمات ،ويسقطون تحتها .ينهزمون باألسلحة التي يحاربون بها. يحارب الكتَّ ُ
نفسها. ٍ
يموتون في معركة أعداؤهم فيها هم ذواتُهم ُ
اب بأطياف َح َمام األحالم .بزجاج الكالم الشفَّاف ،المشظَّى في أفواههم .حين يتلفّظون ينهزم الكتَّ ُ
َّ ٍ
اب يبتلعون الزجاج. جرحون ،يختنقون ...حين يتكلم الكتَّ ُ بكلمة ُي َ
كتبت بضع كلمات عليها ،محاوالً بها أن أهزم التاريخ! ُ أحم ُل ثنيةَ ورقة،
وأجعل
َ وعدم آبائي وأجدادي،
َ ثنية ورقة ،أحاول بها أن أوجد المكان والزمان .أن أمحو عدمي،
وعظامهم تعود ،وفكوكهم المبعثرة تلتحم.
َ أحالمهم تولد وتلعب معهم،
ثنية ورقة!
سفن تبحر على
نغنيٌ ،
ت ثم التقطناها ونحن ّ ٍ
أمكنة َش َر َد ْ والطية قصور ممالكنا ،سبايا
ّ الطية
وبين ّ
األشرعة حتى ال يكون بعدنا بحر.ِ ولهيب َش ِّي لعاب رغباتنا،
ُ
غيم بعيد ،نحطّمه بأحجار عيوننا.
وهمٌ ، ثنيةُ ورقة ،ثنية ْ
فليرأف الكتَّ ُ
اب بحياتهم ،هذا الطائر الذي يحاول أن يلمسهم فيقتلونه.
ليرأفوا بحياتهم فال يأخذوا البريء إلى المشنقة.
فورا إلى المعركة .حتى أننا لم ندعها تقطف
كان يمكن أن نأخذ حياتنا في نزهة .لكننا أخذناها ً
زهورا كي يكون لها رفاق تحت الكفن.
ً عن الطريق
كان يمكن أن نتسلّح بالجنون .أن نقتل العقل لننجو.
وحيوانات هانئة .ولم نسمع الشجر يصرخ تحت فؤوس الحطَّابين،
ٍ رأينا في طريقنا مجانين سعداء
يئنون وهم يقطعون الشجر. بل سمعنا الحطَّابين ُّ
تطواف األرض معها من دون ذاكرة الوصول. ُ كان يمكن قت ُل الذاكرة ومرافقة الطيور.
كان يمكن قتل ذاكرة الرغبة ،ذاكرة المكان ،ذاكرة الخالص ،ذاكرة السعادة ،ذاكرة التاريخ...
وذاكرة الحياة!.
وعيش الحياة نفسها .كما هي .من دون هواجس اختراع ُ كان يمكن قتل ذاكرة البحث عن الحياة
أوهام لتغييرها ،وال ألوان لتجميلها ،وال أطر الحتوائها ،وال مكابح النجرافها الفظيع.
كان يمكن عيش طوفان الحياة َّ
بلذة ،فقط لو استسلمنا له صامتين ،بال مقاومة و ال كالم و ال
أحالم.
ال يحيا سوى الذين نسوا لغة أجدادهم .الذين كسروا زجاج الذاكرة وارتموا في النهر .الذين نسفوا
المالجئ المقدسة وساروا في المتاهة.
ال يحيا سوى الذي رموا آباءهم في اآلبار.
شيئا.
أحدا في البئر ولم أكسر ً لم ِ
ارم ً
ميت إ ًذا؟
هل أنا ّ
عميقًا في العتمة ،عميقًا في الحفرة ،تعيش البذرة بالصمت .الصمت ينميها ،الصمت يحفظ لها
طل على الضوء حتى يحترق. طل برعم منها على األصوات حتى ييبس ،ما أن ُي َّ الحياة .ما أن ُي َّ
ٌ
في هذه الحياة الداخلية كان يجب العيش بال عين ،بال فم وال أُ ُذ ٍن وال يد .األشياء تكبر وتصغر
بال إيماءة من أحد .بإيماءة العتمة وحدها ،العتمة التي ال تومئ.
دائما تنهار .ليست األيدي هناك
حاولت أن أبني بيتًا وتكون لي حديقة .لكن الحجارة كانت ً
ُ هناك
سهوا ترتفع ،و إرادة البناء تهدمها.
ما يبني بيوتًا .هي ً
بهمس ال ُيسمع ،بإشار ٍة ال تُرى،
ٍ كانت لي خيو ٌل هناك ،تأخذني في المجاهل الجميلة .تناديني
ميتًا بحوافرها.
سقطت ّ
ُ أردت سياسة خيولي،
ُ وآن
فأمتطيهاَ ....
اختراعنا.
ُ عميقًا في العتمة ،هناك المكان .حيث نحن الحديقة و البيت .واآلخرون
هناك نحن ،وآالتُنا الخفيَّة الغريبة التي تفقّس الغرباء.
بشرا غير حقيقيين ،لنلهو معهم،
ممر لآلخرين من هناك .فقط نخلقهم و ندفنهم .نخترعهم ً ال َّ
ليكونوا لُ َعًبا فقط ،ثم ندفنهم.
أيضا .في هذا المكان المعتم العميق ،حيث
اختراع نفسي ً
َ باآللة ذاتها التي تخترع الغرباء أُحاو ُل
ال إشارة لوالدة وال لموت .حيث ال إشارة ،حتى لمكان.
مكان ٍ
بعيد منا ،وتعيش في لكن ،اآلخرون وحدهم يمكن اختراعهم ،أما ذاتُنا فال .هي تولد في ٍ ْ
مكان ٍ
بعيد وتموت في مكان بعيد. ٍ
أعيننا على اتساعها إال
اقتربت ،أن نلمحها .نعيش قبالتها مغمضين ،وال تنفتح ُ
ْ أحيانا ،إذا
ً يمكن،
آن تقول الوداع.
َ
هل الكلمة هذه ،هل قو ُل الوداع هو ما يجعلنا نرى؟
كل الحوار ُّ
وكل الحضور؟ ك ُل الزمان والمكان والحياة؟ هل هذه هي هل هذه الكلمة وحدها هي ُّ
ص كلُّه؟ الكتابةُ كلُّها َ
والن ُّ
غير غيابهم؟ يكتب الكتَّ ُ
اب َ ُ إذن ،ال
ْ
ال يعيشون إالّ غياب مكانهم وغياب زمانهم؟
مجر ُد انعكاس الغياب؟
و الرؤية ،هل هي َّ
وجودا من هذا العدم؟
ً إذن
نبني ْ
كيف لنا أن َ
غيابا؟
حضورا ال ً ً كيف للكتَّاب أن يكتبوا
وجودا؟
ً يظنونه متوهٍم ٍ
لعدم ُّ َّ داخلي
ٍّ ٍ
لمعان مجر ُد
كل هذا الذي يرونهَّ ، وما يرونهُّ ،
ِ وهِم وجودهم و
حقيقة عدمهم؟ غير ْ
غير موتهم؟ َ
اب ال يكتبون َ أن الكتَّ َ
هل يعني هذا ،باألحرىَّ ،
...وإ ًذا ،هل الكتَّ ُ
اب حقًا موجودون؟
ٍ
صور ٍ
صور لغرباء، غير
اختراع أنفسهم .فال يخترعون َ
َ باآللة الغريبة ذاتها يحاول الكتَّ ُ
اب
لغائبين.
غيابهم. الكتابةُ ال شيء إ ًذا سوى كتابة الغياب .الكتَّا ُ
ب همُ :
أغسل وجهيَ ،علِّي أصحو من هذا الغياب.
ْ ألنزل إلى أسفل النبع و
ْ
فشردت و ضاعت مني.
ْ جدا ،أعلى من هذا الفضاء الذي لي،
عاليا ً
أطلقت أوهامي ًُ
فألنزل إلى أسفل
ْ تعد لي.
لم أكن أملك غير هذه األوهام .وحدها كانت ملكي .لكن حتى هي لم ْ
وأغسل وجهي.
ْ النبع
على البشر أن يحتفظوا بأوهامهم ،أن يداروها فال تغادرهم .سيحتاجون إليها لكي تؤنسهم.
على البشر أالّ يزجروا أوهامهمَ .فْليحضنوها بحنان ،وإ ال ماذا يبقى لهم؟
ظ بها لكي تكون لنا حياة.
األوهام حياتُنا .فلنحتف ْ
وكل األرض شجرتي. خلت نفسي الطير َّ صغيرا وطار بي ،حتى ُ الوهم سباني
َ ً ُ
نهارا ِ ِ ِ صف َّالمناخات و تقليم العوا ِ
ِ
وعملت ليالً ً
ُ األدغال الجبال ومجاهل نتوءات وجز َ تقويم
َ أردت
ُ
وسعيدا.
ً موهوما
ً ِ
األرض على ترويض
لكن وهمي كان يسعدني. مت َّ ُهز ُ
صريع يأسي.
َ ت
أعد أقنع نفسي بوهمي ،خرر ُ
آن لم ْوهمَ ،
أن وهمي ٌ اكتشفت َّ
ُ وآن
َ
الوهم إ ًذا هو السعادة .والحقيقة هي اليأس.ُ
َّ
أوهاما ،وإ ال كيف لنخترع
ْ َّ
لنبحث عن وهم آخر كلما ضاع وهم.
ْ ظ بأوهامنا وْل ِ
نز ْدها. فلنحتف ْ
ً
كل هذا الوقت! يمضي ُّ
فلنقدسه.
الوهم نعمتُنا ،إلهُنا الوحيدّ ،
ُ
وهمهم.
الناسُ ،ه ْم ُ
ُ
فلتخرج على األق ّل كلمةٌ من فمي ،وتدلّني إلى الطريق.
ْ بعد ك ّل هذا الدوران في فراغ،
علي أن أغسل وجهي. لتسب ْقني وتَ ُدلَّني إلى النبع ،حيث َّ
علي أن أرى ،منفذاً إذا كان يجب
كوةً إذا كان َّ
لتفتح َّ
ْ ظمة. لتنطلق كلمةٌ َّ
حادة من فمي وتثقب الع ْ ْ
إن هناك عبور.
دربا ْ
أن أخرجً ،
ت كلمات ال تُحصى درات في فراغ .لو ر ِ
صفَ ْ ٌ كلمات كثيرة خرجت من فمي .لكن ،ما جدواها؟ ٌ
ُ
لكنت أملك جبالً .ولكن من رماد.
ُ
المرمدةُ هذه؟ ما دام الرماد ال يدفئ ،ال يضيء ،ال يصلح لبناء غرفة ،وال
َّ ما جدوى جبال الكتَّاب
للمشي عليه.
أليس على الكتَّاب و الناس أن يتدفأوا بصمتهم؟ أن يعرفوا أن الصمت هو غرفتهم الوحيدة،
الصمت َّ
المقدس ،وينامون عراةً َ إذن يهدمون هذا الهيكل ،هذا
ووراءها ال حديقة وال طريق؟ لماذا ْ
في الكالم ،مرتجفين من البرد وخائبين وخجولين؟
وتتعرض أنفسهم
َّ حين يتكلَّم الناس يبردون ،يمرضون .تتفتَّق المعاطف التي سترت أرواحهم،
ألوبئة الهواء وعوراتُهم للعوام.
ٍ
هلوسات وسرطانات .يسكنون فيها وتسكن فيهم أمراضا .يرصفون حين يتكلَّم الناس يرصفون
ً
ٍ
مستعمرات لألصوات .سبايا مدنهم َّ
وسك ُانها تحت نير ظلم الكلمات .تصير مدنا .وتصير ُ ويبنون ً
عدمون جميعهم
وي َ
للنطق ،وسبايا للرؤية ،وسبايا للكتابة .تصير ك ّل التعابير في محاكم التفتيشُ .
في ساحات الكالم .في الساحة التي قالوا فيها كلماتهم ،والساحة التي ظلّوا فيها صامتين.
ده َستْها حتى قبل أن تولد. ده َستْها قبل أن ننطق بهاَ ،
حوافرها فوق كلماتناَ .
ُ ت
مر ْ
جحافل كثيرة َّ
المغزوة ،اللغةَ المسبيَّة، غير الممعوس من أصوات األجداد .نقول اللغةَ َّ
َّ لذلك حين نتكلم ال نقول َ
أصوات ناقصة ،وغريبة. ٍ غير
غير حشرجاتُ ، اللغةَ القتيلةَ التي ال يطلع من حنجرتها ُ
حين نتكلم ،نرصف جثثًا.
ليست لدينا لغة .لدينا حشرجات ،من ٍ
لغة قتيلة ،غابرة.
زحفت إلينا من موتانا ،عبر المتاهات ،عبر آالف السنين ،غامضةً وغريبة.
ْ شبهُ أصوات
ليست لدينا لغة .ولذلك ال اتصال مع اآلخرين .ال اتصال مع ذواتنا.
وإ ذا كنا ال نتّصل ،ال نتالقح ،كيف تكون لنا والدة؟
ٍ
ميتات متكررة ،ال نتاج والدات؟ ولن تكون لنا لغة ،لن تكون لنا حياة ،إالّ هل نحن إ ًذا نتاج
بانبعاث القتلى؟
ألن تكون لنا لغتنا و حياتنا إالّ إذا أعدنا الحياة إلى الذين قتلناهم ،وقتلتهم اللغة ،وقتلهم التاريخ؟
الحلم بالنوم األبدي؟
َ يجدد
لكن ،أليس في هذا االنبعاث ذاته ما ّ
قبضت عليها وأنا أقفز فوق النهر.
ُ هناك أحالم ،أحالم صغيرة،
حاولت التقاط البقايا الحارقة لذاتي،
ُ نثار هذه النار.
طعُ أحالمي كانت َتقريبا مشتعالً ،و ِق َ
ً كنت أقفز
ُ
شكالُ به صورةَ ٍ
طير فوق نهر. رمادا بعد ،م ِّ يصر
ُ ً الجمر الذي لم ْ
َ
المرجو ،الموهوم.
ُّ لم أكن أنا القافز فوق النهر بل الصورة .الشبهُ المتخيَّل،
صفيح روحي على الصحراء.
ِ ِ
لمعان ولم يكن هذا النهر من ماء ،بل من
ومن كان واقفًا في هذا المكان ليس أنا .وال
ريش ورجاء ط ّلَ .ٍ حلم
ال ماء هنا وال طير .فقط ُ
شبهي وال ظلّي .والرطوبةُ هذه ،العفونةُ هذه ،ليست نداي .والمتطاير ،فوق ،ليس جناحي.
ٍ
كلمات ب من شيء آخرَّ ،
مرك ٌ هذا الشخص الذي ترونه اآلن ،الذي تقرأونه هنا ،ليس أنا .هو
ٌ
الة ٍ
لغة مريضة. حم ِ
ص َل إلى هنا ،هكذا بالصدفة ،على َّ
صفت خطأً بعضها فوق بعضَ .و َ
قديمة ُر ْ
ذاهبا إلى ٍ
مكان آخر ،إلى الحقول ،إلى ص َل إلى المرض ،إلى المستشفى و المختبرات ،وكان ً
َو َ
ويغني.
يشرب نبي ًذا ّ
َ الشواطئ ،إلى المقاهي كي
رقصا
ً ظنه أن األصوات تولد للغناء ال للصراخ .للنشيد ال للحشرجة .وأ َّن الدروب تطلب
كان في ّ
عبورا.
ً ال
يتم بال حركة،
العبور ُّ
ُ المشي يحدث وحده ونحن جالسون أو نيام. الطريق ال للمشي بل للنوم.
َ َّ
ظن
ُ
من دون انتقال ،من دون يقظة.
تعب
وي َ ظن أنه جاء من أجل أن يقعد ال من أجل أن يمشي .إذا كان عليه أن يمشي َّ
كل الوقت ُ َّ
كافيا للوالدة .ثمة خطأ حدث بال شك،
مبر ًرا ً
المشي ليس ّ
ُ قدميه هكذا بال جدوى ،لماذا إذن يجيء؟
وولَّ َد سلسلةً طويلة من األحداث الخطأ .في البدء لم تكن الكلمة إذن ،وال اهلل ،بل كان الخطأ.
والخطأ ولَّد أخطاء ،كان منها الكون.
الكون صورتُه .أين هو أريد
ُ كونا بهذا النقص الرهيب؟ قيلأحد كلّ ُّي الكمال أن يخلق ً كيف يمكن ٌ
إن كان فعالً بكل هذه البشاعة!
أن اراه ،أريد أن أعرف ْ
أرض حائرةٌ ال تعرف
ٌ ومكلِّمنا ،وفي حنجرته قنبلةٌ تكاد تنفجر،
الخطأ انبثاقُنا ومكاننا .إنه لغتُنا ُ
كيف ستدفن س ّكانها.
نائما كي
ولست ً
ُ سقطت في النهر،
ْ أعبر هذا الجسر .الكلمات التي أرسلتُها كي تعبر عني
علي أن َ
َّ
يعبر حلمي عني.
صْل ٍح بين اإلقامة والعبور ،بين الجسر والسقوط ،بين الكالم والماء؟
كيف يمكن ع ْقد ُ
ٍ
كائنات تأتي وتذهب مثل جديدا،
ً كونا
علي أن أعبر ،أو أن تكون لي ريشة الممسوسين فأرسم ً َّ
ترث وال تورث.
نسيم ،ال آباء لها وال أوالد ،ال ُ
منتشيا
ً ريشة ممسوسين ترسم اللهبة الرائعة لعدم استدعاء شيء ،فيأتي على بريقها ُّ
كل شيء
بالمجيء والنسيان.
مرئي وجميل .أنت
ّ غير
لمسا خفيفًا فينفتح ،تلمسه فينغلق ،وأنت فيه ُ
باب خفيف ،تلمسه ً كون له ٌ
ٌ
مرئي فال تزيد رؤيةُ نفسك من حمولتك.
ّ وغير
ُ فيه خفيف فال ُيتعبك َح ْم ُل ذاتك،
سويا .ال أخضر
كون ال عقل له وليس ً بريشة الممسوسين وحدهم ،ال بريشة األسوياء والعقالءٌ .
لون تحت ثِ ْق ِل ٍ
لون آخر إذا َعَب َر عليه .أبيض كي ال أبيض كي ال يرزح ٌ
ُ وال أصفر وال أحمر.
تذكر ألوان .كي ال يكون ُّ
تذك ُر عبور. ُّ
يكون ُ
كون ممسوسين .ال هدف لهم إن أقاموا وإ ن عبروا .ممسوسين ال أصوات لهم ،كي ال يرتطم ُ
صوت هذا بصوت ذاك .كي تبقى الساحةُ فارغةً ،صامتة وجميلة .ممسوسين ال يرسلون أصواتًا،ُ
كي ال يكون لهم في الفضاء أوالد.
أثر وال إرث.
كي ال يبقى لهم ٌ
ويخلق لغتَه بنفسه،
ُ بال اصوات ،لئال يرث اآلتون لغةَ الراحلين .فيتحرر اآلتي من كالم الذاهب
أي عبء. ٍ
براحة ألنه لم يترك َّ والراح ُل يذهب
يكون آباء.
َ ابن أحد ،وال
أحد َ
لئال يكون ٌ
كون يأتيك خلسةً دون أن تراه ،وتذهب منه خلسةً دون أن يراك.
ٌ
شخص آخر ،نظرات. ٌ في الرؤية مرافقة،
ضيوف ال تتوقَّع مجيئهم وبيتك فارغ .في الرؤية واجبات ،خجل ،إدانة.
ٌ في الرؤية
طيًبا ونحيالً يقعد تحت شجرة ويضحك .يمتزج بالنسيم،
ممسوساّ ،
ً كونا
أرسم بريشة الممسوسين ً ُ
يبتسم ،ويموت.
كون ال ُيرسم ٍ
بحبر مرئي ،بل بالبياض ...ولذلك لن ُيرسم ،ولن يكون. ٌ
ماذا نفعل بما ورثناه من كلمات؟ أين نضع َّ
كل هؤالء العجزة وبيتُنا ال يتَّسع حتى لنا؟
كيف نحفر المقبرة العظمى وأين؟
يبق مكان؟ أم َّ
أن علينا ،بهذه الكلمات األرض والفضاء مزدحمان باألصوات .أين نحفر ولم َ
نفسها ،أن نحفر المقابر للكلمات؟
الكون
َ كلمات نحن خليطها ،أطفالها ،لقطاؤها .كيف نحفر لها القبر وال ننام فيه؟ أم أن ذاك
ٌ
المرسوم بريشة النسيم ،شرطُ وجوده موتُنا؟
َ الجميل،
يمر خفيفًا هكذا ،بال انتظار.
لتكن لنا إذن نعمةُ نسيان الجمال ،نعمة موت األحالم .الوقت ّ
لتكن لنا نعمة اليأس ،نعمة رضى الطيور المخذولة ،العالية والبعيدة ،النائية عن التطلّع إلى
الوليمة .ليكن لنا جمال الفريسة ،رضى العجز عن اإلفتراس ،مسحة الجمال األخيرة للضحية،
بسمةُ قبول الدم.
افترار
َ ِ
لنستهجن العادةَ التاريخية السمجة، لنقلب المقاييس ،فَُنِق ْم للنصر َن ْدًبا وللهزيمة زغاريد.
ِ
شعارا لمهرجان ط الساقطة من العيون عالمةً للغبطة، وقت الفرح ،جاعلين النقا َبسمة َ ٍ الثغر عن
ً
االنقالب العظيم على التكوين.
أخطاء تكوينها.
َ السيئة التي أثبتت ،على مدى التاريخ،
كيمياء الروح ،هذه التركيبة ّ
َ نغير
ّ
ورفض الحياة قمةَ ِ
العذابات صديقات، العمل مضيعةً للوقت،
َ إنجازا،
ً الكسل
َ نجعل الفشل هدفًا،
َ
عيش الحياة.
نقلب كيمياء الروح ،فيتقلَّص ُ
عدد األعداء.
نحفر المقبرة العظمى ،ونحتفل بمهرجان اإلنقالب العظيم على التكوين.
رقيق عوض الدم الصارخ
ٌ وعشب
ٌ صامت
ٌ شجر
نقلب كيمياءنا إلى نبات ،فيصير في داخلنا ٌ
حجر يمكن الجلوس عليه.
جمادا هذه الكيمياء ،فيصير ثمة ٌ
ً واستفحال العروق .نقلبها
ٍ
عظيم هذا على شريعة التكوين! أي ٍ
نصر جمادا! ُّ نحول أنفسنا
ً إننا ّ
الرداء نفسه الذي حمله أبي ،نفسه الذي ِ
الكلمات وآخ ُذها معي رفيقةَ الطريق. ق أ ُّ
َلف ٍ
برداء عتي ٍ
ُ
حمله أجدادي.
فما فتخرج َّ
حبةُ جليد ،أقول سمكةً فتخرج أفعى، أقول رفيقًا فيخرج من الرداء قاطعُ طريق ،أقول ً
حلما فيتدلَّى مشنوق...
قلبا فيخرج قبر ،أقول ً
أقول ً
هل الكلمات ،إ ًذا ،داللةُ نقيضها؟ فقط رغبةُ ٍ
قول دفينة ،ما أن تخرج حتى تصير فعالً آخر ،ال
عالقة له بالقول وال بالرغبة؟
غير طيفها ،وما ننطق ٍ
كائنات َّ
حيةً ذات يوم ،ثم ماتت ،ونحن اليوم ال نرى َ الكلمات
ُ هل كانت هذه
شبح روحها الهائمة؟
به هو فقط ُ
أعتقد أنها
َ إلي و
تصل َّ
َ زحفت هذه األطياف ،عبر آالف السنين ،في الوحل و النار ،كي ْ كيف
حي ويخرج من فمي جاءت لكي تبني حياتي؟ واآلن ،هل أنا اآلن أتكلَّم موتًا أم حياةً؟ هل أنا ٌّ
ت وما يخرج من فمي هو لثغ الحياة؟
مي ٌ
موت؟ أم ّ
أياما كثيرةً من الموت .أحاولرصفت ً
ُ أبني حياةً بعدما
بالحجارة القليلة التي في فمي أحاول أن َ
دليل نقيضها .حين تخرج من فمي ال تكون رغبةً في القول بل ِف ْع َل ٍ
كلمات ال تكون َ أن أخترع
جسدا وأرى الرغبة .أحاول حين أقول سمكةً أن تأتي سمكة ،حين أقول رفيقًا أن تصير رغبتي ً
إلي بائع الزهور.
قلبا أن يأتي َّ
الرفيق ،وحين أقول ً
أيضا؟
وتغيير كيمياء الناطقين بها ً
ُ تغيير كيمياء الكلمات،
ولكن ،لكي يكون ذلك ،أال يجب ُ
النثار الباقي من ذواتنا المحطَّمة؟ أم َّ
أن اللغة ليست هي الرغبة ،وال الفعل ،بل ُ
كسور نفسي .لكنه ال الهمس وال الصراخ .ال
َ آمن لهذا النثارٍ ،
مكان يحفظُ لي مكان ٍأبحث عن ٍ ُ
اللغة وال طيفها .الالتوق و الالذكرى .ماذا يكون إذن ،هذا المكان اآلمن لنثار الذات وعظامها،
غير القبر؟
َّ
والمذنبات البائسة في الهمس ألن الهمس لن ُيسمع في ضجيج االرتطام الفظيع للنجوم
َ هو ليس
حي .وال اللغة وال طيفها ٍ َّ ِ َّ
القلب .وليس الصرخات ألن هذه االنفجارات ،كلها ،لن تسفر عن كائن ّ
أيضا.
وال التوق وال الذكرى ،ألن هذه ماتت ً
ألن ال لغة كي تكشف عوراته؟ هل المكان اآلمن إ ًذا هو فقط ،المكان الصامت؟ الصامت والجميل ْ
الكلمات توجدها؟ هل الجمال إ ًذا ال شيء
ُ ألن ال عورات إنما َّ
ألن العورات ال تظهر إالّ بالكالم؟ ْ
جمال المكان ،إنما جمال العدم؟
َ سوى الصمت؟ ولذلك هو ليس
عدما .أريد الجمال.
إمنحوني ً
كلمات أخرى ،تص ُل اللغةُ الناعمةُ مثل ريش عصفور ،ترتطم بي وال تؤذيني. ٍ هناك قد أسمع
انعدام الجاذبية ،مترنحةً سابحةً خاليةً من ثقلها.
َ غ،
تصل نبرةُ الكالم بال نبرة ،تدخل الفرا َ
هناك قد أسمع أصواتًا جارحة ،آتيةً من وهم األمكنة األولى ،لكنها تصل فاقدةً شفراتها ،فاقدةً
علي مرور النسيم الخفيف.وتمر َّ
معناهاُّ ،
تتوحد معانيها ،تصير اللغةَ الجميلة :لغة عدم الوجود.
حين تدخل الكلمات إلى هناك ّ
أشباح في اللغة .قتلى قدامى.
ٌ مساءات ترتجف في الكالم.
ٌ ثمة
انهيارات في مخارج األصوات.
ٌ في الحناجر انحدارات.
تسجل
ومن يشفع بالساقطين في هذه االنزالقات Mسوى آخر األحجار في الوادي؟ األحجار التي ّ
َ
وصولهم بالدم.
دم واضح. موت أكيد في الكالمٌ .هناك ٌ
وأجساد مستلقية عليها.
ٌ واد وأحجار، هناك ٍ
هناك قت ٌل ،قت ٌل فظيعٌ ،في اللغة.
إننا ُنقيم في مجزرة!
الجزارين.
وكلّما تكلمنا ازداد عدد ّ
فلنصمتَّ ،
عل أحجار ْ فلنصمت إذنَّ ،
عل الصمت يقلّل من األعداء ،علّه يقلّل من هذا الموت. ْ
الوادي تبقى بيضاء.
بهي ،في
وجود ّ
ٌ في الصمت األبيض نضع كرسيًّا أبيض ونجلس غير مرئيين .في انعدام الرؤية
انعدام الصوت لغتُنا.
حين ال نرى اآلخرين يكونون جميلين حقًا .حين ال يتكلمون ،نفهمهم.
وجود َّ
موحد ولغةٌ موحَّدة. ٌ في غياب الرؤية و الكالم،
جدا البكماء .فهل من أجل البشاعة ،والضباب،
إنهم رائعون حقًا هؤالء الغائبون .وواضحون ً
نحضر ونتكلم؟
شيئا ،في زجاجة الوقت الفارغة.
يعبئ ً
في الساحة ،في المساءَ ،من ينفخ في زجاجة ،من يريد أن ّ
مجنون في الساحة ،يريد أن يمأل زجاجةَ الوقت بلهاثه!
ٌ واحد
ٌ
ِ
الرؤية في الصوت. ِ
الساحة في بخار في الزجاجة المكسورة ،في
بخار في الوقتٌ ،ٌ
رفيف نظراتنا وهي تختفي في الفضاء.
َ وبهذا البخار على الزجاج نرسم عالمنا ،أصدقاءنا،
وريح عاتية.
ٌ بخار،
ٍ
قطرات نحيلة ،ويتبددون. الذين لهم لهاثَ ،ينزلون
عدمهم.
الذين هم لهاث ،ال يعيشون رطوبتهم ،وما يتنفسونهُ :
ٍ
أصوات وحشرجات .وإ ذا كان هناك موتى في بخارا .ليكن ُب ْك ٌم ال أزيز
لكن ليس ًعمى ْ
ً ليكن
ْ
تطل علينا. ٍ
شرفات ُّ دم أبيض ،دم ٍ
نوم عميق ،بال أبواب ،وال ُ دم آخرٌ . الهواء ،فليكن لهم ٌ
دائما ،نحاول مزج روحنا بالهواء ،علَّنا نرتفع ،ونغيب. كناً ،
ٍ
حركة أخرى ألجسادنا ،نلتقطها في الفضاء. فيزياء َّ
عل هناك
َ
تفوقت على عناصرنا ،ليس في االنتصار على
كنا نحاول أن نقلّد الطيور ،تلك التي عناصرها َّّ
ثقل الجسد وحده ،بل في إلغاء المكان ،والذاكرة ،والوقت.
سريعا في ٍ
غبار خفيف. ً إذا كان هناك موتى في الهواء ،فالطيور ال تراهم .تعبرهم ،كمن يعبر
نتنفسهم .نرى عبرهم .وال نحادثهم فحسب ،بل ننطق بلسانهم.
ُ الموتى يجلسون معنا.
انفصلت وغابت عنا .إنهم نحن ،أجسادنا وأرواحنا .وإ ذا كان علينا أن
ْ كيانات مستقلّةٌ
ٌ ليس للموتى
فلنمش بهدوء نحو الموت ...ال يموت الموتى ،إالَّ بموتنا.
ِ ُنميتهم حقًا،
القمح الكاسد الذي نراه اآلن بين أيديناَ .ز َر ْعنا و حصدنا واآلن
َ َز َر ْعنا ،على مدى آالف السنين،
فلنعترف بكسادنا و َن ُع ْد إلى البيتَ .لن ُع ْد ،متواضعين ،إلى عدمنا.
ْ وقت العودة ،وقت الغروب.
ال بذور أخرى كي نحرث هذه األرض من جديد ونزرعها .فلنعترف بفساد الزرع و فساد
نودعها براحة.جلوسا أمام هذه الحقول ،كي ّ ً ِ
ولنمض أيامنا األخيرة األرض،
أخيرا بالفشل.
فلنعترف بفشلنا .على البشرية أن تعترف ً
ْ
طبقات من الجدران؟ جدار المكان ،جدار الذاكرة، ٍ رصف هل كان ُّ
كل هذا التاريخ فقط من أجل ْ
جدار الكالم ،جدار الحلم ،جدار الحب ،جدار الذات ،جدار اآلخر ،جدار الحضور؟...
ٍ
حيطان فقط؟ ائي هل ّ َّ
كنا ،كل هذه السنينّ ،بن ّ
مدنيةُ األرض فبنينا حيطاننا في التحضُّر. لدت َّلدت وحشةُ األرض فبنينا حيطاننا في البراريُ .و ْ ُو ْ
حيطانا َّ
كحلوها بالدمُ .و َلد األنبياء فأقفلوا ساحاتنا مالئينها بردم ً ُو َلد الملوك فهدموا بيوتنا وبنوا منها
أجمل زهرةَ في األرض.
َ األرواح ،وداهسين زهرة ُك ْفرنا،
ولنترك على أحد األحجار عالمة ،حتى إذا عدنا،
ْ رد ًما.
فلنستسلم إذن لهذا الجرف ،ما دمنا صرنا ْ
ْ
نعرف أين نبيت.
حملت حقائبها ومشت ،في الرحلة األخيرة.
ْ قبيلة الروح راحلة،
رحلةٌ لم يبق فيها غير آخر المهزومين .بعض ناسها ماتوا ،وبعض ناسها قُتلوا ،واآلخرون
تبق ماشية لها وال بغال وال كالب .قبيلة الروح انقرضت.
هجروها ،ولم َ
سحر
وتغني ،وينزل من نظراتها ٌ
َمن كان هنا يشهد أنها كانت جميلة .ترقص تحت ضوء الشموع ّ
رحلت ،ولم يعد عندنا حتى ضيوف.
ْ على الضيوفَ .من كان هنا يشهدَّ ،
لكن القبيلة
قبيلة الروح َّ
ودعت آخر أصدقائها ،القابعين في الزوايا ،وغابت.
أسجل على األق ّل آخر خطواتها ،آخر نظراتها ،لكنني فشلت،
علي ،أنا القابع في زاوية ،أن ّ
وكان َّ
حتى في تسجيل هذا الغياب.
حاضر وال الغياب يمكن التقاطه .ال يمكن حتى وصفه أو كتابته .كيف إذن أكتب
ٌ ال الحضور
نص الغياب؟
َّ
غائبا؟ والقابعون في
غيابه؟ كيف يعجز حتى عن أن يكون ًالعاجز عن الحضور َ ُ كيف يصف
الزوايا هل عليهم ،كما الظانون أنهم في الساحات ،أن يشهدوا فقط للعدم بالصمت؟
إننا ُنقيم مأدبة عامرة للعدم ،ال يأكل هو منها ،وال نحن نأكل!
أيضا؟
أحد ً
لكن ،أليس الوجود هو الوجبة الدسمة التي ال يأكل منها ٌ
وواجب
َ روحها،
صنارتَها .ما اعتقدتْه َ عمهاَّ ،
طعامها كان طُ َ
َ رحلت جائعة .ما اعتقدتْه
ْ قبيلة الروح
إقامتها ،كان ُس َّمها .قبيلة الروح ماتت مسمومة ،ماتت كالسمك ،معلَّقةً فوق مائها .قبيلة الروح
ماتت في الهواء.
نجرها ،ال
لكن علينا أن َّ
الميتةَ ْ
نجر معنا بغالنا المفصودةَ الروحّ ،
ماتت القبيلةُ فلنتابع المشيُّ .
ألن ال شيء نفعله على الطريق. ٍ
ظا بذكرى ،بل ْلحمولة وال احتفا ً
بجر البغال.
نمشي ...ونتسلّى ّ
نحضر ،كيف نحيا؟....
زمانا ،كيف ْ
مكاناً ،
نغير فيزياءنا ،كيف نجد ً
نغير كيمياءنا ،كيف ّكيف ّ
وإ ْن تكن هذه كلّها مستحيلة ،ماذا نفعل كي نغيب؟
وحجة الفعل
حجة الكالم ّ ُجرده من ّ
َقبض على الوهم األول الذي وضعني هنا ،وأضعه أمامي .أ ّأ ُ
وحجة تركيبي بعناصره .أف ّككه من عناصر وهمه وأُر ّكبه من عناصر وهمي .أَجع ُل مبتدأه يصير
ّ
خبري .أمحو رغبتَه في انتهائي ،وأرسم رغبتي.
ُغير كيميائي وفيزيائي .وكالوهم الخفيف الجميل أصير خفيفًا وجميالً .ال
بالوهم الخفيف الجميل أ ّ
ظل ينوءحمل على كتفي ،وال في روحي .لذلك يمكنني أن أطير ،يمكنني أن أعلو ،وال يكون لي ٌّ
ْ
تحته شيء ،وال لون يثقل على ٍ
لون آخر.
ُغير بالوهم فيزيائي وكيميائي ،وأطير. أ ّ
َّ
عصيةٌ على الرؤية ٍ
أرض لم تعد لي شراكةٌ فيها وال مكان .أجنحةٌ فلتخف ِ
ق األجنحةُ وتَ ْع ُل ،فوق
ٍ
ورغبة أكثر بجنون ٍ
هائل ٍ خارج فيزياء العين وكيمياء الفضاء .مقذوفةٌ هواء كي تطير. وال تتوسَّل
َ ً
مجرد كنت ُّ
أظنها َّ رغبات ُ
ٌ تكوين بكامله،
ٌ تاريخ ينفجر،
ٌ ماليين السنين وتنفجر اآلن.
َ قنت
هوالً ُح ْ
مجرات.أشياء صغيرة في القلب ،وإ ذا بها َّ
عاليا بال كالم بال نظر ٍة بال رسالة .الكالم والنظر ً
أيضا أصابهما االنفجار وتغيَّرت أعلو ً
عناصرهما .لم يعد الفم واألذن شرط الكالم ،وال العين شرط النظرة .لم تعد األحرف شرط
ف َّ متلق وم ِ
كل رس ٌل شرط اللغة .امتزجت اللغةُ والعين واألُذن بالهواءَ .جَر َ الكتابة ،وال أن يكون ٍّ ُ
لون وال
يعد ٌاأللوان والمسافات ،فلم ْ
ُ النقيض بنقيضه ،واختلطت
ُ جنون هائل ،حتى امتزج
ٌ شيء
بدء وال منتهى ،ال أعداء وال ُّ
مسافة ،واستدار المستطيل ،فصار الكل في مركز الدائرة ،ال َ
أصدقاء ،تعانق القتلى مع قاتليهم ،فال موتى وال أحياء ،نزل الجميعُ إلى مركز الدائرة ،رقصوا في
ٍ
حلقة واحدة وطاروا.
العناصر كلُّها ،الناس والنبات والحيوان واألحالم
ُ كل شيء هنا في رأسي .اتَّ َح َد ِت تساوى ُّ
والحار والناخز
ُّ والميت والحاضر والغائب والبارد
ّ الحي
ُّ واألوهام .صار الجميع سواسية،
الخالق وهمي
َ غلب
لكني فعلت .وهمي َ يساو ِه ْم ّ
ركبتُهم ساويتُهم .خالقُهم لم ِ فككتُهم َّ
والمختفيَّ .
غلب األرض.َ
منتصرا على ثقل عناصري وثقل التاريخ وثقل Mالمكان وثقل Mاألشياء .أطير بعناصر
ً أطير خفيفًا،
تعد لي شراكة فيها .أرض غلبتُها ٍ
أرض لم ْ رغبتي :بغياب الرغبة وغياب العناصر .خفيفًا فوق
األرض
َ غلبت
ُ وجعلها تدور في جاذبيتي.
بوهمي ،بتغيير عناصرها ،بتجريدها من جاذبيتها ْ
كوكبا في رأسي ،ال في األفالك.
ً بجعلها
منتصرا على التكوين.
ً أطير خفيفًا
أعد وريثهم وال عادوا نسلي .أطير وأنظر إلى
اندثرت .فوق بشر لم ْ
ْ أسبح في الفضاء ،فوق ٍ
بلدان ُ
الطائر َبعد.
ُ الصحراء تحتي .إلى غياب األمكنة .إلى استحالة أن ينزل
أطير أطير ،وأبتعد.
ممحوة ...وأختفي.
َّ أصير نقطةً
ُغبار
2000
الغباريون
ّ
غبارا وها نحن نكمل حياةَ الغبار.
الطرقات وهاّبون وحدنا .األرض صارت ً
ُ مقفرةٌ
إننا نكمل حياة غبار األرض .هذا الذي يجب أن يكمل حياتَه أحد ،وها نحن نفعل.
ال نكمل حياة األرض بل حياة غبارنا .ال نكمل حياة بل موتًا .جئنا لنرافق الغبار في هبوبه
األخير ،نحمله إلى مثواه ،وننام معه.
األرض ال يشبهنا .إنه نقيضنا ونحن أنقاضه .وما جئنا لنكمل تلك األرض بل لننقضها .ما
َ ما كان
جئنا لنكمل بل لننقض.
متدينين فليس للغبار غير الهباء.
غباريون بال دين وال ّ
ّ ال دين قبلنا ال دين بعدنا ال دين لنا.
البنوة .إننا
األبوة وفراغ َّ
ُمه وال َولَ ُده .في فراغ َّ
سابحون في فراغ .في الفضاء الذي ال األرض أ ُّ
ذاهبون إلى إلهنا ،إلى العدم.
شيئا
غبارا ،ما كان ً
شيئا قبل أن يصير ً
الغباريون ،و هذا ما رأيناه في هبوبنا ،هذا ما كان ً
ّ نحن
قبل أن نصير نحن الغبار:
جمال العابر
غبارا قليالً ،سرعان ما يختفي.
ثقل ظ ّل .ربما ً
سريعا جميلون .ال يتركون َ
ً العابرون
األكثر جماالً بيننا ،المتخلّي عن حضوره .التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده .جماالً في الهواء
صفاء في التراب بمساحته غير المزروعة .األكثر جماالً بيننا :الغائب.ً بغياب صوته.
يذريهُ .م َذٍّر نفسه في َّ ٍ
قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفة ال تترك للمكان أن يسبيه وال للوقت ان ّ
قمحا لحقل سواه .المنسحب من شرط المشي للوصول. تبنا لبيدره وال ً الهبوب السريع غير تارك ً
المنسحب من الوصول.
مكانا لخطيئة .غير مقترف خطيئة ،غير ٍ
كمالك مهاجر .غير تارك إقامة قد تكون ً سريعا العابر
ً
مقترف إقامة.
سريعا بال أثر
ً سريعا تحت شمس ال تمسُّه ،تحت مطر ال يبلّله ،فوق تراب ال يبقى منه أثر عليه. ً
وال إرث وال ميراث.
يتشرب عادات .ال لغة له وال عادات وال معلمين وال لم ُيقم كفايةً كي يتعلَّم لغة .لم ُيقم كي َّ
عابر فوق اللغة ،فوق العادات ،فوق المراتب واألسماء واالقتداء.تالميذٌ .
بال اسم ،فوق النداء والمناداة.
وفوق اإليماءات ،إال إيماءة العبور.
وبال صوت ،ألن الصوت ثق ٌل في الهواء.
ألن الصوت قد يرتطم بآخر .قد يسحق صوتًا آخر في الفضاء .قد يزعج النسمات.
وبال رغبة .ألن الرغبة إقامة ،ثبات.
سريعا جميلون .ال يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة .ال يبقون وقتًا يكفي لترك
ً العابرون
بقعة في ذاكرة المقيمين.
بقعا على قماش ذاكرتنا ال نعرف كيف نمحوها.
الذين أقاموا طويالً معنا تركوا ً
بقعٌ مؤلمة ،أينما كان على المقاعد ،بحيث لم يعد يمكننا الجلوس.
يحولون أثاث بيوتنا إلى ِق ٍ
طع منهم .بحيث نجلس ،إذا جلسنا، المقيمون طويالً يسلبون مقاعدناّ .
على ضلوعهم ،على عظامهم.
أحدا وال أحد يسحقهم .ال يطأون على كائنات
يسحق المقيمون المقيمين .أما العابرون فال يسحقون ً
خطوا على أرض .حتى الهواء ال يلمحهم غير لحظة. وال ُيثقلون ً
إيمان واحد لهم :العبور.
ٌ بال قلق وال ندم وال آلهة وال أتباع.
مخربو المشنقة المصنوعة من
المتخلّون عن األمكنة واألوطان واآلباء والبنين .كاسرو القيدّ .
حديد المكان والزمان واالنتماء.
وهما.
إنهم يتساقطون ،الواحد تلو اآلخر ،المتشبثون باإلقامة .يتساقطون بأوطانهم التي صارت ً
عبئا .بايماناتهم التي تقتلنا ،وتقتلهم ،وتقتلM
بأبوتهم التي صارت ً
كذباَّ .
بانتماءاتهم التي صارت ً
الحياة.
نمجد عبورها بسرعة ،أن
نمجد الحياة ،أن ّ
العابرون ال ضحايا لهم .هل لذلك بات علينا ،كي ّ
نمجد االنتحار؟
ّ
بخفَّ ِة خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح .بخفة انفتاح هواء العبور واندمال هواء االنطالق.
سريعا ،كلحظة انقصاف.
ً عابرون
شميم خاطف.
ٌ لهم من العصفور صوت ،من الغصن نظرة ،من الزهرة
عصافيرهم للغناء والرحيل ،ال للسجن في أقفاص أو تأبيدها َّ
محنطةً في واجهات .طيورهم الروح
المسافرة ،ال الريش المقيم.
وزهورهم العبق الشارد خارج اإلناء.
سوى المرتحلين ،والالمبالين ،والعابثين باإلقامة ،والممسوسين ،والموتىَ ،من كان سيكتشف جمال
العبور؟
وأيةُ لحظة تكتشف الحياةَ أكثر من لحظة الغياب عنها؟
ّ
هل لذلك تجب مصادقةُ الرحيل أكثر من مصادقة اإلقامة؟
تمرينا على جمال الرحيل؟
ً وهل ،لذلك ،على حياتنا أن تكون ،فقط،
شيئا ولم يستأثر بهم شيء .الذين خطوا
أجملنا الراحلون .أجملنا المنتحرون .الذين لم يريدوا ً
خطوةً واحدة في النهر كانت كافية الكتشاف المياه.
أجملنا الذين ليسوا بيننا .الذين غادرونا خفيفين ،تاركين ،بتواضع ،مقاعدهم لناس قد يأتون اآلن،
إلى هذه الحفلة.
مقعدا!
حفلةٌ سخيفة ،ورغم ذلك ال يترك المتشبثون باإلقامة ً
لكن ِل َم المقاعد ،ما دام المحتفلون يبدأون ضيوفًا وينتهون أعداء؟
ق الوليمة. لنمض إذن ،بخفَّة ،قبل أن تلتهمنا الخناجر ،قبل أن نصير َ
طب َ ِ
المغادرة.
َ سريعا ،يصير الجما ُل هو لحظةُ الوصول إلى االحتفال هي ُّ
كل جمال االحتفال .وبعدها،
ً
دائما. ِ
الخطوة المغادرة ،هي األجمل ً
أيضا .ألن الذكرى
فلنشي ْع معهم ذكراهم ً
ّ الراحلون يمتزجون بالنسيم .وإ ذ نقف نحن ،لتشييعهم،
جمادا.
ً تعيق رحيلهم ،تعيدهم إلى مكانهم ،تجعلهم
الذاكرة تعيق الراغبين في الموت .وتجعل الراغبين في الحياة موتى.
فلندفنها إذن.
نغني.
لندفن الذاكرة ونحن ّ
ِّ
فلنغن ونرقص. إنها حفلة سخيفة في إية حال ،ولكن بما أننا وصلنا،
ٍ
ثوان ،قد نكون فيها جميلين.
لكن أجملنا سيبقى :الغائب.
منفى اللغة
إذا كانت اللغة وطننا حقًّا ،فإننا نعيش في منفىM.
أليست هي ما نتحدث به مع أنفسنا ال مع اآلخرين؟ وال يكون لنا تواصل ال مع ذاتنا وال مع
اآلخر؟
شأن خاص ال شأن عام .نتكلم كي نقتنع فال نقتنع .كي يقتنع اآلخرون بنا فال يقتنعون .اللغة
اللغة ٌ
نأي ال اقتراب.
ٌ
المتكلمون ينفون أنفسهم.
والخروج من المنفى Mهو الخروج من اللغة.
اللغة هي أصوات موتى .وهكذا نرصف جثثًا.
الكالم الحي كان كالم اإلنسان األول .األول ،قبل أن يتكلم.
ُّ
ظل أن نكون
فتر الشمس. ِ
األغصان َ
َ إقطع
ِ اضرب الشجرةَ فتسقط الظالل. تيأس.
هي ظالل ،هي ظالل .ال ْ
لكن ،هل يجب قطع الشجرة من جذورها؟ أم االكتفاء بذكرى ضوء؟
الذكرى تكاد تكون َّ
كل وجودنا .غير أننا نقطع األغصان ونبقى الظالل.
وفي هذا السباق من يصل إلى الغروب أوالً ،الشخص أم ظلُّه؟
نتسابق ،نحن وذكرانا ،ثم نرتطم بعضنا ببعض ونختفي.
ُّ
ونحل بعد ذلك في وحل األحياء. غبارا ميتًا.
نصير ً
وح ٌل لم نشأ أن نصنعه .وال أن نكون فيه .وال أن نتركه لغيرنا .وال أن نراه.
ْ
هي ظالل ،ظالل.
إقطع الشجرة.
ِ
الرغبة
ُمسقطُ الرغبات بلغ الهدف .فال رغبة في مشي بعد ،وال في وصولM.
أليس الوصول هو التخلّي عن رغبة الوصول؟ أن تصير بال رغبة في شيء ،فقط المقعد الصغير
الذي تجلس عليه ربما ،أو الشجرة أمامك ،أو الفراغ الذي بال مقعد و ال شجر؟
أليس الوصول أن تبقى حيث أنت؟ أن يكون هدفك مكانك بالضبط ،حيث أنت هنا و اآلن؟
أن تتجاوز الرغبة ،أليس هذا هو العبور العظيم؟
الرغبات تفسد النزهات .ال يعود أصحابها يرون جماالت الطريق .تصير عيونهم في مكان آخر.
في مكان الرغبة ،التي ال تستقر في مكان .الرغبة الالمكان لها .يصيرون في الغائب ،المستلَب،
غير الموجود .يصيرون في الالمكان.
الملغي.
ّ الراغبون يقيمون في
هل يمكن بناء بيت في غياب ،وضع كرسي في عدم؟
جروحا .هل يجوز وضع مقعد في جرح؟ ً حفرا في الروح ،تصنع
الرغبات تصنع ً
دما اآلن ،لم تبلغ مستواها
حفرتْها الرغبات على مدى التاريخ ،وتسيل منا ً
إذا كانت الجروح التي َ
مطلوبا إذن صنع طوفان جديد من جروحنا أم َد ْمل الجروح؟
ً بعد وال هدفها ،أيكون
هل يجب تهشيم الروح والجسد في الممرات نحو الرغبات المستحيلة ،أم الجلوس والتمتّع بمشاهد
الطريق؟
أيجب طلب غائب أم الفرح بعدم حضوره؟
وإ ن كان لن يأتي ،ولن نصل إليه ،هل نعيش غياب انتظاره أو نعيش حضورنا في غيابه؟
خفي في الجلوس.
ثمة رقص على الدرب ال يراه الراكضون .رقص يعرفه الجالسون .ثمة رقص ّ ّ
الضاجون طرشى ضجيجهم.
ّ الساكنون يسمعون وحدهم األغنية.
أوتارا
في السكون غناء جميل .في الصمت دهشة أصوات .حين تجلس وتصمت تكون تخترع ً
جديدة.
ووالدات ،ال تصرخ حين تولد.
وميتات ،ال تأسف إذ تموت.
ورقصات ،تنتشي من سكونها.
الدروب وهي على مقاعدها.
َ ومسافات ،تقطع
ومزهريات ،تعبق من فراغها.
ّ
في السكون أرض جديدة .والسماء تبزغ من العيون المغمضة.
َّ
لتستظل الشجر. خرج نقاطُ ٍ
دم كراسيها أحيانا ينشر الجرح صيفه على البيوت ،فتُ ِ
ً
أحيانا
ً أحيانا ،ييبس الدم على الباب،
ً أحيانا تَخرج نقاطٌ إلى النزهات وال تعود إلى العروق.
ً
أبدا
ودائم ا ينزل في غير مكانه :على تراب ،على حجر ،على جلد ،على قماش ،وليس ً ً يضيع،
على هدفه .فهدف الدم ،على األرجح ،ليس الخروج ،بل البقاء في مكانه.
بلوغا ،إنه ضياع.
الخروج من مكان ليس نزهة ،ليس ً
تشردنا على الدروب ،وتترك ًّ
والرغبات التي تُخرجنا من بيوتنا ال تمنحنا ظال وال نزهة .النزهات ّ
عظاما في المجاهل.
ً منا
تكن؟
هل أقول ال ترغب؟ وكيف يكون ذاك؟ أليس كمن يقول ال ْ
لكن ،أبالرغبة كون أو يولد الكون خلسةً في غيابها؟
فراغ عظيم؟
ٍ ويمتد في
ّ هل يقيم الكون في الرغبة ،أم يبدأ من النقطة التي بعدها ،من الفسحة،
أن تكون حقًا ،هو أن تسعى إلى ملء نفسك بالكون أم أن تفرغه منك؟
والهدف ،هل تبلغه إن سعيت إليه أم إذا ألغيته؟
أال تكون وصلت إذ تلغي األهداف؟
ولدت أطفاالً مشاكسين .وتركض أنت،
ْ بلغت رغبةً تلد لك رغبات .فالرغبة إن ُبلغت تكاثرت.
َ إن
تركض وال تبلغهم ،إلى أن تلفظ األنفاس.
تلهث على الدروب.
ْ اقعد .ال
ْ
تصل.
ْ إلغ الدرب،
ِ
المعرفة
هل نطمئن إذ نعرف أم نزداد قلقًا؟
أفي المعرفة أمل أم يأس؟
هل هي طريق خالص أم طريق هالك؟
افتراضا؟ وسواء كان هذا أو ذاك ،هل يقود إلى
ً يقينا أم ًّ
شكا؟ حقيقة أم ولكن أوالً ،هل نمتلك ً
الخالص؟
إنما ....أي خالص؟
كلما ازددنا معرفة ازددنا ًّ
شكا ،فكل معرفة شك.
ومن يعرف أكثر يقلق أكثر ،وييأس أكثر ،ويهلك أكثر.
لكأن الجهل
لكأن التفاؤل ليس سوى الجهل .حتى ّ
كل معرفة جديدة شك جديد ويأس جديد .حتى ّ
هو الخالص!
تتبدى عتمات ،مجاهل .والذين يدخلون
المعرفة ليست ضوء النفق .شعاعٌ ما أن يكشف عتمةً حتى ّ
والموت في عتمة.
ُ غير العتمات،
نفق معرفتهم ليس أمامهم ُ
الجاهل ال يدخل األنفاق وال يحتاج إلى ضوء .يبرئه جهله ،فيموت على مدخل النفق ،في الضوء.
ويقتل القتلة
هل الجهل هو الضوء ،والمعرفة العتمة؟ وهل بسبب المعرفة ينتحر المنتحرون َ
ويموت الذين ال يجرؤون على اإلنتحار أو القتل في الزاوية الصامتة من وحدتهم؟
وحدتهم التي جعلوا فيها زاوية للكالم ،وزاوية لوداع الكالم؟
كل معرفة جهل ،كل جهل يقين.
كل معرفة قلق ،كل جهل اطمئنان.
يوحدهما ،هو الهالك.
ما يلغي فروقهما ،ما ّ
غير أن العارف يهلك في قلق معرفته ،أما الجاهل فيهلك في اطمئنان الجهل.
االنشقاق
تدوس في طريقها َّ
كل شيء ،القافلة .تمعسه بصمت ،بعمى.
الضيق للسهو أو النوم.
ّ َسيل الجماعة جارف .قافلة الجماعة ماعسة .تسحق الفرد ومأواه
كيف يمكن إنقاذ الزهرة الداخلية في هذا الجرف؟
هذا البهاء اليتيم كيف يمكن إنقاذه؟
الطافي يحيا .الغارق يموت.
ٍ
لموجة أن تنفصل عن بحرها وتسكن وحدها على الشاطئ؟ هل لنقطة ماء منعزلة أن لكن هل
تحتقظ بلؤلؤة األعماق؟
اآلخرون ليسوا جحيمنا فحسب .اآلخرون هم َع َدمنا.
الموت هو اآلخر .الضحايا صنيع الجماعات .أما الحياة النحيلة فتكمن في العتمة العميقة ألرواح
المنعزلين.
ثمة جمال ،ينبثق من الشرود.
كان ّ
اإلنحراف
سرية جميلة ،في مقابل حضارة ُيستحال إحصاء جثثها.المنحرفون أبدعوا ِقَيمنا ،أودعونا حضارةً ّ
المنحرفون ،الذين ماتوا في المصحات أو في السجون ،هم آباؤنا الحقيقيونM.
األسوياء جرفهم النهر .غير األسوياء ظلّوا على الشاطئ.
هناك بالضبط ،على الرمل و الحصى ،مقاعدنا ،ال في النهر.
إذا خرج من الماء مقعد ،سرعان ما يسيل.
مقاعدنا على الشاطئ ،نجلس عليها ....أما الماءُّ ،
فنمد له أقدامنا.
حطبا لفظه السيل إلى الضفاف ،ورقًاِ ،خرقًا ،مزقًا ساقطة من الثوب.
صّنفوا هامشيينً ، ُ
صّنفوا للنبذ ،للرمي ،للخلع من قماش المدعوين ،للمنع من الوليمة.
ُ
صّنفوا للحرق. ُ
لكن ،ها هو العالم يختنق .إذ كيف يتنفّس العالم بال هامشه؟
المنبوذون هم رئة الحياة.
قلب الحياة ،هو الهامش.
هل نخرج من قلب العالم؟
مليئا بالدماء.
نخرج ،ما دام ً
الملوحة للبعيد ،في ال َشعر المتطاير ،في العين الالنهائية االمتداد.
نسكن في اليد ّ
النسيمي ،السابح في الهواء.
ّ حينذاك نكون في القلب .القلب األبيض،
في نقاء الفراغ.
منشق معزول ،اسمه االختالل.
ّ في قلب الحياة ِعرق للحق والخير والجمال ،عرق
العرق خفيفين ،صامتين ،لئال يتفتّق ِ
العرق ويفسد .لئال ينفتح على العروق يمشي المختلّون في ِ
وسرية.
ّ الضيقة جميلة
ّ األخرى ،الدموية .لكي تبقى الدرب
أرواحنا الصامتة الحزينة هي الجميلون في السر .الماشون في عرق االختالل.
أرواحنا الجميلة ،هي المختلّون.
نسف الكتلة الهائلة التي َّ
تكدست مع الزمن ُ وشق طريق جديدة.
ّ بات علينا تخريب هذه الطريق
واحدا للحياة.
ً ونهجا
ً واحدا
ً مفهوما
ً والعادة واستقرت في عقولنا
واجبا ابتداع عصر مغاير.
ً صار
أليس على العصور أن تتغير ،على األقل كما تتغير جلود الحيَّات؟
تاريخ بأكمله ،قاد إلى إلغاء التاريخ!
تاريخ جماعي ألغي تاريخ الفرد .وتاريخ فردي ألغى تاريخ الحياة مع الجماعة.
رؤية واحدة ،طريق مشتركة ،قطعت أرجل المنحرفين عنها ،معست المتباطئين ،اقتلعت أعين
الناظرين في مكان آخر.
ضحية خداعه.
ّ والمصب
ّ خادعا،
ً كان النبع
والمصب بالنفايات والجثث.
ّ مصب واحد لتاريخ بأكمله .بحيث امتأل النبع
ّ نبعٌ واحد و
ومصب جديدين.
ّ واجبا ابتداع نبع
ً بات
سالم للمناطق النائمة في الدماغ ،الوادعة كالفراغ ،المسحورة كالعدم.
ٌ
سالم للخاليا التي لم تستيقظ بعد .إنها خاليا السالم.
ٌ
التاريخ يشهد على أن كل خلية جديدة تستيقظ ،تبتكر طريقة موت جديدة.
هذا العقل يكاد يفني األرض.
سالم لخالياه المنحرفة ،سالم للجنون.
ٌ
تجب إعادة ابتكار األدغال
وبناء عصر آخر يضع مداميكه المنبوذون ،وتحرسه أرواح المجانين.
المنفى
منفيM.
كائن عاقل؟ صفة ناقصة .ما عادت دقيقة .اإلنسان كائن ّ
اإلنسان ٌ
صعبا تحديد موطن للناس .المنفى اتسع .األرض كلها صارت منفى.
ً بات
ما عاد هناك وطن .هذه تسمية أضحت من التراث .من الذاكرة اآلفلة .البشر يقيمون في منفى ال
في وطن.
الكل كلِّيي النفي :منفيين في الخارج ومنفيين
فردي .صار ُّّ جماعي ومنفى
ّ كان في الماضي منفى
في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات.
لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان ،أو ذاك ،هو مكاننا.
وال في الداخل إشارة إلى أن الذات ال تزال تخصُّنا.
صعبا ،بل مستحيالً على المرء تحديد ذاته ،فكيف تحديد مكانه؟
ً صار
ُّ
التحدث عن مكان؟ إذا الذات نفسها منفيَّة ،هل يمكن
مشي ال يحتفظ بأي مكان.
ٌ دفق راكض يطوي األمكنة.
سي ٌل من الخطى على بالط باردٌ .
التشعبات كلها ولذلك ال تسير.
ّ تتشعب على
تشعبات .وخطوات ّال درب .فقط ّ
تتمدد عليها .درب العودة إلى مكان أليف ،بشوق و بطء وفرح،
لم يبق لألقدام طريق تألفه وزاوية ّ
ممحوة .محتها الخطوات الراكضة وموت األلفة واستحالة العودة .محاها
َّ ما عادت ممكنة .صارت
غياب المكان.
المكان الذي غاب كمساحة ،وغاب كحضور.
حاضرا مع آخرين ،ال بينهم وال فيهم .لم يعد لديك كالم لهم ولم يعد
ً ممكنا ،بعد ،أن تكون
ً ليس
مت ال تتكلم إال مع ذاتك ولو ظننتهم يصغون .وإ ن تكلّموا ال تسمع إال
لديهم كالم لك .إذا تكلّ َ
صوتك ولو اعتقدوا أنك تصغي .ال تكون إال فيك ولو كنت في جمهرة .وال يكونون معك ولو
منفيا وليسوا إال منفيين.
لست إال ً
كنت بينهمَ ...
ومنفي في الداخل.
ّ منفي في الخارج
ومنفي في الناسٌّ .ٌّ منفي في المكان
ٌّ
مثلّث المنفى :منفى المكان ومنفى اآلخر ومنفى الذات.
وطنا لك؟ ُق ْل .هل ذاتك مسكن؟
هل تجد ذاتك ً
هل بينكما لغة؟ أأنتما متفاهمان؟ أليفان؟ تنامان على سرير واحد؟ تترافقان على الطريق؟
إني ال أرى غير عداء وخيانة.
الذات ال تخلص لصاحبها ،الذات تخون .ال ترافقه ،تهجره ،ال تنقذه ،ترديه.
ال أرى غير ُبعد وغياب.
ال أرى رفاقًا سوى اآلفلين .ال رفاق إال الموتى.
غابت األمكنة وغاب سكانها .لم يعد ثمة مكان وال قاطنوه .صار خطأ ما تعلمناه عن مفهومي
المكان والزمان ،وعن اإلقامة واالغتراب .تغيَّر كل شيء .انقلبت الحياة واإلنسان واألشياء على
دخلت في ٍ
خلط فوضوي حتى اإللغاء .إلغاء المكان وإ لغاء الزمان وإ لغاء ْ مفاهيمها وعلى نفسها.
اآلخر وإ لغاء الذات.
كلي .دخل الكل في الغياب.
دخل الكل في منفى ّ
التزاما بالركام.
ً جماعيا ،لو لم يكن
ً وكان هذا الغياب سيكون جميالً لو لم يكن جرفًا
فردانية اختيار اإللغاء.
ّ كان جميالً لو للغائب خصوصية غيابه ،وللملغي
نصر على الحضور .للمنفى الخاص نصر على االنتماء .للغياب والمنفى نصر
فللغياب االختياري ٌ
على الجماعة واالستيعاب واالمتصاص.
رفاق إال اآلفلين ،لو ليس له رفاق
ٌ المنفي بذاته ولو ليس له
ّ نادرا .يفوز
نصرا ً
هكذا ،يكون المنفى ً
إال الموتى.
هكذا يكون للفرد حضور.
هكذا ال يكون للفرد حضور إال بغيابه!
األلم
إن أمكن تعريف التاريخ يمكن القول :إنه تاريخ األلم.
ألم الفرد وألم الجماعة .ألم االرتباط وألم االنشطار .ألم الذات من اآلخر وألمها من ذاتها .ألم
الناس وألم األرض .فاألرض ،مثلما تتألم المخلوقات منها ،تتألم هي من المخلوقات ...وعلى هذه
الجروح المتبادلة تُرصف عمارة التاريخ.
ونمت على هذا الصوت .كأنها
ْ نت
تكو ْ
منذ الفجر األول كان األلم .قامت األرض على صرختهّ .
من دونه لم تكن .كأن األرض تكونت من فاجعة ،من خطأ .كأن ما يلد ،وما ينمي ،وما يفرض
االستمرار ،هو الخطأ.
وكأن األرض ،لو كانت فرحة ،لتبددت!
أيضا.
ال عمر لغير األلم ،وقد يكون هذا ما يعنيه الخلود ً
ُّ
ويصح كذلك :خطأ الخلود. خلود الخطأ.
هل يحتاج تاريخ األلم إلى براهين؟ التاريخ َّ
قدم البراهين بنفسه ،والفلسفات واآلداب والفنون
والمسيرة كلها فعلت ذلك بجدارة .ربما يحتاج تاريخ األلم إلى شيء آخر :نقضه .ربما لمحو األلم
ينبغي محو التاريخ! أو فعل ما يمكن :وقف هذا الركض في مسيرة سمجة ،والجلوس للتفرج على
الطريق ،والضحك.
هل كان يمكن ،بجنون ما ،االنقالب على هذه المسيرة وبدء تاريخ معاكس؟ هل كان يمكن ،في
وقت مبارك ،ساعةُ ٍ
غفلة عظيمة؟ يمر في األزمان ٌ لحظة انحراف ،تغيير الدرب؟ ألم ّ
ممكنا ،في لحظة ما من التاريخ المديد ،انتصار المجانين على العقالء؟ الفوضويين Mعلى
ً ألم يكن
المنضبطين؟ الجالسين على األرصفة على محتلّي الدروب؟
ممكنا أن تكون األرض ساحة احتفال؟ أن تكون األمكنة حلبات رقص؟ أكان مستحيالً،
ً ألم يكن
حقًا ،القضاء على األلم؟
ولو حدث ذلك ،كيف ستكون األرض؟ ألن تفرح حينذاك بوجودها وترقص؟
لكن خطأ ما يحكم األرض ومخلوقاتها .خطأ كبير ،هائل ،بحيث ال تمكن مقاومته.
يجرها إلى التدافع والصراع ،إلى اقتراف خطيئة
يجر البشرية إلى أخطاءّ .
خطأ يحكم األرض و ُّ
الطموح ،إلى اإلثم واأللم.
فالطموح ليس سوى إضافة ألم وإ ثم :ألم للذات وإ ثم لآلخر .إذ على سكينة الذات تطأ خطاه وعلى
ُّ
يخض صفاء النفس ويع ّكر ماءها .يوحل الذات ،فتصير ال ماء وال اآلخر ُّ
يشق دربه .الطموح
ترابا وإ ما ماء .ألم الوحل الفاقد كينونتَْيه.
ألم الوحل الطامح إلى أن يكون إما ًترابا .تصير َ
ً
الطموح صفة الناقص .أما الممتلئ فيهدأ ويجلس.
وكل ذاهب. كل ٍ
آت يؤلمُّ ، ُّ
ما يلتصق ألم ،وما ينسلخ ألم.
النقطة التي تسقط عليك تنزل من ألمها األول ،والنقطة التي تتبخر تذهب إلى ألمها الثاني.
على جلدة الروح بقع آالم من الناس الذين التصقوا ،ومن الناس الذين انسلخوا ،ومن األشياء
واألفكار والرغبات واالنهزامات واالنتصارات.
ولكن ،من يحلم بأن يهزم اآلخر في النهاية ،الناس أم آالمهم؟
خاليا من البقع؟
من يحلم بأنه ذاهب إلى مثواه ً
أخيرا ليس الجسد النظيف وال الروح الصافية .ما سيصل هو الوشم.
ما سيصل ً
بقعة كبيرة من اآلالم واآلثام ،تُحمل وتوضع في حفرة.
وكان جميالً حقًا لو سمح الخطأ بصواب واحد :أن تلقي نظرة أخيرة على بقعتك السوداء،
وتضحك.
النسيان
ذاكرة أم حياة؟ شقاء أم نسيان؟
سؤال يقرن الموت بالذاكرة والسعادة بالنسيان ...لكن ،أليس هذا هو جواب الوجود ،الحا ّل محل
ب "الوجود"؟وه َ
"الفكر" الواهم ْ
أنا أنسى ،إذن أنا موجود!
جواب جديد ،بعد تاريخ طويل من إلغاء الوجود بالفكر والذاكرة.
سعادة النسيان:
للنسيان خفة طيران في قلب السعادة لن تكون مطلقًا للذاكرة الرازحة تحت أثقال .خفة رمي الثقل
ومحو اللطخات الستقبال الصفاء.
سعادة اللحظة ،إذ ترمي عنها ما قبلها وما بعدها .ما علق بها وأعادها إلى غيرها .فصلها عن
ذاتها .جعلها لحظةَ آخر ال لحظة ذات .شطبها.
يخدش الالحق.
يخدشها ،وال ترسل ما ّ سعادة اللحظة التي ال تستقبل من السابق ما ّ
الماقبل ثق ٌل على اآلن ،والمابعد ثقل .الماقبل والمابعد ،إذ يحالّن في اآلن ،يميتانه.
ما كان هو اآلن موت ،وما سيأتي.
الحياة هي :اآلن.
مأساة الذاكرة:
قد ال ُيفرح ُّ
التذك ُر والتذكير أن الحقد ،الثأر ،القتل ...بنات ذاكرة.
أيضا. ِّ
غير أن الذاكرة تفظع أكثر :تقتل صاحبها ً
ت حاضره. مي ُ ظل ماضيهُّ ،
ظل غيره ،قتي ُل ذاتهّ ، المتذ ّكر هو ُّ
حين نتذكر نصير الموتى.
المتذكرون هم موتى موتاهم.
شقاء ذاكرة السعادة:
ال تتذ ّك ْر غزالةً اختفت في األدغال ،ذلك لن يجعلك غير فاقد غزاالت أخرى تعبر اآلن أمامك.
وال تطارد الذي غاب ،ذلك يجعلك ذا شقاءين :شقاء الغياب وشقاء المطاردة.
اقعد في الغابة ،بال سالح ،وال تفكير في غنيمة .حينذاك ستأتي الغزالن وتأكل من يدك.
ْ
ربحت هناءك.
َ وإ ن لم تأت ،تكون على األقل
ذاكرة الرغبة:
من يرغب يصير ضحية رغبته .ومن يطلب استحضار رغبة غربت يصير ضحيتين :ضحية
الرغبة وضحية ذكراها.
الذين بال رغبات هم األحياء حقًا.
ال شيء يقتلهم وال يتركون ضحايا.
سر المتالكه ،هو :رفضه.العالم سصير لهم إذ يأنفونه .فالعالم ،الذي ال ُيملك ،له ٌّ
عاليا ،فوق ،الذين بال رغبات .ومن أجنحتهم ينزل نثار العالم. يطيرون ً
ذاكرة المكان:
وهل تكون هنا وأنت تتذكر هناك؟
جئت منه مضى ،الذي تذهب إليه لم يأت .المكان هو ،فقط ،هنا.
المكان الذي َ
لكنك ٍ
ماش .وما هو هنا يصير هناك.
إذن طريق بال مكان .إذن المكان :نسيان األمكنة.
نسيت المكان ،هل تبقى في منفى؟
َ إن صدف أن
ْ
ذاكرة التاريخ:
محشوا فينا.
ً نحن لسنا ذاتنا .نحن التاريخ
نتاج أفكار السلف ،تعاليمه ،قواعده ،قيوده ،زنزانته.
سجاننا وجالَّدنا.
التاريخ َّ
وإ ن كان لهذا الجالد حف ٌل فرح ،فنحن فيه الدمى المتحركة .إن كان هذا الملك يلعب الشطرنج،
فنحن بيادقه.
متلبسيننا.
نحن لسنا نحن .نحن هم ّ
حي فينا ونحن موتى فيه.
من مات لم يمت .إنه ٌّ
وتر عدمك.
انظر في وجهكَ .تر ذاكرته و كينونتهَ ،
فإن أردت أن ترى التاريخ ْ
اخلعه عنك ،إن أردت أن تكون.
ذاكرة اآلباء والبنين:
منذ والدتهم نبدأ بنفيهم عن ذاتهمُّ .
ندق فيهم مسامير ذاكرتنا وندرزهم بصور الموتى.
منذ والدتهم نبدأ بقتلهم.
نقتل أبناءنا مثلما آباؤنا قتلونا .نمنحهم إرث الذاكرة التي ألغتنا وستلغيهم .نفتح لهم بوابة المملكة،
باب السجن ،ونمنحهم القيد والبيدق.
نمنحهم البيت الذي يتمشى فيه األموات.
من يحب أوالده ال يورثهم صورته ،ال يهديهم ذاته ،ال يترك لهم ذاكرة.
من يحب أوالده يمنحهم النسيان.
ذاكرة الوصول:
ُّأم الشقاءات ،فكرة الوصول .إذ ال وصول ،ال نقطة ،ال مقعد ،على الطريق.
ليس المشي ما ُيتعب ،بل فكرة الهدف.
رنات خطواتك. آن تؤخذ بها ،يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال ّ
الهدف يسرق منك النزهة وال يمنحك ذاته .كلما اقتربت منه ابتعد ،كلما أطللت عليه غاب.
امح ذاكرة الوصول وتمتَّ ْع بالمشي.
ُ
وانس الدرب.
انس الهدف َ انسَ .بل َ
للنسيان خفة محو الطريق ،وتأبيد لحظة عدم السير.
أنا أف ّكر إذن أنا موجود؟
ال .أنا أنسى إذن أنا موجود.
النسيان ،هذا هو الوجود.
الصمت
لماذا أمضى نيتشه سنواته األخيرة صامتًا منعزالً؟ هل أراد أن يقول إن الصمت هو أعلى درجات
الكالم؟ التعبير األفصح عن ال جدوى التخاطب؟ أن ينفي إمكان التواصل بين الذات واآلخر؟ بين
يأسا من اللغة ذاتها ،من محموالتها ومدلوالتها وتناقضاتها
الفرد والجماعة؟ هل كان صمته ً
معا؟ أم أن الصمت هو االحتفاء الوحيد المتاح بالحياة ،والتشييعُ
ومصبها ً
ّ وخياناتها ،من نبعها
يودعها بإخالص؟
الالئق لمن يريد أن ّ
لماذا صمت نيتشه كل تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون غيرهما لماذا
وضعوا هذا َّ
الحد المرعب بين اللغة وخرسها ،بين الذات واآلخر ،بين الحياة وعدمها ،بين اإلقامة
وشطب الوجود ،هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟
والصمت
ُ حد ،أو نقيض ،بين الصمت والكالم؟ أال يكون الكالم في الغالب أخرس ولكن ،هل من ٍّ
أيضا؟ أين َّ
ضاجة ً في الغالب مطلوق اللسان؟ أليس السكوت لغة داخلية ضاجَّة والقو ُل أصواتًا
الحدود إذن؟
هباء واحد يجمع الصامتين والمتكلمين ،ما معنى أن نختار الصمت وأن نختار
إن ٌ وإ ْن ال حدودْ ،
الكالم؟ ما الفارق إن تكلَّمنا أو صمتنا؟
غير َّ
أن الصمت يخفّف الثقل؟
كلَّما نقص صوت ،أعتقد أن األرض تشعر براحة.
الذين يصمتون يرتفعون عن األرض قليالً ،ال تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة بها .الذين
يتم إال بالعزلة. يصمتون ينسحبون من جمهرة األرض كي يحتفوا بذاتهمَّ .
كأن االحتفاء بالذات ال ُّ
َّ
كأن االحتفاء بالحياة ال يكون إال بالصمت.
فردي ،بال شريك ،هذا الذي تقف فيه
ّ أال يمكن الواحد أن يحتفي بذاته مع اآلخرين؟ إنه احتفاء
وتغني .تختلي بروعتها ،بخوائها ،وتنتشي .يخرج من صمتها النشيد الجميل
الذات أمام نفسها ّ
شيئا ،ال تراوغه الكلمات ،ال يحكي وال ُيسمع.
النقي .النشيد الذي ال يقول ً
ّ السري،
ّ البدئي،
ّ النادر،
الذات تحتفي بغيابها عن اآلخر .الذات تحتفي بالغياب.
هل هو االختفاء إذن ما ُيطرب له؟ هل هو الخواء ما تقام له االحتفاالت؟
هل االحتفاء هو االختفاء؟
بصمت الشجر والحجر تطرب األرض وبصخب البشر تمرض .بالسكون تورق وتزهر
صحيحا ما تعلَّمناه .جوهر الحياة ليس الحركة بل ربما السكون .المياه
ً وبالضجيج تموت .ليس
الماء حياةً إال إذا رقد.
ُ المتخبطة الهادرة ال تقيم وال تحيي إنما تجرف وتقتل .ال ُيطلع
ّ
الحد بين الذات واآلخر ،بين الخارج والداخل ،على على الحافَّة ،على ّ
الحد ،يمكن أن نكون .على ّ
الحد الضئيل النحيل المسنون كشفرة.
العتبة .هناك قد تكون حياتنا على ّ
الممحوة .النقطة التي تكاد ال تُرى ،بين احتضار
َّ الحياة ،على األرجح ،تبدأ من النقطة الصغيرة
الصوت ووالدة الصمت .بين انتهاء الكالم وبدء السكون.
العالم المعاد
ُ تخصنا،
ُّ هناك ينتهي التناسل الخارجي ويبدأ التناسل الداخلي .تبدأ والدة الحياة التي
تركيبه ،المستحيل أن يكون في ٍ
مكان آخر.
الممحوة يولد كوننا.
َّ في النقطة
على الشفير ،حيث لحظة االنبثاق ولحظة السقوط توأم .حيث الوالدة واالحتضار واحد .حيث
جدا ،على رأس شفرة.
الوجود والعدم في نقطة نحيلة ً
ولكن ،من يقوى على الحياة هناك؟
من يستطيع أن يحيا على شفرة؟ أن ُينجي لحظة والدته من لحظة موته؟
واألرض ،هل لذلك َّ
مكدسة بالجثث؟
فلنصمت قليالً .أصواتنا أودت بنا إلى هنا ،إلى هذا الجحيم .إلى القتلى الساقطين بالكلمات،
َّ
المعذبين في زنزانات الكالم المقفلة .المشنوقين باستحالة وصولM بالخطابات ،بالشعارات .إلى
صمت وال فضاء كالم.ٍ سقف
َ الصوت .المرميين في فراغات حائرة ،حيث ال
أيضا .صحيح .لكنهم يتوحدون مع ذواتهم على خشبة االنتحار.
الصامتون منتحرون ً
لو يصمت العالم الضاجُّ ،قليالً .ماذا يحدث لو صمت العالم؟ لو اختفى ضجيج البشر لحظة؟ أما
فتوتها ،بعض صحتها؟
كانت األرض تستعيد بعض َّ
هذه األصوات تنشر األمراض.
إذا كان هناك من يريد فعالً أن ينقذ البشرية فليأمرها بالصمت.
ص واحد ،يخلّصها من الضجيج. غير مخلِّ ٍ
األرض ال تفتقد َ
المنتحرون
مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات ،فاتحو عتمة النفق ببرق عبورهم ،المنتحرون ،قديسونا.
الذين لم تسعهم الحياة ،ففتحوا فسحة في الموت.
لم يملكوا حياة ،فملكوا موتًا.
تعالَوا عن هبة ،عن ضيافة حدثت بالصدفة ،عن مائدة كانوا هم طبقها ،وصفقوا الباب وراءهم و
غادروا.
تركوا المقاعد و ثرثرات الوعود ،وذهبوا إلى صمتهم.
أذابوا ملح الروح ودفعوه إلى الشالل ،رموا خبز الخالص لألسماك ،أسكتوا الحفيف الشرس
للدماغ ،وسكنوا.
هناك خبل ما ،قالوا ،جاء بنا إلى هنا ،وخبل سيأخذنا ،فلنذهب بأنفسنا ،لنكن نحن الخبل.
وعلى أطراف عبورهم كانت تُرى فراشات سوداء ،كان ُيرى خبل البقاء.
تركوا للفَ َعلَة أن يرثوا ويورثوا ،وذهبوا إلى الخواء .الخواء الواقف في األعلى ،فوق كل إرث و
كل ُملك.
الخواء المظلم المخيف ،الذي أضاءه عبورهم وجعله صديقًا.
للمنتحرين زاوية ،مقعد يستريحون عليه ،في الفراغ.
ولهم بيت هناك ،وشجر ،وأرض ال يعرفها أحد.
لهم ُسطيحة في العدم ،ال يستطيع الجلوس عليها غير الموتى .وياسمينة عالية أمام بيتهم ،ال
شم زهرها إال إذا صاروا هواء.
يمكنهم َّ
للمنتحرين غنم َّ
ضل ،ويذهبون ليرعوه. ٌ
وهناك يحتفلون بعرسهم ،بال عروس وال عريس وال أبناء .يحتفلون باستحالة التزاوج ،بغروب
النسل ،باألرض المنقرضة.
وكلما سقط واحد منهم في الماء ولدت موجة ،وكلما هوى واحد في فضاء هبَّت نسمة .المنتحرون
ورياحا جديدة.
ً بحارا
يبتكرون ً
شيئا في العدم.
ومن الحبل إذ يتدلون ،يمألون المسافة الفارغة بين السقف والبالط .يضعون ً
والجثة حين يحملها الحاملون ،يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم .يجدون الجثة الميتة تسبق
الجسد الحي ،والماضي يمشي بعد المستقبل ،والموت يتقدم على الحياة .يجدون الحياة في الجثة ال
في الجسد.
ال ينتحر غير من طفح بالحياة .من طفحت فيه الحياة فاندلقت.
وال ينتحر غير من يعلو على الموت .من يسوده.
المنتحر يهب الموت معنى .ويدحره.
من ينتحر يترك لطختين ،واحدة على وجه الحياة وأخرى على وجه الموت .يترك آثار سيادة.
وهل هناك سيادة غير هذه؟
لكن السيادة ليست مطلب المنتحرين .المحو مطلبهم .محو سيادة الحياة وسيادة الموت .سيادة من
جاء بهم وسيادة من يذهب بهم .سيادة اآلخر وسيادة الذات.
حرية.
المحو الذي هو سيادة وجود ،فعل ّ
قديسونا ،سادة المحو ،سادة الخواء.
المنتحرون ّ
خالصا
ً وإ ذ يسلّمون روحهم للخواء ال يكونون يسلّمون حياة بل إدانة .وال جثة بل اسم قاتل .وال
بل هباء.
إذ يسلّمون أنفاسهم يسلمون الفراغ.
ق الهواء
َرتْ ُ
2006
ِ
إكمال كلمة محاول ُة لَ ْحِم أحرف ،محاول ُة
خسرت معها في
ُ ُّ
وأغشها لعلّي أربح شوطاً معها هذه التي ّإني ألعب اآلن .ألعب مع الكلمات
علي .ما بيني وبينها اليوم هو غير ما َّ
الماضي كل األشواط .ألعب معها وأضحك عليها وتضحك ّ
مجرد لعبة.
جديتها وصارت ّ كان باألمس .سقط وقارها وفقدت ّ
إن البشر سيصيرون جميعهم ألعاباً تسير بكبس أزرار .ال ُّ
أظن ّأني سأعيش إلى ذاك الوقت يقال َّ
اخترت ما قد يجعلني لعبة
ُ الذي أصير فيه لعبة كاملةّ .إني اآلن لعبة ناقصة ،نصف لعبة ،ولهذا
كاملة :الكلمات.
ستحركهم! ورحمةً على . . .ال ليس
ّ سيصير الناس ألعاباً .شيء جميل .يا لمتعة األزرار التي
رحمة على المشاعر ،فهي جعلتهم دائماً بؤساء.
محصنون ،هكذا مغلَقون على اآلخر الذي كان يسطو على أحاسيسهم ،على َّ بال مشاعر ،هكذا
تمتد إلى عروقهم وتفسد دمهم ،على الكلمات التي ما كانت تقال إالَّ لتُسقط قتلى
األيدي التي كانت ُّ
في روحهم . . .سيصيرون ألعاباً ،فيا لروعة الجماد الذي سيصيرونه!.
لن أعيش إلى ذاك الوقت ،لن أعيش تلك الروعة .ال تزال هناك ٍ
أيد وكلمات ُّ
تمتد إلى عروقي
علي أن أصافح
علي أن أخرج من هذه المعركة بأق ّل دم ممكنَّ .
وتُسقط قتلى في روحي .مع ذلك َّ
ربما أجعلها صديقة. األيدي بأيَّة حيلة ،وأن أستدرج الكلمات للَّعب وهي ترفع خنجرها َّ
علي .هكذا ّ
خرجت قتيالً.
ُ ربما أخرج من هذه المعركة غير قاتل ،ولو ربما أكسب استراحة .هكذا ّ هكذا ّ
.أيتها العمود الجميل ،السلَّم الرائع إلى مجهول رائع .تسلّقي "ألف" أريد أن ألعب ِ
معك ّ تعالي يا ِ
علي وأتسلَّق عليك ،علَّناّ ،أيتها المبتدأُّ ،
نطل على نهاية جميلة. ّ
َّ ٍ َّ
فلنكمل لعبته برقة لم يكن يملكها ،علنا نضفي على
ْ فلنلعب .البدء كان لعبة والبادئ كان العباً.
ْ
وجهها جماالً.
ِ
شريكك .ارمي لي الطابةّ ،إنها تحت وسادتك ،فنتقاذفها بهاء ملتفّاً على ذاته أنا
وتعالي يا "باء" .يا ً
إن لم يقذفه بقدميه.
مسرورين .الطابة كنزك ،وال سرور لمالك الكنز ْ
أريد أن ألعب مع األحرف .هي مثلي وحيدة وتحتاج إلى من يسلّيها.
أريد أن أكون صديق التي أسيء إليها منذ أن تعلَّم الناس النطق ،صديق التي ُو ْ
لدت لتلعب،
الجدية والصرامة والمآتم والقتل.
فجروها إلى ُّّ
مرةً واحدة
ولدت بريئة عودي إلى براءتكَّ ،
ْ فلنلعب يا كلمات يا قاتلة ناطقيها وسامعيها .يا من
كرمى للمقتولين بك .عودي بريئة يا كلمات والعبي .أنا قتيلك وأريد أن ألعب معك .أنا القتيل
وأريد أن ألعب .أريد أن ألعب.
حاولت أن
ُ وقلت لها كوني لي .لم تكن.
ُ فت
مرةً أمام لعبة توقّ ُ
مررت َّ
ُ زمان من زمان ،حين ٍ من
وفشلت أيضاً .أليس
ُ حاولت أن أجعل نسيانها ونسيان كلماتي لعبةً،
ُ يكون قولي لها لعبةً .لم يكن.
في األرض ألعاب؟ اعطوني واحدة .ماذا أقول للذي يقال ّإنه هناك ويسأل األموات ماذا فعلتم في
عشت بال لعبة؟ وإ ْن قال خلقتُكم ألعاباً لماذا لم تلعب؟! بماذا أجيب؟ اعطوني لعبة
ُ الحياة؟ أأقول له
حجج كثيرة أفحمه بها إالّ واحدة ،فاعطوني لعبة. ٌ لدي
لدقيقة واحدة ،فأنا َّ
كنت كذوباً
منيُ .دمع غائبين ،كان ذلك كذباً ّ
مرةً َ
هوذا الغيم أتى فأهالً يا صديقي .لم يكن مطرك َّ
تعال اآلن يا
يحدقون في الشفقَ .لهاث بعيدين ،وإ ّنك نظرات ضيَّعها أصحابها وهم ّ
ُ قلت ّإنك
جداًُ .
صديقي ّإنك غيم ،غيم فقط ،وهذا جميل جداً.
ابن
بأني اخترعت أكاذيب كثيرة من الكلمات .ما قلتُه وما كتبته لم يكن سوى كذبٌ . أعترف اآلن ّ
لقيطٌ لمخي ٍ
َّلة مجنونة .ما قلته وكتبته كان خيانة لبراءة الكلمات ،هذه التي أطالبها بالبراءة وأمارس
العهر معها.
قلت يثمر من
ظلمت الشجر حين ُُ وظلمت ريش الطيور ونشارة الخشب.ُ ظلمت الغيم.
ُ لقد
أعدت عظامهم إلى الحياة ،والحياةَ حين
ُ وظلمت الموتى حين
ُ والجبال إذ ألبستُها أقداماً.
َ النظرات،
أعدتُها إلى الموتى.
علي أن
لت ،وكان َّ ظننت وما ِ
أم ُ ُ ظلمت الناس واألشياء والحياة .هؤالء كانوا شيئاً آخر غير ماُ
علي أن أعرفهم كما هم ،ال كما أرغب ،وأن أحبَّهم. أعرف ذلك .كان َّ
أن اللعب ال يكون جميالً إالَّ بينبعيد وأنا أعرف اآلن َّ
تعال ّأيها الغيم أريد أن ألعب معك .أنت ٌ
بعيدين .الجمال هو البعيد ،البعيد فقط .فلنلعب أيُّها الغيم يا حيلتي الوحيدة الباقية في البعيد ،بعدما
مني كثيراً.
اقتربت األرض ّ
مني األرض فرأيت أحشاءها .رأيت دمها وبولها وبرازها .التصقت األرض بي فأغماني
اقتربت ّ
العفن.
أيُّها البعيد يا صديقي .يا صديقي أيُّها البعيد.
مثل عصفور ينقد نقدةً واحدة ويطير ،هكذا كنت أريد حياتي.
اعتقدت ّأني مقيم فيه ،ووهم كلمات
ُ وهم أرض حسبتُها ملكي ،ووهم مكان وهمْ : وكنت موقوفْ Mُ
ٍ
وجود ظننته نفسي. تخيلت ّأني أنا فاعلها ،ووهم
ُ ظننت ّأني أنا قائلها ،ووهم أفعال
ُ
فلتعد مستديرة لعلّي َّ
أتوهم بعد شيئاً جميالً في مقلبها ال أراه. ْ استطالت األرض
وكل شيء مكشوف أمامي .أريد شيئاً مختبئاً ،أريد استعادة جمال الغائب. جالس اآلن ُّ ٌ
يا مقلب األرض ُع ْد .أريد أن أمضي فيك ما بقي من وقتي.
ربما سقطت
سالم سالم على الغيم هناك .على شجر قد يكون موجوداً فيه وال أراه .على أوراق ّ
ٌ
سالم سالم على البعيد .على
منه في أرض بعيدة .على نقاطه التي نزلت على نهر وغابتٌ .
المدرسي .على اللعبة التي لم أملكها .على قلب اللوز الذي سقط من يدي فهرستْه الدواليب
ّ دفتري
سالم على الحياة.
ٌ واختفى. . .
ك يدي وألعب بأصابعها .أال تزالين يا أصابع صديقة؟ أمس ُ
بنصر سبابة . . .يا لهول ما تعلَّمناه! يا لهراء التسميات التي أفسدت طفولتنا.
ٌ خنصر
ٌ
بك ألتقيه ك ّل
أنت هناك ،ما اسمك؟ كان على األرض شبيه َ أرى اآلن جمعاً من الموتى .هايَ ،
أحب أن أسمع صوتك .كان صوتك وكنت ُّ
ُ مرةً مع ّأننا مشينا كتفاً إلى كتف
يوم .لم تكلّمني َّ
سيؤنسني وصوتي سيؤنسك في ذاك الشارع الذي كان ُّ
كل من فيه وحيداً.
ألست أمي؟! أقسم َّأن ِك ِ
أنت ،ولو َّ
ان نظراتك باردة وجوفاء ِ وأنتِ ،
أنت الوحيدة في الزاوية هناك، ِ
ّ
أمي؟!
كأنك ال تعرفيننيَ .أنسيتني يا ّ
ّ
كأن الكون عاد إلى بدئهَّ .
كأن الحياة اكتملت أخيراً. بخار فوق بخارَّ .
ٌ
أُنقّب في البخار أُنقّب في الموتى أريد أن أرى ضلعي .كان لي ضلعَّ ،
أتذكر ،فأين صار؟ كان لي
ضلع وأحبُّه ،أريد أن أراه.
اسهر معي بعد هذه الليلة.
ْ ابق معي.
يا هذياني الجميل يا إلهيَ ،
الضمادات ،ويشعلون القماش لكي نراهم.
َّ ّإني أرى الموتى .أرى الموتى واألحياء في
هو هراء ،هراء يا كلمات .فهؤالء حين ال يرون مرآتي أكون ال أراهمَّ ،
ألن األشياء صارت
ورائي ال أمامي.
ُّ
تنحل تراباً يا فحيح فلنلعب يا "حاء" يا حرباء يا حياتي .يا "حاء" يا "فاء" يا حفيف الضلوع إذ
ْ
سمي وموتي ،هذه هي سروتي ،سدرتي ،يائي. األفاعي .يا "سين" يا "ميم" يا ّ
مني .األرض اقتربت كثيراً.
لقد اقتربت األرض ّ
قلت أختزن للموت شيئاً خفيفاً طائراً علَّه يرفع معه عيني،قلت أختزنك في نظراتي ّأيها الغيمُ .
ُ
تلك التي رأت فقتلتْها رؤاها.
علي أالَّ أرى؟
كانت الرؤية قاتلة أيضاً ،هل كان ينبغي َّ
ليس العمى هو المتاهة بل الرؤية .الرؤية يا بورخيس ،الرؤية .النظرات تقودنا من متاهة إلى
متاهةُّ .
وكل نظرة تقتل ما تراه ،وتقود إلى شيء آخر تقتله نظرةٌ أخرى .األشياء ضحايا النظرات
يا بورخيس.
حياً كان فقط في المقلب اآلخر الذي ال أراه .غير
تلت كثيراً .ما بقي ّ تلت كثيراً وقُ ُ
رأيت كثيراً فَقَ ُ
ُ
انبسطت ،وصار ُّ
كل ما فيها قتيالً. ْ أن األرضَّ
مرئي لكي
ّ وأنت أيضاً لم يعد فيك شيء غير
َ ّأيها البعيد يا صديقي ،يا صديقي ّأيها البعيد،
أوأنت أيضاً يا صديقي؟
َ ُي ْحييني؟
طير اآلن وحطَّ على شجرة أمامي .إلى هنا ،إلى حديقة صغيرة معزولة صامتة طير جاء .جاء ٌ ٌ
جاء طير ،فيا للحياة الجميلة!
حي إذنّ ،إني خارج النظر ،فيا للحياة الجميلة!
إليّ ،إني ٌّحط لحظةً وطار .لم ينظر َّ جاء طير َّ
ٌ
كنت ميتاً دائماً؟
لكن حياتي كانت كلّها نظرات ،فهل ُ َّ
العين شيئاً رائعاً
َ ظننت
ُ كنت كذوباً.
دمع عيونُ ،
مطرك َ
َ هوذا الغيم أتى فأهالً يا صديقي .لم يكن
أنت أعمى ولذلك تُ ْحيي .أستعيد اآلن ُّ
وأحب اآلن عماكَ . فاخترعت لك عيوناًّ .إنك أعمى
ُ وأحبك،
ّ
علي في الشوارع .نقاطٌ كثيرة وكانت بمنديل تُمحى .وذاك المحو ،ذاك المحو
نزلت َّ
ْ نقاطك التي
على األرجح ،كان حياتي.
نحبها أن
أكرر كتابتها .على الكلمات التي ّ
أحببت هذه الجملة ولذلك ّ
ُ األشياء ضحايا النظرات.
ألنها تمنحنا
نرددها دائماً ّ
تبقى دائماً في أفواهنا وأن نعيد كتابتها مراراً على الورق .علينا أن ّ
وبأننا ال نزال نستطيع قول شيء نحبُّه .الكلمات التي
كلمات حبيبة ّ
ٌ شعوراً َّ
بأن الحياة ال تزال فيها
بأننا حقّاً موجودون. .
وبعزة القول M.الكلمات التي نحبُّها تجعلنا نشعر ّ
نحبُّها تجعلنا نشعر بالكرامة ّ
.األشياء ضحايا النظرات ،األشياء ضحايا النظرات.
أكتب فقط لكي أتسلّى .أقول الكلمات لكي أتسلّىَّ .
وألن هذه الكتابة لعبة زائفة وللرمي في القمامة،
أبدد الوقت بها .يمكنني أن أكتب ك ّل شيء
أبدد معانيها وأنا ّ
يمكنني أن أنتصر عليها .يمكنني أن ّ
بحرية ،وأن أسلخ جلد الكلمات عن عظمها ،وأنأي شيء .أن أكتب سخافاتي ّ من دون أن أقول َّ
أحرف القول وأربك المعنى ...يمكنني أخيراً أن أخرج من هذا السجن المع ّذب الرهيب الذي
ّ
قضيت فيه وقضى الجميع كلَّ
ُ هوية الجميع ،والذي
ويحدد ّ
ّ يفرض وجود معنى لك ّل شيء،
أعمارهم.
الخروج من المعنى ،هذا بالضبط ما أريده.
تسعه األرض فخرج. اليوم مات صديقي .كان شاسعاً ،لم ْ
مت اليوم يا كالماً يا صديقي. اليوم مات صديقي يا كالماًَّ .
ما أقوله اآلن َر ْجعُ خطاك .أقول ِظلَّك أيُّها الكالم يا صديقي .أقول غيابك .الغياب لغتي.
صديقي؟ َمن صديقي؟ هل كان لي حقّاً أصدقاء؟
مروا في حياتنا وغادرونا.
كانوا على األرجح نتاج نظرات ،هؤالء الذين ُّ
كانت دروبنا أيضاً ،ومقاعدنا ،نتاج نظرات.
الرؤية ترمي .العمى يحمينا.
كاتب في أستراليا يكتب عن
ٌ صديق
ٌ والكل ميت أو سيموتِ ،ل َم التوقّف هنا؟ لي
ُّ َّ
لكن كثيرين ماتوا
الحمير؛ عن األموات منها وعن األحياء .أحببتُهُّ .
فكل الكتَّاب يكتبون عن البشر وهو يكتب عن
ألنه كتب لكني لم أسمع َّ
أن حماراً رفس واحداً ّ الحمير .الذين يكتبون عن البشر يرفسهم البشرّ ،
المعرفي ،مسالم ألن الحمير ال تقرأ ،وهذا برهان آخر على َّ
أن العمى ،العمى عنه .ذلك ،ببساطةَّ ،
ّ
وغباؤه جميل :ال يرمي وال يرفسَّ . . .
لكن الذين ال يقرأون من البشر يرفسون أيضاً ،والقارئون
يفعلون الفعل نفسه .فهل يعني هذا َّ
أن الرفس ،بسبب وبغير سبب ،هو صفة مالزمة للبشر كيفما
كانواَّ ،
وأن الدنيا تبقى بألف خير طالما فيها حمير؟
أحب الحمير؟ هل أحب البشر أم ُّ مستأجر في سيدني ومحتار :هل ُّ َ ٍ
منزل قاعد اآلن في
ت .أنا ٌ احتَْر ُ
محبتي نحو حيوان على وشك أن أحول ّ أحب البشر وأتغاضى عن رفساتهم كما كنت دائماً أم ّ أبقى ُّ
اتجهت
ْ لكن ِل َم الحيرة؟ فلطالما
فتياً ولم أعد أراه منذ ذاك الحين؟ ْ
ينقرض ،عرفتُه حين كنت ّ
محبتي نحو الغائبين والمنقرضين ،ولطالما كان المنسيُّون والمنبوذون وحدهم أصدقائيِ .ل َم الحيرة ّ
عضِ .ل َم
في ُّعض ُ وعاضها وقاضمها والواقف منتظراً حتى َي َّ ُّ رافسها
ُ واألشياء كلُّها اآلن لي سواء:
لدي ،وها أنا ال أريد سوى فقط أن أنساها كلَّها ،وأمضي. الحيرة ،ك ّل األشياء تساوت َّ
عالم آخر ،هل فيه حمير؟
ولكن أمضي إلى أين؟ إلى العالم اآلخر؟ وإ ْن هناك ٌ
ْ
يتوزعون بين هؤالء وأولئك .لم أسمع أحداً يقول َّ
إن في وناس ّ
يقال فيه مالئكة وشياطين فقطٌ ،
العالم اآلخر حميراً .إلى أين تذهب الحمير إذن؟ أال يجب أن يبقى الرفاق رفاقاً في الحياة والموت
الحمير حتى ذليلة؟
َ مما في عالمنا فال يستقبل
أن في العالم اآلخر عنصرية أشرس ّ معاً ،أم َّ
فأي حمار يرغب أن يكون في عالم كذاك؟هذه عنصرية واهلل ال تُحتملُّ .
أحب أن أمضي إلى حيث تمضي الحمير. أحب أن أمضي ولكن ليس إلى هناكُّ . ُّ
مني ،والشياطين ٍ
باعتقاد ّأنها أكثر طهارة ّ ال ُّ
أحب المالئكة وال الشياطين .فالمالئكة ستستقبلني
علي .لن أذهب
مني ،وكالهما مخطئان ومع ذلك سيستأسدان َّ ٍ
باعتقاد ّأنها أكثر نجاسة ّ ستستقبلني
إلى العالم اآلخر .خذوني إلى حيث تذهب الحمير.
بحواء كي يتسلَّى .وقيل سقطا في اختبار "التفّاحة" فجيء بهما إلى
كان آدم ضجراً ،قيل ،فجيء ّ
البشري الخرف!
ِّ األرض ...يا للعقل
أرض يمكن أن يزرع؟ ٍ بور كهذا ّأيةَ
فاءتني بها يا عقالً خرفاً .عق ٌل ٌ
أريد أن ألتهم التفّاحة التهاماً ْ
المحرم ،وما نفعه؟
َّ وأي زرع هذا
ُّ
زوار هذه األرض القاحلة ،ازرعوا تفّاحاً كثيراً َو ُكلوه كلَّه .بذلك ،ربما ،قد ّ
تغيرون اسمعوني يا َّ
مبدأ األرض المؤسَّس على اليباب ،ومبدأ الخالص المؤسَّس على الجوع ،ومبدأ الفضيلة المؤسَّس
الحلمي المؤسَّس على إلغاء عالم اليقظة . . .بذلك ،ربما ،تخلقون
ّ على النسك ،ومبدأ العالم اآلخر
الحياة حقّاً.
اسمعوني و ُكلوا ،وال تسمعوا زارع التفّاح للزينة والعقاب .هذه أرضكم ال أرضه ،ازرعوها
ومن ُيبقي في أرضه بوصةً بال زرع وأكلُ ،يبقي في رأسه فجوة من الدماغ الخرف. وكلواَ .
ّأيتها األرض الجميلة أين ِ
كنت؟
استسلمت لدعاة اليباب؟
ُ ِ
أزرعك جماالً لماذا كنت أستطيع أن
حين ُ
عنك؟وضللت ِ
ُ تبعت الخرافة
ُ لماذا
وكذب ّأني اآلن أتسلَّىّ .إني أتألّم.
ٌ كذباً بكذب كان ذاك كلُّه.
ب مع األرض فهي طابة كبيرة عليه ،وإ ْن لعب مع ِ َّ
إن لَع َ
َم ْن ذا الذي يمكنه أن يتسلى؟ هذا هراءْ .
ذاته فهي صغيرة وتنزلق من بين يديه ،ولن يمسكها أبداً.
مسك وال الذات ،وال النظرات التي نرسلها لإلمساك بشيء في العالم ستعود إلينا.ال العالم ُي َ
األول ضاللنا ،والثانية
مما ينبغيَّ . ِّ ُّ
والذات أضيق ّ
ُ مما ينبغي
ضالون ومضللون .العالم أوسع ّ
ضالَّتنا.
واألرض ُمل َكه .كانا يتبادالن
ُ لك ذاته
ضال ٌل بضالل .قبل الرؤية كان اإلنسان على األرجح ُم َ
والظن .وذاك العمى ،ما كان أجمله!
ّ يظنان ذلك .وكانا أعميين في التبادل
الملك أو ّ
ُ
أميز بينها وبين جلدي.
ابتعدت وها األرض تلتصق بي أخيراً .تلتصق حتى ّأني لم أعد ّ
ُ ابتعدت
ُ
وصرت بال جلد.
ُ أخذت جلدي ولم تعطني جلدها .التصقت األرض بي
ْ
يجب أن أتكلّم .ما قلتُه وما كتبته في الماضي لم يكن كالماً .ما قلته وما كتبته كان صمتاً.
لكنه لم يكن سوى صمت .أشعر اآلن يجب أن أقول شيئاً .يجب أن أتكلّم، قلت كثيراً وكتبت كثيراً ّ ُ
ال يجوز أن أذهب من دون كالم.
ألنه أطعمني وأدفأني .يجب
أتحدث مع الغابة .أن أقول للشجر شكراً على األق ّلّ ،
علي ،ربما ،أن ّ
َّ
وعلي ،وللسماء ،والنظرة .شيئاً لإلسفلت ،للرحلة،
َّ أن أقول شيئاً للتراب ،وللغيم الذي أمطر عليه
أمي على الحبقة،للكلب الغريب .يجب أن أقول شيئاً لنقطة الماء األخيرة التي نزلت من دلو ّ
وللدرجة السفلى التي قعد عليها أبي ،وللدمى التي ابتهج بها أطفالي .يجب أن أقول شيئاً للرمل،
ظمة التي كانت تنقص العالم كي يمشي .شيئاً للجبال العالية ،وللشبكة التي
لجزيرة الجرحى ،للع ْ
رسمتُها النهيار ّأيامي لكي تصل إلى الوادي سليمة.
ولكن أين هو؟ وماذا أقول؟
ْ يجب أن أقول شيئاً ألحد.
صمت أيضاً.
ٌ إذن .كان ذاك صمتاً ،وهذا
صمت ْ
ٌ
هناك بقعة بعيدة ،بعيدةُّ ،
أحب أن أراها.
مزهوة، ٍ
ظالل والتفاتات مرة ثانية .قمر ونجوم،
َّ ُ هشت ،أريد أن أراه ّ
ود ُ مرة ُ
ألول ّ
عصفور رأيته َّ
ٌ
ٍ
قصبة مجنونة. بعيد يأتي من
وصوتٌ
ٌ
موتى في قطار ،بقايا نظرات ،وذبابة تحوم حول ذراعي.
وواحد يقول "آه"!
ٌ زر قميص ضائع، ورقة منسيَّةُّ ،
هؤالء هم ،هؤالء من أريد أن أقول لهم شيئاً.
والعشب إذ يرتبك.
ُ
أتحدث مع االرتباك. . .
أريد أن ّ
علي من غيمة.
واقف في الشارع في منتصف الليل ،ونقطة ماء نزلت َّ
ٌ
السماء ترسل إشارةً رطبة إلى مرضاها.
إلي َّ
ظانةً ّأني عينها؟ أم ّأنها نظرة أخرى ضائعة في الفضاء ،ولجأت َّ
عيني من زمان ،وال تزال نظراتي األولى تبحث عنهما وال
َّ فقدت
ُ ّإنني أعمى ،أعمى ،يا نقطة.
ٍ
لمعان قديم في ذاكرتي .فنحن الذين تحت ،يا آتية من تجدهما .ما ُّ
أظن ّأني أراه ليس سوى ترسُّب
فوق ،ال نرى غير ذكرى ،وال نسمع غير ذكرى ،وال نقول غير ذكرى .نحن يا صديقتي لسنا
نحن .نحن ذكرى أنفسناّ .إننا فقط ذكرى.
إلي ؟
رت وعادت َّ أمي َّ
تبخ ْ أم ّأنها نقطة الماء التي نزلت على حبقة ّ
لدي فقط وهمي .وهذا يصنع الخرافات،
لدي وال أ ُّم .ال عين وال نظرةَّ .
ولماذا تعود؟ فال حبقة َّ
وخنجر األحالم زهرةً جميلة في الجرح.
َ ويصنع المعجزات .يجعل الفراغ يمطر ،واليباب يثمر،
صنع األرض ،وصنع السماءّ .إنه أفق اإلنسان وعمقه ،امتداده وعلُُّوه ورجاؤه
َ وهو على األرجح
وإ يمانه .فهل يعجز صانع المعجزات هذا عن إسقاط نقطة ماء من غيمة على رجل واقف في
وهمي؟ لم يعجز ،وقد رجل وهمي في ٍ
ليل ماء وهمي على ٍالشارع؟ هل يعجز وهم عن إسقاط ٍ
ّ ّ ّ ٌ
ولست في الشارع!
ُ علي وال غيمة في السماء
وسقطت تلك النقطة َّ
ْ فعل،
هذا ،تماماً ،مثلما كنت أنسى معطفي في المقاهي ،ومع ذلك أكون أرتديه وأنا عائد إلى بيتي.
كاسر المقاييس ومحطّم
ُ فما أبهاك ّأيها الوهم! أنت الجمال الوحيد .المنتصر األوحد على البشاعة.
ومكو ُن ما ال خالق ما ال ُيخلَق ِ
والسماء رأساً على عقب. ِ
األرض رأساً على عقب، قالب
ّ ُ المبادئُ .
يكون . . .ما أبهاك ّأيها الوهم ،يا إلهي.
لكنه مات هو أيضاً.
كان وهماً جميالًّ ،
تحمل هذا؟!
أمشي اآلن بال إله .أمشي بال وهم .محاطٌ بالحقيقة من ك ّل جانب ،فمن يقوى على ُّ
وصرت أتعب من المشي حتّى في بيتي .الحقيقة التي تُتعب
ُ عجزت،
ُ شخت .ربما لذلك
ُ ربما لذلك
أرواحنا تجعلنا عاجزين ،أيضاً ،عن االنتقال من غرفة إلى غرفة.
يا "ميم" يا "شين" يا "ياء" عودي والتحمي ،فلَعلّ َي أمشي.
بالتحام األحرف تلتحم الضلوع أيضاً .فضلوع الناس ليست سوى أحرف ،تنتظر من يلحمها لكي
تصير شخصاً يمشي.
أنظر
زرعت نبتة .وستصير النبتة شجرة ُ ُ زرعت اليوم نبتة في سيدني .ضلوعٌ مف ّككة ومع ذلك
ُ
يشم رائحة أصابعي. إليها وأرحلَّ ،
لكن الهواء سيبقى ،إذ يلمسهاُّ ،
فافرح بهذا الخلود يا وديع .الخلود الذي هو ذكرى رائحة ،خيا ُل ٍيد في التراب .الخلود الذي هو
ْ
صمت ورق.ُ عبور هواء،
ُ
ولكن بالتحام األحرف تلتحم الضلوع ،فجيئوا ْ افرح بهذا الوهم الذي هو أيضاً ضلوعٌ مف ّككة.
ْ
باألحرف كي نلحمها .الحموا "الواو" و "الهاء" و "الميم" .الحموا "الخاء" و"الالم" و"الواو" و "الدال".
الحموا ضلوع الوهم وضلوع Mالخلود ،فتصير شخصين مثلنا ،يزوراننا في الليالي ،ونشرب معهما
العرق ونلعب الورق.
ثم نذهب ٍ
والحموا "الشين" و "الجيم" و "الراء" و "التاء" .السعادة هي أن ننظر إلى شجرة زرعناهاّ ،
إلى النوم.
األحرف وأ ُّ
ُعد المائدة :الوهم والخلود ضيفاي. َ ألحم
ُ
ليتقمروا .يستلقون تحت ضوء القمر ويخبرون بعضهم
في الليالي المقمرة يسعد الموتى .يخرجون َّ
حكايات .يعيدون على مسامع أنفسهم حكاياتهم األولى هناك ،حين كانوا يستلقون تحت ضوء
ليتشمسوا.
َّ الشمس
الجن والعفاريت واألشباح
ال يخرج الموتى في النهارات من مقابرهم .الضوء الساطع هو ضوء ّ
المخيفة .عالم الشمس مرعب وقاتل وهم يريدون سالماً وطمأنينة.
يخرج الموتى في الليالي ليستعيدوا حكايات لم يعد ينزف قتالها دماً وال عاد الموت يرعبهم.
مطمئنة.
ّ يستعيدون وجوههم التي سقطت برعب هناك ،وتسقط اآلن في بالهم
فت إلى موتى كثيرين .جالستُهم طويالً حين كانوا أحياء ،وجالستهم طويالً بعدما صاروا تعر ُ
َّ
سمعت لغةً غريبة من الموتى ،وال
ُ لكني
وتحدثنا كثيراًّ . . .
ّ موتى .قعدنا وشربنا وأكلنا معاً
أعرف لماذا فهمتُها أكثر مما فهمت لغة األحياء.
قلت لكم ما قاله لي الموتى .يجب أن تدخلوا في الموت مثلي ،وتجالسوا الموتى،
لن تفهموا لو ُ
لكي تفهموا.
مرةً مع العدم؟ هل تعلَّمتم لغة العدم وسمعتم ماذا يقول؟
هل جلستم ّ
لعدمي إذن أن يوصل إلى الممتلئين بالحياة كالماً مفهوماً؟ كيف يقنعهم َّ
بأن الكلمات ٍّ كيف
مخلوقات أخرى غير ما يعتقدون ،لها طبائعها وأمزجتها ومفاهيمها التي لن تخطر لهم على بال؟
شبحية متقلّبة خبيثة ومفترسة .تكون تمضغهم في الوقت الذي يعتقدون ّأنهم ينطقونها.
ّ مخلوقات
يظنون ّأنهم يحيون بها،
وتكون تُضلّلهم في الوقت الذي يعتقدون ّأنها الطريق .وتقتلهم حين ّ
ويحيون إذ يمحونها.
ٍ
ونقص ال أداة ط ٍع كيف لميت أن ُيفهم األحياء لغة الموتى؟ كيف يقنعهم مثالً َّ
بأن "الواو" أداة ق ْ
وص ٍل أال يكون مكتمالً بذاته
إن لم يكن موصوالً؟ Mوإ ذ يكون بال ْ وصل وإ ضافة؟ فهل ينقطع شيء ْ ْ
فيأتي تطلُّب الوصل لكي يجعله ناقصاً؟
وهل يقتنع األحياء َّ
بأن "الكاف" التي قيل لهم ّإنها للتشبُّه ّإنما هي لمحو الشبيه؟ إذ كيف ال ُيمحى
إن
إن كانت شبيهة سواها؟ كيف يكون هوْ ، إن ُشّبه بآخر؟ كيف تكون له خصوصية مالمح ْ وجهٌ ْ
افتراس للشبيه ال إحياء في َشَبه.
ٌ مفترس أيضاً ،فالتشبيه
ٌ حرف
ٌ كان آخر؟ "الكاف"
لن يفهم األحياء معاني الكلمات التي اعتادوا نطقها .لن يفهموها إالّ إذا اكتسبوا طبائع الموتى.
فالذين صاروا هناك فهموا اللغة كلّها ،ولن يفهمها الذين هنا إالّ إذا نسفوها كلَّها وأدركوا ّأنها لغة
موتى ال لغة أحياء.
أدركت َّ
أن لغة حياتي ُ ّإنني أدرك تماماً عجز الناطقين وعجز السامعين .فأنا كنت مثلهم ،إلى أن
هي لغة موتي.
وص ٍل وأداة تشبيه .أفهم عجز الجميع َّ
ألن ف ْ حر َ أفهم عجز الجميعَّ ،
ألن الجميع يريد أن يكون ْ
طع قدرة ،والتشبُّه اضمحالل والفرادة وجود.
عجز والق ْ
الجميع يريد أن يكون الجميع .فالوصل ٌ
ولذلك ال وجود ،وال قدرة ،إالّ لناسفي هذه اللغة .ال وجود وال قدرة إالّ لجحافل المتمردين.
. . .وهؤالء هم ،هؤالء هم القتلى ،الذين لغة حياتهم هي لغة موتهم.
اقترب ّأيها الغيم يا لهاثنا .يريد الموتى أن يضعوا فيك كائنات جديدة.
ْ
فاقترب ّأيها الغيم.
ْ يريد الموتى أن يصنعوا سماء أخرى،
تتكون النطفة من شفَّافَين .من خفيفَين
بانخطاف الدخول في الهواء واالندماج في الندى ،يولدونَّ .
ال مرئيَّين .ال يقسوان لئالّ ُيلمسا فيضيعان في ٍيد أخرى .وال ُيريان لئالّ يذوبا في نظر.
ك مهاجر.
اقترب يا غيم ،هناك مال ٌ
ْ
ٍ
لمالك مهاجر؟! فاقترب .أال مكان في الفضاء
ْ ك مهاجر يا غيم يبحث عن مكان، مال ٌ
قال لي أبي :تعلَّ ْم من الشجر ،فأنت سنديانة مقيمة . . .أريد الهواء يا أبي أريد هبوب الريح.
ألمس الشجر وأبتعد ،ألمس الوجوه وأختفي.
ُ
شارد ال رفاق لي .الشجر ُم َسلِّ َّي وليس رفيقي M.بين ٍ
قفز ٌ إقامتي الفضاء الشاسع ،إقامتي الالمكان.
وقفز أالعب أوراقه ،ليس رفيقي وال سلفي وال نسلي. ٍ
والوجوه ليست محفظتي .ليس لي محفظة يا أبي .ال أحتفظ بشيء ،ال الوجوه وال غيرها .فأنا
ٌّ
هاب وليس ورائي سوى غبار.
ثم نذهب إلى النوم.
ال ،ال ،ليست الحياة الجميلة شجرة زرعناها ،ننظر إليها ّ
الحياة الجميلة هي الهواء الذي يلمس الشجر ،ويمضي.
يت نبأً من بيروت ّأني ميت .لم أكن أعرف ّأني ميت حتى تلقَّ ُ
يت نبأ موتي وأنا في سيدني تلقَّ ُ
أجبت:
ُ ثم
فوجئت واحترتّ . . .
ُ فعرفت .اتصلوا بي وسألوني :هل أنت ميت حقّاً كما قيل لنا؟
نعم.
حياً أو
كنت ّ
ال يعرف الواحد ّأنه ميت حتى يخبره سواه .الموت خبر ،ويصير حالةً بالمعرفةُ .
عرفت ُم ُّ
ت. ُ ُّ
أظن ،وحين
إلي نبأ موتي في الرابعة فجراً .لم يكن ليالً وال نهاراً .كان وقتاً خارج العتمة وخارج
وصل َّ
وهيولي حالة.
َّ هيولي مكان
َّ هيولي وقت .وكان
َّ الضوء .لم يكن وقتاً كان
الالمرئي.
ّ رأيت جمال
ُ ورأيت روعة ما ال ُيرى.
ُ نظرت من النافذة
ُ
أيقنت جمال لمس الفراغ.
ُ وفي تحسُّس غيابي،
يخدش نظراً وال يطلب رؤية .ال يسعى إلى عين وال
الالمرئي كم هو رائع! ال ّ
ّ كم هو رائع هذا
سعي لكي تراه .ال تحتاج الرؤية إلى عين لكي تمتلئ بروعته.
العين تحتاج إلى ٍ
نظرت من النافذة .ال غيم وال شجر .أين أنت ّأيها الغيم أريد أن أ ُْو ِدع فيك آخر أنفاسيَ .نفَ ٌس
ُ
ربما يصير ربما يصير عيناً تلتقي بنظرتهاّ . ماء ذات يوم وينزل على شجرةّ . ربما يصير ًّ
كنت أريد حياتي.
عصفوراً ،ينقد نقدةً ويطير ،كما ُ
تعال يا غيم أريد أن أ ُْو ِدع فيك آخر أسراري :أنا الغراب الذي أرسله نوح ولم َي ُع ْد .الغراب الذي
َ
صار الجهة الخامسة ،ويبحثون عنها وال يجدونها.
تعلَّ ْم من الشجر ،قال أبي .أين الشجر يا أبي أين اإلقامة؟ السماء إذ تنجلي تأخذ مالمحها معها.
نقاؤها فراغها .النقاء هو الفراغ يا أبي .اإلقامة امتالء.
صي المالمح ،أريد إرباك الفراغ.
أريد غيماً محيِّراً متقلّباً ،غيماً َع َّ
أريد اختراق الفراغ وإ رباكه .جعله حائراً قلقاً كاالمتالء .أريد مساواة االمتالء بالفراغ والوجود
بالعدم.
هكذا ،على األق ّل ،يجلس الحاضرون والغائبون معاً ،ويتسامرون طوال الوقت ،إلى األبد.
هكذا ال يرغب الحاضرون في امتالء ،فيخفُّون كريش .وال يرغب الغائبون في حضور ،فيبقون
هواء.
كون جميل.
هكذا تلتقي الخفقة بنفسها ،ويولد ٌ
وألد منهما كوني؟
ولست هواء .كيف أجمع حضوري بغيابي ُ ُ الهث ضائع ،ليس لي ريشٌ راكض
ٌ
حطام
ُ وغرقت فيه .الفم الذي قال كالماً كثيراً سحقه
ْ دمها
أثقلَها ُ
الحياة التي نزفت دماً كثيراً َ
كالمه .الرئة التي لهثت كثيراً اختنقت تحت ركام لهاثها.
كيف أجعل من الغرق والحطام واالختناق كوناً؟
في البعيد خشبة ،هذا أمل الغرقى .في البعيد غيم ،هذا أملي.
ُع ْدتُ ْم؟ أهالً بكم ّأيها الموتى .هل اصطدتم شيئاً في هذه الرحلة؟ أوقدوا النار إذن ،أريد أن أشارك
في الوليمة .هل كان نائماً ،مختبئاً أم جافالً هذا اإلله الذي اصطدتموه؟ وقولواِ ،
صفوا لي مالمح
وجهه وهو ينتظر الرصاصة .هل خاف؟ هل بان الرعب عليه؟ وهل كان رعبه شبيهاً برعبكم
أمام رصاصه؟
أوقدوا النار أريد أن آكل وأشرب وأسكر معكم .أريد أن أشرب نخبكم يا صيَّادي اآللهة في
السيد ويشمخ
مجاهل العدم ،في رحلة االنقالب العظيم ،حيث يحيا القتيل ويموت القاتل ،وينحني ّ
َّ
الرعيةُ اهللَ واهللُ الرعية. العبد ،وتصير
خذوا كلوا . . .هذا هو الجسد الذي جعلكم جائعين.
الحد وسينفجر .ستكون لألرض مائدة عامرة من أجسادسينفجر البركان قريباً .وصلت النار إلى ّ
المشردون
َّ والجن ،ويجد
ّ والقديسون واآللهة ،وتُطبخ العفاريت والشياطين
ّ مشويَّة .ستُطهى المالئكة
ضعت فجأةً أمامهم.
ْ في األرض والجائعون أطباقاً ُو
للمنسيين على األرض .فالبركان اقترب انفجاره ،وسيشبع الجوعى من فحم
ّ سيكون احتفال كبير
األرض أخيراً.
مني كثيراً وأريد أن
هارب من فم األرض .األرض اقتربت ٌّ الهث ال درب لي وال وجهة.
ٌ راكض
ٌ
إن أتى بماذا
ظلمت الموتى كيف يستقبلونني؟ والغيم ْ
ُ ظلمت ريش الطيور فكيف أطير؟
ُ أبتعد.
إن تخيَّلتُه كيف أقيم فيه؟
والوهم ْ
ْ ألعب معه؟
نظرت إليها كيف تعرفني؟
ُ الهث كيف تؤويني الكلمات؟ واألشياء إذا ٌ راكض
ٌ
اخترقت
ُ ك االرتباك وهو ُمربكي؟ وإ ْن ،بالوهم،ثت إليه؟ وكيف أُرب ُ
تحد ُ
إن ّ وماذا أقول لالرتباك ْ
غ وأربكتُه ،فهل يمكن حقّاً أن أساويه باالمتالء؟ الفرا َ
لقد اقتربت األرض.
مني كثيراً.
اقتربت األرض ّ
األرض اقتربت من الفراغ.
الصوت
وصاحبه يجري
ُ بودي أن أكتب رواية عن صوت ،خرج ذات يوم من فم وضاع في الفضاء، ّ
وراءه علَّه يعثر عليه.
لكن ال يموت.
إن الصوت ال يموت ،يخفت في الهواء رويداً رويداًْ ، يقال َّ
بودي لو أكتب رواية
بعض حياة هناكّ ،
ُ عن ذاك الذي ال يزال فيه
وعن هيام صاحبه
مرةً أخرى.
للقائه ّ
ذات يوم قال شيئاً غريباً
وتموج قولُه في الفضاء وضاع
َّ
وضاع هو وراءه
َ
طبقةً بعد ٍ
طبقة مرتطماً بهواء وبقايا أصوات
ممحواً وراء قوله
ّ
غير عارف أين صوته
وال عارفاً ماذا قال.
الصرخة
ثم
وهامت في الفضاء ّ
ْ ٍ
شخص وهو يموت، بودي أن أكتب رواية عن صرخة ٍ خرجت من ِفم ّ
عادت تبحث عنه
خرجت منه
ْ ٍ
صرخة تريد الرجوع إلى الفم الذي
الجاف.
ّ إلى رحمها ،نبعها
بودي أن أكتب عن صرخة تعود إلى صاحبها الميت وتعرف ماذا كان يريد أن يقول
ّ
ميت لصرخته
بودي أن أعرف ماذا يقول ٌ
ّ
وماذا تقول الصرخة للفضاء.
حيرة الذاهب
قدم وال يد وال قلب وال أحشاء .قال سأكون خفيفاً هكذا ،وراح.
ترك أعضاءه ومضى .بال َ
الريح التي لعبت ب َشعره ذات يوم تلعب اآلن بفراغه.
خفيف حتّى اإلنهاك من مشقَّة الخفَّة .تائهٌ حتّى الط ْفح بكثرة تشعُّبات الفراغ.
ٌ
ال ،ما هكذا ،قال .ما هكذا يكون الضجر الشريف
وم َّد فراغاً منه إلى الوراء ،كما كان ُّ
يمد يداً ،اللتقاط شيء َ
تجويف نظرة
َ َم َّد
ُّل صوت. َم َّد تخي َ
بعيد جداً ،األمام بعيد جداً .ال عودة ،ال وصول.
الوراء ٌ
لكنه ليس ذاهباً إلى مكان
ّ
أعضاء وال يشعر ّأنه خفيف
ً وال يذكر ّأنه ترك
لم يكن ضجراً من مكان وال مكان له كي يتركه وال مقصد كي يذهب إليه
ولم ينتبه إلى نظرة خرجت منه إلى ناحية أخرى
ٍ
صوت له خيال
َ وال
مد فراغ.
وال يقوى على ّ
العشبة
يريد أن يعود .في حائط بيته عشبة صغيرة يريد أن يعود ويراها.
شق ذاك الجدار .الجدار الذي رصف أحجاره حجراً
وروح الوصل بينهما في ّ
ُ حارسةُ الحجرين
فراغ صغير.
ٍ ونبتت في غفلة
ْ وجدت روحاً،
ْ لكنها
لصق حجر ،حريصاً على عدم ترك فراغّ .
َ
إلى ابنة ذاك الفراغ ،إلى ابنة تلك الغفلة ،يريد أن يعود.
ال يشتاق إلى بيت .ال يشتاق إلى أحد.
يريد فقط أن يعود
ليرى العشبة.
الورقة
كتب شيئاً على ورقة ،كي ال ينسى
شيء ما كان يريد أن يفعله
ٌ
وال يتذ ّكره اآلن.
كتب شيئاً بأحرف كبيرة ،ووضع الورقة حيث كان يجلس.
يريد أن يعود ويقرأها
يريد أن يفعل ذاك الشيء
أو يعرف على األق ّل
ما هو.
شيء
إلى لويزا وجبران رومانوس ،اللذين جلبا لي من لبنان قنينة َع َرق فاخر ،وأكتب اآلن وأنا
أحتسيها.
أريد أن أقول لكما شيئاً
عن العشبة التي امتزجت بالروح
عن المالك الذي وقف اليوم أمام بابي ،وشيئاً عن األرض
خرجت ،ال تزال نائمة في بيتي.
ُ التي كانت ،حين
أريد أن أخبركما كيف تولد كواكب جديدة في الروح .وكيف ،في ك ّل ارتداد نظرة ،يأتي عصفور
وينقد الكواكب
كيف الكواكب هي طعام العصافير حين ُّ
نرشها من نظراتنا ،وكيف
َم َّر ِظ ٌّل على زهرتي في الحوض.
يا لويزا وجبران
أريد أن أقول لكما شيئاً.
نسمة
بوده أن يتبع نسمة.
تمر عليه ،كان ّ
حين كانت النسائم ال تزال ُّ
وعبور سريعٌ لك ّل األمكنة
ٌ فيها شيء من الجبال والسهول والوديان،
بوده
وشيء من رائحة جسده كان ّ
لو يعرف إلى أين تذهب.
مرت عليه
نسائم كثيرة َّ
تركت بقايا صغيرة ألرواح مسافات بعيدة ْ
يد َّلوحت على ميناء ٌ
ملمح ِظ ٍّل من عروقها
ُ ص َل إليه
َو َ
ميت لغبار
ونفَ ٌس ٌ َ
يوم على ٍيد تزرع زهرة.َحطَّ ذات ٍ
مرت عليه
نسمات َّ
ٌ
نثار من لهاث أجداده
فيها على األرجح ٌ
وعلى األرجح هما معاً اآلن ،لهاثهم ولهاثه ،يتسامران في التيه
ماحيين الزمن.
مازجين معاً أقصى الغابر وأدنى الحاضرَ ،
َ
شبطين 18أيلول ،1837الساعة 12و 14دقيقة ظهراً :ماذا حدث في تلك اللحظة؟
ربما ارتفعت صرخة ،ال يعرف
صوت كأسينّ ،
ُ ربما َّ
رن ّ
لكن ما حدث في تلك اللحظة ممزوج اآلن برائحة جسده
ّ
نسيمه.
ويعرفه بالتأكيد ُ
ٍ
متماه ،هواء ممزوج في الك ّل ُّ
الكل ممزوج فيه. ٌ
ُّ
يهب من تيه إلى تيه ،من فراغ إلى فراغ
وفيه أيضاً ذات يوم ستمتزج أرواح أوالده وأحفاده
الذين رآهم والذين لم يرهم ،الذين عرفوه والذين لم يعرفوه
خليقةٌ بأسرها في نسمة
كل ما ُخلق قبل ُّ
وكل ما ُيخلق بعد ُّ
عميان خرسان طرشان في هواءٌ
من ٍ
تيه إلى تيه
من فراغ إلى فراغ.
نظرته
نظرته األخيرة ظلَّت هناك ،عالقةً على شيء ال يتذ ّكره
روح مكانها
ربما امتصَّها ُّ
ونقَ َدها، َّ
طير َ
أو حط ٌ
ولكن
ْ بوده أن يتفقّدها
ّ
الفضاء الشاسع الرهيب ،البؤبؤ البعيد أيضاً وفي ٍ
مكان آخر ،والكائن المجهول الذي قد تكون ُ
صارت ُملكه.
قديماً كان يرى أمواتاً يعودون ،ويتم ّشون أمام بيوتهم
يتلمسون أحجار الجدران ،جذوع الشجر ّ
كأنهم يسقون الزهور ،ويقتلعون Mالعشب الذي نما في غيابهم.
ومثل ّ
لو َّ
ان أحداً يراه عائداً
مكان نظرته
َ ويتلمس
ّ
أو
لو يبقى الطقس معتدالً هناك
البرد
فال ترتجف نظرته من ْ
الحر
وال تيبس من ّ
أمطرت فخفيفاً
ْ وإ ْن
لئالّ تغرق.
الجهة
يا حارس الفضاء الشاسع الجهات ،كم جهةً يمكنك أن تحرس؟
ستفلت منك بالتأكيد ريشةٌ على األق ّل
وتذهب على هواها
ستنتصر نثرةٌ عليك.
ي
السر ّ
الضيق ّ ّ الممر
ّ يا ريشتي الصغيرة دلّيني إلى
أريد أن أتبعك
ت ِ
وحارسه ،يا ريشتي التي نف َذ ْ ِ
الفضاء يا ُمربكةَ
من جهة إرباك الوهم.
نقطة
انظر ،هناك نقطة! ْ
ملياً ،في البعيد هناك ،نعم بالتأكيد ّإنها نقطة
انظر ّ ْ
أن هذه هي التي نبحث عنها وأظن َّ
ُّ
كنت سترميه في النار
الريش الذي َ
َ ِ
ارتد
ولنذهب إليها.
ْ
وتتموهان فيها
َّ تتموه فيهما
نقطةٌ بين غمامتينَّ ،
منا في ذاك اليوم
أظن ّأنها هي الصرخة التي خرجت ّ
لكني ّ
ّ
نجت منه نثرة،
القلب الذي ْ
ُ أو
بالتأكيد هي البصيص الذي عال مع دخان رمادنا
منا.
حياً ّ
حامالً شيئاً ال يزال ّ
فلنذهب إليهاّ ،إني أراها
ّإنها بالتأكيد
هناك.
الذي
الذي قتلوه ودفنوه
ألنه أكل ثمرة
ّ
العظمي
ّ ت هيكلُه
َنَب َ
وصار شجرة.
حين أراد القاعد أن يمشي
واثب من مكان إلى مكان
ٌ
بندقيةً ومحاوالً
حامالً ّ
يحول حلمه إلى طير
أن ّ
إلى فراشة ،ذبابة ،صرصار
حذاء
ً حامالً شبكةً ،صفّاقةً،
لكي يقتله.
يركض من مكان إلى مكان صافقاًُ هنا وهناك
فتنبت فراشة
ُ يقتل ذبابةً
يقتل فراشةً فينبت طير.
حلمه في الريح
قذفه ُ
كان جالساً ،فأراد مشياً
وضاع
َحِل َم المسافات
ففقد األمكنة.
أي شيء في طريقه
واثب حامالً َّ
ٌ
كي يقتل الحلم
ويستعيد المكان.
ذبابة الطريق
منسياً هناك
ّ بقي
الطريق كلَّه
َ منسي،
ٌّ ومشى ،وهو
َعَب َر المسافة كلَّها من دون أن يبرح مكانه
وتسلَّى طوال الطريق
مع ذبابة.
ُّ
يمد يداً
ُّ
يستل شعاعاً ويضعه في جيبه، مع وصول الفجر
ماذا إذا بكى الليل وطلب ضوءاً؟
ويوزعه على الفقراء؟
الفجر لكي يسرقه ّ
ُ يمر
ألم َّ
مع وصول الليل يسرق شعرةً سوداء منه
ويجره ،إذا َح َرن.
َّ ليربطها بالفجر التالي
مقعد
وفي النهار ٌ
النتظار الليل وانتظار الفجر،
ريح ُّ
يمد يده وحين تصل ٌ
ويرى كوناً بأكمله في المسافة الضئيلة
بين إصبعه والهواء.
ي
سر ّ
طير ّ
ٌ
ليس هذا اختالل نظر
تحو ُل الغبش في عينيه إلى طير.
ّإنما ُّ
كانت األرض ناساً وتراباً
فحولها إلى طيور،
َّ
أخذ من العين غبشاً
فضاء
ً ومن الوهم
واخترع طيراً
أحد على مطاردته وال
ال يقوى ٌ
على رؤيته.
المرافق الغريب
المرافق الغريب الذي ال نعرفه
اقتلع خطواتنا من أقدامنا ورماها في النهر
صارت أقدامنا في مكان
وخطواتنا في مكان آخر يتقاذفها ماء
ال نعرفه أيضاً.
َمن جاء بالمرافق إلينا َمن قال نريد رفيقاً؟
ت هكذا فجأةً من تيهَنَب َ
ٍ
سؤال قد يكون تيه الرحلة أو ِ
تيه ِ
ٍ
واحد يمشي بيننا خرج من ِفم
فقال "رفيقاً"
ويقصد عطش المسافة ،أو االستراحة.
لكن ما حدث َّ
أن الرفيق جاء َّ
رمى خطواتنا في النهر
واختفى.
النبع
حين سألوه عن الماء تحت قدميه
ق التعب
قال ّإنه َع َر ُ
فهو من زمان يبحث عن نبع
يجده إالّ
ولم ْ
في جسده.
المفتاح
أخذ مفتاحه ورماه
على الحافّة
وصار ُّ
كل الذين يريدون أن يخرجوا يضيعون
أو ينزلقون
في الهاوية.
في الحديقة في الليل
في الليل في الحديقة ُّ
يلف سيجارة
من ناحية الضوء تبدو له قصاصات التبغ في الورقة رجاالً
منحنين في الحقول
نحيلين يزرعون تبغاً.
يشعل عود ثقاب ويرى
فالّحين سيشتعلون
يطفئه ،يعيد تبغ سيجارته إلى العلبة
وينظر حواليه فال يرى أحداً
ال ناساً ال حقوالً ال تبغاً
في الحديقة
في الليل
وحده.
شخص في الرماد
ٌ
قال رأى في الرماد يداً ،فماً ،عيناً
يداً تريد أن تصافحه
فماً يطلب قبلة
وعيناً تنظر إليه.
حين كانوا يحرقون الجثّة
رآه كلَّه في الدخان:
يولد من رحم أمه ،يحبو على البالط ،يزرع زهوراً ويتم ّشى في الحديقة ،ويضيع خياله بين
العمال الراكضين في الشوارع.
َّ
رأى يده وفمه وعينه في الرماد
ورآه كلَّه في دخانه،
وحين كان الرماد جسداً
لم يكن يرى شيئاً.
نسم ُة طير غريب
النسمة التي على جناحيه ليست من هواء الفضاء
ّإنها من ٍ
طير غريب
َعَب َر ذات يوم في ذاكرته.
طير يعبر اآلن أيضاً
ٌ
يراه
سريعاً
ويختفي.
يمر
ّإنه ّ
ِ
باندفاعة غائب.
مكان الحائط
ٍ
قطعة في مكان ،فعادت وجمعت مزقوها قطعاً قطعاً ورموا َّ
كل بودي أن أكتب عن صور ٍة لميتَّ ،
ّ
نفسها صورةً كاملة.
قت نتفاً ،وعاد صاحبها من الموت كي يلحمها، بودي أن أكتب عن صور ٍة َّ
تمز ْ ّ
توزع في أمكنة كثيرة َّ
ويعود صورةَ ٍ
جسد كاملة. ُّ ٍ
َ كل نتفة منه في مكان ،تبحث عن نتفة منه ،لكي يجمع ُنتَفَهُ
يد َو ْهٍم هناَ ،و ْه َم ٍ
عين هناك ُّ
يمد َ
جسد ٍ
وهم كامل. تف أوهام ،ليجمع َ ُّ
يمد ُن َ
َجِّردوا الحائط من ك ّل الصور ،قالِّ ،
ومزقوها ،فهي ستلتحم ،وتعود كلّها إلى الحائط
نتِّفوا أسالفكم وارموهم قطعةً قطعة ،سيبقون مقيمين فيكم.
قال هذا ،ومضى يجمع نتفةً من هنا ونتفة من هناك
لح َم الصورة
معيداً ْ
وعارفاً تماماً
مكان الحائط.
َ
على حجر
ثت مع وعدت وأنا في مكانيَّ .
تحد ُ ُ ُّ
ومت عت ت ِ
وض ُ أبارحه .جْل ُ
ْ أعود أخيراً من مكان إلى ٍ
مكان لم
مجر ٍ
ات وأنا أطرش .رأيت موتى وأنا أعمى .وفي طريقي صهيل َّ
َ سمعت
ُ الغيم وأنا أخرس.
وحاولت ترتيبها.
ُ جت على منعطفات، عر َُّ
كان األعمى أعمى والرائي لم يكن موجوداً .استعار األعمى َو ْه َم الرؤية من غير الموجود،
كون من عمى الرؤية .كون ترتِّبه
وه َم رؤية األعمى ،وحاوال معاً ترتيب ٍ غير الموجود ْ
واستعار ُ
عيون وآذان من كواكب ال عيون لها وال آذان .كون يرتِّبه ويسمعه ويراه ٌ ٍ
أياد متخيَّلة .توضع فيه
عدم وجوده.
ُ
أمر عليها ،ومن
أعود أخيراً من ذاك الكون الذي لم أكن فيه وال بارحتُه .أعود من منعطفات لم َّ
كواكب لم تكن هناك ،إلى أرض ليست هنا.
لحمت ضلوعاً
ُ ذاهب وخيا ُل ٍ
عائد وخيا ُل مقيم .ومن هذه الخياالت ٍ عدت .خيا ُل
ُ كنت هناك ،وال
ال ُ
ولحمت حروفاً وجعلتُها جسدي وكلماتي . . .وها أنا أجلس اآلن كائناً كامالً تقريباً ،آكل وأشرب
ُ
كائنات صغيرة تقفز فوق أسيجة التخيُّالت.
ٌ وأتم ّشى في الحديقة ،وتحرس كينونتي
جالس اآلن في الحديقة وأرى أشجاراً وعشباً ونملة تتسلَّق جذع شجرة ٌ فرح كبير ّأني
يغمرني ٌ
جار لي .هذا يعني ّأني في حياة حقيقية:فرح ّأني أسمع اآلن صوتاً في بيت ٍ
أمامي .ويغمرني ٌ
الحياة التي فيها شجر ونمل وأصوات.
ُّل
التصورات إليها .األمكنة التي وهبتني تخي َ
ُّ تصورات خطواتها أعيد
المسافات التي أعارتني ُّ
الوهمية وأسكن مع النمل والشجر.
ّ السكن فيها أعيد إليها كراسيها وبيوتها .أعود من الكواكب
أسكن مع الصوت الذي يخرج من نافذة الجيران ،ومع رؤية الخطوات في الشارع ،والعصفور
الحقيقية!
ّ الذي يأتي ليسرق طعام كلبتي وأهتفّ :إنني في الحياة
أعيد الكراسي إلى الكواكب ،وأجلس على حجر في الحديقة.
تبارح هذا الحجر.
ْ ّإنها نهاية رحلة الوهم ،التي لم
ومن النهاية هذه ،أبدأ تعلُّم معنى أن تكون على األرض نملة تعيش معي ،أو أكون أعيش مع
أتفوه بكلمة .وأن تكون قدمي هي
نملة .وأن تكون أصوات الجيران خارجة أيضاً من فمي ولو لم َّ
التي تخطو خطى الماشين في الشوارع ،ولو إلى هاويتي.
وبقيت على جوانبها نملة وشجرة
ْM انتهت،
ْ نهايةُ رحلة ،لم تبتدئ أصالً .وأحاول بدأها ،لكنها
وعصفور ،ورج ٌل يجلس في الحديقة ،وينظر إلى نملة.
صاحبها أن يبدأ ،من نملة!
ُ رحلةٌ يحاول
غفلت عنها
ُ الحقيقية البسيطة التي
ّ حقيقية .يا لهذه الحياة
ّ حقيقي ،وجذع شجرة
ّ حقيقية ،وتسلُّ ٌ
ق ّ نملةٌ
فعلي أن أبدأ من هنا ،من النملة.
حقيقياًَّ ،
ّ حياً
طويالً! وإ ذا كان في مقدوري أن أكون ،بعدّ ،
رصف
َ وحاولت
ُ كرسياً في هواء،
ّ ووضعت
ُM مجرات ،نسوراً ال تأبه بنمل،
اخترعت أشجاراً في َّ
ُ
أحجار على غيم.
ال ،ليس هذا بيتاً للعقالء .فليس عاقالً من ال يعيش مع نملة.
قلت ّإنها
أي غيم أتى؟ فال غيم هناك وال حتّى سماء .والنظرة التي ُ الغيم أتى فأهالً يا صديقي؟ ُّ
محجري .والنافذة التي اعتقدتُها ُّ
تطل على كون َّ فراغ في
ٍ تبحث عن عين ،لم تكن سوى َح َو ِل
شق ٍ
جدار في ذاكرتي. جديد ،كانت َّ
ٍ
أحجار من الذاكرة .فقط هذه األرض العتيقة ،وأريد أن فص ُ كون جديدُّ .
كل األكوان الجديدة َر ْ ال ٌ
وأجلس عليه.
َ أعود إليها ،إلى الحجر الذي وضعه َّأو ُل إنسان،
بودي أن أكتب رواية عن موت التخيُّالت .عن الصرخة التي ال تعود إلى صاحبها ،والصوت ّ
صاحبه عنه.
ُ الذي ال يبحث
حقيقية ،ويعيش مع
ّ حقيقي ،في حديقة
ّ كرسي
ّ حقيقي ،يجلس على
ّ بودي أن أكتب فقط عن شخص ّ
حقيقيتين.
ّ شجرة ونملة
األحالم تقتل الحدائق ،وتقتل األحجار والجالسين عليها.
يتحرك أبداً من مكانه
بودي أن أكتب عن حجر ،ال َّ
ّ
وعن شخص
مطمئناً
ّ يجلس
على ذاك الحجر.
تركيب آخر لحياة وديع سعادة
2006
مر ظلُّه على كائنات جديدة
َّ
ال أسماء لها وال أشكال
لدت َّ
لكنها ُو ْ
هكذا سهواً
ٍ
نقطة غريبة في
بين الحقيقة والوهم
تركيب آخر لحياة وديع سعادة
ٌ
ٍ
بقبضة وأصابع يد
الذي كانت له ٌ
وتريد أن تلتقط َّ
كل األشياء
يد أخرى اآلن
له ٌ
مزهوةً
َّ ترفع
قبضةَ فراغها.
عين أخرى
ٌ
فقط غبار
ولم يكن يريد سوى هذه النقطة
في عينه المغمضة.
كائنات أخرى
ٌ
ض نفسه بالفراغ
رو َ
الفضاء الذي َّ
طيوره،
َ ق
خلَ َ
أشجارها
َ خلقت
ْ واألرض التي َّ
حدقت طويالً في يبابها حتى ُ
طيور فضائه
َ تؤوي
ريشاً ال ُيرى
وأجنحةً ال تحتاج إلى هواء.
لثغٌ على الحافَّة
اآلن
لثغه،
يبدأ ُ
تأتأةٌ خارج الكلمات
والغابةُ التي ينظر إليها ويريد أن يقول Mلها شيئاً
تلملم أشجارها وتنأى
األولين
عن ذكرى ناسها َّ
وحيواناتها األولى.
ويريد
أن يضع لغةً على الحافَّة ْ
أن يضع أُ ُذناً
ْ
في النقطة.
تقريباً
تقريباً
اتَّكأَ
على نسمة
هوائي وأسبل بالَهُ على ٍ
زمن َ
ّ
مديد.
تقريباً
اتَّكأَ على خيال
يحوك قمصاناً للفراغ حتّى إذا
امتألَ ال يبرد.
تقريباً على ِ
وشك
أن يقول شيئاً
على وشك أن ينظر إلى شيء.
تقريباً
على وشك أن يهجر البال والخيال
ويتّكئ
على عماه.
ذكرى هواء
الهواء َعَبرهُ
ُ
وهو
َعَب َر المقيمين فيه.
الرحلة
إليه فوراً
نقلة وال رفّ ٍة
بال ٍ
التراب والشجرة والفضاء
َ َّ
كأنه ألغى
لُ َغتُه
اللغة
اللغةُ هي نثارها
الكالم هو
ُ
ُّ
تبد ُد الصوت.
وقفت
ُ في المكان حيث
واقف في انتظار ٍ
أحد وسوطُ العبور ٌ أحد أحداً ،وحيث الجميع
في المكان الذي ال يعرف فيه ٌ
يضربه لكي يمشي
لكني أنتظر رفيقي.
وقلت سأمشيّ ،
ُ وقفت أنا أيضاً
ُ
كوكب جديد
ٌ
الصوت يراه
َ عوض أن يسمع َ
آتياً ،على ُع ّكاز ،من أماكن بعيدة
تَ ِعباً
يوزعها على آذان
على كتفه حموالت كالم يريد أن ّ
آذان ترى
وعلى دروبه ٌ
وال تسمع.
الوصول
صل قبله
الذي أخذه إلى الطريق َو َ
والذي أخذه إلى الحافَّة َّ
تأخر عنه
يمشي وحده وال يعرف
ومن رماه
َخ َذه َ
َم ْن أ َ
واجتاز الحافَّة
َ الطريق
َ اجتاز
َ
ظ َر من الطريق ونظر من الهاوية ون َ
َ
ولم َير أحداً.
يطأ على ذكرى ِظ ّل
ِظ ٌّل
يعيد حياكتَه قميصاً
يعيد حياكته حياةً
زر َو ْرد
ويضع في القميص َّ
حتّى إذا عاد رأى الحياة
يهديها وردة.
ٌّ
ظل
ينام هناك
ٍ
تراب بعيد. على
المسجى أمامي
َّ
مني
الميت المسجَّى أمامي قطعةٌ ّ
أنت قريبي
رأيتُه ذات يوم صدفةً وقالَ :
وأراه اآلن بعد غياب طويل
مسج ًى على سريري.
ّ
قال :قريبي
كنت رأيتُه قبل القول وال رأيتُه َبعده
وما ُ
َّ
لكن قوله جعلني منه
وصرت مذ ذاك
ُ
قطعةً من غائب.
قال ومشى
واستمعت ومشيت
ُ
وكانت خطواتنا مشياً في غياب
أطأُ على غيابه ويطأ على غيابي
حتى التقينا:
قطعتين
من غياب
َّ
مسجاتين على سرير.
ِم ْث َل ظنون
التراب غيماً
َ ظ َّن
َ
ويبس
َ ط
سق َ
ناس كانوا يعبرون ِ
بلهاث ٍ محتفظاً من الفضاء
في صحارى حارقة.
أيادي ُدفنت تحت التراب
َ الشجر
َ َّ
ظن
في حروب قديمة
ٍ
كلمات كان القتلى يريدون قولها وهم يحتضرون. والعشب
َ
ِ
نظرات موتى َّ
ظن العصافير
تبحث عن عيونها
واألحجار رؤوساً
َ
تبحث عن أجسادها
َّ
وظن
ما ُّ
يظنه
ظنوناً.
َمزارعُ أخرى
أ ِ
َقفل الباب أيضاً
منك وتضيع
أعضاء َ
ٌ قد تخرج
تغافلك وتخرج إلى الشارع
أعضاء لعابر مجهول،
ً وتصير
فاألعضاء تلزمها أَقفا ٌل
كي تبقى لصاحبها.
أ ِ
َقفل الباب
المجهول الذي
َ وإ الّ تصير
عبر على ٍ
غفلة أمام بيتك َ ََ
واختفى.
...واغل ِ
ق الرموش
عبورك، َّ
الظل الذي رسمه امح كذلك
ُ
ُ
الطريق رسماً لدروب
َ ظننت
َ
والمشي خطواً على رسوم،
َ
َّ
لكن الطريق لم تكن خطوات
َّ
الظل كانت
الممحو.
ّ
المجرات
ّ نوم
مال على ٍ
بال ،ونام َ
َغ َم َر أراضي بعيدة
في كواكب بعيدة
بزغت على وسادته ًّ
وغنى لها ْ
كي تغفو
غطَّى بلحافه َّ
مجرات باردة
مجرات جائعة تبكي على سريره
َّ
بحث لها عن نار
َ
بحث لها عن طعام
َ
في بهو مطبخ عتيق كان ذاكرتَه،
ات على زنده يهز لمجر ٍ
وما زال إلى اآلن ُّ
ّ
علَّها تصمت
وتنام.
َج ْمعُ نثار كلمة
ٍ
كلمات في الهواء وراح يلعب بها ،مثل بالونات أطلق
َ
انفجرت
ْ ُّ
يشدها ويرخيها ...حتى
أحرف وما عاد يعرف
ٌ أحرف بأحرف وضاعت
ٌ واختلطت
ْ
األحرف وال كيف
َ كيف يجمع
ينطق بكلمة.
الكالم َج ْمعُ ٍ
نثار ،قال في قلبه ُ
ٍ
أعضاء لمجهولين ضائعين، لَ ْح ُم
ومذ ذاك وهو يحاول
ق بالونات
رتْ َ
َّ
ممزقة
في الهواء.
أين الحديقة؟ أين البيت؟
ذاكرةُ طير
خطوطٌ أخرى
َس َع َل ومضى
وجرى سعالُه وراءه
حامالً تاريخاً من الدخان
ٍ
هواء كان يختاره تاريخاً من
هو
لحياته.
ال في التراب وال في مناقيد الطيور
الطيور من عينيه
ُ عرفتْه
اللتين ال يزال يعيش فيهما نمل،
قال سأعيد تركيب حياتي ولكن
ظ َّل نم ٌل ُّ
يدب فيها َ
جيداً حين كانت تبحث عن طعام في حديقته.
تعرفه العصافير ّ
هواء
ً نفسه
أراد أن يخرج من تراب ويش ّك َل َ
قسم منه
طار ٌ
ظ َّل في التراب
وقسم َ
ٌ
قسم عال ولم يعد يراه
ٌ
وقسم غاص ولم يعد يجده،
ٌ
وحين أراد استعادة أعضائه القديمة كانت تناثرت
وما عاد رأى نمالً في التراب
وال نمالً في عينيه
وال في مناقيد الطيور.
كان هناك
حيرة اليد
هل
إذا لمس األشياء
غادره إليها الساكنون في عروقه؟
ال يعرف
ويحار
هل يلمس شيئاً
أم يبقي يده
في الفراغ؟
حاالت اآلخر
مني
يخرج الموتى ّ
وكذا األحياء
حي ُّ َّ
الحي أنه ّ ويرتطم بعضهم ببعض وال يعود يعرف
وال الميت َّأنه ميت.
يدخ ُل الموتى بي
وكذا األحياء
ويختلط بعضهم ببعض وال أعود أعرف أحيائي من أمواتي
حي أو ميت.
وال إذا أنا ٌّ
ك
يختلط الموتى واألحياء بي وأرتب ُ
باحثاً عن مقاعد لهم
وعن صحون
وال أعرف كم عددهم وماذا يأكلون.
ضيوف كثيرون
ٌ في
َّ
من التاريخ كلّه
أكرمهم على مائدتي،
وال أعرف كيف ّ
أقدم طعاماً؟ ٍ
غائبة كيف ّ ٍ
بيد
وكيف أرى ضيوفاً ٍ
بعين غائبة
ُجلس أحداً
وكيف أ ُ
على ٍ
مكان غائب؟
ّإني في وليمة
شخص آخر على األرجحٌ الضيوف إليها
َ دعا
صرت ذاك اآلخر الذي يسبل فراغاً
ُ وعلى األرجح
ويلقّ ُم فراغاً لفراغ
يسبل شطآناً وأحجاراً وجباالً ونجوماً وناراً وظالالً
لم يرها
ولم يقعد عليها
سوى الفراغ.
أغنية الحافَّة
يغني:
طأَ على النقطة األخيرة وراح ّ
َو َ
في الفجر تطلع الشمس وفي المغيب تغيب
والسنةُ فصو ٌل أربعة
فيا للحياة الجميلة،
إن لم تكن غيوم
ضوء ْ
ٌ النهار
ُ
والليل عتمة
فيا للحياة الجميلة،
وللناس بيوت
والساكنون فيها مهما مشوا
ال يصلون إلى الباب
فيا للبيوت الجميلة.
وغنى ِ
لمزق ثوبه ض َع قدمه على الحافَّة ّ
َو َ
التي لمح فيها ذات يوم ابتسامةً للفجر
وثغراً كامالً للغروب
ولحياته التي رآها مثل حريق
َّ
شب فجأةً في نزهة.
***
ماء
ماء كثير
ٌ
يدفق في شراييني
وال مركب.
بقليل من الحطب
ُحيي اآلن ذكرى الشجر
أْ
ذكرى غابات كثيرة نبتت في ذاك الماضي Mفي رأسي
وكنت طيورهاM
ُ
َّ
وحطابهاM
والمشتعلين في مواقدها.
شجر أحاول اآلن بقليل من الحطب إحياء ذكراه
ٌ
ملون حطَّ على غصن أمامي وطارMذكرى طير َّ
استلقيت قربها Mقليالً
ُ ذكرى ُس ْحلية على صخرة ليتني
ذكرى ثمار حسبتُها أفئدةً
ٍ
وأفئدة حسبتُها ثماراً وقطفتُها
وإ لى اآلن ال أعرف ماذا أفعل
بدم تلك الغصون.
ٍ
ماض بعيد من الحطب المتبقّي من غابات
أُشعل سيجارة
وأُحاول أن أختبئ تحت دخانها
ُخبئ معي موتى Mال ُي ْحصون
وأ ّ
أحياء كي ال يموتوا
ً ُخبئ
ُخبئ موتى وأ ّ
تحت دخان سيجارة أ ّ
أُحاول أن أطرد الموت
بدخان.
بالحطب المتبقّي
بالدخان المتبقّي
ُحيي ذكرى شجر وناسأْ
تعانقوا
وصاروا Mدخاناً.
رأيت أيضاً
ُ
ورأيت ورقة
تنام
في الزاوية.
تلك المسافة
هل تتذكرون
تلك المسافة الطويلة التي مشيناها
كي نقعد على حجر؟
المسافة الطويلة كي نطرد
الذئاب التي تأكل الخراف في قلوبنا Mوكي
َ
نبقى أبرياء من دم األرض
ودم المسافة؟
تلك المسافة
تلك المسافة الطويلة نحو خروف
نحو عصفور
نحو حجر.
الخَيال أ ِ
َعد الماء إلى النبع وال تأخذ الخيل إليه وال التخيُّل وال َ
جرة مكسورة
النبع َّ
ال ماء فيها
فاذهب بال ماء وال خيل وال َخَيال.
ْ
الحكاية
َن ال أ َُّم
الحكاية أ ْ
وال قبطان وال مركب وال ِظ َّل
وال حكاية.
رفيقان
ماء َّ
وظن نفسه ً رأى وجهه في النهر
وجرى
وجرت معه ورقة يابسة.
رفيقان
واحد يسافر Mفي النظرة
ٌ
وواحد يسافر في العمى ويسأالن
لحم؟ هل الماء شجرة؟
هل الماء ٌ
رفيقان
ذائب وورقة يابسة
وجهٌ ٌ
يعلوان معاً ويهبطان معاً ويرتطمان
بصخورُّ M
تظن الورقةُ أنها شجر
ُّ
ويظن هو أنها عظامه.
كي يقول
مئات الصفحات
مئات الصفحات
كي يقول كلمة
وال يقولها.
ِّلوحوا بالحطبة
لدي حلم
َّ
كان جميالً
المروحة ال تدور
ُخ ْذها
رجاء وار ِمها في النهر
ً ُخ ْذها
هذه النقطة التي ضيَّعت طريقها
ت على كتفي. َّ
وحط ْ
ُخذها
سيفتقدها النهر
سيكون البحر ناقصاً Mمن دونها
ُخذها
مني
الشجر أَولى بها ّ
العشب أَولى
وقد يكون هناك عصفور
يبحث اآلن
عن نقطة ماء.
اإلشارة
يحن الغصن
عرفت كيف ُّ
ُ
مر من هنا
اسمهُ على الحائط كي يتذ ّكر Mالعابرون أنه َّ
َ كتب
َ
اسمهُ وذهب
َ كتب
َ
وحين عاد
حاول عبثاً أن َّ
يتذكرM
من هو هذا االسم المكتوب على الحائط.
مكان الورقة
َّ
وظن نفسه غابة قعد تحت الشجرة
في الربيع ُيزهر وفي الشتاء يرتجفM
وفي الخريف
سقطت ورقة
وقعدت مكانه
غياب
َّ
ظن نفسه هو ذاك الجالس في الحديقة
وقف ومشى إليه
َ
ومشى الجالس في الحديقة
وغاب.
يمشي يمشي
الهواء من رئتيه
والماء من عينيه
ما حاجته إلى الخارج؟
من لهاثه يأتي الهواء ومن دمعه الماء
وإ ن أراد طعاماً
في حديقة باله خضار وثمار.
مشى
عائداً
وقال
روح أيضاً
في اإلسفلت ٌ
رفع قدمه عن اإلسفلت
وبقي في مكانه.
الجهة تُحنيه ،الجهات ترفعه
يده
الصوت أرجوك
َ ِ
أخفض
أريد أن أسمع السكون ماذا يقول
ربما يقول :تعا َل
وأريد أن أتبعه.
رأيت السنونوة؟
َ هل
رأيت السنونوة ؟
َ هل
ُّ
أظنها ستعبر من هنا
ت ريش يشبهها على جسدي َنَب َ
نبتت سنونوات تريد رفيقاً
ْ
تحط على غصن حين تطير. وال ُّ
ذكرى ماء
ال ِ
ترم شيئاً في القمامة
ال ِ
ترم شيئاً في القمامة يا وديع
قد يكون ما ترميه رفيقاً يريد أن يبقى معك
ُّ
التحدث إليك قد يكون فماً يريد
ال ِ
ترم شيئاً
قد يكون ما ترميه
قلبك.
ضجيج
ضجيج ضجيج
ٌ
كأن شاحنة تتسلَّق جباالً
َّ
في قلبه.
خطوة واحدة
خطوة واحدة
واحدة فقط
كان عليه أن يمشيها بعد
كي يرى.
للدم شتاء أيضاً
ماء
ق ً َدلَ َ
ماء كثيراً
ً
وغرق في الماء.
َّ
ظن روحه قماشة
وأراد أن يغسلها.
مرةً قال
حجر
سمعتُه
نعم سمعتُه هذا الجرس ُّ
يدق في رأسي فأَوق ْفه
أريد أن أنام.
()2012
الطريق
هبَّ "الهابُّ " واصطدمت به جموع ،ولم يلتفت إليه أحد .لم يس أله أح د س ؤاالً ،ال عن المحب ة ،ال
عن الزواج ،ال عن األوالد...لم يكن المصطفى وال السيّد ،وال سفينة له وال هيكل وال تالميذ .ول و
أن الهبوب يجرف ك َّل شيء ،األسئلةَ سألوه ما كان سيجيب .لم يكن يعرف جواباً .كان يعرف فقط َّ
واألجوبة والكالم ،ويصمت.
كان طفالً في حقل حين هبَّت عليه أ َّول ريح ،وسقطت ورقة من شجرة أمامه .انتظ َر ،ع َّل ال ريح
ْ
تعود ،وتعيد الورقة إلى الشجرة.
ثم رأى الشجرة كلَّها تهوي.
ي حقل. ثم لم يعد يرى أ َّ
وما بقي للبستان ّي أن يفع ل غ ير ج ْم ع األوراق وكس ور الش جر .م ا بقي للبس تان ّي أن يفع ل غ ير
إحراق بستانه.
أن ما يسعى إليه ،هو الدخان. وتيقَّن ،حينذاكَّ ،
أن ما يراه في البعيدَّ ،
لكن ،في ذاك الدخان ورق وش جر .في ذاك ال دخان حق ول .في ذاك ال دخان ه و حين ك ان طفالً، ْ
وهو حين كبر ...إنه ،اآلن ،في ذاك الدخان.
إنه هناك ،في الدخان الذي يراه في البعيد.
ك معه أيضا ً ناسٌ هناك .فالناس ليسوا هنا وهو ليس هنا .فأين يكون وأين يكونون ْ
إن لم يكن وال ش َّ
هناك؟
ولكن ،أين الهناك؟ ْ
ً
الناس والحقول في كأسك واشربْهما .وصُبَّ نفسك أيضا واشربْها. َ صُبَّ
صُبَّ الناس والحقول ونفسك في عينيك واغمضهما ،وإال يض يع الن اس وتض يع الحق ول وتض يع
أنت.
صُبَّ الدخان.
وقلْ للسحْ لية التي ماتت قبل أن تصل إلى وكرها :ال كنز في الوكر.
أغان على الغصون ،فلع َّل األشجار تغنّي.ٍ وافرشْ شريط
رأيت أوراق ا ً تص فّق ،وغص ونا ً تطل ع من الرم اد ،وت رقص ...هن اك ،في ُ رأيت شجراً يفتح فمه. ُ
البعيد ،حيث كان يستلقي قلبي.
أريد قدما ً لهذا القلب .هذا القلب يريد أن يرقص مع الشجر.
التراب في شرايينك واختر ْع قدماً .صُبَّ ترابا ً واختر ْع شجراً ورقصاً. َ صُبَّ
فإن تر َّمد الشجر ،قد تبزغ نبتة من ترابك .قد تبزغ شجرة. صُبَّ تراباًْ .
ُّ
يحط عليها ،ويغنّي. وإن خلوتَ من شريط غناء ،قد يأتي عصفور ْ
ال َمقعد
مشى ناظراً إلى فوق ،إلى الغيم الذي يعبر ،وقال في قلبه :إنهم يعبرون أيضا ً هناك.
هناك أيضا ً فوق من يمشي ،وال مقعد له.
ولكن من هم هؤالء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق؟ ال ش َّ
ك بينهم أنفاسُ غرقى.
ُم َّد نظرةً إليهمُ ،م َّد كرسيّاً ،فلعلَّهم متعبون.
مشى خافضا ً رأسه .ال يريد أن يرى أنفاس غرقى في الفضاء .مش ى خافض ا ً رأس ه ،وانتاب ه حُبٌّ
هائل للتراب.
ً ً
ما في قلبي على األرجح هو تراب إذا وليس دما ،قال ،ومشى.
ْ
ابحث في التراب حبَّةً حبَّة ،قد تجد نفسك ،أو على األق ّل قطعةً منك.
قد تجد قطعة من أجدادك ،ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد.
ابحث في التراب قد ترى أصدقاء ،وقد تتع ًّرف إلى نا ٍ
س ال تعرفهم. ْ
انبشْ التراب الذي في قلبك ،ستجد كثيرين م دفونين هن اك ،ينتظ رون أن يص ل ِمعْول ك إليهم كي
يحيوا.
العيون أيضا ً
وناج الخروف
ِ انظرْ إلى الجبل
وم ّس ْد صوفه بنظراتك
وإن يبس العشب هناك أوصلْ شرايينك بتراب الجبل ،واطع ْمه عشبا ً من قلبك. ْ
انظرْ إلى الجبل .و ُد َّل الذئاب إلى طريق أخرى ال تمرُّ أمام خروفك
نائ ٌم وصغير
فد ْعه ينم.
كلمة أو إشارة
كي يقعد هذا الحشد الواقف في قلبي.
كيف؟
كيف للسابح أن يصل
والبحر يغرق؟
غيوم
في عيونه غيوم
ويح ّدق في األرض
علَّها تمطر.
برقَّة من يحمل طفالً
برقَّة من يحمل طفالً
يحاول أن يجعل ذراعه نسمة.
الحطب في نزهة
َ ُخذ
ض ْع يدك في يد الحطب المحروق
ْ
وخذه في نزهة
خذه إلى الغابة كي يرى أهلهْ
كي يرى أوالده الذين ُولدوا بعد رحيله
ْ
ض ْع يدك في يد الحطب المحروق وخذه إلى النهر
يريد أن يشرب.
ق على بابه
الرياح تد ُّ
ق على بابه الرياح تد ُّ
َّ
كي تسأل ربما لماذا تأخر اليوم عن الهبوب معها،
كان تقريبا ً هواء
كان تقريبا ً رياحا ً
ال مكان له غير الهبوب
وال رفيق
ال الشجر ال الحجر ال التراب
كان تقريبا ً رفيق الفضاء
الفارغ.
للطريق رئة
وعيون
ودقَّات قلب.
سفَ ٌر مع الدخان
في الرقم عشرة من شارع "لوريكيت" في سيدني
أد ّخنُ اآلن سيكارة وأقول:
فعلت عمالً رائعا ً اليوم
ُ
ُ
ونظرت إلى الدخان. أخرجت من فمي دخانا ًُ
الدخان عم ٌل جميل
وعم ٌل جميل هو النظر
وأنا لد َّ
ي كالهما ،فيا لجمال حياتي!
ُ
ظننت أن الفم موقدة مطفأة كنت مخطئا ً حين
ُ
أو فقط للكالم
وأن النظر ليس إنجازاً رائعاً.
ُ
اعتقدت أني كنت مخطئا ً حين ُ
في هذه الغرفة الضيّقة
ليس في وسعي أن أنتشر في كل الشارع بدخاني ونظراتي
ومخطئا ً كذلك
يحاولت أن أنزع ذراع َّ ُ حين
وأضع مكانهما ريشا ً
كي أصير عصفوراً
وأن أنزع بعد ذلك الريش
كي أصير نسيماً.