You are on page 1of 115

‫شرح روضة األنوار في سيرة النبي المختار‬

‫(المرحلة المكية)‬

‫سامي بن خالد الحمود‬

‫هذه المذكرة فوائد وتعليقات الشيخ سامي الحمود في شرحه لكتاب روضة األنوار في‬
‫سيرة النبي المختار للمباركفوري في جامع الصفدي بالرياض مغرب كل سبت‪.‬‬
‫‪ 1‬مقدمة الدرس ‪:‬‬
‫أما بعد ‪..‬‬
‫ثبت عن أبي حفص عمر بن الخطاب أن النبي ‪ r‬قال‪ :‬إنما األعمال بالنيات ‪ ...‬الحديث‬
‫فاللهم أصلح النية ‪ ،‬وأصلح الطوية ‪ ،‬وسدد األقوال ‪ ،‬وأخلص األعمال ‪.‬‬
‫في هذا الدرس المبارك‪ ،‬نتحدث عن رجل عظيم ‪ ،‬بحبه تمتليء القلوب ‪ ،‬ولرؤيته تشتاق‬
‫النفوس‪ ،‬وبسيرته تلين األفئدة ‪..‬‬
‫وبصرنا من العمى ‪ ،‬وأخرجنا‪H‬‬
‫رجل‪ ،‬هدانا‪ H‬اهلل به من الضاللة ‪ ،‬وعلمنا من الجهالة ‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬
‫بدعوته من الظلمات إلى النور ‪.‬‬
‫إنه الحبيب محمد ‪ .. ‬خاتم األنبياء ‪ ،‬وصفوة األولياء ‪ ،‬صاحب المقام المحمود ‪،‬‬
‫واللواء المعقود ‪ ،‬والحوض المورود ‪ .‬إمام المتقين ‪ ،‬وسيد ولد آدم أجمعين ‪.‬‬
‫ال يسلم العبد إال بالشهادة له بالرسالة‪ H‬بعد الشهادة‪ H‬هلل بالتوحيد ‪ ،‬وال يؤمن العبد‪ H‬حتى‬
‫أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ‪ ،‬اختاره اهلل وزكاه وقال‪( :‬وإنك‪ H‬لعلى‬
‫يكو َن َ‬
‫خلق عظيم) ‪.‬‬
‫إننا اليوم ‪ ،‬نتحدث عن تلك الروح الزكية التي ُملئت عظمةً وأمانةً وسمواً ‪ ..‬وعن تلك‬
‫النفس األبية‪ H‬التي ُملئت عفةً وكرامةً ونبالً ‪.‬‬
‫عرفه أعداؤه قبل أن يعرفه أحبابه ‪ ..‬كما قال أبو سفيان ‪ ..‬الذي عاداه سنوات طويلة‪،‬‬
‫قبل أن يسلم‪:‬‬
‫ِ‬
‫محمد‬ ‫لتغـلب خيل الالت خيل‬ ‫لعمرك إني يوم أحمل راية‪  ‬‬
‫فهذا أواني حين أهدى وأهتدي‬ ‫لكالمدلج الحيران أظلم ليله‪  ‬‬
‫على اهلل من طردته كل مطرد‬ ‫غير نفسي‪ H‬ودلني ‪  ‬‬ ‫ٍ‬
‫هداني هاد ُ‬
‫وما حملت من ناقة فوق ظهرها‪   ‬أبر وأوفى ذمة من محمد‬
‫ِ‬ ‫رسول ِ‬
‫ِ‬
‫اهلل ‪ ،‬فإ َننَا ال يمكن أن نُوفِّيه َ‬
‫بعض‬ ‫الحديث عن‬
‫َ‬ ‫نستلهم‬
‫ُ‬ ‫أيُّها‪ H‬األحبةُ ‪ ..‬إ َننَا حينما‬
‫شيء من سيرته‪ H‬وصفاته‪. H‬‬ ‫حقه‪ H،‬وإنَّما هي إطاللة سريعة ‪ ،‬وإشارةٌ موجزة ‪ ،‬إلى ٍ‬‫ِ‬
‫ولعلنا نبدأ الدرس بمقدمة‪ H‬عن ‪ ]1‬أهمية السيرة ‪]2‬وعن مصادرها ‪]3‬وعن طريقة الدرس‪.‬‬
‫‪ ]1‬لماذا ندرس السيرة‬
‫ب رسول اهلل ‪ ، ‬وهو بعد حب اهلل ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ ُح ّ‬
‫قال تعالى‪ " H‬النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‪ [ " H‬األحزاب‪ : H‬من اآلية‪.] H‬‬
‫ب إِلَْي ِه ِم ْن َوالِ ِد ِه‬ ‫َح ُد ُك ْم َحتَّى أَ ُكو َن أ َ‬
‫َح َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫وفي الحديث " َف َو الَّذي َن ْفسي بِيَده اَل ُي ْؤم ُن أ َ‬
‫َو َولَ ِد ِه" متفق عليه ‪.‬‬
‫واالقتداء به ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ هو أحد ركني العبادة‪ ( H‬اإلخالص والمتابعة‪ ، ) H‬قال‬
‫سنَةٌ لِّ َمن َكا َن َي ْر ُجو اللَّهَ َوالَْي ْو َم اآْل ِخ َر َوذَ َك َر‬ ‫تعالى ( لََق ْد َكا َن لَ ُكم فِي رس ِ ِ‬
‫ول اللَّه أ ْ‬
‫ُس َوةٌ َح َ‬ ‫ْ َُ‬
‫اللَّهَ َكثِيراً )[ األحزاب‪. ]21:‬‬
‫وهو أيضا الترجمة‪ H‬الحقيقية للمحبة قال اهلل تعالى ( قُ ْل إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللّهَ فَاتَّبِعُونِي‬
‫يم ) [آل عمران ‪]31 :‬‬ ‫يحبِب ُكم اللّه وي ْغ ِفر لَ ُكم ذُنُوب ُكم واللّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫ُ ْ ْ ُ ُ ََ ْ ْ َ ْ َ ُ ٌ‬
‫والمحبة على قدر المعرفة ‪ ..‬وكيف يحب المرء من يجهل أوصافه وأحواله ‪ ،‬وكيف‬
‫يقتدي المرء بمن ال يعرف شيئا عن سيرته وهديه‪. H‬‬
‫كثيرا من خلقه على محبة نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد صعد‬
‫جل وعال ً‬
‫وقد فطر اهلل ّ‬
‫نبي‬
‫فرحا بصعوده‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ( اثبت أُحد فإنما عليك ٌ‬
‫أحد فرجف الجبل ً‬
‫فحن‬
‫صنع له المنبر ّ‬ ‫وصدي ٌق وشهيدان )‪ ،‬وترك الجذع الذي كان يخطب عليه لما ُ‬
‫الجذع إليه‪ ،‬فقام عليه الصالة والسالم والتمس الجذع وضمه إليه‪،‬‬
‫ولهذا‪ H‬كان الحسن البصري رحمه اهلل إذا حدث بهذا‪ H‬الحديث يقول "يا معشر المسلمين‬
‫الخشبة تحن إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فما بال قلوبكم ال تحن إليه"‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وتعلُّ ُم السيرة النبوية عبادة فقد جاء عن علي بن الحسين رضي اهلل عنهما أنه قال‪:‬‬
‫"كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى اهلل عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن" ‪.‬‬
‫‪ -3‬السيرة النبوية حلقة من حلقات‪ H‬الدعوة إلى التوحيد ‪:‬‬
‫ـ دعوة األنبياء ـ بما فيها دعوة محمد صلى اهلل عليه وسلم ـ هي اإلسالم بمفهومه العام ‪،‬‬
‫االستسالم هلل ‪ ...‬التوحيد بكل أنواعه ‪.‬‬
‫ـ المنهج واحد ‪ ،‬والشخصيات تختلف ‪ ..‬ولهذا‪ H‬نجد في السيرة النبوية ربطا بين‬
‫األشخاص‪ H‬الذين عاصروا رسول اهلل ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ وبين من سبقوا ‪.‬‬
‫يُشبَّه أبو بكر ـ رضي اهلل عنه بمؤمن آل فرعون ـ ‪ ، ،‬وعقبة بن معيط أشقى القوم بقاتل‪H‬‬
‫ناقة صالح عليه السالم ‪ .‬وأبو جهل بفرعون ‪ ،‬وأمية بن أبي الصلت بالذي آته اهلل آياته‬
‫الز َب ْي ُر" و " لِ ُك ِّل أ َُّم ٍة‬
‫ي ُّ‬‫فانسلخ منها ‪ ...‬وقريب من هذا " إِ َّن لِ ُك ِّل نَبِ ٍّي َح َوا ِريًّا َو َح َوا ِر َّ‬
‫اح‪.‬‬ ‫ْج َّر ِ‬ ‫أ َِمين وأ َِم ِ ِ ِ‬
‫ين َهذه اأْل َُّم ‪H‬ة أَبُو عَُب ْي َدةَ بْ ُن ال َ‬
‫ٌَ ُ‬
‫ودراسة‪ H‬السيرة توضح هذا الربط بين عباد اهلل في كل زمان ومكان‪ ،‬وبين عباد الشيطان‬
‫في كل زمان ومكان ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وفي السيرة تفسير لكثير من آيات القرآن الكريم‪ ، H‬كتلك اآليات‪ H‬التي تتكلم عن‬
‫الغزوات في سورة آل عمران ‪،‬واألنفال والتوبة واألحزاب‪ H‬والفتح والحشر ‪ ، ...‬كما‬
‫أن في دراسة السيرة النبوية بيان لكثير من أسباب‪ H‬النزول ‪ .‬فهناك سور بأكملها تتكلم عن‬
‫غزوة مثل سورة األنفال التي تتكلم عن غزوة بدر ‪ ،‬وسورة التوبة التي تتكلم عن غزوة‬
‫تبوك ‪ ،‬وسورة الحشر التي تتكلم عن جالء بني النَّضير ‪ ،‬وهناك آيات كثيرة في سورة‬
‫آل عمران تتحدث عن غزوة أُحد ‪.‬‬
‫‪5‬ـ السيرة منهج حياة‪ ،‬وقدوة حسنة لألجيال ‪ ،‬تعرض نماذج طيبة طاهرة ‪ ،‬من الصحابة‬
‫والتابعين ‪ ،‬بعيداً‪ H‬عن النماذج الجاهلية أو الخيالية التي تعرض على الشاشات‪ H‬المرئية ‪ ،‬أو‬
‫في القصص المنحرفة ‪.‬‬
‫ففي السيرة نماذج حية للقادة‪ H‬العظماء ‪ ..‬وفي السيرة نماذج للتجار الناجحين المخلصين‬
‫األتقياء ‪ .‬وفي السيرة أفضل النماذج للمربِّين ‪ ..‬وفيها نماذج للدعاة المصلحين ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ فهم الواقع وربط الماضي بالحاضر ‪.‬‬
‫منهج التعامل مع األحداث‪ .. H‬كيف تعامل ‪ ‬مع العدو؟ متى شرع اهلل له الجهاد؟ ‪.‬‬
‫هؤالء الشباب المكفرون‪ H‬والمفجرون باسم‪ H‬الجهاد‪ ،‬لو فقهوا سيرته‪  H‬حقاً لعلموا بعد‬
‫هذه األعمال عن سيرته‪ H‬في السلم وفي الحرب ‪.‬‬
‫‪ -7‬السيرة فيها متعة روحية‪ ،‬وغذاء للقلوب المؤمنة‪ ،‬بخالف القلوب المريضة العاكفة‬
‫على األفالم والتمثيليات الهابطة ‪.‬‬
‫سب للحبيب ‪. ‬‬
‫‪ -8‬دراسة‪ H‬السيرة جزء مما يجب علينا تجاه ما يحدث اليوم من ِّ‬
‫هذا األمر‪ H‬ليس حدثا عابرا قامت به صحيفة سيئة األخالق ولكن ‪ ..‬األمر‪ H‬أعمق من هذا‬
‫وأبعد‪. H‬‬
‫وما حدث في الصحف األوربية هو طفح لما يُخاطب به القوم في الكنائس وغرف‬
‫البالتوك وبعض الفضائيات‪ H‬عن نبي اإلسالم ‪. ‬‬
‫القوم حاقدون يريدون ينقضون اإلسالم بتشويه صورة النبي ـ ‪. ‬‬
‫فهم يحاضرون ويؤلفون عن ( أخالق نبي اإلسالم ) ‪ ،‬يتكلمون عن زواجه بتسع من‬
‫النساء ـ وقد اجتمع عند سليمان عليه السالم سبعمائة‪ H‬من النساء وهذا في كتابهم ـ ‪،‬‬
‫وعن غزواته ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ ‪ ،‬وعن الجهاد ؛ بطريقة‪ H‬البتر للنصوص واعتماد‬
‫الضعيف والشاذ‪ H‬والمنكر من الحديث الذي يشوهون به صورته ‪. ‬‬
‫‪ ]2‬مصادر السيرة النبوية‬
‫‪ -1‬القرآن الكريم‪ :‬فقد جاء في القرآن الكريم كثير من سيرته ‪ ‬فقد‬
‫‪  ‬‬ ‫ذكر اهلل تعالى‪ H‬حال النبي ‪ ‬منذ صغره في قوله تعالى‪{ H:‬‬
‫‪ )1( }        ‬وذكر حاله‪ H‬بعد بدء‬
‫نزول الوحي‪ H‬عليه حين خاف و‪H‬ذ‪H‬ه‪H‬ب‪ H‬إ‪H‬ل‪H‬ى‪ H‬ز‪H‬و‪H‬ج‪H‬ه‪ H‬خ‪H‬د‪H‬ي‪H‬ج‪H‬ة‪ H‬ي‪H‬ق‪H‬و‪H‬ل‪ H‬ل‪H‬ه‪H‬ا‪J{ H:H‬زملوني‬
‫(‪)3‬‬
‫}‬ ‫‪ ‬‬ ‫}‪J{H)2H( J‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫دثروني‪ H،J}H‬ف‪H‬أ‪H‬ن‪H‬ز‪H‬ل‪ H‬ا‪H‬هلل‪ H‬ت‪H‬ع‪H‬ا‪H‬ل‪H‬ى‪J{ H:H‬‬
‫وذكر قصة زواجه من زينب بنت جحش ب‪H‬ع‪H‬د‪ H‬ط‪H‬ال‪H‬ق‪H‬ه‪H‬ا‪ H‬م‪H‬ن‪ H‬ز‪H‬و‪H‬ج‪H‬ه‪H‬ا‪ H‬ز‪H‬ي‪H‬د‪ H‬ب‪H‬ن‪H‬‬
‫}‪H. H)4H( J‬‬ ‫‪      ‬‬ ‫ح‪H‬ا‪H‬ر‪H‬ث‪H‬ة‪  H‬ف‪H‬ق‪H‬ا‪H‬ل‪ H‬ت‪H‬ع‪H‬ا‪H‬ل‪H‬ى‪J{ H:H‬‬
‫أ‪H‬م‪H‬ا‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬غ‪H‬ز‪H‬و‪H‬ا‪H‬ت‪ H: H‬ب‪H‬د‪H‬ر‪ H‬ف‪H‬ي‪ H‬ا‪H‬أل‪H‬ن‪H‬ف‪H‬ا‪H‬ل‪ H، H‬أ‪H‬ح‪H‬د‪ H‬ف‪H‬ي‪ H‬آ‪H‬ل‪ H‬ع‪H‬م‪H‬ر‪H‬ا‪H‬ن‪ H، H‬ا‪H‬ل‪H‬خ‪H‬ن‪H‬د‪H‬ق‪ H‬ف‪H‬ي‪H‬‬
‫ا‪H‬أل‪H‬ح‪H‬ز‪H‬ا‪H‬ب‪ H،H‬ا‪H‬ل‪H‬ح‪H‬د‪H‬ي‪H‬ب‪H‬ي‪H‬ة‪ H‬ف‪H‬ي‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ف‪H‬ت‪H‬ح‪ H. H‬وغ‪H‬ي‪H‬ر‪H‬ه‪H‬ا‪H. H‬‬

‫‪J-2‬ا‪J‬ل‪J‬س‪J‬نة‪ J‬ا‪J‬ل‪J‬ن‪J‬ب‪J‬و‪J‬ي‪J‬ة‪ J:J‬و‪H‬ق‪H‬د‪ H‬س‪H‬ب‪H‬ق‪ H‬أ‪H‬ن‪ H‬ب‪H‬ي‪H‬ن‪H‬ا‪ H‬أ‪H‬ن‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬س‪H‬ن‪H‬ة‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ن‪H‬ب‪H‬و‪H‬ي‪H‬ة‪ H‬ق‪H‬د‪ H‬ح‪H‬و‪H‬ت‪ H‬ج‪H‬ل‪H‬‬
‫ت‪H‬ف‪H‬ا‪H‬ص‪H‬ي‪H‬ل‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬س‪H‬ي‪H‬ر‪H‬ة‪ H‬م‪H‬م‪H‬ا‪ H‬ر‪H‬و‪H‬ا‪H‬ه‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ن‪H‬ب‪H‬ي‪  H‬ع‪H‬ن‪ H‬ن‪H‬ف‪H‬س‪H‬ه‪ H‬أ‪H‬و‪ H‬م‪H‬ا‪ H‬ر‪H‬و‪H‬ا‪H‬ه‪ H‬عن‪H‬ه‪ H‬أ‪H‬صح‪H‬ا‪H‬ب‪H‬ه‪ H‬ر‪H‬ضو‪H‬ا‪H‬ن‪H‬‬
‫ا‪H‬هلل‪ H‬ع‪H‬ل‪H‬ي‪H‬ه‪H‬م‪ H‬أ‪H‬ج‪H‬م‪H‬ع‪H‬ي‪H‬ن‪ H.H‬و‪H‬ق‪H‬د‪ H‬ذ‪H‬ك‪H‬ر‪H‬ن‪H‬ا‪ H‬م‪H‬ا‪ H‬ي‪H‬ت‪H‬ع‪H‬ل‪H‬ق‪ H‬ب‪H‬ث‪H‬ب‪H‬و‪H‬ت‪ H‬ه‪H‬ذ‪H‬ا‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬م‪H‬ص‪H‬د‪H‬ر‪ H،H‬و‪H‬ا‪H‬ل‪H‬م‪H‬ن‪H‬ه‪H‬ج‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ع‪H‬ل‪H‬م‪H‬ي‪H‬‬
‫ا‪H‬ل‪H‬د‪H‬ق‪H‬ي‪H‬ق‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ذ‪H‬ي‪ H‬و‪H‬ض‪H‬ع‪H‬ه‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ع‪H‬ل‪H‬م‪H‬ا‪H‬ء‪ H‬ل‪H‬د‪H‬ر‪H‬ا‪H‬س‪H‬ة‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬س‪H‬ن‪H‬ة‪ H‬و‪H‬م‪H‬ص‪H‬ا‪H‬د‪H‬ر‪H‬ه‪H‬ا‪H.H‬‬
‫‪J-3‬ا‪J‬ل‪J‬ك‪J‬ت‪J‬ب‪ J‬ا‪J‬ل‪J‬م‪J‬ؤ‪J‬ل‪J‬ف‪J‬ة‪ J‬ف‪J‬ي‪ J‬ا‪J‬ل‪J‬س‪J‬ي‪J‬رة‪ J:J‬ب‪H‬د‪H‬أ‪ H‬م‪H‬ن‪H‬ذ‪ H‬ع‪H‬ه‪H‬د‪ H‬ا‪H‬ل‪H‬ص‪H‬ح‪H‬ا‪H‬ب‪H‬ة‪ H‬ر‪H‬ضو‪H‬ا‪H‬ن‪ H‬ا‪H‬هلل‪ H‬عل‪H‬ي‪H‬ه‪H‬م‪H،H‬‬
‫بكتابة الأحاديث التي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمنه ‪ ‬مثل‬
‫بعثته ‪ ‬وبداية‪ H‬نزول الوحي عليه وما لقيه بمكة قبل الهجرة ثم هجرته إلى‬
‫المدينة‪ H،‬وهجرة بعض أصحابه إلى الحبشة قبل ذلك‪ ،‬وزيجاته ‪ ‬وغزواته‪H‬‬
‫وأسفاره‪. H‬‬
‫أما التدوين‪ H‬الشامل‪ H‬للسيرة فقد بدأ منذ عهد معاوية بن أبي سفيان ‪‬‬

‫() سورة الضحى آية‪.8 - 6 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫() سورة املزمل آية‪.5 - 1 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫() سورة املدثر آية‪.3 - 1 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫() سورة األحزاب آية‪.38 - 36 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫حيث كان عبد اهلل بن عباس يدرس تالميذه نسب النبي ‪ ‬ومغازيه‪ H‬وكان‬
‫تالميذه يدونون ذلك‪ ،‬وكذلك فعل عبد اهلل بن عمرو بن العاص‪ H‬والبراء بن‬
‫عازب ‪. ‬‬

‫وفي عصر التابعين ‪ :‬ألف عروة بن الزبير‪ ، H‬وأبان بن عثمان بن عفان ‪،‬ووهب‬
‫بن منبه‪.‬‬

‫بعد التابعين‪ : H‬تتابع التأليف في السيرة ‪.‬‬


‫وأشمل كتابين في السيرة هما‪( :‬السير والمغازي) لمحمد بن إسحاق المتوفى‬
‫سنة ( ‪ )151‬هـ‪ ،‬و(السيرة النبوية) البن هشام المتوفى سنة (‪ )213‬هـ وكال‬
‫المؤلفين قد عاصر التابعين وأخذ عنهم‪.‬‬

‫اتجاهات التأليف في السيرة ‪:‬‬

‫‪ -1‬التأليف ضمن كتب التاريخ العام‪:‬‬


‫تاريخ األمم والملوك ‪ ،‬للطبري ( محمد بن جرير الطبري ) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪310‬هـ ‪،‬‬
‫البداية والنهاية ‪ ،‬البن كثير ( إسماعيل بن عمر بن كثير ) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪774‬هـ‬

‫‪ -2‬التأليف في السيرة ‪:‬‬


‫‪ .1‬السيرة والمغازي ‪ ،‬لمحمد بن إسحاق ‪ ،‬المتوفى سنة ‪150‬هـ‬
‫‪ .2‬السيرة‪‬النبوية‪ ،‬البن هشام ( عبد الملك بن هشام ) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪218‬هـ‬
‫‪ .3‬الدرر في اختصار المغازي والسير ‪ ،‬البن عبد البر المتوفى سنة‬
‫‪463‬هـ‪‬‬
‫‪ .4‬زاد المعاد في هدي خير العباد‪ ، H‬البن القيم المتوفى سنة ‪ 751‬هـ‪‬‬
‫‪ .5‬الفصول في سيرة الرسول البن كثير المتوفى سنة ‪774‬هـ‬
‫‪ .6‬سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد‪ H،‬للصالحي محمد بن‬
‫يوسف ‪ ،‬ت‪942‬هـ‪‬‬
‫‪ .7‬مختصر سيرة الرسول‪ ، H‬لمحمد بن عبد الوهاب‬
‫‪ .8‬السيرة‪‬النبوية‪‬دروس‪‬وعبر ‪ ،‬لمصطفى السباعي‬
‫للمبارك ُفوري صفي الرحمن المباركفوري‬
‫َ‬ ‫‪ .9‬الرحيق‪H‬المختوم ‪،‬‬
‫‪ .10‬السيرة‪‬النبوية‪‬الصحيحة ‪،‬ألكرم ضياء العُ َمري‬
‫‪ .11‬السيرة‪‬النبوية‪‬كما جاءت في األحاديث الصحيحة) ‪ ،‬لمحمد‬
‫‪‬الصوياني‪H‬‬
‫‪ .12‬صحيح‪‬السيرة‪‬النبوية‪ ،‬إلبراهيم العلي‪H‬‬
‫‪ .13‬نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ‪ ،‬لمحمد الخضري‪‬‬
‫‪ .14‬هذا الحبيب محمد يا ُم ِحب ‪ ،‬ألبي‪ H‬بكر الجزائري‬
‫‪ .15‬السيرة‪‬النبوية‪‬في ضوء‪‬المصادر األصلية ‪ ،‬لمهدي رزق اهلل أحمد‬
‫‪ .16‬عرض وقائع وتحليل أحداث‪ H‬السيرة النبوية ‪ ،‬د‪ /‬علي الصاّل بي‬

‫‪ -3‬التأليف في بعض موضوعات السيرة ‪:‬‬


‫‪ -1‬كتب الدالئل ‪ :‬وأشهرها ‪:‬‬
‫دالئل النبوة ‪ ،‬للبيهقي ‪ ،‬المتوفى سنة ‪458‬هـ ‪.‬وهو أشهرها‬
‫وأفضلها ‪.‬‬
‫دالئل النبوة ‪ ،‬ألبي نعيم ‪ ،‬المتوفى سنة ‪430‬هـ‬
‫‪ -2‬كتب الشمائل النبوية ‪ :‬وأشهرها كتاب الشمائل المحمدية‬
‫للترمذي ‪.‬‬
‫‪ -3‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى ‪ ،‬للقاضي عياض‬
‫( عياض بن موسى ) ‪ ،‬المتوفى سنة ‪544‬هـ ‪.‬‬

‫‪ -4‬التأليف في فقه السيرة ودروسها‪:‬‬


‫فقه السيرة ‪ ( ،‬محمد الغزالي ) ‪ ،‬المتوفى سنة‬
‫‪1416‬هـ‬
‫فقه السيرة ‪ ( ،‬محمد بن سعيد البوطي ) ‪ ،‬من‬
‫المعاصرين ‪.‬‬
‫الرسول القائد ‪ ،‬لمحمود شيت خطاب‪.‬‬
‫وقفات تربوية مع السيرة النبوية ‪ ،‬ألحمد فريد ‪ ،‬من‬
‫المعاصرين‬
‫‪ ]3‬الكتاب المقرر وطريقة الدرس ‪:‬‬

‫الكتاب‪ :‬روضة األنوار في سيرة النبي المختار ‪، ‬‬


‫مختصر منتقى شامل للسيرة ‪.‬‬
‫كما قال المؤلف في مقدمة الكتاب آخر ص‪" :5‬كتاب‬
‫جديد في حجم متوسط أجمع فيه ما هو ثابت‬
‫ومعترف به عند أئمة هذا الفن‪ ،‬مع مراعاة مستوى‬
‫الناشئين وعامة الدارسين مجتنباً اإلجحاف‬
‫واالنحراف" ‪.‬‬
‫مزايا الكتاب‪:‬‬
‫‪ .1‬مأمون وموثوق ‪ ،‬ألن مؤلفه باحث صاحب باع‬
‫طويل في هذا الفن ‪.‬‬
‫‪ .2‬االختصار والبعد عن االستطراد‬
‫‪ .3‬الشمول ألحداث السيرة ‪.‬‬
‫‪ .4‬رتبه المؤلف على طريقة األبواب والفقرات ‪،‬‬
‫وحشد الكثير من العناوين الفرعية التي تعين على‪:‬‬
‫فهم تسلسل األحداث ‪ ،‬وتكون محطات انتقالية‬
‫لمتابعة الدرس ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫المؤلف‬
‫نسبه ‪ :‬صفي الرحمن بن عبد هللا بن محمد المباركفوري ‪ ،‬من علماء الهند ‪ ،‬نسبة إلى مباركفور في الهند ‪.‬‬

‫والدته‪ 6 :‬يونيو ‪1943‬م‬

‫جوانب من سيرة الشيخ العلمية والدعوية ‪ :‬بعد تعلمه العلم الشرعي قام بالتدريس في المدارس الدينية‬
‫في الهند‪ ،‬ثم درس في الجامعة السلفية‪ 6‬في بنارس بالهند ‪.‬‬

‫في ‪1396‬هـ أعلنت رابطة‪ 6‬العالم اإلسالم بمكة المكرمة عقد مسابقة عالمية حول السيرة النبوية الشريفة ‪،‬‬
‫فقام الشيخ بتأليف كتاب «الرحيق المختوم» وقدمه للجائزة ‪ ،‬ونال به الجائزة األولى في المسابقة ‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى الجامعة اإلسالمية بالمدينة النبوية ليعمل باحثا في مركز خدمة السنة والسيرة النبوية ‪ ،‬ثم‬
‫انتقل إلى مكتبة دار السالم بالرياض ‪ ،‬وعمل فيها مشرفاً على قسم البحث والتحقيق العلمي ‪.‬‬
‫مؤلفاته‪ :‬للشيخ أكثر من ثالثين كتاباً باللغتين العربية واألردية مؤلفات عديدة في التفسير و الحديث و‬
‫المصطلح والسيرة ‪ ،‬والدعوة ‪.‬‬

‫من أشهرها الرحيق المختوم ‪( :‬ترجم ألكثر من خمس عشرة لغة مختلفة)‬

‫وفاته‪ :‬توفي الشيخ عقب صالة الجمعة ‪10/11/1427‬هـ في مباركفور بالهند ‪ ،‬بعد معاناة مع المرض ‪ ،‬جعل‬
‫هللا ذلك كفارة له ورفعا لدرجته ‪.‬‬
‫‪ 2‬الحالة السياسية والدينية واالجتماعية‪ J‬قبل البعثة‪:‬‬
‫من عادة المؤلفين في السيرة التقديم بهذا األمر ‪..‬‬
‫لماذا؟‬
‫‪ -1‬معرفة مسرح األحداث تعين على فهم السيرة‬
‫والتغيير الذي أحدثته في العالم‪.‬‬
‫‪ -2‬ال يعرف النور من لم ير الظالم ‪،‬‬
‫كانت اإلنسانية قبل بزوغ فجر اإلسالم العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها‬

‫الدينية واالقتصادية والسياسية واالجتماعية‪ ،‬وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها‪ ،‬وسنكتفي‬

‫بذكر ‪ ]1‬الحالة السياسية ‪ ]2‬الحالة الدينية ‪ ]3‬الحالة االجتماعية‬

‫‪ ]1‬الحالة السياسية ‪:‬‬

‫دولة الروم ‪:‬‬


‫كانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا‬
‫وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره‪ ,‬ومصر‬
‫وكل إفريقيا الشمالية‪ ،‬وكانت عاصمتها‬
‫القسطنطينية‪ ،‬وكانت دولة ظالمة تمارس الظلم‬
‫والتعسف على الشعوب‪.‬‬

‫دولة الغساسنة ‪:‬‬


‫وكانت في جنوب الشام ‪ ،‬وكانت موالية للروم ‪.‬‬

‫دولة الفرس ‪:‬‬


‫حكمت فارس وخراسان والعراق وما جاورها ‪.‬‬

‫الحيرة (جزء من العراق) ‪:‬‬


‫حكمها المناذرة العرب ‪ ،‬وكانوا موالين لدولة الفرس‬
‫‪.‬‬

‫الحجاز ‪:‬‬
‫حكمتها قبائل العرب‪:‬‬
‫‪ -‬القبائل العدنانية‪ :‬قريش في مكة ‪ ،‬وثقيف في‬
‫الطائف ‪.‬‬
‫‪ -‬القبائل القحطانية‪ :‬األوس والخزرج في المدينة ‪.‬‬

‫اليمن ‪:‬‬
‫حكمتها الدولة الحميرية الثانية‪ ،‬وفي سنة ‪523‬م‬
‫واس اليهودى حملة منكرة على‬ ‫قاد ذو ُن َ‬
‫المسيحيين من أهل نجران‪ ،‬وحاول صرفهم عن‬
‫د لهم األخدود وألقاهم‬ ‫المسيحية قسرًا‪ ،‬ولما أبوا خ ّ‬
‫في النيران‪ ،‬وهذا الذي أشـار إلـيه القـرآن في‬
‫اب اأْل ُ ْ‬
‫خ ُدو ِد) ‪.‬‬ ‫ح ُ‬‫ص َ‬‫ل أَ ْ‬
‫سـورةـ الـبروج بقـوله‪ُ ( :‬ق ِت َ‬
‫وكان هذا الحادث هو السبب في نقمة النصارى ‪،‬‬
‫فحرضوا األحباش‪ ،‬وأعانوهم‪ ،‬فاحتل األحباش‬
‫اليمن بقيادة أرياط سنة ‪ 525‬م‪ ،‬ثم اغتاله أبرهة‬
‫أحد قواد جيشه ونصب نفسه حاكمًا على اليمن‬
‫موالياً للنجاشي ‪.‬‬
‫وبعد وقعة الفيل استنجد أهل اليمن بالفرس‪،‬‬
‫وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوهم عن البالد‪،‬‬
‫ونالوا االستقالل في سنة ‪ 575‬م بقيادة معديكرب‬
‫سيف بن ذى يزن الحميرى‪ ،‬ثم قتل معديكرب‬
‫وصارت اليمن مستعمرة فارسية تتعاقب عليها والة‬
‫من الفرس‪ ،‬آخرهم باذان‪ ،‬الذي اعتنق اإلسالم‬
‫سنة ‪628‬م ‪.‬‬
‫‪ ]2‬الحالة الدينية ‪:‬‬

‫األحوال الدينية في جزيرة العرب‪:‬‬


‫كان معظم العرب يدينون بدين إبرهيم عليه السالم‬
‫ي رئيس خزاعة‪ ،‬فسافر إلى‬
‫ح ٍّ‬
‫حتى جاء عمرو بن ُل َ‬
‫الشام‪ ،‬فرآهم يعبدون األوثان‪ ،‬فاستحسن ذلك ‪،‬‬
‫فقدم معه ب ُهبَل وجعله في جوف الكعبة‪ ،‬ودعا أهل‬
‫مكة إلى الشرك باهلل فأجابوه‪ ،‬ثم لم يلبث أهل‬
‫الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ ألنهم والة البيت وأهل‬
‫الحرم ‪.‬‬
‫وكانت أكبر األصنام واألوثان ثالثة ‪:‬‬
‫شلَّل على‬ ‫مناة‪ ،‬كانت ل ُه َذ ْيل وخزاعة‪ ،‬في ال ُ‬
‫م َ‬ ‫‪َ -1‬‬
‫ساحل البحر األحمر ‪.‬‬
‫‪ -2‬الالت في الطائف‪ ،‬وكانت لثقيف‪ ،‬بالطائف ‪.‬‬
‫ع َّزى بوادى نخلة ‪ ،‬وكانت لقريش وبني كنانة‬
‫‪ -3‬ال ُ‬
‫وقبائل أخرى‪.‬‬
‫ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رئى من الجن‪،‬‬
‫ً‬
‫وسواعا ويغوث‬ ‫فأخبره أن أصنام قوم نوح ـ و ً‬
‫دا‬
‫ويعوق ونسرًا ـ مدفونة بجدة‪ ،‬فأخرجها ثم دفعها‬
‫إلى القبائل في الحج‪ ،‬فانتشرت في الجزيرة ‪.‬‬
‫مة الجندل‬
‫ج َرش بد ْو َ‬
‫‪ -‬فأما ود‪ :‬فكانت لقبيلة كلب‪ ،‬ب َ‬
‫‪.‬‬
‫م ْد ِركة في أرض‬
‫‪ -‬وأما سواع‪ :‬فكانت لهذيل بن ُ‬
‫الحجاز من جهة الساحل ‪.‬‬
‫بالج ْرف عند سبأ ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬وأما يغوث‪ :‬فكانت لبني غُ طَيف‬
‫خ ْيوان من‬
‫‪ -‬وأما يعوق‪:‬فكانت لهمدان في قرية َ‬
‫أرض اليمن ‪.‬‬
‫‪ -‬وأما نسر‪:‬فكانت لحمير آلل ذي الكالع في أرض‬
‫حمير‪.‬‬

‫ثم انتشرت األصنام ودور األصنام في جزيرة العرب‪،‬‬


‫حتى صار لكل قبيلة ثم في كل بيت منها صنم ‪،‬‬
‫وبلغت األصنام في الكعبة ‪ 360‬صنماً ‪.‬‬
‫وقد تمادى الناس في غيهم هذا حتى يقول أبو‬
‫عطاردى رضي هللا عنه كما في البخاري‪ :‬كنا‬
‫رجاء ال ُ‬
‫نعبد الحجر‪ ،‬فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه‬
‫و ًة من‬
‫ج ْث َ‬
‫وأخذنا اآلخر‪ ،‬فإذا لم نجد حجرًا جمعنا ُ‬
‫تراب‪ ،‬ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه‪ ،‬ثم طفنا به‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الطرائف‪:‬‬
‫أن بني حنيفة اتخذوا إلهاً من حيس‪ ،‬فعبدوه مدة‪،‬‬
‫أكلت‬ ‫ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه‪ ،‬فقال الشاعر‪:‬‬
‫زمن التقحم والمجاعة‬ ‫حنيفة ربها‬
‫سوء العواقب‬ ‫لم يحذروا من ربهم‬
‫وال َّتباعة‬
‫‪ -‬ومثله ما جاء عن عمر أنه اتخذ إلهاً من تمر‪ ،‬فلما‬
‫جاع أكله ‪.‬‬
‫سليم صنم وله سادن‪ ،‬فجاء السادن‬‫‪ -‬وكان لبني ُ‬
‫يوماً ‪ ،‬فرأى ثعلبين يبوالن على الصنم فقال ‪:‬‬
‫لقد ذل من بالت عليه‬ ‫الثعلبان برأسه‬
‫ِ‬ ‫أربٌّ يبول‬
‫الثعالب‬
‫ُ‬

‫فكرة الشرك وعبادة الأصنام نشأت فيهم لما رأوا‬


‫المالئكة والرسل والنبيين وعباد هللا الصالحين ‪،‬‬
‫اتخذوهم أولياء‪،‬وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبين‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وحاولوا التقرب إليهم بكل ما‬
‫رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لمعظمهم صورًا‬
‫وتماثيل‪ ،‬إما حقيقية تطابق صورهم التي كانوا‬
‫عليها‪ ،‬وإما خيالية ‪ ..‬وربما لم ينحتوا لهم صورًا وال‬
‫تماثيل‪ ،‬بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض‬
‫مقراتهم أماكن مقدسةـ ‪.‬‬
‫أما عبادتهم لهذه األصنام واألوثان ‪ :‬فإنهم كانوا‬
‫يعكفون عليها ويلتجئون إليها‪ ..‬ويهتفون بها‪،‬‬
‫ويستغيثونها في الشدائد‪ ،‬وكانوا يحجون إليها‬
‫ويطوفون حولها‪ ،‬ويتذللون عندها‪ ،‬ويسجدون لها‪،‬‬
‫وكانوا يذبحون وينحرون لها على أنصابها‪ ،‬أنهم كانوا‬
‫يخصون لها شيئا من مآكلهم ومشاربهم ‪ ،‬كانوا‬
‫يخصون لها نصيبا من حرثهم وأنعامهم (البحيرة‬
‫والسائبة والوصيلة والحامى) ‪.‬‬
‫وكانت العرب تستقسم باألزالم‪ ،‬ويؤمنون بأخبار‬
‫الكهنة والعرافين والمنجمين‪ ،‬وكانت فيهم الطيرة ‪.‬‬
‫ومع هذا ‪ ..‬كان فيهم بقايا مـن ديـن إبراهيم‪ ،‬مثـل‪:‬‬
‫تعظيم البيت‪ ،‬والطـوافـ بـه‪ ،‬والحـج‪ ،‬والعمـرة‪،‬‬
‫والـوقوف بعرفة والمزدلفة‪ ،‬وإهداء البدن ‪.‬‬

‫األحوال الدينية للعالم كله ‪:‬‬


‫ساءت أحوال العالم الدينية في العالم ‪ ،‬فالناس إما‬
‫أنهم ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا‬
‫فيه أصال‪ ،‬أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية‬
‫وتبديلها ‪.‬‬
‫وقد أشار النبي ‪ ‬في صحيح مسلم إلى عموم هذا‬
‫الفساد لجميع األجناس ‪ ،‬فقال‪« :‬أال إن ربي أمرني‬
‫أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا‪ ،‬كل ما‬
‫نحلته عب ًدا حالل‪ ،‬وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم‪،‬‬
‫وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت‬
‫م َر ْتهم أن يشركوا بي ما لم‬
‫عليهم ما أحللت لهم‪ ،‬وأ َ‬
‫أنزل به سلطانا‪ ،‬وإن هللا نظر إلى أهل األرض‬
‫فمقتهم‪ :‬عربهم وعجمهم‪ ،‬إال بقايا من أهل الكتاب»‬
‫‪.‬‬

‫فاليهودية‪ :‬أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد‬


‫ال روح فيها وال حياة ‪ ..‬المجتمع اليهودي قبل البعثة‬
‫المحمدية قد وصل إلى االنحطاط العقلي من خفة‬
‫العقل وسخف القول‪ ،‬واالجتراء على هللا‪ ،‬والعبث‬
‫بالحقائق والتالعب بالدين والعقل ‪.‬‬

‫أما المسيحية‪ :‬فقد امتحنت بتحريف الغالين‪ ،‬وتأويل‬


‫الجاهلين واختفى نور التوحيد وإخالص العبادة ‪..‬‬
‫وتحولت البيوت والمدارس والكنائس إلى‬
‫معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع‬
‫المسيحي ‪ ..‬اندلعت الحروب بين النصارى وكفَّر‬
‫ضا‪ ،‬وقتل بعضهم بع ً‬
‫ضا ‪.‬‬ ‫بعضهم بع ً‬
‫وأما المجوس‪ :‬فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة‬
‫العناصر الطبيعية‪ ,‬أعظمها النار‪ ،‬وانتشرت بيوت‬
‫النار في طول البالد وعرضها‪ ,‬وعكفوا على عبادتها‬
‫وبنوا لها معابد وهياكل ‪.‬‬
‫وكان أهل إيران يستقبلون في صالتهم النار ‪.‬‬
‫وقد دان المجوس بالثنوية في كل عصر وأصبح ذلك‬
‫شعارًا لهم‪ ،‬فآمنوا بإلهين اثنين‪ ،‬أحدهما النور أو إله‬
‫الخير والثاني الظالم أو إله الشر ‪.‬‬

‫أما البوذية‪ :‬في الهند وآسيا الوسطى‪ ،‬فقد تحولت‬


‫وثنية تحمل معها األصنام حيث سارت‪ ،‬وتبني‬
‫الهياكل‪ ،‬وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت ‪.‬‬

‫أما البرهمية‪ :‬دين الهند األصلي‪ ،‬فقد امتازت بكثرة‬


‫المعبودات واآللهة‪ ,‬وقد بلغت أوجها في تلك‬
‫الفترة ‪.‬‬
‫‪ ]3‬الحالة االجتماعية ‪:‬‬
‫هيمنت التقاليد واألعراف على حياة العرب‪،‬‬
‫وأصبحت لهم قوانين عرفية ‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -1‬االعتزاز الذي ال حد له باألنساب‪ ،‬واألحساب‪،‬‬
‫والتفاخر بها ‪.‬‬
‫‪ -2‬االعتزاز بالكلمة‪ ،‬وسلطانها‪ ،‬ال سيما الشعر ‪.‬‬
‫‪ -3‬المرأة في المجتمع العربي ‪ :‬كانت عند كثير من‬
‫القبائل كسقط المتاع‪ ،‬فقد كانت تورث ‪ ،،‬وكان‬
‫العرب ُيعيّرون بالبنات ‪ ،،‬وكثيرا ما كانوا يختارون‬
‫دسها في التراب‪ ،‬ووأدها حية ‪.‬‬
‫‪ - 4‬الحروب‪ ،‬والسطو‪ ،‬واإلغارة‪ :‬كانت الحروب تقوم‬
‫بينهم ألتفه األسباب‪ ،‬فهم ال يبالون بشن الحروب‬
‫وإزهاق األرواح في سبيل الدفاع عن المثل‬
‫االجتماعية ‪.‬‬
‫فمن تلك األيام مثال يوم البسوس‪ ،‬وقد قامت‬
‫الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة‬
‫وكذلك يوم داحس والغبراء‪ ،‬وقد كان سببه سبا ً‬
‫قا‬
‫أقيم بين داحس وهو فرس والغبراء‪.‬‬
‫الحالة األخالقية‪ :‬لها جانبان‪:‬‬
‫‪ )1‬جانب منحرف ‪:‬كانت أخالق العرب قد ساءت‬
‫وأولعواـ بالخمر والقمار‪ ،‬وشاعتـ فيهم الغارات‬
‫وقطع الطريق على القوافل‪ ،‬والعصبية والظلم‪،‬‬
‫وسفك الدماء‪ ،‬واألخذ بالثأر‪ ،‬واغتصاب األموال‪،‬‬
‫وأكل مال اليتامى‪ ،‬والتعامل بالربا‪ ،‬والسرقة والزنا ‪.‬‬
‫‪ )2‬جانب مشرق‪ :‬وكانت فيهم سمات وخصال من‬
‫الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية اإلسالم ومنها ‪:‬‬
‫‪ -1‬الذكاء والفطنة والحفظ ‪ -2‬أهل كرم وسخاء ‪-3‬‬
‫أهل شجاعة ومروءةـ ونجدة‬
‫‪ -4‬عشقهم للحرية والعزة ‪ ،‬وإباؤهم للضيم والذل ‪:‬‬
‫قال عنترة‪:‬‬
‫بل فاسقني بالعز‬ ‫ال تسقني ماء الحياة بذلة‬
‫كأس الحنظل‬
‫وجهنم بالعز أطيب‬ ‫ماء الحياة بذلة كجهنم‬
‫منزل !!! (وهذا مما ال نوافقه عليه)‬
‫‪ -5‬الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح‬
‫والصدق ‪.‬‬
‫‪ -6‬الصبر على المكاره وقوة االحتمال‪ ،‬والرضا‬
‫باليسير ‪.‬‬
‫‪ 7‬النسب الشريف ‪ /‬جده قصي ‪:‬‬
‫ولي إسماعيل عليه السالم زعامة مكة ‪ ،‬وكان قد‬
‫تزوج من جرهم‪ ،‬فلما مات انتقلت زعامة مكة إلى‬
‫جرهم‪ ،‬وظلت في أيديهم‪ ،‬وكان ألوالد إسماعيل‬
‫مركز محترم ‪.‬‬
‫ثم ساء أمر جرهم بمكة بعد ذلك‪ ،‬وضاقت أحوالهم‪،‬‬
‫فظلموا الوافدين إليها‪ ،‬واستحلوا مال الكعبة ‪..‬‬
‫حتى نزلت قبيلة خزاعة بمكة ‪ ،‬فقاموا بمعونة من‬
‫بطون عدنان بمحاربة جرهم‪ ،‬حتى أجلتهم عن‬
‫مكة‪ ،‬واستولت على حكمها ‪.‬‬
‫ولما لجأت جرهم إلى الجالء سدواـ بئر زمزم‪،‬‬
‫ودرسواـ موضعها‪ ،‬ودفنوا فيها عدة أشياء منها‬
‫غزالي الكعبة‪ ،‬والحجر األسودـ ‪.‬‬
‫واستمرت [والية] خزاعة على مكة ثالثمائة سنة‪،‬‬
‫وانتشر العدنانيون في جزيرة العرب‪ ،‬حتى جاء‬
‫حليل‪ ،‬فلما‬
‫قصي بن كالب‪ ،‬فتزوج ابنة زعيم خزاعة ُ‬
‫مات حليل‪ ،‬اختلف قصي ومن معه من قريش مع‬
‫خزاعة‪ ،‬ووقع بينهم قتال شديد‪ ،‬حتى اصطلحوا‪،‬‬
‫وتغلب قصى على أمر مكة والبيت‪ ،‬وصار هو‬
‫الرئيس الديني لمكة‪ ،‬وكان له عدة أعمال منها‪:‬‬
‫‪ -‬أنه جمع قومه من منازلهم إلى مكة ‪ ..‬أسس دار‬
‫الندوة ‪ ..‬كان له اللواء‪ ،‬والحجابـة ‪ ،‬وسقاية الحاج ‪،‬‬
‫ورفادة الحاج وغيرها ‪.‬‬
‫‪ 7‬النسب الشريف ‪ /‬جده هاشم ‪:‬‬
‫لما مات قصي انتقل الملك إلى ابنه األكبر عبد‬
‫الدار‪ ،‬مع ان عبد مناف كان قد شرف وسادـ في‬
‫حياته ‪.‬‬
‫لكن لما مات عبد مناف نافس أبناؤه بنى عمهم عبد‬
‫الدار في هذه المناصب‪ ،‬وافترقت قريش ‪ ،‬وكاد‬
‫يكون بينهم قتال‪ ،‬ثم وقع الصلح‪ ،‬واقتسم الفريقان‬
‫المناصب ‪ ،.‬فصارت السقاية والرفادة والقيادة إلى‬
‫بنى عبد مناف‪ ،‬وبقيت دار الندوة واللواء والحجابة‬
‫بيد بنى عبد الدار ‪.‬‬
‫ثم حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابهم‪ ،‬فصارت‬
‫السقاية والرفادة لهاشم ‪ ،‬والقيادة لعبد شمس ‪.‬‬
‫هاشم‪ ،‬اسمه عمرو فما سمى هاشمًا إال لهشمه‬
‫الخبز ‪ ،‬وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة‪ ،‬وهو‬
‫أول من سن الرحلتين لقريش‪ ،‬رحلة الشتاء‬
‫والصيف‪ ،‬وفيه يقول الشاعر ‪:‬‬
‫م بمـكــة‬
‫قــو ٍ‬ ‫م الثري َد لقومه ** َ‬
‫ش َ‬
‫ه َ‬‫عمرو الذي َ‬
‫ــاف‬
‫ِ‬ ‫ج‬‫ع َ‬
‫ْسنتِيــن ِ‬‫م ِِْـ‬
‫ُ‬
‫س َ‬
‫ف ُر الشتاء‬ ‫ت إليه الرحلتان كالهـمــا ** َ‬ ‫س َّن ْ‬
‫ُ‬
‫ورحلة األصياف‬
‫ومن حديث هاشم أنه خرج إلى الشام تاجرًا‪ ،‬فلما‬
‫قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو من بني عدى‬
‫بن النجار ‪ ،‬فحملت بعبد المطلب‪ ،‬ثم خرج هاشم‬
‫إلى الشام فمات بغزة في فلسطين‪ ،‬وولدتـ امرأته‬
‫سلمى عبد المطلب وسمته شيبة؛ لشيبة كانت‬
‫في رأسه ‪.‬‬
‫‪ 7‬فائدة (من هم آل البيت؟) ‪:‬‬
‫عندما يصل األمر إلى جده هاشم يتعلق به أم ٌر‬
‫شرعي وهو ‪ :‬من هم آل بيت الرسول ‪ ‬؟‬
‫ما الحكم الشرعي الذي يتعلق بهذا النسب؟ أن‬
‫الزكاة ال ُتعطى إليهم كما أخبر صلوات هللا وسالمه‬
‫عليه‪.‬‬
‫الجواب ‪ :‬آل البيت هم بنو هاشم ‪ ،‬لكن هل يضاف‬
‫لهم غيرهم؟‬
‫هاشم بن عبد مناف‪ ،‬وعبد مناف ترك أربعة من‬
‫الولد‪ ،‬نوفل وعبد شمس والمطلب وهاشم ‪.‬‬
‫قريش النبي عليه‬
‫ٌ‬ ‫سيأتينا بإذن هللا أنه لما حاصرت‬
‫الصالة والسالم وبني هاشم في شعب بني طالب‬
‫‪ ،‬انضم إليهم أبناء المطلب‪ ،‬كافرهم ومؤمنهم‪ ،‬أما‬
‫بنو عبد شمس وبنو نوفل فكانوا مع قريش ضد‬
‫النبي ‪ ‬وبني هاشم ‪.‬‬
‫هذه الخصيصة لبني المطلب حفظها النبي ‪ ‬لهم‪،‬‬
‫فلما كانت غزوة خيبر أعطاهم النبي ‪ ‬من الغنائم ‪،‬‬
‫د من بني عبد شمس وبني نوفل‪ ،‬جاءه‬‫فجاءه وف ٌ‬
‫جبير بن مطعم وعثمان رضي هللا عنه من بني عبد‬
‫شمس فقالوا‪ :‬يا نبي هللا إنك أعطيت إخواننا من‬
‫بني هاشم وهذه ال تثريب فيها؛ ألن هللا شرفهم‬
‫بك‪ ،‬وإنك أعطيت إخواننا من بني المطلب ونحن‬
‫وإياهم شي ٌء واحد ‪.‬‬
‫فقال ‪ : ‬ال‪ ،‬إن بني المطلب لم ُيفارقونا في جاهلية‬
‫وال في إسالم‪ ،‬وشبك بين أصبعه ‪.‬‬
‫ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن بني المطلب‬
‫يدخلون في آل البيت لهذا الحديث ‪.‬‬
‫‪ 7‬النسب الشريف ‪ /‬جده عبد المطلب ‪:‬‬
‫لما مات هاشم صارت السقاية والرفادة إلى أخيه‬
‫المطلب بن عبد مناف ‪.‬‬
‫لما بلغ عبد المطلب سبع سنين أو ثماني سنين‬
‫سمع به عمه المطلب‪ ،‬فرحل إلى المدينة وأخذه‬
‫إلى مكة‪ ،‬وهو رديفه على بعيره‪ ،‬فقال الناس‪ :‬هذا‬
‫عبد المطلب‪ ،‬فقال‪ :‬ويحكم‪ ،‬إنما هو ابن أخى‬
‫هاشم‪ ،‬فأقام عنده حتى ترعرع‪ ..‬ثم إن المطلب‬
‫مات في اليمن‪ ،‬فتولى بعده عبد المطلب‪ ،‬وساد‬
‫في قومه ‪ ،‬واشتهر ذكره بين العرب ‪.‬‬
‫ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت‬
‫شيئان‪:‬‬
‫‪ ]1‬حفر بئر زمزم ‪ ]2‬حادثة الفيل‬
‫‪ 8‬حفر زمزم ‪:‬‬
‫ذكر الشيخ إبراهيم العلي في كتابه القيم «صحيح‬
‫السيرة النبوية» رواية صحيحة في قصة حفر عبد‬
‫المطلب لزمزم من حديث علي بن أبي طالب ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«قال عبد المطلب‪ :‬إني لنائم في الحجر إذ أتاني‬
‫آتٍ فقال لي‪ :‬احفر طيبة‪ ،‬قلت‪ :‬وما طيبة؟ قال‪ :‬ثم‬
‫ذهب عني‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي‪ ،‬فنمت‬
‫فيه‪ ،‬فجاءني فقال‪ :‬احفر برة‪ ،‬قال‪ :‬قلت وما برة؟‬
‫قال‪ :‬ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى‬
‫مضجعي فنمت فيه‪ ،‬فجاءني فقال‪ :‬احفر‬
‫المضنونة‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬وما المضنونة؟ قال‪ :‬ثم ذهب‪.‬‬
‫فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي‪ ،‬فنمت فيه‬
‫فجاءني فقال‪ :‬احفر زمزم‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬وما زمزم؟‬
‫زف أبدأ وال ُتذم‪ ،‬تسقي الحجيج األعظم‪،‬‬
‫قال ال تَن ِ‬
‫األعصم(في‬ ‫وهي بين الفرث والدم‪ ،‬عند نقرة الغراب‬
‫ساقيه بياض )‪ ،‬عند قرية النمل ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلما بين شأنها‪ ،‬ودل على موضعها‪ ،‬وعرف أنه‬
‫قد صدق‪ ،‬غدا بمعول (أي فأس) ومعه ابنه الحارث‬
‫الطي (حافة‬
‫ّ‬ ‫فحفر فيها‪ ،‬فلما بدا لعبد المطلب‬
‫البئر) كبر‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬يا عبد المطلب إنها بئر‬
‫أبينا إسماعيل‪ ،‬فأشركنا معك فيها‪ .‬قال‪ :‬ما أنا‬
‫بفاعل‪ ،‬فاختلفوا ‪ ،‬ثم اتفقوا على االحتكام إلى‬
‫كاهنة بني سعد بأشراف الشام‪.‬‬
‫فركبوا إليها‪ ،‬ونفد ماء عبد المطلب وأصحابه‪،‬‬
‫فاستسقى اآلخرين من قريش فأبوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنا‬
‫بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم‪،‬‬
‫فقال عبد المطلب‪ :‬إني أرى أن يحفر كل رجل منكم‬
‫حفرته لنفسه ‪ ،‬فحفروا ثم قعدوا ينتظرون الموت ‪،‬‬
‫ثم إن عبد المطلب قال‪ :‬وهللا إن إلقاءنا بأيدينا هكذا‬
‫للموت لعجز‪ ،‬ارتحلوا‪ ،‬فارتحلوا فانفجر الماء تحت‬
‫خف راحلة عبد المطلب ‪ ،‬فكبر عبد المطلب‪ ،‬وكبر‬
‫أصحابه‪ ،‬وشربوا‪ ،‬ومألوا أسقيتهم‪ ،‬ثم دعا قبائل‬
‫قريش فقال‪ :‬هلموا إلى الماء فقد سقانا هللا‪،‬‬
‫فجاءوا فشربوا‪ ،‬واستقوا ‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬قد وهللا قضى‬
‫لك علينا‪ ،‬وهللا ما نخاصمك في زمزم أبدا‪ ،‬إن الذي‬
‫سقاك هذا الماء بهذه الفالة هو الذي سقاك زمزم‪،‬‬
‫فخلوا بينه وبين زمزم ‪.‬‬
‫وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه هللا عشرة أبناء‬
‫يمنعونه ‪ ،‬لينحرن أحدهم عند الكعبة‪.‬‬
‫‪ 9‬حادثة الفيل ‪:‬‬
‫وفيها أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء سماها‬
‫ال ُقلَّيَس‪ ،‬وزعم أنه يصرف إليها حج العرب‪،‬‬
‫فسمع بذلك رجل من بني كنانة‪ ،‬فدخلها لياًل فلطخ‬
‫قبلتها بالعذرة ‪ .‬فغضب أبرهة ‪ ،‬وسار بجيش عرمرم‬
‫ـ عدده ستون ألف جندى ـ إلى الكعبة ليهدمها‪،‬‬
‫واختار لنفسه فيال من أكبر الفيلة‪ ،‬وكان في‬
‫الجيش ‪ 9‬فيلة أو ‪ 13‬فيال ‪.‬‬
‫لما سار أبرهة خرج إليه ذو نفر (ملك من ملوك‬
‫حمير) فقاتله هو وقومه‪،‬ـ فهزمه أبرهة ‪.‬‬
‫ثم سار إلى مكة‪ ،‬فلما دنا من بالد خثعم‪ ,‬خرج إليه‬
‫النفيل بن حبيب الخثعمي ومن معه من القبائل‬
‫فقاتلوه فهزمهم ‪ ،‬فقال النفيل‪ :‬أيها الملك‪ .‬إني‬
‫عالم بأرض العرب فال تقتلني‪ ،‬وهاتان يداي على‬
‫قومي بالسمع والطاعة‪ ،‬فاستبقاه وخرج معه‬
‫يدله ‪.‬‬
‫حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا‬
‫‪ :‬أيها الملك نحن عبيد لك ليس لك عندنا خالف‪،‬‬
‫وليس بيننا وبينك الذي تريد –يعنون الالت‪ -‬إنما تريد‬
‫البيت الذي بمكة‪ ،‬نحن نبعث معك من يدلك عليه‪،‬‬
‫فبعثوا معه مولى لهم يقال له أبو رغال فخرج معهم‬
‫حتى إذا كان بالمغمس (مكان قرب مكة في طريق الطائف ) مات أبو‬
‫رغال ‪ ،‬فكانت العرب ترجم قبره ‪.‬‬
‫لما نزل أبرهة في المغمس أصابت خيله مائتي‬
‫بعير لعبد المطلب باألرك‪ ،‬ثم أرسل إلى عبد‬
‫المطلب أنه لم يأت لقتال ‪ ،‬إنما جاء لهدم هذا‬
‫البيت ‪.‬‬
‫فجاء عبد المطلب ودخل على أبرهة‪ ،‬وكان عبد‬
‫المطلب رجال ً عظيمًا جسيمًا وسيمًا‪ ،‬فلما رآه أبرهة‬
‫عظمه وأكرمه‪ ،‬وكره أن يجلس معه على سريره‬
‫وأن يجلس تحته‪ ،‬فهبط إلى البساط فجلس عليه‬
‫معه‪ ،‬فقال له عبد المطلب‪ :‬أيها الملك إنك قد‬
‫أصبت لي ماال عظيما فاردده علي‪ ،‬فقال له‪ :‬لقد‬
‫أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك‪ ،‬قال‪ :‬ولم؟‬
‫قال‪ :‬جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم‬
‫ومنعتكم فأهدمه فلم تكلمني فيه‪ ،‬وتكلمني في‬
‫مائتي بعير؟‪ .‬قال‪ :‬أنا رب هذه اإلبل‪ ،‬ولهذا البيت‬
‫رب سيمنعه‪ ،‬قال‪ :‬ما كان ليمنعه مني‪ ،‬قال‪ :‬فأنت‬
‫وذاك‪ ،‬قال‪ :‬فأمر بإبله فردت عليه ‪.‬‬
‫خرج عبد المطلب من أبرهة‪ ،‬و أخذ بحلقة باب‬
‫الكعبة‪ ،‬وقام معه نفر من قريش يدعون هللا‬
‫ويستنصرونه على أبرهة وجنده‪ ،‬فقال عبد‬
‫المطلب‪:‬‬
‫نع رحله فامنع‬ ‫ال هم إن العبد يمـ‬
‫محالهم َ‬
‫غ ْدوًا‬ ‫و ِ‬ ‫ال يغلبن صليبهم‬
‫ـتنا فأم ٌر ما َب َدا لك‬ ‫إن كنت تاركَهم‬
‫ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة‪ ،‬وانطلق‬
‫هو ومن معه من قريش إلى شغف الجبال فتحرزوا‬
‫فيها‪.‬‬
‫أراد أبرهة التحرك من المغمس إلى الكعبة‪ ،‬فلما‬
‫قرّب الفيل وحمل عليه لم يتحرك‪ ،‬فحركوه وضربوه‬
‫في رأسه وأدخلوا فيه المحاجن فلم يتحرك‪ ،‬ثم‬
‫وجهوه إلى اليمن فهرول‪ ،‬فأعادوه إلى الحرم‬
‫فوقف‪ ،‬ثم فر الفيل إلى أحد الجبال ‪.‬‬
‫وبينما أبرهة وجنوده كذلك‪ ،‬أرسل هللا عليهم الطير‬
‫األبابيل من البحر‪ ،‬مع كل طير ثالثة أحجار‪ :‬حجران‬
‫في رجليه وحجر في منقاره‪ ،‬ويحملن أمثال‬
‫الحمص والعدس من الحجارة‪ ,‬فألقت الحجارة‬
‫عليهم‪ ،‬فلم تصب تلك الحجارة أحدا إال هلك ‪ ،‬ثم‬
‫بعث هللا على أبرهة داء في جسده‪ ،‬تتساقط منه‬
‫أنامله‪ ،‬ويتقطع منه جسمه ‪ ،‬حتى وصل اليمن وهو‬
‫مثل فرخ الطير ثم مات ‪.‬‬
‫ولهذا جاء في البخاري أن النبي ‪ ‬لما خرج زمن‬
‫الحديبية سار حتى إذا كان بالثنيَّة(المطلة على‬
‫الحديبية) بركت راحلته فقال الناس‪ :‬خألت القصواء!‬
‫(أي امتنعت عن السير) ‪ ،‬فقال النبي صلى هللا‬
‫خلُق‪،‬‬
‫عليه وسلم‪« :‬ما خألت القصواء وما ذاك لها ب ُ‬
‫ولكن حبسها حابس الفيل»‪.‬‬
‫يعني حبسها هللا عن دخول مكة‪ ،‬كما حبس‬
‫الفيل ‪ ..‬يعني أن األمرين فيهما سفك للدماء‪،‬‬
‫ووقوع مفاسد‪ ،‬وذهاب مصالح ‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫(ولوال رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) ‪ ،‬وهلل الحكمة‬
‫في أمره كله ‪.‬‬
‫‪ 10‬المولد ‪:‬‬

‫مكان المولد اليوم‪:‬‬


‫يقال‪ :‬إنه ولد في شعب أبي طالب قرب سوق‬
‫الليل‪ ،‬وهو مكان مكتبة الحرم اليوم ‪.‬‬
‫والعجب أن بعض الناس عيّنوا محال ً من الدار مقدار‬
‫مضجع‪ ،‬وقالوا‪ :‬هذا موضع والدته صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫ثم وقعت الفتنة لبعض الجهلة فوقعوا في تجاوزات‬
‫شرعية وأعمال بدعية عند المكتبة من التمسح‬
‫والتبرك بالمكان ‪.‬‬
‫نحن نقول أوال ً هل لهذا التحديد مستند صحيح؟‬
‫الحقيقة أن نسبة مولد الرسول ‪ ‬إلى هذا المكان‬
‫محل شك لدى كثير من العلماء ‪.‬‬
‫ولمغلطاي العالم الحنفي المصري مؤلف في‬
‫السيرة في مكتبة الحرم المكي هو كتاب "اإلشارة‬
‫إلى سيرة المصطفى‪ ،‬وتاريخ من بعده من‬
‫الخلفاء"(‪)1‬ورد فيه‪ُ ( :‬ولد صلى هللا عليه وسلم‬
‫بمكة‪ ،‬في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي‬
‫بالشعب‪ ،‬ويقال بال َّردم‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫الحجاج‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫عسفان)‪.‬‬
‫ب ُ‬
‫وقال اإلمام السهيلي (‪ )508-581‬في كتاب‬
‫بالشعب‪ ،‬وقيل‪ :‬بالدار التي‬
‫ِّ‬ ‫"الروض األنف"‪ :‬وولد‬
‫عند الصفا‪ ،‬وكانت بعد لمحمد بن يوسف أخي‬
‫الحجاج ‪.‬‬
‫وقد ألقى الشيخ حمد الجاسر ‪ -‬رحمه هللا ‪" -‬‬
‫عالمة الجزيرة في التاريخ " محاضرة في (جامعة‬
‫أم القرى) بمكة سنة ‪1402‬هـ ‪ ،‬أبطل فيها كل هذه‬
‫الدعاوى ‪.‬‬
‫قال الجاسر‪":‬وهذا االختالف في الموضع الذي ُولد‬
‫فيه النبي ‪ ‬يحمل على القول بأن الجزم بأنه‬
‫الموضع المعروف عند عامة الناس باسم المولد ال‬
‫يقوم على أساس تاريخي صحيح" ‪.‬‬

‫من العجيب أن أحد الدكاترة في جريدة عكاظ ناشد‬


‫الدولة في عدة مقاالت إلى إحياء تلك األماكن‬
‫التاريخية ‪ ،‬ودعا الى بناء المكان الذي ولد فيه‬
‫النبي ‪. r‬‬
‫وال شك أن هذا الكالم يخالف األدلة الشرعية ‪..‬‬
‫ومنهج سلف األمة ويترتب عليه غلو الجهال في‬
‫هذه اآلثار ‪ ،‬مشابهة اليهود والنصارى في تعظيمهم‬
‫آلثار أنبيائهم وصالحيهم ‪.‬‬
‫اآلثار في مكة ‪:‬‬
‫م َنى‬
‫‪ - 1‬مشاعر العبادة المقدسة‪ ،‬في مكة و ِ‬
‫ومزدلفة وعرفات‪ ،‬ومواقيتـ الحج المكانية‪ ،‬وقد‬
‫تكفل هللا بصيانتها وحفظها‪ ،‬الرتباطها بما تعبّد‬
‫عباده بالقيام به من أنواع العبادة‪.‬ـ‬
‫‪ - 2‬ونوع آخر من اآلثار‪ ،‬له ارتباط بحياة من عاش‬
‫على تراب هذه البلدة الطاهر‪ ،‬كالمساجد والموالد‬
‫والقبور ‪.‬‬

‫األمر الهام الذي يقوم عليه منهج أهل السنة تجاه‬


‫هذه اآلثار‪(( :‬قاعدة هامة))‬
‫أن سلفنا الصالح في القرون الثالثة المفضلة‬
‫األولى ما كانوا يهتمون بالمحافظة على آثارهم‪ ،‬وال‬
‫يعتنون بتحديد مواقعها أو أزمانها‪ ،‬بل كانوا في كثير‬
‫من األحيان عندما يخشون المبالغة في تعظيمها‬
‫يسعون إلزالتها‪ ،‬كما فعل عمر بن الخطاب رضي‬
‫هللا عنه حين رأى الناس ينتابون بالزيارة شجرة‬
‫الرضوان‪ ،‬التي بايع المسلمون المصطفى –عليه‬
‫الصالة والسالم‪ -‬تحتها‪ ،‬وأنزل هللا في تلك البيعة‬
‫قوله عز وجل‪ ( :‬لقد رضي هللا عن المؤمنين إذ‬
‫يبايعونك تحت الشجرة) فأمر الفاروق رضي هللا‬
‫عنه بقطعها‪.‬‬

‫‪ -‬من أسباب فتنة الناس باألماكن ‪:‬‬


‫‪ ]1‬تساهل العلماء في رواية ما يتعلق بفضائل‬
‫المواضع أثر في حدوث كثير من اآلثار ‪.‬‬
‫‪ ]2‬التنافس بين أهل المدن في بعض األحيان زاد‬
‫تلك الفضائل كثرة وشهرة ‪.‬‬
‫‪ 12‬الرضاع في بني سعد ‪:‬‬
‫كانت حليمة تحدث ‪ :‬أنها خرجت من بلدها مع زوجها‬
‫وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن‬
‫بكر‪ ،‬تلتمس الرضعاء‪ .‬قالت ‪ :‬وذلك في سنة شهباء‬
‫لم تبق لنا شي ًئا(قحط وجدب) ‪ ،‬قالت ‪ :‬فخرجت‬
‫على أتان لى قمراء(شديدة البياض)‪ ،‬ومعنا شارف‬
‫ض ُبقطرة(يخرج منها)‪،‬‬
‫لنا(ناقة مسنة)‪ ،‬وهللا ما تَ ِب ّ‬
‫وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا‪ ،‬من بكائه‬
‫من الجوع‪ ،‬ما في ثديى ما يغنيه‪ ،‬وما في شارفنا‬
‫ما يغذيه‪ ،‬ولكن كنا نرجو الغيث والفرج‪ ،‬فخرجت‬
‫على أتانى تلك‪ ،‬فلقد أدمت بالركب (حبستهم)‬
‫حتى شق ذلك عليهم‪ ،‬فقدمنا مكة نلتمس‬
‫الرضعاء‪ ،‬فما منا امرأة إال وقد عرض عليها رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم فتأباه‪ ،‬إذا قيل لها‪ :‬إنه‬
‫يتيم‪ ،‬وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي‪،‬‬
‫فكنا نقول‪ :‬يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده‪،‬‬
‫فكنا نكرهه لذلك‪ ،‬فما بقيت امرأة قدمت معي إال‬
‫أخذت رضي ً‬
‫عا غيرى‪ ،‬فلما أجمعنا االنطالق قلت‬
‫لصاحبى‪ :‬وهللا‪ ،‬إنى ألكره أن أرجع من بين‬
‫صواحبى ولم آخذ رضي ً‬
‫عا‪ ،‬وهللا ألذهبن إلى ذلك‬
‫اليتيم فآلخذنه‪ .‬قال ‪ :‬ال عليك أن تفعلى‪ ،‬عسى هللا‬
‫أن يجعل لنا فيه بركة‪ .‬قالت‪ :‬فذهبت إليه‬
‫وأخذته‪،‬وما حملنى على أخذه إال أنى لم أجد غيره‪،‬‬
‫قالت‪ :‬فلما أخذته رجعت به إلى رحلى‪ ،‬فلما‬
‫وضعته في حجرى أقبل عليه ثدياي بما شاء من‬
‫لبن‪ ،‬فشرب حتى روى‪ ،‬وشرب معه أخوه حتى‬
‫روى‪ ،‬ثم ناما‪ ،‬وما كنا ننام معه قبل ذلك‪ ،‬وقام‬
‫زوجي إلى شارفنا تلك‪ ،‬فإذا هي حافل‪ ،‬فحلب‬
‫منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا‪،‬‬
‫فبتنا بخير ليلة‪ ،‬قالت‪ :‬يقول صاحبى حين أصبحنا‪:‬‬
‫تعلمي وهللا يا حليمة‪ ،‬لقد أخذت نسمة مباركة‪،‬‬
‫قالت‪ :‬فقلت‪ :‬وهللا إنى ألرجو ذلك‪ .‬قالت‪ :‬ثم خرجنا‬
‫وركبت أنا أتانى‪ ،‬وحملته عليها معى‪ ،‬فوهللا‬
‫لقطعت بالركب ما ال يقدر عليه شىءـ من حمرهم‪،‬‬
‫حتى إن صواحبى ليقلن لى‪ :‬يا ابنة أبي ذؤيب‪،‬‬
‫ويحك! ا ْربَعي علينا‪ ،‬أليست هذه أتانك التي كنت‬
‫خرجت عليها؟ فأقول لهن‪ :‬بلى وهللا‪ ،‬إنها لهي‬
‫هي‪ ،‬فيقلن‪ :‬وهللا إن لها شأنًا ‪.‬‬
‫ما الذي حدث بعد وصولهم إلى بني سعد؟‬
‫قالت حليمة‪ :‬ثم قدمنا منازلنا من بالد بني سعد‪،‬‬
‫ضا من أرض هللا أجدب منها‪ ،‬فكانت‬ ‫وما أعلم أر ً‬
‫ً‬
‫شباعا لُبَّنـًا‪،‬‬ ‫على حين قدمنا به معنا‬
‫َّ‬ ‫غنمى تروح‬
‫فنحلب ونشرب‪ ،‬وما يحلب إنسان قطرة لبن‪ ،‬وال‬
‫يجدها في ضرع‪ ،‬حتى كان الحاضرون من قومنا‬
‫يقولون لرعيانهم‪ :‬ويلكم‪ ،‬اسرحوا حيث يسرح راعى‬
‫ً‬
‫جياعا ما تبض‬ ‫بنت أبي ذؤيب‪ ،‬فتروح أغنامهم‬
‫ً‬
‫شباعا لبنًا‪ .‬فلم نزل‬ ‫بقطرة لبن‪ ،‬وتروح غنمى‬
‫نتعرف من هللا الزيادة والخير حتى مضت سنتاه‬
‫وفصلته‪ ،‬وكان يشب شبابًا ال يشبه الغلمان‪ ،‬فلم‬
‫يبلغ سنتيه حتى كان غالمًا جفرًا(ممتلئاً) ‪ .‬قالت‪:‬‬
‫فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا‪،‬‬
‫لما كنا نرى من بركته‪ ،‬فكلمنا أمه‪ ،‬وقلت لها‪ :‬لو‬
‫تركت ابني عندي حتى يغلظ‪ ،‬فإني أخشى عليه‬
‫وباء مكة‪ ،‬قالت‪ :‬فلم نزل بها حتى ردته معنا ‪.‬‬
‫‪ 12‬الرضاع في بني سعد ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ .1‬بركة النبي صلى هللا عليه وسلم على السيدة‬
‫حليمة‪ :‬فقد ظهرت هذه البركة على حليمة‬
‫السعدية في كل شيء ‪ ..‬في إدرار ثدييها‬
‫بالحليب ‪ ..‬في سكون الطفل ولدها ‪ ..‬في‬
‫حمارتها ‪ ..‬في مراعيها وغنمها ‪.‬‬
‫كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام هللا له‪،‬‬
‫وأكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت‬
‫فيحب أهل البيت هذا الطفل ويحنوا عليه‬
‫بإرضاعه ‪ُ ،‬‬
‫ويحسنوا في معاملته‪.‬‬
‫‪ .2‬خيار هللا للعبد أبرك وأفضل‪ :‬اختار هللا لحليمة‬
‫هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض؛ ألنها لم تجد‬
‫غيره‪ ،‬فكان الخير كل الخير فيما اختاره هللا‪ ،‬وبانت‬
‫نتائج هذا االختيار مع بداية أخذه وهذا درس لكل‬
‫مسلم بأن يطمئن قلبه إلى قدر هللا واختياره ‪.‬‬
‫‪ .3‬أثر البادية في صحة األبدان وصفاء النفوس‪،‬‬
‫وذكاء العقول ‪.‬‬
‫وإنها لتعاسة أن يعيش أوالدنا في بيوت أو شقق‬
‫ضيقة متالصقة كأنها صناديق أغلقت على من‬
‫فيها ‪.‬‬
‫وتعلم رسول هللا ‪ ‬في بادية بني سعد اللسان‬
‫العربي الفصيح‪ ،‬وأصبح فيما بعد من أفصح الخلق‪،‬‬
‫وقد ذكر السهيلي في الروض األنف أن أبا بكر ‪‬‬
‫قال‪ :‬يا رسول هللا ما رأيت أفصح منك‪ .‬فقال ‪« :‬وما‬
‫‪.‬‬
‫يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد»‬
‫‪ .4‬يستفاد من حادثة شق الصدر‪ ،‬أن التطهير من‬
‫حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة‪ ،‬وإعداد‬
‫للعصمة من الشر وعبادة غير هللا‪ ،‬فال يحل في‬
‫قلبه إال التوحيد الخالص‬
‫‪ -‬ولهذا إذا أردنا أن تحيا قلوبنا باإليمان والتوحيد‬
‫ونتلذذ بذكر هللا والتعلق به فلنطهر قلوبنا من‬
‫الذنوب واألمراض ‪ ..‬حتى تتأهل للترقي في مدارج‬
‫اإليمان ‪.‬‬
‫‪ 13‬إلى أمه الحنون ‪ /‬وفاة أمه ‪ :‬دروس في حكمة اليتم‬
‫ة أرادها أن يعيش نبيه‬
‫ل وعال لحكم ٍ‬
‫‪ -1‬أن هللا ج ّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم يتيمًا حتى تكتمل عليه منة‬
‫د من عباده‬
‫هللا‪ ،‬وهللا إذا أراد أن يمن على عب ٍ‬
‫بشيء جنبه الناس‪ ،‬فإبراهيم عليه الصالة والسالم‬
‫هم قومه بأن يلقوه في النار قال حسبنا هللا ونعم‬
‫الوكيل‪ ..‬وكان ملك المطر يطأطأ رأسه ينتظر متى‬
‫ل وعال إكرامًا‬
‫يؤمر أن ينزل القطر‪ ،‬ولكن هللا ج ّ‬
‫إلبراهيم خاطب النار بذاته العلية بقوله ﴿ ُق ْل َنا يَا نَا ُر‬
‫م﴾‪.‬‬ ‫علَى إِ ْب َرا ِ‬
‫هي َ‬ ‫ساَل مًا َ‬
‫و َ‬ ‫كونِي بَ ْر ً‬
‫دا َ‬ ‫ُ‬
‫د من أهل األرض عليه منة صلوات‬
‫خرج وليس ألح ٍ‬
‫هللا وسالمه عليه إال منة هللا‪ ،‬وهذه منزلة ال ينالها‬
‫اإلنسان إال إذا بلغ درجة عظيمة في العبودية‪ ،‬فإن‬
‫اإلنسان إذا تحرر قلبه من غير هللا كان أقرب إلى‬
‫هللا ‪.‬‬
‫وهذا هو المقصود األسمى من كونه صلى هللا‬
‫عليه وسلم نشأ يتيمًا لم يرعاه أب حتى إذا بلغ‬
‫النبوة نسب الناس نبوته إلى أبيه‪ ،‬ولم ترعاه أمه‬
‫حتى إذا بلغ المجد نسب الناس رعايته وتربيته إلى‬
‫ك يَتِيمًا‬‫ممتنًا عليه ﴿ ألم يَجِ ْد َ‬ ‫ل وعال ُ‬ ‫أمه‪ ،‬قال هللا ج ّ‬
‫غ َنى ﴾‬ ‫فأَ ْ‬
‫ك عَ ائِاًل َ‬
‫ج َد َ‬
‫و َ‬
‫و َ‬
‫ه َدى * َ‬ ‫ضااًّل َ‬
‫ف َ‬ ‫ك َ‬‫ج َد َ‬
‫و َ‬
‫و َ‬ ‫فآ َ َ‬
‫وى * َ‬ ‫َ‬
‫‪.‬‬
‫‪ -2‬حياة اليتم والحرمان ال يعرفها إال من ذاقها‪،‬‬
‫وهي مما يرقق القلب‪ ،‬ويشعره بالرحمة‬
‫واإلنسانية تجاه المساكين والمحرومين ‪.‬‬
‫‪ 15‬إلى عمه الشفيق ‪:‬‬
‫ب أن يستسقي‬
‫قريش تطلب من أبي طال ٍ‬
‫ٌ‬ ‫كانت‬
‫لهم إذا أجدبت الديار – كما نقل ابن عساكر في‬
‫طالب وحمل النبي صلى‬
‫ٌ‬ ‫تاريخ دمشق‪ -‬فجاء أبو‬
‫هللا عليه وسلم – وكان يوم إ ٍذ صغيرًا أبي ً‬
‫ضا‪-‬‬
‫فألصقه بجدار الكعبة‪ ،‬فلما ألصقه بجدار الكعبة‬
‫أشار صلى هللا عليه وسلم بإصبعه إلى السماء‬
‫فسقوا‬
‫ُ‬ ‫وهو صبي‪ ،‬فجاء السحاب من كل مكان‬
‫طالب في الميته بعد‬
‫ٌ‬ ‫حتى سال الوادي‪ ،‬فقال أبو‬
‫ذلك‪:‬‬
‫وأبيض ُيستسقَى الغمام بوجهه‪            ‬ثِمال‬
‫َ‬
‫اليتامى عصم ٌ‬
‫ة لألرامل‬
‫ثِمال ‪ :‬أي ملجأ ومعين اليتامى ‪ //‬عصمة لألرامل ‪:‬‬
‫أي يمنعهم مما يضرهم‬
‫ك َر َ‬
‫ها اِ ْبن‬ ‫ذ َ‬‫صي َدة أِل َبِي طَالِب َ‬ ‫ن َ‬
‫ق ِ‬ ‫ه َذا ا ْلبَ ْيت ِ‬
‫م ْ‬ ‫و َ‬‫َ‬
‫ين‬ ‫ن ثَ َ‬
‫م ان ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ي أَ ْكثَر ِ‬‫ه َ‬
‫و ِ‬
‫ها ‪َ ,‬‬
‫السي َرة بِطُولِ َ‬
‫ِّ‬ ‫حاق فِي‬ ‫س َ‬ ‫إِ ْ‬
‫بَ ْيتًا ‪ ,‬قالها أبو طالب بعد البعثة عندما كان عادته‬
‫قريش لحمايته النبي ‪. ‬‬
‫يقول فيها لقريش ‪:‬‬
‫ح ْوله‬ ‫ما نطَا ِ‬
‫عن َ‬ ‫ولَ َّ‬
‫َ‬ ‫م ًدا‬
‫ح َّ‬
‫م َ‬ ‫وبَ ْيتِ اللَّه نَ ْب ِ‬
‫زي ُ‬ ‫ك َذ ْب ُت ْ‬
‫م َ‬ ‫َ‬
‫ضل‬
‫و ُن َنا ِ‬
‫َ‬
‫عَن أَ ْب َنائِ َنا‬
‫ْ‬ ‫و ُن ْذ َ‬
‫هل‬ ‫َ‬ ‫ح ْوله‬
‫ص َّرع َ‬
‫ح َّتى ُن َ‬
‫ه َ‬
‫سلِم ُ‬
‫و ُن ْ‬
‫َ‬
‫وا ْل َ‬
‫حاَل ئِل‬ ‫َ‬
‫حتى قال‪:‬‬
‫مال ا ْليَ َتا َ‬
‫مى‬ ‫ثِ َ‬ ‫ه‬
‫ه ِ‬
‫ج ِ‬
‫و ْ‬
‫مام بِ َ‬ ‫قى ا ْل َ‬
‫غ َ‬ ‫س َ‬‫س َت ْ‬ ‫وأَ ْبيَضَ ُي ْ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫مة لِأْل َ َرا ِ‬
‫م ِ‬ ‫ص َ‬
‫ع ْ‬‫ِ‬
‫ع ْنده فِي‬
‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ف ُه ْ‬ ‫شم‬ ‫ن آل َ‬
‫ها ِ‬ ‫ه ا ْل ُهاَّل ك ِ‬
‫م ْ‬ ‫يَلُوذ بِ ِ‬
‫ضلـ‬
‫وا ِ‬ ‫ف َ‬‫و َ‬‫مة َ‬ ‫نِ ْع َ‬
‫‪ 18‬حلف الفضول ‪:‬‬
‫كان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب‬
‫الفجار‪ ،‬وسببه أن رجال من َزبيد قدم مكة ببضاعة‬
‫فاشتراها منه العاص بن وائل‪ ،‬ومنعه حقه‬
‫فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش‪ ،‬فلم يعينوه‬
‫لمكانة العاص فيهم‪ ،‬فوقف عند الكعبة واستغاث‬
‫بآل فهر وأهل المروءة ونادى بأعلى صوته‪:‬‬
‫ببطن مكة نائي الدار‬ ‫م‬
‫يا آل فهر لمظلو ٍ‬
‫حجر‬ ‫ر‬
‫والنف ِ‬
‫لرجال وبين ال ِ‬ ‫يا لَ‬ ‫بضاعتهأشع ٍ‬
‫ث لم‬ ‫م‬
‫ومحر ٍ‬
‫ر‬
‫ج ِ‬
‫ح َ‬
‫حرام لثوب الفاجر‬ ‫وال َ‬ ‫عمرته‬
‫لمن تمت‬ ‫يقض‬
‫الحرام‬ ‫إن‬
‫غ َد ِر‬
‫فقال‪ :‬ما لهذا مترك‪.‬‬ ‫كرامته بن عبد المطلبال ُ‬
‫فقام الزبير‬
‫فاجتمعت بنو هاشم‪ ،‬وزهرة‪ ،‬وبنو تَ ْيم بن مرة في‬
‫دار عبد هللا بن جدعان فصنع لهم طعامًا‪ ،‬وتحالفوا‬
‫في شهر حرام‪ ،‬وهو ذو القعدة‪ ،‬فتعاقدوا وتحالفوا‬
‫ن ي ًدا واحدة مع المظلوم على الظالم‬
‫باهلل ليكو ُن ّ‬
‫جبَال‬
‫حتى ُيرد إليه حقه ما بل بح ٌر صوفة‪ ،‬وما بقي َ‬
‫ثبير وحراء مكانهما‪.‬‬
‫ثم مشوا إلى العاص بن وائل‪ ،‬فانتزعوا منه سلعة‬
‫الزبيدي‪ ،‬فدفعوها إليه‪.‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬إن العدل قيمة عظيمة في حياة األمم‪ ،‬ولهذا‬
‫أظهر الرسول ‪ ‬اعتزازه بالمشاركة في هذا الحلف‬
‫حتى لو صدر من أهل الجاهلية ‪.‬‬
‫‪ -2‬شيوع الفساد في نظام أو مجتمع ال يعني خلوه‬
‫من أي فضيلة‪ ,‬فمكة مجتمع جاهلي‪ ،‬ومع هذا كان‬
‫فيه رجال أصحاب نخوة ومروءةـ يكرهون الظلم وال‬
‫يقرونه‪ ،‬وفي هذا درس عظيم للدعاة في‬
‫مجتمعاتهم أن يستفيدوا من هذه الجوانب اإليجابية‬
‫في الدعوة ‪.‬‬
‫و ُنوا‬
‫وتَعَا َ‬
‫‪ -3‬جواز التحالف والتعاهد على فعل الخير ( َ‬
‫م‬ ‫و ُنوا عَ لَى ِ‬
‫اإل ْث ِ‬ ‫وال َ تَعَا َ‬ ‫وال َّت ْق َ‬
‫وى َ‬ ‫عَ لَى ا ْلب ِ‬
‫رّ َ‬
‫ن ) ‪ ،‬ويجوز للمسلمين أن يتعاقدوا مع‬ ‫وا ِ‬ ‫وا ْل ُ‬
‫ع ْد َ‬ ‫َ‬
‫الكفار عليه ‪.‬‬
‫‪19‬حياة العمل ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪)1‬التربية الجادة‪ :‬لقد كان سهال ً على هللا أن يهيئ‬
‫للنبي ‪ ‬أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما‬
‫يغنيه عن الكدح ورعاية األغنام سع ًيا وراء الرزق ‪.‬‬
‫ولكن الحكمة الربانية اقتضت أن تتهيأ النفس‬
‫لتحمل المهة العظيمة بالتربية الجادة‪ ،‬وأن تعلم أن‬
‫خير مال اإلنسان ما اكتسبه بكد يمينه ‪.‬‬
‫مصيبتنا اليوم ‪ ،‬من هزالة التربية‪ ،‬وميوعة الشباب‪،‬‬
‫واالنغماس في الترف ‪.‬‬
‫‪ )2‬في رعي الغنم عدة خصال تربوية وقيادية منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الصبر‪ :‬على الرعي من طلوع الشمس إلى‬
‫غروبها‪ ،‬نظرا لبطء الغنم في األكل‬
‫الراعي ال يعيش في قصر منيف ‪ ،‬وإنما يعيش في‬
‫جو حار شديد الحرارة‪ ،‬وبخاصة في الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬ويحتاج إلى الماء الغزير ليذهب ظمأه‪ ،‬وهو‬
‫ال يجد إال الخشونة في الطعام وشظف العيش ‪.‬‬
‫‪ ##‬الذي ال يصبر ال يصلح ( موقف مضحك مع‬
‫راعي آسيوي)‬
‫‪ -2‬التواضع‪ :‬إذ طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم‪,‬‬
‫واإلشراف على والدتها‪ ،‬والقيام بحراستها والنوم‬
‫بالقرب منها‪ ،‬وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها أو‬
‫شيء من روثها ‪ ،‬وهذا يبعد عن نفسه الكبر ‪.‬‬
‫‪ -3‬الشجاعة‪ :‬فطبيعة عمل الراعي االصطدام‬
‫بالوحوش المفترسة ‪.‬‬
‫‪ -4‬الرحمة والعطف‪ :‬إن الراعي يقوم بمقتضى‬
‫عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أو ُكسرت‬
‫أو أصيبت ‪.‬‬

‫‪ )3‬أن العمل وطلب الرزق ليس عيباً ‪ ،‬ولو كان عمال ً‬


‫متواضعاً كرعي الغنم ‪.‬‬
‫‪ 20‬تجارته وزواجه بخديجه ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬إن األمانة والصدق أهم مواصفات التاجر ‪ ،‬وقد‬
‫بين النبي صلى هللا عليه وسلم أن التاجر الصدوق‬
‫األمين مع النبيين والصديقين والشهداء ‪ ،‬صححه‬
‫األلباني ‪.‬‬
‫‪ -2‬من توفيق هللا تعالى زواج الحبيب المصطفى ‪‬‬
‫من السيدة خديجة ‪،‬تعيش همومه ‪ ،‬وتعينه وتؤازره‪،‬‬
‫وتخفف عنه ما يصيبه‪ ،‬وتعينه على حمل تكاليف‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫ل طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل‬
‫خديجة مث ٌ‬
‫العظيم‪ ،‬وإن أصحاب الرساالت العظيمة هم أحوج‬
‫ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة باإليناس‬
‫والترفيه ‪.‬‬
‫‪ -3‬كان عمر خديجة ‪ ،40‬لم يكن هم النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم المتعة الجسدية ومكمالتها كبقية‬
‫الشباب ‪ ،‬وإنما رغب فيها النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم لشرفها ومكانتها ‪ ،‬فقد كانت تلقب في‬
‫الجاهلية بالعفيفة الطاهرة‪.‬‬
‫وفي هذا ما يلجم ألسنة وأقالم الحاقدين على‬
‫اإلسالم من المستشرقين والعلمانيين‪ ,‬الذين‬
‫صوروا النبي صلى هللا عليه وسلم في صورة‬
‫الرجل الشهواني الغارق في لذاته وشهواته‪ ،‬الذي‬
‫تزوج كثيراً من النساء‪ ،‬حاشاه ‪. ‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم عاش إلى الخامسة‬
‫والعشرين من عمره في بيئة جاهلية‪ ،‬عفيف‬
‫النفس‪ ،‬ثم تزوج من امرأة لها ما يقارب ضعف عمره‪،‬‬
‫حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما‪ ،‬وقد‬
‫ناهز النبي عليه الصالة والسالم الخمسين من‬
‫العمر دون أن يفكر خاللها بالزواج بأي امرأة أخرى ‪.‬‬
‫دروس وفوائد من حادثة تجديد بنيان الكعبة والحجر األسود ‪:‬‬
‫‪ )1‬بنيت الكعبة خالل الدهر كله أربع مرات على‬
‫يقين‪:‬‬
‫‪ -1‬فأما المرة األولى منها‪ :‬فهي التي قام بها‬
‫إبراهيم عليه الصالة والسالم‪ ،‬يعينه ابنه إسماعيل‬
‫عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫‪ -2‬والثانية‪ :‬فهي تلك التي بنتها قريش قبل البعثة‪،‬‬
‫واشترك في بنائها النبي ‪. ‬‬
‫‪ -3‬والثالثة‪ :‬عام ‪ 64‬أو ‪65‬هـ عندما أعاد ابن الزبير‬
‫بناءها‪ .‬فباشر في رفع بناء البيت‪ ،‬وزاد فيه األذرع‬
‫الستة التي أخرجت منه‪ ،‬وزاد في طوله إلى‬
‫السماء عشرة أذرع وجعل له بابين لحديث عائشة‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬يا عائشة‪،‬‬
‫لوال أن قومك حديثو عهد بجاهلية‪ ،‬ألمرت بالبيت‬
‫فهدم‪ ،‬فأدخلت فيه ما أخرج منه‪ ،‬وألزقته باألرض‪،‬‬
‫وجعلت له بابين بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا فبلغت به‬
‫أساس إبراهيم) ‪.‬‬
‫‪ -4‬وأما الرابعة‪ :‬عام ‪73‬هـ في زمن عبد الملك بن‬
‫مروان بعدما قتل ابن الزبير‪ ,‬حيث أعادها الحجاج‬
‫على ما كان عليه زمن النبي ‪ .. ‬وبقيت عليه حتى‬
‫زمننا هذا ‪.‬‬
‫‪ )2‬طريقةفض التنازع كانت موفقة وعادلة‪ ،‬دلت‬
‫على ذكائه‪‬وأثبتت رجحان عقله‪.‬‬
‫وحصل لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم في هذه‬
‫الحادثة شرفان‪:‬‬
‫‪ -1‬شرف فصل الخصومة ووقف القتال المتوقع بين‬
‫قبائل قريش ‪.‬‬
‫‪ -2‬شرف تنافس عليه القوم وادخره هللا لنبيه ‪ ‬أال‬
‫وهو وضع الحجر األسود بيديه الشريفتين ‪.‬‬
‫‪ 23‬سيرته قبل البعثة ‪:‬‬
‫‪ )1‬هل النبي ‪ ‬معصوم من الكبائر والصغائر قبل‬
‫البعثة وبعدها؟‬
‫‪ -1‬أما الكفر فقد أجمع العلماء على أنه ‪ ‬معصوم‬
‫عنه قبل البعثة وبعدها ‪.‬‬
‫‪ -2‬أما الكبائر فقد نص العلماء على عصمته منها‬
‫بعد البعثة ‪ ،‬أما قبل البعثة فمحل نظر‪ ،‬وذكر‬
‫بعض العلماء أنه ال يمنع وقوعها منه قبل البعثة ‪،‬‬
‫لكن الوقائع التاريخية في السيرة تدل على‬
‫عصمته منها قبل البعثة أيضاً ‪.‬‬
‫فإنه عصم عن سماع وحضور أعراس الجاهلية ‪،‬‬
‫ولم يمس صنماً قط‪ ،‬ولم يكن يأكل مما يذبح على‬
‫النصب ‪ ،‬ولم يكن يحلف باألصنام بل يكره ذلك ‪.‬‬
‫‪ -3‬وأما الصغائر فتجوز عنه قبل البعثة وبعدها ‪.‬‬

‫‪ )2‬ال بد للداعية من معايشة الناس‪ ،‬ومعرفة الواقع‬


‫الذي يعيش فيه‪ ،‬ألن معرفة الداء سبيل لمعرفة‬
‫الدواء ‪ ..‬كما وقع له من معرفة أحوال قريش ‪،‬‬
‫وتجارب السفر والتجارة‪.‬‬
‫لكن ‪ ،‬ال بد للمعايشة من البصيرة ‪ ،‬والحذر من‬
‫التنازالت غير المحسوبة ‪ ،‬وال بد من التفريق بين‬
‫المداهنة والمداراة ‪.‬‬

‫‪ )3‬كون الداعية لم يعرف بجاهلية سابقة‪ ،‬هذا هو‬


‫األكمل ‪ ،‬ألنه هو صاحب الدعوة وهو القدوة ‪،‬‬
‫حتى ال يستطيل أهل المنكرات في عرضه‪،‬‬
‫ويحتجون عليه بما كان يفعله في الماضي ‪ ..‬كما‬
‫قال فرعون‪( :‬وفعلت فعلتك التي فعلت وكنت من‬
‫الكافرين) أي قتل الرجل ‪.‬‬
‫ولكن هل هذا شرط للدعوة؟ هل يقدح في الداعية‬
‫أنه كان ضاال ً فتاب؟‬
‫الجواب ال ‪ ،‬ألن العبرة شرعاً وعقال ً بحاضر الداعية ال‬
‫بماضيه متى ما تركه وصدق في التوبة ‪ ..‬وتأمل‬
‫حال الصحابة وهم أفضل القرون ‪ ،‬كيف كانوا في‬
‫الجاهلية ‪.‬‬
‫‪ 24‬بداية النبوة ونزول الوحي ‪:‬‬
‫أبيات ورقة‬
‫هم طالما بعث النَّشيجا‬
‫لَ ٍّ‬ ‫لجوجا‬
‫ً‬ ‫لَجـِجت وكنت في الذكرى‬
‫فقد طال انتظاري يا خديجا‬ ‫ٍ‬
‫وصف‬ ‫ٍ‬
‫ووصف من خديجة بعد‬
‫حديثَك أن أرى منه خروجا‬ ‫ببطن َّ‬
‫المكتين على رجائي‬
‫من الرهبان أكره أن يعوجا‬ ‫س‬‫بما َخ َّبرتِنا من قول قَ ٍ‬
‫صم من يكون له حجيجا‬‫وي ْخ ِ‬ ‫بأن محم ًدا سيسود فينا‬
‫َ‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ )1‬في تعبده ‪ ‬في غار حراء درس في تربية الروح ‪ ،‬وتفريغ القلب والعقل ‪..‬‬
‫واالنقطاع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق‪ ،‬والتفرغ لمناجاة مبدع الكون‬
‫وخالق الوجود ‪.‬‬
‫قيل إنه كان يتعبد بما بقي من شرائع األنبياء السابقين ‪ ..‬لكن من الظاهر أنه كان‬
‫يتعبد بالتفكر في بديع ملكوت السماوات‪ ،‬والنظر في آياته الكونية ‪ ،‬ومكان‬
‫الغار يبعث على التأمل والتفكر‪ ،‬وأنت فوق الجبل ال ترى حولك إال جباالً‬
‫ساجدة متطامنة لعظمة اهلل‪ ،‬وال ترى فوقك إال سماء عظيمة صافية ‪.‬‬
‫وقد أخذ بعض أهل السلوك من ذلك‪ ,‬فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في‬
‫مرحلة من مراحل السلوك‪ ،‬لتنوير القلب وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته‬
‫وشهوته وهفوته ‪.‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يحافظ على سنة االعتكاف في رمضان‪ ،‬وشرعها لألمة لتنقية‬
‫الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب ‪.‬‬
‫وليس المراد العزلة الدائمة ‪ ،‬بل العزلة التربوية المؤقتة ‪.‬‬

‫‪ )2‬الشرف العظيم على محمد‪ H‬وأمته بنزول الوحي ‪ ،‬نزل جبريل بالوحي من اهلل‬
‫ليعطيه أعظم ٍ‬
‫شرف على اإلطالق وهو أنه خاتم النبيين‪ ،‬كان رجال من عامة‬
‫الناس‪ ،‬ما بين هذه اللحظة وهذه اللحظة أصبح خاتم األنبياء وسيد المرسلين ‪.‬‬
‫ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟‬
‫حقيقته أن اهلل جل جالله‪ ،‬العظيم الجبار القهار المتكبر‪ ،‬مالك الملك كله‪ ،‬قد‬
‫تكرم –في عليائه– فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة باإلنسان‪ ،‬باختيار واحد‬
‫منها ليكون ومهبط كلماته ‪ ،‬ومستودع حكمته ‪.‬‬

‫‪ )3‬كانت بداية الوحي اإللهي فيها إشادة بالقلم وخطره‪ ،‬والعلم ومنزلته‪ ,‬في بناء‬
‫الشعوب واألمم ‪.‬‬
‫اإلسالم يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ‪ ،‬ولهذا كانت أول كلمة في‬
‫النبوة تصل إلى رسول اهلل هي األمر بالقراءة ( اق َْرأْ) ‪ ..‬فهل نحن نقرأ ونتعلم؟‬

‫‪ )4‬أنواع الوحي‪ :‬كما ذكر ابن القيم في الزاد‬


‫‪ -1‬الرؤيا الصادقة‪ :‬وكانت مبدأ وحيه ‪ ،‬وقد جاء في الحديث «رؤيا األنبياء‬
‫وحي»‪،‬‬
‫‪ -2‬اإللهام‪ :‬وهو أن ينفث الملك في روعه – أي قلبه من غير أن يراه‪ -‬كما‬
‫قال عليه الصالة والسالم‪« :‬إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس‬
‫حتى تستكمل رزقها‪ ،‬فاتقوا اهلل وأجملوا في الطلب»‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يأتيه مثل صلصلة الجرس‪ ،‬أي مثل صوته في القوة‪ ،‬وهو أشده‪ ،‬كما في‬
‫حديث عائشة‪ :‬أن الحارث ‪ ‬سأل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كيف يأتيك‬
‫الوحي؟ فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد‬
‫علي‪ ,‬فيفصم عني وقد وعيت ما قال‪ ،‬وأحيانًا يتمثل لي الملك رجالً فيكلمني‬
‫فأعي ما يقول»‪.‬‬
‫‪ -4‬ما أوحاه اهلل تعالى إليه‪ ،‬بال وساطة ملك‪ ,‬كما كلم اهلل موسى بن عمران‬
‫قطعا بنص القرآن‪ ،‬وثبوتها لنبينا ‪‬‬
‫عليه السالم‪ ،‬وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى ً‬
‫في حديث اإلسراء ‪.‬‬
‫‪ -5‬أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها‪ ،‬فيوحي إليه ‪.‬‬
‫‪ -6‬أنه صلى اهلل عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجالً‪ ،‬فيخاطبه حتى يعي عنه‬
‫ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا ‪.‬‬

‫‪ )5‬في إخبار النبي ‪ ‬لخديجه‪ ،‬وتطمينها له بقولها ‪ :‬كال واهلل ما يخزيك اهلل أبداً‬
‫إنك لتصل الرحم ‪ ...‬الخ‬
‫صة ِم ْن الْ َف َوائِد اِ ْستِ ْحبَاب تَأْنِيس َم ْن َن َز َل بِ ِه أ َْمر بِ ِذ ْك ِر‬ ‫قال ابن حجر‪َ :‬وفِي َه ِذ ِه ال ِْق َّ‬
‫ب لَهُ أَ ْن يُطْلِع َعلَْي ِه َم ْن يَثِق‬ ‫َن َم ْن َن َز َل بِ ِه أ َْمر اُ ْستُ ِح َّ‬
‫َت ْي ِسيره َعلَْي ِه َوَت ْه ِوينه لَ َديْ ِه ‪َ ,‬وأ َّ‬
‫ص َّحة َرأْيه ‪.‬‬‫صيحتِ ِه و ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫بنَ َ َ‬
‫‪ )6‬أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة‪:‬‬
‫كان موقف خديجة رضي اهلل عنها يدل على قوة قلبها‪ ،‬حيث لم تفزع من سماع‬
‫هذا الخبر‪ ،‬واستقبلت األمر بهدوء وسكينة‪،‬ويدل على سعة إدراكها‪ ،‬حيث‬
‫قارنت بين ما سمعت‪ ,‬وواقع النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فأدركت أن من ُجبـِـل‬
‫على مكارم األخالق ال يخزيه اهلل أب ًدا ‪.‬‬
‫وزنت الحادثة بإيمانها الفطري‪ ،‬و معرفتها بسنن اهلل تعالى في خلقه‪ ،‬وإلى يقينها‬
‫بما يملك محمد صلى اهلل عليه وسلم من رصيد األخالق‪ ،‬ثم عرضت األمر على‬
‫ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل‪ ،‬وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم وتقوية قلبه ‪.‬‬
‫لقد قامت خديجة رضي اهلل عنها بدور مهم في حياة النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وفقه اهلل تعالى إلى هذه الزوجة المثالية‪ ،‬وأصبحت مثاالً حسناً ‪ ,‬وقدوة رفيعة‬
‫لزوجات الدعاة‪ ،‬فالداعية إلى اهلل ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء‬
‫هم ورسالة ‪ ..‬وهذا الواجب يتطلب وقتًا طويالً يأخذ عليه‬
‫الدعوة ‪ ..‬إنه صاحب ٍّ‬
‫أوقات نومه وراحته‪ ،‬وأوقات زوجته وأبنائه‪ ،‬ويتطلب تضحية بالمال والوقت‬
‫والدنيا ‪ ..‬فهو يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته ‪.‬‬
‫‪ 25‬القيام بالدعوة ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫م فَأَنْ ِذ ْر ‪ ..‬كانت هذه اآليات المتتابعة إيذانًا‬
‫ُق ْ‬ ‫‪)1‬‬
‫للرسول صلى هللا عليه وسلم بأن الماضي قد‬
‫انتهى بمنامه وهدوئه‪ ،‬وأنه أمامه عمل عظيم‪,‬‬
‫يستدعي اليقظة والتشمير‪ ،‬واإلنذار واإلعذار‪،‬‬
‫فليحمل الرسالة‪ ،‬وليوجه الناس ‪.‬‬

‫‪ )2‬تحرك أبي بكر ‪ ‬في الدعوة إلى هللا تعالى‬


‫يوضح صورة المؤمن الذي ال يقر له قرار‪ ،‬وال يهدأ‬
‫له بال‪ ،‬حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به ‪.‬‬
‫وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته لم يفتر أو‬
‫يضعف إلى أن توفاه هللا جل وعال‪.‬‬

‫‪ )3‬وفي موقف أبي بكر فائدة أخرى وهي عامل‬


‫من عوامل نجاح الداعية وهي جاهه ومكانته‬
‫وعالقاته في المجتمع واختالطه بالناس ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق في أبي بكر‪( :‬وكان رجال من‬
‫قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من األمر‪ ،‬لعلمه‬
‫وتجارته وحسن مجالسته)‪.‬‬
‫إذن ‪ ..‬أصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار‬
‫للدعوة‪ ،‬ولهذا كان أثر أبي بكر ‪ ‬في اإلسالم أكثر‬
‫من غيره ‪.‬‬
‫‪ )4‬الشباب هم حملة الرسالة‪ ،‬وعماد الدعوة ‪:‬‬
‫عندما تحرك في دعوته لإلسالم استجاب له صفوة‬
‫من شباب مكة أسلموا على يد أبي بكر‪ ،‬كم كانت‬
‫أعمارهم؟‬
‫● عثمان بن عفان ‪ /  34‬عبد الرحمن بن عوف ‪‬‬
‫‪ / 30‬سعد بن أبي وقاص ‪ /  17‬الزبير بن العوام ‪‬‬
‫‪ / 12‬طلحة بن عبيد هللا ‪.  13‬‬
‫كان هؤالء األبطال الخمسة وغيرهم من شباب‬
‫مكة‪ ،‬الدعامات األولى التي قام عليها صرح‬
‫الدعوة ‪ ..‬إذا أردنا لألمة النهوض نقول‪ :‬أين شبابنا‬
‫اليوم؟ هل يستشعرون الهم؟‬

‫‪ )5‬كانت الدعوة في هذه المرحلة سرية ‪3‬‬


‫سنوات ‪ ..‬هذا يدعون إلى سؤال‪ :‬هل السرية‬
‫منهج ثابت ال بد منه‪ ،‬أو التقيد بمداها الزمني ‪3‬‬
‫سنوات؟‬
‫الجواب‪ :‬ال ‪ ..‬السرية كانت مرحلة اقتضتها ظروف‬
‫وواقعـ الدعوة ‪ ..‬وليست أمراً حتمياً على كل من أراد‬
‫أن يقوم بالدعوة في كل مجتمع ‪.‬‬
‫األحوال تختلف ‪ ..‬هناك مجتمعات تقتضي ظروفها‬
‫الكتمان والسرية كما وقع في بعض الدول‬
‫الشيوعية وبعض الدول التي خضعت لالتحاد‬
‫الروسي ‪ ..‬وهناك دول أخرى فيها من الحرية ما ال‬
‫يقتضي السرية ‪.‬‬

‫‪ )6‬فقه النبي صلى هللا عليه وسلم في التعامل‬


‫مع السنن ‪:‬‬
‫إن بناء الدول وتربية األمم‪ ,‬والنهوض بها يخضع‬
‫لقوانين وسنن ‪.‬‬
‫وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى صلى‬
‫هللا عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين‬
‫بحكمة وقدرة فائقة ‪ ..‬كأهمية القيادة في صناعة‬
‫الحضارات‪ ،‬وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة ‪..‬‬
‫وأهمية المنهج الذي تستمد منه العقائد واألخالق‬
‫والعبادات ‪.‬‬
‫ومن السنن هللا الواضحة فيما ذكر سنة التدرج ‪،‬‬
‫وهي من السنن الهامة التي يجب على األمة أن‬
‫تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين هللا ‪.‬‬
‫ولهذا بدأت الدعوة اإلسالمية األولى متدرجة ‪..‬‬
‫بمرحلة االصطفاء والتأسيس‪ ،‬ثم مرحلة المواجهة‬
‫والمقاومة‪ ،‬ثم مرحلة النصر والتمكين ‪.‬‬
‫من الخطأ أن بعض العاملين يظنون أن التمكين‬
‫وتغيير واقع األمة ربما يتحقق في طرفة عين!!!‬
‫وهذا محال ‪.‬‬
‫عا إسالم ًيا حقي ً‬
‫قا‪ ،‬بقرار يصدر‬ ‫ال يمكن أن نقيم مجتم ً‬
‫من رئيس‪ ,‬أو ملك‪ ,‬أو من مجلس برلماني‪ ،‬إنما‬
‫يتحقق ذلك بطريق التدرج‪ ،‬أي باإلعداد‪ ،‬والتهيئة‬
‫الفكرية والنفسية واالجتماعية‪.‬‬
‫وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي ‪ ‬لتغيير الحياة‬
‫الجاهلية إلى الحياة اإلسالمية‪ ،‬فقد ظل ثالثة عشر‬
‫عامًا في مكة‪ ،‬كانت مهمته األساسية فيها تنحصر‬
‫في تربية الجيل المؤمن‪,‬ـ الذي يستطيع أن يحمل‬
‫عبء الدعوة‪ ،‬وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في‬
‫اآلفاق‪ ،‬ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع‬
‫بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين ‪.‬‬
‫‪ 26‬الجهر بالدعوة ‪ /‬الدعوة في األقربين – دعوة قريش كلها ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫(وأنذر عشيرتك األقربين) ‪:‬‬ ‫‪)1‬‬
‫أن يبدأ بأهل بيته‪ ،‬وأصدقائه‪ ،‬وأقرب الناس إليه ‪..‬‬
‫واألقربون أولى بالمعروف‪ ،‬ودعوته أوجب من دعوة‬
‫غيرهم ‪ ..‬وبعض الشباب نشيط في الدعوة إال في‬
‫أهله ‪ ،‬ربما تهاوناً ‪ ،‬وربما حيا ًء وخجال ً ‪.‬‬
‫‪ )2‬حكمته ‪ ‬في الدعوة ‪ ،‬عندما جمع قومه‬
‫وقبيلته ‪ ،‬على الصفا وهو مكان مرتفع أدعىـ‬
‫لوضوح رؤية المخاطبين له‪ ،‬ووصولـ صوته لهم‬
‫(كمحطة إرسال) ‪.‬‬
‫وعندما تكلم بدأ دعوته بتقرير صدقه وشفقته‬
‫عليهم‪ ،‬ثم صرح بالدعوة بعد تسليمهم بصدقه ‪.‬‬
‫وهذا من باب االستدالل باألمر المعلوم الذي تمت‬
‫القناعة به على األمر الجديد الذي يدعى إليه ‪.‬‬
‫‪ 28‬سبل مواجهة الدعوة ‪ /‬تعذيب المسلمين ‪:‬‬
‫قصة ضرب أبي بكر ‪:‬‬
‫روت عائشة رضي هللا تعالى عنها‪ ,‬أنه لما اجتمع‬
‫أصحاب النبي ‪ ‬وكانوا ثمانية وثالثين رجال ً ألح أبو‬
‫بكر ‪ ‬على رسول هللا ‪ ‬في الظهور‪ ،‬فقال‪« :‬يا أبا‬
‫بكر إنا قليل» فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسولـ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتفرق المسلمون في‬
‫نواحي المسجد كل رجل في عشيرته‪ ،‬وقام أبو‬
‫بكر في الناس خطيبًا ورسولـ هللا ‪ ‬جالس‪ ،‬فكان‬
‫أول خطيب دعا إلى هللا ‪.‬‬
‫فثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين‪،‬‬
‫وضربوهم في نواحي المسجد ضربًا شدي ًدا‪ ،‬و ُوطئ‬
‫أبو بكر وضرب ضربًا شدي ًدا‪ ،‬ودنا منه الفاسق عتبة‬
‫بن ربيعة فجعل يضربه في وجهه بنعلين وصعد‬
‫على بطن أبي بكر ‪ ،‬حتى ما يعرف وجهه من أنفه‪،‬‬
‫حتى جاءت بنو تيم –قوم أبي بكر‪ -‬فأبعدوا‬
‫المشركين عن أبي بكر‪ ،‬ثم حملوا أبا بكر في ثوب‬
‫حتى أدخلوه منزله‪ ،‬وهم ال يشكون في موته‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬وهللا لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة ‪.‬‬
‫ثم جعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر‪،‬‬
‫فلم يتكلم إال آخر النهار‪ ،‬فقال‪ :‬ما فعل رسول هللا‬
‫‪‬؟ ‪ ..‬فتكلموا عليه بألسنتهم وعذلوه‪ ،‬ثم قال ألمه‬
‫أم الخير‪ :‬ما فعل رسول هللا ‪‬؟ فقالت‪ :‬وهللا ما لي‬
‫علم بصاحبك‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبي إلى أم جميل بنت‬
‫الخطاب فاسأليها عنه‪ ،‬فخرجت حتى جاءت أم‬
‫جميل‪ ،‬فقالت‪ :‬إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد‬
‫هللا‪ .‬فقالت‪ :‬ما أعرف أبا بكر وال محمد بن عبد هللا‪،‬‬
‫وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فمضت معها‪ ،‬فلما دخلت على أبي بكر‪ ،‬ورأته‬
‫طريحاً صاحت‪ ،‬وقالت‪ :‬وهللا إن قومًا نالوا هذا منك‬
‫ألهل فسق وكفر‪ ،‬إنني ألرجو أن ينتقم هللا لك‬
‫منهم‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬فما فعل رسولـ هللا ‪‬؟ قالت‪:‬‬
‫هذه أمك تسمع‪ ،‬قال‪ :‬فال شيء عليك منها‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫سالم صالح‪ .‬قل‪ :‬أين هو؟ قالت‪ :‬في دار األرقم‪،‬‬
‫قال‪ :‬فإن هلل علي أن ال أذوق طعامًا وال أشرب‬
‫شرابًا حتى آتي رسول هللا ‪ .. ‬فانتظرت أمه وأم‬
‫جميل حتى إذا هدأت الحركة وسكن الناس‪ ،‬خرجتا‬
‫به يتكئ عليهما‪ ،‬حتى أدخلتاه على رسول هللا ‪،‬‬
‫فأكب عليه رسول هللا ‪ ‬فقبله‪ ،‬وأكب عليه‬
‫المسلمون‪ ،‬ورقَّ له رسول هللا ‪ ‬رقة شديدة‪ ،‬فقال‬
‫أبو بكر‪ :‬بأبي وأمي يا رسول هللا‪ ،‬ليس بي بأس إال‬
‫ما نال الفاسق من وجهي‪ ،‬وهذه أمي برة بولدها‪,‬‬
‫وأنت مبارك فادعها إلى هللا‪ ،‬وادع هللا لها‪ ,‬عسى‬
‫هللا أن يستنقذها بك من النار‪ ،‬قال‪ :‬فدعا لها رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪,‬ـ ودعاها إلى هللا‬
‫‪.‬‬
‫فأسلمت‬
‫دروس وفوائد من هذه القصة‪:‬‬
‫أ‪ -‬شجاعة أبي بكر ‪ ‬وقوةـ إيمانه بحرصه على‬
‫إعالن اإلسالم‪ ،‬وإظهاره أمام الكفار‪.‬‬
‫ب‪ -‬الحب الذي كان يكنه أبو بكر لرسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬حتى إنه وهو في تلك الحال‬
‫الحرجة لم يعد يفكر وال يهتم إال بالرسول ‪. ‬‬
‫وكل مصاب في سبيل هللا ومن أجل رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم هين ويسير‪.‬‬
‫ج‪ -‬العصبية القبلية كان لها دور في توجيه األحداث‬
‫والتعامل مع األفراد حتى مع اختالف العقيدة‪ ،‬ولهذا‬
‫هدد بنو تيم قبيلة أبي بكر بقتل عتبة إن مات أبو‬
‫‪.‬‬
‫بكر‬
‫د‪ -‬الحس األمني ألم جميل ‪-‬رضي هللا عنها‪-‬‬
‫المتمثل في إخفاء الشخصية والمعلومةـ عن طريق‬
‫اإلنكار ‪ ..‬عندما أنكرت أنها تعرف أبا بكر أومحمداً ‪.. ‬‬
‫وعندما سألها أبو بكر ‪ ,‬عن رسول هللا ‪ ‬قالت له‪:‬‬
‫«هذه أمك تسمع؟» زيادة في الحيطة والحذر ‪ ..‬ثم‬
‫تأخرت عن االستجابة‪ ،‬حتى إذا هدأت الحركة ‪.‬‬
‫هـ‪ -‬قانون المنحة بعد المحنة‪ ،‬حيث أسلمتـ أم‬
‫الخير أم أبي بكر بعد تعذيبه ‪ ,‬بسبب رغبة الصديق‬
‫في إدخال أمه إلى حظيرة اإلسالم‪ ،‬ودعاء الرسول‬
‫‪.‬‬
‫دروس وفوائد من تعذيب المؤمنين‪:‬‬
‫‪ )1‬االبتالء ‪ ..‬سنة هللا في عباده المؤمنين ‪.‬‬
‫لماذا االبتالء؟ أليس هللا بقادر على أن ينصر دينه‬
‫ويعز أولياءه ويهلك أعداءهـ بكلمة واحدة؟ ‪ ..‬هذه‬
‫سنة هللا ‪( ..‬الم أحسب الناس أن يتركوا ‪)...‬ـ ‪.‬‬
‫االبتالء هو الميزان الذي يتميز به الصادق من‬
‫الكاذب ‪.‬‬
‫ما كان يعرف طيب‬ ‫لوال اشتعال النار فيما جاورت‬
‫عرف العود‬
‫نعم ‪ ،‬إن معاني اإليمان واليقين والصبر تبقى كامنة‬
‫في النفس حتى إذا وضعت عليها جمرة االبتالء‬
‫فاحت وعطرت األرجاء ‪.‬‬

‫التفت اآلن في العالم ‪ ،‬لتجد مصداق هذا الكالم‬


‫فيما يتعرض له المسلمون المستضعفون في‬
‫سجون أعداء هللا ‪ ،‬من الكافرين‪ ،‬أم أشباه‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫وتنقل الصور البشعة عن أحوال األسرى في‬
‫فلسطين وغوانتنامو وأبو غريب ‪ ..‬بل وهللا في‬
‫سجون بعض الدول التي يقال أنها إسالمية ‪.‬‬
‫وما نقموا منهم إال أن يؤمنوا باهلل العزيز الحميد ‪.‬‬
‫ال تحسبن هللا غافال ً عما يعمله هؤالء الظلمة‬
‫الطغاة‪ ،‬أو أن هللا ال يقدر على أن ينصر أولياءه أو‬
‫يعصمهم من األذى ‪ ..‬لكنها سنة هللا ‪.‬‬
‫(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم ‪...‬ـ قريب)‬
‫‪ )2‬في هذه المواقف البطولية للصحابة‪ ،‬درس في‬
‫الصبر على البالء‪ ،‬إذا نزل بك البالء بسبب دينك‬
‫فاصبر واعلم ان هذا من حب هللا لك ‪ ،‬في الحديث (‬
‫إن هللا إذا أحب قوماً ابتالهم) ‪ ..‬وفي الحديث اآلخر‬
‫أن أهل العافية يودون يوم القيامة أنهم قرضوا في‬
‫الدنيا بالمقاريض لما يرون من عظم الجزاء ألهل‬
‫البالء ‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل يتمنى العبد البالء؟ ال ‪ ،‬اسأل هللا العافية ‪،‬‬
‫فإذا ابتليت فاصبر ‪.‬‬
‫في قصة عمار فائدة في الرخصة في قول أو فعل‬
‫الكفر عند اإلكراه – أعني اإلكراه الملجيء‪ -‬إذا كان‬
‫القلب مطمئناً باإليمان‪ ،‬وإن كان األفضل الصبر‬
‫واألخذ بالعزيمة وال سيما لألئمة والقادة ‪.‬‬
‫كما أخذ بالل بالعزيمة‪ ،‬وكما فعل حبيب بن زيد‬
‫‪.‬‬ ‫األنصاري عندما وقف أمام مسيلمة الكذاب‬
‫يقول عنه ابن كثير في تفسيره‪" :‬ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة قبل أن يسلم عمرو فقال له‬

‫مسيلمة‪ :‬ماذا أنزل على صاحبكم هذه المدة؟ فقال عمرو‪ :‬لقد أنزلت عليه سورة وجيزة بليغة‪ .‬قال‪ :‬وما هي؟‬

‫قال‪ { :‬والعصر* إن اإلنسان لفي خسر* إال الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}‪.‬‬

‫ي مثلها‪ .‬قال عمرو‪ :‬ما هو؟ قال الكذاب‪ :‬ياوبر ياوبر‪ ،‬إنما أنت أذنان‬
‫فسكت مسيلمة برهة ثم قال‪ :‬وأنا انزل عل َّ‬

‫وصدر‪ ،‬وسائرك حر نقر‪ .‬ثم قال‪ :‬كيف ترى يا عمرو؟ قال عمرو‪ :‬وهللا إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب‪.‬‬

‫وكان مما يقول‪ :‬يا ضفدع بنت ضفدعين‪ ،‬نقي كم تنقين‪ ،‬أعالك في الماء وأسفلك في الطين‪ ،‬ال الشارب‬

‫تمنعين‪ 6،‬وال الماء تكدرين‪( .‬فأين هذا من مثل "والعصر"؟)‬


‫قال له مسيلمة‪ :‬تشهد أن محمداً رسول هللا؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬قال‪ :‬تشهد أني رسول هللا؟ قال‪ :‬ال أسمع‪،‬‬
‫فأخذ المجرم يقطع جسده قطعة قطعة ‪ ،‬وهو ثابت‬
‫على دينه حتى مات ‪.‬‬
‫‪ 29‬موقف المشركين من رسول هللا ‪: ‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪)1‬في موقف أبي طالب مع النبي ‪ ‬فائدة‪ ،‬وهي أن‬
‫الداعية قد يستفيد من القبلية والقرابة في‬
‫حمايته وحماية دعوته‪ ،‬وال سيما إذا كانت الدعوة‬
‫في مهدها ومستضعفة من المجتمع ‪.‬‬
‫‪ )2‬لطف هللا تعالى بعبده وحفظه له ‪ ..‬نعم قد‬
‫يصيبه بعض البالء بإذن هللا وبحكمته ‪.‬‬
‫(إنا كفيناك المستهزئين) ‪ ..‬من توكل على هللا كفاه‬
‫‪ ..‬ولو ان عبداً كادته السماوات واألرض لجعل هللا له‬
‫فرجاً ومخرجاً ‪.‬‬
‫‪ 30‬دار األرقم ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ )1‬قد تدعو الظروف إلى سرية الدعوة‪ ،‬واالختفاء‬
‫عن المجتمع حفاظاً على الجماعة المسلمة‬
‫والتقائها بالمعلم األول ‪. ‬‬
‫إال أن هذا األمر ليس قاعدة ثابتة في الدعوة‪ ،‬بل‬
‫هو أمر فرضته المصلحة والظروف الواقعة المحيطة‬
‫بالدعوة ‪.‬‬
‫فال يعارضه قول بعض السلف ‪ :‬إذا رأيت الناس‬
‫يتناجون في دينهم فاعلم أنهم على غير الحق ‪ .‬ألن‬
‫هذا إنما يكون في وقت ظهور الدين واألمن من‬
‫الفتنة والبالء ‪.‬‬
‫‪ )2‬حكمة وذكاء النبي ‪ :‬لماذا اختار النبي ‪ ‬دار‬
‫األرقم؟‬
‫‪ -1‬أنه لم يكن معروفاً بإسالمه ‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه كان من بني مخزوم التي تحمل لواء‬
‫الحربو تنافس بني هاشم فيستبعد أن‬
‫يختفي النبي ‪ ‬في قلب عدوه ‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه كان صغير السن حين اسلم ‪ ..‬كان عمره‬
‫‪ 16‬عاماً فليس من كبار الصحابة الذين قد‬
‫يختفي النبي ‪ ‬عندهم ‪.‬‬
‫‪ -4‬أن داره كانت قريبة من الصفا ‪ ،‬وسط حركة‬
‫الناس مما يصعب إدراك حركة خاصة ألناس‬
‫معينين ‪.‬‬
‫‪ 31‬الهجرة الى الحبشة ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬

‫مشروعية الهجرة إلى هللا ورسولهـ‬ ‫‪)1‬‬

‫أسباب الهجرة إلى الحبشة‪:‬‬ ‫‪)2‬‬


‫كانت األهداف من هجرة الحبشة متعددة منها ‪:‬‬
‫‪ -‬الفرار بالدين خشية االفتتان ‪.‬‬
‫‪ -‬البحث عن مكان آمن للمسلمين ريثما يشتد عود‬
‫اإلسالم وتهدأ العاصفةن فكان يبحث الرسول صلى‬
‫هللا عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة‪ ،‬قاعدة‬
‫تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية‬
‫‪ -‬نشر الدعوة خارج مكة‪ ،‬وشرح قضية اإلسالم‪،‬‬
‫على نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك‬
‫سياسي يشرح قضاياها وكسب الرأي العام ‪.‬‬
‫ومما يدعم الرأي القائل بكون الدعوة للدين الجديد‬
‫فا من أسباب الهجرة‪,‬‬‫في أرض الحبشة سب ًبا وهد ً‬
‫م آخرين من أهل الحبشة ‪.‬‬
‫إسالم النجاشي‪ ،‬وإسال ُ‬

‫‪ )3‬لماذا اختار النبي صلى هللا عليه وسلم الحبشة؟‬


‫أ‪ -‬النجاشي العادل ب‪ -‬النجاشي الصالح‪:‬‬
‫"وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي‪ ،‬ال‬
‫يظلم أحد بأرضه»‬
‫ج‪ -‬الحبشة متجر قريش‪ :‬ذكر الطبري وكانت أرض‬
‫الحبشة متجرًا لقريش‪ ،‬يتجرون فيها‪ ،‬يجدون فيها‬
‫د‪-‬‬ ‫رفاها من الرزق وأمنًا‪ ،‬ومتجرًا حسنًا»‬
‫الحبشة بلد آمن‪:‬‬
‫‪)4‬شفقة هذا الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم‬
‫على أصحابه ورحمته بهم‪ ،‬وحرصه الشديد‬
‫للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم‪،‬‬

‫‪ )5‬مشروعية الهجرة‪ ،‬إذا كان الخروج فرارًا بالدين‬


‫وإن لم يكن إلى إسالم‪ ،‬فإن أهل الحبشة كانوا‬
‫نصارى يعبدون المسيح ‪ ،‬والمسلمون خرجوا من‬
‫بيت هللا الحرام إلى دار الكفر‪ ،‬لما كان فعلهم ذلك‬
‫احتياطًا على دينهم‪ ,‬ورجاء أن ُيخلى بينهم وبين‬
‫عبادة ربهم‪ ,‬يذكرونه آمنين مطمئنين ‪.‬‬
‫وهذا الحكم مستمر متى غلب المنكر في بلد‪,‬‬
‫وأوذيـ على الحق مؤمنـ ورأى الباطل قاهرًا للحق‬
‫ورجا أن يكون في بلد آخر‪ ،‬أي بلد كان‪ ،‬خلى بينه‬
‫وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على‬
‫هذا الوجه حق على المؤمنـ ‪.‬‬

‫يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير‬ ‫‪)6‬‬


‫المسلمين‪ ،‬إذا دعت الحاجة إلى ذلك‪ ،‬سواء كان‬
‫المجير من أهل الكتاب كالنجاشي‪ ،‬إذ كان‬
‫نصرانيًّا عندئذ‪ ،‬ولكنه أسلم بعد ذلك‪ ،‬أو كان‬
‫مشر ً‬
‫كا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة‬
‫في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة‪ ،‬وكأبي‬
‫طالب عم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫والمطعم بن عدي الذي دخل الرسولـ صلى هللا‬
‫عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من‬
‫الطائف ‪.‬‬
‫وهذا األمر مشروط بأال تستلزم مثل هذه الحماية‬
‫إضرارًا بالدعوة اإلسالمية‪ ،‬أو تغييرًا لبعض أحكام‬
‫الدين‪ ،‬أو سكوتًا على اقتراف بعض المحرمات ‪.‬‬
‫اجتمع الصحابة حين جاءهم رسولـ النجاشي‬
‫وطلب منهم الحضور‪ ،‬وتدارسوا الموقف‪ ،‬ولم‬
‫يختلفوا بل أجمعوا على رأي واحد ‪ ..‬وهكذا كان أمر‬
‫المسلمين شورى بينهم ‪.‬‬

‫‪)7‬دهاء عمرو بن العاص ‪ ‬وكان على الكفر ‪ :‬نريد أن نعمل‬


‫مقارنة‬
‫تحدث وهو سفير مكة وهو ثقة عنده عن وقوع‬ ‫‪-1‬‬
‫الفتة والفرقة بدعوة محمد ‪. ‬‬
‫تحدث يلسان الناصح المحب للنجاشي عن‬ ‫‪-2‬‬
‫خطورة أتباع محمد ‪ ‬وأنهم ربما يزلزلون األرض‬
‫تحت قدمي النجاشي ‪.‬‬
‫بين خروجهم على عقيدة النجاشي وكفرهم بها‬ ‫‪-3‬‬
‫«فهم ال يشهدون أن عيسى ابن مريم إله‪ ،‬فليسوا‬
‫على دين قومهم وليسوا على دينك» فهم مبتدعة‬
‫دعاة فتنة‪.‬‬
‫دلل على استصغارهم لشأن الملك‪،‬‬ ‫‪-4‬‬
‫واستخفافهم به أن كل الناس يسجدون للملك‬
‫لكنهم ال يفعلون ذلك ‪.‬‬
‫‪ )8‬كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية‬
‫الذكاء‪ ,‬والدهاء ‪:‬‬
‫دد عيوب الجاهلية‪ ،‬بصورة تنفر السامع‪،‬‬
‫ع َّ‬ ‫‪-1‬‬
‫وتشوه صورة قريش في عين الملك‪.‬‬
‫عرض شخصية الرسول ‪ ‬في المجتمع بنسبه‬ ‫‪-2‬‬
‫وصدقه وأمانته وعفافه ‪.‬‬
‫أبرز جعفر محاسن اإلسالم وأخالقه التي تتفق‬ ‫‪-3‬‬
‫مع أخالقيات دعوات األنبياء‪ ،‬كنبذ عبادة األوثان‪،‬‬
‫وصدق الحديث‪ ،‬وأداءـ األمانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن‬
‫الجوار ‪.‬‬
‫فضح ما فعلته قريش بهم؛ ألنهم آمنوا ورفضوا‬ ‫‪-4‬‬
‫عبادة األوثان ‪.‬‬
‫أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله‪ ،‬بأنه‬ ‫‪-5‬‬
‫عادل وال ُيظلم عنده أحد ‪ ..‬وأن المسلمين اختاروه‬
‫ملجئاً من دون الناس‪ ،‬وهذا الكالم يأسر العقل‬
‫والنفس ‪.‬‬
‫أحسن جعفر اختيار السورة عندما طلب الملك‬ ‫‪-6‬‬
‫النجاشي قراءة القرآن‪ ،‬ألنها تتحدث عن مريم‬
‫وعيسى عليهما السالم ‪.‬‬
‫مع أن جعفر غريب وضعيف هو ومن معه‪ ،‬فإنه‬ ‫‪-7‬‬
‫لم يجامل على حساب دينه وعقيدته‪ ،‬بل بين‬
‫عقيدة اإلسالم بكل ثبات واعتزاز مع أنها تخالف‬
‫عقيدة النجاشي وأهل البلد كلهم ‪.‬‬
‫كان رده في قضية عيسى عليه السالم دليال ً‬ ‫‪-8‬‬
‫على الحكمة والذكاء النادر‪ ،‬فرد بأنهم ال يألهون‬
‫عيسى ابن مريم‪ ،‬ولكنهم كذلك ال يخوضون في‬
‫عرض مريم عليها السالم‪ ،‬بل عيسى ابن مريم‬
‫كلمته وروحه ألقاها إلى مريم ‪.‬‬
‫والنتيجة انتصار جعفر ‪ ،‬وخسارة عمرو ‪.‬‬
‫‪ 32‬إسالم حمزة وعمر ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬حاجة الدعوة ألصحاب القوة والجاه كحمزة‬
‫وعمر‪ ،‬ليكونوا سنداً قوياً للدعوة في المجتمع‪،‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يدعو هللا أن يعز اإلسالم بهؤالء الرجال ‪.‬‬
‫فعلى الداعية أن يحرص على دعوة الشخصيات‬
‫الهامة وأصحاب النفوذ في المجتمع ويتألف‬
‫قلوبهم ‪.‬‬
‫‪ -2‬شجاعة حمزة ‪ ‬في موقفه مع أبي جهل ومع‬
‫عمر‪ ،‬وأعظم منه شجاعة النبي ‪ ‬عندما خاف‬
‫الصحابة لما رأوا عمر يريد دخول دار األرقم‪ ،‬فنهض‬
‫إليه النبي ‪ ‬وأمسك به وهزه وهددهـ ‪ ،‬ثم دعا له‬
‫بالهداية ‪.‬‬
‫‪ -3‬فائدة ‪ :‬عدم اليأس من إسالم وهداية اآلخرين‬
‫مهما عظم إجرامهم وكفرهم‪ ،‬فقد كان بعضهم‬
‫يقول‪ :‬لو أسلم حمار ابن الخطاب ما أسلم عمر ‪.‬‬
‫‪ -4‬فائدة ‪ :‬في فضل عمر وعزة اإلسالم‬
‫والمسلمين به من أول يوم أسلم فيه ‪ ،‬وكان حصناً‬
‫للدين وسداً أمام الفتن حتى قتل ‪. ‬‬
‫‪ 33‬عرض الرغائب والمغريات والحوار مع عتبة ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬تجرده ‪ ‬في حواره مع عتبة ‪ ،‬فلم يدخل في‬
‫معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو‬
‫أفضليتهما عليه‪ ،‬ولم يجادل في العروض المغرية‪،‬‬
‫ولم يغضب التهامه بأنه يريد بالدعوة كذا وكذا من‬
‫الدنيا ‪ ،‬إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد وهو أساس‬
‫الدعوة ومصلحتها‪.‬‬
‫‪ -2‬أدب االستماع في الحوار‪ ،‬فترك ‪ ‬عقبة يعرض‬
‫كل ما عنده‪ ،‬وبلغ من أدبه صلى هللا عليه وسلم أن‬
‫قال‪« :‬أفرغت يا أبا الوليد؟» ‪.‬‬
‫‪ -3‬كان جواب رسول هللا ‪ ‬حكيماً وحاسمًا‪،‬‬
‫وأحسن اختياره لهذه اآليات ‪ ،‬التي تناولت عدة‬
‫قضايا رئيسية منها‪ :‬إن هذا القرآن تنزيل من هللا‪،‬‬
‫بيان موقف الكافرين وإعراضهم‪ ،‬بيان مهمة الرسول‬
‫وأنه بشر‪ ،‬بيان أن الخالق واحد هو هللا‪ ،‬بيان تكذيب‬
‫األمم السابقة وما أصابها‪ ،‬وإنذار قريش صاعقة مثل‬
‫صاعقة عاد وثمود ‪.‬‬
‫‪ -4‬خطورة المال‪ ،‬والجاه‪ ،‬والنساء على الدعاة‪،‬‬
‫فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق‬
‫المال‪ ،‬وكم عرضت اآلالف من األموالـ على الدعاة‬
‫ليكفوا عن دعوتهم‪ ،‬والذين ثبتوا أمام إغراء المال‬
‫هم المقتدون بالنبي ‪، ‬‬
‫‪ -‬كان االستعمار في بعض البلدان اإلسالمية‬
‫يستخدم مثل هذا األسلوب‪ ،‬فكان الخطيب يقوم‬
‫يحث الناس على الجهاد وطرد المستعمر‪ ،‬فال يزال‬
‫المستعمرون وأذنابهم يغرونه بالمال والمنصب‪،‬‬
‫ويوظفونه‪ ،‬فإذا استلم الوظيفة خرج للناس بوجه‬
‫جديد متسامح ‪ ..‬ومضت األيام حتى فقد الناس‬
‫الثقة بالخطباء‪ ،‬فكانوا كلما قام رجل ويخطب بقوة‬
‫ويثير الناس على المستعمر‪ ،‬قالوا‪ :‬وظفوه‪،‬‬
‫وتمضي األيام ويصدق ظنهم ‪.‬‬
‫‪ -5‬انظروا كيف كان أثر تعامل النبي ‪ ‬مع عتبة‪،‬‬
‫فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على الدعوة‪ ،‬إذا به‬
‫يطلب من قريش أن تخلي بين محمد ‪ ‬وما يريد ‪.‬‬
‫‪ 35‬المقاطعة العامة وفرض الحصار ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬في الحصار تضامن مشركو بني هاشم وبني‬
‫المطلب مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫وحموه ‪ ..‬طبعاً لم تكن هذه الحماية حماية للرسالة‬
‫التي بعث بها‪ ،‬وإنما كانت لشخصه ‪ ‬من الغريب‬
‫كأثر من أعراف الجاهلية ‪.‬‬
‫وفي هذا فائدة أنه يسع المسلم أن يستفيد من‬
‫قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة‪,‬ـ على أن يكون ذلك‬
‫مبنيًّا على فتوى صحيحة ‪.‬‬
‫‪ -2‬ظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛‬
‫ألنها تتكرر في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬فقد يجد الدعاة‬
‫من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن‪ ،‬ويبالغ‬
‫في إيذائهم أكثر من خصومهم البعيدين ‪.‬‬
‫‪ -3‬كانت تعليمات الرسول صلى هللا عليه وسلمـ‬
‫ألفراد المسلمين أال َّ يواجهوا العدو‪ ،‬وأن يضبطوا‬
‫أعصابهم‪ ،‬فال يشعلوا فتيل المعركة أو المواجهة‪,‬‬
‫فالتزم الصحابة بذلك ‪.‬‬
‫وهذا يدلك على عظمة الصف المؤمن‪ ,‬في التزامه‬
‫بأوامر قائده‪ ،‬وبعده عن التصرفات الطائشة‪ ،‬فلم‬
‫يكن شيء أسهل من اغتيال أبي جهل‪ ،‬وإشعال‬
‫معركة غير مدروسة وغير متكافئة ‪.‬‬
‫وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال‬
‫األرض على هذا األذى‪ ,‬دون مقاومة‪ .‬مثل حمزة‬
‫وعمر‪ ،‬وأبي بكر وعثمان ‪.‬‬
‫‪ -4‬كانت هذه السنوات الثالثة زا ً‬
‫دا عظيمًا في بناء‬
‫وتربية الجيل االول‪,‬ـ بالصبر على االبتالء‪ ،‬وتحمل آالم‬
‫الجوع والخوف‪ ،‬وضبط األعصاب والنفوس‪ ،‬ولجم‬
‫العواطف عن االنفجار ‪.‬‬
‫‪ -5‬لم تتوقف الدعوة اإلسالمية في تلك الفترة ‪ ،‬بل‬
‫كانت تحقق انتصارات رائعة في الحبشة‪ ،‬وفي‬
‫د ْوس‪ ،‬وفي غفار ‪.‬‬
‫نجران‪ ،‬وفي َ‬
‫بل يمكن أن نقول إن حادثة المقاطعة كانت سب ًبا‬
‫في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب‪،‬‬
‫وفي موسم الحج‪ ,‬ولفتت األنظار إلى هذه الدعوة‬
‫التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش‬
‫والعزلة كل هذا الوقت ‪.‬‬
‫‪ -6‬فائدة فقهية‪:‬‬
‫كان لوقوف بني المطلب مع بني هاشم وتحملهم‬
‫الحصار أثر في مسألة سهم ذوي القربى من‬
‫موا أَنَّ َ‬
‫ما‬ ‫واعْ لَ ُ‬
‫خمس الغنائم‪ ،‬في قوله تعالى‪َ ( :‬‬
‫ذي‬
‫ول ِ ِ‬
‫ول َ‬
‫س ِـ‬
‫ولِل َّر ُ‬
‫ه َ‬
‫س ُ‬
‫م َ‬ ‫فأَنَّ هللِ ُ‬
‫خ ُ‬ ‫ي ٍء َ‬
‫ش ْ‬
‫من َ‬‫م ُتم ِ ّ‬ ‫َ‬
‫غنِ ْ‬
‫ا ْل ُق ْربَى) ‪.‬‬
‫وعبد مناف ترك أربعة من الولد‪ ،‬نوفل وعبد شمس‬
‫والمطلب وهاشم ‪.‬‬
‫النبي ‪ ‬من بني هاشم وهم الذين قاطعتهم قريش‬
‫هم وبنو المطلب ألنهم انحازوا معهم ‪ ،‬أما بنو عبد‬
‫شمس‪ ,‬وبنو نوفل‪ ,‬وإن كانوا بني عمهم‪ ,‬فكانوا مع‬
‫قريش ‪.‬‬
‫فلما كانت غزوة خيبر أعطاهم النبي ‪ ‬من الغنائم ‪،‬‬
‫د من بني عبد شمس وبني نوفل‪ ،‬جاءه‬‫فجاءه وف ٌ‬
‫جبير بن مطعم وعثمان رضي هللا عنه من بني عبد‬
‫شمس فقالوا‪ :‬يا نبي هللا إنك أعطيت إخواننا من‬
‫بني هاشم وهذه ال تثريب فيها؛ ألن هللا شرفهم‬
‫بك‪ ،‬وإنك أعطيت إخواننا من بني المطلب ونحن‬
‫وإياهم شي ٌء واحد ‪.‬‬
‫فقال ‪ : ‬ال‪ ،‬إن بني المطلب لم ُيفارقونا في جاهلية‬
‫وال في إسالم‪ ،‬وشبك بين أصبعه ‪.‬‬
‫والقول بأن ذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب‬
‫هو قول جمهور العلماء كما ذكر ابن كثير‪.‬‬
‫‪ -7‬لم يزل ‪ ‬يتذكر أيام الحصار‪ ،‬حتى بعد نصر هللا‬
‫لدينه‪ ،‬وإعزاز رسوله بفتح مكة‪ ،‬ثم حجة الوداع‪،‬‬
‫فلما أراد النبي ‪ ‬أن ينفر من مكة بعد أيام التشريق‬
‫خ ْيف بني كنانة ‪.‬‬
‫تعمد أن ينزل في َ‬
‫ففي البخاري عن أسامة بن زيد ‪ ‬قال‪ :‬قلت يا‬
‫رسول هللا أين تنزل غ ًدا؟ قال‪« :‬وهل ترك لنا عقيل‬
‫منزال؟» ثم قال‪« :‬نحن نازلون غدا بخيف (أي وادي)‬
‫بني كنانة‪ ،‬المحصب‪ ،‬حيث قاسمت قريش على‬
‫الكفر» يعني لما حالفت قريش بني كنانة على‬
‫حصار بني هاشم وكتبوا الصحيفة في ذلك‬
‫الوادي ‪.‬‬
‫إنه ‪ ‬يريد أن يتذكر ما كانوا فيه من الضيق‬
‫واالضطهاد‪ ،‬فيشكر هللا على ما أنعم عليه من‬
‫الفتح العظيم‪ ،‬ويؤكد انتصار الدين‪ ،‬وتمكين هللا‬
‫للصابرين‪ ،‬والعاقبة للمتقين ‪.‬‬
‫وفي البخاري عن أنس أنه ‪ ‬بعدما رمى الجمرات‬
‫اليوم الثالث عشر سار إلى المحصب فصلى فيه‬
‫الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام فيه‪ ،‬ثم سار‬
‫إلى البيت آخر الليل فطاف طواف الوداع‪ ،‬ثم صلى‬
‫بالناس في البيت الفجر وقرأ فيها سورة الطور‪ ،‬ثم‬
‫سار إلى المدينة بعد صالة الفجر من اليوم الرابع‬
‫عشر ‪.‬‬
‫‪ 36‬عام الحزن ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬في وفاة أبي طالب على الكفر ست فوائد ‪:‬‬
‫األولى) أن الهداية بيد هللا‪ ،‬أبو طالب مع أنه مشرك‬
‫فقد كان يحب النبي ‪ ‬ويحوطه‪ ،‬حتى بلغ من محبته‬
‫للنبي ‪ ‬أنه كان إذا جاء الليل يحمل النبي عليه‬
‫الصالة والسالم من مكانه ويضعه في مكانًا آخر‪ ،‬ثم‬
‫د‬‫يأتي بأحد أبنائه ويضعه مكانه ‪ ،‬حتى إذا أراد أح ٌ‬
‫قد بيت النية أن يغتال النبي عليه الصالة والسالم‬
‫وهو نائم يغتال ابنه لصلبه وال يغتال النبي عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬هذا يفعله كله وهو مشرك‪ ،‬يقول‬
‫ه﴾‪،‬‬ ‫ويَ ْنأَ ْو َ‬
‫ن عَ ْن ُ‬ ‫ه َ‬
‫ع ْن ُ‬ ‫ه ْو َ‬
‫ن َ‬ ‫ُم يَ ْن َ‬
‫وه ْ‬
‫هللا في األنعام ﴿ َ‬
‫د أن يقتل النبي صلى هللا عليه‬ ‫ن﴾ عن أح ٍ‬ ‫ه ْو َ‬
‫﴿يَ ْن َ‬
‫ن عَ ْن ُ‬
‫ه﴾ أي أنه ال يقبل أن يدخل في‬ ‫ويَ ْنأَ ْو َ‬
‫وسلم‪َ ﴿ ،‬‬
‫الدين ‪.‬‬
‫كان عليه الصالة والسالم ُيثني على عمه‪ ،‬ويسعى‬
‫جاهداً إلسالمه ‪ ..‬ومع هذا لم يسلم أبو طالب‬
‫لحكمة ربانية ‪.‬‬
‫الثانية) استشعار نعمة الهداية‪:‬‬
‫علق بين إصبعين من أصابع الرحمن‬
‫ٌ‬ ‫م‬
‫اإلنسان قلبه ُ‬
‫يقلبها كيف يشاء‪ ،‬وأنت ال تفرح بشي ٍء أعظم من‬
‫حرِمها أبو طالب عم النبي ‪‬‬
‫نعمة الهداية‪ ،‬التي ُ‬
‫والذي ناصره وحماه‪ ،‬حتى تعلم فضل الرب تبارك‬
‫د وهو يدعوه‪،‬‬
‫د من أح ٍ‬
‫وتعالى عليك‪ ،‬وال ييأسن أح ٌ‬
‫د وهو يراه‪ ،‬بمعنى مهما رأيت‬
‫د في أح ٍ‬
‫وال ُيجزم أح ٌ‬
‫ة وال بنار‪،‬‬
‫رجل من الصالح ال تقطع له بجن ٍ‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫د من سو ٍء وفساد ال تقطع له‬ ‫ومهما رأيت على أح ٍ‬
‫ة وال نار‪ ،‬إنما األعمال بالخواتيم‪.‬‬
‫بجن ٍ‬
‫الثالثة) أن الدعاء بالمغفرة والرحمة ال يجوز إال‬
‫للمؤمن ‪.‬‬
‫لقوله ‪ : ‬ألستغفرن لك ما لم أنه عنك ‪ ..‬فلما نزلت‬
‫اآلية كف عن االستغفار له‪.‬‬
‫الرابعة) شفاعة النبي ‪ ‬لعمه أبي طالب‪:‬‬
‫شفع له عند ربه أن يكون أهون أهل النار عذابًا ‪..‬‬
‫وال يعارض هذا قوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة‬
‫الشافعين) ‪ ..‬ألن هذا خاص بالنبي ‪ ، ‬أو أن‬
‫الشفاعة المنفية هي الخروج من النار وليس‬
‫شفاعة التخفيف ‪.‬‬
‫الخامسة) يجب على العاقل المسلم أن يستفيد‬
‫من األوضاع االجتماعية التي يعاصرها‪ ،‬فقد استفاد‬
‫النبي ‪ ‬من جاه عمه ومن نصرته‪ ،‬ولم يقل إنه كاف ٌر‬
‫وال أستعين به وال ألجأ إليه ألن األوضاع تختلف من‬
‫زمن إلى زمن ‪ ،‬واإلنسان يقدم أعظم المصلحتين‬
‫ٍ‬
‫ويدرأ أعظم المفسدتين ‪،‬والمقصود األعظم نصرة‬
‫د‬
‫ب واح ٍ‬
‫الدين‪ ،‬وقد قبل ‪ ‬أن يكون مع عمه في شع ٍ‬
‫وهو كاف ٌر يسجد لغير هللا ‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬أثر الرفقة السيئة على اإلنسان في‬
‫حياته وعند مماته‪ ،‬فإنهم يحضرونه إما بأجسادهم‬
‫وإما بأعمالهم واجتماعاتهم فيكون لصحبته لهم أثر‬
‫عند موته ‪ ،‬وقد يمثل له جلساؤه في سكرات‬
‫الموت كما ذكر ابن القيم ‪.‬‬

‫‪ -2‬في وفاة خديجة ثالث فوائد‪:‬‬


‫األولى‪ :‬فضل خديجة ودورها في الدعوة كما تقدم‬
‫بيانه وذكره المصنف ‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬وفاء النبي ‪ ‬لخديجة حتى بعد موتها ‪ ،‬فقد‬
‫كان في غاية الوفاء ورد الجميل مع زوجته‬
‫المخلصة ‪.‬‬
‫تقول عائشة رضي هللا عنها كما في البخاري‪( :‬ما‬
‫غرت على أحد من نساء النبي ‪ ‬ما غرت على‬
‫خديجة‪ ,‬وما رأيتها‪ ،‬ولكن كان النبي ‪ ‬يكثر ذكرها‪،‬‬
‫وربما ذبح الشاة ثم يقط ّعها أعضا ًء ثم يبعثها في‬
‫صدائق خديجة‪ ،‬فربما قلت له‪ :‬كأنه لم يكن في‬
‫الدنيا امرأة إال خديجة؟ فيقول‪« :‬إنها كانت وكانت‬
‫وكان لي منها الولد»)‬
‫وأظهر صلى هللا عليه وسلم البشاشة والسرور‬
‫ألخت خديجة لما استأذنت عليه لتذ ُّ‬
‫كره خديجة‪,‬‬
‫فعن عائشة رضي هللا عنها قالت‪( :‬استأذنت هالة‬
‫بنت خويلد أخت خديجة على رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك‪،‬‬
‫فقال‪« :‬اللهم هالة بنت خويلد» فغرت فقلت‪ :‬وما‬
‫تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين‬
‫(يعني ال أسنان لها من الكبر) هلكت في الدهر‬
‫فأبدلك هللا خيرًا منها ‪.‬‬
‫وأظهر صلى هللا عليه وسلم الحفاوة بامرأة كانت‬
‫تأتيهم زمن خديجة‪:‬‬
‫كما روى الحاكم والبيهقي وصححه األلباني في‬
‫السلسلة عن عائشة قالت‪( :‬جاءت عجوز إلى‬
‫النبي ‪ ‬وهو عندي فقال لها رسول هللا ‪ ‬من أنت؟‬
‫قالت أنا جثامة المزنية‪ .‬فقال بل أنت حسانة‬
‫المزنية كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ ‪.‬‬
‫قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول هللا ‪.‬‬
‫فلما خرجت قلت يا رسول هللا تقبل على هذه‬
‫العجوز هذا اإلقبال؟ فقال‪ :‬إنها كانت تأتينا زمن‬
‫خديجة وإن حسن العهد من اإليمان) ‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬سنة االبتالء بفقد األحبا ‪:‬‬
‫من الناحية الدنيوية كان موت أبي طالب وخديجة‬
‫بمثابة نكبة في حياة النبي ‪ ‬الخاصة والعامة ‪،‬‬
‫لكنها سنة هللا في أوليائه وهو الحكيم في جميع‬
‫أفعاله ‪.‬‬
‫ابتلى هللا رسوله ‪ ‬بفقد زوجته وأوالده في حياته‪،‬‬
‫المصيبة والخسارة الحقيقية هي خسارة الدين ‪،‬‬
‫أما الدنيا فهي حقيرة عند هللا ‪ ،‬ولو كانت تساوي‬
‫عند هللا جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء‬
‫كما في الحديث‪.‬‬
‫ولك أيضاً أن تستحضر الفترة التي مات فيها أبو‬
‫طالب وخديجة‪ ،‬والنبي ‪ ‬أحوج ما يكون إلى هذين‬
‫اإلنسانين ‪ ،‬ولعل هذا لحكمة أن يقطع هللا عن عبده‬
‫رجاءه بالخلق ويكون اعتماده األول على هللا تعالى‬
‫بالصبر واليقين والتوكل على هللا وحده ‪.‬‬
‫وأيضاً لدفع توهم أن أبا طالب هو الذي وراء نجاح‬
‫الدعوة وأنها ال تقوم إال بحمايته‪.‬‬
‫‪ 37‬الرسول ‪ ‬في الطائف ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬رحيله ‪ ‬إلى الطائف ومروره على رؤوس‬
‫القبائل‪ ،‬يبين ما كان عليه الداعية األول ‪ ‬من‬
‫التصميم الجازم وعدم اليأس مهما اشتدت‬
‫الظروف ‪ ..‬طريق الدعوة شاق وليس بمفروش‬
‫بالورود ال بد فيه من الصبر ‪.‬‬
‫‪ -2‬لماذا اختار الرسولـ صلى هللا عليه وسلم‬
‫الطائف؟‬
‫كانت الطائف تمثل العمق اإلستراتيجي لمأل‬
‫قريش‪ ،‬بل كانت لقريش أطماع في الطائف‪ ،‬وكان‬
‫كثير من أغنياء مكة يملكون األمالك في الطائف‪,‬‬
‫ويقضون فيها فصل الصيف‪ ،‬فإذا اتجه الرسولـ‬
‫صلى هللا عليه وسلم إلى الطائف فذلك توجه‬
‫قريشا‪ ،‬ويهدد أمنها ومصالحها‬
‫ً‬ ‫مدروس سيفزع‬
‫االقتصادية تهدي ًدا مباشرًا‪ ،‬بل قد يؤدي لتطويقها‬
‫وعزلها عن الخارج ‪.‬‬
‫‪ -3‬حسن تخطيطه ‪ ‬في الرحلة‪:‬‬
‫‪ -1‬كان خروجه من مكة على األقدام‪ ,‬حتى ال تظن‬
‫قريش أنه ينوي الخروج من مكة وأنه ينوي‬
‫الخروج والسفر مما قد يعرضه للمنع ‪.‬‬
‫‪ -2‬اختيار الرسول صلى هللا عليه وسلم زي ًدا ‪،‬‬
‫فزيد هو ابن رسول هللا ‪ ‬بالتبني‪ ،‬فإذا رآه معه‬
‫أحد‪ ،‬ال يثير ذلك أي نوع من الشك ‪.‬‬
‫‪ -3‬عندما وصل النبي صلى هللا عليه وسلم إلى‬
‫الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع‬
‫القرار السياسي في الطائف ‪.‬‬
‫الطائف لم تكن توجد بها سلطة مركزية واحدة‪،‬‬
‫وإنما يقتسم السلطة فيها بطنان من بطون‬
‫العرب بنو مالك واألحالف‪ ،‬وكان بنو مالك يوثقون‬
‫عالقاتهم مع هوازن‪ ،‬واألحالف يرتبطون بقريش‬
‫ليأمنوا شرها‪.‬‬
‫وعلى هذا التقدير للوضع السياسي اتجه‬
‫الرسولـ صلى هللا عليه وسلم مباشرة حينما‬
‫دخل الطائف‪ ،‬إلى بني عمرو بن عمير الذين‬
‫يترأسون األحالف ويرتبطون بقريش‪ ،‬ولم يذهب‬
‫إلى بني مالك الذين يتحالفون مع هوازن ‪.‬‬
‫دا قبيحًا ‪ ،‬تحمله‬‫‪ -4‬وعندما كان رد زعماء الطائف ر ً‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ولم يغضب أو ي ُُثر‪،‬‬
‫بل طلب منهم أن يكتموا عنه ‪.‬‬
‫كما نقل ابن هشام في السيرة‪ :‬أنه ‪ ‬قال لهم‪:‬‬
‫«إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني»‪.‬‬
‫‪ -4‬أهمية الدعاء والتضرع إلى هللا للداعية‪:‬‬
‫في هذه الغمرة من األسى والحزن‪ ,‬واآلالم‬
‫النفسية والجسمانية توجه الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض بالمعاني‬
‫العظيمة وااللتجاء واالنكسار ‪.‬‬
‫الدعاء من أعظم العبادات‪ ،‬وهو سالح فعال في‬
‫مجال الحماية لإلنسان‪ ,‬وتحقيق أمنه‪ ،‬فمهما بلغ‬
‫العقل البشري من الذكاء والدهاء‪ ,‬فهو عرضة للزلل‬
‫واإلخفاق‪ ،‬وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها‬
‫عن التفكير والتدبير تمامًا‪ ،‬فليس له مخرج منها‬
‫سوى أن يجأر إلى هللا بالدعاء‪ ،‬ليجد فرجا ومخرجًا ‪.‬‬
‫‪ -5‬الرحمة والشفقة النبوية على الرغم من شدة‬
‫ما نزل به من الهم واألذى ‪:‬‬
‫في الصحيحين عن عائشة رضي هللا عنها أنها‬
‫د‬
‫ش َّ‬‫َان أَ َ‬
‫مك َ‬ ‫ك يَ ْو ٌ‬ ‫ل أَتَى عَ لَ ْي َ‬
‫ه ْ‬‫ه َ‬ ‫ل اللَّ ِ‬‫سو َ‬‫قالت‪( :‬يَا َر ُ‬
‫د‬
‫ش َّ‬ ‫َان أَ َ‬
‫وك َ‬‫ك َ‬ ‫م ِ‬ ‫ق ْو ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ق ْد لَ ِق ُ‬
‫يت ِ‬ ‫ل لَ َ‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫د؟ َ‬ ‫م ُأ ُ‬
‫ح ٍ‬ ‫ن يَ ْو ِ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫سي عَ لَى‬ ‫ت نَ ْف ِ‬‫ض ُ‬‫ع َر ْ‬‫ة إِ ْذ َ‬ ‫ع َ‬
‫قب َ ِ‬ ‫م ا ْل َ‬‫م يَ ْو َ‬
‫م ْن ُه ْ‬ ‫ما لَ ِق ُ‬
‫يت ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م ُيجِ ْبنِي إِلَى َ‬ ‫ل َ‬
‫فل َ ْ‬ ‫د ُكاَل ٍ‬ ‫ن عَ ْب ِ‬ ‫ل ْب ِ‬‫د يَالِي َ‬ ‫ن َ‬
‫ع ْب ِ‬ ‫ا ْب ِ‬
‫م‬ ‫هي َ‬
‫فل َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫و ْ‬‫علَى َ‬ ‫م َ‬ ‫مو ٌ‬ ‫م ْه ُ‬‫وأَنَا َ‬ ‫ْت َ‬‫فا ْنطَلَق ُ‬ ‫ت‪َ ،‬‬ ‫أَ َر ْد ُ‬
‫ذا أَنَا‬ ‫سي َ‬
‫ف ِإ َ‬ ‫ْت َر ْأ ِ‬
‫فع ُ‬ ‫ف َر َ‬‫ب َ‬‫ن ال َّثعَالِ ِ‬ ‫ق إِاَّل بِ َ‬
‫ق ْر ِ‬ ‫س َت ِف ْ‬‫أَ ْ‬
‫يل‬
‫ر ُ‬ ‫ج ْب ِ‬
‫ها ِ‬
‫ذا فِي َ‬ ‫ت َ‬
‫ف ِإ َ‬ ‫ق ْد أَظَلَّ ْتنِي َ‬
‫ف َنظَ ْر ُ‬ ‫ة َ‬ ‫حابَ ٍ‬
‫س َ‬ ‫بِ َ‬
‫ك‬‫م َ‬ ‫ق ْو ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ع َ‬
‫ق ْو َ‬ ‫م َ‬ ‫س ِ‬‫ق ْد َ‬ ‫ل َ‬ ‫ج َّ‬ ‫و َ‬‫ع َّز َ‬‫ه َ‬ ‫ل إِنَّ اللَّ َ‬ ‫قا َ‬ ‫دانِي َ‬
‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ف َنا َ‬
‫م َر ُه‬‫ال لِ َت ْأ ُ‬ ‫ك ا ْل ِ‬
‫جب َ ِ‬ ‫مل َ َ‬
‫ك َ‬ ‫َث إِلَ ْي َ‬
‫ق ْد بَع َ‬ ‫و َ‬‫ك َ‬‫دوا عَ لَ ْي َ‬ ‫ما ُر ُّ‬ ‫و َ‬
‫ك َ‬‫لَ َ‬
‫م‬‫سلَّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ك ا ْلجِبَ ِ‬
‫ال َ‬ ‫مل َ ُ‬
‫دانِي َ‬ ‫ل َ‬
‫ف َنا َ‬ ‫م َ‬
‫قا َ‬ ‫يه ْ‬ ‫ت فِ ِ‬ ‫ش ْئ َ‬
‫ما ِ‬ ‫بِ َ‬
‫ك‬
‫م َ‬ ‫ق ْو ِ‬‫ل َ‬ ‫ق ْو َ‬ ‫ع َ‬ ‫م َ‬‫س ِ‬ ‫ق ْد َ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُد إِنَّ اللَّ َ‬ ‫ح َّ‬ ‫م َ‬ ‫ل يَا ُ‬ ‫قا َ‬‫م َ‬ ‫ي ُث َّ‬ ‫علَ َّ‬ ‫َ‬
‫م َرنِي‬ ‫ك لِ َت ْأ ُ‬ ‫ك إِلَ ْي َ‬‫ع َثنِي َربُّ َ‬ ‫ق ْد بَ َ‬ ‫و َ‬‫ل َ‬ ‫ك ا ْلجِبَا ِ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫وأَنَا َ‬ ‫ك َ‬ ‫لَ َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫ق عَ لَ ْي ِ‬ ‫ط ِب َ‬ ‫ت أَنْ ُأ ْ‬ ‫ت إِنْ ِ‬
‫ش ْئ َ‬ ‫ش ْئ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ك َ‬ ‫ر َ‬ ‫م ِ‬ ‫بِأَ ْ‬
‫ه عَ لَ ْي ِ‬
‫ه‬ ‫صلَّى اللَّ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ل اللَّ ِ‬ ‫سو ُـ‬ ‫ه َر ُ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬‫ن َ‬ ‫شبَ ْي ِ‬ ‫خ َ‬ ‫اأْل َ ْ‬
‫ن يَع ُْب ُد‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫صاَل بِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ج اللَّ ُ‬ ‫ر َ‬ ‫جو أَنْ ُيخْ ِ‬ ‫ل أَ ْر ُ‬ ‫م بَ ْ‬ ‫سلَّ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ش ْي ًئا)‬ ‫ه َ‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫ر ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ح َد ُه اَل ُي ْ‬ ‫و ْ‬ ‫ه َ‬ ‫اللَّ َ‬
‫لقد كانت إصابته صلى هللا عليه وسلم يوم أحد أبلغ‬
‫من الناحية الجسمية‪ ،‬أما من الناحية النفسية‪ ,‬فإن‬
‫إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد؛ ألن فيها إرها ً‬
‫قا كبيرًا‬
‫لنفسه ومعاناة فكرية شديدة جعلته يستغرق في‬
‫التفكير من الطائف إلى قرن الثعالب ‪.‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬كانت رحمته وشفقته العظيمة هي التي‬
‫تغلب في المواقف العصيبة التي تبلغ فيها المعاناة‬
‫أشد مراحلها‪ ،‬والنفس تشتد وتهتم‪ ،‬والصدر يضيق‬
‫ويتبرم ‪.‬‬
‫وهكذا يجب على الداعية أن ينظر للعصاة‬
‫والمخالفين بعين الرحمة والشفقة ‪.‬‬
‫‪ -6‬كان ‪ ‬يعيش صاحب رسالة ‪ ،‬قضيته األولى التي‬
‫يعيش ألجلها وتستغرق تفكيره هي الدعوة إلى‬
‫هللا ‪ ..‬لدرجة أنه عندما عاد من الطائف استغرقت‬
‫القضية همة وتفكيره‬
‫‪ 38‬جن نصيبين ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬لطف هللا تعالى وتثبيته لعبده ‪ ،‬وتطمينه‬
‫لقلبه ‪ ،‬فمع اشتداد األحوال وضيق األمور بالدعوة‪،‬‬
‫أيد هللا نبيه وساله بإسالم الجن الذين لبوا دعوته‬
‫من مكان بعيد ‪.‬‬
‫والمعنى أنه لو تخلى عنه اإلنس كلهم قيض هللا له‬
‫من الجن والمالئكة من يؤمن به ‪.‬‬
‫وفي آيات األحقاف (وإذ صرفنا إليك ‪ ( ) ...‬ومنـ ال‬
‫يجب داعي هللا فليس بمعجز في األرض وليس له‬
‫من دونه أولياء ‪..‬‬
‫وهذا المكسب يشد األزر ويقوي النفس على‬
‫النشاط في الدعوة وعدم اليأس أو اإلحباط ‪.‬‬
‫‪ -2‬من األعراف المحترمة في الجاهلية الجوار ‪،‬‬
‫وهو في زمننا أشبه بحق اللجوء السياسي ‪ ،‬وهو‬
‫مما يمكن للداعية أن يستفيد منه في بعض البلدان‬
‫‪.‬‬
‫كما استفاد النبي ‪ ‬من جوار المطعم ‪ ،‬وقد حفظ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للمطعم هذا‬
‫الصنيع‪ ،‬فقال في أسارى بدر‪( :‬لو كان المطعم بن‬
‫عدى حيًا ثم كلمنى في هؤالء النتنى لتركتهم له ‪.‬‬
‫وال ننسى أن المطعم أيضاً كان أحد الخمسة الذين‬
‫اتفقوا على رفع الحصار والمقاطعة‪.‬‬
‫‪ 40‬اإلسراء والمعراج ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ -1‬بعد كل محنة منحة‪ ،‬وقد تعرض رسول هللا ‪‬‬
‫لمحن عظيمة‪ ،‬كذبته قريش وسدتـ الطريق في‬
‫وجه دعوته‪ ،‬ثم كذبه أهل الطائف‪ ،‬وأصبح في خطر‬
‫بعد وفاة عمه أبي طالب‪ ..‬فأكرمه هللا برفعه إليه‬
‫عا‪ ،‬وتكليمه مباشرة دون رسول‬ ‫دون الخالئق جمي ً‬
‫وال حجاب ‪.‬‬
‫كان لوقوع هذه المعجزة في تلك الفترة لحكمة‬
‫عظيمة‪:‬‬
‫تحدث القرآن الكريم عن اإلسراء في سورة‬
‫اإلسراء‪ ,‬وعن المعراج في سورة النجم‪ ،‬وذكر‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ه ِ‬‫ري َ ُ‬
‫حكمة اإلسراء في سورة اإلسراء بقوله‪ ( :‬لِ ُن ِ‬
‫ن آيَاتِ‬ ‫م ْ‬ ‫ق ْد َرأَى ِ‬
‫آيَاتِ َنا ) وفي سورة النجم بقوله‪( :‬لَ َ‬
‫ن آيَاتِ َنا‬
‫م ْ‬
‫ك ِ‬
‫ري َ َ‬ ‫ه ا ْل ُ‬
‫ك ْب َرى)‪ ،‬كما قال لموسى (لِ ُن ِ‬ ‫َربِ ّ ِ‬
‫ا ْل ُ‬
‫ك ْب َرى) ‪.‬‬
‫ومن هذه اآليات‪ :‬الذهاب إلى بيت المقدس‪ ،‬العروج‬
‫إلى السماء‪ ،‬رؤية الغيب الذي دعا إليه األنبياء‬
‫والمرسلين‪ ،‬المالئكة‪ ،‬السماوات‪ ،‬الجنة والنار‪،‬‬
‫نماذج من النعيم والعذاب‪ ،‬تكليم رب العالمين‬
‫مباشرة بال حجاب ‪.‬‬
‫* إن هللا عز وجل أراد أن يتيح لرسوله فرصة‬
‫االطالع على آيات وعالمات قدرته‪ ,‬حتى يمأل قلبه‬
‫ثقة فيه واستنا ً‬
‫دا إليه ‪.‬‬
‫‪ -2‬شجاعة النبي ‪ ‬العالية في قول الحق ويقينه‬
‫بما هو عليه‪،‬وتمسكه بالمبدأ ‪ ،‬فقد بادر ‪ ‬إلى إخبار‬
‫أعدائه قبل أن يخبر كثيراً من أصحابه ‪.‬مع أن هذا‬
‫األمر تنكره عقولهم وال تدركه في أول األمر‬
‫تصوراتهم‪ ,‬ولم يمنعه من الجهر به الخوف من‬
‫مواجهتهم‪ ,‬وتلقي نكيرهم واستهزائهم ‪.‬‬
‫فضرب بذلك ‪ ‬ألمته أروع األمثلة في الجهر بالحق‬
‫أمام أهل الباطل‪.‬ـ‬
‫نعم ‪ ..‬إذا امتأل القلب باإليمان واليقين‪ ،‬فإن الحق ال‬
‫يبقى حبيساً في القلب‪ ،‬بل ال بد أن يظهر ويعلن‬
‫للناس وإن جابهوه أو كذبوه ‪.‬‬
‫‪ -3‬صديقية أبي بكر وكمال إيمانه رضي هللا عنه ‪،‬‬
‫فقد بادر إلى التصديق ولم يتردد أو يتلكأ مع أن‬
‫األمر عجيب والخبر غريب ‪.‬‬
‫ولهذا جاء عند الحاكم أن أبا بكر سمي بالصديق‬
‫بسبب هذه الحادثة ‪.‬‬
‫‪ -4‬تمحيص الصف‪:‬‬
‫مقدمًا على مرحلة جديدة‪ ،‬وهي مرحلة‬
‫كان ‪ُ ‬‬
‫الهجرة وبناء الدولة‪ ،‬فجعل هللا هذا االختبار‬
‫والتمحيص‪ ،‬ليخلص الصف من الضعاف المترددين‪،‬‬
‫والذين في قلوبهم مرض وتكون اللَّ ِب َنات األولى في‬
‫البناء قوية ومتماسكة ‪.‬‬
‫‪ -5‬اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على‬
‫معان دقيقة‪ ،‬ما هي؟‬
‫ٍ‬ ‫إشارات‬
‫لقد أعلنت أن محمدا صلى هللا عليه وسلم هو نبي‬
‫القبلتين‪ ،‬وإمام المشرقين والمغربين‪ ،‬ووارث األنبياء‬
‫قبله‪ ،‬وإمام األجيال بعده وأن رسالته خاتمة‬
‫للرساالت ‪.‬‬
‫وفي صالة النبي صلى هللا عليه وسلم باألنبياء‬
‫دليل على أنهم سلمواـ له بالقيادة والريادة‪ ،‬وأن‬
‫شريعة اإلسالم نسخت الشرائع السابقة‪ ،‬خالفاً‬
‫لمن يعقدون اليوم مؤتمرات التقارب بين األديان ‪.‬‬
‫‪ -6‬الربط بين المسجد األقصى‪ ,‬والمسجد الحرام‬
‫وراءه حكم ودالالت وفوائد منها‪:‬‬
‫أهمية المسجد األقصى بالنسبة للمسلمين‪ ،‬إذ‬
‫أصبح مسرى رسولهم صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫ومعراجه إلى السماوات العال‪ ،‬وكان ال يزال قبلتهم‬
‫األولى طيلة الفترة المكية‪ ،‬وهذا يشعرنا بحب‬
‫المسجد األقصى وفلسطين؛ ألنها مباركة ومقدسةـ‬
‫‪..‬‬
‫ويشعرنا كذلك بالمسؤولية نحو تحرير المسجد‬
‫األقصى اليوم من اليهود المحتلين ‪.‬‬
‫بل إن التهديد للمسجد األقصى‪ ,‬هو تهديد للمسجد‬
‫الحرام والحجاز ‪.‬‬
‫وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود بعد دخول‬
‫الجيش اليهودي القدس ‪ ،‬وقال‪( :‬لقد استولينا على‬
‫القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب) ‪.‬‬
‫‪ -7‬أهمية الصالة وعظيم منزلتها‪ :‬وقد ثبت في‬
‫السنة النبوية أن الصالة فرضت على األمة‬
‫اإلسالمية في ليلة عروجه ‪ ‬إلى السماوات وفي‬
‫هذا كما قال ابن كثير‪« :‬اعتناء عظيم بشرف الصالة‬
‫وعظمتها» ‪.‬‬
‫‪ -8‬كانت الحكمة من شق صدره ‪ ‬قبل اإلسراء‬
‫والمعراج وملئه باإليمان والحكمة‪ :‬التهيئة لهذه‬
‫المقام العظيم والعلو في درجات اإليمان والدنو من‬
‫الرحمن ‪.‬‬
‫ولهذا ‪ ..‬من أراد الدرجات العالية والقرب من هللا‬
‫تعالى واألنس به ونيل محبته ‪ ،‬فعليه أن يطهر قلبه‬
‫من الشبهات والشهوات ‪ ،‬ويتعاهد إيمانه ‪ ،‬حتى‬
‫تتهيأ النفس للمنازل العالية ‪.‬‬
‫الطريق إلى هللا ‪ ..‬والوصولـ إليه ‪ ..‬والتشرف‬
‫بواليته ‪ ..‬ال يكون للمخلطين أصحاب القلوب‬
‫المريضة‪ ،‬وهللا المستعان‪.‬‬
‫‪ 41‬عرض االسالم على القبائل واألفراد ‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ )1‬في هذه المرحلة لم يقتصر النبي ‪ ‬على عرض‬
‫اإلسالم‪ ،‬بل كان يطلب النصرة من خارج مكة ‪ ،‬بعد‬
‫أن اشتد األذى عليه‪ ,‬عقب وفاة عمه أبي طالب ‪..‬‬
‫ألن الدعوة ال بد لها من حماية وقوةـ تنصرها وتمنع‬
‫القضاء عليها أو منع نشاطها من القوى المعادية ‪.‬‬
‫‪ )2‬حصر رسول هللا ‪ ‬طلب النصرة بزعماء القبائل‪،‬‬
‫وذوي الشرف والمكانة واألتباع؛ ألن هؤالء هم‬
‫القادرون على توفير الحماية للدعوة وصاحبها‪.‬‬
‫‪ )3‬ثباته ‪ ‬على المبدأ وعدم مداهنته ‪ ،‬فقد رفض‬
‫النبي ‪ ‬أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نصرتها‬
‫أي ضمانات بأن يكون ألشخاصهم شيء من الحكم‬
‫والسلطان‪ ,‬على سبيل الثمن‪ ،‬أو المكافأة لما‬
‫يقدمون من نصرة‪ ,‬وتأييد للدعوة اإلسالمية؛ وذلك‬
‫ألن الدعوة اإلسالمية إنما هي دعوة إلى هللا‪،‬‬
‫عا في نفوذ أو رغبة في سلطان ‪.‬‬ ‫وليس طم ً‬
‫‪ 42‬و ‪ 43‬بيعة العقبة األولى والثانية‪:‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ )1‬لماذا توجه التخطيط النبوي يثرب؟‬
‫‪ -1‬كان للنفر الستة الذين أسلمواـ دور كبير في‬
‫بث الدعوة إلى اإلسالم خالل ذلك العام‪.‬‬
‫‪ -2‬ما طبع هللا عليه قبائل الخزرج واألوس من‬
‫الرقة واللين‪ ,‬وعدم المغاالة في الكبرياء وجحود‬
‫الحق‪ ،‬الحروب الطاحنة بين األوس والخزرج‪،‬‬
‫كيوم ُبعاث وغيره‪ ،‬وقد أفنت هذه الحرب كبار‬
‫زعمائهم ممن قد يكونون حجر عثرة في سبيل‬
‫يبق إال القيادات الشابة الجديدة‬
‫َ‬ ‫الدعوة‪ ،‬ولم‬
‫المستعدة لقبول الحق ‪.‬‬
‫كما قالت السيدة عائشة رضي هللا عنها‪« :‬كان‬
‫يوم ُبعاث يومًا قدمه هللا تعالى لرسوله صلى هللا‬
‫دم رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فق ِ‬
‫وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم‬
‫رّحوا‪ ,‬فقدمه هللا لرسوله صلى هللا عليه‬
‫ج ِ‬
‫و ُ‬
‫وسلم في دخولهم اإلسالم» ‪.‬‬
‫‪ -3‬مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم بأمر‬
‫الرساالت السماوية‪ ،‬وكان اليهود يهددون األوس‬
‫والخزرج بنبي قد أظل زمانه‪ ,‬ويزعمون أنهم‬
‫سيتعبونه‪ ،‬ويقتلونهم به قتل عاد وإرم ‪.‬‬
‫‪ )2‬كانت هذه البيعة الثانية العظمى (فتح الفتوح)؛‬
‫عهود ومواثيق ‪ ،‬وتعاقد على النصرة والتضحية‬
‫باألرواح والدماء واألموالـ ‪.‬‬
‫‪ )3‬التعبئة المعنوية اإليمانية ‪ ،‬والتحريض والشحن‬
‫النفسي‪ :‬مبدأ هام في القيادة والسياسة ‪.‬‬
‫ظهر أثر هذه التعبئة في نفوس من أسلم من‬
‫األنصار‪ ،‬كما يقول جابر ‪ ‬وهو يمثل هذه الصورة‬
‫الرفيعة الرائعة‪« :‬حتى متى نترك رسول هللا ‪‬‬
‫يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف»‪.‬‬
‫وظهر أثرها أيضاً قبل فيما قاله العباس بن عبادة‬
‫قبل عقد البيعة ‪( ،‬هل تدرون عالم تبايعون هذا‬
‫الرجل؟) ‪ ..‬وكذلك قول أسعد بن زرارة ( إما أنتم‬
‫تصبرون فخذوه‪ ،‬وإما أنتم تخافون فذروه) ‪ ..‬فأقبلوا‬
‫على البيعة بكل إصرار وعزيمة ‪.‬‬
‫‪ )4‬التخطيط النبوي الحكيم في بيعة العقبة‪ ،‬كان‬
‫في غاية اإلحكام والدقة من حيث‪:‬‬
‫‪ -1‬سرية الحركة واالنتقال لجماعة المبايعين‪،‬‬
‫وكانوا سبعين رجال وامرأتين‪ ،‬من بين وفد‬
‫يثربي قوامه نحو خمسمائة‪ ،‬فخرجوا يتسللون‬
‫مستخفين‪ ،‬رجال ً رجالً‪ ،‬أو رجلين رجلين ‪.‬‬
‫‪ -2‬تحديد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق‬
‫الليلة األخيرة من ليالي الحج‪ ،‬وقت النوم بعد‬
‫ثلث الليل ‪ ،‬حيث النوم قد ضرب أعين القوم‪،‬‬
‫جل ‪.‬‬
‫رّ ْ‬
‫وحيث قد هدأت ال ِ‬
‫‪ -3‬تحديد المكان في الشعب األيمن‪ ،‬بعيدا عن‬
‫عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة ‪.‬‬
‫رّية التامة في موعد ومكان االجتماع‪،‬‬
‫‪ -4‬الس ِ‬
‫بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد‬
‫المطلب ‪ ،‬وعلي بن أبي طالب الذي كان عينًا‬
‫الشعب‪ ،‬وأبو بكر الذي كان‬
‫ِّ‬ ‫للمسلمين على فم‬
‫عيناً على فم الطريق ‪.‬‬
‫‪ -5‬أمر ‪ ‬جماعة المبايعين أن ال يرفعوا الصوت‪،‬‬
‫وأن ال يطيلوا في الكالم ‪.‬‬
‫‪ -6‬حسن تصرفه ‪ ‬حين كشف الشيطان أمر‬
‫البيعة‪ ،‬فأمرهم ‪ ‬أن يرجعوا إلى رحالهم‪،‬‬
‫ورفض االستعجال في المواجهة المسلحة‬
‫التي لم تتهيأ لها الظروف ‪.‬‬
‫‪ )5‬في اختيار النقباء لم يعين الرسول ‪ ‬النقبا َء إنما‬
‫ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا‪ ،‬وهذا تطبيق‬
‫عملي لمبدأ الشورى ‪.‬‬
‫وفي هذا التعيين أيضَاـًًَ تنظيم ألمور الدعوة‪ ،‬وشحذ‬
‫لهمم النقباء وتحملهم المسؤولية‪ ،‬ولهذا كانوا‬
‫مشرفين على سير الدعوة في يثرب حتى انتشر‬
‫اإلسالم فيها ‪.‬‬
‫‪ )6‬في رفض النبي ‪ ‬لدعوة العباس بن عبادة‬
‫باستعجال المواجهة المسلحة‪ ،‬درس تربوي بليغ‪,‬‬
‫ليس في بيان شجاعة وقوة إيمان العباس رضي‬
‫هللا عنه‪ ،‬بل في بيان أن الدفاع عن اإلسالم‪،‬‬
‫والتعامل مع أعداء هذا الدين ليس مترو ً‬
‫كا الجتهاد‬
‫األفراد أو التنظيمات‪ ،‬وإنما هو خضوع ألوامر هللا‬
‫تعالى وتشريعاته الحكيمة ‪.‬‬
‫أمر اإلقدام أو اإلحجام متروك لنظر المجتهدين ووالة‬
‫األمر بعد التشاور ودراسة األمر ومراعاة المصالح‬
‫والمفاسد ‪.‬‬
‫فهل يعي هذا بعض الشباب المندفعين‪ ،‬الذين‬
‫ينتهجون المواجهة والعنف دون حكمة؟‪.‬‬
‫‪ )7‬فضل أهل بيعة العقبة‪ ،‬وإخالصهم‪ ،‬فلم يكونوا‬
‫يريدون الدنيا بل الثمن الجنة ‪.‬‬
‫هؤالء الثالثة والسبعين ‪ ،‬استشهد قرابة ثلثهم‬
‫على عهد النبي صلى هللا عليه وسلم وبعده‪،‬‬
‫وحضر المشاهد كلها مع رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم قرابة النصف ‪.‬‬
‫لقد صدق هؤالء األنصار عهدهم مع رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم فمنهم من قضى نحبه ولقي‬
‫ربه شهي ًدا‪ ،‬ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة‬
‫الدولة المسلمة ‪.‬‬
‫‪ )8‬الدور العظيم الذي قام به داعية المدينة مصعب‬
‫بن عمير في الدعوة إلى هللا ونشر اإلسالم في‬
‫المدينة وهداية سيد األوس سعد بن معاذ وابن‬
‫عمه أسيد بن الحضير‪ ،‬ثم قيام سعد بن معاذ في‬
‫دعوة قومه فأسلموا كلهم ‪.‬‬
‫كل هؤالء كانوا من حسنات مصعب وسعد رضي‬
‫هللا عنهم جميعاً ‪.‬‬
‫‪ 44-46‬الهجرة إلى المدينة‪:‬‬
‫هجرة أبي سلمة وأم سلمة‪:‬‬
‫هاجر أبو سلمة قبل العقبة الكبرى بسنة على ما‬
‫قاله ابن إسحاق وكان معه زوجته أم سلمة هند‬
‫بنت أبي أمية وابنه سلمة ‪.‬‬
‫قالت أم سلمة‪ :‬لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى‬
‫المدينة رحل لي بعيره‪ ،‬ثم حملني عليه‪ ،‬وحمل‬
‫معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري‪ ،‬ثم‬
‫خرج بي يقود بي بعيره‪ ،‬فلما رأته رجال بني‬
‫المغيرة بن عبد هللا بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه‬
‫فقالوا‪ :‬هذه نفسك غل ْب َت َنا عليها‪ ،‬أرأيت صاحبتنا هذه‬
‫عالم نتركك تسير بها إلى البالد؟ قالت‪ :‬فنزعوا‬
‫خطام البعير من يده فأخذوني منه‪ .‬قالت‪ :‬وغضب‬
‫عند ذلك بنو عبد األسد‪ ،‬رهط أبي سلمة‪.‬ـ قالوا‪ :‬ال‪،‬‬
‫وهللا ال نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده‪،‬‬
‫وانطلق به بنو عبد األسد‪ ،‬وحبسني بنو المغيرة‬
‫عندهم‪ ،‬وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ففرق بيني وبين زوجي‪ ،‬وبين ابني‪ .‬قالت‪:‬‬
‫فكنت أخرج كل غداة فأجلس باألبطح‪ ،‬فما أزال‬
‫أبكي حتى أمسي‪ ،‬سنة أو قريباً منها‪ ،‬حتى مرّ بي‬
‫رجل من بني عمي‪ ،‬أحد بني المغيرة‪ ،‬فرأى ما‬
‫بي‪ ،‬فرحمني‪ ،‬فقال لبني المغيرة‪ :‬أال تخرجون هذه‬
‫المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟‬
‫قالت‪ :‬فقالوا لي‪ :‬الحقي بزوجك إن شئت‪ .‬قالت‪:‬‬
‫ورد بنو عبد األسد إلي عند ذلك ابني‪ .‬قالت‪:‬‬
‫فارتحلت بعيري‪ ،‬ثم أخذت ابني فوضعته في‬
‫ُ‬
‫حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة‪ ،‬وما معي‬
‫أحد من خلق هللا‪ .‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬أتبلغ بمن لقيت‪،‬‬
‫حتى أقدم على زوجي‪ ،‬حتى إذا كنت بالتنعيم‬
‫لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد‬
‫الدار‪ .‬فقال لي‪ :‬إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت‪:‬‬
‫فقلت‪ :‬أريد زوجي بالمدينة‪ .‬قال‪ :‬أو ما معك أحد؟‬
‫قالت‪ :‬فقلت‪ :‬ال وهللا إال هللا وبني هذا‪ .‬قال‪ :‬وهللا ما‬
‫لك من مترك‪.‬‬
‫فأخذ بخطام البعير‪ ،‬فانطلق معي يهوي بي‪ ،‬فوهللا‬
‫ما صحبت رجال ً من العرب قط أرى أنه كان أكرم‬
‫منه‪ ،‬كان إذا بلغ المنزل أناخ بي‪ ،‬ثم استأخر عني‪،‬‬
‫حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه‪ ،‬ثم‬
‫قيده في الشجرة‪ ،‬ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع‬
‫تحتها‪ ،‬فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله‪،‬‬
‫ثم استأخر عني فقال‪ :‬اركبي‪ ،‬فإذا ركبت فاستويت‬
‫على بعيري أتى فأخذ بخطامه‪ ،‬فقاد بي حتى ينزل‬
‫بي‪ ،‬فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة‪،‬‬
‫فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال‪:‬‬
‫زوجك في هذه القرية‪ ،‬وكان أبو سلمة بها نازالً‪،‬‬
‫فادخليها على بركة هللا‪ ،‬ثم انصرف راجعاً إلى مكة‪.‬‬
‫قال فكانت تقول‪ :‬وهللا ما أعلم أهل بيت في‬
‫اإلسالم أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة‪ ،‬وما رأيت‬
‫صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة» والقصة عند‬
‫ابن هشام من رواية ابن إسحاق بسند صالح‬
‫لالعتبار ‪ ،‬كما في السيرة الصحيحة للعمري ‪.‬‬
‫قصة هجرة عمر ‪:‬‬
‫قال عمر‪ :‬اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا‬
‫عيّاش بن أبي ربيعة‪ ،‬وهشام بن العاص بن وائل‬‫و َ‬
‫ضب (نوع من الشجر) من أَضاة‬‫السهمي‪ ،‬التنا ِ‬
‫(غدير) بني غفار‪ ،‬فوق سرف(وادي بمكة)‪ ،‬وقلنا‪:‬‬
‫أينا لم يصبح عندها فقد حبس‪ ،‬فليمض صاحباه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند‬
‫التناضب‪ ،‬وحبس عنا هشام‪ ،‬وفتن فافتتن ‪.‬‬
‫فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف‬
‫بقباء‪ ،‬وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام‬
‫إلى عياش بن أبي ربيعة‪ ،‬وكان ابن عمهما وأخاها‬
‫ألمهما‪ ،‬حتى قدما علينا المدينة ورسولـ هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم بمكة فكلماه‪ ،‬وقاال‪ :‬إن أمك قد‬
‫نذرت أن ال يمس رأسها مشط حتى تراك‪ ،‬وال‬
‫تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له‪:‬‬
‫عيا ّش إنه وهللا إن يريدك القوم إال ليفتنوك عن‬
‫دينك‪ ،‬فاحذرهم‪ ،‬فوهللا لو قد آذى أمك القمل‬
‫المتشطت‪ ،‬ولو قد اشتد عليها حر مكة الستظلت ‪.‬‬
‫قال‪ :‬أبر قسم أمي‪ ،‬ولي هناك مال فآخذه ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬وهللا إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش‬
‫ماالً‪ ،‬فلك نصف مالي وال تذهب معهما‪ ،‬قال‪ :‬فأبى‬
‫علي إال أن يخرج معهما‪ ،‬فلما أبى إال ذلك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قلت له‪ :‬أما إذ قد فعلت ما فعلت‪ ،‬فخذ ناقتي هذه‬
‫فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها‪ ،‬فإن رابك من‬
‫القوم ريب فانج عليها‪ ،‬فخرج عليها معهما‪ ،‬حتى إذا‬
‫كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل‪ :‬يا أخي‪ ،‬وهللا‬
‫لقد استغلظت بعيري هذا‪ ،‬أفال تعقبني على ناقتك‬
‫هذه؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فأناخ‪ ،‬وأناخ‪ ،‬ليتحول عليها‪،‬‬
‫فلما استوواـ باألرض عدوا عليه‪ ،‬فأوثقاه‪ ،‬ثم دخال به‬
‫مكة‪ ،‬وفتناه فافتتن‪. .‬‬
‫قال‪ :‬فكنا نقول‪ :‬ما هللا بقابل ممن افتتن صرفاً وال‬
‫عدال ً وال توبة‪ ،‬قوم عرفوا هللا ثم رجعوا إلى الكفر‬
‫لبالء أصابهم قال‪ :‬وكانوا يقولون ذلك ألنفسهم فلما‬
‫قدم رسول هللا صلى هللا عليه وسلمـ المدينة أنزل‬
‫هللا تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم ألنفسهم‪ُ ( :‬ق ْ‬
‫ل‬
‫م ‪ ...‬اآليات)‬
‫ه ْ‬ ‫علَى أَ ْن ُف ِ‬
‫س ِ‬ ‫ين أَ ْ‬
‫س َر ُفوا َ‬ ‫ذ َ‬‫ي الَّ ِ‬
‫عبَا ِد َ‬
‫يَا ِ‬
‫قال عمر بن الخطاب‪ :‬فكتبتها بيدي في صحيفة‪،‬‬
‫وبعثت بها إلى هشام بن العاص‪ ،‬قال‪ :‬فقال‬
‫هشام‪ :‬فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى ُأ َ‬
‫صعَّد‬
‫ب وال أفهمها‪ ،‬حتى قلت‪ :‬اللهم‬
‫و ُ‬
‫ص َّ‬
‫بها فيه وأ َ‬
‫فهمنيها‪ ،‬قال‪ :‬فألقى هللا تعالى في قلبي أنها إنما‬
‫أنزلت فينا‪ ،‬وفيما كنا نقول في أنفسنا‪ ،‬ويقال فينا‪،‬‬
‫قال‪ :‬فرجعت إلى بعيري فجلست عليه‪ ،‬فلحقت‬
‫برسولـ هللا صلى هللا عليه وسلم وهو بالمدينة ‪.‬‬
‫والحديث عند ابن هشام بإسناد حسن ‪ ..‬وفي‬
‫بعض الروايات‪( :‬وكنا إنما نخرج سراً) ‪.‬‬
‫دروس وفوائد ‪:‬‬
‫‪ )1‬لماذا لم تكن الهجرة النبوية على نمط اإلسراء‬
‫والمعراج؟‬
‫أما رحلة اإلسراء والمعراج فهي رحلة فردية خاصة‬
‫‪،‬ومنحة ربانية للرسول ‪ .. ‬أما رحلة الهجرة فهي‬
‫رحلة بناء الدولة اإلسالمية لجميع سكانها وهذه‬
‫الرحلة ال يصلح ان يكون فيها جبريل عليه السالم‬
‫رفيقا للرسول عليه السالم ‪ ،‬ألن دولة اإلسالم ال‬
‫يمكن أن تبنى على جناح جبريل عليه السالم‪ ،‬وال‬
‫يصلح فيها البراق مركباً‪ ،‬بل ال بد من الصبر‬
‫والتضحية والتماسك ‪،‬والتدبير الجيد‪ ،‬وتوظيف‬
‫المتخصصين كل في مجاله والتعرض ألخطار‬
‫العدو كما وقع عند غار حراء‪،‬‬
‫ان بناء الدولة ال عالقة للبراق بهذا وال هو من‬
‫اختصاص جبريل عليه السالم ‪ ،‬انما هو ادوار‬
‫ووظائف البي بكر واسماء وعائشة وعلي وسراقة‬
‫والدليل والراعي والغنم ‪.‬‬
‫‪ )2‬درس في الهجرة ‪:‬‬
‫لقد أذن هللا تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما‬
‫ضاقت عليهم األرض ‪ ،‬ومنعتهم قريش من إقامة‬
‫دين هللا ‪.‬‬
‫من المواقف المؤثرة ما ثبت عند الترمذي وغيره أن‬
‫ل‪:‬‬
‫قا َ‬‫ف َ‬‫و َر ِة (على مشارف مكة) َ‬ ‫ح ْز َ‬ ‫وقف على ا ْل َ‬
‫ه إِلَى اللَّ ِ‬
‫ه‬ ‫حبُّ أَ ْر ِ‬
‫ض اللَّ ِ‬ ‫وأَ َ‬ ‫خ ْي ُر أَ ْر ِ‬
‫ض اللَّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫واللَّ ِ‬
‫ه إِنَّ ِ‬ ‫( َ‬
‫ت) ‪.‬‬ ‫ج ُ‬ ‫خ َر ْ‬‫ما َ‬ ‫ك َ‬ ‫م ْن ِ‬
‫ت ِ‬
‫ج ُ‬ ‫ر ْ‬ ‫خ ِ‬‫ولَ ْواَل أَنِ ّي ُأ ْ‬‫َ‬
‫إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد االنتقال‬
‫من بلد إلى آخر فحسب ‪ ،‬بل هي هجرة عامة عن‬
‫كل ما نهى عنه هللا ورسوله ‪ ، r‬حتى يكون الدين‬
‫كله هلل ‪.‬‬
‫‪ )3‬الصبر واليقين طريق النصر والتمكين ‪:‬‬
‫فبعد سنوات من االضطهاد واالبتالء قضاها النبي ‪r‬‬
‫وأصحابه بمكة يهيأ هللا تعالى لهم طيبة الطيبة ‪،‬‬
‫ويقذف اإليمان في قلوب األنصار ‪ ،‬ليبدأ مسلسل‬
‫النصر والتمكين ألهل الصبر واليقين } إنا لننصر‬
‫رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم األشهاد {‬
‫‪.‬‬
‫إن طريق الدعوة إلى هللا شاق محفوف بالمكاره‬
‫واألذى ‪ .‬لكن من صبر ظفر ‪ 00‬ومنـ ثبت انتصر ‪} 00‬‬
‫وهللا غالب على أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون‬
‫{ ‪.‬‬
‫‪ )4‬درس في التوكل على هللا واالعتصام بحبل هللا‬
‫‪:‬‬
‫لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر‬
‫التي تطير لها الرؤوس ‪.‬‬
‫فالسيوف تحاصره عليه الصالة والسالم في بيته‬
‫وليس بينه وبينها إال الباب ‪ 00‬والمطاردون يقفون‬
‫أمامه على مدخل الغار ‪ 00‬وسراقةـ الفارس‬
‫المدجج بالسالح يدنو منه حتى يسمع قراءته ‪00‬‬
‫والرسول ‪ r‬في ظل هذه الظروف العصيبة متوكل‬
‫على ربه واثق من نصره ‪.‬‬
‫فإنه الركن‬ ‫فالزم يديك بحبل هللا معتصماً‬
‫إن خانتك أركان‬
‫‪ )5‬درس في المعجزات اإللهية ‪:‬‬
‫هل رأيتم رجال ً أعزال ً محاصراً يخرج إلى المجرمين‬
‫ويخترق صفوفهم فال يرونه ويذر التراب على‬
‫رؤوسهم ويمضي ‪ 00‬هل رأيتم عنكبوتاً تنسج‬
‫خيوطها على باب الغار في ساعات معدودةـ ‪ 00‬هل‬
‫رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون‬
‫على الباب فال يطأطيء أحدهم رأسه لينظر في‬
‫الغار ‪ 00‬هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض‬
‫صلبه فتسيخ قدماها في األرض وكأنما هي تسير‬
‫في الطين ‪ 00‬هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر‬
‫ضرعها باللبن ‪.‬‬
‫إن هذه المعجزات لهي من أعظم دالئل قدرة هللا‬
‫تعالى ‪ ،‬وإذا أراد هللا نصر المؤمنين خرق القوانين ‪،‬‬
‫وقلب الموازين } إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له‬
‫كن فيكون { ‪.‬‬
‫‪ )6‬درس في الحب ‪:‬‬
‫وقد قال الحبيب ‪ ": r‬ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحب‬
‫إليه من ولده ووالدهـ والناس أجمعين " ‪.‬‬
‫هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته ‪. . . r‬‬
‫إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو‬
‫يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار ألن الحبيب‬
‫ينام على رجله ‪.‬‬
‫هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله‬
‫ليؤثر به الحبيب ‪ r‬على أهله ونفسه‪.‬‬
‫هذا الحب هو الذي أخرج األنصار من المدينة كل‬
‫يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه ‪ r‬على أحر من‬
‫الجمر ‪ .‬فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب ‪ r‬ويهجر‬
‫سنته ثم يزعم حبه!‬
‫‪ -‬ومنـ صفحات الحب ما قام به أبو أيوب رضي هللا‬
‫عنه ‪.‬‬
‫جاء عند ابن هشام بسند صحيح أن أبا أيوب‬
‫األنصاري ‪ ‬قال‪« :‬ولما نزل علي رسول هللا ‪ ‬في‬
‫الس ْفل وأنا وأم أيوب في ال ُ‬
‫ع ُلوّ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بيتي نزل في‬
‫فقلت له‪ :‬يا نبي هللا‪ ،‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬إني ألكره‬
‫وأعظم أن أكون فوقك‪ ،‬وتكون تحتي‪ ،‬فاظهر أنت‬
‫فكن في العلو‪ ،‬وننزل نحن فنكون في السفل‪،‬‬
‫فقال‪« :‬يا أبا أيوب‪ :‬إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن‬
‫حب (إناء)‬
‫سفل البيت» قال‪ :‬فلقد انكسر ِ‬
‫نكون في ُ‬
‫لنا فيه ماء‪ ،‬فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا‬
‫لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على‬
‫رسول هللا ‪ ‬منه شيء يؤذيه»‪ .‬وهكذا وهللا فليكن‬
‫الحب ‪.‬‬
‫‪ )7‬درس في التضحية والفداء ‪:‬‬
‫لقد سطر النبي ‪ r‬وأصحابه صفحات مشرقة من‬
‫التضحية ‪ ،‬والمغامرة باألنفس واألموالـ لنصرة هذا‬
‫الدين ‪ 00‬لقد هاجروا هلل ولم يتعللوا بالعيال وال بقلة‬
‫المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم‬
‫في مقابل أمر هللا وأمر ورسوله ‪. r‬‬
‫يوم أن بات علي في فراشه ‪ r‬وغطى رأسه كان‬
‫يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب‬
‫الفراش ‪ ..‬ويوم أن قام آل أبي بكر عبدهللا وأسماء‬
‫وعائشة ومواله عامر بهذه األدوار البطولية كانوا‬
‫يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم ‪.‬‬
‫هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا ‪ 00‬أين‬
‫شبابنا الذين يضعون رؤوسهمـ على فرشهم وال‬
‫يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة ‪.‬‬
‫‪ )8‬درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ األسباب ‪:‬‬
‫لقد كان ‪ r‬متوكال ً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن هللا‬
‫كافيه وحسبه ‪ ،‬ومع هذا كله لم يكن ‪ r‬بالمتهاون‬
‫المتواكل الذي يأتي األمور على غير وجهها ‪ .‬بل إنه‬
‫أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان‬
‫‪.‬‬
‫فالقائد ‪ :‬محمد ‪ ،‬والمساعد ‪ :‬أبو بكر ‪ ،‬والفدائي ‪:‬‬
‫علي ‪ ،‬والتموين ‪ :‬أسماء ‪ ،‬واالستخبارات ‪ :‬عبدهللا ‪،‬‬
‫والتغطية وتعمية العدو ‪ :‬عامر ‪ ،‬ودليل الرحلة ‪:‬‬
‫عبدهللا بن أريقط ‪ ،‬والمكان المؤقت ‪ :‬غار ثور ‪،‬‬
‫وموعد االنطالق ‪ :‬بعد ثالثة أيام ‪ ،‬وخط السير ‪:‬‬
‫الطريق الساحلي ‪.‬‬
‫وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته ‪ ، r‬وفيه‬
‫دعوة لألمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط‬
‫والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل األسباب مع‬
‫االعتماد على هللا مسبب األسباب أوال ً وآخراً ‪.‬‬
‫‪ )9‬درس في اإلخالص ‪:‬‬
‫د أمنُّ علي في‬‫ثبت عنه ‪ r‬أنه قال ‪ " :‬إنه ليس أح ٌ‬
‫نفسه وماله من أبي بكر " فقد كان أبو بكر} الذي‬
‫يؤتي ماله يتزكى { ينفق أمواله على رسول هللا ‪، r‬‬
‫وعلى الدعوة إلى دين هللا ‪.‬‬
‫لكن السؤال هنا هو لماذا رفض ‪ r‬أخذ الراحلة من‬
‫أبي بكر إال بالثمن ؟‬
‫قال بعض العلماء ‪ :‬إن الهجرة عمل تعبدي فأراد‬
‫عليه الصالة والسالم أن يحقق اإلخالص بأن تكون‬
‫نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره ‪ .‬وهذا‬
‫معنى حسن ‪ ،‬وهو درس في اإلخالص وتكميل‬
‫أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة ( كنفقة الحج ‪،‬‬
‫وزكاة الفطر ‪ ،‬وغيرها من األعمال ) فإن األولى أن‬
‫تكون نفقتها من مال المسلم خاصة ‪.‬‬
‫‪ )10‬التعفف وعزة النفس‪:‬‬
‫لم يقبل رسولـ هللا صلى هللا عليه وسلم أن يركب‬
‫الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر ‪ ،‬واستقر‬
‫الثمن ديناً بذمته‪ ،‬وهذا درس واضح بأن حملة‬
‫الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد ‪.‬‬
‫‪ )11‬درس في التأريخ الهجري ‪:‬‬
‫التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز األمة‬
‫المسلمة وعزتها ‪ .‬ويعود أصل هذا التأريخ إلى عهد‬
‫عمر ‪ . ‬فلما ألهم هللا الفاروق الملهم أن يجعل‬
‫لألمة تأريخاً يميزها عن األمم الكافرة استشار‬
‫الصحابة فيما يبدأ به التأريخ ‪ ،‬أيؤرخون من مولده‬
‫عليه الصالة والسالم ؟ أم مبعثه ؟ أم هجرته ؟ أم‬
‫وفاته ؟ ‪.‬‬
‫وكانت الهجرة أنسب الخيارات ‪ .‬أما مولده وبعثته‬
‫فمختلف فيهما ‪ ،‬وأما وفاته فمدعاة لألسف والحزن‬
‫عليه ‪ .‬فهدى هللا تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة‬
‫منطلقاً للتأريخ اإلسالمي ‪ ..‬وجعلوه من محرم ألن‬
‫العزم على الهجرة كان بعد الرجوع من بيعة العقبة‬
‫الثانية في ذي الحجة فكان أول هالل بعدها هو‬
‫هالل محرم ‪.‬‬
‫وظلت األمة تعمل بهذا التأريخ قروناً متطاولة ‪ ،‬حتى‬
‫ابتليت في هذا العصر بالذل والهوان ‪ ،‬ففقدت‬
‫هيبتها ‪ ،‬وأعجبت بأعدائها ‪ ،‬واتبعتهم حذو القذّة‬
‫بالقذّة ‪ ،‬حتى هجرت معظم الدول المسلمة تأريخها‬
‫اإلسالمي فال يكاد يعرف إال في المواسم كرمضان‬
‫والحج ‪ ،‬وأرخت بتواريخ الملل المنحرفة ‪.‬‬
‫وإن مما يفخر به كل مسلم ما تميزت به هذه البالد‬
‫المباركة من اعتماد التأريخ الهجري النبوي تاريخاً‬
‫رسمياً لها ‪.‬‬
‫‪ )12‬دور المرأة المسلمة في الهجرة‪:‬‬
‫لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة ‪ :‬منها عائشة‬
‫بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة‬
‫ووعتها وبلغتها لألمة‪ ،‬وأم سلمة المهاجرة الصبور‪،‬‬
‫وأسماء ذات النطاقين التي ساهمت في تموين‬
‫الرسولـ صلى هللا عليه وسلم وصاحبه في الغار‬
‫بالماء والغذاء‪ ،‬وكيف تحملت األذى عندما لطم خدها‬
‫أبو جهل‪ ،‬وتصرفها الثاني عندما دخل عليها جدها‬
‫أبو قحافة ‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬وال وهللا ما ترك لنا شيئاً‬
‫ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك‪.‬‬

You might also like