You are on page 1of 204

‫وغربت الشمس‬

‫‪1‬‬
2
‫وغربت الشمس‬
‫رواي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫شوق العقـ ـاري‬


‫ي‬ ‫سـ ـ ـ ــارة‬

‫‪3‬‬
‫وغربت الشمس‬
‫اسم الكاتبة‪ :‬س ـ ـ ــارة شوقي العق ـ ــاري‬
‫تدقيق لغوي‪ :‬دمحم حمدي الحفناوي‬
‫تصميم الغالف‪:‬‬
‫الفني‪ :‬جمال عبدالرحيم‬ ‫ّ‬ ‫إلاخراج‬
‫الطبعة ‪ /‬ألاولـ ـ ـى‬
‫رقم إلايداع‪/2018 :‬‬
‫الترقيم الدولي‪:‬‬

‫‪Arabiclibrary2017@gmail.com‬‬
‫‪Facebook.com/arabiclibrary2017‬‬
‫سيت ستار‬
‫ي‬ ‫السادس من أكتوبر – المحور المركزي – مول‬
‫‪01030365801‬‬

‫‪4‬‬
‫إهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداء‬

‫حيات‬
‫ي‬ ‫رجل أحببته يق‬
‫ٍ‬ ‫إىل أول‬
‫رمات اآلخرون بسم‬
‫ي‬ ‫إىل ذاك الرجل الذي آمن يت حي‬
‫أمل ألصل إىل ما أريد‪.‬‬
‫كالمهم فزادت مناعة ي‬
‫أت‪ ...‬أحبك‪.‬‬
‫معاىل الحبيب ي‬
‫ي‬ ‫إىل‬

‫‪5‬‬
‫إىل القانون المرصي‬
‫ي‬
‫عميق‬
‫ٍ‬ ‫سبات‬
‫ٍ‬ ‫الذي ال يزال يغط يق‬
‫أما آن األوان ىك تستفيق بعد؟‬

‫إىل روب المحاماة األسود‬


‫ظالم‬
‫ٍ‬ ‫أما آن األوان ىك تكون أسود عل كل‬
‫مظلوم؟‬
‫ٍ‬ ‫أبيض لكل‬

‫‪6‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫لقاء عل الطريق‬
‫‪ -‬قض ي ألامر؟‬
‫نظرت إلى أبيها‪ ،‬وهو يقف عند باب حجرتها‪ ،‬بادرته بابتسامتها الهادئة‬
‫قائلة‪:‬‬
‫‪-‬أجل قض ي ألامر‪.‬‬
‫ً‬
‫وضعت آخر قطعة مالبس في حقيبتها‪ ،‬ثم نظرت إليه عاقدة ساعديها‬
‫أمام صدرها قائلة‪:‬‬
‫واحد فقط‪ ،‬ثم إنني ال‬
‫ٍ‬ ‫عام‬
‫‪-‬أراك تتأملني يا أبي ال ش يء علي سأعود بعد ٍ‬
‫مبرر ملكوثي هنا في هذه املرحلة الراكدة من حياتي‪.‬‬ ‫أرى أي ٍ‬
‫هدوء‪ ،‬أجلسها على طرف الفراش‪ ،‬جلس أمامها‪ ،‬ثم رفع‬ ‫ٍ‬ ‫اقترب منها في‬
‫ً‬
‫ذقنها إليه‪ ،‬تأملها مليا‪ ،‬ثم قال بصوته الرخيم‪:‬‬
‫أنك في أشد حاالت الضعف‪.‬‬ ‫إظهارك للقوة رغم ِ‬ ‫ِ‬ ‫قوتك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬تعجبني‬
‫دمعة على وشك السقوط‪ ،‬آثرت‬ ‫ٍ‬ ‫دهشة‪ ،‬حاولت إخفاء‬‫ٍ‬ ‫رفعت حاجبيها في‬
‫الصمت‪ ،‬لو نبست ببنت شفة لبكت‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬رفع ذقنها إليه مجددا قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ليس كل من يفقد أمه أو صديقه يترك موطنه ويسافر إن شعر أنه على‬
‫ً‬
‫حق فليدافع عن قضيته ال سيما إذا كان دارسا للقانون‪.‬‬
‫اندهاش قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رفعت حاجبها في‬
‫لم لم تساعدني إذن؟‬ ‫‪ -‬تعلم كل هذا !!! َ‬

‫‪7‬‬
‫أنك تعلمين وضعي السياس ي‬
‫أساعدك في ماذا؟ من املفترض ِ‬
‫ِ‬ ‫أساعدك‪..‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫وألامني‪.‬‬

‫ً‬
‫‪ -‬كف عن هذا الضجيج‪ ،‬أنت لست صغيرا‪ ،‬ثم إن أباك يرى أنها الفتاة‬
‫الوحيدة في مصرالتي تليق بأدهم النشار أفهمت؟‬
‫‪-‬إذن انتهى ألامر‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬انتهى‪ ،‬نصيحة من أخيك رغم أني أصغرك سنا‪ ،‬لكن أقولها هلل ال‬
‫ً‬
‫تعاد والدك ثم إنك أوشكت على الثالثين عاما فلماذا ال تتزوج إذن؟‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫لم ينبس أدهم ببنت شفة‪ ،‬استدارخارجا من الغرفة‪ ،‬صفق الباب خلفه‬
‫واسعة‪ ..‬طرق باب مكتب والده ولم‬ ‫ٍ‬ ‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫عنف‪ ،‬ثم اجتاز السلم في‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫هدوء‪ ،‬تصنع‬‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ينتظرإلاذن بالدخول‪ ،‬رفع ألاب رأسه الذي كساه الشيب في‬
‫هادئ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫صوت‬
‫ٍ‬ ‫الابتسامة ثم قال في‬
‫كأب ربى طفليه الوحيدين‪ ،‬ويريد أن‬ ‫اجلس يا أدهم لعلك قدرت موقفي ٍ‬
‫يرى أحفاده قبل أن يداهمه املوت‪.‬‬
‫‪-‬أطال هللا فى عمرك يا أبي‪.‬‬
‫لم تستكثرعلى والدك مثل هذه اللحظات؟‬ ‫‪-‬يا بني هذه سنة هللا في خلقه‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ألم‪:‬‬
‫زفر أدهم زفرة حارة ثم قال في ٍ‬
‫‪-‬إذن أين أمي؟ كيف تريد مني أن أدخل في حياتي امرأة رغم كل ما رأيته‬
‫إنذار مخلفة وراءها‬
‫ٍ‬ ‫من أمي‪ ،‬تلك املرأة التي اختفت من حياتنا دون سابق‬
‫ً‬
‫زوج هربت مع سائقه‪.‬‬ ‫طفلين وزوجا دون أن تأبه السم ٍ‬
‫ألم قائال‪ً:‬‬ ‫امتقع وجه والده‪ ،‬ثم تنهد فى ٍ‬
‫‪8‬‬
‫‪ -‬أيمكننى إخبارك بش ٍيء لم تعلمه من قبل؟ لكن عدني أن تكتمه‪.‬‬
‫‪ -‬بالطبع أعدك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬أمك لم تهرب‪ ،‬تصرف من تصرفات أبيك كان دافعا قويا ألن تفعل ما‬
‫ً‬
‫فعلت‪ ،‬لم يكن أمامها إال أن تفربروحها خوفا مني‪ ،‬وليس كما يعتقد الكثيرون‬
‫بأنها أحبت سائقي‪.‬‬
‫‪-‬تقصد أنك َمن اختلق قصة الزوجة املذنبة التي فرت مع سائق زوجها‬
‫ألنها تحبه ؟!‬
‫صمت إلى‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬نعم‪..‬تجمدت العبرات على أعتاب عينيه‪..‬وغادر مكتبه في‬
‫غرفته‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لم يكن أمامه إال أن يفترش ألارض مصليا هلل لعله ينجيه مما هو فيه‪،‬‬
‫ً‬
‫حاول أن يتذكر شيئا عن أمه لكن ذاكرته لم تسعفه‪ ،‬كل ما يتذكره هو زجر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أبيه له كلما ردد هذه الكلمة وهو صغير‪ ،‬حتى بات لفظا محرما ال يحق ملثله أن‬
‫يستخدمه‪ُ ،‬حرم م نها وهو في الرابعة من عمره‪ ،‬لم يرها منذ ذاك الوقت‪ ،‬وهو‬
‫الذي يملك من العمر آلان الثمانية والعشرين ً‬
‫عاما‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يكن يعلم أن هناك عينا تراقبه‪ ،‬كان يتصرف على سجيته‪.‬‬
‫كثب‪ ،‬ترى أنه‬
‫حينها كانت هى واقفة هناك في الفيال املقابلة تتابعه عن ٍ‬
‫ً‬
‫يشبه فارس أحالمها كثيرا‪ ،‬فارع الطول‪ ،‬قوي البنية‪ ،‬سمرته املحببة‪ ،‬وعيناه‬
‫ً‬
‫مالم ِحه الشرقية إال أنه كان جذابا في‬
‫الثاقبتان‪ ،‬وشعره الالمع املهذب‪ ..‬رغم ِ‬
‫كل ش ٍيء‪ ،‬أخالقه‪ ،‬تواضعه‪ ،‬سجوده كلما ضاقت به الدنيا‪ ،‬خاصة وأن‬
‫الطبقة التي يحتلونها لم تكن دائمة السجود‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-‬كانت تشعرأنه يشبهها في كل ش ٍىء‪ ،‬رغم أنها لم تحادثه قط إال أنها كانت‬
‫ً‬
‫تعلم عنه الكثير‪ ،‬ألم تكن دائما متلصصة على غرفته‪ ،‬طرقات هادئة على‬
‫الباب أعادتها من شرودها إلى الواقع‪ ،‬كان الطارق أبوها‪ ،‬يحمل ابتسامته على‬
‫وجهه كالعادة‪.‬‬
‫ً ً‬
‫قبل رأسها في أس ى قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ستغادرين غدا ؟‬
‫أجابت بإيماءة من رأسها أن نعم‪.‬‬
‫ً‬
‫حقيبتك‪ ،‬ستغادر الطائرة فى الثامنة صباحا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬إذن فلتعدي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اتجه إلى الباب خارجا من الغرفة لكنه التفت إليها وكأنه تذكر شيئا ما‪:‬‬
‫أأخبرك‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أروى إن عالج املصائب هو أن نواجهها‪ ،‬ال أن نفر هاربين منها‪..‬‬
‫ً‬
‫سفرك ليس من أجل دكتوراة فى القانون كما تزعمين‬ ‫ِ‬ ‫شيئا ؟ أعلم أن سبب‬
‫واقعك‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫هروب من‬ ‫لكنه‬
‫ِ‬
‫محاولة منها‬‫ٍ‬ ‫خرج قبل أن تستوعب ما قاله‪ ،‬وضعت يدها على رأسها في‬
‫للسيطرة على الدوارالذي يكاد يعصف برأسها‪ ..‬ملاذا لم يتدخل أبي إذن؟ أإلنها‬
‫ً‬
‫محجبة تحمل في حقيبتها مصحفا‪ ،‬وتتحدث في الدين تصبح إرهابية يخش ى‬
‫على الوطن منها ومن أمثالها؟‪ ..‬فقط إرهابية يجب الزج بها في غياهب‬
‫السجون!‬
‫أكملت إعداد الحقيبة وهي شاردة الذهن ستغادرهذه ألارض بعد عدة‬
‫ساعات‪ ،‬ألارض التي احتوتها هي وأمها ساعات ألانس مع تلك الصديقة التي لم‬
‫ً‬
‫خائنة بمجرد أن فرقنا القدرقررت الهروب‪ ،‬كان‬ ‫ٍ‬ ‫تعد تعلم عنها شيئا‪ ..‬يا لي من‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫البد أن أكون غير تلك الضعيفة التي قررت الانسحاب حادثت نفسها‬
‫عال‪:‬‬
‫ٍ‬

‫‪10‬‬
‫انسحاب؟ أنا لم أغادرإال من أجلها ‪..‬ألم أغادرإلى فرنسا‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬انسحاب!! أي‬
‫بلد القانون من أجل أن آتي بعد ٍ‬
‫سنة كى أدافع عنها وعن مثيالتها ؟‪ ..‬دكتوراة‬
‫شابة تدافع عن صديقتها‬‫محامية ٍ‬
‫ٍ‬ ‫في القانون من فرنسا تجعلني أكبرمن مجرد‬
‫بهدف الاندفاع أوالصداقة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ال كان يجب أن أزورها أوال‪ ،‬أن أعثر على محبسها وأخبرها بما انتويت‬
‫فعله‪ ،‬أن أبثها الثقة وألامل‪ ،‬وأن أخبرها بأن هناك من يفكرفيها ويتعب ألجلها‪.‬‬

‫كان يجب أن أذهب إلى أهلها على ألاقل‪ ،‬أو أقض ي حاجتهم ببعض املال‪ ..‬رباه‬
‫ُ‬
‫بضع‬ ‫لم يعد آلان لدي وقت‪ ،‬الساعة آلان الثالثة بعد الظهر أمامي فقط‬
‫ً‬
‫ساعات‪ ،‬ثم إن ألاسرة تقيم باإلسكندرية ذهابا وعودة بعد منتصف النهار من‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫الصعب معه أن أغادر في الثامنة صباحا إلى فرنسا‪.‬‬
‫ي بدو أنها ركنت إلى هذا ألامر‪..‬استلقت في سريرها‪ ،‬مرت بضع دقائق ثم‬
‫ُ‬
‫بورقة من‬
‫ٍ‬ ‫عجل‪ ،‬أمسكت‬
‫هبت واقفة وكأن عقربا لدغتها‪ ،‬ارتدت مالبسها على ٍ‬
‫إحدى دفاترها‪ ،‬خطت عليها بعض الكلمات‪ ،‬ثم وضعتها في يد إحدى‬
‫الخادمات قائلة‪:‬‬
‫عجل‪ ،‬وانطلقت في طرقات القاهرة‪،‬‬ ‫‪-‬أوصليها ألبي‪ ،‬ركبت سيارتها على ٍ‬
‫لحسن الحظ كانت الطرقات شبه هادئة‪ ،‬لقد ولت ساعة الذروة ‪ ..‬أطلقت‬
‫العنان لسيارتها بمجرد أن وصلت إلى طريق القاهرة إلاسكندرية الصحراوي‪،‬‬
‫انقض ى على قيادتها في هذا الطريق ساعة ونصف‪ ،‬تبسمت في ظفر مخاطبة‬
‫نفسها‪ ..‬أخبرتني عائشة إن السفر في هذا الطريق يستغرق من الوقت ثالث‬
‫ساعات‪ ،‬إن ألامر ليس بالصعوبة التي تصورتها‪ ،‬أمسكت بهاتفها كي تغلقه‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التصاالت والدها‪ ،‬تعلم جيدا أنه يحبها لكنها ال تقوى آلان على تحمل‬
‫ِ‬ ‫تجنبا‬
‫توبيخاته‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫انتبهت من شرودها وصوت أذان املغرب ينتشر في آلافاق‪ ،‬يا هللا كم‬
‫تخش ى الظالم‪ ،‬يجب عليها أن تسرع لم يبق بينها وبين الوالدين املسنين سوى‬
‫ً‬
‫واحدة ‪..‬أطلقت العنان لسيارتها أكثر‪ ،‬ولكن دائما الرياح تأتي بما ال‬
‫ٍ‬ ‫ساعة‬
‫ٍ‬
‫مظلم ال يوجد به أحد‬
‫طريق ٍ‬ ‫تشتهيه السفن‪ ،‬لقد انفجرإطارالسيارة ألامامي في ٍ‬
‫عابرة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫سيارات‬
‫ٍ‬ ‫سوى‬

‫شهر وهي‬
‫وقفت أمام زجاج الغرفة‪ ،‬تحملق في هذا الجسد الهزيل منذ ٍ‬
‫ً‬
‫تقدم‪ ،‬ثالثين يوما فاقدة للوعي‪ ،‬ال يصلها بهذا‬
‫على تلك الحالة ال يوجد أي ٍ‬
‫أسالك‪ ،‬تزاحمت ذكرياتها مع تلك الراقدة‪ ،‬لم تمنحها‬‫ٍ‬ ‫بضعة‬
‫ِ‬ ‫العالم سوى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تملك شيئا‪ ،‬لم تشعريوما‬‫الكثيرلكنها بالتأكيد منحتها كل ما تملك حتى لم تعد ِ‬
‫ً‬
‫بغربة في وجودها كانت هي الوطن ألم تكن أما؟‬ ‫ٍ‬
‫منذ أن وعت هذه الحياة وهي تبحث عن الانتماء‪ ،‬عن دفء العائلة‪ ،‬عن‬
‫رب ألاسرة‪ ،‬منذ أن ولدت وهي تعلم أنها ابنة املجتمع غيراملرغوب فيها‪ ،‬لكن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وجودها كان يهون كل ش ٍيء‪ ،‬لم تشعر يوما باالنتماء‪ ،‬لكنها دائما كانت تمتلك‬
‫ًً‬
‫الوطن متمثال في هذه ألام‪.‬‬
‫‪-‬دكتورة نسيم‪.‬‬
‫‪-‬انتبهت من شرودها لتحدق في هذا الواقف أمامها بعينيه الخضراوين‬
‫الواسعتين‪ ،‬وبشرته البيضاء‪ ،‬وشعره البني الداكن‪ ،‬ورغم كل هذا علمت أنه‬
‫ليس فرنس ي ألاصل‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أراك في مأز ٍق‪ ،‬ومن‬
‫أنك مسلمة‪ ،‬حتى لو لم تكوني كذلك ِ‬‫حجابك أعلمني ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وحدك بل هي أم لكل‬‫ِ‬ ‫لك‬
‫أساعدك فهذه السيدة ليست أما ِ‬
‫ِ‬ ‫املحتم علي أن‬
‫مسلمي فرنسا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬هنا وضع يديه في جيبه ثم أخرج ورقة من جيبه مطبوعا عليها رقم‬
‫قليلة تشتكي مرارة الغربة‪ ،‬وفقدان‬
‫ثوان ٍ‬
‫هاتفه‪ ،‬رغم ذهولها هي التي كانت قبل ٍ‬
‫ً‬
‫الانتماء‪ ،‬يرسل هللا لها ذاك الذي يخبرها بأن هذه الراقدة ليست أما لها‬
‫ً‬
‫وحدها بل أما لكل مسلمي فرنسا‪ ..‬مسحت دمعة ترقرقت في عينها‪ ،‬ثم غادرت‬
‫ممر املشفى‪.‬‬
‫‪ -‬آثرت أن تستخدم ذاك السلم املزدحم باملرض ى وذويهم‪ ،‬كم تكره‬
‫ً‬
‫الانتظار! لهذا تفضل دائما استخدام السلم عن املصعد‪ ،‬جلست في حديقة‬
‫املشفى ولديها قوة سحرية‪ ،‬لم تدر َ‬
‫لم كل هذا ألامل؟ أهو إلاحساس باالنتماء‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذي لم تعتده يوما؟ تعلم جيدا أنها لن تهاتفه‪ ..‬تعودت أن تواجه مشاكلها‬
‫مساعدة من أحد لكن مجرد إلاحساس بأن هناك من سيصعد بنا‬
‫ٍ‬ ‫وحدها دون‬
‫إذا وقعنا مطمئن لنا معشر الفتيات‪.‬‬

‫منطقة‬
‫ٍ‬ ‫الجو مظلم‪ ،‬الحرارة ما زالت منتشرة رغم حلو ِل ِ‬
‫الليل‪ ،‬وتقف في‬
‫مهجورة بجانب الطريق‪ ،‬أي مأز ٍق هذا؟ أمسكت بهاتفها قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫‪-‬ال يوجد حل آخر‪ ،‬البد أن أخبر أبي سأظل هنا إلى أن يرسل ّ‬
‫إلي أحد‪.‬‬
‫‪ -‬وألن املصائب ال تأتي فرادى‪ ،‬بمجرد أن أمسكت هاتفها وحاولت‬
‫الاتصال انقطع دعم البطارية للهاتف‪.‬‬
‫‪ -‬يا أهلل ما كل هذا !!!‬
‫‪13‬‬
‫‪-‬ترجلت من السيارة‪ ،‬ثم وقفت بجانبها على الطريق‪ ،‬كانت العربات‬
‫املسافرة شديدة السرعة‪ ،‬لكنها رغم السرعة استطاعت أن ترى الاندهاش في‬
‫عيون أصحابها‪ ..‬حقهم !!!‬
‫ً‬
‫‪-‬ما الذي يجعل فتاة تقف ليال على هذا الطريق قرب إلاسكندرية‪ ،‬يمكنها‬
‫ً‬
‫أن تتصل بأهلها حتى يرسلوا لها العون‪ ،‬حقا ال نعي قيمة املصائب إال إذا كنا‬
‫نحن ضحيتها‪.‬‬
‫‪ -‬قلبها كان يرتجف‪ ،‬ولكنها كالعادة تتصنع الصمود‪ ،‬هذه الفترة الخاملة‬
‫ً‬
‫من حياتها أورثتها ضعفا لم تعهده في نفسها من قبل‪.‬‬
‫‪-‬من بعيد رأت سيارة تتهادى بجانب الطريق‪ ،‬هي ال تعلم نية صاحبها‪،‬‬
‫لكن كل ما تعلمه أن السيارة تأتي باتجاهها‪ ،‬توقفت السيارة وراء سيارتها‪ ..‬ثم‬
‫تأهب لترى ذاك الذي قرر أن يساعدها أو أن يعتدي‬ ‫رأت بابها يفتح‪ ،‬نظرت في ٍ‬
‫عليها‪ ،‬هي ال تدري ما نيته بالضبط‪ ،‬حملقت بالسيارة في فضو ٍل لتجده َ‬
‫آخر‬
‫ً‬
‫شخص يمكن أن تتوقع وجوده هنا وفي هذا املكان تحديدا‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ً‬
‫في تلك الليلة الثقيلة على نفسه اتخذ من كالم أبيه دافعا للسهر‪ ،‬لم يزر‬
‫ً‬
‫محاولة منه ملعرفة ذاك الدافع‬
‫ٍ‬ ‫النوم َجفنيه‪ ،‬ظل محدقا بسقف الغرفة في‬
‫ُ‬

‫بامرأة أن تترك ولديها فارة من زوجها‪ ،‬ما السبب الذي يجعلها‬


‫ٍ‬ ‫الذي يدفع‬
‫أي ٍأم؟ أن يكون الثمن هو فلذات كبدها‪،‬‬‫تضحي تضحية أكبرمن أن تحتملها ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إذن فهي ليست خائنة‪ ،‬ولم تكن كذلك يوما‪ ،‬يعلم جيدا أن قلبه طوال‬
‫السنوات املاضية كان ينكر هذا‪ ،‬لكنه كان يعلل هذا بأنه ال زال صغير السن‬

‫‪14‬‬
‫ال يستطيع أن يفرق بين الحقيقة وعكسها‪ ،‬ثم يأتي والده اليوم ليخبره بأن أمه‬
‫ُ‬
‫بريئة من كل ما نسب إليها براءة الذئب من دم ابن يعقوب!‬
‫محاولة من الوالد إلقناعه بالزواج ‪ ،‬فهو يعلم‬
‫ٍ‬ ‫ماذا لوكانت هذه خدعة‪ ،‬مجرد‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مكمن عقدته النفسية‪ ،‬لعله آلان أراد أن يزيل‬ ‫جيدا أن هذه النقطة بالذات‬
‫ً‬
‫هذا التفكير البائس‪ ،‬فلم يجد حال غير هذا‪ ،‬ظلت تراوده ألافكار والهواجس‬
‫حتى صدع املؤذن بالنداء لصالة الفجر‪.‬‬
‫جديد‪ ..‬دون أن يغمض له َجفن‪ ..‬أدى‬
‫ٍ‬ ‫يوم‬
‫قام ليتوضأ‪ ،‬يا أهلل هذا عمل ٍ‬
‫دوء‪ ،‬وقام في عجالة‪ ،‬عليه أن ينجزبعض ألاعمال في فروع الشركة‬
‫صالته في ه ٍ‬
‫باملحافظات قبل اجتماع الغد‪.‬‬
‫أربع وعشرون ساعة ًمن آلان‪ ،‬عليه أن يتجه إلى مقر الشركة‬ ‫لم يعد أمامه إال ٌ‬
‫ً‬
‫محافظات لإلشراف على ما يخص‬
‫ٍ‬ ‫أوال لينجزبعض الوثائق‪ ،‬ثم يتجه إلى أربع‬
‫شركة من الشركات ألاربع‪ ،‬طوى سجادته ثم غادرإلى غرفة أخيه‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫صادرات كل‬
‫ِ‬
‫طرق الباب‪ ،‬فأتاه إلاذن بالدخول‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أساهر حتى آلان؟‪ ..‬أشرقت الشمس‪ ،‬ألن تتحمل املسئولية يوما؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لم اتخذ هذه الخطوة بعد‪.‬‬
‫‪-‬كف عن هذا العبث واستمع إلي‪ ،‬معي عدة أوراق أريد توثيقها من‬
‫ً‬
‫املكتب‪ ،‬ثم آتي بها إلى أبيك ليوقع عليها‪ ..‬أما أنا فسأسافر فورا ألفرع الشركة‬
‫حاد‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫باملحافظات‪ ،‬ثم تغيرت لهجته وهو يقول‬
‫‪-‬أنا ذاهب الرتداء مالبس ي عشر دقائق فقط ونتقابل في الحديقة‪،‬‬
‫أسمعت؟‬

‫‪15‬‬
‫اتجه إلى غرفته ليبدل مالبسه‪ ،‬وبالفعل تقابال في ردهة الفيال‪.‬‬
‫‪-‬ها هي الوثائق‪ ،‬افعل ما طلبت ه منك وإياك وإهمال توقيع إحداها‪.‬‬
‫‪-‬ال تقلق بشأنها سأنام‪.‬‬
‫‪-‬ماذا ؟!‬
‫ً‬
‫‪-‬أقصد سأوقعها جميعا‪ ،‬قلت لك‪ :‬ال تقلق‪.‬‬

‫ً‬
‫كان اليوم شاقا البد من إنجاز بعض الفحوصات قبل الذهاب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ملحاضرتها‪ ،‬البد أن تكتب تقريرا وافيا عن أحوال املصابين بمثل هذا املرض‪،‬‬
‫وإال سوف تتعرض لعقد ذاك الدكتوراملغرورالذي ال ينعتها إال باإلرهابية‪،‬‬
‫وابنة عم أسامة بن الدن‪.‬‬
‫وشهادة كل من يراها بأنها رقيقة الطباع‪ ،‬مرهفة الحس إال‬
‫ِ‬ ‫رغم وداعتها‪،‬‬
‫ً‬
‫ذاك املتعجرف الذي ال يرى شيئا سوى أنها إرهابية رجعية متخلفة‪ ،‬مكانها‬
‫ليس هنا لدراسة الطب‪ ،‬بل هناك في الصحراء‪ ،‬ألاولى لها أن تمسك العصا‬
‫وترعى إلابل‪.‬‬
‫مجرد التفكير فى هذا ألهب حماستها‪ ،‬البد أن تثبت له أن إلاسالم ليس‬
‫لهؤالء الذين يرعون إلابل فقط‪ ،‬وال للذين العمل لهم إال رعي الغنم في قلب‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬البد أن تثبت له أن الدين قد أنجب ألاطباء واملهندسين‬
‫والطيارين وأساتذة الجامعات‪.‬‬
‫عجل‪ ،‬أخذت ملفها واتجهت صوب املمر‬ ‫ٍ‬ ‫ارتدت البالطو ألابيض على‬
‫ً‬
‫الذي يقطنه املرض ى الخاصين بها‪ ،‬جلست بجانب سريرأحدهم‪ ،‬كان مسنا‪،‬‬
‫انفعال‪ ..‬كانت تدرك‬
‫ٍ‬ ‫اضطراب في ضربات القلب عند أي إجهاد أو‬
‫ٍ‬ ‫ويعاني من‬
‫‪16‬‬
‫ً‬
‫أن الطبيب الناجح هو ألاقرب إلى قلب مريضه‪ ..‬البد أن تطمئنه أوال حتى‬
‫تستطيع أن تعلم الحدث الصحي الفارق في حياته‪ ،‬والذي كان السبب في سوء‬
‫ً‬
‫حالته بهذا الشكل ولكن دون أن يسبب ذكره لتلك املأساة تراجعا في حالته‪.‬‬
‫جلست بجانب الرجل‪ ،‬تعلو وجهها ابتسامة عريضة‪ ،‬منحت ابتسامتها‬
‫للرجل بعض الطمأنينة‪ ،‬أخبرته بأنها الطبيبة املكلفة بمراقبة تطور حالته‬
‫املرضية‪ ،‬وأنها ترغب أن تكون صديقة أكثر من مجرد طبيبة‪ ،‬ألقت نظرة على‬
‫امللف الخاص به‪ ،‬وأخذت تستفسرعن تطور املرض‪ ،‬الطفته ببعض الكلمات‪،‬‬
‫ثم استأذنت منه خارجة وانصرفت‪.‬‬
‫باقي ثالثة من املرض ى فقط‪ ،‬عليها أن تنجز الحاالت الثالث قبل حلول‬
‫موعد تسليم ومناقشة امللفات‪ ،‬ثم الذهاب إلى غرفة أمها‪ ،‬تلك الراقدة‬
‫ً‬
‫بالعناية املركزة‪ ،‬هي ال تتمنى من الدنيا شيئا إال أن تظل بجانبها حتى لو مريضة‪،‬‬
‫مجرد وجودها يبعث في النفس الاطمئنان‪ ،‬بخبرتها الطبية تعلم أن الشفاء‬
‫الكامل ال أمل فيه‪ ،‬لكن كل ش ٍيء بإرادة هللا‪ ،‬رغم ذلك كل ما ترنو إليه هو أال‬
‫يسترد هللا هذا الجسد‪ ،‬مجرد وجودها حتى لو بقلب سرير بغرف العناية‬
‫ً‬
‫يشعرها بالسند‪ ،‬وهي التي لم تعرف السند يوما‪ ،‬هي التي لم تستشعر وجود‬
‫ورب لألسرة يمكن أن يعتمد عليه‪.‬‬ ‫رجل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مللمت ملفاتها واتجهت إلى حجرة الطالب الخاصة بها‪ ،‬كانت تنتظردورها‬
‫ٌ‬
‫استجواب عن إلاسالم أكثر منه‬ ‫في الاستجواب وليس في التقييم‪ ..‬نعم هو‬
‫ً‬
‫تقييما للحالة الصحية لبعض املرض ى‪.‬‬
‫صامتة‪ ،‬وتعلو شفتيه ابتسامته‬
‫ٍ‬ ‫بقراءة‬
‫ٍ‬ ‫أمسك ملفها‪ ،‬وظل يديرعينيه‬
‫املعتادة‪ ،‬تلك الابتسامة املمزوجة بالسخرية‪ ،‬وضع امللف أمامه ونظر إليها‬
‫ً‬
‫متهكما‪:‬‬
‫‪-‬أهذا كل ما توصلتي إليه عن هذا املرض في طوره ألاول؟‬

‫‪17‬‬
‫‪-‬أجابته بابتسامة واثقة‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬هذا كل ما توصلت إليه‪ ..‬ثم إن كانت هناك بعض املعلومات التي‬
‫َ‬
‫املسؤول عن‬ ‫لم أستطع أن أتوصل إليها فلتخبرني بها أنت‪ ،‬ما دمت أنت‬
‫وأي نجاح أحققه لك منه نصيب‪ُ ،‬‬
‫وأي‬ ‫دراستنا ومستوانا العلمي والعملي‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫إخفاق يصيبني لك منه نصيب أيضا كطبيب مسؤول عن طالبه‪.‬‬
‫ً‬
‫دهشة قائال‪:‬‬‫ٍ‬ ‫نظر إليها في‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫نصيب‪ ،‬لكني لست مسئوال‬ ‫إخفاق سيصبني منه‬‫ٍ‬ ‫نجاح أو‬
‫‪-‬أعلم أن أي ٍ‬
‫ً‬
‫عن أولئك الفاشلين الذين لم يتبعوا تعليماتي جيدا‪.‬‬
‫أجابته بابتسامة ظفر‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬إلاسالم أيضا غيرمسئول عن أولئك الفاشلين الذين لم يتبعوا تعليماته‬
‫ً‬
‫جيدا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫إسالمك إذن؟‬
‫ِ‬ ‫نظر إليها متفحصا‪ ،‬ما هي تعليمات‬
‫‪-‬إسالمي أقر العدل‪ ،‬ورفع الظلم‪ ،‬وحرم قتل ألابرياء‪ ..‬إسالمي حرم‬
‫إلاكراه في الدين‪ ،‬وحرم قتل ألاطفال والشيوخ والنساء‪ ،‬حرم اقتالع ألاشجار‪،‬‬
‫ً‬
‫بشرف‬
‫ٍ‬ ‫وتسميم آلابار حتى في أوقات الحروب‪ ،‬إسالمي أمرني أن أكون محاربا‬
‫وإال فال‪.‬‬
‫‪-‬لذلك كنتم تغزون العالم‪ ،‬ترتكبون املجازر ضد ألابرياء حتى يدخلوا في‬
‫الدين أو يدفعوا الجزية‪.‬‬
‫‪ -‬كال‪ ،‬إلاسالم كان بمثابة املنقذ لهؤالء‪ ..‬إلاسالم خلص نصارى مصر من‬
‫حكم "سبتيموس"و"صفرنيوس"‪ ،‬ذلك الحكم الدكتاتوري‪ ،‬ألم تقرأ عن تاريخ‬
‫هؤالء؟ ألم تقرأ عن العقوبات الثالث التي كانوا يطبقونها على كل من دخل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املسيحية؟ ألم تقرأ عن املوت حرقا‪ ،‬أو أن يقدم املسيحي طعاما لألسود‪ ،‬أو أن‬
‫تقطع رقبته بالسيف؟‬

‫‪18‬‬
‫َمن خلص هؤالء م ن هذه الاعتداءات السافرة على حقهم في اختيار‬
‫دياناتهم؟ صدقني إلاسالم لم ينتشر بحد السيف‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن الفتوحات إلاسالمية؟ ألم تكن بحد السيف؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬لم تنتشربالسيف‪ ،‬ألم تقرأ في تاريخ التجاراملسلمين وأخالقهم التي‬
‫كانت السبب الرئيس ي النتشار إلاسالم في ألاندلس وسنغافورة ‪.‬‬
‫أما عن الفتوحات‪ ،‬كان الخليفة املسلم يرسل مللوك البلدان املجاورة‪،‬‬
‫أسلم تسلم‪ ..‬أو ادفع الجزية فإن أبوا الاثنين فالحرب‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬جزية!! ملاذا ضريبة مكوثهم في بلدانهم؟ ألم يكن هذا اغتصابا للحقوق؟‬
‫ً‬
‫‪-‬الجزية لم تكن اغتصابا لحقوق هؤالء وأموالهم‪ ،‬بل كانت للدفاع عنهم‪،‬‬
‫اعتداء دون أن يقحموا شباب هذه ألارض في الحروب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ورد ِ‬
‫ً‬
‫إلاسالم هنا حارس ال مهلك‪ ،‬وأخيرا إن كنت تراني كذلك فدعني وشأني‪،‬‬
‫وليس لك إال تقييم ملفي الطبي‪ ،‬وأرجو أن ينال استحسانك‪ ،‬ال أن يكون تقيم‬
‫ً‬
‫ديني وسلوكي‪ ..‬كان منصتا لها بكل جوارحه‪ ،‬لكن تعلو شفتيه ابتسامة هزلية‪،‬‬
‫ال تتناسب مع اندفاعها وحماستها من أجل الدفاع عن عقيدتها‪ ،‬نظرت إليه‬
‫ً‬
‫متوجسة تستأذنه فى الانصراف‪ ،‬سمح لها باسترجاع ملفها‪ ،‬ثم بادرها قائال‪:‬‬
‫فمكانك هناك‪..‬‬
‫ِ‬ ‫أجدك هنا تطلبين العلم‪..‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬في املرة القادمة ال أريد أن‬
‫رسالتك التي تخبري ني فيها أن أسلم أو أن أدفع الجزية‪ ،‬وإال‬ ‫ِ‬ ‫باملناسبة أنتظر‬
‫فمثلك ال يليق به إال السيف أو رعي الغنم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫سيفك وتقاتليني به‬
‫ِ‬ ‫فلتمسكي‬

‫‪19‬‬
‫ً‬
‫نظرت إليه في ذهول ألجمتها املفاجاة‪ ،‬إنه هو تمتمت قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ما هذا القدر الذي رف‪..........‬‬
‫ً‬
‫‪-‬بادرها قائال‪-:‬‬
‫ترجلت منها تطلبين املساعدة‪ ،‬يمكنني‬‫ِ‬ ‫وأنك‬
‫سيارتك قد تعطلت‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أرى أن‬
‫عمل هناك‪ ،‬أعتقد أن طريقنا‬ ‫ٌ‬ ‫داخل إلاسكندرية‪ ،‬فلدي‬ ‫بك إلي‬‫أن أصل ِ‬
‫ِ‬
‫واحد‪ ..‬لم تبنس ببنت شفة‪ ،‬لم تستفق من ذهولها بعد‪ ،‬القدر يأبى عليها أن‬ ‫ٌ‬
‫واحدة فقط رغم أنها جارته‪ ،‬ليأتي به إلى هنا خلفها‬ ‫ٍ‬ ‫ملرة‬
‫تلتقيه في القاهرة ولو ٍ‬
‫على أعتاب إلاسكندرية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪-‬آنستي أسأل عن غطاء السيارة‪ ..‬أو هل كلفتي أحد بإصالحها ؟‬
‫‪-‬هزت رأسها أال ‪.‬‬
‫‪-‬قام هو بمهمة تغطيتها‪ ،‬ثم فتح باب سيارته ألامامي ليجلسها بجانبه‪،‬‬
‫أدركت حينها أنه خش ي أن تستخدم مكانها باملقعد الخلفي كوسيلة لتقويضه‬
‫أثناء القيادة‪ ،‬ابتسمت بمرارة‪ ،‬كيف بأروى الشرقاوي أن يظن بها ٌ‬
‫أحد هذا‬ ‫ٍ‬
‫الظن‪ ،‬هونت على نفسها بأنه ال يعرفها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬اتخذ مقعده بجوارها‪ ،‬نظر إليها متفحصا‪ ،‬وجدها تمسك بهاتفها‪،‬‬
‫ً‬
‫بادرها قائال‪:‬‬
‫مأمن‪.‬‬
‫أوأخيك آلان فالسيارة ليست في ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بأبيك‬
‫ِ‬ ‫يمكنك أن تتصلي‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫أجابت دون أن تنظر إليه‪:‬‬
‫‪-‬لقد نفذ شحن البطارية لسوء الحظ‪.‬‬
‫ً‬
‫يمكنك أن تستخدمي هاتف‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬نفذت بطارية هاتفي الشخص ي أيضا‪،‬‬
‫العمل‪ ،‬ثم مد يده لها بالهاتف دون أن ينتظر ردها‪.‬‬
‫ضغطت عدة أزر ٍار‪ ،‬وظلت تسمتع إلى الرنين على الخط آلاخر‪ ،‬ثم كان‬
‫صوت والدها‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫‪َ -‬من املتكلم؟‬
‫‪-‬أبي‪ ..‬أنا أروى‪.‬‬
‫أنت يا ابنتي‪ ،‬ماذا حدث ؟‬ ‫‪-‬أين ِ‬
‫‪-‬ال ش َيء‪ ،‬أردت فقط إنجازبعض ألامور قبل السفر‪ ،‬وانفجرإطارسيارتي‬
‫ألامامي قرب إلاسكندرية‪ ،‬أنا بخيرال تقلق علي‪ ،‬وال ترسل ّ‬
‫إلي السائق سأعود في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قطار منتصف الليل‪ ..‬أوليست الطائرة ستغادر فى الثامنة صباحا؟‪ ..‬حتما‬
‫سأكون وصلت‪.‬‬
‫أنهت املكاملة‪ ..‬وضعت الهاتف وهي تتمتم ببعض الكلمات شاكرة‪ ،‬لم‬
‫ً‬
‫يعلق على شكرها‪ ..‬بادرها قائال‪:‬‬
‫اسمك أروى؟‬‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬حركت رأسها أن نعم‪.‬‬
‫لم تستخدمين قطار منتصف الليل؟ عندي بعض ألاعمال هنا يمكنني‬ ‫‪َ -‬‬
‫وآخذك معي في طريقي إلى القاهرة ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أن أنجزها‪،‬‬
‫‪-‬رفضت طلبه بأدب‪.‬‬
‫لم ترفضين؟‬ ‫‪-‬ما املشكلة َ‬
‫‪ -‬الأريد أن أثقل عليك‪..‬وال أريد أن يتحمل ٌ‬
‫أحد نتيجة تصرفاتي‪.‬‬
‫ال ينكر أنه أعجب بشجاعتها‪ ..‬ظن أنها أقوى ما يمكن أن تكون عليه‬
‫امرأة‪ ،‬وهي أضعف ما يمكن أن تكون عليه امرأة‪.‬‬
‫بتوصيلك إلى املكان الذي تقصدين‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وجهتك؟‪ ،‬سأقوم‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬إذن أخبريني أين‬
‫ً‬
‫مدخل من مداخل إلاسكندرية هكذا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أتركك ليال في‬
‫ِ‬ ‫ال يمكن أن‬
‫وجل‪ ،‬يا إلهي إن الورقة املدون بها العنوان وضعتها بجانبي كي‬ ‫‪-‬انتبهت في ٍ‬
‫أتمكن من القيادة‪ ،‬ثم نسيتها على املقعد بجانبي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫إحساس بالضياع يجتاح كل‬‫ٌ‬ ‫صمت‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كانت دموعها تنحدرعلى وجنتيها في‬
‫لحظات أنها‬
‫ٍ‬ ‫كيانها آلان‪ ..‬أما هو فقد أصابه الذهول‪ ،‬أهذه التي كان يشعرمنذ‬
‫ً‬
‫أقوى امرأة ؟ همس لنفسه قائال‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إشفاق ثم تمتم‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬حقا وجهات النظر ألاولى دائما خطأ‪ ،‬نظر إليها في‬
‫مخاطبا َ‬ ‫ً‬
‫نفسه‪:‬‬
‫‪-‬إن أقس ى مايمكن أن يتحمله رجل أن يرى أنثاه تائهة‪ ..‬تشعربالضياع في‬
‫وجوده !!‬
‫هي لم ت كن أنثاه‪ ،‬ولكن منذ أن تحمل مسئولية إيصالها فهي مسئولة منه‬
‫حتى تصل إلى املكان الذي تريد‪.‬‬
‫ً‬
‫لم تستفق من شرودها إال وهو يعود بالعربة إلى الخلف عابرا أحد‬
‫املنعطفات بالطريق‪ ،‬أدركت حينها أنه عزم على العودة إلى سيارتها ليأتيا‬ ‫ِ‬
‫بالعنوان منها‪.‬‬
‫حركة شبه طفولية قائلة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫مسحت دموعها في‬
‫‪-‬وأعمالك التي تريد أن تنجز؟‬
‫مطمئنة ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بابتسامة‬
‫ٍ‬ ‫أجابها‬
‫‪-‬أعمالي يمكنها أن تنتظر‪.‬‬
‫ً‬
‫كانت عقارب الساعة تشيرإلى التاسعة مساء حينما توقفت السيارة أمام‬
‫إحدى البنايات التي تدل على أن قاطنيها من الطبقة املتوسطة‪ ..‬شكرته في‬
‫قليلة ثم وقفت دون‬‫ٍ‬ ‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫امتنان‪ ،‬ترجلت واتجهت صوب البناية‪ ،‬مشت‬ ‫ٍ‬
‫واضح‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫سبب‬
‫ٍ‬
‫فطن إلى أنها تخش ى الظالم‪ ،‬ترجل من سيارته ومش ى باتجاهها حتى وقف‬
‫ً‬
‫بمحازاتها ثم فاجأها قائال‪:‬‬
‫طابق تريدين ؟‬
‫‪-‬أي ٍ‬

‫‪22‬‬
‫‪-‬الرابع‪.‬‬
‫اطمئنان حتى وقف هو أمام إحدى‬ ‫ٍ‬ ‫اقتحم هو الظالم‪ ،‬واتبعته هى في‬
‫الشقق بالدور الرابع‪.‬‬
‫كانت إلانارة أمام باب الشقة خافتة‪ ..‬ويبدو أن ال أحد يسكنها‪ ،‬جو من‬
‫الصمت يخيم على العمارة كلها كان يقطعه بالكاد الجرس الذي يضغط عليه‬
‫صوت هادئ بعد فترة ليست بالقصيرة‪ ،‬ثم فتح الباب على الفور‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أدهم‪ ..‬أتاهم‬
‫ً‬
‫لحية بيضاء‪ ،‬رسمت قسوة السنين خطوطها بدقة‬ ‫ٍ‬ ‫كان رجال أبيض ذا‬
‫على وجهه‪ ،‬لم يتكلم بل كانت نظراته تسبح في الفضاء‪ ،‬وبعد فترة وجيزة‪ ،‬قطع‬
‫ً‬
‫صوته الصمت قائال‪:‬‬
‫للحظات قبل أن تعلني عن‬ ‫أنت يا عائشة‪ ،‬تتأملينى‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫لعلك ِ‬
‫‪-‬من بالباب ؟‪ِ ..‬‬
‫ً‬
‫أسامحك بعد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫نفسك ِ‪ ،‬ألن تكفي عن هذا العبث الطفولي أبدا؟‪ ،‬ثم إنني لم‬
‫وأمك طريحة الفراش؟‬ ‫أباك الكفيف‪ِ ،‬‬ ‫ما هذه الغيبة الطويلة؟‪ ،‬أنسيتي ِ‬
‫ً‬
‫كانت لهجته حلوة‪ ،‬تحمل العتاب والدعابة معا‪ ،‬لكنها لم تحتمل‪ ،‬هذا‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كفيف‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أكبر من طاقتها‪ٌ ..‬‬
‫مغترب‪ ،‬وابنة سجينة‪ ..‬يا أهلل‬ ‫وأم مريضة‪ ،‬وأخ‬ ‫أب‬
‫ما هذا الاختبارالعسير‪ ،‬لهذا كانت عائشة تأخذني معها ملجأ ملكفوفي البصر‪،‬‬
‫صباح أن أنظر إلى يدي‪ ،‬واسمع صوتي‪ ،‬وأحمد هللا‬ ‫ٍ‬ ‫لهذا كانت تطلب مني كل‬
‫على نعمة البصر والسمع‪ ،‬لم أكن اعلم أن أباها‪. ......‬‬
‫‪َ -‬من‪َ ..‬من بالباب؟‬
‫تضرع‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أيقظها هذا الصوت من ذكرياتها‪ ،‬نظرت إلى الواقف بجانبها في‬
‫ً‬
‫لعله يخلصها من هذا املوقف‪ ،‬لقد عهدته منذ أن رأته اليوم منقذا لها‪ ..‬ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫باله آلان ساكتا ال يحرك ساكنا‪.‬‬
‫‪َ -‬من بالباب َمن صاحب هذه ألانفاس؟‬

‫‪23‬‬
‫تردد‪:‬‬
‫‪-‬أجابته في ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬أنا صديقتها‪ ،‬جئت ألبلغكم شيئا عنها‪.‬‬
‫‪-‬عنها؟!‬
‫ً‬
‫معذرة‪ ،‬ش ٌ‬
‫يء أرادت هي أن تخبركم إياه فأرسلتني أنا‪.‬‬
‫تأت هي‪ ،‬ملاذا تأخرت هذه املرة‪ ..‬آه أسف تفضلي بالدخول يا‬‫‪-‬وملاذا لم ِ‬
‫ابنتي‪.‬‬
‫امتنان قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظرت إلى أدهم فى‬
‫ً‬
‫‪-‬سيد أدهم‪ ..‬أشكرك جدا‪ ،‬لم‪...........‬‬
‫اندهاش قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظر هو آلاخر في‬
‫لك باسمي؟‬ ‫‪-‬أتعرفينني‪ ..‬من أين ِ‬
‫ً‬
‫صعوبة‪ ،‬واحمرت وجنتاها خجال‪ ..‬إنني‪.......‬‬ ‫ٍ‬ ‫ازدردت ريقها في‬
‫ً‬
‫بمفردك‪ ..‬تفضال‪..‬‬
‫ِ‬ ‫أخوك هذا فالوقت ليال‪ ..‬وال يمكن أن تأتي‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬بالطبع‬
‫ثم أفسح لهما الطريق‪.‬‬
‫جلسا بردهة املنزل‪ ،‬من الواضح أن ألاثاث من النوع البسيط للغاية‪،‬‬
‫لكن يبدو أنه معتنى به بشدة‪ ،‬شعرت بالراحة‪ ..‬الجمال هو البساطة وعدم‬
‫التكلف‪.‬‬
‫صبى‬
‫وصل الرجل إلى حجرة جانبية‪ ،‬وصلت إليهما همهماته‪ ،‬وصوت ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صغير يبدو أنه كان نائما‪ ..‬ووجودهما كان سببا في إيقاظه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أتى الرجل وجلس في الناحية املقابلة بجانب أدهم‪ ..‬وجهه وديع‪ ،‬تملؤه‬
‫السكينة والهدوء‪ ،‬كيف بهذه القسمات الهادئة إذا علمت باعتقال عائشة‪..‬‬
‫ً‬
‫استفاقت من شرودها على صوته قائال‪:‬‬
‫وصديقتك ال‬
‫ِ‬ ‫‪-‬معذرة على سوء الاستقبال‪ ،‬زوجتي مريضة بالداخل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫فخور أنا بها جدا لوال تأخرها هذا‪ ،‬أقلقتني‬ ‫تعتني بنا جيدا‪ ،‬أوصيها علينا‪..‬‬

‫‪24‬‬
‫ً‬
‫عليها‪ ،‬ولم أبح بش ٍيء لوالدتها‪ ،‬لكن قلبي كاد أن يتوقف قلقا‪ ،‬ملاذا حتى ال‬
‫تتصل لتخبرنا أنها بخير؟‬
‫ً‬
‫حمدا هلل أنني آثرت املجئ‪ ،‬كيف لهذه ألاسرة لو علمت باعتقالها‪ ،‬ماذا لو‬
‫أ خبرت هذا الرجل بسجن ابنته‪ ..‬من الواضح أنه سيصبح طريح الفراش هو‬
‫آلاخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صينية بها بعض النقوش‬ ‫ٍ‬ ‫جاء ألاخ ألاصغر واضعأ أكوابا من الشاي على‬
‫البسيطة‪ ..‬قدم ألاكواب‪ ،‬ثم جلس بجانب أروى‪ ..‬يبدو أن معركة الاستيقاظ‬
‫ً‬
‫لم تؤثرعلى طباعه‪ ..‬قال الولد مقاطعا كالم والده‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحبك‪ ،‬دائما‬
‫ِ‬ ‫أنك ال تشبهيننا‪ ،‬لكنها‬
‫عنك كثيرا‪ ،‬رغم ِ‬ ‫‪-‬عائشة حدثتني ِ‬
‫تراك محجبة قبل أن تموت‪.‬‬ ‫كانت تقول أنها تتمنى أن ِ‬
‫تموت‪ ..‬أيمكن أن تموت عائشة‪ ..‬أيمكن أن تكون هذه هي النهاية؟‬
‫ّ‬
‫ظهرت الدهشة على وجه الرجل لعلمه أنها ليست محجبة‪ ،‬اثرت‬
‫الحديث قبل أن تثور حفيظته ضدها‪ ..‬توقعت أن تتغير ردة فعله عند علمه‬
‫بتبرجها‪ ،‬لكن ابتسامته الودودة اتسعت أكثر‪ ..‬بادرته قائلة‪:‬‬
‫‪-‬عائشة بخير‪ ،‬فقط ُسرق هاتفها‪ ،‬ولم تستطع محادثتكم‪ ،‬ثم إنها تعمل‬
‫إلى جانب دراستها‪ ،‬فلم تستطع املجئ‪ ..‬لكنها أعطتني هذا املظروف‪ ،‬وأرادت مني‬
‫ً‬
‫أن أوصيك بالوالدة خيرا‪ ..‬وأخبرتني أن بهذا املظروف ما يكفي للنفقة والعالج‬
‫هذا الشهر‪ ..‬ثم نظرت إلى الولد الصغير وقالت له باسمة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ألزمتني أن أخبرك تحياتها‪ ،‬وأن أوصيك بأمك وأبيك خيرا‪ ،‬وأال تتوانى في‬
‫صدق!‬
‫ٍ‬ ‫دراستك‪ ..‬كانت تكذب بكل ما أوتيت من‬
‫ً‬
‫تهيأت لالنصراف‪ ..‬لكنها تذكرت شيئا‪:‬‬
‫‪-‬أخبرتني أنها تريد رقم أخيها ألاكبر فلقد فقد مع ضياع الهاتف‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫شك‪:‬‬ ‫رفع الوالد رأسه ثم تساءل في ٍ‬
‫ٌ‬
‫تخبرك أننا لم نعلم وجهته بعد‪ ،‬أم تراها تخيلت أنه في تلك ألايام‬‫ِ‬ ‫‪-‬ألم‬
‫ً‬
‫القالئل أفصح عن مخبأه‪ ،‬أو جاء عائدا كي يرعى أبويه املسنين‪.‬‬
‫ازدردت ريقها في مرارة‪ ..‬إذن لم يعلموا وجهته بعد‪.‬‬
‫شاب في مقتبل حياته‪ ،‬يفضل التغرب‬ ‫ماهذا الوطن الذي يلفظ أبناءه‪ٌ ..‬‬
‫والهجرة على املكوث بجانب أبويه املريضين‪ ،‬يبدو أن الدافع كان أقوى‪ ،‬نظرت‬
‫ً‬
‫إلى أدهم كان يبدو متأثرا بكل ش ٍيء‪ ..‬ترك عمله الذي من أجله جاء‪ ،‬يكفيه هذا‬
‫التأخير‪.‬‬
‫هبت واقفة‪ ،‬واعتذرت عن زيارت ها التي جاءت على غير موعد‪ ،‬وعن ما‬
‫سببته من إزعاج‪ ،‬رافقها ألاب والابن حتى الباب‪ ،‬التفتت إلى الصبي أوصيك‬
‫باملذاكرة‪ ،‬انحنت لتكون بمستوى طوله ثم قالت متسائلة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬صحيح‪ ،‬أخبرني ماذا تريد أن تصبح مستقبال؟‬
‫تخبرك عائشة‪ ..‬أنا القاض ي دمحم عاطف عبدالرحمن‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ألم‬
‫قاض !!‬
‫‪ٍ -‬‬
‫ً‬
‫الدنيا تسخر من الكل‪ ،‬يريد أن يصبح قاضيا وهو ال يعلم أن أخته زج بها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ظلما وعدوانا في غياهب السجون‪.‬‬
‫ً‬
‫بادرها قائال‪ ً،‬وهو يحرك عجلة السيارة مستعدا للقيادة ‪:‬‬
‫صديقتك ؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أخبريني أين‬
‫أغرورقت عيناها بالدموع‪ ،‬ولم تجب‪.‬‬
‫سألها مرة أخرى في ٍ‬
‫تفهم‪-:‬‬
‫‪-‬أهي مريضة؟‬
‫‪-‬كال‪ ،‬إنها في السجن ثم أجهشت بالبكاء‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫اإلرهات ‪ ....‬؟‬
‫ي‬ ‫َمن‬
‫إنذار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ووهن ثم استدارت خارجة دون سابق‬ ‫ٍ‬ ‫ضعف‬
‫ٍ‬ ‫ظلت تنظر إليه في‬
‫ً‬
‫اتجهت رأسا إلى غرف العناية املركزة‪ ،‬حدقت بزجاج الغرفة كعادتها‪،‬‬
‫تساقطت العبرات على وجنتيها‪ ،‬ظلت تراقب ألاجهزة املوجودة بالغرفة‪ ،‬ثم‬
‫اتجهت خارجة دون أن تنتظر حضور الطبيب الخاص كي تطلع على الحالة‬
‫املرضية للوالدة‪.‬‬
‫كانت تشعر بأنها بحاجة إلى الدعم‪ ،‬غادرت املشفى ثم اتجهت إلى مسجد‬
‫باريس الكبير‪ ،‬اتجهت إلى ركنها املفضل‪ ..‬تعثرت في إحدى الجالسات‪ ،‬اعتذرت‬
‫ً‬
‫منها‪ ،‬وجلست بمكانها املعتاد‪ ،‬لم يكن املسجد هادئا‪ ،‬كعادته كان يعج بكثير‬
‫من الفرنسيات الالتي جئن بدافع الفضول‪ ،‬ظلت تنظر إليهن الواحدة تلو‬
‫قليل‪ ،‬كانت فتاة شاحبة‬‫ألاخرى‪ ،‬حتى التقت عيناها بتلك التي تعثرت بها منذ ٍ‬
‫غير محجبة‪ ،‬لكنها ت بدو مسلمة ال تعلو وجهها الدهشة من املسجد مثل‬
‫لحظات ثم انصرفت‪ ،‬ظلت نسيم جالسة حتى‬ ‫ٍ‬ ‫الكثيرات‪ ..‬جلست الفتاة بضع‬
‫ُ‬
‫أذن لصالة العصر‪ ،‬صلته ثم انصرفت هي ألاخرى‪.‬‬
‫فور وصولها إلى شقتها الحظت بعض الجلبة في الشقة املقابلة‪ ،‬وأن‬
‫ألانوار مضاءة‪ ..‬لم تتبين ما ألامر؟‪ ،‬لكنها رأت صاحب العقار يقف بمنتصف‬
‫الردهة‪ ،‬علمت أن املستأجرالجديد قد حضر‪ ..‬ومن اختالط ألاصوات‪ ،‬علمت‬
‫ً‬
‫هدوء‪ ..‬عليها أن تنجز مهاما كثيرة قبل‬
‫ٍ‬ ‫أن الساكنة فتاة‪ ،‬أغلقت باب شقتها في‬
‫حلول اليوم التالي‪ ،‬أهمها هو أن تبحث بغرفة والدتها لعلها تجد ما يجعلها‬
‫تهتدي إلى جذورها املفقودة‪ ،‬هي تعلم أنها عريبة ألاصل‪ ،‬لكنها ال تدري إلى أي‬
‫ً‬
‫بلد تنتمي؟‪ ..‬أعدت لنفسها فنجانا من القهوة‪ ،‬ووضعت بعض قطع الكعك‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫اتجهت إلى غرفة املعيشة‪ ،‬أدارت التلفاز كان العنوان املسيطر على‬
‫وجل‪ ،‬كانت تعلم أن ألاوضاع غير‬ ‫الشاشة " ثورات الربيع العربي " انتبهت في ٍ‬
‫م ستقرة في البالد العربية‪ ،‬وأن فكرة العودة إلى إحداها والعيش بها فكرة‬
‫بلد تنتمي؟‪ ..‬البلد التي‬ ‫صعبة‪ ..‬لكن الدافع لكل هذا أنها تود أن تعرف ألي ٍ‬
‫ً‬
‫قضت بها أمها طفولتها وصباها‪ ،‬وصدرا من شبابها‪ ،‬تود أن تعرف َمن أبوها؟‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قدر من الدين وألاخالق‪ ،‬وتعلم أيضا أنها لم تكن ابنة‬ ‫تعلم جيدا أن أمها على ٍ‬
‫سفاح‪ ..‬وهذا ما أباحت به أمها‪ ..‬لكن ما الدافع الذي حدا بها كي تأتي بطفلتها‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بلد لم تكن تنتمي إليه يوما؟‪ ،‬هي تعلم قدرا‬ ‫إلى هنا لتستقر طوال حياتها في ٍ‬
‫ً‬
‫لد‬ ‫كبيرا من اللغة العربية‪ ،‬لكنها لم تكن تميز في لهجة والدتها أنها تنتمي إلي ب ٍ‬
‫معين‪ ،‬أمها لم تكن تتحدث إال بالفصحى‪ ،‬ظلت شاردة الذهن ثم قامت فجأة‬ ‫ٍ‬
‫كي تجلب بعض الكتب من املكتبة‪ ..‬فتحت بعض املواقع إلالكترونية‪ ،‬يجب أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعلم قدرا كبيرا من املعلومات عن الدول العربية علها أن تجد بعض العادات‬
‫التي كانت تقوم بها والدتها مسيطرة على دولة ما‪.‬‬
‫تهتد لش ٍيء‪ ،‬اتجهت إلى‬ ‫قرأت في تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين‪ ،‬ولكنها لم ِ‬
‫أي من وثائق سفر أو شهادات‪..‬‬ ‫غرفة أمها‪ ،‬ظلت تبحث وتبحث‪ ..‬لم تعثر على ٍ‬
‫تمرض‪ ..‬أخذ منها الجهد مأخذه‪.‬‬ ‫وكأن أمها تعمدت أن تخفي كل ش ٍيء قبل أن َ‬
‫لم تشعر إال في صباح اليوم التالي وهي جالسة القرفصاء على ألارض‪،‬‬
‫عجل‪ ..‬تذكرت‬ ‫ورأسها مائل على السرير‪ ..‬أدت صالتها‪ ،‬وتناولت فطورها على ٍ‬
‫أمر الساكنة الجديدة‪ ،‬قامت بتهذيب بعض الورود التي تعج بها شرفتها‪ ،‬ثم‬
‫لك إقامة طيبة‬ ‫خطت على أحد البطاقات بعض الكلمات ختمتها‪ ،‬بـ " أتمنى ِ‬
‫جارتك بالشقة املجاورة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بباريس"‬
‫وضعت باقة الورد أمام باب الشقة املقابلة‪ ،‬ثم اتجهت إلى الجامعة‬
‫مباشرة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ً‬
‫لم يتكلم أي منهما خالل الطريق‪ ،‬كان الوقت فجرا عندما طرقا أول‬
‫عمل من ألاعمال التي من أجلها جاء‪ ،‬لم يكن‬ ‫شوارع القاهرة‪ ،‬لم ينجز أي ٍ‬
‫ً‬
‫مستعدا الاستعداد الكامل الجتماع اليوم‪ ،‬كل ما يود فعله آلان هو توصيلها‬
‫ملنزلها‪ ..‬ومن ثم يحاول أن يصلح الخلل الذي أصاب عمله‪ ،‬التفت إليها ليسألها‬
‫عن أي ألاماكن تسكن؟‬
‫للحظات‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫كانت تبدو مستغرقة في النوم‪ ،‬تردد في إيقاظها‪ ..‬ظل ينظرإليها‬
‫ً‬
‫كان إلاعياء واضحا على وجهها بشدة ويبدو أن الجهد أخذ منها مأخذه‪ ،‬يعلم‬
‫ً‬
‫لساعة أخرى‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن لديها موعد مع الطائرة في الثامنة صباحا‪ ،‬لن يضيرها النوم‬
‫ُ‬
‫عزم على عدم إيقاظها‪ ،‬يمكنه أن يذهب هو إلى البيت أوال السيما وهو‬
‫قريب منه‪ ،‬سيكلف أخاه ببعض ألاعمال‪ ،‬ويأخذ هو بعض الوثائق التي يجب‬
‫توقيعها قبل انعقاد الاجتماع‪ ،‬سيعتذر ألبيه بشأن فرع إلاسكندرية‪ ..‬إذن‬
‫الخطوة القادمة هي البيت‪ ،‬ثم مهمة توصيلها ملنزلها‪ ،‬ومن ثم الذهاب للشركة‪.‬‬
‫اتخذ الطريق املؤدي إلى املنزل‪ ،‬ترك السيارة بحديقة الفيال‪ ..‬أملى على‬
‫أخيه ما يجب فعله‪ ..‬ووضع بعض ألاوراق في حقيبته‪ ،‬اجتاز ممر الحديقة‬
‫بهدوء حتى ال يوقظها فتنزعج لوجودها‬
‫ٍ‬ ‫بخطوات واسعة‪ ،‬واتجه صوب السيارة‬
‫بحديقة بيته‪ ،‬ولكم تعاظمت دهشته عندما وجد السيارة فارغة وهي ليست‬
‫بداخلها!!!‬

‫فور وصولها إلى الجامعة اتجهت ملتابعة حالة مرضاها الصحية‪ ..‬ثم‬
‫عرض التقاريرعلى ذاك البرونو املتعجرف‪ ،‬ال شك أنه ال يهتم بتلك امللفات‬
‫الطبية‪ ،‬كل ما يهمه هو أن يجلدها بكالمه‪ ،‬ويقيم وضعها الديني والعربي‪..‬‬
‫‪29‬‬
‫أصعب نقطة تصل إليها عندما يصفها باإلرهابية‪ ،‬وتلتفت إليها كل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ألانظار‪..‬تشعر وكأنها ارتكبت إثما شنيعا بعروبتها وإسالمها‪ ،‬ولكنها ككل م ٍرة‬
‫أشهر فقط وتنتهي هذه‬ ‫ٍ‬ ‫تواس ي نفسها بأن هذه هي آخر سنوات الجامعة‪ ،‬عدة‬
‫املعاناة‪.‬‬
‫هدوء‪ ..‬لكن أتت اللحظة الحاسمة‪ ،‬لحظة إطالعه على‬ ‫ٍ‬ ‫قضت يومها في‬
‫ملفها الطبي‪ ..‬أو باألحرى لحظة الجدال الذي ال يسمن وال يغني من جوع‪ ،‬ال هو‬
‫بهدوء‪ ،‬لم تكن‬‫ٍ‬ ‫الذي يقتنع وال هو الذي يتركها ودينها‪ ..‬اتجهت نحو القاعة‬
‫ألحد‪..‬عالقتها بزميالتها سطحية باردة‪ ..‬جلست في املكان املخصص‬ ‫صديقة ٍ‬
‫لها‪ ،‬والذي تحمل رقمه‪ ،‬اكتمل عدد الطالب‪ ..‬خفق قلبها بشدة‪ ،‬وظهرعلى‬
‫وجهها الاضطراب‪ ..‬كانت تكرهه وتخشاه‪.‬‬
‫للحظات‪ ،‬ثم وضع بعض الكلمات في أماكن‬ ‫ٍ‬ ‫أمسك بامللف نظر إليه‬
‫متفرقة‪ ..‬وضع قلمه خلف أحد أذنيه‪ ،‬وكأن باقي التقرير ال يستحق القراءة‪،‬‬
‫ً‬
‫نظر إليها قائال‪:‬‬
‫سيفك؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ها أين تخبئين‬
‫حدة‪:‬‬
‫أجابته في ٍ‬
‫سيف؟ حينما آتي إلى هنا ال أملك إال معطفي‪ ،‬وأدواتي الطبية‪ ،‬أما‬ ‫ٍ‬ ‫‪-‬أي‬
‫عن السيف والرصاص وقنابل الغاز النووي فأسأل عنها أمريكا وإسرائيل ‪.‬‬
‫‪-‬وما شأني أنا بأمريكا وإسرائيل‪ ،‬أنا أتحدث عن إلارهاب الذي يفرضه‬
‫دينك ويطبقه العرب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫محتل‪ ،‬وأهله‬‫ٍ‬ ‫بلد‬
‫إرهاب ذاك الذي تنعتنا به‪ ..‬رغم أنه ال يوجد ٍ‬‫ٍ‬ ‫‪-‬أي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقتلون زورا وبهتانا إال وكان بلد عربي مسلم‪ ،‬إن شئت فانظر إلى فلسطين‬
‫والعراق وبورما والشيشان‪ ..‬ماذا عن التدخل ألاجنبي في سوريا وغيرها الكثير؟‬
‫إرهاب ذاك الذي تلصقه بي؟ وال يوجد لديكم إال مخططات تحاك ضد‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬

‫‪30‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بلد عربي احتل بلدا أجنبيا أو غربيا‬
‫مصر وسوريا وليبيا واليمن‪ ،‬حدثني عن ٍ‬
‫ً‬
‫واحدا‪ ،‬رفعت كتفيها وابتسمت قائلة في سخرية‪-:‬‬
‫‪-‬صدقني لن تجد‪.‬‬
‫دنيئة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫إرهابية‬
‫ٍ‬ ‫عمليات‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬لهذا أنتم تقتصون من ألابرياء في‬
‫ً‬
‫‪-‬دكتور برونو‪ ،‬لسنا هنا للحديث في السياسة أو إلارهاب‪ ،‬أخبرتك كثيرا‬
‫إن كنت ال ترغب في رؤيتي‪..‬أو أن حجابي يثير حفيظتك‪ ،‬فعليك أن تسمح لي‬
‫ً‬
‫بطلب النقل الذي عرضته عليك مرارا‪ ..‬ال أدري ما السبب لرفضك رغم أني‬
‫طبيب آخر لكنك لم تسمح بذلك؟‪ ،‬ثم إني‬‫ٍ‬ ‫حاولت جاهدة التعلم تحت إشراف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أخبرتك أن قدماي لم تطأ أرضا عربيا من قبل‪ ،‬وأني فرنسية من الصميم مثلك‬
‫ً‬
‫تماما‪ ..‬وإن كنت تود أن تعقد مقارنة بين ألاديان فعليك بكتب الكبار من‬
‫ً‬
‫رجاالت الدين واملستشرقين‪ ،‬وليس بفتاة مثلي معلوماتها الدينية طفيفة جدا‪،‬‬
‫ال تصلح إلقناع غير املسلمين بأن الاسالم هو دين السالم ال سيما إن كان‬
‫املجادل أنت‪.‬‬
‫ً‬
‫حملت ملفها دون استئذان‪ ،‬ودون حتى أن يضع توقيعه‪ ،‬ثم اتجهت رأسا‬
‫إلى الباب‪ ،‬عازمة على الخروج من القاعة‪ ،‬في منتصف املمر‪ ،‬التفتت إليه‬
‫قائلة‪:‬‬
‫طبيب آخرإلدارة الجامعة ما‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬سأقدم طلب نقلي للممارسة تحت إشراف‬
‫دمت ال ترغب على املوافقة‪ ،‬أرجوك أن تساعدني في هذا‪ ،‬ثم انصرفت‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪-‬عم دمحم‪ ،‬أين هي؟‬
‫‪َ -‬من تقصد يا بني؟‬
‫‪-‬الفتاة التي كانت في السيارة‪.‬‬
‫‪-‬أي سيا ٍرة؟‬
‫‪-‬أكرمك هللا انتبه إلي‪ ،‬كانت إحداهن جالسة في سيارتي‪ ،‬أين ذهبت؟‬
‫‪-‬ال أدري يا بني‪ ،‬فقط دخلت إلى غرفتي ألنزع السترة وأرتدي الجلباب‪،‬‬
‫ً‬
‫ولم أر أحدا‪.‬‬
‫ً‬
‫اتجه صوب الشركة مباشرة‪ ،‬كان مشغوال بها طوال الطريق‪َ ،‬من هي؟‬
‫بساعات‬
‫ٍ‬ ‫شهامة هذه التي تجعل فتاة تسافر إلى إلاسكندرية قبل سفرها‬ ‫ٍ‬ ‫وأي‬
‫َ‬
‫لتكذب تلك الكذبة البريئة علي هؤالء الطيبين؟‪ ..‬من هذه التي تملك بأس‬
‫فتاة؟‪ ..‬هو الذي كان يرفض الزواج طيلة حياته‪..‬‬
‫شاب‪ ..‬ورقة ٍ‬
‫رجل‪ ..‬وشهامة ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ماذا حدث لينشغل عقله بفتاة لم يعرفها؟ بل وألاسوء من هذا أن تختفي دون‬
‫ً‬
‫أن يعلم عنها شيئا سوى اسم ها‪ ،‬واملضحك املبكي أن يختفي الهاتف الذي‬
‫هاتفت منه أباها‪.‬‬

‫أفاقت من نومها لتجد نفسها ما زالت في سيارته‪ ،‬تغلبت على ما تشعربه‬


‫وألم في مفاصلها‪ ،‬ترجلت من السيارة‪ ،‬واتجهت نحو الفيال التي‬ ‫صداع ٍ‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫تسكن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان وداعها ألبيها صامتا حزينا‪ ،‬أوصلها بنفسه إلى املطار‪ ..‬لم يكف عن‬
‫ً‬
‫ترديد أن تذهب إلى السفارة أوال‪ ،‬وأن تخبرهم بشأن دراستها‪ ،‬سيقومون هم‬
‫بذلك‪ ،‬لن تعاني في البحث عن جامعة تدعم رسالتها‪ ،‬أخبرها أنه سيشتاقها‬
‫ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وسيزورها عندما تهدأ مشاغله‪ ،‬حفزها على فكرة أال تأخذ رسالتها أكثر‬
‫‪32‬‬
‫من عام‪ ..‬وقبل أن تصعد إلى الطائرة أخبرها أنه سيحاول أن يساعد هؤالء‬
‫الذين تم القبض عليهم أثناء توزيعهم للمنشورات بالحرم الجامعي‪.‬‬
‫توسل‪ ،‬قبلته وانصرفت حينها لم تكن تدري أن هناك‬ ‫ٍ‬ ‫نظرت إليه في‬
‫هاتف ألحدهم يرن دون قصد في حقيبة يد بغرفتها‪.‬‬
‫حطت الطائرة على ألاراض ي الفرنسية‪ ،‬استلمت حقيبتها الوحيدة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واتجهت رأسا إلى السفارة‪ ،‬لم تكن زيارتها ألاولى لباريس‪ ،‬لكن حتما هذه املرة‬
‫مختلفة عن ذي قبل‪ ،‬هذه املرة جاءت وحيدة لتكسب لقب تستطيع أن تدافع‬
‫ً‬
‫به عن قضية ترى أنها قضيتها شخصيا‪..‬أملت السائق عنوان السفارة ‪ ..‬كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لقاء ناجحا‪ ،‬شعرت أن ألامور تسير على ما يرام‪ ،‬حتى مشكلة السكن‬
‫سيتكلفون بها‪ ،‬أخبروها أنه وقع الاختيارعلى شارع بالقرب من الجامعة‪ ،‬ثم‬
‫هادئ ومعظم ساكنيه من الطالب‪ ،‬وألاسر التي يدرس أبناؤها‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مكان‬ ‫إنه‬
‫بالجامعة‪.‬‬
‫أملت على سائق التاكس ي مرة أخرى العنوان الذي تقطن به‪ ..‬وضعت‬
‫متاعها‪ ،‬وأودعت مالبسها في خزانة املالبس‪ ،‬اطمأنت نفسها عندما ارتاحت‬
‫إلى ألوان ورق الحائط وألاثاث‪ ،‬من الواضح أنه ي ِنم عن ذو ٍق فرنس ي ٍ‬
‫راق‪.‬‬
‫ً‬
‫اتجهت إلى املطبخ‪ ،‬الثالجة الفارغة لم تثر دهشتها‪ ..‬تناولت كوبا من‬
‫ً‬
‫املياه‪ ،‬وآثرت أن تتجه إلى أحد أماكن بيع ألاطعمة‪ ،‬يجب أن تتناول غداءها أوال‬
‫فهذا سيساعدها على إنجاز جولة سريعة باملدينة‪.‬‬
‫أثناء تجوالها صادفت مسجد باريس الكبير‪ ،‬أصرت أن تدخله‪ ،‬أعجبها‬
‫ً‬
‫الطراز الشرقي الباهر الذي يميز مسجدا بقلب باريس‪ ،‬النساء يتوافدن بكثرة‪..‬‬
‫ً‬
‫منهن َمن تمسك بأيديهن أطفاال لم يتجاوزوا العاشرة‪ ..‬ألامربالنسبة إليهم كان‬
‫ً‬
‫حد‪ ..‬الدهشة تعلو وجوههم‪ ،‬في حين أن هناك أخريات باملسجد‬ ‫مهيبا إلى أبعد ٍ‬
‫مهمتهن هي الابتسام للوافدات فقط‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫أليام منذ وفاة‬
‫كانت تشعرها تلك الابتسامات بالطمأنينة التي هجرتها ٍ‬
‫اعتقال كانت‬
‫ٍ‬ ‫أمها‪ ،‬ثم لم تكد أن تتجاوز ألازمة حتى فوجئت باعتقال عائشة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هى السبب فيه‪ ..‬هي التي لم تصادق أحدا‪ ،‬دائما تشعر أنها ال تنتمي إلى عالم‬
‫ً‬
‫أقاربها وأصدقاء والديها‪ ..‬كانوا ينعتونها دائما باملتعجرفة‪ ،‬وكانت تستحق‪..‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫كثيرا ما كانت تشعرأن هذا الوسط الذي تحيا فيه‪ ،‬لم يبن إال بأموال الشعب‪،‬‬
‫ولم يرتفع إال بالوقوف على أجسادهم‪ ،‬انتبهت من شرودها لتعثر إحداهن بها‪،‬‬
‫لم تستطع العودة إلى ذكرياتها ثانية‪ ،‬قررت استكمال جولتها قبل أن تقرر‬
‫ً‬
‫شاق بالجامعة‪ ....‬مرة أخرى‪ ،‬التقت عيناها بالتي‬
‫عمل ٍ‬
‫العودة‪ ،‬لديها غدا يوم ٍ‬
‫تعثرت بها‪ ،‬ابتسمت لها وانصرفت‪.‬‬

‫ذهبت إلى إدارة الجامعة للتثبت من أمر النقل‪ ،‬ولشد ما كانت خيبتها‬
‫حينما أجابتها إحدى عامالت إلادارة قائلة‪:‬‬
‫‪-‬دكتور برونو صوفيو لم يسمح بالنقل‪.‬‬
‫‪-‬اتجهت إلى حجرة العناية املركزة‪ ،‬راقبت ذلك الجسد الهزيل الذي ال‬
‫يوصله بالحياة سوى تلك ألاجهزة‪ ،‬انتظرت وقت زيارة الطبيب‪ ،‬وجلست على‬
‫ً‬
‫أحد مقاعد الانتظار‪ ،‬آثرت أن تقض ي الوقت في القراءة‪ ..‬أخرجت كتابا لكنها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم ِتع حرفا مما قرأت‪ ..‬كان ذهنها شاردا في حالة والدتها‪ ..‬شعرت وكأن أحدهم‬
‫بطء‪ ،‬فوجدته هو ذاك الذي أخبرها‬ ‫يقف أمامها‪ ،‬رفعت عيناها عن الكتاب في ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هدوء‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مسلم في فرنسا‪ ،‬ابتسمت في‬
‫ٍ‬ ‫أن أمها ليست أما لها فقط‪ ،‬بل أما لكل‬
‫ً‬
‫بادرها قائال‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫آتيك أنا به‪ ،‬إنني‬
‫منك اتصاال‪ ،‬فلما لم تأتني به‪ ،‬آثرت أن ِ‬ ‫‪-‬كنت أنتظر ِ‬
‫تحاليل باملشفى بالقسم املجاور لغرف العناية املركزة‪ ،‬سأكون‬ ‫ٍ‬ ‫أعمل بمعمل‬
‫وقت‪ ..‬استأذن منها ثم انصرف‪.‬‬ ‫لجأت إلي في أي ٍ‬‫ِ‬ ‫بجانبك إذا‬
‫ِ‬
‫من الغريب أنها لم تعلم اسمه حتى آلان‪ ،‬بحثت عن الكارت الخاص به‬
‫ً‬
‫الذي وضعته بحقيبتها مسبقا‪ ،‬نظرت إلى الاسم " إياد عاطف عبدالرحمن"‬
‫ينتميان إلى‬
‫ِ‬ ‫بلد ينتمي؟‪..‬ماذا لو كانا‬‫تعلم أنه عربي ألاصل‪ ،‬لكنها لم تعلم إلى أي ٍ‬
‫واحدة؟‬
‫ٍ‬ ‫بلد‬
‫ٍ‬
‫خطوات تقترب‪ ،‬كا ن الطبيب املختص‪ ..‬وقعت على الحالة‬ ‫ٍ‬ ‫سمعت دفع‬
‫تحسن‪ ..‬رحل الطبيب وظلت محدقة بتلك املرأة‬ ‫ٍ‬ ‫يبد أي‬
‫الصحية ألمها‪ ..‬لم ِ‬
‫ً‬
‫الراقدة دون وعي‪ ،‬في يوم ما كانت تتقد قوة ونشاطا‪ ..‬علمتها الصبر على‬
‫املصائب‪ ،‬لكنها لم تتوقع أن تكون املصيبة رحيلها هي‪ ،‬علمتها الدين في ٍ‬
‫بلد ال‬
‫قسوة!‬
‫ٍ‬ ‫الغربة أقل‬
‫ٍ‬ ‫يفتقر إال للدين‪ ..‬قست عليها بلدها فوجدت مرارة‬
‫وطن‬
‫تعلم أن دافع الهروب كان أكبرمن دافع الاستقراربالوطن‪ ،‬لكن أي ٍ‬
‫ً‬
‫ذاك الذي يلفظ امرأة في شهور الحمل ألاولى وكأنه ضاق ذرعا بمولدة أخرى‬
‫فلم تجد أمامها إال أن تضعها في ألاراض ي الفرنسية؟ ‪ ..‬من ثم تجعل فرنسا‬
‫ً‬
‫قوة جعلتها تتخلى عن ألاهل والوطن والزوج لتعيش طريدة‬ ‫مستقرا لها‪ ..‬أي ٍ‬
‫ً‬
‫بلد لم يفتح أحضانه لها يوما؟‪.‬‬‫منبوذة في ٍ‬
‫ً‬
‫رغم أنها تملك من العمر أربعة وعشرين عاما قضتها كلها بفرنسا إال أنها‬
‫ال تزال ترى نفسها دخيلة على هذا املجتمع‪ ،‬نصف لم يتقبلها‪ ،‬والنصف آلاخر‬
‫ألم ثم حملت حقيبتها‬ ‫معد‪ ..‬تنهدت في ٍ‬ ‫يتجاهلها كأنها مرض الاقتراب منه ٍ‬
‫ورحلت‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫لفت نظرها وجود علبة مغلفة بورق الهدايا أمام الباب‪ ،‬كانت تشعرأنها‬
‫تخص الساكنة الجديدة وبالفعل صدق حدسها‪ ،‬قرأت البطاقة املوجودة مع‬
‫العلبة‪ ،‬كانت دعوة لتناول القهوة معها في السادسة مس ًاء‪.‬‬
‫أزالت ورقة الهدايا‪ ،‬كانت الهدية عبارة عن علبة من قطع الشوكوالتة‪،‬‬
‫ابتسمت‪ ..‬وقالت وكأنها تحادث نفسها‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أننا سنصير أصدقاء‪.‬‬

‫‪-‬لم يصلني ردك بعد‪ ،‬ماذا قررت بشأن الزواج‪ ..‬تركت لك مهلة يومين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لكنك لم تخبرني برأيك حتى آلان‪ ..‬أدهم أنت تعلم أباك جيدا‪ ،‬وتعلم جيدا ماذا‬
‫ً‬
‫أمر ما‪ ،‬سأكلم والد الفتاة الليلة كن مستعدا‪.‬‬
‫يفعل حينما يعقد العزم على ٍ‬
‫‪-‬الليلة ؟!‬
‫‪ -‬نعم الليلة منذ أن كنت في أوائل العشرينات‪ ،‬وأنا أمنحك فرصة تحديد‬
‫املوعد بنفسك‪ ،‬لكنك لم تفعل‪ ،‬آلان سأحدده أنا بنفس ي‪ ،‬فقط اجلس مع‬
‫ً‬
‫الفتاة أنا متأكد أنها ستثيرإعجابك فهي تستحق‪ ،‬ثم إن طباعها تشبهك تماما‪..‬‬
‫راق باإلضافة أنها ابنة الوزير " محمود الشرقاوي‬‫وعلى مستوى عقلي وفكري ٍ‬
‫" علم ونسب وأخالق‪.‬‬
‫وإذا لم تر فيها زوجتك فلن أجبرك عليها‪.‬‬
‫حق‪ ،‬وأثق باختيارك يا أبي‪ ،‬لكن‬ ‫‪ -‬أنا أقدر مجهودك‪ ،‬وأعلم أنك على ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دعني أسبوعا واحدا وسآتي إليك خاضعا ملا تريد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬حسنا‪ ،‬تركتك أعواما‪ ،‬ليس من الصعب أن أضيف إلى تلك ألاعوام‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أسبوعا واحدا‪ ،‬لكن أيمكن أن أعلم السبب الذي من أجله تطلب هذه املهلة؟‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬تقريبا رأيي استقر على إحداهن‪ ..‬ثم انصرف‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫محاولة لتفادي آثار الصداع‬
‫ٍ‬ ‫جلس خلف مكتبه‪ ،‬أمسك رأسه بيديه في‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الذي أصاب رأسه‪ ..‬أسبوع واحد فقط يجب أن يعلم فيه من هي‪ ،‬ومن تكون؟‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫شعور بأنها قد تكون وهما صوره له خياله‪ ،‬وليست واقعا‪ ،‬تلك‬ ‫راوده‬
‫التي انشق عنها الطريق فجأة‪ ،‬ثم اختفت من قلب السيارة فجأة وكأنها لم‬
‫طيف أو ٌ‬‫ٌ‬
‫حلم داعب خياله؟‬ ‫تكن‪ ..‬أيمكن أن تكون‬
‫كاد أن يركن إلى هذا الرأي لوال تذكره ألهل هذا املنزل الذي زاروه‪ ..‬يعلم‬
‫أنها مغادرة إلى باريس‪ ،‬لكنه لم يعلم كم املدة التي ستقضيها هناك‪ ،‬أخبرت‬
‫ً‬
‫الرجل املكفوف وهي تناوله املظروف أن به أموالا تكفي النفقة والدواء ملدة‬
‫شهر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ماذا لو كان غير ذلك حتى ال يشك باألمر‪ ..‬أخذ نفسا عميقا ثم اتجه إلى‬
‫غرفة أخيه‪.‬‬
‫طرق بابها ثم دخل‪.‬‬
‫‪-‬أأخبرك أبوك؟‬
‫قالها دون أن يرفع عينيه عن أوراقه‪.‬‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬أخبرني‪.‬‬
‫‪ -‬إذن سيحادث والد الفتاة الليلة؟‬
‫‪-‬كال بعد أسبوع ‪.‬‬
‫ً‬
‫دهشة قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظر إليه في‬
‫ما الفارق الليلة أم بعد أسبوع؟‬
‫‪-‬أنت لن تفهم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪-‬إذن عليك إفهامي‪ ،‬باملناسبة رأيت الفتاة من قبل‪ ..‬تبدو فتاة طيبة‪،‬‬
‫رائعة في كل ش ٍيء‪ ،‬ثم إنها شبيهة بك في كل تصرفاتها‪ ،‬أعتقد أن والدك أخبرك‬
‫بذلك‪.‬‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬أخبرني‪.‬‬
‫‪-‬إذن ما املانع‪ ،‬اجلس معها واستمع إليها‪ ،‬أو اذهب إلى مكان دراستها أو في‬
‫ً‬
‫النادي‪ ،‬إذا أردت أال يكون ألامر رسميا‪ ،‬وإذا لم تر توافق بينكما‪ ،‬فلن يجبرك‬
‫واثق أنك بمجرد أن تراها سيحدث هذا‬ ‫أحد على الزواج منها‪ ،‬مع أنني ٌ‬
‫التوافق‪ ..‬ثم غمز بعينيه‪.‬‬
‫ً‬
‫تناول أدهم أحد ألاقالم وقذف به في وجهه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬ألن تكف عن هراء الصبيان هذا؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لن أكف؛ إنني مراهق وسأظل هكذا إلى أن أموت‪ ..‬ثم اتبعها‬
‫بضحكة استهزائية‪.‬‬
‫ً‬
‫ضحك أدهم على هذا الجو الطفولي العابث الذي يثيره أخوه دائما‪ ،‬حتى‬
‫في أحلك اللحظات‪.‬‬
‫‪-‬أدهم أخبرني ماذا بك منذ أن عدت من إلاسكندرية‪ ،‬وأنت لست بحالتك‬
‫الطبيعية‪ ،‬ماذا هناك؟‬
‫يء‪ ،‬مشاغل العمل فحسب‪.‬‬ ‫‪-‬ال ش َ‬

‫‪38‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫ً‬
‫أختا لك‬

‫مساء طرقت باب الشقة املجاورة‪ ،‬وما إن فتح الباب حتى‬ ‫ً‬ ‫في السادسة‬
‫لحظات من‬
‫ٍ‬ ‫تبادال الابتسامات التي تنم عن الاستغراب والدهشة‪ ،‬وبعد‬
‫التعارف‪ ،‬كانت كل منهما تحكي حكايتها لألخرى‪ ،‬شعرا وكأن املصائب قد‬
‫وحدتهن‪ ،‬ألاولى تدافع عن أحد ألابرياء الذين أصبحوا ضحية للنظام الفاسد‬
‫والجامعات الفاسدة‪ ،‬ال يدرون َمن الفاعل الحقيقي لكل وقائع إلارهاب؟‪،‬‬
‫فكان ال بد أن يدفع الثمن هؤالء‪.‬‬
‫القانون ل م تعد مهنته أن يبحث عن العدل ويحققه‪ ،‬بل مهنته أن يدين‬
‫ألابرياء حتى يظهر الفاعل الحقيقي‪ ،‬وإن لم يظهر فعلى أرواحهم السالم‪.‬‬
‫أما ألاخرى ال تعرف َمن هي وال من أبوها‪ ،‬وال ألي ٍبلد تنتمي؟‪ ،‬هي فقط‬
‫تعلم أنها ابنة لتلك الراقدة في املستشفى على قيد سنتيمترات من املوت‪ ،‬خانتها‬
‫بسر لطاملا وعدتها أنها ستخبرها إياه‬
‫الظروف وداهمتها الغيبوبة قبل أن تبوح ٍ‬
‫عندما يحين الوقت‪ ..‬لم يحن الوقت بعد‪ ،‬لكن الخوف كل الخوف أن يحين‬
‫ً‬
‫وقت صعود الروح قبل معرفة السر‪ ،‬حينها لن تودع أما فقط‪ ،‬بل ستودع‬
‫العالم أجمع في شخص هذه السيدة‪ ،‬ختمت كالمها بدمعة ثم ابتسمت قائلة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رأيك أن نذهب سويا؟‬
‫‪-‬الوقت تأخر كلتانا عندها جامعة غدا‪ ،‬ما ِ‬
‫‪-‬إذن اتفقنا‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫تمض ي ألايام دون أن تحمل ألحد املزيد‪ ،‬تكرار ممل لنفس العادات‬
‫اليومية والتفاصيل‪ ،‬اللهم إال إذا كان هناك املزيد من البؤس لتلك الراقدة‬
‫ً‬
‫تأخر‪ ،‬دون أن يبدو أن هناك أي تباشير‬ ‫ٍ‬ ‫على السرير ألابيض‪ ،‬حالتها دائما في‬
‫للتقدم في حالتها الصحية‪.‬‬
‫أمل أن‬‫وجلد على ٍ‬
‫ٍ‬ ‫صبر‬
‫كانت ابنتها توقع على تلك التقارير الطبية في ٍ‬
‫تنقشع هذه الغمة‪ ،‬كانت تعلم أن أشد ساعات الليل ظلمة هي تلك الساعة‬
‫التي تسبق الفجر‪ ،‬كانت تؤمن بأنه إذا ازداد سواد الليل فإنه سينقشع‪ ،‬وإذا‬
‫اشتد الحبل واشتد فأنه سينقطع‪.‬‬
‫كانتا عائدتين من الجامعة بعد أن قامت أروى ألول مرة بزيارة والدة‬
‫كنوع من املؤازرة‪ ،‬طوال الطريق وهي تحدثها‬ ‫نسيم‪ ،‬كانت تشد على يديها بقوة ٍ‬
‫كل منهما إلى شقتها‪،‬أخبرتها أروى‬ ‫عن الصبر‪ ،‬صعدتا السلم وقبل أن تنصرف ٌ‬
‫ً‬
‫أنها ستعد طعام الغداء‪ ،‬وستتناوالنه سويا‪ ،‬عليها أن تذهب لتبدل مالبسها‪،‬‬
‫وتعود ريثما ينضج الطعام‪.‬‬
‫ً‬
‫ذهبت إلى شقتها عليها أن تستعد الختبار الغد‪ ،‬حمدا هلل أنه لن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شفهيا وإال ألوسعها جلدا بسيل من كلماته الالمتناهية‪ ،‬عليها أن تستعد‪ ،‬هي‬
‫تعلم أنها ماهرة بالطب‪ ،‬وتعتقد أنه يعلم ذلك‪ ،‬لكنه يصر على أن يجعلها ال‬
‫ً‬
‫تساوي شيئا في عداد ألاطباء‪ ،‬ليس لش ٍيء سوى ألنها مسلمة ترتدي الحجاب‪.‬‬
‫اندماج لم يفصلها عنه‬
‫ٍ‬ ‫وضعت الكتب أمامها‪ ،‬ظلت تراجع دروسها في‬
‫سوى صوت هاتفها‪ ،‬كانت تعلم أن املتصل بالتأكيد لن يكون سوى أروى‪.‬‬
‫‪-‬السالم عليكم‪.‬‬
‫ً‬
‫أنت لم تتأخرين دائما هكذا؟‬‫‪-‬وعليكم السالم‪ ..‬أين ِ‬
‫ً‬
‫إليك‪.‬‬
‫‪-‬كنت أنهي بعض الدروس‪ ،‬آتية حاال ِ‬
‫ً‬
‫تنس ي أن تتصلي باملشفى‪ ،‬وتطلبي غرفة ملريضين‪.‬‬ ‫‪-‬حسنا‪ ،‬لكن ال ِ‬

‫‪40‬‬
‫َ‬
‫لم؟‬
‫أخبرك أن هذه املرة ألاولى التي أنجز فيها طعام وبمفردي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ألم‬
‫قالت باسمة‪:‬‬
‫‪ -‬وأعتقد أنها ألاخيرة بإذن هللا‪.‬‬
‫انتظارك‪ ،‬ثم وضعت سماعة الهاتف‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬في‬
‫أكلتا سويا ًتكلمتا في أشياء كثيرة‪ ،‬وأطلقتا بعض الضحكات والذكريات‪،‬‬
‫اتبعتها نسيم‪:‬‬
‫جيدة ‪ ..‬كانت ستغمرها السعادة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫بصحة‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬كنت أتمنى لو أن أمي ال تزال‬
‫بروح‬
‫عندما كنا نقابل إحدى العربيات باملسجد‪ ،‬كنت أشعر وكأنها التقت ٍ‬
‫أخرى تشبهها‪ ،‬كانت تناديني وهي منتشية ألتعرف عليها وكأنها خالة أوعمة‬
‫وليست مجرد امرأة قابلناها منذ دقائق وسنفارقها بعد دقائق !!!‬
‫ً‬
‫أنك ستجاورينها عاما بأكمله‪ ،‬على‬ ‫بك وعلمت ِ‬ ‫‪-‬تصوري ماذا لو التقيت ِ‬
‫ألاقل كنت سأعلم من تعابيروجهها هل أنا مصرية فتتجه أفكاري إلى مصر‪ ،‬أم‬
‫ستبدو على مالمحها الالمباالة فتنصرف أفكاري إلى البالد العربية ألاخرى عدا‬
‫مصر‪.‬‬
‫ً‬
‫صديقتك ألم تعلمي عنها شيئا حتى آلان؟‬
‫ِ‬ ‫دعك مني‪ ،‬ماذا عن‬‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬ولن أعلم‪ ،‬هي كغيرها من املعتقلين لن تتجه إليهم ألانظار ال سيما‬
‫ً‬
‫أولئك الفقراء الذين ال يملكون ماال وال سلطة‪ ،‬لكنني أصبرنفس ي بعد حصولي‬
‫على الدكتوراة ستكون أول أولوياتي الدفاع عن أولئك املنكوبين الذين ال‬
‫يشقى لشقائهم أحد‪ ،‬وال يدافع عنهم أحد‪ ،‬سأستميت أنا في الدفاع عنهم ولو‬
‫كلفني ذلك حياتي‪.‬‬
‫أبيك؟‬
‫‪-‬وماذا عن ِ‬

‫‪41‬‬
‫ً‬
‫أنا ال أخش ى شيئا‪ ،‬لكني أخش ى على أبي منهم‪ ،‬أخش ى أن يتأثرعمله‪ ،‬أو‬
‫مركزه لخطوتي تلك‪ ،‬وقتها لن أسامح نفس ي‪ ،‬فقط أريد أن أحارب الظلم‬
‫والفساد‪ ،‬دون أن يحاربوا هم أبي بي‪.‬‬
‫بلدك‪ ،‬أليست‬‫ِ‬ ‫لك تتحدثين هكذا وكأن القانون معطل به العمل في‬ ‫ما ِ‬
‫ً‬
‫مصر أما للعالم؟‬
‫ً‬
‫بلى‪ ،‬مصرأم العالم‪ ،‬لكنها ليست أما للمصريين!‬
‫دهشة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬سألتها في‬
‫‪-‬وماذا عن القانون؟!‬
‫ً‬
‫‪-‬بالفعل القانون في بلدي معطل العمل به‪ ،‬ولو كان ساريا ملا جئت أطلب‬
‫دراسته هنا‪.‬‬
‫ثم أردفت في أس ًى‪:‬‬
‫‪-‬القانون في بلدي ال يسري إال على الضعفاء‪ ،‬أما الكبار فهم الذين‬
‫ً‬
‫يحركونه ويضعونه في املوضع الذي يريدون‪ ،‬املهم أن يكون هذا املوضع بعيدا‬
‫عنهم حتى ال تفوح رائحة جرائمهم العفنة‪.‬‬
‫‪-‬إذن ماذا حصدتم من ثورتكم‪ ،‬ألم تقم في بلدكم ثورة من أجل هذا؟‬
‫ً‬
‫‪-‬لم نحصد منها شيئا‪ ،‬فقط حصدت هي أرواح ألابرياء الذين لم يكن لهم‬
‫جمل وال ناقة‪.‬‬
‫ثم سكتت‪ ،‬نظرت نسيم إلى التلفاز وهى شاردة الذهن‪ ،‬ماذا لو كانت‬
‫مصرية هي ألاخرى وقررت العيش بمصر‪ ،‬هل تستطيع أن تواصل حياتها في‬
‫هذا البلد الفوضوي الذي ال يطبق قانونه إال على فقرائه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال أتخيل بلدا واحدا في العالم ال يحاكم مجرميه‪ ،‬بل ويزج بأبريائه في‬
‫السجون‪ ،‬هنا " برونو" لم يستطع أن يؤذيني بش ي ٍء إال بجداله العقيم‪ ،‬كيف‬
‫لو كان كل هذا يحدث ببلد كمصر‪ ،‬هل كنت سأتخطى سنوات الدراسة‬

‫‪42‬‬
‫انتقام بحرماني من‬
‫ٍ‬ ‫ويسر كما فعلت هنا‪ ،‬أم كان سينتقم مني شر‬
‫ٍ‬ ‫سهولة‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫النجاح دون أن يحاسبه على فعله أحد‪.‬‬
‫تنهدت في أس ًى وكأنها تخرج كل ما سببته تلك ألافكار من حشرجة‬
‫مسموع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫بصدرها‪ ،‬ثم قالت‬
‫‪ "-‬يبدو أننا كلنا مغتربون في أرض الوطن "‬
‫وأنت وأمى و عائشة‪ ..‬كلنا كذلك‪.‬‬
‫أنا ِ‬

‫لم يمر أسبوع واحد بل مر أكثر من شهرين‪ ،‬وأنت ال زلت مكانك‪ ،‬ألامر‬
‫بالنسبة إلي خرج عن سيطرتي‪ ،‬لم أعد احتمل رؤيتك هكذا‪ ،‬تنتظر ماذا حتى‬
‫تتزوج‪ ،‬نصف شباب مصريحلمون بربع إمكاناتك فقط‪ ،‬طلبت رؤيتك ألخبرك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فحسب‪ ،‬أما عن الفتاة فقد حدثتك عنها مسبقا سأحدد موعدا مع أبيها‬
‫الليلة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم أردف قائال‪:‬‬
‫‪-‬أود امللف الخاص بفرع إلاسكندرية‪ ،‬وهل قرر مجلس إدارة الشركة تلقي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشحنة الفرنسية أم ال‪ ،‬اعقد اجتماعا عاجال‪ ،‬ثم أخبرني باألمر‪.‬‬
‫صمت‪ ،‬اتخذ سيارته في طريق الشركة‪ ،‬نعم البد أن يذهب إلى‬ ‫ٍ‬ ‫انصرف في‬
‫ً‬
‫إلاسكندرية‪ ،‬عليه أن يذهب أوال لتلك ألاسرة‪ ،‬من الواضح أنه كانت تربطها‬
‫عالقة وثيقة بصديقتها تلك‪ ،‬وإال ملا قررت زيارتهم قبل سفرها بساعا ٍت‪ ،‬ثم إنه‬
‫من املمكن أن تكون الفتاة خرجت من السجن وتساعدني في الوصول إليها‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ً‬
‫أوقف سيارته أمام الشركة‪ ،‬اتجه رأسا إلى مكتب أخيه‪ ،‬أخبره بأمر‬
‫الاجتماع‪ ،‬ثم بقرار سفره إلى إلاسكندرية‪ ..‬لم يعلق أخوه على ما قاله بشأن‬
‫ً‬
‫العمل‪ ،‬وعلت على وجهه ابتسامة هزلية‪ ،‬ثم أردف متسائال‪:‬‬
‫‪-‬أدهم أخبرني َمن هذه التي تضحي بابنة الوزير من أجلها؟ وهل لسفرك‬
‫ً‬
‫إلى إلاسكندرية عالقة باألمر؟ منذ الزيارة السابقة وأنا أشعر أن في ألامر خطبا‬
‫ما‪ ،‬ثم إنني ال أستطيع أن أتخيل أدهم بيه النشار العاقل الرزين‪ ،‬يعشق‬
‫ً‬
‫إحداهن‪ ،‬وينتظر منها نظرة رضا‪ ،‬وكلمة ود‪ ،‬ثم انفجر ضاحكا وعيناه تدمعان‬
‫من الضحك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صرامة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظر إليه أدهم شذرا‪ ،‬رفع حاجبا وأرخى آلاخر‪ ،‬ثم قال في‬
‫ً‬
‫‪ -‬افعل ما أمرتك به‪ ،‬من املمكن أال آتي إال على موعد الاجتماع غدا‪ ..‬ثم‬
‫انصرف‪.‬‬

‫على أعتاب الجامعة قالت أروى‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫لك‪.‬‬
‫مساء‪ ،‬كان هللا في عونك‪ ،‬ثم اتسعت ابتسامتها قائلة سأدعو ِ‬ ‫‪-‬نتقابل‬
‫منك‪.‬‬
‫كل‪ ،‬يتقبل هللا ِ‬‫مزاح‪ ،‬علي ٍ‬
‫‪-‬أهذا وقت ٍ‬
‫رغم كل هذا الرعب إال أنه لم يعد كالسابق‪ ،‬وكأن هللا أزاح غمته عنها‪،‬‬
‫وكفاها شره‪ ،‬تمتمت قائلة يارب أدم عليه هذا الحال حتى أنتهي من هذه‬
‫السنة‪ ..‬اتجهت إلى مكانها املخصص في انتظار حضوره‪ ،‬توافد الطالب على‬
‫القاعة‪ ،‬قامت باسترجاع بعض الدروس ريثما يكتمل الحضور‪ ،‬استفاقت من‬
‫ً‬
‫صوت أرعبها آتيا من أول القاعة‪-:‬‬
‫ٍ‬ ‫شرودها على‬

‫‪44‬‬
‫أراك في الجامعة ثانية‪..‬بل في‬
‫‪-‬نسيييييييييييييييييم‪ ..‬أخرجي ال أريد أن ِ‬
‫أمثالك تحت قناع البراءة والهدوء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فرنسا كلها‪ ،‬باريس ليست مأوى لإلرهابيين‬
‫لم تستوعب ما الذي يحدث‪ ،‬ظلت تنظر إليه في عدم استيعاب‪ ،‬وجميع‬
‫ألانظار متعلقة بها‪ ..‬منهم املشفق‪ ،‬ومنهم الشامت‪ ،‬لم تحملها قدماها‬
‫ً‬
‫للوقوف‪ ..‬ظلت جالسة والدموع متجمعة في مقلتيها إلى أن بادرها قائال‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫‪-‬قلت‪ :‬اخرجي وال تعودي أبدا‪.‬‬
‫تحاملت على نفسها وخرجت‪ ،‬أول ما فعلته كان الذهاب إلى غرفة‬
‫والدتها‪ ،‬كانت الدموع تنهمر من مقلتيها كرشاشات املياه‪ ،‬وقفت بجانب‬
‫سريرها‪ ،‬ثم ركعت على ركبتيها قائلة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬أخبريني َمن أنا؟‪ ،‬لم تعد فرنسا وطنا لي‪ ،‬دائما أراني دخيلة عليهم‪،‬‬
‫أرجوك استيقظى لم أعد أحتمل الوحدة في هذا العالم‪ ..‬أنا ضعيفة أضعف‬ ‫ِ‬
‫مما تتخيلين ‪.‬‬
‫كانت تهز الفراش بعنف مما أثار ريبة املمرضات‪ ..‬ذهبن ليأخذنها فتهاوت‬
‫بين أيديهن جثة هامدة‪.‬‬

‫ترجل من السيارة في نفس املكان الذي وقف فيه معها من قبل‪ ،‬الفارق‬
‫أنها لم تكن موجودة‪ ،‬اجتاز السلم بخطوات واسعة‪ ..‬توقف أمام الشقة‪..‬‬
‫طرق الباب ولم يجب أحد‪ ..‬كان يعلم أن ألام مريضة وألاب كفيف والابن قد ال‬
‫يكون هنا‪ ،‬لن يضره بعض الانتظار‪ ،‬لكن انتظاره طال وطال إلى أن فتح باب‬
‫الشقة املجاورة‪..‬أطلت عليه امرأة يبدو أنها كانت ناعسة ولكن رنينه أزعجها‪،‬‬
‫سألته في ريبة ‪:‬‬
‫‪45‬‬
‫‪َ -‬من تريد؟‪ ..‬ساكنوا هذه الشقة رحلوا منذ شهر ونصف‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫فغر فاه مندهشا وقال مرددا‪:‬‬
‫‪-‬رحلوا؟!!‬
‫شخص بهندامه هذا‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫تحفظ‪ ،‬يبدو أنها تستغرب وقوف‬ ‫ٍ‬ ‫نظرت إليه في‬
‫جاء‪:‬‬
‫أمام شقة هؤالء البسطاء‪ ..‬سألها في ر ٍ‬
‫‪-‬أال تعلمين إلى أين انصرفوا؟‬
‫‪-‬كال‪ ،‬يمكنك أن تسأل صاحب العمارة‪ ..‬هو الذي قام بترحيلهم‪.‬‬
‫لم؟‬‫‪-‬قام بترحيلهم‪َ ..‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬لقد تأخروا في دفع إلايجار‪ ،‬فضاق بهم ذرعا‪ ..‬شقة املالك بالطابق‬
‫الثاني أيمكنني الانصراف؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لك‪.‬‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬شكرا جزيال ِ‬
‫ً‬
‫انطلق عائدا إلى القاهرة‪ ..‬كل محاوالته باءت بالفشل‪ ،‬رجع بخفي حنين‬
‫كما يقولون‪ ..‬التقى بوالده في شرفة الفيال‪ ،‬ألقى عليه التحية ثم أتبعها‪:‬‬
‫‪-‬أبلغ والد العروس يا أبي أنني مستعد ‪.‬‬
‫استغراب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫استنكر والده حاله ثم سأله في‬
‫ً‬
‫‪ -‬أخبرتني اليوم عندما حادثتك بهذا ألامر أنك لست مستعدا‪ ..‬ما الذي‬
‫حدث؟‬
‫‪-‬ال ش يء‪ ..‬لكنني مستعد آلان‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫فتحت عينيها في إعياء متسائلة‪ ،‬أين أنا؟‬
‫هدوء‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬أنت هنا باملشفى‪ ..‬احتضنت يدها بين كفيها وقالت في‬
‫معك‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقلقي أنا ِ‬
‫‪-‬ما الذي حدث؟‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫وأنت تتدللين عليها‪.‬‬
‫لك ِ‬ ‫‪-‬ال ش يء فقط منذ أن وجدت أختا ِ‬
‫إعياء وقالت‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ابتسمت في‬
‫لقد تذكرت‪ ،‬هل أمي بخير؟‬
‫ً‬
‫إصرار‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وأنت أيضا بخير‪ ..‬ستغادرين املشفى الليلة‪ ..‬ثم قالت في‬ ‫‪-‬نعم‪ِ ..‬‬
‫أساعدك في التخلص من ذاك‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬لقد علمت كل ش ٍيء ويمكنني أن‬
‫ً‬
‫منحك تعويضا عن الضرر ألادبي والنفس ي الذي‬ ‫ِ‬ ‫العنصري املتعجرف‪ ،‬بل‬
‫زمالئك‪ ،‬بل أخطرمن ذلك يمكنني أن أوجه له تهمة ازدراء‬ ‫ِ‬ ‫لك أمام بقية‬
‫سببه ِ‬
‫ألاديان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬ال‪ ..‬ال تفعلي‪ ،‬لقد صبرت أعواما ليست هناك مشكلة فى أن يزيدوا عاما‪.‬‬

‫‪ -‬أدهم أخبرني عن ماذا أسفر الاجتماع؟‬


‫ً‬
‫‪-‬هناك تراجع بأحد أفرع الشركة تحديدا بفرع السويس‪ ..‬لكنني سأسافر‬
‫ً‬
‫غدا ألتدارك هذا ألامر‪ ،‬وأحمد سيسافر إلى باريس بداية من ألاسبوع املقبل‪..‬‬
‫أما عدا ذلك فاألمور تسير على ما يرام‪ ..‬أهناك ش ٌىء آخر؟‬

‫‪47‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كال‪ ،‬فقط أردت أن أخبرك أن الفتاة التي كنت أريدها عروسا لك‬
‫سافرت منذ فترة الستكمال دراستها بالخارج‪ ..‬لقد سئمت منك‪ ،‬افعل ما تريد‪..‬‬
‫يمكنك الانصراف ‪.‬‬
‫راحة‪ ،‬ولم يستطع أن يخفى ابتسامة تألألت على شفتيه لكنه‬ ‫تنهد في ٍ‬
‫ً‬
‫تداركها بقبلة على يد أبيه أتبعها قائال‪-:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ال تقلق يا أبي سأحاول جاهدا أن أرضيك‪ ..‬ثم انصرف‪.‬‬

‫دك من القاعة؟‬ ‫‪-‬نسيم أتعلمين سبب طر ِ‬


‫‪-‬كال‪ ،‬ماهو؟‬
‫‪-‬انفجار مفاجئ‪ ..‬راح ضحيته الكثير من ألابرياء‪.‬‬
‫‪-‬وما شأني أنا بذلك؟‬
‫مرارة قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫تنهدت في‬
‫لك بذلك سوى أن أحد الانتحاريين كان يحمل بطاقة هوية‬ ‫‪-‬ال شأن ِ‬
‫مصرية‪ ،‬وآلاخر سوري الجنسية‪.‬‬
‫‪-‬لم تنبس ببنت شفة‪.‬‬
‫آثرت أن تمكث باقي ألاسبوع في البيت كفترة نقاهة‪ ..‬ال تدري هل هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صوت‬
‫ِ‬ ‫القرار لتريح أعصابها أم هروبا وخوفا منه‪ ..‬استفاقت من شرودها على‬
‫هاتف أروى‪.‬‬
‫‪ -‬كيف حالك يا أبي اشتقت إليك‪.‬‬
‫أنت‪.‬‬
‫‪-‬بخير يا حبيبتي ال ينقصني إال ِ‬
‫ً‬
‫‪-‬لم يبق لي هنا إال القليل‪ ..‬أبي ألم تعلم شيئا عن عائشة؟‬
‫‪48‬‬
‫‪-‬ألامر معقد يا ابنت ي‪ ،‬الوطن في مرحلة انتقالية حرجة‪ ،‬وقضيتها ليست‬
‫أقبلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بالسهلة أو الهينة‪ ،‬لكنى أفعل ما في وسعي‪ ..‬في رعاية هللا‪،‬‬
‫انتهت املكاملة‪ ،‬ظلت شاردة ال تدري في أي ش ٍيء تفكر‪ ،‬أفي السجينة أم في‬
‫أهلها أم في أخيها الذي اختفى هو آلاخر وكأن ألارض ابتلعته‪ ،‬تراه ما زال حيا؟‬

‫ً‬
‫حلقت الطائرة على ألاراض ي الفرنسية‪ ،‬ال يدري ملا يشعر أن هناك شيئا‬
‫ً‬
‫غريبا سيحدث‪ ..‬إحساس عجيب ساوره منذ أن وضع أول ٍ‬
‫قدم في الطائرة‪،‬‬
‫ً‬
‫حاول الانشغال بقراءة بعض املجالت املوجودة بجانبه لكنه لم ِيع حرفا مما‬
‫قرأ‪ ..‬أغلق املجلة التي كانت بيديه ثم عاد إلى شروده‪ ..‬ترى ما الذي سيحدث؟‬
‫انتبه وعجالت الطائرة تضرب أرض املطار‪ ،‬وضع يده على رأسه في‬
‫محاولة منه إليقاف الصداع الذي بدأ ينتشر برأسه‪ ،‬أشغلته إجراءات أمن‬
‫املطارعن شعوره الغريب ذاك‪.‬‬
‫ً‬
‫طمأن أخاه على وصوله‪ ،‬وقاما بمراجعة أمور الشحنة املطلوبة معا‪،‬‬
‫واتجه إلى غرفته بالفندق‪ ..‬اليوم فقط راحة ومن الغد سيبدأ العمل‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫متطفل‬

‫مكوثك باملنزل‪..‬ألم يحن الوقت لتذهبي إلى‬


‫ِ‬ ‫‪-‬انقض ى أسبوع كامل على‬
‫الجامعة؟‬
‫استهتار وكأن ألامر ال يعنيها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫هزت رأسها في‬
‫عليك‪ ،‬ثم أردفت‬
‫اختباراتك‪ ..‬ال تتركي له لذة الانتصار ِ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬لم يبق الكثيرعلى‬
‫في عصبية‪:‬‬
‫وكأنك الفاعل؟‬
‫ِ‬ ‫لك فيه وال جمل‪ ،‬ملاذا تختبئين‬ ‫‪-‬تفجير حدث ال ناقة ِ‬
‫ً‬
‫استعدي سنذهب للجامعة غدا‪.‬‬
‫همت أن تتكلم رافضة‪ ،‬بادرتها أروى قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ليس ه ناك مجال للرفض‪ ..‬استعدي نلتقي في الغد‪.‬‬
‫ً‬
‫ذهبتا سويا إلى الجامعة‪ ،‬انفصلت عنها عند مبنى كلية الطب‪ ،‬ربطت‬
‫محاولة منها لدعمها‪ ،‬تعلم ما هي مقبلة عليه‪ ،‬ماذا لو‬ ‫ٍ‬ ‫أروى على كتفها في‬
‫طردها مرة أخرى ذلك الحقير؟‬
‫أما نسيم فتباطأت خطاها‪ ..‬وخفق قلبها بشدة‪ ،‬تعلم أن ألانظار ستكون‬
‫مناص من ذلك‪ ..‬ستكون محط أنظاراملتفرجين‪ ..‬انتبهت من‬ ‫َ‬ ‫موجهة إليها‪ ،‬وال‬
‫شرودها فجأة على صوت سيارة مسرعة‪ ،‬ورشاشات من املياه تنطلق في وجهها‬
‫ومالبسها‪ ،‬وكأنها خارجة للتو من املسبح أو ما شابه‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫وقفت في ذهو ٍل ال تدري ما العمل؟ هل عليها العودة أو البقاء؟‪ ..‬في هذا‬
‫ً‬
‫الوقت تحديدا كانت ضعيفة للغاية‪ ،‬مرهفة الحس أقل ش ٍيء يمكن أن يبكيها‪..‬‬
‫وقفت والدموع على أعتاب عينيها لترى تلك السيارة التي تسببت فيما حدث‬
‫عائدة للخلف‪.‬‬
‫شخص يبدو أنه في منتصف العشرينات أو أكبربقليل‪ ..‬بادرها‬‫ٌ‬ ‫ترجل منها‬
‫بكلمات ألاسف والاعتذار‪ ..‬لم يكن يعنيها اعتذاره في ش ٍيء فقد حدث ما حدث‪،‬‬
‫تركته يتحدث وانصرفت‪ ..‬تعلم أن ذلك ال يليق‪ ..‬لكنها لم تعد تحتمل كلمات‬
‫الاعتذار‪ ،‬ونظرات الشفقة من أحد‪.‬‬
‫آثرت أن تجلس في حديقة الجامعة‪ ،‬ريثما تجف مالبسها‪ ..‬ليست هناك‬
‫مشكلة في أن تحضر املحاضرة من نصفها ألاخير‪ٌ ،‬‬
‫قليل من التأخير لن يضير‪.‬‬
‫ً‬
‫جلست بعض الوقت شاردة الذهن‪ ،‬ثم أخرجت من حقيبتها كتابا‬
‫لتقطع به املرورالبطيء للوقت ‪ ..‬كان الكتاب يحمل عنوان "إلاسالم السياس ي‬
‫ً‬
‫واملعركة القادمة "‪ ..‬شعرت وكأن أحدا ما يقف أمامها‪ ،‬رفعت عينيها عن‬
‫ً‬
‫بطء‪ ..‬وجدته هو وعلى شفتيه ابتسامة ودودة‪ ،‬بادرها قائال‪:‬‬ ‫الكتاب في ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫لم لم تتقبلي اعتذاري في املرة السابقة؟ آثرت أال أنصرف إال ِ‬
‫وأنت عني‬
‫راضية‪.‬‬
‫علت شفتيها ابتسامة صفراء ثم قالت‪:‬‬
‫‪-‬أنا راضية‪.‬‬
‫رائق‬
‫مزاج ٍ‬
‫ثم حولت نظرها عنه وأمسكت بالكتاب ثانية‪ ..‬لم تكن في ٍ‬
‫للحديث مع أحد لكنه سألها مرة أخرى‬
‫بسؤال؟‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬قبل أن انصرف‪ ،‬أتسمحين لي‬
‫‪-‬تفضل‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫لم تقرأين مثل هذا الكتاب؟ أعتقد أن املكان غير مالئم‪ ،‬وال حتى‬ ‫‪َ -‬‬
‫الوقت‪ ..‬ألانظار كلها تتجه إلى أن إلارهاب ال يخرج إال من إلاسالميين‪.‬‬
‫استنكار‪ ..‬يكفيها ما هي فيه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫رفعت حاجبها في‬
‫ازدراء لم تنطق‪ ..‬ومن ثم تحولت إلى كتابها ثانية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫نظرت إليه في‬
‫أزعجك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬معذرة‪ ،‬لم أقصد أن‬
‫ال عليك‪ ..‬فقط قبل أن تبدي رأيك في كتاب ما‪ ،‬أو كاتب ما يجب أن تكون‬
‫على علم بما يحوي الكتاب‪ ،‬وبمن يكون الكاتب‪.‬‬
‫ً‬
‫علت وجهه ابتسامة ثم قال مرددا بينه وبين نفسه‪-:‬‬
‫وبمن يكون الكاتب؟!‬ ‫‪َ -‬‬
‫أنت عن الكاتب؟‬ ‫‪-‬ماذا تعرفين ِ‬
‫‪-‬أهو اختبار إذن؟‬
‫معلوماتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كال‪ ،‬فقط أردت أن استفد من‬
‫‪-‬وهل هذا تهكم أم سخرية؟‬
‫‪-‬ال هذا وال ذاك‪ ..‬منذ دقائق أخبرتني أنه من املحتم علي قبل أن أبدي رأيي‬
‫علم بشخص‬ ‫علم بما يحويه هذا الكتاب‪ ..‬وعلى ٍ‬ ‫في كتاب يجب أن أكون على ٍ‬
‫أنت‪.‬‬
‫كاتبه‪ ..‬إذن أخبريني ِ‬
‫كل الكتاب يتحدث عن‬ ‫‪-‬لكني لم أبدي رأيي‪ ،‬أنت الذي فعلت‪ ..‬علي ٍ‬
‫الحروب والتحامل الغربي على إلاسالم من وجهة نظر الكاتب‪ ،‬وأنا أوفقه فيها‪،‬‬
‫ثم يتطرق إلى الحديث عن خطر فئة علمانية تحصر الدين في الصالة‬
‫وفئة أخرى تحصرالدين في القميص والسواك وكأن الدين ال هم له‬ ‫واملسجد‪ٍ ،‬‬
‫إال هذا‪.‬‬
‫أنت في هذه الفرق إلى أي فرقة تنتمين؟‬ ‫‪-‬وما رأيك ِ‬

‫‪52‬‬
‫ً‬
‫لجماعة يوما ما فجماعتي هي جماعة‬‫ٍ‬ ‫‪-‬ال هذه وال تلك‪ ..‬إن كنت سأنتمي‬
‫املسلمين‪ ..‬سئمت املسميات‪ ،‬سئمت الفرقة والنزاع بين هذه الفرق‪ ،‬أنا‬
‫مسلمة وكفى‪.‬‬
‫أحسنت لكن بالتأكيد هناك شخص تركنين إلى كالمه أو هو بمثابة قدوة‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫لك تؤمنين بقوله في ظل هذا التشتت والنزاع في ألاقوال وألافعال‪َ ..‬من هو؟‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬
‫‪-‬قدوتي هو " دمحم صلي هللا عليه وسلم " أما ما عدا هذا فكل يؤخذ من‬
‫قوله ويرد‪ ،‬جماعتي هي جماعة املسلمين وقدوتي هو رسول هللا‪.‬‬
‫ً‬
‫أصافحك‪ ..‬ثم مد يده لها مصافحا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أحسنت‪ُ ،‬حق لي أن‬‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫سألته في ريبة‪-:‬‬
‫‪-‬أمسلم أنت؟‬
‫‪-‬نعم!‬
‫‪-‬وتصافح النساء؟!‬
‫نظرت إلى ساعتها ثم هبت واقفة‪ ..‬بادرته قائلة‪:‬‬
‫‪-‬أيمكنني الانصراف؟‬
‫‪-‬تفضلى‪.‬‬
‫ً‬
‫بمجرد أن حولت إليه ظهرها لم تستطع أن تخفي ابتسامتها‪ ..‬كان حديثا‬
‫ُ‬
‫شيقا‪ ،‬على ألاقل لم يعنفها ولم يعترض‪ ..‬دقائق قليلة فصلتها عن واقعها‪ ،‬عن‬
‫املأساة‪ ،‬عن عودتها للجامعة‪.‬‬
‫لم يعد يفصلها عن قاعة املحاضرات سوى أمتار قليلة‪ ..‬اجتازتها‬
‫بخطوات بطيئة‪ ..‬تمتمت حامدة ربها على عدم وجوده‪ ..‬جلست في مكانها‬
‫املعتاد في انتظار الكارثة أن تحل‪ ..‬ترى ما الذي سيفعله إن رآها؟ ألم يحذرها‬
‫من قبل؟ ألم يطلب منها عدم تواجدها في محاضراته بل حتى في الحرم الجامعي‬

‫‪53‬‬
‫كله؟‪ ،‬ليته يدخل ويمنعها من الحضور‪ ،‬هذا أهون من العذاب النفس ي الذي‬
‫تالقيه آلان‪.‬‬
‫الانتظار قبيح‪ ،‬قبيح للغاية‪ ،‬تذكرت رأي أمها في الانتظار‪ ،‬ابتسمت في‬
‫مرارة ثم رددته بصوت مسموع وكأنها تحادث نفسها‬‫ٍ‬
‫"انتظار البالء أسوأ من وقوعه وانتظار الفرح أجمل من يوم الفرح نفسه "‬
‫ص وت جرس املحاضرات أعادها إلى واقعها‪ ،‬بدأ قلبها يخفق بشدة‪ ،‬ظلت‬
‫تفرك يديها بعصبية وأنظارها معلقة بالباب كأنها تنظر إلى الداخل منه في‬
‫ً‬
‫توسل أال يفعل بها ما يفعل دائما‪ ،‬ولكنها كانت املفاجأة‪ ..‬لم يكن الداخل‬
‫ٍ‬
‫دكتور بورنو وحده بل كان معه هو‪ ..‬ذاك الذي أغرقها باملاء منذ ساعة‬
‫واحدة!!‬

‫هناك في غرفة على سطح أحد املباني يرقد شيخ كفيف قد فعل به املرض‬
‫ست سنوات وكأنها في صراع مع‬ ‫ما فعل‪ ..‬وترقد إلى جانبه مريضة منذ أكثر من ِ‬
‫ً‬
‫وهن‪:‬‬
‫الزمن واملرض أيضا سألته في ٍ‬
‫‪ -‬ألم أقل لك إن قلبي يحدثني أن عائشة أصابها مكروه‪ ،‬عائشة تعلم‬
‫ً‬
‫بملكيتنا لهذه الغرفة منذ أن كنا نعيش بها منذ خمسة عشرعاما‪ ..‬مض ى على‬
‫غيابها عدة أشهر‪ ،‬ملاذا لم تعد إذن؟ املشكلة ليست مشكلة عمل‪ ..‬تنهدت‬
‫ً‬
‫تنهيدة عميقة ثم أتبعتها بقولها‪ :‬ألم يكفها أخوها الذي لم نعد نعلم عنه شيئا؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أتراه مات غرقا أو أصبح طبيبا ماهرا؟ً أو تراه تزوج وأنسته زوجته وأبناءه أمه‬
‫وأباه؟‪ ..‬ثم قالت في محاولة ملواساة نفسها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كال‪ ،‬لو أصبح أبا ألتى‪ ..‬لو عرف معنى ألابوة ألشفق علينا‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫تنهد الشيخ ثم رفع بصره إلى السماء‪ ،‬وكأنه نس ي أنه كفيف البصرثم قال‬
‫رجاء‪:‬‬
‫في ٍ‬
‫يم }‪1‬‬ ‫يم يال َحك ُ‬ ‫يعا إ َن ُه ُه َو يال َعل ُ‬
‫ي َ ً‬ ‫َ َ َُ َ ي َي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{ عس ى اّلل أن يأ ِتي ِني ِب ِهم ج ِم ِ‬
‫‪-‬ال يؤملني رحيل إياد وعائشة قدر ما يؤملني ترك دمحم للمدرسة ليوفر لنا‬
‫لقمة العيش‪ ،‬وكأننا أنجبناه ليعيننا نحن على الحياة‪ ،‬ال لنعينه نحن على‬
‫الحياة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أخش ى عليه‪ ،‬مازال صغيرا‪ ،‬لم يخبرالحياة بعد‪.‬‬
‫ين َل يو َت َر ُكوا م ين َخ يلفه يم ُذ ّر َي ًة ض َع ًافا َخ ُافوا َع َل ييهمي‬
‫ش َالذ َ‬ ‫َيَ ي‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ال تقلقي " وليخ َ ِ‬
‫َف يل َي َت ُقوا َ َ‬
‫اّلل "‪2‬‬

‫‪-‬أما هي فكانت في زنزانة منفردة‪ ،‬وكأنها من املجرمين الذين ُيخش ى على‬


‫السجناء منهم‪ ..‬لم يكن يعنيها سوء التعامل‪ ،‬ولم يكن يعنيها رداءة الطعام‬
‫واد في جهنم‪ ،‬وال‬
‫والشراب‪ ،‬لم يكن يعنيها انصهار الزنزانة عليها في الحر وكأنها ٍ‬
‫برودتها في الشتاء وكأنها غرفة بالقطب الشمالي‪.‬‬
‫لم يكن يعنيها وضعها السياس ي فهي ال تدري أي جريمة اقترفت؟ وال أي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ذنب جنت يداها؟ زج بها في غيابات السجون زورا وعدوانا‪ ،‬ظلما وبهتانا‪ ،‬ال ترى‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحدا وال أحدا يراها‪ ..‬تشابهت عليها ألايام‪ ،‬لم تعد تفرق بين الليل والنهار‪ ..‬هي‬
‫ال تسأل هللا الفرج بقدر ما تسأله أن يحفظ أباها وأمها‪.‬‬

‫‪ _ 1‬سورة يوسف اآلية ( ‪.) 83‬‬


‫‪ _ 2‬سورة النساء اآلية ( ‪.) 9‬‬
‫‪55‬‬
‫ً‬
‫أتراه قد عاد؟ أتراه قد تذكر أن له أهال في أشد الحاجة إليه؟‪ ،‬تمتمت‬
‫داعية‪:‬‬
‫‪-‬يارب كن معي‪ ..‬أنا ال يعنيني السجن ألم يسجن يوسف من قبل؟‪..‬‬
‫تشابهت ألاقدار لكن هو كان يوسف رسول هللا من املحتم أن ينجيه هللا‬
‫بمعجزة‪ ،‬أما أنا فعائشة‪ ،‬وأما زمن املعجزات فقد ولى وانتهى‪..‬‬
‫رباه عطفك إذا ضاقت بي ألانفاس‪ ،‬توضأت ببقايا ماء‪ ،‬ثم انتصبت‬
‫واقفة هلل‪ ،‬هو فقط القادرعلى إنهاء ما هي فيه‪.‬‬

‫للحظات ترى َمن يكون يارب؟ لعله‬ ‫ٍ‬ ‫ألجمتها املفاجأة‪ ..‬وشل تفكيرها‬
‫صديق ذاك البرونو‪ ،‬أرسله إلي ليتعرف على خبايا نفس ي‪ ..‬ترى ماذا سيفعالن‬
‫بي آلان؟!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ترجل لي معتذرا فتركته وذهبت‪ ،‬مد يده إلي مصافحا فتركتها معلقة في‬
‫ً‬
‫الهواء وذهبت أيضا‪ ..‬البد أنه سيعينه علي‪ ،‬ثم كيف يصادق دكتور "بورنو"‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شخصا مسلما ؟!‬
‫ً‬
‫بالتأكيد ليس مسلما‪ ..‬لقد خدعني ليتجاذب معي أطراف الحديث فقط‪،‬‬
‫أو ليعلم ما الذي أكنه بداخلي‪ ..‬فجأة التقت عينها بعينه رأت فيهما الوداعة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والهدوء‪ ،‬كانت نظراته إليها تفيض رقة ًوحنانا‪ ،‬ظل نظره مثبتا عليها وكأن‬
‫ً‬
‫القاعة تخلو إال منها‪ ،‬قطع سيل أفكارها فجأة صوت دكتور برونو قائال‪:‬‬
‫‪-‬دكتور أحمد النشارمن مصر‪ ،‬صديقي وشريكي في العمل‪ ..‬أستأذنكم في‬
‫ً‬
‫بالغ‪:‬‬
‫تحد ٍ‬ ‫حضوره هذه املحاضرة‪ ..‬ثم أتبع قائال وهو ينظر إليها في ٍ‬
‫رؤيتك ثانية؟ تفضلي باالنصراف‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لك ال أريد‬
‫‪-‬نسيم‪ ،‬ألم أقل ِ‬
‫‪56‬‬
‫ً‬
‫يمكنك تقديم طلب النقل الذي تريدين‪ ،‬غادري فورا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬باملناسبة‬
‫‪-‬نظرأحمد إليه في ذهول‪ ،‬لم يستطع أن يسأله عن السبب‪ ..‬من املفترض‬
‫أنه يملك زمام ألامورهنا‪ ،‬يمكنه أن يستفسرعن سرهذا التصرف بعد الانتهاء‬
‫من املحاضرة ‪.‬‬
‫ً‬
‫أما هي فكانت تجر خطواتها جرا‪ ،‬للمرة الثانية تطرد من القاعة‪ ،‬وكأنها‬
‫معد يجب تجنبه والابتعاد عنه وإال أصابتهم العدوى‪ ..‬كانت دموعها‬ ‫مرض ٍ‬
‫منسابة على خديها‪ ،‬لكن ألالم هذه املرة أخف وطأ من املرة السابقة‪ ،‬في املرة‬
‫ً‬
‫القادمة سيتالش ى إطالقا إن شاء هللا ‪.‬‬
‫ابتسمت في سخرية‪ ،‬ماذا لو كانت هذه هي املرة ألاخيرة‪ ..‬ألم يقل لها‬
‫طبيب آخر؟‬‫ٍ‬ ‫يمكنك املتابعة مع‬
‫ِ‬
‫‪ -‬أكثر ما كان يؤملها ذاك الذي منذ دقائق معدودة كانت هي تدير دفة‬
‫بأم عينيه طردها‬ ‫الحديث معه‪ ،‬وكأنها ليست بالفتاة العادية‪ ،‬لكن بعد أن رأى ِ‬
‫من القاعة‪ ،‬سيتأكد لديه أنها بالفعل ليست بالوجه الذي قابل في الحديقة‬
‫وال بالعقل الذي خاطب‪ ..‬هونت على نفسها بأنه ال يعنيها من ألامر في ش ٍىء لن‬
‫تراه ثانية‪ ،‬لعلها كانت املرة ألاولى وألاخيرة‪.‬‬
‫اتجهت إلى إدارة الجامعة وقامت باستكمال إجراءات النقل الروتينية‪،‬‬
‫وبالفعل نجحت هذه املرة تنفست الصعداء الحمدهلل لم تذهب جهودها ً‬
‫هباء‬
‫زمن!‬
‫هذه املرة‪ ،‬ليته قام بطردها منذ ٍ‬
‫ً‬
‫سمعت صوت هاتفها يرن‪ ..‬تلقائيا ارتسمت ابتسامة على شفتيها‬
‫ورددت‪:‬‬
‫‪-‬بالتاكيد أروى وإال َمن سيتصل بها؟‪.‬‬
‫فعلت؟‬‫ِ‬ ‫‪-‬السالم عليكم ‪ ..‬طمأنيني ماذا‬
‫‪-‬الحمدهلل‪ ..‬ألامورعلى ما يرام‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫معك أكثر مما فعل؟‬
‫أخبرك أنه لن يستطيع أن يفعل ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ألم‬
‫‪-‬بل فعل‪.‬‬
‫‪-‬تكلمي بجدية‪ ..‬أنا ال أمزح!‬
‫‪-‬وال أنا لقد قام بطردي مرة أخرى‪.‬‬
‫‪-‬وتتكلمين هكذا؟!‬
‫ً‬
‫‪-‬لقد اكتسبت مناعة‪ ،‬ولم أعد أكترث ملثل هذا ألامر‪ ،‬لقد بات شيئا‬
‫ً‬
‫عاديا‪.‬‬
‫سأريك ما سأفعل به ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪َ -‬من يظن نفسه؟‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬كال‪ ،‬ال تفعلي شيئا‪ ،‬لقد سمح لي أخيرا بطلب النقل‪ ،‬وقد أنهيت إجراءته‬
‫بالفعل‪ ،‬لم يعد يعنيني فى ش ٍىء آلان‪.‬‬
‫‪-‬إذن ماذا ستفعلين آلان؟‬
‫‪-‬ال ش ئ سوى أن أطمئن على صحة أمي‪ ،‬ومن ثم أغادر إلى املسجد ‪.‬‬
‫ً‬
‫معك‪ ..‬خمس دقائق ونتقابل أمام حجرتها‬ ‫‪-‬حسنا انتظريني سأتي إليها ِ‬
‫بإذن هللا‬

‫لم طردتها بهذه القسوة؟‬‫‪-‬دكتور برونو ما الذي فعلته‪َ ،‬‬


‫‪ -‬ألنها تستحق‪ ..‬إنها فتاة غبية‪ ،‬متخلفة‪ ،‬متعجرفة‪ ..‬ذاك الش يء الذي‬
‫يسمونه بالحجاب يثير إزعاجي ‪.‬‬
‫ً‬
‫اندهاش ولم تغادر ابتسامته شفتيه ثم قال متسائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رفع حاجبيه في‬
‫ً‬
‫مهال‪ ،‬ألم تعلم أنني أنتمي إلى هذا الدين‪ ..‬وأقر هذا الحجاب؟‬
‫‪ -‬أعلم‪ ،‬لكنك ال تشبهها‪ ..‬أنت متحضر ال يليق بك ما تفعله هي‪.‬‬
‫‪ -‬هي فقط تنتمي إلى نفس الدين الذي أنتمي أنا نفس ي إليه‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫‪ -‬أنت ال تفهم‪ ..‬الكثير من املشاكل في فرنسا ال سبب لها إال إلاسالم‪.‬‬
‫‪-‬هذا ما أفهموك إياه ‪.‬‬
‫‪َ -‬من تقصد؟‬
‫‪-‬أقصد أعداءه‪.‬‬
‫وما الحكمة من ذلك‪ ..‬ملاذا يتحاملون على هذا الدين وحده دون غيره‪.‬‬
‫‪-‬بكل بساطة ألنه الدين الحق‪.‬‬
‫َ‬
‫‪-‬لو كان الدين الحق كما تقول‪ ،‬لم لم يتكفل هللا بحمايته؟‬
‫لم لم يتكفل بحماية نفسه من أن‬ ‫‪-‬لو كان عيس ي إلاله عند النصارى َ‬
‫يصلب؟!‬
‫ً‬
‫ثم أردف قائال‪:‬‬
‫لم لم يستطع موس ى السيطرة على بني‬ ‫‪-‬لو كانت اليهودية دين الحق َ‬
‫إسرائيل وإرشادهم للهدى والحق؟!‬
‫‪-‬بل دعك من كل هذا‪ ،‬جيفارا الذي ثار من أجل الشعب‪ ،‬قبض عليه‬
‫لم حاربت الحكومة الهندية "غاندي"‪ ..‬ملا ُقتل‬ ‫بمكيدة من أبناء الشعب‪َ ..‬‬
‫"أبرهام ليونكلن" ؟‬
‫سواء اختلفنا أم اتفقنا مع هؤالء‪ ..‬لكن ألاكيد كانت لهم قضية حق‬ ‫‪ٌ -‬‬
‫يحاربون من أجلها ملا ُحوربوا إذن؟‬
‫ً‬
‫ثم أردف قائال وعيناه تسبحان في الفضاء‪:‬‬
‫‪ -‬أعلمت أن الباطل ال يقر له قرار إال إذا هزم الحق؟‬
‫‪-‬بدأت تتكلم وكـأنك مثلها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬بل أنا مثلها تماما‪.‬‬
‫زمن وأنا أعرفك ليست أول مرة ألتقي بك‪ ،‬أو‬ ‫‪-‬وليكن‪ ،‬نحن أصدقاء منذ ٍ‬
‫أعمل معك‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫‪ -‬ماذا لو أتيتك بعد عدة أشهر ولحيتي في وجهي‪ ..‬هل تستقبلني حينها؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬نظر إليه مليا عبر نظارته قائال‪:‬‬
‫‪-‬كال سأهابك‪.‬‬
‫إذن أنت تتعامل مع اللحى وأغطية الرؤوس‪ ،‬وليس مع ألارواح والعقول‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أراك متحامال علي‪.‬‬
‫‪-‬ولكني أحبك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬وأنا أيضا‪ ..‬فلنبدأ الحديث في أمر العمل‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫( ‪)5‬‬
‫قلت‬
‫إال من ي‬

‫ً‬
‫‪-‬اشتقت إلى سخافاتك كثيرا‪ ..‬متى ستعود؟‬
‫‪-‬امممم عام‪ ،‬عامان‪ ،‬ربما أكثر‪.‬‬
‫‪-‬ألم تكبر بعد؟‬
‫‪-‬ال تعجبني نفس ي هكذا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬حسنا‪ ..‬أخبرني ما الذي فعلته بشأن العمل؟‬
‫ً‬
‫‪-‬أدهم أيمكنني الحديث معك أوال في ش ٍيء آخر؟‬
‫ً‬
‫‪-‬تكلم طبعا‪.‬‬
‫‪-‬لكنني محرج‪.‬‬
‫‪-‬تكلم أقلقتني‪.‬‬
‫‪-‬أدهم أنا أريد الزواج!‬
‫ً‬
‫‪-‬ضحك ملئ شدقيه ثم هتف قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫وم َمن؟‪ ..‬وملاذا هذا الوقت تحديدا؟ ملاذا لم‬
‫ماذا‪ ..‬زواج‪ ..‬وهكذا فجأة‪ِ ..‬‬
‫تحدثني قبل السفر؟‬
‫‪-‬لم أكن قابلتها بعد‪.‬‬
‫‪-‬تقصد أنك تعرفت عليها في باريس؟!‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬لست مطمئنا لهذا ألامر‪ ..‬أعدمت مصرالفتيات؟‬
‫‪-‬ولكنها من أصل عربي‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫‪-‬وليكن ‪ ..‬ماذا عن نشأتها‪ ،‬أهلها‪ ،‬أفكارها‪ ،‬عقيدتها؟‬
‫ً‬
‫‪-‬ال أعلم شيئا عن هذا‪ ..‬أأخبرك بسر؟‬
‫‪-‬تفضل‪.‬‬
‫‪-‬إنها تشبهك في كل ش ٍيء وكأنها أنت‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬حقا؟!‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪-‬لكن ماذا تقصد بكل ش ٍيء؟‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬تشبهك طباعا خلقا وخلقا‪.‬‬
‫‪-‬لهذا أحببتها إذن؟‬
‫‪ -‬ال هذا هو الش يء الوحيد الذي لم استسغه فيها‪.‬‬
‫‪-‬هكذا‪ ..‬إذن ابحث عن غيري ليساعدك في عرض املوضوع على أبيك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬كنت أمزح فقط‪..‬هل ستظل جادا دائما هكذا؟‬
‫‪-‬أعلم‪ ،‬على كل حال أنت ذهبت من أجل العمل وليس الزواج‪ ..‬عندما‬
‫تعود إلى مصر حينها نتفق ما الذي ينبغي فعله؟ أخش ى فقدانها؟‬
‫ُ‬
‫‪-‬إذن حاول أن تعلمها بنيتك‪ ،‬ولنرى موقفها حينها‪.‬‬
‫‪-‬هللا املستعان‪ ..‬هذا ما كنت أنوي فعله‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫حالك؟‬
‫ِ‬ ‫نتظرك منذ عدة أيام‪ ،‬كيف‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ا‬
‫‪-‬بخير‪.‬‬
‫لك بالنيابة عن صديقي‪.‬‬ ‫‪-‬أعتذر ِ‬
‫ال داعي لالعتذار‪.‬‬
‫خاص‪ ،‬هل يمكنني ذلك؟‬‫أمر ٍ‬ ‫معك في ٍ‬ ‫‪-‬أريد أن أتحدث ِ‬
‫‪-‬تفضل‪.‬‬
‫يوم من ألايام؟‬ ‫أيمكنك مغادرة فرنسا في ٍ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬من أجل ماذا سأغادر؟!‬
‫زواجك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬من أجل‬
‫ً‬
‫‪-‬زواجي‪ ..‬أنا ال أفهم شيئا!‬
‫لك؟‬‫كزوج ِ‬
‫ٍ‬ ‫رأيك بي‬
‫وضوح‪ ،‬ما ِ‬‫ٍ‬ ‫‪-‬بكل‬
‫ردت مندهشة‪:‬‬
‫‪-‬زوج لي‪ ،‬أمي مريضة وفي أشد حاالت املرض آلان‪ ..‬وال يمكنني الحديث في‬
‫هذا ألامر وهي على حالتها تلك‪.‬‬
‫‪-‬أيمكنني زيارتها؟‬
‫‪-‬أمي فاقدة للوعي منذ أشهر‪ ،‬ولوال أنني طبيبة ما استطعت زيارتها أنا‪.‬‬
‫‪-‬شفاها هللا‪ ،‬أيمكنني أن أعلم إلي أي بلد تنتمين؟‬
‫تنهدت بعمق ثم قالت‪:‬‬
‫‪-‬عندما أعلم أنا!‬
‫‪-‬أتمزحين؟!‬
‫‪ -‬كال‪ ..‬أتحدث بكل جدية‪ ..‬أيمكنني الانصراف؟‬
‫معك بشفافية‪ ،‬هل لي بذلك؟‬ ‫‪-‬ال‪ ..‬أريد أن أتحدث ِ‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫بك‪ ..‬ألم تشعري ِ‬
‫أنت بهذا؟‬ ‫رأيتك وأنا أشعربأشياء كثيرة تربطني ِ‬ ‫‪-‬منذ أن ِ‬
‫‪-‬بلى شعرت‪ ..‬لكنها بالتأكيد روابط الدين والعروبة‪.‬‬
‫ً‬
‫رأيك إذا حاولت جاهدا أن أجعلها رابطة من ميثاق أغلظ‪.‬‬ ‫‪-‬ما ِ‬
‫‪ -‬لم تستطع أن تخفي ابتسامتها هذه املرة قائلة‪:‬‬
‫‪-‬دع املقادير تجري كما كتبها هللا‪.‬‬
‫‪-‬ولكني سأغادر لم يتبق من أعمالي هنا سوي القليل‪.‬‬
‫‪-‬فليوفقك هللا‪.‬‬
‫‪-‬لم تجيبيني بعد‪.‬‬
‫‪-‬ولن أجيب‪.‬‬
‫فضلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أريحيني من‬
‫‪ -‬يمكنني الانتظار ما لم يداهمني املوت‪.‬‬
‫‪ -‬أفهم من هذا أنك ستنتظرين عودتي؟‬
‫‪-‬ابتسمت في هدوء‪:‬‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪-‬عديني بذلك‪.‬‬
‫‪-‬أعدك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أصافحك فيه حالال‪ً.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬سأعود سريعا من أجل هذا اليوم الذي‬
‫محاولة منه لجعلها تسترسل‬
‫ٍ‬ ‫حياء دون أن تتكلم‪ ..‬وفي‬‫خفضت بصرها في ٍ‬
‫ً‬
‫معه في الحديث بادرها قائال‪:‬‬
‫نشأتك عربية صرفة‪ ..‬فتيات فرنسا ال يخفضن أبصارهن‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أشعر وكأن‬
‫علمك هذا؟‬‫ِ‬ ‫عندما يخجلن‪ ..‬بل ال يخجلن من ألاساس‪َ ،‬من‬
‫أمي فعلت‪.‬‬
‫ً‬
‫أرسل لها تحياتي‪ ،‬ودعواتي أيضا‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬

‫‪64‬‬
‫‪-‬فليقبل هللا منك‪.‬‬
‫أخبرك أنني أوصيت‬
‫ِ‬ ‫يمكنك الانصراف آلان‪ ،‬لكن قبل ذلك أود أن‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫عليك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫صديقي‬
‫‪ -‬وددت أال تفعل‪ ،‬فأنا ال أثق به قيد أنملة‪.‬‬
‫يمكنك املغادرة آلان ثم همس في نفسه "إال من قلبي"‬
‫ِ‬ ‫‪-‬لكنني أثق به‪..‬‬

‫ً‬
‫‪-‬حمدا هلل على سالمتك‪ ..‬اشتقت إليك جدا‪.‬‬
‫‪-‬هذا اعتراف واضح وصريح أنك ال تستطيع العيش بدوني‪ ..‬حفظني هللا‬
‫وأطال عمري‪.‬‬
‫‪-‬آمين يا رب‪ ..‬أطال هللا عمرك حتى أحمل أنا أبناء أبناءك‪.‬‬
‫يا أهلل أيمكن أن نصل إلى هذه املرحلة؟!‬
‫َ‬
‫لم ال إن هللا علي كل ش ٍيء قدير‪.‬‬
‫‪-‬أشعر وكأن الفترة املقبلة لن تكون في صالحي‪.‬‬
‫‪-‬ملا كل هذا هذا التشاؤم؟!‬
‫‪-‬ال أعلم‪ ..‬لكنن ي أصبحت أخش ى الحياة أكثر من ذي قبل‪ ..‬أال تخشاها‬
‫أنت؟‬
‫ال‪ ..‬بل تعلقت بها أكثر‪.‬‬
‫‪-‬أتمزح؟!‬
‫‪-‬كال‪ ..‬ال يجب أن أغادرها قبل أن أنجز بعض ألامور‪.‬‬
‫‪-‬أيمكن أن أعلمها؟‬
‫‪ -‬بالطبع سأخبرك إياها‪ ..‬حتى إذا مت تكملها أنت‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫ً‬ ‫‪َ -‬‬
‫لم تذكر املوت هكذا وكأنك مالقيه حتما؟‬
‫ً‬
‫‪-‬أعندك شك في أنني سأالقيه حتما؟‬
‫ً‬
‫ثم قال مردفا‪:‬‬
‫ً‬
‫كلنا مالقوه‪ ،‬كلنا مالقوه‪ ..‬سأغادر لترتاح آلان‪ ،‬ولنكمل حديثنا غدا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أخبرني أوال‪ ،‬ماذا قلت ألبي‪.‬‬
‫‪ -‬لم أكلمه بعد‪ ..‬لكن اطمئن هو يتمنى ذلك‪.‬‬

‫‪-‬رحل؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪-‬قالت أروى في ابتسامة خبيثة‪:‬‬
‫‪-‬إذن هذا هو السبب وراء كل هذا الحزن‪.‬‬
‫‪-‬أي حز ٍن؟!‬
‫‪-‬هذا الحزن الذي يبدو ِ‬
‫عليك‪.‬‬
‫‪-‬حزن يبدو علي‪ ..‬أنا لم أدرجه ضمن أحالمي بعد‪ ،‬وال يهمني أمره في ٍ‬
‫قليل‬
‫كثير‪.‬‬
‫أو ٍ‬
‫ولم كل هذا؟‬ ‫‪َ -‬‬
‫ً‬
‫‪-‬لعله أشفق علي‪ ،‬فكان هذا دافعا ملا قال‪.‬‬
‫نفسك أوعلي أنا‪ ،‬للمرأة‬
‫ِ‬ ‫يك‪ ..‬تضحكين على‬ ‫‪-‬بل أنا التي أشفق عل ِ‬
‫قلبك بشأنه؟‬
‫يحدثك ِ‬
‫ِ‬ ‫إحساس ال تخطئه‪ ..‬ألم‬
‫خجل وأجابت‪:‬‬
‫ضحكت نسيم في ٍ‬
‫‪-‬بلى حدثني‪.‬‬
‫لك؟‪ ..‬اعترفي‪.‬‬
‫‪-‬وبماذا أقر ِ‬
‫‪66‬‬
‫‪-‬أقر بإحساس ي أنا‪ ،‬لم يحدثني بشأنه‪ ..‬أنا زهيدة العالقات‪ ،‬قليلة الثقة‬
‫في آلاخرين‪ ،‬ترهبني التجمعات حتى املناسبات منها‪ ..‬لذلك لم أحكم عليه‬
‫بش ٍيء‪ ،‬بل حتى ال أستطيع‪.‬‬
‫إحساسك أنتي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬إذن ماذا عن‬
‫قذفتها بإحدى الوسائد قائلة‪-:‬‬
‫أعهدك بهذا التطفل من قبل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أروى ما هذا التدخل؟‪ ..‬لم‬
‫ولك‪ ..‬أفي هذا ٌ‬
‫عيب؟!‬ ‫بك ِ‬ ‫‪-‬أريد ان أفرح ِ‬
‫‪ -‬أيمكن أن أفرح وأمي مريضة؟!‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وخلق‬
‫ٍ‬ ‫دين‬
‫تأخيرك للفرح لن يغير من ألامر شيئا‪ ..‬إذا وجدتيه مؤمنا ذا ٍ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫سيعيينك على أمور الدنيا ونوائب الدهر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فتوكلي على هللا‪،‬‬
‫‪-‬وماذا لو خدعت‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬دعي هذا ألامرلي‪ ..‬لدي فراسة يصدق حدثها دائما‪ ،‬خاصة في هذا ألامر‪.‬‬
‫‪-‬صحيح ماذا قررتي بشأن ذاك ألادهم؟‬
‫ً‬
‫‪-‬لم أقرر شيئا‪ ..‬لعله تزوج‪.‬‬
‫‪-‬ملاذا آثرتي التخفي عنه؟‬
‫ُ‬
‫‪-‬ألنني ال أحقق من أحالمي شيئا‪ ..‬أنا عاجزة عن كل ش ٍيء إال الحلم‪.‬‬
‫بعمق ثم أردفت‪:‬‬
‫تنهدت ٍ‬
‫ً‬
‫‪-‬في موطني تحقيق ألاحالم حكرا على ألاغنياء فقط‪.‬‬
‫‪-‬ألم تكوني منهم؟!‬
‫‪ -‬بلى منهم لكنني ال أشبههم‪ ..‬أنا ال أحلم إال بأحالم البسطاء‪ ،‬الفقراء‪،‬‬
‫الطيبين الذين سحق وا تحت عجلة الزمن‪ ..‬أحلم بالعدالة واملساواة وإعطاء‬
‫كل ذي حق حقه‪.‬‬
‫هذه أساسيات املجتمع‪ ،‬ملا تتحدثين عنها وكأنها أحالم؟‬

‫‪67‬‬
‫‪-‬ألنها بالفعل مجرد أحالم‪.‬‬
‫‪-‬أهذه هي البلد التي سأنتمي إليها إن تزوجته‪ ،‬إنني أخشاها‪.‬‬
‫قدماك تراب هذا‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬البلد ال عالقة لها بحكامها وال ظامليها‪ ..‬بمجرد أن تطأ‬
‫أوصالك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫البلد ستشعرين أنك تذوبين فيها‪ ،‬وكأن عدوى الحب سرت في‬
‫أهلك‪ ..‬مصررائعة فقط شوه‬ ‫موطنك وكأن جميع شعبها هم كل ِ‬ ‫ِ‬ ‫تشعرين وكأنها‬
‫ً‬
‫طهرها بعض الطغاة‪ ،‬لكن التاريخ ال يرحم أحدا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬تعتقدين أن عصور الظالم هذه ستندثر يوما ما‪.‬‬
‫‪-‬أسال هللا ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬تأخر الوقت أزعجتيني جدا‪.‬‬
‫جئت إلي‪.‬‬
‫لك من غادرة‪ ،‬أنتي التي ِ‬ ‫يا ِ‬
‫وحدتك؟‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أتنكرين أنني آنست‬
‫عودتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬كال‪ ،‬ال أنكر‪ ،‬بل أخش ى يوم‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪-‬سنعود سويا بإذن هللا‪ ..‬تعودين عروسا وأعود أنا حاملة للدكتوراة‪..‬‬
‫سلي هللا لنا ذلك‪.‬‬
‫‪-‬اللهم ذلك‪.‬‬

‫أسندت رأسها إلى الوراء‪ ،‬ال زالت تذكر تفاصيل هذا اللقاء وكأنه حدث‬
‫ُ‬
‫ليلة البارحة‪ ...‬بالفعل تقبل هللا دعاءهما وكأن أبواب السماء قد فتحت‬
‫ً‬
‫خصيصا لهما‪ ..‬عادت أروى حاملة للشهادة التي سافرت من أجلها‪ ،‬لكن‬
‫عائشة لم تحرر بعد‪ ..‬وعادت هي عروس ورغم مرور ثالثة أعوام على خطبتها‬
‫من أحمد لكنها لم تزف إليه بعد‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫زفافها سيكون الليلة حزينا هادئا وكأنه سرادق عزاء‪ ..‬كان رحيله مؤملا‬
‫ً‬
‫لم تعش معه كثيرا‪ ،‬لكنها بكل صدق أحبته من كل قلبها وكأنها تعرفه منذ أن‬
‫ً‬
‫ولدت‪ ..‬منذ أن رأته في باريس ألول مرة كان آتيا كي يخطبها ألحمد‪ ..‬شعرت‬
‫برعشة باردة تسري في أوصالها‪ ،‬وقتها لم تكن تدري ما السبب‪ ،‬لكنها أقنعت‬
‫نفسها أنها رهبة املوقف ورجفة أول لقاء‪.‬‬
‫ً‬
‫ال زالت تذكر كل مواقفها معه‪ ،‬كانت قليلة لكنها حتما كانت من أسعد‬
‫لحظات حياتها‪ ..‬ال زالت تذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه غرفة املكتبة وكانت‬
‫رف أعلى منها بكثير‪ ..‬كانت منهمكة‬ ‫هي هناك‪ ..‬كانت تحاول أن تصل إلى ٍ‬
‫كتاب في ٍ‬
‫ً‬
‫في محاولة الوصول إليه‪ ..‬لم تشعر به وهو يقف وراءها ثم فجاءة أبصرته رجال‬
‫ً‬
‫طويال مأل الغرفة بضحكاته قبل أن يأتيها بالكتاب الذي تريد‪.‬‬
‫لكنها بكل بساطة وتلقائية وضعت يدها على شعرها في محاولة منها‬
‫ً‬
‫واحد قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫إلخفائه‪ ..‬ظهرت على وجهه عالمات الاندهاش والاستياء في ٍآن‬
‫أخوك ‪..‬ألم تعلمي أن إزالة غطاء الشعر أمام ألاخ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ماذا تفعلين‪ ..‬إنني أنا‬
‫مباح؟!ّ‬
‫ً‬
‫تشتت‪ ..‬وعلى حين غرة حملها بين يديه متجها إلى الحديقة‬ ‫ٍ‬ ‫تلعثمت في‬
‫ً‬
‫بأقص ى سرعته تسبقه ضحكاته وضحكاتها أيضا وضعها أمام النافورة ثم‬
‫أغرقها باملاء وفي حركة طفولية منها هي ألاخرى‪ ،‬وجدت نفسها تفعل به مثلما‬
‫ً‬
‫فعل بها وأغرقته أيضا باملاء‪.‬‬
‫ً‬
‫انحدرت دمعة على خدها‪ ،‬مسحتها في مرارة‪ ..‬لو كان حاضرا آلان لتحول‬
‫مرح‪ ..‬قبل موته أوصاها أن تصبر وتحتمل وأال تسمح‬ ‫هذا الجو الكئيب إلى ٍ‬
‫ً‬
‫للحزن أن يأكل قلبها‪ ..‬لم تنفذ شيئا من وصيته‪ ..‬افتقدته بكل قوة وكأنه ٌ‬
‫جزء‬
‫منها‪ ،‬ماذا لو عاشت معه أكثر؟‬
‫‪-‬آنسة نسيم‪ ،‬دكتورة أروى تستأذن في الدخول‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫‪-‬دعيها تتفضل‪.‬‬
‫زفافك بعد؟!‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ما هذا ألم تلبس ي فستان‬
‫‪-‬أهناك ضرورة لذلك؟‬
‫إنك عروس!!‬
‫‪ِ -‬‬
‫‪-‬لكني سأزف من هذا البيت وإليه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬دعي الفرحة تطرق أبوابه‪ ،‬خيم عليه الحزن طويال يكفي على والدك ما‬
‫هو فيه‪.‬‬
‫‪-‬أمي وهو أليس هذا بكثير ّ‬
‫علي؟‬
‫مرارة قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ازدردت ريقها في‬
‫‪ -‬هذه سنة الحياة برغم كل آالمها‪ ،‬إال أنها تستمر‪ ..‬لو يعلم املوت ما يفعله‬
‫الفراق بقلوبنا ألشفق علينا‪ ،‬ثم أجهشت بالبكاء‪.‬‬

‫‪-‬مبارك‪ ،‬أبوك في غاية السعادة‪ ،‬ألم أقل لك؟‬


‫ً‬
‫بالغة قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫سعادة‬
‫ٍ‬ ‫احتضنه أحمد في‬
‫ً‬
‫أحقا ما تقول؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪-‬وافق هكذا بسهولة ؟!‬
‫‪-‬ما املانع‪ ،‬والدك يود أن يرى أحفاده‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كنت أعتقد أنه يفضل زواجك أوال‪ً.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كال‪ ،‬إنه يود أن يرى له أحفادا بصرف النظرعن أبيهم‪.‬‬
‫‪-‬لم يعترض على الفتاة؟‬
‫‪70‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬لكنه اشترط أن يراها ويحادثها قبل الخطبة‬
‫ً‬
‫‪-‬له ذلك‪ ،‬وأعتقد أنها لن تمانع‪ ..‬لكن ماذا عن املوعد‪ ،‬ألم يحدد ميعادا‬
‫للسفر؟‬
‫لم كل هذا الاستعجال؟!‬ ‫‪َ -‬‬
‫‪-‬خير البرعاجله‪.‬‬
‫ً‬
‫اتسعت ضحكة أدهم وقال مقهقا‪:‬‬
‫‪-‬هكذا إذن‪.‬‬
‫طرقات على باب الغرفة قطعت حدثيهما‪ ،‬لم يكن الطارق إال الخادم‪..‬‬
‫أخبر الخادم أدهم أن والده يريده‪.‬‬
‫ً‬
‫استاذن أدهم في الدخول على والده‪ ..‬عقد ساعديه أمام صدره قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أخبروني أنك تريدني‪ ،‬ما ألامر يا أبي؟‬
‫‪-‬ال ش يء يا بني‪ ،‬ولكن أردت أن أوضح لك بعض ألامور‪ ،‬ألم تثر خطوبة‬
‫أحمد في نفسك شيئا؟ً‪.‬‬
‫‪-‬كال‪ ،‬إنني سعيد للغاية‪.‬‬
‫‪-‬يا بني أريد أن أرى أحفادي‪.‬‬
‫قال في تعجب‪:‬‬
‫‪-‬أوالد أحمد سيكونون كذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ولكني أريد أن أرى أبناء ابني ألاكبرأوال‪.‬‬
‫‪-‬وهل هناك فرق؟!‬
‫ً‬
‫‪-‬أنت لن تفهم‪ ،‬ثم إنني لست مرتاحا لتلك الزيجة‪ ..‬أال توجد هنا فتيات‬
‫حتى يتزوج من هذه الفرنسية؟‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إليه في استغراب قائال‪:‬‬

‫‪71‬‬
‫‪-‬لم يكن هذا رأيك قبل ساعة واحدة ما الذي حدث‪ ..‬ألم تخبرني أنك‬
‫موافق؟‪.‬‬
‫ً‬
‫أدهم أرضيني يا بني‪ ،‬ضاق صدري ذرعا بسر لم أعد احتمله‪ ،‬أشعر وكأن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نهايتي قريبة وال أريد من الدنيا شيئا سوى أن أحمل أبناءك بين يدي‪ ،‬ثم مرحبا‬
‫باملوت‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ما هذا السر الذي يجعلك ال تريد من الدنيا شيئا سوى أن ترى أبنائي؟‬
‫‪-‬لن تحتمل يا بني‪ ،‬لكن إن مت قبل زواجك ورزقك هللا بفتاة‪ ..‬عدني أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تكرمها إكراما ألبيك‪ ،‬وعدني أيضا أن تبلغها تحيات جدها‪ ،‬وأنه كان يتمنى أن‬
‫يحملها بين يديه‪ ،‬لكن أبوها أبى‪.‬‬
‫‪ -‬أطال هللا عمرك يا أبي‪ ..‬أعدك إن شاء هللا‪ ،‬لكن أحمد في عجلة من‬
‫أمره‪ ،‬ومن الخير أن نجيبه فيما طلب‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪-‬أنا موافق لكني أشعر أن في ألامر خطبا ما‪ ..‬ماذا لو كانت هذه الفتاة‬
‫لقيطة أو طامعة في مركز وثروة أحمد؟‬
‫‪ -‬فرنسية وتطمع في مركز أو ثروة‪ ..‬هذا ال يحدث إال هنا فقط‪ ..‬أما‬
‫الفرنسيات فلديهن الحرية الكاملة ليفعلن ما يردن‪ ،‬والنساء هناك يحققن‬
‫ثروة أكثر من الرجال‪.‬‬
‫ً‬
‫بلد آخر فتصبح‬ ‫واحد‪ ،‬وفي ٍ‬‫ٍ‬ ‫أسبوع‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬أنا لست مرتاحا لهذا ألامر‪ ..‬رآها في‬
‫وليلة‪ ،‬ما هكذا تؤخذ ألامور يابني‪.‬‬ ‫يوم ٍ‬ ‫خطيبته بين ٍ‬
‫ّ‬
‫‪-‬فلنرها أوال‪ ،‬من املمكن أن تغير رأيك‪ ،‬أو يغير هو رأيه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ألاسبوع القادم إذن‪ ..‬أريد أن أنتهي من هذا ألامرعاجال‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ -‬أدهم في ماذا كان يحادثك والدك؟‬
‫‪-‬ال ش ئ اطمئن‪.‬‬
‫‪ -‬لن أطمئن‪ ،‬أنا لم أعد أفهم ما الذي يحدث في هذا البيت‪.‬‬
‫ً‬
‫رفع حاجبيه متسائال‪:‬‬
‫‪-‬ما الذي يحدث؟‬
‫‪-‬ألم يخبرك جاسر بأمر املظروف املغلق؟‬
‫‪-‬جاسر‪ ..‬و مظروف مغلق!!‬
‫‪ -‬ما املشكلة في هذا‪ ..‬جاسر هو محامي أبيك الخاص‪ ،‬ومن الطبيعي أن‬
‫يستودع أبوك لديه وثائق خاصة‪.‬‬
‫ما قولك إذا أخبرتك أن أباك أمر أال يفتح هذا املظروف إال بعد وفاته‬
‫وقبل توزيع التركة؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فغر فاه مندهشا ثم أردف قائال في تساؤ ٍل‪:‬‬
‫‪-‬من املحتمل أن يحمل هذا املظروف وصية أو ما شابه ثم تمتم وكأنه‬
‫يحدث نفسه‪:‬‬
‫‪-‬هل هذا املظروف له عالقة بالسر الذي طاملا حدثني عنه‪.‬‬
‫‪ -‬أدهم أنا أحادثك في ماذا تفكر؟‬
‫ً‬
‫‪-‬ال ش َيء لم أعد أفهم شيئا أنا آلاخر‪ ..‬سيسافر ثالثتنا إلى باريس ألاسبوع‬
‫القادم‪ ..‬استعد‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫والدتك تبدو جميلة حتى وهي في غيبوبتها‪ ،‬أشعر وكأن‬ ‫ِ‬ ‫أأخبرك بش ٍيء‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫رونق الحياة نابضا في وجهها‪.‬‬
‫رأتك‪.‬‬
‫منك‪ ..‬كم أتمنى لو ِ‬ ‫‪-‬سمع هللا ِ‬
‫ُ‬
‫‪-‬هل كان هذا سيغير من ألامر شيئا؟‬
‫‪ -‬على ألاقل كنت سأشعر أننا عائلة‪.‬‬
‫اتسعت ضحكتها مرددة‪:‬‬
‫‪ -‬عائلة‪ ..‬هكذا إذن‪ ..‬تريدين مني أن أخطبها لوالدي‪ ،‬سيئة أنتي‪.‬‬
‫استخفاف‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬أنا لم أقل هذا‪ ..‬قاطعتها في‬
‫أمك بخير لعرضت عليها أنا هذا‪،‬‬ ‫قلت ما املشكلة؟ لو كانت ِ‬ ‫‪-‬حتى لو ِ‬
‫وهكذا يصبح لي أم أخرى وأخت‪ ،‬ما ِ‬
‫رأيك في‪....‬؟‬
‫ً‬
‫هدوء‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬وقبل أن تكمل بادرهم صوت رجالي ملقيا التحية في‬
‫ً‬
‫نظر إلى أروى متسائال‪:‬‬
‫قريبتك؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬ال بل زميلتي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬أهال وسهال ‪،‬أنا دكتور إياد‪.‬‬
‫ردت أروى‪:‬‬
‫‪-‬أهال بك‪.‬‬
‫‪-‬مصرية‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫‪-‬بلى‪.‬‬
‫رأيتك من قبل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أشعروكأنني‬
‫‪-‬وأنا كذلك‪.‬‬
‫‪-‬في أي مكان تقطنين بمصر؟‬
‫‪-‬القاهرة‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪-‬ال أنا استقر باإلسكندرية‪ ..‬قد يكون مجرد تشابه‪ ،‬فرصة سعيدة‬
‫ً‬
‫يمكنكما أن تعتبراني ألاخ ألاكبر لكما هنا‪ ،‬ثم تحول ناحية نسيم قائال‪:‬‬
‫‪-‬إذا أردت أن نعرض الوالدة على استشاري آخر أو طبيب من مركز‬
‫أساعدك‪ ،‬فأنا على عالقة طيبة بمدير املشفى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫البحوث فأنا مستعد ألن‬
‫تمتمت ببعض الكلمات شاكرة إياه‪.‬‬
‫ً‬
‫تفحص‪ ،‬وكأنه يتأكد بأنه فعال ال يعرفها‪ ..‬ألقى‬
‫ٍ‬ ‫نظر إلى أروى ثانية في‬
‫التحية ثم انصرف‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫( ‪)6‬‬
‫وع ـ ـ ــد‬
‫‪-‬برونو أين نسيم؟‬
‫ً‬
‫تساءل مقهقا‪:‬‬
‫‪ -‬لهذا عدت ثانية‪ ..‬صدقني كنت أعلم أن هذا هو سبب عودتك؟‬
‫‪ -‬وما املشكلة في أن أعود من أجلها‪.‬‬
‫‪-‬تعود من أجل فتاة‪ ..‬أين رجولتك يارجل؟‬
‫‪-‬رجولتي تكمن في العودة من أجلها ألم أعدها أنا بذلك؟‬
‫‪ -‬وما الذي يميزها عن فتيات بلدك؟‬
‫‪-‬ال ش يء‪ ،‬هي املشاعر فقط‪.‬‬
‫‪-‬أتؤمن بهذه السخافات؟!‬
‫‪-‬أؤمن بها وأقدسها‪ ..‬هذه السخافات كما تقول هى سر الوجود وسر‬
‫الاستمرار‪.‬‬
‫ً‬
‫استهتار قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬وماذا لو انتهى هذا الوجود؟ ثم رفع كتفيه في‬
‫‪-‬ألامر بسيط‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ال ليس بسيطا‪ ،‬إذا انتهى هذا الوجود فسيبدأ الوجود ألابدي‪ ..‬الوجود‬
‫آلاخر‪.‬‬
‫‪-‬وما هو؟‬
‫‪-‬بالنسبة لك تالئمك جهنم‪.‬‬
‫‪ -‬أهذا هو دينكم يعد غير املسلمين بجهنم‪ ..‬أهذه هي الرحمة وإلانسانية‬
‫وعدم العنصرية؟!‬

‫‪76‬‬
‫‪ -‬الرحمة وإلانسانية وعدم العنصرية اسأل عنها نفسك ملاذا عاديت‬
‫إحداهن ملجرد أنها ليست من ديانتك؟ ملاذا آذيتها وطردتها وأهنتها أكثرمن مرة؟‬
‫‪ -‬وهل إلاله الحق يعاملنا كما نعامل نحن بعضنا البعض؟‬
‫‪ -‬إلاله الحق وعد الطيبين املحسنين املسلمين بالجنة‪ ،‬وأعد للسيئين‬
‫العاصين النار حتى لو كانوا مسلمين‪.‬‬
‫‪ -‬أهذا يليق باإلله الحق‪ ..‬إذن فأين املغفرة؟‬
‫‪ -‬تسأل عن املغفرة ألنك لم تجرب طعم الظلم‪ ..‬لو غفر هللا لكل السيئين‬
‫ً‬
‫في هذه الحياة ألن يكون هذا ظلما للطيبين الذين ظلموا؟‪ ..‬أهذا هو العدل‬
‫من وجهة نظرك؟‬
‫ً‬
‫‪-‬ثم أردف متابعا‪:‬‬
‫أناس لم يأخذ القانون‬
‫ٍ‬ ‫‪َ -‬من سيأخذ للمظلومين حقوقهم‪ ،‬فكم من‬
‫حقهم؟‬
‫‪-‬تقول أن جهنم أعدت للسيئين من املسلمين‪.‬‬
‫‪-‬أجل‪.‬‬
‫َ‬
‫‪-‬ملن؟‬
‫‪-‬للظالم والقاتل والسارق والزاني والذين يأكلون أموال الناس بالباطل‪،‬‬
‫ً‬
‫ويأكلون أموال اليتامى ظلما‪ ،‬للذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا‪،‬‬
‫للمتكبرين‪ ،‬والكاذبين‪ ،‬للذين ال يوفون بالعهود‪.‬‬
‫َ‬
‫‪-‬وأعدت الجنة ملن؟‬
‫‪-‬أعدت الجنة للصالحين الذين يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر‪،‬‬
‫ويقيمون الصالة‪ ،‬ويؤتون الزكاة‪ ،‬والصابرين في البأساء والضراء‪ ،‬الثابتين على‬
‫الحق‪ ،‬والرحماء‪.‬‬
‫يأت دينكم بغير هذا لكفى ‪.‬‬ ‫‪-‬وهللا لو لم ِ‬

‫‪77‬‬
‫‪-‬أهنئك على إسالمك إذن‬
‫‪-‬ال ما هكذا تؤخذ ألامور‪ ..‬لكنني مندهش‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫مم؟‬
‫تدعني إلى إلاسالم من قبل‪.‬‬‫‪-‬ملاذا لم ُ‬
‫‪ -‬لكنني أدعو هللا لك بالهداية كل ليلة‪.‬‬
‫لم لم تخبرني إذن؟‬ ‫‪ -‬لي أنا‪َ ..‬‬
‫‪-‬ألنني ال أثق بك‪ ،‬لكني أثق باهلل‪.‬‬
‫‪ -‬أيمكن للمسلم أن يحب غير املسلم؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬وإال ملا دعوت هللا أن يجمعني بك في جنته‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن الوالء والبراء في دينكم ؟‬
‫‪ -‬أكره فيك معصيتك‪ ،‬أكره كفرك باهلل‪ ،‬أبغض تعصبك وتشددك‬
‫وعنصريتك‪ ..‬لكن إذا أصابك مكروه ساعدتك‪ ،‬وإذا وعدتك فحرام علي أن‬
‫أخلف وعدي‪ ،‬وإذا أمنتك فحرام علي أن أخذلك‪ ،‬وإذا جاورتك فعلي حسن‬
‫الجوار‪ ،‬وال أعاديك إال إذا عاديتني‪.‬‬
‫‪ -‬أعلم أن دينكم جاء بكل هذا‪ ..‬لكن أين هذا من أخالقكم؟‪ ..‬أنتم ال‬
‫ً‬
‫تتعاملون بهذا بين بعضكم البعض‪ ،‬فضال عن معامالتنا نحن‪.‬‬
‫‪-‬لكن النبي فعل‪.‬‬
‫‪-‬حدثني ماذا فعل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬أيكفيك ٌ‬
‫مثال واحد؟‬
‫‪-‬أريد الكثير‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬سأهديك كتابا لكن عدني أن تقرأه‪.‬‬
‫‪-‬أعدك‪.‬‬
‫‪-‬وأال تنكر الحق إذا علمته ‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫‪-‬أعدك بذلك‪.‬‬
‫‪-‬لم تخبرني أين هي بعد؟‪.‬‬
‫‪-‬ال أعلم فهي ليست إحدى طالباتي‪ ،‬لكني سأرسل في معرفة مواعيدها‬
‫من أجلك‪ ..‬لكن متى ستهديني الكتاب؟‬
‫‪ -‬قبل أن أعود إلي القاهرة إن شاء هللا‪.‬‬

‫يراك‪.‬‬
‫‪-‬أبي يريد أن ِ‬
‫‪-‬ال أفهم !‬
‫ً‬
‫معك أوال‪ ..‬يعني هو يريد أن يطمئن إلى من ستكون‬ ‫‪-‬يريد أن يتحدث ِ‬
‫زوجة ابنه‪.‬‬
‫‪-‬زوجة ابنه‪ ..‬أنا أكره أن أكون محط أنظار آلاخرين‪ ،‬وأال يكفيه أنك‬
‫مطمئن؟‬
‫‪-‬هذه هي العادة في البلدان العربية‪ ،‬أن يرى أهل الخاطب املخطوبة‪.‬‬
‫‪-‬وهل في بلدانكم ألاب هو الذي يرى خطيبة ابنه؟!‬
‫ً‬
‫‪-‬فهم ما ترمي إليه فأجاب قائال‪:‬‬
‫‪-‬أمي متوفاه منذ زمن‪.‬‬
‫‪-‬رحمها هللا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬آمين‪ ،‬أبي وأخي سيأتيان بعد يومين‪ ،‬وستكون جلسة طبيعية جدا في‬
‫ً‬
‫املكان الذي تريدين‪ ..‬ال تقلقي أبي رجل طيب جدا وكذلك أخي‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫لك؟‬
‫‪-‬هل هذا كل ما قاله ِ‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬لكن أخبريني هل هذا الوضع السائد في بالدكم‪ ،‬أنا أخش ى التعرف‬
‫على الغرباء وال أستسيغ جلوس ي مع أبيه وأخيه ألوضع تحت امليكروسكوب‪.‬‬
‫ً‬
‫خاطئ دائما‪ ..‬علم أخوه وأبوه بأمر‬‫ٍ‬ ‫أنت تنظرين إلى ألامور بمنظار‬‫‪ِ -‬‬
‫ً‬
‫أجلك يوحي أنه من عائلة مهذبة‬‫ِ‬ ‫خطبته‪ ،‬وحضورهما إلى هنا خصيصا من‬
‫محترمة‪ ،‬جاء ألاب كي يطمئن على اختيار ابنه ويباركه‪ ..‬أو يلغيه إن رآه غير‬
‫مناسب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أنك رأيتيه‪ ،‬أنا في حيرة من أمري‪ ،‬ال أعلم ما الذي ينبغي فعله‪،‬‬‫‪-‬وددت لو ِ‬
‫ً‬
‫جرت ألامور سريعا دون أن أعد العدة لكل هذا التطور‪.‬‬
‫حديثك عنه شعرت أنه إنسان جديربالثقة‪ ،‬ويستحق الحب‪ ..‬نسيم‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬من‬
‫لك‪،‬‬
‫رجل تواجهين الحياة معه‪ ،‬هذه فرصة منحتها الحياة ِ‬ ‫أنت بحاجة إلي ٍ‬
‫ِ‬
‫عمرك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ندمت طول‬
‫ِ‬ ‫وقلما منحتنا الحياة فرص‪ ،‬تشبثي بها وإال‬
‫‪-‬ستكونين معي أليس كذلك؟‬
‫حنان قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ضمتها في ٍ‬
‫أتركك في يوم مثل هذا يا حبيبتى‪ ..‬ثم إنني أنتمي إلى نفس البلد‪ ،‬وهذا‬
‫ِ‬ ‫‪-‬لن‬
‫كل منهم‪.‬‬‫بدوره سيساعدنى فى فهم شخصية ٍ‬

‫ً‬
‫‪-‬يا سيادة اللواء الفتاة لم تفعل شيئا‪ ،‬هي فقط مرت بجانب املظاهرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫‪َ -‬‬
‫ومن أدراك؟ ألم نجد في حقيبتها أوراقا وكتبا تدل على انحراف فكرها؟‬
‫‪-‬أتعتبرورقة بفرضية الحجاب‪ ،‬وكتاب أذكارومصحف‪ ،‬انحراف في الفكر‬
‫يستوجب الاعتقال؟ّ!‬
‫‪80‬‬
‫‪ -‬في ماذا تجادل ألم يقبض عليها مع املخربين؟‬
‫لم تكن منهم‪ ،‬فقط مرت بجانبهم‪.‬‬
‫البالد تمر بمرحل ة استثنائية حرجة تستوجب الضرب على يد كل من‬
‫ساعد في خرابها‪ ،‬ولو بالش يء اليسير‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬لكنها لم تفعل شيئا من ذلك وأنت تعلم‪ ،‬الفتاه فقيرة‪ ،‬ومن أسرة عادية‬
‫ال مصدر رزق لها وال عائل‪ ،‬لم يكن يعنيها خراب البلد أو إصالحها في ش ٍيء‪،‬‬
‫فقط يعنيهم رغيف خبز يسد رمقهم ودواء لألم املريضة‪.‬‬
‫‪-‬يا سيادة الوزير كارثة أن يخرج هذا الكالم منك‪ ،‬ولو علم به أحد‬
‫فسيشيع عنك أنك منقلب على جهاز ألامن في الدولة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أتسمي نصرة املظلوم انقالبا على جهاز ألامن؟‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬أنت تعلم أن الحسنة تخص والسيئة تعم‪ ،‬وهي لو كانت مظلومة‬
‫وال شأن لها باملخربين البتعدت عن مسيرتهم‪.‬‬
‫ً‬
‫استخفاف‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قال مرددا خلفه في‬
‫‪-‬الحسنة تخص والسيئة تعم‪ ..‬هذا الكالم تقوله في الطابور الصباحي‬
‫ملدرسة ابتدائية‪ ،‬أو في خطاب تافه في أحد النجوع التي لم يعرف إليها التعليم‬
‫سبيله بعد‪ ..‬أما في مكتب رئيس أمن الدولة فمن العته أن تقول هذا الكالم‪.‬‬
‫‪-‬عته!‬
‫لن أسمح لك بالتجاوز أكثر من ذلك‪ ،‬ولكني سأحترم عالقة صداقة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قديمة‪ ،‬ألجلها فقط لن أخبرأحدا بأمر هذه الزيارة حفاظا على منصبك‪.‬‬
‫‪ -‬بل افعل أقص ى ما يمكنك فعله‪ ..‬حفاظي على منصبي إن كان سيقتض ي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أن أصفق للظالم وأنحني له راكعا رافعا القبعة لظلمه‪ ،‬ناكرا الحق وأنا أعلمه‪،‬‬
‫فال أريده حينها فليذهب املنصب إلى الجحيم‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ملاذا هذه الحالة تحديدا تثير تبجيلك للعدل‪ ،‬ونبذك للظلم وأنت تعلم‬
‫أن مثلها الكثير‪.‬‬
‫‪ -‬ألن هذه هي الحالة الوحيدة التي أتيقن تمام اليقين من براءتها‪.‬‬
‫تتيقن تمام اليقين من براءتها‪ ..‬أم ألنها زميلة ابنتك؟‬
‫ً‬
‫دهشة قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظر إليه في‬
‫‪-‬تعلم كل هذا؟!‬
‫‪-‬بل أكثر من هذا‪.‬‬
‫‪ -‬هنا في أمن الدولة لدينا ملف البنتك‪ ..‬بل أنت آلاخر سيصبح لك ملف‬
‫بعد هذا اللقاء‪ ،‬وجريمة التعاطف مع إرهابية‪.‬‬
‫نظرإليه في استحقارودون أن يستأذن خرج من املكتب وصفق بابه وراءه‬
‫عنف‪.‬‬
‫في ٍ‬
‫ً‬
‫واضحة محدثا نفسه‪:‬‬‫ٍ‬ ‫عصبية‬
‫ٍ‬ ‫بمجرد خروجه قال رئيس أمن الدولة في‬
‫ً‬
‫‪-‬هذا الرجل أصبح خطرا على الدولة ككل‪ ،‬لو قال كالمه هذا على املأل‬
‫بالغة‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫سرعة‬
‫ٍ‬ ‫النضم إليه جل أبناء الشعب‪ ..‬البد من التخلص منه في‬
‫ظفر‪ ،‬وأطل منهما بريق الغدر‪.‬‬ ‫التمعت عيناه في ٍ‬

‫لك الاعتراف‪ ،‬وهذا من شأنه أن‬ ‫أحادثك بشكل ودي من ألافضل ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أنا‬
‫أنت‬
‫يفيدك في ش ٍيء ِ‬
‫ِ‬ ‫عقوبتك‪ ،‬أما إذا صممت على إلانكار فهذا لن‬
‫ِ‬ ‫يخفف من‬
‫ً‬
‫عليك في مسيرة تخريبية دون أن تقيمي وزنا لقانون الطوارئ أو‬
‫ِ‬ ‫مذنبة‪ ،‬وقبض‬
‫َ‬
‫ومن الذي يمول جماعاتكم؟‪ِ ،‬‬
‫ومن الذي‬ ‫وضوح من الذي ورائكم؟‪ِ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫غيره‪ ..‬بكل‬
‫ً‬
‫أمركم بالخروج في هذه املسيرة وهذه الساعة تحديدا؟‬
‫ً‬
‫لم يتلق جوابا سوى الصمت ‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫يفيدك في ش يء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬هل ستظلين صامتة هكذا‪ ..‬الصمت لن‬
‫‪ -‬تحملوا صمتي عدة أشهر قادمة‪ ،‬ألم أتحمل أنا صمتكم عدة أشهر‬
‫فائتة؟ىأتعلم أن هذا التحقيق من املفترض أن يكون منذ أن قبض علي؟‬
‫منك‬
‫معك‪ ..‬أنا هنا ألنتزع ِ‬
‫لك سبب تأخرنا في التحقيق ِ‬ ‫‪-‬لست هنا ألبرر ِ‬
‫ما أريد معرفته‪.‬‬
‫‪-‬وهل الاعترافات تنتزع؟!‬
‫أنت مكاني وتحقيقين معي؟‬ ‫رأيك أن تجلس ي ِ‬ ‫‪-‬ما ِ‬
‫‪-‬ال ليس آلان‪.‬‬
‫_ماذا تقصدين؟!‬
‫ً‬
‫_يوما ما سأجلس أنا ألحقق معك‪ ،‬إن لم يكن في الدنيا ففي ألاخرة‪ ،‬حينها‬
‫لن أرحمك‪.‬‬
‫ً‬
‫ضحك في استخفاف قائال‪:‬‬
‫‪-‬أنا أمارس عملي‪ ،‬أوليس الاجتهاد في العمل عبادة؟‬
‫ً‬
‫‪-‬وهل تعد ظلم الناس اجتهادا أوعبادة‪.‬‬
‫كونك ظاملة أو مظلومة فهذا ال شأن لي به‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬انا مأمور بفعل هذا‪ ..‬أما‬
‫اعترافك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وكل ما أريده هو‬
‫‪-‬أال تخش ى هللا؟!‬
‫ً‬
‫أخبرتك أنني مأمور لست ظاملا ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أخشاه‪ ..‬ولكنني‬
‫‪-‬وهللا لوالك ملا ُوجد الظالم‪.‬‬
‫لكونك امرأة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫معك بالرفق‬ ‫‪-‬حتى آلان‪ ،‬وأنا أتعامل ِ‬
‫‪ -‬إذن فلتحادثني امرأة المرأة ‪.‬‬
‫نظرإليها في غضب‪ ..‬ثم نظرإلى الرجل الجالس وراءها نظرة ذات مغزى‪ ،‬ثم أتبعها‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫‪-‬حتى تتأدب‪.‬‬
‫ثوان حتى امتألت الغرفة بصراخها ‪.‬‬
‫لم تمض بضع ٍ‬

‫أزوجك ألخيه؟‬
‫ِ‬ ‫رأيك أن‬
‫‪-‬ما ِ‬
‫قالت ضاحكة‪:‬‬
‫‪-‬دكتورة وخاطبة في نفس الوقت‪ ..‬خليط عجيب‪.‬‬
‫‪-‬ولكنه جميل أليس كذلك؟‬
‫ً‬
‫‪-‬نظرت إليها شذرا ولم تجب‪.‬‬
‫رأيك‪.‬‬
‫نظرتك هذه‪ ..‬أنا أتكلم بجدية ما ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬كفي عن‬
‫‪-‬رأيي في ماذا؟‬
‫أزوجك ألخيه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬في أن‬
‫أمك لوالدي‪ ،‬واليوم‬
‫‪-‬ماشاءهللا خاطبة بدرجة امتياز‪ ..‬باألمس تخطبين ِ‬
‫ً‬
‫لرجل لم تريه بعد‪ ..‬ياترى َمن الذي ستزوجينه غدا؟‬ ‫تخطبيني ٍ‬
‫لم تستطع أن تكتم ضحكاتها فقالت مقهقة‪:‬‬
‫‪-‬ألهذه الدرجة؟!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ألنك ستصبحين عروسا‬ ‫‪-‬تبدين سعيدة جدا‪ ..‬ترى ما السبب؟ هل ِ‬
‫ً‬
‫قريبا؟‬
‫بعنوستك منذ الغد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وسأعيرك‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أجل‪..‬‬
‫‪-‬هكذا إذن؟‬
‫هزت رأسها مجيبة‪:‬‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫لكنت آلان في‬
‫ِ‬ ‫عريس تقدم لخطبتي‬ ‫ٍ‬ ‫‪-‬ابتعدي يا شاطرة‪ ،‬فلو تزوجت أول‬
‫عمر أبنائي‪.‬‬
‫عال قائلة‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ضحكت‬
‫منعك من الزواج؟‬‫ِ‬ ‫‪-‬وما الذي‬
‫‪-‬أنتظر شخص بعينه‪.‬‬
‫هربت منه عندما وجدتيه؟‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ذاك الذي‬
‫أشاحت بوجهها قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ال أريد أن أجده أنا‪ ..‬أريد أن يجدني هو‪ ..‬ال أريد أن أملع أنا كي ألفت‬
‫انتباهه‪ ،‬أريد أن يراني في أقص ى حاالت عتمتي ويحبني‪ ..‬أريد أن يراني في قمة‬
‫ً‬
‫يأس ي ويؤمن بي‪ ..‬أريد أن يراني في أشد حاالتي ذبوال ويقسم برونقي‪ ..‬أريد أن‬
‫ً‬
‫يراني في أكثر أوقاتي جزعا‪ ،‬لكنه متيقن من قوة صبري وتحملي‪.‬‬
‫‪ -‬في الحياة البد من بعض التنازالت‪.‬‬
‫‪ -‬هناك تنازالت يمكنها أن تجعل من اللوحة باهتة‪ ،‬مثيرة للشفقة وكأنها‬
‫لم تكتمل‪ ..‬وهناك تنازالت ال تؤثرعلى جودة اللوحة في ش ٍيء‪ ،‬فقط بعض‬
‫أنت مستعدة؟‬‫دعك مني هل ِ‬ ‫الرتوش التي لن ينتبه لعدم وجودها أحد‪ِ ..‬‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬لكنني أشعر بوخز في صدري‪ ..‬أشعر بقلبي يؤملني‪.‬‬
‫أمك؟‬
‫‪-‬من أجل ِ‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬هل هذا هو حقها علي‪ ..‬أضاعت عمرها في تربيتي‪ ..‬وقضت زهرة‬
‫شبابها معي‪ ...‬وعندما من هللا علي بفرح استأثرت به دونها‪ ،‬أوليست هذه‬
‫أنانية؟‬
‫والدتك في أشد‬
‫ِ‬ ‫لكنك تعلمين أن حالة‬ ‫ِ‬ ‫لك ألامور‪..‬‬
‫‪-‬ال أريد أن أعقد ِ‬
‫ً‬
‫املراحل صعوبة‪ ،‬عدة أشهر وهي في غيبوبتها تلك‪ ،‬فضال عن تصريح الطبيب‬
‫ً‬
‫املختص بأن حالتها حرجة جدا‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫‪-‬ال أستطيع أن أرى سنواتي املقبلة بدونها‪.‬‬
‫هزت رأسها قائلة في أس ًى‪:‬‬
‫ً‬
‫أمر‪ ..‬وتذلل كل صعب!‬
‫‪-‬ستعلمين غدا أن العادة تسهل لنا كل ٍ‬

‫‪-‬قبل أن تسافرأعتقد أنه من ألافضل أن تذهب إلى فرع إلاسكندرية‪ ،‬كي‬


‫تطمئن على سير ألامور هناك‪.‬‬
‫‪ -‬أمرك يا أبي‪ ..‬لك ما طلبت‪.‬‬
‫‪-‬متى ستسافر إذن؟‬
‫ً‬
‫‪-‬فجرا إن شاء هللا‬
‫‪-‬أراح هللا قلبك يا بني‪.‬‬
‫وفي امليعاد الذي حدده انطلق بسيارته صوب إلاسكندرية‪ ..‬وظل يسترجع‬
‫لحظات‬
‫ٍ‬ ‫ذكرياته معها في هذا الطريق‪ ،‬لم تكن ذكريات بمعنى الكلمة كانت‬
‫ثوان‬ ‫وعرض وليست مجرد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫عمق وطو ٍل‬
‫قليلة‪ ..‬لكن بعض اللحظات تكون ذات ٍ‬
‫ودقائق تمر دون أن يشعر بها أحد‪.‬‬
‫ً‬
‫اختطف هذه اللحظات من جوف الحياة حتى خيل إليه أن الدنيا أخيرا‬
‫نظرت له وهي باسمة‪ ..‬لكن بعد لحظات قليلة فقط وقفت في وجهه ضاحكة‬
‫ً‬
‫ساخرة‪ ..‬يستهزء القدر به دوما‪ ..‬فاق تفاؤله النصاب املسموح به حتى أضحى‬
‫التفاؤل سذاجة‪.‬‬
‫وقبيل أن يصل بسيارته إلى معبد حبه‪ ،‬ومسقط قلبه‪ ،‬إلى أحب ألاماكن‬
‫ً‬
‫ببطء وكأنه ينتظرظهورها له كما فعلت سابقا‪ ،‬نزل من سيارته‬ ‫إليه‪ ،‬ظل يسير ٍ‬
‫ً‬
‫في نفس املكان الذي ترجل فيه سابقا من أجلها‪ ،‬ما أقدر املناظر املعينة‪..‬‬
‫‪86‬‬
‫صوت مجهو ٍل‬
‫ٍ‬ ‫وألاماكن القديمة على تجسيد الذكريات‪ ..‬وإثارة الشجن‪ ..‬رب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال نعرفه أو نسمة عابرة تعيد إلى نفوسنا جيشا من ألاحداث‪ ،‬ولهيبا من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذكريات‪ ،‬ومرورا عبر الزمن‪ ،‬وانتقاال من املكان إلى عالم آخر‪ ،‬رب صوت‬
‫كروان‪ ،‬أو زقزقة عصفور‪ ،‬أو هطول مطر‪ ،‬أو املرور بمكان معين‪ ،‬ينكأ في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نفوسنا جرحا كاد أن يندمل وقرحا كاد أن يشفى‪ ..‬رب زهرة معينة‪ ،‬أو رائحة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عادية جدا تعيدنا إلى الوراء أمياال قطعناها في مشقة وتعب‪.‬‬
‫اتجهت نظراته صوب املكان الذي وقفا فيه من قبل‪ ،‬وشتان بين وقفته‬
‫تلك ووقفته هذه‪ ..‬وجودها في هذا املكان من قبل بث في روحه السعادة‪ ..‬منحه‬
‫إحساس باللذة الخفية‪ ،‬وكأن املكان رغم سكونه أصبح له روح‪ ،‬أما آلان‬
‫فاملكان موحش‪ ،‬خرب‪ ..‬مجرد طريق سيارات ال أكثروال أقل‪ ..‬تمتم وكأنه يحادث‬
‫الطريق‪ ..‬ويسأله أن يجود بها!!‬
‫نعم الطريق‪ ..‬أيمكن لعاقل أن يحادث الطريق؟!‬
‫ً‬
‫ال شك أن هذا ضربا من الجنون‪ ،‬لكن حياته الرتيبة اململة كانت السبب‬
‫ً‬
‫في ذلك‪ ،‬وعند أول فرصة سنح له القدر بها ثار محطما كل قيوده ومبادئه‪..‬‬
‫ً‬
‫جعلت منه رجال يمكن أن يحادث الشجر‪ ،‬والليل‪ ،‬والبحر‪ ،‬وفي محاولة منه‬
‫ً‬
‫ملواساة نفسه تمتم متسائال‪:‬‬
‫‪-‬أكل الشعراء مجانين؟!!‬
‫أوليس "ناجي" من قبل ناجى صخرة صماء ال تعي وال تفهم ما يقول؟‬
‫أوليس "ابن زيدون" ناجى الورقاء على أغصان الشجرة وكأنها تفهم ما يختلج‬
‫بصدره وما يدور بخاطره؟!!‪1‬‬

‫‪87‬‬
‫ً‬
‫أطلق من صدره زفرة حارة‪ ..‬لقد غيرته السنون حتى جعلت منه شخصا‬
‫ً‬
‫على اللقاء وليس هناك أكثر لذة وأجمل وقعا في نفسه‬ ‫يناجي الجماد‪ ،‬ويتلهف ٍ‬
‫من أن يسبح معها في عالم ذكرياته‪ ..‬تلك الذكريات التي لم تتعد بضع ساعات‪.‬‬
‫استقل سيارته مرة أخرى ورأسه يصطخب باألفكار‪ ..‬هاهو أحمد يوشك‬
‫ً‬
‫أن يخطب ويتزوج‪ ..‬وهاهو قارب على الثالثين من عمره‪ ،‬وال يزال واقفا في مكانه‬
‫يستجدي القدراللقاء‪ ،‬ويطلب من الحياة أن تجود بها عليه مرة واحدة فقط‪،‬‬
‫وهو سيتكفل بالباقي‪ ..‬أجهده التفكير حتى أضحى مشتت الفكر‪ ،‬منهك الروح‪،‬‬
‫ولم يعد يع ي ما حوله حتى ذاك الطفل لم ينتبه لندائه‪.‬‬
‫طفل يحمل بين يديه كومة من علب املناديل في أحد إشارات الطريق‪.‬‬
‫وقرب مقر الشركة‪ ..‬انتهت مدة الانتظار‪ ،‬وانطلقت السيارة في طريقها‬
‫ً‬
‫سريعا‪ ..‬أما الطفل فما كان منه إال أن نزلت دمعة ساخنة على وجنتيه‪،‬‬
‫وتوقفت عند زاوية فمه‪ ..‬ابتلعها في مرارة وكأنه يزدرد خيبته معها‪ ،‬أو لعله‬
‫ً‬
‫يخش ى حدوث العجز‪ ،‬ومداهمة الفقرإن هو استخدم منديال من مناديله التي‬
‫يبعها‪ ،‬ولسان حاله‬
‫يقول‪:‬‬
‫"بائع الزهور أبعد ما يكون من السعادة‪ ..‬وطبيب ألاطفال عقيم‪ ..‬وبائع‬
‫العطر مصاب دائما بالزكام"‬
‫تمتم الصغير ودموعه تسبقه‪:‬‬
‫‪-‬هاهو أخو أروى تخلى عنا هو آلاخر‪ ..‬كانت عيناه مثبتة علي‪ ،‬لكنه لم‬
‫يجب على ندائي‪ ،‬وتوسلي له كي يفتح زجاج سيارته‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫‪-‬أبوك رجل حاد صارم هل سيوافق بزيجة كهذه؟!‬
‫‪َ -‬‬
‫لم ال؟‬
‫‪-‬إنني جد مندهش‪ ..‬من خالل تعاملي معه تأكدت أنه رجل يزن ألامور‬
‫بميزان دقيق‪.‬‬
‫‪-‬ما املشكلة نحن في القرن الحادي والعشرين؟‬
‫‪ -‬أعلم لكن طبيعة نشأتكم الشرقية‪ ،‬أعتقد أنها ال تفضل ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬طبيعتنا الشرقية‪ ..‬مالك أنت بها‪ ..‬أولست ال تقر العادات الشرقية في‬
‫ش ٍيء؟‬
‫‪ -‬ال إنها ال تخصني لكنها ميراثك أنت‪ ..‬مبادئك وتقاليدك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كفاك تشدقا بهذا الهراء أيها العنصري‪ ،‬ما الذي تريد قوله ؟‬
‫‪-‬أصدقك القول؟‬
‫‪-‬أجل‪.‬‬
‫‪-‬إنني ال أحبها‪.‬‬
‫فهم!‬
‫تسأل في عدم ٍ‬
‫‪َ -‬من تقصد؟!‬
‫‪-‬نسيم‪ ..‬وهل هناك غيرها؟‪.‬‬
‫ً‬
‫قال ضاحكا‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬وأنا ال أريد شيئا غير هذا‪.‬‬
‫دهشة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أجابه في‬
‫ً‬
‫‪-‬حقا‪ ..‬أهذا ال يثير حفيظتك ضدي؟‬
‫ً‬
‫‪-‬مطلقا‪ ..‬إنها تخصني دون كل رجال ألارض‪ ،‬ماذا يضير إن كرهها‬
‫أحدهم؟!‬
‫‪ -‬أوليس الامتالك وحب الاستبداد بشخصها تخلف؟!‬

‫‪89‬‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬بل أرقى درجات الرقي‪ ..‬إنها زوجتي أو ستصبح كذلك‪ ،‬ال يهمها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أصدقائي في ش ٍيء مهما كان صغيرا أو كبيرا‪ ..‬هي مسئوليتي‪ ..‬بضعة من قلبي‬
‫وقطعة من روحي‪ ..‬حبك لها أو كرهك ش يء عادي تافه ال يكاد أن يذكر فهو ال‬
‫يسمن وال يغني من جوع‪.‬‬
‫ً‬
‫وسخرية معا‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫حب‬
‫قال برونو في ٍ‬
‫ً‬
‫‪-‬سأقطع صلتي بك قريبا‪.‬‬
‫‪-‬وأنا في الانتظار‪.‬‬
‫‪ -‬صحيح ماذا عن أدهم‪ ..‬لقد أوحشني بشدة‪.‬‬
‫‪-‬يرسل لك تحياته ويقبلك‪.‬‬
‫‪-‬ملاذا لم تخبرني إذن؟‬
‫‪-‬لقد نسيت‪.‬‬
‫ً‬
‫قال مقهقها‪:‬‬
‫ً‬
‫لقد أصبحت سطحيا‪ ..‬تهيم على وجهك مثل الشعراء‪.‬‬
‫‪-‬وهل الشعراء سطحيون؟!‬
‫‪-‬ال يعنيهم من الدنيا ش يء سوى لقاء مع الحبيبة كي يصفوا حالوته مما‬
‫عانوا سعيرا وقسوة الهجران‪ ..‬أوليست هذه سطحية؟‬
‫‪ -‬تعجبني هذه السطحية‪ ..‬تركت العمق ألمثالك‪.‬‬
‫‪-‬ألم يتزوج أدهم بعد؟‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬لم يتزوج‪.‬‬
‫‪-‬أدهم على درجة كبيرة من الشبه بأبيك حاد‪ ،‬صارم‪ ،‬جاد‪ ،‬ال يعنيه ش ٌيء‬
‫ً‬
‫سوى العمل‪ ..‬وهذا النوع من الناس فريد يثيرإعجابي دائما‪ ..‬الرجل ال يليق به‬
‫ً‬
‫إال أن يكون عمليا يقدس علمه وعمله‪ ..‬أما الحب وصغائر ألامور هذه ال تليق‬
‫بالعقالء من الرجال‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫‪-‬ما قولك إذا أخبرتك أنه هو آلاخر يهيم على وجهه مثل الشعراء‪.‬‬
‫ً‬
‫فغر فاه مندهشا وقال في شبه ذهول‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أحقا ما تقول؟ّ!‬
‫ولم الكذب؟ إنني أشفق عليك من وقع املفاجأة‪.‬‬ ‫‪َ -‬‬
‫معد‪.‬‬
‫‪-‬يبدو أنه مرض ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬إذن ابتعد عني حتى ال أفيض عليك رقة وحنانا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬وهل تسمي الحب رقة وحنانا؟!‬
‫‪-‬أهناك تعريف آخر له؟‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬يمكن أن يكون وقاحة وسخافة‪ ..‬بالهة وسذاجة أو أشياء من هذا‬
‫القبيل‪ ،‬أنا ال أؤمن إال باألشياء املادية البحتة‪ ،‬أما أنت وأمثالك فال تؤمنون إال‬
‫بالخيال‪ ،‬وتعدون وراء سراب‪ ،‬تاركين وراءكم الواقع‪ ،‬تنضح قراءتكم على‬
‫أفكاركم فتبديها حلوة معسولة‪ ،‬ليست من الواقع في ش ٍيء‪ ،‬لكني أنصحك في‬
‫هذه الحياة يجب أن تتصرف بعقلك ال بقلبك وأن تتبع ما يفيد شخصك ال أن‬
‫تتبع هواك‪.‬‬
‫‪-‬هل أنت مؤمن بما تقول؟‬
‫‪-‬أشد إلايمان‪.‬‬
‫‪ -‬أنت أناني التفكير‪ ،‬مادي النزعة ‪.‬‬
‫‪ -‬وأفخر بذلك‪ ..‬وأقولها بملئ في أنا أفر من الحب‪ ..‬فرار السليم من‬
‫ألاجرب‪ ،‬فرار محب الحياة من الحرب‪.‬‬
‫‪-‬ال دين وال حب‪ ..‬أجزم أن قلبك خرب وروحك منهكة وجسدك ظمآن‪.‬‬
‫‪-‬ال‪ ..‬أنا أرضيه بشتى الطرق‪.‬‬
‫‪ -‬أوليست هذه حياة بهيمية؟‬
‫‪-‬لكنها ترضيني‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫‪-‬ما الذي يفصل بينك وبين الجمادات تأكل وتعمل وتنام‪ ..‬أما الروح فهي‬
‫عارية ال تعترف بوجودها‪ ،‬وال تعطيها حقها أو قدرها‪.‬‬
‫‪-‬وما هو قدرها‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان حق الجسد هو ألاكل والشرب‪ ...‬وحق العقل هو القراءة‬
‫والفكر‪ ..‬إذن فحق الروح هو العبادة والحب‪.‬‬
‫‪ -‬ما عالقة العبادة بالحب‪ ..‬أيهتم دينكم بهذه السفاسف من ألامور؟!‬
‫‪ -‬وهل تعتبرالحب من سفاسف ألامور؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬ديننا اهتم بعظائم ألامور كالحب فهو أساس ألاسرة املسلمة‪ ..‬أخبرتنا زوجة‬
‫ً‬
‫نبينا أنه كان يحبها‪ ،‬وكان لطيفا معها‪ ،‬كان يصلح ثوبه بنفسه‪ ،‬ويشوص نعله‬
‫بيديه‪ ،‬كي ال يرهقها‪ ..‬قال على املأل وأمام جميع أصحابه‪ :‬إني رزقت حبها‪..‬‬
‫وعندما آذاها املنافقون بقولهم قال‪ :‬ال تؤذوني في عائشة‪ ..‬كان يقدر غيرتها‬
‫وعندما ألقت بالطعام أمام أصحابه لم يزد على أن قال غارت أمكم‪ ..‬كان‬
‫يرسل إليها صويحباتها كي يلعبن معها وعنما يراهن يستترن منه فكان يخرج من‬
‫ً‬
‫واحد‪..‬وعندما وجدها‬ ‫ٍ‬ ‫املنزل‪ ..‬أخبرتنا أيضا أنه كان يغتسل معها في ٍ‬
‫إناء‬
‫اصطحبت معاها عرائسها في إحدى غزواته لم يعنفها بل سألها ماذا تفعلين‬
‫بهم ياعائشة قالت أركب على هذا الحصان وأطيريارسول هللا‪.‬‬
‫‪ -‬كان يضع رأسه في حجرها كأنه طفل صغير ال كأنه نبي مرسل من عند هللا‪ ،‬وال‬
‫كأنه خليفة إبراهيم وعيس ى وموس ى‪.‬‬

‫أخبرتنا أنهم ذات يوم خرجا إلى الصحراء فسابقها فلما سبقته لم يجد‬
‫ً‬
‫حرجا من أن تهزمه زوجته‪ ،‬وإنما قال بأريحية تامة هذه بتلك‪ ..‬وعندما سأله‬
‫ً‬
‫أحدهم من أحب الناس إليك لم يجد حرجا من أن يذكر اسم زوجته وعندما‬
‫قالوا من الرجال قال‪ :‬أبوها نسب ألاب إلى ابنته فلم يقل أبا بكر‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫لم يكن يحضر في بيته بجسده فقط أراد أن يخبرنا أن الحب والاهتمام‬
‫يجعل البيوت مستق رة دافئة‪ ..‬والتفاهم والتسامح يجعل البيوت جنة‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حتى نستطيع أن نخرج جيال سويا قادرا على التغير واملنح والعطاء وهذا بدوره‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يجعل من املجتمع شيئا محترما‪ ...‬حتى نستطيع أن نعمرألارض كما أراد هللا‪.‬‬
‫‪-‬وهل أراد هللا التعمير في ألارض؟‬
‫‪-‬نعم‪..‬وإال ملا شرع الزواج وجعله هللا نصف الدين‪.‬‬
‫‪-‬أنتم تستعبدون املرأة‪ ..‬هي عندكم عورة‪ ..‬ال تفكرون في ش ٍيء سوى‬
‫حجابها أو سترها‪ ..‬أهذه هي ألاسرة التي ستبني املجتمع وتعمر ألارض؟‬
‫ً‬
‫‪-‬أنت تناقض نفسك دائما‪ ،‬منذ لحظات كنت أقول لك إن الحب من‬
‫صميم الدين‪ ،‬وكنت تعتبره أنت من سفاسف ألامور‪ ..‬وآلان تخبرني أن املرأة في‬
‫ديني مظلومة مستبد بحقوقها‪ ..‬أنت ال يرضيك ش يء‪ ..‬أخش ى أن تظل هكذا‪..‬‬
‫تعيش هكذا وتموت هكذا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ال تخش شيئا أيها البخيل‪ ..‬أين الكتاب الذي ستهدينه؟‪.‬‬
‫ً‬
‫قال ضاحكا‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬نسيت أمره‪ ..‬فأنا ال أفعل شيئا سوى أن أهيم على وجهي مثل الشعراء‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كن جادا‪.‬‬
‫‪ -‬الكتاب في طريقه إليك‪ ..‬لكن ال تحنث بوعدك الذي وعدتنيه‪.‬‬
‫‪-‬أي وعد؟‬
‫‪-‬أراك نسيته؟‬
‫‪ -‬ال أمزح وللمرة الثانية أعدك إذا وجدت الحق لن أنكره‪ ..‬لكن برأيك هل‬
‫ً‬
‫أنا أكثر علما من غاندي وماركيز وقد يتضح لي ما خفي عليهم؟!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬قد ال تكون أكثرعلما‪ ..‬لكنك قد تكون أوفر حظا ويهديك هللا بتوفيقه‬
‫إلى ما حرمهما منه رغم علمها‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫( ‪)7‬‬
‫كارثة وطن‬

‫ألاوضاع غير مستقرة‪ ..‬وألامن غير مستتب‪ ..‬والسجون مليئة باألبرياء‪..‬‬


‫سريع تحت خط الفقر‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫انحدار‬
‫ٍ‬ ‫وألاسعار في ازدياد‪ ..‬والشعب يتهاوى في‬
‫والبطالة مرض فتاك منتشر بين خريجي الجامعات‪ ،‬واملستشفيات مليئة‬
‫ً‬
‫باملرض ى دون أسرة‪ ..‬إلارهاب يفتك فتكا بالجنود على الحدود‪.‬‬
‫ً‬
‫وتخرج علينا القيادة قائلة‪ :‬إنها تتلقى هذه الطلقات في صدورها بدال من‬
‫مفتوحة سوى أبناء‬
‫ٍ‬ ‫بصدور‬
‫ٍ‬ ‫الشعب‪ ،‬والحقيقة أنه ال يتلقى هذه الطلقات‬
‫الشعب الطيبين الذي فعل به حكامه أكثرمما فعل به الاستعمار‪ ..‬رغيف الخبز‬
‫أصبح مطلب ثوري‪ ..‬والحرية أصبحت رفاهية‪ ..‬والعدالة أصبحت أمنية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شعب يفتك به الجهل فتكا حتى أضحى شعبا هزيال‪ ،‬ينخر فيه سوس‬
‫املرض تحت وطأة البلهارسيا‪ ،‬وماء الترع‪ ،‬والخبز الذي يحوي التراب‪ ،‬والطوب‬
‫أكثر من الدقيق‪ ..‬أوليس هذا باحتالل؟!‬
‫حاشا هلل‪ ..‬إنه أسوأ‪..‬‬
‫أما عن إلاعالم فحدث وال حرج‪ ..‬النارمشتعلة‪ ،‬ورائحة املوت تحاصركل‬
‫مكان‪ ،‬والظلم يسيطرعلى مؤسسات الدولة حتى التأم بها التئام الجزء بالكل‪..‬‬
‫ومع ذلك يخرج علينا إلاعالم ليؤكد لنا أن ألامن مستتب‪ ،‬وألاوضاع مستقرة‪،‬‬
‫والعدل منتشر‪ ..‬وأشهر بسيطة فقط حتى تصبح مصر من أفضل بلدان‬
‫العالم‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫وإذا سألت أبناء الشعب عن أسمى أمانيهم سيجيبونك ال نريد أن نصبح‬
‫أفضل بلدان العالم‪.‬‬
‫فقط نريد مأوى ألطفال الشوارع‪ ..‬نريد أسرة للمرض ى في املستشفيات‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫نريد ً‬
‫داوء متوفرا‪ ..‬نريد طعاما للفقراء‪ ،‬ومقاعد ألطفالنا في املدارس‪ ..‬أما ما‬
‫عدا ذلك فهو ترف ال قبل لنا به‪ ..‬حتى إن وجد فنحن ال نستسيغه‪ ..‬نحن تعودنا‬
‫على شظف العيش وإلاخشيشان‪ ..‬صادقنا أشعة الشمس املحرقة وألارض‬
‫امللتهبة‪ ..‬أحببنا خشونة أيدينا‪ ،‬وتشقق أرجلنا‪ ..‬نشعر أن حياتنا هكذا لها‬
‫ً‬
‫معنى وأننا نفعل شيئا ذا قيمة‪.‬‬
‫ً‬
‫أما ألاغنياء الذين ال يفعلون شيئا سوى تعلم آخر رقصة‪ ،‬وسماع آخر‬
‫مقطوعة موسيقية‪ ،‬والواقع أن املال يجعل أصحابه على قدر كبير من‬
‫السخف والتفاهة‪.‬‬
‫تثير اشمئزازهم اللغة العربية‪ ..‬ويكرهون الشعب‪ ،‬وال يتورعون عن‬
‫اعتباره شعب فقير بدائي متخلف‪ ،‬وإذا سألت أحدهم ما رأيك باملصريين؟‪،‬‬
‫ً‬
‫يجيبك منكرا‪ ،‬وكأنه أحد جهابزة زمانه‪ ...‬شعب جاهل‪..‬ال يفلح في ش يء أمامه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قرون حتى يصبح شعبا متمدينا‪ ،‬ولو تفكرت أنت في ألامر لوجدت هذه هي‬
‫الكارثة والطامة الكبرى‪.‬‬
‫الكارثة ليست في املرض وانعدام الدواء‪ ..‬وال في الجهل وتدني التعليم‪..‬‬
‫الكارثة ليست في أطفال الشوارع‪ ،‬وال في الخبز املختلط باالحص ى والطوب‪.‬‬
‫الكارثة أن يتفوه أبناء ألاغنياء وأبناء الفئة الحاكمة بمثل هذه ألاقاويل‪...‬‬
‫الكارثة أن يدفع القدر الغشوم هؤالء لتولي مناصب الدولة‪ ..‬الكارثة أن يصبح‬
‫هؤالء أصحاب الفكرالعفن مسئولين عن مصيرهذه ألامة‪ ..‬أما الطامة الكبرى‬
‫تتمثل في إلاعالم الذي يحاول أن يقنع الشعب أن هؤالء الشباب من ذوي الجاه‬
‫والسلطان وألابهة الذين ال يجيدون العربية مثل إيجادتهم لإلنجليزية‬

‫‪95‬‬
‫والفرنسية‪ ..‬الذين يترفعون عن سماع قصيدة لشوقي ويخجلون من القراءة‬
‫للمنفلوطي أو الرافعي وال يوجد عندهم مصري واحد يمكن أن ينزلونه نفس‬
‫املكانة التي احتلها في أنفسهم شكسبير أو دوستويفسكي‪.‬‬
‫تجدهم يقنعونك أن هؤالء املخنثين من أبناء الكبراء وألاغنياء ستبني بهم‬
‫مصر مجدها‪ ..‬وتصنع حضارتها‪ ..‬وتقيم سؤددها‪ ..‬هؤالء الذين تثير أعصابهم‬
‫اللغة العربية وال يعرفون من الدنيا سوى آخرماركة‪ ،‬وآخرأكلة فرنسية‪ ،‬وآخر‬
‫موضة لقصات الشعر‪ ..‬هؤالء يتحدثون عن الشعب املصري وكأنهم ليسوا‬
‫منه‪ ،‬ويترفعون عن عادتنا وتقاليدنا وكأنها سبة أو معرة‪ ،‬ليس لش ٍيء سوى أنهم‬
‫من أبناء الطبقة العليا وإن شئت فقل الطبقة السفلى الرقيعة املدللة‪ ..‬هؤالء‬
‫الذين ال يثقون باالتعليم املحلي فلجأوا إلى تعليم أبنائهم في مدارس أجنبية منذ‬
‫نعومة أظفارهم‪.‬‬
‫فتحول فكرهم وتغيرت أذواقهم وتلوثت سريرتهم‪ ..‬فترفعوا عن أمتهم‬
‫وكرهوا شعبهم‪ ..‬ال يتفاخرون بش ٍيء كتفاخرهم باملدارس ألاجنبية واملربيات‬
‫ألاجنبيات‪ ..‬ويرون أن الطابع املصري طابع مشوه وفاسد ال يوجد به ما يدعو‬
‫للتفاخر إال هذه املقابر وتلك املوميات‪ ..‬هؤالء هم وزراء اليوم ورؤساء‬
‫املستقبل‪ ...‬هؤالء هم املسئولون عن التعليم والصحة والزراعة‪...‬هؤالء هم‬
‫القضاة الذين يصدرون إعدامات بالجملة وكأنهم بها يتخلصون من الشعب‬
‫البائد املتخلف الذي اليستحق الحياة‪ ..‬هؤالء يسيرون على خطى هتلر‪ ،‬غير‬
‫ً‬
‫أن هتلر كان محاربا بشرف‪ ،‬يعادي في قوة ومنعة‪ ،‬كان يتخلص من أصحاب‬
‫السادية والنفوذ والتكبر والغطرسة‪ ،‬أما هؤالء ال يقتلون غير الفقراء‬
‫لم ال وهم وباء يجب التخلص منه حتى ال ينقل العدوى‬ ‫والبسطاء واملرض ى‪َ ،‬‬
‫لم ال وهم يخشون من الشعب‪ ،‬ويفرون منه فرارهم من املوت بغية‬ ‫لهم؟‪َ ...‬‬
‫الحفاظ على مناصبهم‪ ،‬وخشية أن تقوم ضدهم ثورة أخرى فتردهم عن غيهم؟‬

‫‪96‬‬
‫ً‬
‫أحد هؤالء كان يجلس أمامها وعيناه تشعان غضبا‪ ...‬ظل يرمقها بنظراته‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شذرا قبل أن يتحرك لسانه قائال‪-:‬‬
‫إليك؟‬
‫قولك فيما نسب ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬للمرة الثانية‪ ...‬ما‬
‫‪--‬كذب وافتراء‪.‬‬
‫لكنك مذنبة؟‬‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬إذا كنت كذلك ملاذا تحقق معي إذن؟‬
‫نفسك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أمنحك فرصة للدفاع عن‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫وهل يكون الدفاع بعد أن صدر الحكم بأنني مذنبة؟ ألم يعلموك في‬
‫دراستك أن املتهم بريء حتى تثبت إدانته؟‬
‫‪-‬لسنا في محاضرة قانون هنا‪ ...‬ثم َمن أنتي حتى تتكلمي عن القانون في‬
‫وجودي؟‬
‫ً‬
‫‪-‬وهل كان القانون حكرا على دراسيه الذين ال يجيدون استخدامه؟‬
‫ً‬
‫إعدامك قريبا؟‬
‫ِ‬ ‫عندك أية أقوال‪ ،‬سيصدر حكم‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أليست‬
‫‪ -‬متي كان للشاه أن تناقش قصابها‪ ..‬وللمحكوم عليه باإلعدام أن يجادل‬
‫جالده؟‬
‫مرارة ثم سكتت كي تستمع إلي‬ ‫ٍ‬ ‫هزت كتفها في سخرية وابتسمت في‬
‫الصراخ املنبعث من الغرفة املجاورة‪ ..‬هي تعلم بمثل هذه ألاشياء لكنها لم‬
‫ً‬
‫تتوقع أن تعيشها يوما‪ ..‬نظرت إليه في رعب‪ ..‬بادرها بابتسامته البغيضة وكأنه‬
‫شامت بها‪ ،‬وينبهها أن في الحجرة املجاورة مكان خاص لها‪ ...‬رفعت بصرها إلى‬
‫السماء ت ستلهما الرحمة وتسألها الصبر والسلوان‪.‬‬
‫وضع قدم على قدم ثم أشعل سيجارة‪ ،‬وظل ينفث دخانه في وجهها في‬
‫أغوارسحيقة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫متجمد وكأنه يخرج من‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫هدوء مقيت‪ ،‬ثم قال‬ ‫ٍ‬
‫أنت مستعدة للمغادرة إلى الغرفة املجاورة؟‬ ‫‪-‬هل ِ‬

‫‪97‬‬
‫باغتها بالسؤال فجأة‪ ،‬لم يستطع عقلها املشتت أن يستوعب ما الذي‬
‫يحصل بالغرفة املجاورة‪ ...‬لكنه بال شك أسوأ أنواع العذاب‪ ،‬وإال ملا صرخت‬
‫الفتيات بهذا الشكل الهستيري املكلوم ‪ ...‬قالت والدموع متجمعة في مقلتيها‪:‬‬
‫ً‬
‫أنظمة‬
‫ِ‬ ‫السياسة‪ ،‬أو‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أقسم لك لم أفعل شيئا‪ ،‬وال يعنيني أي ش ٍيء عن‬
‫الحكم‪ ..‬أنا العائل الوحيد ألمي وأبي‪ ،‬وأكدح في سبيل لقمة العيش‪ ،‬وشربة‬
‫املاء‪.‬‬
‫أخيك؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬وماذا عن‬
‫رفعت نظرها إليه في ذهول‪ ..‬كيف لم تفكر في هذا من قبل؟‪ ..‬من املمكن‬
‫ً‬
‫أن يكون قبض عليه أيضا قبل هجرته باعتباره مهاجر غير شرعي‪.‬‬
‫عنف وكأنها تنفض منها هذه ألافكار املقيتة‪...‬والتخيالت‬ ‫هزت رأسها في ٍ‬
‫محاولة منها ملواساة نفسها رددت بداخلها أن من املستحيل أن‬ ‫ٍ‬ ‫البائسة‪ ،‬وفي‬
‫ذنب اقترفه‪ ..‬فقط‬ ‫يقبض عليه ويزج به داخل السجون من دون ٍ‬
‫إثم ارتكبه‪ ،‬أو ٍ‬
‫مسافر من أجل العمل‪ ..‬والسفر من أجل العمل ليس جريمة يعاقب عليها‬
‫القانون‪.‬‬
‫وهن‪:‬‬
‫لكن عقلها املنهك تساءل في ٍ‬
‫وهل القانون ال يعاقب إال مرتكبي الجرائم فقط؟!‬
‫ألم تعاقب هي على الالش يء؟‪ ..‬ألم توضع أشهر في السجن دون أن تدري‬
‫آت من الغرفة املجاورة‪،‬‬ ‫ماذا فعلت؟‪ ..‬وللمرة الثانية تنتبه على صراخ ٍ‬
‫ً‬
‫ليبادرها املحقق قائال‪:‬‬
‫علك انتهيت من تلخيص ما كنت تجهزين قوله لدفع‬ ‫‪-‬في ماذا تفكرين؟‪ِ ..‬‬
‫نفسك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫التهمة عن‬
‫‪ -‬لست متهمة حتى أدافع عن نفس ي‪ ..‬أنا أقنعك ببراءتي التي تأبى الاعتراف‬
‫بها‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫َمن الذي قتل النائب العام؟‬
‫نظرت إليه في ذهول مرددة‪:‬‬
‫‪ -‬النائب العام!! هل تمزح مالي أنا وللنائب العام؟!!!!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دعك من لعب دور الضحية التي زج بها إلي السجن ظلما وزورا‪ ..‬فهذا‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ومن الذي‬ ‫الدور ال يليق بأمثالك من املجرمين َمن الذي يمولكم ويدعمكم؟ َ‬
‫ِ‬
‫أمركم بالتخريب والقتل؟‬
‫‪ -‬ملاذا تتكلم بصفة الجمع‪ ،‬أنا ال أنتمي إلى أحد‪ ،‬ولم أقتل أو أخرب‪ ..‬ثم‬
‫ما هذه التهمة الجديدة التي تنسبها إلي عندما حققت معي أمس لم تحادثني‬
‫بشأن النائب العام؟‪ ..‬فما الذي جد في ألامور؟!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بك‬
‫أمورك تعقيدا وسوء ويخطو ِ‬ ‫ِ‬ ‫يمرعليك هنا دون اعتراف يزيد‬
‫ِ‬ ‫‪-‬كل يوم‬
‫نحو الهاوية‪.‬‬
‫قالت في شبه صدمة‪:‬‬
‫ً‬
‫وماذا إن صممت على البراءة‪ ..‬هل من شأن هذا أن تتهمني غدا بمقتل‬
‫رئيس الجمهورية؟!!‬
‫ً‬
‫انتفض واقفا ثم أمسكها من عقصة شعرها‪ ،‬وقال وهو يضغط على‬
‫ً‬
‫أسنانه حتى كادت أن تسمع ألسنانه صريرا‪:‬‬
‫‪-‬وهذا ما تخططون إليه مقتل رئيس الجمهورية‪ ..‬هي خطوتكم القادمة‬
‫إذن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رفع الالسلكي محادثا أحد رؤسائه ومنذرا له‪ ،‬وطالبا منه تكثيف حراسة‬
‫ً‬
‫قصد عن خطوتهم القادمة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫رئيس الجمهورية‪ ،‬فاملتهمة اعترفت سهوا وبدون‬
‫ً‬ ‫أال وهي اغتيال الرئيس‪ ..‬وبما أن ألامور تزداد ً‬
‫سوء وتعقيدا‪ ..‬فهذا السجن غير‬
‫خطيرة مثلها لها عالقة بمقتل النائب العام‪ ،‬والتخطيط ملقتل‬ ‫ٍ‬ ‫بمجرمة‬
‫ٍ‬ ‫الئق‬
‫ٍ‬
‫رئيس الجمهورية‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫عنيف على أم رأسها‪ ،‬ولم تستفق إال‬ ‫ٍ‬ ‫ظنت أن ألارض تميد بها‪ ،‬وبطرق‬
‫ً‬
‫وهى تجد نفسها ألول مرة منذ أكثر من ثالثة أشهر ترى أخيرا ضوء الشمس‬
‫وتتنفس هواء الشارع‪..‬‬
‫ألول مرة تشعرأن للهواء النقي لذة‪ ،‬وكأنه يختلف كل الاختالف عن هواء‬
‫الزنازين العفن‪ ..‬هذا الهواء املعبق برائحة الظلم والحشرات‪ ..‬ذلك الهواء‬
‫الذي يضيق الصدرعند دخوله وكأنه يساعد على الاختناق ال على الحياة‪.‬‬
‫ً‬
‫ترى هل اقتنعوا أخيرا ببراءتها؟ وستتجه من فورها إلى بيتها لكم اشتاقتهم‬
‫ً‬
‫كثيرا‪ ..‬لكم اشتاقت ألمها تلك املرأة الصبورة التي رأت من الحياة ما رأت وال‬
‫سخط‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫زالت تقاوم وهي تبتسم دون ٍ‬
‫تبرم أو‬
‫لكم اشتاقت إلى والدها‪ ..‬إلى تلك السكينة التى تشع من وجهه‪ ،‬إلى تلك‬
‫البسمة الحلوة التى تنير لها حياتها‪ ،‬إلى الصوت الرخيم‪ ،‬والبسمات الهادئة‬
‫الوديعة‪ ..‬لكم اشتاقت إلى أخيها ألاصغر ذاك الشقي املشاكس الذى ال يعلم‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫من الدنيا شيئا سوى التدليل واملشاكسة‪ ،‬ترى هل مازال كذلك عربيدا ال يهدأ‬
‫وال يرتاح حتى يلعب الكرة؟‪ ،‬أو يتابع مسلسالت ألاطفال‪ ..‬أم ترى أن الشقاء‬
‫ً‬
‫الذى أحل بهم فاض عليه هو آلاخر حتى لم يغادر منهم أحدا‪.‬‬
‫ً‬
‫كم اشتاقت إياد وتمنت قربه‪ ..‬وكم اشتاقت إلى حضنه ورجولته‪ ..‬دائما‬
‫كانت تشعرأنها تستمد منه قوتها وحمايتها‪ ،‬ما الذي أبعده وهم في أشد الحاجة‬
‫إليه؟‪ ..‬هل يا ترى مازال يعاني الشقاء؟ أم فتحت له الدنيا أبوابها حتي أنسته‬
‫أهله؟‪ ..‬هل يا ترى هو أحد املساجين هنا أم أحد ألاطباء بالخارج؟‬
‫ً‬
‫شعرت بيد أحدهم تدفعها إلى ألامام قائال بصوت أجش‪:‬‬
‫‪ -‬أيها املتهمة اتجهي أمامي إلى الخارج‪ ..‬لوهلة أبهرتها أضواء الشمس‪..‬‬
‫واضح وكأنها ال تستسيغ ضوء الشمس‪ ،‬فمن اعتاد‬ ‫ٍ‬ ‫تأذ‬
‫أغمضت عينيها في ٍ‬
‫الظالم أزعجه النور ومن اعتاد على الظلم استنكر العدل والحرية‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫( ‪)8‬‬
‫مل‬
‫مل وح ٍ‬
‫بي ح ٍ‬

‫‪ -‬ملاذا تأخرت اليوم يابني أمك قلقة عليك‪.‬‬


‫‪-‬لقد حل الصيف والحرارة انتشرت في الجو وكل العربات بحاجة إلى‬
‫املناديل‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ال تجهد نفسك في العمل يا بني‪ ..‬ما زلت صغيرا‪.‬‬
‫‪-‬ومن أين الدواء والطعام؟‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪ -‬لنا هللا يا بني‪ ..‬هللا ال ينس ى عبيده حتى الطيرتغدو خماصا وتعود بطانا‪..‬‬
‫قم واسترح يا حبيبي ال حرمني هللا منك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬لكني أريد أن أخبرك أمرا‪.‬‬
‫‪-‬ما هو؟‬
‫‪-‬لقد رأيت أخا أروى اليوم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ظهرت اللهفة علي وجه أبيه‪ ،‬وقال مرددا في عصبية أخو أروى‪ ..‬وماذا‬
‫قلت له‪ ،‬ألم تسأله عن عائشة أو حتى أروى؟‪ ..‬البد أنه في طريقه إلينا ليمدنا‬
‫بأخبارعن عائشة‪ ،‬تكلم يا بني ملاذا أنت صامت؟‬
‫ً‬
‫كان الشيخ متلهفا‪ ،‬ويظهر في مالمحه خليط من ألامل والتمني والرجاء‪.‬‬
‫أما عن الطفل‪ ،‬وإن شئت فقل عن الرجل‪ ،‬عندما رأى أباه بهذا الحال‬
‫خش ي إن هو أخبره بما حدث فقد ألامل الوحيد الذي عاش عليه أشهره‬
‫املاضية‪ ..‬خش ي أن يكسر قلبه‪ ،‬أو أن يقطع خيط الرجاء بقوله هذا‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ً‬
‫تلعثم وازدرد ريقه وكأنه يزدرد مرارته معه قائال‪:‬‬
‫وأصبت بنفس اللهفة التي أصابتك‪ ..‬لكنني عندما عدوت خلف سيارته‬
‫ً‬
‫وجدت شخصا آخر يشبهه‬
‫ضيق‪:‬‬
‫رد الشيخ في ٍ‬
‫ماذا؟‪ ..‬ألم تقل أنك رأيته‪.‬‬
‫‪-‬أسف يبدو أن النوم اتخذ مسكنه بين جفني حتى ما عدت أميز ما أقول‪.‬‬
‫‪ -‬قم واسترح غفر هللا لك ما فعلته بقلبي يا بني‪.‬‬
‫نام الصبي ذاك النوم املتقطع‪ ..‬جمعيكم تعرفونه‪ ،‬نوم البؤساء من‬
‫ً‬
‫الناس‪..‬رأى الطفل خالل نومه أحالما سيئة ال تختلف عن واقعه في ش يء‪،‬‬
‫ً‬
‫فكالهما كابوس بل إن أحالمه أقل وطئا من واقعه‪ ،‬وأهون قسوة من حياته‪.‬‬
‫رأي نفسه والثعابين تحيط بعنقه‪ ..‬وجسد أمه مسجى في زاوية الغرفة‪..‬‬
‫وأباه يفقأ عينيه بيديه‪ ،‬ثم يلقيها في ال مباالة خلف ظهره‪ ،‬وكأنه ما عاد بحاجة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هدوء ثم أطلق‬
‫ٍ‬ ‫إلى هذه العينين‪ ..‬رأى إياد واقفا جامدا يتابع كل ما حدث في‬
‫علي نفسه الرصاص‪ ..‬رأى أخا أروى ينظرإلى كل ما حدث في وداعة واسترخاء‪،‬‬
‫ً‬
‫وكأنه يشاهد أحد ألافالم الهزلية ‪ ،‬ثم يرتفع محلقا إلى السماء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأخيرا أفاق من نومه مجهدا فزعا‪ ،‬وكأنه كان في معركة‪.‬‬
‫هذه أحالم طفل لم يتجاوز املرحلة الابتدائية‪ ..‬هذا هو الوطن الذي‬
‫يقسو على جميع شعبه حتى أطفاله لم يسلموا من قسوته‪ ،‬حتى شاخ الطفل‬
‫وكهل الشاب‪.‬‬
‫‪-‬أما هذا الشيخ البائس فلم ينم ليلته ظل ألارق صاحبه منذ اختفائها‪..‬‬
‫هل أنساها املال والعمل أبيها وأمها هي ألاخرى؟‪ ،‬أم تراها انحرفت إلى الهاوية‬
‫مثل بعض فتيات جيلها؟‪ ..‬أم أغواها أحدهم فتخلت عن أعظم ما يمكن أن‬
‫تملكه فتاة؟ ومن ثم ال قبل لها بالعودة إلى أهلها‪ ..‬ترى هل خطفت؟!‬

‫‪102‬‬
‫استنكار‪ ،‬وكأنه يرفض هذه الفكرة ليس لش ٍيء سوى أنها‬ ‫ٍ‬ ‫هز رأسه في‬
‫أقربهم إلى الحقيقة‪ ،‬هو يثق في أخالقها وفي تربيته‪ ..‬أقرب ألامور إلى الصواب‬
‫هو أن هناك حائل حال بينها وبين العودة‪ ،‬لعله الخطف كما فكر فمصر هي‬
‫البلد الثالث على مستوى العالم في تجارة ألاعضاء البشرية!‬
‫لعل أحدهم يبصر بعينها‪ ،‬ويعيش بقلبها ويتنفس برئتيها‪.‬‬
‫ً‬
‫لعلها قتلت في حادث سير‪ ،‬أو مثله فواروها التراب خوفا من املسائلة‬
‫القانونية‪ ..‬هذا عن عائشة ‪،‬فماذا عن إياد؟ إلى متى سيظل هكذا؟‪ ..‬متى ينتهي‬
‫هذا العذاب؟‪ ..‬هو لم يعد يحتمل‪ ..‬أعصابه مرتعشة مجهدة‪ ..‬هده العمر‬
‫والزمن واملرض‪ ..‬لم يعد به طاقة ملجابهة هذه ألامور‪.‬‬
‫ً‬
‫هو ليس ساخطا على قضاء هللا وقدره‪ ..‬لكن الغياب طال‪ ،‬والغمة‬
‫واحدة‪َ ..‬من في مثل هذا العمر آلان ينعمون بدفء‬ ‫ٍ‬ ‫اشتدت دون بارقة ٍ‬
‫أمل‬
‫العائلة‪ ،‬وهدوء الاستقرار‪ ،‬وسند ألابناء‪ ،‬وحنان البنات؟‪ ..‬يجنون ثمار ما‬
‫زرعوا في أبنائهم‪ ..‬أما هو زرع وسقى لكن زرعته شلت قبل موسم الحصاد‬
‫بأيام‪ ..‬لم يعد له سند سوى هذا الطفل‪ ،‬أيمكن أن يصيبه ما أصاب إخوته؟‬
‫أليست هذه هي العادة؟‪ ..‬فقد كل ش ٍيء‪ ..‬الصحبة‪ ،‬والعمر‪ ،‬وألابناء‬
‫ً‬
‫وزوجته على وشك أن يفقدها هي ألاخرى‪ ..‬ستموت حسرة وكمدا على أبنائها‪..‬‬
‫ً‬
‫نزلت دمعة من عينيه البيضاء‪ ..‬أخيرا رفقت به دموعه‪ ..‬أشفقت عليه من كل‬
‫هذا الصمود‪ ،‬والوقوف في وجه الحياة‪ ..‬أشفقت عليه حتى سالت على‬
‫وجنتيه‪ ،‬وكأنها تنبأه بضعفه‪ ،‬تنبأه بكهولته‪ ،‬تنبأه أنه هو آلاخرعلى شفا‬
‫الهاوية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هو الذي وقف في وجه الحياة متحديا الفقروالفاقة‪ ،‬متحديا الظروف‪،‬‬
‫كلما كشرت الدنيا عن أنيابها كشر هو آلاخر عن إيمانه باهلل وثقته فيه‪ ،‬وكلما‬
‫ً‬
‫ضحكت منه ساخرة والها ظهره هو آلاخر ساخرا‪ ،‬وكأنها ال تعنيه وكأن ضرباتها‬

‫‪103‬‬
‫ً‬
‫لم تصبه‪ ..‬أخيرا سقطت دموعه ورفع معها راية استسالمه ‪..‬هو لن ييأس من‬
‫رحمة هللا‪ ،‬لكنه على ألاقل لن يتمنى عودة أي منهما‪.‬‬
‫ألاماني ُمرة إذا ما أبت أن تتحقق‪ ..‬وألاحالم سخيفة سيئة إذا ما كان‬
‫هناك سبيل إليها‪ ..‬والطموحات بعيدة متعالية إذا ما أردناها بصدق‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫استيقظ الطفل من نومه حامال هم لقمة العيش‪ ..‬حامال هم الدواء‪..‬‬
‫ً‬
‫حامال هم إيجارغرفة السطح‪ ،‬هموم تضيق لها صدور الرجال فكيف بطفل‬
‫مثله؟!!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اتجه إلى الشارع مغادرا‪ ..‬كان الجو صباحا‪ ،‬والطرقات يفترشها الندى‬
‫والدنيا ضاحكة باسمة ألاطفال تمتلئ بهم الشوارع والطرقات في هذا الوقت‬
‫من الصباح‪ ..‬أطفال في مثل سنه‪ ،‬وفي مثل طوله وحجمه‪ ..‬تشابهت أعمارهم‬
‫وأجسادهم‪ ،‬لكن اختلفت مصائرهم‪ ،‬هو يحمل هم الدنيا على كتفيه‪ ،‬أما هم‬
‫فال يحملون إال حقائبهم املدرسية‪.‬‬
‫وترقب‬
‫ٍ‬ ‫يتضاحكون ويتالعبون وتتعالى أصواتهم‪ ..‬ظل ينظرإليهم في ٍ‬
‫تمن‬
‫حتى انتبه وهم يشيرون إليه‪ ،‬وهم يتغامزون‪ ،‬ويتضاحكون على مالبسه‪،‬‬
‫وجلد‪ ،‬واستدار ليخفي دمعه أوشكت‬ ‫صبر ٍ‬‫ويلقبونه بالشحاذ‪ ..‬تجرع مرارته في ٍ‬
‫أن تسقط من عينه‪ ..‬لم يشفق عليه أحد سوى ذاك الطفل الذي عندما رآه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أتاه مهروال‪ ،‬وابتسامته تملئ وجهه ثم ناداه قائال‪:‬‬
‫‪-‬دمحم هل تذكرني؟‬
‫‪-‬عبدالرحمن كيف حالك؟‬
‫‪ -‬أنا بخير ماذا تفعل وما هذه الحقائب؟‬
‫‪ -‬أبيع املناديل‪ ،‬حتى أستطيع أن أحصل على ثمن الطعام والدواء‪.‬‬
‫‪-‬وأين أبوك؟‬
‫أبي مريض‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫لقد سألت عنك في مدرستنا القديمة قالوا أنكم انتقلتم من شقتكم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أجل‪ ،‬أنا أسكن قريبا من هنا‪.‬‬
‫جديدة‪ ..‬تعال أريك مدرستي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫شقة‬
‫‪-‬ونحن كذلك انتقلنا إلى ٍ‬
‫‪-‬ال عندي عمل‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ال تخش شيئا‪ ،‬إنها قريبة من هنا‪ ،‬ومدرسوها طيبون ليسوا كمدرس ي‬
‫املدرسة القديمة‪ ..‬أتصدق أنهم يعطوننا البسكويت املحش ي بالبلح دون‬
‫م قابل؟ وال يضربوننا‪ ،‬أو يعاقبوننا حين نغيب‪ ،‬فقط يخبرون أمي كي تفعل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الالزم وهي دائما ال تفعل شيئا‪.‬‬
‫لم تلتقط أذنيه سوى الجزء الخاص بالبسكويت‪ ..‬سأله في ٍ‬
‫تلهف‪:‬‬
‫‪-‬وهل البسكويت طعمه لذيذ؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬أنا أكله كله دون أن أترك ألختي الصغيرة منه شيئا‪.‬‬
‫ابتلع ريقه الذي سال أثناء الحديث عن البسكويت ثم بادره عبدالرحمن‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫ما رأيك أن تنتظرني هنا حتى أنتهي من املدرسة وأريك إياه ثم نتقاسمه‬
‫ً‬
‫سويا‬
‫تهلل وجه دمحم ثم سأله في شك‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬حقا؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪-‬وماذا عن العمل؟‬
‫‪-‬هل أبوك رجل طيب؟‬
‫‪-‬نعم‬
‫إذن لن يضربك‪ ..‬قل له أي ش ٍيء‪ ..‬ملاذا سكت؟ هل ستنتظر هنا؟‬
‫‪-‬سأنتظرك لكن ال تتأخرعلي‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫ً‬
‫روح الطفل الزالت بداخله‪ ..‬حبه للحلوى‪ ،‬الزال نابضا فيه بقوة تحمل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هموما تنوء تحتها الجبال‪ ..‬رأى أهوالا تشيب لها رؤوس الولدان‪ ،‬رغم كل هذا‬
‫غلبته طبيعته‪ ..‬هو طفل مهما اصطبغت حياته بألوان العذاب‪ ..‬مهما تحمل‬
‫من قسوة الحياة وشظف العيش‪ ..‬مهما أحرقه سعير الفقر‪ ..‬إال أن الطبيعة‬
‫ً‬
‫انتصرت أخيرا واعترفت بطفولته‪.‬‬
‫ً‬
‫وترقب‪ ..‬علبة من البسكويت ينزع أوراقها ويتناولها في‬
‫ٍ‬ ‫تمن‬
‫ظل جالسا في ٍ‬
‫ُ‬
‫لهفة وحرمان كلها‪ ،‬أجل كلها لن يترك لعبدالرحمن شيئا منها‪ ،‬أفاق من شروده‬
‫على صوت صاحبه يناديه‪:‬‬
‫‪-‬دمحم أال زلت هنا؟‬
‫‪-‬بلى‪ ..‬أنتظرك‪.‬‬
‫‪ -‬هيا نجلس في هذا الشارع الهادئ‪ ،‬ثم أشار إلى شارع جانبي ‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أرني البسكويت أوال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬معي في حقيبتي ال تقلق‪ ..‬كل يوم أكله صباحا‪ ،‬أما اليوم تركته خصيصا‬
‫من أجل أن أتقاسمه معك ذهبا إلى الشارع‪ ،‬مرت الثواني على دمحم وكأنها‬
‫أعوام‪ ،‬وضع صاح به حقيبته كي يجلس عليها بعدما أخرج منها البسكويت‪ ،‬أما‬
‫ً‬
‫دمحم فقد جلس على ألارض دون أن يفترش شيئا‪ ،‬فقد كانت مالبسه هي وألارض‬
‫سواء‪ ..‬لم يكن يعنيه ش يء سوى جنة الدنيا التي بين يدي صاحبه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فتح عبدالرحمن البسكويت ودمحم ينظر إليه وكأنه يفتح كنزا‪ ..‬وأخيرا‬
‫واحدة‪ ..‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫قضمة‬
‫ٍ‬ ‫تقاسماه‪ ..‬وضع دمحم الجزء الخاص به في فمه وأكله فى‬
‫نظرإلى الجزء الخاص بعبدالرحمن والذي الزال بين يديه‪ ،‬رق له قلب صاحبه!!‬
‫ً‬
‫مازال طفال لم يعرف من الحياة إال حلوها‪ ،‬ومن الصداقة إال أنبلها‪ ،‬ومن‬
‫الحب إال أوفاه‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫مد يده ناحية صديقه وبها قطعة البسكويت الخاصة به‪ ،‬ثم قال في رض ًى‬
‫تام‪:‬‬
‫ٍ‬
‫يوم‪ ،‬وقد عافته نفس ي‪ ،‬وال أشعر بشهية له‬ ‫خذه كله فأنا أكل منه كل ٍ‬
‫اليوم‪.‬‬
‫ُ‬
‫وحب‪ ،‬ولم يفعل شيئا سوى أن أكل ما قدمه له‬ ‫امتنان ٍ‬
‫ٍ‬ ‫نظرإليه آلاخرفي‬
‫الصغير آلاخر‪.‬‬
‫‪-‬ما رأيك أن تأتي معي ألريك شقتنا الجديدة‪.‬‬
‫نقود اليوم‪ ،‬وس يغضب مني أبي‪ ..‬سأذهب إلى العمل‪.‬‬ ‫‪-‬ال لم أحصل على ٍ‬
‫‪ -‬كما تريد‪.‬‬
‫‪ -‬أعطى كال منهما ظهره لآلخر‪ ،‬وفي النفس آمال وآالم‪ ،‬أحدهم ال يعي من‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الدنيا شيئا‪ ،‬وآلاخر يعي منها كل ش ٍيء‪ ،‬ثم فجأة ارتفع صوت أحدهم قائال في‬
‫وود‪:‬‬
‫رحمة ٍ‬
‫ٍ‬
‫‪-‬دمحم هل سأراك ثانية؟‬
‫‪-‬ال أدري‪.‬‬
‫وصداقة‬
‫ٍ‬ ‫بالغة‬
‫ٍ‬ ‫خطوات‪ ،‬وهو يقول في أخوية‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬ارتد عبدالرحمن بضع‬
‫بريئة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫‪-‬ما رأيك أن تنتظرني كل يوم عند باب املدرسة ثم نتقاسم البسكويت؟‬
‫‪-‬ألن تضربك أمك؟‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬إنها تقول لم يعد لها من الدنيا سواي أنا وأختي بعد وفاة أبي‪.‬‬
‫‪-‬وهل مات أبوك؟!‬
‫‪-‬أجل‪ ..‬ألم أخبرك؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫‪-‬وقتها كنت تركت املدرسة‪ ،‬ولم أرك منذ ذلك الحين‪ ،‬ماذا قلت هل‬
‫ً‬
‫سأراك غدا في الصباح؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫وافترقا‪ ..‬عادت إليه طفولته بمجرد رؤيته لصديق دراسته‪ ،‬ورفيق‬
‫مدرسته‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫افترقا فراقا عاديا‪ ..‬لكن لم تعد نفسه كما هي تأجج في صدره حب‬
‫املدرسة والرغبة في العودة إليها‪ ..‬يكفيه انقطاع عنها‪ ،‬ما باله يكدح في سبيل‬
‫ً‬
‫العيش هكذا البد أن يعود باكرا ليخبرأباه بما انتوى فعله‪ ..‬وملاذا ينتظرميعاد‬
‫العودة؟‪ ،‬سيعود ليخبره آلان‪ ،‬ومن الغد سيكون بجانب صديقه في هذه‬
‫املدرسة‪.‬‬

‫ً‬
‫ُدفعت إلى داخل السيارة دفعا‪ ..‬تفاجأت بوجود غيرها من الفتيات لم‬
‫تستوعب أي ش ٍيء‪ ،‬صراخ‪ ،‬وزحام‪ ،‬وأصوات متداخلة‪.‬‬
‫تخرج عربة الترحيالت مسرعة من الباب الحديدي ألاسود الكبير‬
‫ً‬
‫للسجن‪ ..‬تهرول ألامهات باكيات والشباب والبنات‪ ،‬الكل يجري محاوال اللحاق‬
‫ً‬
‫بالعربة التي تقلهم‪ ،‬ومن خلف شباك العربة وقضبانه تنحت هي جانبا حتى‬
‫تتيح فرصة لألخريات ال شك أال أحد ينتظرها‪ ،‬أو يهرول وراء العربة من أجلها‪..‬‬
‫رأت ألايدي تتشابك والدموع تنهمر وألاصوات تختفي في الصدور‪.‬‬
‫استوعبت أن العربة هي عربة ترحيالت للسجناء الخطرين‪ ..‬الفتيات‬
‫ً‬
‫جميعا بكين‪ ،‬وحدثن أهليهن‪ ،‬ولوحن لهم إال هي‪ ،‬وحيدة طريدة منبوذة في‬
‫سجنها لم يبحث عنها أحد‪ ،‬ولن يبحث عنها أحد‪ ،‬ملاذا تنتظر أن يزورها أحد؟‬
‫‪108‬‬
‫ألم تر بأم عينيها أهالي السجينات وقد نال منهم الجهد والتعب والحر‬
‫ً‬
‫والظلم أيضا حتى يأسوا‪ ..‬تقدمت العربة وهم ما زالوا في عدوهم حتى كلت‬
‫أقدامهم‪ ،‬وأشفقت أجسادهم على قلوبهم‪ ..‬ملاذا العدو؟‪ ..‬هم ال يعدون وراء‬
‫بناتهم بل وراء أشالئهم‪ ،‬بقايا من الروح املنهكة‪ ،‬والعقول الواهنة‪ ،‬والقلوب‬
‫املتحطمة ‪.‬‬
‫واحدة منهن بداخلها ما يكفي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫لم تحادث غيرها من الفتيات‪ ،‬كانت كل‬
‫وال يوجد بداخلها رمق ملعرفة تفاصيل مأساة ألاخرى‪ ،‬ضاقت صدورهن‬
‫بمآسيهن حتى ما عادت ت تسع ملآس ي ألاخريات‪ ..‬ما الذي حدث؟‪ ،‬وما الذي‬
‫تغير؟ أليس من املعلوم أن املشاركة في املصائب تهون وقع املصيبة على‬
‫أصحابها؟ ملاذا تغير الحال؟!‬
‫ً‬
‫فاض القلب بحزنه‪ ،‬وطفح الصدر بمأساته حتى ضاق ذرعا بسره‪ ،‬فما‬
‫بالكم بسر صاحبه؟‬
‫ُ‬
‫توقفت العربة ثم‪ ،‬أقتيدوا تجاه غرفة مخصصة لهن‪ ،‬جلسن وكأن على‬
‫ً‬
‫رؤوسهن الطير‪ ..‬كانت مستأنسة بهن‪ ،‬هي ال تعرف أيا منهن‪ ،‬وتعتقد أن عالقتها‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بهن ستكون سطحية هي ال تحادث أحدا إال قليال‪ ،‬دائما منطوية خجولة‪ ،‬ومع‬
‫ذلك اطمأنت لوجودهن‪ ،‬وكأن املصائب وحدت بين أرواحهن حتى أصبحن‬
‫ً‬
‫روحا واحدة في أجساد متفرقة‪.‬‬
‫كل منهن حبيسة أفكارها‪ ،‬وأسيرة أمنياتها‪ ..‬هذه الزنزانة البالية‬ ‫ظلت ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أقل بؤسا وأكثر رفقا من أمانيهن املتعالية‪ ،‬وأحالمهن املتكبرة‪ ،‬وطموحاتهن‬
‫البعيدة‪.‬‬
‫لم يقطع الصمت سوى صوت أحدهم ينادي باسم فتاة ما‪ ..‬لم تكترث‬
‫عائشة لألمر‪ ،‬لكنها فوجئت بالذعر يخيم على مالمح واحدة منهن‪ ،‬ودموعها‬

‫‪109‬‬
‫تنحدرعلى وجنتيها وكأنها شالل ماء‪ ،‬كانت تتمتم ببعض الكلمات لم يفهم أحد‬
‫منها شيئا‪ ً،‬لكن بالتأكيد دعوات صامتة مرسلة لرب السماء‪.‬‬
‫وانكسار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كرر الصوت الرجالي نداءه‪ ..‬وقفت الفتاة بصعوبة في ٍ‬
‫ألم‬
‫ً‬
‫ووقفن جميعا لوقوفها‪ ،‬وكأنهن يساندنها‪ ،‬منهن من رتبت على كتفها‪ ،‬وألاخرى‬
‫شدت على يديها في قوة‪ ،‬وتفوهت ألاخريات ببعض الكلمات حتى يجعلنها‬
‫منكسرة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وئيدة‬
‫ٍ‬ ‫تتماسك وتصبرلقضاء هللا وقدره‪ ..‬خرجت الفتاة في خطوات‬
‫ترى هل ستعود أم أنهن نقصن واحدة؟ ‪ ..‬ياترى أخذوها إلى أين بالتأكيد ليس‬
‫ملنزلها أو أهلها وإال ملا انتقلن إلى لهذا السجن من ألاساس؟‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أخيرا تحدثت واحدة منهن‪ ،‬كان صوتها حلوا هادئا يبث الطمأنينة في‬
‫ً‬
‫النفوس‪ ،‬ووجهها مشرقا رغم ما به من شحوب‪ ..‬قالت وكأن بينهن سابق‬
‫معرفة‪:‬‬
‫‪-‬كيف حالكن؟!‬
‫بالغة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫مودة‬
‫تتمتمن ببعض كلمات الشكر والحمد‪ ،‬قالت في ٍ‬
‫‪-‬أنا ليلى الشامي طالبة بكلي ة الصيدلة جئت إلى هنا منذ سبعة أشهر‪..‬‬
‫ظللت انتقل من سجن إلى آخر حتى التقيت بكن‪ ..‬مالي أرى الحزن مخيم في‬
‫مالمحكن؟ واليأس اتخذ مسكنه بين قسمات وجوهكن‪ ،‬ما بالكن‪ ..‬أفقدتم‬
‫الجنة أم زج بكن إلى النار‪ ..‬كل مصيبة هينة ما دامت ليست في ديننا‪ ،‬كانت‬
‫ً‬
‫كلماتها سهلة لينة‪ ..‬صمتت فجأة وكأنها تتذكر شيئا‪ ،‬غمضت عينها ثم تنهدت‬
‫بصوت متهدج قائلة‪:‬‬
‫‪-‬أتدرون ما هي قصتي؟‬

‫‪110‬‬
‫( ‪)9‬‬
‫رحيل مفاج‬

‫ً‬
‫استيقظت فجرا‪ ..‬هذا هو اليوم املحدد لزيارة والد أحمد‪ ،‬قلبها يخفق‬
‫بشدة‪ ،‬وأعصابها مشدودة متوترة‪ ،‬رهبتها من املوقف تشعرها بلذة خفية‬
‫ً‬
‫ومتعة لذيذة‪ ..‬لم تنتظر شيئا في حياتها كانتظارها لزيارة زوج املستقبل هذا‪،‬‬
‫نعم هي فتاة مثل باقي الفتيات تتلهف على هذه ألاشياء‪ ،‬حفظت نفسها‪،‬‬
‫وحرمت قلبها من كل متع الحب من أجل هذه اللحظات وهذا اللقاء‪ ..‬ما بالها‬
‫جالسة هكذا؟ البد أن تقض ي بعض الوقت في اختيارألاسئلة املناسبة وألاجوبة‬
‫املنطقية‪ ،‬البد أن تستفسر عن ظروف الزواج في مصر‪ ،‬البد أن تسأله أين‬
‫يستقران هنا أم في القاهرة؟‬
‫ً‬
‫أوال البد أن تذهب إلى أروى كي تطمئن على هندامها وتتأكد من حسن‬
‫مظهرها‪.‬‬
‫عقدت العزم على أن تذهب إليها بعد أذان الفجر‪ ،‬وعندما تنتهي من‬
‫ً‬
‫الصالة‪ ،‬لكنها تراجعت عن ألامر لقد سهرتا كثيرا ليلة البارحة من ألافضل أن‬
‫تتأخر بعض الوقت حتى تأخذ قسطها من النوم ‪.‬‬
‫بمجرد تسلل أول خيوط الشمس من نافذتها‪ ،‬اتجهت نحو شقة أروى‪،‬‬
‫ً‬
‫متأخر‬
‫ٍ‬ ‫وقت‬
‫طرقت بابها كثيرا لكن ما من مجيب‪ ،‬البد أنها نائمة‪ ،‬لم تنم إال في ٍ‬
‫ساعة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ليلة أمس‪ ،‬من ألافضل أن تعود‪ ،‬ثم تأتي إليها بعد‬
‫‪111‬‬
‫اتجهت ثانية إلى شقتها‪ ،‬قررت أنها لن تذهب للجامعة اليوم‪ ،‬ذهبت إليها‬
‫ً‬
‫كثيرا غيابها هذا اليوم لن يضير‪ ،‬هي اليوم في حكم العروس‪ ،‬ساعات قليلة‬
‫فقط ويأتي فارسها على حصانه ألابيض املجنح كى يسافر بها من هذا العالم‬
‫ً‬
‫الكئيب اململ إلى دنياه‪ ،‬أخيرا سيكون لها رجل تتكئ عليه‪ ،‬وتطمئن إلى وجوده‪،‬‬
‫وتركن إلى جانبه‪ ..‬هي لم تختلط برجل قط حتى اليوم وال عالقة لها بهم سوى‬
‫عالقة الطالب بأستاذه ‪ ،‬أما ماعدا ذلك فلم تشعر بوجود أب أو أخ أو زوج‪..‬‬
‫ً‬
‫أخيرا سيقترن اسمها باسم رجل آخر‪،‬ستحكي له عن أمها‪ ،‬سيسافر بها إلى كل‬
‫ً‬
‫بالد العالم‪ ،‬سيعوضها عن حياتها الجدباء املقفرة‪ ،‬ستتزوجه وسيصبح أبا‬
‫ً‬
‫ألطفالها ‪ ..‬ستختار معه أسماء ألطفالهم‪ ،‬ستسمي الفتاة "مريم" إكراما ألمها‬
‫وعليه أن يتقبل ألامر‪ ،‬أما الولد ستترك ألبيه مهمة اختيار اسمه‪ ،‬يكفيها أنها‬
‫ً‬
‫اختارت اسم الفتاة‪ ،‬ستزور مصر معه‪ ،‬أخيرا ستشعر أنها تنتمي لبلد ما‪ ،‬ولن‬
‫يجرؤ أحد على مضايقتها بعد آلان فهي لديها زوج‪.‬‬
‫انقض ى وقت كثير‪ ،‬البد أن أروى قد استيقظت‪ ،‬اتجهت إليها مرة ثانية‬
‫ولم تكن هذه املرة بأفضل من سابقتها‪ ،‬ظلت تطرق وتطرق دون أن تخرج إليها‬
‫أو تجييها‪ ..‬أين هي إذن؟‬
‫اتجهت إلى هاتفها علها تجيب على اتصاالتها‪ ،‬وبمجرد أن ضغطت على‬
‫ُ‬
‫ذر الاتصال‪ ،‬أجابها ذاك الصوت البغيض دائما "الهاتف مغلق"‪.‬‬
‫قلقت بعض الش يء‪ ،‬لكن تفكيرها ركن إلى أنها البد ذهبت لتشتري بعض‬
‫ً‬
‫ألاشياء‪ ،‬لعلها أرادت أن تفاجأها‪ ..‬أروي دائما غامضة مبهمة تحب املفاجأت‪،‬‬
‫ً‬
‫لعلها قررت أن تفاجأني‪ ..‬ركنت إلى هذا التفكير‪ ،‬واتجهت مجددا إلى شقتها‪..‬‬
‫واحد‪ ،‬هي تعلم أن‬ ‫ٍ‬ ‫لكن الانتظار طال وساورها القلق والخوف عليها في ٍآن‬
‫الناس على وشك الحضور‪ ،‬ملاذا غابت إذن؟ ملاذا تتعمد الغياب في أحلك‬
‫ً‬
‫ألاوقات وأشدها احتياجا لحضورها؟‪ ..‬ساعة واحدة فقط على ميعاد اللقاء‪،‬‬

‫‪112‬‬
‫ً‬
‫كيف لها أن تتعامل معهم ثقافتها مختلفة‪ ،‬وهي ال تعلم شيئا عن هذه ألامور‬
‫بمصر‪ ،‬وال حتى بفرنسا‪ ،‬ثم كيف لها أن تتعامل مع والده إنها تخش ى اللقاء به‪..‬‬
‫ً‬
‫خيرا لها أن تعتذرعن اللقاء من ألاساس ريثما تعلم ما الذى حل بأروى‪.‬‬
‫على الجانب آلاخر كان أحمد يبتهل إلى هللا كي يلقي في قلب أبيه اللين‬
‫والرفق تجاه نسيم‪ ،‬هو ال يدري ما سر هذا التجهم وهذه الكآبة املخيمة على‬
‫ً‬
‫وجه أبيه‪ ..‬هل ألنه سيخطب هذه الفرنسية التي ال يعلم عنها شيئا ؟ أم ألنه‬
‫سيسبق أدهم بالخطبة وأبيه رجل محافظ صارم ال يحب الخروج على‬
‫القواعد وألاصول‪ ،‬ويقدس التمسك بالعادات والتقاليد؟‪ ..‬اختنق صدره‬
‫بمجرد التفكير في هذه ألامور‪.‬‬
‫ً‬
‫اتجه إلى غرفة أدهم طرق بابها ثالثا استأذن ثم دخل وجد أدهم ال زال‬
‫عميق‬
‫ٍ‬ ‫نوم‬
‫يغط في ٍ‬
‫‪-‬أدهم‪ ..‬استيقظ أريد‪ ..‬أن أتحدث معك‪.‬‬
‫ناعس‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬قال أدهم‬
‫‪-‬ما ألامر؟‬
‫يء‪ ،‬قم وتحدث معي‪.‬‬ ‫‪-‬ال ش َ‬
‫ً‬
‫‪-‬فتح أدهم عينيه ببط ٍء قائال‪:‬‬
‫‪ -‬سأتحدث معك في الالش يء هذا عندما أستيقظ‪..‬ثم وضع الوسادة مرة‬
‫أخرى على عينيه ورأسه‪.‬‬
‫ً‬
‫بقوة قائال‪:‬‬
‫‪-‬جذب أحمد الوسادة ٍ‬
‫‪ -‬أدهم أنا ال أمزح‪ ..‬إنني قلق بشأن أبيك‪ ،‬أخش ى أن يرفض ألامر‪ ،‬الفتاة‬
‫طيبة وخجولة أخش ى أال يكون الحوار في صالحها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬اعتدل أدهم في جلسته قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ال تخش شيئا‪ ،‬سأقنعه أنا‪ ..‬لكن أواثق أنت من أخالقها؟‬

‫‪113‬‬
‫وبشدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬نعم‪ ،‬واثق‬
‫‪-‬ال تنس أنها تربت هنا‪ ،‬ونشأت هنا‪ ..‬ثقافتها مختلفة وفكرها قد يكون‬
‫ً‬
‫متحررا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬قلت لك مرارا الفتاة محجبة رغم نشأتها الفرنسية الصرفة‪ ،‬وتفكيرها‬
‫ً‬
‫متزن جدا‪ ..‬واطالعها واسع‪ ،‬ثم ما الذي يجبرها على ارتداء الحجاب في بلد‬
‫كفرنسا؟‪ ..‬أال يوحي هذا برجاجة عقلها‪ ،‬وقوة إيمانها‪ ،‬وتمسكها بدينها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ما دمت واثقا أنت من كل هذا‪ ،‬فما الذي يقلقك؟‬
‫‪-‬أبوك رجل شرقي يتفاخربالنسب والعائلة‪ ..‬لكم ترفعنا عن بنات زمالئه‬
‫حتى بنات الوزراء منهن‪ ..‬ومن الطبيعي أن ينزعج من فتاة عادية ال تعلم عن‬
‫ً‬
‫أبيها شيئا؟!‬
‫ً‬
‫نظر إليه أدهم بانزعاج قائال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪-‬وهل فعال الفتاة ال تعلم عن أبيها شيئا؟!!!!‬
‫بلد عربي‪ ..‬وجاءت أمها بها إلى هنا قبل والدتها بعدة‬ ‫‪-‬أخبرتني أنها تنتمي إلى ٍ‬
‫أشهر‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪-‬قصة عجيبة ولم يكد أدهم يتم جملته حتى فتح باب الغرفة في عنف‪،‬‬
‫استغراب‪ ..‬لكن ألاب تحدث بسرعة‬‫ٍ‬ ‫لم يكن الواقف سوى أبيهم‪ ،‬نظرا إليه في‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أنا مسافر إلى مصر حاال‪.‬‬
‫واحد‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫صوت‬
‫ٍ‬ ‫قاال في‬
‫‪-‬مصر!!‬
‫‪-‬اتجه ألاب صوب الباب وهو يقول‬
‫الوزير محمود الشرقاوي طالته يد إلارهاب الغاشمة‪ ..‬ال بد أن أكون‬
‫هناك‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ً‬
‫خطوات سريعة قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫اجتاز أدهم السلم وراءه في‬
‫ً‬
‫‪-‬يمكننا أن نسافر ليال‪ ..‬لدينا لقاء‪.‬‬
‫قال أبوه دون أن يلتفت إلى الخلف ‪:‬‬
‫‪-‬أنا أثق برأيك‪ ..‬قم بما ينبغي فعله‪ ..‬من العار أن أكون هنا أخطب البني‬
‫بينما صديقي يصارع املوت هناك‪.‬‬
‫تنفس أحمد الصعداء‪ ،‬كان يخش ى هذا اللقاء بحق‪ ،‬لكن ليس إلى هذا‬
‫ً‬
‫الحد‪ ..‬ليس لدرجة أن يلغي اللقاء تماما‪ ..‬جلس على أقرب مقعد‪ ،‬ووضع يديه‬
‫ً‬
‫صمت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫على رأسه مفكرا في‬
‫واثقة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫لهجة‬
‫قال أدهم في ٍ‬
‫‪-‬ال تقلق سأتولى أنا ألامر‪.‬‬
‫ً‬
‫حقا؟‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬أخبرني أبوك بذلك‪.‬‬

‫بعدما انصرفت نسيم إلى شقتها‪ ،‬قامت أروى بترتيب بعض أغراضها‪..‬‬
‫تذكرت أنها لم تعد تتابع ألامور في مصر‪ ..‬انشغلت بدراستها وحياتها هنا‪ ،‬قامت‬
‫بفتح التلفازوياليتها ما فعلت‪ ..‬لم تكن تدري وهي تفعل ذلك أنها كمن ينزع طابة‬
‫ألامان عن قنبلة ستنفجر في وجهه!!‬
‫بمجرد أن أدارت التلفازعلى أحد املحطات املصرية حتى وجدت العنوان‬
‫املسيطرعلى نصف الشاشة " يد إلارهاب الغاشمة طالت السيد الوزير‬
‫أليم"‬
‫حادث ٍ‬
‫ٍ‬ ‫محمود الشرقاوي في‬

‫‪115‬‬
‫ً‬
‫لم تستوعب ما قرأت‪ ..‬أعادت قراءة العنوان مرارا لعلها تكون مخطئة‬
‫في الاسم‪ ،‬لكن بكل أسف كانت هذه هي الحقيقة املرة‪.‬‬
‫وفي سرعة البرق ارتدت مالبسها واتجهت إلى املطار متخذة أول طائرة إلى‬
‫مصر‪ ،‬كان عليها أن تنتظر ساعة ونصف في املطار قبل تحرك الطائرة‪ ،‬كانت‬
‫ترتجف بقوة ودموعها منسابة كأنها أنهار‪ ،‬هي ال تعلم ما الذي حل بأبيها‪ ،‬هل‬
‫توفي بالكلية‪ ،‬أم أنه ال زال يصارع املوت‪ ،‬لم تستطع التواصل مع أحد‪ ،‬كل‬
‫ألارقام مغلقة وكل الهواتف مشغولة‪ ،‬ملاذا لم يتصل بها أحد‪ ،‬ملاذا لم ترسل‬
‫السفارة في طلبها‪.‬‬
‫فور وصولها مصر اتجهت إلي املنزل مباشرة‪ ..‬أعصابها منهارة‪ ،‬وحالتها‬
‫الكلية في شبه إغماء ال تستطيع أن ترى املنزل يمتلئ باملعزين الذين يترحمون‬
‫ألم وكأنها تمنع عقلها من الاسترسال في تخيل‬ ‫على الفقيد‪ ،‬أغمضت عينها في ٍ‬
‫هذه ألامور‪.‬‬
‫ولحسن الحظ وقبل أن تصل إلى املنزل دق هاتفها‪ ،‬كان املتصل مستشار‬
‫والدها‪ ،‬أمالها عنوان املشفى الذي يقطن به أباها‪ ،‬وبمجرد وصولها إلى‬
‫املشفى وجدتهم في انتظارها‪ ،‬اتجهت من فورها إلى الغرفة الخاصة به‪ ،‬وجدت‬
‫ً‬
‫زحام أمام الغرفة‪ ،‬وحراسة أمنية مشددة لم يكن مسموحا ألحد بالدخول‬
‫فحالة الوزير متأخرة وغير مستقرة‪.‬‬
‫مقعد‪ ،‬كم تمنت لو كانت معه آلان في هذه ألاوقات‬ ‫ٍ‬ ‫أجلسوها على أقرب‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫العصيبة‪ ،‬هي الرقيقة املرهفة التي ال تستطيع أن ترى طيرا أو حيوانا جريحا‪،‬‬
‫فكيف لو كان الجريح هو والدها‪ ،‬آخر َمن تبقى لها في هذا العالم‪.‬‬
‫تمض بضع دقائق حتى دخل رجل ألاعمال الدكتور " كمال النشار"‬ ‫ِ‬ ‫لم‬
‫الرجل الوحيد الذي تطمئن إلى حضوره‪ ،‬والوحيد الذي تثق به في هذا الوسط‬

‫‪116‬‬
‫املنافق الكاذب الذي يحيط بها‪ ،‬اتجه الرجل إليها مباشرة‪ ،‬جلس بجوارها ثم‬
‫اثق‪:‬‬
‫بصوت و ٍ‬
‫ٍ‬ ‫قال‬
‫أعلمك الخبر؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ال تقلقي يا ابنتي سينجيه هللا‪َ ..‬من‬
‫‪-‬قرأته على شاشات التلفزيون‪.‬‬
‫عدت من الخارج؟‪.‬‬‫‪-‬متى ِ‬
‫واحدة فقط‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ساعة‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬قبل‬
‫‪-‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ..‬شفاه هللا وعافاه‪ ،‬وقبل أن يتم كلماته خرج‬
‫الطبيب الخاص بإجراء العملية من الغرفة‪ ..‬تحلق الجميع حوله‪ ،‬وأنفاسهم‬
‫ً‬
‫مكتومة‪ ،‬ونظراتهم متوسلة حتى ال يقول إال خيرا‪ ..‬لكن الطبيب خيب كل‬
‫ً‬
‫آمالهم قائال‪:‬‬
‫‪-‬استطعنا بأعجوبة أن ننزع الرصاصة رغم أنها كانت في موقع القلب‬
‫تماما‪ ،‬إال أن هيئته الطويلة جعلتها على بعد مليمترات من القلب‪1‬‬‫ً‬
‫‪ .‬لكن الانفجار هو الذي تسبب في سوء حالته‪ ..‬سأكتب التقرير الطبي ثم‬
‫أطلعكم عليه‪.‬‬
‫جاء التقرير الطبي ولم يكن يوحى بش ٍيء سوى وفاة املريض خالل‬
‫الساعات القليلة القادمة‪ ،‬فاملريض مصاب بتهتك ونزيف بالحويصالت‬
‫الهوائية بالرئة‪ ،‬ونزيف وانفجار بالجهاز الهضمي‪ ،‬وحروق نارية‪ ،‬وإصابات‬
‫بالشظايا املتناثرة للقرب من لهب الانفجار‪ ،‬وكسور شرخية بالجمجمة نتيجة‬
‫السقوط‪ ،‬وخلخلة بالسائل الشوكي وتمزق في ألاوعية الدموية‪.‬‬
‫لم تستطع أن تكمل قراءة باقي التقرير‪ ..‬ماذا إن فقدت أباها؟ ال أهل لها‬
‫قليلة ودعت أمها‪ ..‬لعله‬
‫أشهر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وال أقارب‪ ،‬ينحصر العالم كله في شخصه‪ ،‬قبل‬
‫اشتاق إليها هو آلاخر فقرر الذهاب إلى حيث يجدها‪.‬‬

‫‪ _ 1‬حقيقه علمية فالقلب ينحرف إىل اليمني قليال عند األشخاص طوال القامة‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫رحل الزائرون وانصرف الجميع‪ ،‬ولم يبق إال جنود الحراسة ودكتور "‬
‫مرض‪ ،‬حاولت أن تتماسك‪،‬‬ ‫وهن وما ألم بها من ٍ‬ ‫كمال النشار"‪ ..‬رغم ما بها من ٍ‬
‫واتجهت نحوه‪ ،‬تمتمت ببعض الكلمات التي ُيفهم منها أنها تشكره على زيارته‪،‬‬
‫وتطلب منه الانصراف فهي ال تريد أن تثقل عليه أكثر من ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫استنكار قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رفع حاجبيه في‬
‫أباك بمثابة أخي‪ ..‬لقد كنا زمالء‬ ‫ما هذا الذي تقولينه يا ابنتي؟‪ ..‬إن ِ‬
‫واحد‪ ..‬حتى كبرنا وتزوجنا‪ ،‬وألهتنا‬
‫ٍ‬ ‫دراسة‪ ،‬منذ الصغر ونحن نجلس في مقعد‬
‫الدنيا عن طفولتنا البريئة‪ ،‬وأيام الصبا الطيبة‪ ،‬لكن منذ أن جئتم للسكن‬
‫بجانبنا‪ ،‬ونحن تداركنا ألامر‪ ،‬وعاد ألاخوة إلى بعضهم‪ ..‬لن أخرج حتى أطمئن‬
‫منك أنا الرحيل فأنا الرجل هنا‪ ،‬ثقي في يا‬ ‫عليه‪ ..‬بل من الواجب أن أطلب ِ‬
‫طلبك‪ ..‬سائقي أمام املشفى سأطلب منه‬ ‫ِ‬ ‫أبوك سأرسل في‬ ‫بنيتي‪ ..‬وعندما يفيق ِ‬
‫يوصلك ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أن‬
‫أشهر وياليتني ما فعلت‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬ال ال‪ ..‬لن أذهب أريد أن أراه‪ ،‬فارقته منذ عدة‬
‫شعرت بدمعات ساخنة تهبط على وجنتيها مسحتها برفق واتجهت أمام باب‬
‫الغرفة‪ ،‬علها تسمع صوته أو حتى أنفاسه‪.‬‬
‫برفق‬
‫بعد بضع ساعات أفاقت من نومها ويد إحدى املمرضات تهزها ٍ‬
‫قائلة‪:‬‬
‫ً‬
‫يريدك حاال‪.‬‬‫ِ‬ ‫‪-‬سيدتي سيادة الوزير‬
‫انت بهت من غفلتها منزعجة‪ ،‬واتجهت نحو باب الغرفة‬
‫وجدت الدكتور " كمال" بالداخل يقف إلى جانب الفراش‪ ،‬ويستمع إلى‬
‫ً‬
‫كلماته املتقطعة‪ ،‬وأنفاسه الالهثة لم تفهم شيئا مما سمعت‪ ،‬ولم يعنها الفهم‬
‫آلان‪ ..‬اقتربت منه وركعت على ألارض بجوار الفراش مباشرة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫ً‬
‫بصعوبة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫برفق قائال‬
‫وضع يده على يدها ٍ‬
‫بخير هناك‪ ،‬ماذا وجدنا في هذه الدنيا حتى‬ ‫‪-‬اهدئي يا ابنتي‪ ..‬سأكون ٍ‬
‫ً‬
‫نتمسك بها‪.‬؟‪ ..‬حاول جاهدا أن يرسم ابتسامة على شفتيه ثم قال‪:‬‬
‫سيعيدك إلي مصر لدعوت هللا‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬لو علمت أن حادث مثل هذا هو الذي‬
‫ً‬
‫إليك كثيرا‪.‬‬
‫زمن‪ ..‬لقد اشتقت ِ‬ ‫بحادث مثله منذ ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سقطت من عينها دموع القهر‪ ،‬وأصبحت تمرغ وجهها في كف أبيها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وجهد أيضا قائال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫حنان‬
‫برفق وأخذ يتحسس شعرها في ٍ‬ ‫نزع يده ٍ‬
‫قضيتك حتى لو أصبح‬ ‫ِ‬ ‫أنت صادقة يا بنتي وصاحبة رسالة‪ ..‬ال تتخلي عن‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ً‬
‫لك‪ ..‬دافعي عن رسالتك "فاملحاماة رسالة‪ ،‬والقضاء والشرطة‬ ‫املوت عقابا ِ‬
‫هم أصحاب سلطة فإذا توغل أصحاب السلطة على أصحاب الرسالة‪..‬‬
‫ً‬
‫قمعية ال تقدس شيئا إال روح‬ ‫ٍ‬ ‫دولة‬
‫أنك في ٍ‬‫فأبشري بانهيار العدالة‪ ،‬واعلمي ِ‬
‫الحاكم"‪.‬‬
‫وإياك أن تتخلي‬ ‫ِ‬ ‫أنت فيه‪ ..‬دافعي عن البسطاء فقط‪،‬‬ ‫استمري فيما ِ‬
‫بروحك لكن افدي العدالة‬ ‫ِ‬ ‫صديقتك بريئة لن أقول افديها‬‫ِ‬ ‫عنهم‪ ،‬أو تخذليهم‪،‬‬
‫أنك لست جديرة بهذا الرداء ألاسود فاخلعيه‪ ،‬واتركي له‬ ‫شعرت ِ‬‫ِ‬ ‫بروحك‪ ..‬وإن‬
‫ِ‬
‫أهله‪ ،‬إما أن تكوني مدافعة بشرف وعدالة وإال فال‪.‬‬
‫ألم‪ ،‬التفت إلى الواقف بجواره‪ ،‬ثم‬ ‫تقطع صوته وغارت عيناه وسعل في ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متحشرج وكأنه ال يفارق صدره فضال عن شفتيه قائال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫قال‬
‫‪-‬لم يقتلني أحد‪ ..‬الدولة هي التي فعلت‪ ،‬أوصيك بأروى وعمتها وابنة‬
‫عمتها‪ ،‬إن كانتا على قيد الحياة‪ ..‬ابحث عنهما حاول أن تنجح فيما فشلت فيه‬
‫أنا‪ ..‬لن أقول لك عامل أروى كابنتك فأنت أدرى الناس بما فعلته بابنتك‪ ..‬ال‬
‫تغضب مني لكني أخش ى عليها‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ً‬
‫لك سندا في هذه الدنيا البغيضة‪،‬‬ ‫‪ -‬سامحيني يا ابنتي كنت أود أن أظل ِ‬
‫لزوجك بيدي‪..‬‬
‫ِ‬ ‫وأسلمك‬
‫ِ‬ ‫تاجك بنفس ي‬
‫ِ‬ ‫ألبسك‬
‫ِ‬ ‫أزفك بيدي وأن‬ ‫لكم تمنيت أن ِ‬
‫اغفري لي تسرعي‪ ..‬ابتسمي يا ابنتي أريد أن أودع الدنيا‪ ،‬وآخر ش ٍيء قد رأيته‬
‫فبسمتك هى جنة الدنيا‪ ،‬ولعل هللا إن فعلت يبعثني على‬ ‫ِ‬ ‫ابتسامتك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫منها هو‬
‫جنة آلاخرة‪.‬‬
‫دموع سائلة على خديها لكن‬‫مفتعلة تصحبها بقايا ٍ‬‫ٍ‬ ‫بسمة‬
‫ٍ‬ ‫افتر ثغرها عن‬
‫ً‬
‫الرجل بادرها مازحا‪:‬‬
‫‪-‬أهذه هي الضحكات التي أردت ؟!‬
‫حاولت أن ترسم على شفتيها ابتسامة عريضة خالصة‪ ،‬لكن دموعها‬
‫ً‬
‫رفق‪.‬‬‫هزمتها أيضا هذه املرة‪ ..‬ربت أبوها على كتفها في ٍ‬
‫دخل الطبيب املختص‪ ،‬وطلب منهما الخروج حتى ال يجهداه أكثر من‬
‫الالزم‪.‬‬
‫خرجت من الغرفة مطأطأة الرأس‪ ،‬مكروبة الصدر‪ ،‬جريحة القلب‬
‫داميته‪.‬‬
‫في هذه ألاثناء اعتدل ألاب في سريره ولم يعد يبصر أحس بالعجز أصبح‬
‫صدره يضيق‪ ..‬وتعذر عليه التنفس كأنه غريق‪ ..‬جحظت عيناه وحاول أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يلتقط أنفاسه‪ ،‬لكنه كان عاجزا عن كل ش ٍيء إال الارتجاف‪ ،‬وأخيرا انتهى‬
‫العذاب‪ ،‬وفقد إلاحساس بكل ش ٍيء‪ ،‬سكنت أنفاسه‪ ،‬وتصلب جسده‪ ،‬وبردت‬
‫أطرافه‪ ،‬وأضحى ال ش يء بعد أن كان يمثل لها كل ش ٍيء‪.‬‬
‫من يصدق أن يموت هذا الجسد القوي‪ ،‬والوجه النضر‪ ،‬والثغر‬
‫الباسم‪ ،‬والعينان الضاحكتان املتأللئتان‪َ ،‬من يصدق أن يقبع أبوها ذاك‬
‫الوزير املعروف بحسن الخلق‪ ،‬والقوة في الحق في حفرة رطبة مظلمة بباطن‬
‫ً‬
‫الارض مسلوب الحركة‪ ،‬فاقد الحياة ليصبح أثرا بعد عين‪َ ..‬من يصدق أن هذا‬

‫‪120‬‬
‫الجسد الفارع سيصبح جثة ال حياة فيها وال روح‪ ..‬فجأة سكنت هذه ألاجهزة‬
‫ً‬
‫وتحرك الرأس مائال إلى اليمين‪.‬‬
‫اندفع ألاطباء داخل الغرفة وهي من خلفهم‪ ..‬حاولت املمرضات حجزها‬
‫لكنها أفلتت من بين أيديهن إلى الداخل صائحة‪:‬‬
‫‪ -‬أبي‪ ..‬أبي‪ ،‬قم يا أبي لقد عدت من أجلك‪ ..‬هل جئتك كي تتركني فلتفق‬
‫من أجلي؟ َمن الذي سيؤنس وحدتي بعدك؟ كانت تهزجسده بقوة‪ ..‬في حين أن‬
‫ووقار مغمض العينين‪ ..‬أما هي كانت‬ ‫ٍ‬ ‫الجسد‪ ،‬ثابت ساكن ُممد بكل ٍ‬
‫ثبات‬
‫ترتجف بشدة‪ ،‬وتحاول أن تحركه كأنه نائم‪ ،‬وتريد إيقاظه‪ ..‬نفذت طاقتها‪،‬‬
‫وقعت على ألارض بجانب سريره‪ ..‬وصيحاتها ترن أجواز الفضاء ربتت على‬
‫ً‬
‫كتفها إحدى املمرضات‪ ،‬وقالت وصوتها يقطر إشفاقا‪:‬‬
‫‪-‬كفي يا حبيبتي إنه قضاء هللا‪.‬‬
‫‪ -‬لم ترد‪ ،‬فقط تذكرت جثة أمها املغطاة في مثل هذا املكان من قبل‬
‫تذكرت الضياع بال أمل‪ ..‬والذهاب بال عودة ‪ ..‬والفقد بال رجاء‪.‬‬
‫ً‬
‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬أصابتها رجفة شديدة واندفعت إلى الجسد املسجى قائلة‬
‫مبحوح‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫رد علي يا أبي‪ ..‬قل إنك ما زلت حيا‪ ،‬ليتني لم أتركك‪ ،‬قم من أجل زفافي‪..‬‬
‫ً‬
‫من أجل أن تلبسني تاجي بيديك قم نتقاسم عمري معا‪.‬‬
‫أحس ألاطباء وطاقم التمريض وجنود الحراسة بالدمع يترقرق في مآقيهم‬
‫وهم الجافو املآقي‪ ..‬الجامدو الشعور املتعودون على مناظر املوت وما شابه‪.‬‬
‫أمسكت بها إحدى املمرضات‪ ،‬ووضع الطبيب الغطاء ألابيض على جسد‬
‫املريض ووجهه‪ ..‬أفلتت من بين يدي املمرضة بقوة واندفعت تجاه الغطاء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تزيحه‪ ..‬بدت معالم وجهه تشع حسنا ونورا وقسماته هادئة ساكنة‪..‬‬

‫‪121‬‬
‫أيقنت أنها النظرة ألاخيرة‪ ..‬فما تمالكت نفسها إال وهي تضمه إلى صدرها‬
‫وتقبل جبينه حتى سالت دموعها على خديه‪ ..‬اقتربت من أذنه وقالت في صو ٍت‬
‫واهن‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬صدقني يا أبي قريبا سنلتقي عس ى هللا أن يجمعني بك في جنته‪.‬‬
‫ً‬
‫خرجت من الغرفة مستندة على أحد الجدران‪ ،‬لم يعد لها سندا بعد آلان‬
‫سوى هذه الجدران التي ال تسمع وال ترى وال تشعر‪.‬‬
‫جفت مآقيها لم تعد تبكي‪ ،‬لكن لسان حالها يقول‪:‬‬
‫ً‬
‫فقدان ألاب وبكل املقاييس ليس بسيطا‪ ..‬أن تفقد أباك معناه أن تفقد‬
‫الجدارالذي تستند عليه وتركن إليه‪ ..‬فقدان ألاب يعني أنك أصبحت ريشة في‬
‫مهب الريح ال ترحم َمن هم أمثالك‪ ..‬أن تفقد أباك معناه أن تفقد املظلة التي‬
‫تحميك من املطر‪ ،‬والسماء التي تجود عليك بالحب والحنان‪ ..‬أن تفقد أباك‬
‫ً‬
‫ليس معناه اليتم فقط‪ ،‬بل أن يعرف من يتعامل معك أنك أصبحت وحيدا‬
‫أمامه‪ ،‬وربما أمام طموحه ومطامعه‪ ..‬فقدان ألاب يعنى أن تحس بالوحدة فقد‬
‫يد‪ ،‬فإنها لن تغني عن يد‬ ‫فقدت من يمد يده ليساعدك‪ ،‬ولو مدت لك ألف ٍ‬
‫والدك املليئة بدفء ألابوة والحب والحنان دون مقابل‪ ..‬من آلان تركها رفيقها‬
‫الوحيد ليحل مكانه ألالم الدائم‪ ،‬والحزن العميق‪ ،‬والشعور بالضياع‬
‫والوحدة والفراغ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بعد الوفاة بدقائق بدأ الرجال يحضرون واملكان يزدحم شيئا فشيئا‪ ..‬هي‬
‫كاملغيبة عن الوعي وكأنها وفاة شخص آخر غير أبيها‪ ،‬من هول الصدمة لم‬
‫تستطع البكاء‪ ،‬لم تعد تذرف دموع الوجع‪ ،‬ظلت مصدومة منبهرة بما حدث‪..‬‬
‫ً‬
‫رأف دكتور كمال بحالها اتجه إليها قائال‪:‬‬
‫‪-‬البقاء هلل يا ابنتي‪ ..‬أخذ يهدئ من روعها ويذكرها باهلل‪ ،‬أخبرها أن‬
‫إجراءات الدفن ستبدأ من آلان‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أبيض‪ ،‬ومنهم‬ ‫بدأ املمرضون من حولها يتحركون منهم من يحمل قماشا‬
‫ً‬
‫من يحمل الجسد متجها به إلى غرفة أخرى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عجبا لهذه الدنيا‪ ،‬أأبوها حقا هو الذي تعد له كل هذه إلاجراءات‬
‫الرهيبة؟ لقد لطمها الزمن شرلطمة‪ ،‬كانت تلوذ بحضنه وتفرإليه كلما قست‬
‫كالم َمن سترتاح؟ عاودت البكاء‬ ‫َ‬
‫عليها الدنيا‪ ..‬إلى حضن من ستفر؟ وإلى ِ‬
‫مطبق‪ ..‬أبصرت الصندوق وهو يدخل إلى الحجرة التي‬ ‫ٍ‬ ‫بصمت‬
‫ٍ‬ ‫والنشيج‪ ،‬لكن‬
‫يوجد بها املتوفى ليخرج بحمله الثمين‪ ،‬الضائع املفقود‪ ..‬وقفت في ذهو ٍل‪ ،‬ثم‬
‫لم تعد تبصر أي ش ٍيء‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫(‪)10‬‬
‫لم يحبنا العالم‬

‫سأروي لكم قصتي عس ي هللا أن يخفف بها آالمكم وينفث بها كربتكم‪،‬‬
‫أتذكرون قصة أصحاب الغار الذين سقطت عليهم صخرة فأغلقت بابه حتى‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كادوا أن يهلكوا جوعا وعطشا‪ ،‬وأوشكوا أن يموتوا اختناقا؟‪ ..‬كانت لهم أعمال‬
‫ً‬
‫صالحة فنجاهم هللا بها‪ ،‬أما نحن فألهتنا الدنيا‪ ،‬وأراد هللا أن يردنا إليه ردا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جميال وأراد أن يختبر صبرنا‪ ،‬فلنصبر خمسة وعشرين عاما‪ ،‬ألم يقل الصابر‬
‫ً‬
‫أيوب لزوجته مكثنا في الرخاء سبعين عاما فلنصبر في الشدة سبعين أخرى‪.‬‬
‫قبل أن آتي إلى هنا بأيام قليلة حددت موعد زفافي‪ ..‬اشتريت فستان زفافي‬
‫ألابيض‪ ..‬وكذلك اشترى زوجي بذلته‪ ..‬حجزنا قاعة العرس ‪ ..‬جهزنا كل ش ي ٍء في‬
‫بيتنا الجديد‪..‬وبعدما انتهينا من التجهيزللعرس خرجت ألبلغ صديقاتي بموعد‬
‫الزفاف‪ ،‬اتصلت بهذه ألبلغها‪ ،‬وزرت هذه ألسلمها بطاقة الدعوى‪ ..‬إلى أن‬
‫انتهى اليوم‪ ،‬لكن كان هناك ش يء غريب لم أعتده‪ ،‬فزوجي لم يتصل بي على‬
‫غير العادة‪ ،‬فقد اعتدت أن يحدثني كل يوم قلت في نفس ي ربما انشغل عني هو‬
‫ً‬
‫آلاخر بإبالغ أصدقائه‪ ،‬هممت باالتصال به وكررت ذلك مرارا دون جدوى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بعد ساعة ونصف تقريبا‪ ،‬أتاني اتصال من أخته كانت منهارة تماما‪ ،‬لم‬
‫أفهم ما تقول‪ ،‬فوجئت بأبي يدخل من الباب ووجهه أسود كالليل‪ ..‬تركت‬
‫الهاتف وسألته ما الذي حدث؟‬

‫‪124‬‬
‫قال بهدوء‪:‬‬
‫زوجك قبض عليه إلى غير عودة‪ ،‬تركت الهاتف من بين يدي فهوى على‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ألارض محطما‪ ،‬كذلك هوت روحي التي بين جنبي‪ ،‬أيضا تحطمت فتاتا هي‬
‫ألاخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫زرته في السجن مرارا ضد رغبة أبي وأخي‪ ..‬في بداية ألامر كان ينزعج من‬
‫حضوري‪ ،‬كان ال يزال يحتفظ بقوته ورجولته أمامي‪ ،‬كان يشعرأن وجوده هنا‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫سيجعله صغيرا في عيني وأنا التي لطاملا عهدته كبيرا قويا‪ ..‬رجلي ألاول وسندي‬
‫من بعد أبي‪ ..‬ظللنا هكذا حتى جاء الحكم الجائر "إعدام" كانت صدمة لنا‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬قسمت ظهورنا‪ ..‬وفتت أرواحنا‪.‬‬
‫رفع أبي علينا الحصار في البيت‪ ،‬ومنعني من زيارته‪ ،‬وأرسل ألهله‬
‫حاجياتهم ‪ ..‬كنت أشفق على أمه وإخوته‪ ،‬وأخش ى أن يبلغوه باألمر‪ ،‬فيتوهم‬
‫أنني تخليت عنه أنا ألاخرى‪ ،‬بدأنا في إجراءات الطالق‪ ..‬كانت فوق تحملي‪..‬‬
‫ً‬
‫طلقت من حبيبي الذي لم أتزوج منه أصال ولم أزف إليه بعد‪.‬‬
‫زيارة بيني وبينه بعد طالقنا بأيام قليلة رأيته يقف خلف‬ ‫كانت آخر ٍ‬
‫القضبان منهك القوى‪ ،‬غائر العينين‪ ،‬دائم الصمت‪ ،‬أراه قد شاب وهو في‬
‫ً‬
‫منتصف العشرين‪ ،‬أو أنه قد تجاوزها بقليل‪ ،‬لم يعد قادرا حتى على الوقوف‬
‫ومرات‪ ..‬حاولت أن أشرح له ألامر‪ ،‬وأن‬‫ٍ‬ ‫مرات‬
‫طويلة‪ ،‬يقف مرة ويجلس ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لفترة‬
‫ٍ‬
‫أحدثه لكن هربت مني الكلمات وخانتني ذاكرتي‪ ،‬ولم أستطع الكالم فبكيت‪..‬‬
‫حاول أن يخرج يده من بين القضبان ليمسح دموعي‪ ،‬لكنه أعادها فى منتصف‬
‫املسافة بين وجهي ويده وكأنه تذكر أنني أصبحت ال أحل له ‪ ..‬انفجرت باكية‪،‬‬
‫قلت له ودموعي تسبقني أنت زوجي وستظل هكذا حتى وإن مزقوا مواثيقهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الكتابية فال زال ميثاق قلبينا غليظا ممسكا بنا معا‪ ..‬دعك منهم إنني أنا ليلى‬
‫زوجتك أنسيت هذا؟!‬

‫‪125‬‬
‫هللا قادر أن يخرجك من هنا من أجلي‪ ،‬أنا الضعيفة املكسورة التي ال‬
‫ً‬
‫تملك من أمرها شيئا‪ ..‬من أجل زفافنا الذي طاملا خططنا له‪..‬من أجل أحالمنا‬
‫ً‬
‫التى رسمناها معا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ظل صامتا لم يتكلم‪ ،‬وأخيرا انحدرت دمعة على خده‪ ،‬وألول مرة أرى‬
‫ً‬
‫دموعه‪ ،‬مسحها في خجل واقترب مني ليودعني قائال‪:‬‬
‫أحالم"‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫لك من‬
‫‪"-‬سامحيني على ما لم أحققه ِ‬
‫حينها تمنيت أن يقف الزمن ونحن هكذا‪ ،‬ال أرحل أنا وال يرحل هو‪ ..‬وأخذ‬
‫صوته يعلو وهو يبتعد قائال ‪:‬‬
‫أستودعك هللا"‬
‫ِ‬ ‫منك سوى الدعاء‪..‬‬ ‫"ال أريد ِ‬
‫بع دها بأيام قاموا بتطبيق حكم إلاعدام‪ ..‬لم أكن أعي ما حدث كنت‬
‫واثقة بأن هللا سيعطف على قلبي املنفطر ويبرئه من أجلي‪ ،‬كنت أدعو له ليل‬
‫نهار وقلبي مشتعل لفراقه‪ ،‬حتى قبل أن يقدم إلى منصة إلاعدام بدقائق كنت‬
‫أنتظر املعجزة التى ستنجيه ‪..‬لكن هللا لم يفعل! وله في ذلك حكمة‪.‬‬
‫بعد وفاته مباشرة أصبحت كاللبوءة التى أخذوا منها صغيرها الوحيد‪..‬‬
‫ثرت وعربدت‪ ،‬وقفت أمام الظلم وقلت ال‪ ،‬لن استسلم‪ ،‬إما أن يعيدوه إلي‪..‬أو‬
‫ً‬
‫ألحقه أنا‪ ..‬وكانت الثانية‪ -‬سألحقه إن شاء هللا قريبا‪.-‬‬
‫قمت بحكاية قصته على مواقع التواصل الاجتماعي‪ ،‬والنشر عنه ظللت‬
‫شيئا سوى أن أعلم ما هي تهمته‪َ ،‬‬ ‫ً‬
‫لم تم تلفيق‬ ‫أسب في النظام وألعن‪ ،‬ال أريد‬
‫مثل هذه التهم لهذا العريس الذي لم يكن يشغله ش يء سوى التجهيز لزفافه؟‬
‫ً‬
‫حذرني أبي مرارا لكني لم أنتبه‪ ..‬كان املوت والحياة عندي سواء‪ ،‬لم أعد أكترث‬
‫لش ٍيء فقد قتلوني معه‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫وها أنا أعد ألايام والدقائق والثواني هنا‪ ،‬ليس ألخرج وألستنشق نسيم‬
‫الحرية‪ ..‬بل ألذهب إليه هناك عند رب حكيم عادل‪ ،‬ال يظلم عنده أحد‪ ..‬لقد‬
‫اشتقته بشدة‪ ،‬ولم يعد هناك سبيل إليه سوى املوت‪ ..‬إني لم أستطع أن أبقيه‬
‫ً‬
‫ولكني أستطيع شيئا آخر‪ ..‬أستطيع أن أذهب إليه بسهولة‪.‬‬
‫أجل هذه هي وسيلتي الوحيدة كان هو كل حياتي وقد رحل فما الذي‬
‫يبقيني‪.‬‬
‫أنا مقبلة على املوت بكل قوتي‪ ..‬أتخيل أنني بمجرد أن أموت‪ ،‬وأصبح في‬
‫جوارهللا سيجود هللا علي به‪ ..‬هو الوحيد الذي يعلم مدى ألالم‪ ..‬يعلم حال قلبي‬
‫الذي أكله الفقد‪ ،‬وهده الظلم‪.‬‬
‫ً‬
‫أحيانا أحس أنه سيكون في استقبالي‪ ،‬نعم في استقبالي فأنا حبيبته‪..‬‬
‫ً‬
‫وسأزف إليه على أيدي الحور العين وسيكون مسكني بيتا بالجنة‪ ،‬حتى لو‬
‫عشت بصحراء مقفرة‪ ،‬ما دام هو هناك فهي بالنسبة إلي جنة مزهرة‪.‬‬
‫لكن الش يء الوحيد الذي ينغص أحالمي تلك هو خوفي على أهلي‪ ،‬وعلي‬
‫كل الذين أحبهم‪ ..‬هل تصدقون أنني أتمنى أن آخذهم معي هلل حيث الحق‬
‫العدل والرحمة؟ أخش ى على أبي الذي لم يقسو علي إال ألنه يحبني‪ ،‬أخش ى على‬
‫إخوتي البنات أن يصيبهن ما أصابني‪ ..‬أخش ى على أخي أن يحدث له ما حدث‬
‫لزوجي‪ ..‬مسحت دمعة ترقرقت في عينها ثم قالت‪:‬‬
‫عام ونصف‪ ..‬أتت على كرسيها املتحرك‬ ‫‪-‬آخرمرة رأيت أمي فيها كانت منذ ٍ‬
‫ً‬
‫وقد بلغها الكبر‪ ،‬وأصابها الوهن‪ ،‬أتت رغما عن السرطان الذي أنهكها لرؤيتي‬
‫بالسجن‪ ،‬ال تعلم لي خطيئة‪ ،‬وال تعلم ملا حرمت رؤياي؟ وملاذا جعلوني بعيدة‬
‫عنها في أحلك أيام مرضها؟‪ ..‬كانت تعد ألايام الباقية لتحضر حفل زفافي‪،‬فما‬
‫الذي حدث؟‬

‫‪127‬‬
‫جاء بها أبي على الكرس ي عندما بكت وطلبت رؤيتي رغم نصح ألاطباء‬
‫بمالزمتها الفراش‪.‬‬
‫أبي كتب لي ورقة بالكاد قرأتها بين أسالك قفص إلاتهام مكتوبة عليها‬
‫جملة من ثالثة كلمات فقط‬
‫"سامحيني يا ابنتي" ‪.‬‬
‫ال أدري ملاذا كتب ذلك؟ لكن لم يجبنا العالم‪ ..‬ماتت أمي ولم أستطع‬
‫ً‬
‫وداعها‪ ..‬وحكم علي باإلعدام بتهم ال أدري عنها شيئا‪ ،‬سامحني أنت يا أبي‬
‫فاأليام الباقيات قليلة‪ ،‬أتمنى رؤيتك قبل أن أرحل‪.‬‬
‫وشفقة ‪ ،‬هيجت‬
‫ٍ‬ ‫ألم‬
‫كن يستمعن لها بإنصات‪ ،‬ودموعهن تسيل في ٍ‬
‫ألم بأمله‪ ،‬وكل ذي فقد بفقده ‪ ،‬ضاقت‬ ‫حكايتها مشاعرهن ذكرت كل ذي ٍ‬
‫بشدة حتى ما عاد هناك متسع ألنفاسهن ‪.‬‬‫ٍ‬ ‫صدورهن‬

‫ظلت تغدو وتروح بالحجرة‪ ،‬هي ال تعلم ما الذي تشعر به‪ ،‬هل هو الحنق‬
‫على أروى والغضب منها؟‪ ..‬أم هل هو القلق عليها؟ أم هل هو إلارتباك والخوف‬
‫من اللقاء بأهل أحمد؟مشاعرها متضاربة‪ ،‬وأعصابها متوترة وتفكيرها‬
‫مشوش مشتت‪.‬‬
‫وكانت أروى الحصن الذي تلوذ به‪ ،‬وتلجأ إليه بعد مرض أمها‪ ،‬عند هذه‬
‫ً‬
‫النقطة تحديدا أصابها إحساس السخط على أروى‪ ،‬وتمنت عدم وجودها من‬
‫البداية‪ ..‬من آلان يجب أن تعتمد على نفسها‪ ،‬وأن تواجه حياتها بمفردها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كفاها استنادا على الغرباء‪ ،‬وارتكازا على آلاخرين‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫من البداية وحالة أروى توحي بأنها تفضل الغياب على التعلق تفضل أن‬
‫توئد الحب في مهده قبل أن يكبر‪ ..‬تنهدت بعمق‪ ،‬ورغم حنقها عليها رفعت كفها‬
‫إلى السماء داعية من كل قلبها قائلة‪:‬‬
‫يارب احفظها أينما كانت واحرسها بعينك التي ال تنام نظرت في ساعتها‬
‫وجدتها السادسة والنصف باقي على ميعاد اللقاء ساعة ونصف فقط ماذا لو‬
‫اعتذرت؟ ما الذي سيقوله عنها والد أحمد؟‬
‫ما الفكرة التي ستطبع في ذهنه عنها ؟ ال شك سيقول مستهترة ال تراعي‬
‫املواعيد‪ ،‬وال تحترم الوعود‪ ،‬وال تقدس خصوصيات الناس‪.‬‬
‫آثرت الذهاب وليحدث ما يحدث ملاذا تعطي هذا ألامر كل هذا القدر من‬
‫التفكير؟‪ ..‬إن كسبت الرجل في صفها فهذا خير‪ ،‬وإن لم يحدث فهي ال تملك‬
‫ُ‬
‫من أمرها شيئا‪ ،‬وستترك ألامركله هلل فهو أقدرعلى اختيارالصواب وتهيئته لها‪.‬‬
‫توضأت ثم صلت ركعيتن‪ ،‬ارتدت مالبسها واتجهت إلى املكان املتفق‬
‫عليه‪..‬‬
‫كان املكان عبارة عن حديقة صغيرة الحجم إلى حد ما وتبعد عن سكنها‬
‫ً‬
‫قليال‪ ،‬واملنظرالعام لها يبعث باالطمئنان‪ ..‬الخضرة املنتشرة ونافورات املياه‪،‬‬
‫وبعض التماثيل الصغيرة‪ ،‬وألاطفال الذين يركضون في بهجة وسعادة كل هذا‬
‫نشر الطمأنينة بداخلها ‪.‬‬
‫ً‬
‫سارت في ممر الحديقة قليال ثم وقعت عيناها على أحمد وشخص آخر‬
‫يجلس معه نظرت إلى أحمد نظرة سريعة‪ ،‬والواقع أنه كان حلو القسمات‪،‬‬
‫ً‬
‫جميل التقاطيع‪ ،‬ارستقراطي املنظر‪ ،‬يشع وجهه بهجة وحسنا كان يرتدي حلة‬
‫واهتمام باملظهر‬
‫ٍ‬ ‫صدر‬
‫ٍ‬ ‫واتساع‬
‫ِ‬ ‫قوام‪ ،‬ورشاقة قد‪،‬‬
‫أنيقة كشفت عن اعتدال ٍ‬
‫مبالغ فيه حتى لكأنه عريس ب ل هو كذلك‪ ،‬تلك كانت النظرة الخاطفة التي‬
‫التقطتها عينيها‪ ،‬وكلما اقتربت منه وجدت بدلته محكمة إلاغالق وكأنها قطعة‬

‫‪129‬‬
‫منه‪ ،‬شعرت وكأنه أحد فرسان العصور الوسطى‪ ،‬وسيطير بها على جواده بعد‬
‫قليل فها هم هي وهو والخضرة‪ ،‬وال ينقصهم ش يء سوى الجواد املجنح‪،‬‬
‫ً‬
‫وبمجرد أن اقتربت منه وقف أحمد وهتف مرحبا بها‪ ،‬أشارإلى الواقف بجواره‬
‫وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫هذا أدهم أخي‪ ،‬ثم التفت إليها وقال موجها الحديث ألحمد‪:‬‬
‫ً‬
‫وهذه هي نسيم التي لطاملا حدثتك عنها‪ ،‬كادت أن تذوب خجال من‬
‫ً‬
‫تصريحه السخيف هذا تنحنح أدهم بادئا الحوار قائال‪-ً:‬‬
‫ً‬
‫معذرة حدثت بعض ألامور التي كانت تستدعي حضور الوالد شخصيا‪،‬‬
‫ً‬
‫وتسببت في غيابه عن اللقاء رغما عنه‪.‬‬
‫تفهم شردت عن حديثه ولسان حالها يقول‪:‬‬ ‫هزت رأسها في ٍ‬
‫"حمدا هلل هذا ما كنت أتمنى"‬
‫تحدثا في أشياء كثيرة‪ ،‬فهمت أن أدهم يحاول أن يأخذ صورة مكبرة‬
‫لعقلها‪ ،‬وأفكارها‪ ،‬وطباعها‪ ..‬كانت تشعربالخجل في بادئ ألامر‪ ،‬لكنها بعد ذلك‬
‫ً‬
‫حد كبير‪ ..‬وهذا‬
‫طالقة‪ ،‬تفكيرهم كان متشابها إلى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أصبحت تتحدث معه بكل‬
‫منحها إحساس بالثقة والطمأنينة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ذاهب لقضاء ش ٍيء ما ابتعد قليال‪،‬‬ ‫بعد لحظات استئذن أدهم‪ ،‬وكأنه‬
‫وجلس يلعب مع بعض ألاطفال املوجودين بالحديقة وكأنه طفل منهم‪.‬‬
‫ران حولهم صمت طويل سببه حياء عقد ألسنتهم‪ ..‬حاولت أن تنفض‬
‫الحياء عن نفسها فليس هناك ما يبرره‪ ،‬هذه جلسة شرعية بحتة أقرها‬
‫الدين‪ ،‬وأكد عليها العرف إلاسالمي‪ ..‬حاولت جاهدة أن تقطع الصمت بحديث‬
‫ما لكنها لم تستطع‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر أحمد إلى أدهم ثم التفت إليها قائال‪:‬‬

‫‪130‬‬
‫‪ -‬أخي لطيف‪ ..‬أل يس كذلك‪ ..‬منذ لحظات كان يتحدث وكأنه أحد علماء‬
‫عصره‪ ،‬أما آلان فهو يلعب وكأنه أحد ألاطفال!‬
‫ابتسمت دون أن ترد‪.‬‬
‫أراك صامتة‪ ،‬لعله الخجل‪ ..‬ال أنا لن أضيع وقتي الثمين في هذا‬ ‫‪ -‬ما لي ِ‬
‫إليك دون قيود‪..‬‬
‫الصمت‪ ..‬إنها الجلسة الوحيدة التي يأمرني فيها هللا بالنظر ِ‬
‫معك دون تحفظات‪.‬‬ ‫وبالحديث ِ‬
‫الكتب‪ ،‬ابتسم ثم‬
‫ِ‬ ‫هواة‬
‫أنك من ِ‬ ‫هواياتك‪ ..‬أعلم ِ‬
‫ِ‬ ‫اسألك عن‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬هل لي أن‬
‫مصطنع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫خبث‬
‫قال في ٍ‬
‫واحد في منزلنا ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬يبدو أنني لن أسمح بدخول ٍ‬
‫كتاب‬
‫‪-‬رفعت حاجبها متسائلة‪:‬‬
‫لم؟‬‫‪َ -‬‬
‫‪ -‬ألنني شرقي الصفات ‪،‬أغار حتى من الكتب!‬
‫ً‬
‫‪-‬خفضت بصرها أرضا ولم تتكلم‪.‬‬
‫هواياتك ألاخرى؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ها‪ ..‬ما هي‬
‫‪-‬أحب الابتكار في الطهى‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إليها في دهشة قائال‪:‬‬
‫‪-‬باريسية‪ ،‬وتجدين الطهي؟!‪..‬عندنا في مصريقولون أقرب طريق إلي قلب‬
‫الرجل معدته!‬
‫أجابت ضاحكة‪:‬‬
‫‪-‬وهل تقتنع أنت بهذا الكالم؟‬
‫‪-‬وهللا إن كان الطعام عبارة عن "امللوخية املصرية" فأنا أعتقد أن هذا‬
‫ً‬
‫الكالم منطقي جدا‪.‬‬
‫‪-‬ملوخية!!‬

‫‪131‬‬
‫‪ -‬أكلة غريبة سأعلمك طهيها فيما بعد ‪.‬‬
‫‪-‬وماذا لو كنت أطهوها وبجدارة‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إليها في استغراب قائال‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬حقا؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫علمك إياها؟‬ ‫ومن‬‫‪َ -‬‬
‫ِ‬
‫‪-‬أمي‪ ..‬وأنت ماذا عن هواياتك؟‬
‫‪ -‬كثير لكن أهمهم عندي ركوب الخيل‪.‬‬
‫‪ -‬لطيف ركوب الخيل‪ ..‬حاولت مرارا أن أتعلمه لكن لم أوفق بعد‪ ..‬وذلك‬
‫ألنني في كل مرة كنت أخش ى السقوط من فوق الحصان‪.‬‬
‫مدرب غيري‪ ..‬أما إذا كنت أنا املعلم فلن تسقطي‪..‬‬ ‫ٌ‬ ‫معلمك كان‬ ‫‪ -‬هذا ألن‬
‫ِ‬
‫بمجرد حدوث الخطبة وعقد القران‪ ..‬سنبدأ املران إن شاء هللا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬سريعا هكذا؟!‬
‫أنك تلميذة متكاسلة‪.‬‬‫‪-‬يبدو ِ‬
‫ً‬
‫‪-‬تقريبا‪ ،‬وماذا عن هواياتك ألاخرى‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أحب الرسم وكتابة القصص‪.‬‬
‫ضحكت ملئ شدقيها قائلة‪:‬‬
‫‪-‬وما عالقة هذا بالطب؟‬
‫معينة؟‬
‫ٍ‬ ‫فئة‬
‫‪-‬ال توجد عالقة‪ ..‬هل الرسم وكتابة ألادب حكر على ٍ‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬لكن ما دمت تحب هذه ألاشياء فلماذا لم تخصص في إحداها؟‬
‫‪-‬هذه ألاشياء ال يحسن التخصص فيها‪ ،‬ولن أستطيع أن أرتزق منها‪ ..‬في‬
‫ً‬
‫مصرالاهتمام بالرسم وألادب منعدم‪ ..‬الشعب املصري ال يريد من الدنيا شيئا‬

‫‪132‬‬
‫سوى رغيف الخبز‪ .‬وإن اهتم القليل منهم بالفنون وألادب فهذا ليس ش يء‬
‫سوى أن يقال عنه مثقف!‬
‫تطرقا إلى الحديث عن تربية ألابناء‪ ،‬وهل سيستقران في مصرأم في فرنسا‬
‫‪ .‬انتهى اللقاء‪ ،‬وعادت إلى منزلها فرحة منتشية كم ودت لو طال اللقاء!‪ ..‬لقد‬
‫أصاب القلب ما يمكن أن يسمى بتباشير الحب التي أزالت عنه ذلك السبات‬
‫العميق املغرق فيه‪ ،‬وأزالت عنه تلك ألاغطية السميكة من الحزم والكبت‬
‫بعمق‪ ..‬هي قلقة حائرة بين لذة إلاحساس‬‫ٍ‬ ‫والتربية التي تراكمت فوقه‪ ..‬تنهدت‬
‫ومتعة الشعور الجديد وبين الخوف من أبيه والرهبة من حالة أمها‪ ..‬لكنها على‬
‫كل حال أصبحت تتلهف على لقاء آخر‪ ،‬وعلى حديث أطول وعلى قرب أكثر‪.‬‬

‫ً‬
‫‪-‬ملاذا عدت مبكرا يا بني‪ ،‬هل تشعر باإلرهاق والتعب؟‬
‫ً‬
‫‪-‬ال‪ ..‬لكني عدت من أجل أن أخبرك شيئا آخر‪.‬‬
‫‪-‬ما هو ؟‬
‫‪-‬هل تذكر صديقي عبدالرحمن الذي كان يزورنا في شقتنا القديمة‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬أذكره‪.‬‬
‫‪-‬لقد رأيته اليوم‪.‬‬
‫‪-‬وكيف حاله؟‬
‫ً‬
‫‪-‬بخير‪ ..‬لقد انتقلوا هم أيضا من شقتهم‪ ،‬لقد رأيته أمام مدرسته وأخبرني‬
‫أن أبيه قد توفى‪.‬‬
‫‪-‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ..‬رحمه هللا‪ ،‬هل هذا ما أردت إخباري به؟‬

‫‪133‬‬
‫‪-‬ال‪ ،‬ما أردت إخبارك به هو أنني عقدت العزم على الذهاب معه إلى‬
‫املدرسة‪.‬‬
‫تفاجأ الرجل بقول ابنه‪ ،‬وخيمت على وجهه سحابة من اليأس والكآبة‪،‬‬
‫ولم ينبس ببنت شفة‪ ..‬ترك الولد في مقعده ال زال ينتظر رده‪ ..‬استند على أحد‬
‫الجدران واتجه إلى غرفته دون أن يجيب‪.‬‬
‫لم يفهم الطفل ما الذي أحزنه هكذا؟‪ ..‬حمل مناديله واتجه إلى الشارع‬
‫ثانية‪ ..‬البد أن يبيع هذه العلب كلها فاليوم هو آخر يوم له في العمل‪ ،‬سيكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جنب مع عبدالرحمن‪.‬‬ ‫غدا في املدرسة جنبا إلى ٍ‬
‫متأخر من الليل دون أن‬
‫ٍ‬ ‫ظل يتجول في الشوارع‪ ،‬وإشارات املرور ٍ‬
‫لوقت‬
‫ينجح في بيع نصف بضاعته حتى‪ ..‬ظل هكذا إلى أن داعب النوم أجفانه‪ ..‬اتجه‬
‫ً‬
‫إلى املنزل سيبيع باقي علبه غدا في املدرسة‪ ،‬ال بد أن الاساتذة والتالميذ‬
‫يحتاجون إليها‪.‬‬
‫يبدو أن الفكرة أعجبته‪ ..‬سيذهب إلى املدرسة ويتعلم‪ ،‬ومع ذلك سيبيع‬
‫مناديله حتى يحصل على ثمن الطعام‪0‬‬
‫متأخرة‪ ،‬كان يظن أن الجميع قد ناموا‪ ..‬لكن‬
‫ٍ‬ ‫ساعة‬
‫ٍ‬ ‫دخل إلي البيت في‬
‫ً‬
‫أباه ما يزال متيقظا‪ ،‬ينتظرعودته‪ ،‬وبمجرد أن سمع صوت الباب يفتح وأحس‬
‫بوجود الصبي حتى اطمئن عليه‪ ،‬وأطفأ مصباحه وركن إلى النوم‪.‬‬
‫ً‬
‫كاملة‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫بساعة‬
‫ٍ‬ ‫وفي الصباح استيقظ الطفل مبكرا قبل ميعاد صحوه‬
‫بالغة وكأنه خش ي أن تؤخره الصالة على املدرسة‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫سرعة‬
‫ٍ‬ ‫توضأ وأدى صالته في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ارتدى قميصا نظيفا جديدا إلى حد ما‪ ،‬وكان هذا هو أهم ما في ألامر‪ ،‬أن تخلص‬
‫ً‬
‫مؤقتا من قميصه املمزق الذي يحمل آثار العمل‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫ً‬
‫حمل مناديله واتجه صوب املدرسة‪ ،‬لم يجد أحدا من الطالب أمامها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فقد كان الوقت مبكرا‪ ..‬جلس ينتظر قدومهم‪ ..‬أخذ الطالب يتوافدون واحدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سرور قائال‪-:‬‬
‫ٍ‬ ‫تلو آلاخر‪ ،‬وأخيرا وصل عبدالرحمن اتجه نحوه في‬
‫‪-‬لقد جئت ثانية‪.‬‬
‫‪-‬أجل‪ ..‬جئت من أجلك‪.‬‬
‫‪-‬من أجلي أنا؟!‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬حتى ال أتركك وحدك‪.‬‬
‫‪-‬وماذاقال أبوك؟‬
‫ُ‬
‫‪-‬لم يقل شيئا‪.‬‬
‫‪-‬وأين ستنتظرني؟‬
‫‪ -‬ما رأيك أن أدخل معكم إلى املدرسة وأجلس إلى جانبك‬
‫تمن بالغ‪:‬‬
‫تهلل وجه عبدالرحمن وقال فى ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬حقا؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬أمسك عبدالرحمن بيد دمحم واتجها إلى داخل املدرسة‪ ..‬كان عبدالرحمن‬
‫يقوم بدور القائد‪ ،‬ظل يشير إلى ألاماكن ويعلم دمحم بأسمائها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هذا هو امللعب‪ ..‬نؤدي فيه الطابور الصباحي‪ ،‬ونلعب فيه أيضا‪ ..‬وهذه‬
‫ً‬
‫هي حجرة املكتبة أذهب إليها أحيانا ألتسلى بقراءة القصص‪ ،‬لكنني سئمتها‪،‬‬
‫وأصبحت أفضل لعب الكرة على القراءة‪ ..‬وهذا هو مكتب املدير‪....‬‬
‫لم يستطع أن يكمل عبارته فقد دق جرس الطابور الصباحي‪ ،‬اصطف‬
‫دمحم مع الطالب‪ ،‬لم ينتبه إليه أحد من العاملين باملدرسة ظل التالميذ ينظرون‬
‫واشمئزاز إلى أن انتهى الطابور‪ ،‬واتجه معهم إلى الفصل‪ ،‬جلس‬ ‫ٍ‬ ‫ترفع‬
‫إليه في ٍ‬

‫‪135‬‬
‫بجانب عبدالرحمن‪ ،‬ووضع مناديله إلى جانبه على ألارض‪ ،‬لكن مشاكسات‬
‫ألاطفال لم تنته‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬مش ى أحدهم متجها إلى ألامام‪ ،‬وفي مشيته مد قدميه متعمدا أن‬
‫يبعد مناديله من مكانها‪ ..‬قام دمحم ليعيد العلبة التي انحرفت عن باقى العلب‪..‬‬
‫ً‬
‫ولكن قبل أن يصل إليها مد أحدهم قدمه فاعترض بها طريقه محاوال إيقاعه‪،‬‬
‫ً‬
‫ونجحت املحاولة‪ ،‬هوى دمحم على ألارض فاردا ذراعيه‪ ..‬تبعثرت العلب وانطلق‬
‫ً‬
‫بكاءه من جراء الصدمة‪ ..‬وما لبث أن قام متحامال على نفسه حتى يجمع العلب‬
‫التي تبعثرت ودهس الصبية بعضها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قام عبدالرحمن مندفعا محاوال الدفاع عن صاحبه‪ ،‬لكن أحد الصبية‬
‫ً‬
‫ركله في بطنه هو آلاخر‪ ..‬صدرت منه أهة مكتومة‪ ،‬ووضع يده على بطنه ممسكا‬
‫ألم‪ ..‬وهنا علت قهقهة الصبية‪ ،‬ووقفوا يمنون أنفسهم بمعركة وشيكة‬ ‫بها في ٍ‬
‫الوقوع‪.‬‬
‫عندما رأي دمحم ما أصاب عبدالرحمن زال من نفسه كل إحساس‬
‫بالعداوة تجاه هؤالء وحل محله إحساس بالشفقة تجاه عبدالرحمن والخوف‬
‫ً‬
‫من أن يكون قد أصابه مكروه‪ ..‬حاول أن يقوم متعكزا على قدميه لكن صبي‬
‫شديد‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بألم‬
‫آخردفع بقبضة يمناه في وجهه فأصابت أنفه‪ ،‬وأحس من إلاصابة ٍ‬
‫ً‬
‫وغامت عينه حتى لم يعد يرى شيئا‪ ،‬وقبل أن يهوي على ألارض حاول أن يستند‬
‫ً‬
‫على أحدهم‪ ،‬لكن الفتى جذبه من ياقة قميصه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أتريد أن تقع علي حتى تقتلني؟ ثم جذبه من عنقه بقوة حتى استقرت‬
‫ياقة القميص بيده تاركة القميص وصاحبه‪ ،‬شعردمحم بتمزق قميصه الجديد‪،‬‬
‫قميص ألاعياد فقط الذي ضحى بعيده القادم من أجل أن يلبسه في املدرسة‪،‬‬
‫وفي هذه اللحظة التف حول الفصل تالميذ الفصول املجاورة‪ ،‬وأتى بعض‬
‫املعلمين ليتداركوا ألامر‪ ..‬ارتفعت أصوات التالميذ كل منهم يريد أن يحكي ما‬

‫‪136‬‬
‫ً‬
‫حدث‪ ..‬وأخيرا ارتفعت يد املدير لتلطم دمحم لطمة أسالت الدم من شفتيه‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫رفع يديه مهددا إياه من الدخول إلى املدرسة مرة أخرى‪.‬‬
‫اتخذ طريقه إلى الباب‪ ..‬ولكنه تذكر أمراملناديل فعاد ليأخذها‪ ،‬ألقاها‬
‫أحد العمال في وجهه‪ ..‬نظر إليها في ذهول لم تكن العلب بهيأتها بل كانت علب‬
‫مقطعة مدهوسة‪ ،‬تركها الصبي خلفه ومض ى‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يجد الصبي بدا من الانصراف‪ ،‬والدمع ينهمر من عينه‪ ،‬وقطرات‬
‫الدماء تسيل من شفتيه وأنفه على قميصه املمزق‪ ،‬وقلبه يفيض بالغضب‬
‫واملرارة وبغض الناس‪.‬‬
‫لم يعرف بأي وجه سيعود إلى الب يت‪ ،‬ولم يعرف كيف ينتقم من املدير‬
‫واملعلمين‪ ..‬وهو ضعيف عاجز ال حول له وال قوة‪ ،‬ظل يضرب في الطرقات علي‬
‫غير هدى‪ ،‬ال يدري إلي أين يذهب؟ وإلي َمن يشكي؟ ظل يسير ويسير دون توقف‬
‫حتي وجد نفسه أمام البحر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان صغيرا على مثل هذه ألامور‪ ،‬صغيرا على الشكوى ألمواج البحر‪..‬‬
‫ً‬
‫صغيرا على البكاء أمامه‪ ..‬لم ير من الدنيا غير السواد‪ ،‬نظر إلى البحر فوجد‬
‫ً‬
‫رحمة‪ ..‬امتلئ البحرهو آلاخربالظلم‬
‫شفقة وال ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أمواجه تلطم بعضها بعضا بغير‬
‫حتى فاض على الصخور املتناثرة أمامه‪ ..‬فاألمواج تضرب فيها هي ألاخرى دون‬
‫أن تكل أو تمل‪ ..‬والصخور صامدة صامتة ال تستطيع املقاومة أمام قوة‬
‫وصمود إلى أن تتفت‬
‫ٍ‬ ‫وصبر‬
‫ٍ‬ ‫بصمت‬
‫ٍ‬ ‫ألامواج وكثرتها‪ ..‬فقط تقبل اللطمات‬
‫وتتهاوى‪.‬‬
‫كل ش ٍيء يوحي بالظلم والقهر‪ ،‬رفع بصره إلى السماء فوجد السحاب هو‬
‫آلاخريخفي ضوء القمر‪ ..‬وكأن الطبيعة اجتمعت كلها ضده‪ ،‬ولم ترد أن تجعله‬
‫يرى من الدنيا غير س وادها‪ ..‬تأخر الوقت وتقدم الليل والطفل ال يزال مكانه‪..‬‬
‫فقد القدرة على التحرك‪ ،‬كيف سيعود إلى البيت‪ ،‬كيف سينظر في وجه أبيه‬

‫‪137‬‬
‫ً‬
‫ثانية‪ ،‬ذلك ألاب الذي يعتبره على صغر سنه رجال‪ ..‬ماذا سيقول له ترى هل‬
‫سيخبره بأنه ضرب‪ ،‬ودهست مناديله وفقد رأس ماله ومصدر رزقه‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫أما عن ألاب‪ ،‬فقد كان قلقا‪ ،‬ال يدري ما الذي حل بالفتى خرج مبكرا ولم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يعد حتى آلان‪ ..‬شارف الوقت على منتصف الليل‪ ،‬أخبره مرارا وحذره مرارا من‬
‫التأخير‪ ..‬هو آخر َمن تبقى من أبناءه‪ ..‬ترى ما الذي حل به هو آلاخر؟‪ ..‬رفع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بصره إلى السماء راجيا من هللا أن يرده إليه ساملا‪.‬‬
‫ً‬
‫اتجه نحو الباب وظل يفتحه مرارا‪ ،‬ويرهف السمع عله أن يسمع وقع‬
‫مجيب‪ ..‬زاد حزنه‪ ،‬وضاق صدره‪ ،‬وكأن جدران‬ ‫ٍ‬ ‫خطواته على السلم‪ ،‬لكن ما من‬
‫املنزل تطبق عليه‪.‬‬
‫اتجه إلى الشرفة الضيقة امللحقة بالغرفة عله يتنسم بعض الهواء‪..‬‬
‫متأخر من الليل‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫ملحه أحد الشباب الذين يلعبون الكرة بالشارع حتى ٍ‬
‫وقت‬
‫ظل الرجل يغدو ويروح والقلق والاضطراب باديان على وجهه‪.‬‬
‫ً‬
‫ملحه الشاب مرة أخرى‪ ،‬توقف عن اللعب وارتفع صوته قائال‪:‬‬
‫‪-‬عم عاطف‪ ..‬هل هناك ش ٌي ما؟‬
‫‪-‬ال يا بني‪.‬‬
‫التف باقي الفريق حول الشاب وهم يشعرون أن في ألامر خطب ما‪ ،‬ثم‬
‫بإلحاح‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫كرروا السؤال هذه املرة‬
‫أجاب الرجل‪:‬‬
‫يء فقط دمحم تأخر على غير العادة وأشعر بالقلق عليه‪.‬‬ ‫‪-‬ال ش َ‬
‫‪-‬ال تقلق سنذهب كلنا للبحث عنه‪.‬‬
‫لم يجب الشيخ‪ ،‬فقط تركهم وما يريدون أن يفعلوا‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫كل منهم سلك اتجاه غير اتجاه‬ ‫انقسم الشباب إلى ثالث مجموعات‪ٌ ..‬‬
‫آلاخرين بعد أن اتفقوا على مهاتفة بعضهم البعض حال العثور عليه‪.‬‬
‫ظل الشباب يبحثون عنه في ألاماكن القريبة‪ ،‬وإشارات املرور‪ ،‬وأماكن‬
‫ً‬
‫بلحظات‪ ،‬اتفقوا على‬
‫ٍ‬ ‫تجمع الصبية لكن دون جدوى‪ ،‬وأخيرا قبيل أذان الفجر‬
‫العودة‪ ..‬لم يرجعوا بش ٍيء‪ ،‬عادوا بخفي حنين فقط‪.‬‬
‫شديد ووعدوه أن يعاودوا الكرة في الصباح‪ ،‬علهم‬ ‫ٍ‬ ‫بأسف‬
‫ٍ‬ ‫أخبروا الرجل‬
‫ً‬
‫يعثرون عليه‪ ،‬فلعل النوم قد غلبه في مكان ما فنام ولن يستيقظ إال صباحا‪.‬‬
‫ُ‬
‫لم يقل الشيخ شيئا‪ ،‬لديه أمل آخر‪ ..‬سينتظرحتى الصباح‪ ..‬سيدعو هللا‬
‫أال يصيبه ما أصاب إخوته من قبل‪ ..‬ما أشبه موقفه بموقف يعقوب عليه‬
‫السالم‪ ..‬ظل يناجي الزمن الذي لم يرحم كهولته‪ ،‬ولم يحترم شيبة رأسه‪،‬‬
‫ولسان حاله يقول‪:‬‬
‫" بل أمنتك عليه كما أمنتك على أخويه من قبل‪ ..‬تشابهت ألاقدار ترى‬
‫هل ستتشابه املصائر؟!‬
‫ً‬
‫ترى هل سيجود عليه القدربقميص يوسف؟ ترى هل سيعود إياد عزيزا‬
‫ومعه إخوته؟‪.‬‬
‫ً‬
‫غفا على مقعده واختلط واقعه بأحالمه‪ ،‬رأى إياد عائدا لكن مالبسه‬
‫ملطخة بالدماء‪ ..‬رأى عائشة يحيط بها الذئاب من كل جانب‪ ،‬وهي صامتة‬
‫ً‬
‫ساكنة ال تحرك شيئا‪ ..‬ثم فجأة يظهر دمحم وكأنه رجل عجوز‪ ،‬ظهره مقوس‬
‫ً‬
‫ويستند على عصا‪ ...‬انتبه من غفلته فجأة‪ ،‬تبا لهذه ألاحالم البغيضة التي تأبى‬
‫أن تتوقف‪ ،‬وترغب في زيارته كل يوم‪.‬‬
‫شعاع من أشعة الشمس‪ ،‬وتناهت إلى أذنه خطوات‬ ‫ٍ‬ ‫شعر بتسلل أول‬
‫ً‬
‫العاملين وأصواتهم‪ ،‬اتجه إلى الشرفة ونظر إلي أسفل هو يعلم أنه ال يرى شيئا‬

‫‪139‬‬
‫لكنه سيحس به‪ ،‬سينبأه قلبه بعودة ابنه وبوجوده في الطريق‪ ..‬ترى هل‬
‫سيكون هذا الطريق هو طريق العودة لكل أبناءه؟‬
‫دخل إلى تلك الراقدة‪ ،‬أعط اها دوائها‪ ..‬سألت على دمحم فأنبأها بأنه عاد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متأخرا‪ ،‬وذهب مبكرا ‪..‬لطاملا قرأ قصة يوسف‪ ،‬لكنه لم يقدرموقف " يعقوب‬
‫عليه السالم " إال عندما جرب مرارة الفقد‪ ..‬لطاملا قرأ قصة‬
‫" إبراهيم" و " إسماعيل "عليهما السالم‪ ،‬لكنه لم يقدر موقف إبراهيم‬
‫ً‬
‫عليه السالم إال عندما قدم دمحم قربانا على معبد ألاسرة‪ ،‬ضحى به من أجل‬
‫ً‬
‫لقمة العيش‪ ..‬انتزعه من طفولته انتزاعا‪ ،‬من مدرسته‪ ،‬من أصدقائه‪ ..‬من‬
‫عامله‪ ،‬ومن دنياه حتى مل الولد حياته‪ ،‬وفضل الغياب‪ ،‬ليته يعود سيبيع كل‬
‫ما يملك حتى غرفة السطح سيتخلى عنها من أجل أن يعيده إلى املدرسة‪ ،‬من‬
‫أجل أن يحقق له مطلبه‪ ،‬سيفعل كل ما يطلب‪ ،‬فقط لو عاد‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪140‬‬
‫(‪)11‬‬
‫انتصار الطبيعة‬

‫غادر املعزون‪ ،‬وسكنت ألاجواء‪ ،‬خفتت ألاضواء‪ ،‬وأظلم الليل الكئيب‪..‬‬


‫الفيال صامتة حزينة‪ ،‬والليل محيط بها م ن كل جانب حتى أصبحت للناظر‬
‫وكأنها امرأة ملتفة في ثوب الحداد‪.‬‬
‫هل يا ترى ستستطيع أن تدبر أمورها بمفردها؟ هل ستقوم ببيعها‬
‫وتشتري شقة صغيرة لها؟‪ ،‬لم يكن أبوها مجرد أب فحسب بل كانت تعتمد‬
‫عليه في كل ش ٍيء‪ ،‬لم يخطرعلى بالها يوم أن تدفع هي رواتب البستاني والسائق‬
‫والطباخين‪.‬‬
‫ً‬
‫لم تتخيل يوما أن تحدد هي مواعيد أعمالهم‪ ،‬وأيام إجازتهم‪ ..‬كانت غرة‬
‫ودراسة‪ ،‬أما‬
‫ٍ‬ ‫وملبس‬
‫ٍ‬ ‫ومشرب‬
‫ٍ‬ ‫مأكل‬
‫ساذجة‪ ،‬تحسب أن الحياة تنحصر في ٍ‬
‫ماعدا ذلك فال يوجد ش ٌيء يستحق العناء‪ ،‬وقبل أن تتجه إلى غرفتها أنبأتها‬
‫إحدى الخادمات بأن دكتور كمال النشار يستأذن في الدخول‪ ..‬هزت رأسها‬
‫عالمة املوافقة‪.‬‬
‫دخل الرجل والحزن مخيم على وجهه‪ ،‬وألاس ى يقطر من صوته‪ ..‬تمتم‬
‫ببعض كلمات التعزية التي يجب أن تقال فى مثل هذه املواقف‪ ،‬لم ِتع من‬
‫ً‬
‫نصف كالمه شيئا لكنها انتبهت فجأة‪ ،‬وأصغت السمع لكالمه إذ كان يعرض‬
‫عليها العيش بمسكنه‪ ،‬وقبل أن تتلفظ بالرفض أشار لها أن تصمت ثم قال‪:‬‬
‫‪141‬‬
‫تمنعك من العيش بمسكن كل أهله رجال وال يحوي‬ ‫ِ‬ ‫أخالقك‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أعلم أن‬
‫من النساء سوى الخادمات هناك جناحان ألبنائي ينفصلون عن الفيال بعض‬
‫ً‬
‫منك أن تعيش ي معنا‬ ‫عليك وأطلب ِ‬‫ِ‬ ‫الش يء‪ ،‬وال يقطن بهم أحد حاليا‪ ،‬لن أثقل‬
‫إلى ما ال نهاية‪ ..‬ل كن هذه الفترة فقط حتى تتخطي مرحلة الحداد‪ ،‬ومرحلة‬
‫بجانبك‪ ..‬هنا الوحدة‬
‫ِ‬ ‫رجال‬
‫ٍ‬ ‫الصدمة ألاولى‪ ،‬وحتى تشعري أن هناك ثالثة‬
‫تفكيرك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يرحمك‬
‫ِ‬ ‫عزمك ولن‬
‫ِ‬ ‫قلبك وستوهن من‬‫ستأكل ِ‬
‫‪-‬أعلم صحة كالمك‪ ..‬لكن أرجوك أن تتركني هنا‪ ،‬أريد أن أظل في هذا‬
‫املكان الذي قض ى فيه أبي آخر أيام حياته‪.‬‬
‫‪-‬يا بنيتي العيش هنا لن يفيد في ش يء سوى أن يهيج هاجع الذكرى‪،‬‬
‫وينغض ألالم وينكأ الجرح‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أرجوك اتركني‪ ..‬لن أبقى هنا طويال‪ ،‬سأذهب ألكمل دراستي إنها وصية‬
‫أبي كما تعلم‪.‬‬
‫احتجت لش ٍيء في هذه القضية فال تتردي في الاستعانة بي‪..‬‬‫ِ‬ ‫معك إن‬
‫‪-‬وأنا ِ‬
‫استأذن ثم انصرف‪.‬‬
‫وهي كانت تتمنى انصرافه كانت تتلهف على الدخول إلى غرفة أبيها‪ ،‬تريد‬
‫أن تقبل مالبسه وتتأمل صوره وتدقق في خطه وكتاباته‪.‬‬
‫دخلت الغرفة‪ ،‬وجدتها كما هي‪ ،‬مكتبته العريضة ومكتبه وألاريكة التي‬
‫لطاملا جلس عليها يقرأ لها ويداعبها بعد وفاة أمها‪ ..‬اتخذت مقعدها وراء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املكتب‪ ..‬تحسست أقالمه‪ ..‬فتحت أدراج املكتب واحدا واحدا رغم أن ألاوراق‬
‫وزير‪ ..‬لم تضع الوقت في قراءتها‬‫املوجودة ال توحي بش ٍئ سوى أنها تخص أعمال ٍ‬
‫لكنها ظلت تتأمل إمضائه وكأنها تتعلق حتى بالخط الذي تركه الراحلون ‪..‬‬
‫ورق ال يفيد بش ٍيء‪ ،‬لكن ألم يخطها والدها بنفسه؟ ألم تتحسس‬ ‫حبرعلى ٍ‬‫مجرد ٍ‬

‫‪142‬‬
‫صور‪ ،‬ظلت تنظر فيه‪ ،‬هذه صورة‬ ‫يديه تلك الورقة‪ ..‬وقعت عينيها على ألبوم ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫ألبيها وهذه صورة ألمها‪ ،‬وهذه لهما معا‪ ،‬لكن هناك ش يء غريب!‬
‫امرأة تظهر في معظم الصور وكأنها أحد أفراد العائلة تظهر بجانب أمها‬
‫تأن‪ ،‬ولكنها لم تصل إلى ش ٍيء‪ ،‬ترى‬ ‫مرة وبجانب أبيها مرة‪ ..‬تأملت الصورة في ٍ‬
‫َمن تكون هذه املرأة؟ أكملت التصفح‪ ،‬وما أثار ربيتها أكثر وجود صورة غريبة‬
‫ً‬
‫جدا تتوسطها هذه املرأة‪ ،‬وإلى اليمين يقف أبوها‪ ،‬وناحية اليسار يقف دكتور‬
‫كمال ترى َمن تكون؟ وما عالقتها بوالدها وبدكتور كمال؟‪ ،‬ظلت تدقق في‬
‫ً‬
‫الصورة لكنها لم تتوصل إلى ش ٍيء‪ ،‬وأخيرا قلبت الصورة فوجدت مكتوب عليها‬
‫بخط نسائي دقيق‬
‫بخير‪ ..‬مريم"‬
‫عام وأنت ٍ‬ ‫"كل ٍ‬
‫ظلت محتفظة بهذه الصورة‪ ،‬ستسأل عنها عندما تهدأ ألامور‪.‬‬
‫لم تذكرت نسيم وهي في طريقها إلي الغرفة؟‪..‬‬ ‫اتجهت إلى غرفتها‪ ،‬وال تدري َ‬
‫شعرت بالحزن من تصرفها املت خاذل تجاهها‪ ..‬ملاذا لم تسأل عنها؟‪ ..‬ملاذا لم‬
‫تذهب إلى السفارة‪ ،‬وتحاول أن تتوصل إليها؟ ملاذا حتى لم تسأل عن الوزير‬
‫محمود الشرقاوي‪ ،‬أكثير هذا الاهتمام عليها؟‬
‫ً‬
‫هي التي وقفت بجانبها مرارا‪ ،‬وشعرت أنها أختها‪ ،‬ملاذا تخلت عنها في‬
‫موقف مثل هذا؟‪ ..‬أطلقت زفرة حارة ت حمل الكثير من ألالم ما ال يقل عما‬ ‫ٍ‬
‫تحمله بداخلها‪ ..‬هذه هي الدنيا!!‬
‫ً‬
‫لم تشعر بالسخط على نسيم‪ ،‬ألم تتخلى هي مسبقا عن عائشة؟!‬
‫ألم تفضل الهروب مع بعض املحاوالت الواهية للوصول إليها‪ ،‬لعل‬
‫نسيم هي ألاخرى قامت ببعض هذه املحاوالت حتى تحاول أن تسترض ي ضميرها‬
‫هي ألاخرى‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫أما نسيم فقد اتخذت نفس املوقف‪ ،‬وهي ترى أن أروى قد تخلت عنها في أشد‬
‫ً‬
‫أوقاتها احتياجا إليها‪ ..‬وعدتها بالبقاء إلى جانبها‪ ،‬ثم رحلت عنها دون حتى أن‬
‫ً‬
‫تخبرها بوجهتها‪ ،‬ودون أن تقيم وزنا لقلقها عليها‪.‬‬
‫ملعت في ذهنها فجأة فكرة أن تهاتف صاحب العقار الذي يقطنون فيه‪،‬‬
‫بالتأكيد لديه فكرة عن غيابها‪ ،‬يجب أن تسأله عن مدة إلايجار الذي حددته‬
‫مكان آخردون أن تخبرها‪ ..‬لكن‬ ‫لعل مدة إيجارها انتهت‪ ،‬وقررت الرحيل إلى أي ٍ‬
‫لم؟ وما الفائدة من ذلك؟‬‫َ‬
‫لحظات أجابها املتحدث على الناحية ألاخرى‪:‬‬‫ٍ‬ ‫أمسكت بهاتفها‪ ،‬وبعد‬
‫ً‬
‫‪-‬مرحبا َمن املتحدث؟‬
‫‪-‬نسيم‪ ..‬صاحبة الشقة رقم (‪ ) 6‬بالعقار الذي تملكه‪ ،‬كنت أود‬
‫الاستفسار عن بعض ألامور‪.‬‬
‫‪-‬تفضلي‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أود السؤال عن املستأجرة التي تسكن بالشقة املقابلة لي‪ ..‬ال أعلم‬
‫أيام‪ ،‬أخش ى أن يكون أصابها مكروه‬ ‫ما الذي حل بها؟ اختفت فجأة منذ ثالثة ٍ‬
‫ما‪.‬‬
‫متأخر من الليل‪ ،‬وتركت‬‫ٍ‬ ‫وقت‬
‫‪-‬ال داعي للخوف آنستي‪ ..‬لقد غادرت في ٍ‬
‫ً‬
‫املفتاح مع حارس العقار دون أن تقول شيئا‪ ..‬لعلها تقض ي عطلة في مكان ما‪،‬‬
‫أو لعلها سافرت إلى بالدها‪.‬‬
‫‪-‬إذن ماذا عن مقتنياتها‪ ،‬هل يمكنني الحصول عليها وحفظها عندي حتى‬
‫تعود؟‬
‫‪ -‬بالطبع ال‪ ،‬هي استأجرت الشقة ملدة عام‪ ،‬ودفعت مصروفات ذلك‪،‬‬
‫وبعد انتهاء العام سنسلم مقتنياتها ألحد العاملين بالسفارة املصرية هنا‪ ..‬يبدو‬
‫‪144‬‬
‫أنها تخصهم في ش يء ما‪ ..‬أغلقت في وجهها جميع ألابواب‪ ،‬لكن في محاولة أخيرة‬
‫منها‪ ،‬سألته قبل أن يغلق الهاتف‪ ،‬أال يوجد رقم ما أستطيع أهاتفها فيه؟‬
‫يمكنك الذهاب إلى السفارة املصرية‪ ،‬والسؤال عنها إن‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬آسف ال أعلم‪..‬‬
‫كنت تعلمين اسمها بالتفصيل‪.‬‬‫ِ‬
‫شكرته في ش ٍيء من الحرج وأنهت معه الحديث‪ ..‬ال يوجد أمامها سوى‬
‫الذهاب إلى السفارة‪ ،‬لكنها تخش ى هذه ألاماكن‪ ،‬هي لم تتعود على املواجهة‪ ،‬وال‬
‫على الذهاب إلى هذه ألاماكن السياسية البحتة‪ ،‬ملاذا وضعتها أروى في هذا‬
‫املوقف شعرت بالحنق عليها‪ ،‬وبالغيظ يملئ صدرها‪ ،‬واتخذت قرارها الحازم‬
‫الذي ال رجعة فيه يجب أن تغلق صفحة أروى إلى ما النهاية‪ ،‬ستعتبرنفسها لم‬
‫ً‬
‫تلتق بها يوما ولم ترها من قبل‪.‬‬
‫ٍ‬

‫‪-‬ماذا فعلتما؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬نظرأحمد إلى أدهم‪ ،‬وكأنه يتوسل إليه أال يقول إال خيرا‪.‬‬
‫ارتشف أدهم رشفة من فنجان قهوته قبل أن يجيب‪:‬‬
‫‪-‬أصدقك القول فالفتاة طيبة‪ ،‬ويبدو أنها نشأت نشأة سليمة‪ ،‬وتربت‬
‫تربية سوية‪ ،‬عقلها واسع‪ ،‬وتفكيرها مستنير‪ ،‬تحترم دينها‪ ،‬وتقدس مبادئها‪.‬‬
‫ً‬
‫تهلل وجه ألاب لكن تهلله لم يدم إذ استطرد أدهم قائال‪-:‬‬
‫‪-‬لكن يوجد مشكلة واحدة‪.‬‬
‫استغراب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫سأله ألاب في‬
‫‪-‬ما هي؟‬
‫ً‬
‫أجاب أدهم متحاشيا النظر في عيني أخيه‪:‬‬
‫‪-‬الفتاة ال أصول لها‪ ،‬وال تعرف من أباها؟‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫ً‬
‫هب ألاب واقفا‪ ،‬وكأن حية لدغته‪ ،‬نظر إلى أحمد نظرة صارمة‪ ،‬وأشار‬
‫بيديه إلى أدهم كي يصمت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أخذ نفسا عميقا ثم قال متجاهال املوضوع ككل‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬اذهبا إلى فراشكما آلان لترتحا فالوقت متأخر‪ ،‬وغدا بعد عودتكما من‬
‫الشركة سنذهب إلى ابنة الوزير رحمه هللا لنقدم واجب العزاء‪.‬‬
‫زفر أدهم في ضيق‪ ،‬وأحس أن ألامور تتخذ مجرى آخر ال يطيقه‪ ..‬الفتاة‬
‫عادت من السفر وهو سيذهب ليقدم واجب العزاء‪ ..‬وبالجملة ال بد أن يبدي‬
‫رأيه فيها‪ ،‬ومن املحتمل أن يكون هناك خطبة كي يرض ي والده قبل أن يموت‪..‬‬
‫هذا الفيلم السخيف الذي مله‪ ،‬والذي يرجو أن ينتهي نهاية محمودة هذه املرة‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫يبدو أن ألاب فطن إلى ما يدور بخلد ابنه‪ ،‬فوضح وجهة نظره قائال‪:‬‬
‫‪ -‬أدهم‪ ،‬كف عن التفكير في مثل هذه السخافات فقد مللتك‪ ،‬ولن أطلب‬
‫ً‬
‫منك الزواج ثانية‪ ،‬أنت لم تعد صغيرا‪.‬‬
‫اذهب وقدم واجب العزاء فقط‪ ،‬الفتاة فقدت والدها‪ ،‬وليس لها من‬
‫ألاقارب أحد‪ ،‬ولقد أخبرتها من قبل أني أنا وأبنائي في خدمتها إذا احتاجت‬
‫ً‬
‫شيئا‪ ،‬دعها تطمئن إليكم حتى إذا غادرت أنا هذه الحياة تشعر أن هناك من‬
‫يمكن أن تستند عليهم ‪.‬‬
‫ً‬
‫راض‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫هز أدهم رأسه متفهما ثم قال‬
‫‪-‬أمرك يا أبي‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ً‬
‫لم تكد عقارب الساعة تشيرإلى السابعة صباحا حتى سمع الشيخ صوت‬
‫ً‬
‫طرقات على باب الغرفة‪ ،‬سارالرجل إلى الباب متحسسا طريقه إليه‪ ،‬وهو يمني‬
‫نفسه بعودة ابنه‪ ،‬لكن تأتي الرياح بما ال تشتهي السفن ‪.‬‬
‫ً‬
‫بمجرد أن فتح الباب بادره صوت نسائي ملقيا السالم‪.‬‬
‫لوهلة‪ ،‬ولم يستطع أن يخمن َمن هذه الواقفة‬ ‫ٍ‬ ‫توقف عقل الشيخ‬
‫أمامه؟ لكنها قطعت عليه عناء التفكير قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أم عبدالرحمن صديق طفلكم دمحم‪ ،‬خفق قلب الرجل بمجرد سماعه‬
‫ً‬
‫السم ابنه‪ ،‬أفسح لها كي تدخل‪ ،‬وقال مشيرا بيده‪:‬‬
‫‪ -‬تفضلي يا ابنتي‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬دخلت املرأة‪ ..‬كان املكان ضيقا‪ ،‬ال يوحي بش ٍيء سوى الفقر والفاقة‪..‬‬
‫ً‬
‫جلس الرجل وارتفع صوته قائال‪:‬‬
‫‪ -‬آسف يا ابنتي على سوء الاستقبال وعدم الضيافة‪.‬‬
‫‪-‬ال تقل هذا يا عمي فنحن أهل‪.‬‬
‫‪ -‬لقد حكي لي عبدالرحمن ما حدث‪ ،‬ويعلم هللا أني أحب دمحم وكأنه ابني‪،‬‬
‫لم يستطع عبدالرحمن الذهاب إلى املدرسة بعد ما حدث باألمس فقررت أن‬
‫آتي به إلى هنا كي يطمئن على دمحم‪ ،‬ويعتذر له‪ ،‬فقد كان هو السبب وراء كل ما‬
‫حدث‪ ،‬لكنها تصرفات أطفال ال يدركون ما يفعلون‪ ،‬والحمد هلل أن دمحم أخبره‬
‫بالعنوان من قبل وإال ملا استطعنا أن نعثر عليكم‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬سألها الشيخ متعجبا‪:‬‬
‫‪-‬وما الذي حدث؟!‬
‫تدربماذا تجيب؟‪ ..‬فقالت متحاشية إلاجابة على‬ ‫‪ -‬ازدردت املرأة ريقها ولم ِ‬
‫سؤاله‪ ،‬وأين دمحم كي يطمئن عليه عبدالرحمن؟‬
‫واهن‪:‬‬
‫صوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -‬قال الشيخ في‬

‫‪147‬‬
‫‪ -‬تكلمى يا ابنتي‪ ،‬ما الذي حدث فمحمد لم يعد منذ ألامس؟ والقلق عليه‬
‫قد أكل قلبي‪.‬‬
‫ً‬
‫لم تجد املرأة بدا من إلاجابة‪ ،‬وحكت كل ما حدث بالتفصيل‪ ،‬سألها‬
‫الشيخ‪:‬‬
‫‪-‬وأين هذه املدرسة؟‬
‫‪ -‬إنها قريبة من هنا تبعد عن هذا الشارع عشر دقائق أو أقل‪.‬‬
‫ً‬
‫ارتفع صوت الشيخ مجلجال‪.‬‬
‫‪-‬حسبي هللا ونعم الوكيل‪.‬‬
‫علمت املرأة بالقصة كاملة‪ ،‬وتغيب أبناء الرجل الثالثة‪ ،‬أصابها الحزن‬
‫ً‬
‫وألاس ى على حال هؤالء الذين ال يختلف حالهم عنها كثيرا‪ ،‬فهي ألاخرى توفى‬
‫ً‬
‫زوجها إثر إصابته في أحد الانفجارات‪ ،‬ذهب إلى عمله باحثا عن لقمة العيش‬
‫لزوجته وأبناءه‪ ،‬ولكنه خرج ولم يعد‪ ،‬وذهب حقه أدراج الرياح‪.‬‬
‫قامت املرأة ورتبت الغرفة‪ ..‬تركت ابنها مع الرجل ونزلت إلى الشارع‬
‫ً‬
‫تمض بضع دقائق حتى عادت وبيدها أكياسا‬ ‫ِ‬ ‫لقضاء بعض الحاجيات‪ ..‬لم‬
‫ً‬
‫محملة بالخضر والفاكهة‪ ،‬أعدت طعاما للمريضة‪ ..‬ظلت دعوات الشيخ‬
‫وزوجته تطرق مسامعها‪.‬‬
‫ً‬
‫أكلوا معا‪ ،‬أصابهم شعور وكأنهم أسرة واحدة‪ ،‬لم تجمعهم قرابة وال‬
‫نسب‪ ..‬ولكن جمعتهم املصائب‪ ،‬ووحدتهم الشدة حتى باتوا وكأنهم جسد واحد‬
‫إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر ألاعضاء بالسهر والحمى‪.‬‬
‫بعد انتهاء الزيارة‪ ،‬لم تتجه املرأة إلى بيتها‪ ..‬ولكن ذهبت من فورها إلى مقر‬
‫ً‬
‫أحد الجرائد‪ ،‬وفي صحف اليوم التالي‪ ،‬بالصفحة الرابعة تحديدا‪ ،‬كان هناك‬
‫ً‬
‫إعالن عن ثالثة إخوة مفقودين‪ ،‬اختفوا تباعا فتاة وولدان‪ ..‬وفي آخر إلاعالن‬

‫‪148‬‬
‫هناك رقم هاتف وعنوان‪ ،‬ملن يستطيع العثورعليهما أو يستطيع إلادالء بأية‬
‫معلومات تساعد في العثورعلى أي منهم‪.‬‬

‫ً‬
‫وإذا نظرت في أحد الشوارع الرئيسية هناك لوجدت طفال يحمل‬
‫مجموعة من الجرائد مكدسة فوق صدره كي يكسب من بيعها قوت يومه‪ ،‬وهو‬
‫ال يعلم أنها تحمل نبأ تغيبه!!‬
‫هو ال يريد الهروب‪ ،‬ولم يفضل التغيب على أهله‪ ،‬لكنه فقط يريد أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يعود رجال كما عهدوه دائما‪ ،‬يريد أن يعود بطال ال طفال مكسور الخاطر‪..‬‬
‫منهوب الحق‪ ..‬مهضوم القدر‪.‬‬
‫ظل هكذا يجوب أركان الشوارع‪ ،‬وقبل منتصف الليل بقليل التقت‬
‫ً‬
‫شخص يعرفه جيدا "أحمد عادل" جارهم باملسكن الجديد‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫عيناه بعيني‬
‫بمجرد أن رآه تسمرت قدماه‪ ،‬وكأنها ثبتت في ألارض بمسامير‪ ..‬اتجه إليه الشاب‬
‫ً‬
‫مهروال وقال في لهفة‪:‬‬
‫‪ -‬دمحم‪ ..‬ماذا تفعل هنا؟ نحن نبحث عنك منذ أول أمس‪ ،‬أبوك مريض‪،‬‬
‫وأمك كذلك‪ ،‬وهم في أشد الحاجة إليك‪ ،‬أمك ال تعلم نبأ تغيبك حتى آلان‪.‬‬
‫سقطت دمعة من عين الفتى‪ ،‬ودون أن تنبس شفتاه بكلمة أمسك بيد‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الشاب واتجها إلى املنزل‪ ...‬وبمجرد أن فتح بابه فغر فاه مندهشا من وقع‬
‫املفاجأة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫عجل‪ ..‬وقف أحمد وأدهم‬ ‫بعد عودتهما من الشركة تناوال طعامهما على ٍ‬
‫بحديقة الفيال في انتظار خروج الوالد منها‪ ،‬وبمجرد وصوله ارتفع رنين هاتف‬
‫أدهم‪ ،‬قام أدهم بتسكين صوت الهاتف‪ ،‬ولكن يبدو أن املتصل به رغبة ملحة‬
‫لإلجابة‪ ..‬وارتفع الرنين للمرة الثانية‪.‬‬
‫ً‬
‫انتحى أدهم بالهاتف جانبا‪ ،‬وما هي إال لحظات حتى ارتفع صوته وظهر‬
‫اندهاش كي يعرف مغزى هذا‬ ‫ٍ‬ ‫التوترعلى مالمحه‪ ،‬توقف ألاب ونظر إليه في‬
‫ً‬
‫الاتصال‪ ،‬لكن صوت أدهم ارتفع متسائال‪:‬‬
‫‪-‬أواثق أنت من هذا؟‬
‫إذن أعطني العنوان‪ ،‬وأخرج أدهم ورقة وقلم ثم خط بضع كلمات‪.‬‬
‫اعتذر أدهم عن اللقاء في عجالة‪ ،‬ثم اتجه نحو سيارته‪ ،‬وانطلق بها في‬
‫يدر أحد أين وجهته؟‬‫سرعة البرق‪ ،‬ولم ِ‬
‫ً‬
‫استقل أدهم سيارته‪ ،‬وانطلق بها صوب إلاسكندرية‪ ،‬أخيرا عثرعلى‬
‫ً‬
‫العنوان‪ ،‬انتظر هذه الخطوة كثيرا‪..‬هو ال يشتاق إليها بقدر ما يشتاق إلى إنقاذ‬
‫هذه ألاس رة الغريقة التي جارعليها الزمن واعتدى‪ ..‬ألامرال يتعلق بكونه متصل‬
‫باملرأة التي وقع في حبها بقدرانشغاله بهذا الوالد الكفيف‪ ،‬وبهذه املريضة التي‬
‫ً‬
‫ال تدري أهي حية أم ميتة؟‪ ..‬ظلت سيارته تنهب ألارض نهبا إلى أن وصل إلى‬
‫املكان الذي التقيا فيه‪ ..‬خفف من سرعته وكأن ه يتأمل مكان لقاءها‪ ،‬ما أحب‬
‫هذا املكان إلى قلبه !! وما أعزه على نفسه !!‪ ..‬تحامل على مشاعره وأكمل سيره‬
‫بسرعته الجنونية وكأنه يخش ى رحيلهم قبل أن يصل إليهم‪.‬‬
‫ارتفع رنين هاتفه‪ ،‬لم يكن املتصل سوى أحمد‪ ،‬طمأنه عليه‪ ،‬ثم أغلق‬
‫ً‬
‫هاتفه‪ ..‬أخرج الورقة التي كتب عليها العنوان‪ ،‬ألقى نظرة عليها سريعا‪ ..‬يبدو‬
‫أنه من العسيرالوصول إلى هذا املكان‪ ،‬لم تكن الشقة بشارع رئيس ي وال بمكان‬
‫ً‬
‫مشهور باإلسكندريه كاملكان الذى زارهم فيه سابقا‪ ..‬لكن ليست هناك‬ ‫ٍ‬

‫‪150‬‬
‫مشكلة‪ ..‬سيحاول قدر املستطاع أن يلتقي بهم لو كلفه ألامر املبيت‬
‫باإلسكندرية‪ ،‬والبدء في رحلة البحث عن الشقة منذ الغد‪.‬‬

‫‪-‬آنسة أروى‪ ..‬دكتور كمال وابنه يستأذنان في الدخول‪.‬‬


‫خفق قلبها بشدة‪ ..‬ترى هل يكون أدهم؟‪ ..‬كيف ذهب عن بالها كل هذه‬
‫آت ليقدم واجب العزاء‪.‬‬‫الفترة املاضية؟ البد أنه ٍ‬
‫‪ -‬دعيهما يتفضال‪ ..‬ثم اتجهت إلى املرآة مسرعة‪ ،‬عدلت من حجابها‬
‫وأدخلت بعض الشعرات النافرة على وجهها‪ ..‬اتجهت إلى الغرفة التي ينتظران‬
‫بها‪ ،‬طرقت الباب ثم دخلت‪ ،‬ولكم كانت صدمتها حينما وجدت أن الزائر لم‬
‫يكن سوى أحمد‪ ..‬أدى أحمد واجب العزاء‪ ..‬ثم قدم ألاب لها جريدة كان يحملها‬
‫بيده منذ أن دخل‪ ،‬وأشار إلى خبر مكتوب ببداية الصفحة بخط عريض‪.‬‬
‫ألم وحز ٍن‪ ..‬لم يكن الخبر سوى تولي‬‫صمت ثم تنهدت في ٍ‬
‫ٍ‬ ‫قرأت الخبر في‬
‫الوزير الجديد منصب أبيها‪ ..‬أخبرها دكتور كمال أن الوزير سيرسل في طلب‬
‫بعض ألاوراق املوجودة باملكتب هنا‪ ..‬وبالتالي سأحضر أنا آلاخر في الصباح‬
‫تمض بعض دقائق‬ ‫ِ‬ ‫ُليتخذ هذا إلاجراء في وجودي‪ ..‬شكرت له اهتمامه‪ ،‬ولم‬
‫حتى كانا في طريقهما إلى الخارج‪.‬‬
‫أوصلتهم حتى باب الفيال‪ ..‬جلست تتأمل في أحوال الدنيا‪..‬‬
‫ً‬
‫خال الكرس ي من أبيها ليشغله وزير آخر‪ ..‬وسيخلو غدا من هذا الوزير‬
‫آلاخر ليشغله وزير ثالث‪ ،‬وهكذا حلقة مفرغة الكل يدور فيها‪،‬لكن دون أن‬
‫يعتبر أو يتعظ أحد‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫أمسكت بالجريدة كي تعيد قراءة الخبر ثانية في ش ٍيء من التأني وقبل أن‬
‫إعالن آخرعن ثالثة إخوة متغيبين‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫تقع عينيها على الخبر‪ ،‬وقعت عينها علي‬
‫قرأت إلاعالن أكثرمن مرة في ش ٍيء من الذهول‪ ..‬لكم بحث أبوها عن مسكنهم؟!‬
‫ً‬
‫ولكم منت نفسها بالعثورعليهم؟‪ ..‬لم تتوقع يوما أن تعثرعليهم بهذه الطريقة‬
‫السهلة التي ال تخطر على بال أحد‪.‬‬
‫هبت واقفة‪ ،‬ركبت سيارتها واتجهت نحو إلاسكندرية‪ ..‬ظلت تسابق‬
‫صراع مع الزمن‪ ..‬داهمتها ذكرياتها املاضية في هذا الطريق‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الريح‪ ،‬وكأنها في‬
‫املكان هو املكان‪ ،‬والوقت نفس الوقت‪ ..‬كبحت جماح مشاعرها ليس هذا‬
‫ارتياح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وقته‪ ،‬نظرت إلى الجريدة التي تشغل املقعد املجاور ملقعدها‪ ،‬تنهدت في‬
‫ً‬
‫أخيرا العنوان معها حتى وإن ضاعت الجريدة تستطيع أن تبتاع أخرى تحمل‬
‫نفس العنوان‪ ،‬أوقفت السيارة بضع مرات‪ ،‬واستفسرت عن العنوان من املارة‬
‫ً‬
‫أكثر من مرة وأخيرا وصلت إلى الشارع املقصود‪.‬‬
‫كان الحي ككل أحياء مصر بأوالده الكثيرين املختلفين في أعمارهم‪..‬‬
‫يلعبون الكرة أو ما شابه رغم أن النوم يطل من أجفانهم‪ ،‬ويكاد يغلق أعينهم‬
‫ً‬
‫غلقا‪ ..‬والنساء جالسة أمام املداخل‪ ،‬وقد تعالت أصواتهن وكأنهن في عراك ال‬
‫مجرد حديث نسائي عابر‪ ..‬وهنا ماء مراق تفوح منه رائحة الصابون‪ ..‬وهناك‬
‫وداعة‪ ،‬رغم أنه شارع واحد‪ ،‬إال أن مصر‬ ‫ٍ‬ ‫كلب أو عدة كالب تفترش التراب في‬
‫كلها تجتمع فيه‪ ،‬مناظر ال توحي بش ٍيء سوى البساطة والطيبة التي يجود بها‬
‫هذا الشعب الهزيل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أخيرا توقفت أمام املبنى املنشود‪ ..‬وقبل أن تهبط من السيارة رأت رجال‬
‫ً‬
‫يهبط السلم في عجالة ويوليها ظهره متجها إلى إحدى السيارات الواقفة على‬
‫جانب الطريق‪ ،‬وبمجرد أن وقعت عينها على السيارة ميزتها‪ ،‬بالتأكيد هو‪،‬‬
‫قوامه الفارع‪ ،‬وقده املمشوق‪ ،‬وخطواته الواسعة‪ ،‬إضافة إلى ذلك سيارته‪،‬‬

‫‪152‬‬
‫ترى ما الذي يفعله هنا؟ ترى هل يسعى هو آلاخرمن أجل تحريرهذه املسكينة؟‬
‫ترى هل ما زال يساعد هذه ألاسرة املنكوبة؟ أم أنه لم يصل لها إال اليوم‬
‫هدوء‪ ..‬ترجلت من السيارة‪ ،‬وبعد بضع‬ ‫ٍ‬ ‫بمساعدة هذا إلاعالن؟‪ ..‬زفرت في‬
‫مرة تراها‪ ..‬بعد دقائق علمت‬ ‫دقائق كانت أمام الباب فتحت لها امرأة ألول ٍ‬
‫بقصتها هي ألاخرى‪.‬‬
‫انتهى ألاب من صالته وجلس قبالة أروى‪ ،‬ألقت عليه التحية‪ ،‬واعتذرت‬
‫ً‬
‫عن غيابها بأنها حاولت الوصول إليهم كثيرا هذه الفترة ألاخيرة لكنها لم تستطع‬
‫إال بمساعدة هذا إلاعالن‪ ..‬لكن الرجل لم يعنفها أو يعاتبها ‪ ..‬وجهه كما هو‬
‫تزينه الابتسامة‪ ،‬ويريحك النظر إلى وجهه ولحيته البيضاء‪.‬‬
‫لم تمر بضع دقائق على حديثها مع الرجل حتى فتح الباب‪ ،‬وانطلق دمحم‬
‫ً‬
‫داخال منه تجاه أبيه‪ ،‬ظل يقبله ويبكي ويعتذر عما بدر منه‪ ..‬وما هي إال دقائق‬
‫حتى امتألت الغرفة بشباب الحي وبيد بعضهم زجاجات من الشربات فرحا‬
‫بعودة دمحم‪ ..‬كانت تنظر إلى دمحم وهو يقف بجوار عبدالرحمن والرضا يشع من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مالمحهما‪ ..‬ذكرتها صداقتهما بعالقتها بعائشة سابقا ونسيم مؤخرا‪ ..‬تنهدت في‬
‫ً‬
‫ضيق‪ ،‬وفجأة التقت عينها بعيني دمحم‪ ،‬فغر فاه مندهشا ثم اتجه إليها يحتضنها‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫بالغ هاتفا‪:‬‬
‫في ٍود ٍ‬
‫أخاك من قبل لكنه‬
‫ِ‬ ‫حالك‪.‬؟ ماذا عن عائشة؟‪ ..‬لقد رأيت‬‫ِ‬ ‫‪-‬أروى‪ ،‬كيف‬
‫لم يرد علي‪ ..‬أين كنت طوال هذه الفترة؟ وملاذا لم تسألي عنا؟‪ ..‬لقد تركت‬
‫أراك؟‬
‫املدرسة‪ ،‬ولكم تمنيت أن ِ‬
‫بشدة‪ ،‬أفلت الطفل من بين ذراعيها‬‫ٍ‬ ‫وضعت يدها على فمه واحتضنته‬
‫تمتألن بالدموع‪:‬‬
‫ِ‬ ‫وقال عيناه‬
‫‪-‬هل ستعود عائشة؟‬
‫هزت رأسها أن نعم‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‪-‬وإياد؟‬
‫‪-‬أجل‪.‬‬
‫سنراك مرة أخرى؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬وهل‬
‫مسحت دمعة ترقرقت في عينها ثم قالت ‪:‬‬
‫‪-‬ستراني حتى تمل مني‪.‬‬
‫بعد انصراف أهل الحي الذين جاءوا من أجل الاطمئنان على دمحم لم‬
‫ً‬
‫تجلس إال قليال‪ ..‬تبادلت أرقام الهاتف مع هذه املرأة الطيبة ثم استأذنت من‬
‫أجل اصطحاب ألاطفال في نزهة قريبة‪ ،‬وما هي إال ساعة ونصف الساعة حتى‬
‫قفلت راجعة‪ ،‬وبيد كل واحد منهم حقيبة مملوءة باملالبس‪ ،‬وقبل أن يخلد‬
‫ً‬
‫ألاطفال إلى النوم أخبرتهما أنها من الغد ستذهب بهما معا إلى املدرسة من أجل‬
‫إلحاق دمحم بها مرة أخرى‪.‬‬
‫بفرحة‪ ،‬ولم‬
‫ٍ‬ ‫قفز دمحم عدة قفزات‪ ،‬والفرح يشع من مالمحه‪ ..‬لم تشعر‬
‫بسعادة كالتي تشعربها الليلة‪ ..‬وكأن فعل الخيريجود على فاعله قبل أن‬ ‫ٍ‬ ‫تشعر‬
‫يجود على محتاجيه‪ ..‬هبت واقفة لتستأذن مغادرة‪ ،‬لكن كلمات ألاب‬
‫خجل‪-:‬‬
‫استوقفتها في ٍ‬
‫‪-‬أين ستذهبين يا ابنتي عقارب الساعة تخطت منتصف الليل‪.‬‬
‫فندق هنا‪ ..‬لن أغادر إلى القاهرة آلان‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬سأبيت بأي‬
‫فندق ونحن هنا؟ هذه سبة كبيرة لنا‪ ،‬أعلم أن الغرفة ليست قدر‬ ‫ٍ‬ ‫‪-‬أي‬
‫مقامك لكنها كل ما نملك‪ ،‬سأبيت أنا بالشرفة وأترك لكي سريري ودمحم سينام‬ ‫ِ‬
‫بجانب والدته‪.‬‬
‫رفضت في ش ٍيء من الحرج‪ ،‬لكن أم عبدالرحمن قالت باسمة‪:‬‬
‫ليس هناك خيار ثالث‪ ،‬إما أن تقض ي الليلة هنا أو في منزلي‪ ..‬تعلق‬
‫ً‬
‫عبدالرحمن بثوب أروى فرحا‪:‬‬

‫‪154‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حقا هل ستبيتين عندنا؟‬
‫ً‬
‫لم تجد أروى بدا من املوافقة‪ ،‬ألقت نظرة على وجه دمحم الباسم رغم أنه‬
‫ً‬
‫نائم‪ ..‬حملت الفتاة الصغيرة بدال عن أمها وغادرت إلى شقة هذه املرأة الطيبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحادثت معها طويال‪ ..‬حكت لها املرأة أهوالا‪ ..‬تارة تبكي وتارة تبتسم أثناء‬
‫الحديث‪ ،‬وكأنها تعيش املوقف الذي تحكيه‪ ..‬مسحت املرأة دموعها في ش ٍيء‬
‫من الخجل‪ ..‬ابتسمت ودموعها تمأل وجهها‪ ،‬وقالت في ابتسامة‪:‬‬
‫بك‪.‬‬
‫استقبال مثل هذا؟‪ ..‬استقبلتك بمآس ى قبل أن أرحب ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أرأيت سوء‬
‫ِ‬
‫عليك‪..‬هكذا أشعر أنني من أهل البيت‪.‬‬ ‫‪-‬ال ِ‬
‫أصبحت كذلك‪ ..‬أنا وحيدة ال إخوة وال أخوات إال أنتي‪ ..‬أيمكنني‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬بالفعل‬
‫ذلك أم معرفة الفقراء معرة؟‬
‫نظرت إليها أروى في ش ٍيء من العتاب ثم قالت‪:‬‬
‫مررت به‬
‫ِ‬ ‫أنت فتاة مدللة لم تمر بنصف ما‬ ‫‪-‬ال تقولي هذا‪ ..‬بل هل تقبلين ِ‬
‫ً‬
‫لك؟‬
‫أختا ِ‬
‫ً‬
‫ضحكت املرأة في ش ٍيء من السخرية‪ ..‬ثم قامت تعد طعاما‪.‬‬
‫ً‬
‫كان الطعام بسيطا للغاية‪ ،‬لكن أروى أكلت بشهية حتى شبعت‪ ،‬لم تأكل‬
‫براحة مثل تلك التي شعرت بها الليلة‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫هكذا منذ أن توفي والدها‪ ،‬ولم تشعر‬
‫صحيح عائشة لم تحرر‪ ،‬وإياد لم يعد حتى آلان‪ ،‬لكن يكفيها الليلة عودة دمحم‬
‫بعد غياب‪.‬‬
‫تأملت الغرفة التي ستنام فيها يبدو أنها مخصصة لطفلين لكنها احتلتها‬
‫هذه اللي لة‪ ..‬لوهلة تذكرت نسيم حاولت أن تنفض طيفها من عقلها‪ ..‬هي‬
‫ً‬
‫غاضبة منها وبشدة‪ ،‬ملاذا هانت عليها عشرتهما معا؟‪ ،‬لم تتصل بها حتى‪ ..‬هى‬
‫واحد‪ ،‬ملاذا بخلت به؟‪ ..‬ظلت ألافكارتراودها وطيف‬ ‫اتصال ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لم ترغب منها سوى‬
‫نسيم يعبث بخيالها إلى أن أغمض النوم جفنيها‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫استيقظت على همسات عبدالرحمن‪ ..‬نظرت إليه باسمة‪ ..‬يبدو أنه‬
‫سعيد بوجودها للغاية‪ ،‬ظل يتحسس وجهها وكأنه يتحسس كنز‪ ..‬بمجرد أن‬
‫واضحة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫براءة‬
‫فتحت عينها‪ ،‬هتف في ٍ‬
‫‪-‬كسولة أنتي‪ ،‬سيفوتنا ميعاد املدرسة‪ ،‬هبت جالسة ثم وضعت يديها‬
‫تحت ذقنها معتذرة‪:‬‬
‫‪-‬لن أفعلها ثانية يا سيدي‪.‬‬
‫أمسكت بيد الطفلين‪ ،‬واتجهت صوب املدرسة‪ ،‬قامت بسحب ملف‬
‫ً‬
‫عبدالرحمن‪ ،‬والتقديم لهما معا بمدرسة أخرى مديرها محمود السيرة‪،‬‬
‫وحسن السمعة‪ ،‬وطيب القلب‪ ..‬ساعدها مركزها على إنهاء إلاجراءات بسهولة‬
‫‪ ..‬نظرت إلى الطفلين وهما جالسان بجانب بعضهما البعض‪ ،‬والسعادة قد‬
‫رسمت خطوطها على وجه يهما‪ ..‬قبل أن تغادر‪ ،‬انحنت وقبلتهم وتخللت‬
‫أصابعها شعر دمحم وقالت متسائلة‪:‬‬
‫ً‬
‫تريدان مني شيئا آخر آلان؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬هل‬
‫ً‬
‫امتنان قائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬نظر إليها دمحم نظرة‬
‫أحبك يا أروى‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫ضمتهما على صدرها أكثر ثم استقامت مغادرة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫(‪)12‬‬
‫يق المطار‬

‫‪-‬الطفالن في املدرسة آلان يا عمي‪.‬‬


‫‪ -‬نحن ال نستحق كل هذا يا بنيتي‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقل مثل هذا‪ ..‬ماذا فعلت أنا؟‬
‫أمثالك‬
‫ِ‬ ‫‪-‬النستحق يا بنيتي هذا الكرم‪ ،‬ماذا فعلنا ليضع هللا في طريقنا‬
‫وأمثال هذه املرأة الطيبة‪ -‬يقصد أم عبدالرحمن‪ -‬ابتالنا هللا فصبرنا على بالءه‬
‫ً‬
‫قدر املستطاع‪ ،‬فأرسل هللا الفرج إلينا تباعا‪ ..‬فهل نحن نستحق؟‬
‫ً‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬تستحقون‪ ..‬مادمت راضيا لم تسخط فسيسخرهللا لكم كل ش ٍيء‪،‬‬
‫غائب‪ ،‬وسيشفى كل مريض‪.‬‬ ‫ويسهل كل صعب‪ ،‬ويرد كل ٍ‬
‫‪-‬يا رب‪.‬‬
‫‪-‬أيمكنني الحديث بصراحة؟‬
‫‪-‬يا ليت‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬في الحقيقة أنا ال أعلم شيئا عن إياد وال عائشة أيضا‪.‬‬
‫منك قول هذا‪ ..‬لكن أين اختفت‪،‬‬ ‫‪-‬أعلم ذلك‪ ..‬منذ ألامس كنت أنتظر ِ‬
‫وأين ذهبت؟!‬
‫توتر ثم قالت في كلمات متقطعة‪:‬‬
‫تلعثمت في ٍ‬
‫‪ -‬ال أعلم أين تستقر آلان‪ ،‬لكن أعلم ما الذي أصابها‪.‬‬
‫عقد ألاب حاجبيه ثم قال يستحثها على الحديث‪:‬‬

‫‪157‬‬
‫‪-‬تكلمي يا ابنتي ماذا تعلمين؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فجرت قنبلتها مرة واحدة وقالت وكأنها ترفع عبء ثقيال عن عاتقها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قبض عليها في مسيرة ما‪ ،‬أو اعتصام ما‪ ،‬ومنذ ذلك الحين وأنا ال‬
‫ً‬
‫أعلم عنها شيئا‪.‬‬
‫واهن‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬‫ٍ‬ ‫غام وجه ألاب‪ ،‬وتقلصت عضالته‪ ..‬ثم قال‬
‫وحدتك‬
‫ِ‬ ‫سجنك وال‬
‫ِ‬ ‫‪-‬سامحيني يا ابنتي‪ ،‬لقد ظننت بك الظنون ولم ِ‬
‫أراع‬
‫‪ ..‬توكأ على عصاه ثم اتجه صوب دورة املياه بعد أن استأذن منها‪ ..‬علمت أنه‬
‫ً‬
‫ذاهب كي يتوضأ‪ ..‬ظل الرجل يصلي ويدعو طويال‪ ..‬زجرت نفسها على ما‬
‫فعلت‪ ..‬كان من الواجب أن تخفي مثل هذا ألامرعلى ألاب الذي ال يملك من‬
‫ً‬
‫أمره شيئا‪.‬‬
‫لكن أليس هذا هو الصواب؟‪ ..‬على ألاقل ألم تلغي أفكار الرجل السيئة‬
‫عن ابنته؟ ألم يقل هو هذا بلسانه؟‪ ..‬انتهي ألاب من صالته‪ ..‬حاولت أن تعتذر‬
‫ً‬
‫عن ألاخبارالسيئة التي جاءت بها‪ ،‬لكن ألاب أشارلها أن تصمت‪ ..‬وحسنا فعل‪،‬‬
‫لقد كفاها شر اختالق ألاعذار‪.‬‬
‫داع لالعتذار يا ابنتي‪ ،‬هذه هي الحقيقة التي كان يجب أن‬ ‫‪-‬ليس هناك ٍ‬
‫أعلمها من ذ أن حدث هذا‪ ..‬لكن حتى لو علمت ما الذي يمكنني فعله؟!‬
‫هتفت هي‪:‬‬
‫‪ -‬أنا يمكنني‪ ..‬أنا محامية‪ ،‬وسأستميت في الدفاع عنها‪ ،‬وهذه هي بداية‬
‫محام آخر‪ ،‬وسأتابع إجراءته حتى انتهي من دراستي بالخارج‪.‬‬ ‫الطريق‪ ..‬سأكلف ٍ‬
‫‪-‬وهل ستغادرين مرة أخرى؟!‬
‫ألول مرة تشعر أنها ذات فائدة‪ ..‬وبرغم كل ضعفها ال يحق لها أن تميل‬
‫ألن هناك من يستند عليها‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫فترات كي أطمئن على‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬سأغادر لكن ليس كاملرة السابقة‪ ..‬سأعود على‬
‫سيرإلاجراءات التي تخص عائشة‪ ،‬وسأحاول أن أستفيد من عالقات أبي ألعلم‬
‫إلى أين اتجه إياد‪.‬‬
‫‪-‬ال أدري ماذا أقول ِ‬
‫لك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ال تقل شيئا‪ ..‬فقط ادعو هللا أن يكلل خطواتنا بالتوفيق‪.‬‬

‫معك لدقائق؟‬
‫‪-‬السالم عليكم‪ ..‬آنسة نسيم‪ ،‬أيمكنني الحديث ِ‬
‫‪-‬نعم تفضل‪.‬‬
‫ً‬
‫حالك‪ ..‬وكيف حال الوالدة أيضا؟‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬كيف‬
‫‪-‬بخير حال الحمد هلل‪.‬‬
‫دراستك الاختبارات على ألابواب؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬كيف حال‬
‫‪-‬بخير‪ ..‬الحمدهلل‪.‬‬
‫صديقتك املصرية؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أيمكنني السؤال عن‬
‫رفعت حاجبها فى استغراب‪ ،‬ولم تستطع أن تخمن ما الذي يدور بخلده‪..‬‬
‫هزت كتفيها وأجابت‪:‬‬
‫‪-‬لقد رحلت‪.‬‬
‫ظهرت على وجه إياد أمارات الخيبة‪ ،‬واستطرد في محاولة منه للوصول‬
‫إليها‪:‬‬
‫‪-‬أليس لها رقم هاتف يمكنني العثورعليها فيه؟‬
‫يء يمكنني مساعدتك فيه؟‬ ‫‪-‬أهناك ش ٌ‬
‫‪-‬لألسف هي الوحيدة التي تستطيع أن تفعل‪.‬‬
‫‪159‬‬
‫‪-‬ماذا هناك؟!‬
‫‪-‬تعلمين أنني مصري الجنسية‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫‪-‬بلى‪.‬‬
‫‪-‬كنت أود أن أعرف متى تسافر إلى مصر‪ ..‬أردت إرسال بعض ألاشياء‬
‫ألسرتي معها‪.‬‬
‫‪-‬لألسف رحلت‪.‬‬
‫‪-‬هللا املستعان‪ ..‬أيمكنني الانصراف‪.‬‬
‫‪-‬بلى‪ ،‬تفضل‪.‬‬
‫تقدم بعض الخطوات‪ ،‬ثم لحقت به مسرعة وقالت‪:‬‬
‫‪-‬ماذا إن عادت‪ ..‬هل أخبرها؟‬
‫‪ -‬أتمنى‪ ..‬وجهها يوحي بالخير‪ ،‬وأنا أثق بها‪ ..‬أخبريها أن اسمي " إياد عاطف‬
‫عبدالرحمن" من إلاسكندرية وأود إيصال‪.................‬‬
‫شرد ذهنها " إياد عاطف عبدالرحمن"‪ ،‬بالفعل قرأت هذا الاسم‬
‫ً‬
‫بالبطاقة الخاصة به كثيرا‪ ،‬لكنها سمعته من أروى أكثر‪ ...‬ويبدو أنها لم تنتبه‬
‫لذلك‪.‬‬
‫أنت معي؟‬
‫‪-‬هل ِ‬
‫‪-‬أتقول أنك من إلاسكندرية؟‬
‫‪-‬أجل‪.‬‬
‫‪-‬ماذا عن إخوتك‪ ..‬هل لك إخوة؟‬
‫‪-‬ماذا تقصدين؟!‬
‫‪-‬أخبرني باهلل عليك‪ ..‬هل لك إخوة؟‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬عائشة ودمحم‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫هنا خارت قواها ولم تستطع قدماها أن تحملها‪ ..‬كادت أن تهوي على‬
‫ألارض‪ ،‬لكن يديه حالت بينها وبين السقوط‪.‬‬
‫‪-‬آسفة‪.‬‬
‫أنت بخير؟‬
‫عليك‪ ..‬هل ِ‬‫‪-‬ال ِ‬
‫‪-‬هيا إلي السفارة‪.‬‬
‫‪-‬إلى أين؟!!‬
‫‪-‬إلى السفارة‪ ..‬البد أن نحصل على رقم هاتف أروى‪.‬‬
‫لم؟‬‫‪َ -‬‬
‫‪-‬إنها تبحث عنك‪.‬‬
‫‪-‬عني أنا؟!!‬
‫‪-‬هيا آلان ليس هناك وقت‪.‬‬
‫‪-‬لن أفعل‪.‬‬
‫لم؟‬‫نظرت إليه في استغراب‪َ ..‬‬
‫‪-‬ألنه محظور علي ارتياد مثل هذه ألاماكن‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تعني‪.‬‬
‫‪-‬أنا مصنف علي قائمة املحظورين من دخول مصر‪.‬‬
‫نظرت إليه في ذهول قائلة‪:‬‬
‫لم؟‬ ‫‪َ -‬‬
‫‪-‬ال أدري ولهذا أنا متخف هنا حتى آلان‪.‬‬
‫ومن الذي أخبرك بهذا؟‬ ‫‪َ -‬‬
‫‪ -‬صديق لي يعمل بالنيابة العامة أخبرني ذلك‪..‬و بمجرد أن وصلت إلى هنا‪،‬‬
‫وأنا أعاني هذا‪.‬‬
‫‪-‬فلتبقى أنت‪ ..‬سأحاول أنا العثورعلى هاتفها‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫‪-‬ليس قبل أن أفهم ملاذا كانت تبحث عني؟ وهنا ملعت في ذهنه صورة‬
‫ً‬
‫عائشة وهي ترافقها ذات مرة ثم استطرد مجيبا علي نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬إنها صديقة عائشة أليس كذلك؟‬
‫ً‬
‫‪-‬إذن ملاذا كانت تبحث عني‪ ..‬هل أصاب أمي شيئا‪ ..‬هل أبي بخير؟‬
‫صعوبة ولم تجب‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ازدردت ريقها في‬
‫أرجوك تكلمي‪ ..‬هل هم بخير؟‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬بلى‪.‬‬
‫‪-‬وملاذا تبحث عني‪.‬‬
‫ً‬
‫لم يتلق جوابا سوى الصمت‪.‬‬
‫‪-‬أمي ماتت أليس كذلك؟‬
‫‪-‬ال‪ ..‬إنها عائشة‪.‬‬
‫قال بعصبية‪:‬‬
‫‪-‬ماذا أصابها؟‬
‫‪ُ -‬سجنت‪.‬‬
‫ً‬
‫خر جالسا على أقرب مقعد‪.‬‬
‫ً‬
‫كان اعترافها قاسيا‪ ..‬لكن هي لم تخطئ‪ ،‬البد أن يعلم ذلك‪ ،‬هو رجل‬
‫ألاسرة وليس لهم سند غيره‪ ..‬من الضروري أن يعلم ما يمرون به وإال فما‬
‫الفائدة من وجوده؟‬
‫ً‬
‫‪-‬سأحاول أن أتواصل معها بأي طريقة من أجل أن أخبرها أننى أخيرا‬
‫عثرت عليك‪ ..‬سأهاتفك إن توصلت لش يء‪.‬‬
‫ً‬
‫تركت الجامعة في هذا اليوم مبكرا‪ ..‬واتجهت إلى مبنى السفارة املصرية‬
‫وبعد تفتيش دقيق ُسمح لها بالجلوس في ردهة الانتظار لبضع قائق‪ ..‬حتى‬
‫تواصلت معها إحدى العامالت بالسفارة‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫‪-‬ما ألامر يا سيدتي؟‬
‫‪-‬أود الحصول على رقم هاتف الوزير "محمود الشرقاوي"‪.‬‬
‫نظرت إليها املرأة في دهشة قائلة‪:‬‬
‫‪-‬ماذا هناك؟‬
‫‪-‬إنني صديقة ابنته‪ ،‬وهناك أحد ألامور املهمة التي أردت إخبارها بها‪.‬‬
‫نظرت إليها املرأة متفحصة ثم قالت‪:‬‬
‫‪-‬الوزير متوفى منذ أكثر من أسبوعين‪.‬‬
‫تهاوت نسيم على أقرب مقعد‪ ..‬هذا هو سبب اختفائها إذن‪ ..‬يا لها من‬
‫صديقة سيئة‪ ،‬كيف لم يخطرعلى بالها من قبل هذا؟ ألم تعترف أروى‬
‫ً‬
‫شخصيا بتوقعها لحدوث هذا من قبل؟‬
‫تحاملت على نفسها قائلة‪:‬‬
‫‪-‬أيمكنني الحصول على رقم هاتف املنزل؟‬
‫‪-‬انتظريني دقائق فحسب‪.‬‬
‫‪-‬اختفت املرأة في أحد الحجرات لفترة قصيرة‪ ،‬ثم عادت ومعها رقم الفيال‬
‫بالقاهرة‪.‬‬
‫لم تستطع نسيم الانتظار حتى الوصول إلى شقتها‪ ..‬جلست على أحد‬
‫املقاعد املوجودة على أحد ألارصفة وحاولت الاتصال بالرقم الذي حصلت‬
‫عليه ولكن كالعادة تأتي الرياح بما ال تشتهي السفن‪.‬‬
‫ً‬
‫جاءها الرد مقتضبا‪:‬‬
‫‪-‬آلانسة أروى ليست هنا منذ ألامس‪.‬‬
‫‪-‬إذن أين هي؟‬
‫‪-‬ال أعلم‪.‬‬
‫‪-‬أيمكنني الحصول على رقم الهاتف الخاص بها؟‬

‫‪163‬‬
‫نعم‪.‬‬
‫في هذه اللحظات‪ ،‬لم تكد أروى تغادرالباب محملة بدعوات ألاب وزوجته‬
‫ً‬
‫بعد أن وعدتهم باالطمئنان عليهم دائما‪.‬‬
‫هبطت بعض درجات السلم‪ ..‬ارتفع رنين هاتفها‪ ..‬نظرت إلى شاشته‪..‬‬
‫كانت نسيم أبعد ما يكون عن بالها في هذه اللحظات‪ ..‬علمت أن الاتصال ٍ‬
‫آت‬
‫وجل ثم رفعت‬‫من باريس‪ ..‬لعلها الجامعة أو املشرف على رسالتها‪ ،‬تنهدت في ٍ‬
‫سماعة الهاتف إلى أذنه ا وهنا أتاها صوت لطاملا تمنت سماعه‪.‬‬
‫‪-‬أروى أنا أسفة على كل ما حدث‪ ..‬لكن هذا ليس وقت اعتذارات‪..‬‬
‫ألخبرك أنني عثرت على إياد‪ ،‬لقد علم كل ش ٍيء وبنبأ تغيب عائشة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بك‬
‫اتصلت ِ‬
‫لم تستوعب أي ش ٍيء وظلت صامتة‪.‬‬
‫أخبرك أنني عثرت على إياد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنت تسمعيني؟ ملاذا لم تتكلمي؟‬ ‫‪-‬أروى‪ ..‬هل ِ‬
‫‪-‬هل أنت محقة في هذا؟‬
‫إليك بشدة‪:‬‬
‫بك‪ ..‬لقد اشتقت ِ‬ ‫‪-‬نعم وهللا‪ ..‬وإال ملا اتصلت ِ‬
‫وأهاتفك مرة أخرى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬وأنا كذلك‪ ..‬سأخبر أهله‬
‫اتصالك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬سأنتظر‬
‫ً‬
‫مبحوح لم‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫استدارت إليهم‪ ..‬رأت اللهفة في عيونهم جميعا‪ ،‬تكلمت‬
‫يفق من وقع املفاجأة بعد‪:‬‬
‫‪-‬لقد عثرنا على إياد‪.‬‬
‫ً‬
‫خر ألاب ساجدا‪ ..‬وهنا جاء صوت ألام الذي طال صمته‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أحقا يا ابنتي‪ ..‬إياد ابني‪.‬‬
‫‪-‬نعم يا أمي هو بعينه‪.‬‬
‫‪-‬ما أكرمك يارب وما أحلمك‪ ..‬هل هو بخير؟‬
‫‪-‬أعتقد ذلك‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫‪ -‬هل يمكنني الحديث معه يا ابنتي؟‬
‫‪-‬سأحاول‪ ..‬هاتفت نسيم بعد برهة جاءها صوتها‪.‬‬
‫أنت متأكدة؟‬
‫‪-‬هل ِ‬
‫ً‬
‫‪ -‬مائة باملائة‪ ..‬أتذكرين الطبيب الذي قابلناه مسبقا في زيارة ألمي‪ ..‬إنه‬
‫هو‪.‬‬
‫معك آلان‪ ..‬أهله يريدون محادثته؟‬
‫‪-‬هل هو موجود ِ‬
‫أنت بمنزل أهله؟‬
‫‪-‬كال‪ ..‬هو ليس معي‪ ..‬هل ِ‬
‫‪-‬نعم منذ ألامس‪.‬‬
‫‪-‬لعلهم بخير‪.‬‬
‫‪-‬هم كذلك‪ ..‬ملاذا تغيب كل هذه املدة؟‬
‫ممنوع من دخول مصر‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫لم؟‬
‫ال يدري‪ ،‬لكن أحد زمالئه بالنيابة أخبره ذلك بعد سفره مباشرة‪..‬‬
‫سأحاول أن ألتقي به‪ ،‬فقط أعطني رقم هاتف أحدهم‪.‬‬

‫‪-‬آسفة يا عماه‪ ،‬لم أكن أعلم أنني سأغادر‪ ..‬لقد كان سفر طارئ لم‬
‫أستطع أن أؤجله‪.‬‬
‫عليك لقد اتخذت إلاجراءات أنا‪ ..‬ماذا تنوين أن تفعلي؟‬
‫‪-‬ال ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫‪-‬سأسافر إن شاء هللا‪ ..‬لقد سهلت ألامور كثيرا‪ ،‬لقد التقيت بأهل‬
‫عائشة‪ ،‬وأخبرتهم نبأ محبسها‪ ،‬أما الخبر الثاني ألاكثر سعادة‪ ..‬لقد عثرنا على‬

‫‪165‬‬
‫أخيها املتغيب منذ أكثر من عام‪ ،‬لم يعد هناك ش يء سوى أن نعلم أين‬
‫محبسها؟‬
‫‪-‬سأكلف املحامي الخاص بي بهذا ألامر‪ ،‬وهذه خطوة في غاية السهولة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ ..‬لقد تم إلاعالن عن مجموعة كبيرة من املختفين قسريا هذا ألاسبوع‪،‬‬
‫ولعلها يدرجون اسمها في الفوج القادم‪.‬‬
‫‪-‬أتمنى ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬حتى لو لم يحدث‪ ..‬سأستخدم عالقاتى الدبلوماسية ومعارفي من أجل‬
‫أن أتوصل إليها‪ ..‬ال تقلقي‪.‬‬
‫‪-‬أيمكنني الحديث بش ٍيء آخر؟‬
‫‪-‬تفضلي‪.‬‬
‫‪-‬وأنا أعبث بمحتويات أبي‪ ،‬عثرت على صورة المرأة لم أرها من قبل‪ ،‬لم‬
‫ً‬
‫أهتم كثيرا لألمر‪ ،‬لكن الغريب أنها ظهرت في أكثرمن صورة‪ ،‬وألاغرب أنك كنت‬
‫ً‬
‫ظاهرا في بعضها‪.‬‬
‫صعوبة ولم يجب‪ ..‬أمسكت بحقيبتها ثم أخرجت منها‬ ‫ٍ‬ ‫ابتلع ريقه في‬
‫الصورة التي ا حتفظت بها من قبل‪ ..‬مدت يدها بها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬تفضل‪ ..‬البد أنك تعرفها‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫‪-‬بلى‪.‬‬
‫‪َ -‬من تكون؟!‬
‫أبيك‪.‬‬
‫‪-‬إنها أخت ِ‬
‫‪-‬أخت أبي أنا؟!! ملاذا لم أرها من قبل؟‬
‫‪-‬ال أدري‪.‬‬
‫‪-‬هل هناك أمر ما تخفيه علي؟‬
‫شرد بصره في الفضاء ولم يجب‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫‪-‬ماذا هناك؟‬
‫عمتك يا بنيتي‪ ،‬لقد غادرت منذ أعوام عديدة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ال ش َيء‪ ..‬هذه هي‬
‫ً‬
‫علم باملوضوع‪ ..‬فقد‬ ‫أصبحت على ٍ‬
‫ِ‬ ‫أنك‬
‫يعرف أحد لها مستقرا حتى آلان‪ ..‬بما ِ‬
‫ميراثك على ثالثة حسب ما تقض ي‬ ‫ِ‬ ‫والدك إذا ظهرت‪ ،‬أن أقوم بتوزيع‬ ‫ِ‬ ‫أوصاني‬
‫به الشريعة إلاسالمية‪.‬‬
‫ثالثة‪ ..‬من تقصد بثالثة‪ ،‬أنا وعمتي فقط َمن الثالث؟‬
‫‪-‬ابنتها‪ ..‬كان لديها فتاة‪.‬‬
‫‪ -‬ليتها تعود وتأخذ امليراث كله‪ ..‬إنني في أشد الحاجة إلى قريبة وابنة عمة‪.‬‬
‫‪-‬نحن أقارب يا ابنتي‪.‬‬
‫ود قائلة‪:‬‬ ‫ابتسمت في ٍ‬
‫‪ -‬الصداقة تختلف عن القرابة‪ ،‬وإن كنت أقرب لي من قريبتي هذه‪.‬‬
‫‪ -‬لكنني بالفعل قريب وليس مجرد صديق فقط‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬حقا؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬
‫‪-‬وما هي صلة القرابة إذن؟‬
‫لك أنني قريب أكثر منه صديق‪ ..‬فلنعود إلى‬ ‫‪-‬ليس هذا وقته‪ ،‬لكنني أؤكد ِ‬
‫جمعت كل املعلومات التي يمكن أن تساعدنا في العثورعليها؟‬ ‫ِ‬ ‫قضيتنا‪ ،‬هل‬
‫ً‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬أخرجت من حقيبتها ملفا وضعته على املكتب قائلة‪-:‬‬
‫‪-‬هذا امللف يحوي كل ش ٍيء‪.‬‬
‫وأبلغك‬
‫ِ‬ ‫‪-‬هللا هو املوفق‪ ،‬سأذهب أنا آلان‪ ..‬سأجلس مع املحامي‬
‫بالتفاصيل إن جد جديد‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬سأنتظرأخبارا مبشرة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬إن شاء هللا‪ ..‬لكن أخبريني أوال متى ستغادرين؟‬

‫‪167‬‬
‫ً‬
‫مساء‪.‬‬ ‫‪-‬اليوم في السادسة‬
‫ً‬
‫‪-‬سريعا هكذا؟‬
‫ً‬
‫‪-‬لقد ضيعت الكثير من الوقت هنا‪ ..‬لم يعد هناك مبررا ملكوثي هنا أكثر‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫‪-‬على بركة هللا‪.‬‬
‫انصرف الرجل إلى مسكنه‪ ..‬وفي حديقة الفيال وجد أدهم يجلس مع‬
‫ً‬
‫املحامي‪ ..‬ألقي عليهم تحية عابرة ثم استدار وكأنه تذكر شيئا‪ ..‬نظر إلى املحامي‬
‫ً‬
‫مخاطبا‪:‬‬
‫‪ -‬جاسر‪ ..‬لقد جمعت املعلومات التي يمكن أن تفيدك بشأن القضية التي‬
‫ً‬
‫حادثتك بشأنها‪ ..‬سأطلع على امللف ثم أرسله لك صباحا‪.‬‬
‫‪-‬أنا في انتظار وصوله‪.‬‬
‫‪-‬معذرة دكتور أدهم‪ ..‬أكمل ما كنت تقوله‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬إنها قضية تخصني شخصيا‪ ..‬وتمسني بشكل مباشر‪..‬أريدك أن تبذل‬
‫كل ما في وسعك حتى تكون ألامور في صالحنا‪ ..‬وال أخفي عليك ألامور معقدة‬
‫ً‬
‫جدا‪ ،‬والقضية سياسية من العيار الثقيل‪ ،‬وال نعلم للمتهمة مكان حتى آلان‪..‬‬
‫بل حتى ال نعلم هل حية أم ميتة؟‬
‫‪-‬ال تقلق‪ ..‬لقد أخبرت الدكتور كمال أنني لن أتوانى في الحصول‪. ....‬‬
‫‪-‬دكتور كمال!! ما عالقة أبي باملوضوع؟‬
‫‪ -‬أوليست هذه قضية عائشة عبدالرحمن؟!‬
‫‪-‬من أين لك بهذا الاسم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬أنا ال أفهم شيئا‪ ..‬هذه القضية حدثني والدك بشأنها صباحا‪.‬‬
‫‪-‬والدي أنا!!‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫‪ -‬وما عالقته بعائشة‪ ..‬أمتأكد أنت؟!!‬
‫‪-‬كل التأكيد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬إذا انصرف آلان‪ ،‬وإن توصلت لش ٍيء أخبرني به فورا‪.‬‬
‫‪-‬بالتأكيد‪.‬‬
‫اجتاز أدهم خطوات سلم الحديقة في خطوات واسعة‪ ..‬طرق باب غرفة‬
‫املكتب‪ ،‬ولم ينتظرإلاذن بالدخول‪ ..‬لم يكن والده بالغرفة‪ ..‬لكن لفت نظره‬
‫ملف موضوع فوق املكتب بعناية‪ ..‬أمسك امللف بين يديه‪ ،‬ألقى عليه نظرة‬
‫عابرة ثم استوقفه اسم موجود بمقدمة الصفحة ألاولى "عائشة عاطف‬
‫عبدالرحمن"‪ ..‬وضع امللف في عدم اكتراث‬
‫خرج من املكتب وصوته يجوب أركان الفيال‪ ..‬ما الذي يحدث؟ أنا لم أعد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بفزع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قائال‬ ‫الثاني‬ ‫الدور‬ ‫من‬ ‫أحمد‬ ‫عليه‬ ‫أطل‬ ‫‪..‬‬ ‫شيئا‬ ‫أفهم‬
‫عال هكذا؟‬ ‫‪-‬أدهم ماذا هناك ملاذا صوتك ٍ‬
‫‪ -‬ما الذي يحدث هنا‪ ..‬ما عالقتكم بعائشة؟‬
‫ً‬
‫‪-‬هبط أحمد السلم عدوا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬اخفض صوتك والدك مرهق ونائم‪.‬‬
‫‪-‬ليس قبل أن أفهم‪.‬‬
‫‪-‬تعال كى أفهمك‪.‬‬
‫هتف أبوه بهذه العبارة‪ ،‬وهو يهبط السلم بخطوات وئيدة‪ ..‬ثم تقدمهم‬
‫ً‬
‫إلى حجرة املكتب‪ ..‬جلس ألاب متوسطا املنضدة وعلى جانبيها من الناحية‬
‫ألاخرى أدهم وفي قبالته أحمد‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬باختصار يا بني هذه قضية تهمني أنا شخصيا‪ ..‬حملق أدهم في عدم‬
‫ً‬
‫استيعاب هاتفا‪:‬‬
‫‪-‬ماذا تعني؟‬

‫‪169‬‬
‫‪-‬هذه قضية أوصاني بها الوزير محمود الشرقاوي رحمه هللا‪ ..‬إنها تخص‬
‫ابنته أروى‪.‬‬
‫وهنا انتفض قلبه انتفاضة زعر قبل أن يهتف ‪-:‬‬
‫‪-‬أروى من؟‬
‫‪-‬أروى ابنته‪ ..‬ابنته الوحيدة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬هل هذه هي ابنة الوزيرحقا؟‬
‫نعم‪.‬‬
‫‪-‬إذن هيا‪.‬‬
‫‪-‬إلى أين؟!!‬
‫‪-‬إليها‪.‬‬
‫واضح‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫استياء‬
‫ٍ‬ ‫قال أحمد في‬
‫‪-‬بل أنا الذى لم يعد يفهم أي ش ٍيء في هذا البيت‪.‬‬
‫‪-‬ليس هذا وقت فهم‪.‬‬
‫‪-‬قم معي يا أبي إليها‪.‬‬
‫نظر ألاب في ساعة يده ثم قال في المباالة‪:‬‬
‫‪ -‬لقد سافرت هي آلان في طريقها إلى فرنسا‪.‬‬
‫ً‬
‫ارتمى أدهم على أقرب مقعد ثم قال متسائال‪:‬‬
‫‪-‬متى غادرت؟‬
‫ستنطلق طائرتها في السادسة مساء‪ً.‬‬
‫ً‬
‫نظر أدهم إلى ساعة يده ثم هب واقفا‪ ..‬اتجه نحو الباب وهو يقول‪:‬‬
‫‪-‬مازال أمامي بعض الوقت‪ ..‬استقل السيارة وانطلق بها في سرعة جنونية‬
‫صوب املطار‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫باق من الوقت نصف ساعة فقط‪ ..‬أخرجت من‬ ‫نظرت هي في ساعتها‪ٍ ..‬‬
‫ً‬
‫حقيبتها مصحفا لتقطع به املرور الطويل للوقت وفجأة ارتفع صوت مكبرات‬
‫ً‬
‫الصوت هاتفا‬
‫‪"-‬على آلانسة أروى محمود الشرقاوي التوجه إلى مكتب الاستعالمات‬
‫قبل صعود الطائرة املتجهة إلى باريس‪.‬‬
‫دهشة ‪ ..‬ظل الصوت يكرر نداءه ‪ ..‬لم تستطع أن تعرف ما‬ ‫ٍ‬ ‫تلقت النبأ فى‬
‫الذى وراء هذا النداء؟ ‪ ..‬أغلقت حقيبتها وبالفعل اتجهت نحو مكتب‬
‫ً‬
‫الاستعالمات‪ ،‬وفجأة رأته واقفا أمامها بجسده وروحه وكل كيانه‪ ،‬هتفت هى‬
‫فى ذهول ‪:‬‬
‫‪-‬ما الذى جاء بك إلى هنا؟‬
‫أنت‬
‫‪ِ -‬‬
‫‪-‬أنا!!‬
‫أدعك تذهبين ثانية ‪ ..‬يكفينى ما حدث في املرة السابقة حاولت‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬نعم ‪ ..‬لن‬
‫أن تخفي ابتسامتها ‪ ..‬لكنها اتسعت أكثر حينما هتف بها ‪:‬‬
‫ً‬
‫لك؟‬ ‫‪-‬هل تقبلين بى زوجا ِ‬
‫ً‬
‫وفجأة جاءهم صوت ثالث قائال ‪:‬‬
‫‪-‬هكذا‪ ..‬من ورائنا‪ ،‬ألن تكف عن هذا التخابث؟‬
‫ً‬
‫استخفاف‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫نظر أدهم إليها مشيرا إلى هذا املتحدث وقال فى‬
‫‪-‬أحمد ‪ ..‬أخي‪.‬‬
‫‪-‬أعلم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تقدم ألاب وخلفه رجال يضع العمامة على رأسه وبيده دفترا عريضا ‪...‬‬
‫قال ألاب بصوت يقطر سعادة‪:‬‬
‫‪-‬هيا ‪ ..‬ها أنا وكيل العروس‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫هتفت فى عدم تصديق ‪:‬‬
‫‪-‬ما الذى يحدث ؟!‬
‫أزوجك البنى ‪ ..‬هل تمانعين؟‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫واضح ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫عبث‬
‫‪-‬خفضت بصرها أرضا ولم تجب ‪ ..‬هتف أحمد في ٍ‬
‫‪-‬إذان السكوت عالمة الرضا‪.‬‬
‫ً‬
‫وكزه أدهم فى صدره قائال ‪:‬‬
‫كف عن هذا العبث ‪ ..‬ال تخجلها أكثر من ذلك‪.‬‬
‫أنهى الشيخ املعمم إجراءاته وبارك للعروسين‪ ..‬وفجاءة انهالت عليها‬
‫التهنئة‪ ،‬وارتفع التصفيق‪ ،‬ورأت أناس لم ترهم من قبل يتدافعون نحوها من‬
‫ً‬
‫أجل السالم عليها وتهنئتها ‪ ..‬كاد قلبها أن يرقص طربا من هذه املفاجأة الغير‬
‫ومن هؤالء الذين يشاركونها بهجتها دون أن تراهم من قبل ودون أن‬ ‫متوقعة‪َ ،‬‬
‫تراهم ثانية؟ مد الوالد يديه داخل جيب سترته ثم أخرج منه علبة فضية اللون‬
‫ً‬
‫‪ ..‬مد يده بها نحو أدهم قائال‪:‬‬
‫‪-‬وهذا خاتم خطبتك ضعه فى يد عروسك‪.‬‬
‫هادئ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رخيم‬
‫صوت ٍ‬‫ٍ‬ ‫بلحظات هتف في‬
‫ٍ‬ ‫وقبل أن تتجه إلى الطائرة‬
‫ً‬
‫بك عاجال‪.‬‬ ‫‪-‬انتظرينى سألحق ِ‬
‫‪-‬سأنتظرك‪.‬‬
‫ً‬
‫قال ضاحكا ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬هكذا سريعا ؟!‬
‫حياء‪ ،‬وآثرت الصمت‪.‬‬ ‫خفضت بصرها إلى ألارض فى ٍ‬
‫ً‬
‫أسالك سؤالا؟‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أيمكننى أن‬
‫‪-‬نظرت هي في ساعة يدها ثم قالت‪:‬‬
‫‪-‬تفضل‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫أتركك تغادرين قبل أن تجبيين‬
‫ِ‬ ‫أمرك‪ ..‬لكن لن‬
‫أنك في عجلة من ِ‬ ‫‪-‬أعلم ِ‬
‫علي‪ ،‬ملاذا اختفيتى املرة السابقة دون سابق إنذار‪ ..‬هل أنا منفر إلى هذه‬
‫الدرجة؟‬
‫‪-‬بالطبع ال‪.‬‬
‫شعورك وقتها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬إذن حدثينى عن‬
‫نظرت إلى ساعة يدها ثم قالت بابتسامة خجولة‪:‬‬
‫‪-‬الطائرة‪.‬‬
‫وضع ساق على ساق ثم عقد ساعديه أمام صدره وقال في استفزاز‪:‬‬
‫ً‬
‫سأمنعك من السفر تماما‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬قلت لن تغادرى قبل أن تجيبى وإال‬
‫‪-‬هل تقدر؟!‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬ومن يقدر غير زوجك؟‬
‫‪-‬زوجى!!‬
‫ً‬
‫قال مقهقا‪:‬‬
‫شئت‬
‫ِ‬ ‫مالك متعجبة هكذا ‪ ..‬الشيخ ما زال هنا هيا لنسأله ‪ ..‬وإن‬
‫يدك‪ ..‬بماذا يوحي هذا اللون ألازرق؟ ‪ ..‬ها أجيبى بماذا‬ ‫فانظري إلى بصمة ِ‬
‫أحسست وقتها؟‬
‫نظرت في عينيه مباشرة قائلة‪:‬‬
‫‪-‬تمنيت حينها لو أن بإمكانك رؤية قلبى‪ ..‬لو كانت املشاعر ترى ألراحتنا‬
‫ً‬
‫كثيرا‪ ..‬هل تسمح لي باملغادرة آلان؟‬
‫ً‬
‫وضع كفها بين يديه‪ ،‬ثم شد عليها قائال‪:‬‬
‫‪-‬فى أمان هللا وحفظه‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫ظل يتابعها ببصره إلى أن صعدت سلم الطائرة‪ ..‬التفتت إليه وكأنها‬
‫تملي عينيها منه بنظرة أخيرة‪ ..‬اتجهت إلى مقعدها وقلبها يحلق حيث يوجد‬
‫هو‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫(‪)13‬‬
‫ً‬
‫كن عاقال‬
‫أنا املحامي جاسر حسن القاض ي‪ ..‬املحامي الخاص بمجموعة شركات‬
‫ً‬
‫النشار جروب لألدوية ‪ ..‬لوهلة لم تنتبه لالسم لوال أنه استطرد قائال‪:‬‬
‫يلتقيك بنفسه‪ ..‬سأحاول أن‬ ‫ِ‬ ‫إليك دكتور أدهم ‪ ..‬كان يود أن‬
‫‪-‬أرسلني ِ‬
‫ً‬
‫أستصدر له تصريحا بالزيارة ‪ ..‬لن عد إلى قضيتنا أنا املحامي املكلف بمتابعة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معك‪ ..‬ألامرليس هينا باملرة‪ ..‬القضية تحاصرها‬ ‫قضيتك‪ ،‬وحتى أكون صريحا ِ‬ ‫ِ‬
‫الخطورة من كل جانب ليست مجرد قضية توزيع منشورات بالحرم الجامعي‪،‬‬
‫أو الانضمام إلى مسيرة تخريبية فحسب‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تقصد؟!‬
‫ً‬
‫لصديقاتك‪ ..‬مثال أصبحت قضايا‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ألامور تطورت‪ ..‬والجرائم لفقت‬
‫تخابر مع دول أجنبية‪ ..‬أوإلادالء بمعلومات سرية تخص الجيش والشرطة إلى‬
‫بعض الغرباء‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ما كل هذا من أين لفتاة مثلي بهذه املعلومات أصال ؟!‬
‫أجعلك ملمة باألمور ككل‪ ،‬وأن‬ ‫ِ‬ ‫ألقلقك‪ ..‬فقط أردت أن‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أنا لست هنا‬
‫موقفك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لك حقيقة‬ ‫أبين ِ‬
‫صالحك‪ ،‬مثال مدة الحبس‬ ‫ِ‬ ‫وباملناسبة هناك بعض ألامور التى تقع في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لك سؤالا واحدا‪.‬‬ ‫الاحتياطى التي تجاوزت الثالثة أشهر دون أن يوجه ِ‬
‫ً‬
‫بك ال سيما إن كان سياسيا‬ ‫لذلك أريد أن تخبرينى عن كل ش ٍيء يتعلق ِ‬
‫ً‬
‫حتى أكون ملما باألمور جميعها‪.‬‬
‫‪ -‬ال عالقة لى بالسياسة‪ ..‬بل حتى ل ست من هواة قراءة الجرائد‪ ،‬فقط‬
‫ذهبت إلى الجامعة وبحقيبتى مصحف وورقة تحمل بعض الفتاوى التي تخص‬

‫‪175‬‬
‫الحجاب وذلك ألن أروى طلبتها مني وهي ستشهد على ذلك‪ ..‬وجدت املسيرة في‬
‫طريقى تغلق الشارع ككل ‪ ...‬فلم يكن هناك بد من السير وسطهم ولكن عكس‬
‫الاتجاه ‪ ..‬بعدها لم ِأع أي ش ي ٍء إال وأنا بسجون الداخلية‪.‬‬
‫‪ -‬هذا يعنى أنه لم يكن لك نشاطات سابقة ‪ ..‬وال أي فعاليات تخص أى‬
‫جماعة؟‬
‫ً‬
‫‪-‬ال إطالقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شد قامته واقفا ثم ابتسم لها قائال‪:‬‬
‫‪ -‬اطمئني ‪..‬سنلتقي في القريب العاجل إن شاء هللا‪.‬‬
‫وألول مرة تلتقي عينه بعينها نظرت إليه متوسلة ثم قالت له فى رجاء ٍ‪:‬‬
‫بطلب؟‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬أيمكنني أن أثقل عليك‬
‫أهلك‪ ،‬أليس كذلك؟‬ ‫‪ِ -‬‬
‫‪-‬بلى‪.‬‬
‫ً‬
‫كل لقد عثرنا أخيرا على‬ ‫أخبرك‪ ..‬على ٍ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬جميعهم بخير‪ ..‬كيف نسيت أن‬
‫أخيك الغائب‪.‬‬‫ِ‬
‫هتفت فى عدم تصديق ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬حقا؟!‬
‫لك‪.‬‬
‫‪-‬أقسم ِ‬
‫وبحركة تلقائية‪ ..‬غطت وجهها بيدها متممة ببعض كلمات الحمد‪،‬‬
‫ودموعها من سابة على وجنتيها‪ ..‬ثم قالت متسائلة‪:‬‬
‫‪-‬هل هو بخير؟‬
‫ً‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬ألامور خارجا تسير على ما يرام‪ ..‬وال ينقصهم سوى الاطمئنان‬
‫عليك‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪176‬‬
‫أنرت فرنسا كلها‪.‬‬ ‫‪-‬حبيبتى لقد ِ‬
‫ً‬
‫‪-‬كفى كذبا‪.‬‬
‫لعودتك‪ ،‬أنا ال أجد سبب لفرحتي‬
‫ِ‬ ‫أنرت قلبي‬
‫أنك بكل صدق قد ِ‬ ‫أيكفيك ِ‬‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫أصبحت شيئا مني‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هذه سوى ِ‬
‫أنك‬
‫وأنت كذلك‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ً‬
‫أنك جائعة‪.‬‬
‫لك طعاما‪ ..‬ال بد ِ‬ ‫‪-‬هيا إلى الشقة لقد أحضرت ِ‬
‫وفي العربة سألت نسيم أروى ‪:‬‬
‫ً‬
‫خذلتك في أشد‬
‫ِ‬ ‫نفسك شيئا علي‪ ،‬أشعر وكأننى‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أروى ‪..‬هل تجدين في‬
‫ً‬
‫أوقاتك احتياجا إلي‪.‬‬‫ِ‬
‫عادل‪.‬‬
‫رحيم ٍ‬ ‫إله ٍ‬
‫‪-‬ال تقولى هذا أبي بخير آلان ‪ ،‬يكفيه أنه لحق بأمي عند ٍ‬
‫‪-‬رحمه هللا‪.‬‬
‫‪-‬آمين‪.‬‬
‫ستعجبك ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫لك بعض الهدايا املصرية متأكدة أنها‬ ‫‪-‬لقد اصطحبت ِ‬
‫لقائك مع والد أحمد؟‬
‫ِ‬ ‫صحيح أخبريني ما الذى حدث بشأن‬
‫ً‬
‫‪-‬لقد وصلنا‪..‬هيا إلى الطعام أوال‪.‬‬
‫وأثناء تناولهما الطعام الحظت نسيم خاتم يلمع في إصبع أروى هتفت‬
‫عال‪:‬‬
‫بصوت ٍ‬‫ٍ‬
‫‪-‬أروى ما هذا الخاتم؟‬
‫‪-‬إنه خاتم خطبة‪.‬‬
‫‪-‬هل تمزحين؟‪.‬‬
‫‪-‬كال‪ ..‬وهل في هذا مزاح؟‬
‫بك؟‬ ‫َ‬
‫أنت صامتة حتى آلان؟‪ ..‬لم لم تخبرينى منذ أن التقيت ِ‬ ‫‪-‬وملاذا ِ‬
‫نظرت إليها أروى ضاحكة وقالت‪:‬‬

‫‪177‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ألمومتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قلت الطعام أوال‪..‬فامتثلت‬
‫أحدثك بش ٍيء ِ‬‫ِ‬ ‫كلما حاولت أن‬
‫‪ -‬ال موضوع مثل هذا أهم من هذه ألامومة املزعومة ‪..‬دعي الطعام‬
‫والشراب وأخبرينى إلى َمن خطبتى؟‬
‫وكيف حدث هذا بهذه السرعة؟ وإلى أين ذهب ذاك ألادهم؟‬
‫‪-‬لم يذهب‪ ..‬لقد اقترب أكثر‪.‬‬
‫‪-‬تقصدين أنه هو؟!!‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬قصت أروى عليها كل ما حدث وبالتفصيل‪.‬‬
‫هتفت نسيم بارتياح‪:‬‬
‫‪-‬ألامور تسير على ما يرام‪ ..‬عثرنا على إياد‪ ،‬وعلى عائشة‪ ،‬وأنت خطبتي‬
‫ألدهم‪ ..‬هذا أكثر مما نتوقع‪ ..‬الحمد هلل‬
‫عنك؟‬
‫‪-‬ماذا ِ‬
‫‪-‬الش َ‬
‫يء ‪..‬أمى كما هي‪.‬‬
‫‪-‬وماذا عن أحمد؟‬
‫مختف‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬ال أدري منذ أن التقيت به وبأخيه ‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫‪-‬ألم يكن والده حاضرا؟‬
‫‪-‬ال‪ ،‬حادث طارئ منعه من الحضور‪ ..‬الحمد هلل لست حزينة كما‬
‫أخبارك السعيدة هذه أثلجت صدري كما لو أننى أنا التي‬ ‫ِ‬ ‫تشعرين‪ ،‬ثم إن‬
‫خطبت‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي اليوم التالي اتجهتا إلى الجامعة سويا ‪..‬اطمئنت أروى على والدة‬
‫نسيم ‪..‬بعد أن قدمت الاعتذار إلى املشرف على الرسالة الخاصة بها‪ ،‬لتغيبها‬
‫الطارئ‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫‪ -‬ماذا بك‪ ..‬ملاذا أصبحت تطيل الصمت هكذا؟‬
‫‪-‬ال ش َ‬
‫يء‪ ..‬إنه إلارهاق ليس إال‪.‬‬
‫‪-‬ماذا بك يا أحمد تحدث‪.‬‬
‫شد أحمد ياقة عنقه وقال فى ضيق‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬ألم تتوقع أنت شيئا‪ ..‬أنسي ت الفتاة التي وعدتها بالخطبة‪ ..‬منذ شهر‬
‫ً‬
‫كامل وال أحد يعبئ بي‪ ..‬أو حتى كلف خاطره وسألنى‪ ..‬أقض ي وقتي مغموسا فى‬
‫العمل علكم أن تشعروا أنني أحاول أن أقطع الوقت بأى ش ٍيء‪ ..‬هى ال تعنيني‬
‫بقدر ما يعنيني وعدي لها بالعودة‪ ،‬وتمسكي بها‪ ،‬ألن تسأل نفسك ما الذى‬
‫ستظنه بي؟‪ . .‬وبالفكرة التى ستطبع في ذهنها عني بل عن أصلها العربي كله‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تبا للعادات والتقاليد‪ ..‬تبا للمظاهر الكذابة‪ ..‬والتفاخر الخادع الذي‬
‫يمنعني من الارتباط بمن أحب‪ ..‬لقد ضاق صدري‪ ..‬أخبرأباك أنني سأسافرإلى‬
‫ً‬
‫إلاسكندرية لفترة لم أعرف مداها بعد‪ ..‬ثم هب مغادرا‪..‬أمسك أدهم بذراعه‬
‫قائال ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كال ‪..‬لن تغادر‪ ..‬تسآل متعجبا‪:‬‬
‫‪َ -‬‬
‫لم؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬ألن لديك سفرا آخرغدا‪.‬‬
‫ً‬
‫دهشة متسائال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رفع حاجبه فى‬
‫‪-‬إلى أين؟‬
‫‪-‬إلى فرنسا‪.‬‬
‫‪ -‬أنا لم أفهم‪ ..‬ماذا هناك؟‬
‫ً‬
‫‪-‬أتظن أنني نسيتك‪ ..‬أو انشغلت بخطبتي عنك‪ ..‬لقد حاولت جاهدا في‬
‫ألايام املاضية أن أقنع أبا ك ولقد وافق‪ ..‬ولكنني آثرت أن أفاجأك بأمر السفر‬
‫هكذا‪ ..‬لكنك تعجلت‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫بصوت يحمل كل الحب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫خجل وقال‬
‫ابتسم أحمد في ٍ‬
‫‪ -‬حقا إنني أحمد هللا على أنك أخي‪ ..‬أشعر وكأن عالقتي بك تشبه عالقة‬
‫هارون بموس ى أنت لست مجرد أخ أنت صديقي ووالدي وكل ش ٍيء‪.‬‬
‫‪-‬قال أدهم ضاحكا‪:‬‬
‫‪-‬كل هذا من أجل تذكرة سفر‪ ..‬لو كنت أعلم ذلك الستصدرت لك تذكرة‬
‫ً‬
‫سفر كل يوم‪ ..‬ثم قال وهو يغادر استعد سنسافر صباحا‪.‬‬

‫ً‬
‫‪-‬أنا ذاهبة‪ ،‬ال شك أن الطائرة على وشك الوصول هل تريدين شيئا؟‬
‫عليك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ال لكن ال تتأخري حتى ال تقلقيني‬
‫قالت في غرور مصطنع‪:‬‬
‫‪-‬ال قلق علي في حضرته‪.‬‬
‫‪-‬هكذا إذن‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬بالضبط تماما‪.‬‬
‫مشاعرك فجأة؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ما هذه الرقة التي هبطت على‬
‫ً‬
‫لكنك ال تشعرين‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أنا هكذا دائما‪..‬‬
‫أنتظرك على الغداء؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬اذهبي لقد فار الدم في عروقى‪ ..‬لكن أخبريني هل‬
‫قالت وهى تجتاز خطوت السلم‪:‬‬
‫سأهاتفك بشأن هذا‪.‬‬
‫ِ‬
‫أغلقت نسيم باب شقتها‪ ،‬وبعد بضع ساعات هاتفتها أروى‪ ،‬وأخبرتها أنها‬
‫على وشك الوصول ‪ ..‬وعلى باب املبنى الذى تقطن به هتفت أروى‪:‬‬
‫انتظارك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أعطني الحاجات وانصرف أنت‪ ..‬البد أنهما فى‬
‫‪180‬‬
‫ً‬
‫سأوصلك أوال‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬لقد وصلنا بالفعل‪.‬‬
‫بمفردك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أدعك تحملين هذه ألاشياء‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ال أقصد هنا‪ ..‬أقصد أننى لن‬
‫قالت فى برود‪:‬‬
‫‪ -‬لن أحملها‪ ..‬املصعد هو الذي سيفعل‪.‬‬
‫بمساعدتك؟!!‬
‫ِ‬ ‫‪-‬وهل هذا يليق برجل شرقي‪ ،‬هل املصعد أولى مني‬
‫ً‬
‫‪-‬أدهم كن عاقال‪.‬‬
‫شقتك‪ ..‬أريد أن أرى املكان الذى‬
‫ِ‬ ‫معك ‪ ،‬وتريني‬
‫‪-‬لن أفعل‪ ..‬البد أن أصعد ِ‬
‫تعشين فيه ‪.‬‬
‫‪-‬ليس هذا وقته‪.‬‬
‫‪-‬ومتى إذن؟‬
‫‪ -‬ظلت تتراجع بخطواتها إلى الخلف وهو يتقدم نحوها حتى اصطدمت‬
‫ً‬
‫بالحائط ‪..‬وهنا وضع ذراعيه على الحائط مطوقا إياها‪ ،‬وجعلها فى املنتصف‬
‫ً‬
‫تماما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أشارت بإصبعها‪ ،‬وكأنها تزجر طفال صغيرا‪ ،‬هتفت قائلة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كن عاقال وعد من حيث أتيت‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬في هذا الوقت تحديدا من العقل أال أكون عاقال‪ ..‬لقد مض ى علي أكثر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من ثمانية وعشرين عاما كنت فيها عاقال تمام العقل ومتزنا تمام الاتزان‪ ،‬وما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫زال في العمر بقية أستطيع فيها أن أكون عاقال ومتزنا متى شئت ‪ ..‬أما آلان‬
‫ً‬
‫فال‪..‬لم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك‪ ..‬نظرت إليه فوجدته جميال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وسيما رقيقا يطل الحنان من بين عينيه‪ ،‬اقترب منها أكثر حتى باتت تتنفس‬
‫أنفاسه‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫أحست بلهيب أنفاسه يلفح وجهها‪ ،‬وهنا فتح باب املصعد ونزل منه أحد‬
‫السكان‪ ..‬قال في عصبية‬
‫سأوصلك حتى باب الشقة وأنصرف‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬هيا أمامي‬
‫قابلت عصبيته بضحكة عالية مستفزة‪ ..‬قال في عصبية مصطنعة‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫يضم قبضته ويتجه بها نحو رأسها قائال‪:‬‬
‫أيرضيك هذا الفزع؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬سعيدة أليس كذلك‪..‬‬
‫ً‬
‫‪-‬يرضينى وجدا‪.‬‬
‫ُ‬
‫بعدها بلحظات كانا أمام باب شقتها‪ ..‬وفجأة فتح باب الشقة املقابلة‬
‫وحينها كانت املفاجأة‪.‬‬
‫هتفت نسيم فى ذهول‪:‬‬
‫‪-‬سيد أدهم!!‬
‫‪-‬دكتورة نسيم‪.‬‬
‫نظرت إليهما أروى فى شبه صدمة‪:‬‬
‫هل تعرفان بعضكما؟!‬
‫‪-‬إنها الفتاة التى أراد أحمد خطبتها‪.‬‬
‫انقضت أروى على نسيم حاضنة إياها وهى تقول في سعادة بالغة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أنا ال أصدق هل هذا صحيح‪ ..‬أخيرا سننتمي إلى عائلة واحدة‪ ،‬يالروعة‬
‫ً‬
‫القدر حين يفاجئنا بأماني لم نتوقع حدوثها يوما‪.‬‬
‫ً‬
‫نظر إليها أدهم متعجبا ثم قال في لهجة متسائلة‪:‬‬
‫صديقتك؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬هل نسيم‬
‫‪-‬صديقتى وأختى وكل ش ٍيء لي هنا‪ ..‬سأجن ال أكاد أصدق‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫‪ -‬أين كنت يا أدهم‪..‬ملاذا تأخرت هكذا؟‬
‫‪-‬كنت أوصلها إلى املنزل‪.‬‬
‫‪-‬ماذا بك؟‬
‫‪-‬ال ش ي َء تغمرنى السعادة ليس إال‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫ولم؟‬
‫يء‪ ..‬فقط قابلت نسيم‪.‬‬ ‫‪-‬الش َ‬
‫‪َ -‬من ؟ تقصد أروى ؟‬
‫‪-‬ال نسيم‪.‬‬
‫‪-‬تحدث بجدية‪.‬‬
‫‪ -‬أنا ال أمزح‪ ..‬لقد قابلتها وهناك أخبار مبشرة‪ ..‬هاهو والدك قد أتى‬
‫سأشرح كل ش ٍىء عندما يجلس وبعد برهة كان يحكي كل ما حدث بالتفصيل‪.‬‬
‫سعادة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬بعد أن انتهى أدهم من حديثه قال الوالد في‬
‫ً‬
‫‪-‬أنا أثق بأروى جدا سأتحدث معها وأحاول أن أنهي خطبتك أنت آلاخر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سريعا‪ ..‬مبارك مقدما يا أحمد‪.‬‬

‫ً‬
‫أنت مستعدة؟‬ ‫غد‪ ،‬هل ِ‬‫خطبتك بعد ٍ‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أخيرا انتهيتي من الاختبارات‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬كل الاستعداد‪ ،‬سنذهب غدا لنزور أمى سويا‪ ..‬إن قلبي يكاد ينفطر حزنا‬
‫ً‬
‫وأملا عليها‪ ..‬أنا ال أصدق أنني سأرتدي فستان خطبتي وسألبس خاتم خطبتي‬
‫وهي هناك على قيد سنتميترات من املوت‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تقديمك لها لن يغيرمن قدرهللا شيئا ‪..‬سنزورها غدا‬
‫ِ‬ ‫تأخيرك للخطبة‪ ،‬أو‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫بداخلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قلبك‪ ،‬والراحة ستتربع‬
‫وأنا متأكدة أن السكينة ستملئ ِ‬

‫‪183‬‬
‫كانت زيارة بائسة إلى أبعد حد‪..‬أشبه بزيارة القبور‪ ..‬هي على سريرها ال‬
‫ً‬
‫تسمع وال تبصروال تعي شيئا من هذا العالم‪ ..‬أما ابنتها فكانت واقفة أمام زجاج‬
‫الغرفة‪ ،‬وكأنها واقفة أمام مقبرة ‪ ..‬تمتمت ببعض الكلمات وكأنها تخبرها بما‬
‫آلت إليه ألامور‪.‬‬
‫أجدك بجانبي‪ ..‬لكم وددت أن‬‫ِ‬ ‫‪-‬ها أنا لقد أنهيت دراستي يا أمي ولم‬
‫ً‬
‫لك على كل ما بذلتيه من أجلي‪..‬‬ ‫ألبسك ردائي ألاسود! وقبعة تخرجى تكريما ِ‬ ‫ِ‬
‫فأنت ألام وألاب والصديقة وكل ش ٍيء‪.‬‬
‫يديك ِ‬
‫قدمك قبل ِ‬ ‫ِ‬ ‫لكم تمنيت أن أقبل‬
‫ً‬
‫حضورك‪ ،‬لن تلبسيني فستاني كما‬
‫ِ‬ ‫ها أنا ستنعقد خطبتي غدا دون‬
‫ُ‬
‫تمنيت ودون أن تحيطيني بآيات الذكر الحكيم التى ستحفظني من أعين‬
‫الحاسدين‪ ..‬هاهو خطيبي ليس لي أحد كى يوصيه علي‪ ..‬مسحت دمعة ترقرقت‬
‫في عينيها‪ ،‬ربتت أروى على كتفها‪ ،‬ثم استدراتا خارجين‪.‬‬

‫‪ -‬هل ستقابل إياد؟ لقد أخبرته نسيم باملوعد‪.‬‬


‫ً‬
‫‪-‬نعم‪ ..‬لقد بذلنا جهودا خرافية كي يحذف اسمه من قائمة املحظورين‬
‫من دخول مصر‪ ..‬وهاهو صديقي أخبرني أن آخر إجراء في هذا قد تم اتخاذه‬
‫اليوم‪َ ،‬‬
‫فلم التأخر إذن؟‬
‫‪-‬الحمد هلل‪ ..‬هو يستحق‪.‬‬
‫‪-‬يستحق ماذا؟‬
‫‪-‬يستحق أن يجد من يساعده في التخلص من بؤر الظلم التي تحيط‬
‫بعائلته وبه من كل جانب‪.‬‬
‫‪-‬ومالك مشفقة عليه هكذا؟‬
‫‪184‬‬
‫إنه أخو عائشة هل نسيت؟‬
‫يخصك ال حاله هو‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ال‪ ..‬لم أنس لكن حال عائشة هو الذى‬
‫‪-‬وهل هناك فرق بين حاله وحال أخته؟!‬
‫ً‬
‫‪-‬أنت ال تجيدين شيئا إال الجدال‪.‬‬
‫ضحكت في استغراب‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬إنها مهنتى‪ ..‬وهل تعلمت شيئا في دراستي أكثر من فنون الكالم؟!‬
‫مهنتك هذه تستحق كل هذا الفخر؟‬ ‫ِ‬ ‫بظنك هل‬
‫‪ِ -‬‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬وأكثر من ذلك‪ ..‬إن شعور املحامي عندما يعيد الحق إلى مستحقه‬
‫يضاهي روعة شعور الطبيب عندما ينقذ حياة إنسان‪ ،‬قل لي بربك ما نفع‬
‫جسد يتنفس ويبصر ويتحرك وروحه يضنيها ألم الجور وغصب الحق؟‬
‫‪-‬هل تقارنين القانون بالطب؟‬
‫‪-‬ال‪ ،‬ليست مقارنة‪ ..‬كالهما مهم لتستمر الحياة‪ ..‬لكن القانون أروع‪،‬‬
‫فقط لو طبق كما يجب أن يكون‪.‬‬
‫ً‬
‫عهدتك دائما‪ ..‬فلنعد إلى موضوعنا هل إياد هذا أسود‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬متحيزة كما‬
‫سمين‪ ،‬أفطس ألانف وقصير؟‬
‫ً‬
‫‪-‬ال إطالقا‪ ..‬إنه وسيم‪ ،‬أبيض البشرة‪ ،‬وأخضر العين‪.‬‬
‫‪ -‬إذن ال بد من أنه ثقيل الظل‪ ،‬س يء املعاشرة‪ ،‬تافه التصرفات وكثير‬
‫الكالم‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫ً‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬على العكس تماما‪ ..‬إنه مهذب‪ ،‬لبق‪ ،‬قليل الكالم‪ ،‬جاد‬
‫التصرفات‪ ،‬يحب الخير لآلخرين‪.‬‬
‫‪ -‬إياد هذا ال بد أن يوضع في قائمة الحظر كما كان!‬
‫ً‬
‫‪-‬كفى هزال‪..‬أنت زوجي ‪..‬وعالقتي به مجرد عالقة سطحية عابرة‪ ،‬عائشة‬
‫هي السبب في وجودها أعلمت أنه ليس هناك وجه للمقارنة؟‬

‫‪185‬‬
‫‪-‬أعجبتني كلمة زوجي هذه‪.‬‬
‫‪َ -‬‬
‫ولم العجب؟‬
‫ً‬
‫‪-‬إنك تصرين دائما على أن عالقتنا ليست إال مجرد خطبة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬وهي كذلك ‪..‬في الدين أنت زوجي لكن عرفا ال زالت مجرد خطبة‪.‬‬
‫يشبهك‪ ،‬أستند عليه حين تقسو على‬ ‫ِ‬ ‫منك‬
‫‪-‬ومتى سنتزوج‪ ..‬أحلم بطفل ِ‬
‫ألايام‪.‬‬
‫عندما تقسو عليك ألايام‪ ،‬يكفيك أن تستند على أروى‪.‬‬
‫رأيك أن نعجل به إذن؟‬
‫‪-‬ما كل هذا ياحبيبتي‪ ..‬ما ِ‬
‫‪-‬بعد أن تحرر عائشة‪ ،‬وأنتهي من رسالتي‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أعيدي تفكيرا في هذا ألامر‪.‬‬
‫‪-‬ال لم نتفق على هذا‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪-‬نحن لم نتفق على ش ٍيء من ألاساس‪ ..‬لقد غدر بي في املطار وتزوجتك‬
‫هكذا دون أن أدري ما الذى يحدث‪ ..‬أتدرين ما هى الحماقة الوحيدة التي‬
‫ارتكبتها فى حياتي؟‬
‫‪-‬ال زالت أمامك فرصة كي تصلح من حماقتك هذه‪.‬‬
‫كفي عن هذا العبث‪ ..‬الحماقة الوحيدة أني تركتك تذهبين من بين يدي‬
‫منك‪ ..‬ال تتعجلي‪.‬‬
‫بك‪ ،‬لكم أتعبني ذلك؟‪..‬ولكنني سأقتص ِ‬ ‫في أول لقاء ِ‬
‫‪-‬ولهذا سأقوم بتأخير ميعاد زواجنا‪.‬‬
‫أنت وشأنك أنا رجل مرغوب فيه‪ ،‬تحيطه النساء من كل جانب لوال أنى‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ً‬
‫أصد عنهن صدا‪.‬‬
‫‪ -‬وهذه هى الحماقة الثانية التى ترتكبها في حياتك‪.‬‬
‫ً‬
‫إنك مستفزة‪ ،‬تثيرين أعصابي دائما‪.‬‬ ‫‪-‬هيا يا أروى هيا اذهبي‪ِ ..‬‬
‫باملناسبة‪ ،‬سأعود إلى مصر بمجرد انتهاء الخطبة‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫‪َ -‬‬
‫لم؟‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫‪-‬إحداهن طلبت حضوري‪ ،‬فأمورها لن تسير إال إذا كنت موجودا؟‬
‫‪َ -‬من هذه؟‬
‫ً‬
‫‪-‬فتاة طيبة‪ ،‬رقيقة‪ ،‬مساملة‪ ،‬تلجأ إلي دائما‪ ..‬أعلمتنى كيف تكون ألانوثة‪..‬‬
‫ً‬
‫ليست كواحدة أعرفها جيدا ال ينقصها ش يء سوى أن ينبت لها لحية وشارب‬
‫ً‬
‫حتى تكون رجال‪.‬‬
‫‪-‬وضعت أروى يدها على ذقنها فى حركة تلقائية ثم هتفت في صوت يحمل‬
‫رنة البكاء‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬هل تراني هكذا فعال؟‬
‫أنت كذلك‪.‬‬‫‪ِ -‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أدهم كن جادا هل هذا هو انطباعك عني؟‬
‫‪-‬لو كنت هكذا ملا تزوجتك يا بلهاء؟‬
‫‪-‬إذن َمن هذه التي ستعود من أجلها؟‬
‫‪-‬إنها عائشة‪ ..‬ميعاد جلستها الثانية‪ ،‬وهذا أمر يستوجب حضوري‪..‬‬
‫ً‬
‫فأمورها لن تسير إال إذا كنت موجودا‪.‬‬
‫أوصلك ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هيا إياد على وشك الحضور ال بد أن‬

‫‪187‬‬
‫الفصل األخي‬
‫خاىل أدهم‬
‫ي‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫رحل إياد إلى مصر وأقيم حفل الخطبة‪ ..‬كان حفال هادئا بسيطا كانت‬
‫نسيم نجمته املضيئة وجوهرته الالمعة‪ ..‬انهالت املباركات عليها هي وأحمد‪،‬‬
‫وأثناء ذلك ارتفع رنين هاتفها‪ ..‬صممت على تجاهله‪ ،‬لكن من الواضح أن‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وتحول الرنين على هاتف الشقة نفسها‪..‬‬ ‫املتصل يأبى إال أن يكون مزعجا‪،‬‬
‫رفعت سماعة الهاتف فى وجل ليأتيها الرد الصادم‪:‬‬
‫ً‬
‫منك الحضور فورا‪ ..‬الوالدة تحتضر‪.‬‬ ‫‪-‬آنسة نسيم‪ ..‬أرجو ِ‬

‫‪-‬أين كنت كل هذه الفترة‪ ..‬ملاذا تغيبت عنا؟‪ ..‬ملاذا تركتنا؟‪ ..‬أرأيت ما آلت إليه‬
‫مبحوح تخيل‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫ألامور‪ ..‬أرأيت ما حدث لي‪ ..‬وأشارت إلى نفسها وقالت‬
‫يقولون عني إرهابية هل أنا كذلك؟‬
‫لست كذلك لقد عدت لن‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬احتضنها‪ ..‬ثم قال في حنان ال يا حبيبتي‬
‫ً‬
‫تخش شيئا‬ ‫أترككم ثانية‪ ،‬ال ِ‬
‫‪-‬هل أمي بخير؟‬
‫وأبوك ودمحم‪ ..‬كلنا بخير وألامور تسير على أفضل ما يكون‪ ،‬وأنا‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬نعم هي‬
‫على ثقة بأن هللا سيمن علينا ويتم فضله ببراءتك‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫‪-‬هل تتوقع ذلك؟!‬
‫أعهدك هكذا‪ ..‬باقي ثالثة‬
‫ِ‬ ‫وجهك لم‬
‫ِ‬ ‫‪-‬نعم‪ ..‬ما هذا اليأس الذي يلوح على‬
‫أنك ستحصلين على إلافراج‪ ،‬بل‬ ‫جلستك‪ ،‬وأنا واثق كل الثقة ِ‬‫ِ‬ ‫أيام على‬
‫حق ‪ ..‬ضحكت في سخرية قائلة‪:‬‬ ‫وسيعوضوك عن ألاشهرالتي مكثتيها هنا بغير ٍ‬
‫ِ‬
‫‪-‬ما هذا الخيال الواسع؟‬
‫عانيت بما فيه الكفاية‪ ،‬آن ألاوان أن ينتصر‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ليس خيال يا حبيبتي لقد‬
‫الحق على الباطل‪ ..‬وأن يحل العدل محل الظلم‪.‬‬
‫‪ -‬ال أظن‪ ..‬لقد اعتدت طعم الظلم حتى أصبحت ال أستسيغ غيره‪.‬‬
‫أحاطها بذراعيه وقبل رأسها‪:‬‬
‫لك‪ ..‬أحسني الظن باهلل والجأي إليه‬
‫‪ -‬أنا آسف‪ ..‬آسف على كل ما حدث ِ‬
‫فهو الوحيد القادرعلى إزالة هذه العتمة‪.‬‬

‫وقبل أن تصل نسيم إليها وضع الطبيب املكلف برعاية الفقيدة الغطاء‬
‫ألابيض على وجهها‪ ..‬لم تستطع أن تتحمل رؤيتها هكذا‪ ،‬وقبل أن تستوعب ما‬
‫ً‬
‫الذي يحدث‪ ،‬وقبل أن تصرخ حتى خرت مغشيا عليها‪ ..‬وضعها ألاطباء في غرفة‬
‫إلى جانب غرفة أمها‪ ،‬وتولى أدهم القيام بإجراءات خروج الفقيدة من املشفى‪..‬‬
‫ً‬
‫لم تكد نسيم أن تفيق حتى جاء رجال يرتدي حلة سوداء‪ ،‬ورباط عنق أسود‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬وتبدو عليه مظاهر الهيبة والوقار‪.‬‬
‫جلس الرجل بجانبها وعندما علم أن هناك من ينهي إجراءات خروج‬
‫الفقيدة من املشفى هاج وماج وكان مبرره الوحيد أن هناك وصية للفقيدة‬
‫أمرت أن تطلع عليها ابنتها بعد وفاتها وقبل حتى أن تنتقل من فراشها الذي‬
‫‪189‬‬
‫توفيت عليه‪ ..‬التف الجميع حول فراش نسيم وجلست أروى بجانبها‪،‬‬
‫واحتضنتها وظلت تربت على كتفها من ٍآن آلخر‪.‬‬
‫تنحنح الرجل ذو الحلة السوداء‪ ،‬ثم أخرج من حقيبة معه ظرف مغلق‪،‬‬
‫ً‬
‫وقبل أن يفض غالفه نظرإلى نسيم مترددا وقال في لهجة تحمل بعض إلاحراج‪:‬‬
‫‪-‬هل أقرأ هنا وفي حضور هؤالء ثم أشار إليهم‪.‬‬
‫‪-‬أشارت برأسها أن نعم‪.‬‬
‫حزين‪.‬‬
‫رخيم ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أمسك الرجل بالورقة وبدأ يقرأها‬
‫" ابنتي نسيم ها أنا قد وصلت إلى آخر العمر وهاهو العمر قد خانني‪،‬‬
‫عليك‪ ..‬كنت أشعر أن وفاتي قريبة‬ ‫ِ‬ ‫وخان أحالمي‪ ،‬وتوفيت قبل أن اطمئن‬
‫بك‪،‬‬
‫علك أن تسامحيني على ما فعلته ِ‬ ‫لك هذا الخطاب ِ‬ ‫لذلك آثرت أن أترك ِ‬
‫لن أطلب منك التماس ألاعذار‪ ..‬لكن صدقيني يا ابنتي لقد فعلت كل ما‬
‫بك‪ ..‬تقاذفني بحر الحياة بين أمواجه‬ ‫أستطيع فعله من أجل أن أنجو ِ‬
‫هوادة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫رحمة أو‬
‫ٍ‬ ‫املطالطمة دون‬
‫أجلك‪ ..‬كنت وقتها ال تزالين قطعة لحم حمراء في‬ ‫ِ‬ ‫ولك ومن‬ ‫بك ِ‬‫هربت ِ‬
‫فضلتك على الزوج والابن وألاهل وكل الوطن‪ ..‬كنت أعلم‬ ‫ِ‬ ‫أحشائي ومع ذلك‬
‫كنت‬
‫لك‪ ،‬فقد ِ‬ ‫أن لهيب الغربة سيحرقني‪ ،‬لكنني أقسمت أن أحول لهيبها جنة ِ‬
‫بك أحد ولم يستقبل‬ ‫حملتك في أحشائي‪ ..‬لم يفرح ِ‬ ‫ِ‬ ‫منبوذة مكروهة منذ أن‬
‫أبوك هو أن ضربني وأهانني ووضع قدمه على عنقي‬ ‫وجودك أحد‪ ..‬كل ما فعله ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫أجهضك وأقتل ِك أنا بيدي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مهددا إياي بالقتل إن لم‬
‫صمت املحامي ريثما تهدأ هي فقد على صوت نحيبها‪ ..‬ألقى الرجل نظرة‬
‫ً‬
‫على الحضور فوجدهم جميعا متأثرين‪ ..‬فرت الدماء من عروقهم واستقرت في‬
‫وجوههم‪ ..‬نظر يمينه فإذا برجل كبير بعض الش يء يبدو أنه تجاوز الخمسين‬
‫ً‬
‫عاما بقليل يحاول أن يسيطر على دموعه التي توشك أن تقفز من عينه‪،‬‬

‫‪190‬‬
‫لم يستطع أن يخمن من هؤالء وقبل أن يكمل قراءة الخطاب‪ ،‬قال في‬
‫لهجة متسائلة‪:‬‬
‫‪-‬هل يمكنني معرفة من هؤالء؟‬
‫أجاب أحمد بالنيابة عنها‪:‬‬
‫‪ -‬أنا خطيبها وهؤالء هم أهلي‪.‬‬
‫رفع الرجل الورقة مرة ثانية أمام عينيه وأكمل القراءة‬
‫ُ‬ ‫"أثناء هذه ألاحداث لم يكن لي ٌ‬
‫معين سوى أخي الوحيد الذي فررت إليه‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أبوك معتذرا‬
‫واتخذت من بيته مستقرا لي‪ ..‬بعد هذه الواقعة بشهرواحد أتاني ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إلي ومكفرا عن ذنبه‪ ،‬وناعتا نفسه بأبشع الصفات على جرمه الذي ارتكبه‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫معي‪ ،‬وأخبرني أنه قد تراجع عن ذلك تماما‪ ..‬عدت إلى املنزل فرحة أمني نفس ي‬
‫تخيلتك جميلة رقيقة وديعة كي تجعلي‬
‫ِ‬ ‫باليوم الذي ستخرجين فيه للدنيا‪ ..‬كم‬
‫ً‬
‫أبيك القاس ي مأوى ِ‬
‫لك؟‬ ‫من قلب ِ‬
‫ألبيك أخت واحدة مريضة‪ ،‬تركها زوجها ورحل دون‬ ‫فى هذه ألاثناء كانت ِ‬
‫عمتك قد أورثت ابنها هذا‬
‫ِ‬ ‫أن يلتفت البنه الصغيرالذي خلفه وراءه‪ ..‬ويبدو أن‬
‫الضعف وذاك املرض حتى ولد هذا الولد بكلية واحدة ومصابة بالفشل‬
‫أبوك في غرفة مكتبه‪ ،‬هبطت إلى الطابق السفلي كي‬ ‫الكلوي‪ ..‬وذات يوم تأخر ِ‬
‫أطمئن عليه فوجدته يحادث أخته في الهاتف وبدون قصد سمعت حديثه معها‬
‫ً‬
‫والدك يعدها بأنه‬
‫ِ‬ ‫وكانت الصدمة التي قلبت حياتي رأسا على عقب‪ ،‬لقد كان‬
‫سيبقي على حملي وبمجرد أن تولد هذه الفتاة سيعهد بها إلي أحد ألاطباء‬
‫أبوك يحب‬ ‫ألاجانب كي يستأصل كليتها ويمنحها لهذا الطفل املريض‪ ..‬كان ِ‬
‫عمتك ويشعر أن الزمن غدر بها أكثر من مرة‪ ..‬مرة عندما مرضت بهذا املرض‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وهي ما زالت شابة‪ ،‬ومرة حينما هجرها زوجها دون أن يأبه ملرضها‪ ،‬ومرة‬
‫أوجعها الزمن في ابنها الذي لم يتجاوزعمره بضعة أشهر‪..‬‬

‫‪191‬‬
‫كنت أشعر أنني أستمع إلى شيطان‪ ،‬وليس إلى زوجي الذي لطاملا أحببته‬
‫ً‬
‫ومنحته كل ش ٍيء‪ ..‬كرهه ألن ينجب فتاة أوال‪ ،‬ومحاولته قتلها ثانية‪ ،‬جعلني‬
‫أخش ى على نفس ي منه‪ ..‬هرولت إلى حجرتي أخذت من أموالي ومجوهراتي ما‬
‫أبوك‬
‫أخاك‪ ،‬ولكنني أطمئن عليه مع ِ‬ ‫ِ‬ ‫يمكن أخذه ثم هربت إلى هنا مخلفة ورائي‬
‫أبوك على علمه وثقافته ال تزال‬‫فهو يحبه ويفضل البنين على البنات فقد كان ِ‬
‫به هذه النزعة الشرقية املتخلفة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أبوك كان رجال مرموقا‪ ،‬ويده طائلة يستطيع أن يفعل‬ ‫ال تلوميني يا ابنتي‪ِ ..‬‬
‫بها أي ش ٍيء‪ ..‬وقبل أن يكمل الرجل قراءة‪ ،‬ارتفعت آهة عميقة من صدرالرجل‬
‫ً‬
‫الجالس على يمينه أفزعتهم جميعا‪ ..‬انهارالرجل أمامهم ولم تفلح محاولتهم في‬
‫يدر أحدهم ما السبب في ذلك؟‬ ‫تهدئته ولم ِ‬
‫بعد مرور بعض الوقت‪ ،‬رفع املحامي الورقة ثانية حتى يكمل قراءتها ‪:‬‬
‫أخوك‪ ..‬فهو‬‫ِ‬ ‫منك طبيبة كي ال تشعري ِ‬
‫أنك أقل من‬ ‫" حاولت أن أجعل ِ‬
‫ً‬
‫أراك تكبرين وتنضجين أمام‬ ‫كان يعزم على أن يجعل منه طبيبا هو آلاخر‪ ..‬كنت ِ‬
‫أبوك‪ ،‬صدقيني يا ابنتي هو‬ ‫بك كنت أشفق على ِ‬ ‫عيني‪ ،‬بقدر ما كنت أفرح ِ‬
‫يستحق الشفقة!‬
‫كيف لهذا الجمال أن يلفظه صاحبه‪ ،‬كيف لهذه الفتاة الرقيقة الوديعة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أنك‬‫املساملة أن يطردها أبوها‪ ،‬وهي التي لم ترتكب إثما‪ ..‬ولم تفعل ذنبا‪ ،‬أعلم ِ‬
‫ُ‬
‫آلان في أشد الحاجة ملعرفة َمن هو؟ لكم امتنعت عن إلاجابة عن هذا السؤال‬
‫ً‬
‫أخبرك‪ ،‬لكن أوال‬
‫ِ‬ ‫جذورك؟‪ ..‬حان الوقت كي‬ ‫ِ‬ ‫رغبتك امللحة في معرفة‬
‫ِ‬ ‫متجاهلة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لك أال تلجأى إليه مهما حدث لقد رأيت منه ما رأيت وعانيت منه كل‬ ‫وصيتي ِ‬
‫املعاناة‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫حياتك ستكون صعبة وأن الكثير من‬ ‫ِ‬ ‫أعلم أن الغربة قاسية‪ ،‬وأن‬
‫أخيك أنا‬
‫ِ‬ ‫ستواجهك‪ ،‬لكن إن كان البد أن تلجأي إلى أحد فألجأي إلى‬ ‫ِ‬ ‫العقبات‬
‫ً ً‬
‫بك من‬ ‫يقين من أن هللا سيهديه من أجل دعواتي‪ ،‬وسيجعله صالحا بارا ِ‬ ‫على ٍ‬
‫وأبوك ال زال على قيد الحياة!‬ ‫ِ‬ ‫أجل هذا اليتم الذي تعانين منه‬
‫ً‬
‫إخبارك من هو تفاديا‬ ‫ِ‬ ‫حذرتك منه يا حبيبتي‪ ،‬ولكم امتنعت عن‬ ‫ِ‬ ‫لقد‬
‫فضولك إلى الذهاب‬
‫ِ‬ ‫سيدفعك‬
‫ِ‬ ‫أنك رقيقة بمجرد أن تعرفيه‬ ‫لحنينك له‪ ،‬أعلم ِ‬
‫إليه‪ ..‬ال تفعلى ذلك يا ابنتى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أبوك رجل مصرى الجنسية يدعى" كمال النشار"‪.‬‬ ‫وأخيرا ِ‬
‫وأخوك الذي خلفته‬‫ِ‬ ‫وهنا التفتت ألانظار كلها إلى الرجل الخمسيني‪،‬‬
‫ً‬
‫بك‬‫ورائي اسمه "أدهم" ال بد أنه أصبح رجال آلان وله أسرة وأبناء‪ ..‬إن ضاق ِ‬
‫ً‬
‫الحال ولم تجدي معينا فاذهبي إليه‪ ..‬لقد أرسلت عيوني إلى مصر منذ أعوام‬
‫قليلة فأخبروني بصالحه وتقواه‪.‬‬
‫ً‬
‫سيطرت الصدمة عليهم جميعا إال هي‪ ..‬لم تستوعب ما الذي يحدث؟‬
‫ولم تفهم ما الذي يدور؟‪ ..‬هتفت في ضيق‪:‬‬
‫‪ -‬أنا ال أفهم ما عالقتكم بكمال النشارهذا‪ ..‬ملاذا صمتم هكذا وكأن على‬
‫رؤوسكم الطير‪..‬‬
‫ُ‬
‫قال دكتور كمال في صوت حاول أن يجعله هادئا‪:‬‬
‫لك الحكاية يا ابنتي؟‬ ‫‪-‬هل لي أن اكمل ِ‬
‫‪-‬تفضل‪.‬‬
‫ً‬
‫رأيك بي؟‬
‫‪-‬أجبيني أوال ما ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬تبدو رجال وقورا هادئا طيب القلب‪.‬‬
‫أبوك؟‬
‫علمت بأني أنا ِ‬‫ِ‬ ‫رأيك هذا إذا‬ ‫‪-‬وهل سيتغير ِ‬

‫‪193‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان سؤال مباغتا‪ ..‬لم تستطع أن تنطق هي أو حتى تعبرعن ذهولها ولو‬
‫بكلمة واحدة‪.‬‬
‫أبيك شر انتقام‪ ..‬لقد وقع عليه من هللا ما يستحقه‪..‬‬ ‫‪-‬لقد انتقم هللا من ِ‬
‫أنت‬ ‫لقد توفيت أخته‪ ..‬وانزل هللا الرفق واللين في قلبه حتى بات يبحث ِ‬
‫عنك ِ‬
‫أمك كانت قاسية وبشدة‪ ..‬أجادت التخفي‬ ‫وأمك في كل بلدان العالم‪ ،‬لكن ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫يدركك‬
‫ِ‬ ‫عنه‪ ..‬وهاهو ما زال هللا ينزل عقابه به‪ ..‬حتي جاء به مجرورا من عنقه كي‬
‫عائلتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وأخيك وكل‬
‫ِ‬ ‫بأبيك فحسب‪ ،‬بل أتى بأبيك‬ ‫ِ‬ ‫مأساتك هذه‪ ..‬ولم يكتف‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫تدر بماذا تجيب؟‪ ..‬لقد حرمها هللا من‬ ‫جحظت عيناها وصمتت‪ ..‬ولم ِ‬
‫أمها لكن أبدلها مكانها ألاب وألاخ والعائلة‪ ..‬هل سيغني وجود هؤالء عن أمها!!‬
‫ً‬
‫وقبل أن تعقد هذه املقارنة املشؤومة‪ ،‬تحرك أدهم جالسا بجانبها‬
‫وأحاطها بذراعه‪ ،‬ثم طبع قبلة على جبينها‪ ..‬حينها مدت يدها نحو خاتم الخطبة‬
‫الذي لبسته منذ لحظات محاولة إخراجه من يدها‪ ..‬ثم وضعته بجانبها‪..‬‬
‫ً‬
‫وبمجرد أن رأها ألاب تفعل ذلك هتف صائحا‪:‬‬
‫إصبعك كما كان‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ال يا ابنتي ضعيه في‬
‫تعلقت به ألابصار مبهورة في محاولة منهم لفهم تصرفه‪.‬‬
‫هتف في صوت بائس‪:‬‬
‫بأخيك كما يعتقد جميعكم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬أحمد ليس‬
‫ً‬
‫هب أحمد واقفا وهتف في عدم تصديق‪:‬‬
‫‪-‬ماذا تعني؟!!‬
‫‪-‬يبدو أنها ساعة الاعترافات يابني‪ ..‬أتذكرون العمة التي تحدث عنها‬
‫الخطاب‪ ..‬أتذكرون ابنها املريض‪ ..‬إنه أحمد ‪.‬‬
‫لقد وعدتها قبل أن تموت أن أضع أحمد بمنزلة أدهم بل وأكثروقد فعلت‬
‫ُ‬
‫كل ما أمكنني فعله ثم التفت نحو أحمد قائال‪:‬‬

‫‪194‬‬
‫‪-‬أرجو أن أكون حققت ذلك يا بني‪.‬‬
‫ركع أحمد على قدميه بجانبه ثم قبل يده وقال والدموع تقف على أعتاب‬
‫عينه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬لقد فعلت ذلك‪ ..‬ثم قال مترددا‪ ،‬يا خالي‪.‬‬
‫قام الرجل وأحتضنه بقوة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬بل والدك لست خاال فقط ولكنني والدك يا بني‪.‬‬
‫نظر أحمد إلى نسيم ثم قال ودموعه تسبقه‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬هاهو القدرينزع منا كل ش ٍيء ليهديه ألناس لم يحلموا به يوما‪ ..‬ثم ابتسم‬
‫ً‬
‫مرددا‪:‬‬
‫يكفيك انتزاع قلبي‪ ..‬بل وأهلي كذلك!‬
‫ِ‬ ‫‪-‬ألم‬

‫ً‬
‫قال ألاب موجها كالمه إلى الجميع بما إن هذه ساعة الاعترافات يا أبنائي‬
‫فإنه من املحتم أن أخبركم من هي أروى بالنسبة إليكم؟ تعلقت به ألابصار ثم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قال موجها كالمه إلى أروى‪ ،‬هل تذكرين الصورة التي أريتيها لي يوما‪ ،‬وهل‬
‫أبوك قبل موته بلحظات بأن أبحث عن أخته وابنتها؟‪ ..‬أخذ‬ ‫تذكرين وصية ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نفسا عميقا ثم أردف‪:‬‬
‫عمتك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫عمتك ونسيم هى ابنة‬
‫ِ‬ ‫‪-‬إن مريم هي‬
‫ً‬
‫شخصت ألابصار جميعا في محاولة منهم الستيعاب ما قال ‪ ...‬كان أدهم‬
‫أول املتحدثين‪:‬‬
‫‪-‬هل هذا يعني أن أروي هي ابنة خالي؟!‬
‫‪-‬نعم يا بني‪ ..‬أروى هي ابنة خالك وأمك هي عمتها‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫هذه الدنيا على اتساع حجمها فهي صغيرة‪ ،‬وعلى قسوتها فهي رحيمة‪..‬‬
‫لوهلة تخيل الجميع أنهم باتوا بال أهل أو عشيرة وهاهي ألايام تكشف لنا‬
‫ً‬
‫النقاب عن ما حاول البشر جاهدون أن يخفوه يوما؟‬

‫وصل أدهم إلى مصر قبل الجميع‪ ،‬فميعاد جلسة عائشة يحتم عليه‬
‫ً‬
‫ذلك‪ ..‬تركهم يرتبون إجراءات سفرهم جميعا بما فيهم الفقيدة ورحل هو‪.‬‬
‫ً‬
‫لم تكن جلسة ناجحة باملرة‪ ..‬رغم أنه لو كان قاضيا واستمع إلى دفوع‬
‫ً‬
‫املحامي هذه ملنحها الحكم بالبراءة فورا‪.‬‬
‫كانت التهمة ألاساسية املوجهة لها هي الانتماء إلى جماعة إرهابية‪،‬‬
‫والتخابر لصالح دولة أجنبية‪.‬‬
‫ً‬
‫وقف املحامي مدافعا عنها بكل ما أوتي من بالغة وفصاحة‪:‬‬
‫‪ -‬سيدي القاض ي‪ ..‬كلنا يعلم أن من يقوم بالتخابر مع دولة أجنبية البد‬
‫مقابل مادي ملا يقدمه من معلومات وملا يقوم به من إرهاب‬ ‫ٍ‬ ‫أن يحصل على‬
‫وتخريب‪ ..‬إذن فكيف بهذه البائسة ولهذه ألاسرة الفقيرة التي ال تملك قوت‬
‫يومها أن تقوم بفعل ذلك دون مقابل‪ ..‬وهذا بيان من مصلحة الشهرالعقاري‬
‫يؤكد أن هذه ألاسرة ال تملك سوى غرفة فوق سطح أحد العمارات‪ ..‬هل‬
‫ستفعل املتهمة ذلك دون مقابل أم صدقة لوجه هللا‪.‬‬
‫هدوء ثم قال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫تنحنح القاض ي في‬
‫‪-‬وماذا إن كانت العقارات أو املكافأت املالية تضعها في حساب باسم‬
‫شخص آخر حتى ال يكتشف أمرها؟‬

‫‪196‬‬
‫‪-‬أعتقد سيدي القاض ي أنه عندما تم القبض عليها قد ُحرزت أشيائها‬
‫وما زالت حقيبتها موجودة في الودائع التي توضع تحت رقابة النائب العام‪..‬‬
‫فماذا وجدتم بها غيرمصحف‪ ،‬وأوراق تخص دراستها؟‪ ..‬هل كان بها مستندات‬
‫أو وثائق تخص الجيش والشرطة أو القضاء؟؟‬
‫وهل وجدتم على هاتفها اتصاالت بأرقام خارجية؟‬
‫ً‬
‫وهنا ارتفع صوت املدعي العام قائال‪:‬‬
‫‪-‬وهل من املفترض بإرهابية خسيسة أن تحتفظ بأرقام مثل هذه؟‪ ..‬هل‬
‫هي رعناء إلى هذه الدرجة؟‪ ..‬املتهمة كانت حريصة ألبعد حد‪ ..‬لقد كانت تخفي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الوثائق جيدا وتقوم بحذف اتصاالتها أوال بأول‪..‬‬
‫عبث املحامي بمستنداته ثم أخرج منها ورقة وجهاز صغير ال يكاد حجمه‬
‫يتعدى عقلة ألاصبع‪..‬‬
‫ُ‬
‫اتجه نحو القاض ي حامال هذه ألاشياء ثم قال وابتسامة الظفر تلوح على‬
‫فمه‪:‬‬
‫‪-‬وماذا سيقول سيدي لو أنبأته بأن الورقة التي بيدي هي بيان من شركة‬
‫الاتصاالت الخاصة التي كانت تتبعها موكلتي وتقر هذه الورقة أنها لم تحادث‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رقما أجنبيا خارج مصر سوى رقم واحد كان يحمله أخوها املغترب‪ ..‬ثم ما هو‬
‫قول عدالتكم إذا أخبرتكم أن هذا الجهاز الصغيرالذي بيدي ما هو إال مسجل‬
‫صغير للمكاملات التي قامت بها موكلتي في الستة أشهر ألاخيرة قبل أن يتم‬
‫القبض عليها؟ ولم يوجد من بينها اتصال واحد يؤكد ما نسب إليها من جرائم‪.‬‬
‫ارتفع صوت املدعي العام مرة أخرى‪:‬‬
‫‪-‬وهل هذه املتهمة ساذجة إلى هذا الحد حتى يكن لها رقم واحد دون أن‬
‫يكون لها أرقام أخرى خاصة بعملها‪ ..‬إنها فتاة ليست بالعادية والبد أن تخطط‬
‫لش ٍيء مث ل هذا‪ ..‬ظلت املرافعة قائمة إلى أن جاء الرد ألاخير من القاض ي‪:‬‬

‫‪197‬‬
‫‪-‬تؤجل القضية لجلسة ألاول من يوليو‪.‬‬
‫ً‬
‫انصرف الجميع‪ ..‬قال أدهم بصوت هادئ موجها كالمه إلى جاسر‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬كنت رائعا‪ ..‬أعانك هللا فاألمر جد خطير‪.‬‬
‫‪-‬أعلم ذلك‪ ..‬لوال وجود هذا املعارض لكل ما أقول الستطعت أن أحصل‬
‫على براءتها من أول جلسة‪.‬‬
‫‪-‬هللا املستعان‪ ..‬هيا إلى املكتب لنتدارس ما سيتم قوله في الجلسة‬
‫املقبلة‪ ..‬وما هي الوثائق واملستندات التي سنتحتاجها‪.‬‬
‫وبعد خمسة أشهر رحل الجميع إلى فرنسا فأروى ستناقش رسالتها بعد‬
‫غد‪ ،‬رحلوا جميعهم باستثناء أدهم وأحمد الذين سيلحقون بهم فى الصباح‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عاد أدهم في وقت متأخرمن الليل‪ ،‬وبمجرد أن قاربت سيارته على املكان‬
‫الذي توجد به الفيال التي يقطن ‪ ..‬رأي ألسنة اللهب تطل من نوافذها والدخان‬
‫ً‬
‫والعتمه تحيط بكل ش ٍيء ‪ ،‬ترجل من السيارة وذهب عدوا حتى وجد الخدم‬
‫وكل من بالفيال يحاول الخروج منها ‪ ..‬والصراخ والعويل ينتشرفي ألافق ‪ ..‬حاول‬
‫إنقاذ ما يمكن إنقاذه وماهي إال دقائق حتى أتت الشرطة وسيارات الدفاع‬
‫املدني‪.‬‬
‫كانت أمارات الفزع والخوف تظهر بوضوح على وجوه جميع الحضور‬
‫لكنهم يكتمون مايشعرون به ‪ ..‬إال واحدة كانت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة‬
‫وتخمش وجهها وتشق مال بسها ‪ ..‬اقترب منها كي يعرف ما الذي حل بها ‪ ..‬ظل‬
‫يهتف بها‪:‬‬
‫‪-‬ماذا هناك‪ ..‬لكن صوته ذهب ً‬
‫هباء مع الهرج واملرج الذي أحاط باملكان‪..‬‬
‫والها ظهره‪ ،‬وبمجرد أن التفت نحو الجهة ألاخرى حتى وصلته صرخاتها ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أبنائي بالداخل‪ ..‬أبنائي سيموتون حرقا‪ ..‬ولد وفتاة مازالوا أطفاال كتب عليهم‬
‫أن يجربوا نار الدنيا أال يكفي ما أمهم فيه‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫ظلت تصرخ حتى لم تعد تحملها قدماها‪ ،‬فارتمت على ألارض تضرب على‬
‫وجهها وتقطع شعورها ولوهلة تذكر خطاب أمه ‪ ..‬تذكر تضحياتها بكل ش ٍيء‬
‫من أجل نسيم ‪ ..‬وتذكرنفسه وهو صغيرماذا كان ستفعل أمه لو كان هو ونسيم‬
‫ً‬
‫مكان هؤالء ألاطفال‪ ..‬ذهب مسرعا إلى املرأة‪:‬‬
‫أبنائك؟‬
‫ِ‬ ‫‪-‬أخبريني أين‬
‫‪-‬إليك عني ‪ ..‬دعني وشأني سأخلصهم أنا وركضت نحوالفيال‪ ..‬ولم تفلح‬
‫محاولتهم في إثناءها عن عزمها‪ ..‬كانت كاللبوءة التي يحرقون أبناءها أمام‬
‫ً‬
‫عينيها‪ ..‬اقترب منها بخطوات ثابتة‪ ،‬ونظر إليها بجدية قائال‪:‬‬
‫مكانك‪ ..‬سأخلصهم أنا‪ ..‬فقط أخبريني أين مكانهم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬ابقي‬
‫ً‬
‫‪-‬شكرا لك يا سيدي‪ ..‬إنهم في مخدع الخدم بالجزء الخلفي منه‪ ..‬بالغرفة‬
‫رقم سبعة ‪.‬‬
‫‪ -‬وبخطوات واسعة اتجه أدهم نحو الباب الخلفي فوجد النيران تكاد أن‬
‫تطل منه‪ ..‬تردد لحظة لكن وجه نسيم الهادئ الوديع باغته‪ ..‬اقتحم النيران‬
‫وهنا ارتفع صراخ كل من بالفيال من خدم وجيران وعمال وبعد لحظات قذف‬
‫أدهم بالطفلين من النافذة ألارضية للغرفة‪ ..‬التقطتهما ألام جزعه‪ ..‬وضعتهم‬
‫ً‬
‫في حجرها وتلقائيا أخرجت لهما صدرها كي يهدأوا بعد أن اطمأنت أنهم لم‬
‫يصابوا بش ٍيء سوى الهباب الذي حول بشرتهم البيضاء إلى سوداء‪.‬‬
‫ً‬
‫ظلت أنظار الجميع معلقة بالنافذة لعله يقفز منها هو آلاخر ‪ ..‬وأخيرا الح‬
‫ً‬
‫شبحه لكن النيران كانت مشتعلة بكل مالبسه تريث قليال ريثما يتخلص من‬
‫مالبسه العلوية التي التهمتها النيران وأتت على جسده هو آلاخر‪ ،‬لكن القدرأبى‬
‫إال أن يخطفه هو آلاخر ويلحقه بأمه!‬

‫‪199‬‬
‫ً‬
‫في هذه اللحظة تحديدا سقط سقف الطابق العلوي حتى ساوى الطابق‬
‫السفلي باألرض ‪ ..‬ارتفع الصراخ والبكاء والعويل وإذا نظرت إلى يمينك وجدت‬
‫امرأة تصرخ بهستريا وهي تشج مالبسها وتضرب برأسها في ألارض قائلة ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا السبب‪ ..‬أنانيتي هي السبب‪ ..‬أنا التي قتلته من أجل أبنائي‪.‬‬
‫وماهي إال دقائق حتى رفعت قوات الدفاع املدني ألانقاض‪ ،‬وأخرجت َمن‬
‫تحتها هذا الجسد املهشم ذو الوجه الذي التهمته النيران وغطته الرمال‬
‫وألاتربة ‪.‬‬
‫وهنا اقتحم أحمد الفيال وهو اليدري ما الذي يحدث‪ ..‬وفجأة ساقته‬
‫قدماه إلى حيث أدهم دون علم منه ما الذي أصابه‪ ..‬وفجأة إذا بهم يخرجون‬
‫ً‬
‫جسدا من تحت ألانقاض عرف فيه جسد أدهم‪ ..‬ارتمى أحمد على أرض‬
‫الحديقة واستلقى أدهم بين ذراعيه‪ ..‬وبدت الدموع تترقرق في عيني أحمد‪ ..‬نظر‬
‫إليه أدهم نظرة لوم وعتاب قائال‪:‬‬
‫‪-‬أتبكي يا أحمد؟‬
‫ازدرد أحمد دموعه وهتف‪:‬‬
‫‪ -‬ابدأ يا أدهم‪ ..‬لن أبكي فأنت بخير‪.‬‬
‫‪-‬ما دمت جواري فأنا بخير‪ ..‬صمت أدهم برهة يحاول أن يلتقط أنفاسه‬
‫ثم تمتم قائال‪:‬‬
‫‪-‬هل انطفأت النيران؟‬
‫‪-‬أجل يا أدهم‪.‬‬
‫‪-‬وألاطفال بخير؟‬
‫‪-‬ويلعبون في الحديقة آلان‪.‬‬
‫‪-‬الحمدهلل‬

‫‪200‬‬
‫وصمت برهة يحاول أن يتمالك قواه ثم همس‪:‬‬
‫‪-‬لم أخبرك من قبل أنني أحبك‪ ..‬مض ى العمردون أن أخبرك بذلك‪ ،‬لكنني‬
‫أفعل آلان يابن عمتي‪.‬‬
‫‪-‬بل أخوك الذي يفديك بعمره‪.‬‬
‫‪-‬ال فائدة‪ ..‬لقد انتهى كل ش ٍيء ‪ ..‬صمت أدهم وحاول أن ينزع خاتم خطبته‬
‫ثم وضعه في يد أحمد ‪ ..‬ضغط علي ضروسه يحاول كتم صيحة توشك أن‬
‫تفلت من بين شفتيه ‪ ،‬ومالبث أن استرخى وفتح عينيه وهمس قائال‪:‬‬
‫‪-‬قبل أن أذهب لي عندك رجاء‪.‬‬
‫بصوت يخنقه‬
‫ٍ‬ ‫تساقطت دموع أحمد حتى سالت على خد أدهم وقال‬
‫البكاء‪:‬‬
‫‪-‬سينجيك هللا يا أدهم‪ ..‬أنا طلبت إلاسعاف سيأتون آلان وسيداوي‬
‫الطبيب جراحك ويخفف أالمك‪.‬‬
‫‪ -‬ال فائدة‪ ،‬لقد ذهب ألالم وذهب العمر معه‪ ..‬فقط خذ خاتمي هذا‬
‫وأعطه ألروى‪ ..‬اعتذر لها عن تقصيري في حقها‪ ،‬قل لها أنني لطاملا تمنيت أن‬
‫ً‬
‫أتزوجها وأن أعوضها عن كل ما فات‪ ..‬قل لها أني أحببتها كما لم أحب أحدا في‬
‫حياتي‪.‬‬
‫‪-‬بل أنت بخير‪ ،‬وستقول لها كل ما تريد بنفسك‪.‬‬
‫‪ -‬أما نسيم فأنا أعلم كم أنا أخ عاق؟ تركتها وذهبت بمجرد أن عثرت‬
‫عليها‪ ..‬أخبرها أنني أحبها‪ ..‬لن أوصيك عليها يا أحمد فهي زوجتك وابنة خالك‬
‫قبل كل ش ٍيء‪ ..‬عدني أنك لن تؤذيني فيها‪.‬‬
‫‪-‬أعدك‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫‪-‬أما أبي‪ ..‬فقل له أنه ما زال كما هو في نظري‪ ،‬ولم يغير ماضيه من حبي‬
‫ً‬
‫له شيئا‪ ..‬أوصيه يا أحمد أال يجزع فهاهو هللا رفق به حينما أخذني منه ومنحه‬
‫ً‬
‫نسيم عوضا عني‪.‬‬
‫صمت أدهم وأرخي جفنه وشاعت في قسماته السكينة والرضا‪ ..‬تنهد‬
‫ألم‪ ...‬ثم أطلق العبرات الحبيسة من مقلتيه‪.‬‬‫أحمد في ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هذه هي الدنيا عجبا لها‪ ..‬تتخلص من الطيبين سريعا من كان يصدق أن‬
‫أدهم الجميل املحيى‪ ،‬الباسم الثغر‪ ،‬الوسيم املالمح‪ ،‬الرقيق‪ ،‬املتدين الخلق‪،‬‬
‫من كان يصدق أنه سيموت بهذه الطريقة الشنيعة‪ ..‬هل يا تري تآمر كل ش ٍيء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عليه حتي املبنى أبى إال أن يجعل منه جسدا مهلهال يخترقه التراب والحديد‬
‫والحص ى‪ ،‬أم أن ألارض أبت إال أن تحتفظ بهذا الشاب الذي ال يوجد مثله‪،‬‬
‫فهي أولى به من الدنيا البائسة ومن هذه ألايام الغادرة ومن هؤالء البشر‬
‫املاكرين‪.‬‬

‫وهكذا انتهى كل ش ٍيء وبخلت الدنيا بتحقيق أمانينا كلنا‪ ..‬كل ش ٍيء في‬
‫هذه الحياة أصبح موحش خرب‪ ..‬ورغم ذلك الدنيا تسير كما كتب هللا لها أن‬
‫تسير‪.‬‬
‫لن تغرب الشمس ملوت أحد‪ ..‬ولن يمتنع النهار عن الطلوع لغياب أحد‪..‬‬
‫فالشمس تشرق وتغرب‪ ،‬والليل يكر في أثر النهار‪ ،‬والنهار في أثر الليل‪.‬‬
‫ً‬
‫ظلت أروى كما هي ال تفعل شيئا سوى أن تقبل خاتمها وتتحسه بحنان‬
‫وكأنها تتحسس أدهم‪.‬‬
‫ً‬
‫أما عن "الدكتور كمال" فكان يسجد هلل شكرا كل صباح على وجود‬
‫نسيم في حياته فلوال وجودها لحرم من نعمة ألابناء بعد وفاة أدهم‪..‬‬
‫‪202‬‬
‫وأما معاداته لجنس الفتيات‪ ،‬فمريم ابنة نسيم أصبحت هي حبيبة‬
‫جدها التي ال ينبغي ألحد أن يحزنها وإال ضرب عنقه‪.‬‬
‫وأما عن عائشة فإذا أردتم أن تعرفوا نهايتها فأسالوا كتب القانون‬
‫املليئة بالثغرات التي تجعل من البريء متهم ومن الجاني مجني عليه‪ ..‬اسألوا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تاريخ القضاء املصري منذ أن سجن يوسف ظلما وزورا‪ ..‬اسألوا القضاة‬
‫الذين يصدرون إعدامات بالجملة على طلبة الجامعات ملجرد أنهم عملوا‬
‫بحقهم الدستوري الخالص في إبداء الرأي وحرية التعبير‪ ،‬وفي حرية الانتماء‬
‫ً‬
‫ألي دين‪ ،‬وأخيرا ففي الغالب‪:‬‬
‫كاف‪ ..‬كلمة‬
‫قاض لم يطلع على القضية بشكل ٍ‬ ‫"إلاعدام كلمة ينطق بها ٍ‬
‫تنهي حياة إنسان‪ ..‬وتحرق قلب أم‪ ..‬وتدمرأسرة باكملها"‬
‫ً‬
‫هذه هي النهاية توفي الوزير خالي‪ ..‬وتوفيت أمي وأخيرا غادرنا أدهم‪..‬‬
‫وهكذا غربت الشمس!‬
‫طوت مريم آخر صفحة في الكراس الذي كانت تقرأ فيه‪ ..‬انحدرت دمعة‬
‫على وجنتيها ابتلعتها في ألم محاولة كتمان ما تشعر به من غصة في حلقها‬
‫توشك أن تقض ي عليها‪.‬‬
‫ً‬
‫مد أدهم ذراعه ثم ضمها إلي صدره قائال‪:‬‬
‫هل لي أن أكون لك كخالي أدهم ألمي‪ ،‬غير أني ال أريد أن أموت قبل أن‬
‫أحدث هذا التغير الذي بدأه‪ ،‬والذي لم يمهله العمر كي يكمله؟‬
‫ابتسمت ابتسامة ممزوجة بالدموع ثم قالت‪:‬‬
‫َ‬
‫رحمه هللا وعوضه عن شبابه خيرا‪.‬‬
‫‪ -‬آمين‬
‫تمت بحمدهللا‬

‫‪203‬‬
‫رسالتنا في املكتبة العربية للنشر والتوزيع‪:‬‬
‫نشر كل إنتاج إبداعي ذي جودة عالية وأفكار أصيلة تعبر عن هويتنا العربية‬
‫وتاريخنا العريق‪ ،‬تحترم قيم مجتمعنا ومعتقداته‪ ،‬ال تساعد في نشر العنف‬
‫أو العنصرية‪ّ ،‬‬
‫ترسخ ملبدأ املساواة والحرية والعدالة‪ .‬والسعى نحو الارتقاء‬
‫باألدب العربي في كافة مجاالته‪ ،‬والوصول به نحو العاملية‪.‬‬
‫ملراسلتنا بشأن نشر ألاعمال ألادبية‬

‫‪arabiclibrary2017@gmail.com‬‬

‫صفحتنا على موقع الفيسبوك‬

‫‪facebook.com/arabiclibrary2017‬‬

‫طبعت بمطبعة يسطرون‬


‫‪01229300029 - 01157760052 - 01030244751‬‬

‫‪204‬‬

You might also like