Professional Documents
Culture Documents
وغربت الشمس
وغربت الشمس
1
2
وغربت الشمس
رواي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة
3
وغربت الشمس
اسم الكاتبة :س ـ ـ ــارة شوقي العق ـ ــاري
تدقيق لغوي :دمحم حمدي الحفناوي
تصميم الغالف:
الفني :جمال عبدالرحيم ّ إلاخراج
الطبعة /ألاولـ ـ ـى
رقم إلايداع/2018 :
الترقيم الدولي:
Arabiclibrary2017@gmail.com
Facebook.com/arabiclibrary2017
سيت ستار
ي السادس من أكتوبر – المحور المركزي – مول
01030365801
4
إهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداء
حيات
ي رجل أحببته يق
ٍ إىل أول
رمات اآلخرون بسم
ي إىل ذاك الرجل الذي آمن يت حي
أمل ألصل إىل ما أريد.
كالمهم فزادت مناعة ي
أت ...أحبك.
معاىل الحبيب ي
ي إىل
5
إىل القانون المرصي
ي
عميق
ٍ سبات
ٍ الذي ال يزال يغط يق
أما آن األوان ىك تستفيق بعد؟
6
( )1
لقاء عل الطريق
-قض ي ألامر؟
نظرت إلى أبيها ،وهو يقف عند باب حجرتها ،بادرته بابتسامتها الهادئة
قائلة:
-أجل قض ي ألامر.
ً
وضعت آخر قطعة مالبس في حقيبتها ،ثم نظرت إليه عاقدة ساعديها
أمام صدرها قائلة:
واحد فقط ،ثم إنني ال
ٍ عام
-أراك تتأملني يا أبي ال ش يء علي سأعود بعد ٍ
مبرر ملكوثي هنا في هذه املرحلة الراكدة من حياتي. أرى أي ٍ
هدوء ،أجلسها على طرف الفراش ،جلس أمامها ،ثم رفع ٍ اقترب منها في
ً
ذقنها إليه ،تأملها مليا ،ثم قال بصوته الرخيم:
أنك في أشد حاالت الضعف. إظهارك للقوة رغم ِ ِ قوتك،
ِ -تعجبني
دمعة على وشك السقوط ،آثرت ٍ دهشة ،حاولت إخفاءٍ رفعت حاجبيها في
الصمت ،لو نبست ببنت شفة لبكت.
ً ً
-رفع ذقنها إليه مجددا قائال:
-ليس كل من يفقد أمه أو صديقه يترك موطنه ويسافر إن شعر أنه على
ً
حق فليدافع عن قضيته ال سيما إذا كان دارسا للقانون.
اندهاش قائلة:
ٍ رفعت حاجبها في
لم لم تساعدني إذن؟ -تعلم كل هذا !!! َ
7
أنك تعلمين وضعي السياس ي
أساعدك في ماذا؟ من املفترض ِ
ِ أساعدك..
ِ -
وألامني.
ً
-كف عن هذا الضجيج ،أنت لست صغيرا ،ثم إن أباك يرى أنها الفتاة
الوحيدة في مصرالتي تليق بأدهم النشار أفهمت؟
-إذن انتهى ألامر.
ً
-نعم ..انتهى ،نصيحة من أخيك رغم أني أصغرك سنا ،لكن أقولها هلل ال
ً
تعاد والدك ثم إنك أوشكت على الثالثين عاما فلماذا ال تتزوج إذن؟ ِ
ً
لم ينبس أدهم ببنت شفة ،استدارخارجا من الغرفة ،صفق الباب خلفه
واسعة ..طرق باب مكتب والده ولم ٍ خطوات
ٍ عنف ،ثم اجتاز السلم في ٍ في
هدوء ،تصنعٍ ُ
ينتظرإلاذن بالدخول ،رفع ألاب رأسه الذي كساه الشيب في
هادئ:
ٍ صوت
ٍ الابتسامة ثم قال في
كأب ربى طفليه الوحيدين ،ويريد أن اجلس يا أدهم لعلك قدرت موقفي ٍ
يرى أحفاده قبل أن يداهمه املوت.
-أطال هللا فى عمرك يا أبي.
لم تستكثرعلى والدك مثل هذه اللحظات؟ -يا بني هذه سنة هللا في خلقهَ ،
ً ً
ألم:
زفر أدهم زفرة حارة ثم قال في ٍ
-إذن أين أمي؟ كيف تريد مني أن أدخل في حياتي امرأة رغم كل ما رأيته
إنذار مخلفة وراءها
ٍ من أمي ،تلك املرأة التي اختفت من حياتنا دون سابق
ً
زوج هربت مع سائقه. طفلين وزوجا دون أن تأبه السم ٍ
ألم قائالً: امتقع وجه والده ،ثم تنهد فى ٍ
8
-أيمكننى إخبارك بش ٍيء لم تعلمه من قبل؟ لكن عدني أن تكتمه.
-بالطبع أعدك.
ً
-أمك لم تهرب ،تصرف من تصرفات أبيك كان دافعا قويا ألن تفعل ما
ً
فعلت ،لم يكن أمامها إال أن تفربروحها خوفا مني ،وليس كما يعتقد الكثيرون
بأنها أحبت سائقي.
-تقصد أنك َمن اختلق قصة الزوجة املذنبة التي فرت مع سائق زوجها
ألنها تحبه ؟!
صمت إلى
ٍ -نعم..تجمدت العبرات على أعتاب عينيه..وغادر مكتبه في
غرفته.
ً
-لم يكن أمامه إال أن يفترش ألارض مصليا هلل لعله ينجيه مما هو فيه،
ً
حاول أن يتذكر شيئا عن أمه لكن ذاكرته لم تسعفه ،كل ما يتذكره هو زجر
ً ً
أبيه له كلما ردد هذه الكلمة وهو صغير ،حتى بات لفظا محرما ال يحق ملثله أن
يستخدمهُ ،حرم م نها وهو في الرابعة من عمره ،لم يرها منذ ذاك الوقت ،وهو
الذي يملك من العمر آلان الثمانية والعشرين ً
عاما.
ً
لم يكن يعلم أن هناك عينا تراقبه ،كان يتصرف على سجيته.
كثب ،ترى أنه
حينها كانت هى واقفة هناك في الفيال املقابلة تتابعه عن ٍ
ً
يشبه فارس أحالمها كثيرا ،فارع الطول ،قوي البنية ،سمرته املحببة ،وعيناه
ً
مالم ِحه الشرقية إال أنه كان جذابا في
الثاقبتان ،وشعره الالمع املهذب ..رغم ِ
كل ش ٍيء ،أخالقه ،تواضعه ،سجوده كلما ضاقت به الدنيا ،خاصة وأن
الطبقة التي يحتلونها لم تكن دائمة السجود.
9
-كانت تشعرأنه يشبهها في كل ش ٍىء ،رغم أنها لم تحادثه قط إال أنها كانت
ً
تعلم عنه الكثير ،ألم تكن دائما متلصصة على غرفته ،طرقات هادئة على
الباب أعادتها من شرودها إلى الواقع ،كان الطارق أبوها ،يحمل ابتسامته على
وجهه كالعادة.
ً ً
قبل رأسها في أس ى قائال:
ً
-ستغادرين غدا ؟
أجابت بإيماءة من رأسها أن نعم.
ً
حقيبتك ،ستغادر الطائرة فى الثامنة صباحا. ِ -إذن فلتعدي
ً ً
اتجه إلى الباب خارجا من الغرفة لكنه التفت إليها وكأنه تذكر شيئا ما:
أأخبرك
ِ -أروى إن عالج املصائب هو أن نواجهها ،ال أن نفر هاربين منها..
ً
سفرك ليس من أجل دكتوراة فى القانون كما تزعمين ِ شيئا ؟ أعلم أن سبب
واقعك. ٌ
هروب من لكنه
ِ
محاولة منهاٍ خرج قبل أن تستوعب ما قاله ،وضعت يدها على رأسها في
للسيطرة على الدوارالذي يكاد يعصف برأسها ..ملاذا لم يتدخل أبي إذن؟ أإلنها
ً
محجبة تحمل في حقيبتها مصحفا ،وتتحدث في الدين تصبح إرهابية يخش ى
على الوطن منها ومن أمثالها؟ ..فقط إرهابية يجب الزج بها في غياهب
السجون!
أكملت إعداد الحقيبة وهي شاردة الذهن ستغادرهذه ألارض بعد عدة
ساعات ،ألارض التي احتوتها هي وأمها ساعات ألانس مع تلك الصديقة التي لم
ً
خائنة بمجرد أن فرقنا القدرقررت الهروب ،كان ٍ تعد تعلم عنها شيئا ..يا لي من
بصوت
ٍ البد أن أكون غير تلك الضعيفة التي قررت الانسحاب حادثت نفسها
عال:
ٍ
10
انسحاب؟ أنا لم أغادرإال من أجلها ..ألم أغادرإلى فرنسا
ٍ -انسحاب!! أي
بلد القانون من أجل أن آتي بعد ٍ
سنة كى أدافع عنها وعن مثيالتها ؟ ..دكتوراة
شابة تدافع عن صديقتهامحامية ٍ
ٍ في القانون من فرنسا تجعلني أكبرمن مجرد
بهدف الاندفاع أوالصداقة.
ُ
ال كان يجب أن أزورها أوال ،أن أعثر على محبسها وأخبرها بما انتويت
فعله ،أن أبثها الثقة وألامل ،وأن أخبرها بأن هناك من يفكرفيها ويتعب ألجلها.
كان يجب أن أذهب إلى أهلها على ألاقل ،أو أقض ي حاجتهم ببعض املال ..رباه
ُ
بضع لم يعد آلان لدي وقت ،الساعة آلان الثالثة بعد الظهر أمامي فقط
ً
ساعات ،ثم إن ألاسرة تقيم باإلسكندرية ذهابا وعودة بعد منتصف النهار من ٍ
ً
الصعب معه أن أغادر في الثامنة صباحا إلى فرنسا.
ي بدو أنها ركنت إلى هذا ألامر..استلقت في سريرها ،مرت بضع دقائق ثم
ُ
بورقة من
ٍ عجل ،أمسكت
هبت واقفة وكأن عقربا لدغتها ،ارتدت مالبسها على ٍ
إحدى دفاترها ،خطت عليها بعض الكلمات ،ثم وضعتها في يد إحدى
الخادمات قائلة:
عجل ،وانطلقت في طرقات القاهرة، -أوصليها ألبي ،ركبت سيارتها على ٍ
لحسن الحظ كانت الطرقات شبه هادئة ،لقد ولت ساعة الذروة ..أطلقت
العنان لسيارتها بمجرد أن وصلت إلى طريق القاهرة إلاسكندرية الصحراوي،
انقض ى على قيادتها في هذا الطريق ساعة ونصف ،تبسمت في ظفر مخاطبة
نفسها ..أخبرتني عائشة إن السفر في هذا الطريق يستغرق من الوقت ثالث
ساعات ،إن ألامر ليس بالصعوبة التي تصورتها ،أمسكت بهاتفها كي تغلقه ٍ
ً ً
التصاالت والدها ،تعلم جيدا أنه يحبها لكنها ال تقوى آلان على تحمل
ِ تجنبا
توبيخاته.
11
انتبهت من شرودها وصوت أذان املغرب ينتشر في آلافاق ،يا هللا كم
تخش ى الظالم ،يجب عليها أن تسرع لم يبق بينها وبين الوالدين املسنين سوى
ً
واحدة ..أطلقت العنان لسيارتها أكثر ،ولكن دائما الرياح تأتي بما ال
ٍ ساعة
ٍ
مظلم ال يوجد به أحد
طريق ٍ تشتهيه السفن ،لقد انفجرإطارالسيارة ألامامي في ٍ
عابرة.
ٍ سيارات
ٍ سوى
شهر وهي
وقفت أمام زجاج الغرفة ،تحملق في هذا الجسد الهزيل منذ ٍ
ً
تقدم ،ثالثين يوما فاقدة للوعي ،ال يصلها بهذا
على تلك الحالة ال يوجد أي ٍ
أسالك ،تزاحمت ذكرياتها مع تلك الراقدة ،لم تمنحهاٍ بضعة
ِ العالم سوى
ً ً
تملك شيئا ،لم تشعريوماالكثيرلكنها بالتأكيد منحتها كل ما تملك حتى لم تعد ِ
ً
بغربة في وجودها كانت هي الوطن ألم تكن أما؟ ٍ
منذ أن وعت هذه الحياة وهي تبحث عن الانتماء ،عن دفء العائلة ،عن
رب ألاسرة ،منذ أن ولدت وهي تعلم أنها ابنة املجتمع غيراملرغوب فيها ،لكن
ً ً
وجودها كان يهون كل ش ٍيء ،لم تشعر يوما باالنتماء ،لكنها دائما كانت تمتلك
ًً
الوطن متمثال في هذه ألام.
-دكتورة نسيم.
-انتبهت من شرودها لتحدق في هذا الواقف أمامها بعينيه الخضراوين
الواسعتين ،وبشرته البيضاء ،وشعره البني الداكن ،ورغم كل هذا علمت أنه
ليس فرنس ي ألاصل.
12
أراك في مأز ٍق ،ومن
أنك مسلمة ،حتى لو لم تكوني كذلك ِحجابك أعلمني ِ
ِ -
ً ّ
وحدك بل هي أم لكلِ لك
أساعدك فهذه السيدة ليست أما ِ
ِ املحتم علي أن
مسلمي فرنسا.
ً
-هنا وضع يديه في جيبه ثم أخرج ورقة من جيبه مطبوعا عليها رقم
قليلة تشتكي مرارة الغربة ،وفقدان
ثوان ٍ
هاتفه ،رغم ذهولها هي التي كانت قبل ٍ
ً
الانتماء ،يرسل هللا لها ذاك الذي يخبرها بأن هذه الراقدة ليست أما لها
ً
وحدها بل أما لكل مسلمي فرنسا ..مسحت دمعة ترقرقت في عينها ،ثم غادرت
ممر املشفى.
-آثرت أن تستخدم ذاك السلم املزدحم باملرض ى وذويهم ،كم تكره
ً
الانتظار! لهذا تفضل دائما استخدام السلم عن املصعد ،جلست في حديقة
املشفى ولديها قوة سحرية ،لم تدر َ
لم كل هذا ألامل؟ أهو إلاحساس باالنتماء ِ
ً ً
الذي لم تعتده يوما؟ تعلم جيدا أنها لن تهاتفه ..تعودت أن تواجه مشاكلها
مساعدة من أحد لكن مجرد إلاحساس بأن هناك من سيصعد بنا
ٍ وحدها دون
إذا وقعنا مطمئن لنا معشر الفتيات.
منطقة
ٍ الجو مظلم ،الحرارة ما زالت منتشرة رغم حلو ِل ِ
الليل ،وتقف في
مهجورة بجانب الطريق ،أي مأز ٍق هذا؟ أمسكت بهاتفها قائلة:
ٍ
-ال يوجد حل آخر ،البد أن أخبر أبي سأظل هنا إلى أن يرسل ّ
إلي أحد.
-وألن املصائب ال تأتي فرادى ،بمجرد أن أمسكت هاتفها وحاولت
الاتصال انقطع دعم البطارية للهاتف.
-يا أهلل ما كل هذا !!!
13
-ترجلت من السيارة ،ثم وقفت بجانبها على الطريق ،كانت العربات
املسافرة شديدة السرعة ،لكنها رغم السرعة استطاعت أن ترى الاندهاش في
عيون أصحابها ..حقهم !!!
ً
-ما الذي يجعل فتاة تقف ليال على هذا الطريق قرب إلاسكندرية ،يمكنها
ً
أن تتصل بأهلها حتى يرسلوا لها العون ،حقا ال نعي قيمة املصائب إال إذا كنا
نحن ضحيتها.
-قلبها كان يرتجف ،ولكنها كالعادة تتصنع الصمود ،هذه الفترة الخاملة
ً
من حياتها أورثتها ضعفا لم تعهده في نفسها من قبل.
-من بعيد رأت سيارة تتهادى بجانب الطريق ،هي ال تعلم نية صاحبها،
لكن كل ما تعلمه أن السيارة تأتي باتجاهها ،توقفت السيارة وراء سيارتها ..ثم
تأهب لترى ذاك الذي قرر أن يساعدها أو أن يعتدي رأت بابها يفتح ،نظرت في ٍ
عليها ،هي ال تدري ما نيته بالضبط ،حملقت بالسيارة في فضو ٍل لتجده َ
آخر
ً
شخص يمكن أن تتوقع وجوده هنا وفي هذا املكان تحديدا. ٍ
ً
في تلك الليلة الثقيلة على نفسه اتخذ من كالم أبيه دافعا للسهر ،لم يزر
ً
محاولة منه ملعرفة ذاك الدافع
ٍ النوم َجفنيه ،ظل محدقا بسقف الغرفة في
ُ
14
ال يستطيع أن يفرق بين الحقيقة وعكسها ،ثم يأتي والده اليوم ليخبره بأن أمه
ُ
بريئة من كل ما نسب إليها براءة الذئب من دم ابن يعقوب!
محاولة من الوالد إلقناعه بالزواج ،فهو يعلم
ٍ ماذا لوكانت هذه خدعة ،مجرد
ُ ً
مكمن عقدته النفسية ،لعله آلان أراد أن يزيل جيدا أن هذه النقطة بالذات
ً
هذا التفكير البائس ،فلم يجد حال غير هذا ،ظلت تراوده ألافكار والهواجس
حتى صدع املؤذن بالنداء لصالة الفجر.
جديد ..دون أن يغمض له َجفن ..أدى
ٍ يوم
قام ليتوضأ ،يا أهلل هذا عمل ٍ
دوء ،وقام في عجالة ،عليه أن ينجزبعض ألاعمال في فروع الشركة
صالته في ه ٍ
باملحافظات قبل اجتماع الغد.
أربع وعشرون ساعة ًمن آلان ،عليه أن يتجه إلى مقر الشركة لم يعد أمامه إال ٌ
ً
محافظات لإلشراف على ما يخص
ٍ أوال لينجزبعض الوثائق ،ثم يتجه إلى أربع
شركة من الشركات ألاربع ،طوى سجادته ثم غادرإلى غرفة أخيه..
ٍ صادرات كل
ِ
طرق الباب ،فأتاه إلاذن بالدخول.
ً
-أساهر حتى آلان؟ ..أشرقت الشمس ،ألن تتحمل املسئولية يوما؟
-نعم ،لم اتخذ هذه الخطوة بعد.
-كف عن هذا العبث واستمع إلي ،معي عدة أوراق أريد توثيقها من
ً
املكتب ،ثم آتي بها إلى أبيك ليوقع عليها ..أما أنا فسأسافر فورا ألفرع الشركة
حاد:
بصوت ٍ
ٍ باملحافظات ،ثم تغيرت لهجته وهو يقول
-أنا ذاهب الرتداء مالبس ي عشر دقائق فقط ونتقابل في الحديقة،
أسمعت؟
15
اتجه إلى غرفته ليبدل مالبسه ،وبالفعل تقابال في ردهة الفيال.
-ها هي الوثائق ،افعل ما طلبت ه منك وإياك وإهمال توقيع إحداها.
-ال تقلق بشأنها سأنام.
-ماذا ؟!
ً
-أقصد سأوقعها جميعا ،قلت لك :ال تقلق.
ً
كان اليوم شاقا البد من إنجاز بعض الفحوصات قبل الذهاب
ً ً
ملحاضرتها ،البد أن تكتب تقريرا وافيا عن أحوال املصابين بمثل هذا املرض،
وإال سوف تتعرض لعقد ذاك الدكتوراملغرورالذي ال ينعتها إال باإلرهابية،
وابنة عم أسامة بن الدن.
وشهادة كل من يراها بأنها رقيقة الطباع ،مرهفة الحس إال
ِ رغم وداعتها،
ً
ذاك املتعجرف الذي ال يرى شيئا سوى أنها إرهابية رجعية متخلفة ،مكانها
ليس هنا لدراسة الطب ،بل هناك في الصحراء ،ألاولى لها أن تمسك العصا
وترعى إلابل.
مجرد التفكير فى هذا ألهب حماستها ،البد أن تثبت له أن إلاسالم ليس
لهؤالء الذين يرعون إلابل فقط ،وال للذين العمل لهم إال رعي الغنم في قلب
الجزيرة العربية ،البد أن تثبت له أن الدين قد أنجب ألاطباء واملهندسين
والطيارين وأساتذة الجامعات.
عجل ،أخذت ملفها واتجهت صوب املمر ٍ ارتدت البالطو ألابيض على
ً
الذي يقطنه املرض ى الخاصين بها ،جلست بجانب سريرأحدهم ،كان مسنا،
انفعال ..كانت تدرك
ٍ اضطراب في ضربات القلب عند أي إجهاد أو
ٍ ويعاني من
16
ً
أن الطبيب الناجح هو ألاقرب إلى قلب مريضه ..البد أن تطمئنه أوال حتى
تستطيع أن تعلم الحدث الصحي الفارق في حياته ،والذي كان السبب في سوء
ً
حالته بهذا الشكل ولكن دون أن يسبب ذكره لتلك املأساة تراجعا في حالته.
جلست بجانب الرجل ،تعلو وجهها ابتسامة عريضة ،منحت ابتسامتها
للرجل بعض الطمأنينة ،أخبرته بأنها الطبيبة املكلفة بمراقبة تطور حالته
املرضية ،وأنها ترغب أن تكون صديقة أكثر من مجرد طبيبة ،ألقت نظرة على
امللف الخاص به ،وأخذت تستفسرعن تطور املرض ،الطفته ببعض الكلمات،
ثم استأذنت منه خارجة وانصرفت.
باقي ثالثة من املرض ى فقط ،عليها أن تنجز الحاالت الثالث قبل حلول
موعد تسليم ومناقشة امللفات ،ثم الذهاب إلى غرفة أمها ،تلك الراقدة
ً
بالعناية املركزة ،هي ال تتمنى من الدنيا شيئا إال أن تظل بجانبها حتى لو مريضة،
مجرد وجودها يبعث في النفس الاطمئنان ،بخبرتها الطبية تعلم أن الشفاء
الكامل ال أمل فيه ،لكن كل ش ٍيء بإرادة هللا ،رغم ذلك كل ما ترنو إليه هو أال
يسترد هللا هذا الجسد ،مجرد وجودها حتى لو بقلب سرير بغرف العناية
ً
يشعرها بالسند ،وهي التي لم تعرف السند يوما ،هي التي لم تستشعر وجود
ورب لألسرة يمكن أن يعتمد عليه. رجل ٍ ٍ
مللمت ملفاتها واتجهت إلى حجرة الطالب الخاصة بها ،كانت تنتظردورها
ٌ
استجواب عن إلاسالم أكثر منه في الاستجواب وليس في التقييم ..نعم هو
ً
تقييما للحالة الصحية لبعض املرض ى.
صامتة ،وتعلو شفتيه ابتسامته
ٍ بقراءة
ٍ أمسك ملفها ،وظل يديرعينيه
املعتادة ،تلك الابتسامة املمزوجة بالسخرية ،وضع امللف أمامه ونظر إليها
ً
متهكما:
-أهذا كل ما توصلتي إليه عن هذا املرض في طوره ألاول؟
17
-أجابته بابتسامة واثقة:
نعم ،هذا كل ما توصلت إليه ..ثم إن كانت هناك بعض املعلومات التي
َ
املسؤول عن لم أستطع أن أتوصل إليها فلتخبرني بها أنت ،ما دمت أنت
وأي نجاح أحققه لك منه نصيبُ ،
وأي دراستنا ومستوانا العلمي والعمليُ ،
ٍ ً
إخفاق يصيبني لك منه نصيب أيضا كطبيب مسؤول عن طالبه.
ً
دهشة قائال:ٍ نظر إليها في
ً ُ ٌ
نصيب ،لكني لست مسئوال إخفاق سيصبني منهٍ نجاح أو
-أعلم أن أي ٍ
ً
عن أولئك الفاشلين الذين لم يتبعوا تعليماتي جيدا.
أجابته بابتسامة ظفر:
ً
-إلاسالم أيضا غيرمسئول عن أولئك الفاشلين الذين لم يتبعوا تعليماته
ً
جيدا.
ُ ً
إسالمك إذن؟
ِ نظر إليها متفحصا ،ما هي تعليمات
-إسالمي أقر العدل ،ورفع الظلم ،وحرم قتل ألابرياء ..إسالمي حرم
إلاكراه في الدين ،وحرم قتل ألاطفال والشيوخ والنساء ،حرم اقتالع ألاشجار،
ً
بشرف
ٍ وتسميم آلابار حتى في أوقات الحروب ،إسالمي أمرني أن أكون محاربا
وإال فال.
-لذلك كنتم تغزون العالم ،ترتكبون املجازر ضد ألابرياء حتى يدخلوا في
الدين أو يدفعوا الجزية.
-كال ،إلاسالم كان بمثابة املنقذ لهؤالء ..إلاسالم خلص نصارى مصر من
حكم "سبتيموس"و"صفرنيوس" ،ذلك الحكم الدكتاتوري ،ألم تقرأ عن تاريخ
هؤالء؟ ألم تقرأ عن العقوبات الثالث التي كانوا يطبقونها على كل من دخل
ً ً
املسيحية؟ ألم تقرأ عن املوت حرقا ،أو أن يقدم املسيحي طعاما لألسود ،أو أن
تقطع رقبته بالسيف؟
18
َمن خلص هؤالء م ن هذه الاعتداءات السافرة على حقهم في اختيار
دياناتهم؟ صدقني إلاسالم لم ينتشر بحد السيف.
-وماذا عن الفتوحات إلاسالمية؟ ألم تكن بحد السيف؟
-ال ،لم تنتشربالسيف ،ألم تقرأ في تاريخ التجاراملسلمين وأخالقهم التي
كانت السبب الرئيس ي النتشار إلاسالم في ألاندلس وسنغافورة .
أما عن الفتوحات ،كان الخليفة املسلم يرسل مللوك البلدان املجاورة،
أسلم تسلم ..أو ادفع الجزية فإن أبوا الاثنين فالحرب.
ً
-جزية!! ملاذا ضريبة مكوثهم في بلدانهم؟ ألم يكن هذا اغتصابا للحقوق؟
ً
-الجزية لم تكن اغتصابا لحقوق هؤالء وأموالهم ،بل كانت للدفاع عنهم،
اعتداء دون أن يقحموا شباب هذه ألارض في الحروب. ٍ أي
ورد ِ
ً
إلاسالم هنا حارس ال مهلك ،وأخيرا إن كنت تراني كذلك فدعني وشأني،
وليس لك إال تقييم ملفي الطبي ،وأرجو أن ينال استحسانك ،ال أن يكون تقيم
ً
ديني وسلوكي ..كان منصتا لها بكل جوارحه ،لكن تعلو شفتيه ابتسامة هزلية،
ال تتناسب مع اندفاعها وحماستها من أجل الدفاع عن عقيدتها ،نظرت إليه
ً
متوجسة تستأذنه فى الانصراف ،سمح لها باسترجاع ملفها ،ثم بادرها قائال:
فمكانك هناك..
ِ أجدك هنا تطلبين العلم..
ِ -في املرة القادمة ال أريد أن
رسالتك التي تخبري ني فيها أن أسلم أو أن أدفع الجزية ،وإال ِ باملناسبة أنتظر
فمثلك ال يليق به إال السيف أو رعي الغنم.
ِ سيفك وتقاتليني به
ِ فلتمسكي
19
ً
نظرت إليه في ذهول ألجمتها املفاجاة ،إنه هو تمتمت قائلة:
-ما هذا القدر الذي رف..........
ً
-بادرها قائال-:
ترجلت منها تطلبين املساعدة ،يمكننيِ وأنك
سيارتك قد تعطلتِ ، ِ -أرى أن
عمل هناك ،أعتقد أن طريقنا ٌ داخل إلاسكندرية ،فلدي بك إليأن أصل ِ
ِ
واحد ..لم تبنس ببنت شفة ،لم تستفق من ذهولها بعد ،القدر يأبى عليها أن ٌ
واحدة فقط رغم أنها جارته ،ليأتي به إلى هنا خلفها ٍ ملرة
تلتقيه في القاهرة ولو ٍ
على أعتاب إلاسكندرية.
ٌ
-آنستي أسأل عن غطاء السيارة ..أو هل كلفتي أحد بإصالحها ؟
-هزت رأسها أال .
-قام هو بمهمة تغطيتها ،ثم فتح باب سيارته ألامامي ليجلسها بجانبه،
أدركت حينها أنه خش ي أن تستخدم مكانها باملقعد الخلفي كوسيلة لتقويضه
أثناء القيادة ،ابتسمت بمرارة ،كيف بأروى الشرقاوي أن يظن بها ٌ
أحد هذا ٍ
الظن ،هونت على نفسها بأنه ال يعرفها.
ً
-اتخذ مقعده بجوارها ،نظر إليها متفحصا ،وجدها تمسك بهاتفها،
ً
بادرها قائال:
مأمن.
أوأخيك آلان فالسيارة ليست في ٍ ِ بأبيك
ِ يمكنك أن تتصلي ِ -
أجابت دون أن تنظر إليه:
-لقد نفذ شحن البطارية لسوء الحظ.
ً
يمكنك أن تستخدمي هاتف ِ -نفذت بطارية هاتفي الشخص ي أيضا،
العمل ،ثم مد يده لها بالهاتف دون أن ينتظر ردها.
ضغطت عدة أزر ٍار ،وظلت تسمتع إلى الرنين على الخط آلاخر ،ثم كان
صوت والدها:
20
َ -من املتكلم؟
-أبي ..أنا أروى.
أنت يا ابنتي ،ماذا حدث ؟ -أين ِ
-ال ش َيء ،أردت فقط إنجازبعض ألامور قبل السفر ،وانفجرإطارسيارتي
ألامامي قرب إلاسكندرية ،أنا بخيرال تقلق علي ،وال ترسل ّ
إلي السائق سأعود في
ً ً
قطار منتصف الليل ..أوليست الطائرة ستغادر فى الثامنة صباحا؟ ..حتما
سأكون وصلت.
أنهت املكاملة ..وضعت الهاتف وهي تتمتم ببعض الكلمات شاكرة ،لم
ً
يعلق على شكرها ..بادرها قائال:
اسمك أروى؟ِ -
-حركت رأسها أن نعم.
لم تستخدمين قطار منتصف الليل؟ عندي بعض ألاعمال هنا يمكنني َ -
وآخذك معي في طريقي إلى القاهرة . ِ أن أنجزها،
-رفضت طلبه بأدب.
لم ترفضين؟ -ما املشكلة َ
-الأريد أن أثقل عليك..وال أريد أن يتحمل ٌ
أحد نتيجة تصرفاتي.
ال ينكر أنه أعجب بشجاعتها ..ظن أنها أقوى ما يمكن أن تكون عليه
امرأة ،وهي أضعف ما يمكن أن تكون عليه امرأة.
بتوصيلك إلى املكان الذي تقصدين،
ِ وجهتك؟ ،سأقوم ِ -إذن أخبريني أين
ً
مدخل من مداخل إلاسكندرية هكذا. ٍ أتركك ليال في
ِ ال يمكن أن
وجل ،يا إلهي إن الورقة املدون بها العنوان وضعتها بجانبي كي -انتبهت في ٍ
أتمكن من القيادة ،ثم نسيتها على املقعد بجانبي.
21
إحساس بالضياع يجتاح كلٌ صمت،
ٍ كانت دموعها تنحدرعلى وجنتيها في
لحظات أنها
ٍ كيانها آلان ..أما هو فقد أصابه الذهول ،أهذه التي كان يشعرمنذ
ً
أقوى امرأة ؟ همس لنفسه قائال:
ً ً
إشفاق ثم تمتم
ٍ -حقا وجهات النظر ألاولى دائما خطأ ،نظر إليها في
مخاطبا َ ً
نفسه:
-إن أقس ى مايمكن أن يتحمله رجل أن يرى أنثاه تائهة ..تشعربالضياع في
وجوده !!
هي لم ت كن أنثاه ،ولكن منذ أن تحمل مسئولية إيصالها فهي مسئولة منه
حتى تصل إلى املكان الذي تريد.
ً
لم تستفق من شرودها إال وهو يعود بالعربة إلى الخلف عابرا أحد
املنعطفات بالطريق ،أدركت حينها أنه عزم على العودة إلى سيارتها ليأتيا ِ
بالعنوان منها.
حركة شبه طفولية قائلة: ٍ مسحت دموعها في
-وأعمالك التي تريد أن تنجز؟
مطمئنة :
ٍ بابتسامة
ٍ أجابها
-أعمالي يمكنها أن تنتظر.
ً
كانت عقارب الساعة تشيرإلى التاسعة مساء حينما توقفت السيارة أمام
إحدى البنايات التي تدل على أن قاطنيها من الطبقة املتوسطة ..شكرته في
قليلة ثم وقفت دونٍ خطوات
ٍ امتنان ،ترجلت واتجهت صوب البناية ،مشت ٍ
واضح.
ٍ سبب
ٍ
فطن إلى أنها تخش ى الظالم ،ترجل من سيارته ومش ى باتجاهها حتى وقف
ً
بمحازاتها ثم فاجأها قائال:
طابق تريدين ؟
-أي ٍ
22
-الرابع.
اطمئنان حتى وقف هو أمام إحدى ٍ اقتحم هو الظالم ،واتبعته هى في
الشقق بالدور الرابع.
كانت إلانارة أمام باب الشقة خافتة ..ويبدو أن ال أحد يسكنها ،جو من
الصمت يخيم على العمارة كلها كان يقطعه بالكاد الجرس الذي يضغط عليه
صوت هادئ بعد فترة ليست بالقصيرة ،ثم فتح الباب على الفور. ٌ أدهم ..أتاهم
ً
لحية بيضاء ،رسمت قسوة السنين خطوطها بدقة ٍ كان رجال أبيض ذا
على وجهه ،لم يتكلم بل كانت نظراته تسبح في الفضاء ،وبعد فترة وجيزة ،قطع
ً
صوته الصمت قائال:
للحظات قبل أن تعلني عن أنت يا عائشة ،تتأملينى َ
ٍ لعلك ِ
-من بالباب ؟ِ ..
ً
أسامحك بعد،
ِ نفسك ِ ،ألن تكفي عن هذا العبث الطفولي أبدا؟ ،ثم إنني لم
وأمك طريحة الفراش؟ أباك الكفيفِ ، ما هذه الغيبة الطويلة؟ ،أنسيتي ِ
ً
كانت لهجته حلوة ،تحمل العتاب والدعابة معا ،لكنها لم تحتمل ،هذا
ٌ ٌ كفيفٌ ، ٌ أكبر من طاقتهاٌ ..
مغترب ،وابنة سجينة ..يا أهلل وأم مريضة ،وأخ أب
ما هذا الاختبارالعسير ،لهذا كانت عائشة تأخذني معها ملجأ ملكفوفي البصر،
صباح أن أنظر إلى يدي ،واسمع صوتي ،وأحمد هللا ٍ لهذا كانت تطلب مني كل
على نعمة البصر والسمع ،لم أكن اعلم أن أباها. ......
َ -منَ ..من بالباب؟
تضرع،
ٍ أيقظها هذا الصوت من ذكرياتها ،نظرت إلى الواقف بجانبها في
ً
لعله يخلصها من هذا املوقف ،لقد عهدته منذ أن رأته اليوم منقذا لها ..ما
ً ً
باله آلان ساكتا ال يحرك ساكنا.
َ -من بالباب َمن صاحب هذه ألانفاس؟
23
تردد:
-أجابته في ٍ
ً
-أنا صديقتها ،جئت ألبلغكم شيئا عنها.
-عنها؟!
ً
معذرة ،ش ٌ
يء أرادت هي أن تخبركم إياه فأرسلتني أنا.
تأت هي ،ملاذا تأخرت هذه املرة ..آه أسف تفضلي بالدخول يا-وملاذا لم ِ
ابنتي.
امتنان قائلة:
ٍ نظرت إلى أدهم فى
ً
-سيد أدهم ..أشكرك جدا ،لم...........
اندهاش قائال:
ٍ نظر هو آلاخر في
لك باسمي؟ -أتعرفينني ..من أين ِ
ً
صعوبة ،واحمرت وجنتاها خجال ..إنني....... ٍ ازدردت ريقها في
ً
بمفردك ..تفضال..
ِ أخوك هذا فالوقت ليال ..وال يمكن أن تأتي ِ -بالطبع
ثم أفسح لهما الطريق.
جلسا بردهة املنزل ،من الواضح أن ألاثاث من النوع البسيط للغاية،
لكن يبدو أنه معتنى به بشدة ،شعرت بالراحة ..الجمال هو البساطة وعدم
التكلف.
صبى
وصل الرجل إلى حجرة جانبية ،وصلت إليهما همهماته ،وصوت ٍ
ً ً
صغير يبدو أنه كان نائما ..ووجودهما كان سببا في إيقاظه. ٍ
أتى الرجل وجلس في الناحية املقابلة بجانب أدهم ..وجهه وديع ،تملؤه
السكينة والهدوء ،كيف بهذه القسمات الهادئة إذا علمت باعتقال عائشة..
ً
استفاقت من شرودها على صوته قائال:
وصديقتك ال
ِ -معذرة على سوء الاستقبال ،زوجتي مريضة بالداخل،
ً ٌ ً
فخور أنا بها جدا لوال تأخرها هذا ،أقلقتني تعتني بنا جيدا ،أوصيها علينا..
24
ً
عليها ،ولم أبح بش ٍيء لوالدتها ،لكن قلبي كاد أن يتوقف قلقا ،ملاذا حتى ال
تتصل لتخبرنا أنها بخير؟
ً
حمدا هلل أنني آثرت املجئ ،كيف لهذه ألاسرة لو علمت باعتقالها ،ماذا لو
أ خبرت هذا الرجل بسجن ابنته ..من الواضح أنه سيصبح طريح الفراش هو
آلاخر.
ً ً
صينية بها بعض النقوش ٍ جاء ألاخ ألاصغر واضعأ أكوابا من الشاي على
البسيطة ..قدم ألاكواب ،ثم جلس بجانب أروى ..يبدو أن معركة الاستيقاظ
ً
لم تؤثرعلى طباعه ..قال الولد مقاطعا كالم والده:
ً ً
تحبك ،دائما
ِ أنك ال تشبهيننا ،لكنها
عنك كثيرا ،رغم ِ -عائشة حدثتني ِ
تراك محجبة قبل أن تموت. كانت تقول أنها تتمنى أن ِ
تموت ..أيمكن أن تموت عائشة ..أيمكن أن تكون هذه هي النهاية؟
ّ
ظهرت الدهشة على وجه الرجل لعلمه أنها ليست محجبة ،اثرت
الحديث قبل أن تثور حفيظته ضدها ..توقعت أن تتغير ردة فعله عند علمه
بتبرجها ،لكن ابتسامته الودودة اتسعت أكثر ..بادرته قائلة:
-عائشة بخير ،فقط ُسرق هاتفها ،ولم تستطع محادثتكم ،ثم إنها تعمل
إلى جانب دراستها ،فلم تستطع املجئ ..لكنها أعطتني هذا املظروف ،وأرادت مني
ً
أن أوصيك بالوالدة خيرا ..وأخبرتني أن بهذا املظروف ما يكفي للنفقة والعالج
هذا الشهر ..ثم نظرت إلى الولد الصغير وقالت له باسمة:
ً
-ألزمتني أن أخبرك تحياتها ،وأن أوصيك بأمك وأبيك خيرا ،وأال تتوانى في
صدق!
ٍ دراستك ..كانت تكذب بكل ما أوتيت من
ً
تهيأت لالنصراف ..لكنها تذكرت شيئا:
-أخبرتني أنها تريد رقم أخيها ألاكبر فلقد فقد مع ضياع الهاتف.
25
شك: رفع الوالد رأسه ثم تساءل في ٍ
ٌ
تخبرك أننا لم نعلم وجهته بعد ،أم تراها تخيلت أنه في تلك ألايامِ -ألم
ً
القالئل أفصح عن مخبأه ،أو جاء عائدا كي يرعى أبويه املسنين.
ازدردت ريقها في مرارة ..إذن لم يعلموا وجهته بعد.
شاب في مقتبل حياته ،يفضل التغرب ماهذا الوطن الذي يلفظ أبناءهٌ ..
والهجرة على املكوث بجانب أبويه املريضين ،يبدو أن الدافع كان أقوى ،نظرت
ً
إلى أدهم كان يبدو متأثرا بكل ش ٍيء ..ترك عمله الذي من أجله جاء ،يكفيه هذا
التأخير.
هبت واقفة ،واعتذرت عن زيارت ها التي جاءت على غير موعد ،وعن ما
سببته من إزعاج ،رافقها ألاب والابن حتى الباب ،التفتت إلى الصبي أوصيك
باملذاكرة ،انحنت لتكون بمستوى طوله ثم قالت متسائلة:
ً
-صحيح ،أخبرني ماذا تريد أن تصبح مستقبال؟
تخبرك عائشة ..أنا القاض ي دمحم عاطف عبدالرحمن. ِ -ألم
قاض !!
ٍ -
ً
الدنيا تسخر من الكل ،يريد أن يصبح قاضيا وهو ال يعلم أن أخته زج بها
ً ً
ظلما وعدوانا في غياهب السجون.
ً
بادرها قائال ً،وهو يحرك عجلة السيارة مستعدا للقيادة :
صديقتك ؟
ِ -أخبريني أين
أغرورقت عيناها بالدموع ،ولم تجب.
سألها مرة أخرى في ٍ
تفهم-:
-أهي مريضة؟
-كال ،إنها في السجن ثم أجهشت بالبكاء.
26
( )2
اإلرهات ....؟
ي َمن
إنذار،
ٍ ووهن ثم استدارت خارجة دون سابق ٍ ضعف
ٍ ظلت تنظر إليه في
ً
اتجهت رأسا إلى غرف العناية املركزة ،حدقت بزجاج الغرفة كعادتها،
تساقطت العبرات على وجنتيها ،ظلت تراقب ألاجهزة املوجودة بالغرفة ،ثم
اتجهت خارجة دون أن تنتظر حضور الطبيب الخاص كي تطلع على الحالة
املرضية للوالدة.
كانت تشعر بأنها بحاجة إلى الدعم ،غادرت املشفى ثم اتجهت إلى مسجد
باريس الكبير ،اتجهت إلى ركنها املفضل ..تعثرت في إحدى الجالسات ،اعتذرت
ً
منها ،وجلست بمكانها املعتاد ،لم يكن املسجد هادئا ،كعادته كان يعج بكثير
من الفرنسيات الالتي جئن بدافع الفضول ،ظلت تنظر إليهن الواحدة تلو
قليل ،كانت فتاة شاحبةألاخرى ،حتى التقت عيناها بتلك التي تعثرت بها منذ ٍ
غير محجبة ،لكنها ت بدو مسلمة ال تعلو وجهها الدهشة من املسجد مثل
لحظات ثم انصرفت ،ظلت نسيم جالسة حتى ٍ الكثيرات ..جلست الفتاة بضع
ُ
أذن لصالة العصر ،صلته ثم انصرفت هي ألاخرى.
فور وصولها إلى شقتها الحظت بعض الجلبة في الشقة املقابلة ،وأن
ألانوار مضاءة ..لم تتبين ما ألامر؟ ،لكنها رأت صاحب العقار يقف بمنتصف
الردهة ،علمت أن املستأجرالجديد قد حضر ..ومن اختالط ألاصوات ،علمت
ً
هدوء ..عليها أن تنجز مهاما كثيرة قبل
ٍ أن الساكنة فتاة ،أغلقت باب شقتها في
حلول اليوم التالي ،أهمها هو أن تبحث بغرفة والدتها لعلها تجد ما يجعلها
تهتدي إلى جذورها املفقودة ،هي تعلم أنها عريبة ألاصل ،لكنها ال تدري إلى أي
ً
بلد تنتمي؟ ..أعدت لنفسها فنجانا من القهوة ،ووضعت بعض قطع الكعك.
27
اتجهت إلى غرفة املعيشة ،أدارت التلفاز كان العنوان املسيطر على
وجل ،كانت تعلم أن ألاوضاع غير الشاشة " ثورات الربيع العربي " انتبهت في ٍ
م ستقرة في البالد العربية ،وأن فكرة العودة إلى إحداها والعيش بها فكرة
بلد تنتمي؟ ..البلد التي صعبة ..لكن الدافع لكل هذا أنها تود أن تعرف ألي ٍ
ً
قضت بها أمها طفولتها وصباها ،وصدرا من شبابها ،تود أن تعرف َمن أبوها؟..
ً ً
قدر من الدين وألاخالق ،وتعلم أيضا أنها لم تكن ابنة تعلم جيدا أن أمها على ٍ
سفاح ..وهذا ما أباحت به أمها ..لكن ما الدافع الذي حدا بها كي تأتي بطفلتها ٍ
ً ً
بلد لم تكن تنتمي إليه يوما؟ ،هي تعلم قدرا إلى هنا لتستقر طوال حياتها في ٍ
ً
لد كبيرا من اللغة العربية ،لكنها لم تكن تميز في لهجة والدتها أنها تنتمي إلي ب ٍ
معين ،أمها لم تكن تتحدث إال بالفصحى ،ظلت شاردة الذهن ثم قامت فجأة ٍ
كي تجلب بعض الكتب من املكتبة ..فتحت بعض املواقع إلالكترونية ،يجب أن
ً ً
تعلم قدرا كبيرا من املعلومات عن الدول العربية علها أن تجد بعض العادات
التي كانت تقوم بها والدتها مسيطرة على دولة ما.
تهتد لش ٍيء ،اتجهت إلى قرأت في تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ،ولكنها لم ِ
أي من وثائق سفر أو شهادات.. غرفة أمها ،ظلت تبحث وتبحث ..لم تعثر على ٍ
تمرض ..أخذ منها الجهد مأخذه. وكأن أمها تعمدت أن تخفي كل ش ٍيء قبل أن َ
لم تشعر إال في صباح اليوم التالي وهي جالسة القرفصاء على ألارض،
عجل ..تذكرت ورأسها مائل على السرير ..أدت صالتها ،وتناولت فطورها على ٍ
أمر الساكنة الجديدة ،قامت بتهذيب بعض الورود التي تعج بها شرفتها ،ثم
لك إقامة طيبة خطت على أحد البطاقات بعض الكلمات ختمتها ،بـ " أتمنى ِ
جارتك بالشقة املجاورة.
ِ بباريس"
وضعت باقة الورد أمام باب الشقة املقابلة ،ثم اتجهت إلى الجامعة
مباشرة.
28
ً
لم يتكلم أي منهما خالل الطريق ،كان الوقت فجرا عندما طرقا أول
عمل من ألاعمال التي من أجلها جاء ،لم يكن شوارع القاهرة ،لم ينجز أي ٍ
ً
مستعدا الاستعداد الكامل الجتماع اليوم ،كل ما يود فعله آلان هو توصيلها
ملنزلها ..ومن ثم يحاول أن يصلح الخلل الذي أصاب عمله ،التفت إليها ليسألها
عن أي ألاماكن تسكن؟
للحظات..
ٍ كانت تبدو مستغرقة في النوم ،تردد في إيقاظها ..ظل ينظرإليها
ً
كان إلاعياء واضحا على وجهها بشدة ويبدو أن الجهد أخذ منها مأخذه ،يعلم
ً
لساعة أخرى.
ٍ أن لديها موعد مع الطائرة في الثامنة صباحا ،لن يضيرها النوم
ُ
عزم على عدم إيقاظها ،يمكنه أن يذهب هو إلى البيت أوال السيما وهو
قريب منه ،سيكلف أخاه ببعض ألاعمال ،ويأخذ هو بعض الوثائق التي يجب
توقيعها قبل انعقاد الاجتماع ،سيعتذر ألبيه بشأن فرع إلاسكندرية ..إذن
الخطوة القادمة هي البيت ،ثم مهمة توصيلها ملنزلها ،ومن ثم الذهاب للشركة.
اتخذ الطريق املؤدي إلى املنزل ،ترك السيارة بحديقة الفيال ..أملى على
أخيه ما يجب فعله ..ووضع بعض ألاوراق في حقيبته ،اجتاز ممر الحديقة
بهدوء حتى ال يوقظها فتنزعج لوجودها
ٍ بخطوات واسعة ،واتجه صوب السيارة
بحديقة بيته ،ولكم تعاظمت دهشته عندما وجد السيارة فارغة وهي ليست
بداخلها!!!
فور وصولها إلى الجامعة اتجهت ملتابعة حالة مرضاها الصحية ..ثم
عرض التقاريرعلى ذاك البرونو املتعجرف ،ال شك أنه ال يهتم بتلك امللفات
الطبية ،كل ما يهمه هو أن يجلدها بكالمه ،ويقيم وضعها الديني والعربي..
29
أصعب نقطة تصل إليها عندما يصفها باإلرهابية ،وتلتفت إليها كل
ً ً
ألانظار..تشعر وكأنها ارتكبت إثما شنيعا بعروبتها وإسالمها ،ولكنها ككل م ٍرة
أشهر فقط وتنتهي هذه ٍ تواس ي نفسها بأن هذه هي آخر سنوات الجامعة ،عدة
املعاناة.
هدوء ..لكن أتت اللحظة الحاسمة ،لحظة إطالعه على ٍ قضت يومها في
ملفها الطبي ..أو باألحرى لحظة الجدال الذي ال يسمن وال يغني من جوع ،ال هو
بهدوء ،لم تكنٍ الذي يقتنع وال هو الذي يتركها ودينها ..اتجهت نحو القاعة
ألحد..عالقتها بزميالتها سطحية باردة ..جلست في املكان املخصص صديقة ٍ
لها ،والذي تحمل رقمه ،اكتمل عدد الطالب ..خفق قلبها بشدة ،وظهرعلى
وجهها الاضطراب ..كانت تكرهه وتخشاه.
للحظات ،ثم وضع بعض الكلمات في أماكن ٍ أمسك بامللف نظر إليه
متفرقة ..وضع قلمه خلف أحد أذنيه ،وكأن باقي التقرير ال يستحق القراءة،
ً
نظر إليها قائال:
سيفك؟
ِ -ها أين تخبئين
حدة:
أجابته في ٍ
سيف؟ حينما آتي إلى هنا ال أملك إال معطفي ،وأدواتي الطبية ،أما ٍ -أي
عن السيف والرصاص وقنابل الغاز النووي فأسأل عنها أمريكا وإسرائيل .
-وما شأني أنا بأمريكا وإسرائيل ،أنا أتحدث عن إلارهاب الذي يفرضه
دينك ويطبقه العرب. ِ
محتل ،وأهلهٍ بلد
إرهاب ذاك الذي تنعتنا به ..رغم أنه ال يوجد ٍٍ -أي
ً ً
يقتلون زورا وبهتانا إال وكان بلد عربي مسلم ،إن شئت فانظر إلى فلسطين
والعراق وبورما والشيشان ..ماذا عن التدخل ألاجنبي في سوريا وغيرها الكثير؟
إرهاب ذاك الذي تلصقه بي؟ وال يوجد لديكم إال مخططات تحاك ضد ٍ أي
30
ً ً ً
بلد عربي احتل بلدا أجنبيا أو غربيا
مصر وسوريا وليبيا واليمن ،حدثني عن ٍ
ً
واحدا ،رفعت كتفيها وابتسمت قائلة في سخرية-:
-صدقني لن تجد.
دنيئة.
ٍ إرهابية
ٍ عمليات
ٍ -لهذا أنتم تقتصون من ألابرياء في
ً
-دكتور برونو ،لسنا هنا للحديث في السياسة أو إلارهاب ،أخبرتك كثيرا
إن كنت ال ترغب في رؤيتي..أو أن حجابي يثير حفيظتك ،فعليك أن تسمح لي
ً
بطلب النقل الذي عرضته عليك مرارا ..ال أدري ما السبب لرفضك رغم أني
طبيب آخر لكنك لم تسمح بذلك؟ ،ثم إنيٍ حاولت جاهدة التعلم تحت إشراف
ً ً
أخبرتك أن قدماي لم تطأ أرضا عربيا من قبل ،وأني فرنسية من الصميم مثلك
ً
تماما ..وإن كنت تود أن تعقد مقارنة بين ألاديان فعليك بكتب الكبار من
ً
رجاالت الدين واملستشرقين ،وليس بفتاة مثلي معلوماتها الدينية طفيفة جدا،
ال تصلح إلقناع غير املسلمين بأن الاسالم هو دين السالم ال سيما إن كان
املجادل أنت.
ً
حملت ملفها دون استئذان ،ودون حتى أن يضع توقيعه ،ثم اتجهت رأسا
إلى الباب ،عازمة على الخروج من القاعة ،في منتصف املمر ،التفتت إليه
قائلة:
طبيب آخرإلدارة الجامعة ما
ٍ -سأقدم طلب نقلي للممارسة تحت إشراف
دمت ال ترغب على املوافقة ،أرجوك أن تساعدني في هذا ،ثم انصرفت.
31
-عم دمحم ،أين هي؟
َ -من تقصد يا بني؟
-الفتاة التي كانت في السيارة.
-أي سيا ٍرة؟
-أكرمك هللا انتبه إلي ،كانت إحداهن جالسة في سيارتي ،أين ذهبت؟
-ال أدري يا بني ،فقط دخلت إلى غرفتي ألنزع السترة وأرتدي الجلباب،
ً
ولم أر أحدا.
ً
اتجه صوب الشركة مباشرة ،كان مشغوال بها طوال الطريقَ ،من هي؟
بساعات
ٍ شهامة هذه التي تجعل فتاة تسافر إلى إلاسكندرية قبل سفرها ٍ وأي
َ
لتكذب تلك الكذبة البريئة علي هؤالء الطيبين؟ ..من هذه التي تملك بأس
فتاة؟ ..هو الذي كان يرفض الزواج طيلة حياته..
شاب ..ورقة ٍ
رجل ..وشهامة ٍ ٍ
ماذا حدث لينشغل عقله بفتاة لم يعرفها؟ بل وألاسوء من هذا أن تختفي دون
ً
أن يعلم عنها شيئا سوى اسم ها ،واملضحك املبكي أن يختفي الهاتف الذي
هاتفت منه أباها.
33
أليام منذ وفاة
كانت تشعرها تلك الابتسامات بالطمأنينة التي هجرتها ٍ
اعتقال كانت
ٍ أمها ،ثم لم تكد أن تتجاوز ألازمة حتى فوجئت باعتقال عائشة،
ً ً
هى السبب فيه ..هي التي لم تصادق أحدا ،دائما تشعر أنها ال تنتمي إلى عالم
ً
أقاربها وأصدقاء والديها ..كانوا ينعتونها دائما باملتعجرفة ،وكانت تستحق..
َ ً
كثيرا ما كانت تشعرأن هذا الوسط الذي تحيا فيه ،لم يبن إال بأموال الشعب،
ولم يرتفع إال بالوقوف على أجسادهم ،انتبهت من شرودها لتعثر إحداهن بها،
لم تستطع العودة إلى ذكرياتها ثانية ،قررت استكمال جولتها قبل أن تقرر
ً
شاق بالجامعة ....مرة أخرى ،التقت عيناها بالتي
عمل ٍ
العودة ،لديها غدا يوم ٍ
تعثرت بها ،ابتسمت لها وانصرفت.
ذهبت إلى إدارة الجامعة للتثبت من أمر النقل ،ولشد ما كانت خيبتها
حينما أجابتها إحدى عامالت إلادارة قائلة:
-دكتور برونو صوفيو لم يسمح بالنقل.
-اتجهت إلى حجرة العناية املركزة ،راقبت ذلك الجسد الهزيل الذي ال
يوصله بالحياة سوى تلك ألاجهزة ،انتظرت وقت زيارة الطبيب ،وجلست على
ً
أحد مقاعد الانتظار ،آثرت أن تقض ي الوقت في القراءة ..أخرجت كتابا لكنها
ً ً
لم ِتع حرفا مما قرأت ..كان ذهنها شاردا في حالة والدتها ..شعرت وكأن أحدهم
بطء ،فوجدته هو ذاك الذي أخبرها يقف أمامها ،رفعت عيناها عن الكتاب في ٍ
ً ً
هدوء،
ٍ مسلم في فرنسا ،ابتسمت في
ٍ أن أمها ليست أما لها فقط ،بل أما لكل
ً
بادرها قائال:
34
ُ ً
آتيك أنا به ،إنني
منك اتصاال ،فلما لم تأتني به ،آثرت أن ِ -كنت أنتظر ِ
تحاليل باملشفى بالقسم املجاور لغرف العناية املركزة ،سأكون ٍ أعمل بمعمل
وقت ..استأذن منها ثم انصرف. لجأت إلي في أي ٍِ بجانبك إذا
ِ
من الغريب أنها لم تعلم اسمه حتى آلان ،بحثت عن الكارت الخاص به
ً
الذي وضعته بحقيبتها مسبقا ،نظرت إلى الاسم " إياد عاطف عبدالرحمن"
ينتميان إلى
ِ بلد ينتمي؟..ماذا لو كاناتعلم أنه عربي ألاصل ،لكنها لم تعلم إلى أي ٍ
واحدة؟
ٍ بلد
ٍ
خطوات تقترب ،كا ن الطبيب املختص ..وقعت على الحالة ٍ سمعت دفع
تحسن ..رحل الطبيب وظلت محدقة بتلك املرأة ٍ يبد أي
الصحية ألمها ..لم ِ
ً
الراقدة دون وعي ،في يوم ما كانت تتقد قوة ونشاطا ..علمتها الصبر على
املصائب ،لكنها لم تتوقع أن تكون املصيبة رحيلها هي ،علمتها الدين في ٍ
بلد ال
قسوة!
ٍ الغربة أقل
ٍ يفتقر إال للدين ..قست عليها بلدها فوجدت مرارة
وطن
تعلم أن دافع الهروب كان أكبرمن دافع الاستقراربالوطن ،لكن أي ٍ
ً
ذاك الذي يلفظ امرأة في شهور الحمل ألاولى وكأنه ضاق ذرعا بمولدة أخرى
فلم تجد أمامها إال أن تضعها في ألاراض ي الفرنسية؟ ..من ثم تجعل فرنسا
ً
قوة جعلتها تتخلى عن ألاهل والوطن والزوج لتعيش طريدة مستقرا لها ..أي ٍ
ً
بلد لم يفتح أحضانه لها يوما؟.منبوذة في ٍ
ً
رغم أنها تملك من العمر أربعة وعشرين عاما قضتها كلها بفرنسا إال أنها
ال تزال ترى نفسها دخيلة على هذا املجتمع ،نصف لم يتقبلها ،والنصف آلاخر
ألم ثم حملت حقيبتها معد ..تنهدت في ٍ يتجاهلها كأنها مرض الاقتراب منه ٍ
ورحلت.
35
لفت نظرها وجود علبة مغلفة بورق الهدايا أمام الباب ،كانت تشعرأنها
تخص الساكنة الجديدة وبالفعل صدق حدسها ،قرأت البطاقة املوجودة مع
العلبة ،كانت دعوة لتناول القهوة معها في السادسة مس ًاء.
أزالت ورقة الهدايا ،كانت الهدية عبارة عن علبة من قطع الشوكوالتة،
ابتسمت ..وقالت وكأنها تحادث نفسها:
-يبدو أننا سنصير أصدقاء.
-لم يصلني ردك بعد ،ماذا قررت بشأن الزواج ..تركت لك مهلة يومين
ً ً
لكنك لم تخبرني برأيك حتى آلان ..أدهم أنت تعلم أباك جيدا ،وتعلم جيدا ماذا
ً
أمر ما ،سأكلم والد الفتاة الليلة كن مستعدا.
يفعل حينما يعقد العزم على ٍ
-الليلة ؟!
-نعم الليلة منذ أن كنت في أوائل العشرينات ،وأنا أمنحك فرصة تحديد
املوعد بنفسك ،لكنك لم تفعل ،آلان سأحدده أنا بنفس ي ،فقط اجلس مع
ً
الفتاة أنا متأكد أنها ستثيرإعجابك فهي تستحق ،ثم إن طباعها تشبهك تماما..
راق باإلضافة أنها ابنة الوزير " محمود الشرقاويوعلى مستوى عقلي وفكري ٍ
" علم ونسب وأخالق.
وإذا لم تر فيها زوجتك فلن أجبرك عليها.
حق ،وأثق باختيارك يا أبي ،لكن -أنا أقدر مجهودك ،وأعلم أنك على ٍ
ً ً ً
دعني أسبوعا واحدا وسآتي إليك خاضعا ملا تريد.
ً ً
-حسنا ،تركتك أعواما ،ليس من الصعب أن أضيف إلى تلك ألاعوام
َ ً
أسبوعا واحدا ،لكن أيمكن أن أعلم السبب الذي من أجله تطلب هذه املهلة؟.
ً
-تقريبا رأيي استقر على إحداهن ..ثم انصرف.
36
محاولة لتفادي آثار الصداع
ٍ جلس خلف مكتبه ،أمسك رأسه بيديه في
َ َ
الذي أصاب رأسه ..أسبوع واحد فقط يجب أن يعلم فيه من هي ،ومن تكون؟.
ً ً ٌ
شعور بأنها قد تكون وهما صوره له خياله ،وليست واقعا ،تلك راوده
التي انشق عنها الطريق فجأة ،ثم اختفت من قلب السيارة فجأة وكأنها لم
طيف أو ٌٌ
حلم داعب خياله؟ تكن ..أيمكن أن تكون
كاد أن يركن إلى هذا الرأي لوال تذكره ألهل هذا املنزل الذي زاروه ..يعلم
أنها مغادرة إلى باريس ،لكنه لم يعلم كم املدة التي ستقضيها هناك ،أخبرت
ً
الرجل املكفوف وهي تناوله املظروف أن به أموالا تكفي النفقة والدواء ملدة
شهر.
ً ً
ماذا لو كان غير ذلك حتى ال يشك باألمر ..أخذ نفسا عميقا ثم اتجه إلى
غرفة أخيه.
طرق بابها ثم دخل.
-أأخبرك أبوك؟
قالها دون أن يرفع عينيه عن أوراقه.
-نعم ،أخبرني.
-إذن سيحادث والد الفتاة الليلة؟
-كال بعد أسبوع .
ً
دهشة قائال:
ٍ نظر إليه في
ما الفارق الليلة أم بعد أسبوع؟
-أنت لن تفهم.
37
-إذن عليك إفهامي ،باملناسبة رأيت الفتاة من قبل ..تبدو فتاة طيبة،
رائعة في كل ش ٍيء ،ثم إنها شبيهة بك في كل تصرفاتها ،أعتقد أن والدك أخبرك
بذلك.
-نعم ،أخبرني.
-إذن ما املانع ،اجلس معها واستمع إليها ،أو اذهب إلى مكان دراستها أو في
ً
النادي ،إذا أردت أال يكون ألامر رسميا ،وإذا لم تر توافق بينكما ،فلن يجبرك
واثق أنك بمجرد أن تراها سيحدث هذا أحد على الزواج منها ،مع أنني ٌ
التوافق ..ثم غمز بعينيه.
ً
تناول أدهم أحد ألاقالم وقذف به في وجهه قائال:
-ألن تكف عن هراء الصبيان هذا؟
-نعم ،لن أكف؛ إنني مراهق وسأظل هكذا إلى أن أموت ..ثم اتبعها
بضحكة استهزائية.
ً
ضحك أدهم على هذا الجو الطفولي العابث الذي يثيره أخوه دائما ،حتى
في أحلك اللحظات.
-أدهم أخبرني ماذا بك منذ أن عدت من إلاسكندرية ،وأنت لست بحالتك
الطبيعية ،ماذا هناك؟
يء ،مشاغل العمل فحسب. -ال ش َ
38
( )3
ً
أختا لك
مساء طرقت باب الشقة املجاورة ،وما إن فتح الباب حتى ً في السادسة
لحظات من
ٍ تبادال الابتسامات التي تنم عن الاستغراب والدهشة ،وبعد
التعارف ،كانت كل منهما تحكي حكايتها لألخرى ،شعرا وكأن املصائب قد
وحدتهن ،ألاولى تدافع عن أحد ألابرياء الذين أصبحوا ضحية للنظام الفاسد
والجامعات الفاسدة ،ال يدرون َمن الفاعل الحقيقي لكل وقائع إلارهاب؟،
فكان ال بد أن يدفع الثمن هؤالء.
القانون ل م تعد مهنته أن يبحث عن العدل ويحققه ،بل مهنته أن يدين
ألابرياء حتى يظهر الفاعل الحقيقي ،وإن لم يظهر فعلى أرواحهم السالم.
أما ألاخرى ال تعرف َمن هي وال من أبوها ،وال ألي ٍبلد تنتمي؟ ،هي فقط
تعلم أنها ابنة لتلك الراقدة في املستشفى على قيد سنتيمترات من املوت ،خانتها
بسر لطاملا وعدتها أنها ستخبرها إياه
الظروف وداهمتها الغيبوبة قبل أن تبوح ٍ
عندما يحين الوقت ..لم يحن الوقت بعد ،لكن الخوف كل الخوف أن يحين
ً
وقت صعود الروح قبل معرفة السر ،حينها لن تودع أما فقط ،بل ستودع
العالم أجمع في شخص هذه السيدة ،ختمت كالمها بدمعة ثم ابتسمت قائلة:
ً ً
رأيك أن نذهب سويا؟
-الوقت تأخر كلتانا عندها جامعة غدا ،ما ِ
-إذن اتفقنا.
39
تمض ي ألايام دون أن تحمل ألحد املزيد ،تكرار ممل لنفس العادات
اليومية والتفاصيل ،اللهم إال إذا كان هناك املزيد من البؤس لتلك الراقدة
ً
تأخر ،دون أن يبدو أن هناك أي تباشير ٍ على السرير ألابيض ،حالتها دائما في
للتقدم في حالتها الصحية.
أمل أنوجلد على ٍ
ٍ صبر
كانت ابنتها توقع على تلك التقارير الطبية في ٍ
تنقشع هذه الغمة ،كانت تعلم أن أشد ساعات الليل ظلمة هي تلك الساعة
التي تسبق الفجر ،كانت تؤمن بأنه إذا ازداد سواد الليل فإنه سينقشع ،وإذا
اشتد الحبل واشتد فأنه سينقطع.
كانتا عائدتين من الجامعة بعد أن قامت أروى ألول مرة بزيارة والدة
كنوع من املؤازرة ،طوال الطريق وهي تحدثها نسيم ،كانت تشد على يديها بقوة ٍ
كل منهما إلى شقتها،أخبرتها أروى عن الصبر ،صعدتا السلم وقبل أن تنصرف ٌ
ً
أنها ستعد طعام الغداء ،وستتناوالنه سويا ،عليها أن تذهب لتبدل مالبسها،
وتعود ريثما ينضج الطعام.
ً
ذهبت إلى شقتها عليها أن تستعد الختبار الغد ،حمدا هلل أنه لن يكون
ً ً
شفهيا وإال ألوسعها جلدا بسيل من كلماته الالمتناهية ،عليها أن تستعد ،هي
تعلم أنها ماهرة بالطب ،وتعتقد أنه يعلم ذلك ،لكنه يصر على أن يجعلها ال
ً
تساوي شيئا في عداد ألاطباء ،ليس لش ٍيء سوى ألنها مسلمة ترتدي الحجاب.
اندماج لم يفصلها عنه
ٍ وضعت الكتب أمامها ،ظلت تراجع دروسها في
سوى صوت هاتفها ،كانت تعلم أن املتصل بالتأكيد لن يكون سوى أروى.
-السالم عليكم.
ً
أنت لم تتأخرين دائما هكذا؟-وعليكم السالم ..أين ِ
ً
إليك.
-كنت أنهي بعض الدروس ،آتية حاال ِ
ً
تنس ي أن تتصلي باملشفى ،وتطلبي غرفة ملريضين. -حسنا ،لكن ال ِ
40
َ
لم؟
أخبرك أن هذه املرة ألاولى التي أنجز فيها طعام وبمفردي. ِ ألم
قالت باسمة:
-وأعتقد أنها ألاخيرة بإذن هللا.
انتظارك ،ثم وضعت سماعة الهاتف. ِ -في
أكلتا سويا ًتكلمتا في أشياء كثيرة ،وأطلقتا بعض الضحكات والذكريات،
اتبعتها نسيم:
جيدة ..كانت ستغمرها السعادة،ٍ بصحة
ٍ -كنت أتمنى لو أن أمي ال تزال
بروح
عندما كنا نقابل إحدى العربيات باملسجد ،كنت أشعر وكأنها التقت ٍ
أخرى تشبهها ،كانت تناديني وهي منتشية ألتعرف عليها وكأنها خالة أوعمة
وليست مجرد امرأة قابلناها منذ دقائق وسنفارقها بعد دقائق !!!
ً
أنك ستجاورينها عاما بأكمله ،على بك وعلمت ِ -تصوري ماذا لو التقيت ِ
ألاقل كنت سأعلم من تعابيروجهها هل أنا مصرية فتتجه أفكاري إلى مصر ،أم
ستبدو على مالمحها الالمباالة فتنصرف أفكاري إلى البالد العربية ألاخرى عدا
مصر.
ً
صديقتك ألم تعلمي عنها شيئا حتى آلان؟
ِ دعك مني ،ماذا عنِ -
-بلى ،ولن أعلم ،هي كغيرها من املعتقلين لن تتجه إليهم ألانظار ال سيما
ً
أولئك الفقراء الذين ال يملكون ماال وال سلطة ،لكنني أصبرنفس ي بعد حصولي
على الدكتوراة ستكون أول أولوياتي الدفاع عن أولئك املنكوبين الذين ال
يشقى لشقائهم أحد ،وال يدافع عنهم أحد ،سأستميت أنا في الدفاع عنهم ولو
كلفني ذلك حياتي.
أبيك؟
-وماذا عن ِ
41
ً
أنا ال أخش ى شيئا ،لكني أخش ى على أبي منهم ،أخش ى أن يتأثرعمله ،أو
مركزه لخطوتي تلك ،وقتها لن أسامح نفس ي ،فقط أريد أن أحارب الظلم
والفساد ،دون أن يحاربوا هم أبي بي.
بلدك ،أليستِ لك تتحدثين هكذا وكأن القانون معطل به العمل في ما ِ
ً
مصر أما للعالم؟
ً
بلى ،مصرأم العالم ،لكنها ليست أما للمصريين!
دهشة:
ٍ -سألتها في
-وماذا عن القانون؟!
ً
-بالفعل القانون في بلدي معطل العمل به ،ولو كان ساريا ملا جئت أطلب
دراسته هنا.
ثم أردفت في أس ًى:
-القانون في بلدي ال يسري إال على الضعفاء ،أما الكبار فهم الذين
ً
يحركونه ويضعونه في املوضع الذي يريدون ،املهم أن يكون هذا املوضع بعيدا
عنهم حتى ال تفوح رائحة جرائمهم العفنة.
-إذن ماذا حصدتم من ثورتكم ،ألم تقم في بلدكم ثورة من أجل هذا؟
ً
-لم نحصد منها شيئا ،فقط حصدت هي أرواح ألابرياء الذين لم يكن لهم
جمل وال ناقة.
ثم سكتت ،نظرت نسيم إلى التلفاز وهى شاردة الذهن ،ماذا لو كانت
مصرية هي ألاخرى وقررت العيش بمصر ،هل تستطيع أن تواصل حياتها في
هذا البلد الفوضوي الذي ال يطبق قانونه إال على فقرائه.
ً ً
ال أتخيل بلدا واحدا في العالم ال يحاكم مجرميه ،بل ويزج بأبريائه في
السجون ،هنا " برونو" لم يستطع أن يؤذيني بش ي ٍء إال بجداله العقيم ،كيف
لو كان كل هذا يحدث ببلد كمصر ،هل كنت سأتخطى سنوات الدراسة
42
انتقام بحرماني من
ٍ ويسر كما فعلت هنا ،أم كان سينتقم مني شر
ٍ سهولة
ٍ في
النجاح دون أن يحاسبه على فعله أحد.
تنهدت في أس ًى وكأنها تخرج كل ما سببته تلك ألافكار من حشرجة
مسموع:
ٍ بصوت
ٍ بصدرها ،ثم قالت
"-يبدو أننا كلنا مغتربون في أرض الوطن "
وأنت وأمى و عائشة ..كلنا كذلك.
أنا ِ
لم يمر أسبوع واحد بل مر أكثر من شهرين ،وأنت ال زلت مكانك ،ألامر
بالنسبة إلي خرج عن سيطرتي ،لم أعد احتمل رؤيتك هكذا ،تنتظر ماذا حتى
تتزوج ،نصف شباب مصريحلمون بربع إمكاناتك فقط ،طلبت رؤيتك ألخبرك
ً ً
فحسب ،أما عن الفتاة فقد حدثتك عنها مسبقا سأحدد موعدا مع أبيها
الليلة.
ً
ثم أردف قائال:
-أود امللف الخاص بفرع إلاسكندرية ،وهل قرر مجلس إدارة الشركة تلقي
ً ً
الشحنة الفرنسية أم ال ،اعقد اجتماعا عاجال ،ثم أخبرني باألمر.
صمت ،اتخذ سيارته في طريق الشركة ،نعم البد أن يذهب إلى ٍ انصرف في
ً
إلاسكندرية ،عليه أن يذهب أوال لتلك ألاسرة ،من الواضح أنه كانت تربطها
عالقة وثيقة بصديقتها تلك ،وإال ملا قررت زيارتهم قبل سفرها بساعا ٍت ،ثم إنه
من املمكن أن تكون الفتاة خرجت من السجن وتساعدني في الوصول إليها.
43
ً
أوقف سيارته أمام الشركة ،اتجه رأسا إلى مكتب أخيه ،أخبره بأمر
الاجتماع ،ثم بقرار سفره إلى إلاسكندرية ..لم يعلق أخوه على ما قاله بشأن
ً
العمل ،وعلت على وجهه ابتسامة هزلية ،ثم أردف متسائال:
-أدهم أخبرني َمن هذه التي تضحي بابنة الوزير من أجلها؟ وهل لسفرك
ً
إلى إلاسكندرية عالقة باألمر؟ منذ الزيارة السابقة وأنا أشعر أن في ألامر خطبا
ما ،ثم إنني ال أستطيع أن أتخيل أدهم بيه النشار العاقل الرزين ،يعشق
ً
إحداهن ،وينتظر منها نظرة رضا ،وكلمة ود ،ثم انفجر ضاحكا وعيناه تدمعان
من الضحك.
ً ً
صرامة:
ٍ نظر إليه أدهم شذرا ،رفع حاجبا وأرخى آلاخر ،ثم قال في
ً
-افعل ما أمرتك به ،من املمكن أال آتي إال على موعد الاجتماع غدا ..ثم
انصرف.
44
أراك في الجامعة ثانية..بل في
-نسيييييييييييييييييم ..أخرجي ال أريد أن ِ
أمثالك تحت قناع البراءة والهدوء.
ِ فرنسا كلها ،باريس ليست مأوى لإلرهابيين
لم تستوعب ما الذي يحدث ،ظلت تنظر إليه في عدم استيعاب ،وجميع
ألانظار متعلقة بها ..منهم املشفق ،ومنهم الشامت ،لم تحملها قدماها
ً
للوقوف ..ظلت جالسة والدموع متجمعة في مقلتيها إلى أن بادرها قائال:
ً ُ
-قلت :اخرجي وال تعودي أبدا.
تحاملت على نفسها وخرجت ،أول ما فعلته كان الذهاب إلى غرفة
والدتها ،كانت الدموع تنهمر من مقلتيها كرشاشات املياه ،وقفت بجانب
سريرها ،ثم ركعت على ركبتيها قائلة:
ً ً
-أخبريني َمن أنا؟ ،لم تعد فرنسا وطنا لي ،دائما أراني دخيلة عليهم،
أرجوك استيقظى لم أعد أحتمل الوحدة في هذا العالم ..أنا ضعيفة أضعف ِ
مما تتخيلين .
كانت تهز الفراش بعنف مما أثار ريبة املمرضات ..ذهبن ليأخذنها فتهاوت
بين أيديهن جثة هامدة.
ترجل من السيارة في نفس املكان الذي وقف فيه معها من قبل ،الفارق
أنها لم تكن موجودة ،اجتاز السلم بخطوات واسعة ..توقف أمام الشقة..
طرق الباب ولم يجب أحد ..كان يعلم أن ألام مريضة وألاب كفيف والابن قد ال
يكون هنا ،لن يضره بعض الانتظار ،لكن انتظاره طال وطال إلى أن فتح باب
الشقة املجاورة..أطلت عليه امرأة يبدو أنها كانت ناعسة ولكن رنينه أزعجها،
سألته في ريبة :
45
َ -من تريد؟ ..ساكنوا هذه الشقة رحلوا منذ شهر ونصف.
ً ً
فغر فاه مندهشا وقال مرددا:
-رحلوا؟!!
شخص بهندامه هذا..
ٍ تحفظ ،يبدو أنها تستغرب وقوف ٍ نظرت إليه في
جاء:
أمام شقة هؤالء البسطاء ..سألها في ر ٍ
-أال تعلمين إلى أين انصرفوا؟
-كال ،يمكنك أن تسأل صاحب العمارة ..هو الذي قام بترحيلهم.
لم؟-قام بترحيلهمَ ..
ً
-لقد تأخروا في دفع إلايجار ،فضاق بهم ذرعا ..شقة املالك بالطابق
الثاني أيمكنني الانصراف؟
ً ً
لك.
-نعم ..شكرا جزيال ِ
ً
انطلق عائدا إلى القاهرة ..كل محاوالته باءت بالفشل ،رجع بخفي حنين
كما يقولون ..التقى بوالده في شرفة الفيال ،ألقى عليه التحية ثم أتبعها:
-أبلغ والد العروس يا أبي أنني مستعد .
استغراب:
ٍ استنكر والده حاله ثم سأله في
ً
-أخبرتني اليوم عندما حادثتك بهذا ألامر أنك لست مستعدا ..ما الذي
حدث؟
-ال ش يء ..لكنني مستعد آلان.
46
فتحت عينيها في إعياء متسائلة ،أين أنا؟
هدوء:
ٍ -أنت هنا باملشفى ..احتضنت يدها بين كفيها وقالت في
معك.
-ال تقلقي أنا ِ
-ما الذي حدث؟
ً َ
وأنت تتدللين عليها.
لك ِ -ال ش يء فقط منذ أن وجدت أختا ِ
إعياء وقالت:
ٍ ابتسمت في
لقد تذكرت ،هل أمي بخير؟
ً
إصرار:
ٍ وأنت أيضا بخير ..ستغادرين املشفى الليلة ..ثم قالت في -نعمِ ..
أساعدك في التخلص من ذاك ِ -لقد علمت كل ش ٍيء ويمكنني أن
ً
منحك تعويضا عن الضرر ألادبي والنفس ي الذي ِ العنصري املتعجرف ،بل
زمالئك ،بل أخطرمن ذلك يمكنني أن أوجه له تهمة ازدراء ِ لك أمام بقية
سببه ِ
ألاديان.
ً ً
-ال ..ال تفعلي ،لقد صبرت أعواما ليست هناك مشكلة فى أن يزيدوا عاما.
47
ً
-كال ،فقط أردت أن أخبرك أن الفتاة التي كنت أريدها عروسا لك
سافرت منذ فترة الستكمال دراستها بالخارج ..لقد سئمت منك ،افعل ما تريد..
يمكنك الانصراف .
راحة ،ولم يستطع أن يخفى ابتسامة تألألت على شفتيه لكنه تنهد في ٍ
ً
تداركها بقبلة على يد أبيه أتبعها قائال-:
ً
-ال تقلق يا أبي سأحاول جاهدا أن أرضيك ..ثم انصرف.
ً
حلقت الطائرة على ألاراض ي الفرنسية ،ال يدري ملا يشعر أن هناك شيئا
ً
غريبا سيحدث ..إحساس عجيب ساوره منذ أن وضع أول ٍ
قدم في الطائرة،
ً
حاول الانشغال بقراءة بعض املجالت املوجودة بجانبه لكنه لم ِيع حرفا مما
قرأ ..أغلق املجلة التي كانت بيديه ثم عاد إلى شروده ..ترى ما الذي سيحدث؟
انتبه وعجالت الطائرة تضرب أرض املطار ،وضع يده على رأسه في
محاولة منه إليقاف الصداع الذي بدأ ينتشر برأسه ،أشغلته إجراءات أمن
املطارعن شعوره الغريب ذاك.
ً
طمأن أخاه على وصوله ،وقاما بمراجعة أمور الشحنة املطلوبة معا،
واتجه إلى غرفته بالفندق ..اليوم فقط راحة ومن الغد سيبدأ العمل.
49
( )4
متطفل
51
لم تقرأين مثل هذا الكتاب؟ أعتقد أن املكان غير مالئم ،وال حتى َ -
الوقت ..ألانظار كلها تتجه إلى أن إلارهاب ال يخرج إال من إلاسالميين.
استنكار ..يكفيها ما هي فيه.
ٍ رفعت حاجبها في
ازدراء لم تنطق ..ومن ثم تحولت إلى كتابها ثانية.
ٍ نظرت إليه في
أزعجك.
ِ -معذرة ،لم أقصد أن
ال عليك ..فقط قبل أن تبدي رأيك في كتاب ما ،أو كاتب ما يجب أن تكون
على علم بما يحوي الكتاب ،وبمن يكون الكاتب.
ً
علت وجهه ابتسامة ثم قال مرددا بينه وبين نفسه-:
وبمن يكون الكاتب؟! َ -
أنت عن الكاتب؟ -ماذا تعرفين ِ
-أهو اختبار إذن؟
معلوماتك.
ِ كال ،فقط أردت أن استفد من
-وهل هذا تهكم أم سخرية؟
-ال هذا وال ذاك ..منذ دقائق أخبرتني أنه من املحتم علي قبل أن أبدي رأيي
علم بشخص علم بما يحويه هذا الكتاب ..وعلى ٍ في كتاب يجب أن أكون على ٍ
أنت.
كاتبه ..إذن أخبريني ِ
كل الكتاب يتحدث عن -لكني لم أبدي رأيي ،أنت الذي فعلت ..علي ٍ
الحروب والتحامل الغربي على إلاسالم من وجهة نظر الكاتب ،وأنا أوفقه فيها،
ثم يتطرق إلى الحديث عن خطر فئة علمانية تحصر الدين في الصالة
وفئة أخرى تحصرالدين في القميص والسواك وكأن الدين ال هم له واملسجدٍ ،
إال هذا.
أنت في هذه الفرق إلى أي فرقة تنتمين؟ -وما رأيك ِ
52
ً
لجماعة يوما ما فجماعتي هي جماعةٍ -ال هذه وال تلك ..إن كنت سأنتمي
املسلمين ..سئمت املسميات ،سئمت الفرقة والنزاع بين هذه الفرق ،أنا
مسلمة وكفى.
أحسنت لكن بالتأكيد هناك شخص تركنين إلى كالمه أو هو بمثابة قدوة ِ -
لك تؤمنين بقوله في ظل هذا التشتت والنزاع في ألاقوال وألافعالَ ..من هو؟ ِ
ٌ
-قدوتي هو " دمحم صلي هللا عليه وسلم " أما ما عدا هذا فكل يؤخذ من
قوله ويرد ،جماعتي هي جماعة املسلمين وقدوتي هو رسول هللا.
ً
أصافحك ..ثم مد يده لها مصافحا.
ِ أحسنتُ ،حق لي أنِ -
سألته في ريبة-:
-أمسلم أنت؟
-نعم!
-وتصافح النساء؟!
نظرت إلى ساعتها ثم هبت واقفة ..بادرته قائلة:
-أيمكنني الانصراف؟
-تفضلى.
ً
بمجرد أن حولت إليه ظهرها لم تستطع أن تخفي ابتسامتها ..كان حديثا
ُ
شيقا ،على ألاقل لم يعنفها ولم يعترض ..دقائق قليلة فصلتها عن واقعها ،عن
املأساة ،عن عودتها للجامعة.
لم يعد يفصلها عن قاعة املحاضرات سوى أمتار قليلة ..اجتازتها
بخطوات بطيئة ..تمتمت حامدة ربها على عدم وجوده ..جلست في مكانها
املعتاد في انتظار الكارثة أن تحل ..ترى ما الذي سيفعله إن رآها؟ ألم يحذرها
من قبل؟ ألم يطلب منها عدم تواجدها في محاضراته بل حتى في الحرم الجامعي
53
كله؟ ،ليته يدخل ويمنعها من الحضور ،هذا أهون من العذاب النفس ي الذي
تالقيه آلان.
الانتظار قبيح ،قبيح للغاية ،تذكرت رأي أمها في الانتظار ،ابتسمت في
مرارة ثم رددته بصوت مسموع وكأنها تحادث نفسهاٍ
"انتظار البالء أسوأ من وقوعه وانتظار الفرح أجمل من يوم الفرح نفسه "
ص وت جرس املحاضرات أعادها إلى واقعها ،بدأ قلبها يخفق بشدة ،ظلت
تفرك يديها بعصبية وأنظارها معلقة بالباب كأنها تنظر إلى الداخل منه في
ً
توسل أال يفعل بها ما يفعل دائما ،ولكنها كانت املفاجأة ..لم يكن الداخل
ٍ
دكتور بورنو وحده بل كان معه هو ..ذاك الذي أغرقها باملاء منذ ساعة
واحدة!!
هناك في غرفة على سطح أحد املباني يرقد شيخ كفيف قد فعل به املرض
ست سنوات وكأنها في صراع مع ما فعل ..وترقد إلى جانبه مريضة منذ أكثر من ِ
ً
وهن:
الزمن واملرض أيضا سألته في ٍ
-ألم أقل لك إن قلبي يحدثني أن عائشة أصابها مكروه ،عائشة تعلم
ً
بملكيتنا لهذه الغرفة منذ أن كنا نعيش بها منذ خمسة عشرعاما ..مض ى على
غيابها عدة أشهر ،ملاذا لم تعد إذن؟ املشكلة ليست مشكلة عمل ..تنهدت
ً
تنهيدة عميقة ثم أتبعتها بقولها :ألم يكفها أخوها الذي لم نعد نعلم عنه شيئا؟
ً ً
أتراه مات غرقا أو أصبح طبيبا ماهرا؟ً أو تراه تزوج وأنسته زوجته وأبناءه أمه
وأباه؟ ..ثم قالت في محاولة ملواساة نفسها:
ً
-كال ،لو أصبح أبا ألتى ..لو عرف معنى ألابوة ألشفق علينا.
54
تنهد الشيخ ثم رفع بصره إلى السماء ،وكأنه نس ي أنه كفيف البصرثم قال
رجاء:
في ٍ
يم }1 يم يال َحك ُ يعا إ َن ُه ُه َو يال َعل ُ
ي َ ً َ َ َُ َ ي َي َ
ِ ِ { عس ى اّلل أن يأ ِتي ِني ِب ِهم ج ِم ِ
-ال يؤملني رحيل إياد وعائشة قدر ما يؤملني ترك دمحم للمدرسة ليوفر لنا
لقمة العيش ،وكأننا أنجبناه ليعيننا نحن على الحياة ،ال لنعينه نحن على
الحياة.
ً
-أخش ى عليه ،مازال صغيرا ،لم يخبرالحياة بعد.
ين َل يو َت َر ُكوا م ين َخ يلفه يم ُذ ّر َي ًة ض َع ًافا َخ ُافوا َع َل ييهمي
ش َالذ َ َيَ ي
ِ ِِ ِ ِ ِ -ال تقلقي " وليخ َ ِ
َف يل َي َت ُقوا َ َ
اّلل "2
للحظات ترى َمن يكون يارب؟ لعله ٍ ألجمتها املفاجأة ..وشل تفكيرها
صديق ذاك البرونو ،أرسله إلي ليتعرف على خبايا نفس ي ..ترى ماذا سيفعالن
بي آلان؟!
ً ً
ترجل لي معتذرا فتركته وذهبت ،مد يده إلي مصافحا فتركتها معلقة في
ً
الهواء وذهبت أيضا ..البد أنه سيعينه علي ،ثم كيف يصادق دكتور "بورنو"
ً ً
شخصا مسلما ؟!
ً
بالتأكيد ليس مسلما ..لقد خدعني ليتجاذب معي أطراف الحديث فقط،
أو ليعلم ما الذي أكنه بداخلي ..فجأة التقت عينها بعينه رأت فيهما الوداعة
ً ً
والهدوء ،كانت نظراته إليها تفيض رقة ًوحنانا ،ظل نظره مثبتا عليها وكأن
ً
القاعة تخلو إال منها ،قطع سيل أفكارها فجأة صوت دكتور برونو قائال:
-دكتور أحمد النشارمن مصر ،صديقي وشريكي في العمل ..أستأذنكم في
ً
بالغ:
تحد ٍ حضوره هذه املحاضرة ..ثم أتبع قائال وهو ينظر إليها في ٍ
رؤيتك ثانية؟ تفضلي باالنصراف. ِ لك ال أريد
-نسيم ،ألم أقل ِ
56
ً
يمكنك تقديم طلب النقل الذي تريدين ،غادري فورا. ِ -باملناسبة
-نظرأحمد إليه في ذهول ،لم يستطع أن يسأله عن السبب ..من املفترض
أنه يملك زمام ألامورهنا ،يمكنه أن يستفسرعن سرهذا التصرف بعد الانتهاء
من املحاضرة .
ً
أما هي فكانت تجر خطواتها جرا ،للمرة الثانية تطرد من القاعة ،وكأنها
معد يجب تجنبه والابتعاد عنه وإال أصابتهم العدوى ..كانت دموعها مرض ٍ
منسابة على خديها ،لكن ألالم هذه املرة أخف وطأ من املرة السابقة ،في املرة
ً
القادمة سيتالش ى إطالقا إن شاء هللا .
ابتسمت في سخرية ،ماذا لو كانت هذه هي املرة ألاخيرة ..ألم يقل لها
طبيب آخر؟ٍ يمكنك املتابعة مع
ِ
-أكثر ما كان يؤملها ذاك الذي منذ دقائق معدودة كانت هي تدير دفة
بأم عينيه طردها الحديث معه ،وكأنها ليست بالفتاة العادية ،لكن بعد أن رأى ِ
من القاعة ،سيتأكد لديه أنها بالفعل ليست بالوجه الذي قابل في الحديقة
وال بالعقل الذي خاطب ..هونت على نفسها بأنه ال يعنيها من ألامر في ش ٍىء لن
تراه ثانية ،لعلها كانت املرة ألاولى وألاخيرة.
اتجهت إلى إدارة الجامعة وقامت باستكمال إجراءات النقل الروتينية،
وبالفعل نجحت هذه املرة تنفست الصعداء الحمدهلل لم تذهب جهودها ً
هباء
زمن!
هذه املرة ،ليته قام بطردها منذ ٍ
ً
سمعت صوت هاتفها يرن ..تلقائيا ارتسمت ابتسامة على شفتيها
ورددت:
-بالتاكيد أروى وإال َمن سيتصل بها؟.
فعلت؟ِ -السالم عليكم ..طمأنيني ماذا
-الحمدهلل ..ألامورعلى ما يرام.
57
معك أكثر مما فعل؟
أخبرك أنه لن يستطيع أن يفعل ِ ِ -ألم
-بل فعل.
-تكلمي بجدية ..أنا ال أمزح!
-وال أنا لقد قام بطردي مرة أخرى.
-وتتكلمين هكذا؟!
ً
-لقد اكتسبت مناعة ،ولم أعد أكترث ملثل هذا ألامر ،لقد بات شيئا
ً
عاديا.
سأريك ما سأفعل به .
ِ َ -من يظن نفسه؟..
ً ً
-كال ،ال تفعلي شيئا ،لقد سمح لي أخيرا بطلب النقل ،وقد أنهيت إجراءته
بالفعل ،لم يعد يعنيني فى ش ٍىء آلان.
-إذن ماذا ستفعلين آلان؟
-ال ش ئ سوى أن أطمئن على صحة أمي ،ومن ثم أغادر إلى املسجد .
ً
معك ..خمس دقائق ونتقابل أمام حجرتها -حسنا انتظريني سأتي إليها ِ
بإذن هللا
59
-ماذا لو أتيتك بعد عدة أشهر ولحيتي في وجهي ..هل تستقبلني حينها؟
ً ً
-نظر إليه مليا عبر نظارته قائال:
-كال سأهابك.
إذن أنت تتعامل مع اللحى وأغطية الرؤوس ،وليس مع ألارواح والعقول.
ً
-أراك متحامال علي.
-ولكني أحبك.
ً
-وأنا أيضا ..فلنبدأ الحديث في أمر العمل.
60
( )5
قلت
إال من ي
ً
-اشتقت إلى سخافاتك كثيرا ..متى ستعود؟
-امممم عام ،عامان ،ربما أكثر.
-ألم تكبر بعد؟
-ال تعجبني نفس ي هكذا.
ً
-حسنا ..أخبرني ما الذي فعلته بشأن العمل؟
ً
-أدهم أيمكنني الحديث معك أوال في ش ٍيء آخر؟
ً
-تكلم طبعا.
-لكنني محرج.
-تكلم أقلقتني.
-أدهم أنا أريد الزواج!
ً
-ضحك ملئ شدقيه ثم هتف قائال:
ً
وم َمن؟ ..وملاذا هذا الوقت تحديدا؟ ملاذا لم
ماذا ..زواج ..وهكذا فجأةِ ..
تحدثني قبل السفر؟
-لم أكن قابلتها بعد.
-تقصد أنك تعرفت عليها في باريس؟!
-نعم.
ً
-لست مطمئنا لهذا ألامر ..أعدمت مصرالفتيات؟
-ولكنها من أصل عربي.
61
-وليكن ..ماذا عن نشأتها ،أهلها ،أفكارها ،عقيدتها؟
ً
-ال أعلم شيئا عن هذا ..أأخبرك بسر؟
-تفضل.
-إنها تشبهك في كل ش ٍيء وكأنها أنت.
ً
-حقا؟!
-نعم.
-لكن ماذا تقصد بكل ش ٍيء؟
ً ً ً
-تشبهك طباعا خلقا وخلقا.
-لهذا أحببتها إذن؟
-ال هذا هو الش يء الوحيد الذي لم استسغه فيها.
-هكذا ..إذن ابحث عن غيري ليساعدك في عرض املوضوع على أبيك.
ً ً
-كنت أمزح فقط..هل ستظل جادا دائما هكذا؟
-أعلم ،على كل حال أنت ذهبت من أجل العمل وليس الزواج ..عندما
تعود إلى مصر حينها نتفق ما الذي ينبغي فعله؟ أخش ى فقدانها؟
ُ
-إذن حاول أن تعلمها بنيتك ،ولنرى موقفها حينها.
-هللا املستعان ..هذا ما كنت أنوي فعله.
62
حالك؟
ِ نتظرك منذ عدة أيام ،كيف ِ -ا
-بخير.
لك بالنيابة عن صديقي. -أعتذر ِ
ال داعي لالعتذار.
خاص ،هل يمكنني ذلك؟أمر ٍ معك في ٍ -أريد أن أتحدث ِ
-تفضل.
يوم من ألايام؟ أيمكنك مغادرة فرنسا في ٍ ِ -
-من أجل ماذا سأغادر؟!
زواجك.
ِ -من أجل
ً
-زواجي ..أنا ال أفهم شيئا!
لك؟كزوج ِ
ٍ رأيك بي
وضوح ،ما ٍِ -بكل
ردت مندهشة:
-زوج لي ،أمي مريضة وفي أشد حاالت املرض آلان ..وال يمكنني الحديث في
هذا ألامر وهي على حالتها تلك.
-أيمكنني زيارتها؟
-أمي فاقدة للوعي منذ أشهر ،ولوال أنني طبيبة ما استطعت زيارتها أنا.
-شفاها هللا ،أيمكنني أن أعلم إلي أي بلد تنتمين؟
تنهدت بعمق ثم قالت:
-عندما أعلم أنا!
-أتمزحين؟!
-كال ..أتحدث بكل جدية ..أيمكنني الانصراف؟
معك بشفافية ،هل لي بذلك؟ -ال ..أريد أن أتحدث ِ
-نعم.
63
بك ..ألم تشعري ِ
أنت بهذا؟ رأيتك وأنا أشعربأشياء كثيرة تربطني ِ -منذ أن ِ
-بلى شعرت ..لكنها بالتأكيد روابط الدين والعروبة.
ً
رأيك إذا حاولت جاهدا أن أجعلها رابطة من ميثاق أغلظ. -ما ِ
-لم تستطع أن تخفي ابتسامتها هذه املرة قائلة:
-دع املقادير تجري كما كتبها هللا.
-ولكني سأغادر لم يتبق من أعمالي هنا سوي القليل.
-فليوفقك هللا.
-لم تجيبيني بعد.
-ولن أجيب.
فضلك.
ِ -أريحيني من
-يمكنني الانتظار ما لم يداهمني املوت.
-أفهم من هذا أنك ستنتظرين عودتي؟
-ابتسمت في هدوء:
-نعم.
-عديني بذلك.
-أعدك.
ً ً
أصافحك فيه حالالً.
ِ -سأعود سريعا من أجل هذا اليوم الذي
محاولة منه لجعلها تسترسل
ٍ حياء دون أن تتكلم ..وفيخفضت بصرها في ٍ
ً
معه في الحديث بادرها قائال:
نشأتك عربية صرفة ..فتيات فرنسا ال يخفضن أبصارهن ِ -أشعر وكأن
علمك هذا؟ِ عندما يخجلن ..بل ال يخجلن من ألاساسَ ،من
أمي فعلت.
ً
أرسل لها تحياتي ،ودعواتي أيضا. ِ -
64
-فليقبل هللا منك.
أخبرك أنني أوصيت
ِ يمكنك الانصراف آلان ،لكن قبل ذلك أود أن ِ -
عليك.
ِ صديقي
-وددت أال تفعل ،فأنا ال أثق به قيد أنملة.
يمكنك املغادرة آلان ثم همس في نفسه "إال من قلبي"
ِ -لكنني أثق به..
ً
-حمدا هلل على سالمتك ..اشتقت إليك جدا.
-هذا اعتراف واضح وصريح أنك ال تستطيع العيش بدوني ..حفظني هللا
وأطال عمري.
-آمين يا رب ..أطال هللا عمرك حتى أحمل أنا أبناء أبناءك.
يا أهلل أيمكن أن نصل إلى هذه املرحلة؟!
َ
لم ال إن هللا علي كل ش ٍيء قدير.
-أشعر وكأن الفترة املقبلة لن تكون في صالحي.
-ملا كل هذا هذا التشاؤم؟!
-ال أعلم ..لكنن ي أصبحت أخش ى الحياة أكثر من ذي قبل ..أال تخشاها
أنت؟
ال ..بل تعلقت بها أكثر.
-أتمزح؟!
-كال ..ال يجب أن أغادرها قبل أن أنجز بعض ألامور.
-أيمكن أن أعلمها؟
-بالطبع سأخبرك إياها ..حتى إذا مت تكملها أنت.
65
ً َ -
لم تذكر املوت هكذا وكأنك مالقيه حتما؟
ً
-أعندك شك في أنني سأالقيه حتما؟
ً
ثم قال مردفا:
ً
كلنا مالقوه ،كلنا مالقوه ..سأغادر لترتاح آلان ،ولنكمل حديثنا غدا.
ً
-أخبرني أوال ،ماذا قلت ألبي.
-لم أكلمه بعد ..لكن اطمئن هو يتمنى ذلك.
-رحل؟
-نعم.
-قالت أروى في ابتسامة خبيثة:
-إذن هذا هو السبب وراء كل هذا الحزن.
-أي حز ٍن؟!
-هذا الحزن الذي يبدو ِ
عليك.
-حزن يبدو علي ..أنا لم أدرجه ضمن أحالمي بعد ،وال يهمني أمره في ٍ
قليل
كثير.
أو ٍ
ولم كل هذا؟ َ -
ً
-لعله أشفق علي ،فكان هذا دافعا ملا قال.
نفسك أوعلي أنا ،للمرأة
ِ يك ..تضحكين على -بل أنا التي أشفق عل ِ
قلبك بشأنه؟
يحدثك ِ
ِ إحساس ال تخطئه ..ألم
خجل وأجابت:
ضحكت نسيم في ٍ
-بلى حدثني.
لك؟ ..اعترفي.
-وبماذا أقر ِ
66
-أقر بإحساس ي أنا ،لم يحدثني بشأنه ..أنا زهيدة العالقات ،قليلة الثقة
في آلاخرين ،ترهبني التجمعات حتى املناسبات منها ..لذلك لم أحكم عليه
بش ٍيء ،بل حتى ال أستطيع.
إحساسك أنتي.
ِ -إذن ماذا عن
قذفتها بإحدى الوسائد قائلة-:
أعهدك بهذا التطفل من قبل. ِ -أروى ما هذا التدخل؟ ..لم
ولك ..أفي هذا ٌ
عيب؟! بك ِ -أريد ان أفرح ِ
-أيمكن أن أفرح وأمي مريضة؟!
ً ُ
وخلق
ٍ دين
تأخيرك للفرح لن يغير من ألامر شيئا ..إذا وجدتيه مؤمنا ذا ٍ ِ -
سيعيينك على أمور الدنيا ونوائب الدهر. ِ فتوكلي على هللا،
-وماذا لو خدعت.
ً
-دعي هذا ألامرلي ..لدي فراسة يصدق حدثها دائما ،خاصة في هذا ألامر.
-صحيح ماذا قررتي بشأن ذاك ألادهم؟
ً
-لم أقرر شيئا ..لعله تزوج.
-ملاذا آثرتي التخفي عنه؟
ُ
-ألنني ال أحقق من أحالمي شيئا ..أنا عاجزة عن كل ش ٍيء إال الحلم.
بعمق ثم أردفت:
تنهدت ٍ
ً
-في موطني تحقيق ألاحالم حكرا على ألاغنياء فقط.
-ألم تكوني منهم؟!
-بلى منهم لكنني ال أشبههم ..أنا ال أحلم إال بأحالم البسطاء ،الفقراء،
الطيبين الذين سحق وا تحت عجلة الزمن ..أحلم بالعدالة واملساواة وإعطاء
كل ذي حق حقه.
هذه أساسيات املجتمع ،ملا تتحدثين عنها وكأنها أحالم؟
67
-ألنها بالفعل مجرد أحالم.
-أهذه هي البلد التي سأنتمي إليها إن تزوجته ،إنني أخشاها.
قدماك تراب هذا
ِ -البلد ال عالقة لها بحكامها وال ظامليها ..بمجرد أن تطأ
أوصالك،
ِ البلد ستشعرين أنك تذوبين فيها ،وكأن عدوى الحب سرت في
أهلك ..مصررائعة فقط شوه موطنك وكأن جميع شعبها هم كل ِ ِ تشعرين وكأنها
ً
طهرها بعض الطغاة ،لكن التاريخ ال يرحم أحدا.
ً
-تعتقدين أن عصور الظالم هذه ستندثر يوما ما.
-أسال هللا ذلك.
ً
-تأخر الوقت أزعجتيني جدا.
جئت إلي.
لك من غادرة ،أنتي التي ِ يا ِ
وحدتك؟.
ِ -أتنكرين أنني آنست
عودتك.
ِ -كال ،ال أنكر ،بل أخش ى يوم
ُ ً
-سنعود سويا بإذن هللا ..تعودين عروسا وأعود أنا حاملة للدكتوراة..
سلي هللا لنا ذلك.
-اللهم ذلك.
أسندت رأسها إلى الوراء ،ال زالت تذكر تفاصيل هذا اللقاء وكأنه حدث
ُ
ليلة البارحة ...بالفعل تقبل هللا دعاءهما وكأن أبواب السماء قد فتحت
ً
خصيصا لهما ..عادت أروى حاملة للشهادة التي سافرت من أجلها ،لكن
عائشة لم تحرر بعد ..وعادت هي عروس ورغم مرور ثالثة أعوام على خطبتها
من أحمد لكنها لم تزف إليه بعد.
68
ً ً ً
زفافها سيكون الليلة حزينا هادئا وكأنه سرادق عزاء ..كان رحيله مؤملا
ً
لم تعش معه كثيرا ،لكنها بكل صدق أحبته من كل قلبها وكأنها تعرفه منذ أن
ً
ولدت ..منذ أن رأته في باريس ألول مرة كان آتيا كي يخطبها ألحمد ..شعرت
برعشة باردة تسري في أوصالها ،وقتها لم تكن تدري ما السبب ،لكنها أقنعت
نفسها أنها رهبة املوقف ورجفة أول لقاء.
ً
ال زالت تذكر كل مواقفها معه ،كانت قليلة لكنها حتما كانت من أسعد
لحظات حياتها ..ال زالت تذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه غرفة املكتبة وكانت
رف أعلى منها بكثير ..كانت منهمكة هي هناك ..كانت تحاول أن تصل إلى ٍ
كتاب في ٍ
ً
في محاولة الوصول إليه ..لم تشعر به وهو يقف وراءها ثم فجاءة أبصرته رجال
ً
طويال مأل الغرفة بضحكاته قبل أن يأتيها بالكتاب الذي تريد.
لكنها بكل بساطة وتلقائية وضعت يدها على شعرها في محاولة منها
ً
واحد قائال:
ٍ إلخفائه ..ظهرت على وجهه عالمات الاندهاش والاستياء في ٍآن
أخوك ..ألم تعلمي أن إزالة غطاء الشعر أمام ألاخ ِ -ماذا تفعلين ..إنني أنا
مباح؟!ّ
ً
تشتت ..وعلى حين غرة حملها بين يديه متجها إلى الحديقة ٍ تلعثمت في
ً
بأقص ى سرعته تسبقه ضحكاته وضحكاتها أيضا وضعها أمام النافورة ثم
أغرقها باملاء وفي حركة طفولية منها هي ألاخرى ،وجدت نفسها تفعل به مثلما
ً
فعل بها وأغرقته أيضا باملاء.
ً
انحدرت دمعة على خدها ،مسحتها في مرارة ..لو كان حاضرا آلان لتحول
مرح ..قبل موته أوصاها أن تصبر وتحتمل وأال تسمح هذا الجو الكئيب إلى ٍ
ً
للحزن أن يأكل قلبها ..لم تنفذ شيئا من وصيته ..افتقدته بكل قوة وكأنه ٌ
جزء
منها ،ماذا لو عاشت معه أكثر؟
-آنسة نسيم ،دكتورة أروى تستأذن في الدخول.
69
-دعيها تتفضل.
زفافك بعد؟!
ِ -ما هذا ألم تلبس ي فستان
-أهناك ضرورة لذلك؟
إنك عروس!!
ِ -
-لكني سأزف من هذا البيت وإليه.
ً
-دعي الفرحة تطرق أبوابه ،خيم عليه الحزن طويال يكفي على والدك ما
هو فيه.
-أمي وهو أليس هذا بكثير ّ
علي؟
مرارة قائلة:
ٍ ازدردت ريقها في
-هذه سنة الحياة برغم كل آالمها ،إال أنها تستمر ..لو يعلم املوت ما يفعله
الفراق بقلوبنا ألشفق علينا ،ثم أجهشت بالبكاء.
71
-لم يكن هذا رأيك قبل ساعة واحدة ما الذي حدث ..ألم تخبرني أنك
موافق؟.
ً
أدهم أرضيني يا بني ،ضاق صدري ذرعا بسر لم أعد احتمله ،أشعر وكأن
ً ً
نهايتي قريبة وال أريد من الدنيا شيئا سوى أن أحمل أبناءك بين يدي ،ثم مرحبا
باملوت.
ً
-ما هذا السر الذي يجعلك ال تريد من الدنيا شيئا سوى أن ترى أبنائي؟
-لن تحتمل يا بني ،لكن إن مت قبل زواجك ورزقك هللا بفتاة ..عدني أن
ً ً
تكرمها إكراما ألبيك ،وعدني أيضا أن تبلغها تحيات جدها ،وأنه كان يتمنى أن
يحملها بين يديه ،لكن أبوها أبى.
-أطال هللا عمرك يا أبي ..أعدك إن شاء هللا ،لكن أحمد في عجلة من
أمره ،ومن الخير أن نجيبه فيما طلب.
ُ
-أنا موافق لكني أشعر أن في ألامر خطبا ما ..ماذا لو كانت هذه الفتاة
لقيطة أو طامعة في مركز وثروة أحمد؟
-فرنسية وتطمع في مركز أو ثروة ..هذا ال يحدث إال هنا فقط ..أما
الفرنسيات فلديهن الحرية الكاملة ليفعلن ما يردن ،والنساء هناك يحققن
ثروة أكثر من الرجال.
ً
بلد آخر فتصبح واحد ،وفي ٍٍ أسبوع
ٍ -أنا لست مرتاحا لهذا ألامر ..رآها في
وليلة ،ما هكذا تؤخذ ألامور يابني. يوم ٍ خطيبته بين ٍ
ّ
-فلنرها أوال ،من املمكن أن تغير رأيك ،أو يغير هو رأيه.
ً
-ألاسبوع القادم إذن ..أريد أن أنتهي من هذا ألامرعاجال.
72
-أدهم في ماذا كان يحادثك والدك؟
-ال ش ئ اطمئن.
-لن أطمئن ،أنا لم أعد أفهم ما الذي يحدث في هذا البيت.
ً
رفع حاجبيه متسائال:
-ما الذي يحدث؟
-ألم يخبرك جاسر بأمر املظروف املغلق؟
-جاسر ..و مظروف مغلق!!
-ما املشكلة في هذا ..جاسر هو محامي أبيك الخاص ،ومن الطبيعي أن
يستودع أبوك لديه وثائق خاصة.
ما قولك إذا أخبرتك أن أباك أمر أال يفتح هذا املظروف إال بعد وفاته
وقبل توزيع التركة؟
ً ً
فغر فاه مندهشا ثم أردف قائال في تساؤ ٍل:
-من املحتمل أن يحمل هذا املظروف وصية أو ما شابه ثم تمتم وكأنه
يحدث نفسه:
-هل هذا املظروف له عالقة بالسر الذي طاملا حدثني عنه.
-أدهم أنا أحادثك في ماذا تفكر؟
ً
-ال ش َيء لم أعد أفهم شيئا أنا آلاخر ..سيسافر ثالثتنا إلى باريس ألاسبوع
القادم ..استعد.
73
والدتك تبدو جميلة حتى وهي في غيبوبتها ،أشعر وكأن ِ أأخبرك بش ٍيء.. ِ -
ً
رونق الحياة نابضا في وجهها.
رأتك.
منك ..كم أتمنى لو ِ -سمع هللا ِ
ُ
-هل كان هذا سيغير من ألامر شيئا؟
-على ألاقل كنت سأشعر أننا عائلة.
اتسعت ضحكتها مرددة:
-عائلة ..هكذا إذن ..تريدين مني أن أخطبها لوالدي ،سيئة أنتي.
استخفاف:
ٍ -أنا لم أقل هذا ..قاطعتها في
أمك بخير لعرضت عليها أنا هذا، قلت ما املشكلة؟ لو كانت ِ -حتى لو ِ
وهكذا يصبح لي أم أخرى وأخت ،ما ِ
رأيك في....؟
ً
هدوء:
ٍ -وقبل أن تكمل بادرهم صوت رجالي ملقيا التحية في
ً
نظر إلى أروى متسائال:
قريبتك؟
ِ -
-ال بل زميلتي.
ً ً
-أهال وسهال ،أنا دكتور إياد.
ردت أروى:
-أهال بك.
-مصرية ..أليس كذلك؟
-بلى.
رأيتك من قبل. ِ -أشعروكأنني
-وأنا كذلك.
-في أي مكان تقطنين بمصر؟
-القاهرة.
74
-ال أنا استقر باإلسكندرية ..قد يكون مجرد تشابه ،فرصة سعيدة
ً
يمكنكما أن تعتبراني ألاخ ألاكبر لكما هنا ،ثم تحول ناحية نسيم قائال:
-إذا أردت أن نعرض الوالدة على استشاري آخر أو طبيب من مركز
أساعدك ،فأنا على عالقة طيبة بمدير املشفى.
ِ البحوث فأنا مستعد ألن
تمتمت ببعض الكلمات شاكرة إياه.
ً
تفحص ،وكأنه يتأكد بأنه فعال ال يعرفها ..ألقى
ٍ نظر إلى أروى ثانية في
التحية ثم انصرف.
75
( )6
وع ـ ـ ــد
-برونو أين نسيم؟
ً
تساءل مقهقا:
-لهذا عدت ثانية ..صدقني كنت أعلم أن هذا هو سبب عودتك؟
-وما املشكلة في أن أعود من أجلها.
-تعود من أجل فتاة ..أين رجولتك يارجل؟
-رجولتي تكمن في العودة من أجلها ألم أعدها أنا بذلك؟
-وما الذي يميزها عن فتيات بلدك؟
-ال ش يء ،هي املشاعر فقط.
-أتؤمن بهذه السخافات؟!
-أؤمن بها وأقدسها ..هذه السخافات كما تقول هى سر الوجود وسر
الاستمرار.
ً
استهتار قائال:
ٍ -وماذا لو انتهى هذا الوجود؟ ثم رفع كتفيه في
-ألامر بسيط.
ً
-ال ليس بسيطا ،إذا انتهى هذا الوجود فسيبدأ الوجود ألابدي ..الوجود
آلاخر.
-وما هو؟
-بالنسبة لك تالئمك جهنم.
-أهذا هو دينكم يعد غير املسلمين بجهنم ..أهذه هي الرحمة وإلانسانية
وعدم العنصرية؟!
76
-الرحمة وإلانسانية وعدم العنصرية اسأل عنها نفسك ملاذا عاديت
إحداهن ملجرد أنها ليست من ديانتك؟ ملاذا آذيتها وطردتها وأهنتها أكثرمن مرة؟
-وهل إلاله الحق يعاملنا كما نعامل نحن بعضنا البعض؟
-إلاله الحق وعد الطيبين املحسنين املسلمين بالجنة ،وأعد للسيئين
العاصين النار حتى لو كانوا مسلمين.
-أهذا يليق باإلله الحق ..إذن فأين املغفرة؟
-تسأل عن املغفرة ألنك لم تجرب طعم الظلم ..لو غفر هللا لكل السيئين
ً
في هذه الحياة ألن يكون هذا ظلما للطيبين الذين ظلموا؟ ..أهذا هو العدل
من وجهة نظرك؟
ً
-ثم أردف متابعا:
أناس لم يأخذ القانون
ٍ َ -من سيأخذ للمظلومين حقوقهم ،فكم من
حقهم؟
-تقول أن جهنم أعدت للسيئين من املسلمين.
-أجل.
َ
-ملن؟
-للظالم والقاتل والسارق والزاني والذين يأكلون أموال الناس بالباطل،
ً
ويأكلون أموال اليتامى ظلما ،للذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا،
للمتكبرين ،والكاذبين ،للذين ال يوفون بالعهود.
َ
-وأعدت الجنة ملن؟
-أعدت الجنة للصالحين الذين يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر،
ويقيمون الصالة ،ويؤتون الزكاة ،والصابرين في البأساء والضراء ،الثابتين على
الحق ،والرحماء.
يأت دينكم بغير هذا لكفى . -وهللا لو لم ِ
77
-أهنئك على إسالمك إذن
-ال ما هكذا تؤخذ ألامور ..لكنني مندهش.
َ -
مم؟
تدعني إلى إلاسالم من قبل.-ملاذا لم ُ
-لكنني أدعو هللا لك بالهداية كل ليلة.
لم لم تخبرني إذن؟ -لي أناَ ..
-ألنني ال أثق بك ،لكني أثق باهلل.
-أيمكن للمسلم أن يحب غير املسلم؟
-نعم ،وإال ملا دعوت هللا أن يجمعني بك في جنته.
-وماذا عن الوالء والبراء في دينكم ؟
-أكره فيك معصيتك ،أكره كفرك باهلل ،أبغض تعصبك وتشددك
وعنصريتك ..لكن إذا أصابك مكروه ساعدتك ،وإذا وعدتك فحرام علي أن
أخلف وعدي ،وإذا أمنتك فحرام علي أن أخذلك ،وإذا جاورتك فعلي حسن
الجوار ،وال أعاديك إال إذا عاديتني.
-أعلم أن دينكم جاء بكل هذا ..لكن أين هذا من أخالقكم؟ ..أنتم ال
ً
تتعاملون بهذا بين بعضكم البعض ،فضال عن معامالتنا نحن.
-لكن النبي فعل.
-حدثني ماذا فعل.
ٌ -أيكفيك ٌ
مثال واحد؟
-أريد الكثير.
ً
-سأهديك كتابا لكن عدني أن تقرأه.
-أعدك.
-وأال تنكر الحق إذا علمته .
78
-أعدك بذلك.
-لم تخبرني أين هي بعد؟.
-ال أعلم فهي ليست إحدى طالباتي ،لكني سأرسل في معرفة مواعيدها
من أجلك ..لكن متى ستهديني الكتاب؟
-قبل أن أعود إلي القاهرة إن شاء هللا.
يراك.
-أبي يريد أن ِ
-ال أفهم !
ً
معك أوال ..يعني هو يريد أن يطمئن إلى من ستكون -يريد أن يتحدث ِ
زوجة ابنه.
-زوجة ابنه ..أنا أكره أن أكون محط أنظار آلاخرين ،وأال يكفيه أنك
مطمئن؟
-هذه هي العادة في البلدان العربية ،أن يرى أهل الخاطب املخطوبة.
-وهل في بلدانكم ألاب هو الذي يرى خطيبة ابنه؟!
ً
-فهم ما ترمي إليه فأجاب قائال:
-أمي متوفاه منذ زمن.
-رحمها هللا.
ً
-آمين ،أبي وأخي سيأتيان بعد يومين ،وستكون جلسة طبيعية جدا في
ً
املكان الذي تريدين ..ال تقلقي أبي رجل طيب جدا وكذلك أخي.
79
لك؟
-هل هذا كل ما قاله ِ
-نعم ..لكن أخبريني هل هذا الوضع السائد في بالدكم ،أنا أخش ى التعرف
على الغرباء وال أستسيغ جلوس ي مع أبيه وأخيه ألوضع تحت امليكروسكوب.
ً
خاطئ دائما ..علم أخوه وأبوه بأمرٍ أنت تنظرين إلى ألامور بمنظارِ -
ً
أجلك يوحي أنه من عائلة مهذبةِ خطبته ،وحضورهما إلى هنا خصيصا من
محترمة ،جاء ألاب كي يطمئن على اختيار ابنه ويباركه ..أو يلغيه إن رآه غير
مناسب.
ٍ
أنك رأيتيه ،أنا في حيرة من أمري ،ال أعلم ما الذي ينبغي فعله،-وددت لو ِ
ً
جرت ألامور سريعا دون أن أعد العدة لكل هذا التطور.
حديثك عنه شعرت أنه إنسان جديربالثقة ،ويستحق الحب ..نسيم ِ -من
لك،
رجل تواجهين الحياة معه ،هذه فرصة منحتها الحياة ِ أنت بحاجة إلي ٍ
ِ
عمرك.
ِ ندمت طول
ِ وقلما منحتنا الحياة فرص ،تشبثي بها وإال
-ستكونين معي أليس كذلك؟
حنان قائلة:
-ضمتها في ٍ
أتركك في يوم مثل هذا يا حبيبتى ..ثم إنني أنتمي إلى نفس البلد ،وهذا
ِ -لن
كل منهم.بدوره سيساعدنى فى فهم شخصية ٍ
ً
-يا سيادة اللواء الفتاة لم تفعل شيئا ،هي فقط مرت بجانب املظاهرة.
ً ُ َ -
ومن أدراك؟ ألم نجد في حقيبتها أوراقا وكتبا تدل على انحراف فكرها؟
-أتعتبرورقة بفرضية الحجاب ،وكتاب أذكارومصحف ،انحراف في الفكر
يستوجب الاعتقال؟ّ!
80
-في ماذا تجادل ألم يقبض عليها مع املخربين؟
لم تكن منهم ،فقط مرت بجانبهم.
البالد تمر بمرحل ة استثنائية حرجة تستوجب الضرب على يد كل من
ساعد في خرابها ،ولو بالش يء اليسير.
ً
-لكنها لم تفعل شيئا من ذلك وأنت تعلم ،الفتاه فقيرة ،ومن أسرة عادية
ال مصدر رزق لها وال عائل ،لم يكن يعنيها خراب البلد أو إصالحها في ش ٍيء،
فقط يعنيهم رغيف خبز يسد رمقهم ودواء لألم املريضة.
-يا سيادة الوزير كارثة أن يخرج هذا الكالم منك ،ولو علم به أحد
فسيشيع عنك أنك منقلب على جهاز ألامن في الدولة.
ً
-أتسمي نصرة املظلوم انقالبا على جهاز ألامن؟
-أجل ..أنت تعلم أن الحسنة تخص والسيئة تعم ،وهي لو كانت مظلومة
وال شأن لها باملخربين البتعدت عن مسيرتهم.
ً
استخفاف:
ٍ قال مرددا خلفه في
-الحسنة تخص والسيئة تعم ..هذا الكالم تقوله في الطابور الصباحي
ملدرسة ابتدائية ،أو في خطاب تافه في أحد النجوع التي لم يعرف إليها التعليم
سبيله بعد ..أما في مكتب رئيس أمن الدولة فمن العته أن تقول هذا الكالم.
-عته!
لن أسمح لك بالتجاوز أكثر من ذلك ،ولكني سأحترم عالقة صداقة
ً ً
قديمة ،ألجلها فقط لن أخبرأحدا بأمر هذه الزيارة حفاظا على منصبك.
-بل افعل أقص ى ما يمكنك فعله ..حفاظي على منصبي إن كان سيقتض ي
ً ً ً
أن أصفق للظالم وأنحني له راكعا رافعا القبعة لظلمه ،ناكرا الحق وأنا أعلمه،
فال أريده حينها فليذهب املنصب إلى الجحيم.
81
ً
-ملاذا هذه الحالة تحديدا تثير تبجيلك للعدل ،ونبذك للظلم وأنت تعلم
أن مثلها الكثير.
-ألن هذه هي الحالة الوحيدة التي أتيقن تمام اليقين من براءتها.
تتيقن تمام اليقين من براءتها ..أم ألنها زميلة ابنتك؟
ً
دهشة قائال:
ٍ نظر إليه في
-تعلم كل هذا؟!
-بل أكثر من هذا.
-هنا في أمن الدولة لدينا ملف البنتك ..بل أنت آلاخر سيصبح لك ملف
بعد هذا اللقاء ،وجريمة التعاطف مع إرهابية.
نظرإليه في استحقارودون أن يستأذن خرج من املكتب وصفق بابه وراءه
عنف.
في ٍ
ً
واضحة محدثا نفسه:ٍ عصبية
ٍ بمجرد خروجه قال رئيس أمن الدولة في
ً
-هذا الرجل أصبح خطرا على الدولة ككل ،لو قال كالمه هذا على املأل
بالغة ،ثم
ٍ سرعة
ٍ النضم إليه جل أبناء الشعب ..البد من التخلص منه في
ظفر ،وأطل منهما بريق الغدر. التمعت عيناه في ٍ
لك الاعتراف ،وهذا من شأنه أن أحادثك بشكل ودي من ألافضل ِ ِ -أنا
أنت
يفيدك في ش ٍيء ِ
ِ عقوبتك ،أما إذا صممت على إلانكار فهذا لن
ِ يخفف من
ً
عليك في مسيرة تخريبية دون أن تقيمي وزنا لقانون الطوارئ أو
ِ مذنبة ،وقبض
َ
ومن الذي يمول جماعاتكم؟ِ ،
ومن الذي وضوح من الذي ورائكم؟ِ ، ٍ غيره ..بكل
ً
أمركم بالخروج في هذه املسيرة وهذه الساعة تحديدا؟
ً
لم يتلق جوابا سوى الصمت .
82
يفيدك في ش يء.
ِ -هل ستظلين صامتة هكذا ..الصمت لن
-تحملوا صمتي عدة أشهر قادمة ،ألم أتحمل أنا صمتكم عدة أشهر
فائتة؟ىأتعلم أن هذا التحقيق من املفترض أن يكون منذ أن قبض علي؟
منك
معك ..أنا هنا ألنتزع ِ
لك سبب تأخرنا في التحقيق ِ -لست هنا ألبرر ِ
ما أريد معرفته.
-وهل الاعترافات تنتزع؟!
أنت مكاني وتحقيقين معي؟ رأيك أن تجلس ي ِ -ما ِ
-ال ليس آلان.
_ماذا تقصدين؟!
ً
_يوما ما سأجلس أنا ألحقق معك ،إن لم يكن في الدنيا ففي ألاخرة ،حينها
لن أرحمك.
ً
ضحك في استخفاف قائال:
-أنا أمارس عملي ،أوليس الاجتهاد في العمل عبادة؟
ً
-وهل تعد ظلم الناس اجتهادا أوعبادة.
كونك ظاملة أو مظلومة فهذا ال شأن لي به، ِ -انا مأمور بفعل هذا ..أما
اعترافك.
ِ وكل ما أريده هو
-أال تخش ى هللا؟!
ً
أخبرتك أنني مأمور لست ظاملا . ِ -أخشاه ..ولكنني
-وهللا لوالك ملا ُوجد الظالم.
لكونك امرأة.
ِ معك بالرفق -حتى آلان ،وأنا أتعامل ِ
-إذن فلتحادثني امرأة المرأة .
نظرإليها في غضب ..ثم نظرإلى الرجل الجالس وراءها نظرة ذات مغزى ،ثم أتبعها
ً
قائال:
83
-حتى تتأدب.
ثوان حتى امتألت الغرفة بصراخها .
لم تمض بضع ٍ
أزوجك ألخيه؟
ِ رأيك أن
-ما ِ
قالت ضاحكة:
-دكتورة وخاطبة في نفس الوقت ..خليط عجيب.
-ولكنه جميل أليس كذلك؟
ً
-نظرت إليها شذرا ولم تجب.
رأيك.
نظرتك هذه ..أنا أتكلم بجدية ما ِ ِ -كفي عن
-رأيي في ماذا؟
أزوجك ألخيه. ِ -في أن
أمك لوالدي ،واليوم
-ماشاءهللا خاطبة بدرجة امتياز ..باألمس تخطبين ِ
ً
لرجل لم تريه بعد ..ياترى َمن الذي ستزوجينه غدا؟ تخطبيني ٍ
لم تستطع أن تكتم ضحكاتها فقالت مقهقة:
-ألهذه الدرجة؟!
ً ً
ألنك ستصبحين عروسا -تبدين سعيدة جدا ..ترى ما السبب؟ هل ِ
ً
قريبا؟
بعنوستك منذ الغد.
ِ وسأعيرك
ِ -أجل..
-هكذا إذن؟
هزت رأسها مجيبة:
-نعم.
84
لكنت آلان في
ِ عريس تقدم لخطبتي ٍ -ابتعدي يا شاطرة ،فلو تزوجت أول
عمر أبنائي.
عال قائلة:
بصوت ٍ ٍ ضحكت
منعك من الزواج؟ِ -وما الذي
-أنتظر شخص بعينه.
هربت منه عندما وجدتيه؟ ِ -ذاك الذي
أشاحت بوجهها قائلة:
-ال أريد أن أجده أنا ..أريد أن يجدني هو ..ال أريد أن أملع أنا كي ألفت
انتباهه ،أريد أن يراني في أقص ى حاالت عتمتي ويحبني ..أريد أن يراني في قمة
ً
يأس ي ويؤمن بي ..أريد أن يراني في أشد حاالتي ذبوال ويقسم برونقي ..أريد أن
ً
يراني في أكثر أوقاتي جزعا ،لكنه متيقن من قوة صبري وتحملي.
-في الحياة البد من بعض التنازالت.
-هناك تنازالت يمكنها أن تجعل من اللوحة باهتة ،مثيرة للشفقة وكأنها
لم تكتمل ..وهناك تنازالت ال تؤثرعلى جودة اللوحة في ش ٍيء ،فقط بعض
أنت مستعدة؟دعك مني هل ِ الرتوش التي لن ينتبه لعدم وجودها أحدِ ..
-نعم ..لكنني أشعر بوخز في صدري ..أشعر بقلبي يؤملني.
أمك؟
-من أجل ِ
-نعم ..هل هذا هو حقها علي ..أضاعت عمرها في تربيتي ..وقضت زهرة
شبابها معي ...وعندما من هللا علي بفرح استأثرت به دونها ،أوليست هذه
أنانية؟
والدتك في أشد
ِ لكنك تعلمين أن حالة ِ لك ألامور..
-ال أريد أن أعقد ِ
ً
املراحل صعوبة ،عدة أشهر وهي في غيبوبتها تلك ،فضال عن تصريح الطبيب
ً
املختص بأن حالتها حرجة جدا.
85
-ال أستطيع أن أرى سنواتي املقبلة بدونها.
هزت رأسها قائلة في أس ًى:
ً
أمر ..وتذلل كل صعب!
-ستعلمين غدا أن العادة تسهل لنا كل ٍ
87
ً
أطلق من صدره زفرة حارة ..لقد غيرته السنون حتى جعلت منه شخصا
ً
على اللقاء وليس هناك أكثر لذة وأجمل وقعا في نفسه يناجي الجماد ،ويتلهف ٍ
من أن يسبح معها في عالم ذكرياته ..تلك الذكريات التي لم تتعد بضع ساعات.
استقل سيارته مرة أخرى ورأسه يصطخب باألفكار ..هاهو أحمد يوشك
ً
أن يخطب ويتزوج ..وهاهو قارب على الثالثين من عمره ،وال يزال واقفا في مكانه
يستجدي القدراللقاء ،ويطلب من الحياة أن تجود بها عليه مرة واحدة فقط،
وهو سيتكفل بالباقي ..أجهده التفكير حتى أضحى مشتت الفكر ،منهك الروح،
ولم يعد يع ي ما حوله حتى ذاك الطفل لم ينتبه لندائه.
طفل يحمل بين يديه كومة من علب املناديل في أحد إشارات الطريق.
وقرب مقر الشركة ..انتهت مدة الانتظار ،وانطلقت السيارة في طريقها
ً
سريعا ..أما الطفل فما كان منه إال أن نزلت دمعة ساخنة على وجنتيه،
وتوقفت عند زاوية فمه ..ابتلعها في مرارة وكأنه يزدرد خيبته معها ،أو لعله
ً
يخش ى حدوث العجز ،ومداهمة الفقرإن هو استخدم منديال من مناديله التي
يبعها ،ولسان حاله
يقول:
"بائع الزهور أبعد ما يكون من السعادة ..وطبيب ألاطفال عقيم ..وبائع
العطر مصاب دائما بالزكام"
تمتم الصغير ودموعه تسبقه:
-هاهو أخو أروى تخلى عنا هو آلاخر ..كانت عيناه مثبتة علي ،لكنه لم
يجب على ندائي ،وتوسلي له كي يفتح زجاج سيارته.
88
-أبوك رجل حاد صارم هل سيوافق بزيجة كهذه؟!
َ -
لم ال؟
-إنني جد مندهش ..من خالل تعاملي معه تأكدت أنه رجل يزن ألامور
بميزان دقيق.
-ما املشكلة نحن في القرن الحادي والعشرين؟
-أعلم لكن طبيعة نشأتكم الشرقية ،أعتقد أنها ال تفضل ذلك.
-طبيعتنا الشرقية ..مالك أنت بها ..أولست ال تقر العادات الشرقية في
ش ٍيء؟
-ال إنها ال تخصني لكنها ميراثك أنت ..مبادئك وتقاليدك.
ً
-كفاك تشدقا بهذا الهراء أيها العنصري ،ما الذي تريد قوله ؟
-أصدقك القول؟
-أجل.
-إنني ال أحبها.
فهم!
تسأل في عدم ٍ
َ -من تقصد؟!
-نسيم ..وهل هناك غيرها؟.
ً
قال ضاحكا:
ً
-وأنا ال أريد شيئا غير هذا.
دهشة:
ٍ أجابه في
ً
-حقا ..أهذا ال يثير حفيظتك ضدي؟
ً
-مطلقا ..إنها تخصني دون كل رجال ألارض ،ماذا يضير إن كرهها
أحدهم؟!
-أوليس الامتالك وحب الاستبداد بشخصها تخلف؟!
89
-نعم ،بل أرقى درجات الرقي ..إنها زوجتي أو ستصبح كذلك ،ال يهمها
ً ً
أصدقائي في ش ٍيء مهما كان صغيرا أو كبيرا ..هي مسئوليتي ..بضعة من قلبي
وقطعة من روحي ..حبك لها أو كرهك ش يء عادي تافه ال يكاد أن يذكر فهو ال
يسمن وال يغني من جوع.
ً
وسخرية معا:
ٍ حب
قال برونو في ٍ
ً
-سأقطع صلتي بك قريبا.
-وأنا في الانتظار.
-صحيح ماذا عن أدهم ..لقد أوحشني بشدة.
-يرسل لك تحياته ويقبلك.
-ملاذا لم تخبرني إذن؟
-لقد نسيت.
ً
قال مقهقها:
ً
لقد أصبحت سطحيا ..تهيم على وجهك مثل الشعراء.
-وهل الشعراء سطحيون؟!
-ال يعنيهم من الدنيا ش يء سوى لقاء مع الحبيبة كي يصفوا حالوته مما
عانوا سعيرا وقسوة الهجران ..أوليست هذه سطحية؟
-تعجبني هذه السطحية ..تركت العمق ألمثالك.
-ألم يتزوج أدهم بعد؟
-نعم ،لم يتزوج.
-أدهم على درجة كبيرة من الشبه بأبيك حاد ،صارم ،جاد ،ال يعنيه ش ٌيء
ً
سوى العمل ..وهذا النوع من الناس فريد يثيرإعجابي دائما ..الرجل ال يليق به
ً
إال أن يكون عمليا يقدس علمه وعمله ..أما الحب وصغائر ألامور هذه ال تليق
بالعقالء من الرجال.
90
-ما قولك إذا أخبرتك أنه هو آلاخر يهيم على وجهه مثل الشعراء.
ً
فغر فاه مندهشا وقال في شبه ذهول:
ً
-أحقا ما تقول؟ّ!
ولم الكذب؟ إنني أشفق عليك من وقع املفاجأة. َ -
معد.
-يبدو أنه مرض ٍ
ً ً
-إذن ابتعد عني حتى ال أفيض عليك رقة وحنانا.
ً
-وهل تسمي الحب رقة وحنانا؟!
-أهناك تعريف آخر له؟
-نعم ،يمكن أن يكون وقاحة وسخافة ..بالهة وسذاجة أو أشياء من هذا
القبيل ،أنا ال أؤمن إال باألشياء املادية البحتة ،أما أنت وأمثالك فال تؤمنون إال
بالخيال ،وتعدون وراء سراب ،تاركين وراءكم الواقع ،تنضح قراءتكم على
أفكاركم فتبديها حلوة معسولة ،ليست من الواقع في ش ٍيء ،لكني أنصحك في
هذه الحياة يجب أن تتصرف بعقلك ال بقلبك وأن تتبع ما يفيد شخصك ال أن
تتبع هواك.
-هل أنت مؤمن بما تقول؟
-أشد إلايمان.
-أنت أناني التفكير ،مادي النزعة .
-وأفخر بذلك ..وأقولها بملئ في أنا أفر من الحب ..فرار السليم من
ألاجرب ،فرار محب الحياة من الحرب.
-ال دين وال حب ..أجزم أن قلبك خرب وروحك منهكة وجسدك ظمآن.
-ال ..أنا أرضيه بشتى الطرق.
-أوليست هذه حياة بهيمية؟
-لكنها ترضيني.
91
-ما الذي يفصل بينك وبين الجمادات تأكل وتعمل وتنام ..أما الروح فهي
عارية ال تعترف بوجودها ،وال تعطيها حقها أو قدرها.
-وما هو قدرها.
-إذا كان حق الجسد هو ألاكل والشرب ...وحق العقل هو القراءة
والفكر ..إذن فحق الروح هو العبادة والحب.
-ما عالقة العبادة بالحب ..أيهتم دينكم بهذه السفاسف من ألامور؟!
-وهل تعتبرالحب من سفاسف ألامور؟
-نعم.
-ديننا اهتم بعظائم ألامور كالحب فهو أساس ألاسرة املسلمة ..أخبرتنا زوجة
ً
نبينا أنه كان يحبها ،وكان لطيفا معها ،كان يصلح ثوبه بنفسه ،ويشوص نعله
بيديه ،كي ال يرهقها ..قال على املأل وأمام جميع أصحابه :إني رزقت حبها..
وعندما آذاها املنافقون بقولهم قال :ال تؤذوني في عائشة ..كان يقدر غيرتها
وعندما ألقت بالطعام أمام أصحابه لم يزد على أن قال غارت أمكم ..كان
يرسل إليها صويحباتها كي يلعبن معها وعنما يراهن يستترن منه فكان يخرج من
ً
واحد..وعندما وجدها ٍ املنزل ..أخبرتنا أيضا أنه كان يغتسل معها في ٍ
إناء
اصطحبت معاها عرائسها في إحدى غزواته لم يعنفها بل سألها ماذا تفعلين
بهم ياعائشة قالت أركب على هذا الحصان وأطيريارسول هللا.
-كان يضع رأسه في حجرها كأنه طفل صغير ال كأنه نبي مرسل من عند هللا ،وال
كأنه خليفة إبراهيم وعيس ى وموس ى.
أخبرتنا أنهم ذات يوم خرجا إلى الصحراء فسابقها فلما سبقته لم يجد
ً
حرجا من أن تهزمه زوجته ،وإنما قال بأريحية تامة هذه بتلك ..وعندما سأله
ً
أحدهم من أحب الناس إليك لم يجد حرجا من أن يذكر اسم زوجته وعندما
قالوا من الرجال قال :أبوها نسب ألاب إلى ابنته فلم يقل أبا بكر.
92
لم يكن يحضر في بيته بجسده فقط أراد أن يخبرنا أن الحب والاهتمام
يجعل البيوت مستق رة دافئة ..والتفاهم والتسامح يجعل البيوت جنة ،وذلك
ً ً ً
حتى نستطيع أن نخرج جيال سويا قادرا على التغير واملنح والعطاء وهذا بدوره
ً ً
يجعل من املجتمع شيئا محترما ...حتى نستطيع أن نعمرألارض كما أراد هللا.
-وهل أراد هللا التعمير في ألارض؟
-نعم..وإال ملا شرع الزواج وجعله هللا نصف الدين.
-أنتم تستعبدون املرأة ..هي عندكم عورة ..ال تفكرون في ش ٍيء سوى
حجابها أو سترها ..أهذه هي ألاسرة التي ستبني املجتمع وتعمر ألارض؟
ً
-أنت تناقض نفسك دائما ،منذ لحظات كنت أقول لك إن الحب من
صميم الدين ،وكنت تعتبره أنت من سفاسف ألامور ..وآلان تخبرني أن املرأة في
ديني مظلومة مستبد بحقوقها ..أنت ال يرضيك ش يء ..أخش ى أن تظل هكذا..
تعيش هكذا وتموت هكذا.
ً
-ال تخش شيئا أيها البخيل ..أين الكتاب الذي ستهدينه؟.
ً
قال ضاحكا:
ً
-نسيت أمره ..فأنا ال أفعل شيئا سوى أن أهيم على وجهي مثل الشعراء.
ً
-كن جادا.
-الكتاب في طريقه إليك ..لكن ال تحنث بوعدك الذي وعدتنيه.
-أي وعد؟
-أراك نسيته؟
-ال أمزح وللمرة الثانية أعدك إذا وجدت الحق لن أنكره ..لكن برأيك هل
ً
أنا أكثر علما من غاندي وماركيز وقد يتضح لي ما خفي عليهم؟!
ً ً
-قد ال تكون أكثرعلما ..لكنك قد تكون أوفر حظا ويهديك هللا بتوفيقه
إلى ما حرمهما منه رغم علمها.
93
( )7
كارثة وطن
94
وإذا سألت أبناء الشعب عن أسمى أمانيهم سيجيبونك ال نريد أن نصبح
أفضل بلدان العالم.
فقط نريد مأوى ألطفال الشوارع ..نريد أسرة للمرض ى في املستشفيات،
ً ً نريد ً
داوء متوفرا ..نريد طعاما للفقراء ،ومقاعد ألطفالنا في املدارس ..أما ما
عدا ذلك فهو ترف ال قبل لنا به ..حتى إن وجد فنحن ال نستسيغه ..نحن تعودنا
على شظف العيش وإلاخشيشان ..صادقنا أشعة الشمس املحرقة وألارض
امللتهبة ..أحببنا خشونة أيدينا ،وتشقق أرجلنا ..نشعر أن حياتنا هكذا لها
ً
معنى وأننا نفعل شيئا ذا قيمة.
ً
أما ألاغنياء الذين ال يفعلون شيئا سوى تعلم آخر رقصة ،وسماع آخر
مقطوعة موسيقية ،والواقع أن املال يجعل أصحابه على قدر كبير من
السخف والتفاهة.
تثير اشمئزازهم اللغة العربية ..ويكرهون الشعب ،وال يتورعون عن
اعتباره شعب فقير بدائي متخلف ،وإذا سألت أحدهم ما رأيك باملصريين؟،
ً
يجيبك منكرا ،وكأنه أحد جهابزة زمانه ...شعب جاهل..ال يفلح في ش يء أمامه
ً ً
قرون حتى يصبح شعبا متمدينا ،ولو تفكرت أنت في ألامر لوجدت هذه هي
الكارثة والطامة الكبرى.
الكارثة ليست في املرض وانعدام الدواء ..وال في الجهل وتدني التعليم..
الكارثة ليست في أطفال الشوارع ،وال في الخبز املختلط باالحص ى والطوب.
الكارثة أن يتفوه أبناء ألاغنياء وأبناء الفئة الحاكمة بمثل هذه ألاقاويل...
الكارثة أن يدفع القدر الغشوم هؤالء لتولي مناصب الدولة ..الكارثة أن يصبح
هؤالء أصحاب الفكرالعفن مسئولين عن مصيرهذه ألامة ..أما الطامة الكبرى
تتمثل في إلاعالم الذي يحاول أن يقنع الشعب أن هؤالء الشباب من ذوي الجاه
والسلطان وألابهة الذين ال يجيدون العربية مثل إيجادتهم لإلنجليزية
95
والفرنسية ..الذين يترفعون عن سماع قصيدة لشوقي ويخجلون من القراءة
للمنفلوطي أو الرافعي وال يوجد عندهم مصري واحد يمكن أن ينزلونه نفس
املكانة التي احتلها في أنفسهم شكسبير أو دوستويفسكي.
تجدهم يقنعونك أن هؤالء املخنثين من أبناء الكبراء وألاغنياء ستبني بهم
مصر مجدها ..وتصنع حضارتها ..وتقيم سؤددها ..هؤالء الذين تثير أعصابهم
اللغة العربية وال يعرفون من الدنيا سوى آخرماركة ،وآخرأكلة فرنسية ،وآخر
موضة لقصات الشعر ..هؤالء يتحدثون عن الشعب املصري وكأنهم ليسوا
منه ،ويترفعون عن عادتنا وتقاليدنا وكأنها سبة أو معرة ،ليس لش ٍيء سوى أنهم
من أبناء الطبقة العليا وإن شئت فقل الطبقة السفلى الرقيعة املدللة ..هؤالء
الذين ال يثقون باالتعليم املحلي فلجأوا إلى تعليم أبنائهم في مدارس أجنبية منذ
نعومة أظفارهم.
فتحول فكرهم وتغيرت أذواقهم وتلوثت سريرتهم ..فترفعوا عن أمتهم
وكرهوا شعبهم ..ال يتفاخرون بش ٍيء كتفاخرهم باملدارس ألاجنبية واملربيات
ألاجنبيات ..ويرون أن الطابع املصري طابع مشوه وفاسد ال يوجد به ما يدعو
للتفاخر إال هذه املقابر وتلك املوميات ..هؤالء هم وزراء اليوم ورؤساء
املستقبل ...هؤالء هم املسئولون عن التعليم والصحة والزراعة...هؤالء هم
القضاة الذين يصدرون إعدامات بالجملة وكأنهم بها يتخلصون من الشعب
البائد املتخلف الذي اليستحق الحياة ..هؤالء يسيرون على خطى هتلر ،غير
ً
أن هتلر كان محاربا بشرف ،يعادي في قوة ومنعة ،كان يتخلص من أصحاب
السادية والنفوذ والتكبر والغطرسة ،أما هؤالء ال يقتلون غير الفقراء
لم ال وهم وباء يجب التخلص منه حتى ال ينقل العدوى والبسطاء واملرض ىَ ،
لم ال وهم يخشون من الشعب ،ويفرون منه فرارهم من املوت بغية لهم؟َ ...
الحفاظ على مناصبهم ،وخشية أن تقوم ضدهم ثورة أخرى فتردهم عن غيهم؟
96
ً
أحد هؤالء كان يجلس أمامها وعيناه تشعان غضبا ...ظل يرمقها بنظراته
ً ً
شذرا قبل أن يتحرك لسانه قائال-:
إليك؟
قولك فيما نسب ِ ِ -للمرة الثانية ...ما
--كذب وافتراء.
لكنك مذنبة؟ِ -
-إذا كنت كذلك ملاذا تحقق معي إذن؟
نفسك.
ِ أمنحك فرصة للدفاع عن ِ -
وهل يكون الدفاع بعد أن صدر الحكم بأنني مذنبة؟ ألم يعلموك في
دراستك أن املتهم بريء حتى تثبت إدانته؟
-لسنا في محاضرة قانون هنا ...ثم َمن أنتي حتى تتكلمي عن القانون في
وجودي؟
ً
-وهل كان القانون حكرا على دراسيه الذين ال يجيدون استخدامه؟
ً
إعدامك قريبا؟
ِ عندك أية أقوال ،سيصدر حكم ِ -أليست
-متي كان للشاه أن تناقش قصابها ..وللمحكوم عليه باإلعدام أن يجادل
جالده؟
مرارة ثم سكتت كي تستمع إلي ٍ هزت كتفها في سخرية وابتسمت في
الصراخ املنبعث من الغرفة املجاورة ..هي تعلم بمثل هذه ألاشياء لكنها لم
ً
تتوقع أن تعيشها يوما ..نظرت إليه في رعب ..بادرها بابتسامته البغيضة وكأنه
شامت بها ،وينبهها أن في الحجرة املجاورة مكان خاص لها ...رفعت بصرها إلى
السماء ت ستلهما الرحمة وتسألها الصبر والسلوان.
وضع قدم على قدم ثم أشعل سيجارة ،وظل ينفث دخانه في وجهها في
أغوارسحيقة:
ٍ متجمد وكأنه يخرج من
ٍ بصوت
ٍ هدوء مقيت ،ثم قال ٍ
أنت مستعدة للمغادرة إلى الغرفة املجاورة؟ -هل ِ
97
باغتها بالسؤال فجأة ،لم يستطع عقلها املشتت أن يستوعب ما الذي
يحصل بالغرفة املجاورة ...لكنه بال شك أسوأ أنواع العذاب ،وإال ملا صرخت
الفتيات بهذا الشكل الهستيري املكلوم ...قالت والدموع متجمعة في مقلتيها:
ً
أنظمة
ِ السياسة ،أو
ِ -أقسم لك لم أفعل شيئا ،وال يعنيني أي ش ٍيء عن
الحكم ..أنا العائل الوحيد ألمي وأبي ،وأكدح في سبيل لقمة العيش ،وشربة
املاء.
أخيك؟
ِ -وماذا عن
رفعت نظرها إليه في ذهول ..كيف لم تفكر في هذا من قبل؟ ..من املمكن
ً
أن يكون قبض عليه أيضا قبل هجرته باعتباره مهاجر غير شرعي.
عنف وكأنها تنفض منها هذه ألافكار املقيتة...والتخيالت هزت رأسها في ٍ
محاولة منها ملواساة نفسها رددت بداخلها أن من املستحيل أن ٍ البائسة ،وفي
ذنب اقترفه ..فقط يقبض عليه ويزج به داخل السجون من دون ٍ
إثم ارتكبه ،أو ٍ
مسافر من أجل العمل ..والسفر من أجل العمل ليس جريمة يعاقب عليها
القانون.
وهن:
لكن عقلها املنهك تساءل في ٍ
وهل القانون ال يعاقب إال مرتكبي الجرائم فقط؟!
ألم تعاقب هي على الالش يء؟ ..ألم توضع أشهر في السجن دون أن تدري
آت من الغرفة املجاورة، ماذا فعلت؟ ..وللمرة الثانية تنتبه على صراخ ٍ
ً
ليبادرها املحقق قائال:
علك انتهيت من تلخيص ما كنت تجهزين قوله لدفع -في ماذا تفكرين؟ِ ..
نفسك.
ِ التهمة عن
-لست متهمة حتى أدافع عن نفس ي ..أنا أقنعك ببراءتي التي تأبى الاعتراف
بها.
98
َمن الذي قتل النائب العام؟
نظرت إليه في ذهول مرددة:
-النائب العام!! هل تمزح مالي أنا وللنائب العام؟!!!!
ً ً
دعك من لعب دور الضحية التي زج بها إلي السجن ظلما وزورا ..فهذا ِ -
ومن الذي الدور ال يليق بأمثالك من املجرمين َمن الذي يمولكم ويدعمكم؟ َ
ِ
أمركم بالتخريب والقتل؟
-ملاذا تتكلم بصفة الجمع ،أنا ال أنتمي إلى أحد ،ولم أقتل أو أخرب ..ثم
ما هذه التهمة الجديدة التي تنسبها إلي عندما حققت معي أمس لم تحادثني
بشأن النائب العام؟ ..فما الذي جد في ألامور؟!
ً ً
بك
أمورك تعقيدا وسوء ويخطو ِ ِ يمرعليك هنا دون اعتراف يزيد
ِ -كل يوم
نحو الهاوية.
قالت في شبه صدمة:
ً
وماذا إن صممت على البراءة ..هل من شأن هذا أن تتهمني غدا بمقتل
رئيس الجمهورية؟!!
ً
انتفض واقفا ثم أمسكها من عقصة شعرها ،وقال وهو يضغط على
ً
أسنانه حتى كادت أن تسمع ألسنانه صريرا:
-وهذا ما تخططون إليه مقتل رئيس الجمهورية ..هي خطوتكم القادمة
إذن.
ً ً ً
رفع الالسلكي محادثا أحد رؤسائه ومنذرا له ،وطالبا منه تكثيف حراسة
ً
قصد عن خطوتهم القادمة، ٍ رئيس الجمهورية ،فاملتهمة اعترفت سهوا وبدون
ً أال وهي اغتيال الرئيس ..وبما أن ألامور تزداد ً
سوء وتعقيدا ..فهذا السجن غير
خطيرة مثلها لها عالقة بمقتل النائب العام ،والتخطيط ملقتل ٍ بمجرمة
ٍ الئق
ٍ
رئيس الجمهورية.
99
عنيف على أم رأسها ،ولم تستفق إال ٍ ظنت أن ألارض تميد بها ،وبطرق
ً
وهى تجد نفسها ألول مرة منذ أكثر من ثالثة أشهر ترى أخيرا ضوء الشمس
وتتنفس هواء الشارع..
ألول مرة تشعرأن للهواء النقي لذة ،وكأنه يختلف كل الاختالف عن هواء
الزنازين العفن ..هذا الهواء املعبق برائحة الظلم والحشرات ..ذلك الهواء
الذي يضيق الصدرعند دخوله وكأنه يساعد على الاختناق ال على الحياة.
ً
ترى هل اقتنعوا أخيرا ببراءتها؟ وستتجه من فورها إلى بيتها لكم اشتاقتهم
ً
كثيرا ..لكم اشتاقت ألمها تلك املرأة الصبورة التي رأت من الحياة ما رأت وال
سخط.
ٍ زالت تقاوم وهي تبتسم دون ٍ
تبرم أو
لكم اشتاقت إلى والدها ..إلى تلك السكينة التى تشع من وجهه ،إلى تلك
البسمة الحلوة التى تنير لها حياتها ،إلى الصوت الرخيم ،والبسمات الهادئة
الوديعة ..لكم اشتاقت إلى أخيها ألاصغر ذاك الشقي املشاكس الذى ال يعلم
ً ُ
من الدنيا شيئا سوى التدليل واملشاكسة ،ترى هل مازال كذلك عربيدا ال يهدأ
وال يرتاح حتى يلعب الكرة؟ ،أو يتابع مسلسالت ألاطفال ..أم ترى أن الشقاء
ً
الذى أحل بهم فاض عليه هو آلاخر حتى لم يغادر منهم أحدا.
ً
كم اشتاقت إياد وتمنت قربه ..وكم اشتاقت إلى حضنه ورجولته ..دائما
كانت تشعرأنها تستمد منه قوتها وحمايتها ،ما الذي أبعده وهم في أشد الحاجة
إليه؟ ..هل يا ترى مازال يعاني الشقاء؟ أم فتحت له الدنيا أبوابها حتي أنسته
أهله؟ ..هل يا ترى هو أحد املساجين هنا أم أحد ألاطباء بالخارج؟
ً
شعرت بيد أحدهم تدفعها إلى ألامام قائال بصوت أجش:
-أيها املتهمة اتجهي أمامي إلى الخارج ..لوهلة أبهرتها أضواء الشمس..
واضح وكأنها ال تستسيغ ضوء الشمس ،فمن اعتاد ٍ تأذ
أغمضت عينيها في ٍ
الظالم أزعجه النور ومن اعتاد على الظلم استنكر العدل والحرية.
100
( )8
مل
مل وح ٍ
بي ح ٍ
101
ً
تلعثم وازدرد ريقه وكأنه يزدرد مرارته معه قائال:
وأصبت بنفس اللهفة التي أصابتك ..لكنني عندما عدوت خلف سيارته
ً
وجدت شخصا آخر يشبهه
ضيق:
رد الشيخ في ٍ
ماذا؟ ..ألم تقل أنك رأيته.
-أسف يبدو أن النوم اتخذ مسكنه بين جفني حتى ما عدت أميز ما أقول.
-قم واسترح غفر هللا لك ما فعلته بقلبي يا بني.
نام الصبي ذاك النوم املتقطع ..جمعيكم تعرفونه ،نوم البؤساء من
ً
الناس..رأى الطفل خالل نومه أحالما سيئة ال تختلف عن واقعه في ش يء،
ً
فكالهما كابوس بل إن أحالمه أقل وطئا من واقعه ،وأهون قسوة من حياته.
رأي نفسه والثعابين تحيط بعنقه ..وجسد أمه مسجى في زاوية الغرفة..
وأباه يفقأ عينيه بيديه ،ثم يلقيها في ال مباالة خلف ظهره ،وكأنه ما عاد بحاجة
ً ً
هدوء ثم أطلق
ٍ إلى هذه العينين ..رأى إياد واقفا جامدا يتابع كل ما حدث في
علي نفسه الرصاص ..رأى أخا أروى ينظرإلى كل ما حدث في وداعة واسترخاء،
ً
وكأنه يشاهد أحد ألافالم الهزلية ،ثم يرتفع محلقا إلى السماء.
ً ً ً
وأخيرا أفاق من نومه مجهدا فزعا ،وكأنه كان في معركة.
هذه أحالم طفل لم يتجاوز املرحلة الابتدائية ..هذا هو الوطن الذي
يقسو على جميع شعبه حتى أطفاله لم يسلموا من قسوته ،حتى شاخ الطفل
وكهل الشاب.
-أما هذا الشيخ البائس فلم ينم ليلته ظل ألارق صاحبه منذ اختفائها..
هل أنساها املال والعمل أبيها وأمها هي ألاخرى؟ ،أم تراها انحرفت إلى الهاوية
مثل بعض فتيات جيلها؟ ..أم أغواها أحدهم فتخلت عن أعظم ما يمكن أن
تملكه فتاة؟ ومن ثم ال قبل لها بالعودة إلى أهلها ..ترى هل خطفت؟!
102
استنكار ،وكأنه يرفض هذه الفكرة ليس لش ٍيء سوى أنها ٍ هز رأسه في
أقربهم إلى الحقيقة ،هو يثق في أخالقها وفي تربيته ..أقرب ألامور إلى الصواب
هو أن هناك حائل حال بينها وبين العودة ،لعله الخطف كما فكر فمصر هي
البلد الثالث على مستوى العالم في تجارة ألاعضاء البشرية!
لعل أحدهم يبصر بعينها ،ويعيش بقلبها ويتنفس برئتيها.
ً
لعلها قتلت في حادث سير ،أو مثله فواروها التراب خوفا من املسائلة
القانونية ..هذا عن عائشة ،فماذا عن إياد؟ إلى متى سيظل هكذا؟ ..متى ينتهي
هذا العذاب؟ ..هو لم يعد يحتمل ..أعصابه مرتعشة مجهدة ..هده العمر
والزمن واملرض ..لم يعد به طاقة ملجابهة هذه ألامور.
ً
هو ليس ساخطا على قضاء هللا وقدره ..لكن الغياب طال ،والغمة
واحدةَ ..من في مثل هذا العمر آلان ينعمون بدفء ٍ اشتدت دون بارقة ٍ
أمل
العائلة ،وهدوء الاستقرار ،وسند ألابناء ،وحنان البنات؟ ..يجنون ثمار ما
زرعوا في أبنائهم ..أما هو زرع وسقى لكن زرعته شلت قبل موسم الحصاد
بأيام ..لم يعد له سند سوى هذا الطفل ،أيمكن أن يصيبه ما أصاب إخوته؟
أليست هذه هي العادة؟ ..فقد كل ش ٍيء ..الصحبة ،والعمر ،وألابناء
ً
وزوجته على وشك أن يفقدها هي ألاخرى ..ستموت حسرة وكمدا على أبنائها..
ً
نزلت دمعة من عينيه البيضاء ..أخيرا رفقت به دموعه ..أشفقت عليه من كل
هذا الصمود ،والوقوف في وجه الحياة ..أشفقت عليه حتى سالت على
وجنتيه ،وكأنها تنبأه بضعفه ،تنبأه بكهولته ،تنبأه أنه هو آلاخرعلى شفا
الهاوية.
ً ً
هو الذي وقف في وجه الحياة متحديا الفقروالفاقة ،متحديا الظروف،
كلما كشرت الدنيا عن أنيابها كشر هو آلاخر عن إيمانه باهلل وثقته فيه ،وكلما
ً
ضحكت منه ساخرة والها ظهره هو آلاخر ساخرا ،وكأنها ال تعنيه وكأن ضرباتها
103
ً
لم تصبه ..أخيرا سقطت دموعه ورفع معها راية استسالمه ..هو لن ييأس من
رحمة هللا ،لكنه على ألاقل لن يتمنى عودة أي منهما.
ألاماني ُمرة إذا ما أبت أن تتحقق ..وألاحالم سخيفة سيئة إذا ما كان
هناك سبيل إليها ..والطموحات بعيدة متعالية إذا ما أردناها بصدق.
ً ً
استيقظ الطفل من نومه حامال هم لقمة العيش ..حامال هم الدواء..
ً
حامال هم إيجارغرفة السطح ،هموم تضيق لها صدور الرجال فكيف بطفل
مثله؟!!
ً ً
اتجه إلى الشارع مغادرا ..كان الجو صباحا ،والطرقات يفترشها الندى
والدنيا ضاحكة باسمة ألاطفال تمتلئ بهم الشوارع والطرقات في هذا الوقت
من الصباح ..أطفال في مثل سنه ،وفي مثل طوله وحجمه ..تشابهت أعمارهم
وأجسادهم ،لكن اختلفت مصائرهم ،هو يحمل هم الدنيا على كتفيه ،أما هم
فال يحملون إال حقائبهم املدرسية.
وترقب
ٍ يتضاحكون ويتالعبون وتتعالى أصواتهم ..ظل ينظرإليهم في ٍ
تمن
حتى انتبه وهم يشيرون إليه ،وهم يتغامزون ،ويتضاحكون على مالبسه،
وجلد ،واستدار ليخفي دمعه أوشكت صبر ٍويلقبونه بالشحاذ ..تجرع مرارته في ٍ
أن تسقط من عينه ..لم يشفق عليه أحد سوى ذاك الطفل الذي عندما رآه
ً ً
أتاه مهروال ،وابتسامته تملئ وجهه ثم ناداه قائال:
-دمحم هل تذكرني؟
-عبدالرحمن كيف حالك؟
-أنا بخير ماذا تفعل وما هذه الحقائب؟
-أبيع املناديل ،حتى أستطيع أن أحصل على ثمن الطعام والدواء.
-وأين أبوك؟
أبي مريض.
104
لقد سألت عنك في مدرستنا القديمة قالوا أنكم انتقلتم من شقتكم.
ً
-أجل ،أنا أسكن قريبا من هنا.
جديدة ..تعال أريك مدرستي.
ٍ شقة
-ونحن كذلك انتقلنا إلى ٍ
-ال عندي عمل.
ً
-ال تخش شيئا ،إنها قريبة من هنا ،ومدرسوها طيبون ليسوا كمدرس ي
املدرسة القديمة ..أتصدق أنهم يعطوننا البسكويت املحش ي بالبلح دون
م قابل؟ وال يضربوننا ،أو يعاقبوننا حين نغيب ،فقط يخبرون أمي كي تفعل
ً ً
الالزم وهي دائما ال تفعل شيئا.
لم تلتقط أذنيه سوى الجزء الخاص بالبسكويت ..سأله في ٍ
تلهف:
-وهل البسكويت طعمه لذيذ؟
ً
-نعم ..أنا أكله كله دون أن أترك ألختي الصغيرة منه شيئا.
ابتلع ريقه الذي سال أثناء الحديث عن البسكويت ثم بادره عبدالرحمن
ً
قائال:
ما رأيك أن تنتظرني هنا حتى أنتهي من املدرسة وأريك إياه ثم نتقاسمه
ً
سويا
تهلل وجه دمحم ثم سأله في شك:
ً
-حقا؟
-نعم.
-وماذا عن العمل؟
-هل أبوك رجل طيب؟
-نعم
إذن لن يضربك ..قل له أي ش ٍيء ..ملاذا سكت؟ هل ستنتظر هنا؟
-سأنتظرك لكن ال تتأخرعلي.
105
ً
روح الطفل الزالت بداخله ..حبه للحلوى ،الزال نابضا فيه بقوة تحمل
ً ً
هموما تنوء تحتها الجبال ..رأى أهوالا تشيب لها رؤوس الولدان ،رغم كل هذا
غلبته طبيعته ..هو طفل مهما اصطبغت حياته بألوان العذاب ..مهما تحمل
من قسوة الحياة وشظف العيش ..مهما أحرقه سعير الفقر ..إال أن الطبيعة
ً
انتصرت أخيرا واعترفت بطفولته.
ً
وترقب ..علبة من البسكويت ينزع أوراقها ويتناولها في
ٍ تمن
ظل جالسا في ٍ
ُ
لهفة وحرمان كلها ،أجل كلها لن يترك لعبدالرحمن شيئا منها ،أفاق من شروده
على صوت صاحبه يناديه:
-دمحم أال زلت هنا؟
-بلى ..أنتظرك.
-هيا نجلس في هذا الشارع الهادئ ،ثم أشار إلى شارع جانبي .
ً
-أرني البسكويت أوال.
ً ً
-معي في حقيبتي ال تقلق ..كل يوم أكله صباحا ،أما اليوم تركته خصيصا
من أجل أن أتقاسمه معك ذهبا إلى الشارع ،مرت الثواني على دمحم وكأنها
أعوام ،وضع صاح به حقيبته كي يجلس عليها بعدما أخرج منها البسكويت ،أما
ً
دمحم فقد جلس على ألارض دون أن يفترش شيئا ،فقد كانت مالبسه هي وألارض
سواء ..لم يكن يعنيه ش يء سوى جنة الدنيا التي بين يدي صاحبه.
ً ً
فتح عبدالرحمن البسكويت ودمحم ينظر إليه وكأنه يفتح كنزا ..وأخيرا
واحدة ..ثم
ٍ قضمة
ٍ تقاسماه ..وضع دمحم الجزء الخاص به في فمه وأكله فى
نظرإلى الجزء الخاص بعبدالرحمن والذي الزال بين يديه ،رق له قلب صاحبه!!
ً
مازال طفال لم يعرف من الحياة إال حلوها ،ومن الصداقة إال أنبلها ،ومن
الحب إال أوفاه.
106
مد يده ناحية صديقه وبها قطعة البسكويت الخاصة به ،ثم قال في رض ًى
تام:
ٍ
يوم ،وقد عافته نفس ي ،وال أشعر بشهية له خذه كله فأنا أكل منه كل ٍ
اليوم.
ُ
وحب ،ولم يفعل شيئا سوى أن أكل ما قدمه له امتنان ٍ
ٍ نظرإليه آلاخرفي
الصغير آلاخر.
-ما رأيك أن تأتي معي ألريك شقتنا الجديدة.
نقود اليوم ،وس يغضب مني أبي ..سأذهب إلى العمل. -ال لم أحصل على ٍ
-كما تريد.
-أعطى كال منهما ظهره لآلخر ،وفي النفس آمال وآالم ،أحدهم ال يعي من
ً ُ
الدنيا شيئا ،وآلاخر يعي منها كل ش ٍيء ،ثم فجأة ارتفع صوت أحدهم قائال في
وود:
رحمة ٍ
ٍ
-دمحم هل سأراك ثانية؟
-ال أدري.
وصداقة
ٍ بالغة
ٍ خطوات ،وهو يقول في أخوية
ٍ -ارتد عبدالرحمن بضع
بريئة:
ٍ
-ما رأيك أن تنتظرني كل يوم عند باب املدرسة ثم نتقاسم البسكويت؟
-ألن تضربك أمك؟
-نعم ..إنها تقول لم يعد لها من الدنيا سواي أنا وأختي بعد وفاة أبي.
-وهل مات أبوك؟!
-أجل ..ألم أخبرك؟
-نعم.
107
-وقتها كنت تركت املدرسة ،ولم أرك منذ ذلك الحين ،ماذا قلت هل
ً
سأراك غدا في الصباح؟
-نعم.
وافترقا ..عادت إليه طفولته بمجرد رؤيته لصديق دراسته ،ورفيق
مدرسته.
ً ً
افترقا فراقا عاديا ..لكن لم تعد نفسه كما هي تأجج في صدره حب
املدرسة والرغبة في العودة إليها ..يكفيه انقطاع عنها ،ما باله يكدح في سبيل
ً
العيش هكذا البد أن يعود باكرا ليخبرأباه بما انتوى فعله ..وملاذا ينتظرميعاد
العودة؟ ،سيعود ليخبره آلان ،ومن الغد سيكون بجانب صديقه في هذه
املدرسة.
ً
ُدفعت إلى داخل السيارة دفعا ..تفاجأت بوجود غيرها من الفتيات لم
تستوعب أي ش ٍيء ،صراخ ،وزحام ،وأصوات متداخلة.
تخرج عربة الترحيالت مسرعة من الباب الحديدي ألاسود الكبير
ً
للسجن ..تهرول ألامهات باكيات والشباب والبنات ،الكل يجري محاوال اللحاق
ً
بالعربة التي تقلهم ،ومن خلف شباك العربة وقضبانه تنحت هي جانبا حتى
تتيح فرصة لألخريات ال شك أال أحد ينتظرها ،أو يهرول وراء العربة من أجلها..
رأت ألايدي تتشابك والدموع تنهمر وألاصوات تختفي في الصدور.
استوعبت أن العربة هي عربة ترحيالت للسجناء الخطرين ..الفتيات
ً
جميعا بكين ،وحدثن أهليهن ،ولوحن لهم إال هي ،وحيدة طريدة منبوذة في
سجنها لم يبحث عنها أحد ،ولن يبحث عنها أحد ،ملاذا تنتظر أن يزورها أحد؟
108
ألم تر بأم عينيها أهالي السجينات وقد نال منهم الجهد والتعب والحر
ً
والظلم أيضا حتى يأسوا ..تقدمت العربة وهم ما زالوا في عدوهم حتى كلت
أقدامهم ،وأشفقت أجسادهم على قلوبهم ..ملاذا العدو؟ ..هم ال يعدون وراء
بناتهم بل وراء أشالئهم ،بقايا من الروح املنهكة ،والعقول الواهنة ،والقلوب
املتحطمة .
واحدة منهن بداخلها ما يكفي،
ٍ لم تحادث غيرها من الفتيات ،كانت كل
وال يوجد بداخلها رمق ملعرفة تفاصيل مأساة ألاخرى ،ضاقت صدورهن
بمآسيهن حتى ما عادت ت تسع ملآس ي ألاخريات ..ما الذي حدث؟ ،وما الذي
تغير؟ أليس من املعلوم أن املشاركة في املصائب تهون وقع املصيبة على
أصحابها؟ ملاذا تغير الحال؟!
ً
فاض القلب بحزنه ،وطفح الصدر بمأساته حتى ضاق ذرعا بسره ،فما
بالكم بسر صاحبه؟
ُ
توقفت العربة ثم ،أقتيدوا تجاه غرفة مخصصة لهن ،جلسن وكأن على
ً
رؤوسهن الطير ..كانت مستأنسة بهن ،هي ال تعرف أيا منهن ،وتعتقد أن عالقتها
ً ً ً
بهن ستكون سطحية هي ال تحادث أحدا إال قليال ،دائما منطوية خجولة ،ومع
ذلك اطمأنت لوجودهن ،وكأن املصائب وحدت بين أرواحهن حتى أصبحن
ً
روحا واحدة في أجساد متفرقة.
كل منهن حبيسة أفكارها ،وأسيرة أمنياتها ..هذه الزنزانة البالية ظلت ٌ
ً ً
أقل بؤسا وأكثر رفقا من أمانيهن املتعالية ،وأحالمهن املتكبرة ،وطموحاتهن
البعيدة.
لم يقطع الصمت سوى صوت أحدهم ينادي باسم فتاة ما ..لم تكترث
عائشة لألمر ،لكنها فوجئت بالذعر يخيم على مالمح واحدة منهن ،ودموعها
109
تنحدرعلى وجنتيها وكأنها شالل ماء ،كانت تتمتم ببعض الكلمات لم يفهم أحد
منها شيئا ً،لكن بالتأكيد دعوات صامتة مرسلة لرب السماء.
وانكسار،
ٍ كرر الصوت الرجالي نداءه ..وقفت الفتاة بصعوبة في ٍ
ألم
ً
ووقفن جميعا لوقوفها ،وكأنهن يساندنها ،منهن من رتبت على كتفها ،وألاخرى
شدت على يديها في قوة ،وتفوهت ألاخريات ببعض الكلمات حتى يجعلنها
منكسرة،
ٍ وئيدة
ٍ تتماسك وتصبرلقضاء هللا وقدره ..خرجت الفتاة في خطوات
ترى هل ستعود أم أنهن نقصن واحدة؟ ..ياترى أخذوها إلى أين بالتأكيد ليس
ملنزلها أو أهلها وإال ملا انتقلن إلى لهذا السجن من ألاساس؟
ُ ً ً
أخيرا تحدثت واحدة منهن ،كان صوتها حلوا هادئا يبث الطمأنينة في
ً
النفوس ،ووجهها مشرقا رغم ما به من شحوب ..قالت وكأن بينهن سابق
معرفة:
-كيف حالكن؟!
بالغة:
ٍ مودة
تتمتمن ببعض كلمات الشكر والحمد ،قالت في ٍ
-أنا ليلى الشامي طالبة بكلي ة الصيدلة جئت إلى هنا منذ سبعة أشهر..
ظللت انتقل من سجن إلى آخر حتى التقيت بكن ..مالي أرى الحزن مخيم في
مالمحكن؟ واليأس اتخذ مسكنه بين قسمات وجوهكن ،ما بالكن ..أفقدتم
الجنة أم زج بكن إلى النار ..كل مصيبة هينة ما دامت ليست في ديننا ،كانت
ً
كلماتها سهلة لينة ..صمتت فجأة وكأنها تتذكر شيئا ،غمضت عينها ثم تنهدت
بصوت متهدج قائلة:
-أتدرون ما هي قصتي؟
110
( )9
رحيل مفاج
ً
استيقظت فجرا ..هذا هو اليوم املحدد لزيارة والد أحمد ،قلبها يخفق
بشدة ،وأعصابها مشدودة متوترة ،رهبتها من املوقف تشعرها بلذة خفية
ً
ومتعة لذيذة ..لم تنتظر شيئا في حياتها كانتظارها لزيارة زوج املستقبل هذا،
نعم هي فتاة مثل باقي الفتيات تتلهف على هذه ألاشياء ،حفظت نفسها،
وحرمت قلبها من كل متع الحب من أجل هذه اللحظات وهذا اللقاء ..ما بالها
جالسة هكذا؟ البد أن تقض ي بعض الوقت في اختيارألاسئلة املناسبة وألاجوبة
املنطقية ،البد أن تستفسر عن ظروف الزواج في مصر ،البد أن تسأله أين
يستقران هنا أم في القاهرة؟
ً
أوال البد أن تذهب إلى أروى كي تطمئن على هندامها وتتأكد من حسن
مظهرها.
عقدت العزم على أن تذهب إليها بعد أذان الفجر ،وعندما تنتهي من
ً
الصالة ،لكنها تراجعت عن ألامر لقد سهرتا كثيرا ليلة البارحة من ألافضل أن
تتأخر بعض الوقت حتى تأخذ قسطها من النوم .
بمجرد تسلل أول خيوط الشمس من نافذتها ،اتجهت نحو شقة أروى،
ً
متأخر
ٍ وقت
طرقت بابها كثيرا لكن ما من مجيب ،البد أنها نائمة ،لم تنم إال في ٍ
ساعة.
ٍ ليلة أمس ،من ألافضل أن تعود ،ثم تأتي إليها بعد
111
اتجهت ثانية إلى شقتها ،قررت أنها لن تذهب للجامعة اليوم ،ذهبت إليها
ً
كثيرا غيابها هذا اليوم لن يضير ،هي اليوم في حكم العروس ،ساعات قليلة
فقط ويأتي فارسها على حصانه ألابيض املجنح كى يسافر بها من هذا العالم
ً
الكئيب اململ إلى دنياه ،أخيرا سيكون لها رجل تتكئ عليه ،وتطمئن إلى وجوده،
وتركن إلى جانبه ..هي لم تختلط برجل قط حتى اليوم وال عالقة لها بهم سوى
عالقة الطالب بأستاذه ،أما ماعدا ذلك فلم تشعر بوجود أب أو أخ أو زوج..
ً
أخيرا سيقترن اسمها باسم رجل آخر،ستحكي له عن أمها ،سيسافر بها إلى كل
ً
بالد العالم ،سيعوضها عن حياتها الجدباء املقفرة ،ستتزوجه وسيصبح أبا
ً
ألطفالها ..ستختار معه أسماء ألطفالهم ،ستسمي الفتاة "مريم" إكراما ألمها
وعليه أن يتقبل ألامر ،أما الولد ستترك ألبيه مهمة اختيار اسمه ،يكفيها أنها
ً
اختارت اسم الفتاة ،ستزور مصر معه ،أخيرا ستشعر أنها تنتمي لبلد ما ،ولن
يجرؤ أحد على مضايقتها بعد آلان فهي لديها زوج.
انقض ى وقت كثير ،البد أن أروى قد استيقظت ،اتجهت إليها مرة ثانية
ولم تكن هذه املرة بأفضل من سابقتها ،ظلت تطرق وتطرق دون أن تخرج إليها
أو تجييها ..أين هي إذن؟
اتجهت إلى هاتفها علها تجيب على اتصاالتها ،وبمجرد أن ضغطت على
ُ
ذر الاتصال ،أجابها ذاك الصوت البغيض دائما "الهاتف مغلق".
قلقت بعض الش يء ،لكن تفكيرها ركن إلى أنها البد ذهبت لتشتري بعض
ً
ألاشياء ،لعلها أرادت أن تفاجأها ..أروي دائما غامضة مبهمة تحب املفاجأت،
ً
لعلها قررت أن تفاجأني ..ركنت إلى هذا التفكير ،واتجهت مجددا إلى شقتها..
واحد ،هي تعلم أن ٍ لكن الانتظار طال وساورها القلق والخوف عليها في ٍآن
الناس على وشك الحضور ،ملاذا غابت إذن؟ ملاذا تتعمد الغياب في أحلك
ً
ألاوقات وأشدها احتياجا لحضورها؟ ..ساعة واحدة فقط على ميعاد اللقاء،
112
ً
كيف لها أن تتعامل معهم ثقافتها مختلفة ،وهي ال تعلم شيئا عن هذه ألامور
بمصر ،وال حتى بفرنسا ،ثم كيف لها أن تتعامل مع والده إنها تخش ى اللقاء به..
ً
خيرا لها أن تعتذرعن اللقاء من ألاساس ريثما تعلم ما الذى حل بأروى.
على الجانب آلاخر كان أحمد يبتهل إلى هللا كي يلقي في قلب أبيه اللين
والرفق تجاه نسيم ،هو ال يدري ما سر هذا التجهم وهذه الكآبة املخيمة على
ً
وجه أبيه ..هل ألنه سيخطب هذه الفرنسية التي ال يعلم عنها شيئا ؟ أم ألنه
سيسبق أدهم بالخطبة وأبيه رجل محافظ صارم ال يحب الخروج على
القواعد وألاصول ،ويقدس التمسك بالعادات والتقاليد؟ ..اختنق صدره
بمجرد التفكير في هذه ألامور.
ً
اتجه إلى غرفة أدهم طرق بابها ثالثا استأذن ثم دخل وجد أدهم ال زال
عميق
ٍ نوم
يغط في ٍ
-أدهم ..استيقظ أريد ..أن أتحدث معك.
ناعس:
ٍ بصوت
ٍ -قال أدهم
-ما ألامر؟
يء ،قم وتحدث معي. -ال ش َ
ً
-فتح أدهم عينيه ببط ٍء قائال:
-سأتحدث معك في الالش يء هذا عندما أستيقظ..ثم وضع الوسادة مرة
أخرى على عينيه ورأسه.
ً
بقوة قائال:
-جذب أحمد الوسادة ٍ
-أدهم أنا ال أمزح ..إنني قلق بشأن أبيك ،أخش ى أن يرفض ألامر ،الفتاة
طيبة وخجولة أخش ى أال يكون الحوار في صالحها.
ً
-اعتدل أدهم في جلسته قائال:
ً
-ال تخش شيئا ،سأقنعه أنا ..لكن أواثق أنت من أخالقها؟
113
وبشدة.
ٍ -نعم ،واثق
-ال تنس أنها تربت هنا ،ونشأت هنا ..ثقافتها مختلفة وفكرها قد يكون
ً
متحررا.
ً
-قلت لك مرارا الفتاة محجبة رغم نشأتها الفرنسية الصرفة ،وتفكيرها
ً
متزن جدا ..واطالعها واسع ،ثم ما الذي يجبرها على ارتداء الحجاب في بلد
كفرنسا؟ ..أال يوحي هذا برجاجة عقلها ،وقوة إيمانها ،وتمسكها بدينها.
ً
-ما دمت واثقا أنت من كل هذا ،فما الذي يقلقك؟
-أبوك رجل شرقي يتفاخربالنسب والعائلة ..لكم ترفعنا عن بنات زمالئه
حتى بنات الوزراء منهن ..ومن الطبيعي أن ينزعج من فتاة عادية ال تعلم عن
ً
أبيها شيئا؟!
ً
نظر إليه أدهم بانزعاج قائال:
ُ ً
-وهل فعال الفتاة ال تعلم عن أبيها شيئا؟!!!!
بلد عربي ..وجاءت أمها بها إلى هنا قبل والدتها بعدة -أخبرتني أنها تنتمي إلى ٍ
أشهر.
ُ
-قصة عجيبة ولم يكد أدهم يتم جملته حتى فتح باب الغرفة في عنف،
استغراب ..لكن ألاب تحدث بسرعةٍ لم يكن الواقف سوى أبيهم ،نظرا إليه في
ً
قائال:
ً
-أنا مسافر إلى مصر حاال.
واحد:
ٍ صوت
ٍ قاال في
-مصر!!
-اتجه ألاب صوب الباب وهو يقول
الوزير محمود الشرقاوي طالته يد إلارهاب الغاشمة ..ال بد أن أكون
هناك.
114
ً
خطوات سريعة قائال:
ٍ اجتاز أدهم السلم وراءه في
ً
-يمكننا أن نسافر ليال ..لدينا لقاء.
قال أبوه دون أن يلتفت إلى الخلف :
-أنا أثق برأيك ..قم بما ينبغي فعله ..من العار أن أكون هنا أخطب البني
بينما صديقي يصارع املوت هناك.
تنفس أحمد الصعداء ،كان يخش ى هذا اللقاء بحق ،لكن ليس إلى هذا
ً
الحد ..ليس لدرجة أن يلغي اللقاء تماما ..جلس على أقرب مقعد ،ووضع يديه
ً
صمت.
ٍ على رأسه مفكرا في
واثقة:
ٍ لهجة
قال أدهم في ٍ
-ال تقلق سأتولى أنا ألامر.
ً
حقا؟
-نعم ..أخبرني أبوك بذلك.
بعدما انصرفت نسيم إلى شقتها ،قامت أروى بترتيب بعض أغراضها..
تذكرت أنها لم تعد تتابع ألامور في مصر ..انشغلت بدراستها وحياتها هنا ،قامت
بفتح التلفازوياليتها ما فعلت ..لم تكن تدري وهي تفعل ذلك أنها كمن ينزع طابة
ألامان عن قنبلة ستنفجر في وجهه!!
بمجرد أن أدارت التلفازعلى أحد املحطات املصرية حتى وجدت العنوان
املسيطرعلى نصف الشاشة " يد إلارهاب الغاشمة طالت السيد الوزير
أليم"
حادث ٍ
ٍ محمود الشرقاوي في
115
ً
لم تستوعب ما قرأت ..أعادت قراءة العنوان مرارا لعلها تكون مخطئة
في الاسم ،لكن بكل أسف كانت هذه هي الحقيقة املرة.
وفي سرعة البرق ارتدت مالبسها واتجهت إلى املطار متخذة أول طائرة إلى
مصر ،كان عليها أن تنتظر ساعة ونصف في املطار قبل تحرك الطائرة ،كانت
ترتجف بقوة ودموعها منسابة كأنها أنهار ،هي ال تعلم ما الذي حل بأبيها ،هل
توفي بالكلية ،أم أنه ال زال يصارع املوت ،لم تستطع التواصل مع أحد ،كل
ألارقام مغلقة وكل الهواتف مشغولة ،ملاذا لم يتصل بها أحد ،ملاذا لم ترسل
السفارة في طلبها.
فور وصولها مصر اتجهت إلي املنزل مباشرة ..أعصابها منهارة ،وحالتها
الكلية في شبه إغماء ال تستطيع أن ترى املنزل يمتلئ باملعزين الذين يترحمون
ألم وكأنها تمنع عقلها من الاسترسال في تخيل على الفقيد ،أغمضت عينها في ٍ
هذه ألامور.
ولحسن الحظ وقبل أن تصل إلى املنزل دق هاتفها ،كان املتصل مستشار
والدها ،أمالها عنوان املشفى الذي يقطن به أباها ،وبمجرد وصولها إلى
املشفى وجدتهم في انتظارها ،اتجهت من فورها إلى الغرفة الخاصة به ،وجدت
ً
زحام أمام الغرفة ،وحراسة أمنية مشددة لم يكن مسموحا ألحد بالدخول
فحالة الوزير متأخرة وغير مستقرة.
مقعد ،كم تمنت لو كانت معه آلان في هذه ألاوقات ٍ أجلسوها على أقرب
ً ً ً
العصيبة ،هي الرقيقة املرهفة التي ال تستطيع أن ترى طيرا أو حيوانا جريحا،
فكيف لو كان الجريح هو والدها ،آخر َمن تبقى لها في هذا العالم.
تمض بضع دقائق حتى دخل رجل ألاعمال الدكتور " كمال النشار" ِ لم
الرجل الوحيد الذي تطمئن إلى حضوره ،والوحيد الذي تثق به في هذا الوسط
116
املنافق الكاذب الذي يحيط بها ،اتجه الرجل إليها مباشرة ،جلس بجوارها ثم
اثق:
بصوت و ٍ
ٍ قال
أعلمك الخبر؟
ِ -ال تقلقي يا ابنتي سينجيه هللاَ ..من
-قرأته على شاشات التلفزيون.
عدت من الخارج؟.-متى ِ
واحدة فقط.
ٍ ساعة
ٍ -قبل
-ال حول وال قوة إال باهلل ..شفاه هللا وعافاه ،وقبل أن يتم كلماته خرج
الطبيب الخاص بإجراء العملية من الغرفة ..تحلق الجميع حوله ،وأنفاسهم
ً
مكتومة ،ونظراتهم متوسلة حتى ال يقول إال خيرا ..لكن الطبيب خيب كل
ً
آمالهم قائال:
-استطعنا بأعجوبة أن ننزع الرصاصة رغم أنها كانت في موقع القلب
تماما ،إال أن هيئته الطويلة جعلتها على بعد مليمترات من القلب1ً
.لكن الانفجار هو الذي تسبب في سوء حالته ..سأكتب التقرير الطبي ثم
أطلعكم عليه.
جاء التقرير الطبي ولم يكن يوحى بش ٍيء سوى وفاة املريض خالل
الساعات القليلة القادمة ،فاملريض مصاب بتهتك ونزيف بالحويصالت
الهوائية بالرئة ،ونزيف وانفجار بالجهاز الهضمي ،وحروق نارية ،وإصابات
بالشظايا املتناثرة للقرب من لهب الانفجار ،وكسور شرخية بالجمجمة نتيجة
السقوط ،وخلخلة بالسائل الشوكي وتمزق في ألاوعية الدموية.
لم تستطع أن تكمل قراءة باقي التقرير ..ماذا إن فقدت أباها؟ ال أهل لها
قليلة ودعت أمها ..لعله
أشهر ٍ
ٍ وال أقارب ،ينحصر العالم كله في شخصه ،قبل
اشتاق إليها هو آلاخر فقرر الذهاب إلى حيث يجدها.
_ 1حقيقه علمية فالقلب ينحرف إىل اليمني قليال عند األشخاص طوال القامة.
117
رحل الزائرون وانصرف الجميع ،ولم يبق إال جنود الحراسة ودكتور "
مرض ،حاولت أن تتماسك، وهن وما ألم بها من ٍ كمال النشار" ..رغم ما بها من ٍ
واتجهت نحوه ،تمتمت ببعض الكلمات التي ُيفهم منها أنها تشكره على زيارته،
وتطلب منه الانصراف فهي ال تريد أن تثقل عليه أكثر من ذلك.
ً
استنكار قائال:
ٍ رفع حاجبيه في
أباك بمثابة أخي ..لقد كنا زمالء ما هذا الذي تقولينه يا ابنتي؟ ..إن ِ
واحد ..حتى كبرنا وتزوجنا ،وألهتنا
ٍ دراسة ،منذ الصغر ونحن نجلس في مقعد
الدنيا عن طفولتنا البريئة ،وأيام الصبا الطيبة ،لكن منذ أن جئتم للسكن
بجانبنا ،ونحن تداركنا ألامر ،وعاد ألاخوة إلى بعضهم ..لن أخرج حتى أطمئن
منك أنا الرحيل فأنا الرجل هنا ،ثقي في يا عليه ..بل من الواجب أن أطلب ِ
طلبك ..سائقي أمام املشفى سأطلب منه ِ أبوك سأرسل في بنيتي ..وعندما يفيق ِ
يوصلك .
ِ أن
أشهر وياليتني ما فعلت..
ٍ -ال ال ..لن أذهب أريد أن أراه ،فارقته منذ عدة
شعرت بدمعات ساخنة تهبط على وجنتيها مسحتها برفق واتجهت أمام باب
الغرفة ،علها تسمع صوته أو حتى أنفاسه.
برفق
بعد بضع ساعات أفاقت من نومها ويد إحدى املمرضات تهزها ٍ
قائلة:
ً
يريدك حاال.ِ -سيدتي سيادة الوزير
انت بهت من غفلتها منزعجة ،واتجهت نحو باب الغرفة
وجدت الدكتور " كمال" بالداخل يقف إلى جانب الفراش ،ويستمع إلى
ً
كلماته املتقطعة ،وأنفاسه الالهثة لم تفهم شيئا مما سمعت ،ولم يعنها الفهم
آلان ..اقتربت منه وركعت على ألارض بجوار الفراش مباشرة.
118
ً
بصعوبة:
ٍ برفق قائال
وضع يده على يدها ٍ
بخير هناك ،ماذا وجدنا في هذه الدنيا حتى -اهدئي يا ابنتي ..سأكون ٍ
ً
نتمسك بها.؟ ..حاول جاهدا أن يرسم ابتسامة على شفتيه ثم قال:
سيعيدك إلي مصر لدعوت هللا ِ -لو علمت أن حادث مثل هذا هو الذي
ً
إليك كثيرا.
زمن ..لقد اشتقت ِ بحادث مثله منذ ٍ ٍ
سقطت من عينها دموع القهر ،وأصبحت تمرغ وجهها في كف أبيها.
ً ً
وجهد أيضا قائال: ٍ حنان
برفق وأخذ يتحسس شعرها في ٍ نزع يده ٍ
قضيتك حتى لو أصبح ِ أنت صادقة يا بنتي وصاحبة رسالة ..ال تتخلي عن ِ -
ً
لك ..دافعي عن رسالتك "فاملحاماة رسالة ،والقضاء والشرطة املوت عقابا ِ
هم أصحاب سلطة فإذا توغل أصحاب السلطة على أصحاب الرسالة..
ً
قمعية ال تقدس شيئا إال روح ٍ دولة
أنك في ٍفأبشري بانهيار العدالة ،واعلمي ِ
الحاكم".
وإياك أن تتخلي ِ أنت فيه ..دافعي عن البسطاء فقط، استمري فيما ِ
بروحك لكن افدي العدالة ِ صديقتك بريئة لن أقول افديهاِ عنهم ،أو تخذليهم،
أنك لست جديرة بهذا الرداء ألاسود فاخلعيه ،واتركي له شعرت ِِ بروحك ..وإن
ِ
أهله ،إما أن تكوني مدافعة بشرف وعدالة وإال فال.
ألم ،التفت إلى الواقف بجواره ،ثم تقطع صوته وغارت عيناه وسعل في ٍ
ً ً
متحشرج وكأنه ال يفارق صدره فضال عن شفتيه قائال: ٍ بصوت
ٍ قال
-لم يقتلني أحد ..الدولة هي التي فعلت ،أوصيك بأروى وعمتها وابنة
عمتها ،إن كانتا على قيد الحياة ..ابحث عنهما حاول أن تنجح فيما فشلت فيه
أنا ..لن أقول لك عامل أروى كابنتك فأنت أدرى الناس بما فعلته بابنتك ..ال
تغضب مني لكني أخش ى عليها.
119
ً
لك سندا في هذه الدنيا البغيضة، -سامحيني يا ابنتي كنت أود أن أظل ِ
لزوجك بيدي..
ِ وأسلمك
ِ تاجك بنفس ي
ِ ألبسك
ِ أزفك بيدي وأن لكم تمنيت أن ِ
اغفري لي تسرعي ..ابتسمي يا ابنتي أريد أن أودع الدنيا ،وآخر ش ٍيء قد رأيته
فبسمتك هى جنة الدنيا ،ولعل هللا إن فعلت يبعثني على ِ ابتسامتك،
ِ منها هو
جنة آلاخرة.
دموع سائلة على خديها لكنمفتعلة تصحبها بقايا ٍٍ بسمة
ٍ افتر ثغرها عن
ً
الرجل بادرها مازحا:
-أهذه هي الضحكات التي أردت ؟!
حاولت أن ترسم على شفتيها ابتسامة عريضة خالصة ،لكن دموعها
ً
رفق.هزمتها أيضا هذه املرة ..ربت أبوها على كتفها في ٍ
دخل الطبيب املختص ،وطلب منهما الخروج حتى ال يجهداه أكثر من
الالزم.
خرجت من الغرفة مطأطأة الرأس ،مكروبة الصدر ،جريحة القلب
داميته.
في هذه ألاثناء اعتدل ألاب في سريره ولم يعد يبصر أحس بالعجز أصبح
صدره يضيق ..وتعذر عليه التنفس كأنه غريق ..جحظت عيناه وحاول أن
ً ً
يلتقط أنفاسه ،لكنه كان عاجزا عن كل ش ٍيء إال الارتجاف ،وأخيرا انتهى
العذاب ،وفقد إلاحساس بكل ش ٍيء ،سكنت أنفاسه ،وتصلب جسده ،وبردت
أطرافه ،وأضحى ال ش يء بعد أن كان يمثل لها كل ش ٍيء.
من يصدق أن يموت هذا الجسد القوي ،والوجه النضر ،والثغر
الباسم ،والعينان الضاحكتان املتأللئتانَ ،من يصدق أن يقبع أبوها ذاك
الوزير املعروف بحسن الخلق ،والقوة في الحق في حفرة رطبة مظلمة بباطن
ً
الارض مسلوب الحركة ،فاقد الحياة ليصبح أثرا بعد عينَ ..من يصدق أن هذا
120
الجسد الفارع سيصبح جثة ال حياة فيها وال روح ..فجأة سكنت هذه ألاجهزة
ً
وتحرك الرأس مائال إلى اليمين.
اندفع ألاطباء داخل الغرفة وهي من خلفهم ..حاولت املمرضات حجزها
لكنها أفلتت من بين أيديهن إلى الداخل صائحة:
-أبي ..أبي ،قم يا أبي لقد عدت من أجلك ..هل جئتك كي تتركني فلتفق
من أجلي؟ َمن الذي سيؤنس وحدتي بعدك؟ كانت تهزجسده بقوة ..في حين أن
ووقار مغمض العينين ..أما هي كانت ٍ الجسد ،ثابت ساكن ُممد بكل ٍ
ثبات
ترتجف بشدة ،وتحاول أن تحركه كأنه نائم ،وتريد إيقاظه ..نفذت طاقتها،
وقعت على ألارض بجانب سريره ..وصيحاتها ترن أجواز الفضاء ربتت على
ً
كتفها إحدى املمرضات ،وقالت وصوتها يقطر إشفاقا:
-كفي يا حبيبتي إنه قضاء هللا.
-لم ترد ،فقط تذكرت جثة أمها املغطاة في مثل هذا املكان من قبل
تذكرت الضياع بال أمل ..والذهاب بال عودة ..والفقد بال رجاء.
ً
بصوت
ٍ -أصابتها رجفة شديدة واندفعت إلى الجسد املسجى قائلة
مبحوح:
ٍ
ً
رد علي يا أبي ..قل إنك ما زلت حيا ،ليتني لم أتركك ،قم من أجل زفافي..
ً
من أجل أن تلبسني تاجي بيديك قم نتقاسم عمري معا.
أحس ألاطباء وطاقم التمريض وجنود الحراسة بالدمع يترقرق في مآقيهم
وهم الجافو املآقي ..الجامدو الشعور املتعودون على مناظر املوت وما شابه.
أمسكت بها إحدى املمرضات ،ووضع الطبيب الغطاء ألابيض على جسد
املريض ووجهه ..أفلتت من بين يدي املمرضة بقوة واندفعت تجاه الغطاء
ً ً
تزيحه ..بدت معالم وجهه تشع حسنا ونورا وقسماته هادئة ساكنة..
121
أيقنت أنها النظرة ألاخيرة ..فما تمالكت نفسها إال وهي تضمه إلى صدرها
وتقبل جبينه حتى سالت دموعها على خديه ..اقتربت من أذنه وقالت في صو ٍت
واهن:
ٍ
ً
-صدقني يا أبي قريبا سنلتقي عس ى هللا أن يجمعني بك في جنته.
ً
خرجت من الغرفة مستندة على أحد الجدران ،لم يعد لها سندا بعد آلان
سوى هذه الجدران التي ال تسمع وال ترى وال تشعر.
جفت مآقيها لم تعد تبكي ،لكن لسان حالها يقول:
ً
فقدان ألاب وبكل املقاييس ليس بسيطا ..أن تفقد أباك معناه أن تفقد
الجدارالذي تستند عليه وتركن إليه ..فقدان ألاب يعني أنك أصبحت ريشة في
مهب الريح ال ترحم َمن هم أمثالك ..أن تفقد أباك معناه أن تفقد املظلة التي
تحميك من املطر ،والسماء التي تجود عليك بالحب والحنان ..أن تفقد أباك
ً
ليس معناه اليتم فقط ،بل أن يعرف من يتعامل معك أنك أصبحت وحيدا
أمامه ،وربما أمام طموحه ومطامعه ..فقدان ألاب يعنى أن تحس بالوحدة فقد
يد ،فإنها لن تغني عن يد فقدت من يمد يده ليساعدك ،ولو مدت لك ألف ٍ
والدك املليئة بدفء ألابوة والحب والحنان دون مقابل ..من آلان تركها رفيقها
الوحيد ليحل مكانه ألالم الدائم ،والحزن العميق ،والشعور بالضياع
والوحدة والفراغ.
ً ً
بعد الوفاة بدقائق بدأ الرجال يحضرون واملكان يزدحم شيئا فشيئا ..هي
كاملغيبة عن الوعي وكأنها وفاة شخص آخر غير أبيها ،من هول الصدمة لم
تستطع البكاء ،لم تعد تذرف دموع الوجع ،ظلت مصدومة منبهرة بما حدث..
ً
رأف دكتور كمال بحالها اتجه إليها قائال:
-البقاء هلل يا ابنتي ..أخذ يهدئ من روعها ويذكرها باهلل ،أخبرها أن
إجراءات الدفن ستبدأ من آلان.
122
َ ً
أبيض ،ومنهم بدأ املمرضون من حولها يتحركون منهم من يحمل قماشا
ً
من يحمل الجسد متجها به إلى غرفة أخرى.
ً ً
عجبا لهذه الدنيا ،أأبوها حقا هو الذي تعد له كل هذه إلاجراءات
الرهيبة؟ لقد لطمها الزمن شرلطمة ،كانت تلوذ بحضنه وتفرإليه كلما قست
كالم َمن سترتاح؟ عاودت البكاء َ
عليها الدنيا ..إلى حضن من ستفر؟ وإلى ِ
مطبق ..أبصرت الصندوق وهو يدخل إلى الحجرة التي ٍ بصمت
ٍ والنشيج ،لكن
يوجد بها املتوفى ليخرج بحمله الثمين ،الضائع املفقود ..وقفت في ذهو ٍل ،ثم
لم تعد تبصر أي ش ٍيء.
123
()10
لم يحبنا العالم
سأروي لكم قصتي عس ي هللا أن يخفف بها آالمكم وينفث بها كربتكم،
أتذكرون قصة أصحاب الغار الذين سقطت عليهم صخرة فأغلقت بابه حتى
ً ً ً
كادوا أن يهلكوا جوعا وعطشا ،وأوشكوا أن يموتوا اختناقا؟ ..كانت لهم أعمال
ً
صالحة فنجاهم هللا بها ،أما نحن فألهتنا الدنيا ،وأراد هللا أن يردنا إليه ردا
ً ً
جميال وأراد أن يختبر صبرنا ،فلنصبر خمسة وعشرين عاما ،ألم يقل الصابر
ً
أيوب لزوجته مكثنا في الرخاء سبعين عاما فلنصبر في الشدة سبعين أخرى.
قبل أن آتي إلى هنا بأيام قليلة حددت موعد زفافي ..اشتريت فستان زفافي
ألابيض ..وكذلك اشترى زوجي بذلته ..حجزنا قاعة العرس ..جهزنا كل ش ي ٍء في
بيتنا الجديد..وبعدما انتهينا من التجهيزللعرس خرجت ألبلغ صديقاتي بموعد
الزفاف ،اتصلت بهذه ألبلغها ،وزرت هذه ألسلمها بطاقة الدعوى ..إلى أن
انتهى اليوم ،لكن كان هناك ش يء غريب لم أعتده ،فزوجي لم يتصل بي على
غير العادة ،فقد اعتدت أن يحدثني كل يوم قلت في نفس ي ربما انشغل عني هو
ً
آلاخر بإبالغ أصدقائه ،هممت باالتصال به وكررت ذلك مرارا دون جدوى.
ً ً
بعد ساعة ونصف تقريبا ،أتاني اتصال من أخته كانت منهارة تماما ،لم
أفهم ما تقول ،فوجئت بأبي يدخل من الباب ووجهه أسود كالليل ..تركت
الهاتف وسألته ما الذي حدث؟
124
قال بهدوء:
زوجك قبض عليه إلى غير عودة ،تركت الهاتف من بين يدي فهوى على ِ -
ً ً ً
ألارض محطما ،كذلك هوت روحي التي بين جنبي ،أيضا تحطمت فتاتا هي
ألاخرى.
ً
زرته في السجن مرارا ضد رغبة أبي وأخي ..في بداية ألامر كان ينزعج من
حضوري ،كان ال يزال يحتفظ بقوته ورجولته أمامي ،كان يشعرأن وجوده هنا
ً ً ً
سيجعله صغيرا في عيني وأنا التي لطاملا عهدته كبيرا قويا ..رجلي ألاول وسندي
من بعد أبي ..ظللنا هكذا حتى جاء الحكم الجائر "إعدام" كانت صدمة لنا
ً
جميعا ،قسمت ظهورنا ..وفتت أرواحنا.
رفع أبي علينا الحصار في البيت ،ومنعني من زيارته ،وأرسل ألهله
حاجياتهم ..كنت أشفق على أمه وإخوته ،وأخش ى أن يبلغوه باألمر ،فيتوهم
أنني تخليت عنه أنا ألاخرى ،بدأنا في إجراءات الطالق ..كانت فوق تحملي..
ً
طلقت من حبيبي الذي لم أتزوج منه أصال ولم أزف إليه بعد.
زيارة بيني وبينه بعد طالقنا بأيام قليلة رأيته يقف خلف كانت آخر ٍ
القضبان منهك القوى ،غائر العينين ،دائم الصمت ،أراه قد شاب وهو في
ً
منتصف العشرين ،أو أنه قد تجاوزها بقليل ،لم يعد قادرا حتى على الوقوف
ومرات ..حاولت أن أشرح له ألامر ،وأنٍ مرات
طويلة ،يقف مرة ويجلس ٍ ٍ لفترة
ٍ
أحدثه لكن هربت مني الكلمات وخانتني ذاكرتي ،ولم أستطع الكالم فبكيت..
حاول أن يخرج يده من بين القضبان ليمسح دموعي ،لكنه أعادها فى منتصف
املسافة بين وجهي ويده وكأنه تذكر أنني أصبحت ال أحل له ..انفجرت باكية،
قلت له ودموعي تسبقني أنت زوجي وستظل هكذا حتى وإن مزقوا مواثيقهم
ً ً ً
الكتابية فال زال ميثاق قلبينا غليظا ممسكا بنا معا ..دعك منهم إنني أنا ليلى
زوجتك أنسيت هذا؟!
125
هللا قادر أن يخرجك من هنا من أجلي ،أنا الضعيفة املكسورة التي ال
ً
تملك من أمرها شيئا ..من أجل زفافنا الذي طاملا خططنا له..من أجل أحالمنا
ً
التى رسمناها معا.
ً ً
ظل صامتا لم يتكلم ،وأخيرا انحدرت دمعة على خده ،وألول مرة أرى
ً
دموعه ،مسحها في خجل واقترب مني ليودعني قائال:
أحالم".
ٍ لك من
"-سامحيني على ما لم أحققه ِ
حينها تمنيت أن يقف الزمن ونحن هكذا ،ال أرحل أنا وال يرحل هو ..وأخذ
صوته يعلو وهو يبتعد قائال :
أستودعك هللا"
ِ منك سوى الدعاء.. "ال أريد ِ
بع دها بأيام قاموا بتطبيق حكم إلاعدام ..لم أكن أعي ما حدث كنت
واثقة بأن هللا سيعطف على قلبي املنفطر ويبرئه من أجلي ،كنت أدعو له ليل
نهار وقلبي مشتعل لفراقه ،حتى قبل أن يقدم إلى منصة إلاعدام بدقائق كنت
أنتظر املعجزة التى ستنجيه ..لكن هللا لم يفعل! وله في ذلك حكمة.
بعد وفاته مباشرة أصبحت كاللبوءة التى أخذوا منها صغيرها الوحيد..
ثرت وعربدت ،وقفت أمام الظلم وقلت ال ،لن استسلم ،إما أن يعيدوه إلي..أو
ً
ألحقه أنا ..وكانت الثانية -سألحقه إن شاء هللا قريبا.-
قمت بحكاية قصته على مواقع التواصل الاجتماعي ،والنشر عنه ظللت
شيئا سوى أن أعلم ما هي تهمتهَ ، ً
لم تم تلفيق أسب في النظام وألعن ،ال أريد
مثل هذه التهم لهذا العريس الذي لم يكن يشغله ش يء سوى التجهيز لزفافه؟
ً
حذرني أبي مرارا لكني لم أنتبه ..كان املوت والحياة عندي سواء ،لم أعد أكترث
لش ٍيء فقد قتلوني معه.
126
وها أنا أعد ألايام والدقائق والثواني هنا ،ليس ألخرج وألستنشق نسيم
الحرية ..بل ألذهب إليه هناك عند رب حكيم عادل ،ال يظلم عنده أحد ..لقد
اشتقته بشدة ،ولم يعد هناك سبيل إليه سوى املوت ..إني لم أستطع أن أبقيه
ً
ولكني أستطيع شيئا آخر ..أستطيع أن أذهب إليه بسهولة.
أجل هذه هي وسيلتي الوحيدة كان هو كل حياتي وقد رحل فما الذي
يبقيني.
أنا مقبلة على املوت بكل قوتي ..أتخيل أنني بمجرد أن أموت ،وأصبح في
جوارهللا سيجود هللا علي به ..هو الوحيد الذي يعلم مدى ألالم ..يعلم حال قلبي
الذي أكله الفقد ،وهده الظلم.
ً
أحيانا أحس أنه سيكون في استقبالي ،نعم في استقبالي فأنا حبيبته..
ً
وسأزف إليه على أيدي الحور العين وسيكون مسكني بيتا بالجنة ،حتى لو
عشت بصحراء مقفرة ،ما دام هو هناك فهي بالنسبة إلي جنة مزهرة.
لكن الش يء الوحيد الذي ينغص أحالمي تلك هو خوفي على أهلي ،وعلي
كل الذين أحبهم ..هل تصدقون أنني أتمنى أن آخذهم معي هلل حيث الحق
العدل والرحمة؟ أخش ى على أبي الذي لم يقسو علي إال ألنه يحبني ،أخش ى على
إخوتي البنات أن يصيبهن ما أصابني ..أخش ى على أخي أن يحدث له ما حدث
لزوجي ..مسحت دمعة ترقرقت في عينها ثم قالت:
عام ونصف ..أتت على كرسيها املتحرك -آخرمرة رأيت أمي فيها كانت منذ ٍ
ً
وقد بلغها الكبر ،وأصابها الوهن ،أتت رغما عن السرطان الذي أنهكها لرؤيتي
بالسجن ،ال تعلم لي خطيئة ،وال تعلم ملا حرمت رؤياي؟ وملاذا جعلوني بعيدة
عنها في أحلك أيام مرضها؟ ..كانت تعد ألايام الباقية لتحضر حفل زفافي،فما
الذي حدث؟
127
جاء بها أبي على الكرس ي عندما بكت وطلبت رؤيتي رغم نصح ألاطباء
بمالزمتها الفراش.
أبي كتب لي ورقة بالكاد قرأتها بين أسالك قفص إلاتهام مكتوبة عليها
جملة من ثالثة كلمات فقط
"سامحيني يا ابنتي" .
ال أدري ملاذا كتب ذلك؟ لكن لم يجبنا العالم ..ماتت أمي ولم أستطع
ً
وداعها ..وحكم علي باإلعدام بتهم ال أدري عنها شيئا ،سامحني أنت يا أبي
فاأليام الباقيات قليلة ،أتمنى رؤيتك قبل أن أرحل.
وشفقة ،هيجت
ٍ ألم
كن يستمعن لها بإنصات ،ودموعهن تسيل في ٍ
ألم بأمله ،وكل ذي فقد بفقده ،ضاقت حكايتها مشاعرهن ذكرت كل ذي ٍ
بشدة حتى ما عاد هناك متسع ألنفاسهن .ٍ صدورهن
ظلت تغدو وتروح بالحجرة ،هي ال تعلم ما الذي تشعر به ،هل هو الحنق
على أروى والغضب منها؟ ..أم هل هو القلق عليها؟ أم هل هو إلارتباك والخوف
من اللقاء بأهل أحمد؟مشاعرها متضاربة ،وأعصابها متوترة وتفكيرها
مشوش مشتت.
وكانت أروى الحصن الذي تلوذ به ،وتلجأ إليه بعد مرض أمها ،عند هذه
ً
النقطة تحديدا أصابها إحساس السخط على أروى ،وتمنت عدم وجودها من
البداية ..من آلان يجب أن تعتمد على نفسها ،وأن تواجه حياتها بمفردها
ً ً
كفاها استنادا على الغرباء ،وارتكازا على آلاخرين.
128
من البداية وحالة أروى توحي بأنها تفضل الغياب على التعلق تفضل أن
توئد الحب في مهده قبل أن يكبر ..تنهدت بعمق ،ورغم حنقها عليها رفعت كفها
إلى السماء داعية من كل قلبها قائلة:
يارب احفظها أينما كانت واحرسها بعينك التي ال تنام نظرت في ساعتها
وجدتها السادسة والنصف باقي على ميعاد اللقاء ساعة ونصف فقط ماذا لو
اعتذرت؟ ما الذي سيقوله عنها والد أحمد؟
ما الفكرة التي ستطبع في ذهنه عنها ؟ ال شك سيقول مستهترة ال تراعي
املواعيد ،وال تحترم الوعود ،وال تقدس خصوصيات الناس.
آثرت الذهاب وليحدث ما يحدث ملاذا تعطي هذا ألامر كل هذا القدر من
التفكير؟ ..إن كسبت الرجل في صفها فهذا خير ،وإن لم يحدث فهي ال تملك
ُ
من أمرها شيئا ،وستترك ألامركله هلل فهو أقدرعلى اختيارالصواب وتهيئته لها.
توضأت ثم صلت ركعيتن ،ارتدت مالبسها واتجهت إلى املكان املتفق
عليه..
كان املكان عبارة عن حديقة صغيرة الحجم إلى حد ما وتبعد عن سكنها
ً
قليال ،واملنظرالعام لها يبعث باالطمئنان ..الخضرة املنتشرة ونافورات املياه،
وبعض التماثيل الصغيرة ،وألاطفال الذين يركضون في بهجة وسعادة كل هذا
نشر الطمأنينة بداخلها .
ً
سارت في ممر الحديقة قليال ثم وقعت عيناها على أحمد وشخص آخر
يجلس معه نظرت إلى أحمد نظرة سريعة ،والواقع أنه كان حلو القسمات،
ً
جميل التقاطيع ،ارستقراطي املنظر ،يشع وجهه بهجة وحسنا كان يرتدي حلة
واهتمام باملظهر
ٍ صدر
ٍ واتساع
ِ قوام ،ورشاقة قد،
أنيقة كشفت عن اعتدال ٍ
مبالغ فيه حتى لكأنه عريس ب ل هو كذلك ،تلك كانت النظرة الخاطفة التي
التقطتها عينيها ،وكلما اقتربت منه وجدت بدلته محكمة إلاغالق وكأنها قطعة
129
منه ،شعرت وكأنه أحد فرسان العصور الوسطى ،وسيطير بها على جواده بعد
قليل فها هم هي وهو والخضرة ،وال ينقصهم ش يء سوى الجواد املجنح،
ً
وبمجرد أن اقتربت منه وقف أحمد وهتف مرحبا بها ،أشارإلى الواقف بجواره
وقال:
ً
هذا أدهم أخي ،ثم التفت إليها وقال موجها الحديث ألحمد:
ً
وهذه هي نسيم التي لطاملا حدثتك عنها ،كادت أن تذوب خجال من
ً
تصريحه السخيف هذا تنحنح أدهم بادئا الحوار قائال-ً:
ً
معذرة حدثت بعض ألامور التي كانت تستدعي حضور الوالد شخصيا،
ً
وتسببت في غيابه عن اللقاء رغما عنه.
تفهم شردت عن حديثه ولسان حالها يقول: هزت رأسها في ٍ
"حمدا هلل هذا ما كنت أتمنى"
تحدثا في أشياء كثيرة ،فهمت أن أدهم يحاول أن يأخذ صورة مكبرة
لعقلها ،وأفكارها ،وطباعها ..كانت تشعربالخجل في بادئ ألامر ،لكنها بعد ذلك
ً
حد كبير ..وهذا
طالقة ،تفكيرهم كان متشابها إلى ٍ ٍ أصبحت تتحدث معه بكل
منحها إحساس بالثقة والطمأنينة.
ً ٌ
ذاهب لقضاء ش ٍيء ما ابتعد قليال، بعد لحظات استئذن أدهم ،وكأنه
وجلس يلعب مع بعض ألاطفال املوجودين بالحديقة وكأنه طفل منهم.
ران حولهم صمت طويل سببه حياء عقد ألسنتهم ..حاولت أن تنفض
الحياء عن نفسها فليس هناك ما يبرره ،هذه جلسة شرعية بحتة أقرها
الدين ،وأكد عليها العرف إلاسالمي ..حاولت جاهدة أن تقطع الصمت بحديث
ما لكنها لم تستطع.
ً
نظر أحمد إلى أدهم ثم التفت إليها قائال:
130
-أخي لطيف ..أل يس كذلك ..منذ لحظات كان يتحدث وكأنه أحد علماء
عصره ،أما آلان فهو يلعب وكأنه أحد ألاطفال!
ابتسمت دون أن ترد.
أراك صامتة ،لعله الخجل ..ال أنا لن أضيع وقتي الثمين في هذا -ما لي ِ
إليك دون قيود..
الصمت ..إنها الجلسة الوحيدة التي يأمرني فيها هللا بالنظر ِ
معك دون تحفظات. وبالحديث ِ
الكتب ،ابتسم ثم
ِ هواة
أنك من ِ هواياتك ..أعلم ِ
ِ اسألك عن
ِ -هل لي أن
مصطنع:
ٍ خبث
قال في ٍ
واحد في منزلنا .
ٍ -يبدو أنني لن أسمح بدخول ٍ
كتاب
-رفعت حاجبها متسائلة:
لم؟َ -
-ألنني شرقي الصفات ،أغار حتى من الكتب!
ً
-خفضت بصرها أرضا ولم تتكلم.
هواياتك ألاخرى؟
ِ -ها ..ما هي
-أحب الابتكار في الطهى.
ً
نظر إليها في دهشة قائال:
-باريسية ،وتجدين الطهي؟!..عندنا في مصريقولون أقرب طريق إلي قلب
الرجل معدته!
أجابت ضاحكة:
-وهل تقتنع أنت بهذا الكالم؟
-وهللا إن كان الطعام عبارة عن "امللوخية املصرية" فأنا أعتقد أن هذا
ً
الكالم منطقي جدا.
-ملوخية!!
131
-أكلة غريبة سأعلمك طهيها فيما بعد .
-وماذا لو كنت أطهوها وبجدارة.
ً
نظر إليها في استغراب قائال:
ً
-حقا؟
-نعم.
علمك إياها؟ ومنَ -
ِ
-أمي ..وأنت ماذا عن هواياتك؟
-كثير لكن أهمهم عندي ركوب الخيل.
-لطيف ركوب الخيل ..حاولت مرارا أن أتعلمه لكن لم أوفق بعد ..وذلك
ألنني في كل مرة كنت أخش ى السقوط من فوق الحصان.
مدرب غيري ..أما إذا كنت أنا املعلم فلن تسقطي.. ٌ معلمك كان -هذا ألن
ِ
بمجرد حدوث الخطبة وعقد القران ..سنبدأ املران إن شاء هللا.
ً
-سريعا هكذا؟!
أنك تلميذة متكاسلة.-يبدو ِ
ً
-تقريبا ،وماذا عن هواياتك ألاخرى.
-إنني أحب الرسم وكتابة القصص.
ضحكت ملئ شدقيها قائلة:
-وما عالقة هذا بالطب؟
معينة؟
ٍ فئة
-ال توجد عالقة ..هل الرسم وكتابة ألادب حكر على ٍ
-ال ..لكن ما دمت تحب هذه ألاشياء فلماذا لم تخصص في إحداها؟
-هذه ألاشياء ال يحسن التخصص فيها ،ولن أستطيع أن أرتزق منها ..في
ً
مصرالاهتمام بالرسم وألادب منعدم ..الشعب املصري ال يريد من الدنيا شيئا
132
سوى رغيف الخبز .وإن اهتم القليل منهم بالفنون وألادب فهذا ليس ش يء
سوى أن يقال عنه مثقف!
تطرقا إلى الحديث عن تربية ألابناء ،وهل سيستقران في مصرأم في فرنسا
.انتهى اللقاء ،وعادت إلى منزلها فرحة منتشية كم ودت لو طال اللقاء! ..لقد
أصاب القلب ما يمكن أن يسمى بتباشير الحب التي أزالت عنه ذلك السبات
العميق املغرق فيه ،وأزالت عنه تلك ألاغطية السميكة من الحزم والكبت
بعمق ..هي قلقة حائرة بين لذة إلاحساسٍ والتربية التي تراكمت فوقه ..تنهدت
ومتعة الشعور الجديد وبين الخوف من أبيه والرهبة من حالة أمها ..لكنها على
كل حال أصبحت تتلهف على لقاء آخر ،وعلى حديث أطول وعلى قرب أكثر.
ً
-ملاذا عدت مبكرا يا بني ،هل تشعر باإلرهاق والتعب؟
ً
-ال ..لكني عدت من أجل أن أخبرك شيئا آخر.
-ما هو ؟
-هل تذكر صديقي عبدالرحمن الذي كان يزورنا في شقتنا القديمة
-نعم ،أذكره.
-لقد رأيته اليوم.
-وكيف حاله؟
ً
-بخير ..لقد انتقلوا هم أيضا من شقتهم ،لقد رأيته أمام مدرسته وأخبرني
أن أبيه قد توفى.
-ال حول وال قوة إال باهلل ..رحمه هللا ،هل هذا ما أردت إخباري به؟
133
-ال ،ما أردت إخبارك به هو أنني عقدت العزم على الذهاب معه إلى
املدرسة.
تفاجأ الرجل بقول ابنه ،وخيمت على وجهه سحابة من اليأس والكآبة،
ولم ينبس ببنت شفة ..ترك الولد في مقعده ال زال ينتظر رده ..استند على أحد
الجدران واتجه إلى غرفته دون أن يجيب.
لم يفهم الطفل ما الذي أحزنه هكذا؟ ..حمل مناديله واتجه إلى الشارع
ثانية ..البد أن يبيع هذه العلب كلها فاليوم هو آخر يوم له في العمل ،سيكون
ً ً
جنب مع عبدالرحمن. غدا في املدرسة جنبا إلى ٍ
متأخر من الليل دون أن
ٍ ظل يتجول في الشوارع ،وإشارات املرور ٍ
لوقت
ينجح في بيع نصف بضاعته حتى ..ظل هكذا إلى أن داعب النوم أجفانه ..اتجه
ً
إلى املنزل سيبيع باقي علبه غدا في املدرسة ،ال بد أن الاساتذة والتالميذ
يحتاجون إليها.
يبدو أن الفكرة أعجبته ..سيذهب إلى املدرسة ويتعلم ،ومع ذلك سيبيع
مناديله حتى يحصل على ثمن الطعام0
متأخرة ،كان يظن أن الجميع قد ناموا ..لكن
ٍ ساعة
ٍ دخل إلي البيت في
ً
أباه ما يزال متيقظا ،ينتظرعودته ،وبمجرد أن سمع صوت الباب يفتح وأحس
بوجود الصبي حتى اطمئن عليه ،وأطفأ مصباحه وركن إلى النوم.
ً
كاملة..
ٍ بساعة
ٍ وفي الصباح استيقظ الطفل مبكرا قبل ميعاد صحوه
بالغة وكأنه خش ي أن تؤخره الصالة على املدرسة..
ٍ سرعة
ٍ توضأ وأدى صالته في
ً ً ً
ارتدى قميصا نظيفا جديدا إلى حد ما ،وكان هذا هو أهم ما في ألامر ،أن تخلص
ً
مؤقتا من قميصه املمزق الذي يحمل آثار العمل.
134
ً
حمل مناديله واتجه صوب املدرسة ،لم يجد أحدا من الطالب أمامها
ً ً
فقد كان الوقت مبكرا ..جلس ينتظر قدومهم ..أخذ الطالب يتوافدون واحدا
ً ً
سرور قائال-:
ٍ تلو آلاخر ،وأخيرا وصل عبدالرحمن اتجه نحوه في
-لقد جئت ثانية.
-أجل ..جئت من أجلك.
-من أجلي أنا؟!
-نعم ،حتى ال أتركك وحدك.
-وماذاقال أبوك؟
ُ
-لم يقل شيئا.
-وأين ستنتظرني؟
-ما رأيك أن أدخل معكم إلى املدرسة وأجلس إلى جانبك
تمن بالغ:
تهلل وجه عبدالرحمن وقال فى ٍ
ً
-حقا؟
-نعم.
-أمسك عبدالرحمن بيد دمحم واتجها إلى داخل املدرسة ..كان عبدالرحمن
يقوم بدور القائد ،ظل يشير إلى ألاماكن ويعلم دمحم بأسمائها.
ً
-هذا هو امللعب ..نؤدي فيه الطابور الصباحي ،ونلعب فيه أيضا ..وهذه
ً
هي حجرة املكتبة أذهب إليها أحيانا ألتسلى بقراءة القصص ،لكنني سئمتها،
وأصبحت أفضل لعب الكرة على القراءة ..وهذا هو مكتب املدير....
لم يستطع أن يكمل عبارته فقد دق جرس الطابور الصباحي ،اصطف
دمحم مع الطالب ،لم ينتبه إليه أحد من العاملين باملدرسة ظل التالميذ ينظرون
واشمئزاز إلى أن انتهى الطابور ،واتجه معهم إلى الفصل ،جلس ٍ ترفع
إليه في ٍ
135
بجانب عبدالرحمن ،ووضع مناديله إلى جانبه على ألارض ،لكن مشاكسات
ألاطفال لم تنته.
ً ً ً
وأخيرا ،مش ى أحدهم متجها إلى ألامام ،وفي مشيته مد قدميه متعمدا أن
يبعد مناديله من مكانها ..قام دمحم ليعيد العلبة التي انحرفت عن باقى العلب..
ً
ولكن قبل أن يصل إليها مد أحدهم قدمه فاعترض بها طريقه محاوال إيقاعه،
ً
ونجحت املحاولة ،هوى دمحم على ألارض فاردا ذراعيه ..تبعثرت العلب وانطلق
ً
بكاءه من جراء الصدمة ..وما لبث أن قام متحامال على نفسه حتى يجمع العلب
التي تبعثرت ودهس الصبية بعضها.
ً ً
قام عبدالرحمن مندفعا محاوال الدفاع عن صاحبه ،لكن أحد الصبية
ً
ركله في بطنه هو آلاخر ..صدرت منه أهة مكتومة ،ووضع يده على بطنه ممسكا
ألم ..وهنا علت قهقهة الصبية ،ووقفوا يمنون أنفسهم بمعركة وشيكة بها في ٍ
الوقوع.
عندما رأي دمحم ما أصاب عبدالرحمن زال من نفسه كل إحساس
بالعداوة تجاه هؤالء وحل محله إحساس بالشفقة تجاه عبدالرحمن والخوف
ً
من أن يكون قد أصابه مكروه ..حاول أن يقوم متعكزا على قدميه لكن صبي
شديد،
ٍ بألم
آخردفع بقبضة يمناه في وجهه فأصابت أنفه ،وأحس من إلاصابة ٍ
ً
وغامت عينه حتى لم يعد يرى شيئا ،وقبل أن يهوي على ألارض حاول أن يستند
ً
على أحدهم ،لكن الفتى جذبه من ياقة قميصه قائال:
-أتريد أن تقع علي حتى تقتلني؟ ثم جذبه من عنقه بقوة حتى استقرت
ياقة القميص بيده تاركة القميص وصاحبه ،شعردمحم بتمزق قميصه الجديد،
قميص ألاعياد فقط الذي ضحى بعيده القادم من أجل أن يلبسه في املدرسة،
وفي هذه اللحظة التف حول الفصل تالميذ الفصول املجاورة ،وأتى بعض
املعلمين ليتداركوا ألامر ..ارتفعت أصوات التالميذ كل منهم يريد أن يحكي ما
136
ً
حدث ..وأخيرا ارتفعت يد املدير لتلطم دمحم لطمة أسالت الدم من شفتيه ،ثم
ً
رفع يديه مهددا إياه من الدخول إلى املدرسة مرة أخرى.
اتخذ طريقه إلى الباب ..ولكنه تذكر أمراملناديل فعاد ليأخذها ،ألقاها
أحد العمال في وجهه ..نظر إليها في ذهول لم تكن العلب بهيأتها بل كانت علب
مقطعة مدهوسة ،تركها الصبي خلفه ومض ى.
ً
لم يجد الصبي بدا من الانصراف ،والدمع ينهمر من عينه ،وقطرات
الدماء تسيل من شفتيه وأنفه على قميصه املمزق ،وقلبه يفيض بالغضب
واملرارة وبغض الناس.
لم يعرف بأي وجه سيعود إلى الب يت ،ولم يعرف كيف ينتقم من املدير
واملعلمين ..وهو ضعيف عاجز ال حول له وال قوة ،ظل يضرب في الطرقات علي
غير هدى ،ال يدري إلي أين يذهب؟ وإلي َمن يشكي؟ ظل يسير ويسير دون توقف
حتي وجد نفسه أمام البحر.
ً ً
كان صغيرا على مثل هذه ألامور ،صغيرا على الشكوى ألمواج البحر..
ً
صغيرا على البكاء أمامه ..لم ير من الدنيا غير السواد ،نظر إلى البحر فوجد
ً
رحمة ..امتلئ البحرهو آلاخربالظلم
شفقة وال ٍ ٍ أمواجه تلطم بعضها بعضا بغير
حتى فاض على الصخور املتناثرة أمامه ..فاألمواج تضرب فيها هي ألاخرى دون
أن تكل أو تمل ..والصخور صامدة صامتة ال تستطيع املقاومة أمام قوة
وصمود إلى أن تتفت
ٍ وصبر
ٍ بصمت
ٍ ألامواج وكثرتها ..فقط تقبل اللطمات
وتتهاوى.
كل ش ٍيء يوحي بالظلم والقهر ،رفع بصره إلى السماء فوجد السحاب هو
آلاخريخفي ضوء القمر ..وكأن الطبيعة اجتمعت كلها ضده ،ولم ترد أن تجعله
يرى من الدنيا غير س وادها ..تأخر الوقت وتقدم الليل والطفل ال يزال مكانه..
فقد القدرة على التحرك ،كيف سيعود إلى البيت ،كيف سينظر في وجه أبيه
137
ً
ثانية ،ذلك ألاب الذي يعتبره على صغر سنه رجال ..ماذا سيقول له ترى هل
سيخبره بأنه ضرب ،ودهست مناديله وفقد رأس ماله ومصدر رزقه.
ً ً
أما عن ألاب ،فقد كان قلقا ،ال يدري ما الذي حل بالفتى خرج مبكرا ولم
ً ً
يعد حتى آلان ..شارف الوقت على منتصف الليل ،أخبره مرارا وحذره مرارا من
التأخير ..هو آخر َمن تبقى من أبناءه ..ترى ما الذي حل به هو آلاخر؟ ..رفع
ً ً
بصره إلى السماء راجيا من هللا أن يرده إليه ساملا.
ً
اتجه نحو الباب وظل يفتحه مرارا ،ويرهف السمع عله أن يسمع وقع
مجيب ..زاد حزنه ،وضاق صدره ،وكأن جدران ٍ خطواته على السلم ،لكن ما من
املنزل تطبق عليه.
اتجه إلى الشرفة الضيقة امللحقة بالغرفة عله يتنسم بعض الهواء..
متأخر من الليل..
ٍ ملحه أحد الشباب الذين يلعبون الكرة بالشارع حتى ٍ
وقت
ظل الرجل يغدو ويروح والقلق والاضطراب باديان على وجهه.
ً
ملحه الشاب مرة أخرى ،توقف عن اللعب وارتفع صوته قائال:
-عم عاطف ..هل هناك ش ٌي ما؟
-ال يا بني.
التف باقي الفريق حول الشاب وهم يشعرون أن في ألامر خطب ما ،ثم
بإلحاح.
ٍ كرروا السؤال هذه املرة
أجاب الرجل:
يء فقط دمحم تأخر على غير العادة وأشعر بالقلق عليه. -ال ش َ
-ال تقلق سنذهب كلنا للبحث عنه.
لم يجب الشيخ ،فقط تركهم وما يريدون أن يفعلوا.
138
كل منهم سلك اتجاه غير اتجاه انقسم الشباب إلى ثالث مجموعاتٌ ..
آلاخرين بعد أن اتفقوا على مهاتفة بعضهم البعض حال العثور عليه.
ظل الشباب يبحثون عنه في ألاماكن القريبة ،وإشارات املرور ،وأماكن
ً
بلحظات ،اتفقوا على
ٍ تجمع الصبية لكن دون جدوى ،وأخيرا قبيل أذان الفجر
العودة ..لم يرجعوا بش ٍيء ،عادوا بخفي حنين فقط.
شديد ووعدوه أن يعاودوا الكرة في الصباح ،علهم ٍ بأسف
ٍ أخبروا الرجل
ً
يعثرون عليه ،فلعل النوم قد غلبه في مكان ما فنام ولن يستيقظ إال صباحا.
ُ
لم يقل الشيخ شيئا ،لديه أمل آخر ..سينتظرحتى الصباح ..سيدعو هللا
أال يصيبه ما أصاب إخوته من قبل ..ما أشبه موقفه بموقف يعقوب عليه
السالم ..ظل يناجي الزمن الذي لم يرحم كهولته ،ولم يحترم شيبة رأسه،
ولسان حاله يقول:
" بل أمنتك عليه كما أمنتك على أخويه من قبل ..تشابهت ألاقدار ترى
هل ستتشابه املصائر؟!
ً
ترى هل سيجود عليه القدربقميص يوسف؟ ترى هل سيعود إياد عزيزا
ومعه إخوته؟.
ً
غفا على مقعده واختلط واقعه بأحالمه ،رأى إياد عائدا لكن مالبسه
ملطخة بالدماء ..رأى عائشة يحيط بها الذئاب من كل جانب ،وهي صامتة
ً
ساكنة ال تحرك شيئا ..ثم فجأة يظهر دمحم وكأنه رجل عجوز ،ظهره مقوس
ً
ويستند على عصا ...انتبه من غفلته فجأة ،تبا لهذه ألاحالم البغيضة التي تأبى
أن تتوقف ،وترغب في زيارته كل يوم.
شعاع من أشعة الشمس ،وتناهت إلى أذنه خطوات ٍ شعر بتسلل أول
ً
العاملين وأصواتهم ،اتجه إلى الشرفة ونظر إلي أسفل هو يعلم أنه ال يرى شيئا
139
لكنه سيحس به ،سينبأه قلبه بعودة ابنه وبوجوده في الطريق ..ترى هل
سيكون هذا الطريق هو طريق العودة لكل أبناءه؟
دخل إلى تلك الراقدة ،أعط اها دوائها ..سألت على دمحم فأنبأها بأنه عاد
ً ً
متأخرا ،وذهب مبكرا ..لطاملا قرأ قصة يوسف ،لكنه لم يقدرموقف " يعقوب
عليه السالم " إال عندما جرب مرارة الفقد ..لطاملا قرأ قصة
" إبراهيم" و " إسماعيل "عليهما السالم ،لكنه لم يقدر موقف إبراهيم
ً
عليه السالم إال عندما قدم دمحم قربانا على معبد ألاسرة ،ضحى به من أجل
ً
لقمة العيش ..انتزعه من طفولته انتزاعا ،من مدرسته ،من أصدقائه ..من
عامله ،ومن دنياه حتى مل الولد حياته ،وفضل الغياب ،ليته يعود سيبيع كل
ما يملك حتى غرفة السطح سيتخلى عنها من أجل أن يعيده إلى املدرسة ،من
أجل أن يحقق له مطلبه ،سيفعل كل ما يطلب ،فقط لو عاد. ِ
140
()11
انتصار الطبيعة
142
صور ،ظلت تنظر فيه ،هذه صورة يديه تلك الورقة ..وقعت عينيها على ألبوم ٍ
ٌ ً
ألبيها وهذه صورة ألمها ،وهذه لهما معا ،لكن هناك ش يء غريب!
امرأة تظهر في معظم الصور وكأنها أحد أفراد العائلة تظهر بجانب أمها
تأن ،ولكنها لم تصل إلى ش ٍيء ،ترى مرة وبجانب أبيها مرة ..تأملت الصورة في ٍ
َمن تكون هذه املرأة؟ أكملت التصفح ،وما أثار ربيتها أكثر وجود صورة غريبة
ً
جدا تتوسطها هذه املرأة ،وإلى اليمين يقف أبوها ،وناحية اليسار يقف دكتور
كمال ترى َمن تكون؟ وما عالقتها بوالدها وبدكتور كمال؟ ،ظلت تدقق في
ً
الصورة لكنها لم تتوصل إلى ش ٍيء ،وأخيرا قلبت الصورة فوجدت مكتوب عليها
بخط نسائي دقيق
بخير ..مريم"
عام وأنت ٍ "كل ٍ
ظلت محتفظة بهذه الصورة ،ستسأل عنها عندما تهدأ ألامور.
لم تذكرت نسيم وهي في طريقها إلي الغرفة؟.. اتجهت إلى غرفتها ،وال تدري َ
شعرت بالحزن من تصرفها املت خاذل تجاهها ..ملاذا لم تسأل عنها؟ ..ملاذا لم
تذهب إلى السفارة ،وتحاول أن تتوصل إليها؟ ملاذا حتى لم تسأل عن الوزير
محمود الشرقاوي ،أكثير هذا الاهتمام عليها؟
ً
هي التي وقفت بجانبها مرارا ،وشعرت أنها أختها ،ملاذا تخلت عنها في
موقف مثل هذا؟ ..أطلقت زفرة حارة ت حمل الكثير من ألالم ما ال يقل عما ٍ
تحمله بداخلها ..هذه هي الدنيا!!
ً
لم تشعر بالسخط على نسيم ،ألم تتخلى هي مسبقا عن عائشة؟!
ألم تفضل الهروب مع بعض املحاوالت الواهية للوصول إليها ،لعل
نسيم هي ألاخرى قامت ببعض هذه املحاوالت حتى تحاول أن تسترض ي ضميرها
هي ألاخرى.
143
أما نسيم فقد اتخذت نفس املوقف ،وهي ترى أن أروى قد تخلت عنها في أشد
ً
أوقاتها احتياجا إليها ..وعدتها بالبقاء إلى جانبها ،ثم رحلت عنها دون حتى أن
ً
تخبرها بوجهتها ،ودون أن تقيم وزنا لقلقها عليها.
ملعت في ذهنها فجأة فكرة أن تهاتف صاحب العقار الذي يقطنون فيه،
بالتأكيد لديه فكرة عن غيابها ،يجب أن تسأله عن مدة إلايجار الذي حددته
مكان آخردون أن تخبرها ..لكن لعل مدة إيجارها انتهت ،وقررت الرحيل إلى أي ٍ
لم؟ وما الفائدة من ذلك؟َ
لحظات أجابها املتحدث على الناحية ألاخرى:ٍ أمسكت بهاتفها ،وبعد
ً
-مرحبا َمن املتحدث؟
-نسيم ..صاحبة الشقة رقم ( ) 6بالعقار الذي تملكه ،كنت أود
الاستفسار عن بعض ألامور.
-تفضلي.
-كنت أود السؤال عن املستأجرة التي تسكن بالشقة املقابلة لي ..ال أعلم
أيام ،أخش ى أن يكون أصابها مكروه ما الذي حل بها؟ اختفت فجأة منذ ثالثة ٍ
ما.
متأخر من الليل ،وتركتٍ وقت
-ال داعي للخوف آنستي ..لقد غادرت في ٍ
ً
املفتاح مع حارس العقار دون أن تقول شيئا ..لعلها تقض ي عطلة في مكان ما،
أو لعلها سافرت إلى بالدها.
-إذن ماذا عن مقتنياتها ،هل يمكنني الحصول عليها وحفظها عندي حتى
تعود؟
-بالطبع ال ،هي استأجرت الشقة ملدة عام ،ودفعت مصروفات ذلك،
وبعد انتهاء العام سنسلم مقتنياتها ألحد العاملين بالسفارة املصرية هنا ..يبدو
144
أنها تخصهم في ش يء ما ..أغلقت في وجهها جميع ألابواب ،لكن في محاولة أخيرة
منها ،سألته قبل أن يغلق الهاتف ،أال يوجد رقم ما أستطيع أهاتفها فيه؟
يمكنك الذهاب إلى السفارة املصرية ،والسؤال عنها إن
ِ -آسف ال أعلم..
كنت تعلمين اسمها بالتفصيل.ِ
شكرته في ش ٍيء من الحرج وأنهت معه الحديث ..ال يوجد أمامها سوى
الذهاب إلى السفارة ،لكنها تخش ى هذه ألاماكن ،هي لم تتعود على املواجهة ،وال
على الذهاب إلى هذه ألاماكن السياسية البحتة ،ملاذا وضعتها أروى في هذا
املوقف شعرت بالحنق عليها ،وبالغيظ يملئ صدرها ،واتخذت قرارها الحازم
الذي ال رجعة فيه يجب أن تغلق صفحة أروى إلى ما النهاية ،ستعتبرنفسها لم
ً
تلتق بها يوما ولم ترها من قبل.
ٍ
-ماذا فعلتما؟
ً
-نظرأحمد إلى أدهم ،وكأنه يتوسل إليه أال يقول إال خيرا.
ارتشف أدهم رشفة من فنجان قهوته قبل أن يجيب:
-أصدقك القول فالفتاة طيبة ،ويبدو أنها نشأت نشأة سليمة ،وتربت
تربية سوية ،عقلها واسع ،وتفكيرها مستنير ،تحترم دينها ،وتقدس مبادئها.
ً
تهلل وجه ألاب لكن تهلله لم يدم إذ استطرد أدهم قائال-:
-لكن يوجد مشكلة واحدة.
استغراب:
ٍ سأله ألاب في
-ما هي؟
ً
أجاب أدهم متحاشيا النظر في عيني أخيه:
-الفتاة ال أصول لها ،وال تعرف من أباها؟.
145
ً
هب ألاب واقفا ،وكأن حية لدغته ،نظر إلى أحمد نظرة صارمة ،وأشار
بيديه إلى أدهم كي يصمت
ً ً ً
أخذ نفسا عميقا ثم قال متجاهال املوضوع ككل:
ً
-اذهبا إلى فراشكما آلان لترتحا فالوقت متأخر ،وغدا بعد عودتكما من
الشركة سنذهب إلى ابنة الوزير رحمه هللا لنقدم واجب العزاء.
زفر أدهم في ضيق ،وأحس أن ألامور تتخذ مجرى آخر ال يطيقه ..الفتاة
عادت من السفر وهو سيذهب ليقدم واجب العزاء ..وبالجملة ال بد أن يبدي
رأيه فيها ،ومن املحتمل أن يكون هناك خطبة كي يرض ي والده قبل أن يموت..
هذا الفيلم السخيف الذي مله ،والذي يرجو أن ينتهي نهاية محمودة هذه املرة
ً
أيضا.
ً
يبدو أن ألاب فطن إلى ما يدور بخلد ابنه ،فوضح وجهة نظره قائال:
-أدهم ،كف عن التفكير في مثل هذه السخافات فقد مللتك ،ولن أطلب
ً
منك الزواج ثانية ،أنت لم تعد صغيرا.
اذهب وقدم واجب العزاء فقط ،الفتاة فقدت والدها ،وليس لها من
ألاقارب أحد ،ولقد أخبرتها من قبل أني أنا وأبنائي في خدمتها إذا احتاجت
ً
شيئا ،دعها تطمئن إليكم حتى إذا غادرت أنا هذه الحياة تشعر أن هناك من
يمكن أن تستند عليهم .
ً
راض:
بصوت ٍ
ٍ هز أدهم رأسه متفهما ثم قال
-أمرك يا أبي.
146
ً
لم تكد عقارب الساعة تشيرإلى السابعة صباحا حتى سمع الشيخ صوت
ً
طرقات على باب الغرفة ،سارالرجل إلى الباب متحسسا طريقه إليه ،وهو يمني
نفسه بعودة ابنه ،لكن تأتي الرياح بما ال تشتهي السفن .
ً
بمجرد أن فتح الباب بادره صوت نسائي ملقيا السالم.
لوهلة ،ولم يستطع أن يخمن َمن هذه الواقفة ٍ توقف عقل الشيخ
أمامه؟ لكنها قطعت عليه عناء التفكير قائلة:
-أنا أم عبدالرحمن صديق طفلكم دمحم ،خفق قلب الرجل بمجرد سماعه
ً
السم ابنه ،أفسح لها كي تدخل ،وقال مشيرا بيده:
-تفضلي يا ابنتي.
ً
-دخلت املرأة ..كان املكان ضيقا ،ال يوحي بش ٍيء سوى الفقر والفاقة..
ً
جلس الرجل وارتفع صوته قائال:
-آسف يا ابنتي على سوء الاستقبال وعدم الضيافة.
-ال تقل هذا يا عمي فنحن أهل.
-لقد حكي لي عبدالرحمن ما حدث ،ويعلم هللا أني أحب دمحم وكأنه ابني،
لم يستطع عبدالرحمن الذهاب إلى املدرسة بعد ما حدث باألمس فقررت أن
آتي به إلى هنا كي يطمئن على دمحم ،ويعتذر له ،فقد كان هو السبب وراء كل ما
حدث ،لكنها تصرفات أطفال ال يدركون ما يفعلون ،والحمد هلل أن دمحم أخبره
بالعنوان من قبل وإال ملا استطعنا أن نعثر عليكم.
ً
-سألها الشيخ متعجبا:
-وما الذي حدث؟!
تدربماذا تجيب؟ ..فقالت متحاشية إلاجابة على -ازدردت املرأة ريقها ولم ِ
سؤاله ،وأين دمحم كي يطمئن عليه عبدالرحمن؟
واهن:
صوت ٍ ٍ -قال الشيخ في
147
-تكلمى يا ابنتي ،ما الذي حدث فمحمد لم يعد منذ ألامس؟ والقلق عليه
قد أكل قلبي.
ً
لم تجد املرأة بدا من إلاجابة ،وحكت كل ما حدث بالتفصيل ،سألها
الشيخ:
-وأين هذه املدرسة؟
-إنها قريبة من هنا تبعد عن هذا الشارع عشر دقائق أو أقل.
ً
ارتفع صوت الشيخ مجلجال.
-حسبي هللا ونعم الوكيل.
علمت املرأة بالقصة كاملة ،وتغيب أبناء الرجل الثالثة ،أصابها الحزن
ً
وألاس ى على حال هؤالء الذين ال يختلف حالهم عنها كثيرا ،فهي ألاخرى توفى
ً
زوجها إثر إصابته في أحد الانفجارات ،ذهب إلى عمله باحثا عن لقمة العيش
لزوجته وأبناءه ،ولكنه خرج ولم يعد ،وذهب حقه أدراج الرياح.
قامت املرأة ورتبت الغرفة ..تركت ابنها مع الرجل ونزلت إلى الشارع
ً
تمض بضع دقائق حتى عادت وبيدها أكياسا ِ لقضاء بعض الحاجيات ..لم
ً
محملة بالخضر والفاكهة ،أعدت طعاما للمريضة ..ظلت دعوات الشيخ
وزوجته تطرق مسامعها.
ً
أكلوا معا ،أصابهم شعور وكأنهم أسرة واحدة ،لم تجمعهم قرابة وال
نسب ..ولكن جمعتهم املصائب ،ووحدتهم الشدة حتى باتوا وكأنهم جسد واحد
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر ألاعضاء بالسهر والحمى.
بعد انتهاء الزيارة ،لم تتجه املرأة إلى بيتها ..ولكن ذهبت من فورها إلى مقر
ً
أحد الجرائد ،وفي صحف اليوم التالي ،بالصفحة الرابعة تحديدا ،كان هناك
ً
إعالن عن ثالثة إخوة مفقودين ،اختفوا تباعا فتاة وولدان ..وفي آخر إلاعالن
148
هناك رقم هاتف وعنوان ،ملن يستطيع العثورعليهما أو يستطيع إلادالء بأية
معلومات تساعد في العثورعلى أي منهم.
ً
وإذا نظرت في أحد الشوارع الرئيسية هناك لوجدت طفال يحمل
مجموعة من الجرائد مكدسة فوق صدره كي يكسب من بيعها قوت يومه ،وهو
ال يعلم أنها تحمل نبأ تغيبه!!
هو ال يريد الهروب ،ولم يفضل التغيب على أهله ،لكنه فقط يريد أن
ً ً ً ً
يعود رجال كما عهدوه دائما ،يريد أن يعود بطال ال طفال مكسور الخاطر..
منهوب الحق ..مهضوم القدر.
ظل هكذا يجوب أركان الشوارع ،وقبل منتصف الليل بقليل التقت
ً
شخص يعرفه جيدا "أحمد عادل" جارهم باملسكن الجديد.. ٍ عيناه بعيني
بمجرد أن رآه تسمرت قدماه ،وكأنها ثبتت في ألارض بمسامير ..اتجه إليه الشاب
ً
مهروال وقال في لهفة:
-دمحم ..ماذا تفعل هنا؟ نحن نبحث عنك منذ أول أمس ،أبوك مريض،
وأمك كذلك ،وهم في أشد الحاجة إليك ،أمك ال تعلم نبأ تغيبك حتى آلان.
سقطت دمعة من عين الفتى ،ودون أن تنبس شفتاه بكلمة أمسك بيد
ً ُ
الشاب واتجها إلى املنزل ...وبمجرد أن فتح بابه فغر فاه مندهشا من وقع
املفاجأة.
149
عجل ..وقف أحمد وأدهم بعد عودتهما من الشركة تناوال طعامهما على ٍ
بحديقة الفيال في انتظار خروج الوالد منها ،وبمجرد وصوله ارتفع رنين هاتف
أدهم ،قام أدهم بتسكين صوت الهاتف ،ولكن يبدو أن املتصل به رغبة ملحة
لإلجابة ..وارتفع الرنين للمرة الثانية.
ً
انتحى أدهم بالهاتف جانبا ،وما هي إال لحظات حتى ارتفع صوته وظهر
اندهاش كي يعرف مغزى هذا ٍ التوترعلى مالمحه ،توقف ألاب ونظر إليه في
ً
الاتصال ،لكن صوت أدهم ارتفع متسائال:
-أواثق أنت من هذا؟
إذن أعطني العنوان ،وأخرج أدهم ورقة وقلم ثم خط بضع كلمات.
اعتذر أدهم عن اللقاء في عجالة ،ثم اتجه نحو سيارته ،وانطلق بها في
يدر أحد أين وجهته؟سرعة البرق ،ولم ِ
ً
استقل أدهم سيارته ،وانطلق بها صوب إلاسكندرية ،أخيرا عثرعلى
ً
العنوان ،انتظر هذه الخطوة كثيرا..هو ال يشتاق إليها بقدر ما يشتاق إلى إنقاذ
هذه ألاس رة الغريقة التي جارعليها الزمن واعتدى ..ألامرال يتعلق بكونه متصل
باملرأة التي وقع في حبها بقدرانشغاله بهذا الوالد الكفيف ،وبهذه املريضة التي
ً
ال تدري أهي حية أم ميتة؟ ..ظلت سيارته تنهب ألارض نهبا إلى أن وصل إلى
املكان الذي التقيا فيه ..خفف من سرعته وكأن ه يتأمل مكان لقاءها ،ما أحب
هذا املكان إلى قلبه !! وما أعزه على نفسه !! ..تحامل على مشاعره وأكمل سيره
بسرعته الجنونية وكأنه يخش ى رحيلهم قبل أن يصل إليهم.
ارتفع رنين هاتفه ،لم يكن املتصل سوى أحمد ،طمأنه عليه ،ثم أغلق
ً
هاتفه ..أخرج الورقة التي كتب عليها العنوان ،ألقى نظرة عليها سريعا ..يبدو
أنه من العسيرالوصول إلى هذا املكان ،لم تكن الشقة بشارع رئيس ي وال بمكان
ً
مشهور باإلسكندريه كاملكان الذى زارهم فيه سابقا ..لكن ليست هناك ٍ
150
مشكلة ..سيحاول قدر املستطاع أن يلتقي بهم لو كلفه ألامر املبيت
باإلسكندرية ،والبدء في رحلة البحث عن الشقة منذ الغد.
151
أمسكت بالجريدة كي تعيد قراءة الخبر ثانية في ش ٍيء من التأني وقبل أن
إعالن آخرعن ثالثة إخوة متغيبين..
ٍ تقع عينيها على الخبر ،وقعت عينها علي
قرأت إلاعالن أكثرمن مرة في ش ٍيء من الذهول ..لكم بحث أبوها عن مسكنهم؟!
ً
ولكم منت نفسها بالعثورعليهم؟ ..لم تتوقع يوما أن تعثرعليهم بهذه الطريقة
السهلة التي ال تخطر على بال أحد.
هبت واقفة ،ركبت سيارتها واتجهت نحو إلاسكندرية ..ظلت تسابق
صراع مع الزمن ..داهمتها ذكرياتها املاضية في هذا الطريق، ٍ الريح ،وكأنها في
املكان هو املكان ،والوقت نفس الوقت ..كبحت جماح مشاعرها ليس هذا
ارتياح،
ٍ وقته ،نظرت إلى الجريدة التي تشغل املقعد املجاور ملقعدها ،تنهدت في
ً
أخيرا العنوان معها حتى وإن ضاعت الجريدة تستطيع أن تبتاع أخرى تحمل
نفس العنوان ،أوقفت السيارة بضع مرات ،واستفسرت عن العنوان من املارة
ً
أكثر من مرة وأخيرا وصلت إلى الشارع املقصود.
كان الحي ككل أحياء مصر بأوالده الكثيرين املختلفين في أعمارهم..
يلعبون الكرة أو ما شابه رغم أن النوم يطل من أجفانهم ،ويكاد يغلق أعينهم
ً
غلقا ..والنساء جالسة أمام املداخل ،وقد تعالت أصواتهن وكأنهن في عراك ال
مجرد حديث نسائي عابر ..وهنا ماء مراق تفوح منه رائحة الصابون ..وهناك
وداعة ،رغم أنه شارع واحد ،إال أن مصر ٍ كلب أو عدة كالب تفترش التراب في
كلها تجتمع فيه ،مناظر ال توحي بش ٍيء سوى البساطة والطيبة التي يجود بها
هذا الشعب الهزيل.
ً ً
أخيرا توقفت أمام املبنى املنشود ..وقبل أن تهبط من السيارة رأت رجال
ً
يهبط السلم في عجالة ويوليها ظهره متجها إلى إحدى السيارات الواقفة على
جانب الطريق ،وبمجرد أن وقعت عينها على السيارة ميزتها ،بالتأكيد هو،
قوامه الفارع ،وقده املمشوق ،وخطواته الواسعة ،إضافة إلى ذلك سيارته،
152
ترى ما الذي يفعله هنا؟ ترى هل يسعى هو آلاخرمن أجل تحريرهذه املسكينة؟
ترى هل ما زال يساعد هذه ألاسرة املنكوبة؟ أم أنه لم يصل لها إال اليوم
هدوء ..ترجلت من السيارة ،وبعد بضع ٍ بمساعدة هذا إلاعالن؟ ..زفرت في
مرة تراها ..بعد دقائق علمت دقائق كانت أمام الباب فتحت لها امرأة ألول ٍ
بقصتها هي ألاخرى.
انتهى ألاب من صالته وجلس قبالة أروى ،ألقت عليه التحية ،واعتذرت
ً
عن غيابها بأنها حاولت الوصول إليهم كثيرا هذه الفترة ألاخيرة لكنها لم تستطع
إال بمساعدة هذا إلاعالن ..لكن الرجل لم يعنفها أو يعاتبها ..وجهه كما هو
تزينه الابتسامة ،ويريحك النظر إلى وجهه ولحيته البيضاء.
لم تمر بضع دقائق على حديثها مع الرجل حتى فتح الباب ،وانطلق دمحم
ً
داخال منه تجاه أبيه ،ظل يقبله ويبكي ويعتذر عما بدر منه ..وما هي إال دقائق
حتى امتألت الغرفة بشباب الحي وبيد بعضهم زجاجات من الشربات فرحا
بعودة دمحم ..كانت تنظر إلى دمحم وهو يقف بجوار عبدالرحمن والرضا يشع من
ً ً
مالمحهما ..ذكرتها صداقتهما بعالقتها بعائشة سابقا ونسيم مؤخرا ..تنهدت في
ً
ضيق ،وفجأة التقت عينها بعيني دمحم ،فغر فاه مندهشا ثم اتجه إليها يحتضنها ٍ
ً
بالغ هاتفا:
في ٍود ٍ
أخاك من قبل لكنه
ِ حالك.؟ ماذا عن عائشة؟ ..لقد رأيتِ -أروى ،كيف
لم يرد علي ..أين كنت طوال هذه الفترة؟ وملاذا لم تسألي عنا؟ ..لقد تركت
أراك؟
املدرسة ،ولكم تمنيت أن ِ
بشدة ،أفلت الطفل من بين ذراعيهاٍ وضعت يدها على فمه واحتضنته
تمتألن بالدموع:
ِ وقال عيناه
-هل ستعود عائشة؟
هزت رأسها أن نعم.
153
-وإياد؟
-أجل.
سنراك مرة أخرى؟
ِ -وهل
مسحت دمعة ترقرقت في عينها ثم قالت :
-ستراني حتى تمل مني.
بعد انصراف أهل الحي الذين جاءوا من أجل الاطمئنان على دمحم لم
ً
تجلس إال قليال ..تبادلت أرقام الهاتف مع هذه املرأة الطيبة ثم استأذنت من
أجل اصطحاب ألاطفال في نزهة قريبة ،وما هي إال ساعة ونصف الساعة حتى
قفلت راجعة ،وبيد كل واحد منهم حقيبة مملوءة باملالبس ،وقبل أن يخلد
ً
ألاطفال إلى النوم أخبرتهما أنها من الغد ستذهب بهما معا إلى املدرسة من أجل
إلحاق دمحم بها مرة أخرى.
بفرحة ،ولم
ٍ قفز دمحم عدة قفزات ،والفرح يشع من مالمحه ..لم تشعر
بسعادة كالتي تشعربها الليلة ..وكأن فعل الخيريجود على فاعله قبل أن ٍ تشعر
يجود على محتاجيه ..هبت واقفة لتستأذن مغادرة ،لكن كلمات ألاب
خجل-:
استوقفتها في ٍ
-أين ستذهبين يا ابنتي عقارب الساعة تخطت منتصف الليل.
فندق هنا ..لن أغادر إلى القاهرة آلان.
ٍ -سأبيت بأي
فندق ونحن هنا؟ هذه سبة كبيرة لنا ،أعلم أن الغرفة ليست قدر ٍ -أي
مقامك لكنها كل ما نملك ،سأبيت أنا بالشرفة وأترك لكي سريري ودمحم سينام ِ
بجانب والدته.
رفضت في ش ٍيء من الحرج ،لكن أم عبدالرحمن قالت باسمة:
ليس هناك خيار ثالث ،إما أن تقض ي الليلة هنا أو في منزلي ..تعلق
ً
عبدالرحمن بثوب أروى فرحا:
154
ً
-حقا هل ستبيتين عندنا؟
ً
لم تجد أروى بدا من املوافقة ،ألقت نظرة على وجه دمحم الباسم رغم أنه
ً
نائم ..حملت الفتاة الصغيرة بدال عن أمها وغادرت إلى شقة هذه املرأة الطيبة.
ً ً
تحادثت معها طويال ..حكت لها املرأة أهوالا ..تارة تبكي وتارة تبتسم أثناء
الحديث ،وكأنها تعيش املوقف الذي تحكيه ..مسحت املرأة دموعها في ش ٍيء
من الخجل ..ابتسمت ودموعها تمأل وجهها ،وقالت في ابتسامة:
بك.
استقبال مثل هذا؟ ..استقبلتك بمآس ى قبل أن أرحب ِ ٍ أرأيت سوء
ِ
عليك..هكذا أشعر أنني من أهل البيت. -ال ِ
أصبحت كذلك ..أنا وحيدة ال إخوة وال أخوات إال أنتي ..أيمكنني ِ -بالفعل
ذلك أم معرفة الفقراء معرة؟
نظرت إليها أروى في ش ٍيء من العتاب ثم قالت:
مررت به
ِ أنت فتاة مدللة لم تمر بنصف ما -ال تقولي هذا ..بل هل تقبلين ِ
ً
لك؟
أختا ِ
ً
ضحكت املرأة في ش ٍيء من السخرية ..ثم قامت تعد طعاما.
ً
كان الطعام بسيطا للغاية ،لكن أروى أكلت بشهية حتى شبعت ،لم تأكل
براحة مثل تلك التي شعرت بها الليلة.. ٍ هكذا منذ أن توفي والدها ،ولم تشعر
صحيح عائشة لم تحرر ،وإياد لم يعد حتى آلان ،لكن يكفيها الليلة عودة دمحم
بعد غياب.
تأملت الغرفة التي ستنام فيها يبدو أنها مخصصة لطفلين لكنها احتلتها
هذه اللي لة ..لوهلة تذكرت نسيم حاولت أن تنفض طيفها من عقلها ..هي
ً
غاضبة منها وبشدة ،ملاذا هانت عليها عشرتهما معا؟ ،لم تتصل بها حتى ..هى
واحد ،ملاذا بخلت به؟ ..ظلت ألافكارتراودها وطيف اتصال ٍ ٍ لم ترغب منها سوى
نسيم يعبث بخيالها إلى أن أغمض النوم جفنيها.
155
استيقظت على همسات عبدالرحمن ..نظرت إليه باسمة ..يبدو أنه
سعيد بوجودها للغاية ،ظل يتحسس وجهها وكأنه يتحسس كنز ..بمجرد أن
واضحة:
ٍ براءة
فتحت عينها ،هتف في ٍ
-كسولة أنتي ،سيفوتنا ميعاد املدرسة ،هبت جالسة ثم وضعت يديها
تحت ذقنها معتذرة:
-لن أفعلها ثانية يا سيدي.
أمسكت بيد الطفلين ،واتجهت صوب املدرسة ،قامت بسحب ملف
ً
عبدالرحمن ،والتقديم لهما معا بمدرسة أخرى مديرها محمود السيرة،
وحسن السمعة ،وطيب القلب ..ساعدها مركزها على إنهاء إلاجراءات بسهولة
..نظرت إلى الطفلين وهما جالسان بجانب بعضهما البعض ،والسعادة قد
رسمت خطوطها على وجه يهما ..قبل أن تغادر ،انحنت وقبلتهم وتخللت
أصابعها شعر دمحم وقالت متسائلة:
ً
تريدان مني شيئا آخر آلان؟
ِ -هل
ً
امتنان قائال:
ٍ -نظر إليها دمحم نظرة
أحبك يا أروى.
ِ -
ضمتهما على صدرها أكثر ثم استقامت مغادرة.
156
()12
يق المطار
157
-تكلمي يا ابنتي ماذا تعلمين؟
ً ً
فجرت قنبلتها مرة واحدة وقالت وكأنها ترفع عبء ثقيال عن عاتقها:
-لقد قبض عليها في مسيرة ما ،أو اعتصام ما ،ومنذ ذلك الحين وأنا ال
ً
أعلم عنها شيئا.
واهن:
بصوت ٍٍ غام وجه ألاب ،وتقلصت عضالته ..ثم قال
وحدتك
ِ سجنك وال
ِ -سامحيني يا ابنتي ،لقد ظننت بك الظنون ولم ِ
أراع
..توكأ على عصاه ثم اتجه صوب دورة املياه بعد أن استأذن منها ..علمت أنه
ً
ذاهب كي يتوضأ ..ظل الرجل يصلي ويدعو طويال ..زجرت نفسها على ما
فعلت ..كان من الواجب أن تخفي مثل هذا ألامرعلى ألاب الذي ال يملك من
ً
أمره شيئا.
لكن أليس هذا هو الصواب؟ ..على ألاقل ألم تلغي أفكار الرجل السيئة
عن ابنته؟ ألم يقل هو هذا بلسانه؟ ..انتهي ألاب من صالته ..حاولت أن تعتذر
ً
عن ألاخبارالسيئة التي جاءت بها ،لكن ألاب أشارلها أن تصمت ..وحسنا فعل،
لقد كفاها شر اختالق ألاعذار.
داع لالعتذار يا ابنتي ،هذه هي الحقيقة التي كان يجب أن -ليس هناك ٍ
أعلمها من ذ أن حدث هذا ..لكن حتى لو علمت ما الذي يمكنني فعله؟!
هتفت هي:
-أنا يمكنني ..أنا محامية ،وسأستميت في الدفاع عنها ،وهذه هي بداية
محام آخر ،وسأتابع إجراءته حتى انتهي من دراستي بالخارج. الطريق ..سأكلف ٍ
-وهل ستغادرين مرة أخرى؟!
ألول مرة تشعر أنها ذات فائدة ..وبرغم كل ضعفها ال يحق لها أن تميل
ألن هناك من يستند عليها.
158
فترات كي أطمئن على
ٍ -سأغادر لكن ليس كاملرة السابقة ..سأعود على
سيرإلاجراءات التي تخص عائشة ،وسأحاول أن أستفيد من عالقات أبي ألعلم
إلى أين اتجه إياد.
-ال أدري ماذا أقول ِ
لك.
ً
-ال تقل شيئا ..فقط ادعو هللا أن يكلل خطواتنا بالتوفيق.
معك لدقائق؟
-السالم عليكم ..آنسة نسيم ،أيمكنني الحديث ِ
-نعم تفضل.
ً
حالك ..وكيف حال الوالدة أيضا؟ ِ -كيف
-بخير حال الحمد هلل.
دراستك الاختبارات على ألابواب؟
ِ -كيف حال
-بخير ..الحمدهلل.
صديقتك املصرية؟
ِ -أيمكنني السؤال عن
رفعت حاجبها فى استغراب ،ولم تستطع أن تخمن ما الذي يدور بخلده..
هزت كتفيها وأجابت:
-لقد رحلت.
ظهرت على وجه إياد أمارات الخيبة ،واستطرد في محاولة منه للوصول
إليها:
-أليس لها رقم هاتف يمكنني العثورعليها فيه؟
يء يمكنني مساعدتك فيه؟ -أهناك ش ٌ
-لألسف هي الوحيدة التي تستطيع أن تفعل.
159
-ماذا هناك؟!
-تعلمين أنني مصري الجنسية ..أليس كذلك؟
-بلى.
-كنت أود أن أعرف متى تسافر إلى مصر ..أردت إرسال بعض ألاشياء
ألسرتي معها.
-لألسف رحلت.
-هللا املستعان ..أيمكنني الانصراف.
-بلى ،تفضل.
تقدم بعض الخطوات ،ثم لحقت به مسرعة وقالت:
-ماذا إن عادت ..هل أخبرها؟
-أتمنى ..وجهها يوحي بالخير ،وأنا أثق بها ..أخبريها أن اسمي " إياد عاطف
عبدالرحمن" من إلاسكندرية وأود إيصال.................
شرد ذهنها " إياد عاطف عبدالرحمن" ،بالفعل قرأت هذا الاسم
ً
بالبطاقة الخاصة به كثيرا ،لكنها سمعته من أروى أكثر ...ويبدو أنها لم تنتبه
لذلك.
أنت معي؟
-هل ِ
-أتقول أنك من إلاسكندرية؟
-أجل.
-ماذا عن إخوتك ..هل لك إخوة؟
-ماذا تقصدين؟!
-أخبرني باهلل عليك ..هل لك إخوة؟
-نعم ..عائشة ودمحم.
160
هنا خارت قواها ولم تستطع قدماها أن تحملها ..كادت أن تهوي على
ألارض ،لكن يديه حالت بينها وبين السقوط.
-آسفة.
أنت بخير؟
عليك ..هل ِ-ال ِ
-هيا إلي السفارة.
-إلى أين؟!!
-إلى السفارة ..البد أن نحصل على رقم هاتف أروى.
لم؟َ -
-إنها تبحث عنك.
-عني أنا؟!!
-هيا آلان ليس هناك وقت.
-لن أفعل.
لم؟نظرت إليه في استغرابَ ..
-ألنه محظور علي ارتياد مثل هذه ألاماكن.
-ماذا تعني.
-أنا مصنف علي قائمة املحظورين من دخول مصر.
نظرت إليه في ذهول قائلة:
لم؟ َ -
-ال أدري ولهذا أنا متخف هنا حتى آلان.
ومن الذي أخبرك بهذا؟ َ -
-صديق لي يعمل بالنيابة العامة أخبرني ذلك..و بمجرد أن وصلت إلى هنا،
وأنا أعاني هذا.
-فلتبقى أنت ..سأحاول أنا العثورعلى هاتفها.
161
-ليس قبل أن أفهم ملاذا كانت تبحث عني؟ وهنا ملعت في ذهنه صورة
ً
عائشة وهي ترافقها ذات مرة ثم استطرد مجيبا علي نفسه:
-إنها صديقة عائشة أليس كذلك؟
ً
-إذن ملاذا كانت تبحث عني ..هل أصاب أمي شيئا ..هل أبي بخير؟
صعوبة ولم تجب.
ٍ ازدردت ريقها في
أرجوك تكلمي ..هل هم بخير؟ ِ -
-بلى.
-وملاذا تبحث عني.
ً
لم يتلق جوابا سوى الصمت.
-أمي ماتت أليس كذلك؟
-ال ..إنها عائشة.
قال بعصبية:
-ماذا أصابها؟
ُ -سجنت.
ً
خر جالسا على أقرب مقعد.
ً
كان اعترافها قاسيا ..لكن هي لم تخطئ ،البد أن يعلم ذلك ،هو رجل
ألاسرة وليس لهم سند غيره ..من الضروري أن يعلم ما يمرون به وإال فما
الفائدة من وجوده؟
ً
-سأحاول أن أتواصل معها بأي طريقة من أجل أن أخبرها أننى أخيرا
عثرت عليك ..سأهاتفك إن توصلت لش يء.
ً
تركت الجامعة في هذا اليوم مبكرا ..واتجهت إلى مبنى السفارة املصرية
وبعد تفتيش دقيق ُسمح لها بالجلوس في ردهة الانتظار لبضع قائق ..حتى
تواصلت معها إحدى العامالت بالسفارة.
162
-ما ألامر يا سيدتي؟
-أود الحصول على رقم هاتف الوزير "محمود الشرقاوي".
نظرت إليها املرأة في دهشة قائلة:
-ماذا هناك؟
-إنني صديقة ابنته ،وهناك أحد ألامور املهمة التي أردت إخبارها بها.
نظرت إليها املرأة متفحصة ثم قالت:
-الوزير متوفى منذ أكثر من أسبوعين.
تهاوت نسيم على أقرب مقعد ..هذا هو سبب اختفائها إذن ..يا لها من
صديقة سيئة ،كيف لم يخطرعلى بالها من قبل هذا؟ ألم تعترف أروى
ً
شخصيا بتوقعها لحدوث هذا من قبل؟
تحاملت على نفسها قائلة:
-أيمكنني الحصول على رقم هاتف املنزل؟
-انتظريني دقائق فحسب.
-اختفت املرأة في أحد الحجرات لفترة قصيرة ،ثم عادت ومعها رقم الفيال
بالقاهرة.
لم تستطع نسيم الانتظار حتى الوصول إلى شقتها ..جلست على أحد
املقاعد املوجودة على أحد ألارصفة وحاولت الاتصال بالرقم الذي حصلت
عليه ولكن كالعادة تأتي الرياح بما ال تشتهي السفن.
ً
جاءها الرد مقتضبا:
-آلانسة أروى ليست هنا منذ ألامس.
-إذن أين هي؟
-ال أعلم.
-أيمكنني الحصول على رقم الهاتف الخاص بها؟
163
نعم.
في هذه اللحظات ،لم تكد أروى تغادرالباب محملة بدعوات ألاب وزوجته
ً
بعد أن وعدتهم باالطمئنان عليهم دائما.
هبطت بعض درجات السلم ..ارتفع رنين هاتفها ..نظرت إلى شاشته..
كانت نسيم أبعد ما يكون عن بالها في هذه اللحظات ..علمت أن الاتصال ٍ
آت
وجل ثم رفعتمن باريس ..لعلها الجامعة أو املشرف على رسالتها ،تنهدت في ٍ
سماعة الهاتف إلى أذنه ا وهنا أتاها صوت لطاملا تمنت سماعه.
-أروى أنا أسفة على كل ما حدث ..لكن هذا ليس وقت اعتذارات..
ألخبرك أنني عثرت على إياد ،لقد علم كل ش ٍيء وبنبأ تغيب عائشة. ِ بك
اتصلت ِ
لم تستوعب أي ش ٍيء وظلت صامتة.
أخبرك أنني عثرت على إياد.
ِ أنت تسمعيني؟ ملاذا لم تتكلمي؟ -أروى ..هل ِ
-هل أنت محقة في هذا؟
إليك بشدة:
بك ..لقد اشتقت ِ -نعم وهللا ..وإال ملا اتصلت ِ
وأهاتفك مرة أخرى.
ِ -وأنا كذلك ..سأخبر أهله
اتصالك.
ِ -سأنتظر
ً
مبحوح لم
ٍ بصوت
ٍ استدارت إليهم ..رأت اللهفة في عيونهم جميعا ،تكلمت
يفق من وقع املفاجأة بعد:
-لقد عثرنا على إياد.
ً
خر ألاب ساجدا ..وهنا جاء صوت ألام الذي طال صمته:
ً
-أحقا يا ابنتي ..إياد ابني.
-نعم يا أمي هو بعينه.
-ما أكرمك يارب وما أحلمك ..هل هو بخير؟
-أعتقد ذلك.
164
-هل يمكنني الحديث معه يا ابنتي؟
-سأحاول ..هاتفت نسيم بعد برهة جاءها صوتها.
أنت متأكدة؟
-هل ِ
ً
-مائة باملائة ..أتذكرين الطبيب الذي قابلناه مسبقا في زيارة ألمي ..إنه
هو.
معك آلان ..أهله يريدون محادثته؟
-هل هو موجود ِ
أنت بمنزل أهله؟
-كال ..هو ليس معي ..هل ِ
-نعم منذ ألامس.
-لعلهم بخير.
-هم كذلك ..ملاذا تغيب كل هذه املدة؟
ممنوع من دخول مصر.
َ -
لم؟
ال يدري ،لكن أحد زمالئه بالنيابة أخبره ذلك بعد سفره مباشرة..
سأحاول أن ألتقي به ،فقط أعطني رقم هاتف أحدهم.
-آسفة يا عماه ،لم أكن أعلم أنني سأغادر ..لقد كان سفر طارئ لم
أستطع أن أؤجله.
عليك لقد اتخذت إلاجراءات أنا ..ماذا تنوين أن تفعلي؟
-ال ِ
ً َ
-سأسافر إن شاء هللا ..لقد سهلت ألامور كثيرا ،لقد التقيت بأهل
عائشة ،وأخبرتهم نبأ محبسها ،أما الخبر الثاني ألاكثر سعادة ..لقد عثرنا على
165
أخيها املتغيب منذ أكثر من عام ،لم يعد هناك ش يء سوى أن نعلم أين
محبسها؟
-سأكلف املحامي الخاص بي بهذا ألامر ،وهذه خطوة في غاية السهولة
ً ً
أيضا ..لقد تم إلاعالن عن مجموعة كبيرة من املختفين قسريا هذا ألاسبوع،
ولعلها يدرجون اسمها في الفوج القادم.
-أتمنى ذلك.
-حتى لو لم يحدث ..سأستخدم عالقاتى الدبلوماسية ومعارفي من أجل
أن أتوصل إليها ..ال تقلقي.
-أيمكنني الحديث بش ٍيء آخر؟
-تفضلي.
-وأنا أعبث بمحتويات أبي ،عثرت على صورة المرأة لم أرها من قبل ،لم
ً
أهتم كثيرا لألمر ،لكن الغريب أنها ظهرت في أكثرمن صورة ،وألاغرب أنك كنت
ً
ظاهرا في بعضها.
صعوبة ولم يجب ..أمسكت بحقيبتها ثم أخرجت منها ٍ ابتلع ريقه في
الصورة التي ا حتفظت بها من قبل ..مدت يدها بها قائلة:
-تفضل ..البد أنك تعرفها ..أليس كذلك؟
-بلى.
َ -من تكون؟!
أبيك.
-إنها أخت ِ
-أخت أبي أنا؟!! ملاذا لم أرها من قبل؟
-ال أدري.
-هل هناك أمر ما تخفيه علي؟
شرد بصره في الفضاء ولم يجب.
166
-ماذا هناك؟
عمتك يا بنيتي ،لقد غادرت منذ أعوام عديدة ،وال ِ -ال ش َيء ..هذه هي
ً
علم باملوضوع ..فقد أصبحت على ٍ
ِ أنك
يعرف أحد لها مستقرا حتى آلان ..بما ِ
ميراثك على ثالثة حسب ما تقض ي ِ والدك إذا ظهرت ،أن أقوم بتوزيع ِ أوصاني
به الشريعة إلاسالمية.
ثالثة ..من تقصد بثالثة ،أنا وعمتي فقط َمن الثالث؟
-ابنتها ..كان لديها فتاة.
-ليتها تعود وتأخذ امليراث كله ..إنني في أشد الحاجة إلى قريبة وابنة عمة.
-نحن أقارب يا ابنتي.
ود قائلة: ابتسمت في ٍ
-الصداقة تختلف عن القرابة ،وإن كنت أقرب لي من قريبتي هذه.
-لكنني بالفعل قريب وليس مجرد صديق فقط.
ً
-حقا؟
-نعم.
-وما هي صلة القرابة إذن؟
لك أنني قريب أكثر منه صديق ..فلنعود إلى -ليس هذا وقته ،لكنني أؤكد ِ
جمعت كل املعلومات التي يمكن أن تساعدنا في العثورعليها؟ ِ قضيتنا ،هل
ً
-نعم ..أخرجت من حقيبتها ملفا وضعته على املكتب قائلة-:
-هذا امللف يحوي كل ش ٍيء.
وأبلغك
ِ -هللا هو املوفق ،سأذهب أنا آلان ..سأجلس مع املحامي
بالتفاصيل إن جد جديد.
ً
-سأنتظرأخبارا مبشرة.
ً
-إن شاء هللا ..لكن أخبريني أوال متى ستغادرين؟
167
ً
مساء. -اليوم في السادسة
ً
-سريعا هكذا؟
ً
-لقد ضيعت الكثير من الوقت هنا ..لم يعد هناك مبررا ملكوثي هنا أكثر
من ذلك.
-على بركة هللا.
انصرف الرجل إلى مسكنه ..وفي حديقة الفيال وجد أدهم يجلس مع
ً
املحامي ..ألقي عليهم تحية عابرة ثم استدار وكأنه تذكر شيئا ..نظر إلى املحامي
ً
مخاطبا:
-جاسر ..لقد جمعت املعلومات التي يمكن أن تفيدك بشأن القضية التي
ً
حادثتك بشأنها ..سأطلع على امللف ثم أرسله لك صباحا.
-أنا في انتظار وصوله.
-معذرة دكتور أدهم ..أكمل ما كنت تقوله.
ً
-إنها قضية تخصني شخصيا ..وتمسني بشكل مباشر..أريدك أن تبذل
كل ما في وسعك حتى تكون ألامور في صالحنا ..وال أخفي عليك ألامور معقدة
ً
جدا ،والقضية سياسية من العيار الثقيل ،وال نعلم للمتهمة مكان حتى آلان..
بل حتى ال نعلم هل حية أم ميتة؟
-ال تقلق ..لقد أخبرت الدكتور كمال أنني لن أتوانى في الحصول. ....
-دكتور كمال!! ما عالقة أبي باملوضوع؟
-أوليست هذه قضية عائشة عبدالرحمن؟!
-من أين لك بهذا الاسم.
ً ً
-أنا ال أفهم شيئا ..هذه القضية حدثني والدك بشأنها صباحا.
-والدي أنا!!
-نعم.
168
-وما عالقته بعائشة ..أمتأكد أنت؟!!
-كل التأكيد.
ً ً
-إذا انصرف آلان ،وإن توصلت لش ٍيء أخبرني به فورا.
-بالتأكيد.
اجتاز أدهم خطوات سلم الحديقة في خطوات واسعة ..طرق باب غرفة
املكتب ،ولم ينتظرإلاذن بالدخول ..لم يكن والده بالغرفة ..لكن لفت نظره
ملف موضوع فوق املكتب بعناية ..أمسك امللف بين يديه ،ألقى عليه نظرة
عابرة ثم استوقفه اسم موجود بمقدمة الصفحة ألاولى "عائشة عاطف
عبدالرحمن" ..وضع امللف في عدم اكتراث
خرج من املكتب وصوته يجوب أركان الفيال ..ما الذي يحدث؟ أنا لم أعد
ً ً
بفزع:
ٍ قائال الثاني الدور من أحمد عليه أطل .. شيئا أفهم
عال هكذا؟ -أدهم ماذا هناك ملاذا صوتك ٍ
-ما الذي يحدث هنا ..ما عالقتكم بعائشة؟
ً
-هبط أحمد السلم عدوا وهو يقول:
-اخفض صوتك والدك مرهق ونائم.
-ليس قبل أن أفهم.
-تعال كى أفهمك.
هتف أبوه بهذه العبارة ،وهو يهبط السلم بخطوات وئيدة ..ثم تقدمهم
ً
إلى حجرة املكتب ..جلس ألاب متوسطا املنضدة وعلى جانبيها من الناحية
ألاخرى أدهم وفي قبالته أحمد.
ً
-باختصار يا بني هذه قضية تهمني أنا شخصيا ..حملق أدهم في عدم
ً
استيعاب هاتفا:
-ماذا تعني؟
169
-هذه قضية أوصاني بها الوزير محمود الشرقاوي رحمه هللا ..إنها تخص
ابنته أروى.
وهنا انتفض قلبه انتفاضة زعر قبل أن يهتف -:
-أروى من؟
-أروى ابنته ..ابنته الوحيدة.
ً
-هل هذه هي ابنة الوزيرحقا؟
نعم.
-إذن هيا.
-إلى أين؟!!
-إليها.
واضح:
ٍ استياء
ٍ قال أحمد في
-بل أنا الذى لم يعد يفهم أي ش ٍيء في هذا البيت.
-ليس هذا وقت فهم.
-قم معي يا أبي إليها.
نظر ألاب في ساعة يده ثم قال في المباالة:
-لقد سافرت هي آلان في طريقها إلى فرنسا.
ً
ارتمى أدهم على أقرب مقعد ثم قال متسائال:
-متى غادرت؟
ستنطلق طائرتها في السادسة مساءً.
ً
نظر أدهم إلى ساعة يده ثم هب واقفا ..اتجه نحو الباب وهو يقول:
-مازال أمامي بعض الوقت ..استقل السيارة وانطلق بها في سرعة جنونية
صوب املطار.
170
باق من الوقت نصف ساعة فقط ..أخرجت من نظرت هي في ساعتهاٍ ..
ً
حقيبتها مصحفا لتقطع به املرور الطويل للوقت وفجأة ارتفع صوت مكبرات
ً
الصوت هاتفا
"-على آلانسة أروى محمود الشرقاوي التوجه إلى مكتب الاستعالمات
قبل صعود الطائرة املتجهة إلى باريس.
دهشة ..ظل الصوت يكرر نداءه ..لم تستطع أن تعرف ما ٍ تلقت النبأ فى
الذى وراء هذا النداء؟ ..أغلقت حقيبتها وبالفعل اتجهت نحو مكتب
ً
الاستعالمات ،وفجأة رأته واقفا أمامها بجسده وروحه وكل كيانه ،هتفت هى
فى ذهول :
-ما الذى جاء بك إلى هنا؟
أنت
ِ -
-أنا!!
أدعك تذهبين ثانية ..يكفينى ما حدث في املرة السابقة حاولت ِ -نعم ..لن
أن تخفي ابتسامتها ..لكنها اتسعت أكثر حينما هتف بها :
ً
لك؟ -هل تقبلين بى زوجا ِ
ً
وفجأة جاءهم صوت ثالث قائال :
-هكذا ..من ورائنا ،ألن تكف عن هذا التخابث؟
ً
استخفاف:
ٍ نظر أدهم إليها مشيرا إلى هذا املتحدث وقال فى
-أحمد ..أخي.
-أعلم.
ً ً ً
تقدم ألاب وخلفه رجال يضع العمامة على رأسه وبيده دفترا عريضا ...
قال ألاب بصوت يقطر سعادة:
-هيا ..ها أنا وكيل العروس.
171
هتفت فى عدم تصديق :
-ما الذى يحدث ؟!
أزوجك البنى ..هل تمانعين؟ ِ -
ً
واضح :
ٍ عبث
-خفضت بصرها أرضا ولم تجب ..هتف أحمد في ٍ
-إذان السكوت عالمة الرضا.
ً
وكزه أدهم فى صدره قائال :
كف عن هذا العبث ..ال تخجلها أكثر من ذلك.
أنهى الشيخ املعمم إجراءاته وبارك للعروسين ..وفجاءة انهالت عليها
التهنئة ،وارتفع التصفيق ،ورأت أناس لم ترهم من قبل يتدافعون نحوها من
ً
أجل السالم عليها وتهنئتها ..كاد قلبها أن يرقص طربا من هذه املفاجأة الغير
ومن هؤالء الذين يشاركونها بهجتها دون أن تراهم من قبل ودون أن متوقعةَ ،
تراهم ثانية؟ مد الوالد يديه داخل جيب سترته ثم أخرج منه علبة فضية اللون
ً
..مد يده بها نحو أدهم قائال:
-وهذا خاتم خطبتك ضعه فى يد عروسك.
هادئ:
ٍ رخيم
صوت ٍٍ بلحظات هتف في
ٍ وقبل أن تتجه إلى الطائرة
ً
بك عاجال. -انتظرينى سألحق ِ
-سأنتظرك.
ً
قال ضاحكا :
ً
-هكذا سريعا ؟!
حياء ،وآثرت الصمت. خفضت بصرها إلى ألارض فى ٍ
ً
أسالك سؤالا؟ ِ -أيمكننى أن
-نظرت هي في ساعة يدها ثم قالت:
-تفضل.
172
أتركك تغادرين قبل أن تجبيين
ِ أمرك ..لكن لن
أنك في عجلة من ِ -أعلم ِ
علي ،ملاذا اختفيتى املرة السابقة دون سابق إنذار ..هل أنا منفر إلى هذه
الدرجة؟
-بالطبع ال.
شعورك وقتها.
ِ -إذن حدثينى عن
نظرت إلى ساعة يدها ثم قالت بابتسامة خجولة:
-الطائرة.
وضع ساق على ساق ثم عقد ساعديه أمام صدره وقال في استفزاز:
ً
سأمنعك من السفر تماما.
ِ -قلت لن تغادرى قبل أن تجيبى وإال
-هل تقدر؟!
-نعم ،ومن يقدر غير زوجك؟
-زوجى!!
ً
قال مقهقا:
شئت
ِ مالك متعجبة هكذا ..الشيخ ما زال هنا هيا لنسأله ..وإن
يدك ..بماذا يوحي هذا اللون ألازرق؟ ..ها أجيبى بماذا فانظري إلى بصمة ِ
أحسست وقتها؟
نظرت في عينيه مباشرة قائلة:
-تمنيت حينها لو أن بإمكانك رؤية قلبى ..لو كانت املشاعر ترى ألراحتنا
ً
كثيرا ..هل تسمح لي باملغادرة آلان؟
ً
وضع كفها بين يديه ،ثم شد عليها قائال:
-فى أمان هللا وحفظه.
173
ظل يتابعها ببصره إلى أن صعدت سلم الطائرة ..التفتت إليه وكأنها
تملي عينيها منه بنظرة أخيرة ..اتجهت إلى مقعدها وقلبها يحلق حيث يوجد
هو.
174
()13
ً
كن عاقال
أنا املحامي جاسر حسن القاض ي ..املحامي الخاص بمجموعة شركات
ً
النشار جروب لألدوية ..لوهلة لم تنتبه لالسم لوال أنه استطرد قائال:
يلتقيك بنفسه ..سأحاول أن ِ إليك دكتور أدهم ..كان يود أن
-أرسلني ِ
ً
أستصدر له تصريحا بالزيارة ..لن عد إلى قضيتنا أنا املحامي املكلف بمتابعة
ً ً
معك ..ألامرليس هينا باملرة ..القضية تحاصرها قضيتك ،وحتى أكون صريحا ِ ِ
الخطورة من كل جانب ليست مجرد قضية توزيع منشورات بالحرم الجامعي،
أو الانضمام إلى مسيرة تخريبية فحسب.
-ماذا تقصد؟!
ً
لصديقاتك ..مثال أصبحت قضايا ِ -ألامور تطورت ..والجرائم لفقت
تخابر مع دول أجنبية ..أوإلادالء بمعلومات سرية تخص الجيش والشرطة إلى
بعض الغرباء.
ً
-ما كل هذا من أين لفتاة مثلي بهذه املعلومات أصال ؟!
أجعلك ملمة باألمور ككل ،وأن ِ ألقلقك ..فقط أردت أن
ِ -أنا لست هنا
موقفك.
ِ لك حقيقة أبين ِ
صالحك ،مثال مدة الحبس ِ وباملناسبة هناك بعض ألامور التى تقع في
ً ً
لك سؤالا واحدا. الاحتياطى التي تجاوزت الثالثة أشهر دون أن يوجه ِ
ً
بك ال سيما إن كان سياسيا لذلك أريد أن تخبرينى عن كل ش ٍيء يتعلق ِ
ً
حتى أكون ملما باألمور جميعها.
-ال عالقة لى بالسياسة ..بل حتى ل ست من هواة قراءة الجرائد ،فقط
ذهبت إلى الجامعة وبحقيبتى مصحف وورقة تحمل بعض الفتاوى التي تخص
175
الحجاب وذلك ألن أروى طلبتها مني وهي ستشهد على ذلك ..وجدت املسيرة في
طريقى تغلق الشارع ككل ...فلم يكن هناك بد من السير وسطهم ولكن عكس
الاتجاه ..بعدها لم ِأع أي ش ي ٍء إال وأنا بسجون الداخلية.
-هذا يعنى أنه لم يكن لك نشاطات سابقة ..وال أي فعاليات تخص أى
جماعة؟
ً
-ال إطالقا.
ً ً
شد قامته واقفا ثم ابتسم لها قائال:
-اطمئني ..سنلتقي في القريب العاجل إن شاء هللا.
وألول مرة تلتقي عينه بعينها نظرت إليه متوسلة ثم قالت له فى رجاء ٍ:
بطلب؟
ٍ -أيمكنني أن أثقل عليك
أهلك ،أليس كذلك؟ ِ -
-بلى.
ً
كل لقد عثرنا أخيرا على أخبرك ..على ٍ
ِ -جميعهم بخير ..كيف نسيت أن
أخيك الغائب.ِ
هتفت فى عدم تصديق :
ً
-حقا؟!
لك.
-أقسم ِ
وبحركة تلقائية ..غطت وجهها بيدها متممة ببعض كلمات الحمد،
ودموعها من سابة على وجنتيها ..ثم قالت متسائلة:
-هل هو بخير؟
ً
-نعم ..ألامور خارجا تسير على ما يرام ..وال ينقصهم سوى الاطمئنان
عليك.
ِ
176
أنرت فرنسا كلها. -حبيبتى لقد ِ
ً
-كفى كذبا.
لعودتك ،أنا ال أجد سبب لفرحتي
ِ أنرت قلبي
أنك بكل صدق قد ِ أيكفيك ِِ -
ً
أصبحت شيئا مني.
ِ هذه سوى ِ
أنك
وأنت كذلك. ِ -
ً
أنك جائعة.
لك طعاما ..ال بد ِ -هيا إلى الشقة لقد أحضرت ِ
وفي العربة سألت نسيم أروى :
ً
خذلتك في أشد
ِ نفسك شيئا علي ،أشعر وكأننى ِ -أروى ..هل تجدين في
ً
أوقاتك احتياجا إلي.ِ
عادل.
رحيم ٍ إله ٍ
-ال تقولى هذا أبي بخير آلان ،يكفيه أنه لحق بأمي عند ٍ
-رحمه هللا.
-آمين.
ستعجبك ..
ِ لك بعض الهدايا املصرية متأكدة أنها -لقد اصطحبت ِ
لقائك مع والد أحمد؟
ِ صحيح أخبريني ما الذى حدث بشأن
ً
-لقد وصلنا..هيا إلى الطعام أوال.
وأثناء تناولهما الطعام الحظت نسيم خاتم يلمع في إصبع أروى هتفت
عال:
بصوت ٍٍ
-أروى ما هذا الخاتم؟
-إنه خاتم خطبة.
-هل تمزحين؟.
-كال ..وهل في هذا مزاح؟
بك؟ َ
أنت صامتة حتى آلان؟ ..لم لم تخبرينى منذ أن التقيت ِ -وملاذا ِ
نظرت إليها أروى ضاحكة وقالت:
177
ُ ً
ألمومتك.
ِ قلت الطعام أوال..فامتثلت
أحدثك بش ٍيء ِِ كلما حاولت أن
-ال موضوع مثل هذا أهم من هذه ألامومة املزعومة ..دعي الطعام
والشراب وأخبرينى إلى َمن خطبتى؟
وكيف حدث هذا بهذه السرعة؟ وإلى أين ذهب ذاك ألادهم؟
-لم يذهب ..لقد اقترب أكثر.
-تقصدين أنه هو؟!!
-نعم ..قصت أروى عليها كل ما حدث وبالتفصيل.
هتفت نسيم بارتياح:
-ألامور تسير على ما يرام ..عثرنا على إياد ،وعلى عائشة ،وأنت خطبتي
ألدهم ..هذا أكثر مما نتوقع ..الحمد هلل
عنك؟
-ماذا ِ
-الش َ
يء ..أمى كما هي.
-وماذا عن أحمد؟
مختف
ٍ -ال أدري منذ أن التقيت به وبأخيه ،وهو
ً
-ألم يكن والده حاضرا؟
-ال ،حادث طارئ منعه من الحضور ..الحمد هلل لست حزينة كما
أخبارك السعيدة هذه أثلجت صدري كما لو أننى أنا التي ِ تشعرين ،ثم إن
خطبت.
ً
وفي اليوم التالي اتجهتا إلى الجامعة سويا ..اطمئنت أروى على والدة
نسيم ..بعد أن قدمت الاعتذار إلى املشرف على الرسالة الخاصة بها ،لتغيبها
الطارئ.
178
-ماذا بك ..ملاذا أصبحت تطيل الصمت هكذا؟
-ال ش َ
يء ..إنه إلارهاق ليس إال.
-ماذا بك يا أحمد تحدث.
شد أحمد ياقة عنقه وقال فى ضيق:
ً
-ألم تتوقع أنت شيئا ..أنسي ت الفتاة التي وعدتها بالخطبة ..منذ شهر
ً
كامل وال أحد يعبئ بي ..أو حتى كلف خاطره وسألنى ..أقض ي وقتي مغموسا فى
العمل علكم أن تشعروا أنني أحاول أن أقطع الوقت بأى ش ٍيء ..هى ال تعنيني
بقدر ما يعنيني وعدي لها بالعودة ،وتمسكي بها ،ألن تسأل نفسك ما الذى
ستظنه بي؟ . .وبالفكرة التى ستطبع في ذهنها عني بل عن أصلها العربي كله.
ً ً
تبا للعادات والتقاليد ..تبا للمظاهر الكذابة ..والتفاخر الخادع الذي
يمنعني من الارتباط بمن أحب ..لقد ضاق صدري ..أخبرأباك أنني سأسافرإلى
ً
إلاسكندرية لفترة لم أعرف مداها بعد ..ثم هب مغادرا..أمسك أدهم بذراعه
قائال :
ً
-كال ..لن تغادر ..تسآل متعجبا:
َ -
لم؟
ً ً
-ألن لديك سفرا آخرغدا.
ً
دهشة متسائال:
ٍ رفع حاجبه فى
-إلى أين؟
-إلى فرنسا.
-أنا لم أفهم ..ماذا هناك؟
ً
-أتظن أنني نسيتك ..أو انشغلت بخطبتي عنك ..لقد حاولت جاهدا في
ألايام املاضية أن أقنع أبا ك ولقد وافق ..ولكنني آثرت أن أفاجأك بأمر السفر
هكذا ..لكنك تعجلت.
179
بصوت يحمل كل الحب:
ٍ خجل وقال
ابتسم أحمد في ٍ
-حقا إنني أحمد هللا على أنك أخي ..أشعر وكأن عالقتي بك تشبه عالقة
هارون بموس ى أنت لست مجرد أخ أنت صديقي ووالدي وكل ش ٍيء.
-قال أدهم ضاحكا:
-كل هذا من أجل تذكرة سفر ..لو كنت أعلم ذلك الستصدرت لك تذكرة
ً
سفر كل يوم ..ثم قال وهو يغادر استعد سنسافر صباحا.
ً
-أنا ذاهبة ،ال شك أن الطائرة على وشك الوصول هل تريدين شيئا؟
عليك.
ِ -ال لكن ال تتأخري حتى ال تقلقيني
قالت في غرور مصطنع:
-ال قلق علي في حضرته.
-هكذا إذن.
ً
-بالضبط تماما.
مشاعرك فجأة؟
ِ -ما هذه الرقة التي هبطت على
ً
لكنك ال تشعرين.
ِ -أنا هكذا دائما..
أنتظرك على الغداء؟
ِ -اذهبي لقد فار الدم في عروقى ..لكن أخبريني هل
قالت وهى تجتاز خطوت السلم:
سأهاتفك بشأن هذا.
ِ
أغلقت نسيم باب شقتها ،وبعد بضع ساعات هاتفتها أروى ،وأخبرتها أنها
على وشك الوصول ..وعلى باب املبنى الذى تقطن به هتفت أروى:
انتظارك.
ِ -أعطني الحاجات وانصرف أنت ..البد أنهما فى
180
ً
سأوصلك أوال.
ِ -
-لقد وصلنا بالفعل.
بمفردك.
ِ أدعك تحملين هذه ألاشياء ِ -ال أقصد هنا ..أقصد أننى لن
قالت فى برود:
-لن أحملها ..املصعد هو الذي سيفعل.
بمساعدتك؟!!
ِ -وهل هذا يليق برجل شرقي ،هل املصعد أولى مني
ً
-أدهم كن عاقال.
شقتك ..أريد أن أرى املكان الذى
ِ معك ،وتريني
-لن أفعل ..البد أن أصعد ِ
تعشين فيه .
-ليس هذا وقته.
-ومتى إذن؟
-ظلت تتراجع بخطواتها إلى الخلف وهو يتقدم نحوها حتى اصطدمت
ً
بالحائط ..وهنا وضع ذراعيه على الحائط مطوقا إياها ،وجعلها فى املنتصف
ً
تماما.
ً ً
أشارت بإصبعها ،وكأنها تزجر طفال صغيرا ،هتفت قائلة:
ً
-كن عاقال وعد من حيث أتيت.
ً ً
-في هذا الوقت تحديدا من العقل أال أكون عاقال ..لقد مض ى علي أكثر
ً ً ً
من ثمانية وعشرين عاما كنت فيها عاقال تمام العقل ومتزنا تمام الاتزان ،وما
ً ً
زال في العمر بقية أستطيع فيها أن أكون عاقال ومتزنا متى شئت ..أما آلان
ً
فال..لم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك ..نظرت إليه فوجدته جميال
ً ً
وسيما رقيقا يطل الحنان من بين عينيه ،اقترب منها أكثر حتى باتت تتنفس
أنفاسه.
181
أحست بلهيب أنفاسه يلفح وجهها ،وهنا فتح باب املصعد ونزل منه أحد
السكان ..قال في عصبية
سأوصلك حتى باب الشقة وأنصرف. ِ -هيا أمامي
قابلت عصبيته بضحكة عالية مستفزة ..قال في عصبية مصطنعة ،وهو
ً
يضم قبضته ويتجه بها نحو رأسها قائال:
أيرضيك هذا الفزع؟
ِ -سعيدة أليس كذلك..
ً
-يرضينى وجدا.
ُ
بعدها بلحظات كانا أمام باب شقتها ..وفجأة فتح باب الشقة املقابلة
وحينها كانت املفاجأة.
هتفت نسيم فى ذهول:
-سيد أدهم!!
-دكتورة نسيم.
نظرت إليهما أروى فى شبه صدمة:
هل تعرفان بعضكما؟!
-إنها الفتاة التى أراد أحمد خطبتها.
انقضت أروى على نسيم حاضنة إياها وهى تقول في سعادة بالغة:
ً
-أنا ال أصدق هل هذا صحيح ..أخيرا سننتمي إلى عائلة واحدة ،يالروعة
ً
القدر حين يفاجئنا بأماني لم نتوقع حدوثها يوما.
ً
نظر إليها أدهم متعجبا ثم قال في لهجة متسائلة:
صديقتك؟
ِ -هل نسيم
-صديقتى وأختى وكل ش ٍيء لي هنا ..سأجن ال أكاد أصدق.
182
-أين كنت يا أدهم..ملاذا تأخرت هكذا؟
-كنت أوصلها إلى املنزل.
-ماذا بك؟
-ال ش ي َء تغمرنى السعادة ليس إال.
َ -
ولم؟
يء ..فقط قابلت نسيم. -الش َ
َ -من ؟ تقصد أروى ؟
-ال نسيم.
-تحدث بجدية.
-أنا ال أمزح ..لقد قابلتها وهناك أخبار مبشرة ..هاهو والدك قد أتى
سأشرح كل ش ٍىء عندما يجلس وبعد برهة كان يحكي كل ما حدث بالتفصيل.
سعادة:
ٍ -بعد أن انتهى أدهم من حديثه قال الوالد في
ً
-أنا أثق بأروى جدا سأتحدث معها وأحاول أن أنهي خطبتك أنت آلاخر
ً ً
سريعا ..مبارك مقدما يا أحمد.
ً
أنت مستعدة؟ غد ،هل ِخطبتك بعد ٍ
ِ -أخيرا انتهيتي من الاختبارات..
ً ً ً
-كل الاستعداد ،سنذهب غدا لنزور أمى سويا ..إن قلبي يكاد ينفطر حزنا
ً
وأملا عليها ..أنا ال أصدق أنني سأرتدي فستان خطبتي وسألبس خاتم خطبتي
وهي هناك على قيد سنتميترات من املوت.
ً ً
تقديمك لها لن يغيرمن قدرهللا شيئا ..سنزورها غدا
ِ تأخيرك للخطبة ،أو
ِ -
بداخلك.
ِ قلبك ،والراحة ستتربع
وأنا متأكدة أن السكينة ستملئ ِ
183
كانت زيارة بائسة إلى أبعد حد..أشبه بزيارة القبور ..هي على سريرها ال
ً
تسمع وال تبصروال تعي شيئا من هذا العالم ..أما ابنتها فكانت واقفة أمام زجاج
الغرفة ،وكأنها واقفة أمام مقبرة ..تمتمت ببعض الكلمات وكأنها تخبرها بما
آلت إليه ألامور.
أجدك بجانبي ..لكم وددت أنِ -ها أنا لقد أنهيت دراستي يا أمي ولم
ً
لك على كل ما بذلتيه من أجلي.. ألبسك ردائي ألاسود! وقبعة تخرجى تكريما ِ ِ
فأنت ألام وألاب والصديقة وكل ش ٍيء.
يديك ِ
قدمك قبل ِ ِ لكم تمنيت أن أقبل
ً
حضورك ،لن تلبسيني فستاني كما
ِ ها أنا ستنعقد خطبتي غدا دون
ُ
تمنيت ودون أن تحيطيني بآيات الذكر الحكيم التى ستحفظني من أعين
الحاسدين ..هاهو خطيبي ليس لي أحد كى يوصيه علي ..مسحت دمعة ترقرقت
في عينيها ،ربتت أروى على كتفها ،ثم استدراتا خارجين.
185
-أعجبتني كلمة زوجي هذه.
َ -
ولم العجب؟
ً
-إنك تصرين دائما على أن عالقتنا ليست إال مجرد خطبة.
ً
-وهي كذلك ..في الدين أنت زوجي لكن عرفا ال زالت مجرد خطبة.
يشبهك ،أستند عليه حين تقسو على ِ منك
-ومتى سنتزوج ..أحلم بطفل ِ
ألايام.
عندما تقسو عليك ألايام ،يكفيك أن تستند على أروى.
رأيك أن نعجل به إذن؟
-ما كل هذا ياحبيبتي ..ما ِ
-بعد أن تحرر عائشة ،وأنتهي من رسالتي.
ً
-أعيدي تفكيرا في هذا ألامر.
-ال لم نتفق على هذا.
ُ
-نحن لم نتفق على ش ٍيء من ألاساس ..لقد غدر بي في املطار وتزوجتك
هكذا دون أن أدري ما الذى يحدث ..أتدرين ما هى الحماقة الوحيدة التي
ارتكبتها فى حياتي؟
-ال زالت أمامك فرصة كي تصلح من حماقتك هذه.
كفي عن هذا العبث ..الحماقة الوحيدة أني تركتك تذهبين من بين يدي
منك ..ال تتعجلي.
بك ،لكم أتعبني ذلك؟..ولكنني سأقتص ِ في أول لقاء ِ
-ولهذا سأقوم بتأخير ميعاد زواجنا.
أنت وشأنك أنا رجل مرغوب فيه ،تحيطه النساء من كل جانب لوال أنى ِ -
ً
أصد عنهن صدا.
-وهذه هى الحماقة الثانية التى ترتكبها في حياتك.
ً
إنك مستفزة ،تثيرين أعصابي دائما. -هيا يا أروى هيا اذهبيِ ..
باملناسبة ،سأعود إلى مصر بمجرد انتهاء الخطبة.
186
َ -
لم؟
ً ُ
-إحداهن طلبت حضوري ،فأمورها لن تسير إال إذا كنت موجودا؟
َ -من هذه؟
ً
-فتاة طيبة ،رقيقة ،مساملة ،تلجأ إلي دائما ..أعلمتنى كيف تكون ألانوثة..
ً
ليست كواحدة أعرفها جيدا ال ينقصها ش يء سوى أن ينبت لها لحية وشارب
ً
حتى تكون رجال.
-وضعت أروى يدها على ذقنها فى حركة تلقائية ثم هتفت في صوت يحمل
رنة البكاء:
ً
-هل تراني هكذا فعال؟
أنت كذلك.ِ -
ً
-أدهم كن جادا هل هذا هو انطباعك عني؟
-لو كنت هكذا ملا تزوجتك يا بلهاء؟
-إذن َمن هذه التي ستعود من أجلها؟
-إنها عائشة ..ميعاد جلستها الثانية ،وهذا أمر يستوجب حضوري..
ً
فأمورها لن تسير إال إذا كنت موجودا.
أوصلك .
ِ هيا إياد على وشك الحضور ال بد أن
187
الفصل األخي
خاىل أدهم
ي
-أين كنت كل هذه الفترة ..ملاذا تغيبت عنا؟ ..ملاذا تركتنا؟ ..أرأيت ما آلت إليه
مبحوح تخيل
ٍ بصوت
ٍ ألامور ..أرأيت ما حدث لي ..وأشارت إلى نفسها وقالت
يقولون عني إرهابية هل أنا كذلك؟
لست كذلك لقد عدت لن ِ -احتضنها ..ثم قال في حنان ال يا حبيبتي
ً
تخش شيئا أترككم ثانية ،ال ِ
-هل أمي بخير؟
وأبوك ودمحم ..كلنا بخير وألامور تسير على أفضل ما يكون ،وأنا ِ -نعم هي
على ثقة بأن هللا سيمن علينا ويتم فضله ببراءتك.
188
-هل تتوقع ذلك؟!
أعهدك هكذا ..باقي ثالثة
ِ وجهك لم
ِ -نعم ..ما هذا اليأس الذي يلوح على
أنك ستحصلين على إلافراج ،بل جلستك ،وأنا واثق كل الثقة ِِ أيام على
حق ..ضحكت في سخرية قائلة: وسيعوضوك عن ألاشهرالتي مكثتيها هنا بغير ٍ
ِ
-ما هذا الخيال الواسع؟
عانيت بما فيه الكفاية ،آن ألاوان أن ينتصر
ِ -ليس خيال يا حبيبتي لقد
الحق على الباطل ..وأن يحل العدل محل الظلم.
-ال أظن ..لقد اعتدت طعم الظلم حتى أصبحت ال أستسيغ غيره.
أحاطها بذراعيه وقبل رأسها:
لك ..أحسني الظن باهلل والجأي إليه
-أنا آسف ..آسف على كل ما حدث ِ
فهو الوحيد القادرعلى إزالة هذه العتمة.
وقبل أن تصل نسيم إليها وضع الطبيب املكلف برعاية الفقيدة الغطاء
ألابيض على وجهها ..لم تستطع أن تتحمل رؤيتها هكذا ،وقبل أن تستوعب ما
ً
الذي يحدث ،وقبل أن تصرخ حتى خرت مغشيا عليها ..وضعها ألاطباء في غرفة
إلى جانب غرفة أمها ،وتولى أدهم القيام بإجراءات خروج الفقيدة من املشفى..
ً
لم تكد نسيم أن تفيق حتى جاء رجال يرتدي حلة سوداء ،ورباط عنق أسود
ً
أيضا ،وتبدو عليه مظاهر الهيبة والوقار.
جلس الرجل بجانبها وعندما علم أن هناك من ينهي إجراءات خروج
الفقيدة من املشفى هاج وماج وكان مبرره الوحيد أن هناك وصية للفقيدة
أمرت أن تطلع عليها ابنتها بعد وفاتها وقبل حتى أن تنتقل من فراشها الذي
189
توفيت عليه ..التف الجميع حول فراش نسيم وجلست أروى بجانبها،
واحتضنتها وظلت تربت على كتفها من ٍآن آلخر.
تنحنح الرجل ذو الحلة السوداء ،ثم أخرج من حقيبة معه ظرف مغلق،
ً
وقبل أن يفض غالفه نظرإلى نسيم مترددا وقال في لهجة تحمل بعض إلاحراج:
-هل أقرأ هنا وفي حضور هؤالء ثم أشار إليهم.
-أشارت برأسها أن نعم.
حزين.
رخيم ٍ
بصوت ٍ ٍ أمسك الرجل بالورقة وبدأ يقرأها
" ابنتي نسيم ها أنا قد وصلت إلى آخر العمر وهاهو العمر قد خانني،
عليك ..كنت أشعر أن وفاتي قريبة ِ وخان أحالمي ،وتوفيت قبل أن اطمئن
بك،
علك أن تسامحيني على ما فعلته ِ لك هذا الخطاب ِ لذلك آثرت أن أترك ِ
لن أطلب منك التماس ألاعذار ..لكن صدقيني يا ابنتي لقد فعلت كل ما
بك ..تقاذفني بحر الحياة بين أمواجه أستطيع فعله من أجل أن أنجو ِ
هوادة.
ٍ رحمة أو
ٍ املطالطمة دون
أجلك ..كنت وقتها ال تزالين قطعة لحم حمراء في ِ ولك ومن بك ِهربت ِ
فضلتك على الزوج والابن وألاهل وكل الوطن ..كنت أعلم ِ أحشائي ومع ذلك
كنت
لك ،فقد ِ أن لهيب الغربة سيحرقني ،لكنني أقسمت أن أحول لهيبها جنة ِ
بك أحد ولم يستقبل حملتك في أحشائي ..لم يفرح ِ ِ منبوذة مكروهة منذ أن
أبوك هو أن ضربني وأهانني ووضع قدمه على عنقي وجودك أحد ..كل ما فعله ِ ِ
ً
أجهضك وأقتل ِك أنا بيدي.
ِ مهددا إياي بالقتل إن لم
صمت املحامي ريثما تهدأ هي فقد على صوت نحيبها ..ألقى الرجل نظرة
ً
على الحضور فوجدهم جميعا متأثرين ..فرت الدماء من عروقهم واستقرت في
وجوههم ..نظر يمينه فإذا برجل كبير بعض الش يء يبدو أنه تجاوز الخمسين
ً
عاما بقليل يحاول أن يسيطر على دموعه التي توشك أن تقفز من عينه،
190
لم يستطع أن يخمن من هؤالء وقبل أن يكمل قراءة الخطاب ،قال في
لهجة متسائلة:
-هل يمكنني معرفة من هؤالء؟
أجاب أحمد بالنيابة عنها:
-أنا خطيبها وهؤالء هم أهلي.
رفع الرجل الورقة مرة ثانية أمام عينيه وأكمل القراءة
ُ "أثناء هذه ألاحداث لم يكن لي ٌ
معين سوى أخي الوحيد الذي فررت إليه..
ً ً
أبوك معتذرا
واتخذت من بيته مستقرا لي ..بعد هذه الواقعة بشهرواحد أتاني ِ
ً ً
إلي ومكفرا عن ذنبه ،وناعتا نفسه بأبشع الصفات على جرمه الذي ارتكبه
ُ ً
معي ،وأخبرني أنه قد تراجع عن ذلك تماما ..عدت إلى املنزل فرحة أمني نفس ي
تخيلتك جميلة رقيقة وديعة كي تجعلي
ِ باليوم الذي ستخرجين فيه للدنيا ..كم
ً
أبيك القاس ي مأوى ِ
لك؟ من قلب ِ
ألبيك أخت واحدة مريضة ،تركها زوجها ورحل دون فى هذه ألاثناء كانت ِ
عمتك قد أورثت ابنها هذا
ِ أن يلتفت البنه الصغيرالذي خلفه وراءه ..ويبدو أن
الضعف وذاك املرض حتى ولد هذا الولد بكلية واحدة ومصابة بالفشل
أبوك في غرفة مكتبه ،هبطت إلى الطابق السفلي كي الكلوي ..وذات يوم تأخر ِ
أطمئن عليه فوجدته يحادث أخته في الهاتف وبدون قصد سمعت حديثه معها
ً
والدك يعدها بأنه
ِ وكانت الصدمة التي قلبت حياتي رأسا على عقب ،لقد كان
سيبقي على حملي وبمجرد أن تولد هذه الفتاة سيعهد بها إلي أحد ألاطباء
أبوك يحب ألاجانب كي يستأصل كليتها ويمنحها لهذا الطفل املريض ..كان ِ
عمتك ويشعر أن الزمن غدر بها أكثر من مرة ..مرة عندما مرضت بهذا املرض، ِ
وهي ما زالت شابة ،ومرة حينما هجرها زوجها دون أن يأبه ملرضها ،ومرة
أوجعها الزمن في ابنها الذي لم يتجاوزعمره بضعة أشهر..
191
كنت أشعر أنني أستمع إلى شيطان ،وليس إلى زوجي الذي لطاملا أحببته
ً
ومنحته كل ش ٍيء ..كرهه ألن ينجب فتاة أوال ،ومحاولته قتلها ثانية ،جعلني
أخش ى على نفس ي منه ..هرولت إلى حجرتي أخذت من أموالي ومجوهراتي ما
أبوك
أخاك ،ولكنني أطمئن عليه مع ِ ِ يمكن أخذه ثم هربت إلى هنا مخلفة ورائي
أبوك على علمه وثقافته ال تزالفهو يحبه ويفضل البنين على البنات فقد كان ِ
به هذه النزعة الشرقية املتخلفة.
ً ً
أبوك كان رجال مرموقا ،ويده طائلة يستطيع أن يفعل ال تلوميني يا ابنتيِ ..
بها أي ش ٍيء ..وقبل أن يكمل الرجل قراءة ،ارتفعت آهة عميقة من صدرالرجل
ً
الجالس على يمينه أفزعتهم جميعا ..انهارالرجل أمامهم ولم تفلح محاولتهم في
يدر أحدهم ما السبب في ذلك؟ تهدئته ولم ِ
بعد مرور بعض الوقت ،رفع املحامي الورقة ثانية حتى يكمل قراءتها :
أخوك ..فهوِ منك طبيبة كي ال تشعري ِ
أنك أقل من " حاولت أن أجعل ِ
ً
أراك تكبرين وتنضجين أمام كان يعزم على أن يجعل منه طبيبا هو آلاخر ..كنت ِ
أبوك ،صدقيني يا ابنتي هو بك كنت أشفق على ِ عيني ،بقدر ما كنت أفرح ِ
يستحق الشفقة!
كيف لهذا الجمال أن يلفظه صاحبه ،كيف لهذه الفتاة الرقيقة الوديعة
ّ ً
أنكاملساملة أن يطردها أبوها ،وهي التي لم ترتكب إثما ..ولم تفعل ذنبا ،أعلم ِ
ُ
آلان في أشد الحاجة ملعرفة َمن هو؟ لكم امتنعت عن إلاجابة عن هذا السؤال
ً
أخبرك ،لكن أوال
ِ جذورك؟ ..حان الوقت كي ِ رغبتك امللحة في معرفة
ِ متجاهلة
ُ ُ ُ
لك أال تلجأى إليه مهما حدث لقد رأيت منه ما رأيت وعانيت منه كل وصيتي ِ
املعاناة.
192
حياتك ستكون صعبة وأن الكثير من ِ أعلم أن الغربة قاسية ،وأن
أخيك أنا
ِ ستواجهك ،لكن إن كان البد أن تلجأي إلى أحد فألجأي إلى ِ العقبات
ً ً
بك من يقين من أن هللا سيهديه من أجل دعواتي ،وسيجعله صالحا بارا ِ على ٍ
وأبوك ال زال على قيد الحياة! ِ أجل هذا اليتم الذي تعانين منه
ً
إخبارك من هو تفاديا ِ حذرتك منه يا حبيبتي ،ولكم امتنعت عن ِ لقد
فضولك إلى الذهاب
ِ سيدفعك
ِ أنك رقيقة بمجرد أن تعرفيه لحنينك له ،أعلم ِ
إليه ..ال تفعلى ذلك يا ابنتى.
ُ ً
أبوك رجل مصرى الجنسية يدعى" كمال النشار". وأخيرا ِ
وأخوك الذي خلفتهِ وهنا التفتت ألانظار كلها إلى الرجل الخمسيني،
ً
بكورائي اسمه "أدهم" ال بد أنه أصبح رجال آلان وله أسرة وأبناء ..إن ضاق ِ
ً
الحال ولم تجدي معينا فاذهبي إليه ..لقد أرسلت عيوني إلى مصر منذ أعوام
قليلة فأخبروني بصالحه وتقواه.
ً
سيطرت الصدمة عليهم جميعا إال هي ..لم تستوعب ما الذي يحدث؟
ولم تفهم ما الذي يدور؟ ..هتفت في ضيق:
-أنا ال أفهم ما عالقتكم بكمال النشارهذا ..ملاذا صمتم هكذا وكأن على
رؤوسكم الطير..
ُ
قال دكتور كمال في صوت حاول أن يجعله هادئا:
لك الحكاية يا ابنتي؟ -هل لي أن اكمل ِ
-تفضل.
ً
رأيك بي؟
-أجبيني أوال ما ِ
ً ً ً
-تبدو رجال وقورا هادئا طيب القلب.
أبوك؟
علمت بأني أنا ِِ رأيك هذا إذا -وهل سيتغير ِ
193
ً ً
كان سؤال مباغتا ..لم تستطع أن تنطق هي أو حتى تعبرعن ذهولها ولو
بكلمة واحدة.
أبيك شر انتقام ..لقد وقع عليه من هللا ما يستحقه.. -لقد انتقم هللا من ِ
أنت لقد توفيت أخته ..وانزل هللا الرفق واللين في قلبه حتى بات يبحث ِ
عنك ِ
أمك كانت قاسية وبشدة ..أجادت التخفي وأمك في كل بلدان العالم ،لكن ِ ِ
ً
يدركك
ِ عنه ..وهاهو ما زال هللا ينزل عقابه به ..حتي جاء به مجرورا من عنقه كي
عائلتك.
ِ وأخيك وكل
ِ بأبيك فحسب ،بل أتى بأبيك ِ مأساتك هذه ..ولم يكتف
ِ في
تدر بماذا تجيب؟ ..لقد حرمها هللا من جحظت عيناها وصمتت ..ولم ِ
أمها لكن أبدلها مكانها ألاب وألاخ والعائلة ..هل سيغني وجود هؤالء عن أمها!!
ً
وقبل أن تعقد هذه املقارنة املشؤومة ،تحرك أدهم جالسا بجانبها
وأحاطها بذراعه ،ثم طبع قبلة على جبينها ..حينها مدت يدها نحو خاتم الخطبة
الذي لبسته منذ لحظات محاولة إخراجه من يدها ..ثم وضعته بجانبها..
ً
وبمجرد أن رأها ألاب تفعل ذلك هتف صائحا:
إصبعك كما كان.
ِ -ال يا ابنتي ضعيه في
تعلقت به ألابصار مبهورة في محاولة منهم لفهم تصرفه.
هتف في صوت بائس:
بأخيك كما يعتقد جميعكم. ِ -أحمد ليس
ً
هب أحمد واقفا وهتف في عدم تصديق:
-ماذا تعني؟!!
-يبدو أنها ساعة الاعترافات يابني ..أتذكرون العمة التي تحدث عنها
الخطاب ..أتذكرون ابنها املريض ..إنه أحمد .
لقد وعدتها قبل أن تموت أن أضع أحمد بمنزلة أدهم بل وأكثروقد فعلت
ُ
كل ما أمكنني فعله ثم التفت نحو أحمد قائال:
194
-أرجو أن أكون حققت ذلك يا بني.
ركع أحمد على قدميه بجانبه ثم قبل يده وقال والدموع تقف على أعتاب
عينه:
ً
-لقد فعلت ذلك ..ثم قال مترددا ،يا خالي.
قام الرجل وأحتضنه بقوة:
ً
-بل والدك لست خاال فقط ولكنني والدك يا بني.
نظر أحمد إلى نسيم ثم قال ودموعه تسبقه:
ً
-هاهو القدرينزع منا كل ش ٍيء ليهديه ألناس لم يحلموا به يوما ..ثم ابتسم
ً
مرددا:
يكفيك انتزاع قلبي ..بل وأهلي كذلك!
ِ -ألم
ً
قال ألاب موجها كالمه إلى الجميع بما إن هذه ساعة الاعترافات يا أبنائي
فإنه من املحتم أن أخبركم من هي أروى بالنسبة إليكم؟ تعلقت به ألابصار ثم
ً ً
قال موجها كالمه إلى أروى ،هل تذكرين الصورة التي أريتيها لي يوما ،وهل
أبوك قبل موته بلحظات بأن أبحث عن أخته وابنتها؟ ..أخذ تذكرين وصية ِ
ً ً
نفسا عميقا ثم أردف:
عمتك.
ِ عمتك ونسيم هى ابنة
ِ -إن مريم هي
ً
شخصت ألابصار جميعا في محاولة منهم الستيعاب ما قال ...كان أدهم
أول املتحدثين:
-هل هذا يعني أن أروي هي ابنة خالي؟!
-نعم يا بني ..أروى هي ابنة خالك وأمك هي عمتها.
195
هذه الدنيا على اتساع حجمها فهي صغيرة ،وعلى قسوتها فهي رحيمة..
لوهلة تخيل الجميع أنهم باتوا بال أهل أو عشيرة وهاهي ألايام تكشف لنا
ً
النقاب عن ما حاول البشر جاهدون أن يخفوه يوما؟
وصل أدهم إلى مصر قبل الجميع ،فميعاد جلسة عائشة يحتم عليه
ً
ذلك ..تركهم يرتبون إجراءات سفرهم جميعا بما فيهم الفقيدة ورحل هو.
ً
لم تكن جلسة ناجحة باملرة ..رغم أنه لو كان قاضيا واستمع إلى دفوع
ً
املحامي هذه ملنحها الحكم بالبراءة فورا.
كانت التهمة ألاساسية املوجهة لها هي الانتماء إلى جماعة إرهابية،
والتخابر لصالح دولة أجنبية.
ً
وقف املحامي مدافعا عنها بكل ما أوتي من بالغة وفصاحة:
-سيدي القاض ي ..كلنا يعلم أن من يقوم بالتخابر مع دولة أجنبية البد
مقابل مادي ملا يقدمه من معلومات وملا يقوم به من إرهاب ٍ أن يحصل على
وتخريب ..إذن فكيف بهذه البائسة ولهذه ألاسرة الفقيرة التي ال تملك قوت
يومها أن تقوم بفعل ذلك دون مقابل ..وهذا بيان من مصلحة الشهرالعقاري
يؤكد أن هذه ألاسرة ال تملك سوى غرفة فوق سطح أحد العمارات ..هل
ستفعل املتهمة ذلك دون مقابل أم صدقة لوجه هللا.
هدوء ثم قال:
ٍ تنحنح القاض ي في
-وماذا إن كانت العقارات أو املكافأت املالية تضعها في حساب باسم
شخص آخر حتى ال يكتشف أمرها؟
196
-أعتقد سيدي القاض ي أنه عندما تم القبض عليها قد ُحرزت أشيائها
وما زالت حقيبتها موجودة في الودائع التي توضع تحت رقابة النائب العام..
فماذا وجدتم بها غيرمصحف ،وأوراق تخص دراستها؟ ..هل كان بها مستندات
أو وثائق تخص الجيش والشرطة أو القضاء؟؟
وهل وجدتم على هاتفها اتصاالت بأرقام خارجية؟
ً
وهنا ارتفع صوت املدعي العام قائال:
-وهل من املفترض بإرهابية خسيسة أن تحتفظ بأرقام مثل هذه؟ ..هل
هي رعناء إلى هذه الدرجة؟ ..املتهمة كانت حريصة ألبعد حد ..لقد كانت تخفي
ً ً
الوثائق جيدا وتقوم بحذف اتصاالتها أوال بأول..
عبث املحامي بمستنداته ثم أخرج منها ورقة وجهاز صغير ال يكاد حجمه
يتعدى عقلة ألاصبع..
ُ
اتجه نحو القاض ي حامال هذه ألاشياء ثم قال وابتسامة الظفر تلوح على
فمه:
-وماذا سيقول سيدي لو أنبأته بأن الورقة التي بيدي هي بيان من شركة
الاتصاالت الخاصة التي كانت تتبعها موكلتي وتقر هذه الورقة أنها لم تحادث
ً ً
رقما أجنبيا خارج مصر سوى رقم واحد كان يحمله أخوها املغترب ..ثم ما هو
قول عدالتكم إذا أخبرتكم أن هذا الجهاز الصغيرالذي بيدي ما هو إال مسجل
صغير للمكاملات التي قامت بها موكلتي في الستة أشهر ألاخيرة قبل أن يتم
القبض عليها؟ ولم يوجد من بينها اتصال واحد يؤكد ما نسب إليها من جرائم.
ارتفع صوت املدعي العام مرة أخرى:
-وهل هذه املتهمة ساذجة إلى هذا الحد حتى يكن لها رقم واحد دون أن
يكون لها أرقام أخرى خاصة بعملها ..إنها فتاة ليست بالعادية والبد أن تخطط
لش ٍيء مث ل هذا ..ظلت املرافعة قائمة إلى أن جاء الرد ألاخير من القاض ي:
197
-تؤجل القضية لجلسة ألاول من يوليو.
ً
انصرف الجميع ..قال أدهم بصوت هادئ موجها كالمه إلى جاسر:
ً
-كنت رائعا ..أعانك هللا فاألمر جد خطير.
-أعلم ذلك ..لوال وجود هذا املعارض لكل ما أقول الستطعت أن أحصل
على براءتها من أول جلسة.
-هللا املستعان ..هيا إلى املكتب لنتدارس ما سيتم قوله في الجلسة
املقبلة ..وما هي الوثائق واملستندات التي سنتحتاجها.
وبعد خمسة أشهر رحل الجميع إلى فرنسا فأروى ستناقش رسالتها بعد
غد ،رحلوا جميعهم باستثناء أدهم وأحمد الذين سيلحقون بهم فى الصباح. ٍ
عاد أدهم في وقت متأخرمن الليل ،وبمجرد أن قاربت سيارته على املكان
الذي توجد به الفيال التي يقطن ..رأي ألسنة اللهب تطل من نوافذها والدخان
ً
والعتمه تحيط بكل ش ٍيء ،ترجل من السيارة وذهب عدوا حتى وجد الخدم
وكل من بالفيال يحاول الخروج منها ..والصراخ والعويل ينتشرفي ألافق ..حاول
إنقاذ ما يمكن إنقاذه وماهي إال دقائق حتى أتت الشرطة وسيارات الدفاع
املدني.
كانت أمارات الفزع والخوف تظهر بوضوح على وجوه جميع الحضور
لكنهم يكتمون مايشعرون به ..إال واحدة كانت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة
وتخمش وجهها وتشق مال بسها ..اقترب منها كي يعرف ما الذي حل بها ..ظل
يهتف بها:
-ماذا هناك ..لكن صوته ذهب ً
هباء مع الهرج واملرج الذي أحاط باملكان..
والها ظهره ،وبمجرد أن التفت نحو الجهة ألاخرى حتى وصلته صرخاتها ..
ً ً
أبنائي بالداخل ..أبنائي سيموتون حرقا ..ولد وفتاة مازالوا أطفاال كتب عليهم
أن يجربوا نار الدنيا أال يكفي ما أمهم فيه.
198
ظلت تصرخ حتى لم تعد تحملها قدماها ،فارتمت على ألارض تضرب على
وجهها وتقطع شعورها ولوهلة تذكر خطاب أمه ..تذكر تضحياتها بكل ش ٍيء
من أجل نسيم ..وتذكرنفسه وهو صغيرماذا كان ستفعل أمه لو كان هو ونسيم
ً
مكان هؤالء ألاطفال ..ذهب مسرعا إلى املرأة:
أبنائك؟
ِ -أخبريني أين
-إليك عني ..دعني وشأني سأخلصهم أنا وركضت نحوالفيال ..ولم تفلح
محاولتهم في إثناءها عن عزمها ..كانت كاللبوءة التي يحرقون أبناءها أمام
ً
عينيها ..اقترب منها بخطوات ثابتة ،ونظر إليها بجدية قائال:
مكانك ..سأخلصهم أنا ..فقط أخبريني أين مكانهم. ِ -ابقي
ً
-شكرا لك يا سيدي ..إنهم في مخدع الخدم بالجزء الخلفي منه ..بالغرفة
رقم سبعة .
-وبخطوات واسعة اتجه أدهم نحو الباب الخلفي فوجد النيران تكاد أن
تطل منه ..تردد لحظة لكن وجه نسيم الهادئ الوديع باغته ..اقتحم النيران
وهنا ارتفع صراخ كل من بالفيال من خدم وجيران وعمال وبعد لحظات قذف
أدهم بالطفلين من النافذة ألارضية للغرفة ..التقطتهما ألام جزعه ..وضعتهم
ً
في حجرها وتلقائيا أخرجت لهما صدرها كي يهدأوا بعد أن اطمأنت أنهم لم
يصابوا بش ٍيء سوى الهباب الذي حول بشرتهم البيضاء إلى سوداء.
ً
ظلت أنظار الجميع معلقة بالنافذة لعله يقفز منها هو آلاخر ..وأخيرا الح
ً
شبحه لكن النيران كانت مشتعلة بكل مالبسه تريث قليال ريثما يتخلص من
مالبسه العلوية التي التهمتها النيران وأتت على جسده هو آلاخر ،لكن القدرأبى
إال أن يخطفه هو آلاخر ويلحقه بأمه!
199
ً
في هذه اللحظة تحديدا سقط سقف الطابق العلوي حتى ساوى الطابق
السفلي باألرض ..ارتفع الصراخ والبكاء والعويل وإذا نظرت إلى يمينك وجدت
امرأة تصرخ بهستريا وهي تشج مالبسها وتضرب برأسها في ألارض قائلة :
-أنا السبب ..أنانيتي هي السبب ..أنا التي قتلته من أجل أبنائي.
وماهي إال دقائق حتى رفعت قوات الدفاع املدني ألانقاض ،وأخرجت َمن
تحتها هذا الجسد املهشم ذو الوجه الذي التهمته النيران وغطته الرمال
وألاتربة .
وهنا اقتحم أحمد الفيال وهو اليدري ما الذي يحدث ..وفجأة ساقته
قدماه إلى حيث أدهم دون علم منه ما الذي أصابه ..وفجأة إذا بهم يخرجون
ً
جسدا من تحت ألانقاض عرف فيه جسد أدهم ..ارتمى أحمد على أرض
الحديقة واستلقى أدهم بين ذراعيه ..وبدت الدموع تترقرق في عيني أحمد ..نظر
إليه أدهم نظرة لوم وعتاب قائال:
-أتبكي يا أحمد؟
ازدرد أحمد دموعه وهتف:
-ابدأ يا أدهم ..لن أبكي فأنت بخير.
-ما دمت جواري فأنا بخير ..صمت أدهم برهة يحاول أن يلتقط أنفاسه
ثم تمتم قائال:
-هل انطفأت النيران؟
-أجل يا أدهم.
-وألاطفال بخير؟
-ويلعبون في الحديقة آلان.
-الحمدهلل
200
وصمت برهة يحاول أن يتمالك قواه ثم همس:
-لم أخبرك من قبل أنني أحبك ..مض ى العمردون أن أخبرك بذلك ،لكنني
أفعل آلان يابن عمتي.
-بل أخوك الذي يفديك بعمره.
-ال فائدة ..لقد انتهى كل ش ٍيء ..صمت أدهم وحاول أن ينزع خاتم خطبته
ثم وضعه في يد أحمد ..ضغط علي ضروسه يحاول كتم صيحة توشك أن
تفلت من بين شفتيه ،ومالبث أن استرخى وفتح عينيه وهمس قائال:
-قبل أن أذهب لي عندك رجاء.
بصوت يخنقه
ٍ تساقطت دموع أحمد حتى سالت على خد أدهم وقال
البكاء:
-سينجيك هللا يا أدهم ..أنا طلبت إلاسعاف سيأتون آلان وسيداوي
الطبيب جراحك ويخفف أالمك.
-ال فائدة ،لقد ذهب ألالم وذهب العمر معه ..فقط خذ خاتمي هذا
وأعطه ألروى ..اعتذر لها عن تقصيري في حقها ،قل لها أنني لطاملا تمنيت أن
ً
أتزوجها وأن أعوضها عن كل ما فات ..قل لها أني أحببتها كما لم أحب أحدا في
حياتي.
-بل أنت بخير ،وستقول لها كل ما تريد بنفسك.
-أما نسيم فأنا أعلم كم أنا أخ عاق؟ تركتها وذهبت بمجرد أن عثرت
عليها ..أخبرها أنني أحبها ..لن أوصيك عليها يا أحمد فهي زوجتك وابنة خالك
قبل كل ش ٍيء ..عدني أنك لن تؤذيني فيها.
-أعدك.
201
-أما أبي ..فقل له أنه ما زال كما هو في نظري ،ولم يغير ماضيه من حبي
ً
له شيئا ..أوصيه يا أحمد أال يجزع فهاهو هللا رفق به حينما أخذني منه ومنحه
ً
نسيم عوضا عني.
صمت أدهم وأرخي جفنه وشاعت في قسماته السكينة والرضا ..تنهد
ألم ...ثم أطلق العبرات الحبيسة من مقلتيه.أحمد في ٍ
ً ً
هذه هي الدنيا عجبا لها ..تتخلص من الطيبين سريعا من كان يصدق أن
أدهم الجميل املحيى ،الباسم الثغر ،الوسيم املالمح ،الرقيق ،املتدين الخلق،
من كان يصدق أنه سيموت بهذه الطريقة الشنيعة ..هل يا تري تآمر كل ش ٍيء
ً ً
عليه حتي املبنى أبى إال أن يجعل منه جسدا مهلهال يخترقه التراب والحديد
والحص ى ،أم أن ألارض أبت إال أن تحتفظ بهذا الشاب الذي ال يوجد مثله،
فهي أولى به من الدنيا البائسة ومن هذه ألايام الغادرة ومن هؤالء البشر
املاكرين.
وهكذا انتهى كل ش ٍيء وبخلت الدنيا بتحقيق أمانينا كلنا ..كل ش ٍيء في
هذه الحياة أصبح موحش خرب ..ورغم ذلك الدنيا تسير كما كتب هللا لها أن
تسير.
لن تغرب الشمس ملوت أحد ..ولن يمتنع النهار عن الطلوع لغياب أحد..
فالشمس تشرق وتغرب ،والليل يكر في أثر النهار ،والنهار في أثر الليل.
ً
ظلت أروى كما هي ال تفعل شيئا سوى أن تقبل خاتمها وتتحسه بحنان
وكأنها تتحسس أدهم.
ً
أما عن "الدكتور كمال" فكان يسجد هلل شكرا كل صباح على وجود
نسيم في حياته فلوال وجودها لحرم من نعمة ألابناء بعد وفاة أدهم..
202
وأما معاداته لجنس الفتيات ،فمريم ابنة نسيم أصبحت هي حبيبة
جدها التي ال ينبغي ألحد أن يحزنها وإال ضرب عنقه.
وأما عن عائشة فإذا أردتم أن تعرفوا نهايتها فأسالوا كتب القانون
املليئة بالثغرات التي تجعل من البريء متهم ومن الجاني مجني عليه ..اسألوا
ً ً
تاريخ القضاء املصري منذ أن سجن يوسف ظلما وزورا ..اسألوا القضاة
الذين يصدرون إعدامات بالجملة على طلبة الجامعات ملجرد أنهم عملوا
بحقهم الدستوري الخالص في إبداء الرأي وحرية التعبير ،وفي حرية الانتماء
ً
ألي دين ،وأخيرا ففي الغالب:
كاف ..كلمة
قاض لم يطلع على القضية بشكل ٍ "إلاعدام كلمة ينطق بها ٍ
تنهي حياة إنسان ..وتحرق قلب أم ..وتدمرأسرة باكملها"
ً
هذه هي النهاية توفي الوزير خالي ..وتوفيت أمي وأخيرا غادرنا أدهم..
وهكذا غربت الشمس!
طوت مريم آخر صفحة في الكراس الذي كانت تقرأ فيه ..انحدرت دمعة
على وجنتيها ابتلعتها في ألم محاولة كتمان ما تشعر به من غصة في حلقها
توشك أن تقض ي عليها.
ً
مد أدهم ذراعه ثم ضمها إلي صدره قائال:
هل لي أن أكون لك كخالي أدهم ألمي ،غير أني ال أريد أن أموت قبل أن
أحدث هذا التغير الذي بدأه ،والذي لم يمهله العمر كي يكمله؟
ابتسمت ابتسامة ممزوجة بالدموع ثم قالت:
َ
رحمه هللا وعوضه عن شبابه خيرا.
-آمين
تمت بحمدهللا
203
رسالتنا في املكتبة العربية للنشر والتوزيع:
نشر كل إنتاج إبداعي ذي جودة عالية وأفكار أصيلة تعبر عن هويتنا العربية
وتاريخنا العريق ،تحترم قيم مجتمعنا ومعتقداته ،ال تساعد في نشر العنف
أو العنصريةّ ،
ترسخ ملبدأ املساواة والحرية والعدالة .والسعى نحو الارتقاء
باألدب العربي في كافة مجاالته ،والوصول به نحو العاملية.
ملراسلتنا بشأن نشر ألاعمال ألادبية
arabiclibrary2017@gmail.com
facebook.com/arabiclibrary2017
204