You are on page 1of 2

‫ثالثا‪ :‬الفلسفة النقدية (فلسفة كانط النقدية)‪:‬‬

‫‪ -1‬دوافع التأسيس‪ :‬يمكن القول أن الجدلية القائمة بين العقليين والتجريبيين في تحديد المرجعية العليا‬
‫الغلو في تقديس المرجعية التي يتبناها كل طرف‪ ،‬والعجز‬ ‫ّ‬ ‫للتحصيل المعرفي والمفاهيمي العام‪ ،‬وكذلك‬
‫يبرر طبيعة معارفنا ويفسرها‪ ،‬كانت من األسباب الرئيسة التي دفعت بكانط إلى‬ ‫عن إيجاد تفسير منطقي ّ‬
‫تأسيس فلسفته النقدية‪...‬‬
‫إن المتعارف عليه‪ ،‬أن الفلسفة النقدية التي أسس لها الفيلسوف األلماني كانط‪ ،‬قامت أساسا على نقد‬ ‫‪ّ -‬‬
‫المذهب العقلي خصوصا الدّيكارتي منه‪ ،‬والذي يعتقد بإمكانية معرفة العالم وقوانينه المسيِّّرة لظواهره‬
‫بالعقل واالستدالل المنطقي‪ ،‬كما قام من جهة أخرى على نقد المذهب التجريبي الحسي خصوصا ما‬
‫يتعلّق بأفكار لوك وهيوم‪ ،‬التي تجعل من التجربة المصدر الفعلي لفقه قوانين العالم وتفسيره‪.‬‬
‫‪ -‬لقد كانت فلسفة كانط النقدية فلسفة تركيبية‪ ،‬أو لنقل مزيج من مضمون الفلسفتين‪ :‬العقلية والتجريبية‬
‫معا‪ ،‬ومن هنا دعا إلى ضرورة التأسيس لنظام معرفي جديد يتآلف فيه الواقعي بالعقلي‪ ،‬وبمعنى آخر‬
‫ضرورة إخضاع المعطيات التجريبية إلى المفهمة العقلية‪ ،‬وفي الوقت نفسه تزويد البنيات العقلية‬
‫الفارغة بمعطيات الواقع الحسي‪ .‬فالمعطيات الحسية ال يمكن أن تكون كافية لصياغة المفاهيم الصحيحة‪،‬‬
‫بعيدا عن التنظيم واإلدراك العقلي‪ ،‬والتجربة وحدها ال تعطينا سوى سلسلة من األحوال المتتابعة في‬
‫مجردة واضحة عن العالم‬ ‫ّ‬ ‫العقل الخالية من الترابط المنطقي‪ ،‬والعقل كذلك ليس بإمكانه كذلك بناء مفاهيم‬
‫تزوده بمعطيات تنشط فعاليته التنظيمية‪.‬‬ ‫الخارجي‪ ،‬بعيدا عن تأثير الوقائع الحسية لهذا العالم‪ ،‬والتي ّ‬
‫أن هذا المنهج النقدي قد اعتمده فالسفة‬ ‫‪ -‬لقد استخدم كانط النقد كمنهج لفحص األفكار بدقّة‪ ،‬ورغم ّ‬
‫أن ما يميز النقد الكانطي هو أنّه أراد أن يغطي به جميع جوانب االنشغال الفلسفي‪،‬‬ ‫وأدباء ٌبله‪ ،‬إال ّ‬
‫واإلحاطة بعموم جوانبها (العقل‪ ،‬األخالق‪ ،‬الجمال‪ ،‬السياسة‪ )..‬بهدف إدراك غموضها‪ ،‬وإظهار ما‬
‫تحويه من تناقضات‪ ،‬وتأسيس غير منطقي في المفهمة واالستعمال‪ .‬وقام كذلك بتحليل قضايا المعرفة‬
‫والنظريات‪ ،‬بهدف إبراز الصواب من الخطأ‪ ،‬ولم يكن األمر هنا عفويا أو غرضه الفصل في الجدال‬
‫تمر بها أوربا في ميادين الحياة‬ ‫القائم بين العقليين والتجريبيين‪ ،‬وإنّما كان للظروف التاريخية التي ّ‬
‫السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪ ..‬تأثيرها في الدفع بكانط نحو هذه الفلسفة النقدية‪ ،‬كمساهمة منه في‬
‫تفعيل الحلول العالجية لمشكالت الحياة‪..‬فجاءت أهم مؤلّفاته تحت مصطلح النقد‪( :‬نقد العقل المحض‪ /‬نقد‬
‫العقل العملي‪ /‬نقد ملكة الحكم)‪.‬‬
‫مر النقد قبل أن يصل إلى مرحلة النضج واالكتمال بثالث‬ ‫التطور التاريخي للنقد عند كانط‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫‪-2‬‬
‫مراحل‪( :‬الدجماتية‪ ،‬الشك‪ ،‬النقد)‪.‬‬
‫‪ -1‬الدجماتية‪ :‬تمثل مرحلة طفولة العقل‪ ،‬تتميز بالنزوع نحو الوثوق الكامل بالمبادئ من دون نقد‪،‬‬
‫مرتا بمرحلة الجمود‪ ،‬والجدال العقيم‪..‬‬‫تجسدت في الفلسفتين‪ :‬العقلية والتجريبية‪ ،‬اللتين ّ‬
‫‪ -2‬النزوع الش ّكي‪ :‬يشبّه كان رواد هذه النزعة‪ ،‬بالبدو الرحل‪ ،‬فهم ال يستقررن على رأي أو مبدأ واحد‪،‬‬
‫وكانط الذي يعترف أنّه مر بهذه المرحلة‪ ،‬بعد أن أيقظته ارتيابية دفيد هيوم‪ ..‬هذا الشك يعتبر أرقى من‬
‫الشك‪ ..‬لكنّه يبقى شكا سلبيا ألنّه يراقب‬
‫ّ‬ ‫الدجماتية ألنّه يمارس الرقابة على العقل الذي بدوره يدفع نحو‬
‫العقل دون نقده‪..‬‬
‫الشك إلى العلم‪ ،‬وتأسيس‬ ‫ّ‬ ‫‪ -3‬النقد‪ :‬وهو بمثابة محكمة للعقل المحض‪ ،‬وبفضله يكون االنتقال من‬
‫البراهين على صحة األحكام الفلسفية والعلمية‪ ،‬حتى تصبح بمثابة مبادئ وأسس أولية لبناء األفكار‪ ،‬التي‬
‫قبل التسليم بصدقها يكون النقد قد قام بتعقبّها وتحليلها حتى تكون أكثر وضوحا‪..‬‬
‫‪ -3‬لمحة مختصرة عن فلسفة كانط النقدية (أنموذج نقد نظرية المعرفة)‪ :‬تناول كانط نظرية المعرفة‬
‫بالنقد ن جوانب مختلفة‪، ،‬ذكر من أهمها‪:‬‬
‫أ‪ -‬نقد المعرفة الميتافيزيقية‪ :‬لقد أعلن كانط عن استحالة اإلحاطة بمضمون الميتافيزيقا بمفهومها‬
‫التقليدي‪ ،‬ألن عالم ما وراء الطبيعة يستحيل الكشف عنه وإدراكه‪ ،‬وأن المعرفة التي يمكن للعقل‬
‫تحصيلها تقتصر على عالم الحس وما يمكن للتجربة العملية اإلحاطة به‪.‬‬
‫ومجرد أوهام ومفاهيم‬‫ّ‬ ‫‪ -‬كان كانط يسخر من األبحاث الميتافيزيقية التقليدية‪ ،‬ألنها بعيدة عن الواقع‬
‫غامضة‪ ،‬من غير نفع عملي‪ ،‬ورغم اعترافه أن الميتافيزيقا ميل طبيعي في الكائن اإلنساني‪ ،‬إال أن هذا‬
‫بالمبرر الكافي لوصفها بأنها علم‪ ،‬وكل المحاوالت في هذا المجال هي عديمة الجدوى‪« .‬أما أولئك‬ ‫ّ‬ ‫ليس‬
‫الذين يفخرون بمعارف رفيعة من هذا القبيل‪ ،‬فعليهم أال يبخلوا بها‪ ،‬بل أن يعرضوها علنا للفحص‬
‫والتقدير‪ ،‬هم يريدون تقديم برهان؛ هيا! فليأتوا بالبرهان إذن وسيلقي النقد بجميع أسلحته أمام أقدامهم‬
‫باعتبارهم منتصرين»‪.‬‬
‫إن رفض كانط للميتافيزيقا لم يكن بمطلق الحكم‪ ،‬بل إنّه رفض الميتافيزيقا بمفهومها التقليدي‪ ،‬التي‬ ‫‪ّ -‬‬
‫تبقي ال عقل غارقا في التأمل من غير نفع عملي‪ .‬فقد دعا إلى تأسيس ميتافيزيقا جديدة علمية‪ ،‬ودعا‬
‫المشغلين بحقل الميتافيزيقا إلى اقتفاء طريق العلم‪ ،‬بمعنى ضرورة وضع منهج لفهمها وتحصيل نتائج‬
‫مقبولة وقابلة للبرهان‪ ،‬وليس مجرد بحثها من زاوية مذهبية جامدة‪..‬‬
‫‪ -‬بحث كانط في قضا يا ميتافيزيقية ذات االرتباط بالدين مثل‪ :‬هللا‪ ،‬الحرية‪ ،‬خلود النفس‪ ،‬وانتقد طريقة‬
‫الفالسفة في بحثها ألنها محاوالت أرهقت العقل وح ّملته ما ال يطيق‪ ،‬ورغم أنه انتقد أدلتهم في تفسيرها‬
‫وبحثها‪ ،‬إال أنّه لم ينكر هذه المسائل التي تتجاوز قدرة العقل اإلدراكية ويستحيل عليها إلحاطة بها‪،‬‬
‫فجعل التصديق اإليماني بها هو السبيل األنسب لالقتناع بها‪..‬‬
‫ب‪ -‬نقد مصدر المعرفة‪ :‬االختالف حول مصدر المعرفة‪ ،‬جدال الزم الفلسفة منذ عهد الفلسفة اليونانية‪،‬‬
‫واشتد وقعه مع الفلسفة الحديثة بين العقليين والتجريبيين‪.‬‬
‫‪ -‬في نظريته حول المعرفة‪ ،‬كان كانط ناقدا لرأي العقليين والتجريبيين معا‪ ،‬مؤمنا بالمرجعيتين‪ :‬العقلية‬
‫والتجريبية للمعرفة‪ ...‬فالمعرفة عنده تبدأ بالتجربة‪ ،‬ومن غير الممكن للعقل أن يقوم بنشاط معرفي من‬
‫دون أن يكون له موضوعا حسيا يحر ّكه‪ ،‬غير أن معطيات التجربة الحسية ليست مكتملة وواضحة بعيدا‬
‫التصورات العقلية‪ ،‬واألفكار القبلية الفطرية التي تحويها العقول‪ .‬فعقل اإلنسان ليس لوحة جامدة‬ ‫ّ‬ ‫عن‬
‫تخط عليها التجربة ما تريده‪ ،‬بل إنه ملكة نشيطة لها قدرة التنسيق بين اإلحساسات وتحويلها إلى أفكار‬
‫واضحة‪ ،‬فتزيل عنها ضروب الغموض والتشويش‪.‬‬
‫‪ -‬العلوم والمعارف ال تتأسس بعيدا عن فعالية العقل والتجربة‪ « ،‬إن كل معارفنا تبدأ بالحواس ثم تنتقل‬
‫إلى المفاهيم ومن ثم إلى العقل»‪..‬‬
‫مالحظة‪ :‬لالستزادة أكثر يمكن االستئناس بالمصادر والمراجع التالية‪:‬‬
‫‪ -‬كانط ‪ ،‬نقد العقل المحض‪ ،‬تر‪ ،‬موسى وهبة‪ +‬نقد العقل العملي‪ ،‬تر‪ ،‬غانم هنا ‪ +‬نقد ملكة الحكم‪،‬‬
‫تر‪ ،‬غانم هنا ‪ +‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬تر‪ ،‬عبد الغفار مكاوي‪..//‬‬
‫‪ -‬أوفي شولتز‪ ،‬كانط‪ ،‬تر‪ ،‬أسعد رزوق‪//‬‬
‫‪ -‬برتراند راسل‪ ،‬حكمة الغرب "الفلسفة الحديثة والمعاصرة"‪ ،‬تر‪ ،‬فؤاد زكريا‪//‬‬
‫‪ -‬إبراهيم مذكور ويوسف كرم‪ ،‬دروس في تاريخ الفلسفة‪//‬‬
‫‪ -‬زكي نجيب محمود‪ ،‬خرافة الميتافيزيقا‪//‬‬
‫‪ -‬يوسف كرم‪ ،‬تاريخ الفلسفة الحديثة‪//‬‬
‫‪ -‬ريتشارد شاخت‪ ،‬رواد الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى كانط‪ ،‬تر‪ ،‬أحمد حمدي محمود‪//‬‬
‫‪ -‬جوزايا رويس‪ ،‬روح الفلسفة الحديثة‪ ،‬تر‪ ،‬أحمد األنصاري‪//‬‬
‫‪ -‬ويل ديورانت‪ ،‬قصة الفلسفة من أفالطون إلى جون ديوي‪ ،‬تر‪ ،‬فتح هللا محمد المشعشع‪//‬‬
‫‪ -‬دومينيك فولشيد‪ ،‬المذاهب الفلسفية الكبرى‪ ،‬تر‪ ،‬مروان بطش‪//‬‬

You might also like