You are on page 1of 64

‫ح ‪ /‬عبدالرمحن بن عبدالعزيز بن صاحل العقل‪1440 ،‬هـ‬

‫فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النشر‬


‫العقل‪ ،‬عبدالرمحن بن عبدالعزيز بن صاحل‬
‫حينما يعتكف القلب‪ /‬عبدالرمحن بن عبدالعزيز بن صاحل العقل‬
‫– ط‪ .4‬بريدة‪1440 ،‬هـ‬
‫‪ 64‬ص‪21 ×14 ،‬سم‬
‫ردمك‪978 -603 -03-0688 -6 :‬‬
‫‪ -1‬االعتكاف ‪ -2‬العبادات (فقه إسالمي) أ‪ .‬العنوان‬
‫‪1440/8231‬‬ ‫ديوي‪252.91‬‬

‫رقم اإليداع‪1440/8231 :‬‬


‫ردمك‪978 -603 -03-0688 -6 :‬‬

‫حقوق الطبع محفوظة للمؤلف‬


‫الطبعة الرابعة‬
‫‪1440‬هـ ‪2019 -‬م‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫‪‬‬
‫الحمدُ هلل الذي َ‬
‫جعل محل نظره القلوب ال األبدان‪ ،‬والصال ُة‬
‫والسال ُم األتمان األكمالن على نب ِّينا محمد س ِّيد ولد عدنان‪ ،‬وعلى‬
‫آله وصحبه ذوي التقى واإليمان‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫َ‬
‫يسمعون كلم َة‬ ‫يسبق إلى أذهاهنم حينما‬
‫فكثير أولئك الذين ال ُ‬
‫ٌ‬
‫(االعتكاف) سوى اعتكاف الجسد يف بيت من بيوت اهلل‪ ،‬فهو يف‬
‫منحصر يف مفهوم االعتكاف الحسي‪ ،‬وهذا ْ‬
‫وإن كان من‬ ‫ٌ‬ ‫مخيلتهم‬
‫ِّ‬
‫شرائط االعتكاف إال أنه ليس هو مقصو َده‪ ،‬فإن مقصو َده والغاي َة‬
‫اهلل َال َينْ ُظ ُر إ َلى‬
‫اعتكاف القلب الذي هو موضع نظر اهلل‪« :‬إن َ‬
‫ُ‬ ‫منه‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ُص َورك ُْم َو َأ ْم َوال ُك ْم‪َ ،‬و َلك ْن َينْ ُظ ُر إ َلى ُق ُلوب ُك ْم َو َأ ْع َمال ُك ْم» ‪.‬‬

‫عكف بجسده يف بيت اهلل‪ ،‬لكنه لم ْ‬


‫يصل إلى‬ ‫َ‬ ‫وكم من عبد‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )1986/4‬رقم (‪ )2564‬من حديث أبي هريرة ‪.‬‬


‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪6‬‬

‫الخير الذي‬
‫َ‬ ‫اهلل سبحانه‬
‫االعتكاف الذي أراده اهلل ‪‬؛ ولهذا علق ُ‬
‫ُيؤتيه عبدَ ه بالخير الذي يف قلب عبده‪ ،‬فقال سبحانه‪﴿ :‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [األنفال‪.]70:‬‬

‫نح اهلل وهباته عليه‪،‬‬


‫أقبلت م ُ‬
‫ْ‬ ‫القلب وتعالى على الدنيا؛‬
‫ُ‬ ‫فكلما صح‬
‫والعاكف يف بيت‬
‫ُ‬ ‫والعشر األواخر من رمضان أحرى األيام هبذه المنح‪،‬‬
‫حقيق بذلك؛ لصدقه وقربه من اهلل‪.‬‬
‫(عكوف قلب) ٌ‬
‫َ‬ ‫اهلل‬

‫كاف اعتكاف قلب ال جسد فقط‪ ،‬ويتذوق‬


‫ولكي يكون االعت ُ‬
‫الم ْعتكف هذه العبادة‪ ،‬وتستقيم له هذه الطاعة‪ ،‬ويسرتوح روحها‪،‬‬
‫ُ‬
‫السمات‬
‫ويستحضر معاين العبودية فيها؛ ينبغي له أن يتطل َع إلى ِّ‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪7‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫السمة األوىل‬
‫قطع العالئق عن اخلالئق‬

‫وقطع‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتفريغ القلب‬ ‫إن سر االعتكاف وغايته‪ :‬الخلو ُة باهلل‬
‫أن يكون ُمنهم ًكا يف‬
‫بالم ْع َتكف ْ‬
‫الالئق ُ‬
‫ُ‬ ‫عالئقه بالخالئق؛ ولهذا كان‬
‫قبال على ر ِّبه بتخلية القلب هلل‪،‬‬
‫التنسك والعبادات الخاصة‪ُ ،‬م ً‬
‫(‪)1‬‬
‫واإللحاح يف طلب رضاه‪ ،‬واإللحاف يف نيل مغفرته وعفوه‪ ،‬كما‬
‫قال عطاء ‪َ « :‬م َثل ُ‬
‫الم ْع َتكف كمثل رجل له حاج ٌة إلى عظيم‪،‬‬
‫برح حتى َت ْقضي حاجتي‪ ،‬وكذلك‬‫يقول‪ :‬ال َأ ُ‬
‫ُ‬ ‫فجل َس على بابه‬
‫يجلس يف َبيت اهلل يقول‪ :‬ال َأ ْب ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫رح حتى ُي ْغ َفر لي» ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الم ْع َتكف‬
‫ُ‬

‫يكون َعزو ًفا عن الناس‪،‬‬


‫َ‬ ‫للم ْع َتكف ْ‬
‫أن‬ ‫المشروع ُ‬
‫ُ‬ ‫ولهذا كان‬

‫(‪ )1‬اإللحاف‪ :‬شدة اإللحاح يف المسألة‪ .‬ينظر‪ :‬هتذيب اللغة (‪ ،)46/5‬لسان العرب‬
‫(‪( )314/9‬لحف)‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكره السرخسي يف المبسوط (‪ ،)815/3‬وينظر‪ :‬وظائف رمضان ص (‪.)75‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪8‬‬

‫على أنه ينبغي‬ ‫مجاف ًيا لمجالسهم‪ ،‬وقد نص اإلما ُم أحمد‬


‫َ‬
‫يخالط الناس حتى ولو كان ذلك لتعليم علم أو إقراء‬ ‫للم ْع َتكف أال‬
‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫َ‬
‫األكمل له االنفراد والتخلي لمناجاة ر ِّبه وذكره ودعائه ‪.‬‬ ‫قرآن‪ ،‬وأن‬

‫وبنظرة تأمل‪ ،‬نجدُ أن عباد َة االعتكاف اقرتنت بعبادة الصوم؛‬


‫ألن حكم َة مشروعيتهما واحدة‪ ،‬وهي‪ :‬إصالح القلب بتقوى اهلل‪،‬‬
‫ﮋﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫الصائم الذرو َة يف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ويبلغ العبدُ‬ ‫ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ [البقرة‪،]183:‬‬
‫إصالح قلبه حينما يعتزل الناس‪ ،‬ويعتكف بقلبه وجسده‪ ،‬خال ًيا بر ِّبه‪،‬‬
‫منطرحا بين يديه‪ ،‬وكان من هدي النبي × يف االعتكاف االنفرا ُد‬
‫ً‬
‫(‪)2‬‬
‫يف المسجد يلز ُمه‪،‬‬ ‫ضرب له خ َباء‬
‫َ‬ ‫يأمر ْ‬
‫بأن ُي‬ ‫عن الناس‪ ،‬وكان ُ‬
‫ف في‬ ‫ويخلو بر ِّبه‪ ،‬كما قالت عائشة ڤ ‪« :‬ك َ‬
‫َان النبي ×‪َ ،‬ي ْعتَك ُ‬
‫ان‪َ ،‬ف ُكن ُْت َأ ْضر ُب َل ُه خ َبا ًء َف ُي َص ِّلي الص ْب َح ُثم‬
‫ال َع ْشر األَ َواخر م ْن َر َم َض َ‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬مدارج السالكين (‪ ،)263/1‬وظائف رمضان ص (‪.)60‬‬


‫(‪ )2‬الخباء‪ :‬بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة مع المد هي خيمة من وبر أو صوف‪ ،‬ثم‬
‫ُأطلقت على البيت كيف ما كان‪ .‬ينظر‪ :‬النهاية ( ‪ ،) 9/2‬اللسان‪( ) 223 /14 ( ،‬خبا)‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫(‪)1‬‬
‫َيدْ ُخ ُل ُه» ‪.‬‬

‫تجتمع للعاكف المنفرد‬


‫ُ‬ ‫إن ُجل الطاعات وكث ًيرا من العبادات‬
‫الخالي بر ِّبه‪ ،‬وأعظم هذه العبادات وأشرفها‪ :‬عبادة القلب‪ ،‬وألن‬
‫مخصوص بسيد العبادات‪ :‬اإلخالص‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫القلب هو سيد األعضاء فإنه‬
‫َ‬
‫اإلخالص و ُتنميه كما يف حالة العبد‬
‫َ‬ ‫وليس شي ٌء من الحاالت تزيدُ‬
‫المنكسر المنطرح بين يدي مواله حين الخلوة باهلل‪ ،‬والعكوف على‬
‫وطعما ال‬
‫ً‬ ‫طاعته؛ ولهذا فإنه يتذوق حالو َة اإليمان‪ ،‬ويجد له مذا ًقا‬
‫ُيساميه أي مذاق‪ ،‬وال ُيدانيه أي طعم‪ ،‬ﮋﮣﮤ ﮥﮦﮧ ﮨﮩ‬
‫ﮪﮫﮬﮭﮊ [الحديد‪.]21 :‬‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري‪ )48/3( ،‬رقم (‪ ،)2033‬ومسلم (‪ ،)715/2‬رقم (‪.)1172‬‬


‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪10‬‬

‫السمة الثانية‬
‫العيش مع القرآن‬

‫مصدرها األول‪ :‬كتاب اهلل‪ ،‬الذي جعله‬


‫ُ‬ ‫ُلب العبادة وحيا ُة القلب‬
‫ونورا‪﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫روحا وحيا ًة ً‬
‫اهلل ً‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾‬
‫[الشورى‪.]52 :‬‬

‫ُ‬
‫يتذوق‬ ‫وال غرو ْ‬
‫أن يجدَ المؤم ُن حيا َة قلبه يف تدبر القرآن؛ ألنه‬
‫ُ‬
‫فيعيش يف آفاق اآليات‬ ‫بتالوته المتأنية حالو َة المناجاة لكالم ر ِّبه‪،‬‬
‫التي يسري َر ْو ُحها يف خلجات قلبه‪ ،‬فيجد حينها لقلبه حيا ًة أخرى‪،‬‬
‫ولقراءته لذ ًة ال َيص ُفها لسا ُنه‪ ،‬وال ُت ِّ‬
‫دوهنا أقال ُمه‪ ،‬وذلك لعظمة‬
‫ب َ‬
‫عقل المتدبر فرتق‬ ‫الخطاب الرباين وروعة جماله الذي َيس ُل ُ‬
‫نفسه‪ ،‬و َي ُلفها سكينة وخشية‪ ،‬فيتجلى للقلب من المعاين ما َي ُ‬
‫فيض‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫وجماال‪.‬‬ ‫ً‬
‫جالال‬ ‫نورا وغي ًثا ُيضفي على القارئ‬
‫ً‬
‫‪11‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫ربيع األرض‪ ،‬فكذلك القرآن ربيع أفئدة أهل‬ ‫َ‬


‫الغيث ُ‬ ‫وكما أن‬
‫اإليمان‪ ،‬وهو هنر الحياة لقلوبهم‪ ،‬فال شيء أنفع للقلب من قراءة‬
‫القرآن بالتدبر والتفكر‪ ،‬فهو ُيورث المحبة والشوق والخوف‬
‫والرجاء‪ ،‬وسائر األحوال التي هبا حياة القلب وكماله‪ ،‬فلو علم‬
‫الناس ما يف قراءة ال ُقرآن بالتدبر الشتغلوا هبا ع ْن ِّ‬
‫كل ما سواها‪ ،‬فإذا‬
‫محتاج إليها يف شفاء قلبه‪ ،‬كررها ولو‬
‫ٌ‬ ‫قرأه بتفكر حتى َمر بآية هو‬
‫خير من قراءة ختمة بغير‬
‫مائة مرة ولو ليلة‪ ،‬فقراءة آية بتفكر وتفهم ٌ‬
‫تدبر وتفهم‪ ،‬وأنفع للقلب‪ ،‬وأدعى إلى ُح ُصول اإليمان وذوق‬
‫(‪)1‬‬
‫حالوة القرآن؛ فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صالح القلب ‪.‬‬
‫وهذا ليس ِّ‬
‫لكل قارئ للقرآن‪ ،‬بل لمن «كان َهمه عند التالوة‬
‫للسورة إذا افتتحها‪ :‬متى أتع ُظ بما أتلوه؟ ولم ْ‬
‫يكن مراد ُه‪ :‬متى أختم‬
‫السورة؟‪ ،‬مراد ُه‪ :‬متى أعقل عن اهلل الخطاب‪ ،‬متى أزدجر‪ ،‬متى‬
‫(‪)2‬‬
‫أعترب؟ ألن تالوة القرآن عبادة‪ ،‬والعبادة ال تكون بغفلة» ‪.‬‬

‫ومتى ما عاش المعتكف مع القرآن على هذا النحو فقد أحرز‬

‫(‪ )1‬مفتاح دار السعادة (‪ ،)187/1‬بتصرف‪.‬‬


‫(‪ )2‬أخالق حملة القرآن ص (‪.)18‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪12‬‬

‫عكوف القلب الذي هو ُبغية طالب االعتكاف الحق‪.‬‬

‫مفتاح استقامة القلب‪ ،‬وال شيء‬


‫ُ‬ ‫َ‬
‫العيش مع القرآن وتدبره‬ ‫إن‬
‫َي ْعد ُل العيش مع القرآن يف تثبيت القلب وإرساء دعائمه؛ ولذا أمر‬
‫اهلل « بتدبر كتابه‪ ،‬والتفكر يف معانيه‪ ،‬واالهتداء بآياته‪ ،‬وأثنى على‬
‫القائمين بذلك‪ ،‬وجعلهم يف أعلى المراتب‪ ،‬ووعدهم َأ ْسنَى‬
‫جواهر ُع ُمره يف هذا الفن‪ ،‬لم يك ْن ذلك‬
‫َ‬ ‫المواهب‪ ،‬فلو أنفق العبدُ‬
‫كثيرا يف جنب ما هو أفضل المطالب‪ ،‬وأعظم المقاصد‪ ،‬وأصل‬
‫ً‬
‫األصول كلها‪ ،‬وقاعدة أساس السعادة يف الدارين‪ ،‬وصالح أمور‬
‫الدِّ ين والدنيا واآلخرة‪ ،‬وبه يتحقق للعبد حيا ٌة زاهرة بالهدى والخير‬
‫(‪)1‬‬
‫والرحمة‪ ،‬و ُيهيئ اهلل له أطيب الحياة والباقيات الصالحات» ‪.‬‬

‫ِّ‬
‫إن االنطالق َة األولى للعيش مع القرآن ُ‬
‫تكمن يف تدبره وطول‬
‫التأمل يف آياته‪.‬‬

‫نعم إنه «ليس شي ٌء أنفع للعبد يف معاشه ومعاده‪ ،‬وأقرب إلى‬


‫وج ْمع الفكر على معاين‬
‫نجاته من تدبر القرآن‪ ،‬وإطالة التأمل فيه‪َ ،‬‬

‫(‪ )1‬القواعد الحسان لتفسير القرآن ص (‪.)8 -7‬‬


‫‪13‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫آياته‪ ،‬فإهنا ُت ْطل ُع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما‪ ،‬وعلى‬
‫(‪)1‬‬
‫ُط ُر َقاتهما‪ ،‬وأسباهبما‪ ،‬وغاياهتما‪ ،‬وثمراهتما‪ ،‬ومآل أهلهما‪ ،‬و َتتُل‬
‫يف يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة‪ ،‬و ُت َث ِّب ُت قواعد اإليمان‬
‫يف قلبه‪ ،‬وتشيد بنيانه و ُت َو ِّطدُ أركانه‪ ،‬و ُتريه صورة الدنيا واآلخرة‬
‫والجنة والنار يف قلبه‪ ،‬و ُت ْحـض ُر ُه بين األمم‪ ،‬و ُتريه أيام اهلل فيهم‪،‬‬
‫ـص ُر ُه مواقع العرب‪ ،‬و ُت ْشهدُ ُه عدل اهلل وفضله‪ ،‬و ُت َع ِّر ُف ُه ذاته‪،‬‬
‫و ُت َب ِّ‬
‫وأسماءه وصفاته وأفعاله‪ ،‬وما ُيحبه وما ُيبغضه‪ ،‬وصراطه الموصل‬
‫إليه‪ ،‬وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه‪ ،‬وقواطع الطريق‬
‫وآفاهتا‪ ،‬و ُت َع ِّر ُف ُه النفس وصفاهتا‪ ،‬ومفسدات األعمال ومصححاهتا‪،‬‬
‫وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم‪ ،‬وأحوالهم‬
‫وسيماهم‪ ،‬ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة‪ ،‬وأقسام الخلق‪،‬‬
‫واجتماعهم فيما يجتمعون فيه‪ ،‬وافرتاقهم فيما يفرتقون فيه‪.‬‬

‫ويف تأمل القرآن وتدبره‪ ،‬وتفهمه‪ ،‬أضعاف أضعاف ما ذكرنا من‬

‫(‪َ )1‬يتُل‪ :‬بضم التاء‪ ،‬من الفعل ( َتل)‪ ،‬ويقال‪َ :‬يتل بكسر التاء‪ :‬ومعناه َصبه وألقاه‪ُ .‬ينظر‪ :‬النهاية‬
‫يف غريب الحديث واألثر (‪ ،)195/1‬وتاج العروس (‪.)138/28‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪14‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الغوص‬ ‫الح َكم والفوائد‪ .‬وبالجملة فهو أعظم الكنوز‪ ،‬طل ْس ُمه‬
‫(‪)2‬‬
‫بالفكر إلى قرار معانيه» ‪.‬‬

‫ومن أنفع الوسائل الم ُعينة على تدبر القرآن‪ :‬ترديد اآليات‪ ،‬فهو‬
‫السبيل إلى استدرار كنوز القرآن وأسراره‪.‬‬

‫عن أبي ذر ‪ ‬قال‪َ « :‬قا َم النبي × بآ َية َحتى َأ ْص َب َح؛ ُي َر ِّد ُد َها‬
‫َو ْاآل َيةُ‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾‬
‫(‪)3‬‬
‫[المائدة‪. »]118:‬‬

‫قال ب ْشر بن السري‪« :‬إنما اآلية مثل التمرة؛ كلما مضغتها‬


‫(‪)4‬‬
‫استخرجت حالوهتا» ‪.‬‬

‫ـم َوفق ابن قدامة‪ْ « :‬‬


‫وإن لم يحصل التدبر إال برتداد‬ ‫وقال ال ُ‬

‫(‪ )1‬الطلسم‪ :‬هو اسم للسر المكتوم‪ ،‬والمراد بذلك المعاين الدقيقة التي ال تظهر لغير المتعمق‬
‫يف الفهم والعلم والتوسم‪ .‬ينظر‪ :‬تاج العروس (‪.)25 ،24/33‬‬
‫(‪ )2‬مدارج السالكين (‪.)451 ،450/1‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه النسائي (‪ )177/2‬رقم (‪ ،)1010‬وابن ماجه (‪ )429/1‬رقم (‪ ،)1350‬وأحمد (‪،309/35‬‬
‫‪ )310‬رقم (‪ ،)21388‬والحاكم (‪ )367/1‬رقم (‪ ،)879‬وإسناده حسن‪.‬‬
‫(‪ )4‬الربهان يف علوم القرآن للزركشي (‪.)471/1‬‬
‫‪15‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫(‪)1‬‬
‫اآلية‪ ،‬فليرددها» ‪.‬‬

‫ـمعينات على تدبر القرآن‪ :‬اإلقبال عليه‪ ،‬واستشعار‬ ‫ومن ا ْل ُ‬


‫القارئ أنه ُم َخا َط ٌ‬
‫ب به‪ ،‬فإن ذلك من دواعي الفتوحات فيه‪.‬‬

‫اهلل على قلبه من‬


‫مستشعرا ما أفاض ُ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬ ‫قال شيخ اإلسالم‬
‫الفتوحات العظيمة واالستنباطات البديعة‪ ،‬وذلك يف أثناء سجنه‬
‫هلل علي يف هذا‬
‫وخلوته بر ِّبه‪ ،‬وإقباله التام على القرآن‪« :-‬قد فتح ا ُ‬
‫الحصن يف هذه المرة من معاين القرآن‪ ،‬ومن أصول العلم بأشياء‪،‬‬
‫وندمت على تضييع أكثر أوقايت يف‬
‫ُ‬ ‫كثير من العلماء يتمنوهنا‪،‬‬
‫كان ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫غير معاين القرآن» ‪.‬‬

‫االنتفاع بالقرآن فاجمع‬


‫َ‬ ‫أردت‬
‫َ‬ ‫‪« :‬إذا‬ ‫وقال تلميذه ابن القيم‬
‫واحضر حضور َمن‬
‫ُ‬ ‫قلبك عند تالوته وسماعه‪ ،‬وألق سمعك‪،‬‬
‫خطاب منه لك على‬
‫ٌ‬ ‫يخاطبه به َمن َت َكل َم به سبحانه منه إليه‪ ،‬فإنه‬
‫لسان رسوله‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬

‫(‪ )1‬مختصر منهاج القاصدين ص (‪.)53‬‬


‫(‪ )2‬ذيل طبقات الحنابلة (‪ ،)519/4‬وينظر‪ :‬إتحاف القاري للدهامي ص (‪.)119‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪16‬‬

‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [ق‪ ،]37:‬وذلك أن تما َم التأثير َلما كان‬


‫موقو ًفا على ُم َؤ ِّثر ُم ْقتَض‪ ،‬و َم َح ٍّل قابل‪ ،‬وشرط لحصول األثر‪،‬‬
‫وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمنت اآلية بيان ذلك كله بأوجز‬
‫لفظ و َأ ْب َينه و َأ َد ِّله على المراد‪.‬‬

‫فإذا حصل الـ ُْم َؤ ِّثر‪ :‬وهو القرآن‪ ،‬والمحل القابل‪ :‬وهو القلب‬
‫الحي‪َ ،‬و ُوجدَ الشرط‪ :‬وهو اإلصغاء‪ ،‬وانتفى المانع‪ :‬وهو اشتغال‬
‫القلب وذهوله عن معنى الخطاب‪ ،‬وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛‬
‫(‪)1‬‬
‫َ‬
‫حصل األثر‪ :‬وهو االنتفاع والتذكر» ‪.‬‬

‫إن من َة اهلل علينا عظيمة‪ ،‬حين َأذ َن لمخلوقات ضعيفة مثلنا‪ ،‬أن‬
‫‪« :‬ورد أن‬ ‫تناجيه من خالل كالمه العظيم‪ ،‬قال ابن الصالح‬
‫المالئكة لم ُيع ُطوا فضيلة قرا َءة ال ُقرآن‪ ،‬وهي حريصة لذلك على‬
‫استماعه من اإلنس‪ ،‬فإذن قراءة ال ُقرآن كرامة أكرم اهلل هبا اإلنس‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫المؤمني َن من الجن بلغنا أهنم يقرؤونه‪ ،‬واهلل أعلم» ‪.‬‬
‫غير أن ُ‬

‫مختصرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫(‪ )1‬الفوائد ص (‪)3‬‬
‫(‪ )2‬فتاوى ابن الصالح (‪ ،)234/1‬وينظر‪ :‬اإلتقان يف علوم القرآن (‪.)291/1‬‬
‫‪17‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫واستحضار عظمة المتك ِّلم‬


‫َ‬ ‫استحضار هذا االصطفاء‪،‬‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫‪:‬‬ ‫بالقرآن‪ ،‬هو أقوى وسائل العيش مع القرآن‪ ،‬قال ابن الجوزي‬
‫ينظر كيف لطف اهلل تعالى بخلقه يف‬
‫أن َ‬ ‫«ينبغي لتالي القرآن العظيم ْ‬
‫يعلم أن ما يقرؤه ليس من‬
‫َ‬ ‫إيصال معاين كالمه إلى أفهامهم‪ْ ،‬‬
‫وأن‬
‫(‪)1‬‬
‫ستحضر عظمة المتك ِّلم ‪ ،‬ويتدبر كالمه» ‪.‬‬
‫َ‬ ‫كالم البشر‪ْ ،‬‬
‫وأن َي‬

‫ومن الـ ُْمعينات على تدبر القرآن والعيش معه‪ :‬الفرح به‪،‬‬
‫فمن َرا َم َف ْه َم القرآن؛‬
‫وقراءته بروح االستبشار والشعور بالفضل‪َ ،‬‬
‫فليقرأه قراءة فرح واستبشار؛ فإن ذلك من أعظم دواعي التدبر‪ ،‬قال‬
‫تعالى يف وصف عباده المؤمنين‪﴿ :‬ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ‬
‫ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ‬
‫ﭵ﴾ [التوبة‪.]124:‬‬

‫وقال تعالى‪﴿ :‬ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬


‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [يونس‪.]58 ،57:‬‬

‫(‪ )1‬مختصر منهاج القاصدين ص (‪.)46‬‬


‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪18‬‬

‫يف تفسير هذه اآلية‪« :‬و ُذك َر ع ْن َبقية‪ْ ،‬‬


‫عن‬ ‫قال ابن أبي حاتم‬
‫سمعت َأ ْي َفع بن عبد‬
‫ُ‬ ‫صفوان‪ -‬يعني ابن الوليد بن عمرو‪ -‬قال‪:‬‬
‫اج العراق إلى عمر ‪ ‬خرج عمر‬ ‫ال َك َالعي يقول‪َ :‬لما َقد َم َخ َر ُ‬
‫ومو ًلى له‪ ،‬فجعل عمر َي ُعد اإلبل‪ ،‬فإذا هو أكثر من ذلك‪ ،‬فجعل‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬هذا واهلل من‬
‫عمر يقول‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬ويقول مواله‪ :‬يا َ‬
‫بت ليس هذا هو‪ ،‬يقول اهلل‪﴿ :‬ﮑ‬
‫فضل اهلل ورحمته‪ .‬فقال عمر‪ :‬ك ََذ َ‬
‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [يونس‪،]58 :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهذا مما يجمعون» ‪.‬‬
‫فأنظر يف آية منه‬
‫ُ‬ ‫وقال أحمد بن أبي الحواري‪« :‬إين ألقرأ القرآن‬
‫ف َي َح ُار عقلي فيها‪ ،‬و َأ ْع َج ُ‬
‫ب من ُحفاظ القرآن! كيف َيهنْيه ُم النوم‪،‬‬
‫و ُيسيغهم ْ‬
‫أن يشتغلوا بشيء من الدنيا‪ ،‬وهم يتكلمون كالم‬
‫الرحمن‪َ ،‬أ َما لو فهموا ما يتلون‪ ،‬وعرفوا حقه‪ ،‬وتلذذوا به‪،‬‬
‫فرحا بما ُرز ُقوا‬
‫ً‬ ‫لذهب عنهم النوم‬
‫َ‬ ‫واس َت ْح َلوا المناجاة به؛‬
‫ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫ووفقوا» ‪.‬‬
‫ُ‬

‫(‪ )1‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)1960/6‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه السلمي يف طبقات الصوفية (ص‪ ،)94:‬وأبو نعيم يف حلية األولياء (‪.)22/10‬‬
‫‪19‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫وأنشد ذو النون المصري‪:‬‬

‫ــل ا ْل ُع ُيــون ب َل ْيل َهــا َال َت ْه َج ُ‬


‫ــع‬ ‫ُم َق َ‬ ‫َمن ََع ال ُق َر ُ‬
‫ان ب َو ْعـده َو َوعيـده‬
‫(‪)1‬‬
‫اب َو َت ْخ َض ُ‬
‫ـع‬ ‫َف ْه ًما َتذل َل ُه ِّ‬
‫الر َق ُ‬ ‫َفه ُموا َعن ا ْل َملك ا ْل َعظيم ك ََال َم ُه‬

‫‪ُ «:‬‬
‫أهل الليل يف ليلهم ألذ من أهل‬ ‫وقال أبو سليمان الداراين‬
‫(‪)2‬‬
‫أحببت البقاء يف الدنيا» ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اللهو يف لهوهم‪ ،‬ولوال الليل ما‬
‫وقال بعض السلف‪« :‬مساكين أهل الدنيا‪ :‬خرجوا من الدنيا وما‬
‫أطيب ما فيها‪ .‬قالوا‪ :‬وما أطيب ما فيها؟ قال‪ :‬محبة اهلل‪،‬‬
‫َ‬ ‫ذاقوا‬
‫واألُنس به‪ ،‬والشوق إلى لقائه‪ ،‬واإلقبال عليه‪ ،‬واإلعراض َعما‬
‫(‪)3‬‬
‫س َواه» ‪.‬‬
‫ُ‬
‫العيش‬ ‫أعظم بواعثه‬
‫ُ‬ ‫وهذا الشوق واألُنس باهلل واإلقبال عليه‪،‬‬
‫مع القرآن وتدبره والتنعم بتالوته‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬حلية األولياء (‪.)369/9‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه أبو نعيم يف الحلية (‪ ،)275/9‬وابن عساكر يف تاريخ دمشق (‪.)146/34‬‬
‫(‪ )3‬ذكره ابن القيم يف مدارج السالكين (‪ ،)454/1‬وابن رجب يف جامع العلوم والحكم‬
‫(ص‪ ،)189‬وينظر‪ :‬إتحاف القاري للدهامي ص (‪.)130-129‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪20‬‬

‫لقد فهم السلف الصالح هذا المعنى ووعوه؛ فأثمر ذلك لديهم‬
‫هم ًما طامح ًة لتخلية الذهن للقرآن يف مواسم النفحات‪ ،‬وكان‬
‫لديهم بقراءته عجائب‪ ،‬وكان ُيسمع لهم به َدوي كدوي النحل من‬
‫التأثر‪.‬‬
‫َ‬
‫العيش مع القرآن وتدبره وتفهم‬ ‫إن علينا جمي ًعا ْ‬
‫أن نستيق َن أن‬
‫معانيه والعمل به‪ ،‬هو مقصود التالوة‪ ،‬كما أدرك ذلك سل ُفنا‬
‫الصالح‪.‬‬
‫‪« :‬إن َمن كان قبلكم رأوا القرآن‬ ‫قال الحسن البصري‬
‫(‪)1‬‬
‫رسائل من رهبم‪ ،‬فكانوا يتدبروهنا يف الليل‪ ،‬و ُينَ ِّف ُذون ََها يف النهار» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫من رياحين‬ ‫وحها؛ لت ُعب‬ ‫فأ ْطل ْق لنفسك ‪-‬أيها ُ‬
‫الموفق‪ُ -‬ر َ‬
‫وفرغ قلبك‪ْ ،‬‬
‫وأخل ذهنك للقرآن؛ كي تعيش معه ف ُيرفرف‬ ‫القرآن‪ِّ ،‬‬
‫عظيما‪.‬‬
‫ً‬ ‫فوزا‬
‫قلبك يف قمم السعادة‪ ،‬فتفوز ً‬
‫‪‬‬
‫(‪ )1‬ذكره الغزالي يف إحياء علوم الدين (‪ ،)275/1‬وينظر‪ :‬التبيان يف آداب حملة القرآن ص (‪.)28‬‬
‫(‪ )2‬العب‪ :‬شرب الماء بعنف وتتابع يف الجرعات من غير مص وال تنفس‪ .‬ينظر‪ :‬كتاب العين‬
‫(‪ ،)93/1‬جمهرة اللغة (‪.)73/1‬‬
‫‪21‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫السمة الثالثة‬
‫مجعية القلب وصدق إقباله‬

‫والقلب ال‬
‫ُ‬ ‫إن غاي َة االعتكاف ومقصو َده‪ :‬استقام ُة القلب‪،‬‬
‫انصرف‬
‫َ‬ ‫يستقيم على صراط اهلل إال بإقباله ب ُك ِّليته على اهلل‪ ،‬ومتى ما‬
‫ُ‬
‫وس َبح يف أشتات بعيدة عنه؛ فقد فاته المقصو ُد من‬
‫عن اهلل َ‬
‫االعتكاف‪ ،‬ولو كان الجسدُ عاك ًفا‪.‬‬
‫صالح القلب واستقام ُته على طريق سيره إلى‬
‫ُ‬ ‫ولهذا؛ «لما َ‬
‫كان‬
‫ـم َش ْعثه بإقباله بال ُك ِّلية‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬متو ِّق ًفا على َجمعيته على اهلل‪ ،‬و َل ِّ‬
‫ُ‬
‫اإلقبال على اهلل تعالى‪،‬‬ ‫شعث القلب ال َي ُلمه إال‬
‫َ‬ ‫على اهلل تعالى‪ ،‬فإن‬
‫ُ‬
‫وفضول‬ ‫ُ‬
‫وفضول مخالطة األنام‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فضول الطعام والشراب‪،‬‬ ‫وكان‬
‫وفضول المنام‪ ،‬مما يزيدُ ُه َش َع ًثا‪ ،‬و ُيش ِّتت ُه يف ِّ‬
‫كل واد‪ ،‬وي ْق َط ُعه‬ ‫ُ‬ ‫الكالم‪،‬‬
‫اقتضت رحم ُة‬
‫ْ‬ ‫ع ْن سيره إلى اهلل تعالى‪ ،‬أو ُيضع ُفه أو َي ُعو ُقه ويوق ُفه؛‬
‫َ‬
‫فضول‬ ‫ذهب‬
‫شرع لهم من الصوم ما ُي ُ‬
‫َ‬ ‫العزيز الرحيم بعباده ْ‬
‫أن‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪22‬‬

‫عوقة له‬
‫الم ِّ‬ ‫َ‬
‫أخالط الشهوات ُ‬ ‫الطعام والشراب‪ ،‬ويستفر ُغ من القلب‬
‫ينتفع به‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بحيث‬ ‫ع ْن سيره إلى اهلل تعالى‪ ،‬وشرعه ب ْقدر المصلحة‪،‬‬
‫العبدُ يف ُدنياه و ُأخراه‪ ،‬وال َي ُضره وال َي ْق َط ُعه ْ‬
‫عن مصالحه العاجلة‬
‫واآلجلة‪.‬‬
‫عكوف القلب على‬
‫ُ‬ ‫وروحه‬
‫ُ‬ ‫االعتكاف الذي مقصو ُده‬
‫َ‬ ‫وشرع لهم‬
‫نقطاع ع ْن االشتغال‬
‫ُ‬ ‫وجمعي ُته عليه‪ ،‬والخلو ُة به‪ ،‬واال‬
‫اهلل تعالى‪َ ،‬‬
‫وحب ُه‪،‬‬
‫ذكر ُه ُ‬
‫يصير ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بحيث‬ ‫ُ‬
‫واالشتغال به وحده سبحانه‬ ‫بالخلق‪،‬‬
‫واإلقبال عليه يف َم ِّ‬
‫حل ُهموم القلب وخطراته‪ ،‬فيستولي عليه‬ ‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫والتفكر يف‬
‫ُ‬ ‫والخطرات كلها بذكره‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الهم كله به‪،‬‬
‫ويصير َ‬
‫ُ‬ ‫َبدَ لها ‪،‬‬
‫عن ُأنسه‬ ‫فيصير ُأنسه باهلل ً‬
‫بدال ْ‬ ‫ُ‬ ‫قرب منه‪،‬‬
‫تحصيل َم َراضيه وما ُي ُ‬
‫بالخلق‪ ،‬ف ُيعده بذلك ألُنسه به يو َم الوحشة يف القبور حين ال َأ َ‬
‫نيس‬
‫(‪)2‬‬
‫يفرح به سواه‪ ،‬فهذا مقصود االعتكاف األعظم» ‪.‬‬
‫له‪ ،‬وال ما ُ‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬أي‪ :‬بدل الهموم والخطرات‪.‬‬


‫(‪ )2‬زاد المعاد (‪.)83 ،82/2‬‬
‫‪23‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫السمة الرابعة‬
‫استشعار معية اهلل لعبده‬

‫قال تعالى‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝﮞ﴾ [الشعراء‪:‬‬

‫‪ ]219 ،218‬إهنا آية عظيمة َيستوحي منها العبدُ المؤم ُن اطالع اهلل عليه يف‬
‫كل تقلباته وأحواله وعباداته‪« ،‬أي يراك يف هذه العبادة العظيمة التي‬
‫هي الصالة وقت قيامك وتقلبك راك ًعا وساجدً ا‪ ،‬وخصها ِّ‬
‫بالذكر‬
‫(‪)1‬‬
‫خشع و َذل» ‪.‬‬
‫َ‬ ‫لفضلها وشرفها؛ وألن َمن استحضر فيها ُق َ‬
‫رب ر ِّبه‬

‫وهذه اآلي ُة الكريمة جاءت يف آخر سورة الشعراء بعد أ ْمر‬


‫الحق والتوكل على اهلل؛ فكأن يف هذا‬
‫النبي × باإلنذار والثبات على ِّ‬
‫استحضار َمعية اهلل لعبده واطالعه عليه حين القيام‬
‫َ‬ ‫إلماحة إلى أن‬
‫قلب المؤمن يف طريقه إلى اهلل‪ ،‬و َي ُسل‬
‫بالعبادة‪ ،‬هو زا ٌد ُروحي ُيسلي َ‬

‫(‪ )1‬تيسير الكريم الرحمن ص(‪.)599‬‬


‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪24‬‬

‫سخيم َته‪ ،‬و ُيجلي عنه صخب الحياة وكدرها وعذاباهتا‪.‬‬

‫إن استحضار هذه المعية ومراقبة اهلل لعبده وعلمه بحاله‪،‬‬


‫وإحاطته بسره وعالنيته‪ ،‬وقوله وعمله؛ لهو ٌ‬
‫كفيل بإزالة الغشاوة عن‬
‫القلب وزوال غبار أوضار الدنيا؛ ليحل محلها اإلخالص الذي يلفه‬
‫سياج الصدق مع اهلل وابتغاء ثوابه وعطائه األخروي‪ ،‬فإن َمن كان‬
‫هبذه المنزلة يف الرقابة الذاتية عند أداء العبادة ال تتطلع همته إال إلى‬
‫أعلى المنازل يف اآلخرة؛ ألن الدنيا وحظوظها باستشعار معية اهلل‬
‫هشيما تذروه الرياح‪ ،‬وإذا غابت الرقابة أو ضعفت يف‬
‫ً‬ ‫ورقابته ُت ُ‬
‫صبح‬
‫قلب العبد هجمت عليه نوازع النفس هجوم األسد الضاري على‬
‫فريسته يف يوم مسغبة وغياب رقيب‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪25‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫السمة اخلامسة‬
‫تعظيم اهلل تعاىل‬

‫أن تكون قائمة على توقيره‬ ‫َ‬


‫األصل يف عبوديتنا هلل ‪ْ ‬‬ ‫إن‬
‫تكاف؛‬
‫ُ‬ ‫وع ْش ُر ُه الفاضالت‪ ،‬واالع‬ ‫ُ‬
‫ورمضان‪َ ،‬‬ ‫وتعظيمه وإجالله‪،‬‬
‫بوابات مبارك ٌة لتنمية هذا التوقير والتعظيم يف قلوبنا‪ ،‬وهذه‬
‫ٌ‬
‫المناسبات من أعظم ُمورثات هذا المطلب الجليل‪.‬‬

‫قال ابن عباسﭭ يف معنى قوله تعالى‪﴿ :‬ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ﴾‬


‫(‪)1‬‬
‫[نوح‪« :]13 :‬ما لكم ال َتع ِّظ َ‬
‫مون اهلل حق عظمته» ‪ ،‬فحق التوقير‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫التعظيم يف القلب‪ ،‬وحق التعظيم بالقلب‪ :‬الطاعة بالجوارح ‪.‬‬

‫وكلما تدبر المؤم ُن آيات القرآن وأحاديث السنة التي جاء فيها‬

‫(‪ )1‬أخرجه الطربي يف جامع البيان (‪.)634/23‬‬


‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬روح الصيام ومعانيه‪ ،‬للدكتور‪/‬عبدالعزيز كامل ص (‪.)89‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪26‬‬

‫ً‬
‫إجالال هلل‬ ‫ذكر أسماء اهلل الحسنى وعظمته وجالله؛ انخلع قل ُبه‬
‫وتعظيما له‪ ،‬يتلو قول اهلل سبحانه‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ً‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾‬
‫مشاعر من تعظيم اهلل وإجالله‪ ،‬مشاعر‬
‫ُ‬ ‫[الز َمر‪ ،]67 :‬فتنساب إلى قلبه‬
‫فياضة تستخرج رواسب التعلق بالدنيا واإلخالد إليها‪ ،‬فال يبقى يف‬
‫القلب سك ٌن لغير إجالل اهلل‪.‬‬

‫يقرأ قوله سبحانه‪﴿ :‬ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬


‫ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ‬
‫ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﴾ [األنعام‪ُ ،]59 :‬‬
‫يتأمل هذه اآلية‬
‫ُ‬
‫تستجيش يف قلبه أطياف الشعور بعظمة هذا‬‫ويقف عند معانيها ف‬
‫الكالم وعظمة المتك ِّلم به سبحانه‪.‬‬

‫إنه «كالم اهلل‪ ،‬وقد َت َجلى اهلل فيه لعباده بصفاته‪ ،‬فتارة َي َت َجلى يف‬
‫جلباب الهيبة والعظمة والجالل‪ ،‬فتخضع األعناق‪ ،‬وتنكسر‬
‫النفوس‪ ،‬وتخشع األصوات‪ ،‬ويذوب الك ْب ُر كما يذوب الملح يف‬
‫الماء‪ ،‬وتارة َي َت َجلى يف صفات الجمال والكمال‪ ،‬وهو كمال األسماء‬
‫‪27‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫وجمال الصفات وجمال األفعال الدال على كمال الذات‪ ،‬فيستنفد‬


‫حبه من قلب العبد قو َة الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله‬
‫ونعوت كماله؛ فيصبح فؤاد عبده فار ًغا إال من محبته‪ ،‬فإذا أراد منه‬
‫الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل اإلباء كما‬
‫قيل‪:‬‬

‫َو َت ْأ َبى ال ِّط َب ُ‬


‫اع َع َلى الناقل‬ ‫ُي َرا ُد م َن ا ْل َق ْلب ن ْس َيا ُن ُك ْم‬

‫فتبقى المحبة له طب ًعا ال تكل ًفا‪ ،‬وإذا تجلى بصفات الرحمة والرب‬
‫واللطف واإلحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله‪ ،‬وقوي‬
‫طمعه‪ ،‬وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره‪ ،‬وكلما قوي‬
‫(‪)1‬‬
‫الم َغ ِّل َغلق‬
‫الرجاء جد يف العمل‪ ،‬كما أن الباذر كلما قوي طمعه يف ُ‬
‫أرضه بالبذر‪ ،‬وإذا ضعف رجاؤه َقصر يف البذر‪...‬‬

‫وإذا تجلى بصفات العز والكربياء أعطت نفسه المطمئنة ما‬


‫وصلت إليه من الذ ِّل لعظمته‪ ،‬واالنكسار لعزته‪ ،‬والخضوع‬

‫(‪ )1‬المغل أو الغَلة‪ :‬الد ْخل الذي ُي َحص ُل من الزرع والثمر‪ .‬ينظر‪ :‬النهاية يف غريب‬
‫الحديث واألثر (‪ ،)381/3‬ولسان العرب (‪.)504/11‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪28‬‬

‫لكربيائه‪ ،‬وخشوع القلب والجوارح له‪ ،‬فتعلوه السكينة والوقار يف‬


‫وس ْمته‪ ،‬ويذهب طيشه و َت ْو ُقه وحدته‪.‬‬
‫قلبه ولسانه وجوارحه َ‬
‫وجماع ذلك أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة‪،‬‬
‫وبصفات ربوبيته تارة‪ ،‬فيوجب له شهود صفات اإللهية المحبة‬
‫الخاصة‪ ،‬والشوق إلى لقائه‪ ،‬واألُنس والفرح به والمنافسة يف قربه‪،‬‬
‫والتودد إليه بطاعته‪ ،‬واللهج بذكره‪ ،‬والفرار من الخلق إليه‪ ،‬ويصير‬
‫هو وحده همه دون ما سواه‪ ،‬و ُيوجب له شهود صفات الربوبية؛‬
‫التوكل عليه‪ ،‬واالفتقار إليه‪ ،‬واالستعانة به‪ ،‬والذل والخضوع‬
‫(‪)1‬‬
‫واالنكسار له» ‪.‬‬
‫َ‬
‫حديث عبد اهلل بن عمرﭭ قال‪:‬‬ ‫ويف السنة الغراء يقر ُأ المؤم ُن‬
‫اوات َي ْو َم ا ْلق َيا َمة‪ُ ،‬ثم‬ ‫اهلل ‪ ‬الس َم َ‬ ‫قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ي ْطوي ُ‬
‫ون؟ َأ ْي َن‬
‫ـجب ُار َ‬‫ـمل ُك‪َ ،‬أ ْي َن ا ْل َ‬ ‫َي ْأ ُخ ُذ ُهن ب َيده ا ْل ُي ْمنَى‪ُ ،‬ثم َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬أنَا ا ْل َ‬
‫ـمل ُك َأ ْي َن‬
‫ول‪َ :‬أنَا ا ْل َ‬
‫ون‪ُ .‬ثم َي ْطوي ْاألَ َرضي َن بش َماله‪ُ ،‬ثم َي ُق ُ‬ ‫ا ْل ُ‬
‫ـم َت َك ِّب ُر َ‬
‫ون؟» ‪ ،‬ف ُي َق ِّلب الطرف يف أسرار هذا‬
‫(‪)2‬‬
‫ون؟ َأ ْي َن ا ْلـ ُم َت َك ِّب ُر َ‬
‫ـجب ُار َ‬ ‫ا ْل َ‬

‫(‪ )1‬الفوائد البن القيم ص (‪. )70 – 69‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ )123/9‬رقم (‪ ،)7412‬ومسلم (‪ )2148/4‬رقم (‪ ،)2788‬واللفظ له‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫الحديث‪ ،‬و ُيسرح قلبه يف ظالل معانيه‪ ،‬ف َي َتمل ُكه شعور بالهيبة‬
‫واإلجالل لذي الجالل ‪ ،‬إهنا مشاعر سمو وعلو‪ ،‬يرتفع هبا‬
‫القلب إلى ُذ َرى المقامات؛ جراء سطوة هذه النصوص التي تستفز‬
‫القلب؛ فينبعث منه تعظيم اهلل وخشيته وإجالله‪.‬‬
‫تعظيما هلل جل يف‬
‫ً‬ ‫فكيف ال يكون القلب عاك ًفا وقد امتأل‬
‫ب‬‫عاله؟!‪ ،‬فال ريب أن القلب إذا امتأل بذلك توصل إلى ُل ِّ‬
‫االعتكاف وحقيقته‪.‬‬

‫‪‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪30‬‬

‫السمة السادسة‬
‫افتقار العبد إىل ربه وشعوره باحلاجة إليه‬

‫االعتكاف يف بيت من بيوت اهلل‪ ،‬اعتكاف قلب‪ ،‬صورة حية‬


‫َ‬ ‫إن‬
‫لمشهد ُذ ِّل العبد وافتقاره لمواله‪ ،‬وال تتم العبودية إال «بتكميل‬
‫وأكمل الخلق عبودي ًة أكم ُلهم ً‬
‫ذال هلل وانقيا ًدا‬ ‫ُ‬ ‫مقام الذل واالنقياد‪،‬‬
‫ذليل لمواله الحق ب ِّ‬
‫كل وجه من وجوه الذل‪ ،‬فهو‬ ‫وطاعة‪ ،‬والعبد ٌ‬
‫ذليل لعزه‪ ،‬وذليل لقهره‪ ،‬وذليل لربوبيته فيه وتصرفه‪ ،‬وذليل‬
‫(‪)1‬‬
‫إلحسانه إليه وإنعامه عليه» ‪.‬‬

‫إن العبدَ كلما انكسر بين يدي مواله كان قري ًبا من اهلل‪ ،‬ومن‬
‫أقرب‬
‫َ‬ ‫رحمته ونصره وعطاياه‪ُ ،‬يوفقه و َيهديه ويجرب كسر قلبه «فما‬
‫الجرب من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق‬

‫(‪ )1‬مفتاح دار السعادة (‪.)289/1‬‬


‫‪31‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫منه! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! و َذر ٌة من هذا و َن َف ٌس منه‬
‫(‪)1‬‬
‫المعجبين‬
‫ُ‬ ‫المد ِّلين‬
‫أحب إلى اهلل من طاعات أمثال الجبال من ُ‬
‫بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم‪ ،‬وأحب القلوب إلى اهلل سبحانه‬
‫ناكس‬
‫ُ‬ ‫قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة‪ ،‬وملكته هذه الذلة‪ ،‬فهو‬
‫ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫وخجال من اهلل» ‪.‬‬
‫ً‬ ‫رأسه إليه حيا ًء‬
‫يرفع َ‬
‫الرأس بين يدي ر ِّبه‪ ،‬ال ُ‬

‫منكسرا بين يديه‪،‬‬


‫ً‬ ‫َ‬
‫يكون‬ ‫إن اهلل سبحانه ُيحب من عبده ْ‬
‫أن‬
‫تستقيم له‬
‫ُ‬ ‫القلب ال‬
‫َ‬ ‫مفتقرا دو ًما إليه‪ ،‬بل إن‬
‫ً‬ ‫مالز ًما لحالة الذل له‪،‬‬
‫فالقلب‬
‫ُ‬ ‫وروحها‪« ،‬‬
‫ُ‬ ‫حال إال باالفتقار إلى اهلل الذي هو ُلب العبودية‬
‫ال يصلح وال يفلح‪ ،‬وال َيلتذ‪ ،‬وال ُيسر‪ ،‬وال يطيب‪ ،‬وال يسكن‪ ،‬وال‬
‫يطمئن إال بعبادة ربه‪ ،‬وحبه واإلنابة إليه‪ ،‬ولو حصل له كل ما يلتذ‬
‫به من المخلوقات لم يطمئن‪ ،‬ولم يسكن‪ ،‬إذ فيه فقر ذايت إلى ر ِّبه‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫من حيث هو معبوده‪ ،‬ومحبوبه‪ ،‬ومطلوبه» ‪.‬‬

‫وكلما تعمق شعور العبد بحاجته إلى اهلل‪ ،‬دفعه إلى اإلنابة‪،‬‬

‫(‪ )1‬اإلدالل‪ :‬المن بالعطاء‪ .‬ينظر‪ :‬هتذيب اللغة (‪ ،)48/14‬لسان العرب (‪.)248/11‬‬
‫(‪ )2‬مدارج السالكين (‪.)428/1‬‬
‫(‪ )3‬مجموع الفتاوى (‪.)194/10‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪32‬‬

‫واستكانة القلب‪ ،‬وعكوفه على محبة اهلل وكثرة ذكره وشكره وحمده‬
‫وتمجيده والثناء عليه‪ ،‬وهذه سمة المؤمن يف حياته‪ ،‬ويف سائر أوقاته‪،‬‬
‫وحال بيعه وشرائه‪ ،‬ومع أهله وخالنه‪ ،‬فكيف به وهو يف صلب ميدان‬
‫المنافسة‪ ،‬ويف ليالي الرحمات‪ ،‬وتنزل الهبات‪ ،‬وهو عاكف بقلبه‬
‫وجسده على طاعة ربه‪ ،‬حينما يصل إلى «صفاء العبودية‪ ،‬وعمارة‬
‫السر بينه وبين اهلل‪ ،‬وخلوص الود؛ ف ُيصبح و ُيمسي وال َهم له غير‬
‫جميع الهموم‪ ،‬وعطلت إراداته جميع‬
‫َ‬ ‫ربه‪ ،‬فقد ق َطع همه بر ِّبه عنه‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلرادات‪ ،‬ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه» ‪.‬‬

‫إن المؤم َن حينما يتيقن حاجته إلى ربه‪ ،‬ويستشعر أهنا أهم‬
‫الضروريات‪ ،‬يصل إلى نقاء العبودية‪ ،‬وإلى لذة الخلوة باهلل‪.‬‬

‫إنه حينما يستشعر فقره إلى اهلل‪ ،‬ومسيس الحاجة إلى التذلل‬
‫عالما آخر‬
‫بين يديه‪ ،‬ويندفع إلى ذلك بصدق وجمعية قلب؛ سيجد ً‬
‫نعيما للعبادة «ال ينا ُله‬
‫من نعيم األرواح‪ ،‬ولذة النفس‪ ،‬و ُقرة العين‪ً ،‬‬
‫الوصف‪ ،‬وال يدر ُكه َم ْن ليس له ن ٌ‬
‫َصيب منه‪ ،‬وكل َم ْن كان به أقوم‬

‫(‪ )1‬طريق الهجرتين ص (‪.)17‬‬


‫‪33‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫(‪)1‬‬
‫والقلب إذا ذاق طعم عبادة‬
‫ُ‬ ‫كان نصي ُبه من االلتذاذ به أعظم» ‪« ،‬‬
‫اهلل واإلخالص له‪ ،‬لم يك ْن عنده شيء قط أحلى من ذلك وال ألذ‬
‫(‪)2‬‬
‫وال أطيب» ‪.‬‬

‫إذن َفسر االعتكاف لزوم االفتقار واالنكسار والتذلل هلل‪،‬‬


‫واالنطراح على عتبات عبوديته سبحانه‪.‬‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬طريق الهجرتين ص (‪.)59‬‬


‫(‪ )2‬مجموع الفتاوى (‪.)187/10‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪34‬‬

‫السمة السابعة‬
‫استحضار منة اهلل وفضله‬

‫من روائع الرتبية القرآنية يف أوائل الدعوة النبوية ما جاء يف‬


‫المدثر‪ ،‬عندما أمر اهلل نبيه × بالنذارة والدعوة ثم قال‬
‫مطلع سورة ُ‬
‫له‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [المدثر‪.]6 :‬‬

‫إهنا الوصية الربانية التي تجرد العبد من االستعالء بالعمل‪،‬‬


‫واستحضارا لمشاهد مننه التي غمرت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إجالال هلل‪،‬‬ ‫وتمأل قلبه مهاب ًة و‬
‫حياة العبد‪ ،‬فما من سبيل إال وهلل على عبده ن َع ٌم‪ ،‬ال َيعدها عاد‪ ،‬وال‬
‫ُيحصيها كتاب‪.‬‬

‫إن المؤم َن الحق هو َمن ُيديم استحضار مشاهد منَن ربه عليه؛‬
‫ألهنا قد طوقت المؤمن طو ًقا يمأل األرض والسماء‪ ،‬فهو الذي‬
‫عما أعالها نعمة الهداية التي يعجز اللسان عن الوفاء‬
‫أفاض عليه ن ً‬
‫بقدرها‪ ،‬حيث أخرجه ربه هبا من ُظلمة الضالل إلى نور الهداية‪،‬‬
‫‪35‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫ومن ُلجة الغي إلى رحاب اإليمان‪َ « ،‬يا ع َبادي كُل ُك ْم َضال إال َم ْن‬
‫است َْهدُ وني َأ ْهدك ُْم» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫َهدَ ْي ُت ُه‪َ ،‬ف ْ‬
‫لذا عتب اهلل على َمن غفل عن مشاهدة مننه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ﴾ [الحجرات‪.]17 :‬‬
‫إهنا تربية القرآن التي ُتطهر القلب من االستعالء‪ ،‬وتمحو عنه‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫إجالال هلل واعرتا ًفا بفضله ومنته‪ ،‬كما‬
‫ً‬ ‫مسارب اإلدالل ‪ ،‬وتملؤه‬
‫فقه ذلك أولو الفضل من أمثال عمر ‪ ‬حينما ُطعن وقال له عبداهلل‬
‫َان َذ َ‬
‫اك‪َ ،‬ل َقدْ‬ ‫ين‪َ ،‬و َلئ ْن ك َ‬ ‫ابن عباس ﭭ مواس ًيا‪َ « :‬يا َأم َير ُ‬
‫الـم ْؤمن َ‬
‫ول اهلل × َف َأ ْح َسن َْت ُص ْح َب َت ُه‪ُ ،‬ثم َف َار ْق َت ُه َو ُه َو َعن َْك‬ ‫َصح ْب َت َر ُس َ‬
‫َراض‪ُ ،‬ثم َصح ْب َت َأ َبا َب ْكر َف َأ ْح َسن َْت ُص ْح َب َت ُه‪ُ ،‬ثم َف َار ْق َت ُه َو ُه َو َعن َْك‬
‫َراض‪ُ ،‬ثم َصح ْب َت َص َح َبت َُه ْم َف َأ ْح َسن َْت ُص ْح َبت َُه ْم‪َ ،‬و َلئ ْن َف َار ْقت َُه ْم‬
‫ون‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬أما َما َذك َْر َت م ْن ُص ْح َبة َر ُسول‬ ‫َل ُت َفار َقن ُه ْم َو ُه ْم َعن َْك َر ُ‬
‫اض َ‬

‫(‪ )1‬قطعة من حديث قدسي أخرجه مسلم (‪ )1994/4‬رقم (‪.)2577‬‬


‫(‪ )2‬المسارب‪ :‬المراعي التي ترعى فيها الدواب ‪ .‬ينظر‪ :‬العين (‪.)249/7‬‬
‫(‪ )3‬اإلدالل‪ :‬المن بالعطاء‪ .‬ينظر‪ :‬هتذيب اللغة (‪ ،)48/14‬لسان العرب (‪.)248/11‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪36‬‬

‫اك َمن م َن اهلل َت َعا َلى َمن به َع َلي‪َ ،‬و َأما َما‬‫اهلل × َور َضا ُه‪َ ،‬فإن َما َذ َ‬
‫َذك َْر َت م ْن ُص ْح َبة َأبي َب ْكر َور َضا ُه‪َ ،‬فإن َما َذ َ‬
‫اك َمن م َن اهلل َجل ذك ُْر ُه‬
‫َمن به َع َلي‪َ ،‬و َأما َما َت َرى م ْن َج َزعي َف ُه َو م ْن َأ ْجل َك َو َأ ْجل‬
‫َأ ْص َحاب َك‪َ ،‬واهلل َل ْو َأن لي ط َال َع األَ ْرض َذ َه ًبا َال ْفتَدَ ْي ُت به م ْن‬
‫(‪)1‬‬

‫َع َذاب اهلل ‪َ ،‬ق ْب َل َأ ْن َأ َرا ُه» ‪.‬‬


‫(‪)2‬‬

‫زيل من القلب منابت ال ُعجب‪،‬‬ ‫استحضار مشهد منة اهلل ُي ُ‬


‫َ‬ ‫إن‬
‫ويغسله من درن اإلدالل‪ ،‬و ُيطهره من الدنس ليكون وعا ًء نظي ًفا‬
‫يتزكى باإليمان‪ ،‬ويرتفع بأعمال القلوب‪ ،‬وينتفع بأعمال الجوارح‪،‬‬
‫أما إذا ُوجدت هذه األعمال مع شوائب ال ُعجب واإلدالل بالعمل‪،‬‬
‫خيرا وال تذر‪ ،‬وم ْن‬ ‫قلب صاحبها سح ًقا‪ ،‬فال ُتبقي فيه ً‬ ‫حق َ‬ ‫فإهنا َت ْس ُ‬
‫َثم قال اهلل لمن أدل بعمله‪َ « ،‬قدْ َغ َف ْر ُت ل ُفالن‪َ ،‬و َأ ْح َب ْط ُت َع َم َل َك» ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫إعجاب المرء بعمله وإدالله به سقطة من أشنع السقطات‬


‫َ‬ ‫إن‬
‫وأقبحها‪ ،‬إنه محرق ٌة للطاعات‪ ،‬و َمنْب ٌت للرذائل وشتى األدواء‬

‫(‪ )1‬ط َال ُع األَ ْرض‪ :‬ملؤها‪ .‬ينظر‪ :‬جمهرة اللغة (‪ ،)915/2‬والصحاح (‪.)1254/3‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ )12/5‬رقم (‪.)3692‬‬
‫(‪ )3‬حديث قدسي أخرجه مسلم (‪ )2023/4‬رقم (‪ ،)2621‬من حديث جندب ‪ ،‬عن النبي‬
‫ﷺ‪ ،‬عن ربه‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫واآلفات‪.‬‬
‫السلف يحاذرون ال ُعجب ويفرون منه‪ ،‬قال مطرف بن‬ ‫ُ‬ ‫وكان‬
‫أن‬ ‫نائما و ُأ َ‬
‫صبح ناد ًما‪ ،‬أحب إلي من ْ‬ ‫أبيت ً‬‫ألن َ‬‫عبداهلل بن الشخير‪ْ « :‬‬
‫قائما ف ُأصبح ُمعج ًبا» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أبيت ً‬
‫َ‬
‫قائما‬
‫تبيت ً‬
‫َ‬ ‫نائما و ُتصبح ناد ًما‪ ،‬خير من ْ‬
‫أن‬ ‫تبيت ً‬
‫َ‬ ‫«إنك ْ‬
‫أن‬
‫المعجب ال يصعد له عمل‪ ،‬وإنك أ ْن تضحك‬
‫و ُتصبح ُمعج ًبا‪ ،‬فإن ُ‬
‫وأنت معرتف‪ ،‬خير من ْ‬
‫أن تبكي وأنت ُمدل‪ ،‬وأنين المذنبين أحب‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫إلى اهلل من زجل المسبحين المدلين» ‪.‬‬
‫ف َأوقدْ أيها ُ‬
‫الم ْعتكف يف ذهنك شرارة الشعور بمنة اهلل وتزكيته‬
‫لك‪﴿ ،‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾[النور‪.]21 :‬‬

‫‪‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن المبارك يف الزهد (‪ )151/1‬رقم (‪ ،)448‬وأحمد يف الزهد ص (‪ )195‬رقم‬
‫(‪ ،)1342‬وأبو نعيم يف الحلية (‪.)200/2‬‬
‫سمعت زَ َجل القوم أي أصواهتم‪ .‬والمراد تسبيح المسبحين‪ .‬ينظر‪ :‬البارع يف‬
‫ُ‬ ‫(‪ )2‬يقال‪:‬‬
‫اللغة (ص‪)637 :‬‬
‫(‪ )3‬مدارج السالكين (‪.)195/1‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪38‬‬

‫السمة الثامنة‬
‫االعرتاف بالذنب والتقصري‬

‫وتأمال سري ًعا يف ابتهاالت األنبياء والصالحين‬


‫ً‬ ‫إن لمح ًة خاطف ًة‪،‬‬
‫سرا يكتنفها‪ ،‬أال وهو اشتمالها‬
‫يكشف لك ً‬
‫ُ‬ ‫ومناجاهتم وأدعيتهم‪،‬‬
‫جال وصفحات مشرق ًة من‬
‫على االعرتاف بالذنب والظلم‪ ،‬وإليك س ً‬
‫اعرتافهم بالذنب والظلم‪:‬‬

‫فهذا آدم وحواء يدعوان‪﴿ :‬ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬


‫ﭙ ﭚﭛ ﭜ﴾ [األعراف‪.]23 :‬‬

‫وهذا موسى ‪- ‬وهو من ُأولي العزم من الرسل‪ -‬يدعو‪:‬‬


‫﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾‬
‫[القصص‪ ،]16 :‬وهذا يونس ‪ ‬يبتهل إلى ر ِّبه و ُيناجيه معرت ًفا بذنبه بل‬
‫بكونه من الظالمين‪﴿ ،‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫‪39‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [األنبياء‪.]87 :‬‬

‫وحينما اسرتشد الصديق ‪ ‬النبي ﷺ وقال له‪ :‬علمني دعاء‬


‫أدعو به يف صاليت‪ ،‬قال‪ُ « :‬قل‪ :‬الل ُهم إنِّي َظ َل ْم ُت َن ْفسي ُظ ْل ًما كَث ًيرا‪،‬‬
‫اغف ْر لي َم ْغف َر ًة م ْن عنْد َك‪َ ،‬و ْار َح ْمني‬ ‫ُوب إال َأن َ‬
‫ْت‪َ ،‬ف ْ‬ ‫َو َال َي ْغف ُر الذن َ‬
‫إن َك َأن َْت ال َغ ُف ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫يم» ‪.‬‬
‫ور الرح ُ‬
‫إهنا الرتبية النبوية التي تحد من استعالء العبد‪ ،‬وتجعله دائم‬
‫مستحضرا ذنوبه بين عينيه‪،‬‬
‫ً‬ ‫االفتقار لربه‪ ،‬دائم االنكسار بين يديه‬
‫فضال‬
‫وإذا كانت هذه هي وصية النبي ﷺ ألبي بكر ‪ ‬وهو َم ْن هو ً‬
‫وإمام ًة وجاللة ونصر ًة لدينه وذ ًبا عن نبيه؛ فكيف يكون حالنا‬
‫ونحن المذنبون المفرطون؟!‬

‫الم ْع َتكف هذا المشهد‪ ،‬معرت ًفا بذنبك‪ً ،‬‬


‫مقبال على‬ ‫فالز ْم أيها ُ‬
‫ربك‪ ،‬متيقنًا من قلبك أنك من الظالمين‪ ،‬واجعل هذه الدعوات‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )166/1‬رقم (‪ ،)834‬ومسلم (‪ )2078/4‬رقم (‪ )2705‬من حديث أبي‬


‫بكر الصديق ‪.‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪40‬‬

‫(‪)1‬‬
‫هبا‬ ‫واحذر أن َتنْب َس‬
‫ْ‬ ‫المباركة على لسانك يف ِّ‬
‫كل أحوالك‪،‬‬
‫بشفتيك‪ ،‬وقل ُبك من االعرتاف هبا خال‪ ،‬فإن حقيق َة الصدق ْ‬
‫أن‬
‫القلب ما يجري به اللسان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُيواطئ‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬يقال‪َ :‬ن َب َس َن ْب ًسا‪ ،‬أي‪ :‬تكلم وحرك شفتيه‪ ،‬وتكلم بأقل الكالم ‪ .‬ينظر‪ :‬المحكم‬
‫والمحيط (‪ ،)530/8‬لسان العرب (‪.)225/6‬‬
‫‪41‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫السمة التاسعة‬
‫اإلقبال على اهلل بمداومة الذكر‬

‫إن استدام َة ذكر اهلل واستغفاره والثناء عليه مشهدٌ من مشاهد‬


‫عكوف القلب وصحته وصفائه وبلوغه معالي الدرجات اإليمانية‬
‫﴿ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ‬
‫ﰓ﴾ [الرعد‪.]28 :‬‬

‫وسرورا‪ ،‬بل إن‬


‫ً‬ ‫نورا‬
‫عم ُر القلب ويملؤه ً‬ ‫إن ذكر اهلل تعالى َي ُ‬
‫القلب بفقده يكون يف ظالم و ُظلمة؛ ألن «يف القلب خلة وفاقة ال‬
‫َ‬
‫يسدها شيء ال َبتة إال ذكر اهلل ‪ ،‬فإذا صار شعار القلب‪ ،‬بحيث‬
‫يكون هو الذاكر بطريق األصالة واللسان تبع له‪ ،‬فهذا هو ِّ‬
‫الذكر‬
‫عزيزا‬
‫ً‬ ‫الذي يسد الخلة ويفني الفاقة‪ ،‬فيكون صاحبه غن ًيا بال مال‪،‬‬
‫غافال ع ْن ذكر اهلل ‪ ‬فهو‬
‫ً‬ ‫بال عشيرة‪ ،‬مهي ًبا بال سلطان‪ ،‬فإذا كان‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪42‬‬

‫بضد ذلك‪ ،‬فقير مع كثرة جدَ ته‪ ،‬ذليل مع سلطانه‪ ،‬حقير مع كثرة‬
‫(‪)1‬‬
‫عشيرته» ‪.‬‬

‫وقلب المؤمن ال يسك ُن وال يلتذ وال يجد للحياة مذا ًقا و ُأ ً‬
‫نسا‬ ‫ُ‬
‫إال بذكر اهلل‪ ،‬ولقد وصف اهلل أهل اإليمان وأولي األلباب بأهنم‪:‬‬
‫﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ﴾ [آل عمران‪.]191:‬‬

‫يراهم‪ :‬اللهج بذكر اهلل وهم قيام‪ ،‬واللهج بذكره وهم‬


‫فهذا ه ِّج ُ‬
‫قعود‪ ،‬واللهج بذكره وهم على فرشهم وعلى جنوهبم‪ ،‬تعلقت‬
‫قلوهبم باهلل فاستداموا الذكر يف جميع األحوال‪.‬‬

‫يا اهلل‪ ،‬كم هي لفتة قرآنية مؤثرة!! ﴿ﮚ ﮛ ﴾؛ فهم من‬


‫شدة تعلقهم باهلل يذكرونه يف هذه الحال التي هي َمظنة شرود أو‬
‫غفلة أو َن َصب‪ ،‬لك ْن هؤالء قو ٌم وصل هبم التعلق الشديد باهلل‬
‫سبحانه أال ينسوه يف هذه الحال التي يستحكم فيها الذهول غال ًبا‪.‬‬

‫(‪ )1‬الوابل الصيب ص (‪.)140 -139‬‬


‫‪43‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫أثرا يف‬
‫إنه قلب رسخ فيه اإليمان واستمكن‪ ،‬فأحدث ذلك ً‬
‫اللسان بحركة دائبة يف ِّ‬
‫الذكر‪ ،‬حين القيام‪ ،‬واالضطجاع‪ ،‬والقعود‪،‬‬
‫وحين الدخول والخروج‪ ،‬وحين األكل والشرب‪ ،‬وحين اليقظة‬
‫وعند النوم‪ ،‬ويف الحضر والسفر‪ ،‬ويف الليل والنهار‪ ،‬فهو دائم االفتقار‬
‫إلى اهلل والتعلق به ال يغفل ساعة وال أدنى من ذلك‪ْ ،‬‬
‫فإن غفل أو‬
‫وشعورا بالنقص ال َيسده إال مراجعة‬
‫ً‬ ‫ثقال يف النفس‪،‬‬
‫توانى َو َجدَ ً‬
‫المسار‪ ،‬وعود القلب إلى َمعينه و َنعيمه‪ ،‬وم ْن َثم تسطع أنواره‪،‬‬
‫وتتهلل سبحات وجهه‪.‬‬
‫اس ُتو ُبوا إ َلى اهلل‪َ ،‬فإنِّي َأ ُت ُ‬
‫وب في ا ْل َي ْوم‬ ‫قال النبي ×‪َ « :‬يا َأي َها الن ُ‬
‫ان َع َلى َق ْلبي‪َ ،‬وإنِّي َألَ ْس َت ْغف ُر‬
‫(‪)2‬‬
‫إ َل ْيه ما َئ َة َمرة»(‪ ،)1‬ويف رواية‪« :‬إن ُه َل ُي َغ ُ‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )2075/4‬رقم (‪ )42( )2702‬من حديث األغر المزين ‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال النووي يف شرحه على صحيح مسلم (‪« :)24-23/17‬قوله ×‪« :‬إنه ليغان على‬
‫قلبي» قال أهل اللغة‪ :‬الغين ‪-‬بالغين المعجمة‪ -‬والغيم بمعنى‪ ،‬والمراد هنا‪ :‬ما يتغشى‬
‫القلب‪ ،‬قال القاضي‪ :‬قيل‪ :‬المراد الفرتات والغفالت عن الذكر الذي كان شأنه الدوام‬
‫عليه‪ ،‬فإذا فرت عنه أو غفل عد ذلك ذن ًبا واستغفر منه‪ ،‬قال‪ :‬وقيل هو همه بسبب أمته‬
‫وما اطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم‪ ،‬وقيل‪ :‬سببه اشتغاله بالنظر يف مصالح‬
‫أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك‪ ،‬فيشتغل بذلك‬
‫من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته‪.» ...‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪44‬‬

‫(‪)1‬‬
‫اهلل‪ ،‬في ا ْل َي ْوم ما َئ َة َمرة» ‪.‬‬
‫َ‬
‫وب إ َل ْيه في ال َي ْوم َأ ْك َث َر م ْن‬
‫وقال ×‪َ « :‬واهلل إنِّي َألَ ْس َت ْغف ُر اهلل َو َأ ُت ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫َس ْبعي َن َمر ًة» ‪.‬‬
‫وعن علي بن أبي طالب ‪َ ‬أن َفاط َم َة ڤ َأ َتت النبي ×‬
‫َت ْس َأ ُل ُه َخاد ًما‪َ ،‬ف َق َال‪َ « :‬أ َال ُأ ْخب ُرك َما ُه َو َخ ْي ٌر َلك منْ ُه؟ ُت َس ِّبحي َن اهلل‬
‫ين‪َ ،‬و َت ْح َمدي َن اهلل َث َال ًثا َو َث َالثي َن‪َ ،‬و ُت َك ِّبري َن اهلل‬‫عنْدَ َمنَامك َث َال ًثا َو َث َالث َ‬
‫َأ ْر َب ًعا َو َث َالثي َن»‪َ ،‬ق َال َعلي‪َ « :‬ما َت َر ْك ُت ُه ُمن ُْذ َسم ْع ُت ُه م َن النب ِّي ×‪ ،‬ق َيل‬
‫(‪)3‬‬
‫َل ُه‪َ :‬و َال َل ْي َل َة ص ِّفي َن؟ َق َال‪َ :‬و َال َل ْي َل َة ص ِّفي َن» ‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة ‪ ،‬قال‪« :‬إنِّي َألُ َس ِّب ُح كُل َي ْوم ا ْثنَت َْي َع ْش َر َة َمر ًة‬
‫َأ ْل َ‬
‫(‪)4‬‬
‫يحة‪َ ،‬قدْ َر د َيتي» ‪.‬‬ ‫ف َت ْسب َ‬
‫وذكر الحافظ عبد الغني يف «الكمال» يف ترجمة أبي الدرداء‬
‫(‪)5‬‬
‫‪ ،‬أنه كان ُيسبح يف اليوم مائة ألف تسبيحة ‪.‬‬

‫أيضا (‪ )2075/4‬رقم (‪.)41( )2702‬‬


‫(‪ )1‬أخرجها مسلم ً‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ )67/8‬رقم (‪ )6307‬من حديث أبي هريرة ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري (‪ )65/7‬رقم (‪ ،)5362‬ومسلم (‪ )2091/4‬رقم (‪.)2727‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه ابن أبي شيبة يف مصنفه (‪ )345/5‬رقم (‪ ،)26733‬وأبو نعيم يف معرفة الصحابة‬
‫(‪ ،)1891/4‬رقم (‪.)4762‬‬
‫(‪ )5‬ينظر‪ :‬الحاوي للفتاوي للسيوطي (‪ ،)5/2‬وشذرات الذهب (‪.)118/2‬‬
‫‪45‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫يـأمر أهـل اإليمـان ِّ‬


‫بالـذكر فحسـب‪ ،‬بـل أمـرهم‬ ‫إن اهلل ‪ ‬لم ْ‬
‫باإلكثار منه‪ ،‬قال تعـالى‪﴿:‬ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫ﰂ ﰃ ﰄ﴾ [األحـزاب‪ ،]42 ،41 :‬وقال ‪﴿ :‬ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ﴾ [الجمعة‪ ،]10 :‬وأبان النبي × أن المكثرين من ذكر اهلل‬
‫ون» َقـا ُلوا‪:‬‬
‫هم أسبق الناس إلى األجور‪ ،‬فقال ×‪َ « :‬سـ َب َق ا ْلــ ُم َف ِّر ُد َ‬
‫يــرا‪،‬‬
‫اهلل كَث ً‬
‫ون َ‬ ‫ــول اهلل؟ َق َ‬
‫ــال‪« :‬الــذاك ُر َ‬ ‫ون َيــا َر ُس َ‬
‫َو َمــا ا ْلـــ ُم َف ِّر ُد َ‬
‫(‪)1‬‬
‫والمفـ ِّـر ُدون جمــع‪ُ :‬مفـ ِّـرد‪ ،‬والمــراد بــه المنفــرد‬
‫ات» ‪ُ ،‬‬
‫َوالــذاك َر ُ‬
‫والمنقطع إلى اهلل بقلبه ولسانه لكثرة ذكره‪.‬‬
‫روح األعمال وأكربها‬ ‫ولجاللة منزلة ِّ‬
‫الذكر وعظيم أثره‪ ،‬كان َ‬
‫[العنكبوت‪:‬‬ ‫كما قال تعالى‪﴿:‬ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ﴾‬
‫(‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪]45‬‬

‫َ‬
‫اللسان و ُيرطبه‪ ،‬و َيصقل اإليمان و َيرفعه؛ كذكر‬ ‫وال شيء ُي َذ ِّلل‬
‫اهلل ‪ ،‬وال سيما َمن َحا َف َظ على أوراد من األذكار َي ْع ُمر هبا‬
‫اللحظات‪ ،‬و ُيحيي هبا القلب‪ ،‬وقد توارد الصالحون وتوافقوا على‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ ،)2062/4‬رقم (‪ )2676‬من حديث أبي هريرة ‪.‬‬


‫(‪ )2‬على خالف بين المفسرين يف معنى اآلية‪ ،‬ولكن هذا أحد األقوال‪.‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪46‬‬

‫أن ذلك هو سالح المؤمن الذي َيخرق ُح ُجب الغفلة‪ ،‬ويفتح أقفال‬
‫القلب يف كل عصر‪ ،‬فكيف بعصر تشابكت فيه عاديات الزمان‬
‫وصوراف األيام؟!‪.‬‬
‫تلــوح يف ليــالي العشــر ‪-‬عــرب نســمات األســحار‪ ،‬وعبــق‬
‫ُ‬
‫االستغفار‪ -‬فرص ٌة ثمين ٌة إلصالح القلب‪ :‬حيـث الصـفاء والسـكينة‬
‫ولحظات التنـزل اإللهي‪.‬‬
‫إن هذا الصفاء كما ُيجدد اإليمان‪ ،‬فإنه ُيجد ُد الرباء َة من النفاق‪،‬‬
‫كرا هلل‪﴿ ،‬ﭾ ﭿ ﮀ‬ ‫ُ‬
‫فأهل النِّفاق هم أكثر الناس غفل ًة وأقلهم ذ ً‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾[النساء‪]142 :‬‬

‫يخالف المنافقين بكثرة ذكر اهلل‪ ،‬قال أبو‬


‫َ‬ ‫والواجب على المؤمن ْ‬
‫أن‬ ‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫هريرة ‪َ « :‬من أكثر من ذكر اهلل؛ َبرئ من النِّ َفاق» ‪.‬‬
‫المبارك‪ -‬بذكر اهلل‪ ،‬فال شيء أصلح‬‫ب لسا َنك –أيها ُ‬ ‫فر ِّط ْ‬
‫للقلب من ذلك‪ ،‬وال شيء ُيث ِّقل الميزان يوم القيامة ِّ‬
‫كالذكر‪.‬‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬لسان الميزان (‪.)1955‬‬


‫‪47‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫السمة العاشرة‬
‫ُّ‬
‫اإلقبال على اهلل بكثرة الدعاء‬

‫إن من َأ َج ِّل العبادات التي يظهر فيها ُذل العبد بين يدي ر ِّبه‪:‬‬
‫الدعاء‪ ،‬قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [األعراف‪،]55 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ [األنبياء‪.]90:‬‬

‫إن عباد َة الدعاء يف العشر األخير من رمضان حينما يكون العبد‬


‫عاك ًفا‪ ،‬لها مذاق يعرفه المتضرعون المنكسرون بين يدي اهلل‪،‬‬
‫البا ُكون المتباكون‪ ،‬حيث يستشعرون القرب من موالهم والوعد‬
‫باإلجابة‪ ،‬ﮋﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫‪،]186‬‬ ‫ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﮊ [البقرة‪:‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪48‬‬

‫ويف مجيء هذه اآلية الكريمة يف سياق الصيام ُم َت َخ ِّللة بينه وبين ذكر‬
‫االعتكاف‪ ،‬لفتة عظيمة إلى بيان منزلة عبادة الدعاء حينما يكون‬
‫صائما عاك ًفا‪.‬‬
‫ً‬ ‫العبد‬

‫إهنا عبادة تتألق يف هذه الليالي التي ينكسر فيها العبد‪ ،‬ف َيرق‬
‫القلب‪ ،‬و َترف الروح‪ ،‬فتجف الشهوات وتنكسر النفس‪ ،‬ويكون‬
‫تأهيال للعبد ألن يكون ُمستجي ًبا هلل‪ ،‬ﮋ ﯶ ﯷ ﮊ‬
‫ً‬ ‫ذلك‬
‫دائما بانكسار القلب وضعف‬
‫فيستجيب اهلل له‪ ،‬فإجابة الدعاء تقرتن ً‬
‫النفس و َت َحررها من ضغوط الشهوات‪ ،‬وهذا ال يتوافر يف حال من‬
‫(‪)1‬‬
‫أحوال اإلنسان بقدر توافره يف حال الصيام واالعتكاف ‪.‬‬

‫ستحب فيها استكانة العبد‬


‫ُ‬ ‫وهذا الموطن كبقية المواطن التي ُي‬
‫وانكساره بين يدي ربه‪ ،‬أخرج الطرباين من حديث ابن عباس ﭭ‬
‫قال‪َ « :‬ر َأ ْي ُت َر ُس َ‬
‫ول اهلل ﷺ َيدْ ُعو ب َع َر َفةَ‪َ ،‬و َيدَ ا ُه إ َلى َصدْ ره ك ْ‬
‫َاست ْط َعام‬
‫(‪)2‬‬
‫ا ْلم ْسكين» ‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬روح الصيام ومعانيه ص (‪. )116‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه الطرباين يف المعجم األوسط (‪ )189/3‬رقم (‪ ،)2892‬وأبو نعيم يف حلية األولياء‬
‫=‬
‫‪49‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫وقد كان بعض الصالحين يجلس بالليل ساكنًا ُمطر ًقا برأسه‪،‬‬
‫َي ُمد يديه كحال السائل‪ ،‬وهذه من أكمل هيئات الذل والسكينة‪،‬‬
‫واالفتقار إلى اهلل‪.‬‬
‫وافتقار القلب يف الدعاء‪ ،‬وانكساره هلل ‪ ،‬واستشعاره شدة‬
‫الفاقة إليه والحاجة لديه مظنة إجابة‪ ،‬وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة‬
‫تكون اإلجابة‪.‬‬
‫جاء يف «جامع الرتمذي» وغيره عن النبي ﷺ قال‪« :‬إن اهلل َال‬
‫(‪)1‬‬
‫يب ُد َعا ًء م ْن َق ْلب َغافل َاله» ‪.‬‬
‫َي ْستَج ُ‬
‫ومن جميل أحوال الدعاء‪ :‬إظهار الذل باللسان يف نفس السؤال‬
‫اح‬ ‫‪ُ « :‬ي َق ُال َأ ْف َض ُل الد َعاء ْ‬
‫اإل ْل َح ُ‬ ‫مع اإللحاح فيه‪ ،‬قال األوزاعي‬
‫(‪)2‬‬
‫َع َلى اهلل َوالت َضر ُع إ َل ْيه» ‪.‬‬

‫=‬
‫(‪ ،)213/8‬والبيهقي يف السنن الكربى (‪ ،)190/5‬وإسناده ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الرتمذي (‪ )394/5‬رقم (‪ ،)3479‬والطرباين يف األوسط (‪ )211/5‬رقم (‪ ،)5109‬والحاكم‬
‫يف المستدرك (‪ )670/1‬رقم (‪ )1817‬من حديث أبي هريرة ‪ ،‬قال الرتمذي‪« :‬حديث‬
‫غريب»‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البيهقي يف شعب اإليمان (‪ ،)364/2‬وينظر‪ :‬التمهيد البن عبد الرب (‪.)346/5‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪50‬‬

‫وعند الطرباين بسند فيه اختالف عن ابن عباس ﭭ أن النبي ×‬


‫دعا يوم عرفة فقال‪« :‬الل ُهم إن َك َت ْس َم ُع ك ََالمي‪َ ،‬و َت َرى َم َكاني‪َ ،‬و َت ْع َل ُم‬
‫س ِّري َو َع َالن َيتي‪َ ،‬ال َي ْخ َفى َع َل ْي َك َش ْي ٌء م ْن َأ ْمري‪َ ،‬أنَا ا ْل َبائ ُس ا ْل َفق ُير‬
‫ف ب َذنْبه‪َ ،‬أ ْس َأ ُل َك‬ ‫ـمقر ا ْل ُ‬
‫ـم ْعتَر ُ‬ ‫ـم ْشف ُق ا ْل ُ‬
‫ـم ْستَج ُير ا ْل َوج ُل ا ْل ُ‬
‫يث ا ْل ُ‬ ‫ا ْل ُ‬
‫ـم ْستَغ ُ‬
‫َم ْس َأ َل َة ا ْلم ْسكين‪َ ،‬و َأ ْبتَه ُل إ َل ْي َك ا ْبت َه َال الـ ُْم ْذنب الذليل‪َ ،‬و َأ ْد ُع َ‬
‫وك ُد َعا َء‬
‫اض ْت َل َك َع ْينَا ُه‪َ ،‬و َذل َل َك‬
‫ـخائف الضرير‪َ ،‬م ْن َخ َش َع ْت َل َك َر َق َب ُت ُه‪َ ،‬و َف َ‬ ‫ا ْل َ‬
‫َج َسدُ ُه َو َرغ َم َأ ْن ُف ُه َل َك‪ ،‬الل ُهم َال َت ْج َع ْلني بدُ َعائ َك َشق ًيا‪َ ،‬وك ْ‬
‫ُن بي َر ُءو ًفا‬
‫(‪)1‬‬
‫ين َو َيا َخ ْي َر ا ْلـ ُم ْعطي َن» ‪.‬‬
‫يما‪َ ،‬يا َخ ْي َر الـ َْم ْس ُئول َ‬
‫َرح ً‬
‫إذن فالدعا ُء هو ُلب التعبد‪ ،‬وخالص العبادة؛ لما ينطوي عليه‬
‫ْ‬
‫من االفتقار التام هلل‪ ،‬والذل بين يديه‪ ،‬وهو أنفع عبوديات القلب‬
‫تأثيرا فيه‪ ،‬وال سيما إذا حضر قلب الداعي‪ ،‬واستحضر‬
‫وأكثرها ً‬
‫معاين ما يدعو به‪ ،‬فإذا كانت تلك الدعوات واالبتهاالت مما أخرب‬
‫اهلل ‪ ‬به من أدعية صفوة خلقه كانت أنجع شيء للقلب؛ لما‬
‫تشتمل عليه من مجامع الدعاء‪ ،‬وصدق التذلل‪ ،‬واستحضار معاين‬

‫(‪ )1‬أخرجه الطرباين يف الكبير (‪ )174/11‬رقم (‪ ،)11405‬ويف الدعاء ص (‪ )274‬رقم (‪ ،)877‬ويف‬


‫ويف إسناده ضعف‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫الربوبية؛ ولهذا كان األنبياء ُيصدِّ رون أدعي َتهم بقولهم‪« :‬ربنا»‪.‬‬
‫وأكثر أدعية القرآن كذلك‪ ،‬تأيت ُمصدرة بالتوسل إلى اهلل‬
‫توسال بربوبيته َيحسن له‬
‫بربوبيته‪ ،‬والداعي حينما يدعو اهلل ُم ً‬
‫استحضار معنى تربية اهلل العامة‪ ،‬وهي‪ :‬الخلق والتدبير‪ ،‬ومعنى‬
‫الرتبية الخاصة‪ ،‬وهي‪ :‬واليته لخيار خلقه‪ ،‬ولطفه هبم وإصالحه‬
‫لدينهم ودنياهم‪ ،‬وذلك إلقبالهم على رهبم‪ ،‬وضراعتهم بين يديه‪.‬‬
‫و ُيستحب له ْ‬
‫أن يدعو بأدعية األنبياء؛ فإهنا أدعي ٌة جامع ٌة‪،‬‬
‫أن يدعو بدعاء الراسخين يف العلم؛ ألنه سبحانه‬ ‫سن بالداعي ْ‬
‫و َي ْح ُ‬
‫حينما أثنى عليهم ذكر دعوهتم‪﴿ :‬ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ‬
‫‪ .‬فتوسلوا إلى اهلل‬ ‫[آل عمران‪]8 :‬‬ ‫ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾‬
‫يمنحهم استقامة القلوب وثباهتا على مراضي اهلل‪،‬‬
‫َ‬ ‫بربوبيته ْ‬
‫أن‬
‫(‪)1‬‬
‫وحفظها من الزيغ‪ ،‬والنكوص عن الهداية ‪.‬‬
‫‪‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬المواهب الربانية من اآليات القرآنية للسعدي ص (‪.)58-56‬‬


‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪52‬‬

‫السمة احلادية عشرة‬


‫(‪)1‬‬
‫اإلخبات واخلشوع‬

‫المخبتين له‪ ،‬والمنكسرين لعظمته‪،‬‬


‫مدح يف كتابه ُ‬
‫إن اهلل ‪َ ‬‬
‫والخاضعين لكربيائه‪ ،‬فقال سبحانه‪﴿ :‬ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [الحج‪ ،]35 ،34 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﯦ ﯧ‬
‫ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ‬
‫ﯱ﴾ [األنبياء‪.]90 :‬‬

‫أن قال‪﴿ :‬ﯛ‬


‫وقال تعالى‪﴿ :‬ﮭ ﮮ﴾ إلى ْ‬

‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ [األحزاب‪.]35 :‬‬

‫ووصف المؤمنين بالخشوع له يف أشرف عباداهتم التي هم عليها‬


‫َ‬

‫السمة‪ :‬الخشوع يف الصالة البن رجب ص (‪.)28-11‬‬


‫(‪ )1‬ينظر يف هذه ِّ‬
‫‪53‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫يحافظون‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬


‫ﭙ﴾ [المؤمنون‪.]2 -1 :‬‬
‫وأثنى ‪ ‬على أهل الخشية المشفقين من عذاب اهلل فقال ‪:‬‬
‫﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [المؤمنون‪ ،]57 :‬وقال ‪:‬‬
‫[األنبياء‪:‬‬ ‫﴿ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾‬
‫‪.]49‬‬

‫َف ُي ْسف ُر َعن ُْه ُم َو ُهـ ُم ُر ُكـ ُ‬


‫وع‬ ‫إ َذا َما الل ْي ُل َأ ْظ َل َم كَا َبدُ و ُه‬
‫َو َأ ْه ُل األَ ْمن في الد ْن َيا ُه ُج ُ‬
‫وع‬ ‫ف ن َْو َم ُه ْم َو َقا ُموا‬‫َأ َط َار ا ْل َخ ْو ُ‬
‫‪‬‬
‫َو َمـا ُو ْسدُ ُه ْم إال ُمـال ٌء َو َأ ْذ ُر ُع‬ ‫َو َما ُف ْر ُش ُه ْم إال َأ َيام ُن ُأ ْزره ْم‬
‫َو َما ن َْو ُمـ ُه ْم إال ع َش ٌ‬
‫اش ُمـ َرو ُع‬ ‫َو َما َل ْي ُل ُه ْم فيهن إال َت َحـو ٌب‬
‫َع َل ْي َها ج َسا ٌد هي با ْل َو ْرس ُم ْش َب ُع‬ ‫َو َأ ْل َوان ُُه ْم ُص ْف ٌر َك َأن ُو ُج َ‬
‫وه ُه ْم‬

‫ُ‬
‫وأصل الخشوع‪ :‬لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه‪ ،‬فإذا‬
‫خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح واألعضاء؛ ألهنا تابعة له‪،‬‬
‫كما قال ×‪َ « :‬أ َال َوإن في ا ْل َ‬
‫ـج َسد ُم ْض َغةً‪ ،‬إ َذا َص َل َح ْت‪َ ،‬ص َل َح‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪54‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الـ َْج َسدُ كُل ُه‪َ ،‬وإ َذا َف َسدَ ْت‪َ ،‬ف َسدَ الـ َْج َسدُ كُل ُه‪َ ،‬أ َال َوه َي ا ْل َق ْل ُ‬
‫ب» ‪.‬‬

‫خشع السمع والبصر والوجه وسائر األعضاء‪،‬‬


‫َ‬ ‫القلب‬
‫ُ‬ ‫خشع‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫وما ينشأ منها حتى الكالم‪ ،‬ولهذا كان النبي × يقول يف ركوعه يف‬
‫(‪)2‬‬
‫الصالة‪َ « :‬خ َش َع َل َك َس ْمعي‪َ ،‬و َب َصري‪َ ،‬و ُم ِّخي‪َ ،‬و َع ْظمي‪َ ،‬و َع َصبي» ‪.‬‬

‫رجال يعبث بيده يف الصالة‪ ،‬فقال‪َ « :‬ل ْو‬


‫ً‬ ‫ورأى بعض السلف‬
‫(‪)3‬‬
‫ب َه َذا؛ َل َخ َش َع ْت َج َوار ُح ُه» ‪.‬‬
‫َخ َش َع َق ْل ُ‬

‫وقد وصف اهلل تعالى يف كتابه الكريم األرض بالخشوع‬


‫فقال‪﴿:‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ﭜ﴾ [ ُف ِّص َلت‪ ،]39 :‬فاهتزازها ُ‬


‫ور ُبوها ‪-‬وهو ارتفاعها‪ -‬مزيل‬
‫الخشوع الذي كانت عليه هو سكوهنا‬
‫َ‬ ‫لخشوعها‪ ،‬فدل َع َلى أن‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )20/1‬رقم (‪ ،)52‬ومسلم (‪ )1219/3‬رقم (‪ )1599‬من حديث النعمان بن‬
‫بشير ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (‪ )534/1‬رقم (‪ )771‬من حديث علي بن أبي طالب ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن أبي شيبة يف مصنفه (‪ )86/2‬رقم (‪ ،)6787‬وابن المبارك يف الزهد (‪)419/1‬‬
‫رقم (‪ ،)1188‬وعبد الرزاق يف مصنفه (‪ )266/2‬رقم (‪ )3308‬من قول سعيد بن المسيب‬
‫‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫وانخفاضها‪ ،‬فكذلك القلب إذا خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته‬


‫ُ‬
‫الرديئة‪ ،‬التي تنشأ من اتباع الهوى فينكسر ويخضع هلل ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فيزول بذلك ما كان فيه من ال َب ْأو والرتفع والتكرب والتعاظم‪،‬‬
‫ومتى حصل ذلك يف القلب خشعت األعضاء والجوارح والحركات‬
‫كلها حتى الصوت‪ ،‬وقد وصف اهلل تعالى األصوات بالخشوع يف‬
‫قوله‪﴿ :‬ﮪﮫ ﮬﮭ ﮮﮯﮰ﴾ [طه‪ ،]108 :‬وخشوع‬
‫األصوات هو سكوهنا وانخفاضها بعد ارتفاعها‪.‬‬

‫وينبغي أ ْن يكو َن الخشو ُع حقيق ًة ال تكل ًفا‪ ،‬ومتى تكلف‬


‫اإلنسان تعاط َي الخشوع يف جوارحه وأطرافه ‪-‬مع فراغ قلبه من‬
‫لوه منه‪ -‬كان ذلك خشو َع نفاق‪ ،‬وهو الذ ي كان‬ ‫الخشوع ُ‬
‫وخ ِّ‬
‫يذ وا باهلل م ْن‬ ‫استَع ُ‬ ‫السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم‪ْ « :‬‬
‫ُخ ُشوع النِّ َفاق‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬و َما ُخ ُشو ُع النِّ َفاق؟ َق َال‪َ :‬أ ْن َت َر ى ا ْل َج َسدَ‬

‫(‪ )1‬ال َب ْأو‪ :‬المراد به الفخر‪ .‬ينظر‪ :‬الصحاح (‪ ،)2278/6‬مقاييس اللغة (‪ ،)328/1‬النهاية يف غريب‬
‫الحديث (‪( )96/1‬بأو)‪.‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪56‬‬

‫(‪) 1‬‬
‫ب َليْ َس ب َ‬
‫خاش ع» ‪.‬‬ ‫َخاش ًعا َوا ْل َق ْل ُ‬

‫وتأثيرا‪ ،‬ورقة يف القلب‪،‬‬


‫ً‬ ‫أثرا‬ ‫َ‬
‫أحدث ً‬ ‫والخشو ُع الحق هو ما‬
‫كما ذكر اهلل يف وصف ال ُع َل َماء من أهل الكتاب قبلنا‪ ،‬فقال‬
‫سبحانه‪ ﴿ :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ‬
‫ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [اإلسراء‪.]109-107 :‬‬

‫سماع آيات اهلل‬


‫ُ‬ ‫أوجب لهم‬
‫َ‬ ‫وهذه اآليات تضمنت امتداح َمن‬
‫وخشوعا وبكا ًء‪ ،‬وبالضد من ذلك توعد سبحانه قساة القلوب‪،‬‬
‫ً‬ ‫تأثرا‬
‫ً‬
‫فقال ‪ ﴿:‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن المبارك يف الزهد (‪ )46/1‬رقم (‪ ،)143‬وابن أبي شيبة يف المصنف (‪)243/7‬‬
‫رقم (‪ ،)35711‬واإلمام أحمد يف الزهد ص (‪ )117‬رقم (‪ ،)762‬والبيهقي يف شعب اإليمان‬
‫(‪ )220/9‬رقم (‪ )6567‬موقو ًفا على أبي الدرداء ‪.‬‬
‫وأخرجه البيهقي يف الشعب (‪ )220/9‬رقم (‪ )6568‬من حديث أبي بكر ‪ ‬مرفوعًا‪ ،‬وإسناده‬
‫ضعيف‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [الز َمر‪،]23 -22 :‬‬


‫ولين القلوب هو زوال قسوهتا لحدوث الخشوع فيها والرقة‪.‬‬
‫وقد عاتب اهلل َمن ال يخشع قلبه لسماع كتابه‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬ﮯ‬
‫ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ‬
‫ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ‬
‫ﯬ﴾ [الحديد‪.]16 :‬‬

‫َان َب ْي َن إ ْس َالمنَا َو َب ْي َن َأ ْن َعا َت َبنَا ُ‬


‫اهلل ب َهذه‬ ‫قال ابن مسعود ‪َ « :‬ما ك َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ْاآل َية إال َأ ْر َب ُع سني َن» ‪ ،‬ويف رواية‪َ « :‬ف َأ ْق َب َل َب ْع ُضنَا َع َلى َب ْعض‪َ :‬أي َش ْيء‬
‫(‪)2‬‬
‫بعضا‪.‬‬ ‫َأ ْحدَ ْثنَا؟! َأي َش ْيء َصنَ ْعنَا؟!» أي‪ :‬جعل ُي َعاتب َب ُ‬
‫عض ُهم ً‬
‫َأم ا عظمة القرآن وسطوة أثره على نفوس المؤمنين‬
‫السلف ‪ ،‬قال أبو عمران‬ ‫ُ‬ ‫الخاشعين فشي ٌء قد شهد به‬
‫ف إلينا ربنا يف هذا القرآن ما لو َصرفه إ َلى‬
‫الجوين ‪« :‬واهلل لقد َصر َ‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )2319/4‬رقم (‪.)3027‬‬


‫(‪ )2‬أخرجها أبو يعلى يف مسنده (‪ )167/9‬رقم (‪ ،)5256‬وهي زيادة ضعيفة‪.‬‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪58‬‬

‫(‪)1‬‬
‫الجبال لمحاها وحناها» ‪.‬‬
‫يقرأ هذه اآلية ثم يقول‪ُ « :‬أ ْقس ُم َل ُك ْم َال‬ ‫وكان مالك بن دينار‬
‫(‪)2‬‬
‫ُي ْؤم ُن َع ْبدٌ ب َه َذا ا ْل ُق ْرآن إال ُصد َع َق ْل ُب ُه» ‪.‬‬

‫أنه قال‪« :‬يا ابن آدم إذا وسوس لك‬ ‫وروي عن الحسن‬
‫ُ‬
‫الشيطان بخطيئة‪ ،‬أو َحد ْثت هبا َ‬
‫نفسك‪ ،‬فاذكر عند ذلك ما حملك اهلل‬
‫من كتابه‪ ،‬مما لو َح َم َلته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت‪ ،‬أما‬
‫سمعته يقول‪﴿ :‬ﮉ ﮊﮋ ﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒ‬
‫[الحشر‪:‬‬ ‫ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‬
‫(‪)3‬‬
‫‪. »]21‬‬

‫واهلل سبحانه إن ما ضرب لك األمثال لتتفكر فيها‪ ،‬وتعترب هبا‬


‫وتزدجر عن معاصيه ‪ ،‬وأنت يا ابن آدم أحق أ ْن تخش َع لذكر‬

‫(‪ )1‬أخرجه أبو نعيم يف الحلية (‪ ،)311/2‬وينظر‪ :‬الخشوع يف الصالة البن رجب ص (‪.)19‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه اإلمام أحمد يف الزهد ص (‪ )258‬رقم (‪ ،)1859‬وأبو نعيم يف حلية األولياء‬
‫(‪.)378/2‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬الخشوع يف الصالة البن رجب ص (‪.)19‬‬
‫‪59‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫اهلل‪ ،‬وما حملك من كتابه وآتاك من حكمة؛ ألن عليك الحساب‬


‫ولك الجنة أو النار‪.‬‬

‫ُ‬
‫يستعيذ باهلل من قلب ال يخشع‪ ،‬كما يف‬ ‫وقد كان النبي ×‬
‫اللهم إنِّي‬
‫حديث زيد بن أرقم ‪ ‬قال‪ :‬كان رسول اهلل × يقول‪ُ « :‬‬
‫َأ ُعو ُذ ب َك م ْن ع ْلم َال َينْ َف ُع‪َ ،‬وم ْن َق ْلب َال َي ْخ َش ُع‪َ ،‬وم ْن َن ْفس َال َت ْش َب ُع‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اب َل َها» ‪.‬‬
‫َوم ْن َد ْع َوة َال ُي ْست ََج ُ‬

‫ولذلك شرع اهلل تعالى لعباده من أنواع العبادات ما َيظهر فيه‬


‫خشوع األبدان‪ ،‬الناشئ عن خشوع القلب وذله وانكساره‪ ،‬ومن‬
‫أعظم ما يظهر فيه خشوع األبدان هلل تعالى من العبادات الصالة‪ ،‬وقد‬
‫مدح اهلل تعالى الخاشعين فيها بقوله ‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ [المؤمنون‪.]2 ،1 :‬‬

‫ومن مواضع الخشوع‪ :‬السجود‪ ،‬وهو أعظم ما َيظهر فيه ُذل‬


‫العبد لر ِّبه ‪ ،‬حيث يجعل العبد أشرف ما له من األعضاء‪ ،‬وأعزها‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )2088/4‬رقم (‪.)2722‬‬


‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪60‬‬

‫عليه وأعالها أوضع ما يمكنه‪ ،‬فيضعه يف الرتاب ُم َت َع ِّف ًرا‪ ،‬ويتبع ذلك‬
‫انكسار القلب وتواضعه وخشوعه هلل ‪.‬‬

‫ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن ُيقربه اهلل ‪ ‬إ َل ْيه‪ ،‬قال‬
‫اهلل تعالى‪﴿ :‬ﯴ ﯵ﴾ [العلق‪ ،]19 :‬وقال ×‪َ « :‬أ ْق َر ُب َما َي ُك ُ‬
‫ون‬
‫(‪)1‬‬
‫ا ْل َع ْبدُ م ْن َر ِّبه َو ُه َو َساجدٌ » ‪.‬‬

‫والسجود كان مما يأنف منه المشركون المستكربون عن عبادة‬


‫بعضهم يقول‪ :‬أكره ْ‬
‫أن أسجدَ فتعلوين استي‪ ،‬وكان‬ ‫اهلل ‪ ،‬وكان ُ‬
‫يأخذ ك ًفا من حصى‪ ،‬فيرفعه إلى وجهه‪ ،‬ويكتفي بذلك ع ْن‬
‫ُ‬ ‫بعضهم‬
‫ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫السجود ‪.‬‬

‫وإبليس إن َما طر َده اهلل لما استكربَ عن السجود ل َم ْن أمره اهلل‬


‫ُ‬
‫بالسجود له؛ ولهذا يبكي إذا سجدَ المؤمن ويقول‪ُ :‬أم َر ابن آدم‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )350/1‬رقم (‪ )482‬من حديث أبي هريرة ‪.‬‬


‫(‪ )2‬أخرج البخاري (‪ ،)40/2‬رقم (‪ ،)1067‬ومسلم (‪ )405/1‬رقم (‪ )576‬من حديث عبداهلل بن‬
‫مسعود ‪ ،‬عن النبي × أنه قرأ ﴿والنجم﴾ فسجد فيها‪ ،‬وسجد من كان معه‪ ،‬غير أن‬
‫شيخا أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته‪ ،‬وقال‪ :‬يكفيني هذا‪ ،‬قال عبد اهلل‪:‬‬
‫«لقد رأيته بعدُ ُقتل كافرا»‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫(‪)1‬‬
‫فعصيت فلي النار ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بالسجود ففعل فله الجنة‪ ،‬و ُأ ُ‬
‫مرت بالسجود‬

‫ومن تمام خشوع العبد هلل ‪ ‬وتواضعه له يف ركوعه وسجوده‪،‬‬


‫وصف َربه حينئذ بصفات الع ِّز‬
‫َ‬ ‫أنه إذا َذل لر ِّبه بالركوع والسجود‬
‫والكربياء والعظمة والعلو‪ ،‬فكأنه يقول‪ :‬الذل والتواضع وصفي‪،‬‬
‫والعلو والعظمة والكربياء وصفك‪ ،‬فلهذا ُشرع للعبد يف ركوعه ْ‬
‫أن‬
‫يقول‪ :‬سبحان ربي العظيم‪ ،‬ويف سجوده‪ :‬سبحان ربي األعلى‪.‬‬

‫وانكسارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫خشوعا وإخبا ًتا‪ ،‬وخضو ًعا‬
‫ً‬ ‫فمتى امتألَ ُ‬
‫قلب العبد‬
‫ب العبادة‪ ،‬وحقق مقصودها‪َ ،‬‬
‫ونال غايتها‪.‬‬ ‫وصل إلى ُل ِّ‬
‫َ‬

‫‪‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )87/1‬رقم (‪ ،)81‬من حديث أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫الشيطان يبكي‪ ،‬يقول‪ :‬يا ويلي‪ُ ،‬أمر ابن آد َم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اعتزل‬ ‫«إذا قرأ اب ُن آدم السجدة فسجد‬
‫النار»‪.‬‬
‫فلي ُ‬ ‫فأبيت َ‬
‫ُ‬ ‫بالس ُجود َفسجد فل ُه ا ْلجنة‪ ،‬و ُأ ُ‬
‫مرت بالسجود‬
‫حينما يعتكف الـقـلـب‬ ‫‪62‬‬

‫وختاما‪:‬‬
‫ً‬

‫الموفق إلى روح‬


‫فهذه إحدى عشرة سمة‪ ،‬من خاللها يتوصل ُ‬
‫ليست يف االعتكاف فحسب‪،‬‬
‫ْ‬ ‫االعتكاف و ُل ِّبه ومقصوده‪ ،‬وهذه الغاية‬
‫بل يف العبادات أجمع‪.‬‬

‫وهبني اهلل وإياك دوام الصدق‪ ،‬وامتن علي وعليك بلزوم‬


‫االفتقار إليه‪ ،‬واالنكسار بين يديه‪ ،‬ووفقنا لدوام ُعكوف القلوب‬
‫واإلقبال عليه‪ ،‬نعو ُذ باهلل من ِّ‬
‫الذل إال له‪ ،‬ومن االنكسار إال بين‬
‫يديه‪ ،‬ومن االلتجاء إال إليه‪﴿ ،‬ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ‬
‫ﰁ﴾ [هود‪.]88 :‬‬
‫د‪ /‬عبدالرمحن بن عبدالعزيز العقل‬
‫بريدة – القصيم‬
‫‪1435/9/5‬هـ‬
‫للتواصل‪:‬‬
‫جوال‪0535600013 - 0591100113 – 0504883988 :‬‬
‫بريد إلكرتوني‪al.agal@hotmail.com:‬‬
‫‪al_khaleefa@hotmail.com‬‬
‫‪‬‬
‫‪63‬‬ ‫حينما يعتكف الـقـلـب‬

‫فهرس املوضوعات‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬

‫‪5‬‬ ‫مقدمة‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫السم ُة األولى‪ُ :‬‬
‫قطع العالئق عن الخالئق‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫‪10‬‬ ‫ُ‬
‫العيش مع القرآن‪.‬‬ ‫السم ُة الثانية‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪21‬‬ ‫ُ‬
‫وصدق إقباله‪.‬‬ ‫السم ُة الثالثة‪ :‬جمعي ُة القلب‬
‫ِّ‬
‫‪23‬‬ ‫استشعار َمعية اهلل لعبده‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السم ُة الرابعة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪25‬‬ ‫تعظيم اهلل تعالى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السم ُة الخامسة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪30‬‬ ‫افتقار العبد إلى ر ِّبه وشعور ُه بالحاجة إليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السم ُة السادسة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪34‬‬ ‫استحضار منة اهلل وفضله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السم ُة السابعة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪38‬‬ ‫االعرتاف بالذنب والتقصير‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السم ُة الثامنة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪41‬‬ ‫بمداومة ِّ‬
‫الذكر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اإلقبال على اهلل ُ‬ ‫السم ُة التاسعة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪47‬‬ ‫ُ‬
‫اإلقبال على اهلل بكثرة الدعاء‪.‬‬ ‫السم ُة العاشرة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪52‬‬ ‫اإلخبات والخشوع‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السم ُة الحادية عشرة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪62‬‬ ‫خاتمة ‪.‬‬

You might also like